موسوعة الفقيه الشيرازي (تبيين الأصول الجزء السادس) المجلد 9

هوية الكتاب

موسوعة الفقيه الشيرازي

(9)

تبيين الأصول

الجزء السادس

تقرير أبحاث:

آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:21ج.

شابك:دوره: 8-270-204-964-978

ج21: 3-291-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694

ص: 1

اشارة

سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.

عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.

مشخصات نشر: قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مشخصات ظاهری:21ج.

شابك: دوره: 8-270-204-964-978

ج9: 1-279-204-964-978

وضعيت فهرست نويسی:فيپا

يادداشت:عربي

مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).

موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14

رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP

رده بندی ديويی:297/312

شماره كتابشناسی ملی:4153694

موسوعة الفقيه الشيرازي

شجرة الطيبة

-------------------

آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة:قدس

إخراج:نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1437ه- .ق

-------------------

شابك دوره: 8-270-204-964-978

شابك ج9: 1-279-204-964-978

-------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاة والسلام على مُحمّدٍ وآله

الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين،

آمين ربَّ العالمين.

ص: 3

ص: 4

تذنيبات

اشارة

وبعد الفراغ عن بحوث المقامين الأولين يبقى البحث في تذنيبات، وهي:

التذنيب الأول: انحفاظ الملاكات الواقعية في موارد العناوين التسعة

فإن الحكم كاشف إنّي عن وجود الملاك على نحو كشف المعلول عن وجود العلة، وأما بعد ارتفاع الحكم فلا بد من وجود دليل يثبت بقاء الملاك، فهل هنالك دليل لبقاء الملاك الواقعي النفس الأمري في العناوين التسعة المرفوعة بعد ارتفاع الحكم بحديث الرفع؟

ثمرة البحث

وتظهر الثمرة في ما لو فعل المكلف الفعل مع انطباق العناوين التسعة، مثال ذلك: لو كانت هنالك عبادة لا تطاق عرفاً، وأتى المكلف بها، فمع وجود مثبت لبقاء الملاك الواقعي تكون العبادة صحيحة، لما ذكر في مباحث الضد(1) من كفاية وجود الملاك لتصحيح العبادة، ولا ضرورة لوجود الأمر، لكن لو لم يدل دليل على بقاء الملاك الواقعي فالعبادة فاقدة للأمر؛ لحديث الرفع، ولم يحرز وجود الملاك الواقعي فلا طريق لتصحيحها.

ونظيره ما ذكره الفقهاء في باب الضرر: أنه لو تحمل الضرر وأتى بالعبادة الضررية أو الحرجية، فلو كان الملاك الواقعي منحفظاً كانت العبادة

ص: 5


1- كفاية الأصول (المحشى) 2: 214؛ أجود التقريرات 1: 262.

صحيحة، وأما لو لم يحرز وجود الملاك فهي باطلة.

طرق إحراز بقاء الملاك

ويمكن أن يذكر طريقان لبقاء الملاك بعد ارتفاع الحكم(1)، وهما:

الطريق الأول: استفادة ذلك من كلمة الرفع، فإنَّ مقتضى الرفع بقاء شيء ثابت، وبلحاظ ثبوته استخدمت كلمة الرفع، فلا بد أن نفرض ثبوت الحكم المرفوع بنحو من أنحاء الثبوت حتى يصح استخدام كلمة الرفع بلحاظ ذلك النحو، ولا يكون ذلك النحو إلا الوجود الشأني أو الاقتضائي.

لكنه محل تأمل؛ لعدم وجود معين لهذا الفرض، حيث يمكن أن تستخدم كلمة الرفع بلحاظ الثبوت الاقتضائي والإنشائي للحكم، ويمكن أن يكون بلحاظ آخر، كثبوت الحكم في الأمم السابقة فرفع عن هذه الأمة، أو ثبوت الأحكام في أول الشريعة، أو بلحاظ مقام الإثبات لا مقام الثبوت، أو لحاظات أخرى ذكرت في المقام الأول في البحث الأول، فلا دليل على الوجود الاقتضائي والشأني للحكم.

الطريق الثاني: مساق الحديث الشريف مساق الامتنان، وهو لا يتحقق إلاّ في فرض وجود المقتضي للحكم، وإلا فلا معنى للامتنان، كأن يمتن المولى على العبد بعدم طلب الماء؛ لأنه ليس عطشان، فحيث لا مقتضي للتكليف لم

ص: 6


1- أقول: ويمكن أن يضاف دليل آخر، وهو الاستصحاب، فبعد ارتفاع الحكم بحديث الرفع يشك في بقاء ملاكه فيستصحب الملاك، فإن القدر المتيقن من الرفع رفع الحكم فحسب، ويكون أثره شرعياً حيث يحكم بصحة العمل المأتي به بعد ارتفاع الحكم، ولكن سيأتي منه (رحمه اللّه) خلاف ذلك (المقرر).

يكن منّة. نعم، لو كان هنالك مقتض للتكليف فلم يكلف فهو امتنان.

لكن أشكل عليه بعض المحققين من المتأخرين(1) بأنه تام في حق المولى العرفي، أما المولى الحقيقي فأحكامه راجعة إلى مصالح للعبيد، فلا معنى لافتراض أنَّ رفع الحكم مع وجود ملاكه امتنان عليهم.

فالكلام تام في مثال عطش المولى، حيث يرفع اليد عن الحكم مع وجود ملاكه، أما في المولى الحقيقي فالملاكات هي مصالح العبيد، ولا معنى للامتنان عليهم بعدم التكليف المفوت للمصالح الواقعية، بل هو خلاف الامتنان.

لكنه غير واضح؛ لأنَّ الملاكات على نحوين:

الأول: الملاكات الأولية، وهي المصالح والمفاسد الواقعية في المتعلقات أو الأحكام.

الثاني: الملاكات الثانوية، كملاك التسهيل والتيسير.

وقد يرفع المولى اليد عن الملاك الأولي الذي هو في مصلحة العبد ترجيحاً للملاك الثانوي، كما ورد في الحديث الشريف «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(2) فالملاك الأولي الواقعي يقتضي إيجاب السواك لكن يرفع دفعاً للمشقة، وليس ذلك خلاف الامتنان.

وما نحن فيه كذلك، فإنَّ الملاك الواقعي للتشريع موجود، لكن يرفع الحكم تيسيراً للعباد وامتناناً عليهم، وهو مما لا ينافي الامتنان.

ص: 7


1- مباحث الأصول 3: 193.
2- الكافي 3: 22.

نظائر للمقام

وللمقام نظائر نذكر بعضها على خلاف فيها:

قال في العروة: «السابع [من شرائط الوضوء]: أن لا يكون مانع من استعمال الماء... ولو كان جاهلاً بالضرر صح وإن كان متحققاً في الواقع»(1).

وعليه فلو كان جاهلاً بالضرر فتوضأ صح وضوؤه، وأدلة لا ضرر لا ترفع الملاك.

وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه: «لأنَّ بطلانه خلاف الامتنان، وبهذه القرينة تقيد أدلة رفع الضرر، بالعلم أو خوف الضرر» فإنَّ ثبوت (لا ضرر) في هذا المورد خلاف الامتنان، فلا يشمله «... أما إذا لم يعلم بالضرر ولم يخفه... فالملاك موجود، ولذا يصح الوضوء»(2).

ولكن ذكر نقيضه في الصوم من العروة حيث قال: «لو صام بزعم عدم الضرر فبان الخلاف بعد الفراغ من الصوم ففي الصحة إشكال، فلا يترك الاحتياط بالقضاء»(3). مع أنَّ الظاهر أنَّ وزانهما واحد.

وقال في كتاب الحج منها: «وإن اعتقد عدم الضرر أو عدم الحرج فحج فبان الخلاف، فالظاهر كفايته»(4).

وقال أيضاً: «إذا توضّأ أو اغتسل باعتقاد عدم الضرر ثم تبين وجوده

ص: 8


1- العروة الوثقی 1: 399-400.
2- الفقه 9: 55.
3- العروة الوثقى 3: 616.
4- العروة الوثقى 4: 420.

صح»(1).

التذنيب الثاني: في تقدم حديث الرفع على أدلة الأحكام الأولية

إنَّ النسبة بين دليل الرفع وأدلة الأحكام الأولية نسبة العموم والخصوص من وجه، فدليل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}(2) يشمل حالة الإكراه وعدمها، ودليل (رفع ما استكرهوا عليه) يشمل السرقة والإفطار الإكراهيين، فيتعارضان بنحو العموم من وجه في السرقة الإكراهية، فمقتضى إطلاق دليل القطع وجوب الحد، ومقتضى إطلاق الرفع ارتفاع الحد.

وجوه تقديم دليل الرفع

ولتقديم دليل الرفع وجوه نذكرها فيما يأتي:

الوجه الأول: تقديم دليل الرفع من باب التخصيص.

بيانه: نلاحظ مجموع أدلة الأحكام الأولية بمنزلة دليل واحد، ومع هذا اللحاظ للمجموع حالتان: الإكراه وعدمه، فتخرج صورة الإكراه عن إطلاق الأدلة الأولية أو عمومها بحديث الرفع، فتكون النسبة بينهما نسبة العام والخاص لا العموم من وجه، وهكذا الأمر في الاضطرار وسائر العناوين التسعة.

الوجه الثاني: التقديم من باب التوفيق العرفي.

وربما نظر السيد السبزواري إلى ذلك، حيث قال(3): إنَّ تقدم الأدلة

ص: 9


1- العروة الوثقى 2: 171-172.
2- المائدة: 38.
3- مهذب الأحكام 4: 338.

التسهيلية الامتنانية على القوانين الأولية من المرتكزات العقلائية في قوانينهم المجعولة في كل مذهب وملة، وليس ذلك مختصاً بهذه الشريعة.

ويمكن بيان التوفيق العرفي بأنَّ العرف يجمع ويوفق بين الأدلة الأولية والأحكام الامتنانية بذلك، فإنَّ أدلة الأحكام الأولية تبين الاقتضاء، والأدلة الامتنانية التسهيلية تبين وجود المانع، فمقتضى الملاك الواقعي في السارق أن تقطع يده، لكن عروض الاضطرار مانع عن تأثيره في مقتضاه، أو يرى العرف أنَّ الأدلة الامتنانية التسهيلية مبينة لفقد الشرط، فلا تتحقق العلة التامة؛ لأنها مركبة عن وجود المقتضي والشرط وعدم المانع.

الوجه الثالث: إنه بملاك الحكومة وملاكها النظر، فإطلاق الأحكام الشرعية يشمل صورة العلم والجهل والاضطرار والاختيار والإكراه وعدمه، ودليل الرفع ناظر إلى أدلة الأحكام الأولية، أي يقول الشارع: ما جعلته من الأحكام لا تشمل حالة الاضطرار والإكراه وما أشبه، والنظر ملاك تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم.

الوجه الرابع: - مع عدم وفاء الوجوه الثلاثة - إنَّ عمل الفقهاء مرجح للرفع لا للوضع، فمع تحقق التعارض بين الدليلين قدم الفقهاء حديث الرفع على أدلة الأحكام الأولية.

الوجه الخامس: لو فرض عدم وجود المرجح، لتساقط الدليلان بعد تعارضهما، فتصل النوبة - بعد فقدان الأدلة الاجتهادية - إلى الأصول العملية، ومقتضاها البراءة، ومؤداها موافق لمؤدى حديث الرفع غالباً، فيقدم حديث الرفع بمؤداه نتيجة.

ص: 10

الوجه السادس: إنه لو قدمت الأدلة الأولية لم يبق لحديث الرفع مورد.

وتحقيق هذه الوجوه وتفصيل الكلام والنقض والإبرام فيها موكول إلى آخر مباحث البراءة، وسيأتي إن شاء اللّه.

حكومة حديث (الرفع) و(لا ضرر) على أدلة الأحكام الأولية

يبقى الكلام في ما ذكره المحقق النائيني حيث اختار الحكومة، وفرق بين الحكومة في المقام وبينها في لا ضرر، بأن حكومة الرفع على أدلة الأحكام الأولية باعتبار عقد وضعها، وأما حكومة لا ضرر ولا عسر ولا حرج عليها بلحاظ عقد حملها، وعلل الدعويين بما لا يخلو عن نظر.

أما الدعوى الأولى فقال: «الحكومة في أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما هي باعتبار عقد الحمل، حيث إن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام»(1).

ووجه التأمل فيه أنه كما يطرأ الضرر والعسر والحرج على الحكم كذلك تطرأ على الموضوع، بل يمكن دعوى أنَّ العناوين الثلاثة تطرأ على الموضوعات الخارجية أولاً وبالذات، ثم تطرأ على الأحكام ثانياً وبالعرض لا بالتبع، فالفعل يوصف بأنه حرجي ثم يتصف الوجوب بكونه حرجياً، وإلا فلا حرج في نفس الحكم. نعم، بما أنَّ الحكم يوقع المكلف في الحرج فيمكن أن نقول: إنه حرجي.

وأما الدعوى الثانية: فقال في دليل رفع الاضطرار والإكراه: «إنما

ص: 11


1- فوائد الأصول 3: 347.

تكون(1) باعتبار عقد الوضع، فإنه لا يمكن طروء الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام، بل إنما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها»(2).

ووجه التأمل في الجملة: إنَّ النسيان قد يطرأ على الموضوع، وقد يطرأ على الحكم، فقد ينسى أنَّ المائع خمر، وقد ينسى حكم وجوب المد في الصلاة، أو حرمة الوصل بالسكون على القول به، وهكذا الخطأ قد يكون في الحكم وقد يكون في الموضوع.

العناوين الثانوية ناظرة إلى عقد الوضع والذي يظهر في المقام أن جميع العناوين الثانوية ناظرة إلى عقد الوضع إلا في موردين، حيث يمكن دعوى أنها ناظرة إلى عقد الحمل.

المورد الأول: (رفع ما لا يعلمون) فيمكن دعوى أنه ظاهر في رفع حكم لا يعلم، لا موضوع لا يعلم عنوانه، فيضيق عقد حمل أدلة الأحكام الأولية، فتكون المحرمات والواجبات المجعولة في أدلة الأحكام الأولية خاصة بصورة العلم، ولا تشمل الجهل.

المورد الثاني: دليل الحرج فيما لو كان لسانه لسان (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، فقد يدعى أنه ناظر إلى عقد الحمل، فالأحكام الحرجية مرفوعة.

أما في بقية الموارد، فالفعل الاضطراري والمنسي مرفوع ووجوده كالعدم، وهكذا (لا ضرر) بمعنى نفي الضرر في الخارج، فإنه وإن كان مآل

ص: 12


1- أي الحكومة.
2- فوائد الأصول 3: 347.

نفي عقد الوضع إلى نفي عقد الحمل، لكن اللسان لسان نفي عقد الوضع، كما في (لا شك لكثير الشك) فهو نفي عقد وضع أدلة الأحكام الأولية للشك، ولكن مآلها إلى نفي عقد الحمل، بمعنى عدم ترتب أحكام الشك.

هذا ما يبدو في بادئ النظر، واللّه العالم.

التذنيب الثالث: في شمول الرفع لنسيان الجزء والشرط والسبب

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: في التمسك بحديث الرفع لنسيان الجزء أو الشرط

المبحث الأول: في تعلق النسيان بالجزء أو الشرط من المركب.

لو نسي المكلف جزءاً من أجزاء المركب، أو شرطاً من شرائطه، فهل يمكن التمسك بحديث الرفع لإثبات صحة العبادة، أو المعاملة التي أتى بها وهي فاقدة لأحدهما؟

وينبغي التنبيه على أنَّ الكلام في نسيان الجزء أو الشرط لا الجزئية أو الشرطية، أي نسيان الموضوع لا نسيان الحكم الكلي، فقد ينسى المكلف الجزء مع الالتفات إلى الجزئية، بأن يعلم أنَّ الركوع جزء ماهية الصلاة، لكنه ينساه قبل الإتيان به، فالنسيان متعلق بالموضوع، وقد يتعلق النسيان بأصل الجزئية والشرطية، فينسى أنَّ الطهارة شرط في الطواف الواجب، فيأتي به من دونها، والبحث هنا في الأول.

ولا يخفى أنَّ البحث قد يأتي في بعض العناوين الأخر كالإكراه، كما لو أكره على ترك السورة، أو اضطر إلى ترك الطمأنينة في الصلاة.

ص: 13

أدلة نفي التمسك بحديث الرفع

وقد نفى المحقق النائيني إمكان التمسك بحديث الرفع لإثبات صحة المركب الفاقد، وذلك لعدة أدلة:

الدليل الأول: قال: «فإنه لا محل لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلاً، لخلو صفحة الوجود عنها»(1)، فإن الرفع يتوجه إلى الموجود، وقد جعله الشارع في حكم المعدوم، أما السورة المنسية فلا وجود لها حتى يتعلق الرفع به.

وترد عليه أجوبة خمسة، مرت أربعة منها في المقام الأول في البحث السادس، نذكرها تباعاً.

الجواب الأول: العدم المضاف له حظ من الوجود، والمنسي عدم مضاف لا عدم مطلق، فيمكن أن يتعلق به الرفع.

الجواب الثاني: لو فرض أنه لا حظ له من الوجود في عالم التكوين، لكنه ليس كذلك في عالم التشريع، وذلك باعتبار موضوعيته للأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون المعدوم قابلاً للرفع.

الجواب الثالث: ليس مفاد حديث الرفع التنزيل، بل مفاده الرفع الادعائي، فالمولى يفرض الترك ك- (لا ترك)، وهو قد يتعلق بالموجود وقد يتعلق بالمعدوم.

الجواب الرابع: المرفوع العناوين التسعة بما أنها مرآة إلى الخارج، وهي أمور وجودية، وقد ينطبق العنوان الوجودي على الفعل، وقد ينطبق على

ص: 14


1- فوائد الأصول 3: 353.

الترك.

وقد مر ما في هذه الأجوبة من الكلام والنقض والإبرام.

الجواب الخامس: لا يعقل ما ورد من التفكيك بين نسيان الجزء والجزئية، بأن ينسى المكلف الجزء ولا ينسى الجزئية، فهل يعقل أنّ يعلم المكلف أن السورة جزء ماهية الصلاة، لكنه ينسى الجزء مع كونه ذاكراً للجزئية بعد تمام سورة الحمد؟

الظاهر عدم المعقولية، بل في نفس اللحظة التي ينسى السورة ينسى جزئيتها لماهية الصلاة.

وعليه، فلا مانع من رفع جزئية السورة لماهية الصلاة في حالة نسيان الجزء الملازم لنسيان الجزئية، ومعه يكون المكلف قد أتى بالماهية الكاملة في حقه، فما ذكره المحقق النائيني وإن سلم في حق الجزء، حيث صفحة الوجود خالية عن السورة المنسية، إلا أنه غير تام في الجزئية، فإنَّ صفحة الوجود غير خالية عنها، والرفع يتوجه إلى الجزئية الاعتبارية فيرفعها.

وقد يجاب بجواب سادس: وهو رفع الوجوب، فنسيان السورة ملازم لنسيان الوجوب، ونسيان الوجوب ونسيان الجزئية متلازمان، وإلا فلو لم نقبل بالملازمة بين نسيان الموضوع ونسيان الحكم، فلا معنى لرفع الوجوب؛ لعدم طرو النسيان عليه، لكن مآله إلى الجواب الخامس.

إلا أن يقال: إنَّ الوجوب الكلي في ذكر المكلف، وقد طرأ النسيان على الوجوب الجزئي فيرفعه المولى.

الدليل الثاني: قال: «الأثر المترتب على السورة ليس إلاّ الإجزاء وصحة العبادة، ومع الغض عن أن الإجزاء والصحة ليست من الآثار الشرعية التي

ص: 15

تقبل الوضع والرفع، لا يمكن رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحة»(1).

وهو مبتن على مقدمة مطوية، وهي لابد أن يكون الرفع والوضع بلحاظ الآثار الشرعية؛ لأنَّ الآثار الشرعية قابلة للوضع والرفع، والصحة والإجزاء أمران عقليان، فالصحة بمعنى: التمامية، وهي أمر انتزاعي من واجدية الشيء لكل ما اعتبر فيه، والإجزاء هو الأثر العقلي لمطابقة المأتي به للمأمور به.

لكنه غير واضح: حيث يمكن رفع ووضع الآثار العقلية التي لها منشأ شرعي برفع ووضع منشئها، هذا أولاً.

وثانياً: ما بنى عليه من لزوم كون الرفع بلحاظ الآثار الشرعية غير تام على نحو الكبرى الكلية، بل قد يكون الرفع بلحاظ الآثار الشرعية، وقد يكون متعلقاً بنفس المجعول الشرعي، ولا يلزم أن يكون له أثر شرعي، ولذلك قالوا في تعريف الاستصحاب(2): إبقاء حكم أو موضوع ذي حكم، فنفس إبقاء الحكم أثر، ولا يحتاج إلى أثر شرعي.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فرفع الوجوب والجزئية ووضعهما لا يحتاج إلى الأثر، فهو عين الأثر الشرعي لو صح التعبير، فالمولى يمكن أن يرفع أو يضع بلحاظ الأثر الشرعي، ويمكن أن يرفع المجعول الشرعي بنفسه.

الدليل الثالث: قال: «لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع الأثر، فإنّ ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة، وهذا ينافي الامتنان وينتج

ص: 16


1- فوائد الأصول 3: 353.
2- فرائد الأصول 3: 208؛ أجود التقريرات 2: 404.

عكس المقصود»(1) فلو رفع الشارع السورة المنسية بلحاظ رفع أثرها نتج عكس المقصود، فإنّ أثر السورة الإجزاء وصحة العبادة، ومع رفع الأثر يثبت فساد العبادة وعدم الإجزاء، فيكون ذلك ضد الامتنان.

ويتضح الكلام فيه مما تقدم، لأنَّ المرفوع الجزئية أو وجوب السورة، وأثر الرفع صحة العبادة الفاقدة.

الدليل الرابع: لا شك أنَّ ترك الركن يوجب بطلان الصلاة، فلو رفع المنسي فلا بد من الحكم بصحة الصلاة.

والجواب: إنَّ حديث الرفع عام قابل للتخصيص، و(لا تعاد) مخصص.

الدليل الخامس: لم يعهد من فقهائنا التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة ولا غيرها من المركبات.

والجواب: عدم المعهودية لا يلازم الإعراض الدلالي، فلو نفى الفقهاء دلالة حديث الرفع لكان إعراضاً دلالياً، أما عدم معهودية الاستدلال فإنه لا يلازم الإعراض الدلالي، فلعله لوجود ما يغني عنه، ك- (لا تعاد) في خصوص الصلاة.

ومع قطع النظر عن هذا الجواب فقد عهد من مجموعة من الفقهاء التمسك بذلك، كالمحقق والعلامة والشيخ الأنصاري رحمهم اللّه.

الدليل السادس ما ذكره المحقق العراقي قال: «مقتضى رفع النسيان في هذه الأمور إنما هو رفع التكليف الفعلي عن الجزء والشرط المنسيين، ويلزمه بمقتضى الارتباطية سقوط التكليف عن البقية أيضاً ما دام النسيان،

ص: 17


1- فوائد الأصول 3: 353.

إلا أنه بعد النسيان تقتضي المصلحة القائمة بالمركب إحداث التكليف بالإتيان»(1).

ويمكن تحليله إلى أربع مقدمات:

الأولى: مقتضى حديث الرفع رفع التكليف بالجزء المنسي.

الثانية: لازم ذلك سقوط التكليف بما تبقى من المجموع المركب.

الثالثة: هذا الرفع خاص بحال النسيان، فهو رفع قيد لا مطلق.

الرابعة: بعد النسيان تقتضي المصلحة إحداث التكليف بالإتيان.

توضيحه إجمالاً: يرتفع وجوب السورة عن المكلف الناسي لإتيانها بمقتضى حديث الرفع، وحيث إنَّ المركب ارتباطي فينتفي الكل بانتفاء الجزء، كارتفاع ماهية العشرة بارتفاع واحد منه، وانتفاء الجزء مساوق لانتفاء الكل بما هوكل.

وبعبارة أخرى: المأمور به ماهية مركبة من عشرة أجزاء، والأمر بكل جزء متقوم ومترابط بالأمر بسائر الأجزاء، وحيث ثبت انتفاء الأمر بالسورة فلا أمر بالعشرة لنسيان الجزء العاشر، ولا دليل على وجود الأمر بتسعة أجزاء، فيسقط كل الأمر.

والحاصل: إنَّ الأمر بالكل والأمر بالجزء يسقطان معاً، فالناسي لا أمر له في عالم الثبوت، بل يتخيل الأمر، و لذلك يصلي الصلاة الناقصة.

لكن السقوط محدود بفترة النسيان، أما بعد زواله فيحدث المولى أمراً جديداً، والدليل عليه هو نفس الملاك والمصلحة التي كانت سبب إيجاد

ص: 18


1- نهاية الأفكار 3: 218.

الأمر بالمركب، حيث تكون سبباً لاستئناف الأمر بالمركب، والمفروض أنه لم يستوفها، فيجب عليه استيفاؤها، فيحدث الأمر بالمركب الكامل بعد انقضاء فترة النسيان.

ولكنه محل للتأمل، أما وجه التأمل في المقدمة الثانية حيث قال(1): ولازمه سقوط التكليف بالمتبقي، فإنّ في المقام أدلة ثلاثة:

الأول: الدليل المتكفل بالأمر بالماهية المخترعة ك:(أقم الصلاة) ولهذه الماهية المخترعة المأمور بها عرض عريض، فهي مقولة على نحو التشكيك، ولذا تشمل الصلاة الرباعية والثنائية في السفر وحالة الإيماء، وصلاة الغريق والموتحل و.. وكلها مراتب الماهية المأمور بها.

الثاني: الأمر الإرشادي يرشد المكلف إلى جزئية السورة في الماهية المخترعة، ك- (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) ومقتضى إطلاقه شمول جميع المكلفين في تمام حالاتهم، سواء أكانوا ذاكرين أم ناسين، مضطرين أم مختارين.

الثالث: (رفع النسيان) وهو ناظر إلى الدليل الثاني لا الأول؛ لأنَّ المفروض أنَّ السورة هي المنسية، فحديث الرفع يرفع المنسي أو النسيان.

ومعنى النظر الحكومة، ونتيجتها التخصيص، فدليل الرفع يخصص الأمر الإرشادي بخصوص حال التذكر.

ونتيجة الجمع بين الأدلة الثلاثة هي: إنَّ الصلاة واجبة مطلقاً، والسورة جزء فيها مطلقاً إلا في حالة النسيان فليست جزءاً، وكأنّ المولى قال: السورة

ص: 19


1- نهاية الأفكار 3: 218.

جزء في تلك الماهية في خصوص حالة التذكر، فيكون الأمر بالصلاة موجوداً في حالة النسيان، فلا وجه لقوله: يسقط الأمر بالصلاة، فإنَّ (أقم الصلاة) يشمل جميع المكلفين، ومنهم المكلف الناسي.

وأما وجه التأمل في المقدمة الثالثة، حيث قال: وهذا الرفع خاص بحالة النسيان، فإنَّه في الرفع المقيد لا يوجد امتنان على المكلف، فلو لم يرفع المولى أصلاً، أو رفع رفعاً مقيداً كانت النتيجة واحدة، وهي وجوب الإعادة، والحاصل أنَّ الرفع المقيد مساوق في النتيجة لعدم الرفع، فيتعين أن يكون الرفع رفعاً مطلقاً.

وأما وجه التأمل في المقدمة الرابعة: وهي قوله: وأما بعده فالمصلحة القائمة بالمركب تقتضي إحداث التكليف بالإتيان، فلو فرض انتهاء الوقت فلا دليل على بقاء الملاك، الذي أحدث التكليف في الوقت.

إن قلت: بمقتضى (لا تنقض) نحكم ببقاء الملاك.

قلت: جريان الاستصحاب في المقام مبتلى بأحد المحذورين: إما محذور عدم وجود الأثر الشرعي، أو محذور مثبتية الاستصحاب.

بيانه: إن كان الملاك باقياً بلا تنقض، وتولد الأمر الجديد، فوجب على المكلف الإعادة فهو مثبت؛ لأنَّ اللازم العقلي لبقاء الملاك إحداث الأمر، وإن كان بقاء الملاك كافياً في لزوم تحصيله من دون احتياج إلى الأمر - حيث ذهب جمع إلى أنَّ المكلف لو علم بوجود الملاك وجب عليه تحصيله عقلاً(1) - فهذا المجرى لا أثر شرعي له، ويجب أن يكون مجرى

ص: 20


1- كما لو كان المولى نائماً فسقط ابنه في البئر، فيحكم العقل بوجوب تحصيل ملاك المولى.

الاستصحاب إما حكماً شرعياً، أو موضوعاً لأثر شرعي، وبقاء الملاك بمجرده لا أثر شرعي له.

فما أفاده المحقق العراقي يحتاج إلى تأمل أكثر.

الدليل السابع: ما ذكره المحقق العراقي (رحمه اللّه) (1)، وحاصله: عدم صحة إجراء الأصل في المقام؛ لأنّه أصل مثبت.

بيانه: لا أثر شرعي لنسيان الجزء أو الشرط، بل الأثر مترتب على اللازم أو الملازم العقلي للنسيان، فإنه ملازم عقلاً لعنوان المخالفة، فقد خالف المأتي به المأمور به، والأثر الشرعي للمخالفة هو وجوب الإعادة أو القضاء، فإجراء الأصل في المقام مثبت.

لكنه لا يخلو من تأمل: فمع حديث الرفع يرفع وجوب الجزء أو الجزئية، بناء على ما ذكرناه من أنَّ نسيان الجزء ملازم لنسيان الجزئية، فالمرفوع وجوب الجزء المنسي، وهو حكم تكليفي، أو جزئية المنسي، وهي حكم وضعي، ومع رفع الحكم لا نحتاج إلى أثر شرعي حتى يكون مثبتاً.

والحاصل: يظهر في بادئ النظر أنّه لا مانع من القول بتكفل رفع النسيان لوجوب الجزء، وتصحيح العبادة الفاقدة.

ومما تقدم يظهر الكلام في نسيان الجزئية، فلو كان المكلف ناسياً للحكم الكلي، كما لو نسي أنّ الطمأنينة شرط في الصلاة وصلى من دونها، فمقتضى حديث الرفع صحة الصلاة الفاقدة.

ص: 21


1- مقالات الأصول 2: 271.

لا فرق بين النسيان في تمام الوقت أو بعضه

ثم إنه هل هنالك فرق بين كون النسيان مستوعباً لجميع الوقت، أو في جزء من أجزائه؟

يرى المحقق النائيني(1) أنه لو كان النسيان غير مستوعب لتمام الوقت، فالعمل باطل؛ لأنه مكلف بالإتيان بالماهية الكاملة بين الحدين، والناسي لم يأت بالماهية الكاملة، فيجب عليه الإعادة في الوقت.

لكن لو قبلنا مبنى حكومة دليل الرفع على أدلة الأجزاء والشرائط، فلا فرق بين أن يكون النسيان مستوعباً أو غير مستوعب لانقلاب التكليف، فإنّ تكليف الناسي ماهية الناقص وقد أتى بها، والإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء.

وللتقريب - وإن كان خارجاً عن محل البحث - نقولك لو أمر بإتيان الماء المضاف فلم يقدر المكلف، فأمر بالماء المطلق فأتى به فقد امتثل، وهو يقتضي الإجزاء، فلو قدر على الماء المضاف لم يجب عليه الإتيان به، فلو قال: (أقم الصلاة) ثم قال: (السورة جزء) ثم قال: (إلا في حالة النسيان فليست جزءاً) فتكليف الناسي في أول الوقت هو الصلاة الناقصة، والتي هي كاملة في حقه، وقد أتى بها، فلو زال النسيان في وسط الوقت لم يجب عليه شيء؛ لزوال التكليف بالتام وامتثال التكليف بالناقص، ولا دليل على عودة الأمر بالتام من جديد.

وبعبارة أخرى: ليس معنى (أقم الصلاة) الصلاة التامة، بل على كل

ص: 22


1- أجود التقريرات 2: 175.

مكلف امتثال الماهية المقولة بالتشكيك، فلو كان في أول الوقت مسافراً وجب عليه الإتيان بالصلاة، وصلاة المسافر ركعتان وهي تامة في حقه، وإن كانت ناقصة بالإضافة، فلا يعود إليه التكليف - بعد امتثال الماهية التامة في حقه - إذا عاد في آخر الوقت؛ لأنه امتثل التكليف المؤول بالتشكيك، فسقط الأمر.

وتأييداً لما ذكرناه من حكومة دليل الرفع على دليل الأجزاء والشرائط، نذكر خمسة موارد صحح الفقهاء فيها العبادة الفاقدة في حالة النسيان.

الأول: بناء على وجوب الترتيب بين الفائتة والحاضرة، فلو نسي واشتغل بالحاضرة ولم يمكن العدول، كما لو كان في ركوع الركعة الثالثة من صلاة الظهر، حيث لا يمكن العدول إلى الصبح، صحت صلاته مع اشتراط الترتيب، إلا أنه ساقط لنسيانه، قال الشهيد: «أتم ما هو فيه واستأنف السابقة ولم يجب الإعادة لرفع النسيان»(1).

الثاني: قال في كشف اللثام(2): لو نسي الغصبية في ماء الوضوء فتطهر به، فالأقوى صحة طهارته، مع أنَّ الوضوء فاقد لشرط الإباحة، لكنه صحيح لرفع النسيان.

ونظيره في العروة(3)، ووافقه على صحة الوضوء المحقق النائيني والمحقق الحائري والمحقق العراقي والسيد أبو الحسن الإصفهاني والشيخ

ص: 23


1- ذكرى الشيعة 2: 432.
2- كشف اللثام 1: 598.
3- العروة الوثقى 1: 156.

كاشف الغطاء والسيد البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد الخوئي والسيد الكلبايكاني.

وقال السيد الحكيم: «إطلاق حديث الرفع يقتضي العذر»(1).

وأما السيد الوالد (رحمه اللّه) (2) فقد فصل بين النسيان العذري وغير العذري، بأن كان النسيان عن تقصير في المقدمات فيشمل الأول حديث الرفع فحسب.

نعم، لو كان الناسي هو الغاصب ففيه كلام.

الثالث: فيما لو نسي أنَّ اللباس غصبي فصلى فيه، فقد قال في كشف اللثام: «ولم يبطلها ابن إدريس، لرفع النسيان عن الأمة، ومعناه رفع جميع أحكامه؛ لأنه أقرب المجازات إلى الحقيقة(3) من رفع بعضها كالعقاب عليه... وهو خيرة المنتهى والبيان»(4).

ونظيره في العروة(5)، حيث أفتى بصحة صلاته فيما لو نسي الغصبية.

وقال في شرح العروة: «مقتضى حديث الرفع... تخصيص حرمة الغصب بغير الناسي»(6)، فمع أنه صلى في المغصوب وكانت صلاته فاقدة لشرط الإباحة، إلا أنها صحيحة، فالصلاة تامة واقعاً لا ظاهراً، ولا حرمة ولا

ص: 24


1- مستمسك العروة الوثقى 2: 428.
2- الفقه 9: 7.
3- لأن نفي الماهية ممتنع في المقام، فالنسيان موجودٌ خارجاً، وأقرب المجازات رفع جميع الآثار (منه (رحمه اللّه) ).
4- كشف اللثام 3: 226.
5- العروة الوثقى 1: 395.
6- شرح العروة الوثقی 12: 135.

مبغوضية.

الرابع: قال في كشف اللثام(1): لو نسي غصبية المكان فالأقوى الصحة؛ لأن المنهي عنه إنما هو التصرف فيما علم غصبه، فالغصب المعلوم منهي عنه، أما الغصب المنسي فلم ينه عنه؛ لرفع النسيان.

ونظيره في العروة(2) وفي الفقه(3): الأقوى الصحة لحديث لا تعاد وحديث الرفع، ثم نقل عن المستند أنه صرح بالصحة جماعة.

الخامس: قال في كشف اللثام(4): وأمّا الناسي لمراعاة الوقت - بشرط دخول بعض صلاته في الوقت - فاختار الكافي والبيان وظاهر النهاية والمهذب الإجزاءَ؛ لرفع النسيان وينزل إدراك الوقت في البعض منزلته في الكل.

ونقل في المستند(5) الصحة عن بعض ولم يرتضه.

والحاصل: إننا لم ننفرد في القول بحكومة دليل رفع النسيان على أدلة الأجزاء والشرائط، بل أفتى جمهرة من أعيان الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين بصحة عبادة الفاقد في حالة النسيان، وإن خالفهم في ذلك جمع آخرون.

ص: 25


1- كشف اللثام 3: 276.
2- العروة الوثقى 1: 408.
3- الفقه 18: 114.
4- كشف اللثام 3: 79-80.
5- مستند الشيعة 4: 101-102.

المبحث الثاني: في تعلق النسيان بالأسباب التي لها آثار وضعية

المبحث الثاني: لو نسي المكلف السبب أو شرطاً من الشرائط، كما لو اشترطت العربية في عقد النكاح فعقد بلغة أخرى على نحو نسيان الموضوع، لا نسيان الحكم الكلي، أو اشترطت الماضوية فنسيت، فقالت: أزوجك، فهل يمكن التمسك بحديث الرفع لتصحيح العقد الفاقد للشرط؟

عدم شمول الرفع لنسيان الأسباب

حكم المحقق النائيني ببطلان العقد وعدم ترتب الأثر، وحاصل كلامه أنّ مفاد الحديث الشريف الرفع لا الوضع.

قال: «إنّ وقوع النسيان في الأسباب لا يقتضي تأثيرها في المسبب ولا تندرج في حديث الرفع؛ لأنه لا يثبت أمراً لم يكن، فإنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي، وليس للعقد الفارسي أثر يصح رفعه، وشرطية العربية ليست منسية حتى يكون الرفع بلحاظها»(1).

فالأثر مترتب على العقد العربي ولم يقع، ولا أثر للعقد الفارسي حتى يرفعه بلحاظ الأثر، وعلى فرض الرفع فمفاد الحديث رفع العقد الفارسي لا وضع العقد العربي، والشرطية الكلية ليست منسية حتى يقال بارتفاعها، وعليه، فالشرطية الكلية ثابتة؛ لأنها غير منسية، وما وقع خارجاً ليس مصداقاً للعقد الكلي الشرعي، فلا يكون صحيحاً ولا يترتب عليه الأثر.

وبعبارة أخرى: لا وجه لرفع الشرطية الكلية؛ لعدم تعلق النسيان بها، فإنّ العاقد يعلم اشتراط العربية لكنه ذهل فنسي فسبق لسانه، ولما يسأل لماذا لم

ص: 26


1- فوائد الأصول 3: 356.

تقرأ بالعربية يجيب غفلت، مع أن الحكم الكلي محفوظ في ذهنه.

وأما العقد الجزئي الفارسي فلا أثر له حتى يكون الرفع بلحاظه، وعلى فرض رفع العقد الفارسي لا يثبت رفعه وضع العقد العربي، فالمأتي به لم يطابق السبب الواقعي فيبطل العقد.

التفصيل بين نسيان الجزء المقوم للماهية وغير المقوم لكن الظاهر التفصيل في المقام، فالمنسي إما ذات السبب، وإما شرط أو جزء مقوم للماهية، وإما شرط أو جزء غير مقوم للماهية، فلو كان المنسي نفس السبب أو الشرط المقوم للماهية فلا وجه لشمول حديث الرفع، فلو نسي العاقد الإيجاب، أو المشتري القبول فلم يقع في الخارج عقد حتى يكون مشمولاً لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1) فالإيجاب ركن ومقوم للماهية في نظر العرف، وكذلك القبول والقصد.

فلا أثر لرفع الشارع النسيان، حيث لا يمكن تصحيح ما وقع بالعمومات الفوقانية؛ لعدم شمولها للمورد، فلا مصحح لما وقع في الخارج.

وأما لو كان المنسي شرطاً غير مقوم للماهية، كنسيان العربية - فإنها شرط شرعي لا شرط مقوّم في العرف - فالعقد واقع، غاية الأمر أنه فاقد للشرط، فيصح رفع الشرط عنه.

وبعبارة أوضح: يرفع الشارع النسيان، ومعناه رفع آثاره الشرعية ومآله برفع الشرطية، مضافاً لما مضى من أن نسيان الشرط ملازم لنسيان الشرطية، فيكون العقد صحيحاً ومشمولاً للآية.

ص: 27


1- المائدة: 1.

وبعبارة أخرى: عندنا ثلاثة أدلة، الأول: {أَوْفُواْ بِالْعُقُود}، الثاني: العربية، الثالث: إلا في حالة النسيان، ومقتضى الجمع بين دليل الشرطية وحديث الرفع تقييد دليل الشرطية، فيكون العقد الواقع مشمولاً للعام.

وحاصل الإيراد عليه أنَّ نسيان الشرط ملازم لنسيان الشرطية، هذا أولاً.

وثانياً: بغض النظر عن ذلك: الشارع يرفع الوجوب الشرطي ؛ لأنه المنسي، فيكون العقد صحيحاً بشرط عدم نسيان السبب أو الشرط المقوم.

الرفع خلاف الامتنان

واستدل المحقق العراقي لعدم شمول دليل الرفع للمقام بما حاصله أنّ الرفع خلاف الامتنان، قال: «فعدم جريان الرفع فيها إنما هو من جهة اقتضائه للوضع الذي هو التكليف بالوفاء بالفاقد، ومثله خلاف الامتنان في حق المكلف»(1) فلازم رفع وجوب العربية الوضع، فإنَّ الشارع يلزم الزوج بالعقد والإنفاق وجميع الآثار، وهو خلاف الامتنان؛ لأنه تحميل على المكلف.

لكنه غير واضح: فإنَّ الإلزام الذي يرضى به المكلف ليس تحميلاً ولا خلاف الامتنان، فالشارع يمضي ما أراده المكلف بكامل اختياره وطيب نفسه.

نعم، لازم الإنفاذ ترتيب الآثار التي تترتب على السبب، وما دام المكلف راضياً بالملزوم فلا يكون ترتيب آثاره خلاف الامتنان.

ص: 28


1- نهاية الأفكار 3: 221.

فالمختار في المقام التفصيل فيما لو كان المنسي ذات السبب أو الشرط المقوم، فليس مشمولاً لحديث الرفع، أما لو كان شرطاً لا مدخلية له في قوام العقد فلا مانع من الشمول.

التذنيب الرابع: شمول رفع الإكراه للتكاليف الاستقلالية والضمنية والأسباب

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في تعلق الإكراه بالتكليف النفسي

فيما لو كان متعلق الإكراه تكليفاً استقلالياً، فلو أكره المكلف على ترك واجب أو ارتكاب محرم، كما لو أكره على شرب الخمر، فهل يمكن التمسك ب- (رفع ما استكرهوا عليه) لرفع التكليف والحكم بجواز الشرب؟

يرى المحقق العراقي أنَّ الإكراه لا يسوغ ترك الواجبات وفعل المحرمات، فإنَّ جريان الإكراه ورافعيته خاص بباب المعاملات بالمعنى الأخص، ولا يجري في باب الأمور التكليفية والمعاملات بالمعنى الأعم.

قال: «لأنَّ الإكراه على الشيء يصدق بمجرد عدم الرضا وعدم طيب النفس بإيجاده... ومن المعلوم بداهة عدم كفاية ذلك في تسويغ ترك الواجبات ما لم ينته إلى المشقة الشديدة الموجبة للعسر والحرج، فضلاً عن الاقتحام في المحرمات التي لا يسوغها إلا الاضطرار»(1).

وحاصله: لا بحث فيما لو انطبق عنوان الحرج أو العسر أو الضرر(2) على فعل الواجب، كإكراه الزوجة على الإفطار في شهر رمضان وإلا طلقها مما

ص: 29


1- نهاية الأفكار 3: 224.
2- بإضافة الضرر منا (منه (رحمه اللّه) ).

كان عسراً أو حرجاً أو ضرراً عليها، فهذه العناوين ترفع وجوب الصوم، كما لا بحث فيما لو أكرهه على الإتيان بالمحرم، كشرب الخمر وصدق عنوان الاضطرار، وإلاّ ضرب عنقه، كما في الرواية «إن أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليّ من أن يضرب عنقي»(1).

وأما صرف انطباق عنوان الإكراه من دون العسر والحرج والضرر والاضطرار، فليس رافعاً لحرمة المحرمات ووجوب الواجبات ؛ وذلك لأنّ ملاك تحقق الإكراه عدم طيب النفس وعدم الرضا القلبي، ولم يقل أحد بأنّ هذا المقدار كاف لتسويغ اقتحام المحرمات.

ويتضح ذلك بمثالين متقابلين: في باب المعاملات بالمعنى الأخص، لو قال الظالم: بع هذا الشيء وإلا أخذت منك ألف دينار، ولم تطب نفس المالك بذلك، فيستطيع القول بأنه مكره، والحديث يرفع الإكراه فيكون البيع باطلاً.

لكن لو قال الظالم: اشرب الخمر وإلا أخذت منك ألف دينار، والمكلف لا ميل له إلى شرب الخمر، ولم يكن ذلك حرجاً أو عسراً أو ضرراً أو اضطراراً فلا يحق للمكلف أن يقول: إنه مكره على شرب الخمر. نعم، لو كان أخذ هذا المقدار ضرراً أو حرجاً عليه لكان مرفوعاً للحرج والضرر الرافعين للتكليف.

وعليه، فصرف انطباق عنوان الإكراه من دون انطباق العناوين الأخرى لا يسوغ ارتكاب المحرمات وترك الواجبات.

ص: 30


1- الكافي 4: 83.

وهو قابل للتأمل من جهتين:

الجهة الأولى: أنه خلاف في أنَّ ظاهر الكتاب والسنة والفتاوى، موضوعية عنوان (الإكراه) لرفع الحكم، كقوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1).

فظاهرها أنه لو صدق عنوان الإكراه فليس عليهم غضب من اللّه، وليس لهم عذاب عظيم.

ومن السنة روايات كثيرة وردت في الكافي ونور الثقلين والبرهان وتفسير العياشي(2).

ومنها: «واللّه ما ذلك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل اللّه عز وجل: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندها: يا عمار، إن عادوا فعد، فقد أنزل اللّه عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا».

وإن كان فيها إشكال، ففي سائر الروايات الواردة في الإكراه الكفاية.

وأما من الفتاوى فقد أفتى الفقهاء(3) بالجواز وارتفاع الآثار عن الزوجة فيما لو أكرهها زوجها على الجماع في نهار شهر رمضان، ولم يفصلوا في ذلك بين طروء عنوان آخر وعدمه، مع أنه يرتبط بالواجب النفسي؛ لأنّ

ص: 31


1- النحل: 106.
2- الكافي 2: 219؛ نور الثقلين 1: 305؛ البرهان 1: 570؛ تفسير العياشي 1: 157.
3- الرسائل العشر: 186؛ جامع المقاصد 3: 70؛ الحدائق الناضرة 13: 243.

الجماع الإكراهي يوجب فساد الصوم، وكذا في الإكراه على الزنا.

الجهة الثانية: إن ما أفاده خلاف ما تقرر في محله من الاقتصار في التخصيص والتقييد على مقدار الضرورة، فحاصل كلامه عدم إمكان الالتزام بإطلاق رافعية الإكراه للمحرمات، وهو تام، لكن يلزم الاقتصار على مقدار الضرورة في تقييد المطلق وتخصيص العام، وقد ثبت بالإجماع أو الارتكاز أنّ كل إكراه لا يبيح كل محرم، فلو أمره الظالم بالقتل وإلا قتله أو صادر أمواله فهذه المرتبة لا تبيح له القتل، وليس معناه عدم جريان الإكراه في ترك الواجبات وفعل المحرمات مطلقاً، بل الإكراه مرفوع إلا فيما خرج بدليل، كالضرورة والارتكاز والإجماع والرواية.

فلا مانع من الذهاب إلى أن رفع الإكراه يشمل الواجبات والمحرمات النفسية في الجملة، كما لو أكرهه على حلق اللحية بشرط صدق الإكراه، وعدم وجود دليل خارجي يستثني المورد من عموم قاعدة الرفع.

المبحث الثاني: في تعلق الإكراه بالتكاليف الضمنية

لو كان متعلق الإكراه الواجبات الضمنية أو الشرائط أو الموانع، كما لو أكرهه على ترك السورة أو البسملة(1)، أو أكرهه على ترك الشرط أو إيجاد المانع، كقول: آمين بعد (ولا الضالين)، فهل يرفع ذلك بحديث الرفع؟

ذكر في المقام تفصيل: مفاده شمول حديث الرفع لصورة إيجاد المانع والقاطع دون ترك الجزء أو الشرط، فلو لم يأت بالبسملة بطلت صلاته لولا

ص: 32


1- وقد ابتدعه معاوية حينما قدم إلى المدينة فصلى من دون بسملة (منه (رحمه اللّه) ).

الدليل الخارجي ك- (لا تعاد).

وجه التفصيل: إن للمانع - كقول: آمين بعد انتهاء الحمد - أثراً شرعياً وهو المانعية، أي أنه مبطل للصلاة، ويرفع الأثر مع رفع الإكراه، فتكون الصلاة صحيحة.

وأما ترك الجزء أو الشرط فلا أثر شرعي له حتى يرفع بلحاظ ذلك الأثر، فتكون العبادة باطلة - لولا الدليل الخارجي - فلو أكره على الطواف في الثوب النجس كان باطلاً؛ لعدم وجود الأثر في ترك الطهارة الخبثية في الطواف حتى يرفع الإكراه بلحاظ رفع ذلك الأثر.

إن قلت: إن الحكم بالبطلان هو أثر ترك الشرط.

قلت: البطلان ليس أثراً شرعياً، بل أثر عقلي، فالعقل يرى أنّ المأتي به لم يطابق المأمور به، فيحكم ببطلان العمل ووجوب الإعادة.

ومنه يتضح الفرق بين الإكراه والنسيان، فلو نسي الجزء كان مشمولاً لحديث الرفع؛ لتعلق النسيان به، وأثر الجزء الجزئية فيرفعه الشارع؛ لأن ّله أثراً شرعياً، وأما متعلق الإكراه في المقام فهو ترك الجزء، وترك الجزء لا أثر شرعي له.

لكن التفصيل لا يخلو من نظر: فلا دليل على لزوم تحقق الأثر الشرعي في متعلق الرفع، ولا ضرورة لكون المرفوع حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، بل الملاك اللغوية، فلو كان الوضع أو الرفع الشرعي لغواً لكانا ممتنعين، وأما مع عدم اللغوية فهما ممكنان، ويكفي لدفع اللغوية أن يكون لمتعلق المتعلق أثر شرعي، فقد تعلق الإكراه بالترك وتعلق الترك بالفعل،

ص: 33

أي أكره على ترك الإتيان بالسورة، فإنه وإن لم يكن أثر لمتعلق الإكراه لكن الأثر لمتعلق متعلق الإكراه، وهو كاف لدفع اللغوية، فكأن الشارع لم يلحظ هذا الترك، وكأنه لم يتحقق في الخارج، وأثره شمول العمومات - ك- (أقم الصلاة) - له، فلا تجب الإعادة والقضاء.

وبعبارة أخرى يصح إجراء الأصل العملي وإن لم يكن لمتعلقه أثر ما دام لمتعلق المتعلق أثر، مثلاً: لو وجب إكرام زيد عند مجيئه، فالمجيء له أثر شرعي، أما عدم المجيء فلا أثر له، فلو شك في مجيئه صح استصحاب عدمه، ولا يرد عليه إشكال عدم الأثر؛ لكفاية وجود أثر لمتعلق المتعلق، وهذا المقدار كاف لجريان الأصل العملي في عدم مجيء زيد.

وما نحن فيه كذلك، فإنّ ترك السورة وإن لم يكن له أثر شرعي إلاّ أنّ الأثر ثابت لمتعلقه، وهذا المقدار كافٍ في جريان حديث الرفع في ترك الإتيان بالسورة، فتكون الصلاة مشمولة للعمومات الفوقانية بالتفصيل الذي ذكرناه سابقاً، من وجود ثلاثة أدلة في المقام، ومفاد ضم الأدلة الثلاثة صحة الصلاة الفاقدة.

المبحث الثالث: في تعلق الإكراه بالأسباب التي تترتب عليها آثار وضعية

وفي المقام صور:

الصورة الأولى: لو أكره على ترك إيجاد السبب، بأن أكره على ترك العقد الذي يكون سبباً في النقل والانتقال والزوجية، فلا يمكن الحكم بحصول الأثر المترتب عليه؛ إذ لا عقد حتى يكون مشمولاً للعموم الفوقاني، فإنّ تصحيح العبادة إنما يكون بالعموم الفوقاني، وهو مفقود في

ص: 34

المقام.

الصورة الثانية: لو أكره على ترك الجزء المقوم كالقبول، والكلام فيه كالكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثالثة: لو أكره على ترك الجزء أو الشرط غير المقوم للماهية، فما هو الحكم، كأن يكره على الإتيان بعقد النكاح بغير اللغة العربية؟

والظاهر أنّ في المقام حالتين:

الأولى: أن يكون مضطراً لإيجاد أصل السبب، كأن يضطر لذبح الحيوان إما اضطراراً عقلياً أو شرعياً، لكن الظالم يمنعه من التلفظ باسم اللّه فهو مكره على ترك الجزء أو الشرط غير المقوم، والظاهر أنه لا مانع من القول بأن الجزئية أو الشرطية أو المانعية مرفوعة بحديث الرفع على البيان المتقدم.

الثانية: أن لا يكون مضطراً،كما لو أمكنه الانتظار حتى ذهاب الظالم، فيذبح مع جميع الشرائط، ففي شمول رفع الإكراه للمقام غموض؛ لانصراف دليل الإكراه عنه، لا أقل من الشك في الشمول.

الصورة الرابعة: لو أكره على إيجاد السبب الباطل في حد ذاته، كما لو أكره على بيع الخنزير، أو الخمر، فالظاهر أنه لا يترتب عليه الأثر؛ لعدم تحقق العموم الفوقاني في المقام، كما مضى بيانه.

الصورة الخامسة: أن يكره على إيجاد السبب الصحيح في حد نفسه، كما لو أكره على البيع، فلا تترتب الآثار بحديث الرفع.

وفي المقام مباحث وتذنيبات أخرى لعله يظهر الحال فيها مما تقدم.

هذا تمام الكلام في الحديث الأول وهو حديث الرفع.

ص: 35

الحديث الثاني: حديث الحجب

اشارة

الحديث الثاني من الأحاديث التي استدل بها على البراءة: حديث الحجب، وفيه بحثان: سندي ودلالي.

البحث الأول: البحث السندي

صحح بعض الأصوليين(1) السند ولم يتعرض بعض إلى هذه الجهة، لكن يبدو للنظر أن فيه إشكالاً سندياً.

فقد رواه الكليني في الكافي، عن محمد بن يحيى(2)، عن أحمد محمد بن عيسى(3)، عن ابن فضال(4)، عن داوود بن فرقد(5)، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد اللّه× قال: «ما حجب اللّه علمه(6) عن العباد فهو موضوع عنهم»(7).

والإشكال في زكريا بن يحيى؛ لأنه مجهول.

قرائن توثيق زكريا بن يحيى

وقد ذكر في المنهاج قرينتين لتوثيقه:

ص: 36


1- مفاتيح الأصول: 512؛ فرائد الأصول 2: 28؛ أجود التقريرات 2: 181؛ بحوث في علم الأصول 5: 63.
2- محمد بن يحيى الأشعري العطار، شيخ الكليني ثقة.
3- أحمد بن محمد بن عيسى، ثقة.
4- ابن فضال مشترك بين عدة بعضهم ثقة وبعضهم ممدوح.
5- داوود بن فرقد، ثقة.
6- توجد هذه الكلمة في بعض الطرق.
7- وسائل الشيعة 27: 163؛ الكافي 1: 164، ولا توجد فيه كلمة (علمه).

القرينة الأولى: إنّ الراوي عنه داود بن فرقد.

ولم يذكر لذلك توضيحاً، فإن كان مراده أنّ داود من الثقات أو الأجلاء، وهم لا يروون إلا عن ثقة، فقد ذكر في محله أنّ رواية الثقة ليس أمارة التوثيق، ولا تدل على وثاقة المروي عنه، وإلا كانت جميع الروايات معتبرة؛ لأنّ ناقل الرواية الشيخ الصدوق مثلاً، وروايته عن المجهول دليل وثاقة المروي عنه، فلو كان المروي عنه ثقة لكان من يروي عنه المروي عنه ثقة؛ لأنّ الثقة لا يروي إلاّ عن ثقة، وهكذا إلى آخر السند.

القرينة الثانية: وقوع أحمد بن محمد بن عيسى في سلسلة السند.

وقد قال بعض(1):

إنه لا يروي إلاّ عن الثقات، فإنّ إخراج البرقي لروايته عن غير الثقات دليل على التزامه بعدم النقل إلا عن الثقة.

لكنه محل تأمل، فإنّه أنما أخرجه لإكثاره الرواية عن الضعفاء واعتماد المراسيل، وهو لا ينافي الرواية بلا اعتماد، أي بدون ترتيب الأثر العملي أو الرواية عن المجاهيل، حيث يمكن النقل عن المجهول مع التزام عدم النقل عن الضعيف.

فالقرينتان المذكورتان من دون توضيح إن كان المقصود منهما ما ذكرناه فهما محل تأمل.

نعم، رواية الكليني تعطيها نوعاً من القوة.

البحث الثاني: البحث الدلالي

وقد استدل بهذه الرواية على البراءة كما استدل بحديث الرفع، وهي أكثر

ص: 37


1- رجال النجاشي: 82؛ خلاصة الأقوال: 61.

ظهوراً منه في شمول الشبهات الحكمية؛ لما مر من إشكال وحدة السياق المسبب للتشكيك في شمول (رفع ما لا يعلمون) للشبهات الحكمية، ولكنه لا يرد على حديث الحجب؛ لعدم تحقق الموضوع، فلا سياق حتى يخل بالظهور.

وجوه الإشكال على الاستدلال بحديث الحجب

وقد أورد على الاستدلال به للبراءة في الشبهات الحكمية إشكالات:

الإشكال الأول: حجب الحكم نوعان:

النوع الأول: أن يكون الحجب معلول وجود مصلحة في إخفاء الحكم، أو معلول وجود مفسدة في إظهار الحكم، كحجب حرمة شرب الخمر في أول البعثة؛ لعدم تحمل المجتمع مثلاً، وهكذا كثير من الأحكام الفرعية.

النوع الثاني: أن يكون الحجب معلول العوارض الخارجية، كانطماس الأدلة الدالة على الحكم، فقد أخفي الكثير من الروايات إثر ظلم الظالمين و إخفاء المعاندين وتدليس المدلسين، كما ينقل أنه ألقيت في نهر دجلة حتى اسود ماؤها، أو أحرقها صلاح الدين، وقد كان للإمام الهادي× تفسير في 120 مجلداً لا أثر له اليوم أصلاً.

والبحث في المقام حول النوع الثاني، وأنه لو صدر واقعاً حكم من الشارع ولم يصل إلينا لطروء العوارض الخارجية، فهل يمكن إجراء البراءة؟ وأما حديث الحجب فظاهر في النوع الأول، بدليل إسناد الحجب إلى اللّه تعالى(1)، فإنّ النوع الثاني لم يحجبه اللّه، بل بينه وأظهره {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 38


1- كحجب بعض المباحث في باب العقائد، فلسنا مكلفين بمعرفتها (منه (رحمه اللّه) ).

يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}(1) فلا يصح إسناد الحجب إليه تعالى.

ولو شك في أنّ حجب حرمة أكل الطعام المحترق هل هو من النوع الأول أو الثاني، فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه فالحديث ناظر إلى حجب النوع الأول.

واعتمادا على هذا الإشكال نفى الشيخ الأعظم(2)

وصاحب الكفاية(3) دلالة الحديث على البراءة.

وأجيب عنه: بأن للمولى حيثيتين: حيثية أنه مشرع وحيثية أنه مكوّن وخالق، والحجب في النوع الثاني وإن لم يصح إسناده إلى اللّه تعالى من حيث إنه مشرع؛ لأنّ المفروض أنّ اللّه بين الحكم وبلغه أولياءهُ، واختفاؤه معلول إخفاء الظالمين، لكن يصح إسناده إلى اللّه تعالى من حيث إنه مكون وخالق للأشياء، لصحة إسناد كل شيء في عالم الإمكان إليه عز وجل، لانتهاء سلسلة الأسباب إلى مسببها.

ولذا ورد في القرآن الكريم {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(4)، وفي آية أخرى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ}(5)، فمع إسناد التوفي إلى ملك الموت أو أعوانه صح إسناده

ص: 39


1- البقرة: 159.
2- فرائد الأصول 2: 41.
3- كفاية الأصول: 341.
4- الأنعام: 61.
5- الزمر: 42.

إلى اللّه، وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى}(1) فمع إسناد الرمي إلى شخص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسند إلى اللّه تبارك وتعالى.

والسر في ذلك عدم استقلال أي فاعل في دائرة عالم الإمكان، وإن كان فاعلاً بالإرادة والاختيار، فلا يوجد في الوجود فاعل مستقل غير اللّه، فبلحاظ عدم الاستقلال يصح نسبة الفعل إلى اللّه. نعم، هذه النسبة لا تسلب المسؤولية عن الفاعل؛ لأنَّ الإرادة والاختيار دخيلان في صدور العمل عنه.

والحاصل يمكن القول: إنّ اللّه حجب علمه عنا، وإن كان الحجب إثر إخفاء الظالمين، بل يمكن إسناد الحجب إلى اللّه تعالى حتى في الشبهات الموضوعية، بل يصح إسناد جميع ما في الكون إلى اللّه تعالى.

وأشكل عليه في النهاية بقوله: «إنّ المسببات بما هي موجودات محدودة لا تنسب إلا إلى أسباب هي كذلك، وبما هي موجودات بقصر النظر على طبيعة الوجود المطلق تنسب إلى الموجود المطلق»(2).

بيانه: إنَّ كل موجود من موجودات عالم الإمكان مركب من الماهية والوجود، فإذا قصر النظر على جهة الوجود من دون لحاظ حده، بأن لا تلحظ الماهية المنتزعة من حد الوجود، أمكن نسبة الوجود إلى الوجود أو الموجود المطلق وهو اللّه، وأما لو لوحظ الوجود بما أنه محدود بأن لوحظت الماهية، كان للملحوظ وجود محدود، ولا يمكن نسبة الوجود المحدود إلى الوجود المطلق، بل ينسب إلى الموجود المحدود.

ص: 40


1- الأنفال: 17.
2- نهاية الدراية 2: 445.

نعم، يمكن أن يغلب على الفعل المحدود العنصر الربوبي، فيمكن إسناده إلى اللّه بلحاظ الغلبة، بل يمكن غلبة العنصر الربوبي على الجهة الماهوية؛ لأنّ الفعل قربي فيصح الإسناد إليه تعالى بهذا اللحاظ، كقوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(1) ومع أن شخص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأخذ الصدقات، لكن حيث إنَّ العمل قربي وغلبت عليه الجهة الربوبية أسند إلى اللّه تعالى في قوله عز وجل: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}(2).

وأما الفعل الغالب عليه الجهة الماهوية فلا يمكن نسبته إلى اللّه تعالى.

وما نحن فيه كذلك؛ لأنَّ إخفاء الظالمين فعلاً غلب فيه الجانب الماهوي، فينسب إلى الظالمين لا إلى اللّه، فلا يمكن القول: إنّ اللّه حجب علمه، ولذا ورد في الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}(3) فنسب البيان إلى اللّه والكتمان إليهم.

وعليه، لو وردت رواية في تحريم الطعام المحترق لا يمكن القول: إنّ اللّه حجبها، فلا يكون المقام مشمولاً لحديث الحجب.

لكنه محل تأمل، فالإضلال في القرآن نسب إلى أفراد غلب على فعلهم الجانب الماهوي، كقوله تعالى: {يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ}(4)، وقوله عز

ص: 41


1- النساء: 79.
2- التوبة: 104.
3- البقرة: 159.
4- النساء: 60.

وجل: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ}(1)، وقوله تبارك وتعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ}(2)، وقوله سبحانه: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا}(3).

ومع ذلك نسب إلى اللّه تعالى، كما في قوله عز وجل: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ}(4)، وقوله سبحانه: {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}(5)، وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ}(6)، وقوله عز شأنه: {خَتَمَ اللّهُ}(7).

فالإضلال والفتنة والختم والطبع كلها نسبت إلى اللّه عزّ وجلّ، فلا مانع من نسبة الحجب إلى اللّه، وما ذكر إن لم يتم بالجملة فهو تام في الجملة، فما أفاده محل تأمل، وإن احتاج المقام إلى مزيد التأمل بمراجعة كلمات العلماء والمفسرين.

لكن الكلام في ظهور الرواية في المعنى الثاني، أم أنها ظاهرة في الأحكام الإنشائية التي حجب اللّه علمها عن المكلفين، فلا تنهض دليلاً على ما نحن فيه، لا أقل من تطرق الاحتمال، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

وقد يرد إشكال في المقام، وهو عدم صحة إسناد بعض الأفعال إلى اللّه تعالى، كالأكل والشرب والقعود والصلاة والحج وما أشبه، فلو وقع فعل

ص: 42


1- آل عمران: 69.
2- إبراهيم: 36.
3- فصلت: 29.
4- النساء: 88.
5- الروم: 29.
6- الأعراف: 155.
7- البقرة: 7.

منها في دائرة الإمكان فلا يمكن نسبتها إلى اللّه تعالى عن ذلك، فلا يصح القول: إنَّ كل شيء يقع في الكون يمكن إسناده إلى اللّه.

وأجاب عنه بعض العلماء وبيّن ضابطة لما يصح إسناده وما لا يصح إسناده إلى اللّه تعالى.

قال - في غير هذا المقام - الأفعال على نوعين:

النوع الأول: أفعال يعتبر فيها خصوصية المباشرة، وهي لا تنسب لكل ما له مدخلية في صدور الفعل، كالأكل والقعود، كقول المولى لعبده: (كل) فمع أن للمولى مدخلية في وقوع الفعل في الخارج، لكن لا يصح نسبتها إليه؛ لأخذ خصوصية المباشرة فيها، فلا تنسب إلا إلى فاعلها القريب المباشر.

النوع الثاني: أفعال لم يؤخذ فيها خصوصية المباشرة بما لها من المفهوم، كالإعطاء والمنع والأسر والإحسان، ولذلك يمكن نسبتها إلى الفاعل القريب والبعيد، فيقال: (أعطى العبد) وينسب العطاء إلى المولى أيضاً، فيقال: (أعطى المولى)، وهكذا (باع الوكيل) و (باع الموكل) فإن بيع الوكيل بيع للموكل.

وفي الآية: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ}(1) فنسب التعذيب إلى الفاعل غير المباشر.

فصحة النسبة وعدم صحة النسبة تَرتبط بالخصوصية التي أخذت في معنى اللفظ، وهذا الاختلاف لا ينافي انتهاء جميع الأمور إلى اللّه تعالى.

ص: 43


1- التوبة: 14.

وهذا مما يرتبط بمباحث التوحيد في الخالقية، ومحل الكلام والنقض والإبرام وبيان الصحة والسقم فيها منوط بعلم الكلام.

الإشكال الثاني على الجواب الأوّل أنه: سلمنا أنّ الحجب لا ينسب إلى اللّه تعالى فيما لو كان معلولاً لإخفاء الظالمين أو العوارض الخارجية، لكن البحث في البراءة الشرعية أعم من هذا المعنى؛ لأنَّ البحث فيها عام لفقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين، بل يمكن أن تكون الحادثة المشكوك حكمها لم تكن محل الابتلاء في زمان حضور المعصوم×، وإنما تجدد حكمه كشرب التتن وعقد التأمين(1) وسائر المسائل المتجددة، كحكم صلاة من يركب طائرة تتحرك مع حركة الشمس، فليس ذلك معلولاً لإخفاء الظالمين، فيصح إسناده إلى اللّه تعالى، فيكون مصداقاً ل(ما حجب اللّه علمه عن العباد).

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد من إخفاء الظالمين سد باب الولاية والإمامة، وإلا لوصلت إلينا جميع الأحكام فتعارض النصين - مثلاً- إنما حصل للتقية، فيعود إلى عمل الظالمين، ولو لم يكن تعارض النصين وإجماله معلولاً لعمل الظالمين، إلاّ أنّ غيبة الحجة (صلوات اللّه عليه) معلول لأعمال الظالمين، وإلا كنا في عصر الظهور وأمكن حل جميع المبهمات.

فتحصل من ذلك عدم تمامية الإشكالين على الجواب الأول، فلا يصح نسبة الحجب إليه تعالى.

ص: 44


1- إن قلنا: إنه عقد جديد (منه (رحمه اللّه) ).

نعم، يبقى إشكال الظهور، وإنّ البحث في مقام الإثبات لا مقام الثبوت.

الإشكال الثاني على حديث الحجب: ظهور كملة (العباد) في العموم المجموعي، فالمراد بالحديث: (ما حجب اللّه علمه عن مجموع العباد - لا عن بعض دون بعض - فهو موضوع عنهم) وهو أجنبي عن محل الكلام؛ لأنَّ حكم التتن لم يحجبه اللّه عن مجموع العباد، لا أقل من معرفة الحجة (صلوات اللّه عليه) بالحكم، ولو شك أنه حجب عن الكل أو البعض فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية غير جائز.

ولكنه محل تأمل: أولاً: حيث لا يمكن التزام مثل ذلك في حديث الرفع، فلو كان جميع الأمة مكرهة يرفع عنهم الحكم؟

وثانياً: مقتضى مناسبة الحكم والموضوع كون المراد العموم الانحلالي، أي: ما حجب اللّه علمه عن كل فرد فرد، فالعرف يرى أنّ ملاك الوضع الحجب، فلأنه حجب عنه وضع عنه، فلا يرتبط بالحجب عن المكلف الآخر وعدمه.

الإشكال الثالث: ما ذكره بعض المتأخرين(1) من أنّ إرادة الحجب بالمعنى الأول بعيد في نفسه، فلا مجال لتوهم المؤاخذة والإدانة والمسؤولية في الحكم الذي كان المولى بصدد إخفائه حتى يقال: إنَّه موضوع عنهم، فلا بد أن يكون المراد المعنى الثاني، حيث إنَّ ما بينه اللّه واختفى إثر العوارض الخارجية محل توهم المؤاخذة والمسؤولية.

ولكنه محل تأمل من جهتين:

ص: 45


1- بحوث في علم الأصول 5: 64.

الأولى: توهم المسؤولية قائم والاحتياط ممكن، فقد ذهب جمع(1) من المتأخرين والمتقدمين إلى أنّ الأصل في الأشياء الحظر، إلاّ أن يأذن اللّه، وذلك كالعبد لابد له أن يستأذن المولى إذا أراد التصرف في ممتلكاته، كدخول غرفته أو مطالعة مخطوطاته، فتأتي هذه الرواية وأمثالها لقلب الأصل الأولي العقلي - على المبنى أو على احتمال توهمه - إلى أصالة الإباحة والبراءة.

فما ذكر أنه ليس المقام معرضا لتوهم المؤاخذة غير تام.

الثانية: لعل الحديث لردع التكلف لا لدفع توهم المسؤولية، فالمراد النهي عن التكلف فيما أخفاه اللّه، وقد ورد في بعض الروايات: «اسكتوا عما سكت اللّه عنه»(2)، و«إن اللّه تبارك وتعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها... وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلفوها»(3).

كما في قضية بقرة بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ

ص: 46


1- فوائد الأصول 3: 328؛ نهاية الأفكار 3: 199؛ بحوث في علم الأصول 5: 79؛ المحكم في أصول الفقه 4: 12.
2- عوالي اللئالي 3: 166.
3- من لايحضره الفقيه 4: 75؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 330.

لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}(1).

فقولهم: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بالحق الواضح، وهو من باب حذف النعت، يقول ابن مالك:

وما من المنعوت والنعت عقل***يجوز حذفه، وفي النعت يقل(2)

وكأن الحق كان مجهولاً قبل ذلك مع أنه كان واضحاً في قوله: {يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} أي اذبحوا أية بقرة، فالبقرة تمام الموضوع، وكان بإمكانهم تطبيق الطبيعي على كل بقرة ولكنهم تكلفوا وسألوا عنها.

وفي آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(3).

وعن أمير المؤمنين×: «إن النبي خطب فقال: إنّ اللّه كتب عليكم الحج(4) فقام سراقة بن مالك فقال: في كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم، ولو قلت: نعم لوجب(5) ولو وجب ما استطعتم(6) ولو تركتم لكفرتم،

ص: 47


1- البقرة: 67-71.
2- شرح ابن عقيل 2: 205.
3- المائدة: 101.
4- ويكفي الامتثال مرة في الأمر بالطبيعة؛ لأنّ انطباق الطبيعة على الفرد قهري، والإجزاء عقلي (منه (رحمه اللّه) ).
5- ربما يكون إشارة إلى الولاية التشريعية (منه (رحمه اللّه) ).
6- ربما المراد الاستطاعة العرفية لا الدقية العقلية (منه (رحمه اللّه) ).

فاتركوني ما تركتكم(1)، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فنزلت الآية الكريمة: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(2)»(3).

وقد طلب بنو إسرائيل من اللّه الحرب، فلما كتب عليهم تولوا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(4).

فيكون (ما حجب اللّه) لردع التكلف لا لدفع توهم المسؤولية.

تقرير لدلالة حديث الحجب على البراءة

هذا وقد قرر البعض(5) وجه دلالة حديث الحجب على البراءة الشرعية، بأنّ (الوضع) يتعدى أحياناً بحرف الاستعلاء، فيكون ظاهراً في إثبات شيء لشيء، وأما لو تعدى بحرف المجاوزة فيكون ظاهراً في الإسقاط بعد الثبوت، كقوله تعالى: {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}(6).

فالإصر الثابت والثقل الموضوع عليهم قد رفع عنهم، فلا بد أنّ يكون

ص: 48


1- أي لا تتكلفوا (منه (رحمه اللّه) ).
2- المائدة: 101.
3- بحار الأنوار 22: 31.
4- البقرة: 246.
5- نهاية الدراية 2: 447.
6- الأعراف: 157.

الشيء ثابتاً حتى يصح استخدام كلمة الوضع في مورد رفعه بعد الثبوت.

وبعبارة مختصرة: الوضع عن المكلف متفرع على الوضع على المكلف، فلا بد أن يوضع شيء على المكلف حتى يصح استخدام كلمة (الوضع عنه)، فيكون ظاهراً فيما نحن فيه، أما ما سكت اللّه عنه فلم يكن ثابتاً على عاتق المكلف حتى يوضع عنه.

لكنه محل تأمل لصدق (الوضع عنه) فيما لو كان الحكم صادراً، وتحقق المقتضي لإيصال الحكم إلى المكلفين، لكن الشارع صرف التكليف عنهم، ولا يلزم في تحقق مفهوم كلمة (الوضع) حصول البيان والإعلام.

كما لو أصدر مجلس شورى دولة قانوناً للضرائب، وقبل الإعلام ألغاه الحاكم الأعلى، فيصح أن يقول: إنني وضعت التكليف عن الأمة، وعليه يصدق (الوضع عن المكلف) بمجرد صرف التكليف وإن لم يصل إليه.

تذنيب

فصّل الحر العاملي في المقام بين الشبهة الوجوبية والتحريمية، فخص انطباق حديث الحجب بالأولى دون الثانية، قال: «هذا مخصوص بالوجوب، وإنه لا يجب الاحتياط بمجرد احتمال الوجوب(1)، بخلاف الشك في التحريم(2) فإنه يجب الاحتياط... وقوله: موضوع، قرينة ظاهرة على إرادة الشك في وجوب فعل وجودي لا في تحريمه»(3).

ص: 49


1- كالشك في وجوب القنوت.
2- كالشك في تحريم شرب التتن.
3- وسائل الشيعة 27: 163.

وقد وجه هذا التفصيل بأنه ربما نظر إلى أنّ الواجب فعل ثابت في ذمة المكلف، فبلحاظ ثبوت الفعل يصح إطلاق الوضع عن عهدة المكلف، أما الحرام - كشرب الخمر - فلا معنى للقول بثبوته، بل هو مردوع ومزجور عنه، فليس فيه نحو من أنحاء الثبوت في ذمة المكلف حتى يصدق عليه أنه (موضوع عنهم).

لكن التفصيل مع ما ذكر من التوجيه غير واضح؛ فليس الكلام في الفعل حتى يقال: إنه ثابت أو غير ثابت في ذمته، بل الكلام في الحكم، فالوجوب والتحريم وضعا على عهدة المكلف، وبهذا اللحاظ يكونان قابلين للوضع عنه، وقد قلنا إن الوضع عنه فرع الوضع عليه، و (الوضع عليه) صادق في الوجوب والتحريم، فيكون (الوضع عنه) صادقاً فيهما.

فقد تعدى التحريم إلى المكلف بحرف الاستعلاء، كما في الآية الكريمة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}(1)، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}(2)، وفي آية أخرى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}(3).

وقال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(4).

ص: 50


1- النحل: 115.
2- الأنعام: 119.
3- الأنعام: 151.
4- النساء: 160.

وكما أن الوجوب ثقل على عاتق المكلف فيوضع عنه كذلك التحريم، فحديث الحجب شامل للشبهات الوجوبية والتحريمية.

هذا تمام الكلام في حديث الحجب.

الحديث الثالث: حديث السعة

اشارة

فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1).

وفيه مباحث:

المبحث الأول: البحث السندي

المبحث الأول: في سنده: قال في المصباح: «لم يوجد في كتب الأخبار أصلاً»(2)،

وإنما وجد في كتب الأصوليين بلا مدرك، وتبعه بعض تلاميذه(3).

لكن يرد عليه أنه مذكور في العوالي الجزء 1 الصفحة 20 و 424، ونقله عنه في المستدرك الجزء 18 الصفحة 20، فالحديث موجود في كتب الأخبار لكنه مرسل.

المبحث الثاني: في متن حديث السعة

المبحث الثاني: في متنه: ورد في كتب الأصوليين - عادة - بهذا اللفظ: «الناس

في سعة ما لا يعلمون»(4)، وفرعوا عليه مباحث عديدة كدخول (ما) على الفعل المضارع، وقد أشار إلى آثارها المحقق النائيني(5) وذكر

ص: 51


1- مستدرك الوسائل 18: 20.
2- مصباح الأصول 2: 278.
3- زبدة الأصول 3: 411.
4- أوثق الوسائل: 274؛ كفاية الأصول: 342؛ فوائد الأصول 3: 364.
5- أجود التقريرات 2: 182؛ فوائد الأصول 3: 364.

بعضها في المصباح(1)، لكن لم نجد ذلك في كتب الأخبار، بل الموجود فيها «الناس في سعة ما لم يعلموا»، فجميع المباحث التي فرعت على (ما لا يعملون) محل تأمل.

المبحث الثالث: في مفاد كلمة (ما لم يعلموا)

وفيه احتمالان: الأول: أن تكون موصولة، الثاني: أن تكون ظرفية.

