شرح نهج البلاغة (موسوی) المجلد 1

هویة الکتاب

شرح نهج البلاغة (موسوی)

شارح: موسوی، عباس علی

جامع: شریف الرضی، محمد بن حسین

كاتب: علی بن ابی طالب (ع)، امام اول

لغة: العربية

الناشر: دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - بیروت لبنان

سنة النشر:1418 هجری قمری|1998 میلادی

قانون الكونجرس: / م 8 38/02 BP

مكان النشر: بیروت - لبنان

سال نشر: 1377 ش

موضوع: علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - خطب

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - حروف

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - الأمثال

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. نهج البلاغة - نقد و تفسیر

لغة: العربية

عدد المجلدات: 5

ص: 1

اشارة

شرح نهج البلاغة (موسوی)

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

شرح نهج البلاغة (موسوی)

دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - دارالمحجة البیضاء

ص: 4

كلمة سريعة

نهج البلاغة هذه المجموعة الثمينة من خطب الإمام علي و رسائله و كلماته يقف الإنسان أمامها بخشوع و خضوع و إجلال و إكبار... إنها كلمات تحكي حياة شعب و ترسم الصورة الحقيقية لمجتمع عاش فيه الإمام و كان له و من أجله هذا العطاء... كنت و منذ صغري أحمل فكرة كبيرة عن نهج البلاغة تكاد تأتي تالية لكتاب اللّه و كنت أحفظ بعض الخطب المعجب بها و أرددها بشوق و لهفة كخطبة الجهاد على وجه الخصوص... و بعد أن كبرت و أصبحت رجلا لم تمح صورة نهج البلاغة من ذهني و لم يغب ما كنت أحفظه،. كنت أعود إلى النهج كلما جفّت من نفسي روحانيتها فأقرأ فيه بعض خطب الإمام و مواعظه فتحيا الروح من جديد و تنتعش الآمال و تهون أمامي كل مشاكل الدنيا و أحداثها...

كنت أقرأ عليا «الشخصية القدوة لي» في خطبه فأشعر بعمق جراحه التي يعيشها و عمق المعاناة التي يعانيها..

كنت أقرأه في مواعظه فيرق قلبي و يشف و تعزف نفسي عن الدنيا و ما فيها..

كنت أقرأ عليا في مبادئه الرسالية و عقيدته الإلهية فأتزود شحنة أحس معها أنني من رواد الإسلام الأوائل و طلائع المؤمنين العقائدين..

كنت أقرأ عليا في رسائله و مواقفه.. و كنت أقرأه في شجاعته و سخائه..

كنت و كنت و لكن بالرغم من جميع قراءاتي له لم أشف قلبي كما أريد و لذا وجدت أن ارتوائي من معين علي لن يكون إلا أن أتعاطى مع النهج من أوله إلى آخره فعمدت إلى مراجعته و أخذت على نفسي أن أقرأه فقرأته أكثر من مرة مع أكثر من شرح له و قد كنت أسّف كما أسّف كثير من شراحه و كنت أخل و أقتضب كما هو

ص: 5

عادة آخرين.. و بعد تجوال طويل و مراجعة رأيت أن أسّد بعض الثغرات التي وقعت عند شراح النهج فعمدت إلى الأمور التالية.

1 - إنني استوعبت المعنى اللغوي بتمامه و كماله و يصح أن يسمى قاموس نهج البلاغة فقد بلغت الكلمات اللغوية أكثر من عشرة آلاف كلمة في حين أن أعظم شراح النهج لم تزد كلماتهم اللغوية عن الخمسة آلاف إلا قليلا و قد أردت من وراء ذلك أن أوفر على قراء النهج من أدباء و مثقفين ما كنت أحس بضرورته من حيث أنهم ربما فهموا من المعنى اللغوي إذا توفر لهم ما لم يفهمه أي شارح للنهج و بذلك ربما تتحرك العقول في الوصول إلى شيء جديد قد غاب عن الأولين..

2 - إنني عمدت إلى كل فقرة فشرحتها و لم أتناول الخطبة أو الرسالة أو الكلمة بشكل مجمل و عام فإنّ ذلك لا يفي بالغرض و لا يؤدي المطلوب...

3 - تعمدت اللغة السهلة التي تتوافق و أذواق الناس بدون تطويل أو أطناب بل أديت المعنى بما يتناسب و الفهم العام..

4 - تجنبت ما وقع فيه بعض شراح النهج من التطويل الممل و الدخول في مباحث عقلية و أدبية و عقائدية و غيرها بحيث قد استوعبت من بعضهم مجلدا كاملا و تحول شرح النهج إلى كتاب أدب و تاريخ و عقيدة و خرج عن موضوعه الأصيل..

5 - ترجمت كل من توفر لي ترجمتة من شخصيات مرت في النهج و لكن بصورة مختصرة تتناسب و هذا الشرح لئلا نخرج عن الموضوع إلى غيره.

أقول: لهذه الاعتبارات مجتمعة كان شرح نهج البلاغة وافيا كافيا سهلا ميسرا فمن أراد المعنى اللغوي أدركه بسهولة و من أراد المعنى التفسيري حصل عليه بأبسط ما يكون و من أراد معرفة شخصية من شخصيات النهج وقف عليها بدون عناء...

ص: 6

إنها محاولة لسد الثغرات التي وقعت عند غيري.. أسأل اللّه أن يوفقنا جميعا و يجعل عملي هذا قربة لوجهه الكريم و أن يجزيني عليه بأحسن الجزاء و ينفعني به يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم و الحمد للّه رب العالمين.

لبنان - النبي شيث عباس علي الموسوي (أبو علي) في 5، 1، 1992

ص: 7

ص: 8

خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) و شرحها

ص: 9

ص: 10

باب المختار من خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) و أوامره و يدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة، و المواقف المذكورة، و الخطوب الواردة

ص: 11

ص: 12

1 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض، و خلق آدم، و فيها ذكر الحج و تحتوي على حمد اللّه، و خلق العالم، و خلق الملائكة، و اختيار الأنبياء، و مبعث النبي، و القرآن، و الأحكام الشرعية

حمد الله

اشارة

الحمد (1) للّه الّذي لا يبلغ (2) مدحته (3) القائلون (4)، و لا يحصي (5) نعماءه (6) العادّون (7)، و لا يؤدّي (8) حقّه (9) المجتهدون (10)، الّذي لا يدركه (11) بعد (12) الهمم (13)، و لا يناله (14) غوص (15) الفطن (16)، الّذي ليس لصفته (17) حدّ (18) محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل (19) ممدود (20). فطر (21) الخلائق (22) بقدرته، و نشر (23) الرّياح (24) برحمته، و وتّد (25) بالصّخور (26) ميدان (27) أرضه.

أوّل الدّين (28) معرفته، و كمال (29) معرفته التّصديق به، و كمال التّصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي (30) الصّفات عنه، لشهادة (31) كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه (32)، و من قرنه فقد ثنّاه (33)، و من ثنّاه فقد جزّأه (34)، و من جزّأه فقد جهله (35)، و من جهله فقد أشار (36) إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال «فيم» (37) فقد ضمّنه (38)، و من قال «علام ؟» (39) فقد أخلى (40) منه. كائن لا

ص: 13

عن حدث (41)، موجود لا عن عدم (42). مع كلّ شيء لا بمقارنة (43)، و غير كلّ شيء لا بمزايلة (44)، فاعل لا بمعنى الحركات (45) و الآلة (46)، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد (47) إذ لا سكن (48) يستأنس (49) به و لا يستوحش (50) لفقده (51).

اللغة

1 - الحمد: المدح.

2 - بلغ المكان: وصل إليه و انتهى، أو شارفه.

3 - المدحة: بكسر الميم الهيئة التي يكون عليها المدح.

4 - القائلون: من القول و هو ما ينطق به الانسان من الكلمات.

5 - لا يحصى: من الإحصاء و هو العدّ.

6 - النعماء: جمعها أنعم، الصنيعة، المنة، اليد البيضاء الصالحة.

7 - العادون: المحصون و الحاسبون.

8 - أدى الشيء: بلّغه و أوصله.

9 - الحق: خلاف الباطل، ما لزم القيام به.

10 - المجتهدون: من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه و طاقته.

11 - أدرك الشيء: بلغ وقته و أدرك المسألة فهمها.

12 - البعد: يقال فلان بعيد الهمة إذا كان نظره إلى عليات الأمور، و البعد ضد القرب.

13 - الهمم: جمع الهمة و هو العزم الشديد.

14 - لا يناله: النيل الإصابة.

15 - الغوص: النزول تحت الماء و الغطس.

16 - الفطن: جمع فطنة جودة الذهن.

17 - الصفة: النعت.

18 - الحد: المنتهى للشيء.

19 - الأجل: المدة المضروبة للشيء فأجل الدين مدته المضروبة لاستيفائه.

20 - ممدود: مبسوط.

21 - فطر: خلق و ابتدع.

ص: 14

22 - الخلائق: جمع خليقة، المخلوق، و الطبيعة.

23 - نشر: النشر هو البسط و هو خلاف الطي.

24 - الرياح: جمع ريح و هو الهواء إذا اشتد و قوي و في القرآن الرياح جمعا للرحمة و الريح إفرادا للعذاب.

25 - وتّد: ثبتّ و هو من الوتد.

26 - الصخور: الحجارة العظيمة.

27 - الميدان: التحرك و الاضطراب.

28 - الدين: هو الشريعة المنزلة من اللّه و الطاعة، الجزاء.

29 - الكمال: التمام و عدم النقصان.

30 - نفي: ضد الإيجاب، السلب.

31 - الشهادة: المعاينة، الرؤية، الحضور.

32 - قرن الشيء: جمعه إلى غيره و القرن الجمع.

33 - ثنيت الشيء: جعلته إثنين.

34 - جزأته: قسمته و جعلته أجزاء.

35 - الجهل: عدم العلم و المعرفة.

36 - أشار إلى الشيء: دل عليه بإصبعه و نحوها.

37 - فيم: أصلها في مع ما الاستفهامية يسأل فيها عن الظرفية.

38 - ضمّنه: تضمنه و اشتمل عليه.

39 - علام: أصلها على مع ما الاستفهامية يسأل فيها عن الظرفية.

40 - أخلى المكان: تركه فارغا.

41 - الحدث: تجدد الشيء و وجوده بعد إن لم يكن.

42 - العدم: ضد الوجود.

43 - المقارنة: الاجتماع.

44 - المزايلة: المفارقة و المباينة.

45 - الحركات: جمع حركة و هي ضد السكون.

46 - الآلة: الوسيلة.

47 - المتوحد: المنفرد و توحد بالأمر تفرد به.

48 - السكن: الخلود إلى الشيء و الاطمئنان إليه.

49 - أستأنس: به و فيه، استراح، إليه و مال طبعه إليه و لم ينفر منه.

50 - استوحش: ضد استأنس.

51 - لفقده: فقد الشيء - عدم وجوده و حضوره.

ص: 15

الشرح

(الحمد للّه) هذا على العادة في الخطابة و افتتاح الكلام حيث جرت الأمور أن يبدأ الكلام بالحمد للّه و الثناء عليه.. و الحمد يجب أن يكون بالأقوال و الأفعال و القلوب و قد روي عن الصادق عليه السّلام كما في الكافي للكليني أنه قال: ما أنعم اللّه على عبده بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه، إلا أدى شكرها..

(الذي لا يبلغ مدحته القائلون) هذا إقرار بالعجز و أنه مهما أثنى على اللّه و مدحه بمختلف المدح فإن ذلك يبقى عصارة قصوره و ما يملك من تصور بشري محدود دون ما يستحق اللّٰه و ما هو أهله..

(و لا يحصى نعماءه العادون): نعم اللّه لا تعد و لا تحصى و هذا مأخوذ من قوله تعالى «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا» (1)...

و قد أنعم اللّه على هذا الانسان بنعم ظاهرة و أخرى باطنة قال تعالى:(2)

«وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وَ بٰاطِنَةً » و الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة و الباطنة ما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلا.

(و لا يؤدي حقه المجتهدون) فمهما تفرغ الانسان و بذل طاقته و جد و اجتهد فإنه لن يؤدي حق اللّه و ما وجب عليه نحوه لأنه متفضل متكرم، منعم ابتداء و من ابتدأ بالنعم لا تستطاع مكافأته و أداء حقه.

(الذي لا يدركه بعد الهمم) فمهما كانت العزائم كبيرة و الأفكار عالية و عميقة في إدراكها فلن تدرك كنه اللّه أو تصل إلى شيء من خصائص الواقعية.

(و لا يناله غوص الفطن) لا تصل إليه أو تدركه دقة الذهن و جودته مهما سبحت في بحار المعرفة و اغترفت من العلم لأنها لا تستطيع الوصول إلا إلى ما تتصوره و ترسمه في ذهنها من خلال الحس أو التخيل و اللّه سبحانه منزه عن ذلك و في الحديث عن الباقر عليه السلام «و هل سمي عالما قادرا إلا لأنه وهب العلم للعلماء و القدرة للقادرين فكل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم و الباري تعالى و اهب الحياة و مقدر الموت و لعل النمل الصغار تتوهم أن للّه تعالى زبانيين فيها كما لها

ص: 16


1- سورة النحل، آية، 18.
2- سورة لقمان آية،، 28.

فإنها تتصور أن عدمهما نقصان لمن لا يكونان له و هكذا الانسان يتصور ربه بما يملك من تصور قاصر عاجز..

(الذي ليس لصفته حد محدود) فصفاته الذاتية من العلم و القدرة و الحياة و غيرها من الصفات ليس لها غاية أو حد تقف عنده، فلا نستطيع أن نحدد قدرته بحدود معينة و لا علمه و لا حياته.

(و لا نعت موجود) و هذه العبارة قريبة المعنى من قوله ليس لصفته حد محدود إن لم نقل أن المعنى واحد فإن النعت هو الوصف بأكمل الصفات و أجملها و لا نستطيع أن ننعت اللّه بأي صفة موجودة نعرفها لقصورها لأنها تحكي عن الخارج أو ما في الذهن و اللّه منزه عن أن يحيط به الانسان أو يحسه..

(و لا وقت معدود و لا أجل ممدود) فلا يقال كم له من الزمن ؟ و كم مضى له ؟ و إلى كم يبقى و يدوم ؟ لأنه أزلي أبدي سرمدي ليس له ابتداء و لا انتهاء و كيف نوّقت له و هو خالق الوقت و الزمان ؟!..

و في الحديث عن أبي عبد اللّه (ع) قال: جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين (ع) فقال: يا أمير المؤمنين: متى كان ربك ؟ فقال: ثكلتك أمك و متى لم يكن حتى يقال متى كان، كان ربنا قبل القبل بلا قبل و بعد البعد بلا بعد و لا غاية و لا منتهى لغاية انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية.

فقال: يا أمير المؤمنين أ فنبي أنت ؟.

فقال: ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد (صلی الله علیه و آله) .

(فطر الخلائق بقدرته) بعد أن انتهى من نفي الصفات السلبية للّه ثنى بها ذكر الصفات الثبوتية فلعظيم قدرته التي لا تحدّ خلق الخلائق كلها و ابتدعها من اللاشيء و إنما قال لها كوني فكانت و هذا من قوله تعالى(1)«اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » .

(و نشر الرياح برحمته) أي وزعها في الكون و على الأحياء ليحيا بها الوجود فإن منافعها لا تعد و لا تحصى و هذا من قوله تعالى(2)«وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ » و ما جاءت في القرآن جمعا إلا للرحمة بينما لم تأت في الإفراد إلا للعذاب.7.

ص: 17


1- سورة الإسراء، آية - 51.
2- سورة الأعراف، آية - 57.

قال تعالى «وَ أَمّٰا عٰادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عٰاتِيَةٍ » (1) فأفردها بينما قال في الرحمة «يُرْسِلَ اَلرِّيٰاحَ مُبَشِّرٰاتٍ » (2) فجمعها...

(و وتد بالصخور ميدان أرضه) جعل الجبال الضخمة أوتادا للأرض كي تثبت مكانها فلا تضطرب أو تهتز هزات تمتنع الحياة معها و هذا من قوله تعالى «وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً» (3).

(أول الدين معرفته) أول واجب لمن يريد السير في طريق اللّه و الالتزام بأمره أن يعرف اللّه لأن الطاعة تقتضي معرفة المطاع و امتثال الأمر يقتضي معرفة الامر و إلاّ كيف يطاع الأمر مع مجهولية الآمر؟ و في الحديث أن حبرا سأل أمير المؤمنين بقوله: هل رأيت ربك حين عبدته ؟ أجاب بقوله: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره ؟ قال: و كيف ؟ قال:

ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

ثم لما كانت هذه المعرفة تختلف بحسب مراتبها أشار إلى أعظمها.

(و كمال معرفته التصديق به) المعرفة الكاملة هي تلك التي يتيقن الانسان من خلالها بوجود اللّه يقينا لا يتزلزل أو يضطرب أو يعرض له شك و هذه أيضا لها مراتب أعلى منها أشار عليه السلام إليها بقوله:

(و كمال التصديق به توحيده) إذ ربما آمن الانسان بوجود إله واجب الوجود و لكن أشرك معه غيره كالنصارى و اليهود فتكون معرفته غير كاملة فعند ما ينفي عنه الشريك و يوحّده في الذات و يفرده في الصفات يكون إيمانه أكمل و أعظم..

و هناك مرتبة من المعرفة أعظم من هذه أيضا أشار إليها بقوله:

(و كمال توحيده الإخلاص له) و الإخلاص له يعني جعله خالصا من كل عيب و نقص و يتحقق ذلك بنفي الجسمية و العرضية و لوازمهما و هذا الإخلاص له مرتبة عظمى أشار إليها بقوله:

(و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) فلا يصفه سبحانه بصفات مغايرة لذاته أو ناقصة في ذاتها كأن يصفه بالظلم و العجز و غيرها من الصفات التي تنزه عنها.7.

ص: 18


1- سورة الحاقة، آية - 6.
2- سورة الروم، آية - 46.
3- سورة النبأ، آية - 7.

و يتلّخص من ذلك بحسب الترتيب السابق أن كمال المعرفة إنما يكون بنفي الصفات غير اللائقة بذات اللّه أو المنفصلة عنه التي هي غير عين الذات ثم أنه عليه السلام برهن على نفي هذه الصفات و تنزه اللّه عنها و أنها لا تليق به و لا يمكن أن يتصف بها بقوله:

(لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة) فإن العقلاء و أصحاب الفكر يعرفون أن الصفة غير الموصوف، و الموصوف غير الصفة، فالكرم غير زيد، و زيد غير الكرم، فهما متغايران، و الذات متقدمة على الصفة و منفصلة عنها و لا تقوم الصفة مستقلة برأسها بدون ذات، و من يصف اللّه بغير ما هو أهل له من الصفات فقد وقع في الشرك و كان إيمانه مشوبا بكثير من الأوهام الباطلة و لذا أراد عليه السلام أن ينفي هذا التوهم الفاسد و يصحح الرؤية على الوجه السليم فقال:

(فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه) من وصف اللّه بغير صفاته الذاتية أو جعل صفاته مغايرة له فقد قرنه إلى غيره و جمعه معه و اللّه منزه عن القرين.

(و من قرنه فقد ثناه) من قرنه بغيره فقد جعله ثاني إثنين و اللّه واحد لا شريك له و لا ندّ يساويه أو يضاده.

(و من ثناه فقد جزأه) من جعله ثاني إثنين فقد جزأه و قسّمه بحيث جعله بما يشترك فيه مع غيره و بما يفترق فيه عن غيره و هذه تجزئة له..

(و من جزأه فقد جهله) و هذه نتيجة طبيعية للتجزئة و دليل على عدم المعرفة و أن من جزأه لم يعرفه معرفة كاملة لأن معرفة اللّه تقتضي توحيده بالذات و توحيده أيضا بالصفات. و ينشأ من هذا الجهل أمور كثيرة تضل الانسان و تحرفه عن الاستقامة في التفكير و النظر و أشار إليها الإمام بقوله:

(و من جهله فقد أشار إليه) من جهل اللّه و لم يعرفه معرفة كاملة توهّمه في ذلك و تخيل له صورة معينة و هذا التوهم و التخيل يشار إليه معنويا أو حسيا.

(و من أشار إليه فقد حده) جعله جسما محدودا مؤطرا بالأبعاد الجسمية من الطول و العرض و الارتفاع و العمق و هذا هو مقتضى الإشارة فلا بد و أن يكون المشار إليه محدودا بجهة و له مشخصات تعيّنه..

(و من حده فقد عده) من حده بحدود الزمان و المكان فقد أحصاه و حصره في رقم معين لأن كل محدود معدود.

ص: 19

(و من قال فيم فقد ضمّنه و من قال علام فقد أخلى منه) و هذا زجر و منع عن الاستفهام بهاتين الصيغتين لأن الاستفهام - بفيم - سؤال عن وجوده في زمان أو مكان معين يتضمنه و يضمه و يحتويه و باعتبار امتناع المكان و الزمان عليه - و هو خالق الزمان و المكان - امتنع السؤال عنه - بفيم -.

و أما سؤال الاستفهام - بعلام - فباعتبار أنه يسأل فيها عن العلو و المكانة المرتفعة فعند ما يستفهم هل اللّه على العرش أو الكرسي فقد أخلى منه سائر الأمكنة الأخرى و اللّه في كل مكان و في كل زمان فلا يصح الاستفهام عن وجوده في جهة معينة لأنها تستلزم خلوه من الجهات الأخرى..

(كائن لا عن حدث) الحادث هو الموجود بعد إن لم يكن و اللّه منزه عن ذلك فهو منذ الأزل بدون حدوث لأن الحادث عرضة للتقلبات و أيضا محتاج إلى محدث و اللّه غني بذاته منزه عن ذلك.

(موجود لا عن عدم) فهو موجود دون أن يسبقه العدم ليس على مستوى الموجودات فإنها كلها لم تكن ثم وجدت و اللّه منزه عن ذلك لأنه الغني و من طرأ عليه العدم احتاج إلى الوجود فهو ممكن و اللّه موجود دون أن يسبق بالعدم..

(مع كل شيء لا بمقارنة) يعلم كل شيء من أصغر الأمور إلى أكبرها و من أحقرها إلى أعظمها و هو مع كل شيء مصاحب له شاهد عليه و في التنزيل «و هو معكم أينما كنتم» و يصف قربه من الانسان بقوله تعالى «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ» و في الحديث أن ابن أبي العوجاء سأل الصادق في محاورته قال: ذكرت اللّه فأحلت على غائب..

فقال الصادق (ع): ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد و إليهم أقرب من حبل الوريد يسمع كلامهم و يرى أشخاصهم و يعلم أسرارهم.

فقال ابن أبي العوجاء: أهو في كل مكان ؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض، و إذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟!.

فقال أبو عبد اللّه (ع): إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان و خلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأما اللّه العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان و لا يشتغل به مكان و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.

ص: 20

(و غير كل شيء لا بمزايلة) فهو غير الأشياء لأن كل ما عداه سبحانه حادث بعد العدم و أما هو فهو المنزه عن ذلك، هو الصانع و الخالق ؟ و مزايلته لها أي مفارقته لهذه المصنوعات ليس على حد مفارقتها لبعضها و كون وجود أحدها ينفي الآخر و يعانده - لأنه سبحانه خالق الأشياء و محدثها فلا تقف في طريقه أو تعانده.

(فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة) إذا أراد أمرا يتحقق المراد فورا «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الناس من يد و جارحة و آلة يستعين بها لتحقيق ما يريد و فعل ما يطلب.

(بصير إذ لا منظور إليه من خلقه) فهو يعلم كل شيء و ما سيكون و يجري قبل وقوعه و حدوثه، يعلم ما يخلق قبل خلقه الخلق.

(متوحد إذ لا سكن يستأنس به و لا يستوحش لفقده) فاللّه متوحد في سلطانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يحتاج إلى من يستأنس به و يرتاح إليه كما أنه لا يستوحش لفقد أحد و غيابه لأن هذه الأمور من احتياجات الممكنات و حالاتها و اللّه غني بالذات لا يقاس بالناس..

خلق العالم

اشارة

أنشأ الخلق إنشاء، و ابتدأه ابتداء، بلا رويّة (1) أجالها (2)، و لا تجربة استفادها، و لا حركة أحدثها، و لا همامة (3) نفس اضطرب فيها. أحال (4) الأشياء لأوقاتها، و لأم (5) بين مختلفاتها، و غرّز (6) غرائزها (7)، و ألزمها أشباحها (8)، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها و انتهائها، عارفا بقرائنها (9) و أحنائها (10). ثمّ أنشأ - سبحانه - فتق (11) الأجواء (12)، و شقّ الأرجاء (13)، و سكائك (14) الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما (15) تيّاره (16)، متراكما (17) زخّاره (18). حمله على متن (19) الرّيح العاصفة، و الزّعزع (20)

ص: 21

القاصفة، فأمرها بردّه، و سلّطها على شدّه (21)، و قرنها إلى حدّه. الهواء من تحتها فتيق (22)، و الماء من فوقها دفيق (23). ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم (24) مهبّها (25)، و أدام مربّها (26)، و أعصف (27) مجراها، و أبعد منشاها، فأمرها بتصفيق (28) الماء الزّخّار، و إثارة موج البحار، فمخضته (29) مخض السّقاء (30)، و عصفت به عصفها بالفضاء. تردّ أوّله إلى آخره، و ساجيه (31) إلى مائره (32)، حتّى عبّ (33) عبابه (34)، و رمى بالزّبد (35) ركامه (36)، فرفعه في هواء منفتق (37)، و جوّ منفهق (38)، فسوّى منه سبع سموات، جعل سفلاهنّ موجا (39) مكفوفا (40)، و علياهنّ سقفا (41) محفوظا، و سمكا (42) مرفوعا، بغير عمد (43) يدعمها (44)، و لا دسار (45) ينظمها (46). ثمّ زيّنها (47) بزينة الكواكب، و ضياء الثّواقب (48)، و أجرى فيها سراجا (49) مستطيرا (50)، و قمرا منيرا: في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم (51) مائر (52).

اللغة

1 - الروية: الفكر و التدبر.

2 - أجالها: أدارها و رددها.

3 - همامة النفس: الاهتمام، التردد.

4 - الاحالة: التحويل و التغيير من حال إلى حال.

5 - لأم: جمع و قرن.

6 - غرزها: جعلها غرائز.

7 - الغريزة: الطبيعة.

8 - الأشباح: الأشخاص.

9 - القرائن: جمع القرينة و هي النفس الناطقة أو من القرونة بمعنى الضعف و الفساد.

10 - الاحناء: جمع حنو الجوانب.

ص: 22

11 - فتق: الفتق ضد الرتق و هو الشق.

12 - الأجواء: ما بين السماء و الأرض، الفضاء الواسع.

13 - الأرجاء: النواحي و الجوانب.

14 - السكائك: جمع سكاكة الهواء الملاقي عنان السماء، أعلى الفضاء.

15 - المتلاطم: من اللطم و هو الضرب بباطن اليد على الوجه و المتلاطم المتضارب.

16 - التيار: الموج، و شدة جري الماء في ناحية.

17 - المتراكم: كل شيء بعضه فوق بعض فهو متراكم.

18 - زخّاره: الزخّار مبالغة في الزاخر و هو الممتلئ.

19 - المتن: الظهر.

20 - الزعزع: من الزعزعة و هي تحريك الشيء و جعله متخلخلا غير متماسك، أو الشديدة الهبوب.

21 - الشد: الوثاق و منع الحركة.

22 - فتيق: المفتوق، المنبسط.

23 - الدفيق: المدفوق، المسفوح.

24 - أعقم: من العقم و هي علة تمنع الإنجاب و الثمر.

25 - المهب: وقت هبوبها أو مكانه.

26 - مرّبها: من أربّ بالمكان إذا لزم و أقام به.

27 - أعصف: جعلها عاصفة ذات صوت شديد يقال عصفت الريح.

28 - تصفيق: و هو الضرب الذي له صوت.

29 - مخضة: من المخض و هو التحريك و مخضت اللبن إذا حركته لاستخراج زبدته.

30 - السقاء: الوعاء يوضع فيه الماء كالقربة.

31 - الساجي: الساكن.

32 - المائر: من مار الشيء إذا تحرك بسرعة.

33 - عب: ارتفع.

34 - العباب: كثرة الماء و طغيانه.

35 - الزبد: ما يعلو الماء من جراء الجري أو الحركة.

36 - ركامه: من الركام و هو الشيء المجتمع بعضه فوق بعض.

37 - منفتق: مشقوق.

38 - منفهق: مفتوح واسع.

39 - الموج: جمعه أمواج ما ارتفع من الماء على سطحه.

ص: 23

40 - المكفوف: الممنوع من السقوط و السيلان.

41 - السقف: من البيت أعلاه مقابلا لأرضه.

42 - السمك: السقف، و السموك و الارتفاع.

43 - العمد: جمع عمود.

44 - يدعمها: دعامة البيت عموده و ما يدعمه و يمنعه عن السقوط.

45 - الدسار: المسمار.

46 - ينظمها: يؤلفها و يجمعها.

47 - الزينة: الاسم من تزيّن ما يتزين به.

48 - الثواقب: المنيرة المشرقة.

49 - السراج: إناء يجعل فيه زيت و نحوه ثم يشعل فيضيء.

50 - المستطير: المنتشر.

51 - الرقيم: من الرقم و هو الكتابة و النقش سمي الفلك بذلك لأنه مرقوم بالكواكب.

52 - المائر: المتحرك.

الشرح

(ثم أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء) أراد عليه السلام أن يذكر عظمة اللّه و بديع صنعه و كيف يتجلى ذلك في خلق العالم، أنه خلقه خلقا بديعا لا نظير له و لا مثيل بقوله كنّ فكان، أنه خلقه من لا شيء و بدون نظير أو شبيه تقدم عليه.

(بلا روية أجالها) فلم يعمل فكره و يشغل نظره و لا احتاج في خلقه إلى إدارة عجلة العقل بين المعلوم و المجهول للحصول على المراد كما هي عادة البشر و فاعلية مسيرة المخترعين و الصنّاع.

(و لا تجربة استفادها) لم يكرّر فعله و يصحّح ما وقع منه من خطأ على طريقة البشر في تجاربهم حيث يجرون ذلك و يكررونه ليصلوا إلى الحقائق فاللّه منزه عن ذلك لغناه الذاتي.

(و لا حركة أحدثها) و الحركة من خواصّ الأجسام و طبيعتها و اللّه منزه عن الجسمية.

ص: 24

(و لا همامة نفس اضطرب فيها) ليس عنده اهتمام نفسي يأخذه كما يأخذ الناس الاهتمام لأهمية القضية التي يفكرون فيها و بكلمة جامعة أن هذه الأمور الأربعة - الروية و التجربة و الحركة و همامة النفس - أنها كلها تجري على البشر و اللّه منزه عنها...

(أحال الأشياء لأوقاتها) جعل الأشياء تحل في أوقاتها المناسبة فلما ذا كان هذا في المكان الفلاني و لما ذا وجد الآن و لم يوجد من قبل، فهذا لحكمة يعلمها اللّه؛ وجد في هذا الزمان فالمصلحة اقتضت إيجاده في وقته المناسب اللائق.

(و لأم بين مختلفاتها) فلقدرة اللّه العظيمة جعل سبحانه تلاؤما و انسجاما بين العناصر المختلفة كما هو الحال في البدن و الروح مع اختلافهما و تنافرهما من حيث أن أحدهما مادة و الأخرى لا مادة.

(و غرّز غرائزها) ركزّ في جبلة كل شيء و تكوينه طبيعة ذاتية تحركه للحفاظ على حياته و امتداده من بعده فلكل طبيعته فالأسد من طبعه الشجاعة و الثعلب المكر و الأرنب الجبن..

(و ألزمها أشباحها) جعل هذه الغرائز ملازمة لاشخاصها و أشيائها كما قلنا من حيث أن الحمار طبيعته البلادة و القرد الذكاء و حسن التمثيل و الأداء و الانسان قوة الفكر و الإرادة و هكذا لكل مخلوق غريزة خاصة به...

(عالما بها قبل ابتدائها) قبل إيجاده لها يعلمها و يعلم خصوصياتها و أنه متى يوجدها و إلى متى ستدوم و في أي وقت تنتهي و علمه قبل إيجادها كعلمه بها بعد إيجادها لأنه العالم المطلق و الكمال المطلق.

- و في التوحيد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول:

«كان اللّه و لا شيء غيره و لم يزل عالما بما كونه، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كونه».

- و عن ابن مسكان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن اللّه تبارك و تعالى أ كان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان أو علمه عند ما خلقه و بعد ما خلقه ؟ فقال: تعالى اللّه بل لم يزل عالما بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد كونه و كذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان.

(محيطا بحدودها و انتهائها) إحاطته سبحانه هو علمه بأطراف الأشياء و حدودها و ما تنتهي إليه و ما تقف عنده.

ص: 25

(عارفا بقرائنها و أحنائها) فإنه سبحانه يعلم بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها و عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها.

(ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و شق الأرجاء و سكائك الهواء) و هذا تفصيل لمخلوقات اللّه و أن هذا الكون خلقه اللّه و ابتدأه من لا شيء و قد أشار بعضهم إلى أن هذه العبارات تشير إلى معنى واحد.

و هو الفضاء و أن لهذا الفراغ أبعادا ثلاثة علوا و أومأ الإمام إليه بالأجواء و أطرافا و هي مراده من الأرجاء و طبقات و عبر عنها بالسكائك..

(فأجرى فيها ماء متلاطما تياره متراكما زخاره) إنه سبحانه أجرى في أبعاد الكون الثلاثة المتقدمة ماء يضرب بعضه البعض و يعلو بعضه فوق بعض لشدة حركته فهو ليس ساكنا بل هائجا مضطربا..

(حمله على متن الريح العاصفة و الزعزع القاصفة) ثم حمل الماء على الريح الشديدة القوية هذه الريح لشدتها تزعزع الأشياء عن أماكنها و تقصف الأشياء لشدتها فالماء على تلك الريح الهوج العاصفة.

(فأمرها برده و سلطها على شده و قرنها إلى حده) و اللّه سبحانه أمر الريح أمرا تكوينيا بقوله «كن»، أمرها أن ترد الماء فلا يسيل أو يسقط و جعل لها القوة و السلطان في أن تشده إليها و توثقه فلا يهبط كما جعل هذه الريح محيطة بجوانب الماء و أطرافه..

(الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق) فالهواء منبسط لا شيء تحته يحمله بينما الماء ينصب و يتدفق من فوقها.

قال العلامة المجلسي: و الغرض أنه سبحانه بقدرته ضبط الماء المصبوب بالريح الحاملة له كما ضبط الريح بالهواء المنبسط و هو موضع العجب.

(ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها) أي أنشأ و خلق فوق ذلك الماء ريحا عقيما لا تعطي ماء..

(و أدام مربّها) جعلها ملازمة لتحريك الماء.

(و أعصف مجراها) أي جعل جريانها و هو حركتها شديدة قوية.

(و أبعد منشاها) جعلها بعيدة المدى و المكان بحيث لا يعرف ثم سلطها على ذلك الماء.

ص: 26

(فأمرها بتصفيق الماء الزخار و إثارة موج البحار) فمهمة هذه الريح أن تضرب الماء الكثير بعضه ببعض تضربه بشدة و قوة و تحرك أمواج البحار و تنقله من مكان إلى آخر.

(فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء) حركته كما يحرك الوعاء الذي يستعمل في استخراج الزبدة من اللبن فيحرك بكثرة و عجلة و هذه الريح لشدتها و قوتها كأنها في الفضاء الذي ليس فيه مانع يمنعها فهي تتحرك بقوة و شدة و من شدتها و قوتها أنها:

(ترد أوله إلى آخره) فتنقل الأول إلى الآخر و تخلطه ببعضه.

(و ساجيه إلى مائره) فتضع ساكنه على متحركه و هادئه على مندفعه.

(حتى عب عبابه و رمى بالزبد ركامه) فمن شدة هذه الحركة ارتفع معظمه و غالبه و ما تراكم منه وقع زبدا متراكما.

(فرفعه في هواء منفتق و جو منفهق) و هذا الزبد المتراكم من شدة الحركة قد رفعه اللّه بخارا محمولا على الهواء و في الفضاء المتسع.

(فسوى منه سبع سموات جعل سفلاهن موجا مكفوفا) فمن ذلك الزبد المتراكم الذي ارتفع في الفضاء خلق اللّه منه سبع سماوات و جعل أسفلهن ماء محفوظا من السقوط و السيلان و للشرّاح وجوه كثيرة فبعضها:

أن كون السماء السفلى موجا أما بعنوان الحقيقة حسبما اختاره قوم مستدلا بمشاهدة حركة الكواكب المتحيرة و كونها مرتعدة مضطربة في مرئى العين.

و قال آخر هي للتشبيه شبه السماء الدنيا بالموج لصفائها و ارتفاعها أو أراد أنها كانت موجا ثم عقدها.

و قال ثالث: استعار لفظ الموج للسماء لما بينهما من المشابهة في العلو و الارتفاع و ما يتوهم من اللون..

(و علياهن سقفا محفوظا و سمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها و لا دسار ينظمها) جعل السماء العليا سقفا لغيرها لأنها أعلى من الجميع و جعل هذا السقف الذي هو السماء العليا لا يهدم و لا يخرق و يحفظ ما تحته من التأثير و للشراح مناهج شتى في هذه العبارة.

فمنهم من قال: أنها محفوظة من الشياطين و بعضهم رد على هذا بأنه لو كان المراد

ص: 27

بالحفظ هو حفظها من الشياطين فإنه لا يناسب العليا بل السفلى و جاء آخر فردّ على هذا الرد بأن محفوظية السفلى إنما كان بعد ولادة النبي و هكذا... و باعتبار أنه صلوات اللّه عليه يتكلم عن الأمور التكوينية و خلق العالم فالأقرب ما ذكرناه..

و هذه السماوات ارتفعت و وقفت كما ترى بدون عمد تعتمد عليها أو تستند إليها كما هو المشاهد فإن اللّه سبحانه هو الذي أمسكها أن تقع و جعل لها نواميس و قوانين طبيعية تحفظها من السقوط و هذا القول من الإمام مستمد من قوله تعالى «اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا» (1). فبدون عمد و بدون مسامير تثبتها و تنظمها و تحفظها بالشكل الصحيح كما هو المشاهد عند من يرفع سقفا أو يريد أن ينصب راية في الأعالي..

(ثم زينها بزينة الكواكب و ضياء الثواقب) فإنه سبحانه قال: «إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ » (2) و ما أجمله من منظر بديع حيث تتراءى للناس أنوار الكواكب من بعيد بعيد في صورة ربانية كريمة حيث تجد السماء قد رصّعت بالنجوم و هناك بعض الكواكب التي تنفرد من حيث تثقب بأنوارها ظلمات الليل و سواده..

(و أجرى فيها سراجا مستطيرا) و هو الشمس فإنها سراج يضيء في الدنيا و ينتشر ضوؤها في كل مكان كما قال تعالى «وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرٰاجاً» (3).

(و قمرا منيرا) ينير الدنيا و يزيدها بهجة و سرورا فما أجمل الليالي المقمرة حيث يطيب السمر مع الأحباب و الخلان. قال تعالى:(4)«وَ جَعَلَ فِيهٰا سِرٰاجاً وَ قَمَراً مُنِيراً» .

(في فلك دائر و سقف سائر و رقيم مائر) فالفلك يتحرك و السماء تتحرك و الرقيم و هو اللوح سمي الفلك بذلك لأنه يتراءى مسطحا كاللوح.. و هذه كلها تتحرك و لا تتنافى مع حركة الكواكب نفسها..1.

ص: 28


1- سورة الرعد، آية - 2.
2- سورة الصافات، آية - 6.
3- سورة نوح، آية - 16.
4- سورة الفرقان، آية ة 61.

خلق الملائكة

اشارة

ثمّ فتق (1) ما بين السّموات العلا، فملأهنّ (2) أطوارا (3) من ملائكته (4)، منهم سجود (5) لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون (6)، و صافّون (7) لا يتزايلون (8)، و مسبّحون (9) لا يسأمون (10)، لا يغشاهم (11) نوم العيون، و لا سهو (12) العقول، و لا فترة (13) الأبدان، و لا غفلة النّسيان (14). و منهم أمناء (15) على وحيه (16)، و ألسنة إلى رسله، و مختلفون (17) بقضائه و أمره، و منهم الحفظة لعباده، و السّدنة (18) لأبواب جنانه. و منهم الثّابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم، و المارقة (19) من السّماء العليا أعناقهم (20)، و الخارجة من الأقطار (21) أركانهم، و المناسبة لقوائم (22) العرش أكتافهم (23) ناكسة (24) دونه أبصارهم، متلفّعون (25) تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب (26) العزّة، و أستار القدرة. لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير، و لا يجرون (27) عليه صفات المصنوعين، و لا يحدّونه (28) بالأماكن، و لا يشيرون إليه بالنّظائر (29).

اللغة

1 - الفتق: الشق و هو ضد الرتق.

2 - ملأ الشيء: وضع فيه قدر ما يسع فامتلأ.

3 - أطوارا: أصنافا.

4 - الملائكة: أجسام روحانية لا ترى.

5 - السجود: وضع الجبهة على الأرض.

6 - الانتصاب: القيام.

7 - صافون: منتظمون إذا صففت الشيء و نظمته.

ص: 29

8 - لا يتزايلون: لا يتفارقون و المزايلة المفارقة.

9 - مسبحون: من التسبيح و هو التنزيه.

10 - لا يسأمون: لا يملون و يضجرون.

11 - لا يغشاهم: لا يصيبهم و لا يأتيهم و غشاه غطّاه.

12 - السهو: الغفلة، إذا غاب الشيء عن فكر الإنسان و باله.

13 - الفترة: الانكسار و الضعف.

14 - النسيان: ضد الحفظ.

15 - أمناء: جمع أمين و هو الحافظ لما كلف به الذي لا يخون.

16 - الوحي: كلام اللّه إلى الأنبياء.

17 - اختلف: إليه تمرد عليه.

18 - السدنة: جمع سادن و هو الخادم.

19 - مرق السهم: نفذ و خرج.

20 - الأعناق: جمع عنق ما بين الرأس و البدن.

21 - الأقطار: الأطراف.

22 - القوائم: رجلي الدابة و يديها و تطلق على ما يقوم عليه السرير.

23 - الأكتاف: جمع كتف عظم عريض خلف المنكب (مؤنث).

24 - نكسّ رأسه: طأطأه إلى الأرض.

25 - متلفعون: تلفع بالثوب التحف به.

26 - الحجب: جمع حجاب الستر و كل ما يحجب.

27 - لا يجرون: لا يوقعون و لا يصفون.

28 - لا يحدّونه: لا يميزونه و لا يعرّفونه أو لا يحصرونه بالأماكن.

29 - النظائر: الأشباه و النظائر.

الشرح

اشارة

البحث في الملائكة و حقيقتهم و أنواعهم و أدوارهم لا موجب له بعد أن كانت من الأمور الغيبية و لو لا الرسل و الأنبياء و ما أخبروا به عن اللّه لما كنا ملزمين بالإيمان بوجودهم و سنمر في نهاية هذا الفصل على بعض ما ورد من الأحاديث عنهم. و الإمام هنا يذكر الملائكة و بعض أصنافهم و أدوارهم ترغيبا للعباد بالعبادة و التوجه إلى اللّه و أخذ العبرة من عظمة اللّه و قدرته.

ص: 30

(ثم فتق ما بين السموات العلا فملأهن أطوارا من ملائكته) ثم إنه سبحانه شق ما بين السماوات العلا أماكن للملائكة فملأها بهم أشكالا مختلفة...

و قد قسم الإمام الملائكة إلى أربعة أصناف.

الأول: أهل العبادة و هؤلاء أيضا أصناف و كل صنف اتخذ نوعا من العبادة للّه توجه بها إليه.

(منهم سجود لا يركعون) فعبادتهم الدائمة و سجودهم الدائم للّه بحيث لا يخرجون عنه إلى غيره.

(و ركوع لا ينتصبون) عبادتهم للّه الركوع له على الدوام بحيث لا يخرجون عنه معتدلين ليخرجوا عن العبادة المرسومة لهم...

(و صافون لا يتزايلون) و صنف منتظمون في الصلاة صفوفا لا يفارقون أماكنهم و لا يخرجون منها..

(و مسبحون لا يسأمون) و صنف عبادتهم تنزيه اللّه عن كل نقص بدون ملل أو ضجر.

(لا يغشاهم نوم العيون) لا يأتيهم النوم كما يأتي الناس بل هم يحيون الليل و يصلونه بالنهار فدوامهم ليلا نهارا.

(و لا سهو العقول و لا فترة الأبدان و لا غفلة النسيان) فإن هذه الحالات تطرأ على مزاج الإنسان الخاضع لعوامل التأثرات و الملائكة ليست كذلك فلا تتعرض عقولها للسهو و لا أبدانها للتعب و الكسل و لا ينتابها غفلة من نسيان كما يتعرض لذلك الإنسان.

الثاني: من أقسام الملائكة: هم السفراء الموكلون بنقل ما أراد اللّه إلى الرسل و الأنبياء.

(و منهم أمناء على وحيه و ألسنة إلى رسله) فمن الملائكة قسم ائتمنهم اللّه على وحيه و ما يريد إبلاغه لأنبيائه و هؤلاء هم ألسنة الصدق الذين يفصحون عن مراد اللّه إلى الرسل فلا يزيدون فيما كلفوا به و لا ينقصون منه شيئا بل يؤدونه إلى الأنبياء كاملا تاما غير منقوص.

(و مختلفون بقضائه و أمره) يترددون على الرسل بما كتبه اللّه على خلقه و قدره عليهم و بما أراد بتبليغه للناس من أمر و نهي و ما يسنه من تشريع...

ص: 31

الثالث: و هذا ثالث الأقسام من الملائكة.

(و منهم الحفظة لعباده و السدنة لأبواب جنانه) و هؤلاء هم الذين يحفظون العباد من التردي و الوقوع في الهلكات كما قال تعالى «لَهُ مُعَقِّبٰاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ » (1).

و عن الإمام الباقر:

و سدنة أبواب الجنة هم خدمة الجنة الموكلون بفتح أبوابها لأهلها قال تعالى:

«وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا وَ فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا وَ قٰالَ لَهُمْ خَزَنَتُهٰا سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ » (2) .

الرابع: و هذا رابع الأقسام من الملائكة و هذه صفتهم.

(و منهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم و المارقة من السماء العليا أعناقهم) و من كان طوله بهذا الشكل الرهيب يجب أن يعتدّ به و خصوصا إذا انضم إليه العرض الذي أشار إليه بقوله:

(و الخارجة من الأقطار أركانهم و المناسبة لقوائم العرش أكتافهم) قال بعضهم يشبه أن يكون المقصود بهم من خلال هذه الأوصاف هم حملة العرش و لكن مع هذا الطول و هذه الضخامة هم في غاية الذل و الضراعة للّه و من خضوعهم و خوفهم و اشفاقهم لا يرفعون رؤوسهم و إنما هى:

(ناكسة دونه أبصارهم) لا يرفعون طرفهم نحوه خجلا و حياء من حضرته و خوفا و فرقا من هيبته.

(متلفعون تحته بأجنحتهم) و للملائكة أجنحة قال تعالى:

«أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ » (3) و قد أشار الإمام إلى أنهم حياء من اللّه يلفّون أجسادهم بأجنحتهم و هم قيام تحت العرش..

(مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزة و أستار القدرة) فبينهم و بين أصناف الملائكة الأخرى الذين دون مرتبتهم أو بينهم و بين البشر موانع تحجبهم عنهم و تمنعهم1.

ص: 32


1- سورة الرعد، آية - 11.
2- سورة الزمر، آية - 13.
3- سورة فاطر آية، - 1.

عن الوصول إليهم لما لهم من العز باتصالهم باللّه و قربهم منه و لما لهم من قدرة أعطاها اللّه لهم، فلما لهم من العز و لما أعطاهم اللّه من القدرة كانوا في حجب و موانع من الاتصال بغيره ممن هم دونهم...

(لا يتوهمون ربهم بالتصوير) فهم لصفاء أذهانهم و طهارة نفوسهم و كونهم في مراتب عليا من القرب منه لا يتصورون اللّه من خلال ما يتوهمون و يتخيلون و هذا مقام رفيع حيث أنهم تنزهوا عن ذلك و ارتفعوا عما يجري بين بعض الناس...

(و لا يجرون عليه صفات المصنوعين) فما يجري على المخلوقات من العجز و الفقر و التركيب و التأليف و الإمكان فإنهم لا يجرونه على اللّه و لا يقولون إنه مثلهم في الفقر و الحاجة..

(و لا يحدونه بالأماكن) لا يحصرون اللّه في مكان سواء كان سماء أو أرضا أو جهة معيّنة لأن ذلك يجعله محدودا مؤطرا و مشار إليه و اللّه سبحانه منزه عن ذلك...

(و لا يشيرون إليه بالنظائر) فلا يقولون إنه شبيه فلان و مثل الشيء الفلاني لأن هذه أوهام بشرية قاصرة و تخيلات إنسانية عاجزة ينزه الملائكة الكبار عن مثل هذا القول...

بحث مختصر في الملائكة

الملائكة حقيقة قرآنية إيمانية بل عقيدة جميع الأديان السماوية و قد أجمعت الأمة الإسلامية على ذلك و قد امتازوا بخصائص أهمها ما يلي:

1 - إنهم منزهون في وجودهم عن الوجود المادي الذي يعرض عليه الفساد و الفناء.

قال المجلسي في بحاره: أعلم أنه أجمعت الإمامية بل جميع المسلمين إلا من شذّ منهم - من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب أصولهم و تضييع عقائدهم - على وجود الملائكة و أنهم أجسام نورانية...

2 - إنهم وسطاء بين اللّه و بين موجوداته ينقلون مراده إليهم كما هو الحال في الأنبياء و الرسل أو يديرون شئون عباده من سائر مخلوقاته.

قال تعالى: «جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً» .

و قال تعالى: «لَهُ مُعَقِّبٰاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ » .

ص: 33

و قال تعالى: «وَ اَلنّٰازِعٰاتِ غَرْقاً وَ اَلنّٰاشِطٰاتِ نَشْطاً وَ اَلسّٰابِحٰاتِ سَبْحاً فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرٰاتِ » .

3 - إنهم لا يعصون اللّه فيما أمر و هم بأمره يعملون، قال تعالى: «لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ » ... «وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » .

4 - هم على مراتب متفاوتة قال تعالى: «وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ » .

قال الرازي في تفسيره بتلخيص و اختصار منا:

اعلم أن اللّه ذكر في القرآن أصنافهم و أوصافهم:

أما الأصناف: فأحدها حملة العرش قال تعالى: «يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ » .

و ثانيها: الحافون حول العرش قال تعالى: «وَ تَرَى اَلْمَلاٰئِكَةَ حَافِّينَ » ..

و ثالثها: أكابر الملائكة فمنهم جبرائيل و ميكائيل لقوله: «وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكٰالَ » :

و رابعها: ملائكة الجنة قال تعالى: «وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ » .

و خامسها: ملائكة النار قال تعالى: «عَلَيْهٰا تِسْعَةَ عَشَرَ» و قوله: «وَ مٰا جَعَلْنٰا أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ إِلاّٰ مَلاٰئِكَةً » و رئيسهم مالك و أسماء جملتهم الزبانية.

و سادسها: الموكلون ببني آدم لقوله تعالى: «عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» و قوله: «يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً » .

و سابعها: الموكلون بأحوال هذا العالم لقوله: «وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا» و قوله:

«فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً» .

و أما أوصاف الملائكة:

فأحدها: إنهم رسل اللّه «جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً» .

و ثانيها: قربهم من اللّه بالشرف لقوله تعالى «بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ » .

و ثالثها: وصف طاعاتهم لقوله تعالى حكاية عنهم و مقدما لهم:

«وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ » .

رابعها: وصف قدراتهم و إنهم يحملون العرش.

خامسها: وصف خوفهم قال تعالى: «يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ » .

ص: 34

صفة خلق ادم عليه السلام

اشارة

ثمّ جمع سبحانه من حزن (1) الأرض و سهلها (2)، و عذبها (3) و سبخها (4)، تربة سنّها (5) بالماء حتّى خلصت (6)، و لاطها (7)، بالبلّة (8) حتّى لزبت (9)، فجبل منها صورة ذات أحناء (10)، و وصول (11)، و أعضاء (12) و فصول (13): أجمدها (14) حتّى استمسكت (15)، و أصلدها (16) حتّى صلصلت (17)، لوقت معدود، و أمد (18) معلوم؛ ثمّ نفخ (19) فيها من روحه فمثلت (20) إنسانا ذا أذهان يجيلها (21)، و فكر يتصرّف بها، و جوارح يختدمها (22)، و أدوات (23) يقلّبها، و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل، و الأذواق و المشامّ (24)، و الألوان و الأجناس، معجونا (25) بطينة الألوان المختلفة، و الأشباه المؤتلفة، و الأضداد المتعادية، و الأخلاط المتباينة، من الحرّ و البرد، و البلّة و الجمود، و استأدى (26) اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم، و عهد وصيّته إليهم، في الإذعان (27) بالسّجود له، و الخنوع (28) لتكرمته، فقال سبحانه: «اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ » اعترته (29) الحميّة (30)، و غلبت عليه الشّقوة (31)، و تعزّز (32) بخلقة النّار، و استوهن (33) خلق الصّلصال (34)، فأعطاه اللّه النّظرة (35) استحقاقا للسّخطة (36)، و استتماما للبليّة (37)، و إنجازا (38) للعدة، (39)، فقال: إنك «مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ » . ثمّ أسكن سبحانه آدم دارا أرغد (40) فيها عيشه، و آمن فيها محلّته، و حذّره (41) إبليس و عداوته، فاغترّه (42) عدوّه نفاسة (43) عليه بدار المقام، و مرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكّه، و العزيمة (44) بوهنه، و استبدل بالجذل (45) و جلا (46)، و بالاغترار ندما. ثمّ بسط اللّه سبحانه له في توبته، و لقّاه كلمة رحمته، و وعده المردّ إلى جنّته، و أهبطه إلى دار البليّة (47)، و تناسل (48) الذّرّيّة (49).

ص: 35

اللغة

1 - حزن: الحزن من الأرض ما غلظ منها.

2 - السهل: هو المنبسط من الأرض، خلاف الحزن.

3 - العذب: ما طاب من الأرض و صلح للانتفاع به.

4 - السبخ: الأرض المالحة.

5 - سنها: صبها.

6 - خلصت: صفت و نقت.

7 - لاطها: مزجها.

8 - البلة: من البلل و هي الرطوبة.

9 - لزب: التصق و ثبت.

10 - أحناء: جمع حنو بكسر الحاء الجوانب.

11 - وصول: الوصول كل ملتقى عظمين في الجسد.

12 - الأعضاء: جمع عضو، كل لحم فيه عظم كاليد و الرجل.

13 - و فصول: المفاصل.

14 - أجمدها: جعلها جامدة غير رخوة.

15 - استمسك: تعلّق.

16 - أصلدها: من الصلد و هو الجامد المتين.

17 - صلصلت: يبست.

18 - الأمد: الوقت.

19 - نفخ بفمه: أخرج منه الريح.

20 - مثلت: تصورت.

21 - يجيلها: يحرّكها.

22 - يختدمها: يجعلها تخدمه.

23 - الأدوات: الآلات.

24 - المشام: ما يشم.

25 - معجونا: مخمرا.

26 - استأدى: طلب أدائها و إيصالها.

27 - الإذعان: الاعتراف و الاعتقاد.

28 - الخنوع: الخضوع.

29 - اعترته: أصابته.

ص: 36

30 - الحمية: الانفة.

31 - الشقوة: بالكسر الشقاوة.

32 - تعزّز: تكبّر و طلب العزة.

33 - استوهن: من الوهن و هو الضعف.

34 - الصلصال: الطين اليابس قبل طبخه و قيل المنتن.

35 - النظرة: الإمهال.

36 - السخطة: من السخط و هو الغضب.

37 - البلية: الامتحان.

38 - إنجازا: من أنجز وعده إذا وفى به.

39 - العدة: الوعد.

40 - أرغد: من الرغد و هو السعة في العيش.

41 - حذره: خوّفه.

42 - اغتر: من الغرة و هي الغفلة.

43 - نفاسة: نفس بالشيء بخل به.

44 - العزيمة: الاهتمام بالشيء.

45 - الجذل: الفرح.

46 - الوجل: الخوف.

47 - البلية: البلاء و هو الامتحان و الاختبار.

48 - التناسل: التوالد.

49 - الذرية: النسل و هم الأولاد.

الشرح

ثم إنه عليه السلام وصف خلق هذا الإنسان و ما تركب منه و كيف أن إبليس تكبر و امتنع عن تنفيذ أمر اللّه و كيف كانت عاقبته و نتيجة تمرده درسا لنا في عدم الخروج عن إرادة اللّه و عبرة لكل إنسان في أن يكون عند أمر اللّه و نهيه...

(ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت و لاطها بالبلة حتى لزبت). فمن هذه المواد كانت تركيبة هذا الإنسان الأول، إنه سبحانه جمع هذه العناصر من الأرض، و أنه جمع منها ما هو غليظ قاس و ما هو لين

ص: 37

سهل طري جمع من التربة الناعمة الصالحة للعطاء و المالحة التي لا ينبت فيها نبات، لقد جمع سبحانه هذه العناصر ثم صب عليها الماء و مزجها مزجا جيدا كما يجب حتى اشتدت و استمسكت و لم تعد تتفتت.. و إنما خلقها من هذه العناصر ليكون فيه الاستعداد للخير و الشر و الحسن و القبح كما يقول بعض الشراح..

(فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول و أعضاء و فصول أجمدها حتى استمسكت و أصلدها حتى صلصلت لوقت معدود و أمد معلوم) جعل من تلك الطينة صورة آدم و مادته و هي مكونة من جوانب طولية و عرضية و مفاصل و أعضاء من يدين و رجلين ثم جعلها صلبة قوية حتى أصبحت كالفخار اليابس و بقيت هكذا مدة معدودة و زمنا محدودا و إلى هذا أشار الذكر الحكيم بقوله: «هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» (ثم نفخ فيها من روحه فمثّلت إنسانا ذا أذهان يجيلها و فكر يتصرف بها) ثم إن هذه الصورة بعد أن اكتملت بهذا الشكل البديع أفاض اللّه عليها الحياة و إضافة روح آدم إليه تعالى تكرمة لآدم و تشريف و هي إضافة الملك، و بهذه النفخة المباركة صارت إنسانا يحمل فكرا يحلل الأمور و عقلا يميز الضار من النافع و الحسن من القبيح.

(و جوارح يختدمها و أدوات يقلّبها) و تحركت جوارحه من يدين و لسان و رجلين يستعملها في خدمته و من أجل منفعته كما إن هذه الأدوات التي هي الأعضاء يستعملها في قضاء حاجاته و حركة حياته.

(و معرفة يفرق بها بين الحق و الباطل و الأذواق و المشام و الألوان و الأجناس) بهذه النفخة أعطاه اللّه سر المعرفة و جعله من خلالها يطلع على الأمور و يميز بين الحق الذي يجب الإيمان به و أتباعه و مساندته و الدفاع عنه و بين الباطل الذي يجب أن يكفر به و يحاربه و يحارب فاعله، و خلق سبحانه له الأذواق التي يعرف بها مرّ الأشياء من حلوها و جيدها من فاسدها و كذلك جعل له المشام التي تنعش القلوب من التي تؤذيها كما جعله يعرف الألوان على اختلافها و ما يميزها و الأجناس على تعددها و تمايزها...

(معجونا بطينة الألوان المختلفة و الأشباه المؤتلفة و الأضداد المتعادية و الأخلاط المتباينة من الحرّ و البرد و البلة و الجمود) ثم إنه عليه السلام يبيّن طبيعة هذا الإنسان و إنه مركب من أمور متعددة مختلفة، جعله مركبا من شحم أبيض و لحم أحمر و شعر أسود و عظام قاسية و مواد رخوة كما جعله مركبا من أمور مؤتلفة متفقة ينسجم بعضها مع بعض و تلتقي في وحدة متكاملة كالأسنان و العظام و الجلد و اللحم، و كما جعله مجمعا للأمور

ص: 38

المتضادة المتعادية فجعل فيه الحرارة و البرودة فداخله حار و خارجه بارد نسبة إلى الداخل كما جعل فيه الرطوبة و اليبوسة هذا إذا حمل المعنى على المعنى المادي و أما إذا قصد به الأمور المعنوية فإن الإنسان مركب من أمور متباينة مختلفة فهو يحمل الفرح و الحزن و الحب و البغض و الإيثار و الاستئثار و يحمل الخوف و الشجاعة و هكذا..

(و استأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم و عهد وصيته إليهم في الإذعان بالسّجود له و الخنوع لتكرمته فقال سبحانه: «اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ » اعترته الحميّة و غلبت عليه الشّقوة و تعزز بخلقه النّار و استوهن خلق الصلصال) عهد اللّه إلى الملائكة أنه سيخلق آدم و استفهمت يومها بقولها: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و أجابهم اللّه بقوله: «إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ » و قدم لهم أنه إذا خلقه لا بد لهم من السجود له فعند ما خلقه طلب منهم أن يؤدوا الوديعة التي عهدها إليهم من الخضوع و الخشوع و السجود تكريما لآدم و امتثالا لأمر اللّه بقوله لهم: «اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ » فإنه المخلوق العاصي المتمرد الذي احتج على السجود و رفض أمر المعبود... لقد أخذته الانفة و سنّها لمن بعده فأصبح صاحب مدرسة يخرّج منها القوافل و القادة و غلب عليه الشقاء فخسر السعادة، إنه رأى نفسه متعالية متكبرة رآها أعظم من آدم حيث أعظم خلق النار و حقّر خلق الصلصال الذي هو الطين الذي خلق منه آدم قال تعالى حاكيا مقولته مفضلا نفسه على آدم مبينا علة ذلك «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » (1)..

(فأعطاه اللّه النظرة استحقاقا للسخطة و استتماما للبلية و إنجازا للعدة فقال: إنك «مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ » .

بعد أن رفض إبليس السجود لآدم و تمرد على أمر اللّه استحق غضبه و عقابه و لما عرف ذلك المصير و تلك النهاية التعيسة التي سيصل إليها طلب من اللّه أن يمهله و يؤخر أخذه و عذابه قائلا للباري «فَأَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ » (2) فاستجاب اللّه له فقال له: إِنَّكَ «مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ » - الممهلين - «إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ » - يوم القيامة و إنما كان ذلك لكي يستحق العقاب و العذاب و يكون الامتحان كاملا تاما إنه عذاب يفوق عذاب جميع المتمردين و العاصين...

(ثم أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه و آمن فيها محلّته و حذره إبليس6.

ص: 39


1- سورة الأعراف، آية - 12.
2- سورة الحجر، آية - 36.

و عداوته) و بعد أن خلق اللّه آدم أسكنه الجنة و جعل حياته فيها طيبة هانئة كريمة كما قال تعالى:(1)«وَ قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا» ، و مضافا إلى هذه الجهة ازداد عليه تفضلا حينما حذره من إبليس و إغوائه و نهاه عن إطاعته و خوفه عداوته المتملكة من نفسه لئلا يضله حيث قال لآدم:(2)«فَقُلْنٰا يٰا آدَمُ إِنَّ هٰذٰا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاٰ يُخْرِجَنَّكُمٰا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقىٰ » ..

(فاغتره عدوه نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما) و بعد هذا التحذير الشديد و التنبيه الأكيد..

و بعد الإنذار و التخويف لآدم من إبليس وقع آدم ضحية المفاجأة التي أخذها إبليس عليه.. عز على إبليس أن يكون آدم في دار النعيم مقيما دائما في خير دار فدخل عليه و اقتحم الأسوار المنيعة التي ضربها اللّه عليه من حيث تحذيره له أن لا يركن إليه، و لكن إبليس حلف لآدم أنه يدّله على شجرة الخلد و ملك لا يبلى فأكل منها في ساعة الغفلة فراح اليقين منه بالشك الذي وسوسه إليه إبليس و بهذا الإغواء تغيرت الأمور و تبدلت فانقلب الفرح و السرور الذي في الجنة إلى خوف و حزن في دار الدنيا و انقلب هذا الاغترار الذي غره به إبليس حسرة و ندما و ألما..

(ثم بسط اللّه سبحانه له في توبته و لقاه كلمة رحمته و وعده المرد إلى جنته و أهبطه إلى دار البلية و تناسل الذرية) بعد أن ارتكب آدم خلاف الأولى أدرك موقعه فتدارك ذلك بالتوبة و ندم على فعله و عرف أن الشيطان قد غرّه فعاد إلى اللّه فعاد اللّه عليه بالتوبة كما قال تعالى:(3)«فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ » ثم وعده بأنه سيعود إلى الجنة.

و ذكر الإمام أن آدم بعد أن فعل فعلته أنزله اللّه إلى الأرض و جعلها دار البلاء و الاختبار فالمطيع إلى الجنة و العاصي إلى النار و جعلها محل أولاد آدم و ذريته.7.

ص: 40


1- سورة البقرة، آية - 35.
2- سورة طه، آية - 117.
3- سورة البقرة آية، - 27.

اختيار الانبياء

اشارة

و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم (2)، و على تبليغ الرّسالة (3) أمانتهم، لمّا بدّل (4) أكثر خلقه عهد اللّه إليهم فجهلوا حقّه، و اتّخذوا الأنداد (5) معه، و اجتالتهم (6) الشّياطين عن معرفته، و اقتطعتهم (7) عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر (8) إليهم أنبيائه، ليستأدوهم (9) ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجّوا عليهم بالتّبليغ، و يثيروا (10) لهم دفائن (11) العقول، و يروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد (12) تحتهم موضوع، و معايش (13) تحييهم، و آجال تفنيهم، و أوصاب (14) تهرمهم (15)، و أحداث (16) تتابع عليهم؛ و لم يخل (17) اللّه سبحانه خلقه من نبيّ مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة (18) لازمة، أو محجّة (19) قائمة: رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم، و لا كثرة المكذّبين لهم:

من سابق سمّي له من بعده، أو غابر (20) عرّفه من قبله: على ذلك نسلت (21) القرون، و مضت الدّهور، و سلفت (22) الآباء، و خلفت الأبناء.

اللغة

1 - اصطفى: استخلص 2 - ميثاقهم: من الميثاق و هو العهد.

3 - بلّغ الرسالة: أداها و أوصلها.

4 - بدّل: غيّر.

5 - الأنداد: الأمثال و الأشباه.

6 - اجتالتهم: أدارتهم، صرّفتهم.

7 - اقتطعتهم: فصلتهم و منعتهم.

8 - واتر: تابع واحدا بعد واحد.

9 - ليستأدوهم: ليطلبوا منهم الأداء.

ص: 41

10 - يثيروا: يحركوا و يفكروا.

11 - دفائن: الأرض ما اختفى فيها و دفن و استتر.

12 - مهاد: فراش و منه المهد لفراش الصبي الصغير.

13 - معايش: جمع معاش ما يعاش به من المطعم و المشرب.

14 - أوصاب: متاعب، أمراض.

15 - تهرمهم: من الهرم و هو الكبر في العمر، الضعف.

16 - أحداث: و هي الأمور الجديدة، النوائب و المصائب.

17 - يخلي: من خلا الإناء إذا فرغ و هنا لم يترك عباده بدون رسل.

18 - حجة: الحجة بالضم ما يحج به الإنسان غيره أي يغلبه به.

19 - محجة: المحجة: الطريق الواضح.

20 - غابر: الغابر هو الباقي، و الماضي و هو من الأضداد.

21 - نسلت: مضت متتابعة.

22 - سلفت: تقدمت.

الشرح

(و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم و على تبليغ الرسالة أمانتهم) بعد أن هبط آدم إلى الأرض و تكاثرت ذريته دب الفساد و الانحراف فيهم فاحتاج الأمر في إصلاحهم إلى الأنبياء فمن هنا اختار اللّه سبحانه من خلقه أصفى بريته لكمالهم و طهارتهم و عفة أنفسهم... فقد أطّلع سبحانه - و هو العالم بهم - على ذرية آدم فوجد بعض النفوس في قمة الكمال فاختارهم أنبياء إلى خلقه أخذ عليهم العهود أن يؤدوا الوحي المنزل عليهم إلى الناس بكماله و تمامه في الأصول و الفروع كما أخذ أمانتهم على أن ينشروا الرسالة بين الناس و يبلغوها كما هي.

و قد بيّن عليه السلام سبب إرسال الرسل و علة بعث الأنبياء بقوله:

(لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم فجهلوا حقه و اتخذوا الأنداد معه و اجتالتهم الشياطين عن معرفته و اقتطعتهم عن عبادته) غيّر الناس عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم و هو ما فطر اللّه الناس عليه المشار إليه بقوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ » (1).

ص: 42


1- سورة الأعراف، آية - 172.

فحق اللّه أن يؤمنوا به و لا يشركوا به شيئا و لكن الشياطين أضلتهم و حرفتهم عن ذلك فجهلوا حقه بعد المعرفة.. و كفروا به بعد أن أقروا و اعترفوا.. و جعلوا له أشباها و نظراء تصوروه كما شاءوا و كما تخيلوا و صرفتهم الشياطين عن معرفته الحقيقية و مالت بهم عن الإيمان الصحيح و صرفتهم عن عبادته إلى عبادة غيره من أصنام و أوثان و ميول و أهواء و قد تفنن هذا الإنسان في الانحراف حتى بلغ به الإسفاف الى البقر عباده الى بل إلى أحط من ذلك و أحقر..

(فبعث فيهم رسله و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكروهم منسي نعمته و يحتجوا عليهم بالتبليغ و يثيروا لهم دفائن العقول و يروهم آيات المقدرة) و هذه علة بعث الرسل عند ما انتشر الفساد و ضل الناس أرسل اللّه لهم رسله و جعلهم واحدا إثر واحد تتصل دعوتهم و تقوم حجتهم كما قال تعالى(1): «ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا كُلَّ مٰا جٰاءَ أُمَّةً رَسُولُهٰا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنٰا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ » و مهمة الرسل و دعوتهم ليجعلوا الناس يؤدون عهد الفطرة الذي أعطوه لربهم من الإيمان به و التوجه إليه و يذكروهم ما نسوا من نعمه التي لا تعد و لا تحصى فإن الإنسان ينسى بل يبطر و يكفر بالنعمة فيأتي الرسل ليعيدوا هذا الإنسان إلى رشده و يذكروه ما نسي من نعمة اللّه و كذلك من أسباب بعث الرسل أن تصل الحجة إلى الناس و يعرف كل واحد تكليفه الواجب عليه القيام به فلا يكون له عذر يوم القيامة إن قصّر في الأداء و رفض الأمر و تمرد على الحكم و كما قال تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ » .(2)

و كذلك من أسباب بعث الرسل إثارة ما أودعه اللّه في عقول بني آدم فإن الأنبياء كانوا يحركون عقول الناس و يطلقونها من عقالها، كانوا يقولون للناس فكروا في خلق السموات و الأرض و فكروا في أنفسكم... فكروا في مخلوقات اللّه و في تركيبها و دقة صنعها... فكروا بعقولكم و ليس بعقول غيركم و عاداتهم و تقاليدهم. فإنه يدرك أنه لا بد لكل معلول من علة و لكل حادث من محدث و لكل مسبب من سبب و هذا قانون يدركه العقل بالبداهة و الفطرة أودع اللّه فيه ذلك ليستدل من خلاله على وجود سبب أول للعالم هو الخالق له و الموجد لكل ما فيه و لذا لم يأت نبي يقول للناس عطلوا عقولكم ثم اتبعوني بل قال لهم: «إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ » (3) قال لهم: من لا عقل له لا دين له...9.

ص: 43


1- سورة المؤمنون، آية - 44.
2- سورة الأنفال، آية - 42.
3- سورة الرعد، آية - 19.

و كذلك كانت بعثة الأنبياء من أجل أن يبصر الناس علامات القدرة الإلهية التي تتجسد في خلق السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما فإن الإنسان يرى كل هذه الآيات و هي تحت نظره و لكنه يغفل عن التفكر فيها و عن عظيم دقة صنعها.. ثم ذكر ست آيات من آيات عظمة قدرته..

(من سقف فوقهم مرفوع) و هذه أولى الآيات،.. إنها هذه السماء التي نراها و هي فوقنا بما فيها من كواكب و سيارات و نجوم.. إنها مرفوعة فوقنا لا يمسكها إلا اللّه بحسب ما وضع لها من قوانين و نظم و قد أقسم اللّه بقوله: «وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ » (1).

(و مهاد تحتهم موضوع) و هذه ثانية الآيات و سميت الأرض مهادا لأنها صالحة لاستقرار الإنسان عليها فهي مبسوطة بشكل تقبل أن يعيش الإنسان عليها و يستمر في حياته فيها و قد منّ اللّه على الإنسان بهذه النعمة في قوله: «أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً» (2).

(و معايش تحييهم) و هذه ثالثة الآيات إنها أرزاق العباد و ما به قوامهم و استمراريتهم بما خلق اللّه لهم من خضار و فواكه و نعم و خيرات.. إن اللّه وفر لهذا الإنسان مادة حياته و بقائه بما أعطاه من حبوب و ثمار و هداه إليها و وفرها له...

(و آجال تفنيهم) و هذه رابعة الآيات.. إذا نظر الإنسان إليها اعتبر و اتعظ، فإن هذا العمر إذا انتهى مات الإنسان.. فأيامه معدودة و أوقاته محدودة متى استوفاها توفاه اللّه و نقله من عالم إلى آخر و كم في هذه من العبرة و بما أن هذا الإنسان سيصل إلى أجله فليعد العدة له.

(و أوصاب تهرمهم) و هذه خامسة الآيات و هي ما ينتاب هذا الإنسان من الأتعاب و الآلام و الأمراض و ما أكثرها و أي إنسان لا يمرض و أي إنسان لا يتعب أو لا يمر في حالة من الألم.. إنها كلها تزيل شباب الإنسان و تدنو به من الهاوية..

(و أحداث تتابع عليهم) و أحداث الدهر و مصائبه كثيرة و في المثل العامي «مصائب الدهر أكثر من نبات الأرض» و أي بيت لم تدخله التعاسة و أي إنسان لم يمر في حادثة بل أحداث تشوش عليه أفكاره و تنغصّ عليه حياته. إنها متوالية.. متتالية منذ أول ولادته و إلى خاتمة حياته ولد في شدة و يموت في شدة و يحيا فيما بين الولادة و الوفاة في شدائد متتابعة.6.

ص: 44


1- سورة الطور، آية - 5.
2- سورة النبأ، آية - 6.

(و لم يخل اللّه سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لازمة أو محجة قائمة) سبقت الهداية الناس فكان آدم نبيا و لم يكن معه أحد ثم كثرت ذريته و استمرت الحجة قائمة إلى يومنا هذا، فتارة تكون الحجة نبيا يرسله اللّه و يبعثه إلى الخلق يهديهم و يعلمهم و يرشدهم و يوجههم نحو الخير و أخرى تكون كتابا منزلا من السماء كما لو مات النبي و بقي الكتاب بين أيدي أتباعه فإنه حجة عليهم و نور يهديهم إلى مستقيم الطريق..

أو يكون هناك حجة لازمة و قد فسرها بعضهم بالعقل فإنه لازم لهذا الإنسان يوضح له السبيل و يهديه إلى اللّه.. و قد فسره المحققون بأنه الإمام الذي لا يخلو منه زمان و بهذا وردت الأخبار بل تواترت.

ففي الحديث عن أبي جعفر قال: و اللّه(1) ما ترك اللّه أرضا منذ قبض اللّه آدم إلا فيها إمام يهتدى به إلى اللّه و هو حجة على عباده و لا تبقى الأرض بغير إمام حجة للّه على عباده.. أو تكون الحجة سنّة واضحة دلّ عليها الأنبياء و تمسك بها بعض الحنفاء و هي المحجة القائمة...

(رسل لا تقصّر بهم قلة عددهم و لا كثرة المكذبين لهم) بل أن الأنبياء على قلتهم نسبة إلى البشر فإنهم كافون في البلاغ وافون في البيان، إنهم على قلتهم مشاعل في طريق الهداية و منارات يهدون الناس إلى الخير و مهما كذبهم المكذبون فإنهم عاجزون عن إطفاء نورهم و قاصرون عن إخماد شوكتهم... و ما المكذبون لهم إلا شهود زور يفضحهم الواقع و تفضحهم الحقيقة، فإنهم يسقطون و ينتصر الرسل و تنتشر دعوتهم و يؤمن بها الناس...

(من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه من قبله على ذلك نسلت القرون و مضت الدهور و سلفت الآباء و خلفت الأبناء) و هذه طريقة اللّه و سنته فإنه سبحانه عند ما يرسل رسولا و تنتهي مدته كان يسمي له من يأتي من بعده كما هي قصة عيسى مع نبينا عليه السلام حيث كان يبشر به و يعطي لأتباعه علامات ظهوره و قد كان اليهود يترقبون طلعته و يوعدون به من يعاديهم فكان اللّه هو الذي يتولى تعريف النبي اللاحق و قد يكون النبي حاضرا و قد بشر به من تقدم عليه و على هذه الطريقة من حيث أن الأرض لا تخلو من حجة؛ انقضت القرون و مضت الأزمان و الدهور و عليه مضى السلف و انقضت أيامهم و على هذا جاءت من بعدهم الأبناء فالسيرة واحدة في الآباء و الأبناء و الحجة قائمة على الجميع...ي.

ص: 45


1- الكافي.

مبعث النبي

اشارة

إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لإنجاز (1) عدته (2)، و إتمام نبوّته، مأخوذا على النّبيّين ميثاقه (3)، مشهورة سماته (4)، كريما ميلاده. و أهل الأرض يومئذ ملل (5) متفرّقة، و أهواء منتشرة، و طرائق (6) متشتّتة، بين مشبّه للّه بخلقه، أو ملحد (7) في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضّلالة، و أنقذهم (8) بمكانه من الجهالة. ثمّ اختار سبحانه لمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم لقاءه، و رضي له ما عنده، و أكرمه عن دار الدّنيا، و رغب به (9) عن مقام البلوى (10)، فقبضه (11) إليه كريما صلّى اللّه عليه و آله، و خلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها، إذ لم يتركوهم هملا (12)، بغير طريق واضح، و لا علم قائم.

اللغة

1 - أنجز الأمر: أتمه و أكمله.

2 - العدة: الوعد.

3 - الميثاق: العهد.

4 - السمات: جمع السمة و هي العلامة.

5 - الملل: جمع ملة الشريعة و الدين.

6 - طرائق: مفردة طريقة و هي السيرة، المذهب.

7 - ملحد: الذي يعدل عن الطريق المستقيم.

8 - أنقذه: نجاه و خلصّه.

9 - رغب به: أراده و مال إليه و إذا عدى بعن فقيل رغب عنه يعني أعرض عنه.

10 - البلوى: البلاء.

11 - قبضه: أخذه بقبضة يده، تسلمه.

12 - تركه هملا: الهمل الذي لا راعي له و لا مدبر لشئونه..

ص: 46

الشرح

(إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لإنجاز عدته و إتمام نبوته مأخوذا على النبيين ميثاقه مشهورة سماته كريما ميلاده) و هكذا بقيت الحال و الأنبياء تترى لهداية الناس و إرشادهم و تسديد مسيرتهم إلى أن منّ اللّه على البشرية ببعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكان تحقيقا لما وعد اللّه به من أنه سيرسل رسولا إلى الناس يهديهم السبيل و هو أفضل الرسل و أقربهم إليه و تكون نبوته تامة كاملة مهيمنة على كل النبوات يجب على كل الناس اتباعه و التدين بدينه و التزام شريعته و قد أخذ اللّه على النبيين عهده أن يبشروا به و يهيئوا لظهوره حتى إذا جاء استقبلته البشرية بشوق و لهفة و في الحديث عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: لم يبعث اللّه نبيا آدم و من بعده إلا أخذ عليه العهد لئن بعث اللّه محمدا و هو حي ليؤمنن به و لينصرنه و أمره بأن أخذ العهد بذلك على قوله..

و قد بين اللّه في الكتب المتقدمة علامات النبي و صفاته المشهورة بحيث لا تخفي أوصافه على أحد كما قال تعالى(1): «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ » .

و كان مولد رسول اللّه أشرف مولد؛ و أكرم ساعة كانت تلك الساعات التي ولد فيها رسول اللّه الذي حطّم الأصنام و أقام العدل و قلب موازين العالم بأسرها و بناها على أسس سليمة و موازين صحيحة..

(و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة و أهواء منتشرة و طرائق متشتتة) عند ما بعث اللّه نبيه كانت البشرية تعيش الفوضى على كل المستويات و في جميع شئون الحياة، كانوا على أديان شتى موزعة مختلفة فيما بينها.. كان هناك يهود لا يعترفون بالنصارى و هناك نصارى يكفرون باليهودية و هناك مجوس و صابئة؛ و كانوا في أهواء موزعة كل يعبد ما يراه مفيدا له و نافعا حتى الحجر يعبدونه و يقدسونه فإذا احتاجوا إليه وضعوه تحت قدرهم ليطبخوا طعامهم.. إنهم كانوا أصحاب مذاهب شتى لا يربطهم رباط و لا يجمعهم جامع يوحدهم... و قد بين بعض تلك الانحرافات بقوله:

(بين مشبه للّه بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره) فهناك المشبهة الذين - شبهوا اللّه بخلقه كما هو الحال في النصارى الذين شبهوه بعيسى ضلالا و انحرافا و هناك من ألحد في اسمه أي عدل عن طريق الصواب في تسمية اللّه واصفا إياه بغير وصفه

ص: 47


1- سورة الأعراف، آية - 157.

الحقيقي كما هو الحال من جعل له ولدا و جعله أبا.

و منهم من أطلق لفظ اللّه و أشار به إلى غيره فيطلق لفظة اللّه و يريد بعض مخلوقاته كما هي الحال عند بعض الكفار.. و في هذا الجو من الاختلاف و الانحراف بعث اللّه محمدا.

(فهداهم به من الضلالة و أنقذهم بمكانه من الجهالة) فقد كانت البشرية تعيش ضالة منحرفة لا تعرف ربها و لا تعرف ما يريد بها و منها... تعيش الكفر و البعد عن كل نافع و مفيد... كان القوي يأكل الضعيف و الكبير يظلم الصغير و الجور يخنق العدل فبعث اللّه محمدا فهداهم إلى الحق و العدل و ارتفع الظلم و عمّ العدل و أنقذهم بوجوده من الجهل إلى نور المعرفة و الإيمان.

(ثم اختار سبحانه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقاءه و رضي له ما عنده و أكرمه عن دار الدنيا و رغب به عن مقام البلوى فقبضه إليه كريما صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بعد جهاد مرير و تعب و كفاح.. و بعد أن بلّغ الناس رسالة اللّه و أدى إليهم ما أراد سبحانه اختار له لقائه فقد اختار النبي ما اختار اللّه له من قربه و جواره و لذا كان رسول اللّه عند الوفاة بعد أن خيّر بين الدنيا و ما فيها و بين لقاء اللّه اختار لقاء ربه لأن المحب اشتاق إلى حبيبه و قد رضي اللّه له ما عنده من الثواب و النعيم و القرب و أكرمه عن دار الدنيا الدنية و ما فيها من شوائب و نواقص و ما تتضمن من أحداث و مشاكل و أراد أن يبعده عن دار الابتلاء و الاختبار فقبضه اللّه إليه كريما لم تدنسه الدنيا و لم تغيّر من نفسيته الطاهرة شيئا بل جاء إلى الحياة فشرفها.

(و خلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم) و هذه طريقة الأنبياء و سيرتهم و لم يختلف عنهم محمد و لم يخالفهم فيها.. إن الأنبياء يتركون بعدهم في أممهم و شعوبهم ما يمنعهم من الفرقة و التشتت و من التنازع و الاختلاف.. إنهم يجعلون لهم جننا واقية من الانهيار و الانحراف فكانت الكتب و كان الأوصياء و رسول اللّه قد وضع لأمته معالم النجاح و قوارب النجاة... لقد رسم لهم الدرب و بيّن لهم طريق الرشد و هداهم إلى ما فيه نجاتهم و صلاحهم و قال في الحديث المتواتر المتسالم على صحته: «تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي..

كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي.. و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..».

و قد نص على ولاة الأمر من بعده و عيّنهم بأسمائهم و أسماء آبائهم فكانوا أئمة أهل البيت لا تخلو منهم الأرض و هم الحجج على الخلق و بهم ينزل اللّه المطر و بهم يقام الحق و العدل و لكن بسفه الأمة و ظلمها لنفسها تنكبت عنهم و انحرفت إلى غيرهم فكان الظلم و كان الضلال و ما وصلنا إليه من تأخر و تقهقر..

ص: 48

القرآن و الاحكام الشرعية

اشارة

كتاب ربّكم فيكم: مبيّنا حلاله (1) و حرامه (2)، و فرائضه (3) و فضائله، و ناسخه (4) و منسوخه، و رخصه (5) و عزائمه (6)، و خاصّه و عامّه، و عبره (7) و أمثاله، و مرسله (8) و محدوده، و محكمه (9) و متشابهه (10)، مفسّرا مجمله (11)، و مبيّنا غوامضه (12)، بين مأخوذ ميثاق علمه، و موسّع على العباد في جهله، و بين مثبت في الكتاب فرضه، و معلوم في السّنّة نسخه، و واجب في السّنّة أخذه، و مرخّص في الكتاب تركه، و بين واجب بوقته، و زائل في مستقبله. و مباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له (13) غفرانه، و بين مقبول في أدناه، موسّع في أقصاه.

اللغة

1 - الحلال: الجائز فعله.

2 - الحرام: الممنوع، الذي لا يجوز فعله.

3 - الفرائض: الواجبات.

4 - الناسخ: النسخ هو الإزالة لما كان ثابتا.

5 - الرخصة: التخفيف و التسهيل.

6 - العزائم: جمع عزيمة و هي الفريضة.

7 - عبر: مفرده عبرة و هي العظة.

8 - المرسل: المطلق و هو ضد المقيّد.

9 - المحكم: الذي لا يقبل من اللفظ إلا معنى واحدا واضحا.

10 - المتشابه: خلاف المحكم ما احتمل فيه أكثر من معنى.

11 - المجمل: ما لم تتضح دلالته.

12 - الغوامض: المبهمات يقال غمض الكلام إذا خفي مأخذه و معناه.

13 - أرصد له: أعد له.

ص: 49

الشرح

(كتاب ربكم فيكم مبينا حلاله و حرامه و فرائضه و فضائله) و هذا مما تركه النبي، ترك الثقلين العترة و الكتاب و قد أوصى بهما كثيرا و أمر بالتمسك بهما فألزموا كتاب اللّه فقد بيّن صلوات اللّه عليه حلاله من حرامه.. أحل لنا الطيبات و حرم علينا الخبائث و بين لنا فرائضه من ميراث و حدود و ديات.. و فضائله من حيث أجر من يقرأه و يتلوه و يحفظه و يعلّمه و يتعلمه.

(و ناسخه و منسوخه) فهناك آيات جاءت لوقت محدود كانت صلاحيتها في هذه المدة ثم ارتفع حكمها و بطل مفعولها فقد أنزل اللّه قوله(1): «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً » و لم يعمل بها غير علي ثم خفف اللّه عن الأمة فرفعها عنهم و أصبح من يريد الحديث معه يستطيع ذلك بدون أن يتصدق..

(و رخصه و عزائمه) فقد بيّن صلوات اللّه عليه موارد يجوز للمكلف أن يرتكبها في حال الاضطرار كأكل الميتة و شرب النجس كما بيّن العزائم التي لا يجوز ارتكابها تحت أي عذر أو مبرر كحرمة قتل المؤمن التي لا يسمح بها الشارع بحال..

(و خاصه و عامه) و الخاص هو الخطاب الذي تناول بعض الجزئيات كالأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و هناك خطاب عام كقوله كل من عليها فإن..

(و عبره و أمثاله) و العبر هي التي فيها عظة كما هو الحال في نقل أخبار الأمم السالفة من عاد و ثمود و ما نال العصاة مثل فرعون و قارون و كيف أخذهم اللّه جميعا ليعتبر المؤمن بهم و يحذر من بطش اللّه و انتقامه.

و أما أمثاله تعالى فقد ضربها ترغيبا و تحذيرا كما في قوله تعالى: «مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ » (2). و كقوله(3): «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ » .

ص: 50


1- سورة المجادلة، آية - 12.
2- سورة البقرة، آية - 261.
3- سورة الحج آية، - 73.

(و مرسله و محدوده) و كذلك توضحت الأوامر المرسلة كما في قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » فهو مطلق من جميع القيود و أما المحدود فهو المقيد بقيود تحدده و تمنع إرساله كما في قوله تعالى: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » فإن الرقبة مقيدة بالإيمان..

(و محكمه و متشابهه) و المحكم هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا ظاهرا بينا كما في قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ» فهو محكم في وحدانية اللّه.

و أما المتشابه فهو الذي يحتمل فيه اللفظ أكثر من معنى كما في لفظ اليد في قوله:

«اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» من حيث أن اليد تطلق و يراد بها الأصابع و تطلق و يراد بها من الأصابع إلى الزندين و ثالثة تطلق و يراد بها من الأصابع إلى المرفقين.

(مفسرا مجمله و مبينا غوامضه) فقد فسر صلوات اللّه عليه المجمل - و هو ما لم تتضح دلالته كما في القرء المردد بين الطهر و الحيض.

و مبينا غوامضه فما هو غامض لم يتضح معناه قد بينه النبي و أوضحه للناس.

(بين مأخوذ ميثاق علمه و موسع على العباد في جهله) ففي الكتاب أمور لا يجوز جهلها بل لا بد من معرفتها قد أخذ اللّه على الناس العهد أن يعلموها كما هو الحال في العقائد المتضمنة لأصول الدين فإن على كل واحد أن يعرف ربه فيوحده و لا يشرك به شيئا و يعبده و يتوجه إليه و من الأمور ما لا يجب على العباد معرفته فلو جهلوه لا يسألهم اللّه عنه كبعض صفات الباري و خصوصيات بعض الصفات و كيفياتها مما لا يهتدي إليها إلا العباقرة و الفلاسفة و أهل الفكر و البحث..

(و بين مثبت في الكتاب فرضه و معلوم في السنة نسخه و واجب في السنة أخذه و مرخص في الكتاب تركه) و هذه إشارة بل بيان واضح إلى أن السنة يمكن أن تنسخ الكتاب و الكتاب يمكن أن ينسخ السنة و قد أشار إلى أنه ربما ورد الحكم في الكتاب و هو حكم إلزامي و مع ذلك تأتي السنة فترفعه و قد تأتي السنة بحكم إلزامي فيرد القرآن بآية ترفع حكم ما شرعته السنة...

(و بين واجب في وقته و زائل في مستقبله) فهناك تكاليف تجب في أوقاتها و تزول بعد زوال وقتها كما هو الحال في صيام شهر رمضان فهو واجب في هذا الشهر فإذا انسلخ الشهر فات الشهر و لم يعد واجبا.

(و مباين بين محارمه من كبير أوعد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه و بين مقبول في أدناه موسع في أقصاه) و ذكر صلوات اللّه عليه أن ما حرمه اللّه في كتابه مختلف متنوع

ص: 51

فهناك حرام جرمه عظيم و هو خطير و هو ما أعد اللّه عليه النار كالزنا و قتل النفس المحترمة و منه ما هو ذنب صغير يغفره اللّه له و لا يحاسبه عليه كما في الكلمة القاسية تصدر نحو إنسان بريء.. و بعض الأمور مقبولة في أقلها كما في صلاة الليل فإن بعضها مقبول و كلها غير مطلوبة و موسع في تركها و كذلك قراءة القرآن فقراءة قليلة مقبولة و ترك القراءة بالكلية موسع فيه و لا إثم على تاركها.

و منها في ذكر الحج

اشارة

و فرض عليكم حجّ بيته الحرام، الّذي جعله قبلة (1) للأنام (2)، يردونه ورود (3) الأنعام (4)، و يألهون (5) إليه ولوه الحمام، و جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، و إذعانهم لعزّته (7)، و اختار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته، و صدّقوا كلمته، و وقفوا مواقف أنبيائه، و تشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه. يحرزون (8) الأرباح في متجر عبادته، و يتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه و تعالى للإسلام علما، و للعائذين (9) حرما، فرض حقّه، و أوجب حجّه، و كتب عليكم وفادته (10)، فقال سبحانه: «وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ » .

اللغة

1 - القبلة: الجهة، الكعبة المشرفة، يتوجه نحوها المصلي.

2 - الأنام: الخلق.

3 - الورود: القدوم، ورد الماء صار إليه و هو خلاف الصدور.

4 - الأنعام: الإبل و تطلق على البقر و الغنم و سميت بذلك لما فيها من الخير و النعمة.

ص: 52

5 - يألهون: من الوله و هي شدة الوجد.

6 - الإذعان: الإقرار و الانقياد.

7 - العزة: الغلبة، و العز خلاف الذل.

8 - يحرزون: يصيبون، النصيب.

9 - العائذين: جمع عائذ المستجير و المعتصم.

10 - الوفادة: القدوم و الورود طلبا للفضل.

الشرح

(و فرض عليكم حج بيته الحرام) و الحج من أعظم فرائض اللّه و قد استجمع بذل المال و تعب الأبدان و قد أجمعت الأمة على وجوبه و من أنكر ذلك فقد كفر و من أخره عن وقته بدون عذر شرعي فقد فسق و قد دل على وجوبه قوله تعالى:(1)«وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ » و قال الصادق عليه السلام: من مات و لم يحج(2) حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهوديا أو نصرانيا. و عن الإمام علي بن الحسين: حجوا و اعتمروا تصح أبدانكم و تتسع(3) أرزاقكم و تكفون مؤنات عيالاتكم و قال: الحاج مغفور له و موجوب له الجنة و مستأنف له العمل و محفوظ في أهله و ماله..

فمن اجتمعت فيه الشرائط من القدرة المالية و البدنية و لم يكن له مانع من سلطان جور يجب عليه أن يحج..

(الذي جعله قبلة للأنام) وصفه عليه السلام بهذه البركة التي شرّفه اللّه بها فإنه لكرامته عنده قد أوجب على كل مصل أن يتوجه إليه في صلاته تشريفا و تكريما قال تعالى:(4)«قَدْ نَرىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ » فيجب التوجه إليه في الصلاة و في الذبح و عند الاحتضار و غير ذلك..

ص: 53


1- سورة آل عمران، آية - 97.
2- الوسائل كتاب الحج باب 1 من أبواب وجوبه حديث 7.
3- الوسائل كتاب الحج باب 1 من أبواب وجوبه حديث 7.
4- سورة البقرة، آية - 144.

(يردونه ورود الأنعام و يألهون إليه ولوه الحمام) و هذه صورة واقعية و رسم إلهي فمن رأى حجاج بيت اللّه الحرام عند ما يدخلون مكة يقف أمام صورة تدهش العقول..

إنهم جميعا يتوجهون إلى بيت اللّه يتزاحمون للبركة منه و التزود من تلك البقاع المباركة و لو رأيتهم كيف يخشعون و يتضرعون و يبكون و يناجون ربهم بقلوب مملوءة بالحب له و الرجاء لرأيت مشهدا عجيبا يضطرك لمشاركتهم و مماشاتهم قهرا عنك فصورة مادية ترسم و أخرى معنوية؛ الأولى ترسم الشكل و الثانية ترسم المضمون و يلتقيان في وحدة تشكّل هذا الحاج المتنسك المتعبد.. إنهم كالأنعام تزدحم على مورد الشرب و هم في شوق إليه و حنين أشد من حنين الحمام لألفه كناية عن شدة شوق المسلم إلى تلك الربوع و حنينه إليها..

(و جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته و إذعانهم لعزته) و هذا البيت الحرام جعله اللّه علامة يعرف به المطيع للّه المتواضع لعظمته من العاصي الشقي المتكبر و هو ميزان الإقرار للّه بالكبرياء ممن يتكبر على اللّه فإن من يخرج من بيته قاصدا ذلك البيت تاركا أهله و وطنه و أولاده و أمواله متعرضا للأخطار فإنّما يخرج تواضعا للّه و امتثال أمره و إقرارا بعزته و كبريائه..

(و اختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته و صدقوا كلمته و وقفوا مواقف انبيائه و تشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه يحرزون الأرباح في متجر عبادته و يتبادرون عنده موعد مغفرته) في الرواية عن علي بن إبراهيم: و لما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره اللّه أن يؤذّن في الناس بالحج فقال: يا رب و ما يبلغ صوتي فقال: أذن عليك الآذان و عليّ البلاغ و ارتفع على المقام و هو يومئذ ملصق بالبيت فارتفع به المقام حتى كان أطول من الجبال فنادى و أدخل إصبعيه في أذنيه و أقبل بوجهه شرقا و غربا يقول: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم فأجابوه من تحت البحور السبعة و من بين المشرق و المغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها من أصلاب الرجال و من أرحام النساء بالتلبية «لبيك اللهم لبيك..».

و ورد الأمر الإلهي إلى خليل الرحمن بقوله له(1): «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالاً وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ » و قد استجاب لنداء الخليل قوم و لبوا دعوته و بادروا إلى امتثالها و وقفوا مواقف أنبيائه و قد تشرفت بحج بيت اللّه الحرام في سنة 1971 و قد كنت أعيش روحانية عظيمة شعرت و أنا في مكة كان رسول اللّه7.

ص: 54


1- سورة الحج، آية - 27.

يتحرك..، في كل حبة تراب حديث عن قصة النبي و جهاده و في كل موقف عبرة و استحضار لمراحل الجهاد المحمدي..

و إن في تلك المواقف تشبيها بالملائكة الذين يطوفون بعرش اللّه و يكونون في تهليل و تكبير و دعاء و تسبيح.. إنهم يشبهون الملائكة بخشوعهم و خضوعهم و توجههم إلى اللّه و انقطاعهم إليه.

إنهم يدركون الأرباح الكبيرة من خلال هذه التجارة العبادية و أي تجارة أعظم ربحا من حاج يعود مغفور الذنوب مستور العيوب.. إن كل واحد يبادر إلى ما وعده اللّه من المغفرة لخطاياه و هو لسان جملة من الأحاديث التي تقول: إن من وقف في عرفة عاد كيوم ولدته أمه - أي غفرت سيئاته و تاب اللّه عليه..

(جعله سبحانه و تعالى للإسلام علما و للعائذين حرما فرض حقه و أوجب حجه و كتب عليكم و فادته فقال سبحانه: «وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ » ) فهذا البيت بمثابة العلم الذي يهتدي به الضالون و يأمن من خلاله التائهون فهو علامة العز للإسلام و الرفعة و العلو و من دخله كان آمنا لا يجوز إخراجه منه أو إيذاءه فيه.

و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام و قد سئل عن قول اللّه «وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً» قال من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه و ما دخل من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم و من هنا فقد فرض اللّه له حقا و هو أن لا يهتك بأمر مشين بل يجب على الناس تعظيمه و احترامه و قد أوجب اللّه على الناس حجه و كتب عليهم زيارته فقال سبحانه «وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ » ..

ص: 55

2 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

بعد انصرافه من صفين و فيها حال الناس قبل البعثة و صفة آل النبي ثم صفة قوم آخرين

حال الناس قبل البعثة

اشارة

أحمده استتماما (1) لنعمته، و استسلاما (2) لعزّته، و استعصاما (3) من معصيته. و أستعينه فاقة (4) إلى كفايته (5)؛ إنّه لا يضلّ من هداه، و لا يئل (6) من عاداه، و لا يفتقر من كفاه؛ فإنّه أرجح ما وزن، و أفضل ما خزن (7).

و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، شهادة ممتحنا إخلاصها، معتقدا مصاصها (8)، نتمسّك بها أبدا ما أبقانا، و ندّخرها لأهاويل (9) ما يلقانا، فإنّها عزيمة (10) الإيمان، و فاتحة الإحسان، و مرضاة الرّحمن، و مدحرة الشّيطان. و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله بالدّين المشهور، و العلم (12) المأثور (13)، و الكتاب المسطور (14)، و النّور السّاطع (15)، و الضّياء اللاّمع، و الأمر الصّادع (16)، إزاحة (17) للشّبهات (18)، و احتجاجا بالبيّنات، و تحذيرا بالآيات، و تخويفا بالمثلات (19)، و النّاس في فتن انجذم (20) فيها حبل الدّين، و تزعزعت (21) سواري (22) اليقين، و اختلف النّجر (23)، و تشتّت الأمر (24)، و ضاق المخرج، و عمي المصدر، فالهدى خامل (25)، و العمى شامل. عصي الرّحمن، و نصر الشّيطان، و خذل (26) الإيمان، فانهارت (27) دعائمه (28)، و تنكّرت (29) معالمه (30)، و درست (31) سبله، و عفت (32) شركه (33). أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالكه (34)، و وردوا

ص: 56

مناهله (35)، بهم سارت أعلامه، و قام لواؤه (36)، في فتن داستهم (37) بأخفافها (38)، و وطئتهم (39) بأظلافها (40)، و قامت على سنابكها (41)، فهم فيها تائهون (42) حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار، و شرّ جيران. نومهم سهود (43)، و كحلهم (44) دموع، بأرض عالمها ملجم (45)، و جاهلها مكرم.

اللغة

1 - الاستتمام: طلب التمام.