فلو كانت موصولة بمعنى (الذي) فلا بد من قراءة كلمة (سعة) على نحو الإضافة لا غير(2)، أي الناس في سعةِ الحكم الذي لا يعلمونه، فلا ضيق عليهم من قبل الحكم المجهول.

ولو كانت مصدرية ظرفية زمانية(3) فلا بد من قراءة (سعة) بالتنوين، أي أنهم في سعةٍ مدة عدم علمهم بالواقع.

المبحث الرابع: في النسبة بين حديث السعة وأدلة وجوب الاحتياط

وفي النسبة بين حديث السعة وأدلة الاحتياط - بناء على تمامية دلالتها على وجوبه - احتمالان:

تعارض حديث السعة مع دليل الاحتياط

الاحتمال الأول: أن يكون الدليلان متعارضين، فحديث السعة يثبت السعة ويرخص، ودليل الاحتياط يأمر بالاحتياط ويضيق، فلو كان هنالك جمعٌ دلاليٌ فهو المرجع، كأن يحمل في المقام أوامر الاحتياط على

ص: 52


1- مصباح الأصول 2: 278.
2- فلا معنى لقراءته مع التنوين: الناس في سعةٍ الذي لا يعلمون.
3- كقوله تعالى: {وَ أَوْصاني بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا}يعني مدة حياتي.

الاستحباب، كما ذكره السيد الوالد في الأصول(1)، وإلاّ فلا بد من مراجعة مرجحات باب تعارض الأدلة.

ورود دليل الاحتياط على حديث السعة

الاحتمال الثاني: أن يكون دليل الاحتياط وارداً أو حاكماً على حديث السعة؛ لأنَّ الثاني مقيد بعدم العلم والأول علم، ولا فرق في العلم بين العلم بالحكم الواقعي أو الظاهري، فلا إشكال في الحكم بطهارة المشكوك للعلم بالحكم الظاهري اعتمادا على (كل شيء لك طاهر) مع وجود قوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(2) فإنّ موضوعه مرتفع مع العلم بالحكم الواقعي أو الظاهري.

وفي المقام، لو حصل العلم بالحكم الظاهري - وهو وجوب الاحتياط - ارتفع موضوع حديث السعة، فتكون أدلة الاحتياط واردة، وإن قلنا: إنّ التوسعة والتضييق تعبديان لا وجدانيان كانت أدلة الاحتياط حاكمة.

التفصيل بين طريقية أدلة الاحتياط وموضوعيتها

وفصل صاحب الكفاية في المقام وبنى تفصيله على كون المبنى في أدلة الاحتياط طريقياً أو نفسياً، فإن كان المبنى - كما هو المشهور والمنصور- أن تشريع (احتط) أنما هو لحفظ التكاليف والملاكات الواقعية، وأنه واجب طريقي ولا ملاك مستقل له في حد ذاته، ولا ثواب ولا عقاب مستقل فيه، فهو يعارض حديث السعة.

ص: 53


1- الأصول: 717.
2- الأعراف: 28.

وإن كان المبنى أنه واجب نفسي مستقل، وله ملاك(1) وثواب وعقاب مستقل، فهو وارد على حديث السعة و رافع لموضوعه.

والحاصل أنّ النسبة على الطريقية التعارض، وعلى الموضوعية الورود أو الحكومة.

قال: «لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلاً، فيعارض ما دل على وجوبه(2)... لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط(3)، فإنه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله»(4).

فالحكم الواقعي للتتن مجهول، ولا يكون دليل (احتط) سبباً للعلم بالحكم الواقعي، بل هو متمحض في الطريقية، فلا يكون هنالك إلا وجوب وحرمة واحدة هي الواقعية، وحيث لم ينقلب الجهل إلى العلم بالأمر بالاحتياط كان المكلف في ضيق، وأما حديث السعة فيوسع عليه لجهله بالحكم، فيتعارض الدليلان، وهذا على مبنى الطريقية.

لكن إطلاق كلام الكفاية محل تأمل؛ لأنَّ (ما) في حديث السعة إما موصولة أو ظرفية، فلو كانت موصولة كان الكلام تاماً، حيث إنَّ مفاد حديث السعة أنَّ الناس في سعة من جهة الحكم المجهول، ومفاد أوامر

ص: 54


1- وملاكه فرضاً إيجاد وإنماء ملكة التقوى في المؤمن.
2- لأنَّ المكلف من جهة وجوب الاحتياط في ضيق، ومن جهة حديث السعة في سعة، فيقع التعارض بين الدليلين، فلا بد من الجمع الدلالي أو إعمال التراجيح، هذا على مبنى الكفاية، وهو الطريقية، ولعله مبنى المشهور (منه (رحمه اللّه) ).
3- فيرتفع موضوع (الناس في سعة).
4- كفاية الأصول: 342.

الاحتياط لزوم الاحتياط من جهة الحكم المجهول فيتعارضان.

وأما لو كانت بمعنى الظرفية، فمفاد حديث السعة أنّ الناس في سعة في ظرف الجهل، لكن (احتط) علم بالحكم، غاية الأمر أنه علم بالحكم الظاهري، ولا فرق بين العلم بالحكم الظاهري والواقعي، فينتفي موضوع (الناس في سعة) فيكون دليل الاحتياط وارداً عليه.

عدم لغوية حديث السعة بناء على ورود أدلة الاحتياط

وقد يرد عليه: إنَّ لازمه لغوية حديث السعة؛ لعدم بقاء مورد له مع حكومة أوامر الاحتياط أو ورودها.

والجواب عنه: إنَّ حديث السعة عام يشمل الموارد التي لا وجوب للاحتياط فيها، كالشبهات الموضوعية مطلقاً أو في الجملة، فلو شك في طهارة شيء كان المحكم حديث السعة، ولا يشمله دليل الاحتياط، فليس حديث السعة لغواً.

ولكنه إنما يتم بناء على مبنى انقلاب النسبة(1)، وأما بناء على عدم انقلاب النسبة فاللغوية قائمة، والتعارض بين الدليلين حاصل، فلا يكون الجواب تاماً.

عدم اللغوية بناء على انقلاب النسبة

توضيحه: لو كان بين دليلين نسبة من النسب المنطقية الأربع، فورد دليل ثالث، فمع ضمه إلى أحد الدليلين الأولين يمكن انقلاب النسبة بينهما وإلا فلا، مثلاً: النسبة بين (أكرم النحاة) و (لا تكرم النحاة) التباين الكلي، فلو

ص: 55


1- وهو بحث موسع له صور متعددة محله باب التعادل والتراجيح.

ورد دليل ثالث وهو (لا تكرم فساق النحاة) ولم تنقلب النسبة يبقى التباين قائماً بين الدليلين الأولين، فيتعارضان ويجري عليهما أحكام التعارض، ويمكن تساقطهما، فلا يبقى إلا الدليل الثالث، ومع انقلاب النسبة يتم تخصيص (أكرم النحاة) ب- (لا تكرم فساق النحاة) فيكون مفادهما: (أكرم النحاة العدول = أكرم النحاة إلا فساقهم = أكرم النحاة غير الفساق)، وبعد التخصيص تنقلب النسبة مع (لا تكرم النحاة) من التباين الكلي إلى العموم المطلق، فإنَّ (أكرم النحاة العدول) أخص من (لا تكرم النحاة) فلا تعارض.

والحاصل، بعد تخصيص أحد العامين تنقلب نسبة العام إلى العام الآخر من التباين الكلي إلى العموم المطلق، فيخصص العام المخصَص العام الآخر، فلا تعارض بين الأدلة الثلاثة، وما نحن فيه كذلك، فهنالك عامان:

الأول: دليل (السعة) الشامل لجميع الشبهات الوجوبية والتحريمية، الحكمية والموضوعية.

الثاني: دليل (احتط) وهو عام أيضاً، والنسبة بينهما التباين الكلي.

لكن هنالك دليل ثالث في المقام، وهو: (عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية)(1).

فنسبة (الدليل الثالث) إلى (الدليل الثاني) نسبة العموم المطلق، حيث يلزم التوقف عند الشبهة ب(الدليل الثاني)، ويجوز الاقتحام في شبهة الطهارة والنجاسة والزوجية(2) ب- (الدليل الثالث) ولا تعارض بينهما، بل (الدليل

ص: 56


1- كرواية «ليس عليكم المسألة».
2- كما في الرواية «فوقع في قلبي إنها ذات بعل فقال له لم سألت». الكافي 5: 569.

الثالث) يخصص (الدليل الثاني) ويكون مفاده وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية، لا في الشبهات الموضوعية كُلاُّ أو بعضاً، فمع تخصيص (العام الثاني) ب- (الدليل الثالث) تنقلب نسبة العام الأول إلى الثاني من التباين الكلي إلى العموم المطلق.

والحاصل أنَّ مفاد العام الأول - الناس في سعة - شامل لجميع الشبهات، ومفاد العام الثاني - دليل الاحتياط بعد التخصيص - هو الوقوف في الشبهات الحكمية، فانقلبت النسبة بين العامين من التباين الكلي إلى العموم المطلق.

وبذلك يندفع إشكال اللغوية؛ لشمول (حديث السعة) للشبهات الموضوعية، و(دليل الاحتياط بعد التخصيص) للشبهات الحكمية.

تحقق اللغوية بناء على عدم انقلاب النسبة

أما مع عدم انقلاب النسبة، والقول بورود دليل الاحتياط على حديث السعة، بناء على احتمال الظرفية، فيكون حديث السعة لغواً، حيث إنّ حديث السعة شامل لجميع الشبهات، ودليل الاحتياط يلزم الاحتياط في كل ما لم يعلم، ومع ورده ينتفي موضوع حديث السعة، فلا يبقى له مورد، فيكون لغواً، فينتفي التفصيل بين كونه ظرفاً أو موصولاً، فيتعارض الدليلان.

فتحصل من جميع ذلك أنه بناء على مبنى عدم انقلاب النسبة كان كلام الكفاية تاماً، حيث التعارض قائم بين الدليلين، ولا فرق فيه بين كون (ما) موصولاً أو ظرفاً.

وأما على مبنى انقلاب النسبة فالتعارض قائم بناء على كونه موصولاً، وأما بناء على الظرفية فلا تعارض؛ لورود دليل الاحتياط على حديث السعة.

ص: 57

هذا تمام الكلام في الشق الأول من كلام صاحب الكفاية.

وأما الشق الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية بناء على الموضوعية ونفسية أوامر الاحتياط. قال: «نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسياً(1) كان(2) وقوعه في ضيقه بعد العلم بوجوبه».

وعليه، فلا تعارض بين الدليلين؛ لعدم ضيق على المكلف بالنسبة إلى الحكم الواقعي لحديث السعة، ودليل الاحتياط لا ينافي السعة؛ لأنَّ التضييق على المكلف ليس ناشئاً من الحرمة المجهولة، وإنّما من وجوب الاحتياط المعلوم، فيرتفع موضوع السعة للعلم بوجوب الاحتياط وجوباً نفسياً.

ويأتي هنا نفس ما ذكرناه في الشق الأول من انقلاب النسبة وعدمه.

الحديث الرابع: حديث الإطلاق

اشارة

رواه في الوسائل عن الإمام الصادق× أنه قال: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(3).

وفيه بحثان سندي و دلالي:

البحث الأول: في سند الحديث

أما البحث الأول: ففي سنده: فقد روي عنه× مرسلاً، ولكنه مرسل بخصوصيتين:

ص: 58


1- لا أنه لحفظ الملاكات والأوامر الواقعية، بل للأمر بالاحتياط ملاك وثواب وعقاب مستقل.
2- كان تامة، أي تحقق وقوع المكلف في ضيق الاحتياط.
3- وسائل الشيعة 6: 289.

الأولى: إنه مما أرسله الشيخ الصدوق في الفقيه.

الثانية: إنه أسنده إلى الإمام× على نحو البت والجزم.

فيحتمل أن يكون له نوع من أنواع الحجية، والبحث في حجية روايات الفقيه مهم جداً، فإنَّ ثلثه مراسيل(1).

توضيحه إجمالاً: هنالك ثلاثة مبان في مراسيل الصدوق في الفقيه:

المبنى الأول: الحجية مطلقاً، ذهب إليه جمع من العلماء منهم: التفريشي في شرحه على الفقيه، ومنهم: بحر العلوم حيث قال(2): إنّ مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية والاعتبار، وإنَّ هذه المزية من خواص هذا الكتاب لا توجد في غيره من كتب الأصحاب، ومنهم: الشيخ البهائي في شرحه على الفقيه(3) وذكر فيه أنَّ مبنى جمع أنَّ مراسيل الثقة أقوى في الاعتبار من مسانيده، ففي المراسيل ينسب الحديث إلى الإمام، وأما في المسانيد يروي عن الإمام×، فتكون المراسيل أقوى.

المبنى الثاني: التفصيل في الحجية بين ما أسنده على نحو البت والقطع فهو حجة، وبين ما لم يسنده كذلك، اختاره المحقق الداماد في الرواشح(4).

المبنى الثالث: عدم الحجية مطلقاً.

وللقول الأول دليلان:

الدليل الأول: ضمان الصدوق لحجية ما فيه لما ذكره في أول الفقيه

ص: 59


1- يحتوي الفقيه على ستة آلاف رواية تقريباً حوالي ألفين منها مراسيل.
2- خاتمة مستدرك الوسائل 4: 6.
3- الحاشية على كتاب من لا يحضره الفقيه: 35.
4- الرواشح السماوية: 254.

بقوله: «ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما روي، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته، وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره»(1).

لكنه محل تأمل؛ لأنَّ الصحة في اصطلاح المتقدمين غيرها عند المتأخرين، فعند المتأخرين عبارة عن الخبر الذي رواه عدل إمامي ضابط عن مثله في جميع الطبقات، أما عند المتقدمين فهو الخبر الذي اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه(2)، فيمكن أن تكون قرينة الصحة قرينة خارجية(3) لا داخلية(4)، فأوجبت الاطمئنان للشيخ فحسب، إلاّ أن يقال بحجية اجتهاد مجتهد لآخر.

الدليل الثاني: ما ذكره الصدوق في مقدمة الفقيه أيضاً: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع»(5).

لكنه قابل للتأمل أيضاً: حيث يمكن أن تكون شهرة الكتاب والاعتماد عليه في مقابل السلب الكلي، فمفاده الموجبة الجزئية في قبال السالبة الكلية، مثلاً: لا يعتمد الفقهاء على كتاب (الهفت الشريف) ولكنهم يعتمدون على (الكافي) فليس معناه الاعتماد على كل ما فيه، بل في مقابل

ص: 60


1- من لا يحضره الفقيه 1: 2.
2- الحدائق الناضرة 1: 14.
3- وذكروا القرائن الخارجية في كتب الرجال كما ذكرت في المعالم في موت ابن الملك.
4- وهي وثاقة المخبر.
5- من لا يحضره الفقيه 1: 3.

السلب المطلق للكتب غير المشهورة التي لا يعتمد عليها إطلاقاً.

وأما دليل القول الثاني، فقد قال المحقق الداماد في الرواشح(1): الحكم الجازم بالإسناد هادم لجلالته وعدالته، فلو لم يجزم الشيخ الصدوق بالخبر من الإمام× فكيف يسنده إليه وهو خلاف العدالة.

ويظهر الكلام فيه مما تقدم؛ لإمكان حصول الاطمئنان بصدوره عن الإمام× من القرائن الخارجية، فلا يكون هادماً للعدالة، مضافاً إلى ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في مفطرات الصوم(2) حينما يقول الخطيب: قال الإمام، يعني روي أنه قال الإمام وهكذا المؤلف، فلا ظهور في النسبة الجازمة وتفصيله في الفقه.

فلا يبقى إلا القول الثالث وهو عدم الحجية مطلقاً.

وعلى المبنيين الأولين يكون حديث الإطلاق معتبراً، وعلى كل حال، له نوع من أنواع الحجية أو القرب إلى الحجية.

البحث الثاني: في دلالة حديث الإطلاق

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «ودلالته على المطلب أوضح من الكل»(3).

وقد استدل الشيخ الصدوق في الفقيه على جواز الدعاء في القنوت باللغة الفارسية؛ لعدم ورود النهي فيه، فيحكم بجوازه بكل شيء مطلق.

قال: «ذكر شيخنا ابن الوليد عن سعد بن عبد اللّه أنه كان يقول: لا يجوز

ص: 61


1- الرواشح السماوية: 255.
2- الفقه 34: 184-200.
3- فرائد الأصول 2: 43.

الدعاء في القنوت بالفارسية، وكان الصفار يقول: إنه يجوز، والذي أقول: إنه يجوز لقول الباقر×: لا بأس أن يتكلم الرجل في صلاة الفريضة بكل شيء يناجي به ربه عز وجل، ولو لم يرد هذا الخبر لكنت أجيزه للخبر الذي روي عن الإمام الصادق×: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، والنهي عن الدعاء بالفارسية في الصلاة غير موجود»(1).

إشكالات على الاستدلال بحديث الإطلاق

الإشكال الأوّل: لقد نفی صاحب الكفاية دلالته على البراءة الشرعية(2) بأنّ للورود معنيين الأول: الورود في نفسه، وهو مساوق للصدور، والثاني: الورود على المكلف، وهو مساوق للوصول إليه.

وإنما تتم دلالة الحديث على البراءة لو لم تصدق كلمة الورود إلا في حالة الوصول إلى المكلف، فيكون دليلاً على ما نحن فيه، لكنه ممنوع؛ لأنَّ الورود يصدق على مجرد الصدور، ف- (حتى يرد فيه نهي) صادق فيما لو صدر من الشارع نهي.

وتتميماً لكلامه نقول: إنه لا يمكن التمسك بالعام في الشبهات المصداقية فيما لو شك في صدور النهي؛ لاحتمال صدوره وعدم وصوله إلى المكلف. نعم، لو تيقن عدم الصدور لكان مطلقاً، لكنه لا يرتبط بالمقام؛ لأنَّ البحث في مشكوك الحكم.

والحاصل: يكون مفاد الحديث على مبنى الشيخ هكذا: (شيء) يعني

ص: 62


1- من لا يحضره الفقيه 1: 316-317.
2- كفاية الأصول: 342.

الشيء المشكوك، و(مطلق) يعني الإباحة الظاهرية، و(حتى يرد) يعني يصل إلى المكلف.

وعلى مبنى صاحب الكفاية: (الشيء) يعني الشيء بما هو هو وبما له من العنوان الأولي، و(المطلق) يعني الإباحة الواقعية، و(يرد) يعني يصدر، ولا يجدي العلم بعدم صدور النهي في المقام؛ لأنَّ البحث في البراءة احتمال صدور النهي لكنه لم يصل. فلو تردد (حتى يرد) بين المعنيين فلا ينفع في المقام، حيث إنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

وأشكل عليه في النهاية بما حاصله: إنَّ الظهور والتتبع لموارد الاستعمالات يدل على أنَّ الورود بمعنى الوصول إلى المكلف.

قال: «الظاهر(1) كما يساعده تتبع موارد الاستعمالات»(2).

ولم يشر إلى تلك الموارد. نعم، ذكر أمثلة، ويمكن أن نجد في القرآن الكريم موارد تشهد لمدعاه، كقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}(3)، فالوارد هو النبي موسى× والمورود الماء، وفي آية أخرى: {لو كان هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}(4)، فالوارد الأصنام والمورود جهنم، وفي آية ثالثة: {وإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}(5).

ص: 63


1- ولو وصلت النوبة إلى الاستظهار انقطع الكلام (منه (رحمه اللّه) ).
2- نهاية الدراية 2: 456.
3- القصص: 23.
4- الأنبياء: 99.
5- مريم: 71.

فتتبع موارد الاستعمالات يدل على أنَّ لكلمة (الورود) وارد ومورود.

ثم أشار إلى نكتة وهي أنه يمكن أن يكون للوارد موضوع(1)، كما لو قلنا: (ورد في شرب الخمر نهي)، فموضوع الوارد هو (شرب الخمر) لأنّ طبيعة الحكم تعلقي ويحتاج إلى متعلق أو موضوع أو محل، لكن هنالك فرق بين موضوع الوارد ومضايفه، فالوارد (النهي) وموضوعه (شرب الخمر) وموروده وهو المضايف للوارد (المكلف).

ثم قال: «وبالجملة نفس معنى الورود متعد بنفسه إلى المورود(2)، ولمكان التضايف(3) لا يعقل الوارد إلا بلحاظ المورد، وليس المورود هنا إلاّ المكلف دون محل الوارد... فتحقق أنَّ الورود ليس بمعنى الصدور وما يساوقه مفهوماً حتى لا يحتاج في ذاته إلى مكلف يتعلق به، بل بمعنى يساوق الوصول إليه لتضايف الوارد والمورد»(4).

وقد يرد عليه أنه دوري؛ لأنَّ التضايف مبني على كون الورود بمعنى الوصول، والمفروض أن إثباته موقوف على التضايف وهو دور، أما لو كان معناه الصدور فليس الصدور من المعاني التضايفية.

ولكنه قابل للدفع؛ لعدم بناء الاستدلال على التضايف، ولو كان كذلك

ص: 64


1- نهاية الدراية 2: 456.
2- لو كان بمعنى الصدور لكن لازماً، كصدر الأمر، أما الورود فهو متعدي (منه (رحمه اللّه) ).
3- فإن بين الوارد والمورد التضايف، والمتضايفان متكافئان تحققاً وتعقلاً، كما ثبت في محله (منه (رحمه اللّه) ).
4- نهاية الدراية 2: 457.

لكان الإشكال تاماً، لكن الدقة في عباراته تبين أنّ جوهر الاستدلال الظهور وتتبع موارد الاستعمالات، والتضايف متفرع على هذا الظهور.

وبتتبعنا الناقص في القرآن وبعض الكتب اللغوية(1) لم نجد أنّ الورود في اللغة العربية بمعنى الصدور، بل بمعنى الوصول والبلوغ.

وعليه، ما ذكر في الكفاية غير تام.

وأشكل في المنتقى على النهاية بعد تسليم كون الورود متعدياً، وإنّ كل وارد يحتاج إلى مورود وإنَّ المورود هو المكلف، إلا أنه لا ملازمة بين ثبوت هذا المعنى وعلم المكلف بما ورد عليه، حيث يصح أن نقول: وردني ضيف ولم أعلم به إلا بعد خروجه.

قال(2): لم يتضح عندنا اشتراط العلم في معنى الورود.

ولو تم فلا يصح الاستدلال بحديث الإطلاق على البراءة؛ لاحتمال ورود النهي وعدم وصوله إلى المكلف، ولا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ترجيح معنى الوصول على الصدور من كلمة (الورود)

ورجح في النهاية(3)

معنى الوصول على الصدور لكون الإطلاق بمعنى الإباحة، والإباحة على ثلاثة أنواع:

الأول: الإباحة الشرعية الواقعية، الثاني: الإباحة الشرعية الظاهرية، الثالث:

ص: 65


1- كلسان العرب (منه (رحمه اللّه) ).
2- منتقى الأصول 4: 432.
3- نهاية الدراية 2: 453.

الإباحة الثابتة للأشياء قبل الشرع، ويعبر عنه بالإباحة المالكية.

وتقييد النوعين الأولين بالصدور ممتنع، وتقييد الثالث بالصدور بعيد، فيتعين أن يكون المراد هو الوصول إلى المكلف.

ففي المقام دعاوى ثلاث:

الأولى: أن يكون المراد من كملة (المطلق) الإباحة الشرعية الواقعية، فغاية الإباحة الشرعية الواقعية صدور النهي، أي (كل شيء مباح شرعاً واقعاً حتى يصدر فيه نهي)، لكن هذا المعنى ممتنع؛ لأنه يوجب الخلف.

بيان ذلك: الإباحة الشرعية الواقعية عبارة عن الإباحة الثابتة لذات الموضوع، وهي ناشئة من لا اقتضائية الموضوع، وهو ناشئ من خلوه من المصالح والمفاسد الواقعية، ولذلك يحكم المولى بالإباحة الواقعية، فورود النهي في مثل هذا الموضوع محال.

ووجه الاستحالة ما ذكره بقوله: «أما الإباحة الواقعية فالمفروض أنها ناشئة عن لا اقتضائية الموضوع، فلا يعقل ورود حرمة في موضوعها؛ للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع المفروض أنه لا اقتضاء»(1)

حيث لا يعقل أن يرد نهي في الموضوع اللا اقتضائي، فإنَّ لازمه تبديل اللااقتضاء إلى الاقتضاء، وهذا خلاف الفرض.

ثم قال: «لا يقال: لا اقتضائيته من حيث ذاته لا تنافي عروض عنوان عليه يقتضي الحرمة - فيرد فيه نهي(2) - لأنا نقول: نعم، إلا أن الذي يرد فيه نهي

ص: 66


1- نهاية الدراية 2: 454.
2- فمن الممكن أن يكون شرب الماء لا اقتضائياً في حد ذاته، لكن يطرأ عليه عنوان يقتضي تحريمه فيرد فيه نهي.

ذلك العنوان الذي له اقتضاء الحرمة، لا أنَّ النهي يرد في مورد الإباحة(1)»(2).

وظاهر الخبر ورود النهي في مورد الإباحة، بأنَّ المولى يقول: الماء حلال واقعاً حتى يرد فيه نهي، ومع عروض العنوان الطارئ فواقع النهي متعلق بالعنوان لا بشرب الماء.

وبناء عليه، يستحيل صدور النهي في مورد الإباحة الشرعية الواقعية، فالاحتمال الأول منفي.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان فرض كون موضوع الإباحة الواقعية اقتضائية، لكن يحكم الشارع بالإباحة الواقعية؛ لوجود مانع يمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه، وبعد ارتفاع المانع يصدر فيه النهي.

مثلاً: لو كان الحصر حقيقياً في الآية الكريمة {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}(3) فمع أن الجري له اقتضاء الحرمة لكن لوجود مانع(4) من ورود النهي فيه يحكم الشارع بإباحته، وبعد ارتفاع المانع يرد فيه النهي، وليس ذلك ممتنعاً، ولا يستلزم الخلف وانقلاب اللا اقتضاء

ص: 67


1- فالذي يرد فيه النهي هو العنوان الطارئ على الموضوع اللا اقتضائي، فلو انطبق عنوان الغصب على شرب الماء فليس الشرب منهياً عنه، بل العنوان المنطبق عليه منهي عنه، فإن النهي وارد على عنوان الغصب، والذي يقتضي الحرمة بنفسه.
2- نهاية الدراية 2: 454.
3- الأنعام: 145.
4- كعدم تحمل الناس للأحكام، كما هو الحال في شرب الخمر، مع أنه ورد فيها: «ما بعث اللّه نبياً إلاّ بتحريم الخمر» لكن لم يصدر الحكم بالحرمة حتى هاجر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة. الكافي 1: 148.

إلى الاقتضاء.

الدعوى الثانية: أن يكون المراد من الإطلاق الإباحة الشرعية الظاهرية، وهي الإباحة الثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية، الناشئة عما يقتضي التسهيل على المكلف بجعله مرخصاً فيه، فملاك التسهيل يقتضي تشريع الإباحة الظاهرية بأن يقول المولى: (العظم حلال ظاهراً حتى يصدر فيه نهي).

وهذا أيضاً ممتنع أو غير صحيح، وذلك لما ذكره بقوله: «إنَّ الإباحة حيث إنها مغياة بصدور النهي واقعاً، أو محددة بعدم صدوره واقعاً، والغاية أو القيد مشكوك الحصول»(1).

والمستنتج من عبارته لغوية التشريع؛ لعدم الأثر فيه، حيث لا نعلم صدور النهي، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وهو قابل للتأمل من وجهين:

أولاً: لإمكان تحقق العلم الوجداني بعدم صدور النهي، حيث نقطع بذلك في التتن؛ لعدم كونه محلاً للابتلاء في أول الشرع(2)، وكما لو كنا في عهد الشارع فلو صدر تحريمه لبان، فلا يكون التشريع لغواً.

ثانياً: ما أشار إليه في النهاية(3) بإمكان حصول العلم التعبدي بعدم الصدور، فحينما نزل جبرائيل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ب- (اقرأ) لم يصدر تحريم

ص: 68


1- نهاية الدراية 2: 454.
2- واحتمال صدور النهي عنه بقوله: «إن جاء شيء يقال له التتن فهو حرام» كأنياب أغوال.
3- نهاية الدراية 2: 455.

التتن، ويضم إليه أصالة عدم صدور الحكم.

الدعوى الثالثة: أن يكون المراد من كملة (المطلق) الإباحة الثابتة للأشياء قبل الشرع، وتقييده بالصدور بعيد، قال: «فلا مناص من حمل الإباحة على إباحة الأشياء قبل الشرع بمعنى اللا حرج العقلي، فإنها محدودة ومغياة بعدم صدور الحرمة الشرعية، فيكون الخبر دليلاً على هذه الإباحة... إلا أنّ حمل الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيد غير مناسب للإمام× المعد لتبليغ الأحكام»(1).

وظاهره: إنَّ هذا المعنى بيان لأمر بديهي يحكم به عقل كل عاقل، وذلك لا يناسب مقام الإمام× الذي أعد لبيان الأحكام.

وقد يقال بتمامية ما ذكره فيما لو كان اللاحرج العقلي والإباحة الثابتة للأشياء مع قطع النظر عن الشرع من الأمور الواضحة، كاجتماع النقيضين، فيبعد أن يقول المولى: (اجتماع النقيضين محال) لكن مسألة اللاحرجية العقلية من الأمور الغامضة، ومحل الكلام والنقض والإبرام بين الأعلام مع قطع النظر عن الشريعة. فهل العقل يحكم باللاحرجية أو بالحظر؟

فكل ما هو في عالم الإمكان ملك لله سبحانه، فالذي يدخن مثلاً أنما يتصرف في مملوك اللّه تعالى بدون إذنه، فهل العقل يحكم بعدم الحرج عليه أو يحكم بوجوب التوقف، بل إنه يتصرف في الأعضاء والجوارح والقوى الباطنية مع أنَّ جميعها مملوكة لله تبارك وتعالى، فهل هذا التصرف جائز في نظر العقل؟ إنه محل إشكال.

ص: 69


1- نهاية الدراية 2: 456.

وللمثال: لو أدخل المولى عبده في داره، فهل يحكم عقله بجواز اقتحام الغرفة المغلقة أو يحكم بالحظر والتوقف؟

ولذلك ذهب جمع من الأعلام حتى بعض المحققين(1) من المتأخرين إلى أصالة الحظر عقلاً، وأصالة البراءة الشرعية قلبت القاعدة الأولية العقلية إلى قاعدة ثانوية شرعية، وإلا فالاحتياط حكم أولي يحكم به العقل.

وذهب جمع إلى التوقف في المسألة(2)،

كما ذهب جمع إلى أصالة الإباحة.

فما ذكره في النهاية من أنه «يحكم بها عقل كل عاقل»(3) محل تأمل.

نعم يمكن أن يقال: إنَّ هذا المفاد خلاف ظاهر الحديث، فظاهره إنشاء الإباحة الشرعية لا أنه تأكيد لحكم العقل هذا.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على الاستدلال بحديث الإطلاق.

الإشكال الثاني: ما ذكره الحر العاملي، قال: «هذا يحتمل وجوهاً: أحدها: الحمل على التقية، فإنّ العامة يقولون بحجية الأصل، فيضعف عن مقاومة ما سبق»(4).

والظاهر أنَّ مراده أنَّ حديث الإطلاق موافق للعامة(5)، وما سبق من

ص: 70


1- فرائد الأصول 4: 156.
2- بحوث في علم الأصول 5: 79.
3- نهاية الدراية 2: 456.
4- وسائل الشيعة 27: 174.
5- لأنهم يقولون بالبراءة في الشبهات التحريمية (منه (رحمه اللّه) ).

الأحاديث(1) مخالف للعامة، وأحد مرجحات باب التعارض مخالفة العامة، فتترجح عليه.

لكن أشكل عليه بعض المعاصرين(2) بأن الترجيح بموافقة الكتاب مقدم رتبة على الترجيح بمخالفة العامة، والكتاب موافق لحديث الإطلاق، فيرجح حديث الإطلاق الموافق للعامة على (احتط) المخالف للعامة.

وقد يرد عليه: أولا: إنَّ أحاديث الاحتياط موافقة للكتاب أيضاً؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(3)، فهو أحد أدلة الأخباريين لوجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية، وقوله تعالى: {ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(4).

ثانياً: المبنى محل تأمل، فهل الترجيح مع موافقة الكتاب أو مخالفة العامة؟

وقد ذهب صاحب الكفاية(5) إلى عدم وجود الترتيب بين المرجحات، بل كلها في عرض الآخر، فلا وجه لتقديم هذا على ذاك.

وقال المحقق النائيني(6): مرجح الصدور يقدم على مرجح جهة الصدور والمضمون، ومرجح جهة الصدور يقدم على مرجح المضمون.

ص: 71


1- الظاهر أن المراد أحاديث الاحتياط والتوقف عند الشبهة (منه (رحمه اللّه) ).
2- بحوث في علم الأصول 5: 104.
3- البقرة: 195.
4- الإسراء: 36.
5- كفاية الأصول: 454-455.
6- فوائد الأصول 4: 780-781.

فإنَّ مخالفة العامة مرجح جهة الصدور، وموافقة الكتاب مرجح المضمون، فيقدم الأول على الثاني، فيتم كلام الحر العاملي.

ونظيره مع بعض الفوارق ما ذكره الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية(1) من تقديم الترجيح بجهة الصدور.

وتنقيح الكلام في ذلك يوكل إلى مباحث التعادل والتراجيح.

فالأولى أن يجاب عن إشكال صاحب الوسائل بعدم تمامية ما دل على وجوب الاحتياط، فيبقى حديث الإطلاق بلا معارض، وسيأتي تفصيل الكلام في استعراض أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط.

الإشكال الثالث: إنَّ حديث الإطلاق خاص بالشبهات التحريمية ولا يشمل الشبهات الوجوبية، حيث لا معنى للقول ب- (حتى يرد) فيها.

وأجاب عنه السيد الوالد في الأصول(2) بما يلي:

أولاّ: وحدة الملاك بين ورود النهي وورود الأمر.

ثانياً: إنَّ ترك الواجب منهي، فلو كان القنوت - مثلا- واجباً لكان تركه منهياً عنه، فالقنوت مطلق حتى يرد في تركه نهي ولم يرد.

ثالثاً: بعدم خلاف الأخباري فيها إلاّ البعض، فإنَّ عمدة الخلاف بين الأصوليين والأخباريين الشبهات التحريمة، وأما الشبهات الوجوبية فقد أطبق الجميع على جريان البراءة فيها إلا المحدث الإسترابادي(3)، حيث

ص: 72


1- الفوائد الحائرية: 220.
2- الأصول: 717.
3- الفوائد المدنية والشواهد المكية: 569.

ذهب إلى وجوب الاحتياط حتى في الشبهات الوجوبية.

فحديث الإطلاق يتكفل البراءة في الشبهات التحريمية.

دلالة الحديث على البراءة حتى بناء على كون معنى الورود (الصدور)

ولو سلم ما ذكره صاحب الكفاية(1)

من احتمال كون معنى الورود الصدور لا الوصول، فلا يضر ذلك بالنتيجة، وذلك بضم الأصل إلى الدليل. فمع كون صدور النهي مشكوكاً، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إلا أنه ينقح الموضوع بالأصل، فموضوع (المطلق) هو الشيء المشكوك الذي لم يصدر فيه النهي، ومع استصحاب عدم صدور النهي يحقق الموضوع، فيكون (مطلقاً).

فلا فرق في المآل بين كلام الشيخ وكلام صاحب الكفاية.

لكن لم يرتضه الثاني، وذلك لتحقق عنوانين في المقام: عنوان (مجهول الحكم) و (ما لم يرد فيه نهي)، والبحث في البراءة في ثبوتها ل- (مجهول الحكم) ومع ضميمة الأصل إلى الخبر تثبت البراءة ل- (ما لم يرد فيه نهي).

إن قلت: المهم في المقام ثبوت البراءة، سواء بهذا العنوان أم بذاك، فاللازم إثبات حلية التتن، والعنوانان ينطبقان عليه.

قلت: لو ثبتت البراءة لعنوان (ما لم يصدر فيه نهي) فهو أخص من المدعى، فإنه لا فرق بين العنوانين في الشبهة البدوية، وأما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي فمع العلم بصدور النهي في زمان، وصدور الإباحة في زمان آخر، والجهل بين المتقدم والمتأخر، فإن كان العنوان (مجهول

ص: 73


1- كفاية الأصول: 342.

الحكم) ثبتت البراءة، لكن لو كان العنوان (ما لم يصدر فيه نهي) فلا.

مثلاً: لو فرض صدور الإباحة والنهي في أكل الحمر الأهلية(1) فلا يمكن استصحاب عدم ورود النهي لانقطاعه، فلا تجري البراءة بناء على الاستدلال بالخبر بضميمة الأصل.

فتحصل أن ضميمة الأصل إلى الخبر تثبت البراءة في الجملة، وهي موارد الشبهة البدوية للنهي، لا في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ثم أشكل صاحب الكفاية(2) على نفسه: بأنه تام لولا عدم القول بالفصل، فالإجماع المركب قائم في المقام، فكل من ذهب إلى الاحتياط في الشبهات التحريمية - كالأخباريين - لم يفرق بين الشبهتين البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي، وكذلك من ذهب إلى البراءة.

وعليه يثبت جريان البراءة في الشبهة البدوية بالخبر بضمينة الأصل، وفي العلم الإجمالي بالإجماع المركب.

لكنه أجاب عنه(3): بأنه تام إذا كان مثبت الحكم الدليل الاجتهادي لا الأصل العملي، فإن الأول يثبت اللوازم والملزومات والملازمات، وأما الثاني فلا.

وهو غير واضح، حيث يتم إثبات اللازم بالإجماع المركب، وهو دليل

ص: 74


1- كما في بعض التواريخ أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى عن أكلها لمكان الحاجة إليها في ظرف الحرب وأباحها أيضاً (منه (رحمه اللّه) ). راجع البداية والنهاية 4: 220.
2- كفاية الاصول: 343.
3- كفاية الاصول: 343.

اجتهادي، لا بالأصل العملي.

وبعبارة أخرى: يتم إثبات حلية شرب التتن بالأصل بكل شيء مطلق، وأما إثبات حلية الحمر الأهلية فليس بالأصل حتى يقال: إنّه لا يثبت لوازمه، بل بالإجماع المركب. نعم، لا وجه لحليته مع غض النظر عن الإجماع المركب.

ولكن هنا تقرير آخر وهو: إن للإجماع المركب ملاك، ومعقده عنوان (مشكوك الحكم) فكل من قال في بعض أفراد (مشكوك الحكم) بالبراءة وجب أن يقول في جميعها بذلك، وكل من قال بالاحتياط في بعضها وجب أن يقول به في كلها، وليس العنوان (مجهول الحكم)، وعليه يكون كلام الكفاية تاماً.

لكنه محل تأمل؛ لأن نسبة عنوان (مجهول الحكم) إلى عنوان (لم يصدر فيه نهي) العموم المطلق، فالأول يشمل التتن والحمر، والثاني لا يشمل الحمر، فلا يمكن التفكيك بينهما؛ لأنهما فردان للأول.

والكلمة الأخيرة في المقام هي: عدم حجية الإجماع المركب، فينهدم أساس الاستدلال كله.

الحديث الخامس: حديث الحل

اشارة

الحديث الخامس: حديث الحل(1)

وقد روي بتعبيرين:

التعبير الأول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه»(2).

ص: 75


1- أو أحاديث الحل (منه (رحمه اللّه) ).
2- الكافي 5: 313.

التعبير الثاني: «كل شيء فيه حلال وحرام»(1).

وقد استدل صاحب الكفاية(2) بالصيغة الأولى ولم يتعرض للثانية، بينما عكس الشيخ الأعظم(3) فاستدل بالثانية ولم يتعرض للأولى.

وربما تكون العلة في ذلك أنَّ الصيغة الثانية لم تدل على البراءة عند صاحب الكفاية في الشبهات الحكمية بخلاف الأولى، على عكس الشيخ الأعظم، فينبغي البحث في مقامين:

التعبير الأول لروايات الحل

المقام الأول: في تعبير «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه».

فقد روى الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم(4)، عن هارون بن مسلم(5)، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه× قال: سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حرٌّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا، حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(6).

وفي هذه الرواية بحثان سندي ودلالي:

ص: 76


1- الكافي 5: 313.
2- كفاية الأصول: 341.
3- فرائد الأصول 2: 45.
4- علي بن إبراهيم، ثقة.
5- هارون بن مسلم، ثقة وجه.
6- الكافي 5: 313.

البحث الأول: في سند الرواية

فلم أر مَنْ تعرض له فيما رأيت. نعم، عبر عنها في المصباح(1) بموثقة مسعدة بن صدقة ولم يبحث فيه.

وفي تعبيره بالموثقة بحثان بنائي ومبنائي.

تصحيح الرواية

أما البحث البنائي، فلابد من التعبير عنها بالصحيحة لا الموثقة، فإنّ علي بن إبراهيم وهارون بن مسلم ثقتان.

وأما مسعدة بن صدقة فهنالك شخصان: أحدهما: مسعدة بن صدقة العبدي وهو ثقة، والثاني: مسعدة بن صدقة العامي، كما عبر عنه الشيخ، أو البتري، كما عبر عنه الكشي(2)، والمراد منه في هذه الرواية الأول، وذلك لقرينتين: الأولى: رواية هارون عنه، الثانية: روايته عن الصادق×، فإنَّ الثاني لا يروي إلا عن الإمام الباقر×، والأول يروي عن الإمام الصادق والإمام الكاظم (عليهما السلام) ، وهذا مما يسلّم به السيد الخوئي، فينبغي التعبير عنها بالصحيحة.

وجه تضعيف الرواية

وأما البحث المبنائي: فينبغي التعبير عن هذه الرواية بالضعيفة؛ لعدم الدليل على وثاقة مسعدة بن صدقة العبدي إلاّ وروده في كامل الزيارات، ووروده في تفسير القمي.

أما الأول: فقد رجع هو عن مبناه. وأما الثاني: فهو محل نظر عندنا، فإنه

ص: 77


1- مصباح الأصول 2: 272.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 687؛ خلاصة الأقوال: 410؛ نقد الرجال 4: 368.

وإن ارتضى المبنى السيد الخوئي من وثاقة جميع مشايخه حتى غير المباشرين، لكنه محل تأمل لما ذكر في محله من أنّ ظاهر التوثيق لا يشمل إلا المشايخ المباشرين، لا أقل من أنه القدر المتيقن.

والحاصل: بناء على مبنى وثاقة جميع المشايخ فينبغي التعبير عنها بالصحيحة لا الموثقة، وإلا فينبغي التعبير عنها بالضعيفة.

هذا وقد رويت في الكافي الشريف فتكون معتبرة بناء على اعتبار كل ما فيه.

هذا تمام الكلام في البحث السندي.

البحث الثاني: في دلالة الرواية

فقد ذهب صاحب الكفاية إلى دلالتها على البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية(1).

ولكن أورد عليه إشكالات

1- ظهور (بعينه) في الشبهات الموضوعية

الإشكال

الأول: ما ذكره المحقق النائيني(2)، وهو أنَّ (بعينه) ظاهر في الشبهات الموضوعية، حيث إنَّ تعبير (بعينه) يدل على التقسيم، والتقسيم لا يجري إلا في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فالجاري فيها هو الترديد.

وبعبارة أخرى كلمة (بعينه) ظاهرة في كون الشك في تعيين الحرام، وهو

ص: 78


1- كفاية الأصول: 341.
2- فوائد الأصول 2: 121-122.

إنما يتحقق في مورد ينقسم إلى قسمين، فيختص بالشبهة الموضوعية، والبحث في الشبهات الحكمية.

توضيحه بمثال: إنَّ اللحم خارجاً نوعان: حلال وحرام، أو مذكّى وغيره، فإذا شك في أنّ هذا اللحم حلال أو حرام فيحكم بحليته؛ لعدم العلم بحرمته بعينه حتى يعلم أنه حرام بعينه(1).

وهكذا المائع الخارجي نوعان نجس وطاهر، فيحكم بطهارته حتى يعلم أنه حرام بعينه.

أما في الشبهات الحكمية - كالشك في أكل الغراب - فلا انقسام في الأمر، بل الاحتمال قائم، فيحتمل أنه حلال أو حرام.

والحاصل: أن كلمة (بعينه) تدل على أن المراد الشبهة الموضوعية ولا تشمل الحكمية.

وقد يرد عليه إشكالان:

الأول: ما ذكره السيد الوالد في تفسير الرواية(2)، حيث قال: «بعينه قيد العلم والتأخير لأجل أن يتم الكلام لإفادة عدم الاعتماد على ما عداه، كما هي عادة الناس غالباً، وإلا لزم التناقض ولو العرفي»(3).

ولكنه يحتاج إلى تأمل أكثر لوجود احتمالين في المقام:

الاحتمال الأول: أن يكون (بعينه) قيداً للعلم، ويكون مفاده التأكيد، أي

ص: 79


1- هذا مع غض النظر عن أصالة عدم التذكية (منه (رحمه اللّه) ).
2- لا بعنوان الإشكال على الإشكال.
3- الأصول: 714.

تأكيد العلم والمعرفة، بمعنى لزوم كون الوقوف على الأحكام وقوفاً علمياً - لا كما يفعل غالب الناس، حيث لا يتقيدون بالعلم، بل يعملون بالظن وبما هو دونه - فيكون تكراراً وتأكيداً لنسبة العلم إلى الحرام، وكأنّ المولى يقول: (حتى تعلم أنه حرام حتى يحصل العلم لا غيره) ويشبه في ذلك التأكيد اللفظي، كقول ابن مالك:

وما من التوكيد لفظي يجي***مكرراً كقولك ادرجي ادرجي(1)

وعليه، يكون القيد تأكيدياً، ولكن الأصل أن يكون القيد احترازياً تأسيسياً لا تأكيدياً.

الاحتمال الثاني: أن يكون (بعينه) قيد الضمير المنصوب، أي أنه بعينه حرام.

يقول ابن مالك:

بالنفس أو بالعين الاسم أكدا***مع ضمير طابق المؤكَّدا(2)

وذلك كقوله: (جاء الأمير بعينه) أي جاء هو لا خادمه أو وزيره.

وعليه يكون القيد احترازياً، وبعبارة أخرى: العلم نوعان (علم بعينه) و(علم لا بعينه) فغاية العلم هي (العلم بعينه) وليست الغاية (العلم لا بعينه)(3).

ص: 80


1- شرح ابن عقيل 2: 213.
2- شرح ابن عقيل 2: 206.
3- وفيه أولاً: إنّ تقييد العلم به احتراز أيضاً عن الظن والوهم أي (حتى تعلم لا أن تظن)، وثانياً: أنه خلاف الظاهر، ففي مثل (جاء الأمير) حيث يحتمل مجيء وزيره يقيد ب- (بعينه) فيكون احترازياً ، وأما في مثل (حتى تعلم) لا يحتمل أن يكون المراد منه غير العلم كالظن بأن يحتمل المخاطب أن المقصود (حتى يحصل لك الظن) حتى يقيد ب- (بعينه) ليكون احترازاً عن الظن والوهم و ما أشبه، فلا بد أن يكون تأكيداً (المقرر).

ويمكن أن يقال: إنَّ الظاهر هو تقييد الضمير المنصوب لا تقييد العلم.

الثاني: يمكن فرض ما ذكر في الشبهات الحكمية أيضاً، حيث نعلم إجمالاً بوجود محرمات في الشريعة، فهذا علم لا بعينه فيحكم المولى بالحلية حتى يتحقق العلم بعينه، فيكون التتن - الذي لا نعلم أنه حرام بعينه - حلالاً.

فينهض دليلاً على البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية.

فما ذكره المحقق النائيني محل تأمل.

ولكن الإنصاف يقتضي أنّ كلمة (بعينه) بمعنى بشخصه، وفي التتن الحكم الكلي مجهول لا الشخص.

والحاصل: إنَّ الإشكال الأول مع التخريج الأخير الظاهر في كونه في الشبهات الموضوعية يخلّ بالاستدلال بالحديث الشريف.

2- الدليل أخص من المدعى

الإشكال الثاني: الرواية أخص من المدعى؛ لأنها تتكفل بجعل البراءة في الشبهات التحريمية، وأما في الشبهات الوجوبية فليس الشك في الحرمة، بل في الوجوب فلا تشمله الرواية.

وأجاب عنه صاحب الكفاية(1) بجوابين:

الجواب الأول: عدم القول بالفصل، فالقائل بجريان البراءة في الشبهات التحريمية قائل بجريانها في الشبهات الوجوبية، وإن لم يصدق العكس(2).

ص: 81


1- كفاية الأصول: 341-342.
2- فالأخباري قد يقول بجريان البراءة في الشبهات الوجوبية، أما التحريمية فلا.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الحجة هو القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل، فإنّ الأول مآله إلى الإجماع البسيط، والثاني مآله إلى الإجماع المركب وهو ليس بحجة.

مضافاً إلى أنه حتى لو فرض أنّ المتحقق هو الإجماع البسيط لكنه مدركي؛ لاستناده قطعاً أو ظناً لا أقل من احتمال إلى الأدلة اللفظية أو اللبية في المقام، والمعروف بينهم أن الإجماع المدركي ليس بحجة.

الجواب الثاني: ترك محتمل الوجوب محتمل التحريم، فترك القنوت المحتمل وجوبه محتمل التحريم، ورواية مسعدة تؤمن بلحاظ هذا الترك، فترك القنوت حلال حتى تعلم أن تركه حرام.

لكنه محل تأمل أيضاً لما ثبت في محله أن ترك الواجب هو ترك فعل الواجب لا فعل الحرام، فلا حرمة في الضد العام للواجب، كما لا وجوب في الضد العام للحرام.

وقد قرر في مباحث الضد(1) - كما هو المشهور بين الأصوليين - أنَّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده من غير فرق بين أن يكون الضد ضداً عاماً أو خاصاً، وكذلك النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده بلا فرق بين الضد العام أو الخاص، إلا أن يقال بشبهة الكعبي(2) القائل بحرمة ترك

ص: 82


1- معالم الدين: 63؛ قوانين الأصول: 108؛ فوائد الأصول 1-2: 312؛ بحوث في علم الأصول 2: 138.
2- هداية المسترشدين 2: 233؛ فوائد الأصول 1-2: 306؛ دراسات في علم الأصول 1: 370؛ محاضرات في أصول الفقه 3: 39.

الواجب.

فترك القنوت ليس محرماً، وإنما هو ترك فعل واجب.

مثلا: الحج واجب وأما تركه فلا حكم له، كذلك وجوب استقبال الجنوب عندنا في الصلاة، وأما استدبار الشمال فلا حكم له، والأمر كذلك في جميع الملازمات الوجودية وهي بالعشرات، فهل من أتى بها قد أتى بعشرات الواجبات؟ وكذلك في جانب النهي، فهل مَنْ شرب الخمر يعاقب مرتين لفعل الحرام، وهو شرب الخمر ولتركه الواجب وهو ترك الشرب؟

نعم، لا يعقل أن يكون هنالك فعل بدون أي حكم، أما ملازماته فيمكن أن تكون بلا أي حكم.

شمول الحلال للشبهات الوجوبية

قال السيد الوالد في الأصول(1): (حلال) يشمل ثلاثة من الأحكام و(حرام) الحكمين.

والمراد - ظاهراً - أن الحلال بمعنى اللااقتضاء، فيشمل الاستحباب والكراهة وإلاباحة، وأن الحرام بمعنى الاقتضاء فيشمل الحرام والواجب، وقد نظّر لذلك بالحديث المعروف «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(2).

فالحلية هي الجامع بين الأحكام اللاقتضائية الثلاثة، والحرمة الجامع بين الوجوب والتحريم.

ص: 83


1- الأصول: 714.
2- الكافي 2: 17.

فيكون ترك القنوت حلالاً بالمعنى الأعم حتى يعلم أنه واجب أو حرام فيشمل الشبهة الوجوبية والتحريمية.

وفيه: أنه لا إشكال فيه ثبوتاً، وأما إثباتاً فيحتاج إلى تأمل؛ لأنّ ظاهر الحرام الحرمة المصطلحة، بمعنى الزجر عن الشيء فلا يشمل الشبهة الوجوبية.

3- اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية

الإشكال الثالث: الأمثلة المذكورة في الرواية من قبيل الشبهات الموضوعية، فتكون قرينة على اختصاص الصدر بها، لا أقل من كونها محتملة القرينية، واحتفاف الكلام بمثله صارف عن العموم، كما أشير إليه في مبحث الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة(1).

وفيه تأمل: لأنّ العبرة بعموم القاعدة لا بخصوص الأمثلة، مثلاً لو قال المولى: (لا تنقض اليقين بالشك) ثم مثل بأمثلة في الشبهات الموضوعية، كمن خفق ثم شك أنه نام، فالمثال لا يقدح في عموم القاعدة أو إطلاقها، فإنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المثال، خاصة في زمن صدور الروايات، حيث كانت الشبهات الموضوعية محل الابتلاء دون الحكمية، حيث لم تكن مجرى البراءة لوجوب الفحص فيها، وكان ممكناً - في تلك الأزمنة - عادة.

وبعبارة أخرى: لعل التمثيل بالشبهات الموضوعية فحسب أنما هو لندرة

ص: 84


1- معالم الدين: 121؛ قوانين الأصول: 283؛ كفاية الأصول: 234.

الشبهات الحكمية أو لعدم وجود شرطها وهو الفحص.

4- عدم استناد الأمثلة إلى أصالة البراءة

الإشكال الرابع: وقد عبر عنه البعض بالعويصة: عدم استناد جميع الأمثلة المذكورة إلى أصالة البراءة، فلا يعقل أن يكون الصدر متكفلاً لبيانها بأن يذكر الإمام× كبرى كلية، لكنها لا تنطبق على الأمثلة، فإنّ الحلية في الثوب والعبد المشترى مستندة إلى قاعدة اليد، ومعها لا شك حتى تجري أصالة البراءة، وأما كون المرأة رضيعة فاستصحاب العدم حاكم أو وارد(1) على البراءة، ويثبت عدم كونها أختاً باستصحاب العدم الأزلي على فرض تماميته، وإلا فبالقاعدة العقلائية التي أمضاها الشارع من كون الأصل العدم في الانتساب ونحوه، كما نقله السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول(2) عن الفقيه الهمداني في ترتب أحكام الحيض واليأس والعدة لمشكوكة القرشية والنبطية.

وعليه، ليست البراءة هي المستند للإباحة في الأمثلة المذكورة في الرواية.

5- المراد من الحلية في رواية مسعدة

الإشكال الخامس: ما في المصباح(3) من أن المراد من الحلية في رواية مسعدة لا يخلو من احتمالات ثلاثة:

ص: 85


1- على المبنيين في ذلك.
2- الأصول: 715.
3- مصباح الأصول 2: 275.

الأول: خصوص الحلية المستندة إلى دليل غير أصالة الإباحة.

الثاني: خصوص الحلية المستندة إلى أصالة الإباحة.

الثالث: المعنى اللغوي، أي الإرسال وعدم التقييد في مقابل المنع والحرمان.

أما الأول فهو أجنبي عن المقام، وأما الثاني فتنافيه الأمثلة، وأما الثالث فلا معيّن له.

ويمكن أن يتأمل فيه من جهتين:

الجهة الأولى: فمن الممكن استناد جميع الأمثلة إلى أصالة البراءة على مبنى جريان الأصول الطولية في عرض واحد إذا كانت متوافقة(1).

مثلاً: لو شك في طروء النجاسة على الشيء الطاهر، فتجري أصالة الطهارة في عرض الاستصحاب مع وروده أو حكومته عليها.

وعليه، فلا مانع من استناد الحلية في الثوب إلى قاعدة اليد وأصالة البراءة معاً، وكذلك في سائر الأمثلة، فتفيد الرواية أصالة البراءة في جميع الموارد، ولا تنافيها الأمثلة المذكورة لاستناد الحلية فيها إليها.

وقد يشكل عليه: بأنّ الرواية ظاهرة في الانحصار في الاستناد ولا انحصار في الأمثلة.

ويجاب عنه: بعدم الظهور في ذلك، فمجرد كونه مستنداً لا يدل على انحصار الاستناد، كما لو سئل عن دليل حرمة الخمر فأجاب: قوله تعالى: (إنما الخمر..) فهل يدل ذلك على انحصار الدليل فيه؟

ص: 86


1- وأما الطولية فتلاحظ إذا كان مؤدى الأصول متناقضة أو متضادة.

الجهة الثانية: قد يراد بالحلية في رواية مسعدة المعنى اللغوي، أي الإرسال وعدم التقييد، وبعبارة أخرى: المراد مطلق الحلية وهو الجامع بين الحليات المتعددة منها: مفاد قاعدة اليد، ومنها: مفاد قاعدة السوق، ومنها: مفاد لا تنقض اليقين بالشك، ومنها: مفاد أصالة البراءة.

وأما الإشكال بأنه لا معيّن لذلك، فيدفع بالإطلاق أو العموم، فهو معين لإرادة الجامع بين الحليات، فإنّ الثوب والمرأة وشرب التتن والمائع المشكوك كلها مشمول لقوله: (كل شيء لك حلال) ولا يمكن أن يكون دليل الحلية في الأخيرين اليد والسوق، فيكون كاشفاً عن جعل الشارع لأصالة البراءة.

فما أفاده محل تأمل.

6- الغاية تخصص الرواية بالشبهات الموضوعية:

الإشكال السادس: إنّ رواية مسعدة مغياة بغاية لا تنطبق إلا على الشبهات الموضوعية، وهي «أو تقوم به البينة» ولا إشكال ولا خلاف في عدم الاحتياج إلى البينة في الشبهات الحكمية، حيث يكفي قول العادل الواحد، فتكون قرينة - لا أقل من احتمالها - على اختصاص المغيّا بالشبهات الموضوعية.

وأشكل عليه بأنّ البينة - بمعنى الشاهدين العادلين - مصطلح حادث، وأما لغة فبمعنى الحجة والدليل وما يتبين به الشيء، وقد استخدمت في القرآن الكريم بمعناها اللغوي، قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}(1)، وقال سبحانه: {إِن كُنتُ عَلَى

ص: 87


1- البينة: 1.

بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ}(1)، وقال تبارك وتعالى: {فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}(2).

وعليه: فقوله×: «تقوم به البينة» بمعنى تقوم به الحجة، وهي في الموضوعات الخارجية الشاهدان العادلان مثلاً، وفي الأحكام الشرعية قول الثقة الواحد، فلا تكون قرينة على اختصاص المغيّا بالشبهات الموضوعية.

وممن ذهب إلى أنّ البينة بمعناها اللغوي السيد الوالد في الفقه(3) والسيد الخوئي في المصباح(4) وشرح العروة(5).

ولكن استظهر السيد العم (دام ظله) في بيان الفقه(6) تحول كلمة البينة في لسان الشارع إلى المعنى الجديد، وهو الشاهدان العادلان، واستشهد لذلك بمجموعة من الروايات الدالة على استخدامها فيها بخصوصها، وقال الروايات مشحونة بالمئات من أمثال ذلك.

ولو تم ما ذكره - ولا يخلو من قرب - فلا يبعد ثبوت الحقيقة الشرعية لها، خاصة في عهد الإمام الصادق× الذي رويت عنه هذه الرواية.

وتفصيل الكلام في بحث ثبوت اجتهاد المجتهد من مباحث الاجتهاد والتقليد، وكذا في طرق إثبات النجاسة من مباحث الطهارة، فتتمة الكلام

ص: 88


1- هود: 28.
2- الأنعام: 157.
3- الفقه 1: 182.
4- مصباح الأصول 2: 318
5- شرح العروة الوثقی 2: 262.
6- بيان الفقه 2: 312.

توكل إلى ذلك المقام.

هذا تمام الكلام في الصيغة الأولى من روايات الحل.

التعبير الثاني لروايات الحل

المقام الثاني: وهو تعبير: «كل

شيء فيه حلال وحرام»، وقد اقتصر عليه الشيخ الأعظم(1) في الاستدلال.

وقد وردت في ثلاث روايات:

الرواية الأولى: ما رواه في الوسائل بسند صحيح عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده(2) عن الحسن بن محبوب(3)، عن عبد اللّه بن سنان(4)، عن أبي عبد اللّه×، قال: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(5) ولها أسناد أخرى أيضاً.

الرواية الثانية(6): ما في الوسائل عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى(7)، عن أحمد بن محمد بن عيسى(8)، عن أبي أيوب(9)، عن عبد اللّه بن

ص: 89


1- فرائد الأصول 2: 45.
2- إسناد الشيخ الصدوق إلى الحسن بن محبوب صحيح.
3- الحسن بن محبوب، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة.
4- عبد اللّه بن سنان، ثقة عظيم جليل، ومن العجائب في تاريخه أنه كان على خزائن المنصور والمهدي والهادي والرشيد وكأنه كان وزير الاقتصاد.
5- وسائل الشيعة 17: 87.
6- تذكر بعنوان المؤيد، لجهالة عبد اللّه بن سليمان.
7- محمد بن يحيى الأشعري العطار، ثقة جليل.
8- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، ثقة.
9- كذا في الوسائل، وأما في الكافي 6: 339 فعن ابن محبوب.

سنان، عن عبد اللّه بن سليمان(1)، قال: «سألت

أبا جعفر× عن الجبن(2) فقال: لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثم أعطى الغلام درهماً فقال: يا غلام، ابتع لنا جبناً، ثم دعا بالغداء فتغدينا معه، فأتي بالجبن فأكل(3) وأكلنا، فلما فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟(4)، قال: أو لم ترني أكله؟ قلت: بلى، ولكني أحب أن اسمعه منك، فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كلُّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(5).

الرواية الثالثة(6): ما في الوسائل عن المحاسن، عن اليقطيني، عن صفوان، عن معاوية بن عمار، عن رجل من أصحابنا، قال: «كنت عند أبي جعفر× فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر×: إنه لطعام يعجبني فسأخبرك عن الجبن وغيره، كلُّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه»(7).

والعمدة في ذلك صحيحة عبد اللّه بن سنان.

ص: 90


1- عبد اللّه بن سليمان، مشترك بين تسعة وكلهم مجاهيل، وقال البعض: إنه الصيرفي، ولكنه مجهول أيضاً.
2- وكأنه كان محل البحث والخلاف آنذاك.
3- وكأنه× أراد إثبات الحلية عملاً ليكون قاطعاً للشبهة.
4- وكأنه لم يكفه الإثبات العملي، أو أراد ضميمة اللفظ إليه.
5- وسائل الشيعة 25: 117.
6- تذكر بعنوان المؤيد أيضاً للإرسال.
7- وسائل الشيعة 25: 119.

إشكالات على دلالة الرواية على البراءة

وفي شمولها للشبهات الحكمية - التي هي محط نظر الأصوليين في البراءة - إشكالات.

الإشكال الأول: ظهور الرواية في الانقسام بالفعل

مركب من صغرى وكبرى.

الصغرى: إنَّ قوله×: «فيه حلال وحرام» ظاهر في الانقسام بالفعل، مثلاً: في المائع نوع حلال بالفعل، وهو الخل، ونوع حرام وهو الخمر، فلو وجد مائع مشكوك يشك في انطباق عنوان الخل أو الخمر عليه فبمقتضى الصحيحة يكون حلالاً؛ لوجود الانقسام بالفعل فيه.

الكبرى: إنَّه لا انقسام بالفعل في الشبهات الحكمية، بل الموجود فيها الترديد والاحتمال، ففي شرب التتن لا يمكن القول بانقسامه إلى حلال وحرام، بل المتحقق فيه الترديد، فهو إما حلال أو حرام.

وظاهر الصحيحة التقسيم لا الترديد، فلا تنطبق على الشبهات الحكمية.

ويناقش فيهما معاً.

أما المناقشة في الصغرى فهي ما ذكره المحقق النائيني حيث قال: «إنّ الشيئية حيث إنها تساوق الوجود فظاهر لفظ الشيء هو الموجود الخارجي، فيدور الأمر بين إرادة احتمال الحلية والحرمة من قوله×: فيه حلال وحرام، وبين الالتزام بالاستخدام وحمله على الانقسام الفعلي، والأول وإن كان في نفسه خلاف الظاهر إلا أنّ الالتزام به أهون من الالتزام بالاستخدام»(1).

ص: 91


1- أجود التقريرات 2: 185.

وعليه يمكن أن يشمل الحديث الشريف الشبهات الحكمية.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: سلمنا أنّ ظاهر لفظ (الشيء) الموجود الخارجي، وأنّ إرادة الموجود الذهني منه خلاف الظاهر - على تأمل - لكن يمكن إطلاق الموجود الخارجي على أمرين، الأول: الكلي المنتشر في الخارج المتكثر فيه(1)، الثاني: الأمر الجزئي الخارجي.

فلو أشار إلى الجبن الجزئي الخارجي وقال: (فيه حلال وحرام) كان كلامه تاماً، حيث إنّ ظاهره الترديد، أي يحتمل الحلية والحرمة، ولا يمكن حمله على الانقسام بالفعل، لكن لو أراد من الموجود الخارجي الكلي المنتشر في الخارج فلا محذور من انقسامه بالفعل إلى الحلال والحرام.

فكل ما بنى عليه المحقق النائيني محل تأمل.

ولمزيد توضيح عبارته مع بيان الإشكال عليها نقول: المساوقة في قوله: «إنّ الشيئية حيث إنها تساوق الوجود» منحلة إلى أربعة قواعد: كلّ شيء موجود، وكلّ موجود شيء، وكلّ ما ليس بشيء فليس بموجود، وكلّ ما ليس بموجود فليس بشيءٍ.

فظاهر لفظ الشيء - في الرواية - الموجود الخارجي، أي الموجود الخارجي الجزئي، وحيث فرض هذا المعنى كان معنى (فيه حلال وحرام) يحتمل الحلية والحرمة.

ص: 92


1- استخدام كلمة الكلي بمعنى الأوْل، أي يؤول إليه، وإلا فإنّ الخارج لا يكون ظرفاً له (منه (رحمه اللّه) ).

ووجه التأمل فيه: أنه لا يتعين ذلك، بل الظاهر منه الشيء الخارجي المنتشر،كالجبن في السوق المنقسم إلى نوعين، بل حمله على الجزئي الخارجي خلاف الظاهر.

وبناء على ما قال من أن الموجود الخارجي يعني الجزئي المتعين المشار إليه، يدور الأمر بين الاحتمال الأول، وهو الترديد وإرادة احتمال الحلية والحرمة، وبين الاحتمال الثاني وهو الالتزام بالاستخدام(1)، فقوله: (فيه حلال) أي في نوعه، فيعود الضمير إلى (الشيء) ولكن بمعنى آخر، وعلى الثاني يمكن تحقق الانقسام الفعلي؛ لأنّ نوع الجبن الجزئي ينقسم بالفعل إلى الحلال والحرام، وهو الاستخدام.

لكن كون المراد الترديد خلاف الظاهر، إلاّ أنّ الالتزام به أهون من الالتزام بالاستخدام.

الجهة الثانية: إنه لم يظهر وجه أهونية الاحتمال الأول، وترجيحه على الاحتمال الثاني غير واضح، بل ربما يدعى أهونية الاستخدام(2).

فالمناقشة في الصغرى محل تأمل.

وأما المناقشة في الكبرى: فبعد تسليم الصغرى وأن ظاهر الحديث

ص: 93


1- وتفصيل بحثه في المطول، وجامعه عود الضمير على المرجع بمعنى آخر، وقد مثلنا له سابقاً بقول الشاعر في المطول: وللغزالة شيء من تلفته***ونورها من ضيا خديه مكتسب خزانة الأدب: 54.
2- فلو كانت العبارة صريحة كما لو قال: (الجبن الخارجي فيه حلال وحرام) كان معناه في نوعه حلال وحرام.

التقسيم لا الترديد، لكن يمكن فرض التقسيم بالفعل في الشبهات الحكمية كالموضوعية.

مثلاً: اللحم نوعان حلال كلحم الغنم، وحرام كلحم الكلب، فلو شككنا أنّ لحم الأرنب حلال أو حرام فنقول: كل شيء - أي اللحم - حلال حتى تعلم أنه حرام، فأمكن فرض الانقسام الفعلي في الشبهات الحكمية.

مثال آخر: العصير نوعان حلال كعصير البرتقال، وحرام كالعصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه، فلو شك في العصير التمري إذا غلى، فيحكم عليه بالحلية حتى يعلم أنه حرام.

فالإشكال الأول على دلالة صحيحة عبد اللّه بن سنان غير تام.

الإشكال الثاني: الانقسام سبب الشك

سلمنا شمول التقسيم للشبهات الموضوعية والحكمية، لكن ظاهر قوله×: «فيه حلال وحرام» أنّ منشأ الشك الانقسام، وفرضه في الشبهات الموضوعية واضح، فإنّ منشأ الشك في المائع الخارجي هو وجود الخمر الحرام والخل الحلال في المائعات، ويشك في انطباق أحد العنوانين على المائع الخارجي، فالانقسام سبب الشك.

أما في الشبهات الحكمية، فإنّ منشأ الشك فيها إما فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين، لا وجود الحلال والحرام في الخارج، ولذا لو علم أنّ جميع الأنواع الأخر حلال أو حرام لكان الشك فيه باقياً.

وبعبارة أخرى: نعلم تشريع الحكم لكل واقعة كلية، ومع غض النظر عن انقسام المأكولات أو المنظورات أو الملبوسات - مثلاً - إلى نوعين نشك أنّ

ص: 94

التتن والنظر إلى فوق الركبة من المماثل حلال أو حرام، وهذا الشك لا يرتبط بكون المنظورات نوعين، فإنّ الحالة الأولية لكل واقعة هي الشك، و ظاهر (كل شيء فيه حلال وحرام) أنّ منشأ الشك الانقسام إلى الحلال والحرام، أما في الشبهات الحكمية فمع قطع النظر عن الانقسام يتحقق الشك في كل واقعة واقعة، فيكون ذلك قرينة على أنّ الحديث ناظر إلى الشبهات الموضوعية لا الحكمية.

الإشكال الثالث

كلمة (بعينه) ظاهرة في كون الشك في تعيين الحرام، وهذا المعنى لا ينطبق إلا على الشبهات الموضوعية، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه في الصيغة الأولى من روايات الحل.

الإشكال الرابع

إنَّ كلمة (حتى تعرف الحرام) ظاهرة في العهد الذكري(1)، أي الحرام الذي مرّ ذكره، فالجبن نوعان حلال وحرام، والجبن المشكوك حلال حتى تعرف أنه نفس الجبن الذي يوضع فيه شحم الخنزير مثلاً.

وهذا المعنى لا يتلاءم مع الشبهات الحكمية، فإنه لو عرفت الحرمة في المشكوك فهي غير الحرمة المتقدمة، فلو علم أنّ اللحم نوعان غنم وكلب، وشك في حكم لحم الأرنب ثم علم أنه حرام فليس هو نفس الحرام السابق، بل هي حرمة جديدة، وظاهر (حتى تعرف الحرام) أنه نفس الحرام.

ص: 95


1- كما في قوله تعالى في سورة المزمل: 15-16: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي نفس الرسول.

الإشكال الخامس: إنَّ كلمة (الحرام) ظاهرة في الشبهة الموضوعية، ولو كان المراد الشبهة الحكمية لكان اللازم أن يقال: (حتى تعرف الحرمة)، أو (حتى تعرف أنه حرام)، لا (حتى تعرف الحرام منه).

التعبير الثالث لروايات الحل

هنالك صيغة ثالثة أشار إليها الشيخ الأعظم(1)

في ضمن كلامه وهي: «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام».

ولكن لم يعثر على أثر عليها في الكتب الروائية.

الحديث السادس: من ركب أمراً بجهالة

اشارة

وهي: صحيحة عبد الصمد بن بشير المروية في التهذيب(2)، ورويت مختصرةً في الوسائل(3): الشيخ الطوسي عن موسى بن القاسم(4)، عن عبد الصمد بن بشير(5)، عن أبي عبد اللّه× قال: «جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد وهو يلبي وعليه قميصه(6)، فوثب إليه أناس من أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: شق قميصك وأخرجه من رجليك، فإنّ عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجك فاسد، فطلع(7) أبو عبد اللّه× فقام على باب

ص: 96


1- فرائد الأصول 2: 48.
2- تهذيب الأحكام 5: 67.
3- وسائل الشيعة 12: 488.
4- موسى بن القاسم، ثقة ثقة، وطريق الشيخ الطوسي إليه صحيح.
5- عبر عنه في الرجال بثقة ثقة.
6- فلم ينزع المخيط.
7- أي ظهر - على الظاهر- .

المسجد فكبر واستقبل الكعبة، فدنا الرجل من أبي عبد اللّه× وهو ينتف شعره ويضرب وجهه(1)، فقال له أبو عبد اللّه×: اسكن يا عبد اللّه(2)، فلما كلّمه وكان الرجل أعجمياً، فقال أبو عبد اللّه×: ما تقول(3)؟ قال: كنت رجلاً أعمل بيدي، فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحداً عن شيء فأفتاني هؤلاء أن أشق قميصي وأنزعه من قبل رجلي، وأنّ حجي فاسد، وأنّ علي بدنة، فقال له: متى لبست قميصك، أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال: قبل أن ألبي ، قال: فأخرجه من رأسك(4) فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل، أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(5).

وظاهرها عدم ثبوت الحكم التكليفي والوضعي عليه.

لكن الشيخ أشكل على دلالة الحديث على البراءة في الشبهات الحكمية بإشكالات:

الإشكال الاول: عدم شمول الحديث للجاهل البسيط

وبيانه: الجاهل ثلاثة أنواع:

الأول: الجاهل الغافل، وهو من لا التفات له بالواقع أصلاً، كمن يعيش

ص: 97


1- ربما لصعوبة الحج ومشقته، فكان عليه أن يعيده.
2- أي لا تضطرب.
3- أي ما هي مشكلتك.
4- ظاهرها أن لبس المخيط إن كان قبل الإحرام وكان الإحرام متأخراً فلا بأس بنزع القميص من الرأس، وإن كان بعد الإحرام فينزعه من قبل رجليه.
5- ونقلت العبارة في بعض الكتب الأصولية هكذا: «أيما امرئ ركب أمراً بجهالة». فرائد الأصول 2: 42؛ أجود التقريرات 2: 181؛ نهاية الأفكار 3: 229؛ بحوث في علم الأصول 5: 76.

في منقطع الجبال، أو من يغفل عن بعض الأحكام الشرعية غفلة مطلقة.

الثاني: الجاهل المركب، وهو من كان جاهلاً وهو جاهل بجهله، بل يعتقد أنه عالم.

الثالث: الجاهل البسيط، وهو الجاهل العالم بجهله.

وظاهر (أي رجل ركب أمراً بجهالة) ونظائر هذا التركيب في اللغة العربية النوعان الأولان، حيث يطلق عليهما (بجهالة) لا الثالث، فلا تشمله الرواية.

تقريرات ثلاثة للإشكال

ويمكن أن يقرر بثلاثة تقريرات:

التقرير الأول: إنَّ خصوصية المورد تعيّن هذا المعنى.

لكنه محل تأمل: أولاً: لعدم اتضاح خصوصية المورد، فقوله: (لم أسأل أحداً عن شيء) ليس ظاهراً في الغفلة أو الجهل المركب، بل يمكن أن يكون جاهلاً ملتفتاً، وترك الإمام× الاستفصال في الجواب يفيد العموم.

ثانياً: سلمنا الخصوصية إلاّ أنّ المورد لا يخصص الوارد، فإنه أنما يقدر موضوع السائل لو لم يكن للجواب موضوع، أما لو كان للجواب موضوع وكان أعم من موضوع السؤال فالعبرة بعموم الجواب لا بخصوص السؤال.

التقرير الثاني: إنَّ كلمة (بجهالة) ظاهرة في الجهل المركب والغفلة، دون الجهل البسيط، فإنّ (الباء) فيها ظاهرة في السببية والعلية، وهي أنما تكون في الأولين، أما علة الاقتحام في الجهل البسيط فلا تخلو من أحد أمرين: عدم المبالاة بالدين أو اعتقاد وجود المؤمّن، فلا يكون الجهل سبباً.

ص: 98

ويرد عليه أمران: صغروي حيث لا يسلم ظهور (الباء) في السببية، بل لها معانٍ متعددة(1) أحداها المصاحبة(2)، وهو المحتمل في المقام، أي ركب أمراً في حالة الجهالة، أي مصحوباً بها.

وكبروي: ذكرهُ المحقق العراقي في النهاية قال: «إنّ الجهل البسيط أيضاً سبب لارتكاب الحرام المشكوك، بمقتضى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان»(3).

توضيحه كما يظهر من مجموع كلامه: السببية نوعان: بلا واسطة ومع الواسطة، ويطلق على كليهما السبب.

كقوله: (كتبت بيدي) و (كتبت بالقلم) فالباء هنا للاستعانة، وتستخدم بلا واسطة للقلم ومع الواسطة لليد، وفي الجهل البسيط السبب البعيد الجهل والسبب القريب قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وحيث إنّ المجتهد يجهل الواقع - وهذه علة بعيدة - يستعين بقاعدة قبح العقاب ويقتحم المشكوك، ولو سئل عن ذلك أجاب بأنّ العلة البعيدة الجهل بالواقع والعلة القريبة وجود المؤمّن العقلي، فتصدق السببية في

ص: 99


1- قال ابن مالك: بالباء استعن وعد عوض ألصق***ومثل مع ومن وعن بها انطق شرح ابن عقيل 2: 22.
2- كقوله تعالى في سورة الحجر: 98: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي التسبيح مصاحباً للتحميد، وكذا سبحان ربي العظيم وبحمده، والتسبيح إشارة إلى صفات الجلال والتحميد إشارة إلى صفات الجمال والكمال (منه (رحمه اللّه) ).
3- نهاية الأفكار 3: 229، مع اختلاف يسير.

الجاهل البسيط الملتفت ويطلق عليه (ركب أمراً بجهالة).

لكن أشكل عليه في المنتقى حيث قال: «إنّ الاستناد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ارتكاب المجهول بالجهل البسيط يستلزم أن يكون ارتكاب الحرام عن علم لا عن جهل، فلا يعد ارتكابه بسبب الجهل»(1).

لكنه غير واضح، فإنّ للشيء عنوانين: ذاتي(2) وعرضي(3)، والعنوان الذاتي يترتب عليه الحكم الواقعي، كالحلية أو الحرمة في اللوح المحفوظ، والعنوان العرضي موضوع للحكم الظاهري وهو البراءة، فلو لاحظنا الحكم الواقعي المترتب على العنوان الذاتي صح القول: إنَّ الاقتحام مسبب عن الجهل، ولو لاحظنا الحكم الظاهري والتأمين العقلي المترتب على العنوان العرضي صح القول: إنَّ الاقتحام بسبب العلم.