2 - الاستسلام: الانقياد.

3 - الاستعصام: طلبا للعصمة و هي المنعة.

4 - الفاقة: الحاجة.

5 - الكفاية: ما يحصل به الاستغناء عن غيره.

6 - لا يئل: من وأل يئل نجا.

7 - الخزن: الادخار.

8 - المصاص: الخالص من كل شيء.

9 - الأهاويل: الأمور المفزعة.

10 - العزيمة: العقيدة و الجد و الاجتهاد.

11 - المدحرة: المبعدة و الدحر هو الطرد و الإبعاد.

12 - العلم: ما يهتدى به.

13 - المأثور: المختار، المنقول يقال حديث مأثور أي ينقله خلف عن سلف.

14 - المسطور: المكتوب.

15 - الساطع: اللامع.

16 - الصادع: من الصدع و هو الشق و هنا بمعنى الظاهر أو الحاكم.

17 - الإزاحة: الإزالة.

18 - الشبهات: جمع شبهة و سميت بذلك لأنها تشبه الحق.

19 - المثلات: العقوبات.

20 - انجذم: انقطع 21 - تزعزعت: يقال زعزعت الريح الشجر إذا حركته و تزعزع إذا تخلخل و تضعضع.

22 - السواري: جمع سارية و هي الأسطوانة، العمود، الدعامة.

ص: 57

23 - النجر: الأصل.

24 - تشتت الأمر: توزع و افترق.

25 - الخامل: الساقط من أعين الناس الذي لا ينتبه إليه.

26 - خذله: ترك نصرته، و لم يعنه.

27 - انهار السقف: سقط.

28 - الدعائم: الأركان.

29 - تنكر: تغيّر.

30 - المعالم: مفردها معلم، ما يستدل به على الطريق.

31 - درست سبله: طمست، طرقه.

32 - عفت: انطمست، و اندرست.

33 - شركة: طرقه جمع شراك الطريق.

34 - سلك مسلكه: دخل مدخله.

35 - المناهل: المشارب، و هو جمع منهل.

36 - اللواء: جمع ألوية العلم و هو دون الراية.

37 - داسه: من الدوس و هو الوطىء بالرجل.

38 - الأخفاف: جمع خف و هو للبعير كالقدم للإنسان.

39 - وطأ الشيء: داسه برجله.

40 - الأظلاف: جمع ظلف بالكسر و هو للبقر و الشاء و شبههما كالقدم للإنسان.

41 - السنابك: جمع سنبك طرف الحافر.

42 - تائهون: جمع تائه و هو الضال.

43 - السهود: و السهاد، قليل النوم، الأرق.

44 - الكحل: الإثمد، و هو حجر يطحن و يذر في العين لشفائها...

45 - ملجم: من اللجام و هو ما يجعل في فم الفرس من الحديد يمنعها من العض و يساعد على ضبطها..

الشرح

اشارة

(أحمده استتماما لنعمته و استسلاما لعزته و استعصاما من معصيته و استعينه فاقة إلى كفايته).

الحمد للّه:

الحمد ليس كلمة على الشفاه يتردد بدون معنى بل هو أعمق من ذلك إنه إقرار في

ص: 58

داخل النفس بعظمة اللّه و عطائه و بما أغدق على هذا الإنسان من الخيرات و البركات...

الحمد وقفة شكر للّه أمام كل نعمة، وقفة اعتراف و إقرار بعجز هذا الإنسان عن أداء شكر اللّه...

1 - و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام و قد سأله محمد بن مروان عن أحب الأعمال إلى اللّه عز(1) و جل فقال: أن تحمده.

2 - و في الحديث أيضا عن أبي عبد اللّه قال: من قال أربع مرات إذا أصبح:

الحمد للّه رب(2) العالمين فقد أدى شكر يومه و من قالها إذا أمسى فقد أدى شكر ليلته.

3 - و في الحديث عن أبي عبد اللّه قال: من(3) قال الحمد للّه كما هو أهله شغل كتّاب السماء.

قلت (الراوي): و كيف يشغل كتّاب السماء.

قال الإمام: يقولون اللهم إنا لا نعلم الغيب.

فيقول: اكتبوها كما قالها عبدي و عليّ ثوابها و يستحب حمد للّه عند تكاثر النعم و ظهورها.

4 - في الحديث عن رسول اللّه قال: من تظاهرت عليه النعم(4) فليكثر الحمد للّه.

5 - و في الحديث الآخر عن رسول اللّه قال: لا إله(5) إلا اللّه نصف الميزان و الحمد للّه يملؤه..

مع كلامه الشريف:

أحمد اللّه طلبا لتمام نعمته فأنا أحمد اللّه حالة كوني أطلب نعمته بتمامها كاملة و من جميع الجهات فالحمد يؤدي إلى زيادتها و تماميتها لقول اللّه تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » (6) و أحمده انقيادا لعظمته و منعته فأنا أحمده من أجل ما هو فيه من المنعة و العزة خوفا من عقابه.. و كذلك أحمده طالبا أن يمنعني من معصيته و يحجبني عن خطيئته.

ص: 59


1- وسائل الشيعة كتاب الصلاة باب الدعاء.
2- وسائل الشيعة كتاب الصلاة باب الدعاء.
3- وسائل الشيعة كتاب الصلاة باب الدعاء.
4- وسائل الشيعة كتاب الصلاة باب الدعاء.
5- وسائل الشيعة كتاب الصلاة باب الدعاء.
6- سورة إبراهيم، آية - 7.

و استعينه و أنا الضعيف فأنا المحتاج حاجة شديدة و فقرا مدقعا أستعينه فأنا بحاجة إلى عطاياه لا أستغني عن نواله و منحه قال تعالى(1): «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ» .

(إنه لا يضل من هداه و لا يئل من عاداه و لا يفتقر من كفاه فإنه أرجح ما وزن و أفضل ما خزن) قال تعالى:(2)«وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقٰامٍ » فالهداية بيد اللّه و ليس معنى أنها بيده أن يحمل الإنسان عليها قهرا عنه و يجبره على الهدى فإن ذلك مما يتنافى و التكليف و هو على مستوى حمله على المعصية في المنع و الرفض بل هدايته سبحانه أن يفتح أمام الإنسان أبوابها و يرشده إليها و يوفر له سبلها كأن يخلقه من أبوين مسلمين و يوفر له تربية صحيحة على أيدي أهله و يريه بعين البصيرة منازل المهتدين و درجاتهم فتفتح له من خلال ذلك أبواب الهداية و نوافذ السعادة كما أن إضلاله تعالى لعبده إنما يكون إذا تخلى عنه و تركه و شأنه فإن الشيطان يستولي عليه و يسيطر على عقله و يحرفه نحو الشر و الرذيلة...

و من يهدي اللّه فلا مضل له فهو إذا تولى عبده هداه و لا يضل بعد هداه..

- و لا ينجو أبدا من عذاب اللّه من عاداه و كيف ينجو هذا المخلوق الضعيف الحقير من الرب العظيم الكبير؟! كيف يتخلص من عذاب اللّه إنسان و لا ملجأ له إلا هو و لا مهرب منه إلا إليه ؟... و كل مخلوق ضعيف يكفيه همّ نفسه.

- و من كفاه اللّه و أعطاه حاجته فلا يحتاج و لا يفتقر و اللّه هو الغني المطلق متى يعطي فردا فلا يصيبه الفقر أبدا.

قال الإمام زين العابدين في صحيفته السجادية: فمن حاول سدّ خلته من عندك و رام صرف الفقر عن نفسه بك فقد طلب حاجته في مظانها و أتى طلبته من وجهها و من توجه بحاجته إلى أحد من خلقك أو جعله سبب نجحها دونك فقد تعرض للحرمان و استحق من عندك فوت الإحسان..

فإنه أرجح ما وزن و أفضل ما خزن و الضمير في «إنّه» قالوا إنه يرجع إلى اللّه و من اتخذ اللّه إلى جانبه و معه فإنه الناجح في حياته و السعيد في آخرته.. و قالوا و هو الأرجح إنه راجع إلى الحمد الذي دل عليه الحمد في مطلع الخطبة و حمد اللّه أرجح شيء إذا7.

ص: 60


1- سورة فاطر، آية - 15.
2- سورة الزمر آية - 37.

وزن به و أفضل ما يدخره الإنسان لوقت حاجته.

(و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له شهادة ممتحنا إخلاصها معتقدا مصاصها نتمسك بها أبدا ما أبقانا و ندخرها لأهاويل ما يلقانا فإنها عزيمة الإيمان و فاتحة الإحسان و مرضاة الرحمن و مدحرة الشيطان) قرن الإمام شهادة أن لا إله إلا اللّه بحمد اللّه و نفي الشريك عنه لما في نفيه من التنزيه للّه عن النقص و الحاجة و قد أرادها منا أن تكون ذات مواصفات عالية بها يتحقق مضمونها و هذه المواصفات هي:

أولا: أن تكون شهادة ممتحنا إخلاصها أي شهادة يتوافق فيها اللسان مع الجنان اختبر نفسه فيها فكانت النتيجة الاعتقاد بها خالصا من الشرك و الشك.

ثانيا: معتقدا مصاصها أي عاقدا قلبه على حقيقتها و عمقها و ما تنطوي عليه فكان اللسان يحكي عما في الضمير الخالص..

ثالثا: دعا إلى التمسك بها مدة بقائنا في الحياة فإن بها عز الدنيا و سعادتها، و ما تمسك بها أحد في الدنيا إلا عاش عزيزا كريما حقق لنفسه و أمته أرفع درجات الكرامة و كذلك يعدّها إلى شدائد القيامة و عظائمها فإن في تلك الوقفات أمورا رهيبة و عقبات شديدة لا يزيلها أو يذللها إلا هذه الكلمة فإنها هي التي تفتح باب الجنة أمام طلابها و ترفع العذاب و العقاب.. و المسلم تبقى كلمة لا إله إلا اللّه في قلبه و على لسانه طيلة بقائه في دار الدنيا و أيضا هي عدته يوم القيامة او بها نجاته من النار...

رابعا: فإن شهادة لا إله إلا اللّه هي عقيدة الإيمان و أساسه و كل الأمور الأخرى تتفرع عنها و تأتي بعدها و قد كانت هذه الكلمة تدخل الناس في الإيمان و ترفع عنهم السيف كما إن من رفضها و لم يقبلها كان في عداد الكفار و لاحقه سيف الإسلام أينما كان..

خامسا: إنها فاتحة الإحسان لأن الإنسان بمجرد أن ينطق بها دخل في جملة المؤمنين باللّه و هذا يدفعه إلى البحث عن الرسول و هذا بنفسه يدخله في عالم الخير و البركة و كل ما فيه نفع لنفسه و ليغره..

سادسا: و هي أيضا مرضاة للرحمن لأن فيها إقرارا باللّه و اعترافا بوجوده في طرفها الإيجابي كما إن فيها طردا للشيطان و قهرا له و إذلالا لمقامه من جهة طرفها السلبي و أي إذلال أشد للشيطان من أن ترفع الآلهة و تنفيها من الوجود و تجعل للّه وحده كل الوجود و كل موجود...

ص: 61

كلمة لا إله إلا اللّه:

«لا إله إلا اللّه» أخصر شعار لأعمق مضمون و أشمل معنى.. إنها الكلمة التي قضت على الآلهة كلها سواء كانت بشرية أو صنمية أو معنوية... قضت على الأهواء و الشهوات و النزوات..

«لا إله» نفي مطلق لكل إله تصطنعه خيالات الناس و تصوراتهم... نفي مطلق لمن فرض نفسه إلها يتحكم في رقاب الناس و يمارس عليهم الربوبية بدون حق او استحقاق...

و في المقابل تجد الإثبات في أروع محل و أعظمه «إلا اللّه» فاللّه وحده هو الإله..

لا إله إلا اللّه حررت الإنسان من الظلم و العبودية و حققت له إنسانيته و جعلته عظيما و كبيرا...

و هذه الكلمة قد بينّت الأحاديث أهميتها و نحن ننقل عينات من ذلك.

1 - ورد عن النبي بأسانيد جمة(1) عن جبرئيل عن اللّه عز و جل قال: لا إله إلا اللّه حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي.

2 - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا إله إلا اللّه نصف(2) الميزان و الحمد للّه تملأه.

3 - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ما قلت و لا قال القائلون(3) قبلي مثل «لا إله إلا اللّه».

4 - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

من قال: لا إله إلا اللّه مخلصّا(4) دخل الجنة و إخلاصه أن يحجزه لا إله إلا اللّه عما حرّم اللّه عز و جل.

5 - عن الصادق عليه السلام عن آبائه(5) أن رسول اللّه قال:

لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه فإن من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة.

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالدين المشهور و العلم المأثور، و الكتابء.

ص: 62


1- البحار ج 90 كتاب الدعاء.
2- البحار ج 90 كتاب الدعاء.
3- البحار ج 90 كتاب الدعاء.
4- البحار ج 90 كتاب الدعاء.
5- البحار ج 90 كتاب الدعاء.

المسطور، و النور الساطع و الضياء اللامع و الأمر الصادع).

بعد أن شهد للّه بالوحدانية شهد لمحمد بالرسالة و هذه الشهادة هي مفتاح تلك و بابها و لا تقبل الأولى بدون الثانية و لا يكون لها معنى بدونها لأن معرفة اللّه تستدعي معرفة الطريق إليه و معرفة الطريق إليه لا تتأتى إلاّ عن طريق معرفة رسوله الذي يتلقى مراداته و يبلغها للناس.. فالرسول واسطة بين اللّه و بين هذا الإنسان و عن طريقه يصل الإنسان إلى اللّه و يتعرف على أحكامه و ما يريد منه.. و قد وصفه بالعبودية لأنها أشرف صفة تحريرية.. فمن كان عبدا للّه تحرر من عبودية غيره سواء كان ذاك الغير صنما أو وثنا أو هوى النفس أو العشيرة أو الحزب أو التنظيم أو أي إطار آخر و عنوان آخر.. ثم ذكر بعض خصوصيات ما جاء به الرسول فقد أرسله اللّه بالدين الظاهر البين الواضح..

و العلم المأثور أي الدين الذي يهتدي به الناس لسموه و عظمته و المختار من قبل اللّه و المهيمن على الأديان كلها و أراد بالكتاب المسطور القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ المنزل على الرسول و المحفوظ في نفوس الناس و قلوبهم و النور الساطع الذي يهدي إليه التائه و يرد الضال و الضياء اللامع الذي يبرق فينير الدرب للسالكين و الأمر الصادع هو الكاشف للحق المبيّن له و المظهر لحقائقه.

(إزاحة للشبهات) و هذه بعض علل البعثة و إحدى دواعيها إنها كانت لرفع الشبهات التي كانت تسري في ذلك الوقت بين المجتمع و كان السماسرة و الدجالون يموهون على الناس و يلبسون الحق بالباطل ليضلوا البشرية و يحرفوها عن عبادة اللّه إلى عبادة غيره من طواغيت الأرض و فراعنة الزمن... ببركة البعثة النبوية ارتفعت الشبهات التي كان يثيرها أصحاب الامتيازات من حكام و زعماء مدنيين و دينين.

(و احتجاجا بالبينات) فإن رسول اللّه قد جاء بأوضح البراهين و أظهر البينات.. إنه لم يقل للناس عطلوا عقولكم و اتبعوني و لا أغمضوا عيونكم و قلدوني.. بل قال لهم هذه براهين الصدق على ما أدّعي.. لقد توضحت الحقيقة أمام أنظار قريش بل العالم كله و قد أثبتت الشريعة الإسلامية صدق رسول اللّه بعد هذه الفترة الطويلة من عمر الإنسان و قد دخل كثير من العلماء و الأدباء و الفلاسفة في دين الإسلام بعد تطواف طويل في عالم الأديان و المذاهب و بعد دراسة امتدت عقودا من أعمارهم... بعد ذلك أدركوا أن أحكام الإسلام و تعاليمه هي التي يجب اتباعها و الأحق بالإيمان بها.. فإن عقيدة تنزه اللّه عن حالات الإمكان البشري و تجعل الأنبياء طاهرين مقدسين و تأتي بالإسلام شريعة متكاملة تنظم حياة الفرد و المجتمع أقول أن عقيدة و شريعة بهذه المثابة لجدير بكل

ص: 63

صاحب عقل قد تنزه عن الهوى و الغرض أن يؤمن بها و يتبعها و يدعو إليها..

(و تحذيرا بالآيات) فإن تخويف الناس من عذاب اللّه و عقابه لكي يرتدعوا عن الباطل و يؤمنوا بالحق كانت إحدى الوسائل التي يتبعها الداعون إلى اللّه إذ ربما رغب الإنسان عن المنفعة و أعرض عنها و لكنه لن يترك عوامل الخوف تسيطر عليه و تقهره فلذا كان دفع الضرر و الخوف أولى من جلب المنفعة و أقوى على تحريك الإنسان نحو تحقيق المراد و قد كان التخويف بالنار و ما أعده اللّه من العذاب على مستوى الترغيب بالجنة و ما فيها من نعيم و قوله عليه السلام من قوله تعالى(1): «وَ مٰا نُرْسِلُ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ تَخْوِيفاً» .

(و تخويفا بالمثلات) فقد كان النبي يخوّف قريشا بل العرب و الناس جميعا أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة حيث أخذهم اللّه تارة بالطوفان و أخرى بالصاعقة و ثالثة بالقحط و الجوع و رابعة أرسل عليهم القمل و الضفادع و خامسة أرسل عليهم الصيحة و هكذا فكان يخوفهم أن لم يؤمنوا به و يصدقوه أن يصيبهم ما أصاب السابقين.

(و الناس في فتن انجذم فيها حبل الدين) بعد أن ذكر عليه السلام دواعي البعثة و أسبابها ذكر حال الناس و ما كانوا عليه من ضلال و فساد فقد كانوا يعيشون الاختلاف و التشتت و البدع الباطلة و ليس للدين أثر أو وجود.. كان هناك زخرفة الكهان و عقد السحرة و بدع المشعوذين و أما الدين فقد انقطعت علاقاتهم به و تنكروا له و لأحكامه..

(و تزعزعت سواري اليقين) اضطربت أسس الدين عندهم فتزلزلت عقيدتهم باللّه و يقينهم به و بكتبه و رسله فكانوا يعبدون الأصنام يتوجهون إليها بالدعاء و طلب الحاجات تاركين اللّه معرضين عنه و قد كانت مواقفهم العدائية للنبي من الأدلة على اضطراب عقائدهم و تشتت أمرهم و انحراف طريقهم.

(و اختلف النجر و تشتت الأمر) اختلفوا في أصل العقيدة التي هي الإيمان باللّه و توحيده و عبادته فمنهم من أنكر وجوده و منهم من شبهه بخلقه و منهم من أشرك معه غيره فتوزع الناس و اختلفوا فيما بينهم و لم يعد لهم وحدة جامعة تؤلف بينهم و تجمع شملهم..

(و ضاق المخرج و عمي المصدر) فهذه الفتن و الضلالات قد استحكمت بين الناس و أحاطت بهم حتى أصبح الخروج منها متعسرا.. لقد أضحت دينا يصعب الخروج منها9.

ص: 64


1- سورة الإسراء، آية - 59.

بل من فكّر في الخروج منها لم يهتد إلى أبواب السلام و قوارب النجاة... لأن الجاهلية أحكمت قواعدها و أحاطت المجتمع من جميع جوانبه و لم تترك لهذا الإنسان منفذا يرى منه النور الذي يهتدي به إلى اللّه و يقوى به على الخروج من هذا السور المضروب حوله.

(فالهدى خامل و العمى شامل) فالهدى المتمثل بقواعد الحق و العدل من التوحيد و الإيمان و الالتزام بالواجب لا وجود لكل ذلك و لا يحكم شيئا من سلوكيات الناس و حركة حياتهم بينما الباطل المتمثل بالكفر و الإلحاد و البعد عن اللّه و الفوضى و الانحلال كل ذلك عام شامل قد بسط جناحين عل الناس و استولى على حياتهم و مجتمعهم.

(عصي الرحمن و نصر الشيطان) و يا له من مجتمع أحمق ضال منحرف فاسد يعصى الرحمن فلا يطاع له أمر و كل أوامره لصالح هذا الإنسان و سعادته بينما انتصر الشيطان بأعوانه الجاهليين الذين اتبعوه في مفاسده و رذائله و كل انحرافاته من قتل النفس المحترمة و نشر الزنا و السعي في فساد البينة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و جمع وجوه الحياة...

(و خذل الإيمان فانهارت دعائمه) عند ما لا ينتصر للإيمان و لا يدافع عنه و يتخلى كل فرد عن مهمته و مسئوليته في حمل راية الحق و الدعوة له عندها تسقط أركان هذا الإيمان و تتداعى بنيته و لا يتماسك بنيانه.. و لو لا تهاون المؤمنين في تحمل مسئوليتهم لم يجرؤ الباطل على أن يتولى الأمور و يحكم بين الناس و يبسط ظله عليهم و لكن تقاعس المؤمنين فسح المجال أمام المبطلين و هذا أدى إلى انهيار أركان الإيمان و دعائمه..

(و تنكرت معالمه و درست سبله و عفت شركه) فمن تبعات خذل الإيمان أن تتغير أحكامه و ما كان ظاهرا منه و بيّنا فيه و كذلك تمّحي الطرق الموصلة إليه، بموت العارفين فيه و الأوصياء عليه و كذلك تنطمس طرقه المستقيمة و سبله الصحيحة..

(أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه و وردوا مناهله) و هذه طريقة أهل الجاهلية عند ما بعث اللّه نبيه لقد أطاعوا الشيطان في أوامره فهو المعلم و هم التلامذة اتبعوا أثره و ساروا دربه و قصدوا قصده و شربوا من ضلاله و انحرافه.

(بهم سارت أعلامه و قام لواؤه) بهؤلاء المشركين تحركت آمال الشيطان و ارتفعت فيهم المعاصي بحيث أنهم جسّدوا ما يريده و يطلبه فهم راياته الباطلة التي تتحرك و بهم استقام أمر الشيطان و قوي.

(في فتن داستهم بأخفافها و وطئتهم بأظلافها و قامت على سنابكها) و هذه صورة من

ص: 65

صورهم يتخيلها الإنسان فيتخوف منها لما فيها من الذل و الضر و البؤس و لما فيها من الشدة، فهذه الفتن التي كانوا فيها كأنها إبل قد داستهم بأخفافها و كم في هذه الصورة من الضعف، جمل على كبره يدوس إنسانا بخفه تعظيما للفتنة و الضلالة و احتقارا و امتهانا لهم أو بقرة تطأ إنسانا أو فرسا تقوم على أطراف حوافرها عليهم.. إنها فتنة شديدة.

(فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار و شر جيران) إنهم لا يدرون الحق من الباطل و لا يميزون الخير من الشر لا يهتدون إلى ما ينفعهم و هم في جهل و عمى لا علم و لا ثقافة و لا حضارة، إنهم منحرفون عن الحق و الصواب و عما فيه خيرهم.. إنهم في خير دار و هي مكة المكرمة فإنها بلدة مقدسة يحترمها الجميع و يشدون إليها الرحال و لكنهم في شر جيران و هي قريش الظالمة المعتدية التي لم تستقم على الجادة و لم تعترف بالحق...

(نومهم سهود و كحلهم دموع بأرض عالمها ملجم و جاهلها مكرم) ما أجمل هذه العبارة و أروعها سبحان من أعطاه البيان لقد جعلهم ينامون و لكن نومهم أرق و قلق و هو أشق من اليقظة و جعلهم يكتحلون و الكحل حجر ترتاح له العين و تشفى به و جعلهم يكتحلون بالدموع فهم في حالة بكاء مستمر.

و عند ما كنت أقرأ عبارته عليه السلام عالمها ملجم و جاهلها مكرم ضربت بطرفي نحو واقعنا المعاش فوجدته ينطبق عليه بدقة و كأننا في زمن الجاهلية فالعلماء و أصحاب الرأي لا يسمح لهم و لا يقبل منهم أنني أنظر إليهم في تيجانهم الكريمة و قد حوصروا في بيوتهم و منعوا من الحديث و ضربت عليهم العصابات أسوارا منيعة منعت من خلالها الناس أن يسمعوا لهم أو يقتدوا بهم.. إنهم مراجع و قادة و لهم الأمر و النهي قد منعوا من الكلام و إن تكلموا فلا أحد يسمع لهم بينما ارتفعت أصوات الجاهلين الذين لا يعرفون أحكام الخلوة و الطهارة.. لقد تصدروا الواجهة و صاروا أصحاب الرأي و بيدهم الأمر و النهي و قد نجح الاستعمار في هذا السبيل عند ما أبعد عن الساحة أهلها و أصحابها و أتى بمن ليس أهلا لها و لا معرفة له بها..

ص: 66

و منها يعني ال النبي عليه الصلاة و السلام

اشارة

هم موضع (1) سرّه (2)، و لجأ أمره (3)، و عيبة (4) علمه، و موئل (5) حكمه، و كهوف (6) كتبه، و جبال دينه، بهم أقام انحناء (7) ظهره، و أذهب ارتعاد (8) فرائصه (9).

اللغة

1 - موضع: مكان، محل.

2 - السرّ: ما يكتمه الإنسان في نفسه.

3 - لجأ: اللجأ هو الملاذ و المعتصم.

4 - العيبة: الوعاء و فلان عيبة علمي أي موضعه.

5 - موئل: مرجع.

6 - الكهوف: المغارات.

7 - الانحناء: الاعوجاج.

8 - ارتعد: اضطرب و الارتعاد الاضطراب.

9 - الفرائص: جمع الفريصة، اللحمة بين الجنب و الكتف لا تزال ترتعد.

الشرح

(موضع سره و لجأ أمره) و هذه بعض فضائل أهل البيت و خصائصهم إنهم آل محمد و ما أدراك ما آل محمد؟!.. صفوة البشرية و خيرة اللّه من البرية هم و اللّه موضع الأسرار النبوية و ما عندها من العلوم و الأمور الغيبية و هذا الاختصاص بهم لسر في طبائعهم المطهرة الطاهرة المستعدة لقبول هذا الفيض الرباني و إليهم يلجأ الخلق و يرجعون عند الاختلاف و النزاع لأن عندهم علم الدين و هم أدرى الخلق فيه و في زيارة الجامعة الكبيرة.. ارتضاكم لغيبه و اختاركم لسره..

(و عيبة علمه) مستودع العلم الإلهي فكما تحفظ الأمور الثمينة في خزائنها و يحافظ

ص: 67

عليها فيها فلا تضيع أو تتلف فأهل البيت موضع العلم الذين لا يبخلون عن الناس به و لا يضيعونه أو يكتمونه.. و في زيارة الجامعة الكبيرة «و حفظة لسره و خزنة لعلمه و مستودعا لحكمته و تراجمة لوحيه».

(و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه) فالأحكام الإلهية ترجع إليهم و تؤخذ منهم لأنهم أخبر الناس بها و أكثرهم وقوفا عليها عندهم تحرز كتب السماء التي تمثلت بالقرآن و تعاليم الإسلام و من هنا كان الإمام يقول: و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم و أهل الإنجيل بإنجيلهم و أهل الزبور بزبورهم و أهل القرآن بقرآنهم...

و بهم يستقر الدين و يثبت فلا يتزلزل أو يضطرب أو يتعرض لهزات تأتي عليه كما إن الجبال أوتاد للأرض.. و من هنا كان أئمة أهل البيت عليهم السلام يهبّون إلى الدفاع عن الإسلام و نصرته في كل موقف يشعرون فيه إنه في خطر أو يمكن أن يلحقه ضرر.

(بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه) بهم اشتد الإسلام و قوي الدين فأذهب اللّه بهم ضعفه و وهنه و كانوا أركانه و المدافعين عنه لقد كان ضعيفا في ابتداء أمره اجتمعت العرب على حربه و القضاء عليه و كانت المحاولات تلو المحاولات من أجل أن ينتهوا منه و يتخلصوا من وجوده و قد شنّوها حروبا دامية كان الإمام علي سيد المواقف فيها، أطاح برءوس الأبطال و قضى على الشجعان حتى قوي الاسلام و ثبت و ذهب عنه ما يخاف عليه منه و نظرة واحدة يلقيها الإنسان على معارك الإسلام و حروبه يجد أن بطلها كلها و المتفرد فيها هو الإمام علي عليه السلام...

و منها يعني قوما آخرين

اشارة

زرعوا الفجور (1)، و سقوه الغرور (2)، و حصدوا (3) الثّبور (4)، لا يقاس بآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من هذه الأمّة أحد، و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا: هم أساس الدّين، و عماد اليقين. إليهم يفيء (5) الغالي (6)، و بهم يلحق (7) التّالي (8). و لهم خصائص (9) حقّ الولاية، و فيهم الوصيّة و الوراثة، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله، و نقل إلى منتقله!.

ص: 68

اللغة

1 - الفجور: العدول عن الحق، الزنا، الاسترسال في المعاصي.

2 - الغرور: الخداع و الباطل.

3 - حصد: يقال حصد الزرع إذا قطعه.

4 - الثبور: الهلاك.

5 - يفيء: يرجع.

6 - الغالي: من الغلو و هو تجاوز الحد.

7 - لحق: أدرك، و لحقه أدركه.

8 - التالي: التابع.

9 - خصائص: جمع خصيصة أي خاصة به و مختصة.

الشرح

(زرعوا الفجور و سقوه الغرور و حصدوا الثبور) بعد أن ذكر أهل البيت و بعض خصائصهم ذكر هنا بعض أوصاف أعدائهم و قد ذهب أكثر شراح النهج إلى أنه يريد الأمويين أعداء الإسلام و المسلمين و خصوصا معاوية رأس الفئة الباغية و طاغوتها الأعظم و لا شك أن هذه الأوصاف تنطبق عليهم و تحكي واقعهم و تصدق على مسيرتهم..

إنهم قوم زرعوا الفجور و هو المنكر و الرذيلة و سعوا في محاربة الحق و أهله و قتال الدين و المتدينين و قد عرف عن بني أمية ذلك فقد كانوا أهل فجور و كفر بينما كان بنو هاشم أهل عفة و ورع.

و هذا الزرع لكي يكبر و ينمو و يقوى لا بد له من ماء يسقى به و كل شيء له سقاية من نوعه و ما يلائمه و الفجور له ماء يسقى به و هو الغرور، و هذا الغرور هو الذي كان ينمي الفجور و يغذي الانحراف و كان بنو أمية يعيشون هذه الحالة القبيحة يتصورون الهاشميين أندادا لهم فيروحون في حركة غرورية تدفعهم إلى مجاراتهم بل ربما ادعوا التقدم عليهم و السبق لهم و لكن كان عاقبة هذا الزرع للفجور و السقي له بالعرور أن يحصد أصحابه الهلاك و الدمار و هذه نتيجة طبيعية لمثل هذه المقدمات، و قد حصد بنو

ص: 69

أمية أسوأ النتائح و أقبحها فلم يكادوا يحسون بلذة الدنيا حتى انقضّ عليهم بنو العباس فأزالوهم عنها و قضوا عليهم و لم يبق منهم مخبر و حتى اليوم يخجل الفرد إذا نسبته إليهم بل ينكر ذلك و يتنكر له هذا في الدنيا و أما في الآخرة فإنه عذاب اللّه و عقابه الذي لا يقوى عليه بشر سيطالهم و يحل بهم.

(لا يقاس بآل محمد صلى اللّه عليه و آله من هذه الأمة أحد و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا) لكي يقاس شيء بشيء و يقارن به يجب أن يكون هناك وحدة تجمعهما و يلتقيان عندها و لذا لا يقاس الدر بالحجر و التبر بالتبن و الثريا بالثرى.. و آل محمد وحدة فريدة من نوعها.. طينة و عجينة و صنعا و تكوينا نظر اللّه إلى بني آدم نظرة فكان أهل البيت موضع اختياره و اجتبائه.. صفّاهم من كل رذيلة و طهرهم من الرجس و حباهم بكل مكرمة فكانوا الرأس و القلب و ما عداهم سائر الجسد و لا يقاس بالرأس و القلب شيء من الأعضاء..

و كيف يساويهم من جرت نعمتهم عليه فعن أيديهم كانت الهداية و كانوا السبب في إيصال الخير إلى الناس و ما هذه النعم التي نتمتع بها و هذا التحرر الفكري و الإيماني إلا ببركة آل رسول اللّه، فلو لا جهاد علي و صلح الحسن و شهادة الحسين و علم الأئمة لم يبق للإسلام أثر.. و اليد العليا خير من اليد السفلى و المنعم أشرف من المنعم عليه..

(هم أساس الدين و عماد اليقين) آل محمد عليهم يقوم الدين كما يقوم البناء على أساسه، و بمقدار ما يكون الأساس قويا محكما ثابتا يكون البناء راسخا شامخا قويا و آل محمد هم أساس هذا الدين فعن أيديهم كان، و هم أهله و رعاته و المدافعون عنه.. هم مبلغوه و ناشروه و هم الذين رسخت العقيدة في نفوسهم حتى قال علي عليه السلام كلمته «و اللّه لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقينا» فكان التعبير عن نهاية الوصول إلى أرفع درجات الإيمان و العقيدة فكانوا هم عماد اليقين من هذه الجهة و من جهة أنهم يرفعون الشبهات و يزيلونها من أمام الناس و يعمقون العقيدة في قلوب الضعفاء حتى يقووا و يشتدوا..

(إليهم يفىء الغالي و بهم يلحق التالي) أهل البيت هم الميزان فمن أراد أن يعرف كفره من إيمانه و شكه من يقينه و عدله من ظلمه و حقه من باطله و صدقه من كذبه و خيره من شره فعليه أن ينظر إلى أهل البيت فإن كانت أفعاله كأفعالهم و أقواله كأقوالهم و سلوكه كسلوكهم و عقيدته كعقيدتهم فهو الصحيح السليم على الصراط المستقيم و إلا فعليه مراجعة حساباته و تصحيح مساره..

ص: 70

من تجاوز ما قالوا و ما فعلوا يجب أن يرجع إليهم و من قصّر عن ذلك يجب أن يلتحق بهم. و في زيارة الجامعة الكبيرة «فالراغب عنكم مارق و اللازم لكم لاحق و المقصر في حقكم زاهق و الحق معكم و فيكم و منكم و إليكم و أنتم أهله و معدنه»..

(و لهم خصائص حق الولاية) إن الشروط و المواصفات التي يجب أن تتوفر في ولي الأمر و المتولي لشئون الأمة، هذه الخصائص من مختصات أهل البيت لا يشاركهم فيها أحد و أخصّ تلك الخصائص أن يكون ولي الأمر معصوما و هذه الصفة اقتصرت على أهل البيت بالخصوص و لم تتعد إلى غيرهم و لم يدعها أحد و قد ثبت للعيان و تناقلته الركبان ما تمتع به أهل البيت و ما اختصوا به من علم و حلم و زهد و شجاعة و جرأة و إقدام و غيرها من المناقب و الصفات التي عجز غيرهم عن اكتساب جزء منها فضلا عن أن يجمع أكثرها..

(و فيهم الوصية و الوراثة) فقد جعلهم النبي أوصياءه و قلدهم الأمر من بعده فقال في حق الإمام في حديث الدار في ابتداء الدعوة «إن هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم..».

و قد نص النبي على أوصيائه الذين يتولون الأمر من بعده فكان علي و أولاده هم ولاة الأمر و لهم ميراث النبي لأنهم أولى الخلق به في كتاب اللّه و في منطق العقل و النقل..

(الآن إذ رجع الحق إلى أهله و نقل إلى منتقله) هذا الكلام منه يدلّل على ظلم من تقدمه و إنهم قد غصبوا حقه و سلبوه إرثه لأنه يقول قد رجع الحق و هي الخلافة - إلى أهله و أصحابه الشرعيين نقل من أيدي الظالمين إلى مكانه الشرعي الصحيح و محله الواقعي السليم.

ص: 71

3 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي المعروفة بالشقشقية(1)و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له أما و اللّه لقد تقمّصها (2) فلان (ب) و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب (3) من الرّحا (4). ينحدر عنّي (5) السّيل (6)، و لا يرقى (7) إليّ الطّير؛ فسدلت (8) دونها ثوبا، و طويت (9) عنها كشحا (10). و طفقت (11) أرتئي (12) بين أن أصول (13) بيد جذّاء (14)، أو أصبر على طخية (15) عمياء، يهرم (16) فيها الكبير، و يشيب (17) فيها الصّغير، و يكدح (18) فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!.

ترجيح الصبر

اشارة

فرأيت أنّ الصّبر على هاتا (19) أحجى (20)، فصبرت و في العين قذىّ (21)، و في الحلق (22) شجا (23)، أرى تراثي (24) نهبا (25) حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها (26) إلى فلان بعده. ثم تمثل بقول الأعشى:

شتّان (27) ما يومي على كورها (28) *** و يوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها (29) في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّ ما تشطّرا (30) ضرعيها (31)! - فصيّرها في حوزة (32) خشناء (33) يغلظ (34) كلمها (35)، و يخشن مسّها (36)، و يكثر العثار (37) فيها، و الاعتذار (38) منها،

ص: 72


1- (ب) فلان كناية عن أبي بكر و في بعض النسخ تصريح بذلك.

فصاحبها كراكب الصّعبة (39) إن أشنق (40) لها خرم (41)، و إن أسلس (42) لها تقحّم (43)، فمني (44) النّاس - لعمر اللّه - بخبط (45) و شماس (46)، و تلوّن و اعتراض (47)؛ فصبرت على طول المدّة، و شدّة المحنة (48)؛ حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيا للّه و للشّورى! متى أعترض (49) الرّيب فيّ مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن (51) إلى هذه النّظائر (52) لكنّي أسففت (52) إذ أسفّوا، و طرت إذ طاروا، فصغا (54) رجل منهم لضغنه (55)، و مال الآخر لصهره (56)، مع هن وهن (57)، إلى أن قام ثالث القوم نافجا (58) حضنيه (59)، بين نثيله (60) و معتلفه (61)، و قام معه بنو أبيه يخضمون (62) مال اللّه خضمة الإبل نبتة الرّبيع، إلى أن انتكث (63) عليه فتله (64)، و أجهز (65) عليه عمله، و كبت (66) به بطنته (67)!.

اللغة

1 - الشقشقية: الشقشقة شيء يخرجه البعير من فيه إذا هاج.

2 - تقمّصها: لبسها كالقميص.

3 - القطب: من الرحى مسمارها الذي عليه تدور.

4 - الرحى: مؤنثة جمعها أرحاء و أرحية، الطاحونة، الجاروش.

5 - انحدر عنه: نزل عنه و هبط مع السرعة.

6 - السيل: الماء الكثير السائر بسرعة.

7 - يرقى: يصعد.

8 - سدلت: الثوب أرخيته.

9 - طويت: ضد نشرت.

10 - كشحا: الكشح ما بين الخاصرة و الجنب.

11 - طفقت: جعلت.

12 - أرتئي: أفكر طلبا للرأي الأصلح.

13 - أصول: صال يصول صولة وثب و حمل عليه.

ص: 73

14 - الجذاء: من اليد المقطوعة.

15 - الطخية: الظلمة.

16 - يهرم: هرم كفرح بلغ أقصى الكبر.

17 - يشيب: من الشيب و هو بياض الشعر.

18 - يكدح: يسعى.

19 - هاتا: هذه.

20 - أحجى: ألزم و أجدر بالعاقل.

21 - القذى: ما يقع في العين من تبنة و ما يشبهه.

22 - الحلق: مجرى الطعام و الشراب.

23 - الشجى: ما يعترض في الحلق من عظم و نحوه.

24 - تراثي: ميراثي، ما يتركه الميت من المقتنيات.

25 - نهبا: من النهب و هو السلب، و الغنيمة.

26 - أدلى بها: ألقاها و دفعها.

27 - شتان: بعد و افترق.

28 - كورها: كور الناقة رحلها.

29 - يستقيلها: يطلب الإقالة منها أي التخلي عنها.

30 - تشطر الشيء: أخذ كل منهما شطرا.

31 - الضرع: للناقة كالثدي للمرأة.

32 - حوزة: طبيعة، ناحية.

33 - الخشناء: من الخشن و هو خلاف نعم و لان 34 - الغلظ: ضد الرقة و هي القساوة.

35 - كلمها: جرحها.

36 - المس: اللمس.

37 - العثار: الزلل.

38 - الاعتذار: تقديم كلام يرفع عنه اللوم.

39 - الصعبة: الناقة التي يصعب قيادها.

40 - أشنق: الناقة بالزمام إذا جذبها إليه بالزمام.

41 - أخرم: أنفها شقّه.

42 - أسلس: لها أرخى لها الزمام.

43 - تقحّم: هلك.

44 - مني الناس: ابتلوا.

45 - الخبط: السير على غير هدى.

ص: 74

46 - الشماس: الامتناع و النفار.

47 - الاعتراض: السير غير المستقيم ففي حال سيره طولا كأنه يسير عرضا.

48 - المحنة: جمعها محن ما يمتحن به الإنسان من بلية.

49 - اعترض: الشيء إذا صار عارضا كالخشبة المعترضة في النهر.

50 - الريب: الشك.

51 - أقرن: أجمع، و القرن هو الجمع بين الشيئين.

52 - النظائر: الأشباه و الأمثال.

53 - أسّف: الطائر إذا دنا من الأرض.

54 - صغى: مال.

55 - الضغن: الحقد.

56 - الصهر: قيل هو أهل بيت المرأة و قال الأزهري الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم كالأبوين و الإخوة...

57 - مع هن و هن: مع عورات لا أريد ذكرها.

58 - نافجا: رافعا.

59 - الحضن: ما بين الإبط و الخاصرة.

60 - النثيل: الروث.

61 - المعتلف: موضع العلف.

62 - يخضمون: الخضم الأكل بكل الفم و ضده القضم.

63 - انتكث: انتقض.

64 - فتله: فتل الحبل لواه.

65 - أجهز: على الجريح أسرع في قتله و أتم قتله.

66 - كبت: الفرس سقط على وجهه.

67 - البطنة: شدة الامتلاء من الطعام.

الشرح

اشارة

في هذه الخطبة أعظم احتجاج من الإمام على من تقدمه من الخلفاء و فيها بيان تظلمه و تصبره و ما ناله من الأذى و لكن مع ذلك كان ينظر إلى مصلحة المسلمين و بقاء شملهم مجتمعا موحدا ثم يذكر مبايعته يوم خلافته و يوم التقى الناس عليه كخليفة و قد تولى شرحها مستقلا العديد من العلماء و الفضلاء و نالت حظها من التفصيل حتى بلغ

ص: 75

ببعضهم التوسع أن أخذت كتابا مستقلا تجاوز الخمسمائة صفحة بالحجم المعتاد و نحن سنقتصر فيها على الضروري الذي لا بد منه سيرا مع ما التزمنا به في هذا الشرح.

(أما و اللّه لقد تقمصها ابن أبي قحافة و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل و لا يرقى إليّ الطير) نبّه بأما و أقسم باللّه أن أبا بكر قد لبس الخلافة كما يلبس القميص لا ينزعها و لا يتخلى عنها و أكد على بطلان هذا التقمص بذكر فضائله و إنه كيف يتقدم المفضول على الفاضل.

فقال إن محله من الخلافة محل القطب من الرحى فكما أن الرحى لها مركز و قطب تدور عليه و هو في وسطها يصحح حركتها و تأخذ توازنا معتدلا في دورانها و لولاه لاختل التوازن و فسدت الحركة الصحيحة فإنه عليه السلام من الخلافة بتلك المنزلة إنه في صميمها و وسطها و قلبها و لا تستقيم أو تعتدل و تؤتي ثمارها إلا بوجوده.

ثم أشار إلى منزلته الرفيعة و مقامه الكبير بأن السيل مهما كان متدفقا لا يستطيع أن يطال تلك الذات الطيبة و قيل أن قوله «ينحدر عني السيل» إشارة إلى علومه و حكمه الواصلة إلى العباد.

ثم ألحق هذا الوصف بوصف أرفع و أعلى منه و إنه لعلو منزلته لا يستطيع الطير أن يصل إليه كناية عن علوه و منزلته الرفيعة و قال بعضهم لعله أراد بعدم رقي الطير إليه عجز طائر الأوهام عن الوصول إلى مقاماته الجليلة و قصور العقول عن الإحاطة بمناقبه الجميلة من حيث عدم انتهائها بعدّ و عدم وقوفها إلى حد...

(فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا) ثم بين عدم رغبته بالخلافة بعد أن اغتصبت منه فقال لقد وضعت بيني و بين الخلافة حاجزا و مانعا لئلا تكون هي المفككة لعرى المسلمين المفرقة لوحدتهم و أعرضت عنها و هجرتها و لم يعد لنفسي طمع فيها.

(و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه) شرعت أفكر بعد أن بويع أبو بكر و أجيل الرأي ما ذا أفعل و كيف أتصرف و صرت بين محذورين أحلاهما مر هل أخوضها معركة دامية و حربا طاحنة و لكن لا ناصر و لا معين و لقلة الناصر و المعين إلا أهل بيتي و بعض أصحابي فلا أقدر على تحصيل المراد كاليد المقطوعة فكذلك هي حالي هذا هو الخيار الأول و هو لا جدوى فيه و الخيار الثاني أن أصبر على هذه البلية العظمى من غصب الخلافة و اختلاط الأمور و التباسها و هي محنة قاسية شديدة يرى الظلم و الاستبداد و الجور و الانحراف.. يرى حقه السليب يتصرف فيه غيره و هذه ظلمات شديدة يتيه

ص: 76

الناس فيها و لطول هذه المحنة و شدة قساوتها يهرم فيها الكبير فيبلغ من العمر عتيا و يشيب فيها الصغير و يسعى المؤمن فيها لتحصيل حقه و لكنه يلقى ربه قبل الوصول إليه و إدراكه.

(فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى) فعند الموازنة الدقيقة و المقارنة بين إعلان الحرب و الصبر على الظلم و غصب الخلافة رأيت أن الصبر أولى و أحسن باعتبار ما تخلفه الحرب من خطر على الإسلام و على وحدة المسلمين و خصوصا في تلك الظروف الصعبة و الإمام هو «أم الصبي» كما يقال فيجب عليه أن يحفظ الإسلام من الاندراس و الضياع و لذا كان مع إعلان تظلمه أمام الناس و بيان حقه و ذكر الغاصبين للخلافة كان يحرص على الإسلام و وحدة المسلمين..

و صبر على غصب حقه و لكن كيف كانت حالته أيام المحنة و كيف كان صبره ؟!..

لقد كان صبرا تعجز الرجال عن تحمله و تنوء الجبال بثقله عبّر عنه بأشق و أصعب ما يصيب الإنسان فقال:

(فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجا أرى تراثي نهبا) حالة الإنسان الذي وقع في عينه شيء يؤذيها أو علق في حلقه فهل مثل هذه يصفو له عيش و هل تروق له الحياة و هل يكون في حياته إلا معذبا متألما.

إن عليا يعيش المرارة في أعنف صورها حيث يرى ميراثه و هو الخلافة قد غصب قهرا عنه و لا يقدر على دفع الغاصب أو استرجاع المغصوب.. صورة تنقل إلينا معاناته و قساوة الدهر عليه أشعر من خلالها بألم نفسي ينتابني و رعدة تهزني من أعماقي لمظلومية هذا الرجل العظيم..

الخلافة و السقيفة و بيعة أبي بكر:
لابدية الخلافة:

الخلافة عن النبي أمر لا بد منه لأن النبي إنسان لا بد أن يصيبه ما يصيب البشر من الموت الذي كتبه اللّه على خلقه و قد أوجب العقل و النقل وجود إمام يسوس الناس و يدير شئونهم يحملهم على فعل الطاعات و يزجرهم عن فعل المحرمات.

على هو الخليفة:

و من هذا المنطلق العقلاني الذي يشكّل الرسول قطبه بل هو عقل العقلاء كان

ص: 77

يعرف أن أمته لن تخرج عن القاعدة الطبيعة التي تحكم البشر فكان لا بدّ له من أن يرسم لها طريق الخلافة بعده و هذا ما حصل بالفعل فقد عيّن عليا خليفة بعده و نص عليه في مواطن كثيرة.

ففي ابتداء الدعوة قال للناس: هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم - أو من بعدي - فاسمعوا له و أطيعوا..

و عند ما خلفه على المدينة في غزوة تبوك قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنه لا نبي بعدي».

و لما آخى بين المهاجرين و الأنصار احتفظ به لنفسه و آخاه و قال عند ما بعث أبا بكر بسورة براءة ثم رده و أرسل عليا بها قال له: «إن عليا مني و أنا من علي، لا يؤدي عني إلا أنا أو علي...».

و قال في حديث الغدير المتواتر عند ما حج حجة الوداع بعد خطبة و مقدمة قال:

من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاده و انصر من نصره و اخذل من خذله و أدر الحق معه حيثما دار.

و نزلت الآيات في حق أهل البيت فكان علي سيد القوم و رأسهم كما نزلت به بالخصوص آيات أخرى منها قوله تعالى: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ » .

فقد نص المفسرون على أنها نزلت في علي عند ما تصدق بخاتمه و هو قائم في صلاته.

و منها آية التطهير «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و منها آية المباهلة «فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ » و من المتسالم عليه بين المفسرين و المحدثين أن النبي لم يدع إلا الإمام علي فكان بمثابة نفس النبي فأخذ حكمه ما عدا النبوة...

النبي يهيىء الأجواء لعلي:

مرض رسول اللّه و أحس من نفسه الفراق فخرج مع مولاه أبي مويهبة إلى البقيع

ص: 78

ليلة و قال له(1): إني أمرت أن استغفر لأهل البقيع فانطلقا حتى إذا و صلاه قال النبي:

ليهنئكم ما أصبحتم فيه قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم.

ثم قال: قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض و الخلد بها ثم الجنة و خيّرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي ثم أستغفر لأهل البقيع و انصرف.

ثم ضرب النبي بعثا إلى الشام و أميرهم أسامة بن زيد مولاه و أمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء و الروم من أرض فلسطين و قد أوعب(2) معه المهاجرون الأولون و الأنصار بما فيهم أبو بكر و عمر و مشيخة المسلمين جميعا، جمعهم كلهم تحت أمرة أسامة الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من العمر و قد طعن المنافقون في قيادته مما استدعى النبي أن يغضب من كلامهم فيزكّي أسامة و يصر على بعثه قائلا: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل و أنه لخليق للإمارة و كان أبوه خليقا لها..».

و قد كان النبي يصر على خروج جيش أسامة و لكن كانوا يتباطئون و يتأخرون حتى وصل به الأمر أن دعا على المتخلفين عنه قائلا «اللهم العن من تخلف عن جيش أسامة» و مع هذا بقي الصحابة في المدينة دون أن يخرجوا... بل عادوا إلى بيت النبي فوجدوه في أواخر ساعاته في دار الدنيا و قد وقف على تمردهم إنهم لن ينفذوا جيش أسامة و لن يكون هناك بعث..

إنه صلوات اللّه عليه كان يطلب من وراء إرسال هذا الجيش إبعاده عن المدينة حتى يخلو الجو أمام علي عند ما يتوفى النبي فقد وطأ له الأمور و هيأ له كل ما من شأنه أن يوفر له أسباب الوصول إلى الخلافة و لكن القضية كانت تأتي على خلاف ما يرسم النبي لها من النجاح، لقد كان التمرد و العصيان على قدم و ساق لم يطيعوه فيما أمر و لم يسمعوا قوله فيما قال و لذا أراد أن يسلك سبيلا آخر يحفظ الخلافة من الانهيار و الاغتصاب أراد أن يوثقها وثاقا متينا ثم يسلمها لأهلها فلعلها تسلم لهم و لذا قال لهم «إيتوني بدواة(3)و بياض أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي أبدا» و هنا تنازعوا فبعضهم يقول: قربوا لرسول اللّه يكتب كتابا لا تضلوا بعده و منهم يرفض ذلك و عمر يقول دعوه إن النبي ليهجر و يرى رسول اللّه الخلاف و يسمع النزاع فيتأثر لهذا المشهد الرهيب و هنا إن أصر على الكتابة سيسقط مفعولها بعد رميه بالهجر و بالتالي قد يشكل ذلك خطرا على كلام النبي بجملته0.

ص: 79


1- تاريخ ابن الأثير ج - 2 ص 318.
2- أوعب: خرج القوم و لم يبق منهم أحد.
3- تاريخ ابن الأثير ج - 2 ص 320.

و قد يؤدي إلى ارتداد جملة من الصحابة مما يفتح الباب أمام ردة جماعية تهدد الإسلام و لذا قال النبي لهم: قوموا و لا ينبغي عند نبي نزاع..

لقد أدرك عمر ما ذا يريد أن يكتب النبي فلذا حسم الأمر بهذا الأسلوب الظالم و سد أمام النبي الطريق عن كتابة الكتاب..

وفاة رسول اللّه:

توفي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان أبو بكر بمنزله بالسنح خارج المدينة و عمر حاضر فخاف عمر من خطر مبايعة أحد من المسلمين في غياب أبي بكر فقال مقولة أذهلت الناس و شغلتهم فقد قال: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم توفي و أنه و اللّه ما مات و لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، و اللّه ليرجعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم زعموا أنه مات و بهذا التهديد و الوعيد سكت الجميع و اكتفوا بالأسى و الحزن و بقوا كذلك حتى جاء أبو بكر فدخل على رسول اللّه و هو مسجى في ناحية البيت فكشف عن وجهه ثم قبله و أمر عمر بالسكوت فأقبل الناس فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد اللّه فاللّه حي لا يموت ثم تلا هذه الآية: «وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ » و عندها عرف عمر موت رسول اللّه و كأنه استفاق من غشيته..

هل صحيح أن عمر بن الخطاب كان يؤمن بما يقول ؟!.. و أين ذكاؤه و فطنته ؟! أ لم يقرأ الآية التي تلاها أبو بكر؟! و هل كان الرسول على خلاف طبيعة البشر و ما هو المعهود عليهم أما يشمله قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ » و قوله تعالى:

«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ » و هل كانت الصدمة لعنفها و قوتها أثرت فيه فأذهلته و أضاعت لبه و هذا يجب أن يكون بعد صدق الخبر و تصديقه عن لسان أبي بكر و ليس قبله ؟!.. إنه عمر.. يرمي من وراء هذه المقولة إلى إشغال الناس و إرباكهم عن التفكير في أي معنى يمكن أن يؤثر على وضع الخلافة بعد الرسول.. إنه يريد أن يشغل الناس حتى يأتي زميله و رفيق دربه أبو بكر و قد كان له ما طلب و أدرك ما سعى إليه..

حديث السقيفة:

توفي النبي و اشتغل بنو هاشم بجنازته الشريفة.. إنها مأساة مست المسلمين عامة و لكنها أصابت بني هاشم و آل بيت رسول اللّه بالأخص..

ص: 80

و بينما المسلمون حول الجسد الطاهر كان هناك اجتماع للأنصار في سقيفة بني ساعدة.. إنه اجتماع من أجل أن يعقدوا البيعة لأحدهم فيقطعون الطريق أمام كل من تحدثه نفسه باعتلاء عرش الخلافة و يدرؤن عن أنفسهم ويلات و مصائب ما ينالهم فيما لو تولاها غيرهم ممن و تروهم و قتلوا رجالهم..

اجتمع الأنصار بجناحيهم الأوس و الخزرج و قام سعد بن عبادة فتكلم و كان مريضا فقال: يا معشر الأنصار لكم سابقة و فضيلة ليست لأحد من العرب، إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبث في قومه بضع عشر سنة يدعوهم فما آمن به إلا قليل، ما كانوا يقدرون على منعه و لا على إعزاز دينه و لا على دفع ضيم حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة و رزقكم الإيمان به و برسوله و المنع له و لأصحابه و الأعزاز له و لدينه و الجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعا و كرها و أعطى البعيد المقادة فدانت بأسيافكم العرب و توفاه اللّه و هو عنكم راض قرير العين استبدوا بهذا الأمر دون الناس فإنه لكم دونهم فأجابوه بأجمعهم: أن وفقت و أصبت الرأي و نحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنع و رضا للمؤمنين.

ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا: و إن أبى المهاجرون من قريش و قالوا: نحن المهاجرون و أصحابه الأولون و عشيرته و أولياؤه.

فقالت طائفة منهم: فإنا نقول منا أمير و منكم أمير و لن نرضى بدون هذا أبدا.

فقال سعد: هذا أول الوهن.

عمر و أبو بكر في السقيفة:

وصل إلى عمر نبأ اجتماع الأنصار في السقيفة، و إنهم يتداولون أمر الخلافة و بعض المصادر تذكر أن معن بن عدي و عويم بن ساعدة و كلاهما من الأوس و كان بينهما و بين سعد بن عبادة الخزرجي - المرشح للخلافة - موجدة قديمة هما اللذان نقلا الخبر إلى عمر و لما سمع ذلك أتى منزل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أبو بكر فيه فأرسل إليه أن أخرج إليّ .

فأرسل إليه: إني مشغول.

ص: 81

فقال عمر: قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم و معهما أبو عبيدة قال عمر: فأتيناهم و قد كنت زوّرت كلاما أقوله لهم فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر و تكلم بكل ما أردت أن أقول و قال:

فحمد اللّه و قال: إن اللّه قد بعث فينا رسولا شهيدا على أمته ليعبدوه و يوحدوه و هم يعبدون من دونه آلهة شتى من حجر و خشب فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخصّ اللّه المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه و المواساة له و الصبر معه على شدة أذى قومهم لهم و تكذيبهم إياهم و كل الناس لهم مخالف زار عليهم فلم يستوحشوا لقلة عددهم و شنف الناس لهم فهم أول من عبد اللّه في هذه الأرض و آمن باللّه و بالرسول و هم أولياؤه و عشيرته و أحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم و أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين و لا سابقتهم في الإسلام رضيكم اللّه أنصارا لدينه و رسوله و جعل إليكم هجرته فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء و أنتم الوزراء لا تفاوتون بمشورة و لا تقضى دونكم الأمور فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم و لن يجترىء مجترئ على خلافكم و لا يصدرون إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز و أولوا العدد و المنعة و ذوو البأس، و إنما ينظر الناس ما تصنعون و لا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم فإن أبى هؤلاء فمنا أمير و منكم أمير.

فقال عمر: هيهات لا يجتمع إثنان في قرن، و اللّه لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم، و لا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم و لنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته.

فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم الأمر و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فاجلوهم عن هذه البلاد و تولوا عليهم هذه الأمور فأنتم و اللّه أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينه الأسد و اللّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة و اللّه لا يرد أحد عليّ ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف فقال عمر: إذا ليقتلك اللّه.

فرد الحباب عليه: بل إياك يقتل.

و قال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدّل و غيّر.

ص: 82

و في هذه الأجواء المملؤة بالمهاترات يقف ابن عم سعد بن عبادة و اسمه بشير بن سعد الخزرجي و كان ينفس على ابن عمه الإمارة و يضن بها عليه قام فقال: يا معشر الأنصار إنا و اللّه و إن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين و سابقة في الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا و طاعة نبينا و الكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك و لا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قريش و قومه أولى به و أيم اللّه لا يراني اللّه أنازعهم هذا الأمر فاتقوا اللّه و لا تخالفوهم و لم يكد أبو بكر يسمع كلام بشير حتى هب يقول:

هذا عمر و أبو عبيدة قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأيهما شئتم فبايعوا.

و لكن عمر بادره مسرعا ورد عليه «لا و اللّه لا نتولى هذا الأمر عليك أبسط يدك نبايعك ثم أخذ يده ليبايعه فسبقه بشير بن سعد فوضع يده بيده و بايعه فناداه الحباب بن المنذر: عقتك عقاق! انفست على ابن عمك الإمارة.

فقال: لا و اللّه و لكني كرهت أن أنازع القوم حقهم و لما رأت الأوس ما صنع بشير و ما تطلب الخزرج من تأمير سعد و قد كانت المخالفة من الخزرج نفسها و المعارضة من أقرب المقربين من سعد قال بعضهم لبعض و فيهم أسيد بن خضير و كان نقيبا و اللّه لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة و لا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر فبايعوه، فانكسر على سعد و الخزرج ما أجمعوا عليه و أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب و نسوا سعدا و هو مريض فكادوا يطئونه و يقتلونه ثم حمل إلى داره فبقي أياما و أرسل إليه ليبايع فأبى و قال: لا و اللّه حتى أرميكم بما في كنانتي و أخضب سنان رمحي و أضرب بسيفي و أقاتلكم بأهل بيتي و من أطاعني و لو اجتمع معكم الجن و الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي فقال عمر لأبي بكر: لاّ تدعه حتى يبايع.

فقال بشير بن سعد: إنه قد لجّ و أبى و لا يبايعكم حتى يقتل و ليس بمقتول حتى يقتل معه أهله و طائفة من عشيرته و لا يضركم تركه.. فتركوه..

ملاحظات:

1 - كانت بيعة أبي بكر في نفس اليوم الذي توفي النبي فيه و لم يكن بعد قد دفن فقد خرج و معه الناس إلى المسجد يزفونه و في مقدمتهم عمر بن الخطاب يحث الناس على بيعته..

2 - لقد ترك أبو بكر و عمر و أصحابهما جنازة النبي الأكرم و أسرعوا إلى السقيفة منشغلين عنها و قد كان عمر قبل قليل قد أذهله المصاب و غاب عن الوعي فراح يرعد

ص: 83

و يهدد و كيف ينسجم هذا مع تركه لرسول اللّه ميتا لم يدفن بعد..

3 - هذه السرعة العجيبة التي تمت فيها بيعة أبي بكر مما لم يعهد في تاريخ العالم و كيف استطاع عمر و أبو بكر سلبها من الأنصار و هذا ما استدعى عمر أن يقول عنها «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة(1) فقد كانت كذلك غير أن اللّه وقى شرها...».

4 - لم يعلم بنو هاشم بخبر السقيفة و ما جرى فيها إلا بعد أن سمعوا القوم يزفون أبا بكر و أصواتهم تعلو فيستفهمون عن سبب ذلك فيقال لهم: قد بويع أبو بكر.. إنهم كانوا في شغل يجهزون رسول اللّه.. و لما سمع الإمام التكبير وصل إليه ما احتج به المهاجرون على الأنصار قال: «احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة».

5 - لم يبايع علي أبا بكر احتجاجا عليه و طعنا في بيعته و بقي رافضا لها منكرا عليه فعله و قد قدرت الروايات مدة احتجاجه بستة أشهر فإنه صاحب الحق الذي يراه قد غصب منه كما في خطبته التي نحن بصددها حيث يقول: «فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى أرى تراثي نهبا».

6 - إن الأمام لو كان يملك القوة التي ينتصر بها ما تأخر و لا تباطأ في الأمر بل هو يقول عند ما يرى حقه يسلب يقول: و طفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى... فالأمر يدور بين أن يسكت على ما جرى و بين الحرب و في الثانية ذهابه و ذهاب أهل بيته و بالتالي الخطر الكبير على الإسلام.

7 - إن أبا سفيان جاء إلى الإمام بعد بيعة أبي بكر قائلا: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش و اللّه لئن شئت لأملأنها عليه خيلا و رجالا و في رواية أخرى: و اللّه إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم و قال للإمام: أبا حسن أبسط يدك حتى أبايعك فأبي عليه علي و زجره قائلا: و اللّه ما أردت بهذا إلا الفتنة و إنك و اللّه طالما بغيت للإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك..

8 - إن أبا بكر كان يعرف من نفسه أن هناك أكفأ منه و أشد تحملا لأعباء الخلافة فلذا اعتلى المنبر بعد البيعة - في اليوم التالي - فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أيها الناس:

قد وليت عليكم و لست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إني أسأت فقوموني..

9 - إن عمر و زميليه أبا بكر و أبا عبيدة لم يحتج أحد منهم بنص وارد عن النبي في1.

ص: 84


1- الطبري ج - 2 حوادث سنة 11.

حق أحد.. و لو كان لكان الحجة البالغة بل تفويض الناس أن يختاروا عمر و أبي عبيدة و ردهما عليه بالبيعة له كان أقوى ما ينفي النص على أبي بكر من قبل النبي و المنصف العدل لا بد من أن يذهب إلى ذلك...

10 - بهذا الأسلوب الارتجالي كانت بيعة أبي بكر و قد تقمصها ابن أبي قحافة و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى كما يقول الأمام.. إنها بيعة خارجة عن الموازين لم تتمتع بإجماع الأمة و اتفاقها و لذا بقي سعد بن عبادة و جماعة من الأنصار دون أن يبايعوا و بقي بنو هاشم و سيدهم الإمام علي كذلك على رفض البيعة كما أنها لم تحكم بقانون شرعي و لا عرفي و إنما كانت تحكمها نزعة الارتجال و سرقة المواقف و استغلال الفرص و أخذ الناس على حين غيرة... إنها بيعة فريدة في نوعها لم نجدها تدخل تحت أي عنوان قانوني قديم أو حديث.. كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرها على حد تعبير عمر..

ترجمة أبي بكر:

(أبو بكر اسمه عبد اللّه) بن (عثمان و كنيته أبو قحافة) بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك.

و أمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ولد بعد عام الفيل بثلاثين سنة و مات و له ثلاث و ستون سنة في السنة الثالثة عشر للهجرة..

تولى الخلافة بعد النبي كما تقدم و قد غصبها من أهلها الشرعيين و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و عشر ليال و قيل كانت سنتين و أربعة أشهر إلا أربع ليال.

تزوج في الجاهلية قتيلة بنت عبد العزى بن عامر بن لؤي فولدت له عبد اللّه و أسماء و تزوج أيضا أم رومان و اسمها دعد بنت عامر بن عميرة الكنانية فولدت له عبد الرحمن و عائشة.

و تزوج في الإسلام أسماء بنت عميس و كانت قبله عند جعفر بن أبي طالب فولدت له محمد بن أبي بكر و كذلك وج حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصارية فولدت له بعد وفاته أم كلثوم..

(حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ثم تمثل بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها *** و يوم حيان أخي جابر

ص: 85

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها..) بقي الإمام صابرا محتسبا في أشد أذية و أقساها حتى مات الأول و هو أبو بكر و قبل أن تأتيه المنية منحها و قلدها إلى عمر من بعده فلم يكتف أنه تحملها حيا حتى تحملها ميتا ثم استشهد عليه السلام بهذا البيت من الشعر للأعشى و أصل نظمه و أساس وضعه، حيان و جابر ابنا السمين بن عمر من بني حنيفة، و كان حيان صاحب الحصن باليمامة و كان سيدا مطاعا يصله كسرى في كل سنة و كان في نعمة و رفاهية مصونا من و عثاء السفر لأنه لم يكن يسافر أبدا و كان الأعشى ينادمه في سرور و فرح فقال الأعشى أنه ما أبعد ما بين يوميّ ، يومي على كور المطية أدأب و أنصب في الهواجر و بين يومي منادما حيان أخي جابر...

و الإمام يريد بالاستشهاد أن يقول أنه فرق كبير و بعيد بين يومي المتعب المؤذي الذي أنا فيه حيث قامت قيامة الناكثين و القاسطين و المارقين و بين أيام خلافة السابقين حيث كان الهدوء و الدعة و قال بعضهم فرق كبير بين يومي مع النبي في دعة و نعمة و بين يومي الذي أنا فيه من الحروب و المعارك ثم تعجّب و عجبه في محله و أي عجب أعجب من انسان يقول عند ما بويع بالخلافة.. «أقيلوني فلست بخيركم..» حيث يظهر كرهه و عدم أرادته لها و لكنه لم يلبث أن يقلدها لغيره و يمنحها لأبن الخطاب ينص عليه و يلزم المسلمين ببيعته». و من كان كارها لأمر يتركه فإذا ألزم غيره به لحبه له كان ذلك نقضا لقوله الماضي القاضي بعدم رغبته فيه..

ثم إنه عليه السلام شبّه الخلافة بناقة حلوب و لها ضرعان و كل واحد من أبي بكر و عمر أخذ ضرعا يحلبه لنفسه.. و المعنى أنه لأمر شديد أن يأخذ كل واحد منهما سهما فيكون أحدهما أميرا و الآخر وزيرا حتى إذا قضى الأمير خلفه الوزير و حل محله.. يقول ابن قتيبة في كتابه(1) الإمامة و السياسة دفع أبو بكر إلى عمر كتابا و قال له: «خذ هذا الكتاب و أخرج به إلى الناس و أخبرهم أنه عهدي و سلهم عن سمعهم و طاعتهم فخرج عمر بالكتاب و أعلمهم فقالوا: سمعا و طاعة فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا حفص قال: لا أدري و لكني أول من سمع و أطاع قال: لكني و اللّه أدري ما فيه: أمّرته عام أول و أمرك العام..5.

ص: 86


1- الإمامة و السياسة ج - 1 ص 25.
خلافة عمر:

لما نزل بأبي بكر الموت استدعى عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر فقال: إنه أفضل في رأيك إلا أن فيه غلظة فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا و لو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه و قد رفقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضاء عنه و إذا لنت له أراني الشدة عليه و دعا عثمان بن عفان و قال له: أخبرني عن عمر فقال:

سريرته خير من علانيته و ليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئا و لو تركته ما عدوت عثمان و الخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئا و لوددت أني كنت من أموركم خلوا و كنت فيمن مضى من سلفكم.

و دخل طلحة بن عبد اللّه على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه فكيف به إذا خلا بهم و أنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك.

فقال أبو بكر: أجلسوني فأجلسوه.

فقال: أباللّه تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.

ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليا ليكتب عهد عمر فقال له: اكتب. بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد: ثم أغمي عليه فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و لم آلكم خيرا.

ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليّ :

فقرأ عليه فكبّر أبو بكر.

و قال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي.

قال نعم.

قال: جزاك اللّه خيرا عن الإسلام و أهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم و أرسل الكتاب مع مولى له و معه عمر فكان عمر يقول للناس: أنصتوا و اسمعوا لخليفة رسول اللّه فإنه لم يا لكم نصحا فسكن الناس فلما قريء عليهم الكتاب سمعوا و أطاعوا، و كان أبو بكر أشرف على الناس و قال: أ ترضون بمن استخلف عليكم فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة و إني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له و أطيعوا.. و في الإمامة و السياسة لابن قتيبة أن أبا بكر دفع الكتاب إلى عمر فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا حفص ؟ قال: لا أدري قال:

لكني و اللّه أدري ما فيه: أمرّته عام أول و أمرك العام..

ص: 87

ملاحظات:

بهذه الطريقة تمت بيعة عمر و بها أصبح خليفة بعد أبي بكر إنها طريقة الاستخلاف و الفرض القسري على الأمة و لنا هنا عدة ملاحظات:

1 - إن هذه الطريقة في الاستخلاف قد كانت مخالفة لطريقة انتخاب أبي بكر المتقدمة في سقيفة بني ساعدة.. و هنا نقول أي الطريقين أجدى و أجدر بالاتباع و أي الطريقين هو الشرعي المقبول عند اللّه و هل يبقى من ضابطة تضبط الخلافة و على أساسها تتمشى هذه الأمة ؟!..

2 - هذه المشاورة المبتورة التي لم تصلح لشراء حمار أعرج أو جمل أجرب..

استشارة اثنين من الصحابة طعن أحدهما فيه و الآخر أثنى و الثالث تقدم من نفسه شاكيا باكيا معاتبا زاريا...

3 - كيف يتم الكتاب من أبي بكر في حالة الإغماء و كيف يأخذ صفته الشرعية بإتمامه من عثمان ؟ و كيف لا يتحرك عمر و يقول لأبي بكر أنه يهجر كما قال للنبي ذلك عند ما طلب الكتف و الدواة ليكتب للمسلمين كتابا لن يضلوا بعده فرماه عمر بالهجر دون أبي بكر...

4 - و لنفرض أن أبا بكر قد مات في غشيته فكيف يتصرف عثمان و يعيّن الخليفة بعد أبي بكر فهل هناك أعظم جناية و أشد خيانة من هذا التصرف اللاشرعي..

5 - من أين استمد أبو بكر شرعية استخلافه لعمر هل من الكتاب أم من السنة و لا أظن أنّ أحدا من المسلمين يدعي ذلك فإنه بنفسه لم يدع ذلك و إن قلت أن ذلك كان منه رأي يرتئيه فقلنا ما هكذا تكون الأراء تكتب فيها الكتب و تنزل فيها الصكوك و تتلى على الأمة بشكل قرار حاسم جازم..

6 - لنا أن نقول أن عمر هو الذي أتم لأبي بكر عقد الخلافة في سقيفة بني ساعدة فهو الذي استدعاه على جناح السرعة و هو الذي قدمه و صفق على يديه و وطأ له الصعب و الذلول و مهد له كل السبل فأراد أبو بكر أن يرد له الجميل و يجزيه بالإحسان إحسانا فكان هذا العهد المكتوب و الممهور بخاتمه و لذا تصدق كلمة الإمام لعمر عند ما دعاه لبيعة أبي بكر فقال له: «احلب حلبا لك شطره أشدد له اليوم يرده عليك غدا» و قوله في هذه الخطبة «لشد ما تشطرا ضرعيها».

ص: 88

ترجمة عمر بن الخطاب:

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد اللّه بن قرط بن رازح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر العدوي.

و كنيته أبو حفص، و أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة المخزومية بنت عم خالد بن الوليد.

قتل في ذي الحجة سنة 23 و دفن في هلال أول محرم سنة 24 و كان آدم طوالا، أصلع، أعسر يسرا، يمشي كأنه راكب و كان يصفّر لحيته و كان عمره عند ما قتل ثلاثا و ستين سنة و قيل إحدى و ستين سنة و قيل خمسا و خمسين سنة و قيل مات ابن ستين قتله أبو لؤلؤة يقول ابن الأثير في تاريخه «خرج عمر بن الخطاب يطوف يوما في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة و كان نصرانيا فقال: يا أمير المؤمنين أعني على المغيرة بن شعبة فإن عليّ خراجا كثيرا.

قال: و كم خراجك.

قال: درهمان كل يوم.

قال: وايش صناعتك ؟.

قال: نجار، نقاش، حداد.

قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت.

قال نعم.

قال: فاعمل لي رحى.

قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق و المغرب ثم انصرف فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن ثم بعد ذلك طعنه أبو لؤلؤة في خنجر له رأسان نصابه في وسطه ضربه ست ضربات إحداهن تحت سرته و هي التي قتلته.

- كانت خلافته عشر سنين و ستة أشهر و ثمانية أيام.

(فصيّرها في حوزة خشناء) لقد ألقى أبو بكر الخلافة إلى عمر و نقلها إليه و قد كان صاحب طبيعه قاسية فظة و هذا ما يعرفه كل من درس حياة عمر و وقف على تصرفاته، لقد كان يواجه المسلمين بأقسى ما يكون على خلاف أخلاق الإسلام و تعاليمه و يكفي في ذلك ما واجه به النبي عند ما أراد أن يكتب للمسلمين كتابا لن يضلوا بعده فقال: إن النبي

ص: 89

ليهجر حسبنا كتاب اللّه فقد جرحت هذه الكلمة قلب النبي و آذته حتى أمرهم بالانصراف عنه..

و كيف أغلظ على جبلة بن الأيهم الملك الغساني الذي أسلم حديثا فعاد عن الإسلام و عادت معه عشيرته.

و قال ابن أبي الحديد عند ما كان يوجه قولة عمر: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة» قال:

و اعلم إن هذه اللفظة من عمر مناسبة لألفاظ كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله اللّه تعالى من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة و لا حيلة له فيها لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها.. إلى أن يقول كما قدمنا قبل ذلك في اللفظة التي قالها في مرض رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و كالألفاظ التي قالها عام الحديبية و غير ذلك..

(يغلظ كلمها و يخشن مسها) و هذا تفسير لتلك الخشونة العمرية فإنها إذا واجهتك بالحديث آذتك و كان جرحها عميقا و أثره يبقى مدى الدهر و إذا اقتربت منها لحقك ضرر كبير و أذىّ شديد و قد نقل لنا التاريخ عينات من تلك الجروح الدامية يوم صلح الحديبية و يوم وفاة رسول اللّه.. قال ابن أبي الحديد و اعلم أن هذه اللفظة - كانت(1) بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه - قال: و اعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله اللّه تعالى عليه من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة و لا حيلة له فيها لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها و لا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة فينزع به الطبع الجاسي و الغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات.. إلى آخره.

(و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها) و هذه الحوزة العمرية ذات الغلظة و الشدة يكثر الخطأ منها و الزلل في مواقفها و بعد الزلل و الخطأ يكثر الاعتذار. و هذا بيان لكثرة ما وقع فيه الخليفة من الأخطاء و قد نقلوا عنه كثيرا من القضايا التي أفتى بها ثم نقضها و اعتذر عن تغييرها و هذه عينات من ذلك و نماذج منها..

1 - مر عمر يوما بشاب من فتيان الأنصار و هو ظمآن فاستسقاه فجدح(2) له ماء بعسل فلم يشربه و قال إن اللّه تعالى يقول: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ اَلدُّنْيٰا» فقال له الفتى: يا أمير المؤمنين، إنها ليست لك و لا لأحد من هذه القبيلة اقرأ ما قبلها «يَوْمَ »:.

ص: 90


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج/ 2 ص 27.
2- جدح مزج:.

«يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّٰارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ اَلدُّنْيٰا» فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر.

2 - و كان عمر يعس بالليل فسمع صوت رجل و امرأة في بيت فارتاب فتسور الحائط فوجد رجلا و امرأة و عندهما زق خمر.

فقال: يا عدو اللّه أ كنت ترى أن اللّه يسترك و أنت على معصيته.

قال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال اللّه تعالى: «وَ لاٰ تَجَسَّسُوا» و قد تجسست و قال: «وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا» و قد تسورت و قال: «فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا» و ما سلّمت..

3 - قال ابن أبي الحديد في شرحه:

و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه و يفتي(1) بضده و خلافه، قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه.

(فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم) فصاحب تلك الطبيعة الخشنة الغليظة كراكب الناقة التي لا تنقاد لعنادها فإن شد لها زمامها شق أنفها و أدماه و إن تركها على رسلها تسرح كما تشاء وقع في المهالك و المهاوي و المعنى أن طبيعة عمر كالناقة الصعبة إن حبس نفسه و منعها عن الجري على مقتضى طبيعتها شق عليها و آذاها لما في تغير الطبيعة من الصعوبة و القسوة على النفس و إن تركها على سجيتها و طبيعتها تتصرف كما هي في واقعها و كما طبعت عليه أوردته موارد الهلكة لانحرافها و عدم استقامتها فعمر بين محذورين أحلاهما مر و من كان بهذه الطبيعة كيف يمكن أن يمكنّ من رقاب الأمة و يتولى شئونها؟!...

(فمني الناس لعمر اللّه بخبط و شماس و تلون و اعتراض فصبرت على طول المدة و شدة المحنة) ثم أقسم باللّه و هو بار في قسمه إن الناس ابتلوا بطبيعة عمر القاسية صاحبة الأوصاف السابقة و ابتلوا بأمور غير مستقيمة و لا واضحة الصحة و الشرعية لعدم معرفة عمر بالإسلام من جهة و لغلظته و نفرة في طبيعته من جهة أخرى فكان يتبدل فيما يصدر منه من أحكام و سياسات حيث كان يتبدل الحكم عنده في القضية الواحدة فيفتي فيها1.

ص: 91


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج - 1 ص 181.

اليوم بشيء ثم يغير حكمه غدا و ينتقل من الشيء إلى ضده فهو متغير الأحكام و المواقف حتى أنه لعدم استقامته كأنه معترض في الطريق لم يمش مستقيما معتدلا و أي مصيبة تحل بالأمة عند ما يكون ولي أمورها متلونا غير مستقيم ؟!...

و لكن مع كل تلك المدة الطويلة كان يتذرع بالصبر إنها مدة حكم فيها الخلفاء و هي مدة طويلة حافلة بالتناقضات و الانحرافات و مليئة بالظلم و المظالم إنها مع كونها محنة قاسية شديدة حيث تولى الأمر غير أهله مع ذلك كان من الصابرين المنتظرين.. (حتى إذا مضى لسبيله جعلها في ستة زعم أني أحدهم فياللّه و للشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر و لكني أسففت إذا أسفوا و طرت إذا طاروا فصغى رجل منهم لضغنه و مال الآخر لصهره مع هن و هن) يحكي الإمام ما جرى لعمر عند ما ضربه أبو لؤلؤة فقتله فإن عمر عند ما مات جعل الخلافة بين أيدي ستة من المسلمين كان الإمام أحدهم و هم علي و عثمان و طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف ثم أطلقها كلمة استغاث فيها.. إنها ياللّه كلمة تخرج من قلب مجروح مكلوم.. ياللّه و للشورى التي وضعني عمر فيها و جعلني أحد أفرادها..

و أي شورى مشوهة ممسوخة تلك التي ضمت عليا و قرنته إلى غيره فمن يقاربه أو يساويه أو كان يحلم أن يقف معه في صف واحد و موقف واحد.. إن ظلم الحياة لا يطاق و لن تستطيع نفس عالية أن تتحمل إنزالها عن مكانتها و حطها عن مقامها و إدراجها مع غيرها ممن لا يماثلها أو يكافؤها أو يكون نظيرا لها.. ما أقسى الحياة عند ما تفرض على الشرفاء أن يتنازلوا ليسفوا مع السفهاء؟...

ما أقسى الحياة و ما أشد مراراتها عند ما يسوى بين العالم و الجاهل و العابد و الفاسق و المؤمن و الكافر، و المحق و المبطل و النور و الظلمة...

ياللّه و للشورى الظالمة التي أنزلت عليا عن مكانته و حطته إلى درجة بلغت ذروتها فصار يقال علي أحد ستة.. و متى كان علي يساوى بأبي بكر حتى نزل سهمه فصار يساوى بهؤلاء.. علي أفضل من أبي بكر و لا يقبل أن يقارن به فكيف يقارن بهؤلاء و يساويهم ؟!...

لا يشك مسلم في أفضلية علي على جميع الصحابة فكيف تصح مقارنته بهؤلاء النظائر.

ثم اعتذر عن نفسه في قبول هذا الوضع تمهيدا لما بعده و لما يأتي خلفه فيقول تصاغرت و تنازلت عن مقامي عند ما أنزلوني عنه و تابعتهم عند ما أرادوا مني ذلك من أجل

ص: 92

مصلحة الإسلام و المسلمين و لكن أبت الأحقاد و الأضغان و الانحراف و الضلال إلا أن تجرهم إلى هواهم و تقودهم إلى رداهم حيث اجتمع أصحاب الشورى العمرية لاختيار الخليفة و كانت المظلمة الكبرى و الانحراف العظيم و الضلال البعيد عند ما مال رجل و هو سعد بن أبي وقاص إلى عثمان لحقده الذي يحمله على الإمام لأن أم سعد أموية و الإمام هو قاتل الأمويين فمال سعد إلى أخواله الذين منهم عثمان حقدا على الإمام.

و مال الآخر و هو عبد الرحمن بن عوف لصهره و هو عثمان لأن أخت عثمان كانت تحت عبد الرحمن بن عوف مع هذا الانحراف كان هناك معايب و معايب غض عنها النظر..

الشورى العمرية:

سلك عمر في استخلافه مسيرة تخالف ما جرت عليه سقيفة بني ساعدة عند ما انتخب أبو بكر خليفة و كذلك كانت على خلاف مسيرة أبي بكر عند ما أوصى بها إلى عمر.. إنه طريق ثالث من طرق تعيين الخليفة يبتكره ابن الخطاب و يخطه للناس و يخالف به ما سنه هو و صاحبه الخليفة الأول و هذا ملخص شوراه التي سنها كما هي في أهم المصادر التاريخية.

إن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت فقال: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته و قلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: «إنه أمين هذه الأمة» و لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته و قلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: «إن سالما شديد الحب للّه تعالى» فقال له رجل أدلك على عبد اللّه بن عمر.

فقال: قاتلك اللّه، و اللّه ما أردت اللّه بهذا ويحك كيف استخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته ؟ لا أرب لنا في أموركم فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه و إن كان شرا فقد صرف عنا بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد و يسأل عن أمر أمة محمد أما لقد جهدت نفسي و حرمت أهلي و إن نجوت كفافا لا وزر و لا أجر إني لسعيد، و انظر فإن استخلف فقد استخلف من هو خير مني و إن أترك فقد ترك من هو خير مني و لن يضيع اللّه دينه.

فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين لو عهدت عهدا فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي أن أنظر فأولي رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق و أشار إلى علي فرهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة فجعل يقطف كل غضة و يانعة فيضمه إليه و يصيره

ص: 93

تحته فعلمت أن اللّه غالب على أمره فما أردت أن أتحملها حيا و ميتا عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنهم من أهل الجنة و هم علي و عثمان و عبد الرحمن و سعد و الزبير بن العوام و طلحة بن عبد اللّه فليختاروا منهم رجلا فإذا ولوا واليا فأحسنوا موازرته و أعينوه..

فخرجوا فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم قال: إني أكره الخلاف قال: إذن ترى ما تكره فلما أصبح عمر دعا عليا و عثمان و سعدا و عبد الرحمن و الزبير فقال لهم: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس و قادتهم و لا يكون هذا الأمر إلا فيكم و قد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو عنكم راض و إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم و لكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس فانهضوا إلى حجرة عائشة بأذنها فتشاوروا فيها و وضع رأسه و قد نزفه الدم.

فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم فقال عبد اللّه بن عمر: سبحان اللّه إن أمير المؤمنين لم يمت بعد فسمعه عمر فانتبه و قال: ألا أعرضوا عن هذا فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام و ليصل بالناس صهيب و لا يأتين اليوم الرابع إلا و عليكم أمير منكم و يحضر عبد اللّه بن عمر مشيرا و لا شيء له من الأمر و طلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم و إن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فامضوا أمركم، و من لي بطلحة ؟ فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به و لا يخالف إن شاء اللّه تعالى.

فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء اللّه تعالى و ما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين: علي و عثمان. فإن ولي عثمان فرجل فيه لين و إن ولي علي ففيه دعابة و أحرى به أن يحملهم على طريق الحق، و إن تولوا سعدا فأهله هو و إلا فليستعن به الوالي فإني لم أعز له عن ضعف و لا خيانة و نعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف فاسمعوا منه و أطيعوا و قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة إن اللّه طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.

و قال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فأجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا..

و قال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام و أدخل هؤلاء الرهط بيتا و قم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة و أبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف.

و إن اتفق أربعة و أبى إثنان فاضرب رؤوسهما و إن رضي ثلاثة رجلا و ثلاثة رجلا فحكموا عبد اللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر فكونوا مع الذين فيهم

ص: 94

عبد الرحمن بن عوف و اقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.

فخرجوا فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمّروا أبدا و تلقاه عمه العباس فقال: عدلت عنا.

فقال: و ما علمك ؟.

قال: قرن بي عثمان و قال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني.

فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إليّ مستأخرا لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، فأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت و أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك و احذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا و أيم اللّه لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير.

فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى و لئن مات ليتداولّنها بينهم، و لئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون ثم تمثل:

حلفت برب الراقصات عشية *** غدون خفافا فابتدرن المحصبا

ليختلين رهط بن يعمر قارنا *** نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا

و التفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه..

فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن.

فلما مات عمر و أخرجت جنازته صلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة و قيل في بيت المال و قيل في حجرة عائشة بإذنها و طلحة غائب و أمروا أبا طلحة أن يحجبهم و جاء عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد و أقمهما و قال: تريدان أن تقولا: حضرنا و كنا في أهل الشورى.

فتنافس القوم في الأمر و كثر فيهم الكلام.

فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها و الذي ذهب بنفس

ص: 95

عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر ثم أجلس في بيتي فانظر ما تصنعون.

فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه و يتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد.

فقال: فأنا أنخلع منها.

فقال عثمان: أنا أول من رضي.

فقال القوم: قد رضينا و علي ساكت.

فقال: ما تقول يا أبا الحسن ؟.

قال: أعطني موثقا لتؤثرن الحق و لا تتبع الهوى و لا تخصّ ذا رحم و لا تألو الأمة نصحا.

فقال: اعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدّل و غيّر و أن ترضوا من اخترت لكم و عليّ ميثاق اللّه أن لا أخص ذا رحم لرحمه و لا آلو المسلمين فأخذ منهم ميثاقا و أعطاهم مثله.

فقال لعلي: تقول: إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك و سابقتك و حسن أثرك في الدين و لم تبعد و لكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بها.

قال: عثمان.

و خلا بعثمان فقال: تقول شيخ من بني عبد مناف و صهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ابن عمه ولي سابقة و فضل فأين يصرف هذا الأمر عني ؟ و لكن لو لم تحضر أي هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟.

قال: علي.

و لقي علي سعدا فقال له: «اتقوا اللّه الذي تساءلون به و الأرحام» أسألك برحم ابني هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و برحم عمي حمزة منك أن تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا و دار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من وافى المدينة من أمراء الأجناد و أشراف الناس يشاورهم حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها يستكمل الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه و قال له: لم أذق في هذه الليلة كبير غمض انطلق فادع الزبير و سعدا فدعاهما فبدأ بالزبير قال له:

خل بني عبد مناف و هذا الأمر.

ص: 96

قال: نصيبي لعلي.

و قال لسعد: اجعل نصيبك لي.

فقال: إن اخترت نفسك فنعم و إن اخترت عثمان فعلي أحب إليّ ، أيها الرجل بايع لنفسك و أرحنا و ارفع رؤوسنا.

فقال له: خلعت نفسي على أن أختار و لو لم أفعل لم أردها، إني رأيت روضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل ما رأيت أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شيء منها حتى قطعها لم يعرّج.

و دخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج منها ثم دخل فحل عبقري يجرّ خطامه و مضى قصد الأولين ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة، و لا و اللّه لا أكون الرابع و لا يقوم مقام أبي بكر و عمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه.

قال: و أرسل المسور فاستدعى عليا فناجاه طويلا و هو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتى فرّق بينهما الصبح.

قال عمرو بن ميمون: قال لي عبد اللّه بن عمر: من أخبرك أنه يعلم ما كلّم به عبد الرحمن بن عوف عليا و عثمان فقد قال بغير علم فوقع قضاء ربك على عثمان فلما صلوا الصبح جمع الرهط و بعث إلى من حضره من المهاجرين و أهل السابقة و الفضل من الأنصار و إلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التجّ المسجد بأهله.

فقال: أيها الناس، إن الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم فأشيروا علي ؟.

فقال عمار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا فقال المقداد بن الأسود، صدق عمار إن بايعت عليا قلنا سمعنا و أطعنا.

قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان.

فقال عبد اللّه بن أبي ربيعة: صدقت إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا و أطعنا، فشتم عمار ابن أبي سرح و قال: متى كنت تنصح المسلمين، فتكلم بنو هاشم و بنو أمية.

فقال عمار: أيها الناس إن اللّه أكرمنا بنبيه و أعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ؟.

ص: 97

فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها.

فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس.

فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت و شاورت فلا تجعلنّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلا و دعا عليا، و قال: عليك عهد اللّه و ميثاقه لتعملن بكتاب اللّه و سنة رسوله و سيرة الخليفتين من بعده (و سيرة الخليفتين أبي بكر و عمر) قال: بل على كتاب اللّه و سنة رسوله و اجتهاد رأي فعدل إلى عثمان فقال له مثل ما قال لعلي.

فقال: نعم نعمل فرفع رأسه إلى سقف المسجد و يده في يد عثمان فقال: اللهم اسمع و اشهد، اللهم، إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان فبايعه.

فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا «فصبر جميل و اللّه المستعان على ما تصفون» و اللّه ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك و اللّه كل يوم في شأن.

فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك حجة و سبيلا فخرج علي و هو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.

فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما و اللّه لقد تركته و إنه من الذين يقضون بالحق و به يعدلون.

فقال: يا مقداد، و اللّه لقد اجتهدت للمسلمين.

قال: إن كنت أردت اللّه فأثابك اللّه ثواب المحسنين.

فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، إني لأعجب من قريش إنهم تركوا رجلا ما أقول و لا أعلم أن رجلا أقضى بالعدل و لا أعلم منه أما و اللّه لو أجد أعوانا عليهم.

ملاحظات:

هذه هي شورى عمر التي أدمت قلب الإمام بل قلب الإسلام لأنها جاءت بعثمان خليفة فغيّر مسيرة رسول اللّه و بدلّ أحكامه إنه غير مؤهل للخلافة و لا يستحقها و قد فتح باب الفتنة و النزاع بين المسلمين و لنا على هذه الشورى عدة ملاحظات نرجو أن تؤخذ بعين الاعتبار و يعاد التفكير فيها جديا ملتمسا كل منا رضى اللّه و إدراك الحقيقة..

1 - ما هذه الشورى العمرية التي خالف فيها سيرة صاحبه عند ما عهد بالخلافة إليه

ص: 98

بل خالف ما جرت عليه سقيفة بني ساعدة في انتخاب أبي بكر فهذه بدعة جديدة يعجب المرء منها و يقف حائرا متفكرا.. لما ذا تعيّنت بهؤلاء الستة من المسلمين دون غيرهم ؟.. و أين حرية الناس و حرية اختيارهم ؟!... و هل بقي للناس من كرامة بعد هذا التعيين المهين ؟.. و أظن أن اختلاف السّنة في تعيين أولياء الأمر و ترددهم الطويل فيه من أنهم الأمراء أو الفقهاء أو الجميع، أو المقدمون في الأمة كل ذلك نتيجة عدم الرؤية السليمة في شورى عمر.. نعم إنه رأي ارتجله و أراد أن يضعه للناس كطريق ثالث في انتخاب الخليفة بعد الطريقيّن - السقيفة و عهد أبي بكر له...

2 - إن عمر يستهل الحديث لمن طلب منه أن يستخلف قائلا: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته و قلت لربي إن سألني سمعت نبيك يقول: «إنه أمين هذه الأمة».

و هنا نقول: هل الأمانة هي التي تخول الإنسان ليكون خليفة على المسلمين حتى يختار عمر أبا عبيدة المتوفى ثم يا ترى هل فقد الأمناء في الأمة بعد أبي عبيدة و لم يبق فيها أمين...

ثم إنه يقع نظره على سالم عبد أبي حذيفة و يتمنى لو كان حيا ليوليه و علل ذلك أنه كان يحب اللّه فهل بموت سالم مات المحبون للّه و لم يعد أحد ممن يحب اللّه..؟ نحن نسأل أين أصحاب رسول اللّه من المهاجرين و الأنصار و أين جهادهم و كفاحهم و دفاعهم فلم يعد أحد منهم يحب اللّه ؟!... و أين هو عن باب مدينة العلم و فارس المسلمين و ابن عم النبي و من آخاه الرسول و جعله عديل نفسه...؟!...

3 - قال عمر في أول حديثه «أجمعت بعد مقالتي أن أنظر فأولي رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق و أشار إلى علي فرهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة فجعل يقطف كل غضة و يانعة فيضمه إليه و يصيره تحته فعلمت أن اللّه غالب على أمره فما أردت أن أتحملها حيا و ميتا..

فهذا الإقرار من عمر واضح ظاهر على مستوى قل هو اللّه أحد لا يحتاج إلى فلسفة و لا اجتهاد، إنه يعرف من يحمل الأمة على الحق و لا يحابي أو يساوم، عرف أن عليا هو المستحق لها فكيف يخرج عنه و يترك الوصية له لرؤيا رآها قد تكون من ألم الضربة و سوء المزاج..؟!.. كيف تناسيت من تعرف منه الحق و العدل و المقام الرفيع و تعرفه المؤهل لقيادة الأمة كيف تتركه و تعدل عنه إلى غيره لمنام قد يكون من الشيطان..؟...

و هل في الشرع و الدين ما يجوّز ضرب الحق و العدل لمجرد منام يراه الفرد؟!..

فلو رأى الإنسان أن يقتل مسلما أو أن يتنّصر أو يرتد هل يجوّز الشرع ذلك ؟!.. كلا..

ص: 99

و ألف كلا.. إن دين اللّه و حقائق الإسلام لا يبنى شيء منها على المنامات و الخيالات...

4 - إن عمر يجعل الشورى في ستة تارة يقول إن الرسول قال لهم: إنهم من أهل الجنة و أخرى يقول لهم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد قبض و هو عنكم راض.. نقول كيف يتوافق هذا القول مع أمره لأبي طلحة أن يضرب عنق الأقلية منهم إذا افترقوا و كانت الأكثرية لجهة تخالفها...

و هل يباح دم أصحاب الجنة و من رضى الرسول عنهم بهذه السهولة و هذا اليسر؟!...

5 - إن عمر بن الخطاب يقول: إن رضي ثلاثة رجلا و ثلاثة رجلا فحكّموا عبد اللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف و اقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.

و هنا لنا الحق أن نتساءل لما ذا جعل لابنه هذا الحق و من أين استمد شرعيته و بأي آية نزل ذلك و بأي حديث ورد.

ثم لما ذا تكون كفة عبد الرحمن بن عوف هي الراجحة و ما هي مرجحات هذا الرجل على غيره.

6 - إن بيعة عبد الرحمن بن عوف كانت على كتاب اللّه و سنة نبيه و سيرة الشيخين.

و السؤال لما ذا يشترط عبد الرحمن على من يريد أن يبايعه أن تكون سيرته على سيرة الشيخين أبي بكر و عمر؟ أ فلا يأتي كتاب اللّه و سنة نبيه على كل شرط؟ و هل بعد العمل بهما بحاجة إلى سيرة أحد من المسلمين ؟ ثم كيف يتفق هذا الشرط - سيرة الشيخين - مع كون كل منهما له سيرة تخالف الأخرى و لنأخذ أقرب الأمور - الخلافة - فانظر إلى أبي بكر كيف استخلف عمر بالنص عليه من قبله و انظر إلى عمر كيف جعلها شورى بين ستة أشخاص ثم اضرب بنظرك إلى مخالفتهما لبعضهما تجد العجب العجاب و ما يحيّر أولي الألباب.

المرشحون للخلافة في رأي عمر:

ذكر ابن أبي الحديد في نهجه:

طلب عمر حضور المرشحين الستة عنده قائلا ادعوهم لي، فدعوهم فدخلوا عليه

ص: 100

و هو ملقى على فراشه يجود بنفسه.

فنظر إليهم فقال: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي، فوجموا فقال لهم ثانية فأجابه الزبير و قال: و ما الذي يبعدنا منها وليتها أنت و قمت بها و لسنا دونك في قريش و لا في السابقة و لا في القرابة.

قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ: و اللّه لولا علمه إن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة و لا أن تنفّس منه بلفظة.

فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم قال: قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا.

فقال: أما أنت يا زبير فوعق لقس مؤمن الرضا كافر الغضب يوما إنسان و يوما شيطان و لعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير أ فرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطانا و من يكون يوم تغضب و ما كان اللّه ليجمع لك أمر هذه الأمة و أنت على هذه الصفة.

ثم أقبل على طلحة - و كان له مبغضا منذ قال لأبي بكر ما قال في عمر فقال له:

أقول أم أسكت.

قال: قل فإنك لا تقول من الخير شيئا.

قال: أما إني أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أحد وائبا بالذي حدث لك، و لقد مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب.

قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه اللّه تعالى: الكلمة المذكورة إن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما الذي يعنيه حجابهن اليوم و سيموت غدا فننكحهن قال أبو عثمان أيضا: لو قال لعمر قائل: أنت قلت: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مات و هو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة إنه مات عليه السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها - لكان قد رماه بمشاقصة(1) و لكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا.

ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال: إنما أنت صاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به و صاحب قنص و قوس و أسهم و ما زهرة و الخلافة و أمور الناس ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال: و أما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمينض.

ص: 101


1- المشاقص: مفردها مشقص و هو سهم فيه نصل عريض.

بإيمانك لرجح إيمانك به و لكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك و ما زهرة و هذا الأمر.

ثم أقبل على علي عليه السلام فقال: للّه أنت لو لا دعابة فيك، أما و اللّه لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح و المحجة البيضاء.

ثم أقبل على عثمان فقال: هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية و بني أبي معيط على رقاب الناس و آثرتهم بالفيء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا و اللّه لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن...

بربك اقرأ هذا الحوار و هذا التقييم الفذ و اعرف من يكون الخليفة حتى بنظر عمر و كيف لم يعينه باسمه من بين الستة مع إنه ظاهر واضح و لكن كيف يتولى علي الخلافة فيعري من تقدم عليه و يعجز من يأتي بعده...

(إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه و قام معه بنو أمية يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله و أجهز عليه عمله و كتب به بطنته). هذه صورة حقيقية عن عثمان الخليفة، ينقلها الإمام بأبدع بيان تعجز ريشة أعظم الفنانين عن رسمها و حكايتها كما هي صورة الثالث بعد أبي بكر و عمر.. الخليفة الممثل لرسول اللّه في قيادة الأمة و إدارة شئونها و الذي على يديه يجب أن يكون هدايتها و إرشادها و ردها إن هي جنحت أو تأخرت...

عثمان بن عفان قام بأمر الخلافة بعد عمرو كان ينبغي أن يكون له في رسول اللّه قدوة حسنة و هو الذي عاش معه و وقف على سيرته و سلوكه و تفاصيل حياته.. تولى عثمان الخلافة و قد ألحق بها و بالمسلمين أعظم الضرر و أكبره.. لقد شوه صورة الخلافة و مسخ دورها و جعلها أداة يستغلها لصالحه و لصالح أسرته الأموية...