وبعبارة أخرى: سبب اقتحام المشكوك علم المكلف بأنه غير معاقب، وهو لا ينافي كون الجهل سبب الاقتحام أيضاً، فإنّ الجهل بالحكم الواقعي محمول على العنوان الذاتي للشيء.

وبعبارة ثالثة: العلم له مدخلية في الاقتحام، وهذا لا ينافي أن يكون للجهل المدخلية فيه أيضاً، فالاقتحام معلول للجهل وإن كان معلولاً للعلم أيضاً.

فما ذكر في المنتقى لا ينفي كلام المحقق العراقي.

ص: 100


1- منتقى الأصول 4: 434.
2- وهو أنه شرب التتن.
3- وهو أنه مشكوك.

التقرير الثالث: - وهو ظاهر كلام الشيخ الأعظم - دعوى الظهور(1).

وتمامية المدعى موقوفة على بيان معنى الجهالة، فإنها في اللغة بمعنيين: السفاهة وعدم العلم(2).

أما السفاهة - كما في آية النبأ، حيث يحتمل فيها أن تكون بمعنى السفاهة، وقواه صاحب الكفاية(3)، وكذا في آيات التوبة(4)- ليست مراداً في المقام، فيتعين المعنى الثاني، وهو شامل للجهل البسيط والمركب، منتهى الأمر يمكن القول بانصرافها عن البراءة قبل الفحص، أما بعد الفحص التام واستفراغ الوسع من قبل المجتهد فلا مانع من إطلاق الجاهل عليه فيكون دليلاً على البراءة، والبحث في الشبهات الحكمية ليس البراءة قبل الفحص قطعاً، وإنما بعده.

ويؤيده استخدامها في موارد أخرى من دون التعرض فيها للتفصيل بين الجاهل البسيط و المركب، ففي الكافي عن أبي عبد اللّه×: «وليس عليك فداء ما أتيته بجهالة إلا الصيد، فإنّ عليك فيه الفداء بجهل كان أو بعمد»(5).

وقد أفتى الفقهاء(6) على طبقها ولم يفرقوا بينهما.

ص: 101


1- فرائد الأصول 2: 42.
2- العين 3: 390؛ لسان العرب 11: 129، مادة «جهل».
3- كفاية الأصول: 297.
4- كقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} النساء: 17، وقوله سبحانه: {مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام: 54.
5- الكافي 4: 381.
6- مجمع الفائدة والبرهان 6: 402؛ مدارك الأحكام 7: 305؛ الحدائق الناضرة 15: 136.

وفيه أيضاً عن أبي إبراهيم× «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين يعذر، بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه(1) أم بجهالته أنها في عدة(2)؟ فقال× إحدى الجهالتين أهون من الأخرى»(3).

وقد أفتى الفقهاء على طبقها،كما في العروة(4)، فإنّ ملاك الحرمة الأبدية الدخول أو علم أحد الطرفين، فلو كان أحد الطرفين عالماً بالموضوع والحكم أوجب الحرمة الأبدية، وكذا لو حصل الدخول بقرينة الروايات الأخر.

وقد استخدمت (الجهالة) كثيراً في الروايات(5) ولم يفرق الفقهاء فيمن رأينا بين الجاهل البسيط والمركب في تلك الموارد، فلا مانع من شمول (الجهالة) في صحيحة عبد الصمد بن بشير لهما.

الإشكال الثاني: لزوم التخصيص الصحيحة

قال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) : «ويؤيده أن تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج

ص: 102


1- أي الجهل بالحكم.
2- أي الجهل بالموضوع.
3- الكافي 5: 427.
4- العروة الوثقى 5: 512؛ مسالك الأفهام 7: 336؛ نهاية المرام 1: 170؛ الحدائق الناضرة 1: 73؛ رياض المسائل 10: 208؛ جواهر الكلام 29: 430.
5- راجع الكافي 5: 433، 4: 128.

الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصر، وسياقه يأبى عن التخصيص»(1).

فلو قلنا بشمول الحديث للمتردد كالفقيه، فلابد من تخصيصه؛ لعدم معذورية المتردد المقصر قطعاً، وسياق الرواية يأباه.

لكنه محل تأمل لأمور:

أولاً: التخصيص لازم على كل حال، سواء كانت الرواية شاملة للمتردد أم لا؛ لأنّ الجاهل المركب لو كان مقصراً فليس بمعذور، وكذا الغافل المقصر.

ثانياً: عدم لزوم التخصيص مطلقاً، فإنّ الرواية شاملة حتى للجاهل المقصر، فإنها وإن كانت نكرة في سياق النفي، لكنها محيثة(2)، أي ناظرة إلى الأحكام الوضعية، كبطلان الحج لا الحرمة والعقوبة الأخروية واستحقاقها.

ثالثاً: ومع غض النظر عن الإشكالين، لم يظهر لنا وجه إباء الرواية عن التخصيص(3).

فلا مانع من أن يقول المولى: (أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، إلاّ في باب الصيد، وإلا في الجاهل المقصر فعليهما شيء).

وعليه ما ذكره الشيخ الأعظم بعنوان المؤيد غير واضح.

ص: 103


1- فرائد الأصول 2: 42.
2- كما لو جاء نفران من الغابة فسئلا عما فيها؟ فأجاب أحدهما: لا شيء فيها، بينما أجاب الثاني فيها كل شيء، ولا تناقض بينهما، حيث النظر في دائرة معينة، فإنّ الأول صياد لم يعثر على أي صيد، والثاني حطاب والغابة مليئة به، كما في المطول وبعض شروحه.
3- نعم هنالك عمومات آبية عن التخصيص - كما قالوا - كقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (منه (رحمه اللّه) ).

الإشكال الثالث: ورود أدلة الاحتياط على الصحيحة

إنّ أدلة الاحتياط واردة على الصحيحة.

توضيحه: موضوع صحيحة عبد الصمد (الجهالة) وهي تنتفي في حالتين: الأولى: العلم بالحكم الواقعي. الثانية: العلم بالوظيفة الفعلية، وأدلة الاحتياط رافعة للجهالة، فإنّ الوظيفة الفعلية معلومة وإن لم يعلم الحكم الواقعي.

لكنه موقوف على تمامية أدلة الاحتياط، وسيأتي إن شاء اللّه عدم تماميتها.

وعليه تكون الصحيحة وافية لإثبات البراءة الشرعية.

الحديث السابع: احتجاج اللّه على الناس بما آتاهم

اشارة

ما في الكافي عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان(1)، عن ابن أبي عمير(2)، عن جميل بن دراج(3)، عن ابن الطيار، عن أبي عبد اللّه× قال: «إنّ اللّه احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم»(4).

والكلام في اعتبار السند موقوف على وثاقة محمد بن إسماعيل وابن الطيار.

طرق وثاقة محمد بن إسماعيل

أما محمد بن إسماعيل فهو مشترك بين ثلاثة، محمد بن إسماعيل بن

ص: 104


1- الفضل بن شاذان، ثقة.
2- ابن أبي عمير، من أصحاب الإجماع.
3- جميل بن دراج، ثقة.
4- الكافي 1: 162.

بزيع ومحمد بن إسماعيل البرمكي وهما ثقتان، ومحمد بن إسماعيل البندقي وهو مجهول.

وهنالك طرق لرفع الجهالة عنه:

منها: ما ذكره السيد حسن الصدر في رسالته(1) لإثبات أنّ شيخ الكليني هو ابن بزيع فيكون ثقة.

ومنها: ما ذكره جمع من المتأخرين، حيث وصفوا الحديث الواقع فيه محمد بن إسماعيل بالصحة، بل نقل أنّ المتأخرين أطبقوا على ذلك غير ابن داود، وهو كافٍ في التوثيق.

ومنها: - وربما هو أقوى الطرق - أنّ الكليني صحح بالصحة القدمائية جميع ما في الكافي، وقد روى عن محمد بن إسماعيل (513) حديثاً، فتكون كثرة النقل كاشفة عن وثاقته، فإنّ كثرة الاعتماد يلازم الوثاقة المخبرية، فالقرينة داخلية لا خارجية، وتوثيق الكليني للمخبر كتوثيقات بقية الرجاليين المتقدمين حجة(2).

وهنالك طرق أخرى لتوثيقه.

ص: 105


1- نهاية الدراية: 53.
2- وهذا بخلاف ما لو كان النقل عن الراوي محدوداً، فإنه لا ملازمة بين الاعتماد عليها وبين الوثاقة المخبرية، حيث يمكن القول بوجود قرائن خارجية لصحة الخبر واجتهاده غير حجة علينا، كما لو اعتمد على خبر شخص، فإنه لا يكشف عن الوثاقة المخبرية؛ لاحتمال كون الخبر محفوفاً بالقرائن الخارجية، كموت ابن الملك المذكور في المعالم، لكن لو اعتمد عليه في موارد متعددة فيبعد أن يكون كلها محفوفاً بالقرائن، بل الاعتماد يكشف عن وثاقة المخبِر عند المخبَر (منه (رحمه اللّه) ).

وثاقة ابن الطيار

وأما ابن الطيار فقد قال البعض منهم العلامة المجلسي(1): إنّه حسن، وربما نظره إلى روايات وردت في مدحه، لكن ورودها فيه محل نظر؛ لاحتمال ورودها في مدح أبيه، بل هنالك قرائن على ذلك.

وقال في المعجم: «لا دليل على حسن الرجل فضلاً عن وثاقته»(2)، ولكنه ينافي مبناه؛ لورود محمد بن إسماعيل في تفسير القمي، وهو يدل على الوثاقة، إلاّ أنّ المبنى محل تأمل.

وبناء على ذلك تكون الرواية صحيحة أو حسنة أو ضعيفة حسب اختلاف المباني.

وهنالك سند آخر للرواية، وهو: محمد بن يحيى(3) وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى(4)، عن الحسين بن سعيد(5)، عن ابن أبي عمير(6)، عن جميل بن دراج(7)، عن ابن الطيار.

وهنالك سند ثالث سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 106


1- مرآة العقول 2: 236.
2- معجم رجال الحديث 7: 294.
3- محمد بن يحيى، ثقة.
4- أحمد بن محمد بن عيسى، ثقة.
5- الحسين بن سعيد، ثقة.
6- ابن أبي عمير، ثقة.
7- جميل بن دراج، ثقة.

البحث في مفاد الحديث

يحتمل في معنى الإيتاء والتعريف احتمالان:

الأول: أن يكونا بمعنى واحد.

الثاني: أن يكون الإيتاء إشارة إلى شرطية القدرة، والتعريف إشارة إلى شرطية العلم، وهو ظاهر العلامة المجلسي الثاني حيث قال: «بما آتاهم، أي من العقول والآلات والأدوات والجوارح والقوى، وعرفهم من أصول الدين وفروعه، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(1)»(2)

حيث يحتمل أن تكون إشارة إلى شرطية العلم والقدرة في التكليف والاحتجاج.

ووجه الاستدلال بها واضح، فإنّ حرمة المشكوك مما لم يؤته اللّه، فلا يكون مورداً للاحتجاج والمؤاخذة.

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم: «إنّ مدلوله مما لا ينكره الأخباريون»(3).

فإنّ الكبرى محل اتفاق بين الأصوليين والأخباريين، فإنّ اللّه لا يحتج ولا يؤاخذ إلا بعد الإيتاء والتعريف.

والبحث صغروي: فإنّ الأخباري قائل بالبيان بأوامر الاحتياط في

ص: 107


1- البلد: 8-10.
2- مرآة العقول 2: 221.
3- فرائد الأصول 2: 43.

الشبهات الحكمية بخلاف الأصولي، فما تفيده الرواية ليس محلاً للخلاف، وما هو محل للخلاف لا تفيده هذه الرواية.

والحاصل: إنّ أدلة الاحتياط إيتاءٌ وهي تعريف فتكون واردة على الرواية.

لكن صاحب الكفاية(1) لم يرتض الإشكال، وقال: إيجاب الاحتياط إن كان نفسياً، بحيث كان العقاب والثواب على إطاعته ومخالفته كان مدلول الرواية غير منكر لأحد، وإن كان لتنجيز الأحكام الواقعية وتصحيح المؤاخذة على مخالفتها فمدلولها ينافي ما ذهب إليه الأخباريون، فإنّ المؤاخذة على الحرمة المجهولة احتجاج بما لم يؤت ولم يعرف ولو بعد إيجاب الاحتياط.

توضيحه: إن كان المبنى أنّ وجوب الاحتياط نفسي، بحيث يكون على مخالفته العقاب وعلى إطاعته الثواب، فلا ينكر الأخباريون مدلول رواية ابن الطيار، فإنّ اللّه قد آتانا وجوب الاحتياط فيلزم في المشكوك الاحتياط.

وإن كان المبنى أنّ وجوب الاحتياط طريقي كما هو المختار، فإنما وضع الأمر لتنجيز الواقع المحتمل فالأخباريون ينكرون مدلولها، فإنّ في المشكوك حكمين:

الأول: وجوب الاحتياط، ولا موضوعية فيه ولا يترتب عليه الثواب والعقاب، بل هو طريقي، فلا يمكن القول: إنّ اللّه يعاقب عليه.

ص: 108


1- درر الفوائد 1: 198.

الثاني: الحرمة الواقعية للتتن - على فرضه - فهو مما لم يبين ولم يعرف حتى مع وجوب الاحتياط لعدم انكشافها.

وبناء على ذلك، من اقتحم المشكوك لم يعاقب، فإنّ العقاب إن كان على مخالفته أمر (احتط) فهو غير معقول؛ لعدم موضوعيته، وإن كان على مخالفته للحرمة الواقعية فغير معقول أيضاً؛ لأنها لم تعرف ولم تبين، واللّه لا يحتج إلا بما آتاهم، فالحرمة الواقعية لم تقع مورداً للتعريف فلا يعاقب ولا يؤاخذ عليها، فما ذكره الشيخ من عدم إنكار الأخباريين لمدلولها غير تام، فإنّ مدلولها مصادم لأخبار الاحتياط، حيث بينهما التعارض، فإنّ روايات الاحتياط تأمر به وهذه الرواية تجوز الاقتحام حيث لا هلكة ولا عقاب.

والحاصل: إنّ أوامر الاحتياط طريقية والحرمة الواقعية لم تعرف فلا عقاب عليهما، فتكون الرواية ناهضة لإثبات حلية المشكوك، ولا تكون أدلة الاحتياط واردة عليها، بل هما متعارضان.

وبعبارة مختصرة: المؤاخذة في المشكوك إما على مخالفة التكليف بالاحتياط أو على مخالفة التكليف الواقعي، وكلاهما غير معقول؛ لأنّ الأمر بالاحتياط طريقي والتكليف الواقعي مجهول، فتكون الرواية معارضة لأخبار الاحتياط.

لكنه لا يخلو من تأمل، فإنّ في المقام ثلاثة عناوين: المؤاخذة، والاحتجاج والإيتاء والتعريف.

ومفاد رواية ابن الطيار ثبوت الاحتجاج بما عرف لا ثبوت العقوبة على ما عرف، والعقوبة على الأمر الطريقي غير معقول، وأما الاحتجاج به فلا

ص: 109

مانع منه.

فما ذكره صاحب الكفاية من عدم معقولية المؤاخذة والعقوبة على الأمر الطريقي لا ينفي معقولية الاحتجاج بالأمر الطريقي.

وبعبارة أخرى: يمكن للمولى أن يحتج بالأوامر الطريقية في المورد المشكوك ويعاقب على مخالفة الأمر الواقعي.

ويتضح ذلك بملاحظة المولى العرفي، فلو أمر بالاحتياط فيما اشتبه عليه التكليف الواقعي، ولم يحتط العبد ووقع في مخالفة الواقع استحق العقاب على مخالفة الأمر الواقعي، فلو اعتذر العبد بأنه كان مجهولاً حق للمولى أن يقول: ألم آمرك بالاحتياط؟ فيحتج بأمر (احتط) الطريقي ويعاقب على مخالفة الأمر الواقعي.

فما ذكره الشيخ الأعظم(1) - من أنّ مفاد الرواية كون الاحتجاج فرع التعريف، وأوامر الاحتياط تعريف للوظيفة الظاهرية، ولا مانع من الاحتجاج بها فتكون واردة - تام.

منتهى الأمر أنّ أوامر الاحتياط في حد ذاتها غير تامة، كما سيأتي في محله إن شاء اللّه.

فالرواية تنهض للبراءة في الشبهات الحكمية.

الإشكال الثاني: الرواية المذكورة نقلت في باب آخر بسند آخر(2) وفي نهايتها ما يفيد خلاف المطلوب.

ص: 110


1- فرائد الأصول2: 27، 42-43.
2- ويختلف عن السندين السابقين إلا في حمزة ابن الطيار.

عدة من أصحابنا(1)، عن أحمد بن محمد بن خالد(2)، عن علي بن الحكم(3)، عن أبان الأحمر(4)، عن حمزة بن الطيار(5)، عن أبي عبد اللّه× قال: «قال لي: اكتب فأملى عليّ: إنّ من قولنا: إنّ اللّه يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولاً، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى...»(6).

والعبارة الأخيرة تدل على أنّ المراد التعريف الفطري، فإنّ التعريف نوعان:

الأول: التعريف الفطري، وهو عبارة عما أودعه اللّه سبحانه في فطرة كل إنسان، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(7).

الثاني: التعريف عبر الحجج الظاهرة، وهم الأنبياء والرسل صلوات اللّه عليهم.

وظاهر كلمة (ثم) أنّ التعريف مرحلة الحجة الباطنة، ثم جاء دور مرحلة الحجة الظاهرة.

ص: 111


1- وفي عدة الكليني بحث مطول، وقد ثبت في محله أن في كل عدة يوجد ثقة من الثقات.
2- أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ثقة وفي عدة الكليني عن البرقي يوجد علي بن إبراهيم.
3- علي بن الحكم، ثقة.
4- أبان الأحمر هو أبان بن عثمان، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثانية.
5- وقد مر الكلام فيه في السند السابق.
6- مرآة العقول 2: 236.
7- الروم: 30.

فالرواية ترتبط بمرحلة الحجة الباطنة ولا ترتبط بما نحن فيه، فإنّ البحث في المقام في إمكان إجراء البراءة لو لم تبلغنا الحجة الظاهرة.

لكنه محل تأمل لجهتين:

الجهة الأولى: على نحو البحث الكلي: لو نقلت حكايتان عن راوٍ واحد واختلف ظهورهما، ولم تكونا متنافيين تضاداً أو تناقضاً، بل كانتا متخالفين(1) فلا مانع من إثبات مؤدى الحكايتين، والنتيجة إثبات كلا المفادين.

وللتقريب بمثال: لو نقل ثقة عن زيد أنه رأى أسداً والآخر نقل عنه أنه رأى أسداً يرمي فلا تناقض بين الحكيين، ولا مانع من تصديقهما وإثبات كلا المؤديين.

والمقام كذلك، فالثقة يخبر عن ابن الطيار الرواية بلا إضافة، ولها ظهور في العموم أو الإطلاق، والثقة الآخر ينقل عنه الرواية مع إضافة، ومفادها أمر آخر وتكون النسبة بين المحكيين العموم والخصوص المطلق، فالأولى عامة والثانية خاصة، فيثبت كلا المؤديين ولا تنافي بينهما، ولا وجه ملزم لحمل أحدهما على الأخر.

الجهة الثانية: الرواية المذيلة الدالة على أنّ المراد التوحيد الفطري مذيلة بما يفيد العموم ففيها: «إنّ من قولنا: إنّ اللّه يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولاً وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه و نهى.. ثم قال أبو عبد اللّه× وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في

ص: 112


1- وهما أمران يمكن اجتماعهما بلا تضاد بينهما كالسواد والحلاوة. راجع معالم الدين: 65.

ضيق ولم تجد أحداً إلا ولله عليه الحجة». فالعبارة الأخيرة تفيد العموم، وحيث لم تنهض حجة على حرمة المشكوك فلا يحتج على العبد فيه.

الحديث الثامن: من لم يعرف شيئاً

اشارة

من الأحاديث التي استدل به للبراءة الشرعية في الشبهات الحكمية، ما ورد في الكافي عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى(1)، عن الحجال(2)، عن ثعلبة بن ميمون(3)، عن عبد الأعلى بن أعين قال: «سألت أبا عبد اللّه×: من لم يعرف(4) شيئاً هل عليه شيء؟ قال: لا»(5).

وحيث لا يعلم حرمة المشكوك فليس في اقتحامه مؤاخذة أو عقاب.

توثيق عبد الأعلى بن أعين

والكلام في تمامية سندها موقوف على وثاقة عبد الأعلى، حيث إنّ فيه كلاماً، فقد قال العلامة المجلسي في المرآة(6): إنها مجهولة لعبد الأعلى وضعفها بعض المعاصرين لذلك.

لكنه محل تأمل، فإنّ الشيخ المفيد وثقه وتوثيقه كاف، قال في الرسالة

ص: 113


1- عدة الكليني عن أحمد بن محمد بن عيسى فيهم محمد بن يحيى الأشعري العطار وهو ثقة.
2- الحجال، ثقة ثقة.
3- ثعلبة بن ميمون، ثقة.
4- يحتمل قراءته بصيغة المعلوم المجرد، ويحتمل أن يكون من باب التفعيل «من لم يُعرّف شيئاً».
5- الكافي 1: 164.
6- مرآة العقول 2: 235.

العددية(1): هو من فقهاء أصحاب الصادقين (عليهما السلام) والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، والذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم، وهم أصحاب الأصول المعروفة والمصنفات المشهورة.

وعبارته صريحة أو ظاهرة في التوثيق، وعليه تكون الرواية صحيحة.

ويرد عليه ما ينتزع من كلام الشيخ الأعظم(2) في معنى كلمة (شيئاً) حيث فيه احتمالان(3):

الأول: أن يريد بالشيء شيئاً معيناً بخصوصه، كحرمة شرب التتن، فيكون السلب سلباً جزئياً.

الثاني: إنه نكرة في سياق النفي، وهو يفيد العموم بمعنى من لم يعرف شيئاً أبداً، كمن هو في رؤوس الجبال أو البوادي البعيدة، أي الجاهل القاصر غير الملتفت إلى شيء أبداً، فلا يرتبط بما نحن فيه، ولا أقل من الإجمال(4).

وذهب المحقق العراقي(5) إلى أنّ الجاهل المطلق نوعان، إما غافل أو ملتفت، والرواية تشمل من يعيش في البوادي الملتفت إلى إمكان وجود

ص: 114


1- جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية: 25-29.
2- بصيغة الترديد.
3- فرائد الأصول 2: 42.
4- أقول: بما أنه نكرة في سياق النفي وهي تفيد العموم فيشمل: من لم يعرف شيئاً أبداً، ومن لم يعرف شيئاً بخصوصه، وذلك لمكان التعميم، فلا ينهض رداً على المدعى، فتأمل (المقرر).
5- نهاية الأفكار 3: 229.

شريعة، ولا طريق له للفحص، وبعدم القول بالفصل تشمل الشاك في حكم جزئي إذا لم يمكنه الفحص والكشف عن الواقع.

وبعبارة أخرى: الجاهل في البوادي البعيدة على ثلاثة أنواع: غافل وشاك لا طريق له للفحص، وشاك يمكنه الفحص، والثالث خارج عن الرواية قطعاً، فإنه مقصر، لكن إطلاق الرواية يشمل النوعين الأولين، فلا شيء على الثاني فيعدى إلى الشاك بالحكم الجزئي بعدم القول بالفصل.

لكنه محل تأمل لما قرر في محله من عدم حجية عدم القول بالفصل، بل الحجة: القول بعدم الفصل.

وعليه، فالرواية مجملة ولا تصلح للاستدلال على ما نحن فيه.

الحديث التاسع: عذر الناس بالجهالة

اشارة

ما ورد في الوسائل: عن الكليني، عن أبي علي الأشعري(1)، عن محمد بن عبد الجبار(2)، وعن محمد بن إسماعيل(3)، عن الفضل بن شاذان(4)، جميعاً عن صفوان(5)، عن عبد الرحمن بن الحجاج(6)، عن أبي إبراهيم×، قال: «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة(7)، أهي ممن لا

ص: 115


1- أبو علي الأشعري، أحمد بن إدريس أحد مشايخ الكليني، ثقة جليل.
2- محمد بن عبد الجبار، ثقة.
3- محمد بن إسماعيل، شيخ الكليني وقد مرّ البحث في توثيقه.
4- الفضل بن شاذان، ثقة.
5- صفوان، المراد منه هنا صفوان بن يحيى، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة، وذلك بقرينة رواية محمد بن عبد الجبار والفضل بن شاذان عنه.
6- عبد الرحمن بن الحجاج، ثقة.
7- بسبب الجهالة أو مقرونة بها.

تحل له أبداً؟ فقال لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها(1)، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك(2)، فقلت: بأي الجهالتين يعذر(3)؟ بجهالته أنّ ذلك محرم عليه(4)، أم بجهالته أنها في عدة(5)، فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى(6)، الجهالة بأن اللّه حرم ذلك عليه(7)، وذلك بأنه(8) لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها، فقلت: فإن كان أحدهما متعمداً والآخر بجهل(9) فقال: الذي

ص: 116


1- لكنه مقيد بالروايات التي تحكم بالحرمة الأبدية فيما لو تحقق الدخول، فعلة التحريم الأبدي الدخول أو العلم، وأما العقد المجرد مع افتقادهما فلا يوجب الحرمة الأبدية.
2- فالجهالة عذر في المقام وفيما هو أعظم، وقد مثل له السيد الوالد (رحمه اللّه) بالجهالة بأصول الدين، فلو كان معذوراً فيها فبطريق أولى يكون معذوراً في فروع الدين، وهكذا لو قتل محقون الدم بجهالة فهو معذور.
3- وفي بعض الكتب الأصولية: (أعذر)، فرائد الأصول 2: 44؛ أجود التقريرات 2: 182. وقد وقع البحث في كيفية قراءتها ومعناها، فقد قرئ (أعذرَ) أي دخل في العذر كأحرم دخل في الإحرام، أو (أعذر) أفعل التفضيل، بتقدير هو، أي هو أشد عذراً، أو (أُعذِر) مبني للمجهول، لكن في نسخة الوسائل والكافي (يعذر) أي ما هو منشأ إعذاره الجهالة الحكمية أو الموضوعية.
4- شبهة حكمية.
5- شبهة موضوعية.
6- وظاهرها أنه معذور سواء أكانت الشبهة موضوعية أم حكمية، ولكن أحدهما أهون ومرتكبه أعذر.
7- فالشبهة الحكمية أهون من الموضوعية.
8- أي: بسبب أنه.
9- كذا في النسخة، ولعله (يجهل).

تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً»(1).

تمامية السند

ومع التشكيك في الطريق الثاني من السند لجهالة محمد بن إسماعيل، وتردده بين ابن بزيع والبرمكي الثقتين والبندقي المجهول، إلا أنّ الطريق الأول معتبر، فتكون الرواية صحيحة. ويتم الاستدلال على ما نحن فيه بفقرة: «وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك».

وبناء عليه، فالجاهل يكون معذوراً في اقتحام المشكوك، حيث لا يعلم حرمته.

وأشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: إنَّ محل البحث في البراءة الشرعية هو الجاهل البسيط، وموضوع الصحيحة الجاهل المركب، حيث تتكفل معذوريته، وبعبارة أخرى: الصحيحة واردة في الغافل والبحث في الشاك.

ولإثبات المدعى توجد ثلاثة طرق: الجهالة والتعذير والتعليل.

الطريق الأول: الجهالة، فإنها ظاهرة في الجاهل المركب والغافل، ولا تشمل الجاهل البسيط والمتردد، وقد مرّ البحث فيه.

الطريق الثاني: التعذير، لعدم إمكان معذورية الجاهل البسيط، فإنّ الرواية أعذرت الجاهل، والجهل ثلاثة أنواع:

الأول: الجهل بانقضاء العدة، وهو شبهة موضوعية.

الثاني: الجهل بمقدار العدة، وهو شبهة مفهومية.

ص: 117


1- الكافي 5: 427؛ وسائل الشيعة20: 450.

الثالث: الشك في أصل تشريع العدة، وهو شبهة حكمية.

والشبهة في المقام إما موضوعية أو مفهومية أو حكمية.

أما النوع الأول: فلو شك في انقضاء عدتها لم يحق له الزواج بها لمكان الاستصحاب، وهو حاكم على البراءة، فلا يكون معذوراً.

أما النوع الثاني: فلو شك في مقدار العدة - كما في عدة المتعة أنها حيضة أو حيضتان - فلا يحق له أن يتزوجها، فإنّ الشبهة المفهومية فيما نحن فيه مآلها إلى الشبهة الحكمية، فيلزم الفحص، ولا يكون معذوراً في الاقتحام.

وأما النوع الثالث: فلو شك في أصل تشريع العدة - كما في ثبوت العدة للصغيرة المطلقة - فلا يحق له أن يتزوجها؛ لوجوب الفحص في الأحكام وجريان أصالة عدم نفوذ العقد، والأصل الفساد.

وبما أنّ الرواية حكمت بالمعذورية، وثبت عدم معذورية الشاك في الأنواع الثلاثة فلابد أن يكون المراد الغافل، حيث إنه معذور في جميع أنواع الشبهات.

هذا ما أفاده بعض الأكابر.

لكنه محل تأمل:

أولاً: إنَّ الحصر غير حاصر؛ لوجود قسم رابع، وهو الشك الموضوعي، أي الشك في أصل كونها معتدة، ولا مانع من الاقتحام معه، ولا إشكال في معذورية المقتحم(1).

ص: 118


1- هذا وإن لم يجدِ في المقام إلا أنه يثبت أنَّ الحصر المذكور غير حاصر.

ثانياً: ما أفاده السيد الوالد (رحمه اللّه) (1) فيما لو شك في انقضاء العدة، فإنه لا مانع من إجراء أصالة الصحة في عمل المرأة، مثلما لو علمت بأنه متزوج بأربع سابقاً ثم أقدم على خطبتها، فإنه يمكنها القبول مع جريان الاستصحاب على ذلك، وذلك لحكومة أصالة الصحة.

والحاصل: إنه معذور أيضاً في القسم الأول مع الشك والالتفات.

ثالثاً: في الشبهة المفهومية والحكمية لا مانع من كون المكلف معذوراً بعد الفحص واليأس. نعم، لا يعذر قبله.

فالقول: إنَّ المعذورية لا يمكن أن تشمل الملتفت فتختص الرواية بالغافل غير تام.

الطريق الثالث: التعليل، فقد عللت المعذورية في الصحيحة بعدم قدرة الجاهل على الاحتياط، حيث قال×: «إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأنّ اللّه حرم ذلك عليه؛ وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها»، وهي تتأتى في الجاهل المركب، حيث لا يستطيع الاحتياط، أما الجاهل البسيط - أي الشاك - فإنه قادر على الاحتياط في المشكوك، وقد ثبت في محله أنّ العلة تعمم وتخصص، فبمقتضى التعليل تكون معذورية الجاهل في الشبهات الحكمية مختصة بصورة عدم إمكان الاحتياط، فلا ينفع فيما نحن فيه.

وفي المقام إيرادان:

ص: 119


1- الأصول: 718-719.

الإيراد الأول: يمكن أن تكون المعذورية حكمة، لا علة.

لكنه غير وارد لظهوره في العلية (بأنه لا يقدر على الاحتياط معها).

الإيراد الثاني: بعد تسليم الظهور في العلية، إلاّ أنّ اللام وباء السببية استخدمت في لسان الشرع في الحكمة كثيراً، ومع الكثرة لا يبقى لها ظهور في العلية.

لكنه غير وارد أيضاً: فإنّ استخدام اللفظ الظاهر في معنى في معنى آخر لا يستلزم فقدان الظهور الأولي، بل هو محفوظ مع عدم وجود القرينة على الخلاف، إلا فيما لو أوجب النقل إلى المعنى الثاني أو الاشتراك بين المعنيين.

ونظيره صيغة (افعل) حيث كثر استعمالها في الندب، ومع ذلك لم يستلزم فقدان الظهور الأولي عند المشهور خلافاً لصاحب المعالم(1).

والحاصل: إنّ الإشكال الأول بطريقه الثالث وارد على الاستدلال بالصحيحة.

الإشكال الثاني: إنَّ الإعذار يتنوع إلى نوعين:

الأول: الإعذار بلحاظ الحكم التكليفي، والمراد به عدم استحقاق المؤاخذة والعقاب.

الثاني: الإعذار بلحاظ الحكم الوضعي، والمراد به عدم البطلان وعدم الحرمة الأبدية.

ص: 120


1- معالم الدين: 51.

ومحل البحث في البراءة الإعذار بالمعنى الأول، والرواية ناظرة إلى الإعذار بالمعنى الثاني، حيث إنّ الحكم الوضعي هو مصب الكلام فيها.

لكنه قابل للتأمل بأنّ العبرة بعموم القاعدة لا بخصوص المورد، وهي: «وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» حيث إنها قاعدة عامة لا يخصصها خصوص المورد.

لكنه يحتاج إلى مزيد من التأمل، فإنه موقوف على إطلاق (يعذر) والإطلاق موقوف على كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة التي يراد انتزاع الإطلاق منها، والظاهر أنّ المولى ليس في مقام البيان من هذه الجهة، لا أقل من كون الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية عن صرف المطلق عن إطلاقه، ومثله مانع عن انعقاد الإطلاق.

فتحصل من جميع ذلك أنّ دلالة الرواية على البراءة محل تأمل.

عدم قبول الأحكام الوضعية للتشكيك

لكن قال البعض(1): إنّ الرواية ناظرة إلى الحكم التكليفي لا الوضعي، وهو مبني على كبرى كلية تكررت في الأصول والفقه في مواقع مختلفة وهي: أنّ الأحكام الوضعية لا تقبل التشكيك، فإنّ أمرها دائر بين الوجود والعدم، كالزوجية الاعتبارية، فهي إما موجودة أو لا، ولا معنى لأشدية زوجية هند لزيد من دعد لخالد.

إلا أنه محل تأمل؛ لأنّ الأحكام الوضعية أمور اعتبارية، وكما أنّ مفاد كان التامة فيها قابل للاعتبار كذلك مفاد كان الناقصة. نعم، في المقامين

ص: 121


1- أجود التقريرات 2: 183؛ درر الفوائد 2: 447؛ نهاية الأفكار 3: 232.

الأمر بحاجة إلى مصحح عقلائي، ومعه لا مانع من اعتبار الشدة والضعف في الأمور الاعتبارية، ففي موثقة ابن أبي يعفور: «فإن اللّه تبارك وتعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب وأن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه»(1)، فالنجاسة - وهي حكم وضعي - قابلة للتشكيك.

وقد سأل الإمام الصادق× أبا حنيفة أنّ البول أطهر أم المني؟(2).

وفي الآية الكريمة: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا}(3) وقد قال البعض(4): إنه صيغة فعول وهي من صيغ المبالغة(5)، فيكون المعنى: أنزلنا من السماء ماءً شديداً في الطهارة الاعتبارية، وكما أنّ النظافة التكوينية لها مراتب كذلك ماء المطر له درجة من الطهارة الاعتبارية التي لا يصل إليها ماء النهر مثلاً.

وأما تطبيق الكبرى على المقام على فرض تسليمها فقد قالوا: التعبير بالأعذرية(6)

والأهونية في الرواية أنما هو بلحاظ الحكم التكليفي؛ لأنه قابل للتشكيك، وأما الحكم الوضعي فلا يقبل التشكيك.

لكنه محل تأمل، فليس البحث حول الحكم الوضعي والتكليفي، بل

ص: 122


1- وسائل الشيعة 1: 220.
2- وسائل الشيعة 27: 48.
3- الفرقان: 48.
4- ينابيع الأحكام 1: 33.
5- كالأكول.
6- وقد سبق أنه لم نجد الأعذرية في الرواية، بل (يعذر) وعلى فرضه لم يعلم أنه بمعنى أفعل التفضيل، بل يمكن أن يكون فعلاً ماضياً مجهولاً أو معلوماً (منه (رحمه اللّه) ).

حول الأعذرية بلحاظهما، فقد يكون منشأ العذر قوياً، فيكون المكلف أعذر، وقد يكون ضعيفاً، فيكون المكلف معذوراً، كما أنه قد يكون منشأ العذر متعدداً وقد يكون متحداً، ولا مانع من استخدام أفعل التفضيل بلحاظ ضعف وقوة المنشأ أو اتحاده وتعدده.

وعليه فالجاهل جهلاً مركباً بلحاظ الحرمة الأبدية والبطلان أعذر، أما البسيط فهو معذور؛ لأنّ الأول أبعد من العلم بخلاف الثاني فإنه أقرب لتركبه من العلم والجهل.

تنبيه: لو كان الجاهل غافلاً فلا يمكنه الاحتياط، سواء أكان جهله متعلقاً بالموضوع الخارجي أم بالحكم الشرعي، فمع فرض الغفلة عن الموضوع أو الحكم فالمكلف لا يستطيع الاحتياط؛ لأنه فرع الشك وهو منتف معها.

وأما القادر على الاحتياط فهو الجاهل البسيط، سواء أكان شاكاً في الحكم أم في الموضوع.

وقد علل في الرواية أهونية الجهل بالحرمة من الجهل بالعدة بأنه لا يقدر على الاحتياط، فالجاهل بالحكم لا يستطيع الاحتياط بخلاف الجاهل بالموضوع، فما هو وجه التفريق بينهما؟ فإنّ التعليل جار في الاثنين فيما لو كان غافلاً، بخلاف ما لو كان شاكاً حيث لا يجري فيهما.

وأجيب عنه بجوابين:

الجواب الأول: إنَّ التفكيك في المعنى، فإنّ الجهالة بالحرمة بمعنى الغفلة، والجهالة بالعدة بمعنى الشك، والغافل لا يستطيع الاحتياط بخلاف الشاك.

ص: 123

لكنه خلاف الظاهر، فحمل الجهالة الأولى على الغفلة والثانية على الشاك خلاف وحدة السياق.

الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية في الدرر(1)، قال: التفريق أنما هو لأجل الغلبة الخارجية لا لاختلاف معنى الجهالة، فللجهالة معنى واحد، إلا أنّ الجهل بالحكم مقارن بالغفلة غالباً، فلا يستطيع الاحتياط، وأما الجهل بالموضوع فمقارن بالشك غالباً، فيستطيع الاحتياط، فالوجه في التفريق اختلاف المصاديق لا اختلاف المعنى العام للجهالة.

وتوضيحه: إنّ الذين يتزوجون المرأة وهي في العدة على نوعين(2):

الأول: الجاهل بالحكم، وهؤلاء - عادة - أفراد بعيدون عن الأجواء الدينية، كمن يعيش في قرية منقطعة أو صحاري بعيدة أو من هو جديد الإيمان(3) وهو - عادة - جاهل غافل حيث لم يخطر في ذهنه احتمال الحرمة، فيكون التعليل في حقه تاماً؛ لأنه لا يقدر على الاحتياط، فإنه فرع الالتفات والشك.

الثاني: الجاهل بالموضوع، وهؤلاء - عادة - يعلمون الحكم الكلي(4)، فمن يريد الزواج يسأل عن الخصوصيات عادة، ككونها ذات بعل أم لا؟ بكراً أم لا؟ ولذلك من يتزوج المرأة المعتدة جهلاً بالموضوع ينقدح في

ص: 124


1- درر الفوائد 1: 199-201.
2- بغض النظر عن الملتزمين والذين لا يبالون بالحكم الشرعي.
3- أما من كان محشوراً مع المتدينين فهو يعرف الحكم عادة.
4- إلا من كان بعيداً عن الأجواء الدينية.

ذهنه - عادة - أنها معتدة أم لا؟ كما يظهر ذلك بوضوح في المسافرين إلى البلاد الغربية والمتزوجين متعة، ففي الكثير من الموارد ينقدح الشك عندهم، وإنما يقدمون على الزواج لأصالة الصحة أو البراءة أو لغير ذلك، ومع هذا الشك كان يمكنه الاحتياط. فالفارق هو الغلبة الخارجية.

لكن أشكل عليه المحقق الحائري، قال(1): إنّ وضوح الحكم بين المسلمين كما يوجب عدم الشك مع الالتفات كذلك غلبة التفتيش عن حال المرأة توجب عدم بقاء الشك بحاله(2)، فالتعرض لحكم الشك في الشبهة في العدة تعرض للفرد النادر. لكنه غير واضح لوجود عنوانين: الأول: حمل الدليل على الفرد النادر، الثاني: نظر الدليل إلى الفرد النادر، ولا يصح الأول بينما الثاني لا إشكال فيه.

وفي المقام أولاً: لا نسلم أنه فرد نادر؛ لبقاء الشك في الكثير من الموارد كما في المسافرين، وثانياً: لو سلم أنه فرد نادر فلا محذور في بادئ النظر أن ينظر الدليل إلى الفرد النادر ويحكم بوجوبه أو حرمته.

وربما المراد من الأمر بالتأمل في آخر كلامه هو ما ذكرناه.

الحديث العاشر: من عمل بما علم كفي ما لم يعلم

ما ورد في البحار عن أبي عبد اللّه×: «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم»(3).

ص: 125


1- درر الفوائد 2: 448.
2- فإنه مع الفحص يرتفع الشك.
3- بحار الأنوار 2: 280، نقلاً عن توحيد الصدوق (رحمه اللّه) .

والظاهر تمامية دلالته، فمن عمل بالواجبات وترك المحرمات التي يعرفها كفي ما لم يعلم، ومعنى الكفاية عدم الحرج والتبعة عليه، وظاهره أنه لا شيء عليه غير ذلك، ومن مصاديقه ارتكاب المشكوك إلا على القول بكون أوامر الاحتياط علماً، فيدخل المشكوك بما علم، والجواب أنها غير تامة.

لكنه غير تام سنداً؛ لمكان القاسم بن محمد الإصبهاني، سواء أكان متحداً مع قاسم بن محمد الجوهري، كما ذهب إليه البعض، أم مختلفاً كما ذهب إليه آخرون، فكلاهما مجهولان(1). فالرواية ضعيفة.

الدليل الثالث: الإجماع

وقد استدل بالإجماع على البراءة في الشبهات الحكمية(2).

لكن أشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: إنَّ الإجماع المدعى إما إجماع على البراءة فيما لم يصل بنفسه، فالكبرى ممنوعة، أو إجماع عليها فيما لم يصل لا بنفسه ولا بطريقه(3)، فالصغرى ممنوعة.

أما الأول: فلا إجماع على الكبرى؛ لمخالفة جمهرة كبيرة من العلماء لذلك كالأخباريين - عموماً - حيث أوجبوا الاحتياط في الشبهات التحريمية(4)،

وإن لم يصل التحريم بنفسه، بل قال بذلك الإسترابادي في

ص: 126


1- مباحث الأصول 3: 322.
2- أوثق الوسائل: 344.
3- وبعبارة أخرى: لا بالعنوان الذاتي ولا بالعنوان العرضي، وبتعبير ثالث لا بالوجه ولا بالكنه.
4- مجمع الأفكار ومطرح الأنظار 3: 323؛ دروس في علم الأصول 3: 330.

مطلق الشبهات الحكمية التحريمة أو الوجوبية(1).

أما الثاني: فالكبرى مسلمة ولم يقع فيها خلاف، لكنها لا تنفع في المقام لادعائهم وصول التحريم بطريقه.

الإشكال الثاني: لو سلم وجود الإجماع على الكبرى والصغرى في المقام إلا أنه مقطوع الاستناد، أو مظنونه أو محتمله بالأدلة الأخرى كالآيات والروايات، والمعروف بين الأصوليين أنه ليس بحجة.

وبعبارة أخرى: لا نقطع بكون الإجماع تعبدياً، كي يكون كاشفاً عن رأي المعصوم× بالكشف الإني.

الدليل الرابع: دليل العقل

اشارة

وله تقريران: الأول: ما ذكره المشهور، الثاني: ما ذكر في الغنية.

التقرير الأول: التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان

أما التقرير الأول: فهو التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولتنقيح الدليل ينبغي البحث في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الجهة الثانية: في ثبوت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الجهة الثالثة: في كيفية الجمع بين القاعدتين في المقام.

الجهة الأولى: في ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان

فالمعروف بين الأصوليين ثبوت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بل نقل

ص: 127


1- الفوائد المدنية والشواهد المكية: 92.

أنها كادت تكون إجماعية بين الأصوليين من زمن الوحيد البهبهاني (رحمه اللّه) ، بل أضاف البعض إليها قاعدة (قبح العتاب بلا بيان).

ولتقريب القاعدة وجوه:

1) قبح العقاب على مخالفة ما لا يقتضي التحريك

التقريب الأول: ما ذكره المحقق النائيني، وحاصله: يقبح للمولى أن يعاقب العبد على ترك التحرك في صورة عدم وجود المقتضي للتحرك، وبعبارة أخرى: قبح العقاب على مخالفة ما لا يقتضي التحريك.

ويمكن تحليل عبارته إلى صغرى وكبرى:

أما الصغرى فقد قال: «إنّ الأحكام الواقعية - بعد وضوح أنها لا تكون محركة للعبد إلا بالإرادة - لا تعقل محركيتها إلا بعد الوصول، ضرورة عدم إمكان الانبعاث إلا عن البعث بوجوده العلمي دون الخارجي»(1).

والظاهر عدم ارتباط المقطع الأول من الصغرى بمحل الكلام إلا بعنوان المقدمية، فمن البديهي أنّ الوجود الواقعي غير قابل للمحركية إلا إذا تلبس بالصورة العلمية(2)،

وقد مرّ سابقاً أنّ بينهما عموماً من وجه، والمحرك هو الوجود العلمي لا الواقعي، فالعاقل لا يتحرك مع تحقق الوجود الواقعي من دون الوجود العلمي، كما أنه يتحرك نحو المطلوب مع تحقق الوجود العلمي وإن لم يتحقق الوجود الواقعي.

ص: 128


1- أجود التقريرات 2: 186.
2- فالأسد بوجوده الواقعي لا يقتضي الفرار إلا مع وجود صورته العلمية.

والمراد بالوجود العلمي وجود الصورة الذهنية سواء أكانت علماً أم ظناً أم شكاً أم وهماً، فإن الوجود الوهمي أيضاً قابل للتحريك.

وليس البحث في البراءة في الغافل بالمرة، فإنه لا إشكال في معذوريته إن لم يكن مقصراً في المقدمات، وإنما البحث في المجتهد، فإنّ الحكم بحرمة الشيء موجود عنده بصورة من صوره الذهنية ظناً أو شكاً أو وهماً.

فما ذكر - من عدم معقولية محركية الحكم الواقعي إلا بعد الوصول ضرورة عدم إمكان الانبعاث إلا عن البعث بوجوده العلمي دون الخارجي - أنما هو بعنوان المقدمية، وهو شرط محقق في المقام، فإنّ حرمة الشيء لها وجود علمي بالمعنى الأعم للعلم.

ثم قال(1): «وأما الحكم المحتمل فهو بنفسه غير قابل للمحركية - أيضاً - لتساوي احتمال الوجود مع احتمال عدمه»(2).

لكنه يحتاج إلى ضميمة خارجية - وكأنه جعلها مفروضة - وهي: (والظن غير معتبر)، فمن الممكن أن يظن المجتهد بحرمة الشيء، والبحث في البراءة أعم من الشك والظن والوهم.

وأما الكبرى: فقال: «وإذا كان الحكم بوجوده الواقعي غير قابل للمحركية أصلاً ووجوده الاحتمالي غير قابل لها بنفسه(3)

فالعقاب على مخالفته عند عدم وصوله عقاب على مخالفة حكم لا اقتضاء له للمحركية،

ص: 129


1- وهو محل الكلام في البراءة.
2- أجود التقريرات 2: 186.
3- في مقابل الضميمة الخارجية.

ولا ريب في قبح ذلك»(1).

لكنه محل تأمل لوجهين

1- الحكم المحتمل قابل للمحركية

الأول: إنّ للوجود الاحتمالي حالتين: الأولى: أن يكون في المقام غرض لازم الاستيفاء، الثانية: أن لا يكون غرض لازم الاستيفاء.

وعمدة كلامه عدم قابلية الحكم المحتمل للمحركية، لكنه إنما يتم في الحالة الثانية، أما في الحالة الأولى فإنّ الحكم المحتمل قابل ولازم للمحركية.

مثلاً: مَنْ احتمل وجود الماء فهل هذا الماء المحتمل قابل للمحركية؟ الجواب: إن كان مشرفاً على الموت نعم، ولذا سعت السيدة هاجر بين الصفا والمروة، وعليه، في الماء حالتان، بل أكثر فأحياناً: واجب المحركية وأحيانا راجح أو محال أو مرجوح.

ولم يتضح من كلام المحقق النائيني أن الحرمة المحتملة في شرب التتن - مثلاً - هل يتعلق باستيفائها غرض لازم أو لا؟ فلو كان لازم الاستيفاء وجب الانبعاث نحوه، ولا قبح في العقوبة على مخالفته، ولو لم يكن لازم الاستيفاء لم يجب التحرك نحوه ويقبح العقاب عليه.

وبعبارة أخرى: ما ذكره المحقق لم يحل العقدة، فإنّ البحث في قبح العقاب على الوجود الاحتمالي للحكم، وما ذكره إعادة المدعى بصياغة

ص: 130


1- أجود التقريرات 2: 186.

أخرى، حيث قال: العقاب على الحكم المحتمل قبيح، وهو عين البحث.

2- قبح التصرف في ملك الغير من دون إحراز الرضا

الثاني: وهذا الوجه لا يخل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكنه مخل بالنتيجة التي توخاها من إثبات البراءة بها، فلو سلمنا بالقاعدة إلا أنّ النتيجة ليست البراءة، فإنّ إعمالها - في خصوص المقام - مبتلى بعرض لازم غير مفارق يخل بنتيجتها، وهو أنّ المقتضي للتحريك - في خصوص المقام - موجود، وهو قبح التصرف في ملك الغير بدون إذنه، بل بدون إحراز إذنه، فإنّ التصرف في ملك الغير متوقف على إحراز رضاه، ومع الشك أو الظن برضاه لا يحق التصرف في ملكه عقلاً وشرعاً.

وفي المقام: الاقتحام في المحرمات تصرف في ملك اللّه تعالى بالملكية الحقيقية، وإذا قبح التصرف بلا إذن في مملوك الغير بالملكية الاعتبارية فكيف بالمملوك بالملكية الحقيقة؟! والذي يقتحم في الشبهة التحريمية أنما تصرف في ملك اللّه تعالى، ولا يعلم رضاه سبحانه بذلك، بل نفس الأعضاء والجوارح الظاهرية و الباطنية مملوكة لله عزَّ وجلَّ، فكيف يتصرف بها بدون إحراز رضاه؟!

نعم، تتم قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) في المولى العرفي، كما فيما بين الأب والابن والخادم والمستخدم فيما لم يكن تصرفاً في ملك الغير، أما في المولى والعبد الحقيقي فالقاعدة تحكم بعدم جواز التصرف، وهي المقتضية للانبعاث والانزجار.

فما ذكر في الوجه الأول لا يخلو من غموض.

ص: 131

2) قبح العقاب على ما لا يستند إلى المكلف

التقريب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني أيضاً، وحاصله: قبح العقاب على ما لا يستند إلى المكلف.

قال(1): إن عدم العقاب في مورد عدم البيان الواصل إنما هو لأجل أنّ فوات مطلوب المولى لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة، واليأس عن الظفر به في مظان وجوده، بل فواته إما أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوف مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة، وإما أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلف، وعلى كل تقدير لا يستند الفوات إلى العبد، فلأجل ذلك يستقل العقل بقبح مؤاخذته.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: لا يلزم في استناد الفعل إلى المكلف أن يكون جميع مقدماته اختيارياً، بل يكفي اختيارية بعضها.

مثلاً: لتحقق القتل ظلماً مقدمات، كوجود المقتول والقاتل وآلة القتل الحادة، وعدم صلابة رقبة المقتول، وقدرة القاتل وتمكنه من الإرادة والاختيار وغير ذلك، وجميعها غير اختيارية، ومع ذلك يسند الفعل إلى الفاعل؛ لأنّ إرادة القتل وحركة العضلات نحو المقصود اختيارية، وهذا المقدار كافٍ في اختيارية الفعل.

ص: 132


1- فوائد الأصول 3: 363.

وفي المقام إقدام المكلف على اقتحام المشكوك اختياري فيسند الفعل إليه، فلا يتم قوله: «إنّ فوات مطلوب المولى لم يستند إلى المكلف».

نعم، إخفاء الظالمين للأحكام ليس اختيارياً للمكلف، وهكذا نزول المطر على كتب ابن أبي عمير وتلفها.

وأما قوله: (بعد إعمال وظيفته) ففيه أنّ كون الوظيفة مجرد الفحص إلى حد اليأس أول الكلام، حيث لم يُقِمْ برهاناً على ذلك، فربما تكون الوظيفة مضافاً إلى ما ذكر التوقف وعدم الاقتحام في الشبهة الحكمية.

الجهة الثانية: مخالفة المكلف للوظيفة العقلية والشرعية، فإنهما مطبقان على قبح أو حرمة التصرف في ملك الغير بدون إحراز إذنه، كما مرّ توضيحه في البحث السابق.

3) قبح العقاب مع عدم التكليف ثبوتاً

التقريب الثالث: ما ذكره في النهاية(1) وتوضيحه مع تجزئة عبارته إلی أقسام:

الأول: «إن مدار الإطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي» فإنّ الحكم إما إنشائي أو حقيقي، ولا تتحقق الطاعة والعصيان بالنسبة إلى الحكم الإنشائي، بل مدارهما على وجود الحكم الحقيقي.

الثاني: «وإنّ الحكم الحقيقي متقوم بنحو من أنحاء الوصول؛ لعدم معقولية تأثير الإنشاء الواقعي في انقداح الداعي».

فإنّ التكليف الحقيقي هو التكليف الذي يمكن أن يكون داعياً وباعثاً

ص: 133


1- نهاية الدراية 2: 461.

لحركة المكلف نحو المطلوب، ولا يمكن فرضه إلا في صورة وصول الحكم إليه، أما الحكم ثبوتاً فلا يعقل أن يكون محركاً.

«وحينئذ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول» فإنّ مقوم كون التكليف تكليفاً إمكان الداعوية وهو متقوم بالوصول.

الثالث: «فلا مخالفة للتكليف الحقيقي» فلو اقتحم المكلف المشكوك لم يخالف التكليف؛ لعدم حرمته واقعاً؛ لعدم وصوله إلى المكلف.

الرابع: فالنتيجة «فلا عقاب».

وهذا طريق جديد، فإنّ المتبادر من قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) هو وجود التكليف في صقع الواقع، ولكن يقبح العقاب عليه حيث لم يصل إلى المكلف، ومفاد هذا الطريق عدم العقاب؛ لعدم التكليف فيكون سالبة بانتفاء الموضوع.

ثم عقب(1) بأنّ هذا الطريق - مع صحته - ليس مبنى البراءة العقلية، لاتفاقهم عليها واختلافهم في تقوم الحكم بالوصول.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ التكليف اعتبار، و لا يشترط فيه إمكان الداعوية.

إن قلت: يستلزم ذلك اللغوية.

قلت: لا يكون كذلك مع وجود المصحح العقلائي، ولا يلزم أن يكون المصحح إمكان الداعوية، وعليه يمكن أن يكون الحكم الحقيقي موجوداً وإن لم يكن إمكان الداعوية والباعثية.

ص: 134


1- نهاية الدراية 2: 462.

مثلاً: لو بلغ الصبي قبل أذان الفجر وهو نائم حتى طلعت الشمس وجب عليه القضاء(1) - وهو فرع التكليف بالأداء - مع عدم إمكان التكليف بالأداء للباعثية، فإذن إمكان الداعوية ليس مقوماً للتكليف. نعم، لا بد أن يكون لهذا الاعتبار مصحح عقلائي، ولو لم يمكن فيه الداعوية في وقته.

ثانياً: سلمنا أنَّ مقوم التكليف إمكان الباعثية والداعوية، لكن عدم إمكانها أنما هو في التكليف الواقعي لو كان مغفولاً عنه، بخلاف ما لو كان محتملاً، كما هو محل الكلام في البراءة العقلية، كنبع العين الواقعية فيما لو احتمل وجودها تحت الأرض، فيمكن أن تكون محركة للعضلات لحفر الأرض، وفي المقام إمكان الداعوية متحقق لوجود الاحتمال.

فما ذكر في الثاني(2) - من أنّ الحكم الحقيقي متقوم بجعل ما يمكن أن يكون داعياً ولا إمكان للداعوية مع عدم الوصول - محلّ تأمل.

ثالثاً: الرابع(3) أيضاً محلّ تأمل؛ لأنّ العقاب غير منحصر في مخالفة التكليف الحقيقي، بل هو ثابت أيضاً على تفويت غرض المولى، وقد مثلنا سابقاً بغرق ابن المولى وهو نائم حيث يجب على العبد إنقاذه مع عدم صدور أمر من المولى بذلك، مع أنه لو لم يفعل لم يفوت تكليف المولى وإنما فوت غرضه.

وفي المقام، اقتحام المشكوك قد يفوت غرض المولى، ولم يبرهن على أنَّ احتمال تفويت غرضه لا يوجب العقاب.

ص: 135


1- حتى على مبنى وجود الوجوب التعليقي.
2- من التقسيم الذي ذكره السيد الاستاذ (رحمه اللّه) .
3- من التقسيم الذي ذكره السيد الاستاذ (رحمه اللّه) .

4) ملاك حكم العقل بقبح العقاب

التقريب الرابع: ما ذكره في النهاية أيضاً(1)

قال: إنّ هذا الحكم العقلي(2) حكم عقلي عملي(3) بملاك التحسين والتقبيح العقليين(4)، ومثله مأخوذ من الأحكام العقلائية(5) التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع(6)، وحكم العقل بقبح العقاب ليس حكماً عقلياً منفرداً عن سائر الأحكام العقلية العملية، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء(7)؛ نظراً(8) إلى أنَّ مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن زي الرقية

ص: 136


1- نهاية الدراية 2: 461.
2- أي حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
3- فإنَّ الأحكام العقلية نوعان: النظرية والعملية، فلو تعلق إدراك العقل بما ينبغي أن يعلم فالحكم نظري، كإدراك العقل عدم اجتماع النقيضين، ولو تعلق بما ينبغي أن يعمل أو لا يعمل فالحكم عقلي عملي، وفي المقام حينما يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فهو حكم العقل العملي؛ لأنه متعلق بما ينبغي أن لا يعمل، فإن العقاب عمل.
4- فإن التحسين والتقبيح العقليين ملاك الأحكام العقلية العملية، ومع إنكار المبنى لا معنى للقول بقبح العقاب بلا بيان.
5- فإن الأحكام العقلية العملية مآلها إلى الأحكام العقلائية.
6- فإن حقيقة الأحكام العقلائية الأشياء التي تطابقت عليها آراء العقلاء؛ لعلة حفظ النظام وإبقاء النوع البشري، وهي مرجع الأحكام العقلية العملية.
7- فإن جميع الأحكام العقلية العملية - كقبح الكذب وحسن الصدق - تندرج تحت حكمين عقليين عمليين، وهما قبح الظلم وحسن العدل، فالخيانة والكذب وسلب حقوق الغير وغيرها، نوع من أنواع الظلم، وفي المقام حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقلياً منفرداً عن سائر الأحكام العقلية العملية، بل هو مصداق من مصاديق قبح الظلم.
8- تعليل لحكم العقل بقبح العقاب.

ورسم العبودية، وهو ظلم من العبد على مولاه، فيستحق منه الذم والعقاب(1)، كما أن مخالفة ما لم تقم عليه الحجة ليست من أفراد الظلم(2)، إذ ليس من زي الرقّية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر(3)، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجة خروجاً عن زي الرقّية حتى يكون ظلماً، وحينئذ فالعقوبة عليه ظلم من المولى على عبده(4)، إذ الذم على ما لا يذم عليه، والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض من المولى على عبده، وإيذاء بحت بلا موجب عقلائي، فهو ظلم والظلم بنوعه يؤدّي إلى فساد النوع، واختلال النظام، وهو قبيح من كل أحد، بالإضافة إلى كل أحد، ولو من المولى إلى عبده.

هذا ما اعتمد عليه في النهاية لإثبات قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

لكنه محل تأمل من وجوه:

الوجه الأول: إنَّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجة نوعان:

ص: 137


1- فلو قامت الحجة على حكم فمقتضى العبودية الامتثال، ومع المخالفة يخرج العبد عن زي العبودية وهو ظلم، فالعبد ظالم، والعقوبة على الظلم ليست ظلماً، فلا يقبح العقاب مع البيان؛ لأنَّ العقاب ليس ظلماً.
2- فلو شرب الخمر، الذي لم تقم على خمريته الحجة، كما لو كان جاهلاً، فليس من ظلم العبد لمولاه.
3- فإنَّ شرب الخمر الواقعي الذي لم تقم عليه الحجة لا ينافي العبودية، وعليه لو شرب الخمر جاهلاً لم يخرج عن طريق العبودية، فلم يظلم مولاه.
4- فلو عاقب المولى عبده على شرب الخمر كان ظلماً منه؛ لأن العبد لم يخرج عن جادة العبودية بشربه الخمر المجهول.

النوع الأول: أن تكون المخالفة مع الغفلة، كشرب الخمر.

النوع الثاني: أن تكون المخالفة مع الشك والتردد.

أما الأول: فهذه المخالفة ليست ظلماً، وليست خروجاً عن طريق العبودية، وأما الثاني: فعدم كونه ظلماً أول الكلام، فجوهر استدلاله(1) مصادرة، فإنَّ البحث في أن المخالفة مع الشك والتردد هل هو ظلم وخروج عن رسم العبودية أم لا؟

الوجه الثاني: لقد قامت الحجة - وهي حكم العقل والشرع - بقبح التصرف في مال الغير وملكه بدون إحراز رضايته، كما سبق بيانه.

الوجه الثالث ما ذكره في المنتقى(2):

«لا نسلم أنَّ العقاب على المخالفة ظلم من المولى الشرعي، ولو سُلّم أنَّ المخالفة ليست خروجاً عن زي الرقية؛ لأنَّ الظلم هو الخروج عن الحقوق والحدود المفروضة بين الطرفين، وهذا إنما يتأتى بالنسبة إلى المولى العرفي وعبده، أما المولى الحقيقي فلا يتصور فيه ذلك، فإنَّ العبد لمولاه وبيده تكويناً واعتباراً يتصرف فيه كيف يشاء، ولا حق للعبد على المولى كي يكون الخروج عنه ظلماً».

فمع التسليم بأنَّ المخالفة ليست خروجاً عن طريق العبودية، إلا أنَّ عقوبة العبد ليست ظلماً.

لكنه محل تأمل، لصعوبة الالتزام بلوازمه، فعلى سبيل المثال:

ص: 138


1- وهو «أن مخالفة ما لم تقم عليه الحجة ليست من أفراد الظلم، وليست خروجاً عن رسم العبودية وزي الرقية».
2- منتقى الأصول 4: 444.

أولاً: عدم قبح التكليف بما لا يطاق، فيكلف المولى العبد بما لا يطاق، ثم يعاقبه على عدم الفعل؛ لأن العبد لمولاه يتصرف فيه كيف يشاء تكويناً واعتباراً، ولا يكون ظلماً !

وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

ثانياً: إمكان عقاب المؤمنين المطيعين المخلصين، كأن يُلقي بأحدهم في قعر جهنم والعكس بالعكس، كأن يُكرم الكافر الفاسق في صدر الجنة؛ لأن العبد لمولاه يتصرف فيه كيف يشاء ولا يكون ظلماً؛ لأن الظلم إنما يتحقق بتجاوز الحدود بين المولى والعبد العرفي - أما الحقيقي فلا حدود بينه وبين عبده.

وهل يمكن الالتزام بهذا اللازم؟!

ثالثاً: إمكان إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين؛ لعدم قبحه، فإنَّ الملك ملكه يصنع به ما يشاء ويتصرف فيه كيفما شاء، فينسد باب إثبات النبوات، حيث لا حدود بين المولى الحقيقي وعبده أصلاً فيصنع ما شاء !!

وهذا هو الفرق بين العدلية والأشاعرة في بادئ النظر، فبينما يقولون بإمكانه نرى أنه ممتنع بالامتناع الغيري، بلحاظ حكمته وكماله، فلا يمكن صدوره عنه وإن لم يكن ممتنعاً بالامتناع الذاتي.

وظواهر القرآن الكريم تؤيده حيث قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}(1) فمع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي الإلهي يكون العمل عدلاً وإحساناً، أو

ص: 139


1- النحل: 90.

فحشاء ومنكراً، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ}(1)، وقال عزّوجلّ: {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء}(2)، وقال تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(3)، فمِنَ المستنَكَر أن يكون مثل أبي جهل في صدر الجنة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين×: «وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها»(4) فهو منكر لا يمكن وقوعه.

وليس اللّه تبارك وتعالى مجبوراً فيكون ذلك ممكناً ذاتاً، لكنه غير ممكن وقوعاً لحكمته عزّ وجلّ فالحكمة والكمال مانعة عن ذلك(5).

فما ذكره أكثر من مرة وبنى عليه - من أنَّ العبد لم يخرج عن طريق العبودية، ولم يظلم مولاه، لكن لا يقبح عقاب اللّه إياه لعدم كونه ظلماً، حيث لا حدود بين المولى الحقيقي وعبده، وأنَّ كلَّ ما يفعله المولى ليس ظلماً، بل هو عين العدل - محل تأمل، فإنَّ الظلم وإن كان ممكناً بالإمكان الذاتي لله سبحانه، لكنه ممتنع بالامتناع الواقعي.

تذنيبان

ويبقى الكلام في تذنيبين للتقريب الرابع:

ص: 140


1- الأعراف: 33.
2- الأعراف: 28
3- القلم: 35-36.
4- نهج البلاغة 2: 217.
5- وللتقريب إلى الذهن نمثل بالأم الرحيمة الشفيقة على رضيعها، حيث يمكن ذاتاً أن تقتله، ولكن بلحاظ عقلها وشفقتها ورأفتها يكون ذلك ممتنعاً.

التذنيب الأول: لقد تكرر في كلمات المحقق الإصفهاني(1) في مقامات متعددة أنَّ الأحكام العقلية العملية، التي هي مبنية على التحسين والتقبيح العقليين، مأخوذة من الأحكام العقلائية، وهي التي تطابق عليها آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، وقد رتب على ذلك آثاراً عديدة.

لكنه قابل للتأمل من وجوه:

أولاً: السؤال عن علّة بناء العقلاء على الأحكام المذكورة، فلا يعقل أن يكون ذلك عبثاً واعتباطاً من دون سبب، وهو أيضاً لا يرتضي ذلك، حيث يرى أنها معللة بحفظ النظام وبقاء النوع، حيث يختل النظام البشري مع الظلم ويقع النوع في معرض الخطر. فننقل الكلام إلى قضية حفظ النظام وإبقاء النوع، فلابد أن يكون ذلك حسناً حتى يكون علة لحكم العقلاء بحسن العدل، فهل حسنه ذاتي عقلي، أو ناشئ عن بناء العقلاء واتفاقهم على حسن حفظ النظام، فإن كان حسنه مُدرَكاً عقلياً ثبت أنَّ هنالك حسناً ذاتياً للأشياء، وهو ما ينكره، وإن كان حسنه لاتفاق العقلاء على ضرورة حفظ النظام فنتساءل عن علة الاتفاق المذكور، ولماذا لم يتفقوا على عكسه؟ فإن لم يكن له علة فلا يعقل اتفاق العقلاء على شيء من دون علة، وإن كان له علة فينقل الكلام إليها، ولا بد أن ننتهي أخيراً إلى الحسن والقبح الذاتي.

ثانياً: لو فرض أنَّ نوعاً من أنواع الظلم لم يؤدِّ إلى اختلال النظام، فلا يكون قبيحاً على مبناه؛ لأنَّ العقلاء اتفقوا على قبح الظلم؛ لأنه يؤدي إلى

ص: 141


1- نهاية الدراية 1: 369.

اختلال النظام، وقد فرض في هذا النوع عدم ذلك، كمن يظلم حيواناً في منقطع من الصحراء ولم يطلع عليه أحد، وهو خلاف الوجدان(1).

ثالثاً: لو فرض عدم وجود عقلاء، كما في الإنسان الأول، حيث لم يجتمع العقلاء ليقرروا قبح الظلم، فلا يقبح له ذلك على مبناه، فيحق له أن يظلم كيفما شاء.

رابعاً: على فرض المحال، كما لو اتفق العقلاء على حسن الظلم والخيانة، وقبح العدل وحفظ الأمانة، فهل يصبح الأمر كذلك لتطابق آرائهم؟!

إنّ الأمور الاعتبارية منوطة باعتبار العقلاء - كالملكية والمالية - فلو سلب الاعتبار مَنْ بيده الاعتبار سقط الدينار مثلاً عن الدينارية، أما الأمور الانتزاعية فلا ترتبط باعتبار المعتبر وفرض الفارض، فلو اجتمع العقلاء جميعاً على أن الواحد ليس فرداً فلا يسقط عن الفردية؛ لأنه ليس اعتبارياً حتى يتغير بالاعتبار أو بسلبه، وحسن العدل وقبح الظلم من الأمور الانتزاعية لا الاعتبارية، فلا يرتبط وجودها وبقاؤها بتطابق العقلاء.

التذنيب الثاني: لقد تكررت في كلماته عبارة: «ظلم العبد لله». ولم أجدها في الروايات، بل وجدت نقيضها في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {وَمَا

ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(2) فلو تمرد العبد فقد

ص: 142


1- فإن نفس من يفعل ذلك يدرك بعقله قبح فعله.
2- البقرة: 57؛ الأعراف: 160.

ظلم نفسه لا أنه ظلم اللّه.

5) قبح المؤاخذة مع عدم الإعلام

التقريب الخامس ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، حيث قال: «ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلاً بتحريمه»(1).

فلو اعترف المولى أنه لم يبين ممنوعية الفعل فيقبح مؤاخذة العبد على فعله، وقد بنى على ذلك العقلاء كافة.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الأولى: إنّ محل البحث في البراءة هو في قبح العقاب على عدم البيان الواصل، لا عدم البيان أصلاً. فلولم يكن بيان، كما في أول البعثة، وقد سكت المولى عن بيان حرمة الخمر، فليس ذلك محل البحث في البراءة، وإنما هو مصداق: «اسكتوا عما سكت اللّه عنه»(2) فمن الممكن أن يكون العقاب عليه قبيحاً.

ولكن مع احتمال خفاء البيان، بسبب إخفاء الظالمين أو عوامل أخرى، وإمكان الاحتياط لا يعلم كون العقاب قبيحاً.

الثانية: لو سلمنا أنّ قبح العقاب بلا بيان واصل، لكن قبحه ثابت فيما لم يكن تصرفاً في ملك الغير، وقد مرّ في المباحث السابقة أنَّ الاقتحام تصرف في ملكه تعالى بلا إحراز إذنه.

ص: 143


1- فرائد الأصول 2: 56.
2- عوالي اللئالي 3: 166.

6) العقاب بلا بيان قبيح بشهادة الوجدان

التقريب السادس: ما ذكره صاحب الكفاية، حيث قال(1): «إنَّ العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان قبيحان بشهادة الوجدان».

ويظهر الكلام فيه مما تقدم.

فتحصل من جميع ذلك أنَّ الوجوه الستة التي ذكرت لإثبات قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تخلو من تأمل.

الرابطة بين الثواب والعقاب وبين الأعمال في الدنيا

تنويه: ذكر في المنتقى(2) أنَّ في العقاب والثواب الأخرويين ثلاث نظريات:

النظرية الأولى: إنَّ الثواب والعقاب في الآخرة من باب تجسم الأعمال، فحال العمل حال البذر، كنواة التمر والحنظل التي تتجسم بشكل النخل أو شجرة الحنظل، فالشجرة عين النواة، لكنها تشكلت وتجسمت بهذه الكيفية، والعمل الصالح - ككلمة التوحيد - يتمثل بصورة شجرة من أشجار الجنة، والعمل الطالح - كالكذب - يتمثل في صورة العقرب.

وفي الآيات إشارة إلى ذلك، ولو في الجملة، حيث قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(3).

وقال سبحانه: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(4)، وورد في الحديث

ص: 144


1- كفاية الأصول: 343.
2- منتقى الأصول 4: 440.
3- الزلزلة: 7-8.
4- النمل: 90.

الشريف: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم»(1).

النظرية الثانية: إنَّ العقاب والثواب في الآخرة من قبيل الأثر الوضعي، فكما أنَّ للأعمال في هذه النشأة آثاراً وضعية، كسكر مَن يشرب الخمر، وموت مَن يشرب السم القاتل، كذلك الأمر فيها، وهو لا يرتهن بالعلم والجهل.

والفرق بين النظريتين أنَّ الأولى تثبت العينية بين العمل والجزاء، والثانية العلّية.

النظرية الثالثة: إنّ الثواب والعقاب الأخرويين من باب المجازات لا العينية ولا العلّية، وهو أمر قرره المولى مجازاة لعبده.

ولا معنى لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بناء على المبنيين الأولين، فإنَّ الحسن والقبح يرتبطان بالعمل الاختياري للفاعل، ولا معنى للقول بقبح العقاب وعدمه مع كون الأثر قهرياً.

وببيان آخر: لو كان شرب التتن حراماً ثبوتاً، وكان أثره الوضعي أو تجسمه بصورة العقرب، فليس ذلك فعلاً اختيارياً حتى يقال بأنه قبيح، كما لا يصح أن يقال: موت شارب السم قبيح، فإنَّه أثر قهري لا فعل اختياري، ولذلك يترتب على العالم والجاهل، فلا معنى لوصفه بالحسن والقبح.

لكنه محل تأمل: فإنه أنّما يتم إذا فرضت الرابطة بين العلة والمعلول ذاتية، فإنَّ الذاتي لا يختلف ولا يتخلف، أما لو فرضت الرابطة بينهما جعلية، أي بجعل المولى، فيكون ترتب الأثر اختيارياً.

مثلاً: خاصية النار الإحراق، ولكن هل هي خاصية ذاتية أم خاصية

ص: 145


1- مستدرك سفينة البحار 8: 266.

جعلية؟ فلو قلنا: إنها جعلية فلا محذور في سلب اللّه تعالى لتلك الخاصية، وليس معنى قوله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(1) جعل المانع على النبي إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، حتى يمنع الحرارة عنه، أو انقلاب ماهية النار كانقلاب ماهية الماء إلى البخار، بل الخطاب للنار، فمع انحفاظ الماهية: {كُوني بَرْداً وَ سَلاماً} فالرابطة جعلية توجد بالجعل وتسلب برفع اليد عنه.

وكذلك خاصية الماء الإرواء ورفع العطش، ولكن الرجل الذي دعا عليه سيد الشهداء× أن لا يروى من الماء أبداً كان يشرب الماء فيخرج من فمه من كثرة الشرب، ومع ذلك يصرخ العطش العطش(2)

حتى مات بتلك الحالة، فخاصية الإرواء ليست ذاتية للماء، بل جعلية، فيمكن أن تسلب بأمر اللّه تعالى مع انحفاظ الماهية.

وعليه لا فرق بين المبنيين الأولين والثالث؛ لأنَّ ترتب الأثر على المباني الثلاثة اختياري للجاعل، وهو اللّه تعالى.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى، وهي ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدمه.

الجهة الثانية: قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل

فيقع الكلام فيها في ثبوت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وعدمه. ويقع الكلام في مقامين:

ص: 146


1- الأنبياء: 69.
2- روضة الواعظين: 182.

الأول: في أصل الثبوت.

الثاني: في عموم ثبوت هذه القاعدة.

إنكار قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل

أما المقام الأول فسوف نتحدث فيه عن أصل ثبوت هذه القاعدة، فقد أنكر السيد الروحاني(1) أصل وجود هذه القاعدة، واستدل لذلك بأنَّ الوجوب المحتمل لا يخلو من وجوه ثلاثة: إما نفسي أو طريقي أو إرشادي، والكل غير معقول، فينتفي الوجوب.

أما الأول - أي الوجوب النفسي - فأحد الواجبات النفسية دفع الضرر المحتمل بما هو محتمل، سواء كان الاحتمال موافقاً للواقع أم مخالفاً، فمن شرب التتن - مثلاً - فهو معاقب عليه في القيامة على كل تقدير، سواء انكشفت حليته أم حرمته؛ لأنه خالف (ادفع الضرر المحتمل) وإن لم يخالف (لا تشرب التتن) على فرض عدم الحرمة، ومخالفة الواجب النفسي موجب لاستحقاق العقاب.

لكن لا يمكن الالتزام بذلك، حيث لا يعقل أن يزيد احتمال الضرر على القطع بالضرر، فمَنْ قطع بحرمة شرب الخمر فخالف، فله عقاب واحد لمخالفته النهي، وأما لو شرب التتن وانكشفت الحرمة فبناء على الوجوب النفسي يستحق عقابين لمخالفته: (لا تشرب)، ومخالفته (ادفع الضرر المحتمل).

وأما الثاني - أي الوجوب الطريقي -: فملاكه الوجوب الذي جعل بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه، ولا يمكن أن يكون وجوب (ادفع)

ص: 147


1- منتقى الأصول 4: 447.

طريقياً لتنجزه في مرحلة سابقة عليه، فإنَّ (ادفع) في رتبة المحمول، و (دفع الضرر المحتمل) في رتبة الموضوع، وبمجرد احتمال وجود الضرر في العمل يتنجز الواقع في الذمة في رتبة الموضوع، ولا يعقل تنجز الواقع في رتبة المحمول وبسببه ثانية، فلا يعقل أن يكون وجوب (ادفع) طريقياً.

وأما الثالث - أي الوجوب الإرشادي -: فهو في حقيقته إخبار في صورة الإنشاء(1)، وإنَّما يصح الوجوب الإرشادي في مورد الغفلة، وأما مع الالتفات واحتمال تحققه فلا، إذ المخبَر يعلم بتحققه على تقدير وجوده في رتبة الموضوع، فلا معنى لإخباره بذلك؛ فإنه تحصيل للحاصل.

ومع انتفاء الأصناف الثلاثة للوجوب ينتفي النوع؛ لانتفائه بانتفاء تمام أصنافه.

والحاصل: إنه لا أساس لقاعدة وجوب الدفع الضرر المحتمل مع شهرتها.

إثبات القاعدة وكون الوجوب فيها إرشادياً وأما المقام الثاني، فيقع الكلام فيه في إثبات قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) وأن هذا الوجوب إرشادي.

لكن ما ذكره السيد الروحاني محل تأمل؛ لأننا نختار الوجوب الإرشادي، وليس واقعه الإخبار، وإنما هو إنشاء بداعي الحث والتحريض والتحريك، ولم يظهر وجه أخذ الغفلة والجهل في الأمر الإرشادي، حيث

ص: 148


1- كنهي الطبيب عن أكل الطعام، والذي ظاهره الإنشاء ومآله الإخبار عن ضرره.