لقد أساء استخدام السلطة أيما إساءة.. إساءة دفعت بالمسلمين أن يقوموا في وجهه بثورة قضت عليه و أنهته من الوجود...

تربع عثمان على عرش الخلافة الإسلامية بشورى عمر الذي حصرها في ستة أشخاص و تمت صفقة التجار لصالحه و قد صدقت فراسة عمر فيه حينما قال له: هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية و بني أبي معيط على رقاب الناس و آثرتهم بالفيء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على

ص: 102

فراشك ذبحا و اللّه لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن... يرسم الإمام عثمان كما هو و يظهره على حقيقته لقد شبهه بالبهيمة التي لا هم لها إلا بطنها تأكل لتمتلئ فشغلها الأكل و ما يخرج منها من روث..

فعملها أكلها و رجيعها، ما تأكله و ما تضعه و قوله نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه يريد عليه السلام أن عثمان كان همه نفسه يأكل حتى تنتفخ جنبتاه و يشغله أكله و روثه. قال ابن أبي الحديد: و هذا ممضّ الذم و أشد من قول الحطيئة الذي قيل: إنه أهجى بيت للعرب:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** و أقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

و لم يكن عثمان وحده المتفرد بهذا النعيم من بيت مال المسلمين و ما جنته سيوفهم بل قام معه و على سيرته بنو أبيه، بنو أمية الأشرار يأكلون أموال المسلمين و فيئهم كما تأكل الجمال نبات الربيع بشهية و رغبة و شهوة و بملىء فمها، فإنهم قاموا بسلب أموال المسلمين و امتلاكها فصادروا ممتلكات المسلمين العامة و استولوا على الخراج و أخذوا من الخليفة الأعطيات و المنح و الجوائز و القطائع و استأثروا فأساءوا الأثرة و بقي الأمر يزداد سوء حتى كانت أفعال الخليفة هي التي سببت قتله فما جناه من سوء و ما قام به من تجاوزات و قبائح هي التي قضت عليه فقد كانت شهوة بطنه و رغباته الدنيئة مساعدة لأفعاله في القضاء عليه و...

مخالفات عثمان:

كل منصف بصير يدرس التاريخ بموضوعية و يكون حياديا في نظرته لا تأخذه العاطفة أو تشده التربية أو تأسره العقيدة لا بد و أن يحكم على عثمان بالانحراف عن سيرة رسول اللّه و مخالفته لأحكام اللّه سواء كان ذلك عن حسن نية منه أو عن سوء نية..

خالف عثمان سيرة رسول اللّه و سيرة الشيخين و قد نهاه المسلمون صحابة و تابعين و لم يألوا جهدا في رده إلى الطريق فأبى عليه مروان حتى أورده مورده و قضى عليه بمكره و خبثه.. نقمة عامة ممّن كان داخل المدينة و من كان خارجها حتى تشكلت الثورة عليه و قضت على وجوده و نحن سنختصر تلك المخالفات التي أحصاها التاريخ عليه كما هي في مصادرها نذكرها بإيجاز.

1 - وليّ أمور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم عنده مراعاة منه لحرمة القرابة و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين حتى ظهر منه ذلك و تكرر و قد كان عمر حذره من ذلك حيث وصفه بأنه

ص: 103

كلف بأقاربه و قال له: إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس..

فاستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر و استعمل سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة و ولى عبد اللّه بن أبي سرح و عبد اللّه بن عامر بن كريز و هؤلاء لا دين لهم و لا كرامة عندهم و الأصعب من ذلك استعماله لمروان في شئونه و جعله المتكلم باسمه حتى غدا كما يقول أحدهم: أصبح الخليفة مروان في ثوب عثمان..

2 - رد الحكم بن أبي العاص (عم عثمان) إلى المدينة و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طرده و قال له: «لا تساكني في بلد أبدا» فجاء عثمان فكلمه فأبى ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه و قد عاتبه المسلمون و خوفوه اللّه فأبى.

3 - إنه كان يؤثر أهل بيته بالأعطيات العظيمة دون حق و لا استحقاق.

منها إنه زوج بناته و دفع لكل رجل من أصهاره أربعمائة ألف دينار.

منها إنه كان بحضرته زياد بن عبيد مولى الحارث بن كلدة الثقفي و قد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد.

فقال: لا تبك، فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي قرابته ابتغاء وجه اللّه و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه اللّه.

و روى الواقدي بإسناده قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص و منها أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف ألف فوهبها له حين أتاه بها و منها أن عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية قدم على عثمان من مكة و معه ناس فأمر لعبد اللّه بثلاثماية ألف و لكل واحد من القوم بمائة ألف و صك (كتب) بذلك على عبد اللّه بن الأرقم و كان خازن بيت المال - فاستكثر ورد الصك و يقال أنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم.

فقال عثمان: إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازن المسلمين و إنما خازنك غلامك، و اللّه لا ألي لك بيت المال أبدا و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر و يقال: بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه.

و منها أنه دفع إلى مروان خمس إفريقيا عند ما افتتحها المسلمون.

ص: 104

4 - إنه حمى الحمى عن المسلمين لصالحه و صالح أسرته مع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعلهم سواء في الماء و الكلأ.

5 - إنه ضرب عبد اللّه بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه و قد كفره عبد اللّه و أخذ يطعن عليه و يقول: ما يزن عثمان عند اللّه جناح ذباب.

و قال عند ما حضرته الوفاة قال لمن حضره: من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم و عرفوا الذي يريد فأعادها.

فقال عمار بن ياسر رحمه اللّه تعالى: أنا أقبلها فقال ابن مسعود: ألا يصلي عليّ عثمان.

قال: ذلك لك، و هكذا كان و من لطيف ما ينقل عن عثمان و ابن مسعود: إن ابن مسعود مرض مرضه الذي مات فيه فأتاه عثمان عائدا:

فقال: ما تشتكي ؟.

فقال: ذنوبي.

قال: فما تشتهي.

قال: رحمة ربي.

قال: ألا أدعو لك طبيبا.

قال: الطبيب أمرضني.

قال: أفلا آمر لك بعطائك.

قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطنيه و أنا مستغن عنه.

قال: يكون لولدك.

قال: رزقهم على اللّه تعالى.

قال: أستغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

قال: أسأل اللّه أن يأخذ لي منك.

6 - إنه ضرب عمار بن ياسر صاحب رسول اللّه حتى حدث به فتق فقد روي في سبب ذلك أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي و جواهر فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء و إن رغمت به أنوف أقوام فقال له علي عليه السلام: إذن تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه فقال عمار: أشهد اللّه أن أنفي أول راغم من ذلك..

ص: 105

فقال عثمان: أعليّ يا ابن ياسر تجتريء خذوه فأخذ و دخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتى به منزل أم سلمة رضي اللّه عنها فلم يصلّ الظهر و العصر و المغرب فلما أفاق توضأ و صلى و قال: الحمد للّه ليس هذا أول يوم أوذينا في اللّه تعالى و بلغ ذلك عائشة فغضبت و أخرجت شعرا من شعر رسول اللّه و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه و قالت: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد.

7 - نفيه لأبي ذر صاحب رسول اللّه حتى مات غريبا شريدا و لو لم يكن لعثمان إلا هذه الخطيئة لكانت عظيمة يستحق عليها العذاب الأليم.. صاحب رسول اللّه التقي الزاهد المجاهد الناصح يغرب عن وطنه و يهجر عن بلده لأنه رفض التجاوزات العثمانية.. أبو ذر وجد بأم عينه ما يحدثه عثمان فعزّ عليه أن يغيّر سنة رسول اللّه فكانت نتيجته أن نفاه إلى الشام فوجد معاوية في طغيانه فأنكر عليه ممّا استدعى معاوية أن يكتب لعثمان فرده إلى المدينة ثم نفاه إلى الربذة بعيدا عن مدينة الرسول أحب الأماكن إليه...

يذكر التاريخ: إن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه، و أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثماية ألف درهم و أعطى زيد بن ثابت مائة الف درهم جعل أبو ذر يقول: بشر الكانزين بعذاب أليم و يتلو قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ » فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه: أن انته عما يبلغني عنك.

فقال: أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه و عيب من ترك أمر اللّه فو اللّه لأن أرضي اللّه سبحانه بسخط عثمان أحب إليّ و خير لي من أن أسخط اللّه برضاه فأغضب عثمان ذلك و احفظه فتصابر.

و قال يوما: أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى ؟.

فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك.

فقال له أبو ذر: يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا.

فقال عثمان: قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثماية دينار فقال أبو ذر: إن كانت هذه من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه.

و بنى معاوية الخضراء بدمشق.

فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذه من مال اللّه فهي الخيانة و إن كانت من مالك

ص: 106

فهو الإسراف و كان أبو ذر رحمه اللّه تعالى يقول: و اللّه حدثت أعمال ما أعرفها و اللّه ما هي في كتاب اللّه و لا سنة نبيه و اللّه إني أرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه.

فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أما بعد فاحمل جندبا (اسم أبي ذر) إليّ على أغلظ مركب و أوعره فوجّه به مع من سار به الليل و النهار و حمله على شارف (الناقة المسنة الهرمة) ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت فقال: بمكة ؟.

قال: لا، قال فبيت المقدس ؟ قال: لا، قال فأحد المصرين (الكوفة أو البصرة) قال: لا و لكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات.

8 - تعطيله الحد الواجب على عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به و قد كان أمير المؤمنين يطلبه لذلك.

9 - سيّر عثمان صلحاء أهل الكوفة و فيهم كميل بن زياد و صعصعة بن صوحان إلى معاوية في الشام و لما لم يوافقوه على ظلمه و لم يتراجعوا عن مواقفهم المحقة سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و كان على حمص فأهانهم و سبهم و استخف بهم.

أراء الصحابة في عثمان:

اجتمعت كلمة أصحاب النبي على التخلّص من عثمان - عدا قلة قليلة منتفعة من وجوده و حكمه - و لذا نرى كيف أنهم ما بين محرّض على قتله و مشترك فيه و بين مشاهد لا يذب عنه و لا يدفع و هذا ما ينقله التاريخ إلينا يقول ابن الأثير في تاريخه:

تكاتب نفر من أصحاب رسول(1) اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيرهم بعضهم إلى بعض «أن أقدموا فإن الجهاد عندنا و عظّم الناس على عثمان و نالوا منه و ليس أحد من الصحابة ينهى و لا يذب إلا نفر.

و مرة أخرى يقول: كتب جمع من أهل(2) المدينة من الصحابة و غيرهم إلى من

ص: 107


1- ابن الأثير ج - 3 ص 150.
2- ابن الأثير ج - 3 ص 168.

بالآفاق منهم: إن أردتم الجهاد فهلموا إليه فإن دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد أفسده خليفتكم فأقيموه..

- قالت أم المؤمنين عائشة لمروان عند ما جاء يكلمها أن تتوسط لعثمان في دفع الثوار عنه قالت: يا مروان وددت أنه في غرارة من غرائري هذه و أني طوّقت حمله حتى ألقيه في البحر قال ابن أبي الحديد: كل من صنف في السير و الأخبار: إن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنصبته في منزلها و كانت تقول: للداخلين إليها هذا ثوب رسول اللّه لم يبل و عثمان قد ألى سنته و كانت تقول اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا.

- في الإمامة و السياسة لابن قتيبة: أقام أهل الكوفة و أهل مصر بباب عثمان ليلا و نهارا و طلحة يحرّض الفريقين جميعا على عثمان ثم إن طلحة قال لهم: إن عثمان لا يبالي ما حصرتموه و هو يدخل إليه الطعام و الشراب فامنعوه الماء أن يدخل عليه.

- قال ابن أبي الحديد في شرحه كان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه - على عثمان - و كان الزبير دونه في ذلك رووا أن الزبير كان يقول: اقتلوه فقد بدّل دينكم فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب، فقال ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدىء بابني، إن عثمان لجيفة على الصراط غدا.

- قال صاحب الفتنة الكبرى (طه حسين) روى أن ابن مسعود كان يستحل دم عثمان أيام كان في الكوفة و هو كان يخطب الناس فيقول إن شر الأمور محدثاتها و كل محدث بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار يعرض في ذلك بعثمان و عامله الوليد.

- و عمار ابن ياسر يخطب يوم صفين فيقول: انهضوا معي عباد اللّه إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان.. هذه عينات من آراء الصحابة و هناك الكثير من هذا الباب من أراده فليرجع إلى الموسوعات كالغدير و الطبقات و التواريخ.

مقتل عثمان:

سنذكر مقتل عثمان بصورة موجزة جدا و لا ندخل في بعض التفاصيل غير المفيدة لأن قتله لم يكن منهم إلا بعد أخذ و رد و وعد و حنث و محاورات طالت و أحداث جرت يقول المؤرخون ما ملخصه:

ص: 108

لما كانت سنة خمس و ثلاثين - و هي السنة التي قتل فيها عثمان - سار مالك بن الحارث النخعي من الكوفة في مائتي رجل و حكيم بن جبلة العبدي في مائة رجل من أهل البصرة و من أهل مصر ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رءوس أربعة مع كل رجل منهم لواء و فيهم محمد بن أبي بكر و كان جماع أمرهم إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي و كان من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و إلى عبد الرحمن بن عديس التجيبي و قد كتبوا إلى عثمان كتابا يذكرونه باللّه و باليوم الآخر.

و كتب أهل المدينة إليه أيضا يدعونه إلى التوبة و يحتجون و يقسمون له باللّه لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق اللّه فلما خاف القتل شاور نصحاءه و أهل بيته فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج ؟.

فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فيطلب إليه أن يردهم عنه و يعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه إمداد.

فقال عثمان: إنّ القوم لن يقبلوا التعليل و هم محمليّ عهدا و قد كان مني في قدمتهم الأولى ما كان فمتى أعطهم ذلك سألوني الوفاء به.

فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب فاعطهم ما سألوك و طاولهم ما طاولوك فإن هم بغوا عليك فلا عهد لهم فأرسل إلى علي عليه السلام فدعاه فلما جاءه قال: يا أبا حسن إنه قد كان من الناس ما قد رأيت و كان مني ما قد علمت و لست آمنهم على قتلي فارددهم عني فإن لهم اللّه عز و جل أن أعتبهم من كل ما يكرهون و أن أعطيهم الحق من نفسي و من غيري و إن كان في ذلك سفك دمي فقال له عليه السلام: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك و إني لا أرى قوما لا يرضون إلا بالرضى و قد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهدا من الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك ثم لم تف لهم بشيء من ذلك فلا تغرني هذه المرة من شيء فإني معطيهم عليك الحق، قال: نعم فاعطهم فو اللّه لأفين لهم فخرج علي عليه السلام إلى الناس فقال: أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه، إن عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه و من غيره و راجع عن جميع ما تكرهون فاقبلوا منه و وكدوا عليه.

قال الناس: قد قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا و اللّه ما نرضى بقول دون فعل.

فقال لهم علي عليه السلام: ذلك لكم، ثم دخل عليه فأخبره الخبر فقال عثمان:

ص: 109

اضرب بيني و بينهم أجلا يكون لي فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد.

قال له علي عليه السلام: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه و ما غاب فأجله وصول أمرك.

قال: نعم، و لكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام قال علي عليه السلام: نعم فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك و كتب بينهم و بين عثمان كتابا أجله فيه ثلاثا على أن يرد كل مظلمة و يعزل كل عامل كرهوه ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ اللّه على أحد من خلقه من عهد و ميثاق و أشهد عليه ناسا من وجوه المهاجرين و الأنصار فكف المسلمون عنه و رجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه.

فجعل عثمان يتأهب للقتال و يستعد بالسلاح حتى مضت الثلاثة و هو على حاله لم يغير شيئا و كان أهل مصر قد طلبوا منه عزل ابن أبي سرح عاملهم فقال: اختاروا رجلا أوليه عليكم.

فقالوا: استعمل محمد بن أبي بكر فكتب عثمان عهده و ولاه مصر.

خرج محمد و من معه و لما كانوا على مسيرة ثلاث ليال من المدينة فإذا بهم يلتقون بورس غلام عثمان على جمل عثمان نفسه فقال له أصحاب محمد بن أبي بكر ما قصتك و ما شأنك إن لك لأمرا.

فقال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر.

فقال له رجل: هذا عامل مصر معنا.

قال: ليس هذا أريد فأخبر محمد بأمره فبعث في طلبه فجاء به إليه فقال له: غلام من أنت ؟.

فأقبل مرة يقول: أنا غلام مروان و أخرى يقول: أنا غلام عثمان حتى عرفه رجل أنه لعثمان.

فقال له محمد: إلى من أرسلك.

قال: إلى عامل مصر.

قال: بماذا؟.

قال: برسالة.

قال: أما معك كتاب ؟.

قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا و كانت معه إدواة قد يبست فيها شيء يتقلقل

ص: 110

فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا إدواته فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد اللّه بن أبي سرح عامل مصر و فض محمد الكتاب و قرأه على الحاضرين فإذا فيه: إذا أتاك محمد بن أبي بكر و فلان و فلان اصلبهم و اقتلهم و أقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و ابطل كتابهم و قرّ على عملك حتى يأتيك رأي..

فلما رأوا الكتاب فزعوا منه و رجعوا إلى المدينة و ختم محمد الكتاب بخواتم النفر الذين كانوا معه و دفعه إلى رجل منهم ثم قدموا المدينة فجمعوا عليا و طلحة و الزبير و سعدا و من كان من أصحاب رسول اللّه ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و اخبرهم بقصة الغلام و أقرأهم الكتاب فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان و قام أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلحقوا بمنازلهم و حصر الناس عثمان و أحاطوا به و منعوه الماء و الخروج و من كان معه و أجلب عليه محمد بن أبي بكر و في المصادر التاريخية:

لما قدموا المدينة أتوا عليا فقالوا: ألم تر إلى عدو اللّه عثمان أنه كتب فينا بكذا و كذا و إن اللّه قد أحل دمه قم معنا إليه.

قال: و اللّه لا أقوم معكم، ثم خرج خارج المدينة.

و في الإمامة و السياسة لابن قتيبة.

ثم أقبل الأشتر النخعي من الكوفة في ألف رجل و أقبل ابن أبي حذيفة من مصر في أربعمائة رجل فأقام أهل الكوفة و أهل مصر بباب عثمان ليلا و نهارا و طلحة يحرض الفريقين جميعا على عثمان ثم إن طلحة قال لهم: إن عثمان لا يبالي ما حاصرتموه و هو يدخل إليه الطعام و الشراب فامنعوا الماء أن يدخل عليه.

و في تاريخ الطبري: لما أنكر عثمان أن يكون كتب الكتاب قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك (مروان).

قال: أجل و لكنه كتبه بغير أمري.

قالوا: فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك.

قال: أجل و لكنه خرج بغير إذني ؟.

قالوا: فالجمل جملك.

قال: أجل و لكنه أخذ بغير علمي.

قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها و إن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك و غفلتك و خبث بطانتك لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه و غفلته.

ص: 111

و بقي الأمر هكذا يصرون على خلعه و قد حصروه و هو مصرّ على موقفه كلما أعطاهم عهدا نقضه مروان حتى تسوروا عليه من دار بجنب داره و قتلوه.. و بقي ثلاثة أيام ثم دفن في حش كوكب في طرف البقيع حيث كان اليهود يقبرون موتاهم.

ترجمة عثمان:

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف...

و أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف...

أسلم قديما و هاجر مع زوجته رقية بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الهجرة الأولى إلى الحبشة و الثانية إلى المدينة و قد توفيت أيام موقعة بدر فتزوج من أختها أم كلثوم.

صار خليفة في الشورى العمرية التي تكونت بشكل دقيق يضمن نجاحه و كان ذلك لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث و عشرين فاستقبل لخلافته المحرم سنة أربع و عشرين.

لم يعهد عنه أنه خاض معركة و لم يعرف التاريخ أنه قتل مشركا.

و عند ما آلت إليه الخلافة ولّى أقرباءه الأمصار الإسلامية فكان بالشام كلها معاوية و بالبصرة سعيد بن العاص و بمصر عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح و بخراسان عبد اللّه بن عامر و على الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

و قال ابن سعد في طبقاته: و استعمل أقرباءه و أهل بيته في الست الأواخر و كتب لمروان بخمس مصر و أعطى أقرباءه المال و تأول ذلك الصلة التي أمر اللّه بها و اتخذ الأموال و استلف من بيت المال و قال: إن أبا بكر و عمر تركا من ذلك ما هو لهما و إني أخذته فقسمته في أقربائي فأنكر الناس عليه ذلك...

لقد أساء استخدام السلطة و ضعف جدا عن مواجهة ما يعترضه فتسلط عليه مروان فكان يوجهه كيف شاء و قد جرت أحداث رهيبة و فصول غريبة جعلت الناس تنقم عليه و على أسرته إلى أن أجتمع الثوار من الكوفة و البصرة و مصر و قضوا عليه و انتهى حكمه سنة خمس و ثلاثين.

دفن في حش كوكب حيث كان يدفن اليهود موتاهم و قد مرّ معنا بعض ما يتعلق بسلوكه و سيرته و ما جنت يداه..

ص: 112

مبايعة علي:

اشارة

فما راعني (1) إلاّ و النّاس كعرف (2) الضّبع (3) إليّ ، ينثالون (4) عليّ من كلّ جانب، حتّى لقد وطىء (5) الحسنان، و شقّ عطفاي (6)، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (7). فلمّا نهضت بالأمر (8) نكثت (9) طائفة (10)، و مرقت أخرى (11)، و قسط (12) آخرون: كأنّهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول: «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » بلى! و اللّه لقد سمعوها و وعوها (13)، و لكنّهم حليت (14) الدّنيا في أعينهم، وراقهم (15) زبرجها (16)!.

أما و الّذي فلق الحبّة (17)، و برأ (18) النّسمة (19)، لو لا حضور الحاضر، و قيام الحجّة (20) بوجود النّاصر، و ما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقارّوا (21) على كظّة (22) ظالم، و لا سغب مظلوم، لألقيت (24) حبلها على غاربها (25)، و لسقيت (26) آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (28)!.

قالوا: و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتابا [قيل: إن فيه مسائل كان يريد الإجابة عنها]، فأقبل ينظر فيه [فلما فرغ من قراءته] قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لو أطّردت خطبتك من حيث أفضيت!.

فقال: هيهات يابن عبّاس! تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت (30)!.

قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألاّ يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد.

ص: 113

قال الشريف رضي اللّه عنه: قوله عليه السلام «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، و إن أسلس لها تقحم» يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها، و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها؛ يقال: أشنق الناقة، إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، و شنقها أيضا: ذكر ذلك ابن السكيت في «إصلاح المنطق»، و إنما قال: «أشنق لها» و لم يقل «أشنقها» لأنه جعله في مقابلة قوله «أسلس لها» فكأنه عليه السلام قال: إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام.

اللغة

1 - راعني: أفزعني.

2 - العرف: للدابة شعر عنقها و عرف الضبع يضرب به المثل في الازدحام.

3 - الضبع: مؤنثة ضرب من السباع المعروف.

4 - ينثالون: يتتابعون مزدحمين.

5 - وطأ: بقدمه أي داس بها.

6 - شق عطفاي: جرح و خدش جنباي.

7 - ربيضة الغنم: القطعة الرابضة من الغنم.

8 - نهضت بالأمر: قمت به و تسلمته.

9 - نكثت: من نكث أي نقض.

10 - الطائفة: جمعها طوائف، الجماعة من الناس الذين يجمعهم و يميزهم عن غيرهم.

11 - مرقت: مرق السهم نفذ فيها و خرج و من الدين خرج منه.

12 - قسط: جار و عدل عن الحق.

13 - وعوها: حفظوها و فقهوها.

14 - حليت: الدنيا بعيني أعجبتني.

15 - راقهم: من راق الشراب إذا صفا.

16 - زبرجها: الزبرج الزينة.

17 - فلق الحبة: شقها.

18 - برأ: خلق.

19 - النسمة: الروح.

20 - الحجة: البرهان.

21 - أن لا يقاروا: أن لا يقروا و يذعنوا و يسكنوا.

ص: 114

22 - الكظة: ما يعتري الإنسان من الثقل و الكرب عند امتلائه من الطعام.

23 - السغب: الجوع.

24 - ألقيت: رميت.

25 - الغارب: الكاهل.

26 - سقيت الرجل: أعطيته الماء ليشرب.

27 - الكأس: جمعها كؤوس و اكؤس مؤنث الاناء يشرب فيه.

28 - عفطة عنز: ما تنثره العنزة من أنفها، المخاط.

29 - هدرت: هدر البعير ردد صوته في حنجرته و هدر الحمام قرقر و ردد صوته في حنجرته.

30 - قرّت: سكنت و هدأت.

الشرح

اشارة

(فما راعني إلا و الناس كعرف الضبع إليّ ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطىء الحسنان و شق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم) يصف الإمام بيعته و كيف تمت، إنها بيعة أفزعته و لفتت ناظره لأنها على خلاف المتوقع إذ كان يتوقع من الناس أن ينكفئوا على أنفسهم و يبتعدوا عن الساحة فإذا بهم يزدحمون عليه و يتتابعون إليه بصورة غريبة إنهم أحاطوا به من كل جانب يريدون بيعته حتى من شدة ازدحامهم عليه و رغبتهم فيه لم يلتفت أحد منهم إلى الحسن و الحسين و أخذوهما في طريقهم و من شدة الضغط عليه خدش جانباه مجتمعين حوله كالغنم عند ما تجتمع في مراحها فتزدحم على بعضها هكذا كانوا حولي و بهذا الشكل كانت رغبتهم بي..

بيعة الإمام:

قتل عثمان شر قتلة، قتله المسلمون السائرون على خطى الإسلام الذين رأوا ممارساته المخالفة للدين و بعد أن قتل التفت الثوار و الصحابة و جميع المسلمين فلم يجدوا أكفأ من علي يتربع على عرش الخلافة فلذا يمموا وجوههم شطره راجين منه أن يقبل عرضهم و ينقذ الموقف فإنه رجل الساعة الصعبة و صاحب أعظم رصيد طيب عند المسلمين و قد وصفت كتب التاريخ بيعته فنأخذ منها هذه الصورة:

لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزبير فأتوا عليا.

ص: 115

فقالوا له: إنه لا بد للناس من إمام.

قال: لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به.

فقالوا: ما نختار غيرك و ترددوا إليه مرارا و قالوا له في آخر ذلك: إنّا لا نعلم أحدا أحق به منك، لا أقدم سابقة و لا أقرب قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا.

فقالوا: و اللّه ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.

قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية و لا تكون إلا في المسجد و كان في بيته و قيل في حائط (بستان) لبني عمرو بن مبذول فخرج إلى المسجد و عليه إزار و طاق و عمامة خز و نعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس و كان أول من بايعه من الناس طلحة بن عبيد اللّه فنظر إليه حبيب بن ذؤيب فقال: إنا للّه أول من بدأ بالبيعة يد شلاء، لا يتم هذا الأمر، و بايعه الزبير و قال لهما علي: إن أحببتما أن تبايعاني و إن أحببتما بايعتكما فقالا: بل نبايعك، و هربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر، و بايعه الناس، و جاءوا بسعد بن أبي وقاص.

فقال علي: بايع..

فقال: لا، حتى يبايع الناس و اللّه ما عليك مني بأس.

فقال: خلوا سبيله.

و جاءوا بابن عمر، فقالوا بايع.

قال: لا، حتى يبايع الناس.

قال: ائتني بكفيل، قال: لا أرى كفيلا.

قال الأشتر: دعني أضرب عنقه.

قال علي: دعوه أنا كفيله، إنك ما علمت لسيئ الخلق صغيرا و كبيرا.

و بايعت الأنصار إلا نفرا يسيرا منهم: حسان بن ثابت و كعب بن مالك، و مسلمة بن مخلّد، و أبو سعيد الخدري و محمد بن مسلمة و النعمان بن بشير و زيد بن ثابت و رافع بن خديج و فضالة بن عبيد و كعب بن عجرة و كانوا عثمانية..

فأما حسان فكان شاعرا لا يبالي ما يصنع و أما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان و بيت المال فلما حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصار اللّه مرتين فقال له أبو أيوب: ما تنصره إلا لأنه أكثر لك من العبدان و أما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة و ترك له ما أخذ منهم...

ص: 116

تمت البيعة للإمام باختيار الأمة و رغبتها و انعقدت له في أعناق المسلمين فوجب عليهم إطاعته و لزوم أمره و لم يعد للموجود أن يرجع و لا للغائب أن يحتجّ .. و لكنها الدنيا لن تصفو لعلي كما لم تصف للعظماء في التاريخ و يشير الإمام في هذا الفصل إلى ما كان يقوله:

(فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة و مرقت أخرى و قسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » ، بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها) و في هذا المقام يبين الإمام كيف أنه عند ما تولى الأمر و تسلم مقاليد الخلافة و برغبة المسلمين و اختيارهم، كيف نقض من بايع نقض بيعته بدون عذر شرعي و لا حجة يقدر أن يقدمها ذريعة لنقضه ما التزم به من خلافتي قام الناكثون طلحة و الزبير و من تابعهما بالتمرد و نقض البيعة و سعوا في حرب دامية سميت بحرب الجمل...

و كذلك خرجت من الدين فرقة أخرى و هم أهل النهروان الخوارج الذين وردت عن النبي فيهم الأحاديث و قد ورد فيها الأمر بقتالهم و استئصال شأفتهم.

ثم ثالثا قام معاوية و أصحابه يعاونهم عمرو بن العاص، هؤلاء القاسطون، الظالمون العادلون عن طريق الحق الجائرون.. هذه هي الفئة الباغية و قد ورد عن النبي قوله: يا علي ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين.

ثم أراد أن يجعل لهم مبررا بأنهم لم يسمعوا كلام اللّه القائل إن الجنة و ما فيها هي للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة الحسنة الطيبة التي هي الجنة للمتقين الذين يخافون اللّه ثم يقول إن هذا الاحتمال لا يمكن أن يصدق عليهم و لا يمكن أن يكونوا من أهل هذه الآية لأنهم سمعوها جيدا و فهموا معناها إنهم عرب أقحاح قد عرفوا اللغة و أدركوا معناها و خصوصا أنهم عاشوا عصر النبوة و نزول القرآن.. إنهم سمعوها و فهموا معناها و لكنها الدنيا.. أعجبتهم زينتها فرغبوا فيها، لقد استهواهم الملك و الرياسة و غرتهم الزعامة فتركوا الآية و لهثوا وراء الدنيا يريدونها فلذا نكثت طائفة و مرقت أخرى و قسطت الثالثة و سنأتي فيما بعد على تفاصيل ذلك كله..

(أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقاروا على كظة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أولها و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) أقسم الإمام باللّه و ذكره بصفتين من فعله الذي اختص به دون خلقه أنه فلق الحبة شقها و أخرج

ص: 117

منها الأشجار و النبات و خلق الروح و هي الخلق، أقسم بهذين الأمرين اللذين لا يملكهما إلا اللّه أقسم به بصفتيه هاتين أنه لو لا حضور الحاضر من الناس المجتمعين حوله و المناصرين له الآن، و قيام الحجة عليه بوجود الناصر من حيث أن الناس الآن طوع إرادته و عند أمره و يمكن بهم أن يحقق أمر اللّه و يثبت الحق و يبطل الباطل فإن لديه ما يستعين به لقتال الناكثين و رد المظالم و إعادة الحق إلى نصابه لو لا ذلك.

و ما أخذه اللّه على العلماء من العهد و الميثاق أن لا يسكتوا عن ظلم الظالمين و جوع الجائعين و عمّا يمارسه الطغاة على الضعفاء، لو لا ذلك لتخلى عن الخلافة و تركها و شأنها يتقاتل عليها أهل الدنيا و طلابها كما تركها أول مرة عند ما اغتصبها أبو بكر فإنه سدل دونها ثوب النسيان و طوى عنها فكره و ذكرها.

و قد شبه الخلافة بالناقة الممسوكة بالزمام فإذا أراد أن يسرحها ألقاه على كاهلها فتذهب سارحة حيث شاءت و لم يعد لراعيها سلطة عليها و كذلك هو عليه السلام لو لا وجود الناصر و ما أخذه اللّه على العلماء لترك الخلافة و لم يعرها انتباها.

و قال: كما زهدت في بادىء الأمر عند ما استولى عليها الخلفاء قبلي و سكت عن حقي، لزهدت فيها الآن و لوجدتم دنياكم التي تتقاتلون عليها و تسلبون بها حقوق الناس أخف و أهون ممّا تنثره العنز من أنفها في عفطتها و أحقر منه.

(قالوا و قام إليه رجل من أهل السواد) من أهل العراق و سمي سوادا لخضرته و العرب تقول للأخضر الشديد الخضرة أسود و يطلق على بلاد الكوفة و البصرة السوادين.

(عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا.

قيل: إن فيه مسائل كان يريد الإجابة عنها، فأقبل ينظر فيه فلما فرغ من قراءته قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت) فلو تابعت خطبتك من حيث سكت و قطعت الكلام.

(فقال) أمير المؤمنين (هيهات يا ابن عباس) بعد ما أردت (تلك شقشقة هدرت ثم استقرت) شبّه نفسه بالفحل الهادر و شبّه الخطبة بما يخرج منه عند هياجه لعدم الأثر لمثلها في الحاضرين أو لقلة الاهتمام بأمر الخلافة.

قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد.

ص: 118

4 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي من أفصح كلامه عليه السلام و فيها يعظ الناس و يهديهم من ضلالتهم و يقال: إنه خطبها بعد قتل طلحة و الزبير بنا اهتديتم في الظّلماء (1)، و تسنّمتم (2) ذروة (3) العلياء (4)، و بنا انفجرتم (5) عن السّرار (6). وقر (7) سمع لم يفقه الواعية (9)، و كيف يراعي (10) النّبأة (11) من أصمّته (12) الصّيحة (13)؟ ربط (14) جنان (15) لم يفارقه الخفقان (16). ما زلت أنتظر بكم عواقب (17) الغدر (18)، و أتوسّمكم (19) بحلية (20) المغترّين (21)، حتّى سترني عنكم جلباب (22) الدّين، و بصّرنيكم (23) صدق النّيّة. أقمت لكم على سنن (24) الحقّ في جوادّ (25) المضلّة (26)، حيث تلتقون و لا دليل، و تحتفرون (27) و لا تميهون (28).

اليوم أنطق لكم العجماء (29) ذات البيان (30)! عزب (31) رأي امرىء تخلّف عنّي (32) ما شككت في الحقّ مذ أريته! لم يوجس (33) موسى عليه السّلام خيفة (34) على نفسه، بل أشفق (35) من غلبة الجهّال (36) و دول الضّلال! اليوم تواقفنا (37) على سبيل الحقّ و الباطل. من وثق (38) بماء لم يظمأ (39)!.

اللغة

1 - الظلماء: الظلمة.

2 - تسنمتم: أصله ركوب السنام و هنا يراد به العلو.

ص: 119

3 - الذروة: جمعها ذرىّ و ذرى أعلى الشيء.

4 - العلياء: السماء، و المكان العالي، رأس الجبل.

5 - انفجرتم: دخلتم في الفجر.

6 - السرّار: الليلة و الليلتان يختفي فيهما القمر في آخر الشهر.

7 - وقر: الوقر الصمم.

8 - يفقه: يفهم.

9 - الواعية: الصراخ و المقصود هنا الزواجر.

10 - يراعي: يحفظ.

11 - النبأة: الصوت الخفي.

12 - أصمته: من الصمم و هو عدم السمع.

13 - الصيحة: الصوت بشدة.

14 - ربط: اللّه على قلبه قواه و صبره.

15 - الجنان: القلب.

16 - الخفقان: الاضطراب و التحرك.

17 - العواقب: أواخر كل شيء.

18 - الغدر: الخيانة و نقض العهد.

19 - أتوسمكم: أتفرس فيكم.

20 - حلية: زينة.

21 - المغترين: غرّه غرورا خدعه و أطمعه بالباطل.

22 - الجلباب: ثوب يلبس فوق الثياب.

23 - بصرنيكم: عرفني إياكم.

24 - سنن: من السنة الطريقة الواضحة.

25 - جواد: سريع.

26 - المضلة: الأرض التي يضل فيها صاحبها.

27 - تحتفرون: تحدثون الحفر و حفر البئر نقرها.

28 - لا تميهون: لا تجدون ماء.

29 - العجماء: ما لا نطق له.

30 - ذات البيان: صاحبة النطق و اللسان.

31 - عزب: بعد و خفي و غاب.

32 - تخلّف عنه: تأخر.

33 - يوجس: يخاف و الفزع يقع في القلب.

34 - خيفة: الخوف و الفزع.

ص: 120

35 - أشفق: خاف.

36 - غلبة الجهال: منازعة الجهال و قهرهم.

37 - توافقنا: من الوقوف.

38 - وثق به: اطمأن به.

39 - يظمأ: يعطش.

الشرح

اشارة

(بنا اهتديتم في الظلماء و تسنمتم ذروة العلياء و بنا انفجرتم عن السرار) هذه الخطبة الشريفة تتضمن بعض المطالب العظيمة و المناقب الكريمة التي يتمتع بها أهل البيت، يذكرها احتجاجا على من أنكرها و تذكيرا لمن نسيها و بيانا لحقيقة أهلها و هي موجهة إلى طلحة و الزبير و من كان على سيرتهما و كان خطابه لهما و إن كان بعد قتلهما كما خاطب النبي في بدر قتلى المشركين ففي هذا الخطاب إسماع لغيرهما من المسلمين..

بأهل البيت الذين نزل في بيوتهم الوحي كانت هداية الخلق من الجاهلية و الانحراف و الاسفاف في الفكر و الانحطاط في السلوك.. كان الناس في عمى و جهل و ضلال فنزل الوحي على رسوله فهداهم إلى الإسلام و الإيمان و طاعة الرحمن...

و بأهل البيت وصل المسلمون إلى أعلى درجات السمو و الرفعة و تقدموا على جميع الأمم و الشعوب و أضحوا قادة العالم و سادة البشرية ففتحوا الفتوح و قادوا الجيوش و تسلموا أزمة الأمور.. فإن هذه الأمة التي كانت تعيش على هامش الحياة ليس لها من هدف إلا الغزو و السلب و النهب تطارد الجراد و تركض خلف البعير و ليس في منظورها أكثر من ذلك، هذه الأمة تحولت إلى أرقى أمم الأرض و أعزها، وضعت رضى اللّه نصب عينها فأعزها اللّه و رفعها حتى أصبحت سيدة الأمم...

و بأهل البيت غابت الظلمات و خرجت هذه الأمة من مدلهمات الجاهلية إلى فجر مضيء زاهر نتذكره اليوم فنعيش اللذة و الحلم الطيب...

(وقر سمع لم يفقه الواعية و كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة ؟) و إذا كان كل ما تقدم ببركة أهل البيت و وجودهم الطيب المعطاء و كان هذا ما قدموه للأمة ثم إن الناس جهلت ذلك و قابلته بالرفض و الإساءة و القسوة و الجفوة فما كان من الإمام هنا إلا أن دعا

ص: 121

عليهم بالصمم و فقدان الآذان سمعها لأنها إذا لم تفهم هذه الأمور كلها و لم تفكر فيها و تحلّلها و تقدر أهل البيت و تتابعهم في مسيرتهم و سلوكهم و أقوالهم كان سمعهم مفقودا لعدم أداء دوره المطلوب منه..

ثم اعتذر عنهم تبكيتا لهم و إهانة لوجودهم بأنه كيف يسمع الصوت الخفي من لم يسمع النداء القوى و هؤلاء نسوا كلام اللّه و كلام رسوله في حق أهل البيت و لم يؤثر فيهم كل ذلك النداء المتكرر في فضلهم إذا كان ذلك لم يؤثر فيهم فكيف يؤثر فيهم كلام الإمام مع ما هم فيه من العداوة له و البعد عنه و البغض لشخصه.

(ربط جنان لم يفارقه الخفقان) بعد أن دعا على أولئك الذين لم يسمعوا كلام اللّه و كلام رسوله دعا هنا لأولئك الذين تستمر قلوبهم في اضطراب و وجل خوفا من اللّه و فزعا من عقابه، دعا لهم أن تسكن قلوبهم و تثبت و تطمئن و هذا لا يكون إلا بالعمل الصالح و الحياة مع اللّه و أن يتيقنوا بما عنده حتى كأنهم يرونه..

(ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر و أتوسمكم بحلية المغترين حتى سترني عنكم جلباب الدين و بصرنيكم صدق النية) ثم وجه كلامه إلى الفئة الناكثة طلحة و الزبير و من ينهج نهجهما بأنه منذ بيعتهم له كان لا يطمئن إليهم بل يتوقع منهم الخيانة و نقض البيعة، إنني كنت أتفرس فيكم الاغترار بأدنى شبهة و لو كانت فاسدة لا أساس لها و كنت أقدر على أخذكم و الاقتصاص منكم و لكن منعني من ذلك و حجبني ظاهر كلامكم حيث أنتم بظاهركم مسلمين و المسلم في حصانة لا يحاسب على ما في نفسه و ما يضمره و من هنا لا يجوز القصاص قبل الجناية و أنا أعرف ضعف إيمانكم و خبث طواياكم و هذا قد عرفته ببصيرتي التي زودني بها اللّه فإن المؤمن يبصر بنور اللّه..

ما العمرة تريدان:

كان الإمام يقرأ الأحداث و الأشخاص و من ذلك أن طلحة و الزبير بعد أن يئسا منه و عرفا أنهما لن يكونا شريكاه في الملك و هو يرفض أن يولي أحدا منهما أجمع رأيهما على خلافه و محاربته فلذا استئذناه في العمرة فإنها طريق إلى البعد عنه و بالتالي تسهل محاربته.

فقال لهما الإمام: ما العمرة تريدان، فحلفا له باللّه إنهما ما يريدان غير العمرة.

فقال لهما: ما العمرة تريدان و إنما تريدان الغدرة و نكث البيعة، فحلفا باللّه ما الخلاف عليه و لا نكث بيعته يريدان و ما رأيهما غير العمرة.

ص: 122

قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانيا فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان و المواثيق فأذن لهما فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا و اللّه لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها قالوا: يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك.

قال: ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا...

(أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة حيث تلتقون و لا دليل و تحتفرون و لا تميهون) لقد ثبت و قمت علما قائما على الطريق الواضحة في الطرق المتشعبة المتعددة التي يضل سالكها و يتيه و يتحيّر المتحرك فيها و أنتم تجتمعون و تتباحثون للوصول بظنكم إلى الحق و لكن ليس لكم دليل يدلكم بل أنتم تدورون دون فائدة إنكم تبحثون عن الحقيقة التي ترويكم و لكن دون وصول إليها...

و بعبارة أخرى: أنا منار الحق و صراط العدل من قصدني أدرك مناه و فاز و لكن أنتم تبحثون عن الحقيقة في غير مظانها و تفتشون عنها في غير أرضها و ستبقون هكذا حيارى و في ضياع مستمر.

(اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان) اليوم أجعل من لا يحسن الكلام متكلما، صاحب لسان و بيان و هو كناية عن كلامه و أنه سيجعله ينطق بفضائله و يشهد بعظيم مناقبه فكأنه ينطق و إن كان أخرسا.

أو يراد أنه بمواقفه و حركاته و ما يقوم به سيجعل الفعل بمستوى المنطق فإن لسان الحال أقوى من المقال.

(عزب رأي امرىء تخلف عني ما شككت في الحق مذ أريته) بعد عن الحق و الصواب كل رأي يذهب إلى خلاف رأي و يبني وجهة نظر غير وجهة نظري لأنني على الحق و لم أشك فيه منذ عرفته، و إذا كان على الحق و لم يشك فيه كان من يذهب غير مذهبه فإلى ضلال و انحراف و قد كان صلوات اللّه عليه أصدق الناس في هذا فهو الذي يقول «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» كناية عن منتهى الوصول إلى اللّه و إدراك أقصى غايات المعرفة.

(لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال) إن موسى عليه السلام لم يخف على نفسه أن يضل أو ينحرف و إنما خاف على الناس تلبيس السحرة فيضلوا و ينحرفوا و تقوى دول الضلال و الانحراف و ينتصر الجهال و من لا علم لهم باللّه و رسوله و ما يجب عليهم أن يقوموا به كذلك أنا خفت أن تسير الفتنة

ص: 123

و يشتبه الأمر على الناس فيضلوا و ينحرفوا..

(اليوم تواقفنا على سبيل الحق و الباطل من وثق بماء لم يظمأ) اليوم بالخصوص - و إن كان قبل اليوم كذلك - لأنه رأس الهرم و قمة الجبل و منارة الحق و هو على رأس القافلة... اليوم وقفنا و إياكم على الحق و الباطل فأنا على الحق و أنتم على الباطل و من أطمأن إلى وجود الماء لم يشعر بما يشعر به الظمآن الذي يئس منه و كذلك من كان معي و وثق بي فإنه لن يضل و لن ينحرف و لن يقع في المتاهات و الظلام...

ص: 124

5 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب في أن يبايعا له بالخلافة (و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة، و فيها ينهى عن الفتنة و يبين عن خلقه و علمه)

النهي عن الفتنة

أيّها النّاس، شقّوا (1) أمواج (2) الفتن بسفن النّجاة، و عرّجوا (3) عن طريق المنافرة (4)، وضعوا تيجان (5) المفاخرة (6). أفلح (7) من نهض (8) بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن (9)، و لقمة (10) يغصّ (11) بها آكلها.

و مجتني (12) الثّمرة لغير وقت إيناعها (13) كالزّارع بغير أرضه.

خلقه و علمه

فإن أقل يقولوا: حرص (14) على الملك، و إن أسكت يقولوا:

جزع (15) من الموت! هيهات (16) بعد اللّتيّا و الّتي (17)! و اللّه لابن أبي طالب آنس (18) بالموت من الطّفل بثدي (19) أمّه، بل اندمجت (20) على مكنون (21) علم لو بحت (22) به لاضطربتم (23) اضطراب الأرشية (24) في الطّويّ (25) البعيدة!.

ص: 125

اللغة

1 - شقوا: من شق الشيء صدعه و فرّقه.

2 - الأمواج: أمواج البحر ما يرتفع من الماء على سطحه.

3 - عرجوا: انحرفوا و ميلوا.

4 - المنافرة: المفاخرة في الحسب و النسب.

5 - التيجان: جمع تاج الإكليل.

6 - المفاخرة: تكون بين إثنين كل منهما يذكر مفاخرة.

7 - أفلح: فاز و الفلاح الفوز.

8 - نهض بالأمر: قام به و أسرع إليه.

9 - الآجن من الماء: المتغيّر اللون و الطعم، الفاسد.

10 - اللقمة: جمع لقم ما يلقم في مرة.

11 - غصّ باللقمة: إذا وقفت في حلقه.

12 - اجتنى الثمرة: اقتطفها.

13 - الإيناع: يقال أينع الثمر إذا أدرك و طاب و حان قطافه.

14 - الحرص: الشره إلى الشيء و البخل به.

15 - الجزع: عدم الصبر على الشيء و إظهار الحزن و الكدر.

16 - هيهات: بعد.

17 - بعد اللتيا و التي: بعد شدائد الأمور الكبيرة و الصغيرة.

18 - آنس: الأنس ضد الوحشة - و اللتيا تصغير التي.

19 - الثدي: غدة في صدر المرأة لها حلمة يمتص الرضيع منها الحليب.

20 - اندمجت: انطويت.

21 - المكنون: المستور.

22 - باح بالشيء: أظهره.

23 - أضطرب: تحرك و ماج و في الأمر أختل و في أموره تردد و ارتبك.

24 - الأرشية: الحبال مفردها رشا و هو الحبل.

25 - الطوّي: البئر العميقة الغور.

ص: 126

الشرح

اشارة

(أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة و عرجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة) تمت البيعة لأبي بكر في ظروف غاب عنها بنو هاشم حيث كانوا يقومون بتجهيز رسول اللّه و وصلت أنباء البيعة إليهم فرأوا مظلوميتهم و سلب حقهم و جاء إليهم أبو سفيان و هو يقول مثيرا للفتنة: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم، أين المستضعفان علي و العباس ؟.

ما بال هذا الأمر في أقل حي(1) من قريش ؟.

ثم قال لعلي: أبسط يدك أبايعك فو اللّه لئن شئت لأملأنها عليه خيلا و رجلا فأبى علي عليه السلام فتمثّل عندها بشعر المتلمّس:

و لن يقيم على خسف يراد به *** إلا الاذلان عير الحي و الوتد

هذا على الخسف معكوس برمته *** و ذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي و قال:

و اللّه إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة و إنك و اللّه طالما بغيت للإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك ثم إن الإمام وجّه كلامه إلى الناس ليئد الفتنة و يقضي على النزاع و يحفظ الإسلام و المسلمين من خلال الوحدة المطلوبة و خصوصا في تلك الظروف الصعبة التي أحدق الكفر فيها على الإسلام من كل جانب.

و قد شبه الفتنة بالبحر المتلاطم الهائج الذي تتدافع فيه الأمواج فتقضي على من أراد أن يستمر في الإبحار منفردا ضعيفا لم يستعد لخوضه و لم يتأهب لمواجهة تياره و إنه عليه السلام قد أمرنا أن نشق هذه الفتن و نقضي عليها و لا نترك مجالا أو فرصة لمن أراد أن يفسد الود و ذلك بأن يعتصم المسلمون بالوحدة و أمر اللّه فكما إن السفن هي التي تجتاز الأمواج العاتية كذلك الالتزام بأمر اللّه و التزام الوحدة بهما تكون النجاة و يكون الفوز و الخلاص...

و إذا كانت الفتنة ممنوعة و مرفوضة فكذلك أسبابها مرفوضة و من جملة تلك الأسباب المنافرة التي هي العداء و عدم المسالمة و الهدوء و كذلك المفاخرة الموجبة لرؤية الحال المستدعية للتقدم على الغير و الاستطالة عليه و بالتالي الموجبة للعداء

ص: 127


1- ابن الأثير ج - 2 ص 225.

و المخاصمة فإنه عليه السلام أمر في أوقات الفتنة إلى التهدئة و السكون و ترك ما يوجب العداء و المخاصمة...

(أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح) بعد أن دعا إلى و أد الفتنة و أسبابها بيّن القاعدة الكلية التي يجب أن يسكلها أصحاب الحق عند ما تسلب حقوقهم إنهم أمام أحد أمرين أما الثورة و استرداد الحق و هذا الطريق يجب أن يكون من شرائطه وجود الأعوان و الأنصار و المؤيدين الذين ينتصرون لصاحب الحق و يستردون الحقوق بالقوة.. من يريد القيام يجب أن يكون عنده القوة للنصر و طبعا هذا فيما لا يهدّد أصل الدين و يقضي على جذوره و إلا فالثورة و المواجهة و إتلاف النفس يتعين في تلك الحال هذا هو الطريق الأول.

و إذا لم يكن له هذه القوة و العدة فينبغي أن لا يحرك ساكنا و ينتظر الفرج و الظروف المؤاتية التي يمكن أن تغيّر مجرى الأحداث.. و في هذه الطريق الذي لا يملك الإنسان معه القدرة يريح نفسه من عناء الدمار و الهلاك و يريح غيره من الفوضى و الاضطراب.

و كأنه عليه السلام يبيّن معاناته و ما يعيش فيه في تلك الظروف الصعبة و إنه لا يتملك القوة التي يواجه بها مجتمع السقيفة و إفرازاته التي جاءت بالخليفة الجديد...

(هذا ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها) ثم شبّه الخلافة التي سلبت منه و التي يريدها له المطالبون بها شبهها بالماء الفاسد من حيث أنه يضر و لا يستلذ به الإنسان و باللقمة التي لا تستساغ و لا يقدر الإنسان على ابتلاعها فهي في حلقه تؤذيه و تمنعه لذة الحياة و كذلك هذه الخلافة التي تولاها أبو بكر - كيف يقدر الإنسان على السرور بها و قد تؤدي إلى فساد الوضع و الفوضى و الاضطراب إن قام يريدها و يطلبها و يسعى لاستردادها..

(و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه) هذا بيان منه لعدم إقدامه على طلب الخلافة و شبهها بالثمرة و نفسه بمجتنيها ثم شبه مجتني الثمرة لغير وقت نضجها بالزارع في غير أرضه فكما إن هذا يمنع من التصرف فيما زرع و لا يستفيد منه كذلك مجتني الثمرة قبل وقت نضجها فإنه لا ينتفع بها و لا يستطيع أن يتذوقها لمجاجتها و عدم التلذذ بها و طلبه للخلافة بعد أن استولى عليها أبو بكر و جمع حوله الناس المستفيدين من مقامه فإن منازعته و الحال كذلك منازعة عقيمة لا ثمرة فيها و لا نفع وراءها.

(فإن أقل يقولوا حرص على الملك و إن أسكت يقولوا جزع من الموت هيهات بعد اللتيا و التي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه) ثم تعرض إلى مقولات

ص: 128

الناس فيه و إنه لم ينج من ألسنتهم لأنه إذا طالب بحقه في الخلافة يقولون: إن عليا يحب الدنيا و يحب الملك و هو حريص على الرياسة و المكانة العالية.

و إن يكّف عن المطالبة و يسكت عن حقه يقولون أنه يخاف الموت و يخاف أن يقضي عليه أخصامه و من بأيديهم الأمور.

و لكنه عليه السلام رد على الفريقين بأنهما قد بعدا عن الحق و أخذهما الباطل إلى غير الصواب.. فليس قوله إن قال طلبا للملك و حب الرياسة بل لإحقاق الحق و إزهاق الباطل كما إنه لو سكت و كف لم يكن ذلك خوف الموت و الشهادة فإن القاصي و الداني و القريب و البعيد يعرف جهاد علي و مواقفه الكريمة في جميع غزوات النبي و يعرف الجميع إن قلب علي لا يعرف الخوف من أحد إلا من اللّه.. لقد خاض الأهوال و قام بشدائد الأمور و عظائمها و كان مفتاح الفتح في كل موقعة و معركة.

و أكد كذب دعواهم أنه لا يخاف الموت. بأنه آنس به من الطفل بثدي أمه فكما أن الطفل لا يرى في الوجود إلا ثدي أمه و لا يحب شيئا غيره و إذا وصل إليه هش و بش و كان ذلك غاية أمنيته كذلك كانت حالة الإمام مع الموت بل أشد أنسا و هذا ما يفسر لنا قوله عند ما ضربه ابن ملجم «فزت و رب الكعبة» لأن بالموت تحصل السعادة و يدرك الأمنية الغالية التي ينتظرها..

ملاحظة:

«بعد اللتيا و التي»، قال الميداني في مجمع أمثاله:

«بعد اللتيا و التي هما الداهية الكبيرة و الصغيرة و كنى عن الكبيرة بلفظ التصغير تشبيها بالحية فإنها إذا كثر سمها صغرت لأن السم يأكل جسدها.

و قيل: الأصل فيه إن رجلا من جديس تزوج امرأة قصيرة فقاسى منها الشدائد و كان يعبّر عنها بالتصغير فتزوج امرأة طويلة فقاسى منها ضعف ما قاسى من الصغيرة فطلقها و قال: بعد اللتيا و التي لا أتزوج أبدا فجرى ذلك على الداهية.

و قيل: إن العرب تصغّر الشيء العظيم كالدهيم و اللهيم و ذلك منهم رمز..

(بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة) و في ختام هذه الخطبة يبيّن أن سكوته عن المطالبة بحقه إنما هو لأجل ما عنده من العلم الذي تلقاه من النبي من كون الخلافة سيتولاها الغاصبون ثم تنزو عليها صبية

ص: 129

بني أمية و بعدهم دولة بني العباس و إما كما قيل من أنه عليه السلام من خلال جملة ما حدث و صار و ما جرى يعرف كيف ستئول الأمور فيما لو طالب بحقه و أعلنها حربا دامية لا تبقي و لا تذر و في ذلك خطر كبير على الإسلام و أهله...

فإن هذا العلم لو نقله إلى الناس و باح به إليهم لاضطربوا و تزلزلت أقدامهم و عاشوا في بلبلة فكرية لم يستقروا بعدها.

و هو ما عبر عنه لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة فكما تزداد حركة الحبال و لا تستقر إذا كانت البئر عميقة كذلك لو أخبرتكم بما عندي من العلم اضطربت أفكاركم و كثر الشك عندكم و تزلزلت مواقفكم..

ص: 130

6 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما أشير عليه بألا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتال و فيه يبين عن صفته بأنه عليه السلام لا يخدع و اللّه لا أكون كالضّبع (1): تنام على طول اللّدم (2)، حتّى يصل إليها طالبها، و يختلها (3) راصدها (4)، و لكنّي أضرب بالمقبل (5) إلى الحقّ المدبر (6) عنه، و بالسّامع المطيع العاصي المريب (7) أبدا، حتّى يأتي عليّ يومي. فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّي، مستأثرا (8) عليّ ، منذ قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتّى يوم النّاس هذا.

اللغة

1 - الضبع: بضم الباء مؤنث حيوان مفترس معروف.

2 - اللدم: اللطم و الضرب الذي يسمع صوته.

3 - يختلها: يخدعها.

4 - الراصد: الرقيب.

5 - المقبل: الآتي نقيض المدبر.

6 - المدبر: الهارب.

7 - المريب: المشكك.

8 - مستأثرا: يقال استأثر بالشيء استبد به.

الشرح

(و اللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها و يختلها راصدها) رفض الإمام أن يقعد عن القوم الناكثين و أقسم أنه لا يكون كالضبع في الغباء

ص: 131

و عدم الاهتمام بما يدور حوله فإن العرب تقول إنها من أحمق الحيوانات حتى أن من حمقها أن صائدها يأتي إلى بابها فيضرب بعقبه الأرض عند الباب ضربا خفيفا و ذلك هو اللدم فتنام على ذلك فيدخل إليها و يجعل الحبل في عرقوبها و يجرها و بهذه الطريقة يحصل عليها قاصدا اصطيادها و يخدعها المترقب لها بعمله حتى تقع بين يديه.. و الإمام يحلف أنه لن يقعد عن قتال القوم و مجالدتهم حتى يصل حاله معهم إلى مثل حال الضبع مع الصياد فيقع في شراكهم و يتمكنون منه و لو أنه عليه السلام لم يلاحقهم و يطاردهم بل بقي مكانه لقويت شوكتهم و عجز بالتالي عن مقارعتهم..

(و لكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه و بالسامع المطيع العاصي المريب حتى يأتي علي يومي) هذا هو تصميم الشرفاء و أهل الحق في الدنيا و إن عليا سيد الشرفاء و صاحب أعظم حق و هو الخليفة الشرعي بنص اللّه و رسوله و إجماع الأمة و معه الأنصار و الأتباع و هذا يستدعي منه انتصارا للحق و إزهاقا للباطل، هذا يستدعي منه أن يقاتل بمن معه ممن قبل الحق و سانده من خالفه و عانده و يقاتل بمن أطاع أمره من عصاه و بهذه الطريقة يحقق إرادة اللّه و يدرك رضاه و قد أخذ على نفسه أن يبقى على هذه الطريقة حتى يختار اللّه له الدار الآخرة و قد صدق فيما قال فقد قاتل الناكثين في معركة الجمل و البغاة في صفين و الخوارج في النهروان حتى جاء أمر اللّه فضربه اللعين ابن ملجم و كانت الخاتمة السعيدة شهادة في سبيل اللّه.. ثم بين مظلوميته..

(فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ منذ قبض اللّه نبيه صلى اللّه عليه و سلم حتى يوم الناس هذا) أقسم أنه ما زال ممنوعا عن حقه في الخلافة قد سلبها منه الخلفاء قبله و استبدوا بها و لم يشركوه معهم في شيء من شئونها منذ توفى رسول اللّه و قبضه اللّه إليه إلى يوم الناس هذا الذي قامت فيه الاضطرابات و يشهد الواقع أنه عليه السلام لم يتول عملا قط لأحد من الخلفاء الذين سلبوه حقه..

ص: 132

7 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

يذم فيها أتباع الشيطان أتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا (1)، و اتّخذهم له أشراكا (2)، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ (3) و درج (4) في حجورهم (5)، فنظر بأعينهم، و نطق بألسنتهم، فركب بهم الزّلل (6)، و زيّن (7) لهم الخطل (8)، فعل من قد شركه الشّيطان في سلطانه، و نطق بالباطل على لسانه!

اللغة

1 - ملاك الأمر: ما به قوامه و ديمومته.

2 - الأشراك: جمع شرك حبائل الصيد.

3 - دب: مشى على اليدين و الرجلين كالطفل.

4 - درج: مشى.

5 - الحجور: مفردها حجر الحضن و فلان نشأ في حجر فلان في كنفه و منعته.

6 - الزلل: الخطأ.

7 - زيّن: له الأمر حسنّه و الشيء زخرفه.

8 - الخطل: أقبح الخطأ.

الشرح

(اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا و اتخذهم له إشراكا) في هذه الخطبة ذم للمخالفين له و المعاندين لخلافته و هي أوصاف يستحقونها باعتبار أن الطريق طريقان، طريق اللّه و طريق الشيطان، و إذا كان الولي الشرعي على الطريقة الأولى كان نصيب الآخرين الطريقة الثانية.

ص: 133

و قد أصبح بين الشيطان و بينهم تبادل مصالح و منافع و أضحى لكل منهما علاقة قوية فهم اتخذوه قبلتهم و إليه محجتهم هو سيدهم و هم له أتباع و أنصار لا يتحركون إلا عن أمره فكان المستولي عليهم و المتولي لشأنهم، لا يحيدون عما يقول و لا يفعلون غير ما يأمر، عن أمره يصدرون و إليه ينتهون...

و في المقابل هو اتخذهم له جندا مجندة و جعلهم وسيلة يصطاد بهم عباد اللّه الضعفاء و يحرفهم عن مستقيم الصراط فلأنهم نهضوا لمحاربته و هم على باطل اغتر بهم الضعفاء فتابعوهم و عاونوهم و حاربوا معهم فإن من يأخذ دينه من الرجال يضل و كيف لا يضل من يجد الزبير و طلحة و أم المؤمنين عائشة يسيرون لحرب علي... زوجة النبي و صاحباه من جهة و علي من جهة أخرى و أما من أخذ دينه من الكتاب و السنة و سمع أقوال النبي و حكّم عقله فلن يضل و لن ينحرف فيعرف أن عليا قائد البررة و قائل الفجرة و يعرف أنه على الحق و الحق معه و يعرف أنه باب مدينة علم النبي و يعرف أنه أمير المؤمنين و صاحب الولاية و الأمرة...

(فباض و فرّخ في صدورهم و دب و درج في حجورهم) لقد أصبحت صدورهم التي فيها قلوبهم مرتعا للشيطان بحيث وضع شياطينه الصغار فيها فهو ملازم لهم يوسوس و يزيّن يغري بهم و يغريهم فترى النوايا خبيثة و السرائر فاسدة و القلوب نكدة قاسية بحيث أنها كلها تحكي عن الشيطان و تنبىء عن وجوده منها و تخبر عن محله امنها و لشدة ملازمته لها تربى عندهم كما يتربى أطفالهم في أحضانهم فأصبح عزيزا عندهم أثيرا لديهم لا يرد له طلب و لا يحجب عما يرغب..

(فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم) و هذا منتهى استيلائه عليهم و سيطرته على قواهم بحيث تحولت أعينهم و ألسنتهم إلى أدوات للشيطان فإذا نظروا فلا ينظرون إلا إلى محرم محظور و إذا نطقوا فلا ينطقون إلا بالباطل لأن الشيطان ينطق بألسنتهم و ينظر بأعينهم، و كم نجد من هذه العناصر و الأفراد في المجتمع إنك تحس الشيطان ينظر بعيون بعضهم و ينطق لسنتهم بل إذا دققت لوجدت أنهم أساتذته و أنه تلميذهم..

(فركب بهم الزلل و زين لهم الخطل فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه) لقد جرهم إلى الخطأ و الضلال و المعصية و الانحراف و زين لهم الفساد حتى يرتكبوه و يمارسوه لقد أصبح شريكهم في أعمالهم و حركاتهم فلا ينطقون إلا بالباطل و لا يتكلمون إلا بالإفساد لقد تسلط عليهم لأنه أقوى الشريكين فحرفهم عن الصراط المستقيم و أضلهم عن سواء السبيل

ص: 134

8 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك و يدعوه للدخول في البيعة ثانية يزعم (1) أنّه قد بايع (2) بيده، و لم يبايع بقلبه، فقد أقرّ (3) بالبيعة و ادّعى (4) الوليجة (5). فليأت عليها بأمر يعرف؛ و إلاّ فليدخل فيما خرج منه.

اللغة

1 - يزعم: و الزعم هو القول الذي يشك فيه أو يعلم بطلانه.

2 - بايع: مبايعة عاهده إعطاء الولاء لشخص ليتولى مقاليد الأمور.

3 - أقر: اعترف.

4 - أدعى: زعم أنه له حقا أو باطلا.

5 - الوليجة: الدخيلة و ما يضمره الانسان في قلبه.

الشرح

اشارة

(يزعم أنه قد بايع بيده و لم يبايع بقلبه) بايع الزبير للإمام بيعة مكشوفة رآها العام و الخاص دون إجبار و لا إكراه و لما عرف أنه لن ينال من خلافته شيئا أراد أن يهرب منها و يتهرب مما أعطاه و لكن كيف و بأي أسلوب ادعى عندها أنه بايعه بيده و لم يعقد على البيعة قلبه و يصل هذا الكلام إلى الإمام فيرّد عليه مبطلا دعواه مكذبا مدعاه بحجة عقلانية تبانى عليها كل الناس و مفادها و مضمونها: إن من أعطى أمرا ظاهرا من قول أو فعل يكون حجة له كما يكون حجة عليه و لا يمكن أن يخرج عنه أو يعتذر منه إلا إذا جاء بحجة أقوى ينفي ظهور ذلك الفعل أو القول و هذا ما احتج به الإمام عليه حيث قال:

ص: 135

(فقد أقر بالبيعة و ادعى الوليجة فليأت عليها بأمر يعرف) أقرّ بالبيعة حيث بايعه جهارا نهارا و أمام جمهور الناس فما يدعيه من أنه لم يكن من قلبه فهذه الدعوى تحتاج إلى إثبات و إثباتها متعذر مستحيل لا يمكن إدراكه أو تحقيقه فالناس لها علم و معرفة بما يقع تحت نظرها و أما ما في القلوب فاللّه وحده العلاّم و إذا تعذّر ذلك فما على الزبير إلا الرجوع إلى البيعة و إبطال نقضها..

(و إلا فليدخل فيما خرج منه) فهو قد كان داخلا في البيعة و قد خرج منها بنكثها فما عليه الآن بعد أن عجز عن إثبات ما يضمره إلاّ أن يعود إلى البيعة التي خرج منها...

ترجمة الزبير:

الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي.. يكنى أبو عبد اللّه.

أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) .

أسلم في سن مبكرة.

و قد شهد مع النبي جميع مشاهده و كان فارسا شجاعا و قد رفض بيعة أبي بكر و وقف إلى جانب الإمام علي و قد كان واحدا من ست في الشورى العمرية و قد بايع الإمام ثم نكث بيعته و خرج مع طلحة و أم المؤمنين عائشة لقتال علي في معركة الجمل.

قال صاحب الإصابة في تمييز الصحابة: روى أبو يعلى من طريق أبي جرد المازني قال: شهدت عليا و الزبير توافيا يوم الجمل فقال له علي: أنشدك اللّه أسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يقول: تقاتل عليا و أنت ظالم له.

قال: نعم و لم أذكر ذلك إلى الآن فانصرف و بينما هو عائد قتله عمرو بن جرموز و لما أراد الجائزة قال له علي: قال رسول اللّه: بشرّ قاتل ابن صفية بالنار، قتل في جمادى الأول سنة ست و ثلاثين و له ست أو سبع و ستون سنة.

أقول:

كان الزبير يعدّ من أهل البيت لموقفه معهم و إيمانه بهم و لكن ولده عبد اللّه أخرجه من هذا الولاء إلى العداء و قد قال الإمام كلمة في هذا المعنى قال: «ما زال الزبير(1) منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشئوم عبد اللّه».

ص: 136


1- قصار الحكم - 453.

9 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في صفته و صفة خصومه و يقال إنها في أصحاب الجمل و قد أرعدوا (1) و أبرقوا (2)، و مع هذين الأمرين الفشل (3)؛ و لسنا نرعد حتّى نوقع، و لا نسيل حتّى نمطر.

اللغة

1 - أرعدوا: من الرعد و هو صوت قوي يحدث من اصطكاك الغيوم ببعضها، و الرجل أرعد إذا أوعد.

2 - أبرقوا: من برق و البرق نور يلمع أثر احتكاك الغيوم بعضها ببعض و الرجل أبرق إذا هدد.

3 - الفشل: عدم النجاح، تراخى و جبن عند حرب أو شدة.

الشرح

(و قد أرعدوا و أبرقوا و مع هذين الأمرين الفشل) هذا الكلام منه عليه السلام موّجه إلى طلحة و الزبير و جماعتهما و يريد به الذم و الاستهانة بهم و بقدرتهم.

و قد استدل على فشلهم و جبنهم و عدم نجاحهم أنهم يسلكون مسلك التهديد و الوعيد و هذا من دأب الجبناء فإنهم أقوى ما يكونون إذا عرفوا أنهم لا يصل إليهم خصومهم أو كان هناك ما يحول بينهم و بين لقائهم و هذا مجرّب قد جرت به عادة الجبناء و مرّ علينا صدق هذا الكلام.

ثم أشار إلى واقعه و ما هو عليه من اقتران القول بالفعل بقوله: (و لسنا نرعد حتى نوقع و لا نسيل حتى نمطر) و إذا تهددنا أحدا أوقعنا به العذاب و النكال و إلا فلا نهدد.

ص: 137

10 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

يريد الشيطان أو يكني به عن قوم ألاّ و إنّ الشّيطان قد جمع حزبه (1)، و استجلب (2) خيله و رجله (3)، و إنّ معي لبصيرتي (4): ما لبّست (5) على نفسي، و لا لبّس عليّ . و ايم اللّه لأفرطنّ (7) لهم حوضا (8) أنا ماتحه (9)! لا يصدرون عنه (10)، و لا يعودون إليه.

اللغة

1 - الحزب: جمعه أحزاب، الجماعة من الناس، جند الرجل و أصحابه الذين على رأيه، كل قوم اجتمعت قلوبهم و أعمالهم على شيء واحد.

2 - استجلب: طلب أو سبب جلبهم و مجيئهم.

3 - رجله: الرجل بالفتح جمع راجل.

4 - البصيرة: جمعها بصائر، العقل، الفطنة و هي بصر الداخل و العين للخارج.

5 - لبّست: من اللبس، الإشكال و عدم الوضوح و الاختلاط.

6 - أيم اللّه: قسم مثل و اللّه.

7 - لأفرطن: يقال أفرطت الحوض إذا ملأته و الفرط المتقدم.

8 - الحوض: جمع أحواض و حياض مجتمع الماء.

9 - ماتحه: الماتح المستقي من البئر.

10 - صدر عنه: ضد و رده، رجع عنه.

الشرح

(ألا و إن الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله) يريد بهذه الخطبة ذم أعدائه و بيان ضلالهم و انحرافهم و قد استفزهم الشيطان و جمعهم لحربه و جاء بهم

ص: 138

راجلين و على الخيل فإن وراء قيامهم في وجهه إنما كان الشيطان و دعوته الضالة و قد استجابوا له و أطاعوه و تحركوا كما أراد..

(و إن معي لبصيرتي ما لبست على نفسي و لا لبس عليّ ) بعد أن ذم أعداءه لمتابعتهم للشيطان و إطاعة أمره أراد أن يبيّن نظافة ساحته و صحة رؤيته و أنه لا يزال في الوضوح الآن كما كان زمن رسول اللّه فيقول إنني على رؤيتي الواضحة و عقيدتي التي كنت عليها فقد كنت على المحجة الواضحة و لا أزال لم أشك في تلك الرؤية و لم أشتبه فيما أنا عليه كما أنه لم يقدر أحد على تشويش رؤيتي و زلزلت إيماني و ما أنا عليه من الحق فليس لنفسي الأمارة بالسوء قدرة على إغوائي و كذلك ليس لأحد من شياطين الجن و الإنسان قدرة على إغوائي و تشويش رؤيتي.

(و أيم اللّه لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه، لا يصدرون عنه و لا يعودون إليه) ثم أقسم باللّه و هو بار في قسمه أنه سيعلنها عليهم حربا ضروسا و كنى عن ذلك بأنه سيملأ لهم حوضا و هو بنفسه يتولى نزحه تهديدا لهم فإنهم سيردون على الحوض و لكن عليا صاحب الحرب و ابن بجدتها سيتركهم بين أمرين أحلاهما مرّ، سيتركهم بين قتيل يرد على الحرب و لا يخرج منها و بين هارب لا يعود إليها أبدا.

ص: 139

11 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل تزول (1) الجبال و لا تزل! عضّ (2) على ناجذك (3). أعر (4) اللّه جمجمتك (5) تد (6) في الأرض قدمك (7). ارم ببصرك أقصى (8) القوم، و غضّ (9) بصرك، و أعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه.

اللغة

1 - تزول: تذهب و تتحول.

2 - عض: العض هو الإمساك بالأسنان و الضغط بها.

3 - ناجذيك: مفردها ناجذ و هو أقصى الأضراس.

4 - أعر: من الإعارة و هي إعطاء شيء للاستفادة منه على أن يرده.

5 - جمجمتك: الجمجمة عظم الرأس المشتمل على الدماغ.

6 - تد: أمر من وتد إذا ثبت كالوتد.

7 - قدمك: القدم ما بين طرف الابهام للرجل و طرف العقب.

8 - أقصى الشيء: منتهاه و غايته.

9 - غضّ : بصره منعه عما لا يحل له و الغض كسر النظر و كفه.

الشرح

اشارة

(تزول الجبال و لا تزل) هذه أوامر و إرشادات من الإمام إلى ولده و هي نتيجة تجربة حكيمة و خبرة طويلة في هذا المضمار فأولها الثبات و الصبر و إن الجبال لو زالت من

ص: 140

محلها يجب أن لا تزول أنت عن مكانك أو تتحول عنه فلا تتحرك و لا تضطرب...

(عض على ناجذك) قيل إن العض على النواجذ يصلّب عظام الرأس فلا يأخذ منه السيف مأخذه و لكن الأقرب أنه كناية عن تحميله الغيظ و أن يكون حاله حال المقهور الذي يحنق على خصمه و يغتاظ فيعض على نواجذه و يطلب الانتقام و شفاء غيظ صدره ليرتاح...

(أعر اللّه جمجمتك) يعني أبذل نفسك في طاعة اللّه و تقوية دينه و العارية هي إعطاء شيء للاستفادة منه على أن يرده و هذا منه كما قيل إشارة إلى أنه لن يموت في قتاله.

(تد في الأرض قدمك) ثبتّ أقدامك في الأرض و اجعلها كالوتد لا تتحرك و لا تتزلزل و إنك متى ثبت ثبت غيرك كما هو حال الوتد بالنسبة لما يربط به..

(ارم ببصرك أقصى القوم) فلا تنكّس رأسك و لا يرهبك من كان قريبا منك بل انظر إلى آخر القوم و اقصد إليه فاجعله مطمح نظرك و غابة و صولك فإن الهمم العالية تجعل هدفها أهم الأمور و أعظمها و في الحروب ينظر إلى النصر و هو لا يتم إلا بالتغلب على أقصى القوم..

(غض بصرك) فبعد أن أمره أن يمد بصره إلى أقصى القوم و يكون همه ذلك و الانتصار عليه يجب أن يغضّ بصره عما في أيدي أعدائه من السيوف و العتاد لئلا يؤخذ بها و ينهزم نفسيا من رؤيتها ثم ختمها بقوله:

(و اعلم أن النصر من عند اللّه سبحانه) و هذه عقيدة المؤمن و منها ينطلق فهو يعمل بما أمر اللّه من إعداد العدة و التأهب و توفير جميع متطلبات المعركة ثم يجعل على رأس ذلك كله و في صلب معادلته إرادة اللّه و حكمه فهو الذي ينزل نصره و هو الذي يمسكه و يمنعه بيده الأمور و إن تنصروا اللّه ينصركم..

ترجمة محمد بن الحنفية:

محمد بن علي بن أبي طالب.

و أمه اسمها خولة بنت جعفر بن قيس من قبيلة بني حنيفة.

و قد اختلف في أمرها فقيل أنها سبية على يد خالد بن الوليد في زمن أبي بكر و هذا لم يصح.

و قيل أنها كانت سبية في زمن رسول اللّه فقد قالوا أن رسول اللّه بعث عليا إلى اليمن

ص: 141

فأصاب خولة في بني زبيد و قد ارتدوا مع عمر بن معديكرب و كانت زبيد قد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي فقال له رسول صلّى اللّه عليه و سلّم: إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي و كنه بكنيتي فولدت له بعد موت فاطمة محمدا فكناه أبا القاسم.

و قال قوم و هم المحققون و قولهم الأظهر أن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر فسبوا خولة فباعوها من علي فقدم قومها عليه فأخبروه بموضعها عندهم فأعتقها و مهرها و تزوجها...

كان محمد من فضلاء التابعين حتى ادعى قوم أنه الإمام و كانت راية أمير المؤمنين في موقعة الجمل معه قال ابن أبي الحديد دفع أمير المؤمنين يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه و قد استوت الصفوف و قال له: احمل فوقف قليلا فقال له: احمل فقال يا أمير المؤمنين أما ترى السهام كأنها شآبيب المطر فدفع في صدره و قال: أدركك عرق من أمك ثم أخذ الراية فهزها ثم قال:

اطعن بها طعن أبيك تحمد *** لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرقي و القنا المسدد

ثم حمل و حمل الناس خلفه فطحن عسكر البصرة ثم دفع علي الراية إلى محمد و قال امح الأولى بالأخرى و هذه الأنصار معك و ضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير و من أهل بدر فحمل محمد حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم و أبلى بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي: أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح و لئن كنت خفت عليه الجبن و هو بينك و بين حمزة و جعفر لما خفناه عليه و إن كنت أردت أن تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال، و قالت الأنصار: يا أمير المؤمنين لو لا ما جعل اللّه تعالى للحسن و للحسين عليهما السلام لما قدمنا على محمد أحدا من العرب فقال علي عليه السلام أين النجم من الشمس و القمر أما أنه قد أغنى و له فضله... و لكن أين يقع ابني من ابني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

- و قد كان لمحمد منزلة في قلوب الناس و قد دعا له المختار و كان يقول إنه المهدي و يسمى من اعتقد به بالكيسانية و قد حبسه ابن الزبير فخلصه المختار.

توفي محمد سنة 81 هجرية في أيام عبد الملك بن مروان..

ص: 142

12 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما أظفره اللّه بأصحاب الجمل، و قد قال له بعض أصحابه، و ددت أن أخي فلانا كان شاهدا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فقال له عليه السّلام: أهوى (1) أخيك معنا؟ فقال: نعم. قال: فقد شهدنا، و لقد شهدنا! في عسكرنا هذا أقوام (2) في أصلاب (3) الرّجال و أرحام (4) النّساء، سيرعف (5) بهم الزّمان، و يقوى بهم الإيمان.

اللغة

1 - الهوى: الحب و الاشتهاء، الميل.

2 - أقوام: جماعات.

3 - أصلاب: مفرده صلب عظم الظهر ذو الفقرات الممتد من الكاحل في أسفل الظهر.

4 - أرحام: مكان نمو الجنين في المرأة.

5 - رعف: من الرعاف و هو الدم الذي يخرج من الأنف.

الشرح

اشارة

(فقال عليه السلام: أهوى أخيك معنا.

قال: نعم قال: فقد شهدنا و لقد شهدنا في عسكرنا هذا).

ما أجمل هذه الأمنية في تلك اللحظات الكريمة... إنها إشراقة في عالم الروح

ص: 143

تتفتح لترى أخا لها في اللّه كان يعشق هذا النصر لأولياء اللّه...

وددت التي هي أقرب من ليت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على اعدائك.

و يأتي الرد العلوي ليستحضر الأخ بين المجاهدين و يدخله في عداد الشاهدين..

لئن بعد بجسده فإن الروح تقربه و علاقة الفكر توحده.. اتحاد الرؤية و النظرة و الهوى و الحب يجمع الجميع، من مات و من هو شاهد حي و من بعد في أصلاب الرجال و أرحام الأمهات... يلتقي الجميع على صعيد واحد... يأخذ الغائب حكم الحاضر و ينال أجره و ثوابه.. تطوى المسافات الزمنية و تقترب أقاصي الأرض بعضها من بعض و تأتي بكل صاحب رأي لتجمعه مع من يلتقي معه في الرأي.. الحب يجمع.. الهوى و الميل يوحد.. الجامع مشترك يحكم الجميع و يعطي الكل حكما واحدا...

من كان غائبا الآن و أحب نصرنا فهو معنا و من بعد في زوايا العدم في أصلاب الرجال و أرحام النساء و أحب نصرنا فهو معنا و من أحب قوما كان معهم و الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه...

إنها استشرافة علوية و علم علمه اللّه إياه يقرأ من خلاله المستقبل فيخبر عنه و كأنه عيان فيبشر المؤمنين بأن الزمن سيأتي بمن يحب أمير المؤمنين و يحب فتوحاته و بطولاته، و هؤلاء سيقوى بهم الإيمان، سيجاهدون و ينتصرون و يقوى بهم الإيمان و ترتفع بهم كلمة الرحمن.

إنما يجمع الناس السخط و الرضا:

وردت الأحاديث الكثيرة في أن من أحب قوما حشر معهم و من رضي بفعل قوم كان شريكا لهم و يحاسب كحسابهم و هذا الأمر من مقتضيات الإيمان و لوازمه فمن أحب الرذيلة و انتشارها كان كمن يتعاطاها و من رضي بقتل مؤمن كان شريك القاتل في عمله و هكذا.

1 - عن علي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه، و من غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده.

2 - و عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام: يا ابن رسول اللّه ما تقول في حديث روي عن الصادق (ع) قال: إذا

ص: 144

خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام بفعال آبائها فقال عليه السلام: هو كذلك فقلت: قول اللّه عز و جل: «وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ » ما معناه ؟.

قال: صدق اللّه في جميع أقواله، و لكن ذراري قتلة الحسين (ع) يرضون بفعال آبائهم و يفتخرون بها و من رضي شيئا كان كمن أتاه، و لو أن رجلا قتل بالمشرق - فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه عز و جل شريك القاتل، و إنما يقتلهم القائم (ع) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم..

ص: 145

13 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في ذم أهل البصرة بعد وقعة الجمل كنتم جند (1) المرأة، و أتباع (2) البهيمة (3)؛ رغا (4) فأجبتم، و عقر (5) فهربتم. أخلاقكم دقاق (6)، و عهدكم (7) شقاق (8)، و دينكم نفاق (9)، و ماؤكم زعاق (10)، و المقيم (11) بين أظهركم مرتهن (12) بذنبه، و الشّاخص (13) عنكم متدارك (14) برحمة من ربّه. كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ (15) سفينة قد بعث اللّه العذاب من فوقها و من تحتها، و غرق من في ضمنها.

و في رواية: و أيم اللّه لتغرقنّ بلدتكم حتّى كأنّي أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامة (16) جاثمة (17).

و في رواية: كجؤجؤ طير في لجّة بحر.

و في رواية أخرى: بلادكم أنتن (18) بلاد اللّه تربة: أقربها من الماء، و أبعدها من السّماء، و بها تسعة أعشار الشّرّ، المحتبس فيها بذنبه، و الخارج بعفو اللّه. كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها (19) الماء، حتّى ما يرى منها إلاّ شرف (20) المسجد، كأنّه جؤجؤ طير في لجّة (21) بحر!.

ص: 146

اللغة

1 - الجند: العسكر.

2 - الأتباع: السائرون خلف شخص، المنقادون له.

3 - البهيمة: جمعها بهائم كل ذات أربع قوائم من دواب البر و الماء عدا السباع و الطيور.

4 - رغا: من الرغاء و هو صوت الإبل.

5 - عقر: العقر الجرح.

6 - دقاق: الدقاق من كل شيء صغيره و حقيره.

7 - العهد: الميثاق.

8 - الشقاق: الخلاف.

9 - النفاق: إظهار الإسلام و إبطان الكفر.

10 - الزعاق: المالح.

11 - المقيم: الثابت، المستقر في المكان.

12 - المرتهن: المحبوس بالشيء و ارتهن بالأمر إذا تقيد به.

13 - الشاخص: الراحل، و الذاهب.

14 - متدارك: يقال تداركه اللّه برحمته أي لحقه و تدارك القوم لحق أولهم آخرهم.

15 - الجؤجؤ: عظم الصدر و جؤجؤ السفينة صدرها و مقدمها.

16 - النعامة: حيوان معروف أخذ من الجمل العنق و الوظيف و المنسم و من الطير الجناح و المنقار و الريش.

17 - جاثمة: رابضة.

18 - أنتن: من النتن و هو ما خبثت رائحته.

19 - طبّقها: يقال طبّق الماء وجه الأرض إذا غطاه و عمّه.

20 - شرف: مفردها شرفة و من القصر ما أشرف من بنائه.

21 - اللجة: معظم البحر، و عمقه.

الشرح

(كنتم جند المرأة و أتباع البهيمة رغا فأجبتم و عقر فهربتم) البصرة هي البلدة التي تداعى لها طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة و من تابعهم و قصدوها من المدينة بعد

ص: 147

مرورهم بمكة و كانت بها وقعة الجمل المشهورة التي كانت أول معركة بين المسلمين و هي التي فتحت باب الفتنة و شقت عصا المسلمين و جرأت معاوية أن يتمادى في غيه و يسترسل في ضلاله و ينازع الخليفة الشرعي و يشنها حربا ضروسا حولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض...

دخل طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة إلى البصرة فوجدوا أذنا صاغية و أتباعا و شيعة.. إنهم نقضوا بيعة أمير المؤمنين و نكثوا عهدهم و عند ما انهزم أهل الجمل خطب الإمام بأهل البصرة و قد ذمهم و ذكر بعض عيوبهم فأول صفة قبيحة فيهم أنهم جند المرأة.. إنهم أمرّوا عليهم أم المؤمنين عائشة فهي التي قادت الحرب و أضرمت نارها و زكتّ أوارها و لن يفلح قوم ولّوا عليهم امرأة و قد كانت المرأة تمثلّ الضعف و لاحظ لها في الحرب أو قيادة الجيوش فكيف استولت السيدة عائشة على أهل البصرة و جعلتهم من جندها و جعلوها قائدة لهم نعم قد نظروا إليها على أنها زوجة نبيهم فقدموا أنفسهم من أجلها...

و أيضا جعلهم أتباع البهيمة يعني أتباع الجمل و هذا الجمل الملعون كانت له قصة منذ أن رأت أم المؤمنين اعتلاء ظهره و من قصته كما في شرح النهج لابن أبي الحديد:

قال: لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيرا أبدّا يحمل هودجها فجاءهم يعلى بن أمية ببعيره المسمى عسكرا و كان عظيم الخلق شديدا فلما رأته أعجبها و أنشأ الجمّال يحدثها بقوته و شدته و يقول في أثناء كلامه عسكر فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت و قالت ردوه لا حاجة لي فيه و ذكرت حيث سألت رسول اللّه ذكر لها هذا الأسم و نهاها عن ركوبه و أمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبه فغير لها بجلال غير جلاله و قيل لها قد أصبنا لك أعظم منه خلقا و أشد قوة و أتيت به فرضيت..

و هذا الجمل الملعون التف حوله أهل البصرة و اجتمعت عليه القبائل، اتخذته راية لها تدافع عنه و تدفع عنه كل من قصده حتى قضى دونه الكثير الكثير من العرب و هذا ما استدعى الإمام أن ينفخ في أصحابه و يدفعهم لعقره و القضاء عليه قائلا لهم و بأعلى صوته:

«ويلكم اعقروا الجمل فإنه شيطان» ثم قال: «اعقروه و إلا فنيت العرب». و قال:

لعنه اللّه من دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم قرأ: «وَ اُنْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً» ثم أشار الإمام إلى رمزية هذا الجمل و خصوصيته عند أهل البصرة بحيث أنه اتخذ لهم راية فعند ما سمعوا صوته تداعوا إليه و استجابوا

ص: 148

لأهله فراحوا يدافعون عنه و يتقاتلون تحت لواء راكبته و لكن ما أن سقط على الأرض حتى هرب كل من كان حوله و تفرقوا و هدأت المعركة.. و بعبارة ابن أبي الحديد «فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة».

(أخلاقكم دقاق و عهدكم شقاق و دينكم نفاق) و قد ذم الإمام أهل البصرة ببعض أخلاقهم القبيحة فإنهم أصحاب أخلاق دنيئة رذيلة و عهودهم لا وفاء لهم بها بل إذا بايعوا نكثوا و أصدق شاهد ما وقع لهم معه و وصف دينهم بأنه نفاق فهم ليسوا مسلمين صادقين و إنما يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر.

(و ماؤكم زعاق) أي مالح لا تقبله النفس و لا تستسيغه و هذا ذم لاختيارهم الذي وقع على هذا الشيء المرفوض و إذا أردت أن تحط من شأن إنسان قد تحط من نفس الغرض الذي اختار كأن تسقط الكتاب و تعيبه و تتكلم عليه فيعرف من اختاره أنه بدون ذوق في عملية الاختيار.

(المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه و الشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه) بعد أن وصفهم بما هم فيه و بيّن مساويهم خلص إلى نتيجة بأن المقيم معهم مؤاخذ بذنبه لا خلاص له منه من حيث أن الطبايع تعدي و العادات تنتقل أو أنه و هو مقيم معهم لا يقدر على ردعهم و منعهم عما هم فيه فيشمله البلاء و تعمّه النقمة و قد ورد النهي عن الإقامة في بلاد يقل فيها الدين خصوصا إذا خاف الإنسان على نفسه من الانحراف ففي الحديث عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: إياكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين و مجاورة الفاسقين و احذروا فتنتهم و تباعدوا عن ساحتهم... و إذا كان المقيم بينهم تطاله هذه العقوبة القاسية و يؤاخذ بذنبه فمن كان بعيدا عنهم و تركهم و ارتحل أدركته رحمة ربه لسلامته و أمنه من مجاورتهم و قربهم.

(كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها و من تحتها و غرق من في ضمنها) و هذه مفردة من مفردات الإمام الغيبية حيث رأى بعين البصيرة و ما كشفه اللّه له من المستقبل بأن البصرة ستغرق و سينال أهلها العذاب و العقاب لشدة ذلك العذاب نالهم من تحتهم و من فوقهم و غرقوا و هم فيها فهو يطالهم من جميع الجهات و لا يبقى منها إلا المسجد ظاهر علامة عليها و دليل على أنها كانت هنا...

(و في رواية و أيم اللّه لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) و هذا حلف منه و قسم يؤكد على أن البصرة ستغرق و سيعمها الماء و لا يبقى

ص: 149

إلا المسجد كشاهد على أنها كانت أنه كمقدم السفينة أو نعامة رابضة يرى الإنسان رأسها كأثر يدل عليها..

(و في رواية كجؤجؤ طير في لجة بحر) يقول الشارح المعتزلي: فإن البصرة قد غرقت مرتين، مرة في أيام القادر باللّه و مرة في أيام القائم بأمر اللّه غرقت بأجمعها و لم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين.

(و في رواية أخرى بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة أقربها من الماء و أبعدها من السماء و بها تسعة أعشار الشر) و هذا وصف للبصرة و هي أوصاف شائنة تنفيرا منها و تحذيرا لأهلها فهي أنتن أرض اللّه لما فيها من الرطوبة المؤدية للعفونة.

و أما بعدها من السماء فقد لا يكون المراد به المعنى الحقيقي الحسي و إنما يراد به أنها أبعدها عن رحمة اللّه و منحه و عطاياه.

ثم لكثرة شرور أهلها و تمرسهم في الباطل جعل فيهم تسعة أعشار الشر و هو قد لا يراد به الحقيقة و إنما يراد به الكناية و الإشارة إلى كثرة شرورهم...

(المحتبس فيها بذنبه و الخارج بعفو اللّه كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر) فمن بقي فيها و استقر في أرضها فلا بد و أنها عقوبة على ذنب فعله و أما من خرج منها فبرحمة اللّه و عفوه الذي نجاه و أبعده عنها ثم أخبرهم بما يجري عليها من الغرق..

ص: 150

14 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في مثل ذلك أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السّماء، خفّت (1) عقولكم، و سفهت (2) حلومكم (3)، فأنتم غرض (4) لنابل (5)، و أكلة (6) لآكل، و فريسة لصائل (8).

اللغة

1 - خفّت: من خفّ ضد ثقل.

2 - سفهت: السفيه الذي لا يحسن التصرف و شرعا من لا يحسن التصرف بماله.

3 - الحلوم: العقول.

4 - الغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام.

5 - النابل: ذو النبل.

6 - أكلة: اسم للمأكول.

7 - فريسة: الأسد ما يصطاده و يفترسه و يدق عنقه.

8 - الصائل: على الحيوان هو الواثب عليه القاهر له، و الصولة السطوة و القهر.

الشرح

(أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء) يقول ابن أبي الحديد في تفسير هذه الكلمات: قريبة من الماء أي قريبة من الغرق بالماء و أما بعيدة عن السماء فإن أرباب علم الهيئة و صناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء (الإبلّة) و الإبلة هي

ص: 151

قصبة البصرة و هذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب و لا تهتدي إليه و هذا مخصوص بالمدققين من الحكماء و هذا من أسراره و غرائبه و بدائعه.

و يمكن أن يكون بعدها عن السماء أي بعدها عن رحمة اللّه و طاعته...

(خفّت عقولكم و سفهت حلومكم) أما خفت عقولهم فلأنهم اتبعوا المرأة الضعيفة التي لا علم لها بالحرب و لا حق لها بالقتال و لم يقفوا عند ما جاءتهم وقفة الكرام ليردوها إلى مكانها التي جاءت منه حفظا لها و صيانة لكرامتها و لحق نبيهم عليهم فيها، و أما سفه الأحلام فلأن حقهم أن يحاكموها و يردوها إلى خدرها الذي ضربه اللّه عليها حيث قال تعالى مخاطبا نساء النبي(1): «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ اَلْأُولىٰ » .

(فأنتم غرض لنابل) أنتم هدف يقصدكم طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة فيخرجوكم لقتال الحق و العدل و تكونوا بذلك هدفا للقتل و الاذلال و الفتنة.

(و أكلة لآكل) من حيث يقصدكم و يأكل أنفسكم بالحرب و أموالكم بالتلف.

(و فريسة لصائل) فكل طامح يريد الخروج على الحاكم الشرعي تكونون فريسة له و لقمة سائغة يقودكم إلى حتفكم..3.

ص: 152


1- سورة الأحزاب، آية - 33.

15 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

فيما رده على المسلمين من قطائع (1) عثمان رضي اللّه عنه و اللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء، و ملك به الإماء (2)؛ لرددته؛ فإنّ في العدل سعة (3). و من ضاق (4) عليه العدل، فالجور (5) عليه أضيق!.

اللغة

1 - القطائع: ما يقطعه الولاة من أرض الخراج لبعض الناس.

2 - الإماء: الجواري و العبيد.

3 - السعة: ضد الضيق.

4 - ضاق الشيء: ضد اتسع.

5 - الجور: الظلم.

الشرح

(و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) قالوا: إن الإمام خطب هذه الخطبة في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة و مطلعها: ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود في بيت المال فإن الحق القديم لا يبطله شيء و لو وجدته قد تزوج به النساء و فرق في البلدان لرددته إلى حاله فإن في العدل سعة و من ضاق عنه العدل فالجور عنه أضيق..

سلك عثمان مع اقربائه خلاف سيرته مع جميع المسلمين فقد آثرهم بالفيىء

ص: 153

و أغدق عليهم العطاء و زاد لهم فيه بل فتح أمامهم أبواب الرزق من بيت مال المسلمين و أقطعهم القطايع و حوّل الإسلام كله لصالحه و صالح أسرته دون استحقاق و لا كفاءة و لا قدم سابقة لهم في جهاد أو غزو و كان هذا الاستئثار من أهم الأمور التي دفعت بالمسلمين إلى التخلص منه و عند ما تولى الإمام الخلافة و أضحت يده مبسوطة يستطيع أن يرد المظالم لأهلها و يعود بها إلى أصحابها كانت هذه الخطبة خطة عمل و برنامجا لسيرته و إنذارا مبكرا برجوع الحق إلى نصابه فلذا يقسم و هو بار في قسمه صادق في حلفه يقسم أن هذا المال المأخوذ ظلما لو وجده و قد تزوج به النساء بأن جعل مهرا لهم و صداقا في زواجهم لاسترجعه منهم و لو اشتري به العبيد و الجواري لاسترجع الحق منهم فإن الزمن لا يعطي شرعية لأحد و لا يستطيع مروره أن يقلب الأمور من كونها محرمة إلى أن تصبح محللة بل المغصوب و نماؤه لمالكه الأصيل و ليس للغاصب إلا التعب.. و علل ذلك بأن العدل فيه سعة و راحة و فيه إقامة النظام و عدم الفوضى و الانحلال و إذا كان العدل لا يسع بعض الناس لانحرافهم و ظلمهم و أخذهم أموال الناس ظلما و عدوانا فإن الظلم عليه أضيق بكثير لأن الحق سيؤخذ منه بالقوة و في ذلك قهر له و إذلال فيجمع بين ذهاب المال و ذلة النفس و في هذا تهديد لهم و إنذار بأن المظالم يجب أن ترجع إلى أهلها و تعود إليهم و ليبادر كل ظالم إلى رد مظلمته إلى صاحبها..

ص: 154

16 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما بويع في المدينة و فيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم و فيها يقسمهم إلى أقسام ذمّتي (1) بما أقول رهينة (2). و أنا به زعيم (3). إنّ من صرّحت (4) له العبر (5) عمّا بين يديه من المثلات (6)، حجزته (7) التّقوى عن تقحّم (8) الشّبهات (9). إلاّ و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و الّذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة (11)، و لتغربلنّ غربلة، و لتساطنّ (12) سوط القدر (13)، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم، و أعلاكم أسفلكم، و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا، و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا.

و اللّه ما كتمت (15) و شمة (16)، و لا كذبت كذبة، و لقد نبّئت (17) بهذا المقام و هذا اليوم. ألا و إنّ الخطايا (18) خيل شمس (19) حمل عليها أهلها، و خلعت (20) لجمها (21)، فتقحّمت بهم في النّار. ألا و إنّ التّقوى مطايا (22) ذلل (23)، حمل عليها أهلها، و أعطوا أزمّتها (24)، فأوردتهم (25) الجنّة. حقّ و باطل، و لكلّ أهل، فلئن أمر (26) الباطل لقديما فعل، و لئن قلّ الحقّ فلربّما و لعلّ ، و لقلّما أدبر شيء فأقبل!.

قال السيد الشريف: و أقول: إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، و إن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به. و فيه - مع الحال التي وصفنا - زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، و لا يطلع فجّها إنسان، و لا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق، و جرى فيها على عرق، «و ما يعقلها إلا العالمون».

ص: 155

اللغة

1 - الذمة: العهد.

2 - رهينة: مرهونة، محبوسة مقيدة.

3 - الزعيم: الكفيل.

4 - صرحت: كشفت.

5 - العبر: بكسر ففتح جمع عبرة الموعظة.

6 - المثلات: العقوبات.

7 - حجزه: منعه.

8 - التقحم: التردي.

9 - الشبهات: جمع شبهة الالتباس، ما يلتبس فيه الحق بالباطل و الحلال بالحرام.

10 - البلية: الاختبار، و المصيبة.

11 - البلبلة: الاختلاط.

12 - الغربلة: نخل الدقيق و غيره.

13 - لتساطن: ساط القدر إذا قلب ما فيها و أداره.

14 - القدر: إناء يطبخ فيه.

15 - كتم: الشيء أخفاه.

16 - الوشمة: الكلمة.

17 - نبئت: أخبرت و أعلمت.

18 - الخطايا: جمع خطيئة.

19 - الشمس: جمع شموس الدابة تمنع ظهرها و تستعصي.

20 - خلع الشيء: نزعه.

21 - اللجم: جمع لجام و هو عنان الدابة الذي تلجم به.

22 - المطايا: جمع مطية و هي الدابة يستوي فيها المذكر و المؤنث.

23 - الذلل: المطيعة.

24 - الأزمة: مفردها زمام و هو ما يزم به أي يشدّ، المقود.

25 - أورده: من ورد الماء أي صار إليه و هو خلاف صدر.

26 - أمر: المال كثر.

ص: 156

الشرح

(ذمتي بما أقول رهينة و أنا به زعيم) ابتدأ كلامه عليه السلام بما يرغّبهم للاستماع إليه و الانصات لقوله:

و هو أنه أخذ على نفسه صحة ما يقول ففي ضمانه و على عهدته و هو الكفيل بما يقول و المسئول عما يقول و ما يريد أن يقوله هو.