لا فرق في الحث بين علم المكلف وجهله، غاية الأمر أنه لا عقوبة على الهيئة، وإنما هي متعلقة بالمادة، بخلاف الأوامر المولوية التي ترتبط عقوبتها بمخالفة الهيئة، وهذا هو الفرق بين الأمر المولوي والإرشادي.

مثلاً: قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ}(1) ليس مجرد إخبار بوجود المصلحة في المادة وهي الطاعة، بل هو حث وتحريض.

والمريض قد يعلم بضرر الطعام وما يترتب على المادة، ومع ذلك ينهاه الطبيب وهو إرشاد.

وبذلك تندفع شبهة تحصيل الحاصل؛ لأنَّ المتحقق في رتبة الموضوع الانكشاف(2)، والمتحقق في رتبة المحمول التحريك والتحريض، فلم يكن هنالك تحصيل للحاصل.

والحاصل: إنَّ العقل يرى احتمال الضرر في الإقدام على العمل(3)، ثم يحث على عدم الاقتحام فيه، وهو معنى الوجوب العقلي الإرشادي، ولو خالفه المكلف لم يترتب عليه إلاّ عقوبة واحدة.

لكن هذا الجواب مبنيٌ على مبنى وجود الأحكام العقلية، وقد مر سابقاً أنّ للعقل أحكاماً تبعث وتزجر، ويؤيده ظواهر الآيات والروايات، كقوله تعالى: {وَأَمَّا

مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(4)، وقوله

ص: 149


1- آل عمران: 32.
2- فينكشف الضرر الاحتمالي مع الاحتمال في رتبة الموضوع.
3- كأكل الدجاج المبتلى احتمالاً بمرض أنفلونزا الطيور.
4- النازعات: 40.

سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم}(1)، وقوله×: «واعظ من نفسه»(2).

وأما مع إنكارها فلا يضر ذلك بالمدّعى أيضاً، حيث إنّه لا إشكال في وجود الجاذبية الطبيعية الفطرية، التي تبعد كل عاقل عن الضرر المحتمل(3)، فحينما يرى العاقل النار يفرّ منها لزوماً، وهذا ما نعبر عنه بوجوب دفع الضرر المحتمل، ولا مشاحة في الاصطلاح، سواء عبر عنه بذلك أم عبر عنه بالوجوب، أم الجذب التكويني، أم الفطري أم الطبيعي أم لم يعبرّ عنه بالوجوب أصلاً، فليس البحث في الألفاظ، وإنما في واقع الأمر.

وبناء عليه فقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ثابتة.

عدم وجود إطلاق لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل

وينبغي التنبيه على أنه لو سلمنا بقاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) إلا أنها ليست كلية؛ لأنَّ الضرر إما خطير وإما حقير، ولا شك أنَّ العقل والفطرة يلزم بدفع الضرر الخطير، كهلاك النفس والخلود في النار، وأما لو كان الضرر المحتمل حقيراً يسيراً فلا يعلم ذلك، بل حتى لو كان الضرر الحقير مقطوعاً، كما في أكل الطعام إلى حد التخمة والسهر المضر، بل حتى لو كان ضرراً اُخروياً، كما في مجموعة من المكروهات أو تروك المستحبات، التي فيها أضرار أخروية حسب الروايات، كالغني الذي يتأخر

ص: 150


1- الطور: 32.
2- بحار الأنوار 75: 455.
3- وهذا مما يعترف به السيد الروحاني أيضاً.

في الدخول إلى الجنة(1)، وظلام قبر مَنْ لا يصلّي صلاة الليل(2)، ومع فرض كون هذه الأضرار يسيرة فلا يعلم لزوم دفعها، فكيف إذا كان الضرر مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً؟

والحاصل: إنَّ الضرر إما خطير أو حقير، وإما دنيوي أو أخروي، ويجب دفع الخطير دنيوياً كان أو أخروياً، وأما الحقير فلا يجب دفعه، وإنْ حسن ذلك دنيوياً كان أو أخروياً.

فما اشتهر من كلية قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) محل تأمل.

هذا ما ذكره السيد العم دام ظله في بيان الفقه(3).

وقد يتأمل فيه: بأنّ مراد القائلين من ذكر القاعدة هو أنَّ الضرر الذي يجب دفعه عقلاً في صورة القطع به، كنقص العضو والخلود في جهنم يجب دفعه إذا كان محتملاً، لا أنَّ كل ضرر محتمل يجب دفعه، فالقاعدة ناظرة إلى عدم الفرق بين القطع والاحتمال.

وعليه يتم التوفيق بين الرأيين، وإلاَّ كان الإشكال على الكلية وارداً.

الجهة الثالثة: كيفية الجمع بين القاعدتين فيقع الكلام فيها في وجه التوفيق بين القاعدتين في المقام(4).

ورود قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) على قاعدة (وجوب دفع الضرر

ص: 151


1- الكافي 2: 260.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 475.
3- بيان الفقه 1: 10.
4- المقام هو الشبهة البدوية بعد الفحص.

المحتمل):

والمعروف أنَّ قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) واردة على قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) لأنَّ موضوع القاعدة الثانية هو كل ما احتمل فيه الضرر، ولا احتمال للعقوبة مع جريان القاعدة الأولى، وهي قطعية، فبعد الفحص واستفراغ الوسع في حكم المشكوك ولم يعثر على بيان على حرمته بأي نحو من الأنحاء، فيحكم العقل على نحو القطع بقبح العقاب، والقبيح ممتنع على المولى الحقيقي، فيقطع بعدم العقاب في اقتحام المشكوك، فينتفي موضوع القاعدة الثانية؛ لعدم احتمال الضرر بعد القطع بقبح العقاب(1).

الإشكال على الورود المذكور بعكسه

وأشكل عليه: بإمكان العكس؛ لأنَّ موضوع القاعدة الأولى (عدم البيان) والقاعدة الثانية (بيان)، حيث لا يلزم في البيان أن يكون بياناً بالعنوان الذاتي للشيء(2)، بل يمكن البيان بالعنوان العرضي، كالمشكوك والمشتبه ومحتمل الضرر، وعليه يجب الاجتناب عن المشكوك لورود البيان فيه بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل(3).

ص: 152


1- والبحث في المقام حول خصوص العقاب، فإنه عمدة الضرر المحتمل، وستأتي بقية الأضرار في المباحث القادمة، إن شاء اللّه.
2- كأن يقول المولى: شرب التتن حرام.
3- كما لو قال المولى: «إن احتملت أن أحداً عدوي فلا تدخله داري» فموضوع هذا البيان هو الاحتمال، وكون الموضوع الاحتمال لا ينافي كون القضية بياناً.

كما أنَّ البيان أعمّ من البيان العقلي والشرعي، فإنَّ لله حجتين باطنة وظاهرة(1) والعقل حجة وبيانه بيان.

والحاصل: إنَّ هنالك توارداً بين القاعدتين، فالقاعدة الأولى ترفع موضوع القاعدة الثانية، ونتيجتها حلية المشكوك، والقاعدة الثانية ترفع موضوع القاعدة الأولى، ونتيجتها حرمة المشكوك، ومآلها إلى تناقض حكم العقل؛ لأنه بين قاعدتين كليتين مآلهما إلى التناقض في المقام.

ولدفع التوارد أجوبة:

1- دورية بيانية قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)

الجواب الأول: بيانية القاعدة الثانية دورية، فتكون بيانيتها محالاً.

بيان الدور بمقدمات:

الأولى: إنّ بيانية قاعدة (وجوب الدفع) متفرعة على احتمال الضرر، وهذه المقدمة واضحة؛ لأنَّ كلّ قضية متفرعة على تحقق موضوعها، فوجود قاعدة (وجوب دفع الضرر) وبيانيتها وقلب اللابيان إلى البيان متفرع على احتمال الضرر، تفرع كلّ محمول على موضوعه.

الثانية: إنَّ احتمال الضرر متوقف على عدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وهذه أيضاً واضحة، فإنّه مع جريان القاعدة يقطع بعدم العقاب، فلا احتمال للضرر الأخروي.

الثالثة: إنّ عدم جريان قاعدة (قبح العقاب) متوقف على بيانية قاعدة (دفع الضرر)، فإنه مع بيان العقل لوجوب دفع الضرر المحتمل يرتفع

ص: 153


1- الكافي 1: 17.

موضوع قاعدة قبح العقاب.

فالنتيجة: إنّ بيانية قاعدة وجوب الدفع متوقفة على بيانية قاعدة وجوب الدفع وهو محال، فلا يمكن أن تكون بياناً حتى ترفع موضوع القاعدة الأولى.

والظاهر أنَّ المقدمات الثلاث تامة.

دورية عدم بيانية قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)

وأشكل عليه بأنَّ عدم بيانية القاعدة الثانية دوري أيضاً فعدم البيانية محال أيضاً.

وبيانه بمقدمات:

الأولى: إنّ عدم بيانية قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) موقوف على عدم موضوعها(1)؛ لأنَّ انتفاء القضية الحملية بانتفاء موضوعها، فإذا لم يحتمل الضرر انتفى موضوع القاعدة، فتنتفي القضية.

الثانية: إنّ عدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، فمع جريان قاعدة (القبح) يقطع بعدم العقوبة، فينتفي احتمال الضرر، فينتفي موضوع قاعدة (وجوب الدفع).

الثالثة: إنَّ جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) موقوف على عدم بيانية قاعدة (وجوب دفع الضرر)، فإنَّ قاعدة (القبح) أنّما تجري إذا لم تكن قاعدة (الضرر) بياناً ولو كانت قاعدة (الضرر) بياناً لم تجرِ قاعدة (القبح)، فإذن

ص: 154


1- أي عدم احتمال الضرر.

جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) متوقف على عدم بيانية قاعدة الضرر.

فالنتيجة: إنَّ عدم بيانية قاعدة الضرر موقوف على عدم بيانية قاعدة الضرر، وهو محال.

فتعود مشكلة توارد القاعدتين، ورفع كل منهما لموضوع الآخر.

2- فعلية البيان وتعليقية احتمال الضرر

الجواب الثاني: ما ذكره بعض المعاصرين، وتوضيحه يتوقف على بيان مقدمات:

الأولى: لا يكفي وجود الكبرى لإنتاج القياس، بل يلزم انضمام الصغرى إليها، وفي المقام لا يكفي العلم بالكبرى في القاعدتين، إلا أن ينضم إليه (عدم البيان) في القاعدة الأولى، و(احتمال الضرر بمعنى العقاب) في القاعدة الثانية، فتكون صورة القياس الأول كما يلي:

العقاب على ارتكاب المشتبه(1) عقاب بلا بيان، والعقاب بلا بيان قبيح، فالعقاب على ارتكاب المشتبه قبيح.

وصورة القياس الثاني هي: ارتكاب المشتبه محتمل الضرر، ومحتمل الضرر يجب التحرز عنه، فارتكاب المشتبه يجب التحرز عنه.

الثانية: لو كان أحد القياسين مركباً من مقدمات فعلية، والآخر مركباً من مقدمات تعليقية(2) ولم يتحقق المعلَّق عليه(3)، فلا شك في تقدم القياس

ص: 155


1- كشرب التتن وأكل العظم وأكل الطعام المحترق.
2- إما أن تكون كلها تعليقية أو بعضها.
3- حتى تخرج المقدمة من حالة التعليقية إلى الفعلية.

الأول على القياس الثاني، فإنَّ الفعلي مقدَّم على التعليقي.

الثالثة: لا شك ولا إشكال في تمامية كبرى القاعدتين، وإنما الكلام في البحث عن تمامية صغرى القياسين:

أما القياس الأول، فلا شك في تمامية صغراه - وهي عدم وجود البيان - وذلك لتحقق البحث والفحص بالمقدار اللازم عن حرمة المشكوك، فيقطع بعدم البيان، خصوصاً إذا ضُمَّ إلى تتبع الفقيه تتبع سائر الفقهاء، ووصولهم جميعاً إلى عدم بيان من الشارع في حرمته(1)، فتكون صغرى القياس الأول وجدانية، وكبراه برهانية، فتكون النتيجة قطعية، فيقبح العقاب على اقتحام المشكوك.

وأما صغرى القياس الثاني(2)، فلابد أن يكون للاحتمال منشأ عقلائي، وإلا لم يعتد به، وليس احتمال الضرر(3) فعلياً؛ لأنَّ منشأ احتمال العقاب لا يخلو من أمور:

الأول: أن لا يكون المولى عادلاً، فيحتمل العقاب من غير العادل، وهو منتفٍ قطعاً في مولى الموالي.

الثاني: أن لا يكون حكيماً وهو منفي أيضاً.

الثالث: أن تكون قاعدة (قبح العقاب) باطلة، فلا يقبح العقاب مع عدم البيان، وهذا منتفٍ أيضاً، لما تقدم من ثبوت القاعدة على المبنى.

ص: 156


1- وقد مر أن المراد البيان الواصل أو البيان في معرض الوصول.
2- وجود الضرر المحتمل أو احتمال الضرر.
3- بمعنى العقوبة الأخروية.

الرابع: تقصير العبد في الفحص عن البيان(1)، وهذا المنشأ مفروض الانتفاء.

الخامس: أن تكون الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، لكن العبد اقتحم في ارتكاب أحدهما مع وجود البيان، وهذا مقطوع الانتفاء أيضاً؛ لأنَّ المفروض كون الشبهة بدوية.

فمناشئ احتمال الضرر منتفية، ومع انتفاء جميعها يقطع بعدم العقوبة، فلا مجال لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

والحاصل أنَّ صغرى القياس الأول فعلية، وصغرى القياس الثاني تعليقية، ولم يحصل المعلق عليه، فيتقدم القياس الأول، فيكون المشكوك محكوماً بقاعدة (قبح العقاب) لا قاعدة (دفع الضرر).

ولكنه يحتاج إلى مكمل، فإنَّ عدم كون القاعدة الثانية منشأً لاحتمال العقوبة، وعدم صلاحيتها لكي تكون بياناً يحتاج إلى توضيح وبيان، ومع تكميل البرهان بهذه الضميمة يكون تاماً.

وقد أوضحها المحقق العراقي (رحمه اللّه) بما يعتبر جواباً ثالثاً لمشكلة التوارد.

وقبل بيان ما ذكره لابد من الإشارة إلى أنَّ المنشأ الوحيد لاحتمال العقوبة منحصر في البيان الواصل ولا منشأ آخر؛ وذلك لأنَّ المفروض التسليم بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وأما مع الحكم ببطلانها فلا توارد بين القاعدتين، وفي البيان احتمالان: إما أن يكون متقدماً على احتمال الضرر(2)،

ص: 157


1- فلم يفحص أو فحص ناقصاً.
2- بمعنى العقاب.

أو متأخراً عنه.

قال(1) مع توضيح عبارته: إنَّ البيان الذي ينشأ منه احتمال الضرر لا بد من كونه في الرتبة السابقة على الاحتمال المزبور(2)، كما هو شأن كل علة بالقياس إلى معلوله(3)، وبعد عدم إمكان نشوء الاحتمال المزبور(4) عن مثل هذا الوجوب(5)، المتفرع على الاحتمال المزبور(6) لا بد في تحقق هذا الاحتمال من فرض وجود بيان آخر غير قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) حتى يمكن احتمال الضرر في الاقتحام بسببه، والمفروض أنه لا بيان آخر للمشكوك في رتبة سابقة على الموضوع.

وبعبارة أوضح: لو كانت قاعدة (الضرر المحتمل يجب دفعه) بياناً ومنشأ لاحتمال الضرر، لكان معناه أنَّ احتمال الضرر ناشئ عن محمول متأخر عنه، وهو مستلزم لتقدم الشيء على نفسه بمرحلتين، وهو غير معقول، فكيف يكون الشيء، الذي هو في رتبة المحمول، علة للموضوع؛ وذلك لأنَّ (يجب دفعه) في رتبة المحمول و(احتمال الضرر) في رتبة الموضوع، فلا يمكن أن يكون المحمول المتأخر منشأً لاحتمال الضرر، فلابد من فرض

ص: 158


1- نهاية الأفكار 3: 236.
2- ولا يمكن أن يكون متأخراً.
3- كذا، والصحيح معلولها.
4- أي احتمال الضرر بمعنى العقاب.
5- أي يجب دفعه.
6- لأنّ (يجب دفعه) محمول لمحتمل الضرر.

بيان متقدم على احتمال الضرر ليكون منشأً لاحتمال الضرر.

وحيث إنه تم عدم وجود منشأ آخر لاحتمال العقاب غير البيان، والمفروض انتفاء البيان في رتبة متقدمة على الموضوع، إذن لا احتمال للعقاب في اقتحام المشكوك، فلا مانع من اقتحامه.

وبعبارة بسيطة: لا بيان في رتبة متقدمة على الموضوع، فلا احتمال للعقاب في رتبة الموضوع، ويقبح العقاب بلا بيان، فيقطع بعدم وجود الضرر، فينتفي موضوع قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل).

نعم، في موارد العلم الإجمالي القاعدة تامة، لصدور الأمر من المولى بوجوب الاجتناب عما وقع فيه الدم، وهو بيان، وحيث إنَّ الشبهة محصورة يحكم العقل بوجوب اجتناب الإناء الأول؛ لأنه محتمل الضرر، ويجب دفع الضرر المحتمل، وهو معقول لتقدم البيان على الموضوع، ومعه يحتمل الضرر، فيحكم العقل بلزوم دفعه.

والخلاصة: إنّ البيان المحتمل في المقام إما قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، أو بيان آخر، والثاني غير موجود؛ لأنه المفروض، والأول لا يصلح أن يكون بياناً في الشبهة البدوية؛ لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه بمرحلتين.

وعليه ينتفي إشكال التوارد بين القاعدتين؛ لثبوت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) وانتفاء موضوع قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) فلا يحتمل ترتب العقاب الأخروي على اقتحام المشكوك.

وبعبارة أخرى: إنّ القاعدة الأولى مؤمنة من العقاب الأخروي، ومعه لا

ص: 159

يحتمل العقاب، فيرتفع موضوع القاعدة الثانية بالقاعدة الأولى.

هذا كله فيما لو كان المراد من الضرر المحتمل العقاب الأخروي.

بيان قاعدة (دفع الضرر المحتمل) بمعنى آخر

وأما لو أريد منه غير ذلك، فلا مجال لدعوى ورود قاعدة (قبح العقاب) عليها؛ لأنَّ هذه الأضرار من قبيل الآثار الوضعية للأعمال، وهي تترتب على العمل على نحو القهر، ولا تناط بعلم المكلف، فيتحقق موضوع القاعدة الثانية(1) وجداناً فيكون دفعه واجباً عقلاً. فلو احتملنا وجود الضرر في أكل العظم فهو مصداق (وجوب دفع الضرر المحتمل) لا قاعدة (قبح العقاب).

ويمكن أن يجاب بأجوبة:

الجواب الأول ما ذكره في الكفاية قال: «ضرر غير العقوبة وإن كان محتملاً إلاّ أنّ المتيقن منه فضلاً عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار لبعض الدواعي عقلاً، وجوازه شرعاً»(2).

ويضاف إليه: لو لم يكن في تحمل الضرر غرضٌ عقلائي لأمكن عده سفاهة، كما هو الشأن في كثير من الأعمال، ولكن لا دليل على حرمة كل عمل سفهي، وإن كان مذموماً عقلاً.

وهو جواب كبروي، حاصله تسليم احتمال الضرر(3)، وعدم وجوب دفع

ص: 160


1- و هو احتمال الضرر.
2- كفاية الأصول: 343.
3- الضرر غير العقوبة الموعودة من الشارع جزاء للأعمال، سواء كان دنيوياً أم أخروياً.

المحتمل منه، بل المتيقن.

لكن إطلاقه محل تأمل؛ لأنَّ الأضرار نوعان: حقيرة وخطيرة، والضرر الذي لا يجب دفع المتيقن منه فضلاً عن المظنون والمشكوك والموهوم هو الحقير، أما الخطير منه فيجب دفعه موهوماً ومشكوكاً ومظنوناً.

إن قلت: لم يحرز كونه ضرراً خطيراً.

قلت: صرف احتماله كافٍ في وجوب دفعه.

الجواب الثاني(1): لا ملازمة بين احتمال الحرمة واحتمال الضرر؛ لأنَّ الملازمة ثابتة فيما لو كانت ملاكات الأحكام ثابتة للمتعلقات، وليس ذلك معلوماً؛ لاحتمال كونها في الجعل لا في المتعلق.

وهو محل تأمل: أما أولاً: حيث يمكن أن يستظهر من الروايات كون الملاك في المتعلق لا في الجعل(2)

كقوله×: «اعلم يرحمك اللّه أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يبح أكلاً وشرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرم إلاّ ما فيه الضرر والتلف والفساد»(3).

وثانياً: لا ملازمة بين المحتملين(4)، ولكن هنالك ملازمة - وجداناً - بين الاحتمالين(5)، حيث يحتمل أن يكون الملاك في المتعلق، فمن يقدم على

ص: 161


1- وهو جواب صغروي.
2- وإن كان الأمر يحتاج إلى تحقيق وتتبع أكثر.
3- فقه الرضا×: 254.
4- بين الحرمة ووجود المفسدة والمضرة في المتعلق.
5- احتمال الحرمة واحتمال وجود المفسدة أو المضرة في المتعلق.

محتمل التحريم فقد أقدم على محتمل المضرة، ودفع الضرر المحتمل واجب بحكم العقل.

الجواب الثالث: بعد تسليم وجود الملاك في المتعلقات، لا نسلم أنه بملاك المنافع والمضار، بل قد يكون بملاك المفاسد والمصالح، وهنالك فرق بين المضرة والمفسدة، وبين المنفعة والمصلحة.

لكنه محل تأمل، أما أولاً: فلأنّ العقل كما يحكم بوجوب دفع المضرة المحتملة كذلك يحكم بوجوب دفع المفسدة المحتملة، فقد لا تكون مضرة على الفرد في العمل قطعاً، لكن فيه مفسدة على النوع(1)، فسواء كان المتحقق المضرة أم المفسدة فإنَّ العقل يحكم بوجوب دفعه.

وثانياً: احتمال المضرة قائم، حيث يمكن أن يكون المترتب على الفعل مضرة أو مفسدة، ودفع الضرر المحتمل واجب.

الجواب الرابع: سلمنا ذلك، إلاّ أنّ الوجوب عقلي، ولا ملازمة بين الوجوب العقلي والشرعي، إلاّ لمن يسلم بقاعدة الملازمة، ومن سلم بها فصل بين كون حكم العقل في سلسلة العلل أو المعلولات، وهنا من قبيل الثاني، والمهم إثبات الحكم الشرعي، ومع عدمه فلا يجدي في المقام.

لكنه محل تأمل، لإمكان دعوى أن دفع الضرر المحتمل واجب شرعاً، مضافاً إلى كونه واجباً عقلاً؛ لقوله تعالى {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى

ص: 162


1- كمن يقوم بانقلاب عسكري ولا يحتمل على نفسه الضرر، ولكن يحتمل المفسدة لنظام المجتمع، ومن الواضح أنَّ مراد الكفاية من المضرة الشخصية العائدة إلى المكلف، ومن المفسدة النوعية أو غيرها.

التَّهْلُكَةِ}(1)(2).

وقد أشار الفقهاء إلى ذلك في موارد متعددة:

منها: الحكم بالعصيان في سلوك طريق يظن معه العطب، فقد قالوا: إنه سفر معصية، لاحتمال العطب كالموت أو تلف قوة، كما في الذكرى والروض والذخيرة وكشف الغطاء(3).

ومنها: الترخيص في التيمم باحتمال الضرر باستعمال الماء، كما في المنتهى والمدارك والمستند(4).

ومنها: الترخيص في الإفطار في شهر رمضان باحتمال الضرر، كما في الشرائع والمدارك(5).

فيمكن دعوى أنه وإن لم تثبت الملازمة بين الحكمين إلاّ أنَّ الإلقاء في محتمل الضرر محرم شرعاً.

الجواب الخامس: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) ، قال: «إنَّ الشبهة من هذه

ص: 163


1- البقرة: 195.
2- ومعنى الآية كما قال البعض: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وقال بعض: إن الباء زائدة فأيديكم بمعنى أنفسكم، فمن يذهب إلى المسبعة مع عدم كون الهلاك قطعياً يطلق عليه أنه ألقى بنفسه إلى التهلكة (منه (رحمه اللّه) ). ولكن قد يتساءل: لو لم يفترسه الأسد هل فعل محرماً في حد ذاته حتى يعاقب عليه؟! و لو افترسه الأسد هل يعاقب عقابين: عقاب مخالفة الواجب الشرعي في الإلقاء في التهلكة، ومخالفة النهي عن قتل النفس؟ الظاهر أنه مما لا يمكن الالتزام به (المقرر).
3- ذكری الشيعة: 258؛ روض الجنان: 388؛ ذخيرة المعاد: 409؛ كشف الغطاء: 272.
4- منتهى المطلب 3: 34؛ مدارك الأحكام 2: 194؛ مستند الشيعة 3: 380.
5- شرائع الإسلام 1: 210؛ مدارك الأحكام 6: 285.

الجهة موضوعية لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين» (1).

ومفاده: إنه لا مانع من أن تكون للشيء الواحد جهتان، يندرج بإحداهما تحت عنوان الشبهة الحكمية، وبالأخرى تحت عنوان الشبهة الموضوعية، فلو شك في استحقاق العقاب على اقتحام المشكوك كانت الشبهة حكمية من هذه الجهة، ولو شك في مضرته كانت الشبهة موضوعية، فلا يجب الاحتياط من هذه الجهة حتى عند الأخباريين.

ثم قال: «فلا بد على كلا القولين: إما من منع وجوب الدفع، وإما من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر»(2).

فإما أن تنكر قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) العقلية، فمع وجود احتمال الضرر في الشبهة الموضوعية إلاّ أنّ العقل لا يحكم بوجوب الاحتياط فيها وإما أن يقال: إنّ الشارع أذن في اقتحام المشكوك مع احتمال الضرر، ومع حكم العقل بوجوب دفعه.

إن قلت: كيف يأذن الشارع في اقتحام ما حظره العقل، بناء على الاحتمال الثاني؟

قلنا: لأنَّ الضرر متدارك، فللشارع أن يأذن في اقتحام المضرة القطعية، لتداركها بنحو من الأنحاء، وبطريق أولى يمكن أن يأذن في اقتحام المضرة المحتملة لنفس السبب.

ص: 164


1- فرائد الاصول 2: 57.
2- فرائد الأصول 2: 58.

لكن أشكل عليه صاحب الكفاية بإشكالين(1):

الإشكال الأول: إنَّ الشبهة من هذه الجهة حكمية؛ إذ الملاك فيها ما كان المرجع فيها غير الشارع، ومن المعلوم أنه لا طريق إلى المصالح والمفاسد التي تكون مناطات للأحكام الشرعية في غير ما استقل به العقل إلاّ البيان الشرعي للأحكام، فإنه بيان لمناطاتها على نحو الإنَّ أيضاً.

وبعبارة أخرى: إنه لا طريق إلى إحراز المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعية، والطريق الوحيد لكشف هذه الملاكات البيان الشرعي، والبيان الشرعي كاشف أولاً وبالذات عن الحكم الشرعي، وثانياً وبالعرض عن الملاكات الواقعية على نحو الانتقال من المعلول إلى العلة، فتكون الشبهة حكمية، حيث لا نعلم أنّ المشكوك حلال أو حرام، وهل في أكله مفسدة واقعية أم لا، فيرجع الأمر إلى الشارع.

ولكنه محل تأمل؛ لاختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية في المتعلق، والمنشأ والمرجع، فمتعلق الشبهات الحكمية الحكم الكلي، ومتعلق الشبهات الموضوعية الحكم الجزئي، أو الموضوع الخارجي(2).

ومنشأ الأولى فقدان النص أو إجماله، أو تعارض النصين، ومنشأ الثانية اختلاط الأمور الخارجية، وبعبارة أوضح غموض الواقع الخارجي.

والمرجع في الأولى الشارع، وفي الثانية(3) غير الشارع، بل فحص

ص: 165


1- درر الفوائد: 123.
2- كأن يشك أنه متطهر أم لا؟ وهل يجوز له الدخول في الصلاة بعد الخفقة أم لا؟
3- كانقلاب الخمر خلاً أم لا؟

المكلف مثلاً، وعدم وجود طريق للفحص لا يضر بكونها شبهة موضوعية.

والمنطبق فيما نحن فيه ضوابط الشبهة الموضوعية، فالشك في وجود ضرر في المشكوك شك في موضوع خارجي منشأه غموض الواقع الخارجي، ويزال بفحص المكلف. فما ذكره صاحب الكفاية خلاف المصطلح عليه، هذا أوّلاً.

وثانياً: ليس المحور في البحث لفظ (الشبهة الحكمية والموضوعية) حيث لم يرد في الأدلة الشرعية(1)، فلا يهم كون الشبهة من قبيل الأول أو الثاني، نعم، لا مانع من اختراع لفظ يكون طريقاً أو مشيراً إلى الدليل الشرعي(2)، وبعيداً عن عالم الألفاظ، فلا بد من البحث في جريان الدليل في المقام، فهل أدلة البراءة تجري في هذه الشبهة أم أدلة الاحتياط؟

الإشكال الثاني: لا وجه للاعتراف بعدم وجوب الاحتياط؛ لعدم ما هو منشأ الاعتراف في غيرها من الشبهات الموضوعية ههنا؛ لأنَّ أدلة البراءة لا تشمل المقام، فإنَّ المؤمّن إما العقل وإما النقل، أما العقل فالمفروض حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل، وفي المشكوك يحتمل الضرر، فلا مؤمّن عقلي، وأما النقل فمثل: «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبداً حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(3)، مختص بما إذا كان منشأ الاشتباه وجود الحلال والحرام فعلاً، وعدم ما يميز أنه من أي منهما، ومن

ص: 166


1- حسب التتبع الناقص (منه (رحمه اللّه) ).
2- و لعله خلاف الأولى (منه (رحمه اللّه) ).
3- الكافي 5: 313.

المعلوم أنه ليس منشأ الاشتباه في المقام وجود القسمين.

لكنه محل تأمل؛ لعدم انحصار أدلة البراءة في الدليل المذكور، فتشمله سائر الأدلة.

نعم، لو كان دليل البراءة منحصراً فيه لأمكن القول بعدم شموله للمقام؛ لأنَّ ظاهر (فيه حلال وحرام) أن منشأ الشبهة وجود القسمين في الخارج، كما في اللحم المشتبه، فإنَّ منشأ الشبهة وجود المذكى والميتة، أما في أكل العظم فليس منشأ الشبهة وجود القسمين، فمع فرض أنَّ جميع ما في الخارج معلوم النفع أو الضرر يبقى الشك في العظم، فليس منشأ الشك فيه وجود القسمين، فلا يشمله الدليل المذكور، إلاّ أنّ أدلة البراءة لا تنحصر فيه فقوله×: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1) يشمل مورد البحث، فلو شك في أكل العظم انطبق عليه الدليل، بناء على تفسير الورود بالوصول، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(2) وقد مر أن (نبعث) كناية عن إعلام المكلف، و قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(3)، ولم يبين لنا - فرضاً - حرمة الاقتحام في أكل العظم، وكذلك قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع... ما لا يعلمون»(4).

ص: 167


1- من لا يحضره الفقيه 1: 317.
2- الإسراء: 15.
3- التوبة: 115.
4- وسائل الشيعة 15: 369.

عدم جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية الخطيرة

هذا، ولكن إطلاق كلام الشيخ الأعظم - من اتفاق الكل على جواز الاقتحام في الشبهة الموضوعية - محل تأمل، فلو كان الضرر المحتمل خطيراً لم يجز ذلك، كما لو كان في الظلام ولا يعلم أنه مخزن النفط أو لا، فهل يحق له إشعال النار لتحرق المدينة لو كان نفطاً، أو رأى شبحاً لا يعلم أنه إنسان أو غزال، فهل يحق له الرمي؟

فلا بد من القول: إنَّ أدلة البراءة منصرفة عن أمثال ذلك، كما يراه السيد العم دام ظله(1).

ومع عدم القول بذلك فلا بد من تخصيصها عن عموم أدلة الرفع بالإجماع ونحوه، فإنّ الأمور الخطيرة لا تجري فيها البراءة، وإن كانت الشبهة موضوعية.

وعليه فلو كان الضرر المحتمل خطيراً وجب الاجتناب عن المشتبه وإلا فلا.

الجواب السادس: الظاهر أنَّ العقلاء لا يعتنون بالاحتمال المذكور، فما ذكر من أنَّ المقام صغرى للقاعدة الثانية لا الأولى محل نظر.

نعم، يمكن أن يعتني العقلاء بذلك في موارد، كاحتمال السرطان في أكل الغدد من الحيوان، وأما في غالب الشبهات الحكمية فلا يعتني العقلاء باحتمال الضرر.

ص: 168


1- بيان الأصول 2: 178.

وعليه فلا تكون هذه الموارد مجرى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل العقلي، بل موردها الضرر المحتمل المعتد به عند العقلاء.

فتحصل من ذلك كله أنَّ الشبهة من جهة احتمال ترتب العقوبة الأخروية مؤمَّنة بقاعدة (قبح العقاب)، ومن جهة احتمال ترتب الضرر - غير العقوبة - مؤمّنة بإحدى الأجوبة الستة.

التقرير الثاني: استحالة التكليف بالمجهول

وأما التقرير الثاني لدليل العقل فهو ما ذكره في الغنية(1)،

حيث قال: التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق، وهو محال.

وتبعه جمع من الفقهاء، منهم المحقق الحلي في المعارج(2)، والمحقق القمي في القوانين(3).

ولو ثبت فتكون النتيجة القطع بعدم التكليف المجهول، فيكون رفع التكليف واقعياً؛ لأنَّ التكليف بما لا يطاق محال في عالم الثبوت وصقع الواقع، بخلاف الأدلة المتقدمة، حيث كانت نتيجتها عدم ثبوت التكليف الظاهري، فإنَّ (قبح العقاب) و (رفع ما لا يعلمون) وغيرها لم ينف الحرمة الواقعية، بل مفادها عدم العقاب والرفع الظاهري للتكليف المجهول إن كان ثابتاً واقعاً.

وهو واضح البطلان بظاهره؛ لعدم استحالة التكليف باجتناب المشكوك

ص: 169


1- غنية النزوع: 464.
2- معارج الأصول: 212.
3- قوانين الأصول 2: 16.

الذي لا طريق إلى العلم بحرمته، فالتكليف به تكليف بالمجهول، لا أنه تكليف بما لا يطاق.

ولأجل ذلك وجه الشيخ الأعظم(1) ما في الغنية بأنَّ الغرض من التكليف الطاعة والامتثال، ومعناه الإتيان بالفعل بداعي الأمر، ومع الجهل بالتكليف يستحيل الامتثال بهذا المعنى، حيث لا يعلم حرمة المشكوك، فلا يمكنه اجتنابه بداعي امتثال التكليف؛ لعدم العلم به.

وبعبارة أخرى: إنما يمكن الانبعاث عن البعث فيما لو علم به، وأما لولم يعلم فلا، فقول المولى: اجتنب المشكوك بداعي امتثال اجتنب، محال.

وفي المقام إشكالان:

الإشكال الأول: إنَّ الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل، ولو مع عدم قصد الامتثال، وهذا المعنى واضح في الأمور التوصلية، فإنَّ غرض المولى تحققه في الخارج. نعم، في الأمور التعبدية لا بد أن يكون الانبعاث عن البعث.

لكنه غير وارد؛ لقاعدة ما يعلم عدم ترتبه على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه(2)، فالمولى الذي يعلم عدم ترتب الامتثال والانبعاث بداعي البعث على أمره ونهيه لا يعقل أن يكون غرضه الامتثال.

وأما لو كان بداعٍ آخر كالمضرة، فلا يكون مترتباً على أمر المولى في

ص: 170


1- فرائد الأصول2: 58.
2- كالتاجر الذي يعلم أنه لا يربح في هذه التجارة، حيث لا يعقل أن يتاجر بداعي حصول الربح. نعم، قد يتاجر بداعي آخر، أما داعي الربح فلا يعقل أن يكون غرضاً ومحركاً له.

اللوح المحفوظ، فلا يعقل أن يكون غرض المولى مطلق الاجتناب.

وبعبارة أوضح: إن كان غرض المولى من (اجتنب عن شرب التتن) المكتوب في اللوح المحفوظ اجتنابه بداعي امتثال التكليف فهو محال؛ لفرض جهالته، وإن كان غرضه الاجتناب ولو بداعي وجود المضرة فهو لا يترتب على التكليف المجهول، وإنما اجتنبه المكلف لأنه ضار، فالضرر محركه لا التكليف، وما لا يترتب على التكليف لا يعقل أن يكون غرضاً منه.

الإشكال الثاني: أن يكون الغرض مع الشك إتيان الفعل بداعي حصول الانقياد، فمع احتمال حرمة المشكوك يكون غرض المولى الانبعاث بداعي احتمال وجود النهي.

ولكنه مندفع أيضاً: فهل عندنا دليل على لزوم الانبعاث عن احتمال التكليف؟ إن كان الدليل - فرضاً - (حكم العقل) أو (أوامر الاحتياط) فالتكليف الثاني يغني عن الأمر الواقعي، فيكون إثباته في اللوح المحفوظ لغواً، وإن لم يكن دليل آخر فلا تترتب المحركية على التكليف الواقعي بلا ضم هذه الضميمة؛ لفرض الجهل به.

فالتكليف الواقعي على كلا التقديرين لغو.

لكنه غير تام، لإمكان كون الغرض من إثبات التكليف في صقع الواقع الانبعاث الرجائي - سواء كان واجباً أم مستحباً عقلاً أم شرعاً - فإنه مع احتمال حرمة المشكوك واقعاً يمكن للمكلف أن يجتنبه؛ لاحتمال المبغوضية، لكن لولم يكن تكليف واقعاً فلا يعقل الانبعاث الرجائي، حيث

ص: 171

يقطع المكلف بعدم التكليف، فكيف ينبعث عن احتمال البعث؟!

فما ذكر من لغوية التكليف مع فرض تحقق التكليف الثاني غير تام، فإنه من دون التكليف الواقعي لا يعقل صدور (احتط) لتأخر رتبة الحكم الظاهري عن الواقعي وتفرعه عليه.

والحاصل: إنَّ كون إمكان الانبعاث الرجائي غرضاً للمولى كافٍ في صدق عنوان الطاعة والامتثال، فإنَّ إضافة الفعل إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة كافية لذلك على فرض وجود الحكم الواقعي، كما ذكروا مثل ذلك في مباحث الوضوء أو الصلاة.

هذا تمام الكلام في ما ذهب إليه ابن زهرة وما يرد عليه. وبه ينتهي الكلام في البراءة العقلية.

الاستدلال على البراءة بالاستصحاب

اشارة

الطريق الآخر للاستدلال على البراءة - غير الأدلة الأربعة التي مرت - ما سلكه صاحب الفصول(1)، وهو الاستدلال بالاستصحاب.

ومآله إلى إحدى الطرق المتقدمة، فلو كان الاستصحاب ثابتاً بدليل العقل فمآله إلى العقل، وإن كان ثابتاً بالأخبار فمآله إلى السنة.

والفرق أنَّ الاستدلال إما مباشر وإما غير مباشر، وفي المقام السنة تدل على الاستصحاب، والاستصحاب يدل على البراءة، وهو مغاير للاستدلال على البراءة بنحو مباشر بالسنة.

ص: 172


1- الفصول الغروية: 352.

وهذا الطريق مهم؛ لأنَّ قاعدة (قبح العقاب) مورودة بأخبار الاحتياط، فإنه مع فرض تمامية تلك الأخبار يتم البيان، فتكون رافعة لموضوعها، وهكذا بعض الآيات الكريمة والأخبار الدالة على البراءة مورودة بأخبار الاحتياط، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(1)، فإنّ الغاية التبيين، وأخبار الاحتياط على فرض تماميتها تبيين، فتكون رافعة لموضوع الآية الكريمة. وقوله×: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(2) ولا حجب مع أخبار الاحتياط، وإن كان بعضها معارضاً، إلاّ أنّ الاستصحاب وارد أو حاكم على الاحتياط؛ لأنّ موضوعه الشبهة، ومع الاستصحاب لا شبهة، حيث لا يلزم في اندفاع الشبهة ارتفاعها واقعاً، بل يكفي ارتفاعها تعبداً، فينتفي موضوع أخبار الاحتياط، وقد ثبت في محله أنّ الاستصحاب عرش الأصول ولا أصل يقاومه.

تقريرات الاستصحاب

وللاستصحاب تقريرات:

الأول: استصحاب البراءة الثابتة حال الصغر أو الجنون، وعند البلوغ يشك في انقلاب المنع إلى عدمه.

الثاني: استصحاب البراءة الثابتة قبل الشريعة.

الثالث: استصحاب البراءة الثابتة أول الشريعة.

ص: 173


1- التوبة: 115.
2- التوحيد: 413.

الرابع: استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق الموضوع، أو قبل وجود قيد من قيوده(1).

فينبغي البحث في هذه التقريرات.

1) استصحاب البراءة الثابتة حال الصغر أو الجنون

التقرير الأول: استصحاب البراءة الثابتة حال الصغر أو الجنون(2)، وربما يكون استدلال صاحب الفصول(3) بخصوصه.

لكن أشكل عليه الشيخ الأعظم(4) وقبل توضيحه لا بد من بيان مقدمتين:

الأولى: ما يثبت بأخبار الاستصحاب هو اللوازم الشرعية المجعولة المترتبة على المستصحب لا مطلق اللوازم، كاللوازم العقلية والعادية، ولا مطلق الآثار الشرعية، وإن كانت من المقارنات الاتفاقية لمجرى الاستصحاب، فلو كان لمجرى الاستصحاب مقارن اتفاقي - سواء كان مجعولاً شرعياً أم له أثر شرعي - لم يثبت به.

الثانية: المطلوب في المقام القطع بعدم ترتب استحقاق العقاب على الفعل أو القطع بما لازمه عدم استحقاق العقاب، ولولم يقطع بذلك بعد

ص: 174


1- كما لو لم يكن مستطيعاً، فوعده باذل لا يثق بوفاء وعده، فوجوب الحج عليه محل بحث، ومع الشك في البذل يستصحب عدم التكليف بوجوب الحج (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 2: 59.
3- الفصول الغروية: 352.
4- فرائد الأصول 2: 59.

جريان الاستصحاب، وبقي الاحتمال احتاج الأمر إلى ضميمة قاعدة (قبح العقاب) لدفع الاحتمال، ومعها يلغو إجراء الاستصحاب.

وأما توضيح الإشكال فهو: إنَّ المستصحب لا يخلو من أحد احتمالات ثلاثة:

الأول: أن يكون المستصحب براءة الذمة من التكليف.

الثاني: أن يكون المستصحب عدم المنع من الفعل.

الثالث: أن يكون المستصحب عدم استحقاق العقاب على الفعل.

والمطلوب المذكور(1) لا يترتب على المستصحبات المذكورة؛ لأنّ استحقاق العقاب وعدمه ليس من اللوازم الشرعية المجعولة للمستصحبات المذكورة، بل هو حكم عقلي لا يقبل الرفع والوضع الشرعي(2)، فالمستصحبات الثلاثة لا أثر شرعي لها، والثالث ليس مجعولاً شرعياً.

نعم، أضاف الشيخ(3): إنَّ الإذن في الفعل أمر مجعول قابل للجعل الشرعي، ولازمه عدم استحقاق العقاب، لكن الإذن في الفعل من المقارنات العقلية؛ لعدم المنع من الفعل(4) فلا يثبت.

وإشكال الشيخ الأعظم على صاحب الفصول متين.

ص: 175


1- أي دفع احتمال استحقاق العقاب.
2- كما ذكر في كفاية الأصول: 417. فإن العقل هو الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق (منه (رحمه اللّه) ).
3- فرائد الأصول 2: 60.
4- فلازم عدم منع الشارع من شرب التتن إذنه في شربه، وأثر الإذن عدم استحقاق العقاب، إلا أن الإذن من مقارنات المستصحب.

لكن يرد عليه إشكالات

الإشكال الأول لصاحب الكفاية

حيث لم يرتضه في الدرر(1) مشكلاً عليه بأنَّ الغرض من الاستصحاب إثبات اللوازم الشرعية للمجعول، إن لم يكن المستصحب بنفسه مجعولاً، وأما لو كان المستصحب مجعولاً فلا يلزم أن يكون له أثر شرعي مجعول، والحرمة وعدمها مجعولة شرعاً، فلا يحتاج إجراء الاستصحاب فيهما إلى أثر شرعي. هذا على نحو الكبرى الكلية.

وأما الصغرى: فإنَّ عدم المنع عن الفعل كالمنع عنه جعلي شرعي، لأنّ التكليف إثباتاً ونفياً بيد الشارع، وكما أنَّ للشارع أن يثبت التكليف كذلك يمكنه نفيه، وبمقتضى أخبار الاستصحاب في المقام يثبت عدم منع الشارع - ظاهراً - عن ارتكاب المشكوك، ويترتب على المستصحب (عدم المنع) جميع الآثار، سواء كانت عقلية أم شرعية، فإنَّ المجعول الشرعي لو كانت له آثار عقلية فمع استصحاب المجعول الشرعي تترتب عليه تلك الآثار(2)، وعدم استحقاق العقاب لازم عقلي لعدم المنع الشرعي، سواء كان عدم المنع واقعياً أم ظاهرياً(3).

ص: 176


1- درر الفوائد: 125.
2- كما لو استصحب وجوب صلاة الجمعة، فتثبت الآثار العقلية للمستصحب، كوجوب الطاعة.
3- مثلا لو قال المولى: إني لم أمنع شرب الماء واقعاً، فأثره العقلي عدم استحقاق العقاب واقعاً، ولو قال: إني لم أمنع شرب المشكوك ظاهراً، فأثره العقلي الحكم بعدم استحقاق العقاب على شربه.

والحاصل: أولا: إنّ المنع وعدمه بيد الشارع نفياً وإثباتاً.

ثانياً: ما كان بيد الشارع يمكن استصحابه وإبقاؤه في الظاهر.

ثالثاً: مع جريان الاستصحاب يترتب على المستصحب جميع الآثار العقلية والشرعية.

فلا نحتاج إلى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) لانتفاء موضوعها بالبيان، فإنَّ بيان التكليف وبيان عدم التكليف بيان.

وبعبارة مختصرة: إنّ عدم المنع كالمنع مما يكون بيد الشارع، وما كان كذلك يمكن استصحابه وإن لم يكن له أثر شرعي، واللازم العقلي لاستصحاب عدم المنع - واقعاً أو ظاهراً - عدم استحقاق العقاب، ومعه لا نحتاج إلى قاعدة قبح العقاب؛ لانتفاء موضوعه ببيان المنع أو عدم المنع، وعليه لا إشكال في جريان استصحاب عدم المنع، ويتم كلام صاحب الفصول ولا يرد عليه إشكال الشيخ الأعظم.

إشكال السيد الروحاني على صاحب الكفاية

ولكن أورد السيد الروحاني على الدرر بإشكالين:

1- الإشكال الأول

وحاصله: إنّ عدم المنع من الفعل ليس مجعولاً شرعياً، فلا يمكن استصحابه، فالمستصحب بنفسه ليس مجعولاً شرعياً، ولا أثر شرعي له، فلا يجري الاستصحاب، فما ذكره الشيخ الأعظم تام.

قال في المنتقى(1): إنّ عدم التكليف غير قابل للجعل الشرعي؛ لأجل أنّ

ص: 177


1- منتقى الأصول 4: 457.

العدم يتحقق بعدم جعل الوجود؛ إذ هو لا يحتاج إلى علة، بل هو يتحقق بعدم تحقق علة الوجود، فلا معنى لتعلق الجعل به.

وتوضيحه: إنّ العدم ليس قابلاً للجعل ولا علة له؛ لأنّ العلية بمعنى التوليد أو التأثير، وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فمع كون العدم هالك الذات وباطل الذات ولا شيئية محضة، فكيف يمكن أن يكون مؤثراً أو مولداً، فإنّ ثبوت المحمول - وهو التأثير - فرع ثبوت الموضوع، ومع عدمه لا يعقل أن يكون وجود محمول في المقام، وبناء عليه فالعبارات التي ظاهرها عليّة العدم هي في الواقع مسامحة في التعبير.

مثلا لو سأل سائل: لماذا لم تنبت الأرض؟ فأجيب لعدم نزول المطر، فالعبارة مسامحة عرفية، فإنّ العدم لا يكون علّة للعدم، وواقع الأمر انتفاء علقة العلية بين الوجودين(1)، لا ثبوت علقة العلية بين العدمين(2)، وعليه فالعدم لا يعقل أن يكون معلولاً ومجعولاً.

وقوله: «لأجل أنّ العدم يتحقق بعدم جعل الوجود»(3) أيضاً مجاز، فإنّ ظاهر (الباء) العلية، وهو في واقعه عدم تحقق علقة العلية بين الوجودين، ومعها لم يجعل تكليف، لا أنه جعل عدم التكليف، فالعدم لا يحتاج إلى علة، بل لا يعقل أن يكون له علة. والحاصل: إنّ عدم التكليف ليس مجعولاً.

ص: 178


1- وجود المطر ووجود الزرع.
2- فلا يعقل أن تكون علقة العلية ثابتة بين العدمين: عدم المطر وعدم الزرع.
3- منتقى الأصول 4: 457.

وبعد تمامية هذه المقدمة نقول: إن عدم التكليف أو عدم المنع ليس مجعولاً شرعا(1)، ولا أثر شرعي له، فكيف يجري الاستصحاب فيه؟

لكنه محل تأمل كلياً، وفي خصوص المقام، فإنّ العدم التكويني غير قابل للجعل، وأما التشريعي فيختلف عنه، فالمحال التكويني قد يكون ممكناً تشريعاً، فإنّ عالم التشريع اعتبار، وهو عالم الفرض، فيكون خارجاً عن عالم الخارج والذهن، وفي الحقيقة هو فرض عالم، وإلا فلا عالم وراء عالم العين والذهن، وكما يمكن للمولى عدم جعل الوجود بأن يقول: إنني لم أجعل الحرمة، يمكنه جعل عدم الوجود بأن يقول: إنني جعلت عدم الحرمة، ولا محذور عقلي في هذا الاعتبار، بل ذكر في محله أنه لا إشكال في اجتماع النقيضين والضدين في عالم الاعتبار(2) في حد ذاته، بغض النظر عن سائر المحاذير كاللغوية، فليس ذلك ممتنعاً بالامتناع الذاتي عقلاً، وإن كان لغواً فهو محال بالغير، لكنه غير ممتنع ذاتاً.

وعليه لا نرى في بادئ النظر إشكالاً في جعل العدم في عالم التشريع.

وأما في خصوص المقام: فلو سلمنا أنّ العدم مطلقاً غير قابل للجعل تكويناً وتشريعاً، لا العدم المطلق ولا المضاف، إلاّ أنّ الكلام ليس في جعل العدم، بل في البقاء الاعتباري للعدم غير المجعول، فعدم التكليف غير المجعول في حالة الصغر هل هو باق اعتباراً في حالة البلوغ؟ ولا شك أنّ البقاء الاعتباري مجعول شرعي ويحتاج إلى الجعل.

ص: 179


1- لأنّ العدم لا يعقل أن يكون مجعولاً.
2- كأن يقول المولى: إني جعلت الوجوب وعدم الوجوب.

مثال للتقريب: إنّ حياة زيد ليست مجعولة شرعاً، لكنّ بقاءها الاعتباري في ظرف الشك مجعول شرعاً قطعاً، فيكون المستصحب أمراً مجعولاً. نعم، هنالك فرق بين حياة زيد وعدم التكليف، وهو أنّ البقاء الاعتباري لزيد يحتاج إلى الأثر الشرعي كحرمة زوجته، وأما فرض بقاء عدم التكليف فلا يحتاج إلى الأثر الشرعي؛ لأنه بنفسه أثر، كما أنّ استصحاب الوجوب لا يحتاج إلى أثر، فهو بنفسه أثر.

وبعبارة أخرى: الجعل التعبدي يحتاج إلى مصحح عقلائي، ولا مصحح في اعتبار بقاء حياة زيد لولم يكن له أثر شرعاً، أما فرض بقاء عدم التكليف فهو بنفسه مصحح عقلائي.

فالذي يبدو في بادئ النظر أنّ ما ذكره في الدرر تام.

2- الإشكال الثاني(1)

إن الاستصحاب يتكفل جعل العدم ظاهراً وهو لا ينفي احتمال وجود التكليف واقعاً، و معه يحتمل العقاب على المخالفة، فلا بد من ضم قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، ومعها فالتمسك بالاستصحاب لغو، على ما مرّ توضيحه.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ جعل عدم المنع ظاهراً مساوق لجعل الإباحة ظاهراً، ومع جعل الإباحة ظاهراً لا احتمال للعقاب كما يعترف هو بذلك، فلا يلزم التمسك بقاعدة قبح العقاب.

ص: 180


1- وهو إشكال ترتبي.

والحاصل: إنّ احتمال العقاب كما ينتفي بتصريح الشارع بالترخيص ظاهراً، كذلك ينتفي بتصريح الشارع بجعل عدم المنع ظاهراً.

ولا يوجد فارق في بادئ النظر بين الجعل بالعموم والجعل بالخصوص، حتى يقال: إنّ جعل الترخيص جعل بالخصوص لموارد الشبهة التحريمية، وهو ينافي احتمال العقاب، وأما جعل الاستصحاب جعل عام، وما نحن فيه فرد من أفراده، ولا ينافي احتمال العقاب، فإنّ التفريق ليس فارقاً.

الإشكال الثاني

على ما ذكره الشيخ(1): إنّ المستصحب في المقام هو الإباحة الشرعية، ولا شك أنها من المجعولات الشرعية، فما ذكر من أنّ المستصحب ليس مجعولاً شرعياً محل تأمل.

ويتم بيان الإشكال في ضمن أمرين:

الأول: إنّ أدلة الواجبات والمحرمات قيدت بدليل رفع القلم بالنسبة إلى الصبي، لكن لا موجب لتقييد أدلة المباحات الواقعية بالدليل المذكور بالنسبة إليه، وعليه تكون أدلة المباحات مطلقة تشمل البالغ وغير البالغ.

الثاني: يحتمل أن تكون الإباحة الثابتة للصبي اقتضائية، وللبالغ لا اقتضائية.

فيختل الاستصحاب في أحد ركنيه، أما بالمعنى الأول للإباحة فيختل الركن الثاني؛ لأنه مقطوع الارتفاع في البالغ، وأما بالمعنى الثاني فيختل الركن الأول؛ لعدم القطع بحدوثها له، إلاّ أنّ الأركان تامة في الجامع بين

ص: 181


1- أوثق الوسائل: 479.

الإباحتين، فيكون من قبيل القسم الثاني من الاستصحاب الكلي، وعليه يصح استصحاب الإباحة الثابتة في حال الصغر.

ولكنهما محل تأمل:

أما الأول: فقد يقال: إنّ إطلاق القلم كما يرفع الواجبات والمحرمات يرفع المباحات أيضاً(1)،

فلا موجب للقول باختصاص القلم بقلم التكليف، بل مطلق القلم إيجاباً وتحريماً وإباحة، فالصبي كالمجنون ليس طرفاً لخطاب الشارع بأي نحو من أنحاء الخطاب، فقوله: «لا موجب لتقييد أدلة المباحات بالنسبة إلى الصبي» غير تام، إلاّ أنْ يدعى الانصراف.

وأما الثاني: فقد يتأمل في استصحاب كلي الإباحة؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلو ثبتت إباحة شيء - كشرب الماء - ثبتت إباحته للصبي بإطلاق دليله، فلو شك في ثبوت الإباحة أو ارتفاعها للبالغ كان مجرى الاستصحاب، لكن البحث في المقام أنّ الشيء مشكوك الإباحة فتحتمل حرمته ثبوتاً، فكيف يمكن استصحاب الإباحة مع اختلال الركن الأول حيث لا يقين سابق.

فلم يتضح لنا ما ذكر في بادئ النظر.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل.

عدم اتحاد الموضوع يخل بالاستصحاب:

الإشكال الثاني: لا بد في جريان الاستصحاب من اتحاد القضيتين

ص: 182


1- ولم يثبت أن كونه في مقام الامتنان علة، بل هو علة مستنبطة.

المشكوكة والمتيقنة، لينطبق صدق عنوان النقض، وليكون مشمولاً لقوله: (لا تنقض) وهذا ركن ثالث، أما لو كانت القضية المشكوكة والمتيقنة متعددة، لم يكن عدم بقاء الحكم نقضاً لليقين بالشك حتى يكون منهياً عنه، ويكون إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وهو قياس.

وفي المقام عدم التكليف ثابت لعنوان الصبي، ومع البلوغ يتغير العنوان إلى عنوان آخر، فلا يجري استصحاب عدم التكليف.

ويمكن أن يجاب عنه: إنَّ الملاك في اتحاد القضيتين نظر العرف، لا حكم العقل ولا لسان الدليل، ولو استصحب عدم التكليف الثابت في حال عدم التمييز أمكن أن يكون الموضوع متعدداً في نظر العرف، وأما استصحاب عدم التكليف الثابت في حال التمييز - كقبل البلوغ بدقائق وهو في كمال العقل - فهو جار، فإن الموضوع واحد في نظر العرف لتغير حالاته لا ذاته.

نعم، مع الشك في الوحدة العرفية لا مجال للاستصحاب.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّه) (1)

من أنّ الأثر مترتب على نفس الشك، فموضوعه محرز بالوجدان، فيكون الحكم محرزاً كذلك، فيرجع إحرازه بالتعبد الاستصحابي إلى تحصيل الحاصل، بل إلى أردأ أقسامه، وهو تحصيل المحرز الوجداني بالأصل.

وتوضيحه إجمالاً: إنما يجري الاستصحاب إذا كان الأثر أثر الواقع(2)،

ص: 183


1- أجود التقريرات 3: 332.
2- فلو كانت الطهارة أثر عدم الملاقاة فمع الشك فيها نستصحب عدمها، كما أنّ وجوب الحج مترتب على الاستطاعة فمع الشك في حصولها يجري الاستصحاب.

لكن لو كان الأثر مترتباً على صرف الشك في الواقع فلا حاجة إلى الاستصحاب؛ لترتبه بمجرد الشك، وبما أنّ الشك محرز بالوجدان(1) فيكون حكمه محرزاً بالوجدان كذلك، فإنّ الشك في الإتيان موضوع الحكم بوجوب الإتيان عقلاً، فالموضوع والحكم كلاهما وجدانيان، فلا حاجة إلى استصحاب عدم الإتيان، بل هو تحصيل الحاصل؛ لوجوب الإتيان بصرف الشك فيه، فلو أريد إثبات وجوب الإتيان بالاستصحاب لكان تحصيلاً للحاصل، بل أردأ أنواعه؛ لإرادة إثبات الشيء الثابت بالوجدان بالتعبد.

وبعبارة مختصرة: إنّ وجوب الإتيان ثابت بالوجدان؛ لأنّ موضوعه وجداني، فيكون محموله كذلك، فإرادة إثبات الأثر المحرز بالوجدان بالتعبد الاستصحابي أردأ أنواع تحصيل الحاصل، كما لو كان الوقت نهاراً بالوجدان فيراد إثباته بتلمس خبر الثقة بجهد.

وعليه، فالعقل حاكم بقبح العقاب بلا بيان بمجرد الشك، وهو مؤمّن وجداني وعقلي، فلا حاجة إلى الاستصحاب الذي هو مؤمّن عقلي.

وتفصيل الكلام في مناقشته موكول إلى غير المقام، ولكن إجمالاً يرد عليه أمور ثلاثة:

الأول: النقض بالأمارات النافية للتكليف، فلو أخبر الثقة بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان لغواً؛ لإحراز عدم الوجوب بالوجدان؛ لقبح العقاب بلا بيان، فيكون التمسك بها من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، فيلزم

ص: 184


1- كما لو شك المكلف في الإتيان بصلاة الظهر قبل الغروب، فوجوب الإتيان مترتب على صرف الشك فيه؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

ترك جميع الروايات والأمارات النافية، وهل يمكن الالتزام بذلك؟ فما يقال فيها نقول به في الاستصحاب النافي.

الثاني: إنما يتحقق تحصيل الحاصل إذا كان الأثر المترتب على الاستصحاب مسانخاً مع الأثر المترتب على صرف الشك، مع أنّ سنخ الأثر في المقام مختلف، فأثر الاستصحاب ثبوت عدم التكليف، ولو بالثبوت التعبدي، وأثر الشك عدم ثبوت التكليف، وبينهما فرق كبير.

وبعبارة أخرى: إنّ أثر الشك عدم قابلية الموجود - على فرض الوجود - للمنجزية، وأثر الاستصحاب عدم وجود المنجز.

الثالث: لو فرض أنّ إجراء الاستصحاب تحصيل الحاصل، فهو محال في دائرة التكوين، وأما في دائرة التشريع فليس محالاً، وذلك لما مرّ من اختلاف مزاج عالم التكوين والتشريع.

نعم يبقى في المقام إشكال وهو: وإن لم يكن ذلك تحصيلاً للحاصل إلاّ أنّ التعبد الاستصحابي لغو مع وجود قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وفيه: إنه لا لغوية مع وجود المصحح العقلائي، وهو في المقام:

أولاً: التعبد الاستصحابي كاف لدفع الشك، مع الشك في القاعدة أو إنكارها، كما أنكرها جمع من المحققين.

وثانياً: يكفي التأكيد كما هو الحال في جميع الأوامر الإرشادية.

وثالثاً(1): يكفي في فائدة التعبد الاستصحابي التخلص من محذور ورود أدلة الاحتياط، فإنها على فرض تماميتها واردة على القاعدة؛ لأنها بيان، وأما

ص: 185


1- و هو الأهم.

مع وجود التعبد الاستصحابي فهو حاكم، أو وارد على أدلة الاحتياط، ومع عدم ارتضائه فلا أقل من التعارض، حيث إنّ مقتضى أدلة الاحتياط التوقف، ومقتضى الاستصحاب جواز الاقتحام، فلا بد من التمسك بالمرجحات، كالكتاب أو السنة المتواترة، حيث يرجحان الاستصحاب، كما في قوله تعالى: {وَ ما كُنَّا مُعَذِّبينَ}(1) أو يتساقطان مع فرض عدم وجود المرجح، فينفتح المجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا يمكن القول بلغوية التعبد الاستصحابي.

والحاصل: إنه لا مانع من تحصيل الحاصل في الأمور الاعتبارية، ولا لغوية مع وجود المصحح العقلائي بأحد الأنواع الثلاثة.

فما أفاده المحقق النائيني(2) لا يخلو من تأمل.

2-3) استصحاب البراءة الثابتة قبل الشريعة أو أول الشريعة:

التقرير الثاني والثالث: هو استصحاب عدم التكليف الثابت قبل الشريعة أو أول الشريعة، حيث لم تجعل الحرمة للمشكوك، فيشك في جعلها، فمقتضى الاستصحاب بقاء عدم التكليف.

إشكال المحقق النائيني على التقريرين

لكن مضافاً إلى الإشكالات المتقدمة، أورد عليه المحقق النائيني (رحمه اللّه) (3) ما حاصله: إنّ استصحاب عدم الجعل غير جارٍ، وكذلك استصحاب الجعل،

ص: 186


1- الإسراء: 15.
2- من أن التعبد الاستصحابي من أردأ أنواع تحصيل الحاصل. أجود التقريرات 2: 281.
3- أجود التقريرات 2: 216.

لا في طرف الاثبات ولا في طرف النفي؛ لأنه من الأصول المثبتة.

بيانه: إنّ جميع الآثار الشرعية، بل العقلية مترتبة على المجعول لا على الجعل، فإنّ الجعل لا أثر شرعي وعقلي له إلاّ باعتبار استتباعه للمجعول، وبناءً عليه يكون استصحاب عدم الجعل لترتيب آثار عدم المجعول أصلاً مثبتاً(1)، وقد صرح في موارد متعددة بعدم جريان استصحاب الجعل وعدمه مطلقاً.

وأورد(2) عليه بوجوه خمسة:

الوجه الأول: ما ذكره بعض المتأخرين(3) من أنّ المجعول ليس شيئاً وراء الجعل.

والظاهر أنّ نظره إلى أنهما متحدان بالذات، وإن كانا مختلفين بالاعتبار، كالكسر والانكسار، فليسا حقيقتين في الخارج، بل هما حقيقة واحدة، كما ذكر مثله المتكلمون(4) في باب الإيجاد والوجود، فلو لوحظ انتساب الحقيقة إلى الجاعل سمي إيجاداً، ومع قطع النظر عن ذلك سمي وجوداً، وهكذا في الكسر والانكسار، وعليه: فإنّ جميع آثار المجعول مترتبة على ذات الجعل، وجميع آثار عدم المجعول مترتبة على عدم الجعل، ومع تحقق الوحدة الذاتية لا يكون الأصل مثبتاً؛ لعدم وجود واسطة في المقام.

ص: 187


1- فيقال: الأصل عدم الجعل، فلا مجعول فلا أثر شرعي وعقلي من آثار المجعول.
2- أو يمكن أن يورد عليه.
3- بحوث في علم الأصول 5: 71.
4- هداية المسترشدين 1: 641.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الظاهر أنّ الجعل والمجعول يطلقان على معنيين، وقد وقع الخلط بينهما، فالجعل بمعنى الاعتبار، والمجعول بمعنى المعتبر، وهما لا ينفكان، ويمكن دعوى كونهما أمرين متحدين بالذات، متغايرين بالاعتبار، حيث لا يعقل الاعتبار بلا معتبر وبالعكس، بل هما حقيقة واحدة، وكأنّ المستشكل نظر إلى هذا المعنى.

الثاني: الجعل بمعنى ثبوت الحكم في الشريعة و المجعول بمعنى ثبوت الحكم في ذمة المكلف ولا إشكال في تغايرهما حقيقة وإمكان انفكاك أحدهما عن الآخر، كما لو شرع حد السارق فمع الجعل يثبت الحكم في الشريعة ويكون أحد الأحكام الشرعية بشروطها التي تتجاوز الأربعين شرطاً، لكن لولم يكن هنالك سارق في الخارج لم يثبت الحكم في ذمة المكلف، وأما لو تحققت الشرائط تحقق المجعول بمعنى وجوب القطع.

وكما لو شرع الزكاة في الأربعين شاة، فمن لا يملك النصاب فوجود الحكم في حقه كالعدم لا أثر له، فالأثر الشرعي، كالحكم بالفسق والعدالة، مترتب على المجعول، فلو ثبت الحكم في ذمة المكلف فلم يمتثل فهو فاسق، و هكذا الآثار العقلية، كوجوب الطاعة وحرمة المعصية.

والظاهر أنّ المحقق النائيني (رحمه اللّه) نظر إلى أنّ جميع الآثار الشرعية والعقلية مترتبة على المجعول بالمعنى الثاني، وإلاّ فثبوت الحكم في الشريعة لا أثر له للمكلف.

والحاصل: إنّ استصحاب عدم الجعل لا أثر له؛ لأنّ الأثر أثر المجعول وعدمه، فالوجه الأول غير تام.

ص: 188

الوجه الثاني: إنّ الأثر المطلوب في المقام أعم من الاثنين، حيث إنه مترتب على كل من عدم الجعل وعدم المجعول، وهو إطلاق العنان واللاحرجية العقلية، وهو كافٍ في صحة التعبد الاستصحابي عند العقلاء.

ولكنه غير وارد؛ لأنّ الأثر أثر عدم المجعول بالدقة لا أثر عدم الجعل، كما اتضح في البيان المتقدم.

الوجه الثالث: سلمنا أنّ الأثر أثر عدم المجعول، وأنّ هنالك واسطة عقلية لكنها خفية، فلو لم يجعل الشارع الحرمة للمشكوك حكم العرف بإطلاق العنان واللاحرجية عقلاً باقتحامه، ففي الواقع اللاحرجية العقلية مبتنية على عدم المجعول لكنها واسطة خفية، والشاهد على ذلك أنه لو كان الجعل ولم يكن المجعول لحكم العقل بإطلاق العنان.

وقد ذكر في مباحث الاستصحاب أنّ خفاء الواسطة يخرج الأصل عن كونه مثبتاً.

الوجه الرابع: نقضاً باستصحاب عدم النسخ، وهو من المسلمات، فلو شك في حلية الزواج الموقت جرت أصالة عدم نسخه، فما هو أثره، مع كون الآثار آثار المجعول؟

لكنه قابل للدفع بأنّ مرجع استصحاب عدم النسخ إلى إطلاق الدليل، فلا استصحاب في الواقع، بل يحكم إطلاق دليل (فما استمتعتم به منهن)(1).

الوجه الخامس: لو لم تتم جميع الأجوبة المتقدمة فنستصحب عدم المجعول، فقبل الشريعة وفي أولها لم تكن هنالك حرمة، فنستصحب عدم

ص: 189


1- النساء: 24.

المجعول، وبذلك نتخلص من محذور الواسطة.

4) استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق الموضوع

التقرير الرابع: استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق الموضوع للتكليف المشكوك، أو قبل تحقق قيوده(1).

لكنه مشروط بشرطين:

الأول: اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة، فمع تبدل الموضوع - لا حالاته و طوارئه - لا يجري الاستصحاب؛ لاختلال الركن الثالث.

والثاني: أن لا يكون المبنى الوجوب المعلق، وأما عليه، كما هو مبنى الشيخ في مطارح الأنظار(2) خلافاً للآخوند(3)، فإنّ العدم لا حالة سابقة متيقنة فيه.

ولكن يظهر الإشكال عليه و الجواب مما تقدم.

تنبيهات

اشارة

يبقى الكلام في تنبيهات:

التنبيه الأول: لغوية دليل البراءة مع جريان استصحاب عدم التكليف

قد يشكل في المقام بأنّ جريان استصحاب عدم التكليف، بأي نحو من الأنحاء، رافع لموضوع البراءة تعبداً؛ لأنه حاكم عليها، بل على جميع الأصول العملية، وبما أنه جارٍ في جميع الشبهات الحكمية، فيستلزم لغوية

ص: 190


1- كما مثلنا له بالشك في وجوب الحج فيما لو بذل من لا يوثق ببذله، فيستصحب عدمه.
2- مطارح الأنظار: 50.
3- درر الفوائد 1: 347.

دليل البراءة.

ويجاب عنه بوجوه:

الجواب الأول: ما ذكره بعض الأعلام(1):

من أنّ دليل البراءة لا يدل على أزيد من التأمين في الشبهات، فلعله بنكتة الاستصحاب.

توضيحه: لو سأل المستفتي عن حكم ماء يشك في ملاقاته للنجاسة، أمكن للمفتي أن يجيبه باستصحاب عدم الملاقاة أو الحكم بالطهارة، والثاني لا يتعين كونه إعمالاً لأصالة الطهارة، بل قد يكون حكماً بالطهارة بنكتة الاستصحاب، ولا محذور فيه.

وبعبارة أخرى: تارة يلاحظ نفس الاستصحاب، وتارة يلاحظ مسببه، وهو الحكم بالطهارة، ويصح التعبير بكليهما.

لا يقال: إنّ ذلك يوجب إلغاء البراءة المصطلحة.

فإنه يقال: لكنه لا يوجب إلغاء دليلها، نعم يستلزم إلغاء البراءة المصطلحة في الكتب الأصولية، فالمولى يعبر عن الاستصحاب بنتيجته، وهي عدم التكليف و إطلاق العنان واللاحرجية الشرعية، وجواز الاقتحام، فيكون تعبيراً آخر عن استصحاب عدم التكليف في جميع أدلة البراءة الشرعية.

وأشكل عليه بأنه خلاف ظاهر أدلة البراءة، فإنّ ظاهرها أنّ التأمين بملاك الشك وعدم العلم بالتكليف، لا بملاك سبق عدم التكليف. والجواب بعدم ظهور أدلة البراءة في ذلك.

ص: 191


1- بحوث في علم الأصول 5: 72.

ونظيره رواية مسعدة بن صدقة: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة»(1) فهذا المورد ليس من موارد أصالة الحل؛ لوجود الحاكم عليه، وهو قاعدة اليد، والتي تعتبر من الأمارات، فلا تدع مجالاً للأصول العملية، فكيف يكون مثالاً لأصالة الحل «والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً»(2) وهذا أيضاً ليس مورداً لأصالة الحل، بل قاعدة اليد «أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك»(3) و ليس هذا أيضاً مجرى أصالة الحل، بل مجرى العدم الأزلي في الأول والنعتي في الثاني، فالجواب عن ذلك أنه ليس المراد من الرواية أصالة الحل، بل الحكم بالحلية، وهوقد يبنى على قاعدة اليد أو استصحاب العدم الأزلي أو النعتي، أو قاعدة الغلبة العقلائية أو أصالة الحل، فقد بين الإمام× النتيجة ولم يبين ملاك النتيجة.

وقد تكون أدلة البراءة كذلك، فلا تلغى، وإنما لا يكون هنالك أصل بعنوان أصالة البراءة، ولا توحشنا هذه النتيجة، حيث لا يترتب عليها محذور.

الجواب الثاني: الإشكال مبني على مبنيين:

1 - إنّ الحكومة هي ملاك تقديم الاستصحاب على البراءة.

ص: 192


1- تهذيب الأحكام 7: 226.
2- تهذيب الأحكام 7: 226.
3- تهذيب الأحكام 7: 226.

2 - إنّ جريان الدليل الحاكم مانع من ثبوت الدليل المحكوم.

وهما ممنوعان:

أما الأول: فلأنّ ملاك التقديم الأظهرية أو التوفيق العرفي، لا الحكومة ومجراهما في الدليلين المتكاذبين، لكن لو لم يكن تكاذب بين الدليلين فلا مانع من إعمال الدليلين معاً في عرض الآخر، فلا مانع من إعمال أصالة البراءة في عرض استصحاب عدم التكليف.

وأما الثاني: لو سلم أنّ ملاك التقديم هو الحكومة، وهي في الواقع تخصيص بلسان رفع الموضوع(1)، وهو فرع التنافي بين الدليلين أو المدلولين، ولا تنافي في المقام.

والحاصل: إنّ مفاد الاستصحاب والبراءة واحد، ولا تنافي بينهما، ولا مانع من جريانهما معاً في المقام.

والبحث في المبنى والبناء موكول إلى محله.

لكن يبقى إشكال واحد، وهو لغوية دليل البراءة مع فرض توافق المفادين.

لكنه قابل للدفع بالتأكيد، فمفاد البراءة مؤكد لمفاد الاستصحاب.

ومع عدم التسليم به فلابد من الالتزام بلغوية الأمارات وجميع الأصول المتوافقة، كما لو وافقت السنة المطهرة القرآن الكريم، أو وافق الدليل الشرعي الدليل العقلي، أو وافق الاستصحاب مثله، كاستصحاب عدم التكليف أول الشرع الموافق لاستصحاب عدم التكليف قبل البلوغ، ولا

ص: 193


1- والدليل الحاكم لا يرفع واقعاً موضوع الدليل المحكوم.

يمكن ذلك، بل هو تأكيد(1)، فإنّ الحكم باللغوية موقوف على نفي جميع الفوائد، ولا يمكن نفي جميع فوائد الدليل المحكوم.

ولو تم كان من آثاره إجراء جميع الأصول العملية في عرض الأمارات مع توافقهما، كما كان دأب المتقدمين، حيث كانوا يستدلون بالأمارات والأصول العملية في عرض واحد، بما أشكل عليهم المتأخرون.

الجواب الثالث: سلمنا إلا أنَّ البراءة جارية فيما لولم يجرِ استصحاب عدم التكليف، و ذلك في موارد:

أولاً: في تعاقب الحالتين المتضادتين في الشبهات الموضوعية، كتوارد الطهارة والنجاسة مع الجهل بالمتقدم منهما والمتأخر، حيث لا يجري الاستصحاب، للتعارض أو لعدم إحراز اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن.

ويمكن جريانها في الشبهات الحكمية، كما لو تعاقب التحليل والتحريم

على الشيء، وجهل المتقدم والمتأخر فيسقط الاستصحابان، فتصل النوبة إلى أصالة البراءة، كما في لحوم الحمر الأهلية، حيث ورد في بعض الروايات أنها حللت وحرمت (2).

ثانياً: فيما لو كان الموضوع متغيراً، بحيث لم يجر الاستصحاب، أو

ص: 194


1- كقول ابن مالك: وما من التوكيد لفظي يجي***مكرراً كقولك ادرجي ادرجي شرح ابن عقيل 2: 213.
2- وسائل الشيعة 24: 118-119.

شكك في وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة، كتبخر ثلاثة أرباع ماء الحوض، فلا يمكن استصحاب كريته، لتبدل الموضوع أو للشك في أنه عين الموضوع السابق أو لا(1).

وموارد أخرى إذا لم يكن للاستصحاب مجال.

إلاّ أن يقال: إنّ هذه الموارد نادرة جداً ويبعد أن تكون الأدلة الكثيرة الدالة على البراءة بلحاظها.

ولكنه قد يتم بالنسبة إلى المورد الأول، لكنه ليس كذلك في المورد الثاني. فالإشكال بلغوية البراءة مع جريان استصحاب عدم التكليف محل تأمل.

التنبيه الثاني: تعارض استصحاب عدم الإلزام مع استصحاب عدم الترخيص

الإشكال الآخر في المقام: هو تعارض استصحاب عدم التكليف والإلزام في الصغر، أو قبل الشريعة أو أول الشريعة مع استصحاب عدم جعل الترخيص، فإنّ الإلزام والترخيص حادثان والأصل عدمهما، ومع جريان الاستصحابين وتعارضهما يتساقطان، فتصل النوبة إلى أصالة البراءة.

وأجاب عنه في المصباح بجوابين(2):

الجواب الأول: يتوقف توضيحه على بيان أمرين:

الأمر الأول: إنّ المستفاد من الأدلة الشرعية أنّ الترخيص ثابت في كل مورد لم يجعل فيه الإلزام، فكل ما لم يجعل فيه إلزام فهو مرخص فيه.

ص: 195


1- كما أشكلوا في صحة استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ لتغير الموضوع.
2- مصباح الأصول 2: 336.

واستدل له بقوله×: «اسكتوا عما سكت اللّه عنه»(1)، فما سكت اللّه عنه ولم يجعل فيه الوجوب والتحريم فالعباد مرخصون في فعله أو تركه.

كما استدل السيد الخوئي لذلك بالروايات الكثيرة التي ورد الردع فيها عن كثرة السؤال، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ بني اسرائيل شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم»(2).

كما استدل في الدراسات(3) على ما حكي عنه بقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(4).

وقد قيل(5): إنّ الحديث ناظر إلى الإتيان بأجزاء الكل، أو أفراد الكلي، ومفاده اشتراط التكليف بالقدرة، فلا ربط له بالمقام.

لكن الظاهر أنّ نظر المستدل إلى صدر الحديث، حيث قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن اللّه فرض عليكم الحج، فقام سراقة وقال: في كل عام أو في هذا العام، فسكت (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: وما يؤمنك أن أقول: نعم، ولو قلت: نعم لوجب عليكم، ولو وجب عليكم ما استطعتم»(6).

فإنّ الطبيعي يمتثل بالمرة، ولا يعتنى باحتمال الإلزام في صورة السؤال عن وجوبه في كل عام.

ص: 196


1- عوالي اللئالي 3: 116.
2- مستدرك الوسائل 16: 55.
3- دراسات في علم الأصول 3: 272.
4- عوالي اللئالي 4: 58.
5- مصباح الأصول 2: 480.
6- بحار الأنوار 22: 31.

والحاصل: إنّ الروايات الواردة بألسنة متعددة تفيد الكبرى الكلية، وهي أنّ كل ما لم يثبت فيه الإلزام فقد ثبت فيه الترخيص.

الأمر الثاني: لو كان هنالك أصلان، أحدهما في رتبة الموضوع، والآخر في رتبة المحمول، فالأصل الأول حاكم على الثاني؛ لأنّ الشك في المحمول فرع الشك في الموضوع، ومع وجود أصل يعالج الموضوع لا يبقى شك - تبعداً - في المحمول، فلا تصل النوبة إليه. كما في الشك في كرية ماء وقع فيه الدم فإنّ استصحاب الكرية حاكم على استصحاب عدم الانفعال.

وما نحن فيه كذلك، فإنّ استصحاب عدم الإلزام في رتبة الموضوع، واستصحاب عدم الترخيص في رتبة المحمول، ومع جريان الأول لا يبقى مجال للثاني؛ لحكومته عليه، فالقول بتعارضهما غير تام، بل الجاري في المقام أصالة عدم الإلزام.

وأشكل عليه بعض المحققين(1) بأنه من قبيل أخذ عدم أحد الضدين في موضوع الضد الآخر، وهو مما لا يرتضيه السيد الخوئي.

ففي حديث الإطلاق: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(2) لو كان معنى الإطلاق الإباحة الواقعية، ومعنى الورود الصدور، أي كل شيء مباح واقعاً حتى يصدر فيه نهي، قال السيد الخوئي: «فهذا المعنى من الوضوح بمكان كان بيانه لغواً لا يصدر من الإمام×، فإنه من جعل أحد الضدين غاية

ص: 197


1- بحوث في علم الأصول 5: 74.
2- وسائل الشيعة 6: 289.

للآخر، ويكون من قبيل أن يقال: كل جسم ساكن حتى يتحرك »(1).

لكنه غير وارد، فاللغوية أنما تتحقق في الضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون(2)، أما لو كان هنالك ضد ثالث فلا يكون أخذ أحد الضدين غاية لغواً.

وأما ما نحن فيه، فإنّ جعل الإلزام والترخيص لهما ثالث، وهو سكوت المولى، حيث لم يجعل الإلزام ولا الترخيص، وهو متصور في المقام.

ومثال ذلك: مقدمة الواجب، فإنّ الشارع سكت عنها، فهي ليست واجبة ولا محرمة ولا مباحة، وإنما العقل يحكم بوجوبها، وكذلك الضد العام أو الخاص للواجب، كاستدبار الشمال في مَنْ قبلته الجنوب.

وعليه، مع إمكان الضد الثالث - وإن لم يكن واقعاً - لا يكون جعل أحد الضدين غاية للآخر لغواً.

لكن يبقى الكلام في تمامية الكبرى الأولى، فهل يستفاد من الأدلة أنّ كلَّ ما لم يجعل فيه إلزام فهو مرخص فيه، بمعنى أنه مباح؟

كما أنّ ما ذكره من حكومة الأصل الموضوعي على الحكمي أنما يتم فيما لم تكن أمارة في البين، وأما مع وجودها فهي الحاكمة.

فلو كان هنالك دليل على أنّ كلَّ ما لم يجعل فيه إلزام فهو مرخص فيه اندفعت أصالة عدم الترخيص بالدليل، فلا يكون شك معه في الترخيص الشرعي.

ص: 198


1- مصباح الأصول 2: 280.
2- لو قلنا: أنهما لا ثالث لهما.

والفارق بينهما من الناحية الفنية في كيفية البيان، فتارة نقول: إنّه مع وجود الأمارة لا مجال للأصل الحكمي، وتارة نقول: إنّ الأصل الموضوعي حاكم، ولا بد من التعبير فنياً بالأول لا الثاني.

والنتيجة: إنه لا مجال لأصالة عدم الترخيص.

الجواب الثاني(1): لا مانع من جريان كلا الاستصحابين، حيث لا يلزم من ذلك مخالفة عملية قطعية، وهو كافٍ لنفي استحقاق العقاب؛ لأنه مترتب على ثبوت المنع.

والنتيجة: إنه مع اقتحام المشكوك لا يقطع المكلف بالمخالفة العملية للتكليف الواقعي، وإنما المتحقق المخالفة الاحتمالية العملية، والمخالفة القطعية العلمية، والثاني لا يشكل محذوراً، والأول مؤمَّن بالاستصحاب.

لكن يرد عليه:

أولاً: مبنى، فليس المحذور مجرد المخالفة العملية القطعية، بل الأعم من العملية والعلمية، كما هو مبنى السيد الوالد (رحمه اللّه) ، حيث يرى المحذور في المخالفة العلمية أيضاً.

مثلاً، لو سقط الدم في أحد الإناءين، فإنّ استصحاب طهارتهما يؤدي إلى المخالفة العملية القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فلا يجري الأصلان، لكن لو كان الإناءان نجسين، وعلم بطرو التطهير على أحدهما، فعلى مبنى السيد الخوئي لا إشكال في استصحاب نجاستهما معاً؛ لأنّ الأثر وجوب الاجتناب عن كليهما، ولا مخالفة عملية في ذلك للتكليف الواقعي

ص: 199


1- مصباح الأصول 2: 291.

عادة، لكن مبنى السيد الوالد عدم صحة ذلك؛ للعلم ببطلان أحد الاستصحابين، فإنّ نفس المخالفة العلمية مانعة عن ذلك، والبحث مبنائي.

و ثانياً: ما أورده بعض المحققين، حيث أشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: لا أثر لاستصحاب عدم الترخيص فلا يجري، لا أنه يجري ولا يضر.

وبعبارة أخرى: ليس موضوع التأمين، باعتراف السيد الخوئي الترخيص، بل موضوعه عدم الإلزام المولوي، فلا يمكن استصحاب عدم الترخيص لنفي التأمين؛ لأنّ التأمين لم يترتب على الترخيص حتى ينفى بنفيه.

ولو كان المراد من استصحاب عدم الترخيص إثبات الإلزام ليثبت التنجيز، فهو أصل مثبت لإثبات لأحد الضدين بنفي الضد الآخر، بأصالة عدم الترخيص لا يثبت الإلزام حتى يثبت أثره.

وبكلمة واحدة: لو كان الغرض من استصحاب عدم الترخيص نفي أثر الترخيص فهو بلا أثر، ولو كان الغرض إثبات أثر الإلزام فهو مثبت.

لكنه إشكال فني، وسيأتي دفعه في الجواب الثالث لو كان تاماً.

الإشكال الثاني: مع جريان الاستصحابين تترتب المخالفة العملية القطعية لا العلمية فحسب، حتى يقال بعدم المحذور، وذلك لترتب الإسناد إلى المولى على العلم، فقد قال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1)، وقال×: «قاض قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة»(2).

ص: 200


1- الأعراف: 28.
2- الخصال: 247.

وقد ثبت في محله - كما ارتضاه في المصباح(1) - أنّ الأمارات والأصول العملية المحرزة قائمة مقام القطع الموضوعي، فكما يكفي في جواز الإسناد إلى المولى العلم الوجداني، يكفي العلم التعبدي الحاصل بالأمارات أو الأصول العملية المحرزة.

وفي المقام مع جريان الاستصحابين يمكن إسناد كلا الحكمين إلى المولى، مع العلم بكذب أحدهما، وهو مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ القطع بالمخالفة العملية يتوقف على كون المقام من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما، وقد مرّ وجود الثالث، وهو السكوت، فمع استصحاب عدم جعل المولى للترخيص والإلزام لا يقطع بالكذب، فلا قطع بالمخالفة العملية، بل مجرد المخالفة الاحتمالية، وهو مما لا محذور فيه.

وثالثاً(2): إنّ التأمين ليس أثر عدم الإلزام، بل هو أثر ثبوت الترخيص، فلو لم يحرم المولى العرفي على عبده دخول غرفته، فهل يكفي ذلك لاقتحامه أم يحتاج إلى ثبوت الترخيص المولوي؟ ولو لم ينه الأب ابنه عن بيع أملاكه(3)، فهل يكفي في التأمين وجواز الاقتحام أم أنه موقوف على الترخيص؟

ص: 201


1- مصباح الأصول 2: 43.
2- ولو تم لكان جواباً عن المصباح، وعن الإشكال الأول.
3- أي أملاك الأب.

وعليه لا يكفي عدم ثبوت التحريم، بل يلزم ثبوت الترخيص ولم يثبت؛ لأنّ أصالة عدم الترخيص معارضة بأصالة عدم الإلزام، وفيما نحن فيه كل ما يفعله المكلف يعتبر تصرفاً في ملك المولى.

فما ذكر في المصباح(1) من أنّ التأمين أثر عدم الإلزام، وما ذكر في الإشكال الأول من عدم جريان أصالة عدم الترخيص لعدم الأثر محل تأمل.

التنبيه الثالث: استصحاب عدم جعل التكليف في الشبهات الموضوعية

وهو في جريان استصحاب عدم جعل التكليف في الشبهات الموضوعية، كما يجري في الشبهات الحكمية وعدمه.

والشبهة المذكورة في المقام هي: إنّ الحكم لم يجعل لمورد الشبهة الموضوعية بشخصه يقيناً، وأما الطبيعي الذي يشك في انطباقه على المورد فقد جعل له الحكم يقيناً، فلا مجال للاستصحاب.

وببيان آخر: توجد في المقام حصة وطبيعي، أما الحصة فلم يتعلق بها جعل يقيناً، فلا شك حتى يجري الاستصحاب فيها، وأما الطبيعي فالحكم مجعول له يقيناً فلا شك أيضاً، فيختل الركن الثاني للاستصحاب، وهو الشك اللاحق في الحصة والطبيعي معاً، فلا مورد للاستصحاب أصلاً.

وأجاب عنه في المصباح(2) بأنّ الأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية أحكام انحلالية، وتتكثر بتكثر أفراد الموضوعات، فالشك في

ص: 202


1- مصباح الأصول 2: 285.
2- مصباح الأصول 2: 337.

الموضوع الخارجي ملازم للشك في جعل التكليف له، فيعود الأمر إلى استصحاب عدم جعل التكليف.

ونظيره جريان البراءة في الشبهات الموضوعية، وذلك للشك في جعل الحكم الانحلالي على الموضوع الخارجي، فالحكم المشكوك ثبوته في الموضوع الجزئي الخارجي مرفوع بدليل الرفع. وفي المقام كذلك، فإنّ عدم الحكم المشكوك البقاء يحكم عليه بالبقاء ب- ( لا تنقض).

ويرد عليه وجوه ثلاثة سيق بعضها على نحو الترتب:

الوجه الأول: إنّ الاستصحاب المذكور محكوم بالاستصحاب الموضوعي فلا مجال له، وإنّ كانت النتيجة متوافقة على المعروف.

مثال ذلك: لو شك في جعل الحرمة لمائع، فإنّ استصحاب عدم جعلها لخصوص هذا المائع محكوم باستصحاب عدم خمريته، وهو متقدم رتبة، ولا إشكال في أنّ الأصل الذي يعالج الشبهة في مرتبة الموضوع مقدم على الأصل الذي يعالج الشبهة في مرتبة المحمول.

نعم، لو كان المبنى عدم المنع من جريان الأصل الحاكم والمحكوم في عرض واحد، فيما لو كانت النتيجة واحدة، فلا مانع من جريان الاستصحابين.

إن قلت: إنه استصحاب العدم الأزلي، ومثله ليس بحجة.

قلت: أولاً: قد يكون عدماً نعتياً، كما لو كان خلاً فشك في انقلابه خمراً.

وثانياً: إنّ السيد الخوئي(1) يرى جريان استصحاب العدم الأزلي.

ص: 203


1- مصباح الأصول 3: 113.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض المحققين(1)

نقضاً: إنّ لازم ما ذكره ثبوت شبهة المعارضة بين عدم جعل الزائد وبقاء المجعول، حيث ينحل الجعل الكلي بعدد أفراد الموضوعات الجزئية الخارجية، وقد حصر جريانها في الشبهات الحكمية.

والنتيجة: إنّ شبهة المعارضة تجري في مورد الروايات الصحيحة للاستصحاب، فالمكلف المتطهر يشك في بقاء الطهارة مع الخفقة، وطهارة هذا المكلف الخاص مجعول شرعي؛ لأنّ الشارع كما جعل الطهارة الكلية جعل الطهارة الجزئية بالانحلال، فيستصحب الطهارة، لكنه يتعارض مع استصحاب عدم جعل الشارع للطهارة بعد الخفقة، حيث إنّ الشك في سعة الجعل وضيقه، والأصل عدم الجعل الزائد، فيتعارض الجعل والمجعول، فلا يمكن الحكم بالطهارة، وهو نقيض مفاد الروايات الصحيحة للاستصحاب، ولا يمكن الالتزام بهذا اللازم.

فيعلم - من تخصيصه التعارض بالشبهات الحكمية - عدم التزامه بوجود الجعل في الشبهات الموضوعية، وإلا لتعارضت أصالة عدم الجعل الزائد، وبقاء المجعول لمرحلة ما بعد الشك.

والظاهر أنّ النقض وارد، لكن هنا مطلب خارج عن المقام، وهو أنه يمكن فرض تعارض الجعل والمجعول في بعض الشبهات الموضوعية، وإن كان نادراً، فما ذكر من اختصاص التعارض بالشبهات الحكمية وعدم

ص: 204


1- دروس في علم الأصول 3: 182.

جريانه في الشبهات الموضوعية غير تام.

كما لو عقد امرأة بالعقد المنقطع إلى الأجل المعلوم، فشك أنه شهر أو شهران، فيتعارض المجعول والجعل في الشبهة الموضوعية، ومقتضى الأول استصحاب بقاء العلقة الزوجية، ومقتضى الثاني عدمه؛ للشك في جعل الزائد على الشهر، والأصل عدمه، فيتعارض بقاء المجعول مع عدم الجعل الزائد.

وهكذا لو استأجر داراً وشك أنه استأجرها سنة أوسنتين.

الوجه الثالث: ما أفاده بعض المحققين(1)

- أيضاً، وهو حلّي، حيث قال: إنّ التعدد الحاصل بتعدد الموضوع أنما هو في عالم المجعول، وأما الجعل الثابت على الموضوع الكلي فهو شيء واحد عرفاً وعقلاً.

ويتم توضيحه ببيان مرحلتين:

الأولى: في مرحلة الجعل، أي ثبوت الحكم في الشريعة، كأن يقول المولى: يجب الحج على المستطيع، فيثبت الحكم وإن لم يوجد المستطيع، وهذه المرحلة مرحلة الوحدة لا تكثر فيها، فإنّ الموضوع واحد وهو المستطيع، والحكم واحد وهو الوجوب، فلا تكثر لا عقلاً ولا عرفاً.

ولم يبين المحقق المذكور وجه عدم التكثر، لكن الظاهر أنه تام عرفاً، فهو حكم واحد، وأما عقلاً فربما يوجه بأنّ الموضوع والمحمول متكافئان بالقوة والفعل، ولا يمكن أن يكون الموضوع بالفعل والمحمول بالقوة، فإنّ الموضوع الذي يوجد الآن في أفق الاعتبار محموله موجود بالفعل في أفق

ص: 205


1- مباحث الأصول 3: 309.

الاعتبار، ولا يمكن أن يتعلق المعدوم بالموجود.

وقد ذكر في المصباح أنّ الحكم الانحلالي حكم معدوم؛ لفرض عدم وجود المستطيع في الخارج، وإلا لزم تعلق المعدوم بالموجود، فلا تكثر عقلاً كما لا تكثر عرفاً.

الثانية: مرحلة المجعول، أو المجعول بالعرض(1)، وبتكثر الموضوعات الخارجية تتكثر المجعولات، أي يجب الحج على هذا المستطيع وذاك و هكذا، وهذه الوجوبات الجزئية ليست مجعولة للمولى، وإنما انطباق للمجعول الكلي على مصاديقه، ولم يتعلق به الجعل بالذات، بل الجعل بالعرض، حيث تمَّ ما أراده المولى بالجعل الأول، فلا حالة انتظارية له، بل الحالة الانتظارية للمجعول، بل قد يكون المولى العرفي غافلاً عن الموضوع الخارجي. وعليه، لا جعل على الموضوع الجزئي الخارجي، وإنما الجعل على الموضوع الكلي، فكيف يقال باستصحاب عدم جعل الحرمة على المشكوك مع أنه ليس محلاً لجعل المولى، وجعل المولى خاص بالكلي، والماهية المتصورة في أفق الاعتبار. وعليه لا معنى لاستصحاب عدم جعل التحريم للمشكوك.

وهذا المطلب دقيق موكول إلى محل بحثه في باب اجتماع الأمر والنهي في أنّ الجعل الشرعي متعلق بالماهيات الكلية أو الموضوعات الجزئية الخارجية؟ وهل الماهيات الكلية قابلة لجعل الحكم لها أو لا؟ وإن كانت قابلة فبأيّ معنى يجعل الحكم للماهية الكلية؟

ص: 206


1- أحياناً يعبر عن المرحلة الأولى بالمجعول بالذات، وعن الثانية بالمجعول بالعرض.

أحد اللوازم الاحتمالية لما ذكره في المصباح(1) نفي التخيير العقلي(2)، وانحصار التخيير في الشرعي فحسب، حيث إنّ الحكم ثابت للماهية الكلية، فلو كان انحلالياً ثبت الجعل الشرعي للجزئيات الخارجية، وكأن الشارع أشار إلى الأفراد الخارجية وحمل المحمول التخييري عليها، فيكون تخييراً شرعياً لا عقلياً، فتأمل.

هذا تمام الكلام في أدلة الأصوليين على البراءة.

أدلة الأخباريين على الاحتياط

اشارة

يقع الكلام في أدلة الأخباريين على الاحتياط، حيث استدلوا على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية، أو مطلق الشبهات الحكمية بالأدلة الثلاثة: الكتاب والسنة والعقل.

الدليل الأول: الاستدلال بالكتاب الكريم

اشارة

أما الكتاب فطوائف:

الطائفة الأولى

ما نهي فيها عن القول بغير العلم، كقوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(3) و قوله سبحانه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(4) وآيات

ص: 207


1- و يعتبر إشكالاً رابعاً على كلامه.
2- ك- (أكرم عالماً) فإن الحكم محمول على الماهية الكلية، والعقل يحكم بتطبيقها على كل فرد من أفرادها.
3- الأعراف: 28.
4- الإسراء: 36.

أخرى تفيد هذا المضمون.

وتقريب الاستدلال بها: إنّ القول بالترخيص الشرعي قول بغير علم، وهو منهي عنه.

و يرد عليه وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: النقض بالقول بالاحتياط، فإنه أيضاً بغير علم.

وأجاب عنه في المنتقى: «فإنّ الأخباري لا يفتي بالاحتياط، بل يلتزم بترك المشكوك، والترك لا يستلزم إسناد شيء إلى الشارع، وهو بخلاف الارتكاب على القول بالبراءة، فإنه يستلزم إسناد الترخيص وعدم المنع إلى الشارع»(1).

لكنه غير واضح، فلو كان عمل الأخباري مجرد الترك لم يكن النقض وارداً، لكنه يترك و يردع.

والأولى في الجواب عن النقض(2)

أن يقال: إنّ هنالك مقولتين: الفتوى بالاحتياط، والاحتياط في الفتوى، فلو كان الأخباري يفتي بالاحتياط لكان النقض وارداً، لكن لو احتاط في الفتوى لعدم المؤمن في الاقتحام مع احتمال التحريم، فلا يستلزم إسناد شيء إلى الشارع، حتى ينطبق عليه القول بغير علم.

والسرّ فيه أنّ غرض الأصولي الارتكاب، وهو متوقف على الترخيص بالارتكاب، لكن غرض الأخباري الترك، والترك ليس متوقفاً على ثبوت

ص: 208


1- منتقى الأصول 4: 459.
2- وربما هو مراد السيد الروحاني.

التحريم، بل يكفي فيه عدم وجود المؤمِّن.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) : من أنّ أدلة البراءة علم تنزيلي(1).

توضيحه: إنّ العلم نوعان: وجداني وتعبدي، وأدلة البراءة علم تعبدي بالحلية الظاهرية، فالقول بالبراءة قول بعلم.

لكنه مبني على استظهار المعنى الأعم من كلمة العلم، أو مبني على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي.

الوجه الثالث: لو كان مفاد أدلة البراءة العلم الوجداني لا الأعم، فإنّ القول بمؤداها قول بالعلم كالبراءة العقلية، حيث إنها قول بالعلم؛ لإفادتها العلم الوجداني بعدم استحقاق العقاب؛ لأنّ القواعد العقلية قطعية تورث العلم، فقول الأصولي بعدم العقاب قول بالعلم.

و مع دعوى إفادة أدلة البراءة العلم الوجداني لتواترها مثلاً فالقول بها قول بالعلم.

إن قلت: إنّ أدلة البراءة ليست علماً، ولا تفيد العلم الوجداني.

قلت: لكنها تنتهي إلى العلم؛ لأنّ كل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وأدلة البراءة وإن كانت ظنية لكنها تنتهي إلى العلم، ومعه يكون القول بها قولاً بالعلم الوجداني.

وهو نظير ما يذكر في الاجتهاد والتقليد، فيما لو أفتى الحي بالبقاء على الميت، فإنه في الواقع تقليد للحي، وهكذا لو أفتى الأعلم بجواز تقليد غير

ص: 209


1- الوصائل 5: 138.

الأعلم، وقلنا بحجية قوله - خلافاً لصاحب العروة، حيث يرى عدم حجيته - فهو تقليد للأعلم في الواقع؛ لضمانه الطريق، فالسير فيه مبتنٍ على فتوى الحي أو الأعلم في المسألتين.

فما دلّ على حجية أدلة البراءة الظنية من السنة، قطعية أو منتهية إلى القطع بالمآل.

وعليه - فقول الأصولي بالحلية الظاهرية قول بالعلم، فيمكنه أن يقول: إنّ المشكوك حلال ظاهراً قطعاً.

كما يمكنه أن يحكم بطهارة الماء المشكوك ظاهراً قطعاً، أي قطعاً حَكَمَ الشارع بطهارته الظاهرية.

والخلاصة: كما أنّ أدلة البراءة واردة على وجوب دفع الضرر المحتمل، حيث ينتفي الموضوع فلا يحتمل الضرر، كذلك بأدلة البراءة - التي هي علمية أو منتهية إلى العلم - ينتفي موضوع الآيات الكريمة، حيث إنّ موضوعها القول بغير العلم.

الطائفة الثانية

ما نهي فيه عن إلقاء النفس في التهلكة، وهو قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}(1).

ويرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إنّ المراد بالتهلكة: إما التهلكة الدنيوية، وإما العقوبة

ص: 210


1- البقرة: 195.

الأخروية.

فالبحث في مقامين:

المقام الأول: في التهلكة الدنيوية، فقد قال السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول: إنه لا يسمى تهلكة عرفاً.

وتوضيحه: إنه لا تطلق التهلكة على كل ضرر، فإنّ معناها الموت أو ما يقرب منه، ولا احتمال لهما في ارتكاب المشتبهات، بل الكثير من المقطوعات، كما لو شرب الماء المتنجس بملامسة الكافر الكتابي له، حيث يحرم شربه قطعاً، لكن لا يحتمل فيه التهلكة وجداناً، إلاّ على قول المطول: ومسنونة زرق كأنياب أغوال(1)، فكيف بارتكاب المشتبهات، كأكل مقدار أنملة من الطعام المحترق مع الشك في حرمة أكل المحترق نعم، قد يفرض - نادراً - احتمال التهلكة في بعض المشتبهات.

المقام الثاني: أن يراد بالتهلكة العقاب الأخروي فيقطع بعدمه؛ لوجود المؤمّن، وهو أدلة البراءة، كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع ما لا يعلمون» و قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(2) وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(3) و قوله عزّ وجلّ: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}(4) إلى آخرها،

ص: 211


1- لسان العرب 11: 508.
2- الإسراء: 15.
3- التوبة: 115.
4- الأنعام: 145.

فلا احتمال للعقاب مع التأمين الشرعي، والأصولي قاطع بعدمه مع ارتكاب المشتبه.

الإشكال الثاني ما ذكره بعض المتأخرين(1)،

وحاصله: إنّ الآية مجملة؛ لاحتمال كون المعنى: لا تسرفوا في الإنفاق كي لا يكون إلقاءً للنفس في التهلكة، وأحسنوا واقتصدوا في ذلك، ويؤيده قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(2)،كما أنّ بعض الروايات الواردة في تفسير البرهان(3)

ونور الثقلين(4) تدل عليه.

ويحتمل - أيضاً - أن تكون الجملة تأكيداً لمضمون الجملة السابقة، أي: وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تبخلوا وتمتنعوا، كيلا يكون إلقاءً للنفس في التهلكة.

فلو استظهر أحد الاحتمالين فلا بحث، وإلاّ فهي مجملة وتكون الآية أجنبية، أو يحتمل أن تكون أجنبية عن الاقتحام في الشبهات الحكمية، ولا تنهض دليلاً للأخباري.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد.

وثانياً: الروايات المتعددة التي استدل بها على حرمة الإلقاء في التهلكة،

ص: 212


1- بحوث في علم الأصول 5: 83.
2- الإسراء: 29.
3- البرهان 1: 412.
4- نور الثقلين 1: 179.

وقد وردت في البرهان ونور الثقلين(1)،

ومنها رواية الإمام الرضا× في قبول ولاية العهد: «نهاني اللّه عزّ وجل أن ألقي بنفسي في التهلكة»، فيكون معنى الآية بقرينة تلك الروايات الأعم من الاحتمالين المذكورين، والإسراف في الإنفاق، والامتناع عنه من مصاديق ذلك المعنى العام.

الطائفة الثالثة

الآيات الدالة على لزوم التقوى والجهاد ومنها: قوله تعالى: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(2)،

وقوله سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}(3)، وسائر الآيات الواردة بهذا المضمون، وارتكاب المشتبهات منافٍ للتقوى والجهاد.

وأجاب عنه في المنتقى: «بأنّ العمل على طبق البراءة بعد تمامية دليلها لا يعد منافياً للتقوى وجهاد النفس»(4).

لكنه محل تأمل؛ لعدم كون المأمور به في الآيات كلي (التقوى) و(الجهاد)، بل (حق التقاة) و(حق الجهاد) واقتحام المشكوك - وإن فرض تمامية أدلة البراءة - منافٍ لهذا المعنى، فإنذ للتقوى عرضاً عريضاً، خاصة مع قيد: {حَقَّ تُقَاتِهِ} فمرتبة منها فعل الواجبات وترك المحرمات، ومرتبة أخرى فعل المستحبات وترك المكروهات، ومرتبة ثالثة ترك الشبهات، ولا

ص: 213


1- البرهان 3: 179؛ نور الثقلين 1: 180.
2- آل عمران: 102.
3- الحج: 78.
4- منتقى الأصول 4: 460.

إشكال أنّ اقتحام الشبهات وترك المستحبات وارتكاب المكروهات خلاف (التقوى حق تقاته).

والمثال العرفي شاهد لذلك، فلو أمر الأب ابنه لا على نحو الوجوب، فلم يطعه لم يكن قد أطاعه حق طاعته.

والأولى الجواب بأحد جوابين:

الجواب الأول: لو دار الأمر بين التصرف في ظهور الهيئة أو ظهور المادة، فإن العرف محكم في تقديم أقوى الظهورين. و فيما نحن فيه هيئة (اتقوا) ظاهرة في الوجوب، لكن خصوصية المادة أي (تقوى اللّه حق تقاته) في المقام لها ظهور مخالف، فهي ظاهرة في مطلق الرجحان؛ لعدم وجوبها بما لها من العرض العريض.

فالأمر دائر بين التصرف في المادة وإبقاء الهيئة على الوجوب، فيكون المراد من المادة التقوى في خصوص الواجبات والمحرمات، وبين التصرف في ظهور الهيئة في الوجوب وإبقاء ظهور المادة في العموم، فيكون المراد من الهيئة مطلق الرجحان.

والظاهر في نظر العرف أولوية التصرف في ظهور الهيئة.

ونظيره في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}(1) حيث إنّ الهيئة ظاهرة في الوجوب، والمادة ظاهرة في الاستحباب؛ لعدم وجوب الاستباق في المستحبات قطعاً، فيدور الأمر بين التصرف في أحد الظهورين، وقد يدّعى

ص: 214


1- البقرة: 148.

أنّ التصرف في ظهور الهيئة أولى في نظر العرف، فنحملها على مطلق الرجحان.

الجواب الثاني: إنّ الأمر بالتقوى إما مولوي وإما إرشادي، ولا مصير إلى الأول، وإلا لزم تعدد العقوبة في مورد المخالفة، فمن اغتاب عوقب مرتين لمخالفته نهي (لا يغتب) ولمخالفته أمر (اتقوا اللّه)، ولا سبيل للالتزام به، وقد ثبت في محله أنّ أوامر الطاعة والمعصية إرشادية، والقاعدة العامة في جميعها أنها تابعة في اللزوم وعدمه للمرشد إليه، فلو كان واجباً وجب وإلا فلا، كأوامر الطبيب، حيث لا يترتب على الهيئة شيء، ولا بد من ملاحظة الملاك الموجود في المادة، هل هو لازم التحصيل أم لا؟

وعليه ف(اتقوا اللّه) أمر إرشادي، ولا يدل على الوجوب بأي نحو من الأنحاء، بل لا بد من ملاحظة أنّ (التقوى حق التقاة) واجبة أم لا، وأنّ الملاك لازم التحصيل أم لا؟ والحكم لا يتكفل موضوعه.

والحاصل: إنّ الطائفة الثالثة لا تدل على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية.

الطائفة الرابعة

ما دل على الرد إلى اللّه والرسول، كقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(1).

ص: 215


1- النساء: 59.

وأجيب عنه: بأنّ موضوع الآية النزاع والخصام، وموضوع محل البحث الشك، ولا ربط بينهما.

لكنه قابل للخدشة، فإنه وإن كان موضوع البحث في المقام الشك لكنه شك انتهى إلى النزاع والخصام بين الأصوليين والأخباريين، فيكون مشمولاً للآية.

فالأولى في الجواب أن يقال: إنّ الرد إلى اللّه والرسول من قبل الأصوليين حاصل، وقد عملوا بقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع ما لا يعلمون»(1) وقوله×: «ما حجب اللّه علمه..»(2) إلى آخر الأدلة الدالة على البراءة.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول.

الدليل الثاني: الاستدلال بالسنة المطهرة

اشارة

وأما الدليل الثاني، فقد استدل الأخباريون بالسنة الشريفة على وجوب الاحتياط، وهي تتنوع إلى طوائف:

الطائفة الأولى: ما أمر فيه بالوقوف عند الشبهة

اشارة

وفيها بحثان سندي ودلالي.

البحث الأول: في سندها، فقد قال في المنتقى(3): الظاهر هو عدم تواترها، بل عدم بلوغها حدَّ الاستفاضة، فضلاً عن التواتر. ثم ذكر خمس روايات:

ص: 216


1- التوحيد: 353.
2- الاعتقادات في دين الإمامية: 37.
3- منتقى الأصول 4: 460.

الأولى: مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه×: «فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

الثانية: رواية مسعدة بن زياد، عن الصادق× عن آبائه^، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة - إلى أن قال - فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(2).

الثالثة: خبر أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر×، قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(3).

الرابعة: خبر داوود بن فرقد، عن أبي شيبة، عن أحدهما (عليهما السلام) : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(4).

الخامسة: رواية السكوني، عن الصادق× عن أبيه×، عن علي×: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة»(5).

لكنه محل تأمل من وجوه:

الوجه الأول: يمكن دعوى كفاية هذا المقدار في حصول التواتر، فالإخبارات المتكررة والمتكثرة التي تفيد العلم يصطلح عليها بالمتواترة، وهل يحتمل أنّ هذه الأخبار الخمسة مجعولة؟ نعم، قد يكون الخبر محاطاً

ص: 217


1- الكافي 1: 68.
2- وسائل الشيعة 20: 259.
3- الكافي 1: 50.
4- وسائل الشيعة 27: 158.
5- وسائل الشيعة 27: 171.

بما يسلب العلم؛ لاحتمال التواطؤ على الكذب أو الاشتباه في الحس، كما في رؤية الهلال، لكن لا احتمال للخلاف فيما لم يكن محاطاً بقرائن مضادة،كما لو أخبر خمسة بمجيء زيد من السفر حيث يفيد العلم، بل قد يحصل القطع بخبر واحد مع عدم وجود داع للجعل والكذب، وإن لم يصطلح عليه بالمتواتر.

الوجه الثاني: عدم انحصار الأخبار المتضمنة للوقوف عند الشبهات فيما ذكر، بل يمكن دعوى بلوغها العشرات إن كان القول بالمئات مبالغة، نذكر بعضها:

الأولى: عن علي×: «إنّ مَن صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات(1).

الثانية: وعنه×: «فيا عجبي و ما لي لا أعجب، من خطأ هذه الفرق... يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات »(2).

الثالثة: وعنه×: «فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات»(3).

الرابعة: عن أبي عبد اللّه×: «وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه»(4).

ص: 218


1- نهج البلاغة 1: 47.
2- نهج البلاغة 1: 156.
3- نهج البلاغة 3: 42.
4- الكافي 5: 108.

الخامسة: عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه»(1).

السادسة: عن أمير المؤمنين×: «فإنّ الشبهة مظنة الخطيئة، والخطيئة مجلبة العقوبة»(2).

السابعة: وعنه×: «فاحذر الشبهة»(3).

الثامنة: وعنه×: «واحذروا الشبهة فإنها وضعت للفتنة»(4).

مضافاً إلى ورود مرادفات في الروايات غير (الوقوف عند الشبهة) تفيد نفس المعنى، وقد وردت بالألفاظ الآتية أمراً أو نهياً أو ترغيباً. ككلمة (الكف)(5) و(التثبت)(6) و(الثبات عن التوغل فيما لا يعلم)(7) و(اللفظ)، كما في قوله×: «فما اشتبه عليك أمره فالفظه» (8) و«ترك كل شائبة أولجتك في شبهة»(9) و«السكوت ورد العلم إلى اللّه»(10) و«دع ما يريبك»(11).

ص: 219


1- وسائل الشيعة 2: 173.
2- نهج البلاغة 1: 47.
3- نهج البلاغة 3: 125.
4- وسائل الشيعة 27: 103.
5- كقول الأمير×: «الكف عن الشبهات خوف الوقوع في المحرمات». نهج البلاغة 1: 130.
6- كقول الأمير×: «ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغل فيما لا يعلم» شرح أصول الكافي 1: 321.
7- الكافي 1: 27.
8- نهج البلاغة 3: 70.
9- نهج البلاغة 3: 44.
10- وسائل الشيعة 27: 166.
11- وسائل الشيعة 27: 167.

الوجه الثالث: سلمنا أنّ هذه الروايات - التي يمكن أن يقال: إنها جاءت بهذه الألفاظ المختلفة - ليست متواترة ولا مستفيضة، إلا أنّ الاستدلال لا يتوقف عليه، بل يكفي الاعتبار، وفيما ذكر في المنتقى روايات معتبرة كالرواية الأولى، أي مقبولة عمر بن حنظلة، والرواية الثانية التي رواها الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى(1)،

عن هارون بن مسلم(2)، عن مسعدة بن زياد(3)، عن الصادق× أنه قال: «لا تجامعوا في النكاح..».

فتحصل أنه لا إشكال في سند هذه الطائفة.

البحث الثاني: في دلالتها على وجوب الاحتياط.

فقد أشكل عليها بإشكالات
الإشكال الأول

إنّ كلمة (خير) اسم تفضيل، وهو ظاهر في الاستحباب.

لكنه محل تأمل لجهتين:

الجهة الأولى: إن (خير) وإن كان بمعنى الأخير، وهو دال على الرجحان والاستحباب لا على التعين والوجوب، لكن قد تنسلخ صيغة أفعل التفضيل عن معناها، فتدل على الوجوب أو التعين، ولذلك شواهد في القرآن والروايات واللغة.

ص: 220


1- محمد بن أحمد بن يحيى ثقة، وطريق الطوسي إليه صحيح.
2- هارون بن مسلم، ثقة.
3- مسعدة بن زياد، ثقة.

أما القرآن، فقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}(1)

حيث انسلخ عن الترجيح، ولا يدل على الأخير، والذي يلازمه وجود الخير في مقابله، بل يدل على الخير المطلق، والذي يقابله الشر المطلق.

وقوله سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}(2)، وقوله عزّ وجلّ: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(3).

وهكذا آيات أخرى.

ومن السنة قوله×: «لئن أفطر يوماً من شهر رمضان فأقضيه أحب إليّ من أن يضرب عنقي»(4).

وقال×: «لئن أصلي بعد الوقت أحبّ إلى من أن أصلي قبل الوقت»(5).

وكذلك روايات أخرى.

وفي اللغة استشهد لذلك بقوله: «الناقص والأشج أعدلا بني مروان»(6) فبزعم القائل أنهما عادلا بني مروان لا أنهما الأعدل.

هذا على نحو الإمكان. وأما المعين في المقام للانسلاخ فقرينتان:

القرينة الأولى: ملاحظة المفضل عليه، فإنّ من المعلوم أنّ (الاقتحام في

ص: 221


1- النمل: 59.
2- الصافات: 62.
3- فصلت: 40.
4- الكافي 4: 83.
5- من لايحضره الفقيه 1: 223.
6- شرح ابن عقيل 2: 181.

الهلكة) لا خير فيه، فالوقوف عند الشبهة خير يقابله الشر، لا أنه الأفضل ويقابله المفضول.

القرينة الثانية: التعليل في المقبولة، فإنّ مناسبة العلية والمعلولية تقتضي تعليل الوجوب بالوجوب، ولا يعقل عرفاً تعليله بالاستحباب، وقد علل في المقبولة وجوب الإرجاء(1) بأنّ الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.

والحاصل: إنّ (خير) في خصوص المقام دال على الوجوب والتعين للقرينتين.

الجهة الثانية: عدم انحصار الروايات في ما ذكر فيه (الخير)، فقد ورد الأمر بذلك، كقوله×: «فاحذر الشبهة»(2) وهو دال على الوجوب، وهكذا قوله×: «وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام»(3)، وقوله×: «حجزته التقوى عن تقحم الشبهات»(4) إلى أخر الروايات التي مرت.

الإشكال الثاني

ما ذكره بعض المتأخرين(5): من أنّ الأمر دائر بين حمل الأمر(6) على

ص: 222


1- في قوله × (فأرجه).
2- نهج البلاغة 3: 125.
3- الكافي 5: 108.
4- نهج البلاغة 1: 47.
5- تهذيب الأصول 2: 265.
6- «قف عند الشبهة».

الاستحباب، أو تخصيص الروايات بالشبهات الموضوعية، ولا سبيل إلى الثاني لإباء الكبرى المذكورة عن التخصيص.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الروايات المذكورة تنحل إلى قضيتين مطويتين في العلة:

الأولى: إنّ في اقتحام الشبهة معرضية الوقوع في الهلكة.

الثانية: الوقوف عند الشبهة خير من معرضية الهلكة.

والتخصيص في القضية الثانية غير ممكن، فلا يمكن القول بأنّ الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة إلا في الشبهات الموضوعية، والشبهات الحكمية الوجوبية(1)، لكنه ممكن في القضية الأولى، فالاقتحام في الشبهة فيه معرضية الوقوع في الهلكة إلاّ في الموردين المذكورين.

وبعبارة أخرى: إنّ تخصيصهما أنما هو عن القضية الأولى لا الثانية، فليس التخصيص بمعنى عدم المحذور في اقتحام الهلكة في الموردين، فإنه غير معقول، وإنما بمعنى عدم كونهما في معرضية الهلكة، فإنّ الشارع يعلم أنّ في الشبهات الموضوعية لا معرضية للعقوبة الأخروية.

فما ذكر من الإباء عن التخصيص محل نظر.

وأما الحمل على الاستحباب فهو خلاف الظاهر جداً، إلا على التخريج الذي سيأتي في معنى الهلكة.

ص: 223


1- فإن مشهور الأخباريين لا يرون وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية الوجوبية.
الإشكال الثالث

ما ذكره في المصباح(1):

من أنّ (الشبهة) ظاهرة فيما يكون الأمر فيه ملتبساً بقول مطلق، ولا شبهة مع الترخيص الظاهري، حيث يكون المورد معلوم الحلية ويخرج موضوعاً عن الشبهة.

ويؤيده ما ذكر في نظيره في باب القرعة، حيث ذكر فيها (المشكل) أو (المشتبه) أو (المجهول) وأمثالها(2)

والمراد منها ما يكون كذلك بقول مطلق، أي لا طريق إلى معرفة حكمه، لا واقعاً ولا ظاهراً، ومع وجود الطريق الظاهري يخرج الموضوع عن كونه مشكلاً و مجهولاً(3).

وهو متين و لكن كأنه ينافيه مورد بعض الروايات، حيث أطلقت الشبهة فيها مع وجود الطريق الظاهري لحلّها، كقوله×: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة»(4) فأمر بالوقوف عند الشبهة مع وجود الأصل الظاهري الرافع للاشتباه، وهو استصحاب العدم النعتي، حيث لم تكن حين الولادة أختاً رضاعية فيستصحب.

ص: 224


1- مصباح الأصول 2: 299.
2- لقد وردت عدة روايات في المقام: منها: «القرعة لكل أمر مشتبه» وسائل الشيعة 26: 290؛ ومنها: «كل أمر مجهول ففيه القرعة» الفصول المهمة 1: 694؛ ومنها: «القرعة لكل أمر مشكل» بحار الأنوار 88: 234.
3- كالماء المشكوك، فإنه مع وجود أصالة الطهارة لا شبهة فيه ولا جهالة.
4- تهذيب الأحكام 7: 474.
الإشكال الرابع

ما ذكره المحقق العراقي، وحاصل كلامه: إنّ مقتضى التعليل تقدم الهلكة على الأمر بالوقوف، فلا يعقل أن تكون الهلكة مترتبة على الأمر بالوقوف، فإنه يستلزم تقدم الشيء على نفسه.

قال: إنّ ظاهر التعليل(1) هو كون الهلكة المترتبة على الاقتحام مفروضة الوجود، والتحقق، مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف، وأنها هي العلة للأمر بالوقوف، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلا بفرض منشأ آخر لها في الرتبة السابقة عن الأمر بالتوقف، من علم إجمالي ونحوه يكون هو المنجز للتكليف، والرافع لقبح العقاب بلا بيان، وإلا فيستحيل ترتب الهلكة المفروضة على نفس هذه الأوامر المتأخرة عنها(2).

بيانه: تفرض الهلكة في موارد العلم الإجمالي - مثلاً قبل الأمر بقف - وبغض النظر عنه، وذلك لتحقق العلم الإجمالي والاقتحام في أطرافه اقتحام في الهلكة، فيحكم العقل بوجوب الوقوف، فيكون الأمر الشرعي إرشادياً ومعللاً بالوقوع في الهلكة أو معرضيته، ومن الطبيعي تقدم كل علة على معلولها.

وأما في الشبهات البدوية فمقصود الأخباري ترتّب الهلكة على الأمر، وهي متقدمة عليه بمقتضى التعليل، فلا يمكن أن تكون مترتبةً عليه، فلا بد من فرض الهلكة حتى يعلل بالأمر، ولا هلكة لقبح العقاب، وهذا هو تقدم

ص: 225


1- «فإن الوقوف عند الشبهة».
2- نهاية الأفكار 3: 243.

الشيء على نفسه.

لكنه لا يخلو من نظر في بادئ النظر، فإنّ الهلكة غير مترتبة على الأمر، بل مكشوفة به، فيندفع إشكال التقدم والتأخر، كجميع الأدلة الإنية التي ينتقل فيها من المعلول إلى العلة، فالنار والدخان كلاهما متقدمان، الأول في الوجود الخارجي، والثاني في الوجود العلمي، أي الكشف ولا محذور.

والحاصل: إنّ ما ذكره من «استحالة ترتب الهلكة المفروضة على نفس هذه الأوامر المتأخرة عنها»(1) محل تأمل، حيث لا نقول بأنّ الهلكة مترتبة على الأوامر، بل مشكوفة بها، فالعلة - وهي الهلكة - متقدمة على الأمر وعلة له، ويكشف عنها به، فالهلكة في رتبة متقدمة عن الأمر وعلة له.

وبعبارة أخرى: إنّ الأمر بالوقوف عند الشبهة مطلق يشمل موارد العلم الإجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص وبعده، فيكشف به عن وجود الهلكة في اقتحام الشبهات الحكمية. كما لو كان المولى ينهى ابتداءً عن شرب التتن لوجود الهلكة فيه، فيدل على التحريم، ولا يرد الإشكال بأنّ الهلكة متقدمة، فلا يعقل أن تكون متأخرة؛ وذلك لأنّ الهلكة علة الأمر وهي متقدمة عليه، والأمر كاشف عن وجودها المتقدم.

ولا فرق بين أن يبين المولى هذا المعنى بالعموم أو بالخصوص، وإن كان الأمر بحاجة إلى تأمل أكثر.

ص: 226


1- نهاية الأفكار 3: 243.
الإشكال الخامس

ما حكي عن المحقق النراقي(1) من أنّ التوقف على نوعين: إما توقف في الحكم الواقعي، وهو موجود لدى الفريقين لجهالة الواقع. وإما توقف في الحكم الظاهري، وهو مفقود لدى الفريقين، فإنّ الأصولي يفتي بالحلية، والأخباري يفتي بالحرمة، فما هو الوجه في تسمية الثاني بالمتوقف دون الأول؟

لكنه غير وارد؛ لأنّ حصره غير حاصر؛ لوجود شق ثالث، وهو التوقف في مقام العمل في قبال الاقتحام، والأخباري متوقف في مقام العمل بعكس الأصولي، فيكون عمله مردوعاً عنه.

وبعبارة أخرى: كلاهما توقفا في الإفتاء بالحكم الواقعي، واقتحما في الإفتاء بالحكم الظاهري(2)، فلا يختلفان في مقام الفتوى، لا بلحاظ الواقع ولا بلحاظ الظاهر، وإنما الاختلاف في مقام العمل، وهو ظاهر الروايات لوقوعها في قبال الاقتحام.

الإشكال السادس

إنّ دلالة روايات التوقف موقوفة على أنّ المراد من الهلكة (العقوبة الأخروية) وهو ممنوع عرفاً وشرعاً.

أما عرفاً، فإنّ الهلكة تستخدم في الأعم من ذلك، فهي ربما تكون مرادفة للمفسدة أو المشقة العظيمة، كما يقول القائل بعد طي طريق شاق: هلكنا،

ص: 227


1- مناهج الأحكام: 214.
2- فإن الأصولي يقول افعل، والأخباري يقول لا تفعل.

وهو متداول في الاستخدامات العرفية، وحتى في اللغة لم نجد الهلكة بمعنى العقوبة - حسب الفحص الناقص - بل له معنى أعم تكون العقوبة إحدى مصاديقه(1).

وأما شرعاً، ففي نفس روايات الباب ما يدل على أنّ المراد من الهلكة الأعم من العقوبة، ففي معتبرة مسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه×، عن أبيه، عن آبائه ^، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة،

ص: 228


1- أقول: إنّ الهلاك عرفاً حسبما نفهمه بمعنى الموت أو ما يقاربه، و قد ورد ذلك في القرآن في قوله تعالی: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} النساء: 176، وقوله سبحانه: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} الأعراف: 164. وقوله عز وجل: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} الأنفال: 42. وقوله عز من قائل: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا} غافر: 34. وعشرات الآيات الأخرى التي استخدمت فيها مادة الهلكة بمعنى الموت، فتكون الهلكة الدنيوية بمعنى الموت وأما الأخروية فتكون بمعنى العقاب والخلود في النار، وقد ورد الهلاك بمعنى العذاب في القرآن أيضا، حيث قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} الأنعام: 47. وقال سبحانه {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} طه: 134. بل أيضا بمعنى العذاب الأخروي، حيث قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الأحقاف: 35. وقد ورد في بعض كتب اللغة ذلك أيضا، ففي المنجد: هلك أي مات، ولا يكون إلا في ميتة سوء، وهكلت النفس أي سقطت في جهنم، وكذلك في لسان العرب 10: 503 «مادة هلك». وأما ما يقال بعد طي طريق شاق: هلكنا فهو مجاز، و بما أن الروايات لا تتحدث عن الهلكة الدنيوية فلا يكون المقصود إلا الهلكة الأخروية وهي العقاب والعذاب؛ ولو كان المراد الأعم من الهلكة الدنيوية والأخروية ثبت المطلوب أيضاً؛ للزوم التحرز عما يسبب الهلكة بمعنى الموت أو ما يقاربه.

قفوا عند الشبهة يقول(1): إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(2).

ولا يحتمل في المقام أن تكون العقوبة أخروية؛ لأنّ الشبهة موضوعية يجوز الاقتحام فيها حتى عند الأخباري(3). هذا أولاً.

وثانياً: ورد في موثقة مسعدة: «كل شيء هو لك حلال»(4) وقد مثل الإمام× لذلك ب- «أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك» (5) فمع قيام الاحتمال حكم بالحلية.

وثالثاً: إنّ الأصول الموضوعية والحكمية في المقام حاكمة بجواز الاقتحام، كاستصحاب عدم كونها أختاً رضاعية، واستصحاب الحلية، ولا شك أنه حاكم على البراءة والاحتياط في المقام، فلا يراد من (الهلكة) في الرواية العقوبة الأخروية، وإنما المفسدة أو المشقة العظيمة، كأن ينكشف في المستقبل أنها أخته من الرضاعة، فيترتب على ذلك انهدام العائلة،

ص: 229


1- وكأن كلمة (يقول) مقول قول الإمام الصادق ×، فإن الإمام الصادق × في مقام تفسير حديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (منه (رحمه اللّه) ).
2- تهذيب الأحكام 7: 474.
3- أقول: و قد يقال: إنّ الشبهة وإن كانت موضوعية إلا أنه بعد بلوغه ذلك بعدلين أو بمن يوثق بكلامه لم يحق له الاقتحام فيها، لا أقل من أن الرواية أعم من ذلك تشمل ما ذكرناه أيضاً (المقرر).
4- الكافي 5: 313.
5- الكافي 5: 314.

وتشرد الأطفال و مشاكل اجتماعية عظمية.

والحاصل: إنّ الهلكة عرفاً ولغة و شرعاً أعم من العقوبة الأخروية، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المفسدة أو المشقة العظيمة أو نحوها.

وأما حرمة الاقتحام في ذلك فتختلف باختلاف الموارد، فلا بد من ملاحظة الدليل الخارجي على حرمة تلك المفسدة العظمية، وأنه هل يلزم التحرز عن خصوص هذه الهلكة أو لا؟

فلا تدل الرواية على تحريم الاقتحام ووجوب الوقوف، نعم، تدل على مطلق الرجحان.

الإشكال السابع

ما ذكره الشيخ الأعظم(1) وقد كثر فيه البحث والنقض والإبرام، نذكره مع الإشكالات الواردة عليه في ضمن اثنتي عشرة مرحلة:

المرحلة الأولى(2): الأمر في روايات التوقف إرشادي وتوضيحه مع التصرف فيه: إنّ الأمر بالوقوف في هذه الروايات إرشادي لا مولوي، ويدل عليه التعليل فإنه ظاهر في الإرشادية.

ومن المعلوم أنّ الأوامر الإرشادية وإن كان ظاهرها الإنشاء لكن واقعها الإخبار، فلا يترتب عليه إلزام، بل لا بد من ملاحظة المخبر به والمرشد

ص: 230


1- الكافي 5: 313.
2- إشكال الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) .

إليه، فإن كان فيه أمر يجب التحرز عنه لزم موافقة الأمر الإرشادي، وإلا فلا.

مثلاً: لو أمر الطبيب بشرب الدواء، لأنّ في تركه الموت المحتم لزمت الموافقة العملية لأمره؛ للزوم الاجتناب عن الموت المحتم أو المحتمل، وأما لو أمر بشرب الدواء لزيادة الوزن فلا. فلزوم الموافقة وعدمه متوقف على وجود الإلزام في المرشد إليه وعدمه.

وفي المقام لا بد من ملاحظة مورد الشبهة، هل فيه احتمال العقوبة الأخروية - مع قطع النظر عن أوامر الوقوف لفرض كونها إرشادية - أم لا؟ وهذه الموارد هي:

الأول: موارد العلم الإجمالي، حيث يحتمل فيها الهلاك الأخروي، فيلزم الاجتناب وتجب موافقة أوامر الوقوف.

الثاني: موارد الشبهات الحكمية قبل الفحص، وهي كذلك.

الثالث: الموارد التي نهى الشارع فيها عن التدين بالاستحسانات العقلية والظنون الارتجالية، كغوامض المسائل الاعتقادية، مثل قدم العالم وحدوثه، أو أنّ بسيط الحقيقة كل الأشياء أو ليس بشيء منها، فالعقل يحتمل فيها الهلاك، فيلزم مطابقة أوامر الوقوف؛ لأنّ الاقتحام فيها بغير علم تعريض للنفس إلى الهلاك الأبدي.

وأما المورد الرابع - وهو محل الكلام - فهو: الشبهة الحكمية بعد الفحص كشرب التتن، فهل يحتمل فيها العقوبة - مع قطع النظر عن أوامر قف - أم لا؟

ولمعرفة الجواب لا بد من ملاحظة منشأ الاحتمال، فهو إما لمخالفة أمر

ص: 231

(قف) أولمخالفة التحريم الواقعي المثبت في اللوح المحفوظ، وكلاهما لا يصلحان للمنشئية، أما الأول: فلأنّ المفروض أنه إرشادي، ولا يترتب على مخالفته بما هوهو عقوبة أو احتمالها أو استحقاقها، وأما الثاني، فلأنه مجهول والأخباري بنفسه يعترف بقبح العقاب على المجهول، فلا منشأ لاحتمال العقوبة، فتكون النتيجة عدم الهلكة في اقتحام المشكوك.

هذا ما اعتمد عليه الشيخ الأعظم قائلاً، إنه العمدة في المقام.

المرحلة الثانية: بيان التحريم ببيان الهلكة

لكن أشكل عليه الآشتياني(1) بأنّ الوجوب والتحريم قد يتحقق بالأمر والنهي، وقد يتحقق ببيان ما يترتب على الواجب والحرام من المثوبة والعقوبة.

فالأول مثل قوله: (لا تقتل مؤمنا) والثاني مثل قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}(2) فهو وإن لم يشتمل على النهي لكن يستفاد منه ذلك، لاشتماله على بيان لازم التحريم وهو استحقاق العقوبة الأخروية.

وقد ذكر في علم البلاغة(3) في بحث الكناية، صحة بيان الملزوم ببيان لازمه، كأن يقول: زيد كثير الرماد، فيعبر عن الملزوم، وهو الكرم ببيان اللازم وهو كثرة الرماد، وكذا زيد مهزول الفصيل وجبان الكلب.

ص: 232


1- بحر الفوائد 2: 32.
2- النساء: 93.
3- الإيضاح في علم البلاغة: 332؛ شرح كافية ابن الحاجب 3: 147؛ نهاية الأرب 7: 60.

وفيما نحن فيه، فإنّ الروايات المذكورة وإن لم تبين التحريم لكنها بينت لازمه وهو الهلكة، فيكون بياناً له.

ويضم إليه إطلاق الروايات، فإنه يشمل موارد العلم الإجمالي والشبهات البدوية، فتثب معرضية الهلكة في اقتحام المشكوك، وبيان هذا اللازم كاشف عن جعل الشارع وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية، فيكون واجباً.

وبعبارة أخرى: إنّ استحقاق العقاب ناشئ عن مخالفة أمر (احتط) المكشوف وجوده ببيان لازمه، وهو (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).

وبعبارة بسيطة: لوقال المولى: (احتط في شرب التتن) فلم يحتط استحق العقاب على تقدير حرمته الواقعية.

المرحلة الثالثة:الأمر غيري أو نفسي وأجاب عنه الشيخ الأعظم(1) بأنّ أمر (احتط) المكشوف ببيان لازمه إما أمر غيري(2) فلا عقوبة عليه، وإما نفسي وهو غير متحقق في المقام.

قال مزيجاً بما أوضحناه: إنّ إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي، فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول، وهو قبيح، فإنّ الأمر الغيري لا عقاب فيه، والأمر الواقعي مجهول لا ينقلب

ص: 233


1- فرائد الأصول 2: 71.
2- وقد عبر عنه بالمقدمي، لكن الظاهر أن المراد ما ذكرناه، ولا فرق بين التعبيرين في المقام ظاهراً (منه (رحمه اللّه) ).

معلوماً مع وجود الأمر الغيري، ولا عقاب فيه أيضاً حتى عند الأخباري.

وإن كان (احتط) المكشوف بذكر لازمه حكماً نفسياً، فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع؛ لاستحقاق العقوبة على مخالفة كل أمر نفسي، مع أنّ صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية لا الهلكة على مخالفة (احتط).

والحاصل: إنَّ أمر (احتط) لو كان غيرياً فلا عقاب عليه ولا على مخالفة الواقع؛ لفرض جهالته، ولو كان نفسياً فإنه وإن أوجب مخالفته استحقاق العقاب على نفسه، لكنه خلاف ظاهر الأخبار، فإنّ ظاهرها استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع لو اتفق تحققها لا على مخالفة (احتط) حتى باعتراف الأخباري.

والشاهد عليه أنه لو لم يكن حراماً واقعاً لم يستحق العقوبة، وإن خالف أمر احتط، إلا على حرمة التجري واستحقاق العقوبة عليه.

المرحلة الرابعة: الأمر طريقي

لكن أشكل عليه صاحب الكفاية(1) بأنَّ الحصر غير حاصر؛ لوجود قسم ثالث؛ لأنَّ الأمر إما نفسي أو غيري أو طريقي، وهو طور ثالث من أطوار الأمر، وهو ما جعل بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه، و في المقام أمر (احتط) المكشوف طريقي، كما هو الحال بالنسبة إلى الأمر في الأمارات كصدق العادل، حيث إنه ليس نفسياً ولا غيرياً، بل طريقي، فإن طابق الواقع

ص: 234


1- كفاية الأصول: 345.

كان منجزاً للواقع في ذمة المكلف، وإلا كان عذراً له.

وأثر الأمر الطريقي أنّ مخالفته تستتبع صحة المؤاخذه على الحرام الواقعي لو اتفق؛ لتنجزه بالأمر الطريقي.

المرحلة الخامسة: الأمر الطريقي غير معقول

وأجاب عنه في المنتقى(1) بأنَّ الأمر الطريقي غير معقول في المقام.

وحاصله: إنّ أمر (احتط) المذكور بذكر لازمه لا يمكن أن يكون طريقياً؛ لأنه يوجب تقدم الشيء على نفسه، والغيري لا عقوبة عليه، والنفسي خلاف ظاهر روايات المقام، فلا عقوبة على مخالفته، فما ذكره الشيخ الأعظم تام.

قال: «المصحح للعقوبة على مخالفة الواقع(2) إذا كان هو الأمر الطريقي فلا محالة تكون العقوبة في طول الأمر الطريقي، ومترتبة عليه(3)، ولا يعقل أن يكون الأمر الطريقي في طولها ومترتباً عليها، مع أنّ المفروض في الروايات أنما هي العقوبة في مرتبة سابقة على الأمر بالاحتياط».(4)

فإنّ ظاهر (الفاء) في الروايات العلية، فيكون الاقتحام في الهلكة ومعرضيتها علة للأمر ب- (احتط)، والعلة متقدمة على المعلول.

ولازمه تقدم معرضية العقوبة على الأمر؛ لأنّ ظاهر الروايات هو تأخرها

ص: 235


1- منتقى الأصول 4: 465.
2- لو انكشف أن شرب التتن كان حراماً في الواقع.
3- فاستحقاق العقوبة معلول للأمر الطريقي، ولولاه لما ثبت استحقاق العقوبة.
4- منتقى الأصول 4: 465.

عنه؛ لأنّ الأمر طريقي يتفرع عليه صحة العقوبة، ولا استحقاق للعقوبة قبل الأمر لجهالة الواقع، والذي ينجزه في الذمة هو الأمر الطريقي، وهو العلة لصحة المؤاخذة على الواقع.

والنتيجة: إنّ صحة المؤاخذة متقدم على نفسه ومتأخر، فالأمر الطريقي غير معقول، والأمر النفسي غير معقول إثباتاً، والأمر الغيري لا عقوبة عليه، فلا يبقى إلا مخالفة الأمر الإرشادي، وهو لا يوجب استحقاق العقاب، فلا مصحح للعقوبة في اقتحام المشكوك.

المرحلة السادسة: (الفاء) للتفريع

لكنه قابل للتأمل، وذلك ببيان دعويين:

الدعوى الأولى: إنّ مدخول (الفاء) لا يتعين كونه في رتبة سابقة على ما تقدمه ليكون تعليلاً، بل يحتمل كونه في رتبة لاحقة فيكون تفريعاً، أي يتفرع على أمر (احتط) أنّ في اقتحام الشبهة معرضية الهلكة.

وبعبارة أخرى: إنّ (الفاء) لتفريع اللازم على الملزوم، لا لبيان العلة للمعلول، فلا يستلزم محذور تقدم الشيء على نفسه.

ولدفع الاستبعاد عنه نظير مفترض، فلو قال المولى: «تعفف، فإنّ الصبر على التعفف خير من نار جهنم»، فإنّ (الفاء) للتفريع، ولا يعقل عليته؛ لأنّ معرضية نار جهنم متفرع على عدم التعفف، وأما قبل الأمر بالتعفف فلم يكن هنالك معرضية لذلك؛ لقبح العقاب بلا بيان.

وإن أبيت إلا عن ظهور (الفاء) في العلية، للتبادر العرفي وعدم معقولية التفريع إثباتاً، فننتقل إلى الدعوى الثانية.

ص: 236

الدعوى الثانية: لو فرض أنّ (الفاء) للتعليل فإنه تعليل للمادة لا للهيئة.

فقوله: (قف) بمعنى (اطلب الوقوف)، ومعرضية الهلكة علة للمادة (الوقوف) ومعلول للهيئة (اطلب) فتكون علة و معلولاً في وقت واحد، ولا يلزم تقدم الشيء على نفسه.

نعم، لو كان التعليل للهيئة لكان منافياً للأمر الطريقي، لكن لا منافاة بين الأمر الطريقي والتعليل للمادة، ويتضح ذلك بالمقارنة مع المثال المفترض السابق.

وبعبارة أخرى: العلة تعليل لفعل المكلف لا تعليل لإنشاء المولى، فليس كون «الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» علة لإنشاء المولى، بل علة لفعل المكلف، وهو التوقف. والمتصور أنه معنى عرفي قابل للقبول.

المرحلة السابعة: وجود أمر ثالث في المقام

ولقد كشف المحقق الإصفهاني(1) عن وجود أمر ثالث(2) في المقام، وهو المصحح للعقوبة على اقتحام المشكوك، وبه يتم الاستدلال بأخبار الاحتياط على وجوبه في الشبهات الحكمية.

قال: «نعم يمكن إصلاح الاستدلال بهذه الطائفة(3) بناءً على كون الفقرة المزبورة بإثبات أمرين:

ص: 237


1- نهاية الدراية 4: 475.
2- مع أن جميع المباحث المتقدمة كانت مبنية على وجود أمرين فقط، أمر (قف) والأمر الواقعي المجهول المدون في اللوح المحفوظ.
3- استدلال الأخباريين بأخبار (قف) على وجوب الاحتياط.

أحدهما: لعدم تقيد الشبهة بمايأتي عن الشمول للبدوية كون الشبهة مطلقة شاملة للشبهة البدوية.

ثانيهما: ظهور الهلكة في العقوبة، لا فيما يعم المفسدة، فيدل التعليل على أنّ الإقدام في كل شبهة اقتحام في العقوبة، فصوناً للكلام عن اللغوية يستكشف أمر طريقي للاحتياط في الشبهة البدوية، من باب استكشاف العلة عن معلولها.

ولا يخفى عليك أنّ إيجاب الاحتياط الواقعي، وإن كان غير قابل للمنجزية، بل القابل هو الإيجاب الواصل، لكنه لا فرق في وصوله بين أنحاء وصوله، فوصوله بوصول معلوله كوصوله بنفسه.

نعم، الأمر الإرشادي بالتوقف المعلل بهذه العلة كما لا يمكن أن يكون بنفسه مصححاً للعقوبة لغرض انبعاثه عن عقوبة مفروضة، كذلك لا يعقل أن يكون وصوله وصول الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة؛ لأنّ صحة المؤاخذة(1) بنفس(2) وصول الموصل للأمر الطريقي، فكيف ينبعث عن مؤاخذة مفروضة؟ فكيف يكون هذا الأمر الإرشادي معلولاً لمعرضية المؤاخذة.

إنّ أمر المخاطب بالتوقف المعلل بهذه العلة كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط إليه، لا بهذا الأمر الإرشادي ليكون مستحيلاً »(3).

ص: 238


1- كائنة.
2- الباء للسببية.
3- نهاية الدراية 2: 465-476.

وببيان آخر: إنّ مقتضى الإطلاق في: «قفوا عند الشبهة». والعموم في: «الوقوف عند الشبهات» شموله للشبهات البدوية؛ لعدم وجود مخصص ومقيد في البين، وبما أنّ الهلكة ظاهرة في العقوبة الأخروية لا المشقة أو المفسدة الواقعية، فالنتيجة أنّ اقتحام المشكوك اقتحام في العقوبة الأخروية، ويورث استحقاق العقاب.

وحيث إنّ الأمر الواقعي وأمر (قف) غير صالحين لتصحيح العقوبة(1) فلا يبقى - صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية(2) - إلا اكتشاف أمر ثالث.

ففي المقام أوامر ثلاثة: أمر واقعي نفسي، وأمر (قف) الإرشادي، وأمر (احتط) الطريقي، والأخير مصحح للعقاب على الواقع المجهول.

وقد تم اكتشاف الأمر الثالث من وجود الأمر الثاني؛ لأنّ وجوب الوقوف عند المشكوك غير معقول بدون وجود الأمر الثالث، فمن وجود (قف) وتحقق الهلكة فيه يكتشف وجود أمر (احتط) في رتبة سابقة(3).

إن قلت: إنّ الأمر الثالث الطريقي لم يصل إلينا، والأمر المجهول غير الواصل لا يكون مصححاً للعقاب.

ص: 239


1- لما مر من أن الأول مجهول لا عقاب عليه، والثاني إما إرشادي أو نفسي أو غيري أو طريقي، وكلها غير صالحة.
2- حيث إن فرض وجود أمرين فقط ملازم للغوية كلامه.
3- والفرق بين (قف) في الشبهات البدوية، والعلم الإجمالي في المقام أنه في العلم الإجمالي قد حكم العقل في مرتبة سابقة بمعرضية الهلكة، فيكون (قف) إرشاداً إليه، وأما في البدوية فحيث لم يحكم العقل بالهلكة فلا أثر له، فيكون أمر (احتط) الطريقي المكشوف ب- (قف) منجزاً للأمر الواقعي المجهول، فيكون (قف) إرشاداً إليه.

قلت: لا فرق بين أنحاء الوصول، فقد يصل أمر (احتط) إلى المكلف بنفسه، وقد يصل بوصول الكاشف عنه، وأمر (قف) كاشف عن أمر (احتط) ومترتب عليه، ووصول المعلول وصول للعلة، ووصول الكاشف وصول للمكشوف.

إن قلت: فكيف وصل إلينا الأمر الثالث؟ حيث لا يعقل أن يكون وصوله عبر وصول أمر (قف) الإرشادي المعلل بقوله×: «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة». وذلك لأنه دوري، فإنّ معرضية المؤاخذة في اقتحام المشكوك معلولة لوصول الأمر الإرشادي الذي هو موصل للأمر الطريقي، فصحة المؤاخذة متأخرة عن وصول الأمر الإرشادي، فكيف يكون هذا الأمر الإرشادي معلولاً(1) لمعرضية المؤاخذة.

والحاصل: إنّ معرضية العقوبة متأخرة عن وصول الأمر الإرشادي، ومتقدمة عليه بظاهر التعليل، وهو دور أو ملاك الدور.

قلت: أمر المشافه بالتوقف المعلل (قف) كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط إليه مسبقاً، حيث لا يعقل خطاب الإمام× لزرارة مثلاً ب- (قف) إلاَّ بعد فرض خطاب مسبق إليه ب- (احتط) ولا مانع من احتمال ذلك في حق المخاطب ثبوتاً. فالصادر في حق زرارة أمران: أمر طريقي متقدم، وأمر إرشادي متأخر، وبضميمة قاعدة الاشتراك يكون الأمر الطريقي واصلاً إلينا، فلا يكون واصلاً عبر الأمر الإرشادي حتى يستلزم الدور أو ملاكه.

ص: 240


1- وإنما كان معلولاً لظاهر التعليل.

وحاصل ما ذهب إليه للاستدلال بأخبار التوقف على حرمة الاقتحام في الشبهات الحكمية البدوية: هو أنّ الهلكة في روايات التوقف ظاهرة في العقوبة الأخروية، و(الشبهة) فيها تشمل الشبهات الحكمية البدوية، فمفادها ثبوت العقوبة الأخروية في الاقتحام، ولا يعقل كون أمر (قف) أو الأمر الواقعي المجهول منشأً للهلكة، فنكتشف بدلالة الاقتضاء وجود أمر ثالث في المقام، وهو المصحح للعقوبة على الواقع المجهول، ولا مانع من احتمال ذلك في حق المشافه، وبضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف يثبت لغير المخاطبين أيضاً.

وبعبارة مختصرة: إننا نكتشف وجود الأمر الثالث على نحو كشف وجود المعلول عن وجود العلة، فيكون الكشف كشفاً إنياً.

المرحلة الثامنة: إشكال السيد الروحاني على النهاية

لكن أشكل عليه في المنتقى(1) بأنه مجرد احتمال في عالم الثبوت، فإنّ وجود أمرين: طريقي متقدم وهو (احتط)، وإرشادي متأخر وهو (قف) صرف فرض لا مثبت له.

المرحلة التاسعة: إشكال على ما ذكر في المنتقى

ويرد عليه: إنّ مثبت هذا الفرض دلالة الاقتضاء، فلو لم يفرض وجود أمرين لكان كلام المعصوم غير قابل للتصديق، فإنه مع تسليم المقدمتين اللتين فرضهما(2) نضطر - عقلاً - لافتراض وجود خطابين للمشافه، وتعدية

ص: 241


1- منتقى الأصول 4: 471.
2- الإطلاق أو العموم في أحاديث (قف) وكون الهلكة ظاهرة في العقوبة.

الخطاب الأول للغائبين بدليل قاعدة الاشتراك في التكليف، ولا طريق - إطلاقاً - إلاّ الفرض الذي فرضه، والإنصاف أنه متين(1) بشرط تصوره وتصوره مساوق لتصديقه.

فما ذكر في النهاية محتمل ثبوتاً، وتدل عليه دلالة الاقتضاء إثباتاً.

المرحلة العاشرة: إشكال المحقق العراقي

لكن أشكل عليه المحقق العراقي(2) بأنّ الاستدلال الإني تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

قال في عبارة غامضة: «إنّ ذلك مبني على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإنه بعد اقتضاء أدلة البراءة نفي الهلكة على ارتكاب المشتبه في ظرف عدم البيان، يراد بالتمسك بالإطلاق المزبور في أن كل شبهة فيها الهلكة؛ لإدخال(3) الشبهات البدوية تحت حكم العام بإثبات أنّ الهلكة فيها كانت مع البيان، ومثله كما ترى غير جائز»(4).

وقبل توضيح مراده نذكر مقدمة، وهي: إنّ التمسك بالعام في الشبهة المصداقية نوعان:

الأول: أن تكون الشبهة شبهة مصداقية للعام.

الثاني: أن تكون الشبهة شبهة مصداقية للمخصص.

ص: 242


1- مع تسليم المقدمتين.
2- وربما المحقق العراقي غير ناظر لما في النهاية ولكنه صالح لرد كلماته.
3- الظاهر أن اللام زائدة و الصحيح إدخال.
4- نهاية الأفكار 3: 245.

مثلاً: لوقال المولى: (أكرم العلماء)، وقال: (لا تكرم فساق العلماء)، فلو شك أنّ زيداً عالم أم لا، فلا يجوز التمسك بالعام بلا إشكال؛ لأنها شبهة مصداقية للعام، فإنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ولا يعلم أنّ زيداً عالم حتى يندرج تحت العموم، وأما لو علم أنه عالم وشك في فسقه، فهذه شبهة مصداقية للمخصص، وقد اختلفوا في صحة التمسك بالعام فيه، واختار جمع من المحققين منهم: المحقق العراقي(1) عدم جوازه، فإنه وأن اندرج زيد تحت العام بما هو عام، لكنه لا يعلم اندراجه تحته بما هو حجة، فلا يعلم أن الإرادة الجدية للمولى متعلقة بإكرام العالم المشكوك أم لا.

وبعبارة أوضح: إنّ الخاص يعنون العام، فمع الجمع بين العام والخاص يكون مفاد العام (أكرم العلماء غير الفساق) وهو المراد الجدي للمولى، ويشك في اندراج زيد في موضوع (العالم غير الفاسق)، وعليه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، سواء كانت شبهة مصداقية للعام أم شبهة مصداقية للمخصص، والذي مآله في الواقع إلى الشبهة المصداقية للعام بعد عنونته بالعنوان العدمي.

وعلى هذا المبنى يمكن توضيح كلام المحقق العراقي في المقام(2)، فعندنا عام ومخصص عقلي، أما العام فهو فعلية الهلكة في جميع موارد الشبهة ومنها الشبهة البدوية، ومنشأهُ إطلاق حديث التوقف، وأما المخصص العقلي فهو (بشرط البيان) حيث لا يعقل ثبوت الهلكة في موارد

ص: 243


1- مقالات الأصول 1: 449.
2- مقام الشبهة الحكمية البدوية.

الشبهة لو لم يكن بيان؛ لقبح العقاب بلا بيان.

والشرط محرز في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لوجود البيان، وكذا في الشبهة البدوية الحكمية قبل الفحص، حيث يحكم العقل بعدم جواز الاقتحام، وهكذا النقل كما في رواية «هلا تعلمت»(1) فالبيان تام والشرط محقق فالعام يشملهما.

أما في الشبهات الحكمية البدوية بعد الفحص، فيشك في تمامية البيان بوجود الأمر الثالث، فيكون شبهة مصداقية للمخصص، فلا يمكن التمسك بالعام، وهو فعلية الهلكة في تمام موارد الشبهة، ومنها الشبهة البدوية؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وبعبارة بسيطة: يحتمل احتمالان، وأما الأمر الثالث فهل هو موجود أو لا؟ إن كان موجوداً فالتمسك بالعام صحيح، وإلا فلا يصح، ومع فرض الشك لا يصح التمسك بالعام.

وكأن هذا هو مراد المحقق العراقي.

المرحلة الحادية عشرة: الإشكال على المحقق العراقي

إنَّ الإطلاق(2) في (الشبهة) أمر وجداني، ومقتضاه شمول الشبهة الحكمية البدوية بعد الفحص بالوجدان، وهذا الشمول موقوف على وجود الأمر الثالث، فهو كاشف إني عنه، و مع الكشف الإني لا معنى للشك في

ص: 244


1- بحار الأنوار 2: 29.
2- أو العموم.

وجود الأمر الثالث(1)، بل وجوده مع البيان المذكور في النهاية برهاني قطعي.

المرحلة الثانية عشرة: الانتصار للمحقق العراقي

إنّ ثبوت الإطلاق على الغائبين موقوف على ثبوت الإطلاق للمشافهين، لكنه مشكوك؛ لاحتمال عدم وجود الأمر الثالث في حق المشافهين. فالقول بإطلاق (قف) أنما يتم إذا كان مطلقاً للمشافه، وهو موقوف على وجود (احتط)، وإلا فلا يعقل أن يكون (قف) عاماً، لقبح العقاب بلا بيان، ووجود (احتط) المساوق للبيان للمشافه مشكوك، فيكون شكاً مصداقياً للمخصص، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. فصح كلام المحقق العراقي.

هذا تمام الكلام في الإشكال السابع بمراحله الاثنتي عشرة.

الإشكال الثامن

على الاستدلال بروايات التوقف: ما ذكره في الكفاية، حيث قال: «إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل على الإباحة، وحكم العقل بالبراءة»(2).

فأدلة البراءة رافعة لموضوع روايات (قف).

والاستدلال بظاهره غريب؛ لأنّ موضوع البراءة العقلية (اللابيان)، وموضوع البراءة النقلية (الشك)، ومع وجود (قف) فالبيان متحقق، ولا شك

ص: 245


1- كما لا يصح التشكيك في وجود النار مع إحراز وجود الدخان، الذي هو كاشف إني عن النار.
2- كفاية الأصول: 345.

في البين.

ولذلك اضطر بعض المحشين(1) إلى توضيحه بأنّ روايات: «الوقوف عند الشبهة» عند التحليل العقلي تنحل إلى موضوع ومحمول، أما الموضوع فهو وجود الهلكة، وأما المحمول فهو وجوب التوقف.

و هنا ثلاثة مطالب:

الأول: نسبة الموضوع إلى المحمول كنسبة العلة إلى المعلول(2)، فلابد من ثبوت الهلكة في رتبة سابقة حتى يحمل عليها وجوب التوقف.

الثاني: وجود الهلكة في الرتبة السابقة يحتاج إلى مصحح، وهو منحصر في البيان، فلا يعقل وجود الهلكة من دون وجود البيان.

الثالث: لا يعقل أن يكون البيان بنفس أخبار التوقف؛ لأنه دوري.

بيان الدور: إنّ شمول أخبار التوقف للشبهات الحكمية البدوية موقوف على وجود الهلكة؛ لأنّ الوجوب معلول وجود الهلكة، ووجود الهلكة موقوف على البيان؛ لأنه لو لم يكن بيان لقبح العقاب، والبيان متوقف على شمول أخبار التوقف للشبهات البدوية الحكمية.

والنتيجة هي: إنّ شمول أخبار التوقف موقوف على شمول أخبار التوقف، وهو دور.

فنفس أخبار التوقف لا يمكن أن تكون بياناً لتصحح العقوبة، بل لابد

ص: 246


1- كفاية الأصول (المحشی) 4: 75.
2- فإن الموضوع إما علة للمحمول أو كالعلة له، وكما أن العلة متقدمة رتبة على المعلول كذلك الموضوع متقدم رتبة على المحمول.