(إن من صرّحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحّم الشبهات) إن من عاد إلى ما جرى على الأمم الماضية من العقوبات و ما نالها من الأخذ و بالأساليب المختلفة من الخسف و المسخ و الطوفان و غيرها لكشف ذلك عن نور بصيرته فجعله يعتبر و يتعظ بذلك و دفع به إلى التوقف عن الشبهات و كانت التقوى هي الحاجز و المانع عن ارتكاب أي شبهة يمكن من خلالها أن يرتكب معصية أو ينحرف إلى غير ما أراد اللّه...

- و في الحديث عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال: حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم...

(ألا و أن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيه صلى اللّه عليه و سلم) أخبرهم على أن مصيبتهم عادت كما كانت يوم بعث اللّه نبيه إليهم فهم الآن في خلاف و تشتت و فرقة و آراء متضاربة لا يجتمعون و لا يتوحدون بل يتقاتلون و يتناحرون و هذه هي حالتهم التي كانوا عليها يوم بعث اللّه نبيه و في هذا تنبيه لهم و تحذير و قد جعل هذه دمة ليرتب عليها النتيجة و هي ما أقسم عليه و هو قوله:

(و الذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة و لتغربلن غربلة و لتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم و ليسبقن سابقون كانوا قصروا و ليقصرن سباقون كانوا سبقوا و اللّه ما كتمت و شمة و لا كذبت كذبة و لقد نبئت بهذا المقام و هذا اليوم) أقسم باللّه الذي بعث محمدا بالدين الحق لتضطرب أحوالكم و تختلف أموركم و تتعارض آراؤكم و مواقفكم و يتميز الطيبون منكم من الخبيثين و الأخيار من الأشرار و إنه من شدة الفتنة و عنفها و قوتها و زخمها و تغيّر الأحوال و تقلبها و من تسلط أئمة الجور سيتغير الكثير من الأمور و تختلط الأوراق و سيتقدم من كان ذيلا و سيتأخر من كان في المقدمة و على رأس القافلة.

ص: 157

ثم أشار إلى أن بعض الناس كانوا في زمن سابق و هو زمن الرسول سباقون إلى الجهاد قد تأخروا الآن و نكصوا على أعقابهم كما حدث للزبير و هناك أناس لم يكونوا كذلك فقد تقدموا لجهادهم و اجتهادهم.

ثم أقسم باللّه ما أخفى كلمة واحدة و لا كذب كذبة قط بل كل ما قاله أو تكلم به قد أخبره عنه الرسول حتى بمقامه الذي هو فيه و هذا اليوم الذي يعتلي فيه عرش الخلافة بعد الخلفاء الذين تقدموه.

(ألا و إن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحمت بهم في النار) شبّه المعاصي بالخيل غير المروضة للركوب التي لم تضبط بزمام يوجهها و يقهر وحشيتها فإن راكبها لا محالة إلى الهاوية و لا بد و أن تورده مورد المنية و كذلك المعاصي فإن من يعمل بها و يمارسها و لا يتوب أو يرجع إلى الطاعة فإنها لا بد و أن تقوده إلى النار و تأخذ به إلى عذاب اللّه الجبار....

إن من يرتكب المعصية فكأنه يركب عليها و لا بد و إن راكب المعصية سيرد النار لأن ذلك نتيجة راكبها و مصير مرتكبها و هذا عكس التقوى التي أشار إليها بقوله:

(ألا و إن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و أعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة) و أما التقوى التي هي عبارة عن الالتزام بأوامر اللّه و الوقوف عند نواهيه و إطاعته فيما أراد و الامتناع عما لا يريد فهي كالخيل المروضة المطيعة لراكبها التي بيديه زمامها و قيادها كيف ما أراد صاحبها وجهها و في أي طريق أراد سيرّها فلا محالة أنه آمن على ظهرها آمن من عطبها و غضبها و لا بد أن تصل به إلى مراده و هو سالم معافى قد أدرك أمنيته و بلغ هدفه و كذلك التقوى التي هي فعل الطاعات و ترك المحرمات فإنها ستقود مرتكبها إلى الجنة ستأخذ بيديه إلى النعيم و رضى الرب الغفور الرحيم.

(حق و باطل، و لكل أهل فلئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قل الحق فلربما و لعل و لقلما أدبر شيء فأقبل) ثم أشار الإمام إلى كبرى كلية في الحياة و إن كل أمر فهو أما حق أو باطل و قد ساق ذلك ليبيّن أن لكل منهما أهل فللحق أهل و أتباع و أنصار يقتدون به و يسيرون خلفه و يدافعون عنه و يقدمون أنفسهم في سبيله و للباطل كذلك أهل و أتباع و أنصار يسيرون خلفه و يدافعون عنه و يقدمون أنفسهم في سبيله و لهذا أئمة و دعاة و لذاك أئمة و دعاة و إذ كثر أهل الباطل و كانوا أكثر من أهل الحق فقد كانوا كذلك منذ القديم و ليس ذلك بشيء عجيب و لئن قل أهل الحق فربما كثروا و انتصروا ثم استبعد عليه السلام أن تستعيد دولة دورها و قوتها و سيادتها بعد إدبارها و ذهاب ريحها..

ص: 158

و من هذه الخطبة و فيها يقسم الناس إلى ثلاثة أصناف

اشارة

شغل من الجنّة و النّار أمامه! ساع (1) سريع نجا (2)، و طالب بطيء (3) رجا (4)، و مقصّر (5) في النّار هوى (6). اليمين و الشّمال مضلّة (7)، و الطّريق الوسطى هي الجادّة (8)، عليها باقي الكتاب و آثار (9) النّبوّة، و منها منفذ (10) السّنّة، و إليها مصير العاقبة. هلك (11) من ادّعى، و خاب (12) من افترى (13).

من أبدى (14) صفحته (15) للحقّ هلك. و كفى بالمرء جهلا ألاّ يعرف قدره. لا يهلك على التّقوى سنخ (16) أصل، و لا يظمأ (17) عليها زرع قوم.

فاستتروا (18) في بيوتكم، و أصلحوا ذات بينكم (19)، و التّوبة من ورائكم، و لا يحمد حامد إلاّ ربّه، و لا يلم لائم (20) إلاّ نفسه.

اللغة

1 - ساع: الساعي جمعها سعاة، العامل.

2 - نجا: من كذا إذا خلص منه و نجاء أسرع و سبق.

3 - البطيء: ضد الإسراع، التمهّل.

4 - رجا: ضد يئس، أمل.

5 - المقصر: المتواني.

6 - هوى: سقط.

7 - المضلة: ضد الهدى و أرض مضلة يضل فيها.

8 - الجادة: الطريق، أو وسط الطريق.

9 - آثار: مفرده الأثر، ما بقي من رسم الشيء.

10 - المنفذ: نفذ الشيء خرقه و جاز عنه و خلص منه.

11 - الهلاك: الفناء، الموت.

12 - خاب: لم يظفر بما طلب، لم ينجح.

13 - الافتراء: الكذب المختلق.

14 - أبدى: أظهر، كاشفه في الأمر و جهر به.

ص: 159

15 - الصفحة: الجانب.

16 - السنخ: الأصل.

17 - الظمأ: العطش.

18 - استتروا: ستره غطاه، و هنا بمعنى اختفوا و لا تظهروا.

19 - ذات البين: البين من الأضداد يطلق على الوصل و على الفرقة إصلاح ذات البين، إصلاح الفساد.

20 - اللائم: جمعه لوّم و لوام، العاذل.

الشرح

(شغل من الجنة و النار أمامه) أمام هذا الإنسان الجنة و النار فإنه يستقبلهما من أول يوم من أيام التكليف و يبقى يتحرك في اتجاههما و من كان أمامه ذلك يجب أن يشتغل بهما فيسعى نحو الجنة و يعدّ لها العدة من التقوى و العمل الصالح و يجتنب النار و يبتعد عن الرذائل و المعاصي و الآثام.. إنه مصير الإنسان النهائي أما نعيم أو جحيم..

(ساع سريع نجا و طالب بطيء رجا و مقصّر في النار هوى) قسم الإمام الناس إلى ثلاثة أقسام:

1 - الجاد النشيط الذي يعمل بجميع الأوامر الإلهية و ينتهي عن كل ما نهى اللّه عنه إنه في سباق مع الخيرات يسعى إليها و يبحث عن مواطنها و يؤدي ما عليه دون تسويف أو تأخير و هو الذي ينجو من النار و مصيره إلى الجنة.

2 - و هناك إنسان يعمل و لكنه ببطىء يخطىء تارة و يصيب أخرى و يقوم مرة و يقع أخرى، يطيع و يعصي كما هو حالنا و طريقتنا فهو على حاله يرجو رحمة اللّه و غفرانه.

3 - و هناك قسم ثالث استولي عليه الشيطان فأخذ بزمامه و راح يغريه بالمعاصي و الآثام و ارتكاب الحرام.. إنه تهاون في إداء الواجبات و لم يرتدع عن المحرمات.. إنه المقصر في طاعة اللّه المتمرد على أمر اللّه فمصيره إلى النار يسقط فيها و يناله عذاب اللّه و عقابه.

و قد ذكر اللّه الأقسام الثلاثة بقوله تعالى:(1)«فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ»

ص: 160


1- سورة فاطر آية، - 32.

(اليمين و الشمال مضلة و الطريق الوسطى هي الجادة عليها باقي الكتاب و آثار النبوة و منها منفذ السنة و إليها مصير العاقبة) أراد أن يرسم لنا الطريق الواضح البيّن المؤدي إلى الجنة فأشار إلى أن المنحرف إلى اليمين أو الشمال ساقط متردي ضال مصيره إلى النار من حيث أنها لا استقامة فيها و لا عدل و لا هدى و أما الطريق الوسطى التي لا انحراف فيها و لا جور و لا إفراط أو تفريط هي الجادة السليمة الصحيحة و الطريق المستقيمة المؤدية إلى الجنة و بعبارة أخرى الطريق الوسطى هي التي لا يضل الإنسان فيها لظهورها و معرفة معالمها و حدودها و أما المتفرعات التي تتوزع على اليمين و الشمال فإنها تضل الإنسان و تهوي به في النار.

و هذه الطريق الوسطى دل عليها الكتاب العزيز فإن آياته تشير إليها و كذلك سنة النبي و طريقته العملية و القولية فإنه صلوات اللّه عليه قد أوضح معالم هذه الطريقة و قربها إلينا و بينها بشكل قطع أعذار المتعللين و من هذه الجادة الواضحة اللاحبة يدخل إلى الجنة كما أن على أساسها تكون العاقبة من حيث أن الحساب يكون على قدر الالتزام بها...

(هلك من ادعى) من ادعى أمرا بدون بينة تشهد بصدقه و حجة تقوم بدعواه هلك و خسر و لم يدرك مدعاه، من ادعى الإمامة بدون أن يكون إماما هلك... و من ادعى أنه من أهل الجنة بدون عمل خسر و هلك و دخل النار..

(و خاب من افترى) و من كذب في أمر يريد إدراكه لن يدركه لأن الافتراء سوف يكشف في الدنيا فيخزي صاحبه و أما في الآخرة فله عذاب أليم..

(من أبدى صفحته للحق هلك) من واجه الحق و حاربه هلك لأن النصر في نهاية المطاف للحق و أصحابه و قيل من أراد أن يحمل الحق و يدافع عنه و يدحض الباطل و أهله لا بد و أن يواجهه الجهال و هم العامة فسيوردونه موارد الهلاك.

(و كفى بالمرء جهلا ألاّ يعرف قدره) ليس هناك من هو أشد جهلا من إنسان لا يعرف موضعه و مكانه و مستواه، و إذا كان لا يعرف قدره ارتكب شططا و عمل سوءا و جلس في غير مجلسه و احتل مكان غيره و تكلم بلسان غيره فادعى ما ليس له و أكل ما ليس له و قام بما ليس له و نصب نفسه في غير محلها فظلمها و ظلم سواه و قال في نهاية المطاف أنا ربكم الأعلى و في ذلك بلاء عظيم و غضب عليه من اللّه شديد..

(لا يهلك على التقوى سنخ أصل و لا يظمأ عليها زرع قوم) أشار إلى أن أهمية التقوى و إن ما بني عليها سيستمر و ينمو و لا يعرض عليه الفساد و العطب كما لا يتعرض

ص: 161

للعطش و التلف زرع جذوره ممتدة في عمق الأرض حتى مواطن الرطوبة و الماء...

إن من اتقى اللّه و عمل بمقتضى تقواه بحيث أدى ما افترض عليه و اجتنب عما نهي عنه فإن أجره حاصل و ثوابه و اصل لا محالة..

(فاستتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم و التوبة من ورائكم) و في نهاية هذه الخطبة إشارة إلى الغوغاء، و أمرهم أن يعودوا إلى بيوتهم و يلزموها كي توصد أبواب الفتنة و يخمد لهبها فإن العامة و سواد الناس إذا بقوا في الساحات أفسدوا و أضروا و بقيت الفتنة قائمة كما أمرهم أن يصلحوا ما فسد بينهم و يرجعوا إلى الهدوء و يفكروا في سبيل الوحدة و الإلفة، و كذلك أمر العاصين الذين ارتكبوا شططا في بعض المواقف أن يتداركوا ذلك بالتوبة فلعلها تقبل و يعفو اللّه عنهم و يغفر ذنوبهم..

(و لا يحمد حامد إلا ربه و لا يلم لائم إلا نفسه) و هذا تنبيه لهم و تعليم إلى أن الحمد يجب أن يحصر باللّه فهو المستحق له وحده و لا أحد غيره يستحق الحمد لأنه أصل النعم و منه أصل الوجود كما أن منه كل موجود..

كما إن هذا الإنسان إذا أراد أن يلوم فلا يلومنّ إلاّ نفسه لأنها أساس الانحراف و الرذيلة و منها كانت الشرور و القبائح فعليها وحدها يقع اللوم..

ص: 162

17 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في صفة من يتصدى للحكم بين الامة و ليس لذلك بأهل و فيها: أبغض الخلائق إلى اللّه صنفان الصنف الأول: إنّ أبغض (1) الخلائق (2) إلى اللّه رجلان: رجل و كله اللّه إلى نفسه؛ فهو جائر (3) عن قصد السّبيل (4)، مشغوف (5) بكلام بدعة (6)، و دعاء ضلالة (7)، فهو فتنة (8) لمن افتتن به، ضالّ عن هدي من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته.

الصنف الثاني: و رجل قمش (10) جهلا، موضع (11) في جهّال الأمّة، عاد (12) في أغباش (13) الفتنة، عم (14) بما في عقد الهدنة (15)؛ قد سمّاه أشباه النّاس عالما و ليس به، بكر (16) فاستكثر من جمع؛ ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من ماء آجن (17)، و اكتثر (18) من غير طائل (19)، جلس بين النّاس قاضيا ضامنا (20) لتخليص (21) ما التبس (22) على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا (23) رثّا (25) من رأيه، ثمّ قطع به، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت (26): لا يدري أصاب أم أخطأ؛ فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب. جاهل خبّاط (27) جهالات، عاش (28) ركّاب عشوات (29)، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع. يذرو (29) الرّوايات ذرو الرّيح الهشيم (30) لامليّ (31) - و اللّه - بإصدار ما ورد عليه، و لا أهل لما قرّظ به (32)، لا يحسب العلم في شيء ممّا

ص: 163

أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، و إن أظلم عليه أمر اكتتم به (33) لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدّماء، و تعجّ (34) منه المواريث. إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا، و يموتون ضلاّلا، ليس فيهم سلعة (35) أبور (36) من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق (37) بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه، و لا عندهم أنكر من المعروف، و لا أعرف من المنكر!.

اللغة

1 - البغض: ضد الحب، المقت.

2 - الخلائق: ما خلقه اللّه.

3 - الجائر: الظالم، المائل عن الطريق.

4 - قصد السبيل: الطريق المستقيم.

5 - المشغوف: الشغاف غلاف القلب، و المشغوف هو الذي وصل الحب إلى شغاف قلبه.

6 - البدعة: جمعها بدع، ما أحدث على غير مثال و شرعا إدخال ما ليس في الدين على أنه منه.

7 - الضلالة: الباطل، ضد الهدى.

8 - الفتنة: الاختبار، الامتحان، العذاب، الضلال...

9 - خطايا: مفرده خطيئة، الذنب، المعصية.

10 - قمش: جمع.

11 - موضع: مسرع.

12 - عاد: مسرع من عدا يعدو إذا جرى.

13 - الأغباش: جمع غبش المظلم و أغباش الليل ظلمته.

14 - عم: من العمى عدم البصر فيما من شأنه أن يبصر.

15 - الهدّنة: جمعها هدن، المصالحة، الدعة، السكون.

16 - بكرّ: أسرع، و البكور الصباح.

17 - الآجن: الفاسد، المتغير طعمه و رائحته.

ص: 164

18 - اكتثر: استكثر.

19 - الطائل: جمعها طوائل، القدرة، الغنى، الفضل و هذا أمر لا طائل فيه أي لا منفعة و ما هو بطائل أي خسيس.

20 - الضامن: الكفيل و الملتزم.

21 - التخليص: التبيين.

22 - التبس الأمر: اشتبه.

23 - المبهمات: المشكلات.

24 - الحشو: الزائد الذي لا فائدة فيه.

25 - الرث: الخلق، البالي، ضد الجديد.

26 - نسيج العنكبوت: حشرة صغيرة تحيك من لعابها خيوطا يعبر عنه أنه بيتها يضرب بركاكته و ضعفه المثل.

27 - خبّاط: ضراب و خبط عشواء الذي يتصرف على غير هدى.

28 - عاش: خابط في ظلام، و الأعشى ضعيف البصر.

29 - يذرو: من ذرت الريح العشب أطارته.

30 - الهشيم: اليابس من نبت الأرض المتكسر.

31 - الملي: الثقة، الغني.

32 - قرظه: تقريظا مدحه.

33 - اكتتم به: كتمه و لم يظهره.

34 - تعج: العج، رفع الصوت.

35 - السلعة: المتاع.

36 - أبور: من البور و هو الفاسد و بارت السلعة كسدت.

37 - أنفق: من نفق البيع إذا راج.

الشرح

(إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان) هذان رجلان قد بلغا المقام الأول في بغض اللّه لهما.. إنهما باعتبار أوصافهما و ما فيهما من السيئات انتهى بهما الأمر أن كانا أبغض ما خلق اللّه إلى اللّه...

و بغض اللّه لأحد ليس على مستوى ما نعهده من تأثر النفس و اشمئزازها بل هو إبعاده عن رحمته و طرده عن القرب منه المتمثل بالتخلي عنه و تركه و شأنه يسترسل في

ص: 165

غيه و يتحرك في ضلاله و هذان الرجلان باعتبار أثرهما على المجتمع و ما يخلفان من ضرر كان هذا البغض و هذا الإبعاد...

(رجل وكله اللّه إلى نفسه) هذا أول الرجلين و هذه أولى صفاته إنه وكله اللّه إلى نفسه أي خلاه و تركه لنفسه يدبر أموره و يقوم بشئونه و من وكله اللّه إلى نفسه طرفة عين هلك و ضل لأن من لم يدبره اللّه و يتوكل هو بشئونه يهلك لا محالة لأن نفسه الشريرة القاصرة العاجزة ستجره إلى الانحراف و الضلال، و أما من كان اللّه وكيله و هو المدبر لشئونه فقد نجا و سعد لأن اللّه هو الذي يأخذ بيده للهداية و يحركه في الطريق المستقيم و يسلك به إلى ما فيه نجاته و فوزه...

إن من تأخذه العزة بالإثم و يدفعه الغرور إلى الاعتداد بالنفس و أنه القادر على إدارة شئون نفسه منقطعا عن اللّه و بعيدا عنه لا محالة سيسقط و يخسر الرهان..

(فهو جائر عن قصد السبيل) أي عادل عن الطريق المستقيم منحرف عنه ففي حين يطلب المسلم من اللّه أن يهديه الصراط المستقيم فهذا الانسان ينحرف عنه و يضل و يسلك المسالك الباطلة البعيدة عن العدل و الحق..

(مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة) هذه الصفة الثالثة أنه يحدث أمورا محرمة لم يشرعها اللّه و لا رسوله بل يخترعها و يعشقها و يشرب قلبه حبها ثم يأخذ في دعاء الناس لها ليكون إماما من أئمة الفساد و داعية من دعاة الضلال... و إننا نرى بعض الهواة الذين يحبون الظهور و الفخر كيف يسعون ليكونوا أئمة في هذا المضمار..

(فهو فتنة لمن افتتن به) مضل لمن اتبعه و اقتدى به و أحبه..

(ضال عن هدي من كان قبله) فقبله كان الأنبياء و الصالحون و أهل الحق و العدل فهو قد خالفهم و انحرف عنهم و لم يتابعهم أو يسير على خطاهم و ما رسموه من طرق الهداية و الخير و ما يوصله إلى شاطيء السلامة و الأمن و الإيمان.

(مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته) فهو رأس الضلال في حياته فطيلة عمره كان قائدا لمسيرة الضلال يتبعه من خلفه كل جاهل و يقتدي به كل فاسق فاجر و يتبعه بعد وفاته أناس حيث خط لهم طريق الضلالة و رسم لهم نهج الانحراف فهم يتبعونه بما ترك خلفه من سيرة قبيحة سيئة تتبعه آثارها بعد وفاته و قد رأينا من كان منهجه و مدرسته بعد وفاته وسيلة ضلال كما كان بشخصه في أيام حياته منهج ضلال و هؤلاء قادة الانحراف من رؤساء المذاهب خير دليل على ما نقول..

ص: 166

(حمال خطايا غيره رهن بخطيئته) فهو يحمل أوزار الذين أضلهم دون أن ينقص من أوزارهم شيئا لأنه السبب في انحرافهم و كذلك يؤخذ بانحرافه و خطيئته و يعاقب عليه قال تعالى: «لِيَحْمِلُوا أَوْزٰارَهُمْ كٰامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ مِنْ أَوْزٰارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاٰ سٰاءَ مٰا يَزِرُونَ » ..

(الصنف الثاني: و رجل قمش جهلا) و هذا هو الصنف الثاني الذي بلغ من بغض اللّه له أن كان أبغض الناس إليه و قد وصفه بعشرين صفة هي فيه و هي من رذائل الصفات و سيئاتها و هو أنه رجل جمع ما وقعت عليه عيناه و لملم ما مر في طريقه دون دراية للغث من السمين و للفاسد من الصحيح لم يميّز الحق من الباطل و لم يقف على الميزان الذي به يعرف حقائق الأمور من مزيفاتها.. إنه جمع ثقافة الجرائد و المجلات و كتب البدع و الضلال و ثقّف فيها نفسه كما يقول ؟ وليته اقتصر على ذلك بل تعداه إلى أن مشى يثقف الآخرين و هو الذي أشار إليه الإمام بقوله:

(موضع في جهال الأمة) أي مسرع في ذلك الفساد الذي جمعه يزرعه في جهال الأمة الذين لا علم لهم و لا بصيرة فهو يلقي ما جمعه بين العوام من الناس الذين يتقبلون الأمور لقصورهم و عدم إطلاعهم..

(عاد في أغباش الفتنة) مسرع في ظلمات الخصومات التي لا يهتدي إلى حلها فإذا ترافع إليه أحد تراه يخبط خبط عشواء لا يدري ما الحل و ما المخرج لعدم وجود الميزان الصحيح عنده و لعدم معرفته به..

(عم بما في عقد الهدنة) إنه لا يدري ما يصلح الناس و يوفّق بينهم فإن استقرار الناس و هدوءهم له أسباب و مقدمات يجب للمصلح أن يكون عالما بها مدركا لخصوصياتها و هذا الرجل لا علم له بكل ذلك..

(قد سماه أشباه الرجال عالما و ليس به) و هذا ذم للفريقين للمسمى و لمن سماه لصاحب اللقب و لمن لقبّه.. ذم للذين لا يفرقون بين العالم و بين المستعلم، بين العالم و نصف العالم أو ربعه بل بين العالم و الجاهل و ليت أمير المؤمنين يحضرنا اليوم ليرى كيف ترمى الألقاب و يوصف بها من لا يستحقها.. إنني أخجل من تسويد هذه الصفحة بما يجري اليوم من الأسماء و المسميات فهذا معمّم قد ابتدأ في الدراسة جديدا و لم يكد يضع رجله في هذا الحقل حتى ترى الألقاب العلاّمة و الثقة و الحجة قد نزلت عليه فانتفخ و صدّق و غرّته نفسه...

و ذلك معمّم لم يعرف الرسالة العملية و الفتوى الشرعية و لو تقليدا ثم انتسب إلى

ص: 167

حزب أو تنظيم إسلامي فتراه المقدم صاحب الكلمة و الرأي و صاحب السماحة و الفضيلة و الحجة و آية اللّه قد سماه أشباه الرجال الذين لا يملكون العلم و المعرفة سموه عالما و الاسم منه برىء و هو مع من أطلق عليه الاسم ضالان مضلان...

لقد كانت الألقاب لا تعطى إلا إلى أهلها و من أهلها.. كان هناك مراجع و فقهاء هم أهل الخبرة و على أساس معرفته و معرفتهم به يطلقون عليه ما يستحق.. كان إلى وقت قريب يعطى لكل ما يستحقه و لكن في هذا الزمن الردي تبدلت الأمور و تغيرت المقاييس و راح الرضيع في العلم يسمى عالما، من لا دراية عندهم و لا معرفة أشباه الرجال، سموه عالما بدون استحقاق و لا أهلية..

(بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر) إنه من أول عمره اجتهد و جد فجمع الكثير مما كان قليله خير من كثيره لأنه جمع الغث و السمين و ما هبّ و دب و دون معرفة صحيحة و لا تمييز سليم فهو يلتقط الخبر و يحتج به و الخبر عار عن الصحة لا يملك السند الصحيح و لا المتن الفصيح فهو يراه فيأخذ بالتحدث فيه و القليل مع الدراية خير من الكثير الرواية..

(حتى إذا ارتوى من ماء آجن و اكتثر من غير طائل) فهو جد من أول عمره في جمع المتناقضات و المتباينات التي لا يعرف صحيحها من سقيمها و حقها من باطلها و بقي هكذا يجمع حتى امتلأ و ظن من نفسه أنه العالم العلامة، لقد امتلأ من هذا الضلال و العلم غير الصحيح و استكثر منه و لكن بدون فائدة و قد رأينا من يحفظ و يجمع و يحدث بما جمع و حفظ و لكنه لا يدري صحيح الأمور من فاسدها فهو في الجلسة الواحدة و المقام الواحد يتناقض مع نفسه و ينقض بكلامه كلامه..

(جلس بين الناس قاضيا لتخليص ما التبس على غيره) لقد تربع على كرسي القضاء لفصل الخصومات و حل المشكلات التي لم يعرفها غيره فتصدى هو لها و هو ليس أهلا لها، إنه أراد أن يصفي زيف الأمور من صحيحها و لكن أنّى له ذلك.

(فإن نزلت به إحدى المبهمات هبأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به) و هذا دأب الذين لم يأخذوا العلم من أهله و عن طرقه المعدة له فإن من جمع و استوعب دون دراية وقع في محذور شديد عند ما تعرض عليه بعض الأمور المشكلة التي تحتاج إلى فكر و نظر فإنه بما يملك من معلومات كثيرة يضل فيها و لا يهتدي إلى وجه الحق فهو يرى بصيص النور في هذه الجهة فيبادر ليحكم على القضية من زاويتها و لو نظر إلى غير هذه الجهة لحكم بخلاف حكمه الأول و هكذا في كل مسألة مبهمة مشكلة يهيىء لها حلا باليا من

ص: 168

رأيه الفاسد الذي قطع به و أيقن بصحته و هو عار عن الصحة.. إنه على عادة الجاهل جهلا مركبا و يجهل أنه يجهل.

(فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت) فكما أن العنكبوت على ضعف نسيجها مما جعل الناس يضربون بها المثل في الوهن و كما قال تعالى: «وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ » و مع ذلك لا تستطيع فريستها أن تتخلص منها أو تفلت كذلك حال هذا الذي تسمى بالعالم و هو ليس بعالم فإنه عند ما تزدحم الشبهات حول قضية معينة و تعرض عليه لحلها و فصل الخصومة فيها و تعيين وجه الحق لا يستطيع أن يتخلص منها على وهنها و ضعفها عند العلماء و المحققين و دليل ذلك موقفه المشكك المتحير..

(لا يدري أصاب أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب) هذه عادة من يجلس في غير مجلسه من العلماء و يرتفع أعلى من مقامه و يحل في غير محله فإنه إذا عرضت عليه مسألة يغامر في حلها و لا يدري هل أصاب أم أخطأ في فتياه و قضائه.. إنها حالة تعتري من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد و كانت القضية تحتاج إلى ذلك فهو يفتي بها دون علم و لا يعرف أصاب أم أخطأ فإن أصاب في الواقع خاف أن يكون قد أخطأ لأن مقدماته لم تكن سليمة و لم يجمع المطلوب من المعلومات و المقدمات و إن أخطأ رجا اللّه أن يكون قد أصاب في الواقع، إنه لا يعرف موقعه و لا يعرف ما يحكم به و هذا درس لكل من لم يكن أهلا للفتوى أن يجتنبها و لا يغامر و يعيش القلق و الاضطراب في نفسه و بين الناس..

(جاهل خبّاط جهالات عاش ركاب عشوات) إنه جاهل غير عالم كثير الأغلاط و الأخطاء لأنه لم يمش على الموازين الشرعية التي وضعها الشارع.

و إنه لضعف معرفته و فقره في استطلاع الحق و الوقوف عليه تراه لا يبصر الحق واضحا و لا يتيقن منه.. إنه لم يبصر الأمور جيدا بل يفتي دون بصيرة و لا رأي صائب..

(لم يعض على العلم بضرس قاطع) لم يؤهّل للفتوى حيث أنه لم يدرس جيدا و يحصل على ملكة الاجتهاد التي بها يتيقن بصحة ما يقوله و لو في الظاهر و بحسب ما أذن اللّه فيه و بحده الأدنى و بعبارة أخرى لم يكن من أهل العلم و المعرفة لعدم معرفته بمستندات الأحكام و أسهها..

(يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم) إنه يقلب الروايات و يتفحصها و ينتقل من واحدة إلى أخرى دون فائدة و لا ثمرة إنه يجمعها جمع رواية لا جمع دراية و يحملها كما يحمل الحمار أسفارا لا يستفيد منها و لا يعرف ما فيها..

ص: 169

(لا ملي - و اللّه - بإصدار ما ورد عليه) فهو فارغ من العلم و المعرفة و لا يقدر على حل ما ورد عليه من مسائل مشكلة و قضايا معقدة.. إنه عاجز عن إصدار حكمها و بيان وجهها..

(و لا أهل لما قرّظ به) إنه لا يستحق وصفه بالعالم و لا مدحه بالعلم لأن من كان بتلك الصفات فقد أسأت إليه و أسأت إلى نفسك إذا وصفته بأنه عالم..

(لا يحسب العلم في شيء مما أنكره) إنه ينفي العلم عن كل أمر ينكره و لا يوافق هواه و مزاجه يتصور كل علوم الناس إذا خالفته إنها جهل منهم و لا علم عندهم و إن العلم فقط ما يحويه هو و ما عنده و هذا نتيجة جهله المركب و ما لبسه على نفسه و موهه عليها..

(و لا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره) إنه يظن لجهله أنه بلغ الحد الأعلى للحلول و أتمها بشكل رائع عجيب بحيث يعقم فكر غيره عن تقديم شيء يضاهيه أو يماثله.. إنه لجهله يظن أن الأمور انتهت إليه و عنده توقفت و ليس بعد رأيه رأيا و ليس بعد حكمه حكما.. انسدت بعده الأبواب و أقفلت الدروب و تعطلت الآراء و المذاهب..

(و إن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه) و هذه عادة من تطاول لمقام غيره و طبيعة من سرق منصبا لا يستحقه فإنه إذا لم يقدر على حل ما يعرض عليه و لو بالظن و التخمين و لم يقدر على خلق شبهة مما عنده يحل بها مسألته ففي مثل ذلك يكتم الحديث و المباحثة فيه مع العلماء و أصحاب الرأي لئلا يبين عجزه و تسقط حجته فينكشف حاله و تسقط قيمته.. إنه لمعرفته بأنه يجهل المسألة يكتمها و لا يرضى بالبحث فيها و بيان وجه الحق لئلا يتعرى على حقيقته و يظهر بواقعه و هذا ما لا ترضاه نفسه و لا يقبله لها..

(تصرخ من جور قضائه الدماء و تعج منه المواريث) هذه نتيجة من يتولى القضاء بين الناس و فصل الخصومات بينهم و لم يكن مؤهلا لذلك فإن الدماء تصرخ من هذا القضاء ترفع صوتها بلسان الحال شاهدة على بطلان هذا الحكم و فساد هذا القضاء.. إن هذا المجرم قد أهدر دم هذا البرىء و أمر بضرب عنق هذا الشريف و في المقابل حقن دم ذلك المجرم؛ و إن من يجلس إلى القضاة و يستمع إليهم يرى عجبا.

و كذلك تصرخ المواريث و تصيح في وجهه مستجيرة باللّه طالبة نصره في رفع الحيف عن أهلها و من يستحقها إنه أخذ ميراث هذا و حقه و أعطاه لذاك بدون حق حرم..

ص: 170

الوارث القريب و ورث البعيد غير الوارث.. حرم الابن أن يرث من أبيه و الزوج من زوجته و الأب من ابنه و ورث ذلك من ليس له حق في الميراث..

(إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهالا و يموتون ضلالا) ثم اشتكى إلى اللّه من هذين الصنفين الضالين تنفيرا منهم و تحقيرا لهم و بين وضعهم و كيف عاشوا أنهم عاشوا جهالا لم يتذوقوا العلم و لم يعرفوه و كان بإمكانهم إدراكه و الحصول عليه هذا في حياتهم و أما موتهم فقد ماتوا ضالين منحرفين فاسدين و من كانت هذه خاتمة حياته كانت خاتمة سيئة قبيحة...

(ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته و لا سلعة أنفق بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه) فالقرآن الكريم لاحظ له عندهم إذا فسر على الوجه الصحيح و كما نزل لأنه لا يتوافق مع جهلهم و لا يخدم مصالحهم و ميولهم و أهواءهم بل يفضحهم و يكشف ألا عيبهم و عيوبهم بينما إذا حرف تفسيره و وافق هواهم و كان يخدم ميولهم فليس هناك أفضل منه و أحسن..

(و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر) و هذا لجهلهم فقد مسخت نظرتهم و انقلبت طبيعتهم فأضحى أفضل شيء و أحسنه عندهم المنكر و هم أعرف الناس به لجهلهم رغباتهم و أما المعروف فهم يتنكرون له و يبتعدون عنه و ينكرونه لأنه لا يتوافق و مصالحهم..

ص: 171

18 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في ذم اختلاف العلماء في الفتيا (1) و فيه يذم أهل الرأي و يكل أمر الحكم في أمور الدين للقرآن

ذم أهل الرأي

ترد على أحدهم القضيّة (2) في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم (3)، فيصوّب (4) آراءهم جميعا - و إلههم واحد! و نبيّهم واحد! و كتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه!.

الحكم للقرآن

أم أنزل اللّه سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، و عليه أن يرضى ؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن تبليغه و أدائه، و اللّه سبحانه يقول:

«مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ » و فيه تبيان (6) لكلّ شيء، و ذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا، و أنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً» . و إنّ القرآن ظاهره أنيق (7) و باطنه

ص: 172

عميق، لا تفنى عجائبه، و لا تنقضي (8) غرائبه (9)، و لا تكشف الظّلمات إلاّ به.

اللغة

1 - الفتيا: الفتوى.

2 - القضية: جمعها قضايا المسألة المعروضة للحكم و الفصل فيها.

3 - استقضاهم: جعلهم قضاة.

4 - يصوّب: يحكم بصوابها، و هي صحتها.

5 - فرّطنا: من فرط في الشيء قصّر و أظهر العجز فيه.

6 - التبيان: الوضوح و الظهور.

7 - أنيق: معجب.

8 - عجائبه: الشيء المعجب و العجب هو حالة نفسانية تعتري الإنسان عند أمر عظيم غير معتاد.

9 - تنقضي: تفنى و تنعدم.

10 - غرائبه: عجائبه، ما يبعد فهمه، و الغريب هو العجيب غير المألوف.

الشرح

اشارة

(ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا) هذه صورة للقضاة الفسقة الذين ليسوا بأهل لهذا المقام و مع ذلك تطاولوا عليه و ارتفعوا إليه، إنها صورة تدلل على مدى تلاعبهم بأحكام اللّه و العدول بها عن الحق.. قاضيان يختلفان في قضية واحدة هذا يحكم فيها برأيه و ذاك يحكم فيها برأى آخر يخالفه و يضاده.. القضية الواحدة تعرض على هذا الشخص فيحكم فيها بما رأى و استحسن دون أن يرجع إلى القواعد العامة التي يباح له استخراج الحكم منها.. إنه استقل فيها برأيه و انفرد بحكمه رأي ارتاه و استحسان جرى على لسانه و ذوقه فدفعه للحكم بها على هذا النحو ثم يأتي الآخر ليستحسن غير ما استحسنه هذا فيقضي

ص: 173

فيها بخلاف رأيه.. ثم ترتفع القضية ذاتها و ما حكما به إلى الإمام الذي نصبهما للحكم فيوافقهما و يسددهما و يصوب حكمهما و هذه القضية تقع تحت نظر الإمام فيهزه المشهد و تدفعه الغيرة إلى هذا البيان الذي يبين فيه فساد هذا المذهب و بطلان هذا المسلك..

إنها جريمة في دين اللّه و طعنة نجلاء في صدر الشريعة نفذها الحكمان و وافق الوالي عليها.. و الإمام يبين فساد هذا الحكم بقوله:

(و إلههم واحد و نبيهم واحد و كتابهم واحد) مصدر التشريع واحد و هو اللّه و ناقل التشريع و هو النبي محمد واحد و الكتاب الذي حمله إلى الناس و خاطبه اللّه به لينقله إليهم و هو القرآن واحد إذن كيف يختلف الحكم و يتعدد في القضية الواحدة.. إنه ليس من هذه الجهة قطعا كان الاختلاف.. ثم بيّن فساد رأي آخر بقوله:

(أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه) و هذا استفهام استنكاري يبطل به هذا المدعى و هو ربما قال بعض السفهاء إن اللّه أمرهم بالاختلاف و حاشا للّه أن يأمر بالاختلاف و إنمّا أمر بالوحدة و كل تشريعاته تحكي ذلك و تعترف به.

نعم نهاهم عن الاختلاف فعصوه و تمردوا على أمره.

(أم أنزل اللّه سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه) حاشا للّه أن يكون قد أنزل الدين إلا كاملا كيف و هو القائل سبحانه: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً» .

ثم لما ذا ينزله ناقصا هل لأنه عاجز و هم يعينونه على إتمامه حاشا و كلا فربنا القوي العزيز واجب الوجود الغني عن كل موجود و من يحتاج إلى غيره في أمر فهو مثله في الإمكان و اللّه منزه عن ذلك..

(أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى) و هذا بيان أيضا لبطلان الاختلاف و هو هل كانوا شركاء له في الحكم و التشريع حتى إذا حكم كل واحد برأيه يجب عليه أن يقبل و يرضى لأن هذا دأب الشركاء في الأمور و حاشا للّه أن يكون له شريك في الأمر و النهي و الحكم..

(أم أنزل اللّه سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى اللّه عليه و سلم عن تبليغه و أدائه) نعم أتم اللّه الدين و أنزله كاملا على رسوله و الرسول لم يقصر في أدائه و إبلاغه للناس بل أداه كما أراد اللّه تاما كاملا، إذن فلا حجة لهم في هذا الاختلاف و لا عذر لهم فيه.

ثم بيّن الإمام فساد هذا الاختلاف و رده بقوله:

ص: 174

(و اللّه سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء)، هذا رد على احتمال أن يكون منشأ الاختلاف نقصان الدين و عدم كماله فإن اللّه قد بيّن جميع الأمور في هذا القرآن و لم تبق شاردة أو واردة إلا و دخلت تحت العموم أو كانت نصا في الخطاب..

(و فيه تبيان كل شيء) ففي القرآن بيان كل شيء يحتاجه الإنسان و فيه ما ينظّم حياته و يرشده و يهديه؛ فلا يحتاج اللّه إلى أحد كي يعينه أو يشركه في أمره و هذا أيضا يدل على أن الرسول قد أدّى الأمانة و بلّغ الرسالة و لم يقصّر في شيء..

(و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا و أنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: و لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) و إذا لم يكن في الكتاب الكريم اختلاف فلا بدّ و أن يكون الحكم واحدا لأن سند قولهما و اختلافهما يجب أن يكون نابعا من القرآن و القرآن لا اختلاف فيه فيجب أن يكون الاختلاف من فساد رأيهما ثم أردف الحديث عن القرآن بقوله:

(و إن القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق) فظاهر القرآن جميل يعجب ببيانه و صياغته و ما فيه كل من يقرأه؛ و لكن باطنه و عمقه فلا يدركه إلا أهل الخبرة و العلم الذين يقرؤن الآية و يدركون بعض معانيها و يحلّلونها و لا يصلون إلى غورها..

(لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه) فكلما اكتشف الإنسان نكتة و ظن إنها الوحيدة إذ به بعد مدة يكتشف أختها و كم يتبين في زماننا هذا من أمور كانت مجهولة لدى القدماء و كم يبقى للناس القادمين من أدوار و أدوار.. إن العلم الحديث بما يملك من رصيد علمي ضخم لم يقدر على بيان فساد حقيقة واحدة من حقائق القرآن بل تجد باستمرار من يتناول الآيات و يعرضها ليصدق مفادها و يقرر مضمونها..

(و لا تكشف الظلمات إلا به) فهو نور يبدد ظلمات الشك و الشبهات و يبيّن الحق و يكشف الظلم و يحاربه..

أصحاب الرأي:

الاستقلال بالرأي و التشريع على أساسه جريمة دينية لأنه ينفي حكم اللّه و يبطله و يدعي صاحب الرأي أنه المشرع الذي هو أعلم بالمصلحة من اللّه...

و الأخذ بالرأي هو أن لا يعتمد الإنسان في حكمه على الكتاب و السنة و القواعد الشرعية التي نص عليها الرسول (صلی الله علیه و آله) بل يستحسن هذا الرأي لأمور تخطر في باله

ص: 175

و قضايا يراها من منظوره و هو قاصر النظر لا يحيط بالأمور و لا يدرك أبعادها و قد شن الإسلام الحملة القوية على الذين استبدوا بآرائهم و عملوا بما استحسنوا و انقطعوا عن مدارك الشريعة المرسومة على لسان المعصوم...

1 - قال أبو جعفر عليه السلام: من أفتى(1) الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم و من دان اللّه بما لا يعلم فقد ضاد اللّه حيث أحل و حرم فيما لا يعلم.

2 - عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ترد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب و السنة فنقول فيها برأينا.

فقال: أما إنك إن أصبت لم تؤجر و إن اخطأت كذبت على اللّه.

3 - عن أبي عبد اللّه و قد سئل عن الحكومة فقال: من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر و من فسر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر.1.

ص: 176


1- أبواب صفات القاضي باب 6 حديث 11.

19 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله للأشعث بن قيس و هو على منبر الكوفة يخطب، فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض عليه السلام إليه بصره ثم قال:

ما يدريك ما عليّ ممّا لي، عليك لعنة (1) اللّه و لعنة اللاّعنين! حائك ابن حائك! منافق ابن كافر! و اللّه لقد أسرك (3) الكفر مرّة و الإسلام أخرى! فما فداك (4) من واحدة منهما مالك و لا حسبك! و إنّ امرأ دلّ (5) على قومه السّيف، و ساق (6) إليهم الحتف (7)، لحريّ (8) أن يمقته (9) الأقرب، و لا يأمنه الأبعد!.

قال السيد الشريف: يريد عليه السلام أنه أسر في الكفر مرة و في الأسلام مرة. و أما قوله:

دل على قومه السيف: فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة، غرّ فيه قومه و مكر بهم حتى أوقع بهم خالد، و كان قومه بعد ذلك يسمونه «عرف النار» و هو اسم للغادر عندهم.

اللغة

1 - اللعن: الطرد و لعن اللّه فلانا طرده من رحمته و أبعده.

2 - الحائك: الناسج.

3 - الأسير: جمعه أسرى و أسراء و أسارى و أسارى من قبض عليه و أخذ في الحرب و غيرها.

4 - الفداء: ما يعطيه الأسير لفك رقبته.

ص: 177

5 - دل: دلالة على الشيء و إليه أرشده و هداه.

6 - ساق: الماشية حثها على السير من خلف.

7 - الحتف: الموت، الهلاك.

8 - لحري: لجدير و خليق.

9 - يمقته: يبغضه.

الشرح

اشارة

(ما يدريك ما عليّ مما لي عليك لعنة اللّه و لعنة اللاعنين) كان الإمام يخطب في الكوفة و يذكر أمر الحكمين فقام رجل من أصحابه بعد أن انقضى أمر الخوارج.

فقال له: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد؟.

فصفق عليه السلام بإحدى يديه على الأخرى و قال: هذا جزاء من ترك العقدة و كان مراده عليه السلام: هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي و الحزم و أصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم فظن الأشعث أنه أراد: هذا جزائي حيث تركت الرأي و الحزم و حكمت.

فقام الأشعث إليه و قال: هذه عليك لا لك.

قال له: و ما يدريك ما علي مما لي فقد رماه بالجهل و هو أقبح الصفات ثم لعنه من قبل اللّه و من قبل اللاعنين لأنه يستحق ذلك لقوله الدال على نفاقه و انحرافه..

(حائك ابن حائك منافق ابن كافر) ذمه بهذه الصفات أما لأن الحياكة كانت صنعة يتبعها أراذل الناس أو استعارة لنقصان عقله لكون الحياكة مظنة ذلك.

و قد بين هويته بأنه منافق و قد كان كما يقول ابن أبي الحديد: كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي عليه السلام و هو في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام كما كان عبد اللّه بن أبي سلول في أصحاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه..

(و اللّه لقد أسرك الكفر مرة و الإسلام أخرى فما فداك من واحدة منهما مالك و لا حسبك) أسر الأشعث مرتان مرة أيام كفره و أخرى في الإسلام أما أسره في الكفر فذلك أنه أراد أن يطلب ثأر أبيه الذي قتلته مرادا فلم يقدر و انتصرت مراد و أسرته.

و أما أسره في الإسلام فإن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة

ص: 178

عرض رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) نفسه عليهم كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب فدفعه بنو وليعة فلما هاجر و تمهدت دعوته جاءته وفود العرب و جاءه وفد كندة و فيهم الأشعث و بنو وليعة فأسلموا فأطعم رسول اللّه بني وليعة طعمة من صدقات حضر موت و كان قد استعمل عليها زياد بن لبيد البياضي الأنصاري فدفعها زياد إليهم فأبوا أخذها و قالوا: لا ظهر لنا فابعث بها إلى بلادنا على ظهر من عندك فأبى زياد و حدث بينهم و بين زياد شر كاد يكون حربا فرجع منهم قوم إلى رسول اللّه و كتب زياد إليه عليه السلام يشكوهم.

و في هذه الوقعة كان الخبر المشهور عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال لبني وليعة: «لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن عليكم رجلا عديل نفسي يقتل مقاتلتكم و يسبي ذراريكم». قال عمر بن الخطاب: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول: هذا هو، فأخذ بيد علي عليه السلام و قال: «هو هذا».

ثم كتب لهم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إلى زياد فوصلوا إليه الكتاب و قد توفي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و طار الخبر بموته إلى قبائل العرب فارتدت بنو وليعة و غنّت بغاياهم و خضبن له أيديهن.

ثم إن زيادا أخذ البيعة لأبي بكر من أهل حضرموت فبايعوا إلا بنو وليعة ثم جرت مشادة بين زياد و بين بعضهم على ناقة أرادها زياد للصدقة و أبى الجماعة أن يتركوها له بل خلصوها منه بالقوة و اجتمع إلى زياد أصحابه و اجتمع بنو وليعة و أظهروا المنابذة و العداء فبيتهم زياد و هم غارون فقتل منهم جمعا كثيرا و نهب و سبى و لحق فلّهم بالأشعث بن قيس فاستنصروه فقال: لا أنصركم حتى تملكوني عليكم فملكوه و توّجوه كما يتوّج الملك من قحطان فخرج إلى زياد في جمع كثيف و كتب ابو بكر إلى المهاجر بن ابي أمية و هو على صنعاء أن يسير بمن معه إلى زياد فسار فلقوا الأشعث فهزموه و لجأ الأشعث و من معه إلى الحصن المعروف «بالنجيّر» فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا فنزل الأشعث ليلا إلى المهاجر و زياد فسألهما الأمان على نفسه حتى يقدما به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم الحصن و يسلم إليهم من فيه و قيل إنه كان في الأمان عشرة، فأمناه و أمضيا شرطه ففتح لهم الحصن فدخلوه و استنزلوا كل من فيه و أخذوا أسلحتهم و قالوا للأشعث: اعزل العشرة فعزلهم فتركوهم و قتلوا الباقين و كانوا ثمانمائة و قطعوا أيدي النساء اللواتي شمتن برسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و حملوا الأشعث إلى أبي بكر موثقا في الحديد هو و العشرة فعفا عنه و عنهم و زوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة - و كانت عمياء فولدت له محمدا و إسماعيل و إسحاق...

ص: 179

و قوله عليه السلام: فما فداك من واحدة منهما مالك و لا حسبك لم يرد الفداء الحقيقي لأنه قد فدي و إنما اراد لم ينجك و يدفع عنك مالك و لا حسبك من الأسر..

(و إن امرأ دل على قومه السيف و ساق إليهم الحتف لحري أن يمقته الأقرب و لا يأمنه الأبعد) ثم بين هذه الصفة الخسيسة فيه و التي جنى من خلالها على قومه فأراق دماءهم فإنه لما أخذ الأمان أخذه لنفسه و لعشرة أشخاص معه فظن قومه أنه أخذ الأمان للجميع فسلموا الحصن فعند ما دخل المسلمون و اعملوا السيف فيهم استنكروا ذلك و قالوا قد اعطيتمونا الأمان بيد الأشعث فأنكر المسلمون أن يكونوا قد أعطوا شيئا لغير الأشعث و العشرة الذين معه فقتلهم المسلمون و ذلك بفعل الأشعث و غدره بقومه فهو الذي عرضهم على السيف و ساق إليهم الموت و مثل هذا جدير به أن يبغض من أقرب الناس إليه و هم أهله و عشيرته لغدره بهم و يجعل البعيد عنه من الناس لا يأمنه أو يطمئن إليه و كأنه بيان و إنذار إلى غدره و إنه ليس بثقة عند أمير المؤمنين..