من بيان آخر يكون مصححاً للعقوبة، كما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

لكنه محل تأمل لوجود حالتين:

الأولى: أن يوكل المولى إحراز الموضوع إلى المكلف، فتكون القضية شرطية، كما لوقال: (الخمر حرام) ولم يتصد لإحراز الموضوع، بل أوكله إلى المكلف، فهذه القضية وإن كانت حملية في الظاهر، لكنها لدى التحليل تنحل إلى قضية شرطية مؤداها (إن كان الشيء خمراً فهو محرم)، ويكون إحراز المكلف طريقاً لإثبات الموضوع.

وفي هذه الحالة لا يصح التمسك بالدليل، إلا مع فرض إحراز الموضوع في الرتبة السابقة حتى يحمل عليه الحرام إثباتاً.

الثانية: أن يتكفل المولى إحراز الموضوع بنفسه، فتكون القضية الحكمية قضية حملية لا شرطية، فينتفي الشك في الموضوع تعبداً، وإن كان موجوداً وجداناً، كما لوقال: (لا تشرب مياه الأنهار فإنها ملوثة)، فلم يوكل الموضوع إلى المكلف حتى يقال بعدم شمول القضية لحالة الشك، بل تكفل المولى إحراز الموضوع وحكم بكون مياه الأنهار ملوثة، فلو شك في نهر أن مياهه ملوثة أم لا؟ ثبت حكم وجوب الاجتناب عنه، لإخبار المولى بأنّ ماء النهر ملوث.

مثال آخر: لوقال: (لا تأكل الرمان لأنه حامض)، لزم الاجتناب عن الرمان المشكوك حموضته، ولا يمكن القول بعدم لزوم الاجتناب لعدم ثبوت الحموضة، وإنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع؛ وذلك لأنّ

ص: 247

المولى أخبر بأن كل رمان حامض فلا معنى للشك فيه. نعم، لو ثبت عدم الحموضة في مورد لكان العام قابلاً للتخصيص.

وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث إنّ المولى لم يقل: (لا تقتحم في الهلكة) حتى يقال: إنّ مآلها إلى قضية شرطية، بل قال: كل شبهة فيها الهلكة، فإنّ روايات الوقوف بيان لوجود الهلكة في الشبهات البدوية الحكمية.

ولو تم ما ذكر لكان كلام صاحب الكفاية محل تأمل.

الإشكال التاسع

ما حكي عن المحقق القمي(1):

من أنّ أخبار التوقف معارض بأخبار البراءة، وهي أقوى سنداً ودلالة واعتضاداً بالكتاب والسنة والعقل.

لكن أجاب عنه الشيخ الأعظم(2) بما توضيحه: إنّ التعارض والترجيح متفرع على كون الطائفتين المتعارضتين في رتبة واحدة، أما لو كانت الطائفتان في رتبتين فلا تعارض ولا مجال للترجيح.

وفي المقام أدلة التوقف في الشبهات حاكمة أو واردة على أخبار البراءة؛ لأنّ موضوع أخبار البراءة عدم العلم، وهو أعم من العلم الواقعي والظاهري، وأخبار التوقف علم ظاهري بالتكليف، فتكون رافعة لموضوع البراءة الشرعية والعقلية.

ص: 248


1- قوانين الأصول 2: 22.
2- فرائد الأصول2: 74-75.

والخلاصة إن نسبة أخبار التوقف إلى أخبار البراءة نسبة الدليل إلى الأصل العملي، فكما أنّ الدليل الاجتهادي رافع لموضوع الأصل العملي كذلك أدلة التوقف رافعة لموضوع أدلة البراءة.

ولكنه تام في بعض أخبار البراءة، أما في مجموعة منها فلا.

فمثلاً، رواية: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1) فمع القول(2) بأنّ المراد علم الشيء بما هو، لا علمه بما هو مدخول الحكم، أي كان العنوان الأولي للشيء مجهولاً، فهو موضوع عنهم، وتعارضه أخبار التوقف.

وهكذا: «رفع... ما لا يعلمون»(3) و «كل

شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(4).

وقد التفت الشيخ الأعظم إلى هذا الإشكال فأجاب عنه بأنّ «ما يبقى من السنة... لا يكافئ أخبار التوقف»(5).

وكأنه يسلم - صغروياً - أنّ أخبار البراءة ناظرة إلى مجهولية الحكم الواقعي، لكنها لا تكافئ أخبار التوقف، ووجه ذلك - كما أفاده بعض المحشين - أنّ أخبار التوقف أكثر وأصح.

لكنه محل تأمل: فإنّ هذه الأخبار يرجحها موافقة الكتاب، كما أشار

ص: 249


1- التوحيد: 413؛ وسائل الشيعة 27: 163.
2- كما قال به البعض وقد سبق بيانه.
3- الكافي 2: 462.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 317.
5- فرائد الأصول 2: 74.

إليه المحقق القمي.

إلا أن يقال: إنّ الآيات الكريمات الدالة على البراءة لا تدل على هذا المعنى، بل تدل على الأعم مما جهل حكمه بعنوانه الواقعي، كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1) فالرسول أعم من بيان الحكم الواقعي والظاهري، فالآيات لا ترجح البراءة، فتبقى الطائفتان بلا مرجح، وطائفة التوقف أكثر وأصح.

الإشكال العاشر

ما ذكره بعض المتأخرين: من أنّ منشأ اشتباه الأصوليين هو الخلط في معنى كلمة (الشبهة) بين المصطلح الأصولي واللغوي، فوقعوا في مخمصة الجواب عن المعارضة بين الطائفتين، فالشبهة في مصطلح الأصوليين بمعنى الشك والمشكوك، وأما في اللغة فبمعنى المثل والنظير والمحاكي.

فمعنى الروايات الشريفة وجود أشياء تشابه الحق مشابهة صورية وشكلية لا واقعية، فهو في واقعه باطل، وإن تلبس ببعض مظاهر الحق(2)، فالشبهة يعني الباطل في واقعه والذي يشبه الحق في ظاهره، والروايات تنبه على عدم الانخداع بالظواهر(3)، بل اللازم التحقيق في الأمر، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.

ص: 250


1- الإسراء: 15.
2- كالوهابية فإنهم يرفعون شعار الحق والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك الجلي والخفي، فلهم بعض مظاهر وشعارات الحق، لكنه في الواقع باطل محض (منه (رحمه اللّه) ).
3- كما كان بنو العباس يدعون للحق ويرفعون شعار يا لثارات الحسين (منه (رحمه اللّه) ).

وليست الشبهة بهذا المعنى في اللغة فحسب، بل في مصطلح الروايات أيضاً كذلك، كما ورد في قول أمير المؤمنين× للإمام المجتبى×: «وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى»(1).

وقوله×: «إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترهم بالشبهة»(2).

لكنه محل تأمل: لأنّ الظاهر أنّ (الشبهة) في اللغة والروايات أعم من ذلك، فيشمل الشك والمشكوك، فتشمل الشبهات الحكمية البدوية.

أما في اللغة، ففي لسان العرب: «الشبهة: الالتباس»(3)، يعني الغموض وعدم الوضوح.

وأما في الروايات، ففي خبر مسعدة بن زياد: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة، يقول: إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم أو ما أشبه ذلك، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(4).

الإشكال الحادي عشر

إنّ أخبار التوقف تنقسم إلى طوائف ثلاث: فبعضها ضعيفة سنداً وبعضها

ص: 251


1- نهج البلاغة 1: 89.
2- وسائل الشيعة 27: 171.
3- لسان العرب 13: 504، مادة «شبه».
4- وسائل الشيعة 20: 258.

ضعيفة دلالة(1)، وأما التامة سنداً ودلالة فقد أعرض عنها المشهور.

وتمامية الجواب موقوفةٌ على القول بأنّ الإعراض دلالة موهنة للخبر.

هذا تمام الكلام في الطائفة الأولى.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط في موارد الشبهات

اشارة

وفيها روايات:

الرواية الأولى
اشارة

صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: رواها محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم(2)، عن أبيه إبراهيم بن هاشم(3)، وعن محمد بن إسماعيل(4)، عن الفضل بن شاذان(5)، جميعا(6)، عن ابن أبي عمير(7) وصفوان بن يحيى(8)

ص: 252


1- كقوله ×: «أورع الناس من وقف عند الشبهة» حيث لا دليل على وجوب الأورعية.
2- علي بن إبراهيم، ثقة.
3- إبراهيم بن هاشم، ثقة أو ممدوح والمختار أنه ثقة.
4- محمد بن إسماعيل، مشترك بين ابن بزيع والبرمكي، وهما ثقتان، والبندقي وهو مجهول، وقد مرّ سابقاً طرق لإثبات وثاقته، فإن تم اعتبارها فالطريق الثاني معتبر أيضا، وإلا فيكفينا الطريق الأوّل.
5- الفضل بن شاذان، معروف لا يحتاج إلى توثيق.
6- فللكليني طريقان الأول عن علي بن إبراهيم عن أبيه، والثاني: عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان.
7- ابن أبي عمير، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة.
8- صفوان بن يحيى، من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة.

جميعا(1)، عن عبد الرحمن بن الحجاج(2)، قال: «سألت أبا الحسن× عن رجلين أصابا صيداً(3)، وهما محرمان، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال×: لا، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد، قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال×: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا».(4)

فتدل الرواية على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية.

لكن أشكل على دلالتها بإشكالات:

الإشكال الأول: إنه مخصوص بما علم فيه الوجوب في الجملة(5)، ومحل البحث في الشك في أصل الوجوب والحرمة، حيث يشك أن التتن - مثلاً - حلال أو حرام.

لكنه محل تأمل، فإنه من قبيل الشك بين الأقل والأكثر الاستقلاليين لا الارتباطيين(6)؛ لأنّ العلم الإجمالي ينحل إلى الأقل المتيقن والأكثر المشكوك، ومع الانحلال يكون الشك في الأكثر شكاً في التكليف لا المكلف به.

ص: 253


1- فإن إبراهيم بن هاشم وفضل بن شاذان رويا هذه الرواية عن ابن أبي عمير وصفوان.
2- عبد الرحمن بن الحجاج، ثقة.
3- أي اشتركا في صيده.
4- الكافي 4: 391؛ وسائل الشيعة 27: 154.
5- وقد ورد لا بهذه العبارة في ضمن كلمات الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في تفصيل.
6- كما في مسألة الدين لو تردد بين الأقل والأكثر.

وفي المقام: إنّ المتيقن هو التكفير بنصف بدنة، وأما البدنة الكاملة لكل منهما فهو شك في التكليف بعد انحلال العلم الإجمالي.

الإشكال الثاني: إنّ كلمة (مثل) في قوله×: «إذا أصبتم مثل هذا» مجملة يحتمل فيها احتمالات:

الأول: المراد خصوص صيد المحرم.

الثاني: المراد الشبهة الوجوبية الدائرة بين الأقل والأكثر الاستقلاليين.

الثالث: المراد الشبهة الوجوبية الدائرة بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

الرابع: الشبهة الوجوبية مطلقاً.

وهذه الاحتمالات الأربعة لا تجدي في المقام، بل المجدي الاحتمال الخامس، وهو كون المراد الشبهة الحكمية مطلقاً. ومع الإجمال وتطرق الاحتمال تسقط الرواية عن الاستدلال.

لكنه محل تأمل: حيث يمكن دعوى عدم الإجمال عرفاً، فإنّ الإمام× بصدد إعطاء ضابطة كلية، فلا بد أن تكون عرفية، ولا خصوصية عرفية فيما سوى الاحتمال الأخير.

والظاهر من قوله×: «إذا أصبتم مثل هذا» هو ما جهل حكمه.

الإشكال الثالث: ما اقتصر عليه المحقق العراقي، قال في عبارة مبهمة: «إنّ مفاده إنما هو المنع عن الإفتاء بالواقع عند الجهل به و تمام هم المجتهدين أنما هو إثبات الترخيص الظاهري، فلا يرتبط بما هو مفروض البحث، وهو الاحتياط في مقام العمل»(1).

ص: 254


1- نهاية الأفكار 3: 246 «بتصرف».

لكنه محل تأمل إن لم يكن مآله إلى إحدى الأجوبة الآتية. فإنّ قوله×: «عليكم بالاحتياط» أعم من الإفتاء بالواقع أو الإفتاء بالترخيص الظاهري، فتخصيصه بالأول خلاف الإطلاق.

وبما أنّ الإفتاء بالواقع في ظرف عدم العلم خلاف الاحتياط، كذلك الإفتاء بالترخيص الظاهري.

الإشكال الرابع: ما يظهر من عبارات الشيخ(1) في ضمن تفصيل: من أنّ المغيّا مخصوص بزمن الحضور وقبل الفحص، والقائل بالبراءة لا يتمسك بها قبل الفحص.

فالرواية في ظرف إمكان الاستعلام، فلا ترتبط بما نحن فيه؛ لأنّ ظرفنا ظرف عدم الإمكان.

لكنه بحاجة إلى مزيد من التأمل، فهل المراد بالغاية - في الجملة المغياة - مطلق الغاية أو الغاية المقدورة؟ وفي المقام الغاية هي السؤال، فهل الغاية السؤال مطلقاً أو السؤال في ظرف إمكانه؟ فلو قلنا بالأول كان المعنى أنه قبل السؤال وتحصيل العلم لا يمكن الاقتحام حتى في ظرف الغيبة؛ وذلك لعدم تحقق الغاية، ولو قلنا بالثاني كان المعنى لزوم الاحتياط حتى يتم السؤال إن أمكن، ففي ظرف الغيبة حيث لا يمكن السؤال فلا يلزم الاحتياط.

كما لوقال المولى العرفي لعبده: (لا تدخل غرفتي حتى آذن لك)، فلو لم

ص: 255


1- فرائد الأصول 2: 287.

يمكنه الاستئذان - كما لو كان المولى مسافراً - فهل يسقط النهي؟ وهل يحق للعبد أن يدخل الغرفة، ويعتذر بأنّ الغاية مقيدة بظرف الإمكان، أم أن الغاية هي حصول الإذن، وما لم يحصل بأي سبب كان فلا حق للعبد في الدخول؟

إلا أن يدافع عن الشيخ بالانصراف عن عهد الغيبة عرفاً، فهي خاصة بعهد الظهور. ولا يبعد ذلك.

الإشكال الخامس: إنّ المراد من قوله×: «مثل هذا» إما الشبهة الوجوبية أو مطلق الشبهة الحكمية، فإن كان الأول: فحتى الأخباريون لا يقولون بوجوب الاحتياط فيها إلا من شذّ وندر.

وإن كان الثاني: فيلزمه خروج المورد، وهو مستهجن، حيث يكون مفاد الرواية: وجوب الاحتياط في جميع الشبهات الحكمية إلا في الشبهات الوجوبية، والتي هي مورد السؤال. فلا بد من حمل الرواية على الاستحباب.

الإشكال السادس: وجوب الاحتياط في الصحيحة مغيّا بالعلم، وهو أعم من العلم الوجداني والتعبدي، أو يقال: إنّ المراد خصوص العلم الوجداني، ولكن خص بالذكر باعتباره أتم الحجج، لا بلحاظ انحصار الحجية فيه، كما ذكروا مثل ذلك في نقض اليقين بمثله، حيث لا يلزم أن يكون اليقين الناقض يقيناً وجدانياً، بل يكفي في النقض اليقين التعبدي، و هكذا في قوله×: «لا تنقض اليقين بالشك»(1) حيث لا فرق في المتيقن السابق بين كونه متيقناً باليقين التعبدي أو الوجداني، وهكذا في قوله تعالى: {أَمْ

ص: 256


1- جامع أحاديث الشيعة 2: 522.

تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُون}(1) فإنّ جواز الإسناد إلى المولى موقوف على العلم بالمعنى الأعم.

وفي المقام، الغاية محققة؛ لأنّ الأصوليين يعملون بالبراءة الشرعية بعد الفحص واليأس، والبراءة علم تعبدي أو حجة تعبدية، ومع حصول الغاية لا يجب الاحتياط.

وبعبارة أخرى: إنّ وجوب الاحتياط مغيّا بالعلم، ومع حصول العلم للأصولي بالحلية - اعتماداً على البراءة الشرعية أو العقلية - تتحقق الغاية، فيرتفع وجوب الاحتياط.

تذنيبان

التذنيب الأول: يوجد احتمالان في المشار إليه بكلمة (هذا):

الأول: أن يكون المشار إليه نفس الواقعة، أي الموضوع المشتبه الحكم، كواقعة الصيد.

الثاني: أن يكون المشار إليه السؤال عن حكم ما لا يعلم حكمه، فالمراد إذا ابتلي أحدكم بالسؤال عما لا يعلم حكمه، فعليه بالاحتياط.

والرواية في حد ذاتها لا تخلو عن الإجمال والإبهام، لكن يمكن تقريب الاحتمال الثاني بأحد بيانين:

الأول: إنّ ظاهر (عليكم) هو الوجوب، ولا يجب الاحتياط في نفس الواقعة، حيث يمكن الاقتصار على القدر المتيقن وهو السؤال، وإن كانت الشبهة حكمية، وهذا معين للاحتمال الثاني، وأما الاحتياط في الجواب

ص: 257


1- الأعراف: 28.

فواجب.

الثاني: لقد ذكر في العلوم الأدبية(1): إنّ الضمير يعود إلى الأقرب، والظاهر عدم الفرق بين الضمير واسم الإشارة، والأقرب في المقام هو السؤال لا الواقعة، فيعود اسم الإشارة إليه.

وسواء كانت الإشارة إلى الواقعة المشكوكة أو السؤال عنها، فالرواية لا تدل على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية المقصودة على كلا التقديرين، لما مرّ بيانه.

التذنيب الثاني: يوجد في قوله×: «فعليكم بالاحتياط» ثلاثة احتمالات:

الأول: الفتوى بالاحتياط.

الثاني: الفتوى بما يوافق الاحتياط.

الثالث: الاحتياط في الفتوى.

وهذه الاحتمالات الثلاثة مبنية على اختيار الاحتمال الثاني في التذنيب الأول، والظاهر من الرواية هو الثالث، فالمعنى هو أن لا يقول الإنسان ما لا يعلم، ولا يفتي حتى يسأل فيعلم.

الرواية الثانية
اشارة

موثقة(2) عبد اللّه بن وضاح(3): ففي الوسائل: عن محمد بن الحسن

ص: 258


1- تاج العروس3: 399؛ شرح كافية ابن الحاجب 1: 189.
2- الرواية موثقة لوجود أحد الواقفية في السند.
3- وسائل الشيعة 27: 166، وقد رواها الحر العاملي في المقام مختصراً، وأما الرواية الكاملة فقد وردت في 4: 176، ورواها الشيخ الطوسي في التهذيب والاستبصار.

بإسناده(1)، عن الحسن بن محمد بن سماعة(2)، عن سليمان بن داوود، عن عبد اللّه بن وضاح(3)، قال(4): «كتبت إلى العبد الصالح×: يتوارى القرص(5) ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً(6)، وتستتر عنا الشمس، وترتفع فوق الليل(7) حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون(8)، فأصلى حينئذ وأفطر إن كنت صائماً، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل، فكتب إليّ: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة(9)، وتأخذ بالحائطة لدينك.

وفي المقام بحثان:

البحث الأول: في السند

فإنّ في سليمان بن داود إشكالين:

ص: 259


1- إسناد الشيخ في المشيخة إلى الحسن بن محمد بن سماعة صحيح.
2- حسن بن محمد بن سماعة، من شيوخ الواقفة لكنه ثقة.
3- عبد اللّه بن وضاح، ثقة.
4- في السؤال إبهام شديد ولا يعلم مراد السائل.
5- أي الشمس.
6- كأن المراد حصول ظلمة أو شبه ظلمة أول الغروب في قرب الأرض، ثم ترتفع شيئاً فشيئاً حتى تملأ السماء.
7- كذا في الوسائل «طبعة مؤسسة آل البيت^» والاستبصار 1: 264، وأما في التهذيب 2: 259 ورد: (فوق الجبل)، وفي الوسائل «طبعة المكتبة الإسلامية» في موضع منه 3: 129 ذكر (الليل) وفي موضع آخر 7: 89 ذكر (الليل) و (الجبل) معاً، وأما في البحار 2: 259 فلا توجد جملة «وترتفع فوق الجبل حمرة» أصلاً، لكن المشهور في الكتب (الليل) وربما الصحيح (الجبل).
8- ربما المراد العامة منهم.
9- لا يعلم أن المراد الحمرة المغربية أو المشرقية.

الإشكال الأول: إنه مشترك بين سليمان بن داود الخفاف، وبين سليمان بن داود المروزي، وهما مجهولان، وبين سليمان بن داود المنقري وهو ثقة، ولم يعلم مَنْ هو المراد منهم.

لكنه مندفع بما ذكر في محله أنّ المراد به سليمان بن داود المنقري، وذلك بقرينة الراوي عنه.

الإشكال الثاني: لو سلم أنه المنقري و لكن تعارض فيه الجرح والتوثيق، فقد وثقه النجاشي وضعفه ابن الغضائري.

لكنه مندفع بما ذكر في محله من الإشكال في نسبة كتاب (الضعفاء) إلى ابن الغضائري، كما في المعجم(1).

هذا أولاً.

وثانياً: إنّ الكتاب موضوع وضعه بعض أعداء الشيعة لإسقاط أكابر الرواة، كما في الذريعة(2).

وثالثاً: إنّ ابن الغضائري لم يكن متعارفاً في الجرح، فلا تشمله أدلة صدق العادل، فإنها لا تشمل غير المتعارف.

ورابعاً: إنّ تضعيفاته حدسية لا حسية، وأدلة حجية خبر العادل لا تشمل التوثيقات والتضعيفات الحدسية.

وخامساً: النجاشي أضبط ولدى التعارض يقدم قوله.

والحاصل: إنه لا اعتناء بتضعيف ابن الغضائري في المقام مع توثيق النجاشي.

وتحقيق ذلك موكول إلى علم الرجال والدراية.

ص: 260


1- معجم رجال الحديث 1: 12.
2- الذريعة 10: 89.
البحث الثاني: في الدلالة

وتقريب الاستدلال بها للشبهات الحكمية: إنّ قوله×: «وتأخذ بالحائطة» بيان لمناط الحكم، وهو يفيد العموم، فمعنى الرواية أنّ الأخذ بالاحتياط واجب في كل مشتبه لا خصوص المقام؛ لأنّ العلة تعمم وتخصص(1).

وأشكل عليه بإشكالات:

الإشكال الأول: إنّ الرواية ظاهرة في الاستحباب؛ لظهور قوله× (أرى لك) في ذلك، والبحث مع الأخباريين في وجوبه، أما الاستحباب فهو مفروغ منه.

ولو أنكر ذلك فلا أقل من الشك في ظهوره في الوجوب، وهو مخل بالظهور، فقد ذكر في محله أنّ الظهور يحتاج إلى القطع، وأما مع الشك أو الظن فلا ظهور ولا حجية.

الإشكال الثاني: لا يخلو مورد الرواية من احتمالين، فإما أن تكون الشبهة موضوعية وإما حكمية(2):

الاحتمال الأول: أن تكون الشبهة موضوعية، بأن كان من الواضح عند

ص: 261


1- كما لو قال: «أرى لك أن توفي دينك وتخلص نفسك» فتخلص نفسك بيان لعلة الحكم، فيفيد أن تخليص النفس مطلقاً مطلوب لا في خصوص المورد.
2- ولا يهمنا الأقرب منهما في المقام، لاختلاف استظهارات الفقهاء والأصوليين في المراد منها في الفقه والأصول، فإنها وردت في أحكام الأوقات وتضاربت الآراء فيها (منه (رحمه اللّه) ).

عبد اللّه بن وضاح أنّ الملاك استتار القرص(1)،

لكنه يشك في حصول الاستتار خارجاً، فيكون معنى الرواية: يتوارى القرص خلف الجبل ويقبل ظلام الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً؛ لأنّ الظلمة في أول الأمر مقاربة للأرض ثم ترتفع وتستتر الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة مغربية، فيحتمل المكلف أنّ وجود الحمرة علامة عدم استتار القرص ويؤذن المؤذن، فهل تصح الصلاة أو يلزم الانتظار حتى تتلاشى الحمرة المغربية، ويحصل اليقين باستتار القرص.

وهذا الاحتمال قوّاه الشيخ الأعظم(2) وإن ضعّفه بعض(3) بأنه خلاف ظاهر الرواية.

وبناء على كون الشبهة موضوعية فوجوب الاحتياط في الرواية لا يجدي في المقام، لوجود خصوصية في المورد لا يمكن بلحاظها تعدية الوجوب إلى المقام، وهي أنّ الشك في الرواية شك في الامتثال، فقد اشتغلت الذمة بالصوم والصلاة، فلو صلّى أو أفطر مع الشك في استتار القرص لم يتيقن بالامتثال، فإنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، بينما محل البحث في المقام الشك في الاشتغال، بل في مورد الرواية تحقق المحرز التعبدي، وهو استصحاب وجود النهار، واستصحاب عدم دخول الليل. ومع قاعدة

ص: 262


1- كما هو مذهب العامة ومجموعة كبيرة من الخاصة من المتقدمين والمتأخرين، وإن كان ذلك خلاف المشهور.
2- فرائد الأصول 2: 76.
3- نهاية الأفكار 3: 247.

الاشتغال والأصل المحرز يلزم الاحتياط عند جميع الأصوليين، بينما البحث في المقام في صورة الشك في أصل التكليف.

الاحتمال الثاني: أن تكون الشبهة حكمية، بمعنى أنّ السائل يريد معرفة ملاك المغرب الشرعي وجواز الإفطار، هل هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية؟

وبناء عليه لا بد من حمل الرواية على التقية، فإنّ الجواب بالاحتياط في الشبهات الحكمية في الحالات الطبيعية دال على جهل المسؤول، لكن المترقب من الإمام× إزالة التحيّر في الشبهة الحكمية ببيان الملاك، وحيث أجاب× بالاحتياط دل على أنه صادر على نحو التقية، خاصة أنّ عهد الإمام الكاظم× كان عهد التقية، الشديدة، وكان بحث استتار القرص معروفاً عند العامة، والتقية في المكاتبة أكثر من المشافهة. فأجابه× بأن ينتظر حتى تذهب الحمرة المشرقية نحو المغرب، وتزول من ربع الفلك ويأخذ بالحائطة للدين.

وحيث إنّ الإمام× أراد بيان الواقع في كون الملاك ذهاب الحمرة المشرقية، فلم يمكن في ظرف التقية التوصل إلى بيانه بالاحتياط، بمعنى لزوم الصبر حتى تزول الحمرة المشرقية ليتيقن باستتار القرص، فيكون ذلك موهماً للعامة بأنه احتاط لعدم العلم بزوال القرص.

وبعبارة أخرى، كان للإمام× أن يبين ذلك بأحد بيانين:

الأول: أن يصرح بأنّ الملاك ذهاب الحمرة المشرقية عن ربع الفلك نحو المغرب، لكنه مخالف للتقية.

ص: 263

الثاني: أن يبينه بعنوان الاحتياط، أي انتظر زوال الحمرة عن ربع الفلك احتياطاً حتى تتيقن باستتار القرص، فلو سأله العامي عن سبب الانتظار أجابه ليتيقن بالاستتار. أي أنّ الإمام× لا يريد أن يقول احتط، بل يريد الكناية عن كون الملاك ذهاب الحمرة المشرقية عن ربع الفلك باتجاه المغرب.

والخلاصة: إنّ الإمام× بيَّنَ الحكم الواقعي بلسان الاحتياط تقية. وهو أجنبي عما نحن فيه؛ لأنه احتياط كنائي، ولا يقصد منه حقيقة الاحتياط، بل هو احتياط في التعبير، فقد عبر عن الحكم الواقعي بلسان الاحتياط.

والحاصل: إنَّ الرواية على كلا التقديرين لا تجدي فيما نحن فيه، سواء كان المراد الشبهة الحكمية أم الموضوعية.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق الحائري في الدرر، قال: «ويمكن قريباً أن يكون قوله×: «وتأخذ بالحائطة لدينك» متمماً للفقرة الأولى لا تعليلاً لها، فالمراد أنه يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط من دون أن يلتفت إلى مذهبك أحد»(1).

فالملاك زوال الحمرة المشرقية عن قمة الرأس، ولكن احتط حتى لا يكتشف أمرك، كأن يطيل في الوضوء حتى تزول الحمرة، أو إذا دُعيت إلى الإفطار صلِّ أوّلاً، ولا تكشف السر فتقتل، بل خذ بالحاطئة.

وهذا التوجيه وإن كان لطيفاً في حدّ ذاته لكنه خلاف الظاهر، فلو كان المراد ذلك لكان التعبير عنه ب- «وتأخذ الحائطة لنفسك» أما (لدينك) فظاهر

ص: 264


1- درر الفوائد 2: 434.

في الاحتياط للدين لا للنفس، و لذا لم يخطر ولم يتبادر إلى ذهن غيره (رحمه اللّه) .

الرواية الثالثة
اشارة

ما رواه في الوسائل عن الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي في أماليه، عن أبيه(1)، عن المفيد، عن علي بن محمد الكاتب، عن زكريا بن يحيى التميمي(2)، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري (3): «عن الإمام الرضا×: «إنّ أمير المؤمنين× قال لكميل ابن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(4).

وفيه بحثان: سندي و دلالي.

أما البحث السندي فقد عبر عنه الشيخ بقوله: «بسند كالصحيح...» وقال: «ليس في السند إلا علي بن محمد الكاتب الذي يروي عنه المفيد»(5).

وثاقة الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي

أما الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي فهو ابن الشيخ الطوسي، والظاهر أنه ثقة، فقد قال عنه الحر العاملي: «كان عالماً فاضلاً فقيهاً محدثاً جليلاً ثقةً»(6) وقال الشيخ منتجب الدين: «فقيه ثقة عين»(7) وهذا المقدار

ص: 265


1- الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) .
2- زكريا بن يحيى التميمي، ثقة.
3- أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، ثقة.
4- وسائل الشيعة 27: 167.
5- فرائد الأصول 2: 77.
6- وسائل الشيعة 30: 154.
7- فهرست منتجب الدين: 46.

كاف في إثبات الوثاقة ظاهراً، وإن ظن بعض الرجاليين عليه بكلمة الثقة.

جهالة علي بن محمد الكاتب

وأما علي بن محمد الكاتب، فظاهر عبارة الشيخ الأعظم أنه يدفع الإشكال عنه برواية الشيخ المفيد عنه.

لكن صرف رواية الثقة عن مجهول لا التوثيق الصريح له لا يكفي لإثبات وثاقته.

نعم، لو أكثر الثقة الرواية عن شخص، وكانت رواياته في الأحكام الإلزامية(1)، واعتمد على المروي، أمكن دعوى دلالته على الوثاقة، حيث يبعد أن تكون جميع القرائن خارجية، وأما الاعتماد على رواية واحدة فلا، فقد تكون الوثاقة خبرية لا مخبرية، أي أنه توجد في خصوص هذه الرواية قرائن أورثت الاطمئنان(2).

فمع هذه الشروط الثلاثة يمكن القول: إنّ الشيخوخة في الرواية دليل الوثاقة.

وتوفر هذه الشروط في المقام مشكوك حسب الفحص الناقص، فإن روايات علي بن محمد الكاتب روايات تاريخية، وإن كان الأمر بحاجة إلى

ص: 266


1- أما في المستحبات والمكروهات والتاريخ فصرف الرواية لا يدل على الوثاقة؛ لعدم ترتب إلزام عليه (منه (رحمه اللّه) ).
2- كما لو شوهد اعتماد المرجع على خبر شخص مجهول، فيمكن أن يكون ذلك لوجود قرائن خارجية لوثاقة الخبر، أما الاعتماد في عشرات الموارد فعادة يفيد الاطمئنان بالوثاقة المخبرية.

تتبع أكثر، فالاعتماد على وثاقته لنقل الشيخ المفيد عنه محل تأمل، وإنّ كان ظاهر عبارة الشيخ الأعظم الميل إلى الوثاقة.

وأما زكريا بن يحيى التميمي فهو ثقة، لكن في هامش الوسائل أنّ في المصدر(1) زكريا بن يحيى الكنيجي، ولم أجده في المعاجم الرجالية فيكون مجهولاً.

والحاصل أن في السند استفهامين حول علي بن محمد الكاتب، وزكريا بن يحيى الكنيجي.

وأما البحث الدلالي: فقد أشكل على دلالته بإشكالات:

الأول: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الأصول(2): من أنّ الظاهر كونه أمراً استحبابياً بقرينة (ما شئت) فإنّ الأمر الوجوبي لا يعلق بالمشيئة.

لكن قال الشيخ الأعظم (3): إنه لا يمكن الحمل على الاستحباب؛ لأنه يستلزم إخراج موارد وجوب الاحتياط، فإنّ (احتط) مطلق يشمل موارد وجوب الاحتياط أيضاً، كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، أو الشبهات الحكمية قبل الفحص، ولازم الذهاب إلى الاستحباب تقييد الإطلاق بغير الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، أو نقول: إنه موضوع للأعم، أي مطلق الرجحان، فيشمل موارد وجوب الاحتياط.

وهو محل تأمل، لإمكان القول: إنّ ظهور (ما شئت) في الاستحباب

ص: 267


1- أي أمالي ابن الشيخ الطوسي.
2- الأصول: 730.
3- فرائد الأصول 2: 80.

أقوى من ظهور (احتط) في الإطلاق من باب أنّ حذف المتعلق يفيد العموم. وذلك كقوله: «تصدق بما شئت» الدال على استحباب الصدقة.

الثاني ما ذكره المحقق الحائري(1) وحاصله: إنّ الأمر دائر بين التصرف في المادة أو الهيئة، فإما يتم تخصيص المادة أو تحمل الهيئة على مطلق الرجحان.

قال: يدور الأمر بين التصرف في المادة بحمله على غير الشبهات الموضوعية، والتصرف في الهيئة بحمله على إرادة مطلق الرجحان.

فإن التزم بوجوب (احتط) فلا بد من تخصيص المادة، وهي الاحتياط بغير الشبهات الموضوعية؛ لعدم وجوب الاحتياط فيها قطعاً، وإن أبقيت المادة في العموم فلا بد من حمل هيئة الأمر على مطلق الرجحان، فيكون الاحتياط في جميع الموارد محبوباً للمولى.

ولو لم نقل: إنّ التصرف في الهيئة أقرب فلا أقل من التكافؤ بين الاحتمالين، وعلى ذلك تسقط الرواية عن الاستدلال.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم، وإن عدل عن جميع ما ذكره في نهاية المطاف، قال(2): حملها على الوجوب يستلزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن؛ و ذلك لوجود أربعة أنواع من الشبهة: الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية، وكل منهما إما وجوبي أو تحريمي. ومع القول بأنّ (احتط)

ص: 268


1- درر الفوائد 2: 436.
2- فرائد الأصول 2: 80.

للوجوب لزم تخصيص الأكثر؛ لأنّ الشبهات الموضوعية الوجوبية والتحريمية والشبهات الحكمية الوجوبية خارجة بالاتفاق، فلا يبقى تحت الوجوب إلا الشبهة الحكمية التحريمة.

لكنه محل تأمل؛ لبقاء الشبهة الحكمية التحريمة والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي؛ سواء كانت حكمية أم موضوعية - والشبهة الحكمية قبل الفحص وجوبية أم تحريمة(1) تحت العموم، فهذه خمسة أقسام تبقى تحت وجوب الاحتياط، فلا يستلزم تخصيص الأكثر.

الرابع: ما اختاره الشيخ الأعظم في نهاية المطاف.

وحاصله: إنّ مفاد الرواية بيان أعلى مراتب الاحتياط، وهو مستحب قطعاً، وليس مفادها الإرشاد أو الوجوب أو الاستحباب، أو القدر الجامع بينهما.

قال: «والذي يقتضيه دقيق النظر أنّ الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب الغير(2) الإلزامي؛ لأنّ المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط لا جميع مراتبه، ولا المقدار الواجب، والمراد بقوله: (بما شئت) ليس التعميم من حيث القلة والكثرة والتفويض إلى إرادة الشخص؛ لأنّ هذا كله مناف لجعله بمنزلة الأخ، بل المراد أنّ أي مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في

ص: 269


1- أقول: الصورة الخامسة مندكة مع الصورة الأولى، فلا وجه لاعتبارها صورة مستقلة فتكون الصور أربعاً (المقرر).
2- والصحيح (غير) لعدم دخول الألف واللام عليها لإيغالها في الإبهام، كما في المغني (منه (رحمه اللّه) ).

محلها»(1).

بيانه: إنّ كلمة (بما شئت) تستخدم في موردين:

الأول: التخيير في مراتب الشيء، كقوله: «اقرأ القرآن بما شئت» فهو تفويض إلى مشيئة الشخص، وتخيير في المراتب.

الثاني: تستخدم لبيان المرتبة العليا من الشيء، كقوله: هذا الكتاب جيد بما شئت، أي أنه في أعلى مراتب الحسن.

وأعلى مراتب الاحتياط محبوب للمولى بعيداً عن العناوين الثانوية.

ويدل عليه قرينة صدر الرواية، فإنه لو كان المراد المعنى الأول لكان دليلاً على عدم الاهتمام بالشيء، وهو مناف لصدر الرواية، فإنّ الدين بمنزلة الأخ، وعلاقة الأخ بالأخ في أعلى المراتب، أو من أعلاها، فالصدر مشعر بتمام الاهتمام وكامل الاعتناء، فلا يمكن القول: إنّ نهاية الرواية تشعر بعدم الاهتمام، فيكون المعنى بقرينة الصدر بأي مقدار شئت الاحتياط، فهو محبوب مطلوب وفي محله، كما تقول: (زيد أبوك فاخدمه بما شئت) أي بأي مقدار تريد فإنه حسن.

فالحديث تشويق بالاحتياط بأعلى مراتبه، ولا يدل على الوجوب ولا الندب ولا الجامع بينهما.

وما ذكره الشيخ معنى دقيق وظريف، لكن فيه نوع من الخفاء، فيمكن استظهار معنى آخر، كما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) من أنّ الرواية لو اقتصرت

ص: 270


1- فرائد الأصول 2: 81.

على الصدر لأوهم الوجوب، فأضاف المولى (بما شئت) لدفع توهم الوجوب، كقول الخطيب (صلوا صلاة الليل)، ولكي لا يتوهم الوجوب يضيف (بأي مقدار شئتم) فيفيد الاستحباب.

الرواية الرابعة

ما روي عنه×: «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط»(1).

ولم نعثر عليها في المجاميع الحديثية. نعم، أرسلها الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) في الفرائد(2)، والمحدث البحراني في الحدائق(3)، ووالد الشيخ البهائي في العقد الحسيني(4)، فهي مرسلة غير قابلة للاعتماد.

أما عن دلالتها، فقد قال المحقق العراقي: «إنّ الخبر ظاهر في الاستحباب؛ لأنه مسوق لبيان أعلى مراتب الاحتياط»(5).

ولم يبين وجه ما ذكره.

ويمكن توجيهه بأنه قد ثبت في محله أنّ النكرة في سياق النفي أو النهي تفيد العموم(6)، وكلمة (ناكب) في سياق النفي، أي ليس بمائل ومنحرف، فمن يحتط لا ينحرف عن الطريق أصلاً؛ لأنّ الاحتياط إحراز قطعي للواقع.

ص: 271


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 332.
2- فرائد الأصول 2: 78.
3- الحدائق الناضرة 1: 76.
4- العقد الحسيني: 30.
5- نهاية الأفكار 3: 246.
6- معالم الدين: 102؛ قوانين الأصول: 223؛ كفاية الأصول: 217.

وبعبارة أخرى يحتمل أن يكون معنى الرواية أنّ من يحتط لا يتورط في مخالفة الواقع، ومن المعلوم أنّ الإقدام على عمل حتى لا يقع في مخالفة الواقع مطلقاً ليس بواجب، فمن يقتحم في الشبهات الموضوعية يقع في مخالفة الواقع في كثير من الموارد، وليس ذلك بمحرم.

فلا تدل الرواية على الوجوب، حيث إنّ الكون في الطريق لم يدل دليل على وجوبه، وإنّ الخروج عن الطريق لم يدل دليل على حرمته.

الرواية الخامسة

ما في الوسائل عن الشهيد الأول في الذكرى، عن الإمام الصادق×: «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك».(1) وهي مرسلة، حيث لم يذكر الطريق بين الشهيد والإمام الصادق×.

وأما دلالةً، فالظاهر أنّ (اللام) في المقام للنفع، أي في نفعك وصالحك، ومن الواضح أنه ليس كل ما هو في نفع المكلف واجب التحصيل، فالرواية لا تدل على الوجوب.

الرواية السادسة

ما في الوسائل أيضاً: وجدت بخط الشهيد محمد بن مكي حديثاً طويلاً عن عنوان البصري، عن أبي عبد اللّه× يقول فيه: «سل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً وتجربة، وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هروبك

ص: 272


1- وسائل الشيعة 27: 172.

من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس».(1) وهي مرسلة أيضاً؛ لعدم ذكر الواسطة بين الشهيد والرواي، كما أنّ عنوان البصري مجهول، فلم أجد له ذكراً في كتب الرجال، حتى في رجال العامة بمقدار الاستقراء.

وأما دلالة ففيها إشكالان:

الإشكال الأول: ما ذكره بعض المعاصرين من أنه تفسير لقوله× (إياك أن تعمل برأيك) فالمقصود بقوله (خذ بالاحتياط) يعني لا تستند في الفتوى إلى المقاييس والآراء الظنية والمصالح المرسلة والاستحسانات، كما كان يصنعه أبو حنيفة وأمثاله، فهو تأكيد لما تقدم، وليس هذا محل الكلام.

ويرد عليه أنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد و(خذ بالاحتياط) عام.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(2)

من أنّ الرواية ظاهرة في الاستحباب، لكنه لم يبين وجه ذلك.

ويمكن القول: إنّ وجه الظهور وجود كلمة (جميع أمورك) ولا شك أنّ الاحتياط كذلك غير واجب، فتدل على الاستحباب.

ويمكن الجواب عنه بأنّ التخصيص لا يثلم ظهور الهيئة في الوجوب، ولذا قيل ما من عام إلا وقد خص(3)، حتى إنه قد خصص بنفسه أيضاً(4).

ص: 273


1- وسائل الشيعة 27: 173؛ ذكرى الشيعة 2: 445.
2- نهاية الأفكار 3: 243.
3- معالم الدين: 103؛ قوانين الأصول: 196.
4- كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ} حيث إنه لم يخصص.

إلا أن يجاب بأنّ الرواية آبية عن التخصيص.

والحاصل: ما ذكره المحقق العراقي ليس بواضح.

هذا تمام الكلام في الأجوبة التفصيلية عن روايات الاحتياط.

الأجوبة الإجمالية على روايات وجوب الاحتياط

لم يتطرق بعض الأصوليين - كصاحب الكفاية - إلى تفاصيل روايات الاحتياط، بل اكتفوا بالإجابة عن بعض الروايات إجمالاً.

الجواب الأول: الجواب بالأخصية، كما ذكره في الكفاية(1).

وتوضيحه: إنّ موضوع روايات البراءة أخص من موضوع روايات الاحتياط، والخاص يقدم على العام؛ وذلك لأنّ روايات الاحتياط تشمل جميع موارد الشبهات، وأما روايات البراءة فلا تشمل الشبهات الحكمية قبل الفحص، والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي(2).

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ موضوع روايات البراءة عام أيضاً في حد ذاته، ف- (رفع ما لا يعلمون) أو (ما حجب اللّه علمه عن العباد)، أو (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) تشمل الشبهات الحكمية قبل الفحص أيضاً، كما شملت الشبهات الموضوعية قبل الفحص، بل تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لعدم ورود نهي في المشار إليه، فالنسبة بين روايات البراءة

ص: 274


1- كفاية الأصول: 345.
2- هذا كلام صاحب الكفاية أو يحتمل من كلامه (منه (رحمه اللّه) ).

والاحتياط التباين والتعارض.

إلا أنّ الظاهر ارتباط المسألة بموضوع انقلاب النسبة بين الدليلين، فمع عدم التسليم بذلك يكون إشكال صاحب الكفاية تاماً، حيث إنّ النسبة بين الموضوعين هي التساوي، وبين المحمولين التباين فيتعارضان.

وأما مع التسليم بانقلاب النسبة كّلاً أو في أمثال المقام، فلا يكون الملاك اللفظ، ولا يهمنا الإرادة الاستعمالية، بل المهم الإرادة الجدية للمولى.

والإرادة الاستعمالية من روايات البراءة وإن كانت عامة أو مطلقة، إلا أنّ الإرادة الجدية ليست كذلك قطعاً، فإنّ (رفع ما لا يعلمون) لا تشمل الشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص قطعاً، بدليل (هلا تعلمت) ولا تشمل موارد العلم الإجمالي أيضاً لدليل العقل أو غيره.

وبناءً عليه لو كان الملاك الإرادة الجدية كان موضوع روايات البراءة خاصاً، وموضوع روايات الاحتياط عاماً.

وبعبارة مختصرة: وإن كان الموضوعان - أي الشبهات - بلحاظ الإرادة الاستعمالية متساويين، ولكنه بلحاظ الإرادة الجدية نجد أنّ موضوع روايات البراءة أخص، والخاص يقدم على العام.

فتمامية الجواب مبني على المبنى، والأخصية موقوفة على القول بانقلاب النسبة.

الجهة الثانية: الإشكال البنائي، وهو أنه حتى لو قبلنا بانقلاب النسبة إلا أنّ النتيجة في المقام ليست العموم والخصوص المطلق، بل العموم

ص: 275

والخصوص من وجه.

بيانه: إنّ أخبار البراءة مخصصة بالشبهات الحكمية قبل الفحص مثلاً، حيث لا تجري فيها للدليل، وأدلة الاحتياط - أيضاً - مخصصة بالشبهات الموضوعية لعدم وجوبه فيها.

ففي المقام توجد أربعة أدلة: عامان مخصصان، ومع لحاظ وجود المخصصين تنقلب نسبة العامين من التساوي إلى العموم من وجه، ومرجع العموم من وجه إلى موجبة جزئية وسالبتين جزئيتين.

فمورد افتراق دليل (احتط) فهو في الشبهات الحكمية قبل الفحص، حيث تشمله أدلة الاحتياط دون أدلة البراءة.

وأما مورد افتراق أدلة البراءة فهو في الشبهة الموضوعية، حيث تشمله أدلة البراءة دون أدلة الاحتياط، ويتعارضان بالعموم من وجه في الشبهات الحكمية بعد الفحص كشرب التتن، فما ذكر في الكفاية من أخصية موضوع أدلة البراءة محل تأمل.

والحاصل: لو لم نقبل انقلاب النسبة فالنسبة بين الموضوعين هي التساوي، وإن قبلنا الانقلاب فالنسبة العموم من وجه.

وعلى كلا التقديرين يتعارضان، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

الجواب الثاني: الجواب عن روايات الطائفة الثانية بالأظهرية(1).

فروايات البراءة نص أو أظهر، فتتقدم على روايات الاحتياط الظاهرة، و

ص: 276


1- كفاية الأصول: 345.

ذلك بالجمع الدلالي العرفي.

بيان ذلك: إنّ منتهى أمر روايات الاحتياط ظهورها في الوجوب لصيغة افعل، وأما روايات البراءة كقوله: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) فهي نص في الإطلاق، والنص مقدم على الظاهر.

ويرد عليه إيرادان:

الأول: ما ذكره بعض المعاصرين:(1) من أنّ أدلة الاحتياط - أيضاً - نص، إذ أي نص أصرح من قوله× في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: «إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط».(2)

لكنه غير واضح: فإنّ مفاد (عليكم) هو مفاد الأمر، أي (خذوا بالاحتياط) وهو ظاهر في الوجوب لا نص فيه.

الثاني: إنّ تقديم النص أو الأظهر فرع التعارض ولا تعارض بينهما؛ لأنّ أدلة الاحتياط حاكمة على أدلة البراءة ورافعة لموضوعها، فإنّ موضوع البراءة (ما لا يعلمون) وأدلة الاحتياط علم تعبدي بالتكليف، وإن كان ظاهرياً، فلا تصل النوبة إلى مرجحات باب التعارض.

وتماميته موقوفةٌ على ناظرية أدلة البراءة إلى مطلق الحكم، أعم من الواقعي والظاهري، لكن مّر سابقاً أنّ بعض تلك الأدلة يحتمل نظرها إلى الواقع، بمعنى رفع كل واقع مجهول، فتتعارض أدلة الاحتياط مع أدلة

ص: 277


1- مصباح الأصول 2: 301.
2- الكافي 4: 391.

البراءة، فينفسح المجال لكلام صاحب الكفاية(1).

الجواب الثالث ما ذكره بعص المعاصرين(2)

وجعله العمدة في رد أخبار الاحتياط، ومؤداه متقارب مع ما ذكر في المصباح(3)، من أنّ العقل مستقل بحسن الاحتياط، فتكون أوامر الاحتياط إرشادية، والنتيجة في الأمر الإرشادي مختلفة حسب اختلاف المرشد إليه، فلا بد من النظر إلى حكم العقل قبل وجود الأمر الإرشادي.

فمثلاً، لو كان البيان تاماً لكن طرأ الإجمال في المتعلق حكم العقل بوجوب الاحتياط على نحو اللزوم، فيكون الأمر إرشاداً إليه، فيجب الاحتياط، وهكذا لو كان المورد من موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص.

أما في محل الكلام - أي الشبهات الحكمية بعد الفحص، كشرب التتن - فإنّ العقل لا يحكم بوجوب الاحتياط، وإنما يحكم بحسنه؛ لكونه إدراكاً قطعياً للواقع، فيكون الأمر الشرعي إرشاداً إليه، فلا يجب الاحتياط وإنما يحسن فقط.

ضابطة تشخيص الحكم الإرشادي عن المولوي

لكنه محل تأمل - فعلى نحو الإجمال - فإننا لا نسلم بالضابط المذكور(4)،

ص: 278


1- أقول: إن كان بعض تلك الأدلة يحتمل فيها الناظرية فما بال البعض الآخر، فلا مجال لما ذكر، إللهم إلا أن يقال: إنّ كل تلك الأدلة ناظرة إلى الواقع فيتم ما ذكره (المقرر).
2- زبدة الأصول 3: 416.
3- مصباح الأصول 2: 301.
4- كلما كان حكم عقلي في مورد الحكم الشرعي كان الحكم الشرعي إرشادياً.

بل ظاهر الأوامر هو المولوية بأنحائها، سواء كانت نفسية أم غيرية أم طريقية، إلا أن يكون هنالك مانع عن المولوية، ووجود الأمر العقلي المتقدم لا يصلح للمانعية.

فهل يمكن القول: إنّ النهي عن الظلم أو شرب الخمر - مثلاً - إرشادي، فلا تترتب على مخالفة الهيئة عقوبة، لكون العقل حاكم بقبحها؟! وكذا في سائر الأوامر والنواهي.

ولو عاقب المولى عبده على مخالفة الهيئة فهو معذور عند العقلاء، وله الحجة بأنّ يقول: أمرته ونهيته فلم يمتثل، ولا يحق للعبد أن يحتج على المولى بكون الأمر والنهي إرشادياً، لسبق العقل بالحكم، ولا عقوبة على مخالفته!

وأما الجواب التفصيلي فهو أنّ في ملاك المولوية والإرشادية أحد ضوابط خمسة:

الضابط الأول: ما ذكر من أنّ كل مورد ورد فيه حكم عقلي كان الحكم الشرعي إرشادياً.

الضابط الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(1):

من أنّ ملاك الحكم الإرشادي أن يكون متعلق الأمر الشرعي مدركاً عقلياً واقعاً في سلسلة معلولات الحكم الشرعي.

وبعبارة أخرى: أن يكون المدرك العقلي متأخراً رتبة عن الحكم الشرعي، مثلا: قوله تعالى: {أطيعوا اللّه}(2) أمر شرعي متعلق بالمدرك

ص: 279


1- أجود التقريرات 2: 186.
2- النساء: 59.

العقلي، وهو وجوب الطاعة، وهو حكم عقلي واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي، بمعنى أنه لو لم يكن هنالك حكم شرعي لم يكن لقوله: (أطع) معنى(1)، فالحكم العقلي متأخر رتبة عن الحكم الشرعي ومتوقف على وجوده، فيكون الحكم الشرعي في مورد المدرك العقلي حكماً إرشادياً، وعليه يكون (أطع) و (احتط) الشرعي إرشادياً، فإنّ (احتط) الشرعي متعلق بالمدرك العقلي الواقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي، بحيث لو لم يكن هنالك أمر أو نهي شرعي لم يكن معنى لاحتط العقلي.

والحاصل: إنّ هنالك أحكاماً ثلاثة، وهي: (احتط) الشرعي، و (احتط) العقلي، والأوامر الواقعية، والثاني متفرع على الثالث، ولولاه لما كان للاحتياط العقلي معنى.

الضابط الثالث: كلما كان حمل الأمر الشرعي على المولوية مستلزماً للمحال العقلي، فلا بد من حمله على الإرشادية؛ دفعاً للمحذور العقلي، كقوله تعالى: (أطيعوا اللّه) فإنّ حمله على المولوية يوجب الدور أو التسلسل على المعروف، وإن كان فيه إشكال، أما مع عدم المحذور العقلي فلا مانع من الحمل على المولوية.

الضابط الرابع: نفس الضابط الثالث بإضافة مورد آخر، وهو أن يكون مدلول الأمر حكماً من الأحكام الوضعية، كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية، كقوله: (لا تقهقه في الصلاة) فهو إرشاد إلى القاطعية، أو: (لا تبع ما ليس عندك) فهو إرشاد إلى شرطية الملك في البيع فيكون أمراً إرشادياً،

ص: 280


1- فلو لم يأمر الأب ابنه - مثلاً - لم يكن لحكم العقل بالإطاعة معنى.

لا يترتب على مخالفته عقوبة، بل البطلان.

الضابط الخامس: نفس الضابط الرابع بإضافة مورد ثالث، وهو أن يكون ظاهراً في الإرشادية، كبعض أوامر المستحبات والمكروهات، كقوله×: «كل الرمان بشحمه(1) فإنه دباع المعدة»(2) فيمكن دعوى ظهور كونه إرشادياً، فيكون كأمر الطبيب، لا أن أكل الرمان بالشحم مستحب وله ثواب مولوي.

والمتعين أحد الاحتمالات الثلاثة الأخيرة، والاحتمالان الأولان يخالفان ظهور الأمر في المولوية.

والحاصل: إنّ القول بكون الأمر بالاحتياط إرشادياً؛ لأنه مسبوق بالحكم العقلي، أو لأنّ متعلقه مدرك عقلي واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي محل تأمل، فإنّ ظاهر (احتط) المولوية، ولا مانع من ذلك ثبوتاً ولا إثباتاً.

الجواب الإجمالي الرابع ما سبق من المحقق الحائري(3)، نعيده لبيان الإشكال عليه، حيث ذهب إلى دوران الأمر بين التصرف في المادة، أو التصرف في الهيئة، أما الأول: فتكون النتيجة وجوب الاحتياط في غير الشبهات الموضوعية، وأما الثاني: فتكون النتيجة رجحان الاحتياط مطلقاً، ولا أولوية لأحد التصرفين على الآخر، إن لم نقل: إنّ التصرف في الهيئة أقرب.

ويمكن أن يشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: إنّ التصرف في المادة لا يستلزم المجازية، بخلاف

ص: 281


1- أي: شحم الرمان لا شحم الحيوان، كما كان الثاني يفعل.
2- جامع أحاديث الشيعة 23: 406.
3- درر الفوائد: 436.

التصرف في الهيئة، فيتعين الأول فيثبت مدعى الأخباريين.

لكنه محل نظر؛ لأنّ التصرف في الهيئة لا يوجب المجازية أيضاً، أما البرهان الوجداني على ذلك فهو أننا لا نشعر بالمجازية في ألوف الأوامر الواردة في الروايات، والثابت أنها للاستحباب ك- (صل صلاة الليل) حيث لا نشعر باستخدام اللفظ لغير ما وضع له.

وأما الدليل البرهاني فموكول إلى محله، فقد أقام المحقق العراقي(1) وغيره البرهان على أنّ صيغة (افعل) لم توضع للوجوب - خلافاً لما هو المعروف عند البعض - بل هي موضوعة للنسبة الطلبية، الأعم من الوجوب والندب، وإنما يستفاد الوجوب من مقدمات الحكمة، وهي كما تعين الضيق والسعة للمفهوم، كذلك تعين أحد مصداقي المفهوم، وبعبارة أخرى ل- (افعل) مصداقان، ومع مقدمات الحكمة نحمل المفهوم على النسبة الطلبية الوجوبية، وقد ذكر لذلك تقريرات أخرى.

والحاصل: إنّ التصرف في الهيئة ليس مجازاً، كما هو الحال في التصرف في المادة.

الإشكال الثاني: إنه يبعد أو يصعب الالتزام بلازم ما ذكره، وهو سقوط جميع الأوامر عن الظهور في الوجوب بثبوت التخصيص، فمثلاً: قوله: (حج) ظاهر في الوجوب، وقد ثبت تخصيص المادة بالأدلة الخارجية، فحج المملوك بإذن المولى غير واجب، بل مستحب، وكذلك حج الطفل

ص: 282


1- نهاية الأفكار 1-2: 210.

المميز، فهل يمكن القول بدوران الأمر بين التصرف في المادة والهيئة، ولا أولوية لأحدهما على الآخر، فيسقط (حج) عن الظهور في الوجوب؟ الظاهر أنّ مبنى الفقه على غير هذا.

وبعبارة مختصرة: إنّ التصرف في المادة عرفاً أولى من التصرف في الهيئة. فما ذكره المحقق الحائري محل تأمل.

الجواب الإجمالي الخامس: ما في المصباح(1)،

وهو يشبه الجواب السابق مع فارق، وملخصه: إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الهيئة في الوجوب، وبين الالتزام بالتخصيص، وهي آبية عن التخصيص، فمفاد روايات الاحتياط رجحانه في جميع الأمور، حتى في الشبهات الموضوعية.

لكنه محل تأمل أيضاً، فلم يظهر لنا إباء روايات الاحتياط عن التخصيص، فلا محذور في «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» إلا في الشبهات الموضوعية، و كذا: «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا»(2) إلا في الشبهات الموضوعية، وهكذا: «خذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلاً» إلا في الشبهة الموضوعية وكذا بقية الروايات السابقة.

نعم، يمكن أن يكون بعض العمومات آبية عن التخصيص، كما قالوا في مثل قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}(3) أما

ص: 283


1- مصباح الأصول 2: 349.
2- وسائل الشيعة 1: 46.
3- النساء: 141.

روايات الاحتياط فلا وجه لإبائها.

الجواب الإجمالي السادس(1) ما مرّ: من أنّ الحمل على الوجوب يلزم منه تخصيص الأكثر، وقد مر بيانه مع التأمل فيه.

الجواب الإجمالي السابع ما في المصباح(2):

من أنّ أدلة الاحتياط لا تعارض أدلة البراءة؛ وذلك لأنّ استصحاب عدم جعل الحرمة يكون رافعاً لموضوع هذه الأخبار؛ إذ به يحرز عدم التكليف فيتقدم عليها لا محالة.

توضيحه: يوجد في المقام دليل ثالث رافع لموضوع أخبار الاحتياط، وهو الاستصحاب، فإنّ موضوع أخبار الاحتياط الشبهة والشك، واستصحاب عدم التكليف أو عدم الجعل علم تعبدي بالتكليف فلا شك، ومع ارتفاع موضوع أدلة الاحتياط ترتفع المعارضة؛ لأنها فرع وجود الدليلين.

وأشكل عليه بعض المتأخرين(3) بما حاصله(4): إنّ كبرى جعل الطريقية في الأمارات والأصول غير مقبول، وفي خصوص المقام غير معقول. أما الكبرى، فإنّ مبنى المحقق النائيني(5) وتلامذته، من كون المجعول في الأمارات والأصول المحرزة الطريقية والعلمية والوسطية في الإثبات غير

ص: 284


1- فوائد الأصول 3: 377.
2- مصباح الأصول 2: 349.
3- بحوث في علم الأصول 5: 105.
4- بتعبير منا (منه (رحمه اللّه) ).
5- أجود التقريرات 2: 75.

مقبول، حتى في الأمارات فكيف بالاستصحاب، وما في خصوص المقام فالاستصحاب غير معقول؛ لأنه قد أخذ في موضوعه الشك، فلا يعقل أن يكون المجعول فيه العلمية.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: إنما لا يعقل اجتماع اليقين و الشك إذا كانا من سنخ واحد، بأن يكون كلاهما تعبدياً أو وجدانياً، و أما لو كان أحدهما تعبدياً والآخر وجدانياً فلا مانع من اجتماعهما، فقد أخذ الشك الوجداني في موضوع الاستصحاب، وفي المجعول العلمية التعبدية، فلا منافاة بينهما.

كما لو شك وجداناً في بقاء حياة زيد، فيعتبره المولى عالماً بحياته، فليست طريقية وجدانية، بل تعبدية. وبعبارة أخرى: إنه علم تعبدي، وهو لا ينافي الشك الوجداني.

الجهة الثانية: مهما كان المبنى في المجعول في باب الاستصحاب(1)، فإنّ الاستصحاب مقدم(2) على جميع الأصول العملية، ومنها البراءة والاحتياط، كما التزموا به إلا فيما كان أخص من الاستصحاب ووارداً في مورده، بحيث يكون تقديم الاستصحاب عليه موجباً للغويته، كقاعدة الفراغ والتجاوز(3).

ص: 285


1- سواء كان المجعول الطريقية، كما هو مبنى المحقق النائيني، أو المتيقن لا اليقين والطريقية، كما هو مبنى الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية، أو أي مبنى آخر في المجعول في باب الاستصحاب (منه (رحمه اللّه) ).
2- مهما كان التخريج الفني للتقديم حكومة أو وروداً أو توفيقاً عرفياً أو غير ذلك (منه (رحمه اللّه) ).
3- مع القول بكونهما أصلين عمليين، وقد ذهب الشيخ في موضع من الرسائل إلى أنهما مقدمان على الاستصحاب حتى لو قلنا إنه أمارة، وأنهما أصلان (منه (رحمه اللّه) ).

والنتيجة يلزم تقديم الاستصحاب على الاحتياط، حتى لو لم يسلم بمبنى جعل العلمية والطريقية، و مع ارتفاع الاحتياط موضوعاً أو محمولاً لا تبقى معارضة بينه وبين البراءة.

ومع غض النظر عن المباحث السابقة في استصحاب عدم الجعل أو عدم المجعول فكلام السيد الخوئي تام، والإشكال المذكور غير واضح.

الجواب الإجمالي الثامن: إنّ روايات الاحتياط إما ضعيفة سنداً أو دلالة، فلا تنهض لمقاومة أخبار البراءة.

الجواب الإجمالي التاسع: لو فرض التعارض بين أخبار البراءة والاحتياط، فإنّ الأول مرجح بموافقة الكتاب.

إلاّ أن يقال: إنّ أخبار الاحتياط - أيضاً - موافقة للكتاب، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(1) وقوله عزّ وجلّ: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(2)، وقوله سبحانه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}(3).

إلا أن يجاب بأنَّ الآيات القرآنية لا تدل على الاحتياط، فتكون آيات البراءة مرجحة لأخبار الاحتياط.

الجواب الإجمالي العاشر: لو فرض التعارض فالشهرة مرجحة لأخبار البراءة.

إلا أن يقال: إنّ الشهرة المرجحة هي الشهرة الروائية لا الفتوائية.

ص: 286


1- آل عمران: 102.
2- البقرة: 195.
3- وسائل الشيعة 1: 8-9.

وقد يجاب عنه بأنّ عموم التعليل في قوله×: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» يشمل الشهرة الفتوائية أيضاً.

الجواب الإجمالي الحادي عشر: لو فرض التعارض ولم يكن مرجح تساقط الطرفان، ويكون المرجع البراءة العقلية.

إلا أن ينكر أحد قاعدة قبح العقاب، ويقول بأن الأصل في الأشياء الحظر، فيكون المرجع الاحتياط العقلي.

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث

اشارة

وفي هذه الطائفة روايات:

الرواية الأولى

ما في الوسائل: محمد بن علي بن الحسين(1)، قال: إنّ أمير المؤمنين× خطب الناس فقال في كلام ذكره: «حلال بيّن وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك(2)، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى اللّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها»(3).

لكنها مرسلة فلا اعتبار بها على المشهور، إلا أنه وقع الخلاف في مراسيل الصدوق وهو مبحث مهم؛ لأنّ ثلث روايات الفقيه مراسيل، والأقوال فيها ثلاثة: الأول: عدم الحجية مطلقاً.

الثاني: الحجية مطلقاً.

ص: 287


1- أي الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) في «من لا يحضره الفقيه».
2- فلحم الشاة حلال بيّن، ولحم الخنزير حرام بيّن، وشرب التتن مشتبه فيجب تركه.
3- وسائل الشيعة 27: 161.

الثالث: التفصيل بين الإسناد على نحو البت والقطع فهو حجة، وبين الحكاية فلا، والمختار عند المشهور القول الأول.

والرواية المذكورة أسندها الصدوق على نحو البت.

ويرد على الاستدلال بها مضافاً إلى كثير من البحوث المتقدمة في الطائفتين السابقتين أمران:

الأول: إنّ مفادها النهي عن كل شبهة تنجر إلى الحرام البيّن، وهذا المفاد مباين لمدّعى الأخباريين من حرمة كل شبهة في حد ذاتها، فلا تنهض دليلاً على مدعاهم.

وبعبارة أخرى: إنّ مدعى الأخباريين هو أنّ الحمى محرمات واقعية، والشبهات واقعة في أطراف الحمى، فلو حام أحد حول الحمى يوشك أن يقع في المحرمات الواقعية، فمن شرب التتن يقع أو يمكن أن يقع في الحرام الواقعي، فلو كان التتن حراماً لم يكن له عذر لإنذار المولى إياه.

لكن مفاد هذه الرواية هو أنّ الحمى محرمات بينة، والمشتبهات حول الحمى، فمن ارتكب المشتبهات تجرّأ على الحرام البيّن، فما يؤدي إلى ارتكاب الحرام البيّن منهي عنه، وقد نهي عن الشبهات التي تُجرّئ المكلف على اقتحام الحرام البيّن.

وليس هذا محل الكلام والاختلاف، فإنّ العقل يحرم كل مقدمة للحرام، والشرع نهى عن مقدمة الحرام، إما بأمر إرشادي، كما هو الظاهر، أو بأمر مولوي، كما هو المحتمل بعيداً. فبين المفاد والمدّعى بون بعيد.

الثاني: إنّ موضوع النهي في الرواية هو (شبهات بين ذلك)، ومع وجود

ص: 288

الترخيص الظاهري يدخل المشكوك في الحلال البيّن، فلا يشمله النهي.

كما هو الحال في الشبهات الموضوعية، كأكل اللحم المشتبه مع احتمال الحرمة، اعتماداً على قاعدة اليد، فهو حلال بيّن، فالمشتبه هو ما لم يرد فيه الترخيص لا واقعاً ولا ظاهراً.

والحاصل: إنه يخرج عن كونه من الشبهات مع أدلة البراءة.

وبعبارة أخرى: لو كان هنالك مؤمّن شرعي لم يطلق عليه الشبهة بقول مطلق. نعم، يمكن الإطلاق بالتقييد، أي المشتبه حكمه الواقعي، أما الشبهة بقول مطلق فلا. فالرواية غير واضحة الدلالة.

الرواية الثانية

ما في الوسائل، عن النعمان بن بشير(1)، قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إنّ لكل ملك حمى(2)، وإن حمى اللّه حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات».(3)

ويعلم الحال فيه مما تقدم.

الرواية الثالثة

وهي عمدة روايات هذه الطائفة: مقبولة عمر بن حنظلة(4)، وقد مر

ص: 289


1- من أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان واليا من قبل معاوية على الكوفة، ومن قبل يزيد على حمص.
2- فقد دأب الملوك قديماً وحديثاً على تحجير اراضٍ، فلا يحق لأحد إحياؤها أو الدخول فيها.
3- وسائل الشيعة 27: 167.
4- وسائل الشيعة 27: 157.

البحث في اعتبارها، وهي: عن أبي عبد اللّه× في حديث: «وإنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيه فيجتنب وأمر مشكل يرّد علمه إلى اللّه(1)، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حلال بيّن وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم».

ولتقريب إثبات وجوب الاحتياط بها، وسدّ ثغوره استدل الشيخ الأعظم(2)، بما يتوقف بيانه على ذكر مقدمة، وهي: لقد علل لزوم الأخذ بالمشهور من الروايتين، وطرح الشاذ النادر منهما في المقبولة، بقوله: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» أي لا ريب في صحته، وفي مفاد التعليل بلحاظ الخبر الشاذ النادر احتمالان:

الأول: إنّ الشاذ النادر مما يوجد فيه الريب، و ما فيه الريب يترك لما لا ريب في صحته.

الثاني: إنّ الشاذ النادر مما لا ريب في بطلانه، فيترك ما لا ريب في بطلانه، ويؤخذ ما لا ريب في صحته.

والاحتمال الأول متعين عند الشيخ الأعظم، وذلك لقرائن ثلاث:

الأولى: تأخر الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالصفات، فلو كان الخبر الشاذ النادر مما لا ريب في بطلانه لكان المفروض طرحه في المرحلة الأولى، ولم يكن مجال لملاحظة صفات الراويين، والترجيح بالأعدلية

ص: 290


1- و في بعض النسخ: «إلى اللّه وإلى رسوله».
2- فرائد الأصول 2: 82.

والأورعية والأوثقية، مع أنّ صريح ترتيب المقبولة الأخذ بالأورع مثلاً، وإن كان في طرف الشاذ النادر.

وبعبارة أخرى: لو كان هنالك خبران متعارضان، وأحدهما لا ريب في صحته، والآخر لا ريب في بطلانه، فلا نلاحظ صفات الراويين، بل يطرح الخبر الذي لا ريب في بطلانه، إلا أنّ صريح المقبولة خلاف ذلك.

القرينة الثانية: إنه فرض - في سياق الرواية - الشهرة في كلتا الروايتين، ولو كانت رواية المشهور مقطوعة الصحة، وما يقابلها مقطوع البطلان، فكيف يمكن فرض التعارض بين الدليلين القطعيين وكون كليهما مشهوراً.

القرينة الثالثة: تثليث الإمام× واستشهاده بتثليث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، دال على أنّ الخبر الشاذ النادر مما فيه الريب، ولو كان الشاذ مما لا ريب في بطلانه لم يكن للتثليث معنى، بل كان المفروض طرحه والأخذ بالمشهور.

وبعبارة أخرى: التثليث دال على أنّ الخبر الشاذ مما فيه الريب، وإلا لم يكن حاجة إلى التثليث.

وبعد تمامية المقدمة نقول: إنّ الإمام× علل وجوب طرح الخبر الشاذ النادر بأنّ (فيه الريب)، واستشهد بتثليث الحديث النبوي، فيعلم من الاستشهاد أنّ الخبر الشاذ الذي فيه الريب داخل في القسم الثالث من تثليث الخبر النبوي، فإنّ تعليل وجوب طرح الخبر الشاذ بدخوله تحت عنوان الشبهات لا يستقيم إلا على فرض وجوب ترك الشبهات، حيث لا يصح الاستشهاد للواجب بما لا وجوب فيه.

وبعبارة أخرى: إنّ الإمام× استشهد لوجوب الطرح بحديث

ص: 291

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وذلك دال على وجوب ترك الشبهات فيه، فيعلم من الاستشهاد أنّ طرح الشاذ النادر صغرى لكبرى واجبة، وإلا لو كان ترك الشبهات غير واجب لم يصح الاستشهاد بغير الواجب لوجوب شيء، فلو لم تكن الكبرى واجبة فلا يصح القول بوجوب الصغرى، لكونها فرداً للكبرى غير الواجبة، فيعلم أنّ الكبرى النبوية واجبة؛ لأنه استشهد به للصغرى الصادقية صلوات اللّه عليهما.

وقد عدل الشيخ الأعظم إلى هذا البيان الملتوي، مع وجود بيانات بسيطة مستقيمة لسد ثغور الاستدلال.

فمن الطرق البسيطة: الاستدلال بعموم العلة؛ فإنّ التعليل في صدر المقبولة(1) يفيد وجوب طرح ما فيه الريب، ومنه المشكوك، فلا يحتاج الأمر إلى الاستدلال بوجوب الصغرى على وجوب الكبرى.

إلا أنه يمكن الإشكال عليه بأنّ التعليل وارد في باب الحجة المشكوكة وهو مسلّم، لا يرتبط بما نحن فيه؛ لأنّ الحجية تحتاج إلى الإحراز، والخبر الشاذ النادر مشكوك الحجية فيترك، و أما في شرب التتن فليست المسألة مسألة الحجية، بل العمل.

وإن كان قابلاً للجواب بأن العلة تعمم، حيث أطلق الإمام ولم يقيد العلة بباب الحجية، فكل ما فيه الريب يترك. و بعبارة أخرى: إنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد.

ص: 292


1- «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».

إلا أن يقال: إنّ التعليل محفوف بما يصلح للقرينية، فلا يفيد العموم إلا في محدودة نفسه.

والطريق البسيط الآخر: الاستدلال بنفس الحديث النبوي، فمن ترك شرب التتن نجا من المحرمات.

لكن قد يشكل بأنّ وجوب النجاة من المحرمات أول الكلام، فلا يلزم على المكلف أن يعمل شيئاً لا يقع في المحرمات، بل اللازم أن يفعل شيئاً لا يقع في المعاصي، فتدل الرواية على الرجحان، والشاهد عليه أنّ الكثير من المكلفين يرتكبون مآت الشبهات الموضوعية، مع احتمال الوقوع في المحرمات، ولم يقل أحد بلزوم الاجتناب عن الوقوع فيها.

والطريق البسيط الثالث: أن يستشهد بالتثليث الصادقي×، فإنّ شرب التتن أمر مشكل.

لكنه أيضاً قابل للإشكال بأنّ معناه الردع عن الإفتاء طبق الخبر الشاذ فإنه مشكل، ومحل البحث في العمل لا في الفتوى.

والحاصل: إنّ في سلوك هذه الطرق إشكالات، و لذا سلك الشيخ الأعظم ذلك الطريق لسد ثغور الاستدلال، وحاصله استشهاد الإمام× على وجوب الصغرى بكبرى، فلا بد أن تكون تلك الكبرى واجبة، وإلا لم يتم الاستدلال.

وأرود عليه في المنتقى(1): بأنّ الاستدلال غير تام، فإنّ استشهاد الإمام× بقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يقتضي كون ترك المشتبه واجباً، بل يصح

ص: 293


1- منتقى الأصول 4: 482.

الاستشهاد حتى مع كون الترك راجحاً.

فلو كان هنالك كبرى مستخدمة في مطلق الرجحان، لا مانع من الاستشهاد بها على الصغرى الوجوبية.

مثلاً، لو استخدم الطبيب (ادفع الضرر عن نفسك)على نحو الكبرى الكلية في معنى جامع بين الوجوب والندب، صح تطبيقه على صغرى واجبة، ك- (لا تشرب هذا السم فإنّ الطبيب قال ادفع الضرر). فإنّ للكبرى الكلية فردين: (ما يجب دفعه)، و(ما يرجح دفعه)، و الصغرى فرد للواجب الدفع، فيستشهد بالكبرى العام للصغرى الخاص، ولا محذور فيه×.

مثال آخر - وإن كان بينه وبين المقام فارق - وهو قول المولى (حج، فإنّ اللّه قال {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}، فقد تم تطبيق (افعلوا الخير) الوارد في معنى عام على صغرى الحج الواجب.

وعليه فالاستشهاد بالنبوي لا يدل على وجوب ترك الشبهات، فمن الممكن أن يكون الحديث إرشادياً، وهو تابع للمرشد إليه، فلا ينهض دليلاً على الوجوب.

وما ذكره وإن كان قابلاً للقبول على نحو الكبرى الكلية، إلا أن من الممكن دعوى وجود خصوصية في المقام، تمنع من حمل الكبرى النبوية على مطلق الرجحان، وهي قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات» فإنّ التخلص من المحرمات لا وجوب فيه، إلا أنّ ارتكاب المحرمات، والسقوط في الهلكة لا يتناسب مع مطلق الرجحان، مع القول بأنّ الهلكة ظاهرة في العقوبة الأخروية، بل يفيد التحريم.

ص: 294

فما قرره الشيخ الأعظم تام، لكن لا يتم استدلال الأخباري به، حيث يمكن القول بأنّ التحريم معلل، فلا يدل على الحرمة في مورد انتفاء العلة، كما وضحناه سابقاً: من أنّ من ارتكب الشبهات وقع في الحرام البيّن لا في الحرام الواقعي، فشرب التتن يمكن أن يؤدي إلى شرب الخمر، حيث يعطي لمرتكبه جرأة الاقتحام فيها، فلو انتفت العلة - كأن شرب المتقي التتن، بحيث لا يتجرأ على ارتكاب الحرام قطعاً - انتفى الحكم، سواء كان إرشادياً، كما هو الظاهر أم مولوياً، فيكون المعنى: من ترك الشبهات نجا من المحرمات البينة، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات البينة، وهلك من حيث لا يعلم.

ومع هذا التوجيه لا تنهض الرواية على مدعى الأخباريين؛ لأنّ مدعاهم أنّ ارتكاب الشبهات وقوع في المحرمات الواقعية، أو تعرض للوقوع فيها، وهو يختلف مع ما ذكر من أنّ ارتكاب الشبهات يجر المكلف إلى ارتكاب المحرمات البينة.

الدليل الثالث: دليل العقل

اشارة

وفي المقام وجوه:

الوجه الأول: العلم الإجمالي بوجود محرمات كثيرة

اشارة

بيانه: يوجد عندنا علم إجمالي بوجود محرمات كثيرة - قبل الرجوع إلى الأدلة الشرعية - فيجب الاجتناب عنها، بمقتضى قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1) بل بمقتضى حكم العقل بلزوم الانزجار عما زجر عنه

ص: 295


1- الحشر: 7.

المولى، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فلا بد من الخروج عن عهدة المعلوم بالإجمال على نحو البتّ واليقين، وبعد الرجوع إلى الأدلة الشرعية والعثور على جملة من المحرمات واجتنابها لا قطع بالخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال. وعليه يجب الاجتناب عن كل ما احتمل حرمته، حتى يقطع بفراغ الذمة يقيناً.

وربما يكون هذا أقوى الأدلة العقلية على وجوب الاجتناب عن الشبهات التحريمة.

وأجيب عنه بعدة أجوبة
الجواب الأول

ما ذكره الشيخ الأعظم، وحاصله: منع وجود العلم الإجمالي خارج دائرة الطرق المنصوبة.

قال: «منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدّى إليه الطرق غيرالعلمية المنصوبة له، فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق، لا بالواقع من حيث هو... لأنّ ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية، للعالم وغيره، وثبوت التكليف بالعلم بالطرق»(1).

بيانه: نحن نعلم إجمالاً بوجود التكاليف في دائرة الطرق المنصوبة، أي الأخبار التي وردت في الكتب الأربعة وما أشبه، والمفروض العثور على تلك التكاليف بالفحص فيها، و أما خارج هذه الطرق المحدودة، فحتى لو

ص: 296


1- فرائد الأصول 2: 89.

كانت هنالك محرمات واقعية إلا أننا لسنا مكلفين بالواقع الذي لم يقم عليه الطريق، فلا تكليف لنا به.

والحاصل: إنّ العلم الإجمالي بالتكاليف محدود بدائرة الطرق المنصوبة.

لكنه محل تأمل: لأنّ الواقع كما يتنجز بقيام الطريق يتنجز بالعلم، فواقع اللوح المحفوظ متنجز بالعلم الإجمالي، ومنجزية الطريق لا تنفي منجزية العلم الإجمالي للواقع.

والظاهر أنّ صاحب الكفاية أشار إلى هذا الجواب، حيث قال: «فلاستقلال العقل بتنجز التكاليف المعلومة بالإجمال على القادر على الامتثال، ووجوب الخروج عن عهدتها»(1).

الجواب الثاني

الجواب الثاني(2)

ما ذكره الشيخ - أيضاً - وحاصله: انحلال العلم الإجمالي، فبعد التسليم بوجود العلم الإجمالي الوسيع الدائرة، ينحل بالعثور على المحرمات في دائرة الطرق المنصوبة.

قال في عبارة وقعت محلاً للإشكال: «سلمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية... إلا أنه إذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الإجمالي، اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر؛ لاحتمال كون المعلوم بالإجمال هو هذا المقدار

ص: 297


1- درر الفوائد 1: 214.
2- مفاد الجواب الأول عدم وجود العلم الإجمالي، ومفاد هذا الجواب انحلاله بعد التسليم به.

المعلوم حرمته تفصيلا»(1)، ثم قال في آخر كلامه: «فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة البعض»(2).

توضيحه: توجد في العلم الإجمالي صورتان:

الأولى: أن يعلم بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، كأن نعلم أنّ في القطيع شاةً محرمة، فيجب الاجتناب عن القطيع كله(3)، ثم ينكشف أنّ هذه الشاة المعينة هي المحرمة، فالعلم الإجمالي ينحل إلى العلم التفصيلي بحرمة هذه الشاة، والشك البدوي في حرمة الباقي.

الثانية: أن يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، كأن نعلم أنّ في القطيع شاةً محرمة، ثم تقوم البينة على أنّ هذه الشاة المعينة محرمة، ولكن لا يعلم أنّ هذه الحرمة هل هي الحرمة المعلومة بالإجمال أو غيرها؟ فهنا يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، فتكون الشاة المعينة محرمة قطعاً، ويشك بدواً في حرمة بقية القطيع.

ومبنى جواب الشيخ أنّ احتمال الانطباق كافٍ لانحلال العلم الإجمالي، وذلك لارتفاع العلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها، فإنه مع احتمال الانطباق تنحل القضية المنفصلة إلى قضيتين حمليتين، إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة، فتجري أصالة الطهارة أو البراءة في المشكوك.

وما نحن فيه كذلك، فمع العلم الإجمالي بوجود محرمات في صقع

ص: 298


1- فرائد الأصول 2: 89.
2- فرائد الأصول 2: 89.
3- مع قطع النظر عن روايات القرعة (منه (رحمه اللّه) ).

الواقع، والفحص في الطرق المنصوبة، والعثور على مجموعة منها، يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وهذا الاحتمال كافٍ لحل العلم الإجمالي.

لكن أشكل عليه الآشتياني(1): بأنّ الظفر بالدليل المثبت للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي على ثلاثة أنواع: فتارة يكون الظفر بالدليل متقدماً على العلم الإجمالي، وتارة مقارناً وتارة متأخراً.

وفي الصورتين الأوليين يكون الظفر بالدليل مانعاً عن منجزية العلم الإجمالي، وأما في الصورة الثالثة فالعلم الإجمالي منعقد و منجز، والظفر المتأخر لا يرفع منجزيته، وإلا لأمكنت الحلية في كثير من موارد الشبهة المحصورة.

وظاهر مراده أنه لو كان المتأخر صالحاً لإبطال أثر العلم الإجمالي المتقدم، لاستلزم إبطال منجزيته في كثير من الموارد، كما لو طهر أحد الإناءين أو فقد، فمع أنّ العلم الإجمالي لا يبطل تأثيره بذلك، فكذلك في المقام.

وهو محل تأمل؛ لأنّ القياس مع الفارق، وبيانه موقوف على ذكر مقدمة وهي: إنّ لتنجيز العلم الإجمالي ملاكاً، هو العلم بوجود التكليف على كل تقدير، مثلاً: لو علم بالإجمال سقوط الدم في أحد الإناءين، فلو كان الأول فقد تولد التكليف بالاجتناب، ولو كان الثاني فكذلك، فيعلم بتولد (اجتنب)على كل تقدير، وأما لو لم يتحقق الملاك، كما لو كان أحد

ص: 299


1- بحر الفوائد 2: 220.

الإناءين نجساً من قبل، ثم علم بوقوع الدم في أحدهما، فإن كان في الإناء النجس لم يتولد التكليف؛ لأنّ المتنجس لا يتنجس، والمتنجز لا يتنجز، وإن كان في الإناء الآخر تولد التكليف، فيكون أمر التكليف دائراً مدار التولد وعدمه، فهو شك في التكليف مجراه البراءة. وبعد توضيح هذه المقدمة نقول في المقام: إنّ الطوارئ المتأخرة عن العلم الإجمالي على نحوين:

الأول: طارئ يقدح في ملاك منجزية العلم الإجمالي، فينحل العلم الإجمالي به.

الثاني: طارئ لا يقدح في ملاك المنجزية، فلا يبطل مفعول العلم الإجمالي به.

والطوارئ التي ذكرها الآشتياني من قبيل الثاني؛ لأنّ العلم الإجمالي انعقد منجزاً في مثال الإناءين، وخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء لا يقدح في ملاك المنجزية، فإنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، وهي لا تحصل إلا باجتناب الإناء الباقي، فيجب اجتنابه وإن خرج الطرف الثاني عن محل الابتلاء أو طهر.

أما فيما نحن فيه، فإنّ الظفر بالدليل المثبت للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي كاشف عن عدم انعقاده منجزاً من أول الأمر، فلو كان العلم الإجمالي متعلقاً بموارد الأدلة التي تثبت حرمة مجموعة من المحرمات لم يكن له أثر، لتعلقه بما هو متنجز، ولو تعلق بسائر الموارد كان منجزاً لها، فالأمر مردد بين التنجز واللاتنجز، والتكليف واللاتكليف، وهو مجرى البراءة.

وبتقرير آخر: الدليل المثبت لا يولد التكليف من حينه، بل هو كاشف

ص: 300

عن ثبوت التكليف من أول الأمر، ولذا تترتب الآثار من أول الأمر.

مثلاً: لو أجريت أصالة الطهارة على ماء وبعد مدة قامت البينة على نجاسته(1)، فإن البينة لم تولد التكليف بالاجتناب من حين قيامها، بل تكشف عن تنجس الماء من أول الأمر، حيث لم يكن جريان أصالة الطهارة في محله، فتكشف عن بطلان كل الصلوات ووجوب قضائها، فالدليل كاشف عن ثبوت التكليف في متن الواقع من أول الأمر.

وفي العلم الإجمالي بوجود المحرمات احتمالان:

الأول: أن يكون منطبقاً على موارد قام الدليل عليها، فلا أثر له لسبق التنجز.

الثاني: أن يكون متعلقاً بغير تلك الموارد فهو منجز، فالعلم الإجمالي مع الظفر بالدليل يفقد ملاك منجزيته ولا أثر له.

ولو قلنا: إنّ ملاك منجزية العلم الإجمالي تعارض الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي، فمع الظفر بالدليل يعلم أنّ الأصول الجارية لم تكن متعارضة في الواقع؛ لأنّ جريان الأصل المؤمّن فيما انكشف أنه محرم كان في غير محله، فيكون جريان الأصل المؤمن في بقية الأطراف بلا مانع.

فما ذكره الآشتياني غير واضح لوجود الفارق بين المقامين.

الإشكال الآخر: ما أورده صاحب الكفاية على عبارة الشيخ الأعظم، والظاهر أنه أشبه بالإشكالات اللفظية، فهو وارد على لفظه لا مقصوده، حيث قال الشيخ في ذيل عبارته: «فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم

ص: 301


1- كمورد موثقة عمار الساباطي الذي وجد في إنائه فأرة متفسخة (منه (رحمه اللّه) ).

التفصيلي»(1) فأشكل عليه ب«إنّ مجرد عدم ثبوت العلم الإجمالي لا يوجب ارتفاع أثره»(2)، فإنّ العلم الإجمالي قد يرتفع ويبقى أثره، كما لو فقد أحد الإناءين أو انعدم.

لكن ليس مراد الشيخ مطلق ارتفاع العلم الإجمالي، بل الارتفاع القادح في ملاك منجزية العلم الإجمالي، فهذا الارتفاع قادح في التأثير، وإلا فمجرد الارتفاع غير القادح، لا يضر.

الجواب الثالث

ما في المصباح(3):

من النقض بالشبهات الموضوعية، فلو كان العلم الإجمالي مانعاً عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية لمنع من الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية، مع أنّ الأخباري قائل بجريان البراءة في الشبهات الموضوعية.

وأشكل عليه بأنه لو تحقق العلم الإجمالي المنجز في الشبهات الموضوعية لم يجز الرجوع إلى البراءة، وإن لم يتحقق فهو خروج عن محل البحث، فالمراد من الجواب النقضي غير واضح.

الجواب الرابع

ما في المصباح(4) أيضاً: من النقض بالشبهات الحكمية الوجوبية، وقد

ص: 302


1- فرائد الأصول 2: 90.
2- درر الفوائد 1: 215.
3- مصباح الأصول 2: 352.
4- مصباح الأصول 2: 299.

أطبق الأخباريون(1) على عدم وجوب الاحتياط فيها، فلو كان العلم الإجمالي مانعاً من جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمة لمنع من جريانها في الشبهات الحكمية الوجوبية.

والظاهر أنه تام.

الجواب الخامس

ما ذكره في النهاية(2) حيث قال: والتحقيق أنّ مثل هذا العلم الإجمالي بالأحكام هو في نفسه قاصر عن تنجيز الواقعيات؛ لعدم تعلق العلم بأحكام فعلية، بل بأحكام كلية بنحو القضايا الحقيقية المنوطة فعليتها بفعلية موضوعاتها عند الابتلاء بها، لوضوح تدريجية الابتلاء.

ومفاده: عدم الاحتياج إلى مقولة انحلال العلم الإجمالي، فالاحتياج إليه إنما يكون إذا كان العلم الإجمالي تاماً في حد ذاته، ومنجزاً للواقع المعلوم بالإجمال، أما في المقام فإنّ العلم الإجمالي لا صلاحية له لتنجيز الواقع المعلوم؛ لعدم تعلق العلم بأحكام فعلية، بل بأحكام كلية بنحو القضايا الحقيقية المنوطة فعليتها بفعلية موضوعاتها عند الابتلاء بها، لوضوح تدريجية الابتلاء.

والظاهر أنّ ما ذكره قابل للتحليل إلى مطالب أربعة:

الأول: الابتلاء بالوقائع التي لها حكم تدريجي.

الثاني: فتكون فعلية الأحكام تدريجية؛ لأنها مجعولة على نحو القضايا

ص: 303


1- ربما يستثنى منهم شخص واحد.
2- نهاية الدراية 2: 493.

الحقيقية.

الثالث: لا اثر للعلم الإجمالي بالمحمولات المتدرجة.

الرابع: فلا مانع من جريان الأصل فيما هو محل الابتلاء بالفعل.

وعليه لا أثر للعلم الإجمالي.

لكنه محل تأمل من وجوه:

أولاً: إنه مبني على اشتراط التكاليف، ولا يتم بناء على تعليقيتها.

فإنّ مبنى صاحب الكفاية(1) أنّ الأحكام مجعولة على نحو الاشتراط، ومبنى الشيخ(2) أنها مجعولة على نحو التعليق، بمعنى فعلية الوجوب والحرمة، وإن كان الواجب والمحرم استقبالياً.

فلو كان المبنى هو التعليق، فتدريجية الابتلاء بالوقائع المتجددة لا ينفي فعلية الأحكام، فتكون المقدمة الثانية محل تأمل؛ لأنّ فعلية الأحكام على مبنى الشيخ دفعية، وللمجتهد علم إجمالي دفعي بوجود محرمات فعلية، فلا يمكنه إجراء الأصل لا في تمام الأطراف ولا في بعضها.

ثانياً: ما ذكره مبني على أنّ تدريجية فعلية الأحكام مانع عن تنجيز العلم الإجمالي، وهو محل تأمل؛ وذلك لأنّ مولوية المولى لا تختص بالتكاليف الفعلية، بل هي أعم من الفعلية والاستقبالية.

فمثلاً: من علم بأنه سيبتلى خلال الشهر القادم بمعاملة ربوية، فلا يحق له إجراء البراءة في المعاملة الأولى ثم الثانية و هكذا، كما مثل به الشيخ

ص: 304


1- درر الفوائد 1: 256، 305.
2- مطارح الأنظار: 28.

الأعظم في الفرائد(1)، وكذا لو كانت المرأة مستمرة الدم تعلم بأنها طامث في بعض الأيام، فلا يحق لها أن تدخل المسجد في جميع الأيام حتى على مبنى الاشتراط.

فالمقدمة الثالثة محل إشكال.

ثالثاً: سلمنا أنّ الأحكام مجعولة على نحو الاشتراط ولا أثر للعلم بالتكاليف المتدرجة(2)،

لكنه - أيضاً - لا يجدي في المقام؛ لأنّ ابتلاء المقلد بالوقائع التدريجية يختلف عن ابتلاء المجتهد بها؛ لأنّ ابتلاء المقلد إنما هو بلحاظ العمل وهو تدريجي، وأما المجتهد فابتلاؤه بلحاظ الفتوى وهي دفعية، فالمجتهد لا يمكنه تحمل مسؤولية الفتاوى؛ لعلمه أنّ بعض الفتاوى المعتمدة على أصالة البراءة مخالفة للواقع.

نعم، لو لم يتحقق العلم الإجمالي فالإشكال غير وارد.

رابعاً: لو فرض عدم تحقق العلم الإجمالي الدفعي، فهنالك فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية، ففي الشبهات الموضوعية علم من الشارع عدم الاهتمام بها في كثير من الأحيان، فيمكن أن نقول: إنّ العلم الإجمالي

ص: 305


1- فرائد الأصول 2: 248.
2- فأجزنا إجراء جميع المعاملات المشتبهة، وأجزنا دخول المرأة في المسجد؛ لأ نّ اليوم الأول مشكوك تجري فيه البراءة، وسائر الأيام خارجة عن محل الابتلاء إلى اليوم الثالث والعشرين مثلا، ففيه أيضا يجوز الدخول؛ لأنها تعلم إما أنه الحرام أو ما سبقه كان حراماً، أما ما سبق فقد مضى، وأما اليوم فهو مشكوك بالشك البدوي، فتجري فيه البراءة، نعم، بعد الارتكاب تعلم بصدور الحرام، وتحصيل العلم بصدور الحرام ليس محرماً، وهكذا الأمر في إجراء جميع المعاملات (منه (رحمه اللّه) ).

التدريجي غير مؤثر، أما في الأحكام الشريعة فقد علم الاهتمام الشديد من الشارع بها، فقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(1).

فالتتن - مثلاً - محل ابتلاء المجتهد فعلاً بلحاظ الفتوى، وأما أكل العظم فمحل ابتلائه الاستقبالي، ويعلم أنّ أحدهما محرم، فلو أفتى اليوم بحلية التتن وغداً بحلية العظم كان مستنكراً في أذهان المتشرعة.

والحاصل: إنّ ما ذكره في النهاية(2) - من أنّ الوقائع تدريجية الابتلاء، والأحكام فعلية بفعلية موضوعاتها، وتمام أطراف العلم الإجمالي ليس محلاً للابتلاء، فيحق للمجتهد أن يفتي بالحلية في جميعها اعتماداً على أصالة الحل؛ لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء - غير واضح.

الجواب السادس

إنّ وظيفة المجتهد تابعة لوظيفة المقلد، وحيث إنّ جميع أطراف العلم الإجمالي ليس محل ابتلاء المقلد، فيمكن للمجتهد أن يفتي بالحل.

وتظهر التبعية ببيان بعض الأمثلة:

الأول: إن عَلِمَ المجتهد علماً وجدانياً بوقوع الدم في الإناء، لكن المقلد شاك، فلو سأله عن حكمه لم يلاحظ المجتهد حالة نفسه، وهي العلم التفصيلي، وإنما يقول: بما أنك شاك فهو لك حلال وطاهر.

ص: 306


1- الحاقة: 44-46.
2- نهاية الدراية 2: 493.

الثاني: إن علم المجتهد إجمالاً بوقوع الدم في أحد الإناءين، والمقلد شاك أو عالم بالعلم الإجمالي أيضاً، لكن كان أحد الأطراف خارجاً عن محل ابتلائه، فلو سأله عن الحكم، أجابه بعدم الإشكال في الاقتحام.

وفي المقام حيث إنّ جميع الوقائع المشتبهة ليست محل ابتلاء المقلد أمكن للمجتهد الإفتاء بجواز الاقتحام.

لكنه محل إشكال؛ لأنّ التبعية المفروضة أنما هي في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فهي معكوسة، فوظيفة المقلد تابعة لحالة المجتهد؛ لعدم جواز الاقتحام في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص واليأس؛ والمقلد لا يمكنه ذلك، فينوب المجتهد عنه في ذلك، فالملاك حالة المجتهد لا المقلد.

والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر.

الجواب السابع

ما ذكره المحقق المشكيني، وحاصله: منع وجود العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات، بل الموجود علم إجمالي صغير أطرافه موارد الطرق والأمارات، والمشكوك - كشرب التتن - لا يدخل في أطراف العلم الإجمالي الصغير، فلا مانع من جريان البراءة فيه.

قال: «منع كون غير موارد الطرق من أطراف العلم الإجمالي، بل هو متعلق بوجود تكاليف في مواردها، وأما غيرها فوجود التكليف فيه محتمل... نعم، قبل تميز موارد الطريق يجب الاجتناب عن محتمل الحرمة»(1).

ص: 307


1- كفاية الأصول (المحشی) 4: 92.

مثال: لو حصل العلم الإجمالي بوجود شياه محرمة في القطيع الأسود، فلا يجب الاجتناب عن القطيع الأبيض. نعم، لو لم يتميز الأسود عن الأبيض في الليل لزم الاجتناب عن جميع المشتبهات، أما بعد طلوع الفجر وتميزها فلا يلزم الاجتناب عن القطيع الأبيض؛ لأنه ليس طرف العلم الإجمالي الصغير.

وفي المقام: تحقق العلم الإجمالي بوجود محرمات في موارد الطرق، فيجب الاجتناب عن الشبهات فيها، وأما التتن الذي ليس في ضمن موارد الطرق فلا يجب الاجتناب عنه. نعم، قبل تميز موارد الطرق عن غيرها - حيث لم يعلم أنّ التتن ضمن محدودة الطرق أم لا - يجب الاجتناب، أما بعد التميز فلا.

ثم قال «هذا خطر ببالي»(1) والظاهر أنه لم يسبقه إلى هذا الجواب أحد.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ المتعارف سبق العلم الإجمالي الكبير على الصغير؛ لأنّ المكلف في أول التكليف يعلم إجمالاً بوجود أحكام في شريعة الإسلام، فإنّ الشريعة بلا أحكام ليست بشريعة، وهذا هو العلم الإجمالي الكبير، وبعد انعقاده يتولد - عادة - علم إجمالي صغير بوجود أحكام في موارد الطرق والأمارات المعتبرة؛ لعدم معقولية كون كل هذه الطرق مخالفة للواقع، بل بعضها مطابقة للواقع قطعاً، فالعلم الإجمالي الصغير متأخر عن العلم الإجمالي الكبير، والظاهر أنه مع السبق واللحوق نحتاج إلى دعوى الانحلال، فما أراده من التخلص من دعوى الانحلال غير تام.

ص: 308


1- كفاية الأصول (المحشی) 4: 92.

نعم، لو فرض وجود العلم الإجمالي الصغير في أول البلوغ، كما لو كان المكلف فاضلاً يعلم بوجود محرمات في إطار الطرق، يكون ما ذكره تام.

تقريرات لتقريب انحلال العلم الإجمالي الكبير
اشارة

ولتقريب انحلال العلم الإجمالي الكبير تقريرات، لابد من ملاحظتها لمعرفة مواقع النظر فيها:

التقرير الأول: الانحلال التكويني الطارئ

وقد نطلق عليه الانحلال الحقيقي التكويني الطارئ، ولا مشاحة في الاصطلاح: مفاده أنّ العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع المشتبهات ينحل إلى العلم الإجمالي الصغير، الذي أطرافه موارد الطرق المعتبرة، وملاكه انحلال العلم بالعلم، وهو في مقابل الانحلال الحكمي(1)، والحقيقي الساري(2).

وإنما قلنا طارئ في مقابل القسم الثاني، الذي هو انحلال حقيقي سارٍ.

ولهذا التقرير بيانان:

الأول: ما ذكره في الكفاية، حيث قال: «هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلا فالانحلال بلا إشكال»(3).

والظاهر أنّ مراده أنّ العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى العلم الإجمالي

ص: 309


1- وهو انحلال العلم بالأمارات التعبدية.
2- وسيأتي في القسم الثاني.
3- كفاية الأصول: 347.

الصغير، حيث نعلم بوجود أحكام إلزامية في الشبهات، ونعلم - أيضاً - بوجود أحكام إلزامية في موارد الطرق المعتبرة المثبتة - وإن لم ينحل العلم الإجمالي الثاني إلى العلم التفصيلي بالمحرمات المعينة - واحتمل انطباق العلم الإجمالي الكبير على العلم الإجمالي الصغير، فنفس هذا الاحتمال سبب انحلال العلم الإجمالي الكبير.

البيان الثاني: هنالك علوم إجمالية ثلاثة: علم إجمالي كبير أطرافه تمام الشبهات، وعلم إجمالي متوسط أطرافه تمام الطرق المعتبرة وغير المعتبرة، وعلم إجمالي صغير أطرافه خصوص الأمارات المعتبرة.

والأول ينحل إلى الثاني، والثاني إلى الثالث، فلا يجب الاجتناب عن مثل التتن؛ لعدم كونه في محدودة العلم الإجمالي الصغير.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ ضابطة انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى المتوسط أو الصغير، وهكذا انحلال العلم الإجمالي المتوسط إلى الصغير، هو أن لا يعلم بزيادة عدد المعلوم بالكبير عن عدد المعلوم بالصغير، وملاك هذا الضابط عدم بقاء علم إجمالي في الكبير بعد الإفراز من أطرافه، بمقدار ما هو معلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير.

مثلاً: لو علمنا بوجود عشر شياه محرمة في قطيع الشياه، ثم علمنا أنّ في الشياه السوداء من القطيع عشر محرمة، فلو أفرزنا(1) العشر السوداء من القطيع، لم يبق علم إجمالي في سائر الأطراف؛ لاحتمال انطباق تلك العشر

ص: 310


1- كيفية الإفراز لا تؤثر في المقام، سواء كان بإفراز تفصيلي أم إجمالي بإفراز كل الشياه السوداء من القطيع (منه (رحمه اللّه) ).

على هذه العشر.

لكن لو علمنا إجمالاً بوجود عشر محرمة في القطيع، ثم علمنا إجمالاً بوجود خمس محرمة في الشياه السوداء من القطيع فأخرجناها(1)، فلا نحتمل أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير منطبق على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير، لأنّ انطباق العشر على الخمس غير معقول، فيبقى العلم الإجمالي حتى بعد الإفراز.

وما نحن فيه قد يدعى أنه من قبيل الثاني، فلو أفرزنا الأحكام الإلزامية التي هي مدلول الكتاب أو السنة المعتبرة، فهل يمكن القول بعدم علم إجمالي بوجود أحكام إلزامية في سائر الأمارات غير المعتبرة، كالإجماعات المحصلة لو كانت مدركية، والشهرات الفتوائية والعملية، والإجماعات المنقولة والأخبار غير المعتبرة، وهل يحتمل أنّ جميعها مخالف للواقع؟

وقد مرّ فيما مضى(2) أنّ السيد البروجردي (رحمه اللّه) كان يقول: في الفقه تسعون مسألة لا دليل عليها إلا الشهرة الفتوائية، بحيث لو لم يؤخذ بالشهرة لم يكن لها أي دليل، و لذا كان (رحمه اللّه) يعتني بالشهرة الفتوائية كثيراً.

وقد نقل عن المحقق النائيني أنه كان يقول: لو أفتى ثلاثة منهم الشيخ الأنصاري ولم يصلني دليل لقطعت بالحكم وأفتيت به، فكيف إذا أفتى مشهور الفقهاء قديماً وحديثاً بمسألة أو بتسعين مسألة، فهل يحتمل أنّ كل

ص: 311


1- أي أخرجنا الخمس تفصيلا أو أخرجناها إجمالاً ضمن إخراج كل الشياه السوداء.
2- في بحث الشهرة.

هذه المسائل مخالفة للواقع؟

والحاصل: إنه مع إفراز الطرق المعتبرة لا ينحل العلم الإجمالي، ويكون أثره بعد الإفراز وجوب الاجتناب عن جميع المشتبهات.

فما ذكر من التقرير الأول ببيانيه محل تأمل.

إلا أنّ هذا الإشكال لو كان وارداً لم يقدح بالمطلوب في المقام؛ لأنّ نتيجته عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير والمتوسط إلى الصغير، وهذا لا ينافي انحلال العلم الإجمالي الكبير بالمتوسط، أي: مع فرض تمامية الإشكال تكون نتيجة عدم الانحلال وجوب الاحتياط في جميع موارد الطرق المعتبرة وغير المعتبرة، وأما مثل التتن فهو واقع في دائرة العلم الإجمالي الكبير، وهو منحل إلى العلم الإجمالي المتوسط، وليس التتن واقعاً فيه أو في العلم الإجمالي الصغير؛ لأنه لم تقم على حرمته رواية معتبرة أو غير معتبرة، أو شهرة أو إجماع منقول، فلا مانع من جريان البراءة فيه.

ومع العمل بالعلم الإجمالي المتوسط لم يبق علم إجمالي، وهو كافٍ لانحلاله؛ لأنّ ملاك المنجزية وجود العلم الإجمالي، ومع الانحلال لا منجزية و لا أثر.

نعم، لو قامت شهرة على حرمة العظم مثلاً، فلا يمكن إثبات الحلية؛ لعدم الانحلال.

وقد تحصل منه أنّ الانحلال الحقيقي الطارئ جارٍ في بعض الموارد كالتتن، وغير جارٍ في موارد أخر كالعظم(1)، فهو قابل للقبول في الجملة لا بالجملة.

ص: 312


1- لو فرض جريان الشهرة الفتوائية أو العملية على حرمته.
التقرير الثاني: الانحلال الحقيقي الساري

ويتم توضيحه مع الإشكالات الواردة عليه في مقامات:

المقام الأول: في بيانه كبروياً

فعلى نحو الكبرى الكلية: إنّ شرط منجزية العلم الإجمالي أن يعلم بكونه منجزاً للتكليف على كل تقدير، أما لو حصل العلم بالمنجزية على تقدير دون تقدير فليس بمنجز.

ومن صغرياتها: أنه لو كان بعض أطراف العلم الإجمالي منجزاً من قبل لم يكن للعلم الإجمالي أثرٌ؛ لأنّ المتنجز لا يتنجز من جديد.

مثاله: لو تنجس الإناء بسقوط فأرة ميتة فيه لزم الاجتناب عنه، فلو علم بعد ذلك بسقوط الدم فيه أو في الإناء الثاني، فيحتمل ثبوتاً أنّ الدم لاقى الإناء الأول، فلا أثر له؛ لأنّ المتنجس لا يتنجس والمتنجز لا يتنجز، ويحتمل أنه لاقى الإناء الثاني فيتولد التكليف، فثبوتاً يشك في تولد التكليف بالعلم الإجمالي، فيكون شكاً بدوياً تجري فيه البراءة.

ولا فرق بين سبق العلم بالمنجز السابق على العلم الإجمالي كالمثال المذكور، وبين السبق واللحوق، فالملاك سبق المعلوم بما هوهو لا سبق العلم، فلو تأخر العلم والمعلوم عن العلم الإجمالي لم ينحل العلم الإجمالي.

أما لو كان العلم متأخراً عن العلم الإجمالي، والمعلوم متقدماً عليه أو مقارناً له، فالعلم الإجمالي ينحل بسبب العلم المتأخر.

مثلاً، لو كان العلم بسقوط الفأرة ونفس سقوط الفأرة متأخراً عن العلم الإجمالي بملاقاة الدم لم ينحل العلم الإجمالي، أما لو كان العلم بسقوط

ص: 313

الفأرة متأخراً عن العلم الإجمالي، ونفس سقوط الفأرة متقدم أو مقارن للعلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي ينحل بسبب العلم المتأخر.

والسّر في ذلك أنّ العلم الإجمالي متقوم بقضية منفصلة مانعة الخلو(1)، هي مدار تنجيز العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث والبقاء، فلو انقلبت إلى قضيتين حمليتين، إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة، وإن كان سارياً، سقط العلم الإجمالي بهذا الشك الساري عن المنجزية، فالعلم الإجمالي يسقط عن المنجزية بسبب الشك الساري، وذلك لأنّ منجزية العلم الإجمالي كانت بحكم العقل لكاشفيته عن التكليف، فلو زالت الكاشفية بالشك الساري زال أثر العلم الإجمالي.

وذلك مثل العلم التفصيلي، فإنه حجة لكشفه عن الواقع، فلو زالت كاشفيته - ولو بالشك الساري - ذهب أثر العلم التفصيلي، والعلم الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي، فلو زالت كاشفية العلم الإجمالي - ولو بالعلم المتأخر الذي هو مولّد للشك الساري في العلم الإجمالي المتقدم - سقط عن التأثير.

مثال موضح: لو فرض سقوط الدم في أحد الإناءين المحكومين بالطهارة، ولو بأصالة الطهارة وكانت الغرفة مظلمة لم يشخص الإناء الملاقي، كان العلم الإجمالي كاشفاً عن التكليف على كل تقدير فهو منجز، ثم طلع الفجر فشوهدت فأرة متفسخة في الإناء الأول، وعلم أنه وقعت فيه قبل أسبوع، فهذا العلم المتأخر عن العلم الإجمالي متعلق

ص: 314


1- الدم إما لاقى هذا الإناء أو ذاك.

بالمعلوم المتقدم على العلم الإجمالي، فيزلزل العلم الإجمالي في محله ويبطله تكويناً؛ وذلك لتوهم كاشفية العلم الإجمالي عن التكليف في الظلام، إلا أنه مع طلوع الفجر وحصول العلم التفصيلي تزلزل العلم الإجمالي بالتكليف؛ لأنّ الدم إن لاقى إناء الفأرة لم يتولد تكليف، وإن لاقى الإناء الآخر تولد التكليف، فيعلم أنه كان جهلاً مركباً.

ونظيره ما يذكره الفقهاء في قاعدة اليقين في باب الاستصحاب، حيث لو علم تفصيلاً بأنه مديون - مثلاً - وجب عليه الأداء، فلو شك بعد مدة في منشأ العلم التفصيلي تزلزل اليقين في محله، فينقلب إلى الشك، فلا يكون لليقين المتقدم أثرٌ؛ وذلك لأنّ حجية اليقين معلولة لكاشفيته عن الواقع، ومع زوال الكاشفية - بسبب الشك الساري - لا يبقى لها أثر، و ليس هو شكاً طارئاً حتى يكون مجرى «لا تنقض».

وفيما نحن فيه: وإن كان العلم التفصيلي متأخراً عن العلم الإجمالي، إلا أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي متقدم على العلم الإجمالي، ومع هذا العلم التفصيلي اللاحق يعلم أن العلم الإجمالي السابق بالتكليف لم يكن علماً بالتكليف، بل شكٌ بدويٌ، فيكون إناء الفأرة نجساً قطعاً، والإناء الثاني مشكوكاً بالشبهة البدوية.

هذا تمام الكلام في المقام الأول، وهو البحث الكبروي.

المقام الثاني: في بيانه صغروياً

وأما على نحو البحث الصغروي فنقول: إنّ قيام الطريق على الحكم وإن كان متأخراً عن العلم الإجمالي بالتكاليف، إلاّ أنه ينجز مورد نفسه، ومع العلم التفصيلي بالتنجز لا يعلم أنّ العلم الإجمالي المتقدم كان منجزاً

ص: 315

للتكليف على كل تقدير، أو كان منجزاً للتكليف على تقدير دون تقدير.

فلو كان متعلق العلم الإجمالي موارد الطرق فقط فليس منجزاً للتكليف، لتنجز هذه الموارد بالطرق، فإنه وإن كان العلم متأخراً إلا أنّ المعلوم متقدم، ولو كان المتعلق غيرها كان منجزاً، والترديد مساوق لعدم تنجيز العلم الإجمالي للتكليف على كل تقدير، فالعلم الإجمالي منحل بالانحلال الساري.

وبعبارة أوضح: لو فرض أنّ العلم الإجمالي نجز جميع أطراف المشتبهات وهي ألف مورد مثلاً، وبعد مراجعة الطرق المثبتة علم بوجود ثمانمأة مورد قام عليها الطريق وحرمها، كالعصير العنبي بعد الغليان، والغراب و ما أشبه ذلك، فالمعلوم(1) متقدم على العلم الإجمالي - وإن كان العلم به متأخراً عنه - لأنّ قيام الطريق كاشف عن ثبوت الحرمة من أول الأمر، فيكون قيام الطريق منجزاً للتكاليف من أول البلوغ، فينكشف تنجز بعض الأطراف قبل حصول العلم الإجمالي، وقد قلنا في الكبرى: إنّ بعض الأطراف لو كانت منجزة من قبل فالعلم الإجمالي لا يؤثر أثره؛ لعدم كونه علماً إجمالياً بالتكليف في واقعه.

المقام الثالث: الإشكال على الانحلال الساري

ما ذكر من الانحلال الساري إنما يكون تاماً لو كان المبنى أنّ المجعول في موارد الطرق أحكام فعلية(2)، فإنّ خبر زرارة كاشف عن الفعلية

ص: 316


1- أي حرمة هذه الموارد الثمانمائة.
2- فيكون معنى حجية الخبر جعل حكم مماثل للواقع، فحينما يقول زرارة (صلاة الجمعة واجبة) يكون معنى (صدق العادل) أنّ الشارع جعل وجوباً ظاهرياً للجمعة مماثلا للحكم الواقعي.

المتقدمة على العلم الإجمالي، فلا يكون العلم الإجمالي فعلياً على كل تقدير؛ لأنّ موارد الطرق منجزة قبل وجوده، وما تنجز بعض أطرافه لا يكون منجزاً للتكليف، فينحل العلم الإجمالي.

أما لو كان المبنى أنّ المجعول في موارد الطرق صرف المنجزية والمعذرية، كما هو رأي صاحب الكفاية(1)، فالانحلال غير تام، فإنّ خبر زرارة ليس كاشفاً عن الحرمة المتقدمة على العلم الإجمالي، ولا يولد فعلية، ولا يجعل حكماً مماثلاً(2)، فيكون العلم الإجمالي منجزاً للتكليف المعلوم بالإجمال على كل تقدير، فلم ينحل بقيام الطريق.

والحاصل: إنّ الانحلال إنما يتم على بعض المباني في حجية الخبر دون البعض الآخر.

وبناء عليه نفى صاحب الكفاية في مفاد كلامه وجود الانحلال الحقيقي الساري.

المقام الرابع: التأمل في الإشكال المذكور

ويتضح التأمل بطرح سؤالين:

الأول: هل يحتمل مخالفة جميع الطرق للواقع، بأن تكون جميع الأخبار المعتبرة مخالفة للأحكام الواقعية الثابتة في اللوح المحفوظ؟

الظاهر أنّ احتمال الخطأ في جميعها غير وارد.

الثاني: هل يعلم زيادة المعلوم بالإجمال على ما نجزته الطرق من

ص: 317


1- كفاية الأصول: 279.
2- بخلاف العلم بسقوط الفأرة الذي يولد الفعلية لحكم (اجتنب) فينحل العلم الإجمالي به.

التكاليف الواقعية، بأن يفرض أنّ الأمارات والطرق مائة ألف مثلاً، ويعلم بموافقة عشرها للواقع، فهل يعلم أنّ المعلوم بالإجمال أكثر من الموارد التي نجزتها الطرق المصيبة؟

وجداناً لا يعلم ذلك.

وبناء عليه يكون العلم الإجمالي متعلقاً بالأطراف التي تنجز بعضها من قبل، فلا يكون منجزاً للتكليف على كل تقدير، فلا يكون العلم الإجمالي علماً إجمالياً بالتكليف، فدعوى انحلال الساري تامة حتى على مبنى صاحب الكفاية.

والحاصل: إننا وإن لم نسلّم بوجود الأحكام الظاهرية في موارد الطرق، إلا أنّ هذه الطرق تنجّز الأحكام الواقعية في أول البلوغ بالمقدار التي هي مصيبة للواقع، فيكون بعض الأطراف منجزاً قبل العلم الإجمالي.

المقام الخامس: الإشكال على ما أفيد في المقام الرابع

وبيانه يحتاج إلى تمهيد مقدمة، وهي: يوجد في تنجيز الطرق للأحكام الواقعية مبنيان:

الأول: إنّ منجزية الطريق للواقع مشروطة بالوصول، فلو لم يصل الطريق إلى المكلف ولم يعلم به فلا يكون منجزاً للواقع؛ ولذا كانت القاعدة هي (قبح العقاب بلا بيان واصل) أما صرف وجود البيان الواقعي فغير كافٍ للمنجزية.

الثاني: إنّه يكفي لمنجزية الطريق كونه في معرض الوصول، بحيث لو فحص المكلف عنه لوصل إليه، فالقضية التعليقية كافية لمنجزية الطريق

ص: 318

للواقع.

ويؤيده قول الفقهاء بعدم جريان قاعدة قبح العقاب قبل الفحص، وهذا كاشف عن كفاية وجود الحجة الواقعية في معرض الوصول لبيانية الواقع.

فلو كان المبنى أنّ منجزية الطريق للواقع مشروطة بالوصول إلى المكلف فقبل قيام الطريق لا تنجيز للواقع أصلاً، فالعلم الإجمالي المتقدم على قيام الطريق منجز للتكليف على كل تقدير، وقيام الطريق اللاحق لا يمكنه إسقاط منجزية العلم الإجمالي.

وأما بناء على المبنى الثاني فيكون الانحلال تاماً؛ لأنّ وجود الطرق ينجز بعض أطراف العلم الإجمالي في أول البلوغ، والعلم الإجمالي اللاحق علم بالتكاليف التي تنجز بعض أطرافه من قبل، وإن كان قيام الطريق متأخراً عن العلم الإجمالي، فهو كاشف عن تنجز بعض الأطراف من أول البلوغ.

فما ذكر من الانحلال في المقام الرابع يتم على بعض المباني دون بعض، وحيث إنّ المختار هو المبنى الثاني، فالانحلال الحقيقي الساري تام ولو على مبنى المنجزية والمعذرية.

فتحصل من جميع ذلك أنّ الانحلال الحقيقي الطارئ تام في الجملة، وأنّ الانحلال الحقيقي الساري تام على بعض المباني دون بعض.

التقرير الثالث: الانحلال الحكمي

وهو ما ذكره صاحب الكفاية(1) بعد قبول الإشكال على التقرير الثاني.

وحاصله: إنّ نهوض الحجة يستلزم صرف التنجز إلى موارد الطريق،

ص: 319


1- كفاية الأصول: 347.

والعلم الإجمالي وإن لم ينحل حقيقة لكنه ينحل عقلاً، ولتقريبه نذكر مثالاً: وهو أنه لو اختلط إناءان وعلم إجمالاً بحرمة إناء زيد؛ لعدم طيب نفسه وطابت نفس عمرو بالتصرف في إنائه، فمقتضى العلم الإجمالي الاجتناب عنهما؛ لتنجز الواقع المعلوم بالإجمال في ذمة المكلف، فلو قامت البينة على أنّ هذا المعين إناء زيد فالتنجز الواقعي بسبب قيام البينة يتوجه إليه، فلا يجب الاجتناب عن الآخر.

لكنه غير واضح؛ لأنه إنّما يتم صرف التنجز الواقعي فيما لو كان المثبت للتكليف في أحد الطرفين نافياً للتكليف عن الطرف الآخر بالدلالة المطابقية أو الالتزامية؛ والملاك المذكور تام في المثال الذي ذكره؛ لأنّ المدلول الالتزامي للبينة المثبتة للحرمة في الإناء المعين نفي الحرمة عن الإناء الآخر، وإن لم تتوجه هي إلى ذلك المدلول الالتزامي؛ لحجية البينة وخبر الثقة في جميع المداليل المطابقية والتضمنية والالتزامية، حتى مع عدم الالتفات.

وهذا واضح في الشبهات الموضوعية، وكذا في بعض موارد الشبهات الحكمية، كما لو علم بوجوب الجمعة أو الظهر، مع العلم بعدم وجوب صلاتين في وقت واحد، فقام خبر الثقة على وجوب الجمعة، كان المدلول المطابقي إثبات الجمعة، والمدلول الالتزامي عدم وجوب الظهر، ومع هذا المدلول الالتزامي النافي يصرف التنجز الواقعي إلى الجمعة.

إلا أنّ هذه الضابطة ليست محققة في المقام؛ لأنّ المدلول الالتزامي للطرق القائمة على حرمة المحرمات ليست نافية لحرمة غيرها(1)، فإنّ هذه

ص: 320


1- فلو ثبتت حرمة العصير العنبي والغراب وغيرهما بالطرق فلا ينفي ذلك حرمة العظم.

الطرق تثبت حرمة مجموعة من المحرمات، ولها مدلول مطابقي إثباتي، ولا تنفي وجود محرمات خارج هذه الدائرة ولو بالدلالة الالتزامية، فيبقى العلم الإجمالي على تنجيزه في تمام دائرة المشتبهات، ولا وجه لصرف التنجيز الواقعي إلى موارد الطرق، إلا أن يعود الأمر إلى التقرير الأول أو الثاني.

فما ذكره صاحب الكفاية من الانحلال الحكمي لا صلاحية له، ليكون تقريراً مستقلاً في مقابل الانحلال الحقيقي الساري و الطارئ.

واللّه العالم بحقيقة الحال.

التقرير الرابع

ما ذكره المحقق الشيخ عبد الكريم الحائري واعتمد عليه بعد رد جميع وجوه الانحلال في الجملة أو بالجملة.

قال: «إنّ العلم يعتبر في موضوع حكم العقل من حيث إنه طريق قاطع للعذر، لا من حيث إنه صفة خاصة، ولذا تقوم الأمارات مقامه»(1).

والظاهر أنّ مراده وجود حيثيتين للعلم:

الأولى: حيثية ما به الاشتراك مع سائر الطرق المعتبرة، وهي القاطعية للعذر، فإنّ العلم طريق قاطع للعذر وكذا خبر الثقة، وهكذا سائر الطرق المعتبرة.

الثانية: حيثية ما به الامتياز، وهي الكاشفية التامة عن الواقع، وبها يختلف العلم عن سائر الطرق المعتبرة، وموضوع حكم العقل بوجوب الطاعة ووجوب الجري العملي هو الحيثية الأولى للعلم لا الثانية.

ص: 321


1- درر الفوائد 2: 439.

وهذه المقدمة تامة.

ثم قال: «وعلى هذا لو قامت أمارة معتبرة، أو طريق معتبر على بعض الأطراف مفصلاً، فالمعلوم بصفة أنه معلوم وإن كان بعد مردداً، ولكن ما قام عليه الطريق القاطع للعذر ليس مردداً، فما يكون ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال مفصلاً، وما بقي على إجماله ليس ملاكاً لحكم العقل »(1).

لكنه غير واضح؛ لوجود طريقين قاطعين للعذر في المقام، أحدهما: العلم المجمل، والثاني الطريق المفصل، ولا منافاة بين الطريقين القاطعين للعذر، فيجب ترتيب الأثر عليهما، فإنّ قيام الطريق المعتبر المفصل لا ينافي تنجيز الطريق المجمل، ولا وجه لانحلال الطريق المجمل بالطريق المفصل بعد حجية العلم، وأنه موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال.

ثم قال في آخر عبارته: «وما بقي على إجماله(2) ليس ملاكاً لحكم العقل».

لكنه غير تام: فلماذا لا يكون ملاكاً لحكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال؟

فإنّ المقدمة التي ذكرها تثبت أنّ العلم بلحاظ حيثية الكشف التام ليس ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال؛ لكنها لا تنتهي إلى النتيجة التي انتهى إليها، وهي أنّ العلم ليس ملاكاً مطلقاً.

وبعبارة أخرى: توجد في العلم الإجمالي حيثيتان، الحيثية التفصيلية وهي

ص: 322


1- درر الفوائد 2: 439.
2- أي العلم الباقي علی الإجماله.

العلم بالجامع، والحيثية الإجمالية وهي الإجمال في المتعلق(1)،

والعلم المفصل بالجامع منجز وقاطع للعذر، ولا يمكن للعقل الاعتذار بعدم العلم.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من دليل العقل.

الوجه الثاني: استقلال العقل بالحظر

وهو ما ذكره السيد الروحاني، قال: «إنّ العقل يستقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية حتى يرد الترخيص من الشارع»(2).

فمسألة البراءة والاحتياط في المقام من صغريات كبرى الحظر، والإباحة في الأفعال، إما في مطلق الأفعال أو الأفعال غير الضرورية على الخلاف في التقرير، وحيث إنّ المختار في تلك المسألة أصالة الحظر ففي المقام يجب الذهاب إلى الاحتياط.

ويمكن توجيهه بأنّ العبد وجميع قواه وجوارحه وكل ما في الكون مملوك للمولى، فتصرفه في شيء تصرف في سلطانه، وهو قبيح عقلاً، إلا مع ثبوت الإذن، وحيث لم يثبت - في شرب التتن مثلاً - كان التصرف قبيحاً.

وأجيب عنه بأجوبة:

الأول: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) (3): من أنّ العقل يرى جواز التصرف في ملك الكريم الغني المعرض للهدر بدونه.

ص: 323


1- ويتضح الأمر في مثال (جاء إما زيد أو عمرو) فلا إجمال في المجيء، وإنما الإجمال في المتعلق.
2- منتقى الأصول 4: 492.
3- الأصول: 732.

لكنه مجمل: فهل ملاك جواز التصرف الغنى والكرم، أو الهدر والتضييع، أو كلاهما معاً(1)؟

فلو كان المراد أنّ ملاك جواز التصرف الغنى والكرم - فكل مالك غني كريم خصوصاً الغني والكريم على الإطلاق، الذي لا يضرّه التصرف في ملكه، ولا ينفعه عدم التصرف فيه، ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً - ففي حكم العقل بالجواز من دون إذنه(2) تأمل، فربما لم يأذن لجهة ما، ولو لضعف قابلية القابل.

فما ذكر بيان لتمامية فاعلية الفاعل، لكن قد يشكل في قابلية القابل، أو عدم وجود الشرط أو وجود المانع، ومن الواضح أنّ وجود المعلول مرهون بتمامية فاعلية الفاعل، وتمامية قابلية القابل، ووجود الشرط وانتفاء المانع.

ولو كان الملاك الهدر، فكونه كذلك موقوف على الإحاطة بالجهات الواقعية النفس الأمرية.

ولو كان الملاك المجموع المركب من الأمرين، فيظهر النظر فيه مما تقدم؛ لأنّ المجموع المركب ليس شيئاً وراء آحاده.

الجواب الثاني: ما هو المراد من كون المتصرف والمتصرف فيه وآلة التصرف مملوكاً لله؟ هل المراد الملكية الاعتبارية أو الملكية الحقيقية؟

أما الملكية الاعتبارية فلم تثبت لله سبحانه، بل لا مسوّغ لها في المقام؛

ص: 324


1- فإن بين الكرم والغنى، وبين الهدر عموماً من وجه.
2- وأما مع الكشف عن إذنه فهو خروج عن الموضوع.

لأنها إنما تعتبر لمصالح وأغراض، وهي غير موجودة في الملكية الاعتبارية لله سبحانه وتعالى، وأما الملكية التكوينية فجميع الموجودات قائمة بالإرادة الإلهية مخلوقة بمشيئته، وواقعة تحت قبضته تكويناً، فلا يمكن للعبد أن يتصرف في شيء إلا بإذنه التكويني.

لكنه غير واضح: أما أولاً: فلأنّ الملكية الاعتبارية ثابتة لله تعالى ظاهراً، مضافاً إلى الملكية الواقعية، ومما يدل عليه قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ}(1) فإنّ الملكية الذاتية شاملة لجميع المال لا لخمسه.

وأما القول بعدم الأثر للملكية الاعتبارية، فجوابه أنّ الأثر هو حرمة التصرف في بعض الأذهان المتعارفة، حيث إنهم لا يفهمون الملكية الذاتية، ولا يرتبون عليها الأثر، بخلاف الملكية الاعتبارية فيما لو علموا أنّ الخمس لله تعالى، والتصرف فيه تصرف في ملك الغير، وغصب تبطل الصلاة فيه والباقي لهم، فهو مؤثر في الباعثية والزاجرية.

وثانياً: عدم كفاية الإذن التكويني، بل لا بد من إحراز الرضا، والإذن التكويني في التصرف لا يساوق الرضا، ففي الآية: {كلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا}(2) فلا حظر تكويناً حتى للكافر والفاسق والقاتل، بل أذن لهم، لكن الملاك هو الرضا.

ص: 325


1- الأنفال: 41.
2- الإسراء: 20.

الجواب الثالث: ما مضمونه في المصباح(1)

والمنتقى(2) والتهذيب(3) من أنّ مسألة الحظر والإباحة تختلف عما نحن فيه من مسألة الاحتياط والبراءة، لأنّ الكلام في الأول بلحاظ ما قبل الشرع، وفي الثاني بلحاظ ما بعد الشرع، فإنه يقطع بعدم جعل الحكم قبل الشرع، وأما بعد الشرع فجعل الحكم مشكوك، فبين المسألتين فرق، والقول بالحظر في تلك المسألة لا يلازم القول بالاحتياط في هذه المسألة.

وقد أشار إليه صاحب الكفاية بنحو الإجمال(4).

وهذا الجواب تام من الناحية الفنية، ولكنه لا يؤثر في النتيجة المتوخاة، فلا إذن من المولى بلحاظ ما قبل الشرع، وأما ما بعده فلم يحرز الإذن، وكلاهما موضوع لحكم العقل بقبح التصرف، فما لم يأذن فيه المولى أو المالك أو لم يعلم إذنه يقبح التصرف فيه.

والشاهد عليه أنهم قالوا في محله أنّ الطيبة في قوله×: «لا يحل مال امرئٍ إلا بطيبة نفس منه»(5) تحتاج إلى الإحراز ولا يصح القول بعدم العلم بوجود الطيب، ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتتحكم أصالة البراءة بجواز التصرف، بل لا بد من إحراز الطيب.

ص: 326


1- مصباح الأصول 2: 356.
2- منتقى الأصول 4: 492.
3- تهذيب الأصول 2: 160.
4- كفاية الأصول: 348.
5- وسائل الشيعة 14: 572.

الجواب الرابع: إنما يتم ما ذكر لو لم يثبت الترخيص، وقد ثبت الترخيص في مرحلتين:

الأولى: الأدلة الاجتهادية، كقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(1) وقوله سبحانه: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}(2).

الثانية: الأصول العملية، وهي أدلة البراءة غير المعارضة بأدلة الاحتياط، على ما تقدم تفصيله.

الوجه الثالث: محتمل الحرمة محتمل الضرر

إنّ محتمل الحرمة محتمل الضرر، ودفع الضرر المحتمل واجب، فيجب الاجتناب عنه.

والجواب عنه: نقضاً: بورود مثله في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ ترك محتمل الوجوب فيه احتمال الضرر، ولم يقل مشهور الأخباريين بوجوب الاحتياط فيه.

وحلاً: ما مرّ في أول مباحث قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا تمام الكلام في مباحث البراءة والاحتياط.

ص: 327


1- الرحمن: 10.
2- البقرة: 29.

ص: 328

تنبيهات البراءة

اشارة

ص: 329

ص: 330

تنبيهات البراءة

اشارة

وبعد الفراغ عن استدلال الأصوليين على البراءة، واستدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط يبقى الكلام في تنبيهات، وهي:

التنبيه الأول: في شرط جريان البراءة

ما ذكره الشيخ الأعظم(1): من أنّ جريان البراءة مشروط بعدم وجود الأصل الموضوعي في مورد البراءة.

وهذا الشرط قابل للتفسير بوجهين، اختار بعض الأول، بينما اختار آخرون الثاني.

التفسير الأول: إنّ شرط جريان البراءة عدم وجود أصل ينقح الموضوع.

وبعبارة أخرى: إنّ الأصل الموضوعي الجاري في الموضوع لا يبقي مجالاً للبراءة الجارية في الحكم.

التفسير الثاني: إنّ شرط جريان البراءة عدم وجود أصل رافع لموضوع البراءة، ومع جريان الأصل الرافع للموضوع لا تجري البراءة؛ لأنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ومع ارتفاع الموضوع لا يبقى مجال للمحمول.

والظاهر أنّ بين المعنيين عموماً مطلقاً، فكل أصل منقح للموضوع رافع لموضوع البراءة، لكن لا يلزم أن يكون كل أصل رافع لموضوع البراءة

ص: 331


1- فرائد الأصول 2: 120.

منقحاً للموضوع، فمن الممكن أن يكون الأصل الرافع لموضوع البراءة أصلاً حكمياً لا موضوعياً، ومع وجود الأصل الحكمي الرافع لموضوع البراءة الحكمية لا يبقى مجال للبراءة.

وينبغي إيقاع الكلام في مقامين، سواء كان مراد الشيخ التفسير الأول أم الثاني.

المقام الأول: لو كان هناك أصل منقح للموضوع فلا مجال للبراءة، كما لو شك في انقطاع الحيض، ففي المقام أصلان الأول: (لا تنقض اليقين بالشك) وهو منقح ومبين للموضوع، والثاني: (رفع ما لا يعلمون) حيث يشك أنها محرمة أم لا؛ للشك في كونها حائضاً، فمقتضى الاستصحاب بقاء الحيض، ومقتضى البراءة حلية وطء المرأة، ومع وجود الأصل المنقح للموضوع لا تجري البراءة.

وكذا لو شك في انقلاب الخمر خلاً، فمتقضى الاستصحاب بقاء الخمرية، ومقتضى البراءة حلية المائع، ومع وجود الاستصحاب الموضوعي لا تصل النوبة إلى البراءة الحكمية.

وهذا في حد ذاته على نحو الكبرى الكلية مسلّم، وغير قابل للإشكال.

قال السيد السبزواري: «إنّ الأصول الموضوعية مقدمة على الحكمية»(1) وقد تسالم(2) الفقهاء، بل ارتكز في النفوس أنّ الأصول الموضوعية مقدمة

ص: 332


1- مهذب الأحكام 16: 271.
2- ربما التسالم أقوى من دعوى الإجماع، فمعناه أنه من بديهيات الفقه المفروغ منها (منه (رحمه اللّه) ).

على الحكمية، وهذا من الأمور المسلّمة الجارية في تمام أبوب الفقه.

لكن البحث في التخريج الفني لتقدم الأصل المنقح للموضوع على أصل البراءة.

ونكتفي في ذلك ببيان واحد، أفاده بعض المعاصرين(1) وحاصله: إنّ موضوع البراءة الشرعية الشك، وموضوع البراءة العقلية عدم البيان، ومع ضميمة الأصل المنقح للموضوع إلى الكبرى الكلية ينقلب اللا بيان إلى البيان، ويرتفع موضوع الشك.

وتوضيحه: لو شك في انقطاع الحيض فمقتضى الاستصحاب بقاء الحيض، والأصل المنقح للموضوع لو لوحظ في حد ذاته لا يتعارض مع أدلة البراءة، فكون المرأة حائضاً لا ينافي البراءة العقلية أو الشرعية، إلا أنه بعد أن نضمّ كبرى حرمة وطء الحائض، المستفادة من الأدلة الاجتهادية(2) إلى صغرى هذه حائض، بدليل الأصل العملي فيتم البيان وتقوم الحجة، فإنّ قوام قيام الحجة التامة بوصول الصغرى والكبرى، وقد وصل كل منهما، فينتفي موضوع اللابيان والشك، فلا مجال للبراءة العقلية والشرعية.

وهو تام بالنسبة إلى البراءة العقلية لتمامية البيان الشرعي، لكن بلحاظ البراءة الشرعية يحتاج الأمر إلى متمم، وهو التوسعة في مفهوم العلم، الذي أخذ عدمه في موضوع البراءة بأن يكون المراد منه الأعم من العلم الوجداني، والتعبدي، والأعم من العلم بالواقع وبالوظيفة، وبه يكون البيان

ص: 333


1- الهداية في الأصول 3: 317.
2- لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ}.

المذكور تاماً، لتحقق العلم التعبدي بالوظيفة(1) مع ضم الصغرى إلى الكبرى.

لكن لو قلنا: إنّ المراد من المنفي في (ما لا يعلمون) خصوص العلم الوجداني، فلا علم وجداني بحرمة وطء المرأة - في المثال - لاحتمال طهارتها واقعاً، بل العلم تعبدي، فمع ضم الكبرى إلى الصغرى يحكم بحرمة وطء المرأة، ومن جهة ثانية لا يعلم وجداناً بحرمة وطئها واقعاً، فيكون موضوع البراءة محققاً، فيحصل التعارض بين الاستصحاب - بضميمة الكبرى - وبين البراءة.

فلا بد أن يكون المراد من العلم معناه العام، فتكون النسبة بين دليل الاستصحاب - بضميمة الكبرى - ودليل البراءة الورود، فإنه رافع لموضوعها بالوجدان، ولو كان هذا الرفع الوجداني بعناية التعبد.

وهذه التوسعة في مفهوم العلم قابلة للقبول(2).

وتفصيل النقض والإبرام في ذلك موكول إلى مبحث النسبة بين الأصول العملية في خاتمتها.

ويبقى الكلام في أمور ثلاثة:

الأمر الأول: لو كان الأصل المنقح للموضوع موافقاً للبراءة في المؤدى فجريان البراءة مبني على الخلاف في محله (3)، من أنّ الأصول السببية

ص: 334


1- وهي الاجتناب.
2- فلو قال زرارة: «الغراب حرام» فلا علم لنا بالواقع، ومع ذلك لا يمكن التمسك بالرفع؛ لأن العلم أعم، و هكذا لو قامت البينة على خمرية المائع فلا علم وجداناً؛ لاحتمال خطئها (منه (رحمه اللّه) ).
3- الهداية في الأصول 3: 209؛ منتهى الدراية 7: 444.

حاكمة على الأصول المسببية في صورة التخالف في المؤدّى، أم أنها حاكمة(1) مطلقاً، فلو اخترنا الأول فلا مانع من جريان البراءة في عرض الأصل الموضوعي الموافق، كما لو شك في غليان العصير العنبي، فمقتضى الأصل الموضوعي عدم الغليان، ومقتضى البراءة الحلية، وعليه يجري الأصل الموضوعي والحكمي في عرض واحد.

الأمر الثاني: إنّ الحكومة أو ورود الأصل الموضوعي على الحكمي ليس خاصاً باستصحاب الموضوع والبراءة، بل هو جار في جميع الأصول، وإن كان الأصل المنقح للموضوع أضعف الأصول، والأصل الحكمي أقوى الأصول، فيتقدم الاستصحاب الموضوعي الضعيف على الاستصحاب الحكمي القوي.

مثلا: أصالة الطهارة إحدى الأصول الضعيفة؛ لأنها أصل عملي غير محرز، فلو غسل الثوب النجس بالماء المحكوم بالطهارة بها، فمقتضى الاستصحاب الحكمي بقاء نجاسة الثوب، لكن يقدم عليه الأصل الجاري في الموضوع، فيحكم بطهارته.

الأمر الثالث: تعرض القوم في المقام لصغرى من صغريات هذه الكبرى، وهي مع جريان أصالة عدم التذكية في الحيوان المشكوك تذكيته لا يبقى مجال لأصالة البراءة، كاللحوم المستوردة من الخارج، حيث يشك في تذكيتها، فأصالة عدم التذكية الموضوعي حاكمة(2) على أصالة الحلية

ص: 335


1- أو ورادة.
2- أو واردة.

الحكمي، وأطالوا الكلام في جريان أصالة عدم التذكية وعدمه، لو كانت الشبهة حكمية أو موضوعية، وأقسام الشبهة الحكمية والموضوعية فيها، ولعل الأولى إيكال هذا البحث إلى الفقه.

المقام الثاني: جريان البراءة مشروط بعدم وجود أصل رافع لموضوعها، فلو وجد أصل رافع لموضوعها لم تجرِ، وإن لم يكن ذلك الأصل منقحاً للموضوع، بمعنى أنه لو تواردت البراءة الحكمية والاستصحاب الحكمي على مورد واحد كان الاستصحاب مقدماً.

مثاله: لو شك في وجوب الجمعة في عهد الغيبة، فمقتضى البراءة ارتفاع الوجوب، لكن مقتضى الاستصحاب بقاؤه وهو مقدم عليها، وهكذا لو شك في حرمة لمس الحائض بعد الطهر وقبل التطهر.

ولا إشكال فيما ذكر بلحاظ البراء العقلية؛ لأنّ موضوعها (اللابيان) ولا تنقض (بيان)، فيكون وارداً عليها. وإنما الإشكال في وجه تقدم الاستصحاب على البراءة الشرعية.

إلاّ أنّه يمكن ذكر وجوه لذلك على نحو الإجمال:

الوجه الأول: إنّ مفاد أدلة الاستصحاب جعل العلمية والطريقية التعبدية إلى الواقع، وموضوع البراءة الشرعية عدم العلم، ومع وجود الاستصحاب يرتفع موضوع البراءة؛ لأنه علم تعبداً.

ولكنه محل تأمل، حيث لم يتضح من أدلة الاستصحاب جعل العلمية والطريقية إلى الواقع، فمفاد الأدلة صرف حرمة نقض اليقين بالشك، كما ذكر مثل ذلك في الأمارات، وقد مرّ أنه ليس لسان حجية الأمارات لسان

ص: 336

جعل العلمية والطريقية فالمبنى محل إشكال.

الوجه الثاني: ما أفاده بعض المعاصرين(1): من أنّ موضوع البراءة عدم الحجة، فالعلم في (رفع ما لا يعلمون) بمعنى ما لا حجة فيه، والاستصحاب حجة، ومعه لا يمكن القول بعدم تحقق العلم والحجة، فأدلة الاستصحاب واردة على أدلة البراءة.

لكنه محل تأمل؛ لأنّ عدم وجود الحجة،كما أخذ في أدلة البراءة أخذ في أدلة الاستصحاب، فإنّ موضوع (لا تنقض) اليقين والشك، والشك بمعنى عدم الحجة، والبراءة حجة، فيكون من نقض اليقين بالحجة لا بالشك.

وبعبارة أخرى: إنّ أدلة الاستصحاب مغياة بحصول اليقين المضاد، واليقين أعم من التعبدي والوجداني، والبراءة يقين تعبدي، فالقول بعدم وجوب صلاة الجمعة في المثال نقض لليقين باليقين، أي بأدلة البراءة.

الوجه الثالث: المستفاد من أدلة الاستصحاب إسراء الدليل السابق من ظرف اليقين إلى ظرف الشك، وبعبارة أخرى: ظاهر (لا تنقض) أنّ المكلف وهو في ظرف الشك يفرض نفسه في ظرف اليقين، فمفاد (لا تنقض) أنّ للمكلف نفس تلك الحالة السابقة، وعليه فكما أنه لم يحق للمكلف إجراء البراءة من وجوب الجمعة في ظرف الحضور، كذلك لا يحق له في ظرف الغيبة، فيكون الدليل قسمين: دليل حقيقي، ودليل تنزيلي، فكما أنه مع وجود الدليل الحقيقي لم يحق للمكلف إجراء البراءة، كذلك مع وجود الدليل التنزيلي، و بعبارة بسيطة يقول المولى: استمر على الحالة السابقة.

ص: 337


1- بداية الوصول 7: 2؛ دروس في علم الأصول 1: 168؛ مباحث الأصول 1: 352.

الوجه الرابع: إنّ دليل الاستصحاب أظهر عرفاً من دليل البراءة، ولذا قدمه الفقهاء على مرّ القرون.

الوجه الخامس: تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي، حيث إنّ بين دليل الاستصحاب ودليل البراءة سببية ومسببية، فإنّ سبب الشك في حلية بعد الطهر وقبل التطهر إنما هو للشك في استمرارية الحرمة السابقة.

وعلى كل حال، لا شك من الناحية الفقهية في تقديم الاستصحاب على البراءة.

هذا بعض الكلام في المقام، وتفصيله مع النقض والإبرام في الوجوه المذكورة موكول إلى خاتمة بحث الأصول العملية.

التنبيه الثاني: في قاعدة التسامح في أدلة السنن

اشارة

وإنما ذكر التنبيه عليه في ختام مباحث البراءة والاحتياط، لأنّ الإتيان ب- (ما بلغ عليه الثواب) نوع من أنواع الاحتياط، فلو فرض قيام خبر ضعيف على استحباب قراءة دعاء معين في يوم الجمعة، فاحتمل واقعاً مطابقته للواقع فيحكم العقل بالاحتياط؛ لإدراك الثواب، وتؤيد روايات (من بلغ) هذا الحكم، وهو نوع من أنواع الاحتياط، ومحاولة الوصول إلى الواقع الاحتمالي.

وفي هذه القاعدة مباحث:

المبحث الأول: في الدليل على قاعدة التسامح
اشارة

يدل عليها عدة روايات، وردت تسع منها في الوسائل(1)، نقتصر على

ص: 338


1- وسائل الشيعة 1: 18.

ذكر ثلاث؛ لكون البقية محل إشكال سنداً.

الرواية الأولى(1): محمد بن علي بن بابويه(2)، عن أبيه(3)، عن علي بن موسى القمي(4)، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن هشام، عن صفوان، عن أبي عبد اللّه× قال: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير(5) فعمله، كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقله»(6).

ولا إشكال في السند إلا في علي بن موسى، حيث لم يرد في حقه توثيق، فيكون مجهولاً.

الرواية الثانية: صحيحة رواها في الوسائل فقال: أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي(7)، عن علي بن الحكم(8)، عن هشام بن سالم(9)، عن أبي عبد اللّه× قال: «من بلغه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له، وإن كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقله»(10).

ص: 339


1- وفيها أيضاً إشكال سندي، ولكن نذكرها بلحاظ (منه (رحمه اللّه) ).
2- الشيخ الصدوق.
3- والد الشيخ الصدوق المدفون في قم المقدسة بجوار مسجد الإمام زين العابدين×.
4- علي بن موسى القمي، شيخ المحدث الكليني وشيخ والد الصدوق.
5- وفي المصدر: «بلغه شيء من الثواب على خير».
6- وفي نسخة: «و إن لم يكن على ما بلغه» والمفاد واحد.
7- أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، صاحب كتاب المحاسن، ثقة.
8- علي بن الحكم، ثقة جليل القدر.
9- هشام بن سالم، ثقة.
10- وسائل الشيعة 1: 81.

قال في مصادر فقه الشيعة: إنه يختص بما كان البلوغ فيه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

لكن الظاهر إمكان القول: إنّ الحديث أعم ملاكاً، حيث لا فرق بين النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة^ إلا في النبوة، فلا خصوصية للبلوغ عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرفاً، مضافاً إلى بعض الروايات الدالة على أنّ ما يقوله الإمام× يقوله عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّ حديثه حديث أبيه حتى يصل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قال الشاعر:

ووالِ اُناساً قولهم وحديثهم***روى جدنا عن جبرئيل عن الباري(1)

وعليه يكون حديث أهل البيت^ حديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الرواية الثالثة: محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم(2)، عن أبيه(3)، عن ابن أبي عمير(4)، عن هشام بن سالم(5)، عن أبي عبد اللّه×، قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه»(6).

ومعناه أنّ من سمع شيئاً من الثواب على عمل فقام به كان الثواب مضموناً له، وإن لم يكن للخبر واقعية أصلاً، أو وإن لم يكن الثواب على ما بلغه، فيكون للثواب واقعية لكن لا الواقعية المحكية.

وهذه الرواية الشريفة عامة لا تختص بحديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهي صحيحة

ص: 340


1- عوالي اللئالي1: 301؛ الصراط المستقيم 3: 207.
2- علي بن إبراهيم، ثقة.
3- إبراهيم بن هاشم، ثقة على المختار ممدوح على بعض المباني.
4- ابن أبي عمير، ثقة.
5- هشام بن سالم، ثقة.
6- الكافي 2: 87.

على المختار، حسنة على بعض المباني.

شبهة: قاعدة التسامح مسألة أصولية

وتوجد في المقام شبهة، وهي: إنّ مسألة التسامح مسألة أصولية، فلا تثبت بأخبار الآحاد.

لكنها محل تأمل لوجهين:

الوجه الأول: يمكن دعوى كون هذه الأخبار قطعية الصدور متواترة، أو محفوفة بالقرائن القطعية.

فقد روى في الوسائل تسع روايات وإن احتمل اتحاد بعضها، وروى العامة بهذا المضمون - أيضاً - روايات، فيمكن دعوى أنّ المجموع يفيد القطع بالصدور، فلا يكون خبر واحد لا يفيد العلم، ويبعد أن تكون كلها مجعولة أو موهومة بأن توهم الرواة ذلك، خاصة مع ملاحظة عمل المشهور واستنادهم إليها قديماً وحديثاً.

الوجه الثاني: لا دليل على عدم حجية أخبار الآحاد في المسائل الأصولية. نعم، لا يكفي الخبر الواحد في مسائل أصول الدين، حيث يشترط فيها العلم واليقين، وأما مسائل أصول الفقه فما هو المانع من أن يكون الخبر الصحيح وافياً بالمسألة الأصولية، والمفروض صحة بعض هذه الأخبار.

المبحث الثاني: الأقوال في مفاد أخبار (من بلغ)
اشارة

وفي مفاد هذه الأخبار احتمالات، عمدتها اثنان:

الاحتمال الأول: استحباب ذات العمل بسبب طروء عنوان ثانوي عليه،

ص: 341

وهو عنوان (البلوغ)، فوزانه وزان سائر العناوين الثانوية المغيرة لأحكام الأفعال، كعنوان النذر أو الضرر أو أمر الوالد أو ما أشبه، فقد يكون الشيء بعنوانه الأولي مستحباً، لكنه يصبح واجباً بعنوان أنه منذور، وهكذا قد يكون ذات العمل مباحاً، ولكن يصبح مستحباً عند طروء عنوان (البلوغ عن النبي) عليه.

وهو المعروف بين الفقهاء، بل نسبه صاحب الكفاية(1) إلى المشهور.

الاحتمال الثاني: الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد(2)، حيث يحكم العقل بحسن الإتيان بالعمل بمجرد احتمال كونه محبوباً عند المولى، حتى لو لم تصل تلك الروايات.

وهو ما ذهب إليه جمع من الفقهاء، وفيهم بعض المعاصرين(3).

وتترتب على القولين ثمرات فقهية، كما ستأتي الإشارة إليها.

القول الأول: أخبار (من بلغ) تثبت الاستحباب الشرعي
اشارة

وقد استدل له بأدلة:

الدليل الأول

ما ذكره المحقق النائيني(4) بعنوان الاحتمال من أنّ جملة (فعمله) وإن كانت جملة خبرية لكنها بمعنى الإنشاء، كما هو الشأن في غالب الجمل

ص: 342


1- كفاية الأصول: 353.
2- الانقياد: الإتيان بالعمل بداعي احتمال المحبوبية (منه (رحمه اللّه) ).
3- تنقيح الأصول: 59؛ شرح المكاسب 2: 498؛ مصباح الفقاهة 3: 799.
4- فوائد الأصول 3: 412.

الخبرية الواردة في أبواب الأحكام، سواء كانت بصيغة الماضي، كقوله×: «من سرح لحيته فله كذا»(1) حيث تفيد الاستحباب أم بصيغة المضارع، كقوله×: «يسجد سجدتي السهو»(2) بمعنى ليسجد، فيكون مفاد الأحاديث فيما نحن فيه (فليعمله) فتدل على استحباب العمل الذي بلغ عليه ثواب. وقد ذكرت الكبرى الكلية حول الجمل الخبرية في مباحث الألفاظ(3).

لكنه محل تأمل؛ لأنّ للجملة الخبرية حالتين: فتارة تقع شرطاً أو جزءاً للجملة الشرطية، وتارة تقع جزاءاً في الجملة الشرطية أو تقع بعنوان القضية الحملية.

فلو كان على النحو الثاني كان مفادها التحريك نحو المادة، وتحريض على الفعل، وكان كاشفاً عن الوجوب أو استحباب المتعلق.

أما على النحو الأول فهو بمنزلة موضوع الحكم، ومعناه: الحكم بالمحمول على فرض تحقق الموضوع، وهذا المقدار لا يفيد الحث والتحريض كقوله: «من نام فعليه أن يجدد وضوءه»، فالنوم شرط أداة الشرط، ويفيد مجرد ترتب الحكم على فرض تحققه في الخارج، وجميع القضايا الحقيقية مآلها إلى ثبوت المحمول على فرض تحقق الموضوع، وهو لا يفيد التحريض والتحريك.

ص: 343


1- الكافي 6: 489.
2- الاستبصار 1: 359.
3- هداية المسترشدين 2: 681؛ أوثق الوسائل: 391؛ بدائع الافكار: 233.

وفيما نحن فيه (فعمله) جزء من الشرط في الجملة الشرطية، فقوله×: «من بلغه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيء من الثواب فعمله» شرط، وجزاؤه: «كان أجر ذلك له»(1)، فليست جملة (فعمله) بمعنى (فليعمل).

وبعبارة بسيطة: ليس ذلك عرفاً بمعنى (اعمله) فهو بعيد عن الذهن العرفي.

الدليل الثاني

ما استدل به صاحب الكفاية حيث قال: «إنّ صحيحة هشام ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتباً على نفس العمل، الذي بلغه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه ذو ثواب»(2).

وهو منحل إلى صغرى وكبرى:

أما الصغرى فهي: إنّ ظاهر الأخبار ترتب الثواب على ذات العمل.

وأما الكبرى: كلما كان الثواب مترتباً على ذات العمل فهو دليل استحبابه.

ولتوضيح الاستدلال نذكر ما ورد في المنتقى(3)

بعنوان الكبرى الكلية، حيث قال: «إنها مسلّمة وإنّ الخلاف بين صاحب الكفاية والشيخ الأعظم، وهكذا بين الفقهاء قديماً وحديثاً يرتبط بتطبيقها على الصغرى».

أما الكبرى المسلّمة فهي أنه لو ورد دليل يتكفل ترتّب الثواب على عمل لا يقتضي الثواب في حد ذاته، فهو كاشف عن ثبوت الأمر المولوي بالفعل

ص: 344


1- المحاسن 1: 25.
2- كفاية الأصول: 352.
3- منتقى الأصول 4: 519.

بلا إشكال، وهو مما يشاهد في موارد كثيرة من الروايات الشريفة.

أما لو اقتضى العمل الثواب في حد ذاته فترتّب الثواب عليه لا يكشف عن ثبوت الأمر كذلك.

ونذكر لذلك مثالين:

المثال الأول: لو ورد: «من قصر أظافره يوم الجمعة كان له كذا و كذا»، فقص الأظفار لا يقتضي الثواب في حد ذاته، حيث لم يحكم العقل - قبل ورود الدليل الشرعي - بذلك، وإنما ورود الأمر الشرعي كاشف عن ثبوت الأمر المولوي بقص الأظفار، ولولاه لم يكن وجه لترتب الثواب عليه، فإنه أنما يترتب الثواب لأنه مأمور به، ومستحب شرعاً.

المثال الثاني: لو ورد: «من انقاد للمولى فله كذا» فالانقياد في حد ذاته يقتضي الثواب، بمعنى أنّ الانبعاث الرجائي الاحتمالي للعبد في صراط تحصيل محبوب المولى يقتضي الثواب في حد ذاته، وإن لم يدل عليه دليل شرعي، وعليه يكون المثال المذكور أمراً إرشادياً لا يدل على الاستحباب.

وهذه الكبرى مسلمة وليست محل البحث والإشكال.

وإنما محور البحث ومحل الخلاف في المقام صغروي، وهو أنّ الثواب المذكور في أخبار (من بلغ) هل هو مترتب على ذات العمل الذي ورد الثواب عليه، أو مترتب على العمل المقيد، أي العمل الذي يؤتى به برجاء الثواب وبعنوان الانقياد.

فإن كان الموضوع ذات العمل فالروايات تفيد استحبابه؛ لعدم وجود

ص: 345

سبب لترتب الثواب على ذات العمل إلا كونه مستحباً، وإن كان موضوع ترتب الثواب الفعل المأتي به بداعي الانقياد وتحصيل الثواب، فروايات (من بلغ) لا تدل على الاستحباب، فإنّ الثواب مترتب على العمل لا بما هوهو، بل بما هو انقياد للمولى.

وقد اختار صاحب الكفاية(1) كون الموضوع ذات العمل، فتدل الروايات على الاستحباب، بينما اختار الشيخ الأعظم(2) أنّ الموضوع هو العمل المأتي به بداعي الثواب(3)، فلا تدل الروايات على الاستحباب.

إلا أنّ ما ذكر بعنوان الأمر المسلم محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: هل العمل الانقيادي يقتضي في نفسه ترتب الثواب؟

يمكن دعوى ذلك في المولى العرفي، أما المولى الحقيقي فهو محلّ تأمل، فإنه يملك العبد و ما يملكه بتمليكه إياه، بل حتى لو أطاع العبد مولاه الحقيقي فهل يستحق الثواب عليه عقلاً، بمعنى أنه لو لم يثبه لظلمه وسلب حقه(4)، أو أنّ الثواب تفضل ومنة ورحمة منه؟

ولأجل التوضيح نقول: لو كان العبد يعمل في ملك المولى فأهداه من ملكه هدية فهل يستحق الثواب؟ مع وجود الفارق بينه وبين المقام، فإنّ العبد وقواه ليس ملكاً حقيقياً للمولى، بل ملك اعتباري، واللّه تعالى مالك

ص: 346


1- كفاية الأصول: 352.
2- فرائد الأصول 2: 155.
3- وهو عبارة أخرى عن العمل الانقيادي.
4- فإن الظلم سلب ذي الحق حقه.

حقيقة للعبد ولكل ما يملكه، وقد قام العبد بالطاعة والانقياد بتقديم جزء واحد من آلاف الأجزاء التي ملكها المولى إياه، فهل يحق له أن يطالب بالثواب؟

إنّ هذا محل تأمل، ولا وضوح لحكم العقل بالاستحقاق الجزمي للثواب على الانقياد، بل حتى في الطاعة.

وعليه، فلا فرق بين الانقياد وبين تسريح اللحية، فكلاهما لا يقتضيان الثواب، والتفريق بينهما بلا فارق.

الجهة الثانية: سلمنا أنّ الانقياد في حد ذاته يقتضي الثواب عقلاً، مع قطع النظر عن ورود الأدلة الشرعية، لكن هل صرف وجود الحكم العقلي في مورد صارف عن ظهور الأوامر الشرعية من المولوية إلى الإرشادية مع وجود أصالة المولوية العقلائية؟ وقد مرّ في ضابط الأمر المولوي والإرشادي أنّ صرف وجود الأمر العقلي لا يصرف الأمر الشرعي الوارد فيه إلى الإرشادي.

وممن اختار هذا المبنى السيد الوالد في الأصول(1)، حيث يرى أنّ كل الأوامر الشرعية ظاهرة في المولوية، إلا إذا كان هنالك محذور عن الحمل على المولوية، كما في قوله تعالى: {أطيعوا اللّه} حيث ادعي أنّ الحمل عليها يوجب الدور أو التسلسل، فمع المحذور الخارجي لا بد من حمله على الإرشادية، وإلا فأصالة المولوية العقلائية محكمة.

وبناء على ذلك، فروايات (من بلغ) ظاهرة في المولوية، وهي تفيد

ص: 347


1- الأصول: 194- 195

الاستحباب على كلا التقديرين، سواء كان مفادها ترتب الثواب على ذات العمل، أم ترتب الثواب على العمل المأتي بقيد الرجاء.

وأما الصغرى فقد بينها في النهاية بمقدمتين تتعلقان بالثواب البالغ، وبالثواب الموعود.

أما المقدمة الأولى المرتبطة بالثواب البالغ، فقد قال: «إنّ الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل لا بداعي الثواب المحتمل أو الأمر المحتمل، فإنّ مضمون الخبر الضعيف كمضمون الخبر الصحيح من حيث تكفله للثواب على العمل»(1)، أي أنّ مفاد الخبر الضعيف هو أنّ نفس العمل - كقص الأظافر - فيه الثواب، لا أنّ الثواب مترتب على العمل بداعي احتمال الثواب، أو بداعي احتمال الأمر، فإنّ وزان الخبر الضعيف وزان الخبر الصحيح، فلو دل الخبر الصحيح على ثواب لزيارة الإمام الحسين× فظاهره أنّ الثواب مترتب على ذات العمل، فكذلك الخبر الضعيف.

أما المقدمة الثانية المرتبطة بالثواب الموعود الذي تضمنته أخبار (من بلغ) فقد قال: «إنّ أخبار من بلغ ظاهرة في كونها في مقام تقرير الثواب البالغ وتثبيته و تحقيقه»(2).

أي أنّ أخبار (من بلغ) تضمن الثواب البالغ بالخبر الضعيف، فلو كان الخبر الضعيف بوحده احتمل المكلف ترتب الثواب وعدمه، أما إذا كان مع أخبار (من بلغ) فالثواب حتمي.

ص: 348


1- نهاية الدراية 2: 533.
2- نهاية الدراية 2: 533.

ونتيجة ضم المقدمتين هو اتحاد الثواب الموعود بأخبار (من بلغ) مع الثواب البالغ بالخبر الضعيف، وهو الثواب على ذات العمل لا العمل المأتي به برجاء الثواب.

وبعبارة أخرى: إنّ أخبار (من بلغ) تشير إلى الثواب الوارد في الخبر الضعيف وتضمنه، والثواب المشار إليه مترتب على ذات العمل لا العمل الرجائي والانقيادي، ومع ضميمة المشير والمشار إليه يمكن القول بترتب الثواب على ذات العمل.

وقد ثبت في الكبرى أنه كلما ترتب الثواب على ذات العمل كان ذلك كاشفاً عن استحباب العمل، فيثبت ما ذكره المشهور.

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) (1) من أنّ مقتضى حرف (الفاء) في قوله×: «من بلغه ثواب على عمل فعلمه» التفريع، وهي تفيد داعوية الثواب المحتمل إلى العمل، فالعمل متفرع على البلوغ، والثواب المحتمل هو المحرك والباعث للعمل، ومحركية الثواب المحتمل نحو العمل مساوقة للانقياد، فإنّ الإتيان بشيء بداعي احتمال الثواب عبارة أخرى عن الانقياد إلى المولى، فيكون موضوع روايات (من بلغ) هو العمل الانقيادي.

وعليه فالثواب الموعود في أخبار من بلغ مترتب على العمل الذي يقتضي بذاته الثواب، وهذا الترتب لا يدل على استحباب العمل، فإنه أنما

ص: 349


1- فرائد الأصول 2: 155، وهو أول من وجدناه يذكر الإشكال، وربما طرح قبله.

يدل على الاستحباب إذا كان العمل لا يقتضي بنفسه الثواب، فروايات (من بلغ) لا تدل على الاستحباب.

وأجيب عنه بأجوبة:

الجواب الأول: ما ذكره في النهاية(1) من أنّ التفريع على نحوين:

الأول: تفريع المعلول على علته الغائية، ومثاله: (وجب عليَّ كذا ففعلته)، فإنّ علة الفعل الوجوب، ولو تحقق هذا المعنى في المقام كان مفاده أنّ العمل منبعث عن الثواب المحتمل، فالعمل معلول والثواب المحتمل علة.

الثاني: مجرد الترتب، فالفاء تفيد التعقب الترتبي في الوجود، من دون أن يكون المترتب عليه علة للمترتب، وإنما ترتب العمل على الثواب المحتمل لا لكون الثواب المحتمل باعثاً للعمل، بل من باب أنّ موضوع (كان له ذلك) ليس مجرد العمل وإنما البلوغ مع العمل، وبعبارة أخرى: ليس موضوع ضمان الثواب في صحيحة هشام ذات العمل، بل البلوغ مع العمل وإلا فإنّ العمل المجرد لا يترتب عليه الثواب الموعود بأخبار (من بلغ)، وهذا المعنى لا يفيد انبعاث العمل من الثواب المحتمل البالغ.

إن قلت: فهل ورد في اللغة (الفاء) لمجرد الترتب؟

قلت: نعم، ويظهر ذلك في هذا المثال (سمع فلان الأذان فبادر إلى المسجد)، فليس سماع الأذان علة المبادرة إلى المسجد، بل إدراك فضيلة المبادرة علة للمبادرة.

وعليه فوجود (الفاء) يفيد مجرد الترتب، لا عليّة المترتب عليه للمترتب.

ص: 350


1- نهاية الدراية 2: 534.

وحيث إنّ في (الفاء) احتمالين: تعقيب وتعليل، فلا ينثلم الظهور الذي ادعاه صاحب الكفاية(1)، من أنّ ظاهر صحيحة هشام اتحاد الثواب الموعود مع الثواب البالغ. نعم، لو كانت (الفاء) ظاهرة في العلّية اصطدم الظهوران(2).

إن قلت: إنّ ما ذكر في النهاية: من كون الفاء للترتب لا للتعليل، لا يجدي؛ لكونه صرف احتمال.

قلت: مجرد الاحتمال كافٍ لإثبات كلام صاحب الكفاية، حيث إنه مع الإجمال المذكور، يبقى الظهور الأولي لاتحاد الثواب الموعود مع الثواب البالغ مستقراً.

وأشكل على ما ذكر في النهاية(3) - بعد التسليم بكون (الفاء) تنقسم إلى نحوين ثبوتاً - بأنها ظاهرة في التعليل في خصوص المقام، فيكون علة العمل الثواب المحتمل، فيعود الإشكال؛ لأنّ العمل الذي هو معلول للثواب المحتمل مساوق للانقياد والاحتياط، وهو بذاته يقتضي الثواب، فثبوت الثواب له لا يدل على استحبابه، فيتعارض الظهوران، و بذلك تسقط قاعدة التسامح في أدلة السن.

الجواب الثاني(4): إنّ التفريع نوعان:

الأول: تفريع العمل على الداعي، كقوله: (وجب عليَّ كذا فأدّيته) فإنّ الوجوب داع للأداء.

ص: 351


1- كفاية الأصول: 352.
2- الظهور الذي ادعاه صاحب الكفاية، والظهور المدعى للشيخ الأعظم.
3- نهاية الدراية 2: 534.
4- وربما يكون مآله إلى الجواب الأول أو قريباً إليه.

الثاني: تفريع العمل على موضوع الداعي، كقوله: (من دخل عليه الوقت فصلّى فله كذا من الأجر)، فمدخول (الفاء) ليس معلولاً لما قبلها، فإنّ دخول الوقت ليس علة للصلاة، وأما الداعي فلم يذكر، فربما يكون الداعي هو الثواب الموعود، أو التقرب إلى اللّه تعالى، أو حبه سبحانه أو لكونه أهلاً للعبادة، نعم، يكون دخول الوقت موضوعاً لوجود الداعي، ولولاه لم يكن مجال لمحركية الداعي إلى ما يدعو إليه.

وعليه، فيمكن أن يكون التفريع تفريع العمل على موضوع الداعي لا نفسه.

فما ذكر من أنّ (الفاء) في صحيحة هشام تدل على أنّ العمل بداعي الثواب المحتمل غير تام، بل بلوغ الثواب موضوع الداعي، وأما الداعي ففيه احتمالات، منها: لبلوغ الثواب المحتمل كما يفعله عامة الناس، فإنّ عبادتهم عبادة الأُجراء أو العبيد، ومنها الحب لله تعالى، ومنها التقرب إليه، فلا ينحصر مفاد صحيحة هشام في عبادة الأُجراء والعبيد فقط، بل يشمل الدواعي الأُخَر أيضاً.

وبناء عليه ينتفي ما ذكر من تفريع المعلول على علته، بل يكون العمل بنفسه موضوع الثواب بأي داع كان، فالمهم في العمل العبادي أن يضاف إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة، سواء كانت الإضافة بعنوان حصول الثواب أم التقرب أم أي عنوان آخر.

والحاصل: إنّ العمل مطلق، وترتّب الثواب على العمل المطلق دليل على استحبابه.

الجواب الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية بعد التسليم بكون الفاء تفيد

ص: 352

الداعوية، وأنّ الداعي هو الثواب المحتمل، وأنّ مفاد روايات (من بلغ) هو العمل بداعي الثواب المذكور المساوق للانقياد(1)،

حيث قال: «وكون العمل متفرعاً على البلوغ، وكونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب، إنما يكون مترتباً عليه... بداهة أنّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذاك الوجه والعنوان»(2).

ولهذه العبارة توضيح بسيط وبيان فني. أما التوضيح البسيط فهو: إنّ الداعي المحتمل جهة تعليلية للعمل، فيكون خارجاً عن حقيقته، وليس جهة تقييدية حتى يكون جزء الموضوع، والثواب مترتب على العمل مع هذه الحيثية التقييدية.

وأما البيان الفني فهو: عندنا في المقام داع ومدعو إليه(3)، وقد ثبت في محله أنّ الداعي متقدم على المدعو إليه بماهيته، وإن كان متأخراً عنه بإنيته(4)، والشيء المتقدم على العمل لا يعقل أن يؤخذ فيه، فلم يؤخذ الثواب المحتمل في الموضوع، بل هو باعث ومحرك، والموضوع ذات العمل، فترتّب الثواب عليه دليل على الاستحباب.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى أنّ مرجع الحيثيات التعليلية في الأحكام

ص: 353


1- وإن لم يصرح فيه بالتسليم، وهذا الجواب بخلاف الجوابين الأولين، حيث لم يسلم فيهما بإفادة (الفاء) للداعوية.
2- كفاية الأصول: 352.
3- الداعي هو الثواب المحتمل، والمدعو إليه هو العمل.
4- فالبناء مثلاً يبني الدار للسكنى فيها، والسكنى بماهيتها متقدمة على العمل، وهذا الأمر جار في كل غاية.

إلى الحيثيات التقييدية، فلوقال المولى: (من ضرب اليتيم تأديباً فلا دية عليه)(1) فإنّ التأديب وإن كان حيثية تعليلية للضرب، ولكن مآلها إلى الحيثية التقييدية، فيكون الموضوع هو (الضرب التأديبي) ويترتب عليه الحكم بأن لا دية فيه مثلا ً.

وليس المدعى أخذ الداعي في المدعو حتى يشكل عليه باستلزامه لتقدم الشيء على نفسه، بل أخذ الداعي في الموضوع، ولا مانع من أخذ مجموع الداعي والمدعو موضوعاً لمحمول، وفي المقام يكون رجاء الثواب جزء الموضوع لا خارجه، فلا يدل على الاستحباب؛ لكونه مساوقاً للانقياد.

الجواب الرابع(2): لا نسلم اقتضاء الانقياد في حد ذاته للثواب، هذا أولاً، وثانياً: لا نسلم أنّ ما يقتضي الثواب في حد ذاته لا يؤمر به على نحو المولوية، وقد مرّ توضيحه.

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه أنّ الإشكال الأول(3) على الدليل الثاني(4) غير وارد لبعض هذه الأجوبة الأربعة.

الإشكال الثاني(5): مستند إلى القرينة الخارجية(6)، وهي الروايات

ص: 354


1- كما يراه بعض الفقهاء.
2- بعد رفع اليد عن جميع الأجوبة المتقدمة، والتسليم بأنه تفريع المعلول على العلة، وأنه من تعنون العمل بعنوان الثواب المحتمل، وأن الثواب المحتمل حيثية تقييدية، وأنه مساوق للانقياد.
3- وهو ظهور (الفاء) في التفريع، المقتضي لداعوية الثواب المحتمل إلى العمل.
4- وهو أن ظاهر الصحيحة ترتب الثواب على ذات العمل.
5- على كلام صاحب الكفاية.
6- بينما كان الإشكال الأول مستنداً إلى القرينة الداخلية وهي (الفاء).

المقيدة، حيث إنّ مفادها عدم ترتب الثواب على ذات العمل، وإنما على العمل الذي يؤتى به برجاء الثواب المحتمل، ومقتضى حمل المطلق على المقيد تقييد إطلاق صحيحة هشام بالقيد المذكور في بقية روايات الباب، وهو (فعمله التماس ذلك الثواب) وهو مفعول لأجله، معناه أنّ الالتماس محرك وباعث نحو العمل.

ويرد عليه إيرادات:

الإيراد الأول: إنّ الروايات المقيدة ضعيفة بأجمعها، فما عثرنا عليه روايتان:

الأولى: ما ورد في الوسائل: عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي(1)، عن أبيه(2)، عن أحمد بن النضر(3)، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه× قال: «من بلغه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان له ذلك الثواب، وإن كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يقله»(4).

والشاهد في قوله×: «طلب قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » وهو مفعول لأجله، أي ففعله بهذا القيد.

إلا أنّ محمد بن مروان مشترك، لا يعلم أنه الثقة أو الضعيف، فالرواية ساقطة عن الاعتبار.

ص: 355


1- أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، صاحب كتاب المحاسن، ثقة.
2- أبو عبد اللّه محمد بن خالد البرقي، ثقة و إن كان يعتمد المراسيل ويروي الضعاف.
3- أحمد بن النضر، ثقة.
4- وسائل الشيعة 1: 81.

الثانية: ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمران الزعفراني، عن محمد بن مروان، قال: سمعت أبا جعفر× يقول: «من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه»(1)(2).

وفي السند مواضع للتأمل:

الأول: لقد اختلف في وثاقة محمد بن سنان، وربما لم يعتمد المشهور على رواياته.

الثاني: عمران الزعفراني مشترك بين عمران بن عبد الرحيم الزعفراني، وعمران بن إسحاق الكوفي الزعفراني، وهما من أصحاب الإمام الصادق× ولم يصرح بوثاقتهما، إلا على مبنى وثاقة جميع أصحابه×، وقد رد المبنى في محله.

الثالث: محمد بن مروان مشترك.

ويمكن طرح إشكال في المقام، وهو أنّ صحيحة هشام تجبر ضعف روايتي محمد بن مروان، فيندفع إشكال الضعف.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى أنّ ما ينجبر ضعفه بصحيحة هشام هو الخبر الضعيف، الذي يثبت الثواب على عمل، لا الخبر الضعيف الذي ينفي الثواب على عمل، ومقتضى التقييد في الروايتين نفي الثواب على المطلق،

ص: 356


1- الكافي 2: 87.
2- وهي غير الرواية الأولى لاختلاف المروي عنه، فالأولى رويت عن الإمام الصادق ×، وهذه عن الإمام الباقر × (منه (رحمه اللّه) ).

فلا ينجبر الضعف.

وبعبارة أخرى: إنّ محل البحث هو هل ثبوت الثواب على مطلق العمل(1)، أو على العمل المقيد؟ ومفاد الخبرين نفي الثواب عن المطلق فلا تجبرهما صحيحة هشام بهذا اللحاظ.

والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر، حيث لم أرَ من تعرض للإشكال على الروايات المقيدة بهذا الوجه.

الإيراد الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية(2) من أنه لا موجب للتقييد؛ لعدم المنافاة بين المفادين، فإنه إنما يكون تقييد المطلق تاماً فيما لو كان مفاده منافياً لمفاد المقيد، فيقتضي التوفيق العرفي حمل المطلق على المقيد، ولا منافاة بين المفادين في المقام، فمفاد صحيحة هشام ثبوت الثواب على ذات العمل، ومفاد رواية مروان ثبوت الثواب على العمل الذي أتي به برجاء إدراك الثواب، وثبوت الثواب على العمل بما هو هو لا ينافي ثبوت الثواب على العمل المتلون بلون، فمفاد صحيحة هشام حكم مولوي، ومفاد رواية مروان حكم إرشادي.

وبعبارة أخرى: الحكم المولوي موضوعه الماهية المطلقة، والحكم الإرشادي موضوعه الماهية المقيدة، ولا تنافي بين المفادين حتى نضطر إلى الجمع بين الدليلين بحمل المطلق على المقيد.

وعليه يبقى المطلق على إطلاقه، وهو مساوق لثبوت الاستحباب الشرعي.

ص: 357


1- كما هو مفاد صحيحة هشام.
2- كفاية الأصول: 353.

لكن أشكل عليه في النهاية(1) بوحدة السياق، وأنّ الروايات في مقام ترتب سنخ واحد من الثواب على موضوع واحد، وتبعه في ذلك السيد الروحاني(2).

إلا أن وحدة موضوع الأخبار بما يؤدي إلى حمل المطلق على المقيد، وصرف الأخبار المطلقة عن المولوية إلى الإرشادية مما لا تطمئن به النفس.

فهنالك روايات كثيرة في مختلف أبواب الفقه، بعضها مطلقة وبعضها مقيدة، ولا مانع من إبقاء المطلق على إطلاقه مع عدم المنافاة بينهما(3)، فإنّ الماهية اللا بشرط والماهية بشرط شيء موضوعان وجداناً، وفي صحيحة هشام الماهية لا بشرط، وفي رواية مروان الماهية بشرط شيء.

فالقول بأنّ السياق يوحد الموضوع محل تأمل.

الإيراد الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(4)

من عدم جريان حمل المطلق على المقيّد في باب المستحبات(5)، وإنما يحمل على تعدد مراتب الاستحباب(6)، فإنّ المقيّد مرتبة أعلى من مراتب الاستحباب، وهو لا ينافي استحباب المطلق، فتبقى الصحيحة والروايتان على ما هي عليه.

ص: 358


1- نهاية الدراية 2: 537.
2- منتقى الأصول 4: 521.
3- كما لو قال المولى: «ادع بدعاء كميل فلك كذا» وقال: «ادع بدعاء كميل ليلة الجمعة فلك كذا».
4- بعنوان الإشارة لا الرضى والقبول.
5- اجود التقريرات 3: 364.
6- كقولي المولى: (صل صلاة الليل) و (صل صلاة الليل خاشعاً).

وأشكل عليه في النهاية(1) بما إجماله: إنّ الجامع المشترك بين المطلق والمقيد في باب المستحبات سبب عدم حمل الأول على الثاني، فإنّ الماهية المشتركة لها مراتب، كما قال:

مراتباً غنىً وفقراً تختلف***كالنور حيثما تقوى وضعف

لكن فيما نحن فيه لا جامع مشترك بينهما، لأنّ المقيد راجح عقلي، والمطلق مستحب شرعي، فليس المقيد من مراتب المستحب الشرعي، فهما حقيقتان، ولا معنى للقول: إنّ الراجح العقلي مرتبة عليا من مراتب الرجحان الشرعي، وكيف يكون المباين مرتبة من مراتب مباينه؟ فلا يجري الملاك المذكور في المقام.

لكنه محل تأمل؛ لأنه مبتن على أنه كلما ورد الأمر شرعي في مورد الأمر العقلي حمل على الإرشاد، والمستفاد من كلام المحقق النائيني إبقاء المقيد على الاستحباب الشرعي، فمفاد عبارته أنّ المطلق والمقيد مستحبان شرعيان، فيحمل على المراتب، والإشكال المذكور خروج عن المبنى.

هذا تمام الكلام في الدليل الثاني على الاستحباب الشرعي.

الدليل الثالث

كون المولى في مقام الترغيب على العمل كاشف عن استحبابه(2).

وبعبارة أخرى: الترغيب كاشف عن المحبوبية، وهي ملازمة للأمر؛ لأنها

ص: 359


1- نهاية الدراية 2: 536.
2- وهو استدلال على الاستحباب بالمقام، فإن هدف المولى وغرضه الحث والتحريض على الفعل، وهذا المقام يفيد استحباب العمل، بخلاف الدليلين السابقين حيث استدلا بالمتن (منه (رحمه اللّه) ).

تقتضيه، إلا أنّ تأثير المقتضي في المقتضى(1) موقوف على عدم المانع، وكون المولى في مقام الحث والتحريض والترغيب كاشف عن انتفاء المانع، وبعد تحقق المقتضي للأمر وانتفاء المانع تتم العلة، فيكون وجود المعلول حتمياً.

وربما يظهر هذا الوجه من ثنايا كلمات المحقق الإصفهاني.

لكن أشكل عليه في المنتقى(2) بما محصله: إنه يوجد في المسألة مقامان: الأول: مقام الترغيب والتحريض، والثاني: مقام بيان التفضل الإلهي، والأول ملازم لمحبوبية العمل واستحبابه، أما الثاني فلا، وأخبار (من بلغ) ظاهرة في مقام بيان التفضل الإلهي وإحسانه، وأنّ المولى الجليل لا يخيب من أمله ورجاه، ولا يضيع تعب من تعب لأجل الثواب الذي تخيله، فمن يرجو المولى الجليل وينادي: «إلهي قرعت باب رحمتك بيد رجائي»(3) لا يخيب أمله ورجاه، فلا يلازم ذلك الاستحباب.

ويقرب هذا المعنى الشواهد العرفية، فهذه العبارة (من قصد داري بتخيل وجود الطعام فيه لا أخيب رجاءه) في مقام بيان النفسية الرفيعة لصاحب الدار، فلا تدل على محبوبية قصد داره، بل من الممكن أن يكون ذلك مبغوضاً له لضيق ذات يده ووقوعه في الكلفة، لكنه لا يقطع أمل الآملين.

ويحتمل أن تكون أخبار (من بلغ) في مقام بيان التفضل الإلهي ثبوتاً، وهو لا يلازم استحباب العمل، بل قد يكون العمل مباحاً أو مكروهاً.

ص: 360


1- وهو الأمر.
2- منتقى الأصول 4: 525.
3- فرائد الأصول 2: 156-157.

ويستفاد هذا المعنى أو نظيره من أواخر كلام الشيخ الأعظم في الرسائل(1)، حيث استشهد بقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(2) فليست الآية في مقام الحث والتحريض بإتيان الحسنة، بل في مقام بيان الفضل الإلهي، وأنه تعالى عطوف حنان منان، وذلك بدليل الجملة الثانية، حيث قال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}(3) فهي في مقام بيان العدل الإلهي، فلا تفيد الجملتان لا الترغيب ولا الترهيب.

ولا أقل من الاحتمال في كون روايات الباب في هذا المقام، وهو مسقط لاستدلال المشهور.

وهذا الإشكال يصلح إيراداً على الدليل الثاني أيضاً، فالقول إنّ ترتيب الثواب على ذات العمل دليل على استحبابه، إنما يكون تاماً فيما لو لم يكن المقام مقام بيان التفضل، وإلا فلا يفيد الاستحباب.

وهو وارد إلا أن يقال: إنّ المنساق من الروايات - عرفاً - كون المولى في مقام الحث والترغيب، وهذا الظهور العرفي لا ينافيه الاحتمال العقلي، فإنّ احتمال التفضل عقلي دقي.

الدليل الرابع

فهم المشهور، فإنّ المشهور بين الفقهاء إفادة أخبار (من بلغ) الاستحباب.

والتتبع في الفقه كفيل بإثباته، وقد أشار إليه جمع من الفقهاء

ص: 361


1- فرائد الأصول 2: 156-157.
2- الأنعام: 159.
3- الأنعام: 160.

والأصوليين، منهم صاحب الكفاية(1) والمحقق النائيني(2) والسيد الروحاني(3) حيث صرحوا بأنه قول المشهور، وقال في المهذب: «إنّ هذا القول منسوب إلى المشهور»(4) وقال الشيخ الأعظم في رسالة التسامح: «المشهور بين أصحابنا»(5) وقال الشهيد الثاني في الرعاية: «لما اشتهر بين العلماء المحققين من التساهل في أدلة السنن»(6).

ويشهد له ما في الكتب الفقهية، كالشرائع والرسائل العملية من بيان المستحبات في كل باب، مع أنّ أدلة غالبها ربما تكون ضعيفة، وكأنّ الأمر مفروغ منه، نعم، قد شكك في ذلك في البرهة الأخيرة، وإلا فإنّ الكتب الفقهية من الشيخ إلى السيد(7) مبنية على استحباب المستحبات.

وعلى كل حال، فإنّ فهم المشهور الاستحباب ثابت ظاهراً، وهو جابر للدلالة على فرض القصور الدلالي للخبر.

وقد مرّ في مباحث الشهرة أدلة حجية فهم المشهور، وأنّ الشهرة الروائية والعملية والفتوائية مشمولة للأدلة المتقدمة على حجية الشهرة، وقد نقلنا عن السيد السبزواري(8) أنّ من أراد أن يفتي في الفقه بلا اعتماد على الشهرة

ص: 362


1- كفاية الأصول : 353.
2- فوائد الأصول 3: 415.
3- منتقى الأصول 4: 527.
4- مهذب الأحكام 2: 171.
5- رسالة في التسامح في ادلّة السنن: 11.
6- الرعاية: 137.
7- الشيخ الطوسي إلى السيد محمد كاظم اليزدي.
8- مهذب الأحكام 2: 239.

لحصل له فقه جديد لا يقبله الشيعة ولا العامّة ولا أهل الكتاب.

الدليل الخامس

إنه نوع احتياط، فتشمله أوامر (احتط)، فيكون مستحباً بأدلة الاحتياط لا بروايات (من بلغ).

لكنه محل تأمل؛ لأنّ الاحتياط في العمل الذي بلغ عليه الثواب إنّما يكون بالإتيان به برجاء المطلوبية، وأما بعنوان الاستحباب فخلاف الاحتياط؛ لأنه تشريع، وهو إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين، فإنّ نسبة الاستحباب إلى المولى كنسبة الوجوب إليه تشريع، فلا يمكن الإفتاء باستحباب العمل، كما أنّ المكلف لا يمكنه الإتيان به بعنوان الاستحباب.

نعم، يمكن القول: إنّ الإتيان به برجاء المحبوبية مستحب، بمعنى أنّ الإتيان بكل مستحب لم يثبت بخبر صحيح برجاء مطلوبيته مستحب بأوامر احتط، لكن لا يمكن إثبات استحبابه بذلك.

هذا تمام الكلام في أدلة القول الأول، وربما العمدة فيها فهم المشهور.

القول الثاني: مفاد أخبار (من بلغ) الإرشاد إلى حكم العقل بالانقياد

إنّ مفاد أخبار (من بلغ) هو الإرشاد إلى حكم العقل، فإنه يأمر بالانقياد المقتضي للثواب، ومفاد الأخبار ترتيب الثواب على الانقياد، فتكون إرشاداً إلى حكمه، بناء على أنه كلما ورد أمر شرعي في مورد الأمر العقلي كان إرشادياً.

أما البحث الكبروي فقد مرّ.

وأما البحث الصغروي فقد أشكل عليه في النهاية بما خلاصته أنه لو كان مفاد الروايات الترتّب الطبيعي للثواب على العمل لكان إرشادياً، إلا أنّ مفادها ترتب الثواب الخاص على العمل، وهذا الثواب الخاص مما لا

ص: 363

يحكم به العقل، فتكون الروايات مولوية لا إرشادية.

قال: «والتحقيق أنّ حمل هذه الأخبار على الإرشاد إلى ثواب الانقياد بعيد عن السداد، وذلك أنّ الثواب الذي يمكن الإرشاد إليه لا بد من ثبوته لا من ناحية الإرشاد، بل بحكم العقل والعقلاء، وليس هو إلا أصل الثواب، وأما الوعد بالثواب الخاص فليس من الشارع بما هو عاقل، وإلا لحكم به سائر العقلاء، بل بما هو شارع؛ ترغيباً في فعل تعلق به غرض مولوي، فيكشف عن محبوبية مولوية ومطلوبية شرعية»(1).

ولذا اختار القول الأول.

ويرد عليه نفس الشبهة الواردة في البحث المتقدم، وهي أننا نسلّم أنّ المولى بما هو مولى - لا بما هو عاقل من العقلاء - عيّن الثواب الخاص وأعمل المولوية في المقام، لكن هل هو في مقام الترغيب الملازم للاستحباب، أو أنه في مقام بيان التفضل، بل قد يكون مباحاً أو مبغوضاً لوجود مفسدة فيه، إلا أنه لا يخيب أمل من أمله لجوده وكرمه، فلا يفيد الاستحباب الشرعي؟

إلا أن يدفع هذا الاحتمال بالظهور العرفي أو بفهم المشهور.

يبقى الكلام في الثمرة(2) التي تترتب على كل واحد من القولين، بعد العلم بكون الثواب مضموناً قطعاً بأخبار (من بلغ) على كليهما، سواء كان مفاد الأخبار الاستحباب أم الإرشاد، فلا فرق بينهما بهذا اللحاظ. والثمرات هي:

ص: 364


1- نهاية الدراية 2: 538.
2- أو الثمرات (منه (رحمه اللّه) ).
الثمرات المترتبة على القولين
الثمرة الأولى

وتظهر الثمرة في فتوى المفتي وعمل المستفتي، فلو قلنا: إنّ الأخبار تفيد الاستحباب أمكن للفقيه الفتوى بالاستحباب، وإن كانت الرواية ضعيفة، وأما مع اختيار القول الثاني فلا يمكنه الإفتاء كذلك، حيث لم يثبت أنه مستحب؛ لكون الخبر ضعيفاً، وأخبار (من بلغ) لا تفيد الاستحباب، فيكون تشريعاً، وهو إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين، حيث لا يخص دائرة الواجبات والمحرمات، بل يشمل الأحكام الخمسة، فلا بد أن يفتي بالإتيان به برجاء المطلوبية، وهكذا الأمر في عمل المستفتي، حيث يلزم أن يأتي به بعنوان رجاء المطلوبية لا بعنوان أنه من المستحبات الشرعية(1).

الثمرة الثانية

ما ذكره الشيخ الأعظم(2): لو فرض دلالة الخبر الضعيف(3) على غسل المسترسل من اللحية(4)، فبناء على الاستحباب لو جفت اليد(5) قبل مسح

ص: 365


1- والعجيب أن الشيخ لم يذكر هذه الثمرة ظاهراً (منه (رحمه اللّه) ).
2- فرائد الأصول 2: 158.
3- ولا يوجد خبر ضعيف في المقام حسب الاستقراء الناقص، وإنما فتوى فقيهين فحسب، وهما الإسكافي والشهيد في الذكرى، وسيأتي أن فتوى الفقيه كافية لشمول أخبار من بلغ (منه (رحمه اللّه) ).
4- أي اللحية الخارجة عن حد الوجه، وهو في طرف الطول المنتهي إلى الذقن، وفي طرف العرض مادارت عليه الابهام والوسطی، فما خرج عن الحدّ المذكور كان مسترسلاً (منه (رحمه اللّه) ).
5- بل حتى لو لم تجف حسب فتوى صاحب العروة وجمع من الفقهاء، فالملاك مسح الرأس والرجلين ببلة الوضوء لا بلة الكف، فيصح أخذ البلل من محال الوضوء والمسح به وإن لم تجف اليد.

الرأس والرجلين أمكن الأخذ من بلل المسترسل للمسح؛ لأنه بلل جزء مستحب من الوضوء، حيث ثبت أن غسل المسترسل جزء مستحب.

وأما بناء على القول الثاني فلم يثبت أنّ بلل المسترسل بلل الوضوء، فلا يمكنه الأخذ من المسترسل للمسح.

وأشكل على هذه الثمرة بإشكالات:

الاشكال الأول ما ذكره صاحب الكفاية، حيث قال: «إن المسح لا بد أن يكون من بلل الوضوء ولا يصح ببلل ما ليس منه، ولو كان مستحباً فيه»(1).

توضيحه: إنّ أخبار (من بلغ) تفيد الاستحباب على المشهور، إلا أنه لا يلازم الجزئية، فيمكن أن يكون غسل المسترسل مستحباً في ضمن واجب أو مستحب، كدعاء (اللّهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه) وليس جزء الوضوء، وإنما هو مستحب مستقل ظرفه الوضوء، وهنالك فرق بين أن يكون الشيء جزء الوضوء وبين أن يكون ظرفه الوضوء، وفي المقام (اغسل) يفيد الاستحباب لا الجزئية ولا يصح المسح إلا ببلة الوضوء.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى أنّ الاستحباب في مثل المقام ظاهر عرفاً في الجزئية، وأما كونه مستحباً نفسياً ظرفه الوضوء فبعيد عن الأذهان العرفية، فتصح الثمرة المذكورة.

وتمامية ذلك موقوف على إمكان وجود الجزء الاستحبابي، أما بناء على كونه محالاً فلا بد أن نقول: إنه مستحب مستقل في ظرف الوضوء.

وبعبارة أخرى: يوجد في المقام أمران لا بد من إثباتهما حتى يتم رد

ص: 366


1- درر الفوائد 1: 227.

الإشكال المذكور، الأول: إمكان وجود الجزء الاستحبابي ثبوتاً، والثاني: ظهور الرواية في أنّ غسل المسترسل جزء استحبابي من الوضوء.

والمختار في المقام الأول إمكانه، فلا مانع من وجود الجزء الاستحبابي بلحاظ عالم الثبوت، وله نظائر عرفية، كوجود السرداب في البيت، حيث إنه ليس جزءاً مقوماً، بل جزء استحبابي إن وجد كان جزءاً من البيت، وإن لم يوجد كان مفهوم البيت صادقاً بلا أي نقص، ويوكل بحثه إلى محله.

وأما في المقام الثاني فالظاهر: أنّ العرف يفهم الجزئية، ولا يفهم أنه مستحب مستقل في ضمن واجب أو مستحب.

إن قلت: إنّ الخبر الضعيف متضمن للاستحباب وللجزئية، وأخبار (من بلغ) تمضي الأول فقط.

قلت: إنّ أخبار (من بلغ) تفيد استحباب العمل بالنحو البالغ، لا إنها تفيد طبيعي الاستحباب فحسب، فلو تضمن الخبر الضعيف خصوصية مكانية أو زمانية في المستحب، فإنّ أخبار (من بلغ) تمضي الاستحباب بنفس تلك الخصوصية، وهو واضح، وهكذا لو تضمن الخبر الضعيف الخصوصية الاستقلالية، بأن يكون مفاده الاستحباب على نحو الاستقلال أو الجزئية أو الشرطية، فأخبار من بلغ تمضي الاستحباب مع هذه الخصوصية، فيثبت الاستحباب وتثبت الاستقلالية أو الجزئية أو الشرطية، والسند في هذا المدعى الظهور العرفي لأخبار (من بلغ).

الإشكال الثاني: ما أورده الشيخ الأعظم(1)، وتوضيحه: نسلّم أنّ

ص: 367


1- كتاب الطهارة 2: 263.

الاستحباب ملازم للجزئية، لكن لا دليل على جواز الأخذ من بلة كل جزء حتى من الأجزاء المستحب غسلها، وإنما الثابت صحة الأخذ من الأجزاء المقومة لماهية الوضوء، أما ما يكون كمالاً للوضوء فلم يثبت جواز الأخذ من بلته.

وتبعه في الإشكال المذكور جمع من الفقهاء.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان دعوى ظهور الأخبار في جواز المسح ببلة الوضوء مطلقاً، ولا دليل على التقييد المذكور.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه×: «إذا ذكرت وأنت في صلاتك أنك قد تركت شيئاً من وضوئك...» إلى أن قال×: «ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدم رأسك»(1).

فلم يقيد فيها بكون البلة مقومة للماهية أو غير مقومة.

وكذا سائر الروايات، فما ذكره الشيخ محل تأمل.

الإشكال الثالث: بعد تسليم الملازمة بين الاستحباب والجزئية، وتسليم جواز أخذ البلة من جميع الأجزاء، سواء كان غسلها واجباً أم مستحباً، إلا أنّ المقام خارج من أخبار (من بلغ) على نحو الخروج الموضوعي.

بيانه: إنّ الأخبار تفيد استحباب ما بلغ عليه الثواب، ولم يبلغ الثواب على غسل المسترسل؛ لأنّ الخبر الضعيف أفاد الاستحباب الضمني لغسل المسترسل، ولا ثواب عليه، بل الثواب ثابت على المجموع المركب، ولا

ص: 368


1- وسائل الشيعة 1: 408.

يتوزع على الأبعاض، أو لا أقل من عدم ثبوته عليها، وحيث لم يبلغ الثواب على غسل المسترسل فلا يثبت استحباب الغسل المزبور بأخبار (من بلغ).

فلا يمكن إثبات استحباب غسل المسترسل لا بخبره لأنه ضعيف، ولا بأخبار (من بلغ) لأنه لم يبلغ ثواب عليه، والمفروض أنّ المسح لا بد أن يكون ببلة الأجزاء الواجبة أو المستحبة الغسل في الوضوء.

ويمكن دفعه بمقدمات:

المقدمة الأولى: إنّ الخبر الضعيف الدال على الأمر الضمني، دال بالملازمة على ترتب الثواب على المجموع المركب من هذا الجزء وسائر الأجزاء.

أما الملازمة فلما ثبت أنّ الإتيان بالمأمور به مستلزم للثواب ولو تفضلاً، لا استحقاقاً، وأما الدلالة فلما ثبت في محله أنّ الإخبار بالشيء إخبار بلوازمه وملزوماته وملازماته، سواء كانت اللوازم بينة بالمعنى الأخص أم بالمعنى الأعم أم غير بينة، حتى وإن لم يلتفت المتكلم إليها، وبناء عليه يدّل الخبر الضعيف بالملازمة على ترتب الثواب على المجموع المركب.

المقدمة الثانية: فيثبت استحباب المجموع المركب بأخبار (من بلغ)، فإنه لو تضمن الخبر الضعيف وجود الثواب على المجموع المركب فإنّ أخبار (من بلغ) تفيد استحباب المجموع المركب على المشهور.

المقدمة الثالثة: إنّ ثبوت استحباب المجموع المركب بأخبار (من بلغ) ملازم لثبوت جزئية أبعاض المجموع المركب، فيثبت جزئية المشكوك.

والنتيجة: فيجوز المسح ببلة المسترسل، وإن لم يثبت استحباب غسل المسترسل بأخبار (من بلغ)، لأنه جزء وقد فرض جواز المسح ببلة جميع

ص: 369

أعضاء الوضوء.

الإشكال الرابع(1) ما ذكره السيد الوالد في الفقه، قال: «ذهب المشهور إلى جواز الأخذ منه؛ لصدق ماء الوضوء عليه، سواء قلنا باستحباب غسل المسترسل أم لم نقل باستحباب غسله؛ لإطلاق دليل الأخذ من اللحية مع تعارف الاسترسال، ولم ينبه على عدم جواز الأخذ من مسترسل اللحية، فالقول بأنه لو لم نقل باستحباب الغسل يكون حال بلل المسترسل كسائر البلل الخارج عن محال الوضوء لا وجه له»(2).

ففي صحيحة الحلبي: «أن تأخذ من لحيتك بللها»(3) والعرف يفهم تمام اللحية لا اللحية الداخلة في الحد، فإنّ إطلاقها وإطلاق سائر الروايات دليل على جواز الأخذ مطلقاً، سواء كان البلل الخارج من الحد جزء الوضوء أم لم يكن.

ولو قيل: إنّ الأمر دائر بين أحد تقييدين: إما تقييد ما دل على الأخذ من بلة اللحية بكونها داخلة في الحد، وإما تقييد وجوب كون المسح ببلة الوضوء ببلة غير اللحية، فإما أن نقيد صحيحة الحلبي بالأدلة الدالة على لزوم كون المسح ببلة الوضوء، وإما أن نقيد تلك الأدلة ب- (إلا في اللحية)،

ص: 370


1- ومفاده عكس مفاد الإشكالات الثلاثة المتقدمة، حيث كان مفادها عدم الفرق بين القولين في عدم جواز الأخذ من المسترسل، وأما هذا الإشكال فمآله إلى عدم الفرق بين القولين في جواز الأخذ، سواء قلنا: إن أخبار من بلغ تفيد الاستحباب المولوي، وإن غسل المسترسل مستحب شرعاً أم لا (منه (رحمه اللّه) ).
2- الفقه 8: 316.
3- الكافي 3: 34.

ولا مرجح لأحدهما.

أمكن الجواب بأنّ الثاني أولى عرفاً، فإنّ العرف يرى من دليل صحيحة الحلبي جواز الأخذ من تمام اللحية، ولم يفهم مسألة داخل الحد وخارجه، ولو مع لحاظ أدلة بلة الوضوء، وعليه يجوز الأخذ مطلقاً، ولو لم يثبت الاستحباب فالثمرة الثانية غير تامة.

الثمرة الثالثة

ما ذكره الشيخ الأعظم(1) من أنه لو دل خبر ضعيف على استحباب الوضوء لأجل غاية معينة، كالوضوء لأجل النوم، فهل يرتفع الحدث معه؟

إنّ ارتفاع الحدث منوط بالوضوء الذي أمر به شرعاً، سواء كان أمراً وجوبياً أم ندبياً، فلو قلنا بمبنى المشهور كان رافعاً للحدث، فيمكن مس خط القرآن الكريم به، وأما لو قلنا بالإرشاد فلا؛ لأنّ الخبر الدال على الاستحباب ضعيف، وأخبار (من بلغ) لا تفيد الاستحباب، فلا يمكن القول: إنّ هذا الوضوء مأمور به شرعاً، فلا يرفع الحدث.

وفيها مناقشتان:

المناقشة الأولى: إنّ هذه الثمرة مبنية على دعوى الملازمة الكلية بين كون الوضوء مأموراً به شرعاً، وبين ارتفاع الحدث ولم تثبت، لتخلفها في موارد متعددة، منها: وضوء الجنب للنوم الثابت استحبابه قطعاً بصحيحة زرارة أو الحلبي(2)، لكنه لا يرفع الحدث، ومنها: وضوء الحائض في أوقات

ص: 371


1- فرائد الأصول 2: 158.
2- من لايحضره الفقيه 1: 83.

الصلوات(1)، ومنها: الوضوء التجديدي، فدعوى الملازمة غير صحيحة.

وقد أجيب بأنّ الملازمة الكلية تامة بعنوان الاقتضاء، فإنّ تأثير المقتضي في المقتضى تام مع عدم وجود المانع، وفي الموارد المذكورة ثبت المانع، وهو الحدث الأكبر، ولا يرفعه الوضوء، ومعه لا يمكن للجنب والحائض أن يفعلا ما يشترط فيه الطهارة، والوضوء التجديدي إنما لا يؤثر في رفع الحدث؛ لأنه تحصيل للحاصل؛ لارتفاع الحدث من قبل، ولا معنى لرفع المرتفع، وأما لو لم يكن هنالك مانع فلا إشكال في أنّ الوضوء المأمور به شرعاً رافع للحدث.

وبعبارة أخرى: الكبرى الكلية ثابتة، وقد خرجت هذه الموارد بالدليل، ولا دليل على التخصيص الزائد، فتجري أصالة عدمه.

المناقشة الثانية: إنّ مناط عبادية الوضوء وشرعيته هو رجحانه الذاتي، سواء قصد الغاية الواجبة أم المستحبة أم لم يقصد(2)، وكل ما هو راجح ذاتاً شرعاً يقع عبادة ويكون شرعياً، حتى لو لم يقصد به غاية معينة، وعليه سواء ثبت استحباب الوضوء لهذه الغاية التي دل عليها الخبر الضعيف أم لم يثبت، كان الوضوء شرعياً، فيترتب عليه ارتفاع الحدث، فعلى كلا القولين

ص: 372


1- حيث تتوضأ وتجلس في مصلاها وتذكر اللّه تعالى، وربما تكون حكمته أنها لو تركت الصلاة في هذه الفترة شق عليها الالتزام بها بعد الطهر، فإن الإنسان لو ترك ما اعتاد عليه كان الرجوع إليه صعباً (منه (رحمه اللّه) ).
2- وقد ذكرت أدلته في الفقه، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} بضميمة صحيحة زرارة: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة» فنفس الطهور مستحب ومحبوب.

يكون الوضوء للنوم رافعاً للحدث.

لكنه محل تأمل؛ لأنه لو توضأ للنوم بعنوان القيد لا الداعي، لم يكن هنالك دليل على شرعيته، حيث لم يقصد الاستحباب النفسي، ولم يثبت الاستحباب الغيري، فإنه يوجد لشرعية الوضوء طريقان: إما استحباب نفسي ولم يقصده، بل قصد عدمه لتقييد نيته، وإما استحباب غيري ولم يثبت، بناء على أنّ أخبار (من بلغ) إرشاد إلى حكم العقل، فلم يثبت استحباب الوضوء للنوم، فلا يرتفع به الحدث، ولا يحق لمن توضأ كذلك أن يلمس أسماء اللّه، لما قد فرض أنّ الوضوء الشرعي المأمور به رافع للحدث.

ونظيره فتوى صاحب العروة(1) بالبطلان فيمن توضأ بقيد التجديد- لا لكون التجديد داعياً - ثم انكشف عدم كونه كذلك؛ لصدور الحدث بينه وبين الوضوء الأول، وإنما أفتى بالبطلان لأنّ الوضوء التجديدي لم يقع؛ لعدم كونه تجديدياً، والوضوء غير التجديدي لم يقصد، بل قصد عدمه، وإنما الأعمال بالنيات.

ويمكن دفعه بطريق واحد - إثباته يوكل إلى محلّه - وهو أنّ الجزئي الحقيقي الخارجي غير قابل للتقييد، فإنّ التقييد معقول في المفاهيم الكلية لا الجزئية الخارجية، حيث لا معنى لتقييدها، كمن يقرأ القرآن بقيد أنّ هذا اليوم يوم الجمعة، فإنّ هذه القراءة موجود شخصي جزئي خارجي، وما كان كذلك لا يكون له حصص، والتقييد تحصيص وتقسيم مما لا يعقل في الجزئي الخارجي، فلو انكشف أنه يوم السبت فهل ينكشف عدم الثواب

ص: 373


1- العروة الوثقى 1: 448.

وأنه غير مستحب، ولا تشمله عمومات قراءة القرآن؟ كلا فإنّ انطباق الطبيعي على فرده قهري، سواء تحققت النية أم لم تتحقق أم تحقق عدمها.

وهكذا الأمر في الوضوء الذي تلبس به، فإنه جزئي حقيقي خارجي لا أفراد له حتى يقيد بهذه الحصة لا تلك، فلو توضأ ونوى الجزئي الخارجي كان مصداقاً لطبيعي الوضوء المطلوب شرعاً(1)، وإن كان بقيد التجديد، وهو رافع للحدث.

والمسألة سيالة في موارد كثيرة من الفقه، كما لو صلّى خلف إمام بقيد أنه السيد البروجردي (رحمه اللّه) ، ولو لم يكن لم يصل خلفه، ثم تبين أنه غيره هو فهل الصلاة باطلة؟ أشكل البعض في ذلك، فإنّ هذه الصلاة موجود شخصي جزئي لا يقبل التقييد.

الثمرة الرابعة

لو ثبت أنّ كل غسل واجب أو مستحب مجز عن الوضوء، ودل خبر ضعيف على استحباب غسل، فعلى المشهور يثبت استحبابه ويجزي عن الوضوء، وعلى غيره لا يثبت الاستحباب، فلا يكفي عن الوضوء؛ ولذا أفتى بعض الأعلام(2) باستحباب بعض الأغسال، لاعتبار جميع مشايخ ابن قولويه في كامل الزيارات، ولما عدل عن رأيه(3) أفتى ببطلان(4) كل الصلوات التي

ص: 374


1- لأنّ «الوضوء نور» و «من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني» و {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} و... .
2- شرح العروة الوثقی 2: 150، 6: 3.
3- لأن عبارته تدل على توثيق خصوص المشايخ المباشرين.
4- حيث إن الطهارة شرط واقعي، ولا مدخلية للعلم والجهل والمعذورية وعدمها في الصحة والبطلان.

صليت بتلك الأغسال من دون وضوء؛ وذلك لعدم ثبوت استحباب تلك الأغسال بقاعدة التسامح.

هذا تمام الكلام في القولين الأولين.

القول الثالث: مفاد أخبار (من بلغ) إسقاط شرائط حجية الخبر
اشارة

وهو مختار المحقق النائيني(1).

توضيحه: إنّ الشرائط(2) التي اعتبرها الشارع لحجية الخبر الواحد، لم يعتبرها في خصوص باب المستحبات، فلا يشترط أن يكون المخبر ثقة أو عادلاً، وبناء عليه تكون النسبة بين أخبار (من بلغ) وما دل على اعتبار تلك الشرائط في الخبر نسبة التخصيص، فتكون الشرائط معتبرة في الخبر إلا في باب السنن.

إن قلت: كيف يُدعى التخصيص وشرطه تحقق نسبة العموم المطلق بين الدليلين، مع أنّ النسبة بينهما في المقام العموم من وجه؛ لأنّ أخبار (من بلغ) تدل على حجية الخبر في باب السنن، سواء كان الخبر واجداً لشرائط الحجية أم فاقداً لها، وما دل على اعتبار الشرائط في الخبر تدل على اعتبار هذه الشرائط، سواء كان مفاد الخبر الواجبات والمحرمات أم السنن والمستحبات، فيتعارض الدليلان في مورد الاجتماع، وهو الخبر الدال على المستحبات وهو فاقد لشرائط الحجية في المخبر.

إلا أنّ المحقق النائيني(3) أجاب عن ذلك بأربعة أجوبة:

الجواب الأول: إنما تلاحظ النسبة بين الدليلين إذا لم يكن أحدهما ناظراً

ص: 375


1- فوائد الأصول 3: 408.
2- كالوثاقة أو العدالة أو مجموعهما.
3- فوائد الأصول 3: 413.

إلى الآخر وإلا فلا، بل يكون الناظر حاكماً، وقد ثبت في محله تقدم الدليل الحاكم وتصرفه في الدليل المحكوم توسعة وتضييقاً وتفسيراً، وغير ذلك، وإن كانت النسبة بينه وبين الدليل المحكوم عموماً من وجه.

الجواب الثاني: مع غض النظر عن الحكومة فإنّ الترجيح في مورد التعارض لأخبار (من بلغ) لعمل المشهور بها، والشهرة من المرجحات في باب التعارض.

الجواب الثالث: لو تقدم ما دل على اعتبار الشرائط على أخبار (من بلغ)، لم يبق للثاني مورد، بخلاف العكس، حيث يبقى مورده الواجبات والمحرمات التي دلّ خبر الثقة عليها.

إن قلت: ما ذكر غير تام لبقاء مورد لأخبار(من بلغ) حتى مع تقديم ما دل على اعتبار الشرائط، وهو الأخبار الواجدة لشرائط الحجية الدالة على المستحبات.

قلنا: ربما يكون مراد المحقق النائيني عدم بقاء خصوصية لأخبار (من بلغ)، كما ذكر الفقهاء(1) نظيره في كتاب الطهارة في باب طهارة خرء الطائر، حيث إنّ بين دليل طهارته ودليل نجاسة خرء ما لا يؤكل لحمه عموماً من وجه؛ لأنّ دليل (نجاسة ما لا يؤكل لحمه) يشمل الطائر وغيره، ودليل (طهارة خرء الطائر) يشمل ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه، ويتعارض الدليلان في مورد (الطائر الذي لا يؤكل لحمه)(2) فلو قدمنا أدلة

ص: 376


1- شرح العروة الوثقى 2: 376.
2- كالغراب بناء على حرمته.

(اجتنب ما لا يؤكل لحمه) لكان دليل (طهارة خرء الطائر) بلا مورد، أي تكون هذه الخصوصية لغواً؛ لأنّ الطائر لو كان مأكول اللحم لكان داخلاً في عمومات حرمة ما يخرج من مأكول اللحم، فأهمية عنوان (الطائر) هو تكفله لحكم حرام اللحم من الطير، فلو ألغي هذا المورد فكأنه ألغي الدليل.

وفي المقام وإن كانت النسبة واقعاً عموماً من وجه إلاّ أنّ المورد المهم لأدلة التسامح في أدلة السنن هو الأخبار الفاقدة للشرائط، وإلا فإنّ الواجد لها حجة قطعاً ومشمول لأدلة الحجية العامة، فإلغاء مورد الاجتماع كأنه إلغاء للدليل.

الجواب الرابع: ما نقله عن الشيخ الأعظم، من أنّ ما دل على اعتبار الشرائط مختص بالواجبات والمحرمات ولا يشمل السنن والمستحبات(1)؛ وذلك لأنّ الدليل إن كان هو الإجماع فواضح اختصاصه بهما، وإن كان آية النبأ، فالتعليل(2) يمنع ظهور الآية في العموم، حيث يدور مداره الحكم وجوداً وعدماً، فهو خاص بهما، فلا تعارض بالعموم من وجه.

ويشكل عليه بأمور:

الإشكال الأول: أصل ما ادعاه محل تأمل؛ لأنّ معنى الحجية على مبناه (اعتبار مؤدّى الحجة هو الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف)(3) ولا ظهور عرفاً

ص: 377


1- فوائد الأصول 3: 414.
2- قوله تعالى: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} الحجرات: 6.
3- كالأخبار الواردة في حجية الخبر الواحد، كقوله×: «العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان» حيث إن معناه أن قول العمري قولي، فهو تنزيل المؤدى منزلة الواقع (منه (رحمه اللّه) ).

لأدلة (من بلغ) في حجية الأخبار الضعيفة بهذا المعنى(1)، بل إنها تتضمن نقيض المعنى المذكور، حيث ورد فيها: «وإن كان رسول اللّه لم يقله» و«وإن لم يكن الأمر على ما بلغه» فهذا المفاد نقيض تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، ولذا لو جمع بين الكلامين في كلام واحد(2) لم يكن مستساغاً، فإنّ الحجية بمعنى أنه الواقع، والأخبار تصرح بأنه وإن لم يكن هو الواقع، فبين المفادين تناقض.

وعلى أي حال، يكفي أنّ الأخبار المذكورة ليست ظاهرة في الحجية بهذا المعنى.

الإشكال الثاني: مخصصية أخبار (من بلغ) لأدلة الحجية فرع التعارض فيما بين المفادين(3)، ولا تعارض بين المفادين حتى يخصص أحدهما الآخر، فإنّ مفاد أدلة الحجية حجية خبر الثقة، ومفاد أخبار (من بلغ) حجية خبر المخبر مطلقاً في باب السنن.

لكنه محل تأمل؛ لإمكان العثور في الأدلة على ما يتضمن بعد النفي، كقوله×: «لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا»(4)، فيتعارضان في مَن كان فطحياً مثلاً.

وهكذا الصحيحة المشهورة: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عني فعني

ص: 378


1- فإن مفادها مجرد ضمان الثواب واستحباب العمل على المشهور.
2- بأن يقول: كلام العمري كلامي وإن لم يكن كلامي.
3- وإن كان تعارضاً بدوياً غير مستقر.
4- وسائل الشيعة 27: 150.

يؤدّي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون»(1) حيث يكون ظاهراً في بعد النفي للتفريع والتعليل الدائر مداره الحكم وجوداً وعدماً، وكذا قوله×: «العمري وابنه ثقتان».

فيتعارض الدليلان ولا بد من الجمع بينهما.

الإشكال الثالث: ما ذكر من الحكومة محل نظر، فإنّ قوام الحكومة بالنظر(2)، وليست أدلة (من بلغ) ناظرة إلى أدلة الحجية، لتكون متأخرة عنها رتبة، أو يكونان في رتبة واحدة.

الإشكال الرابع: لا إشكال في مرجحية الشهرة، وأنهم قدموا أخبار (من بلغ) على أدلة الحجية، إلا أنّ التقديم المذكور هل هو بلحاظ التعارض أو لأنهم فهموا معناها، بحيث لا يصل الأمر إلى التعارض بينها وبين أدلة الحجية.

والحاصل: إنّ عمل المشهور لا يدل على الترجيح عند التعارض ليكون دالاً على ما اختاره المحقق النائيني.

الإشكال الخامس: ما ذكره من لغوية أخبار (من بلغ) مع خروج مورد اجتماع الدليلين عنها غير تام، فإنّ الثقة العادل لو أخبر بتحقق الثواب على عمل، فهو وإن كان حجة إلا أنه لا يضمن الثواب المذكور؛ لإمكان الخطأ في حقه، بل احتمال طروء الفسق عليه، ومع الاحتمال يكون مفاد الأخبار

ص: 379


1- الكافي 1: 329-330.
2- مثل نظر دليل «لا ربا بين الوالد وولده» إلى قوله تعالى: {وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا}، وهكذا «لاشك لكثير الشك» الناظر إلى أدلة أحكام الشك، وقد عبر عنه البعض بأنه لو لم يكن هنالك دليل محكوم كان دليل حاكم لغواً (منه (رحمه اللّه) ).

ضمان الثواب في الأخبار الواجدة لشرائط الحجية في باب المستحبات والسنن فلا تكون لغواً.

الجواب الخامس: ما ذكره المحقق النائيني بنفسه من أنّ الروايات المتواترة بالتواتر المعنوي أو الإجمالي تدل على حجية إخبار الثقاة مطلقاً، وإن كان في باب المستحبات والمكروهات، كقوله×: «العمري وابنه ثقتان»(1) و«فَعليك بهذا الجالس»(2)، فدليل حجية الخبر لا ينحصر في الإجماع وآية النبأ، حتى يقال: إنها خاصة بباب الواجبات والمحرمات.

فالقول الثالث قابل للتأمل.

وأما ثمرة الخلاف بين المشهور(3) وبين ما ذكره المحقق النائيني(4)، فهل هي ثمرة عملية أم صرف اختلاف علمي؟

ذكر في الدراسات(5) أنه لا فرق بينهما، حيث إنه على القولين يحق للفقيه الفتوى باستحباب العمل، فيكون الأثر مشتركاً والنتيجة متحدة، فلا ثمرة عملية.

لكن يمكن تصوير جملة من الثمرات في المقام

الثمرة الأولى: ما ذكره بعض المتأخرين: من أنه لو دل الخبر الضعيف على استحباب ما ثبتت حرمته بعموم أو إطلاق، فعلى مبنى حجيته كان

ص: 380


1- الكافي 1: 330.
2- وسائل الشيعة 27: 143.
3- استحباب العمل بالعنوان الثانوي وهو البلوغ.
4- حجية الأخبار الضعاف في باب السنن.
5- دراسات في علم الأصول 3: 197.

مخصصاً له لفرض حجيته، ولكن بناءً على المشهور يقع التزاحم بين الحرمة الثابتة للفعل بالعنوان الأولي الذاتي، والاستحباب الثابت له بالعنوان الثانوي العرضي، فيقدم أقواهما، كما يمكن القول بعدم التزاحم بين الملاكين لانصراف الأدلة التي تفيد الاستحباب عن دائرة الواجبات والمحرمات الثابتة للأشياء بعنوانها الأولي.

ولكنها محل تأمل؛ لأنّ أخبار (من بلغ) حتى لو كان مفادها إثبات حجية الخبر الضعيف، إلا أنّ ظاهرها أو المنصرف منها أوقدرها المتيقن هو ما بلغ فيه الثواب ولم يثبت فيه العقاب، وأما ما ثبتت حرمته بالقطع الوجداني أو بالقطع التعبدي، وثبت استحقاق العقاب فيه فلا تشمله تلك الأخبار.

مثلاً: لو قام دليل عام على حرمة الغناء، ودل الخبر الضعيف على استحباب التغني بقراءة القرآن، فلا يمكن القول بالتخصيص لبلوغ الثواب عليه؛ لانصراف أدلة (من بلغ) عما ثبت فيه استحقاق العقاب، وإلا لزم منه تأسيس فقه جديد، ولا يظن بالمحقق ولا أحد من الفقهاء أن يلتزم به.

الثمرة الثانية: لو دل الخبر الضعيف على استحباب المغيّا بغاية معينة، فهل يمكن استصحاب استحبابه بعد تحقق الغاية(1)؟

بناء على ما اختاره المحقق النائيني أمكن ذلك؛ لفرض حجية الخبر الضعيف الدال على استحباب العمل بما له من العنوان الذاتي، أي أنّ الفعل بنفسه مستحب، ووزان الخبر الضعيف وزان بقية الحجج، وكما يجري

ص: 381


1- هذا إذا لم يكن للدليل مفهوم ينتفي عند الانتفاء، بل كان الخبر الضعيف مثبتاً للحكم فحسب حتى يمكن فرض جريان الاستصحاب، وأما لو كان نافياً فلا كلام فيه (منه (رحمه اللّه) ).

الاستصحاب فيها يجري في المقام.

مثلاً: لو قام الدليل على وجوب صلاة الجمعة في عهد الظهور(1)، وشك في استمرار الحكم لما بعد الغاية جرى الاستصحاب لتمامية أركانه، فكذلك المقام، فلو دل الخبر الضعيف على استحباب الجلوس في المسجد إلى العصر، وشك في استمرار الاستحباب الواقعي لما بعد العصر جرى الاستصحاب.

وأما بناء على مختار المشهور فلا؛ لأنّ الاستحباب ثابت للشيء بما له من العنوان العرضي، أي عنوان البلوغ، فلو ارتفع العنوان ارتفع الحكم قطعاً؛ لتبدل الموضوع - مثلاً - لو دل الدليل على استحباب قضاء حاجة المؤمن، فطلب المؤمن الجلوس في محل تجارته حتى الظهر، فبعد تحقق الغاية والشك في استمرار الحكم لا مجال للاستصحاب؛ لتبدل الموضوع، فإنّ الفعل مستحب بالعنوان الثانوي العرضي أي البلوغ، وما بلغ فيه الثواب كان إلى الظهر، وأما بعده فالعنوان الثانوي مرتفع قطعاً.

هذا تمام الكلام في القول الثالث، ويبقى الكلام على نحو الإجمال في قولين(2) آخرين:

القول الرابع: مفاد أخبار (من بلغ) إخبار بفضل اللّه تعالى

إنّ مفاد أخبار (من بلغ) مجرد الإخبار بفضل اللّه تعالى، وأنه لا يخيب رجاء من رجاه، ولا يقطع أمل من أمله. فقد يكون العمل مبغوضاً للمولى،

ص: 382


1- وإنما قيدناه بعهد الظهور لا الحضور، لأنّ كل الأزمنة هي عهد الحضور (منه (رحمه اللّه) ).
2- أو احتمالين (منه (رحمه اللّه) ).

لا محبوباً بالعنوان الأولي ولا بالعنوان الثانوي، إلا أنّ اللّه تعالى تفضلاً وكرماً ومنة يقول: إني لا أخيب رجاء من رجاني، فالحديث في مقام الإخبار عن الفضل الإلهي.

لكنه محل تأمل: فإنه وإن كان وجيهاً ثبوتاً وقابلا للقبول، إلا أنّ الظاهر - كما مرّ - أنّ الروايات في مقام الحث والترغيب، ولو بقرينة فهم المشهور، فتفيد استحباب العمل بالعنوان الثانوي الطارئ.

القول الخامس: أخبار (من بلغ) تجبر ضعف المحركية

وهو ما احتمله في مقباس الهداية: من أنّ أخبار (من بلغ) تجبر ضعف محركية الأوامر الاستحبابية. قال: «المراد البلوغ العقلائي المطمئن به نحو البلوغ في الإلزاميات»(1).

فلو بلغ الثواب على مستحب ثابت - كصلاة الليل - فإنه وإن كانت الرواية مستجمعة لشرائط الحجية، إلا أنّ الحجة قد تتخلف عن الواقع ولا تطابقه، فيحتمل المكلف عدم ترتب الثواب مع العلم بالاستحباب، وثبوت الثواب الموعود بأدلة معتبرة، وذلك لاحتمال الخطأ، فتضمن أدلة (من بلغ) ذلك الثواب لتكميل محركية الأوامر الاستحبابية الثابت استحبابها.

وهو محل تأمل: فإنه وإن كان لا بد من ثبوت الخيرية في رتبة سابقة، لورود كلمة (الخير) في رواية صفوان(2)، ولا يعلم أنّ مفاد الخبر الضعيف

ص: 383


1- مقباس الهداية: 38.
2- «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير».

خير، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إلا أنّ هذا التقييد(1) لا ينافي إطلاق أو عموم سائر الروايات في الباب، كصحيحة هشام(2)، حيث لم يفرض فيها الخيرية في رتبة سابقة، وهكذا صحيحته الأخرى(3)،

ولا موجب لتقييد الصحيحتين برواية صفوان، حيث لا مفهوم لها.

القول المختار

فالأظهر من الأقوال الخمسة هو القول الأول، وهو ثبوت استحباب الفعل بالعنوان الثانوي الطارئ.

ص: 384


1- «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير».
2- «من بلغه عن النبي شيء من الثواب».
3- «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له».

فهرس المحتويات

تذنيبات... 5

التذنيب الأول: انحفاظ الملاكات الواقعية في موارد العناوين التسعة... 5

ثمرة البحث... 5

طرق إحراز بقاء الملاك... 6

نظائر للمقام... 8

التذنيب الثاني: في تقدم حديث الرفع على أدلة الأحكام الأولية... 9

وجوه تقديم دليل الرفع... 9

حكومة حديث (الرفع) و(لا ضرر) على أدلة الأحكام الأولية... 11

العناوين الثانوية ناظرة إلى عقد الوضع... 12

التذنيب الثالث: في شمول الرفع لنسيان الجزء والشرط والسبب... 13

المبحث الأول: في التمسك بحديث الرفع لنسيان الجزء أو الشرط... 13

أدلة نفي التمسك بحديث الرفع... 14

لا فرق بين النسيان في تمام الوقت أو بعضه... 22

المبحث الثاني: في تعلق النسيان بالأسباب التي لها آثار وضعية... 26

عدم شمول الرفع لنسيان الأسباب... 26

التفصيل بين نسيان الجزء المقوم للماهية وغير المقوم... 27

الرفع خلاف الامتنان... 28

التذنيب الرابع: شمول رفع الإكراه للتكاليف الاستقلالية والضمنية والأسباب 29

المبحث الأول: في تعلق الإكراه بالتكليف النفسي... 29

المبحث الثاني: في تعلق الإكراه بالتكاليف الضمنية... 32

المبحث

الثالث: في تعلق الإكراه بالأسباب التي تترتب عليها آثار وضعية... 34

الحديث الثاني: حديث الحجب... 36

البحث الأول: البحث السندي... 36

قرائن توثيق زكريا بن يحيى... 36

البحث الثاني: البحث الدلالي... 37

وجوه الإشكال على الاستدلال بحديث الحجب... 38

ص: 385

تقرير لدلالة حديث الحجب على البراءة... 48

تذنيب... 49

الحديث الثالث: حديث السعة... 51

المبحث الأول: البحث السندي... 51

المبحث الثاني: في متن حديث السعة... 51

المبحث الثالث: في مفاد كلمة (ما لم يعلموا)... 52

المبحث الرابع: في النسبة بين حديث السعة وأدلة وجوب الاحتياط... 52

تعارض حديث السعة مع دليل الاحتياط... 52

ورود دليل الاحتياط على حديث السعة... 53

التفصيل بين طريقية أدلة الاحتياط وموضوعيتها... 53

عدم لغوية حديث السعة بناء على ورود أدلة الاحتياط... 55

عدم اللغوية بناء على انقلاب النسبة... 55

تحقق اللغوية بناء على عدم انقلاب النسبة... 57

الحديث الرابع: حديث الإطلاق... 58

البحث الأول: في سند الحديث... 58

البحث الثاني: في دلالة حديث الإطلاق... 61

إشكالات على الاستدلال بحديث الإطلاق... 62

ترجيح معنى الوصول على الصدور من كلمة (الورود)... 65

دلالة الحديث على البراءة حتى بناء على كون معنى الورود (الصدور)... 73

الحديث الخامس: حديث الحل... 75

التعبير الأول لروايات الحل... 76

البحث الأول: في سند الرواية... 77

تصحيح الرواية... 77

وجه تضعيف الرواية... 77

البحث الثاني: في دلالة الرواية... 78

ولكن أورد عليه إشكالات... 78

1- ظهور (بعينه) في الشبهات الموضوعية... 78

2- الدليل أخص من المدعى... 81

شمول الحلال للشبهات الوجوبية... 83

3- اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية... 84

ص: 386

4- عدم استناد الأمثلة إلى أصالة البراءة... 85

5- المراد من الحلية في رواية مسعدة... 85

6- الغاية تخصص الرواية بالشبهات الموضوعية:... 87

التعبير الثاني لروايات الحل... 89

إشكالات على دلالة الرواية على البراءة... 91

الإشكال الأول: ظهور الرواية في الانقسام بالفعل... 91

الإشكال الثاني: الانقسام سبب الشك... 94

الإشكال الثالث... 95

الإشكال الرابع... 95

التعبير الثالث لروايات الحل... 96

الحديث السادس: من ركب أمراً بجهالة... 96

الإشكال الاول: عدم شمول الحديث للجاهل البسيط... 97

تقريرات ثلاثة للإشكال... 98

الإشكال الثاني: لزوم التخصيص الصحيحة... 102

الإشكال الثالث: ورود أدلة الاحتياط على الصحيحة... 104

الحديث السابع: احتجاج اللّه على الناس بما آتاهم... 104

طرق وثاقة محمد بن إسماعيل... 104

وثاقة ابن الطيار... 106

البحث في مفاد الحديث... 107

الحديث الثامن: من لم يعرف شيئاً... 113

توثيق عبد الأعلى بن أعين... 113

الحديث التاسع: عذر الناس بالجهالة... 115

تمامية السند... 117

عدم قبول الأحكام الوضعية للتشكيك... 121

الحديث العاشر: من عمل بما علم كفي ما لم يعلم... 125

الدليل الثالث: الإجماع... 126

الدليل الرابع: دليل العقل... 127

التقرير الأول: التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان... 127

الجهة الأولى: في ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان... 127

1) قبح العقاب على مخالفة ما لا يقتضي التحريك... 128

ص: 387

لكنه محل تأمل لوجهين... 130

1- الحكم المحتمل قابل للمحركية... 130

2- قبح التصرف في ملك الغير من دون إحراز الرضا... 131

2) قبح العقاب على ما لا يستند إلى المكلف... 132

3) قبح العقاب مع عدم التكليف ثبوتاً... 133

4) ملاك حكم العقل بقبح العقاب... 136

تذنيبان... 140

5) قبح المؤاخذة مع عدم الإعلام... 143

6) العقاب بلا بيان قبيح بشهادة الوجدان... 144

الرابطة بين الثواب والعقاب وبين الأعمال في الدنيا... 144

الجهة الثانية: قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل... 146

إنكار قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل... 147

إثبات القاعدة وكون الوجوب فيها إرشادياً... 148

عدم وجود إطلاق لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل... 150

الجهة الثالثة: كيفية الجمع بين القاعدتين... 151

الإشكال على الورود المذكور بعكسه... 152

1- دورية بيانية قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)... 153

دورية عدم بيانية قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)... 154

2- فعلية البيان وتعليقية احتمال الضرر... 155

بيان قاعدة (دفع الضرر المحتمل) بمعنى آخر... 160

عدم جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية الخطيرة... 168

التقرير الثاني: استحالة التكليف بالمجهول... 169

الاستدلال على البراءة بالاستصحاب... 172

تقريرات الاستصحاب... 173

1) استصحاب البراءة الثابتة حال الصغر أو الجنون... 174

لكن يرد عليه إشكالات... 176

الإشكال الأول لصاحب الكفاية... 176

إشكال السيد الروحاني على صاحب الكفاية... 177

الإشكال الثاني... 181

عدم اتحاد الموضوع يخل بالاستصحاب:... 182

ص: 388

2-3) استصحاب البراءة الثابتة قبل الشريعة أو أول الشريعة:... 186

إشكال المحقق النائيني على التقريرين... 186

4) استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق الموضوع... 190

تنبيهات... 190

التنبيه الأول: لغوية دليل البراءة مع جريان استصحاب عدم التكليف... 190

التنبيه الثاني: تعارض استصحاب عدم الإلزام مع استصحاب عدم الترخيص... 195

التنبيه الثالث: استصحاب عدم جعل التكليف في الشبهات الموضوعية... 202

أدلة الأخباريين على الاحتياط

أدلة الأخباريين على الاحتياط... 207

الدليل الأول: الاستدلال بالكتاب الكريم... 207

الطائفة الأولى... 207

الطائفة الثانية... 210

الطائفة الثالثة... 213

الطائفة الرابعة... 215

الدليل الثاني: الاستدلال بالسنة المطهرة... 216

الطائفة الأولى: ما أمر فيه بالوقوف عند الشبهة... 216

فقد أشكل عليها بإشكالات... 220

الإشكال الأول... 220

الإشكال الثاني... 222

الإشكال الثالث... 224

الإشكال الرابع... 225

الإشكال الخامس... 227

الإشكال السادس... 227

الإشكال السابع... 230

المرحلة الأولى: الأمر في روايات التوقف إرشادي... 230

المرحلة الثانية: بيان التحريم ببيان الهلكة... 232

المرحلة الثالثة:الأمر غيري أو نفسي... 233

المرحلة الرابعة: الأمر طريقي... 234

المرحلة الخامسة: الأمر الطريقي غير معقول... 235

المرحلة السادسة: (الفاء) للتفريع... 236

ص: 389

المرحلة السابعة: وجود أمر ثالث في المقام... 237

المرحلة الثامنة: إشكال السيد الروحاني على النهاية... 241

المرحلة التاسعة: إشكال على ما ذكر في المنتقى... 241

المرحلة العاشرة: إشكال المحقق العراقي... 242

المرحلة الحادية عشرة: الإشكال على المحقق العراقي... 244

المرحلة الثانية عشرة: الانتصار للمحقق العراقي... 245

الإشكال الثامن... 245

الإشكال التاسع... 248

الإشكال العاشر... 250

الإشكال الحادي عشر... 251

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط في موارد الشبهات... 252

الرواية الأولى... 252

تذنيبان... 257

الرواية الثانية... 258

البحث الأول: في السند... 259

البحث الثاني: في الدلالة... 261

الرواية الثالثة... 265

وثاقة الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي... 265

جهالة علي بن محمد الكاتب... 266

الرواية الرابعة... 271

الرواية الخامسة... 272

الرواية السادسة... 272

الأجوبة الإجمالية على روايات وجوب الاحتياط... 274

ضابطة تشخيص الحكم الإرشادي عن المولوي... 278

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث... 287

الرواية الأولى... 287

الرواية الثانية... 289

الرواية الثالثة... 289

الدليل

الثالث: دليل العقل... 295

الوجه الأول: العلم الإجمالي بوجود محرمات كثيرة... 295

ص: 390

وأجيب عنه بعدة أجوبة... 296

الجواب الأول... 296

الجواب الثاني... 297

الجواب الثالث... 302

الجواب الرابع... 302

الجواب الخامس... 303

الجواب السادس... 306

الجواب السابع... 307

تقريرات لتقريب انحلال العلم الإجمالي الكبير... 309

التقرير الأول: الانحلال التكويني الطارئ... 309

التقرير الثاني: الانحلال الحقيقي الساري... 313

المقام الأول: في بيانه كبروياً... 313

المقام الثاني: في بيانه صغروياً... 315

المقام الثالث: الإشكال على الانحلال الساري... 316

المقام الرابع: التأمل في الإشكال المذكور... 317

المقام الخامس: الإشكال على ما أفيد في المقام الرابع... 318

التقرير الثالث: الانحلال الحكمي... 319

التقرير الرابع... 321

الوجه الثاني: استقلال العقل بالحظر... 323

الوجه الثالث: محتمل الحرمة محتمل الضرر... 327

تنبيهات البراءة

تنبيهات البراءة... 331

التنبيه الأول: في شرط جريان البراءة... 331

التنبيه الثاني: في قاعدة التسامح في أدلة السنن... 338

المبحث الأول: في الدليل على قاعدة التسامح... 338

شبهة: قاعدة التسامح مسألة أصولية... 341

المبحث الثاني: الأقوال في مفاد أخبار (من بلغ)... 341

القول الأول: أخبار (من بلغ) تثبت الاستحباب الشرعي... 342

الدليل الأول... 342

الدليل الثاني... 344

ص: 391

الدليل الثالث... 359

الدليل الرابع... 361

الدليل الخامس... 363

القول الثاني: مفاد أخبار (من بلغ) الإرشاد إلى حكم العقل بالانقياد... 363

الثمرات المترتبة على القولين... 365

الثمرة الأولى... 365

الثمرة الثانية... 365

الثمرة الثالثة... 371

الثمرة الرابعة... 374

القول الثالث: مفاد أخبار (من بلغ) إسقاط شرائط حجية الخبر... 375

لكن يمكن تصوير جملة من الثمرات في المقام... 380

القول الرابع: مفاد أخبار (من بلغ) إخبار بفضل اللّه تعالى... 382

القول الخامس: أخبار (من بلغ) تجبر ضعف المحركية... 383

القول المختار... 384

فهرس المحتويات... 385

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.