ترجمة الأشعث بن قيس:

الأشعث اسمه الحقيقي معدي كرب بن قيس الأشج، و أمه اسمها كبشة بنت يزيد بن شرحبيل.

كان الأشعث أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث و غلب عليه حتى نسي اسمه.

جاء مع وفود العرب إلى رسول اللّه فأسلم ثم ارتد و حارب المسلمين فأخذوه أسيرا إلى أبي بكر فعفا عنه و زوجه أخته أم فروة و كانت عمياء و كان كما قال ابن أبي الحديد نقلا عن ابن جرير الطبري في تاريخه أنه «كان المسلمون يلعنون الأشعث و يلعنه الكافرون أيضا و سبايا قومه و سماه نساء قومه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم.

و يقول ابن أبي الحديد في نهجه: «و كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي عليه السلام و هو في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام كما كان عبد اللّه بن أبي سلول في أصحاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه» و قد كان الأشعث يتحين الفرص لزعزعة خلافة الإمام و يزرع الشك و الريب بين أصحابه و مواقفه المشينة الخبيثة في صفين تحكي ذلك و قد اشترك في دم الإمام مع عبد الرحمن بن ملجم المرادي في رسم الخطة لاغتياله و قد اشترك ابنه محمد في دم الحسين.

و نفذت ابنته جعدة سم الإمام الحسن بإيعاز من معاوية...

ص: 180

و بالجملة الأشعث و أهله قوم سوء لا يذكرون إلا بكل عيب و أمر مشين...

ارتد الأشعث و أخذ إلى أبي بكر فعفى عنه و زوجه أخته أم فروة و عند ما قتل عثمان كان واليا من قبله على أذربيجان فأمره الإمام أن يأخذ البيعة له و يحضره عنده.

مات الأشعث بعد قتل الإمام بأربعين ليلة سنة 40 للهجرة.

ص: 181

20 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيه ينفر من الغفلة و ينبه إلى الفرار للّه فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين (1) من مات منكم لجزعتم (2) و وهلتم (3)، و سمعتم و أطعتم، و لكن محجوب (4) عنكم ما قد عاينوا، و قريب ما يطرح (5) الحجاب! و لقد بصّرتم (6) إن أبصرتم، و أسمعتم إن سمعتم، و هديتم إن اهتديتم، و بحقّ أقول لكم: لقد جاهرتكم (7) العبر (8)، و زجرتم (9) بما فيه مزدجر. و ما يبلّغ عن اللّه بعد رسل السّماء إلاّ البشر.

اللغة

1 - عاين: رآه بعينه.

2 - الجزع: عدم الصبر على المصيبة بإظهار الحزن و الكدر.

3 - وهلتم: من الوهل و هو الخوف و الفزع.

4 - المحجوب: المستور، و الحجاب كل ما حال بين شيئين.

5 - يطرح: يلقى و يرمى.

6 - بصرّتم: جعلهم يبصرون، و البصر بالعين و البصيرة في القلب.

7 - جاهرتكم: من الجهر و هو الارتفاع و كلام جهير أي عال.

8 - العبر: الموعظة.

9 - زجره: منعه و المزدجر المتعظ.

الشرح

(فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم و سمعتم و أطعتم و لكن محجوب عنكم ما قد عاينوا و قريب ما يطرح الحجاب) الموت مرحلة من مراحل

ص: 182

الحياة ينتقل الإنسان من خلاله إلى عالم آخر كما انتقل من قبل من كونه نطفة لا تعقل و لا تفهم استقرت في رحم الأم و نمت فأصبحت جنينا ضمن مراحل الجنين ثم أخرجته يد القدرة إلى العالم الخارجي. و إلى الدنيا فابتدأ حياة جديدة تغاير سابقتها و تختلف عنها ثم أخذ في النشوء و النمو حتى بلغ به الأمر أن أصبح رجلا سويا و بعد أن يبلغ من العمر مداه يعود إلى مرحلة الضعف و عدم القدرة و عند ما يضع القدر حكمه ينتقل من هذه الدار إلى الدار الآخرة التي هي دار تغاير دار الدنيا و تختلف عنها تماما بشّر بها الأنبياء و بينوها للناس و وصفوها و أوضحوا معالمها و خصوصياتها و ما فيها.. إنها دار البقاء و الاستقرار دار النعيم أو الجحيم، دار الجنة أو النار...

يخرج الإنسان من هذه الدنيا فيرى أهوال تلك الدار الآخرة و عقباتها و يرى عذابها و عقابها.. يرى الأمور على حقيقتها واضحة أمامه يمارسها و يعيشها و يكتوي بألمها..

يرى نعيم الآخرة و ما فيها من ملذات و سرور.. يراها و يعيشها و يتذوق طعمها...

إن كل ما يمر في الآخرة من أهوال و آلام و ما يعترض هذا الإنسان فيها من سدود و موانع كل ذلك محجوب عن ابن الدنيا لم يدرك حقيقته و لم يطلع عليه إلا بالوصف الوارد عن الأنبياء...

و الإمام يقول لو أنكم رأيتم و أنتم في دار الدنيا ما رأى من مات منكم لأخذكم الخوف الشديد و شدكم الفزع و الرعب مما رأى و لاقى لأنه رأى ما يدهش العقل و يرعب القلب و عندها تسمعون كلام الدعاة إلى اللّه و الدالين عليه و الآمرين بأمره و لأطعتم ربكم في كل ما أمر و امتنعتم عن كل ما منع...

ثم اعتذر عنهم و بعدها حذرهم اعتذر عنهم بأن الحجب هي التي منعتهم عن الرؤية لتلك الأهوال و المصاعب فالموت حجاب يمنع الرؤية الحقيقية لذلك العالم و ما فيه، و هو منتهى الحجب و أعظمها و به تنكشف الأمور على حقيقتها و لكن قبل ذلك هناك حجب النفس الشريرة التي تمارس المعصية و الانحراف فتشكل حاجزا عن رؤية الحقيقة و تمنع من الاطلاع على تلك الدار و ما فيها...

النفس إذا رقت و شفّت اخترقت الحجب و قفزت فوق الحواجز و اكتشفت الأمور و أدركتها على حقيقتها وسعت إليها بعد هذه المعرفة و هذا الاطلاع و من هنا نرى كيف يعيش الأنبياء عيشة الزهد و التقشف.. و نعرف كيف كان حرصهم على هداية الناس و إرشادهم و على إعانتهم و مساعدتهم.. و نعرف أيضا كيف يعرفون ما يدور في نفوس الآخرين و ما يضمرون و يسرون.. نعرف كيف كان أصحاب التقى يتكلمون بما تحوي

ص: 183

نفوس الناس و يتفرسون فيهم الخير أو الشر و الحق أو الباطل...

و حذرهم الإمام بعد ذلك بأن الحجاب سيطرح عما قريب.. عند ما تموتون ستصلون إلى الحقيقة.. سيرتفع الحجاب الذي كان يمنع الرؤية.. و ستقفون أمام الحقيقة وجها لوجه..

(و لقد بصرتم إن أبصرتم و أسمعتم إن سمعتم و هديتم إن اهتديتم) إنه لا عذر لأحد.. انقطعت الأعذار.. و الحجاب و إن كان و لكن الأنبياء و المرسلين و الدعاة و المبشرين قد فتحوا أعينكم على الحقيقة و علموكم طرق الخير و المعروف و كل ما فيه سعادتكم إذا أردتم أن تعرفوا ذلك و تفقوا عليه فاسمعوا لهم و اقتفوا أثرهم..

إن الدعوة قد بلغت مسامع الناس جميعا و طرقت آذانهم أصوات الحق فلو أردتم أن تسمعوا لسمعتم و العلة فيكم أنكم لا تستجيبون و ليس في غيركم و قد هداكم المرشدون إن أردتم الهداية..

(بحق أقول لكم لقد جاهرتكم العبر و زجرتم بما فيه مزدجر) و هذا بيان أيضا لرفع الاعتذار و إن العبر التي فيها المواعظ و الحكم قد رأيتموها عيانا.. إنها ليست سرا حتى تعتذروا بعدم معرفتها و الوقوف عليها بل هي أمامكم أعيدوا النظر فيها.. أنظروا إلى الفراعنة و الأكاسرة و القياصرة.. أنظروا إلى ما أنزل اللّه بهم من العذاب و النقمات.. إنها الأمم التي تمردت على حكمه و عصت أمره نالت جزاءها و أدركت نصيبها...

و قد جاءتكم البينات بما فيه مزدجر و ردع لكم.. إنها صواعق الآيات تردع هذا الإنسان إن كان إنسانا قال تعالى(1): «وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ فَمٰا تُغْنِ اَلنُّذُرُ» .

(و ما يبلّغ عن اللّه بعد رسل السماء إلا البشر) و هذا ترغيب لهم أن يقبلوا ما جاءت به الرسل و الأنبياء لأنهم الدعاة إلى اللّه و بهم ينحصر البيان و التبليغ و ذلك باعتبار أن من يحمل الرسالة يجب أن يكون بعد أمناء الوحي من الملائكة. يجب أن يكون من جنس البشر الذين يبلغونهم الرسالة لوحدة الطبيعة و الانسجام...

و إذا كان الأنبياء هم الذين يبلغون عن اللّه أحكامه فيجب على الناس قبول قولهم و العمل به و الافتداء بما شرعوا و سنوا...4.

ص: 184


1- سورة القمر، آية - 4.

21 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

و هي كلمة جامعة للعظة و الحكمة فإنّ الغاية (1) أمامكم، و إنّ وراءكم السّاعة تحدوكم (2). تخفّفوا (3) تلحقوا (4)، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم.

قال السيد الشريف: أقول: إن هذا الكلام لو وزن، بعد كلام اللّه سبحانه و بعد كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم، بكل كلام لمال به راجحا، و برّز عليه سابقا، فأما قوله عليه السلام: «تخففوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر منه محصولا، و ما أبعد غورها من كلمة! و أنقع نطفتها من حكمة! و قد نبهنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها و شرف جوهرها.

اللغة

1 - الغاية: النهاية.

2 - تحدوكم: من حد الإبل إذا غنى لها ليحثها على المسير.

3 - تخففوا: من خف ضد ثقل خفف في ذنوبه إذا قللها.

4 - تلحقوا: من لحقه إذا أدركه و تلاحق تتابع.

الشرح

(فإن الغاية أمامكم و إن وراءكم الساعة تحدوكم) منذ أن يولد الإنسان و يضع ثقله على الأرض يبدأ في هدم عمره و يسير نحو الموت باستمرار و في كل يوم يمضي يتقدم و يقترب منه فإن هذه الغاية و هي الموت أمام الإنسان يسعى إليها و يتحرك نحوها.. ثم

ص: 185

إن وراء ذلك الموت القيامة التي تدفعنا باستمرار لنفكر فيها و نستعد لها و نقوم بواجبنا الذي يخلصنا من تبعاتها و عذابها...

إن القيامة تنتظر الجميع و السعيد من عمل لها.. ثم عقب على ذلك بقوله:

(تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم) تخففوا من الذنوب.. فكروا أن تكونوا خفافا، ليس عليكم من الذنوب شيئا.. و المخف أسرع في المشي و أشد دركا لما يطلب... تخففوا من حمل الذنوب لتلحقوا ركب الأنبياء و الصالحين فإنهم المتقدمون السابقون و لا يمكن أن يلحقهم من حمل من الذنوب كثيرا.. و كيف يتحرك المثقل ؟ و كيف يقدر على إدراك السابق من كان حمله كبيرا؟!...

تخففوا من الأوزار.. فلا تشركوا باللّه و لا تعتدوا على عباد اللّه و قوموا بخدمة الناس و أدوا الفرائض و التزموا بأمر اللّه و نهيه... اجتنبوا المعاصي و قول الزور و كل ما يسيء..

و أما الحساب فسيأتي عند ما يكتمل العدد و يجتمع الخلق جميعا.. و من مات ينتظر القادمين حتى إذا تم العدد و استكمل الجميع استوفوا عندها حسابهم و هذا ليس ببعيد.. إنه قريب حاصل و سنصل إليه لا محالة..

ص: 186

22 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

حين بلغه خبر الناكثين ببيعته و فيها يذم عملهم و يلزمهم دم عثمان و يتهددهم بالحرب

ذم الناكثين

ألاّ و إنّ الشّيطان قد ذمّر (1) حزبه (2)، و استجلب جلبه (3)، ليعود الجور (4) إلى أوطانه، و يرجع الباطل إلى نصابه (5). و اللّه ما أنكروا (6) عليّ منكرا (7)، و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا (8).

دم عثمان

و إنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه، و دما هم سفكوه (9): فلئن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم (10) منه، و لئن كانوا ولوه (11) دوني، فما التّبعة (12) إلاّ عندهم، و إنّ أعظم حجّتهم (13) لعلى أنفسهم، يرتضعون أمّا قد فطمت (14)، و يحيون بدعة (15) قد أميتت. يا خيبة (16) الدّاعي! من دعا! و إلام أجيب! و إنّي لراض بحجّة اللّه عليهم و علمه فيهم.

التهديد بالحرب

فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف و كفى به شافيا من الباطل، و ناصرا للحقّ ! و من العجب بعثهم إليّ أن أبرز (17) للطّعان! (18) و أن أصبر

ص: 187

للجلاد (19)! هبلتهم (20) الهبول (21)! لقد كنت و ما أهدّد بالحرب، و لا أرهب بالضّرب! و إنّي لعلى يقين من ربّي، و غير شبهة من ديني.

اللغة

1 - ذمّر: حضر و حث.

2 - الحزب: الجماعة على رأي واحد.

3 - الجلب: ما يجلب، المجلوب من بلد إلى بلد.

4 - الجور: الظلم و الانحراف.

5 - النصاب: الأصل.

6 - أنكروا: عابوا.

7 - المنكر: القبيح، كل ما ليس فيه رضى للّه.

8 - النصف: بتثليث النون، الإنصاف، العدل.

9 - سفك الدم: أراقه.

10 - النصيب: السهم، و الحظ.

11 - ولوه: قاموا به، و ولي الشيء إذا ملك أمره.

12 - التبعة: ما يلحق الإنسان من درك، المؤاخذة.

13 - حجتهم: من الحجة، البرهان، و ما يحتج به.

14 - فطم الرضيع: منعته أمه عن ثديها.

15 - البدعة: الشيء المستحدث، إدخال ما ليس في الدين على أنه منه.

16 - الخيبة: عدم الظفر بما يطلب، عدم النجاح.

17 - أبرز: أخرج و أظهر إلى المقاتلة.

18 - الطعان: طعنه بالرمح ضربه و وخزه به و الطعان كثرة الضرب بالسيوف.

19 - الجلاد: المجالدة و المصاولة بآلة الحرب.

20 - هبلتهم: ثكلتهم.

21 - الهبول: بفتح الهاء المرأة التي لا يبقى لها ولد.

الشرح

(ألا و إن الشيطان قد ذمّر حزبه و استجلب جلبه ليعود الجور إلى أوطانه و يرجع الباطل إلى نصابه) الشيطان قائد كل فرقة ضالة و هو الدافع لكل حزب منحرف إلى

ص: 188

الانحراف.. ما كانت معركة إلا و كان الشيطان وراء الفرقة المعتدية الظالمة...

و إن من خالف عليا و نكث بيعته فهو مع الشيطان لأن عليا مع الحق و الحق مع علي كما نطق بذلك رسول اللّه و كما صدقته شواهد الأيام و المواقف و الإمام هنا في هذه الخطبة يذكر الناكثين لبيعته الذين جهزوا الجيوش لقتاله يقول: إن الشيطان هو الذي دفعهم و حضهم و هم من حزبه جاءوا بهذا الرعاع من كل مكان.. لقد استنفرت أم المؤمنين و معها طلحة و الزبير الناس و جيشوهم لقتال الحق...

إنهم أرادوا من وراء حربهم أن يعود الجور إلى ما كان عليه أيام الخلفاء الذين تقدموا عليه و خصوصا أيام عثمان التي كانت أيامه ثقيلة على الأمة.. أرادوا أن يرجع الباطل الذي كان أيام عثمان إلى اليوم الذي هو فيه حيث أرادوا الخلافة و طلبوها و لما لم يحصلوا على شيء منها أعلنوها حربا شعواء أتت على الحرث و النسل و زرعت في جسد الأمة فتنة لا نزال نعيش آثارها حتى اليوم..

(و اللّه ما أنكروا عليّ منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا) أقسم باللّه و قسمه لا حنث فيه أنهم لم يعيبوا عليه و يرموه بشيء من المنكر الذي لا يرضاه اللّه و حتى قتل عثمان لم يكن منكرا بنظرهم و إن كان الإمام من أشد الناس براءة من دمه..

و فضلا عن ذلك إذا كانوا يتهمونه بقتل عثمان أو بأمر فيه منكر فما جعلوا بينه و بينهم من يحكم بالعدل و ينظر في قضيتهم و يحكم بالحق..

(و إنهم ليطلبون حقا هم تركوه و دما هم سفكوه) هذه حالة الفرقة الناكثة طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة إنهم الآن يطلبون الثأر لدم عثمان و هم الذين تركوه حيث أنهم لم يحركوا ساكنا و لم يطلبوا محاكمة أحد اشترك في دمه بل غضوا النظر عن ذلك.

إنهم هم الذين سفكوا دم عثمان و أباحوه للناس عند ما كانوا يجهرون بمعارضته و يصفونه بأقبح الأوصاف و أرذلها.. كانت أم المؤمنين تقول للمسلمين: اقتلوا نعثلا قتله اللّه.. و طلحة يدعم الثوار و يرشدهم إلى ثغرات البيت ليتسللوا فيه و يقضوا عليه و هكذا كانوا شركاء في دم عثمان و قد بقيت هذه طريقتهم و كانوا على رضى تام بما جرى إلى أن تبين لهم عدم النصيب في الخلافة أعلنوا العصيان و التمرد و طالبوا بدم عثمان..

(فلئن كنت شريكهم فيه فإن لهم لنصيبهم منه و لئن كانوا ولوه دوني فما التبعة إلا عندهم و إن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم) و هنا أراد الإمام أن يجاريهم جدلا فيقول لهم إذا كنت شريككم في دم عثمان فإن لكم منه نصيب فنتساوى في الحكم على طريق الشركاء

ص: 189

في الغرم فاقتصوا من أنفسكم أولا و خذوا الحق منها ثم طالبوا شركاءكم بما تدعون هذا إذا كنت شريككم في دمه و الحق أني لست شريكا..

و إذا كنتم قد قمتم بالأمر أنتم و سفكتم دم الرجل بأيديكم و حرضتم الناس و وجهتموهم لقتله كما هو المعروف و المشهور في التاريخ بل المتسالم عليه فإن كل الآثار التي تتبع فعلكم تقع على عاتقكم و كل سيئة تحصل فهي نتيجة تصرفكم فيجب أن تتحملوا بأنفسكم ما يحدث من جراء ذلك و إن أعظم حجتهم التي يحتجون بها أن عثمان قتل مظلوما فإذا كانوا هم القتلة فتكون الحجة عليهم يؤخذون بها و يدانون بجرائرها..

(يرتضعون أما قد فطمت و يحيون بدعة قد أميتت) قوله عليه السلام يرتضعون أما قد فطمت مثل يضرب للذي يطلب الشيء بعد فواته و هم قد طلبوا الخلافة بعد أن انعقدت للإمام و تمت له البيعة أو يراد أنهم يطلبون الأعطيات و الامتيازات التي كانت على دور عثمان و هذه قد انتهت أيامها و لن تعود في زماني...

أو يريدون أن يحيوا ما ابتدعه عثمان من تفاوت في العطاء و الذي كان على خلاف سنة رسول اللّه و لكن قد مضى الزمن و سبقهم فلن تحيا البدعة من جديد..

(يا خيبة الداعي! من دعا! و إلام أجيب و إني لراض بحجة اللّه عليهم و علمه فيهم) نداء فيه تأسف و تحسر بأن يخيب الداعي الفاشل الذي هو أحد الثلاثة طلحة و الزبير و أم المؤمنين ثم استحقرهم و استصغر من شأنه بقوله من دعا؟ فإن من دعا صغيرا حقيرا..

و إلى ما ذا أجيب ؟ فما أفحشه من أمر و ما أقبحه إنها استجابة لأمر حقير قبيح لا يرضى الاستجابة له ذو عفة أو ذو ضمير...

و إني لراض بحجة اللّه عليهم و هي وجوب وفائهم بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم عند ما تمت البيعة لي من قبلهم فإنهم بايعوا و شايعوا و هو حجة عليهم و اللّه يعلم ما هم فيه من الضلال و الانحراف و براءة ذمتي لو قاتلتهم لأنهم نقضوا العهد.

(فإن أبوا أعطيتهم حد السيف و كفى به شافيا من الباطل و ناصرا للحق) فإن رفضوا.

ما أعطوا من العهد و البيعة و ما التزموا به أمام اللّه في الوفاء بها سأعطيهم السيف يأخذ منهم مأخذه و يطالهم و يحصد جمعهم و به الكفاية عن كل دواء و فيه الشفاء من كل داء سواء تمثل بالغدر و النفاق أو المعارضة و الحرب و كفى به ناصرا للحق الذي أنا عليه و الذي أريده منهم.. فإنه إذا توقف الأمر على هذا الأسلوب فلا بد من انتهاجه و لا بد من شهر السيف و إظهاره من غمده فهو الناصر للحق و المدحض للباطل..

ص: 190

(و من العجب بعثهم إليّ أن أبرز للطعان و أن أصبر للجلاد هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدد بالحرب و لا أرهب بالضرب و إني لعلى يقين من ربي و غير شبهة من ديني) ثم تعجب الإمام منهم استصغارا لقدرهم كيف يهددونه بالحرب و يطلبون منه النزال و دعا عليهم بالثكل و هو أن يصابوا بالموت حتى لا يبقى منهم أحد و لقد كان و ما يجرأ أحد أن يهدده بالحرب أو يدعوه للنزال أو يخوفه بالضرب بالسيوف التي تجتث الرءوس فإنه البطل اليتيم في هذا المضمار الذي ما اعتلى سيفه هامة إلاّ و قدها و ما اعترض وسط رجل إلا قطعه.. ما انهزم في موقعة و ما فر من معركة و لا تهيب من أحد و لا تردد في نزال..

إنه الشجاع الذي يقرأ تاريخه في العهد النبوي كله فيجده القارئ راية نصر ترفرف في كل موقعة و اسمه مفتاح الفتح في كل معركة.. فهذه الجهة عجز منهم و ضعف...

ثم إنه يملك اليقين الصادق بأنه على الحق و إنه ناصر لدينه و مدافع عن شريعته و ليس في شبهة من دينه فإن الحق معه دون ريب و هو الخليفة الشرعي و عليه ردع المنحرفين و قتال الناكثين فإن قتال المنافقين على مستوى قتال الكافرين.

ص: 191

23 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و تشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد و تأديب الأغنياء بالشفقة

تهذيب الفقراء

أمّا بعد، فإنّ الأمر (1) ينزل من السّماء إلى الأرض كقطرات (2) المطر إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة (3) في أهل أو مال أو نفس فلا تكوننّ له فتنة (4)؛ فإنّ المرء المسلم ما لم يغش (5) دناءة (6) تظهر فيخشع لها إذا ذكرت، و يغرى (8) بها لئام (9) النّاس، كان كالفالج (10) الياسر (11) الّذي ينتظر أول فوزة من قداحه (12) توجب له المغنم (13)، و يرفع بها عنه المغرم (14). و كذلك المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين (15): إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال، و معه دينه و حسبه (16).

و إنّ المال و البنين (17) حرث الدّنيا (18)، و العمل الصّالح حرث الآخرة، و قد يجمعهما اللّه تعالى لأقوام، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه، و اخشوه خشية ليست بتعذير (19)، و اعملوا في غير رياء (20) و لا سمعة (21)؛ فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه (22) لمن عمل له. نسأل اللّه منازل الشّهداء، و معايشة السّعداء، و مرافقة الأنبياء.

ص: 192

تأديب الأغنياء

أيّها النّاس، إنّه لا يستغني (23) الرّجل - و إن كان ذا مال - عن عترته (24)، و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم النّاس حيطة (25) من ورائه، و ألمّهم (26) لشعثه (27)، و أعطفهم عليه عند نازلة (28) إذا نزلت به.

و لسان الصّدق يجعله اللّه للمرء في النّاس خير له من المال يرثه غيره.

و منها: ألا لا يعدلنّ (29) أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة (30) أن يسدّها (31) بالّذي لا يزيده إن أمسكه (32) و لا ينقصه إن أهلكه؛ و من يقبض يده (33) عن عشيرته، فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة، و تقبض منهم عنه أيد كثيرة؛ و من تلن (34) حاشيته (35) يستدم (36) من قومه المودّة (37).

قال السيد الشريف: أقول: الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة، من قولهم للجمع الكثير: الجم الغفير، و الجماء الغفير. و يروى «عفوة من أهل أو مال» و العفوة: الخيار من الشيء، يقال:

أكلت عفوة الطعام، أي خياره. و ما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: «و من يقبض يده عن عشيرته..» إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة؛ فإذا احتاج إلى نصرتهم، و اضطر إلى مرافدتهم، قعدوا عن نصره، و تثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الأيدي الكثيرة، و تناهض الأقدام الجمة.

اللغة

1 - الأمر: جمعه أوامر، طلب إحداث الشيء، الشيء.

2 - قطرات: مفردها قطرة النقطة من المطر.

3 - غفيرة: زيادة و كثرة.

4 - فتنة: فتن فلانا أضله.

5 - يغشى: من غشى فلانا إذا أتاه.

6 - دناءة: خساسة و ذلة.

ص: 193

7 - يخشع: من خشع تطامن و ذل و خضع.

8 - يغرى: يولع به من أغرى بكذا إذا أولع به، و تأتي للتحريض.

9 - اللئام: الدنىء، المهان الشحيح النفس.

10 - الفالج: الظافر، الفائز.

11 - الياسر: المقامر.

12 - القداح: سهام الميسر التي يلعب بها.

13 - المغنم: المنفعة و المكسب.

14 - المغرم: المضرة، و الخسارة.

15 - الحسنيين: الظفر أو الشهادة من الحسنى.

16 - الحسب: جمعه أحساب شرف الأصل مفاخر الآباء.

17 - البنين: مفرده ابن الأولاد الذكور.

18 - حرث الدنيا: الحرث، الكسب.

19 - التعذير: إظهار العذر شكلا.

20 - الرياء: التظاهر بالخير دون الحقيقة.

21 - السمعة: الشهرة أو ما يقصد به ذلك.

22 - يكله: من وكل إليه الأمر، سلمه إليه و فوضه، فقام مقامه.

23 - لا يستغني: لا يغتني و استغنى به اكتفى.

24 - عترته: و العترة ذرية الرجل و ولده.

25 - الحيطة: الرعاية و الكلاءة.

26 - المهّم: من لمّ بمعنى جمع و قارب بين المتفرقات.

27 - الشعث: التفرق و الانتشار و منه لم الشعث.

28 - النازلة: المصيبة.

29 - يعدلنّ : من عدل عن الطريق إذا حاد عنه.

30 - الخصاصة: الفقر، الحاجة الشديدة.

31 - يسدها: نقيض يفتحها يغلقها.

32 - أمسكه: قبضه، حبسه، تعلق به.

33 - قبض يده: ضد بسطها، و قبض على الشيء إذا أمسكه.

34 - تلن: اللين ضد الخشونة و لان له لاطفه.

35 - الحاشية: للرجل أتباعه و خواصه.

36 - يستدم: يثبت و يستمر.

37 - المودة: المحبة.

ص: 194

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة و نقصان فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس فلا تكونن له فتنة) ما قدّره اللّه لعباده و كتبه لهم و عليهم ينزل من عند اللّه كما ينزل المطر فهذه بقعة تنال حظا أوفر من تلك و هذه يكثر قطرها دون تلك و كذلك كل نفس تنال حظها و حصتها مما قدره اللّه لها فهذه قد تكون في سعة و غنى و تلك قد تكون في ضيق و قلة و هذه قد تكون عقيم و أخرى ولود و هذه قد تكون صاحبة وجاهة و أخرى قد تكون وضيعة فهذا التفاوت من أجل إتمام دورة الحياة و كمالها و من أجل مصلحة المجتمع و نموه و ازدهاره.. من أجل أن يحتل كل فرد موقعا من الحياة يسد ثغرتها و يملأها بما تحتاج إليه فإذا رأى أحد من الناس زيادة فيما عند أخيه زيادة من مال أو ثروة أو جاه أو ولد فلا ينبغي أن يتحول ذلك إلا عنصر إضلال و مادة فساد ينحرف برؤيته الرائي و يضل الناظر...

إنه عليه السلام أراد أن يرد الأمر للّه و يلفت نظر هذا الإنسان إلى قضية إذا عاد إليها و اطمأن بها ارتاحت نفسه و استقرت أعصابه و استطاع أن يقطع شوط الحياة بلذة و نعيم..

إنها العودة إلى اللّه و إرجاع الأمر إليه فهو الذي زاد في ثروة فلان و هو الذي قتر على فلان و هو الذي رفع ملوكا و هو الذي أهلك آخرين و هو الذي أغنى.. و هو الذي أفقر.. فإذا اطمأن الإنسان إلى هذه القضية ارتاحت نفسه و استقرت أحواله و تحولت النعمة التي أنعمها اللّه على الغير إلى مادة شكر عند الناظر يلتفت ليسبح اللّه و يمجده و يقول يا رب إنك أنت الذي تعطي و أنت الذي تمنع.. إنك وحدك القابض و وحدك الباسط.. (فإن المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت و يغري بها لئام الناس كان كالفالج الياسر الذي ينتظر أول فوزه من قداحه توجب له المغنم و يرفع بها عنه المغنم) فإن الإنسان المسلم إذا لم يأت بأمر فيه مضرة و حقارة و فيه معصية و رذيلة بحيث لو ظهرت لأعين الناس و انكشفت لهم استحى منها و خجل و لم يكن فيها إغراء للسفلة و ضعاف النفوس لو لم يكن المسلم كذلك لكان كاللاعب بالقمار المنتصر الذي ينتظر أول فلاحه و ربحه ليكتسب و يربح و يرفع عن نفسه الخسارة..

(و كذلك المرء المسلم البرىء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين، إما داعي اللّه فما عند اللّه خير له، و أما رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه) حال من

ص: 195

وصفنا سابقا هو حال المرء المسلم الذي لا يخون ما اؤتمن عليه من تكاليف و وصايا و يعمل بكل أوامر اللّه و تكاليفه فإنه ينتظر إحدى الحسنين.. واحدة من اثنتين، إما أن يقبضه اللّه إليه و يستدعيه إلى جواره و هذه نعمة كبرى لأن ما عند اللّه خير من كل ما حوته الدنيا و ما فيها و إما أن يرزقه أولادا و ثروة و غنى و مع ذلك كله و بالإضافة إليه يبقى محافظا على دينه و مروته و ما تمتع به من خصال شريفة ورثها عن أهله و أمجاد تسلمها منهم و بذلك ينال الدين و الدنيا و هذه حال المرء المسلم يبقى بين واحدة من اثنتين إما جوار اللّه و اللّه لن يجور على من جاوره و في ذلك سعادة الآخرة و إما أن يعطيه الدنيا مع الحفاظ على الدين و الكرامة و تلك سعادة الدنيا و الآخرة..

(و إن المال و البنين حرث الدنيا و العمل الصالح حرث الآخرة و قد يجمعهما اللّه تعالى لأقوام) ترغيب في العمل الباقي الدائم الذي يكسب به الإنسان الجنان و تحقير و تصغير من شأن العمل الذي يكون أثره في الدنيا فحسب.. فالمال و البنون زينة الحياة الدنيا و ما كان للدنيا يبقى أثره فيها.. فأنت تتمتع بما عندك من مال و تنال ما تشتهي به...

تسيح في الدنيا تنتقل كعصفور من غصن إلى غصن و تطال ما تقع عيناك عليه..

و أما الأولاد فإنك تسر لرؤياهم تشعر بلذة عند ما يحيطون بك و قد تأخذك العزة و علو النفس فتشمخ و لكن كل هذا سيبقى هنا في الدنيا و يفنى كما قال الإمام في بعض كلمات، «و أحبب من شئت فإنك مفارقه» ستترك خلفك كل ما جنيته و ستترك وراءك كل أحبابك و أولادك...

و أما العمل الصالح من صلاة و صيام و حج و إعانة فقير و إعالة أرملة و سد عوز محتاج و دفع ظالم و إقامة الحق و إزهاق الباطل و توفير الحكم الإسلامي الذي يبسط ظله على الأرض فترتفع المنكرات و تتحرك الواجبات هذه و أمثالها لن تموت بموت الإنسان و لن يأتي عليها الفناء عند ما يأتي الموت لهذا الإنسان بل ستتبعه و تسير معه و تكون وسيلته إلى الخلود في الجنة و من كان عمله العمل الصالح تمت له السعادة و فاز...

و من رحمة اللّه و عنايته فإن الأمرين قد يجمعهما اللّه لبعض عباده زينة الحياة الدنيا و العمل الصالح كما وقع لنبي اللّه سليمان أو ليوسف أو لغيرهما من المؤمنين الصالحين و ذلك بفضل اللّه و تقديره فلا يجب أن يتأثر الإنسان بشيء بل يكل الأمر للّه فهو الذي إذا أراد أن يجمعهما لك جمعهما...

(فاحذروا من اللّه ما حذركم من نفسه و اخشوه خشية ليست بتعذير) فاللّه حذرنا

ص: 196

المعصية و خوفنا منها فيجب أن نبتعد عنها و لا نقترف شيئا منها و أمرنا أن نخشاه حق خشيته و يتحقق ذلك بترك المحرمات و فعل الواجبات و القيام بكل أمر مطلوب منا و لا أن نخشاه صورة ثم نرتكب الحرام و نأتي لنعتذر بأعذار واهية يعرف اللّه كذبنا فيها فهذه لها صورة الخشية دون حقيقتها.

(و اعملوا في غير رياء و لا سمعة، فإنه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه لمن عمل له، نسأل اللّه منازل الشهداء و معايشة السعداء و مرافقة الأنبياء).

العمل الخالص للّه:

ثم أمرنا أن يكون العمل خالصا لوجه اللّه دون رياء أو سمعة و العمل لوجه اللّه أشق و أصعب من نفس العمل فإن تخليص العمل من الرياء و السمعة من أشق الأمور و قد لا تكون هذه الأمور ظاهرة لدى الإنسان يستطيع إدراكها بسهولة.. قد تكون دوافع العمل بعض الانحرافات المختزنة في اللاشعور و هي التي تحرك العامل نحو هذا العمل..

فإعالة الأرملة و اليتيم لوجه اللّه بدون أن ينشر الخبر بين الناس.. و بدون زهو و كبر أمر صعب و أن يحج الإنسان - و هو أمر عبادي يتمحض في التوجه إلى اللّه - و يجعل حجه خالصا لوجه اللّه و امتثالا لأمره دون رياء أو سمعة فهذا يحتاج إلى جهاد نفسي كبير...

الرياء أن تعمل العمل للّه و لغيره تصلي للّه و ليراك الناس تحسن صلاتك من أجل أن يمدحك الناس و يثنون عليك و على صلاتك و العامل كذلك هو مشرك في لسان كثير من الروايات إنه شرك عمل...

1 - قال الصادق عليه السلام: كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس و من عمل للّه كان ثوابه على اللّه..

2 - و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال(1): ما على أحدكم لو كان على قلة جبل حتى ينتهي إليه أجله، أ تريدون تراءون الناس ؟ إن من عمل للناس كان ثوابه على الناس و من عمل للّه كان ثوابه على اللّه إن كل رياء شرك..

و أما السمعة التي يستشرف إليها الكثيرون و يتطلعون بشوق و لهفة أن يسمعهم الناس و يسمعوا مناقبهم و أفعالهم و ما يقومون به.. فلا يتبرع الغني بدرهم إلا إذا أذيع الخبر في وسائل الإعلام و وصل النبأ إلى كل حي.. و لا يكفل يتيما إلا إذا عرف الناس

ص: 197


1- باب 12 من أبواب مقدمة العبادات حديث 602.

بذلك.. إنها السمعة بحب الشهرة بما يعمله للّه و هذا أيضا يعبر عنه بلسان الروايات أنه مشرك.

1 - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في قول اللّه عز و جل: «فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» قال الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه اللّه إنما يطلب به تزكية النفس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه و من كان يشرك في عبادة ربه أحدا غير اللّه أو كان يعمل للسمعة فلا أجر له و لا ثواب.. تذهب أعماله هباءا منثورا.. فلا أجر و لا ثواب و هل هناك أخسر صفقة من إنسان يصلي ثم لا يؤجر على صلاته أو لا تنفعه الصلاة...

1 - في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: يقول(1) اللّه عز و جل: أنا خير شريك فمن عمل لي و لغيري فهو لمن عمله لغيري..

2 - و في حديث آخر: أنا أغنى الأغنياء عن الشريك فمن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.

ثم سأل اللّه منازل الشهداء «و الشهداء أمراء أهل الجنة». و معايشة السعداء و هل هناك أعظم من أن يسعد الإنسان و يعيش مع السعداء.

و افقة الأنبياء و نعم الرفقاء.. يشفعون له.. و يأخذونه معهم إلى النعيم الدائم المقيم.

(أيها الناس إنه لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال - عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم و هم أعظم الناس حيطة من ورائه و المهم لشعثه و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به) دعوة إلى الأغنياء الذين يشدهم المال فينقطعون عن اقاربهم و يتكبرون عليهم و يترفعون عنهم.. إنها حقيقة يعيشها الإمام في بعض أشخاصها أيام حياته و نعيشها نحن في أيامنا.. نرى بعض الأغنياء يستغنون عن أهلهم و أقاربهم و يعتدون بأموالهم فحسب.. تسقط القرابة أمام شهوة المال و بريقه و يتصور الغني استغناءه عن أهله و اكتفاءه بماله.. و الإمام يردّ هذا الغني إلى حقيقة واضحة و هي أن المال يحتاج إلى رجال تحفظه و حفظه بعشيرة الرجل الغني.. هؤلاء الأقارب هم الذين يدفعون الأشرار عن أموال الغني و يدفعون عنه شخصيا اللصوص و المعتدين بأيديهم إن اقتضى الأمر و بألسنتهم إن كان مورده، إنهم يحفظونه و يرعونه و يجمعون شتاته معهم و بهم و قدت.

ص: 198


1- باب 12 من أبواب مقدمات العبادات.

يمتنع بعض الأشرار من الاعتداء عليه لانتسابه إلى هذه العشيرة القوية خوفا من سطوتها و ردة الفعل عندها إن هو اعتدى على هذا الرجل منها.. و ليس للرجل إلا أهله هم الذين يقومون به عند الشدائد و المصائب و المحن.

(و لسان الصدق يجعله اللّه للمرء في الناس خير له من المال يرثه غيره) ترغيب في الإنفاق و بذل المال و أن يسخى المرء بما عنده فإن ذلك سينتشر بين الناس و تتداوله الألسن و تذكره بكل مدح و تثني عليه بكل صفة حسنة سيذاع ذلك و ينتشر صيته و تتحدث الناس عنه و عن فضائله...

و ذلك خير من المال الذي يجمعه و يبخل به ليورثه أبناءه فإن الصيت الحسن الذي تتناقله الألسن و تتداوله الأجيال حياة للإنسان جديدة و عمر جديد و حاتم الطائي نموذج و عيّنة من هذا لا يزال ذكره يعيش بين الناس و تتناقل أخباره الكرام و كل من يتحدث بالكرم و العطاء..

(و منها: ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه و لا ينقصه إن أهلكه و من يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض منهم عنه أيد كثيرة و من تلن حاشيته يستدم من قومه المودة) نهى عليه السلام أن يبعد الإنسان عن قرابته من أصحاب الحاجة و لا يرفدهم بما يدفع حاجتهم و يسد خلتهم.. فإن هذا المال عارية بيده لا ينفعه جمعه و عدم إنفاقه لأنه فوق حاجته و ما كان فوق الحاجة لا ينفع الإنسان بشيء و لا ينقصه أن أنفقه لأنه غني عنه غير محتاج إليه.. فهو مستغني عنه لا ينفعه جمعه لأنه فوق الحاجة و لا يضره إنفاقه لأنه زائد.. ثم بيّن ترغيبا لأهل المال بالإنفاق و لكي يساعد الرجل أهله و عشيرته على الخيرات بأنه هذا الرجل الغني إذا امتنع عن العطاء و البذل فإنما يمنع يده و هي واحدة بينما عشيرته أيد كثيرة فإذا امتنعوا عن مد أيديهم إليه امتنعت عنه أيد كثيرة...

ثم بين جانبا مهما و أن لا يكون المال سببا في خشونة الرجل و علوه و تكبره و فظاظته و إن من كان حسن العشرة ليّن الجانب يكسب حب قومه له و عطفهم عليه و في ذلك ثمرات كبيرة و نتائج عظيمة..

ص: 199

24 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

و هي كلمة جامعة له، فيها تسويغ قتال المخالف، و الدعوة إلى طاعة اللّه، و الترقي فيها لضمان الفوز و لعمري ما عليّ من قتال من خالف الحقّ ، و خابط (1) الغيّ (2)، من إدهان (3) و لا إيهان (4). فاتّقوا اللّه عباد اللّه، و فرّوا (5) إلى اللّه من اللّه، و امضوا في الّذي نهجه (6) لكم، و قوموا بما عصبه (7) بكم، فعليّ ضامن (8) لفلجكم (9) آجلا (10)، إن لم تمنحوه (11) عاجلا (12).

اللغة

1 - خابط: من الخبط و هو المشي على غير استقامة.

2 - الغي: الجهل.

3 - الإدهان: المصانعة، و المداهنة، المنافقة.

4 - الإيهان: مصدر أوهنته أي أضعفته و الوهن الضعف.

5 - فروا: أهربوا.

6 - نهجه: أوضحه و بينه.

7 - عصبه: ربطه و أناطه به كالعصابة التي يشد بها الرأس.

8 - ضامن: كفيل.

9 - الفلج: الفوز، و الظفر.

10 - آجلا: الآجل ضد العاجل، المتأخر.

11 - منحه: أعطاه.

12 - عاجلا: متقدما، مسرعا و عجل في الأمر أسرع فيه.

ص: 200

الشرح

اشارة

(و لعمري ما عليّ من قتال من خالف الحق و خابط الغي من إدهان و لا إيهان).

علي و قتال المخالفين:

كثيرون هم الذين يريدون أن يحرفوا الإمام عن طبيعته و يجروه إلى حيث لا قناعة له، يريدون منه أن يعطي المتمردين على الحق و يمنيهم و يمنحهم و يغدق عليهم..

يوليهم المناصب و يعطيهم المال و يقربهم على حساب الدين و الأمة.. كانوا يجرونه إلى مخالفة اللّه و هو يأبى إلا أن يكون مع اللّه... ينظرون إلى المنافع العاجلة و هو ينظر إلى الآخرة.. إنه حسم الأمور حسما قاطعا و أخذ على نفسه عهدا أن يجدع أنف الشر و أن يقاتل بمن معه من عصاه من أجل اللّه و في سبيل اللّه..

و هو يقسم أنه ليس في قتال الضالين المنحرفين المخالفين للحق من مداهنة و لا ضعف فهو لن ينافق و يداري في قتالهم كما أنه لن يضعف و ينهار من حربهم و من كانت له القوة المعنوية المستندة إلى الحكم الشرعي و القوة المادية التي هي عدم الضعف و الانهيار كان قتاله لأهل الباطل مشروعا بل واجبا يفرضه الدين لردع المنحرفين و ردهم إلى اللّه..

(فاتقوا اللّه عباد اللّه) اتقوا معاصي اللّه فلا تخالفوا أوامره و قد يتصور الكثيرون أن التقوى تقتصر على إقامة الصلاة و الصيام و أداء الحج و إعطاء الحق الشرعي و غض النظر و كف اليد عن أخذ المال الحرام و لكن الحقيقة أن تقوى اللّه تمتد لتشمل مواقف الرجل من الأمور.. التقوى أن تساند الحق و تقف معه و تحارب الباطل و تخذله.. التقوى السياسية التي تحتم عليك أن تكون في صف المؤمنين و معهم و في عداء مع الكافرين و المنافقين.. التقوى أن تؤيد الحق و أهله بيدك و لسانك و تنفر من الباطل و أهله و تستنكره و تحاربه.. و قد جهل الإسلام رجال مروا في التاريخ يمكن أن يوصفوا بالأمة أنهم أتقياء و لكن تقواهم تبخرت و كانت تقوى فساد لأنهم لم يأخذوا أنفسهم بمواقف أهل الحق و يساندوهم و يدعموهم في مسيرتهم..

(وفروا إلى اللّه من اللّه) بأن يهرب الإنسان من معاصي اللّه إلى طاعته و من عذابه إلى رحمته و هذا يتحقق بترك المعصية و فعل الطاعة فإذا هو قد أصبح في كنف اللّه بعيدا عن عذابه و عقابه.. و ما أجمل هذا التعبير «فروا إلى اللّه من اللّه» تعبير يشي بكثير من المعاني

ص: 201

الرفيعة و إنه هو الملجأ و إليه المصير و هو مستقر الفرار..

(و امضوا في الذي نهجه لكم) سايروا و تابعوا الطريق الذي رسمه لكم و وضعه بين أيديكم.. إنه الإسلام الأصيل الذي يرفض الذل و الهوان و يرفض الخنوع و الاستسلام و يرفض الانحراف و الضلال.. طريق واضح وضعه النبي و أمرنا بالسير عليه..

(و قوموا بما عصبه بكم) أي بما أناطه بكم و كلفكم به فقد كلفنا بحمل المسئولية و أداء الأمانة.. كلفنا بحمل الإسلام و الدعوة له و الجهاد من أجل إعلاء كلمة اللّه.

كلفنا بجميع الواجبات و نهانا عن جميع المحرمات..

(فعلي ضامن لفلجكم آجلا إن لم تمنحوه عاجلا) تكفل الإمام لمن يسمع حديثه هذا و يعمل به أن يفوز بالآخرة و ما فيها إن لم يفز بالدنيا و ما فيها.. و قد يجمع اللّه له فوز الدنيا و الآخرة و أحرى بالإمام ضامنا و كفى به شاهدا و ناصرا...

ص: 202

25 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، و قدم عليه عاملاه على اليمن. و هما عبيد اللّه بن عباس و سعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أبي أرطاة، فقام عليه السلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد، و مخالفتهم له في الرأي، فقال:

ما هي إلاّ الكوفة، أقبضها (1) و أبسطها (2)، إن لم تكوني إلاّ أنت، تهبّ (3) أعاصيرك (4) فقبّحك اللّه!.

و تمثل بقول الشاعر:

لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّني *** على و ضر (5) - من ذا الإناء - قليل

ثم قال عليه السلام:

أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن (6)، و إنّي و اللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم (7) باجتماعهم على باطلهم، و تفرّقكم (8) عن حقّكم، و بمعصيتكم إمامكم في الحقّ ، و طاعتهم إمامهم في الباطل، و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم، و بصلاحهم في بلادهم و فسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب (9) لخشيت (10) أن يذهب بعلاقته (11). اللّهمّ إنّي قد مللتهم (12) و ملّوني، و سئمتهم (13) و سئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرّا منّي، اللّهمّ مث (14) قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما

ص: 203

و اللّه لوددت (15) أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم.

هنالك، لو دعوت، أتاك منهم *** فوارس (16) مثل أرمية الحميم

ثم نزل عليه السلام من المنبر قال السيد الشريف: أقول: الأرمية جمع رميّ و هو السحاب، و الحميم هاهنا: وقت الصيف، و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا، و أسرع خفوفا، لأنه لا ماء فيه، و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء، و ذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء، و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا، و الإغاثة إذا استغيثوا، و الدليل على ذلك قوله:

«هنا لك لو دعوت، أتاك منهم..»

اللغة

1 - أقبضها: قبض على الشيء بيده أمسكه و قبض الشيء خلاف بسطه و وسعه.

2 - أبسطها: بسط اليد مدها و بسط الثوب نشره.

3 - تهب: تهيج.

4 - الأعاصير: جمع أعصار و هي ريح تهب فتلتف على نفسها.

5 - الوضر: الدرن، بقية الدسم في الإناء و يستعار لكل بقية من شيء يقل الانتفاع بها.

6 - أطلع اليمن: ظهر عليها و غشيها.

7 - سيدالون منكم: تكون الدولة لهم بدلكم.

8 - التفرق: التشتت و عدم الاجتماع.

9 - القعب: القدح الضخم.

10 - خشيت: خفت.

11 - العلاقة: جمعها علائق ما تعلّق به القدر و نحوها.

12 - ملّ الشيء: سئمه و ضجر منه.

13 - سئم: ملّ .

14 - مث: أذب من ماث الملح أذابه.

15 - وددت: أحببت و تمنيت.

16 - فوارس: مفردها فارس راكب الفرس أو صاحبها.

ص: 204

الشرح

اشارة

بسر بن الأرطأة الإرهابي الفاتك:

بسر بن أرطأة هو عامل معاوية و خبير الفتك لديه فقد وجهه إلى اليمن و قد كتب أهلها إليه رسالة يدعونه إليهم و يطلبون بثأر الخليفة عثمان معه فسار بسر بجنده فأخذ طريق الحجاز و المدينة و مكة و قال له معاوية في وصيته له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم و إنك محيط بهم ثم أكفف عنهم و ادعهم إلى البيعة لي فمن أبى فاقتله و أقتل شيعة علي حيث كانوا..

توجه بسر إلى اليمن و لما قرب من المدينة كان عامل علي عليها أبو أيوب الأنصاري فخرج منها هاربا فدخل بسر و شتم أهلها و تهددهم و شتم الأنصار و تهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم ثم دعاهم إلى بيعة معاوية فبايعوه و أحرق دورا كثيرة فيها ثم ولى أبا هريرة عليها و أمرهم بطاعته و بعدها خرج إلى مكة و كان في الطريق يقتل من يمر به و يأخذ الأموال و لما بلغهم قدومه خافوا و هربوا فأخذ ولدين لعبيد اللّه بن العباس و ذبحهما بيديه و عند ما اقترب منها هرب قثم بن العباس عامل الإمام عليها فدخلها بسر فشتم أهلها و أنبهم و خرج بعد أن استعمل عليهم شيبة بن عثمان...

و أكمل بسر مسيره حتى أتى نجران و خرج منها حتى بلغ صنعاء و كان عليها من قبل الإمام عبيد اللّه بن العباس و اليا و سعيد بن نمران قائدا للجند فخافا الهزيمة فاستخلف عبيد اللّه مكانه عمر بن أراكة الثقفي فلما أراد بسر دخولها وقف له عمر و دارت معركة سقط فيها عمر شهيدا و دخل بسر صنعاء.

و وصل النبأ إلى الإمام فهزه ما أحدث بسر و ما جنى فندب أصحابه لتجهيز سرية تتعقب بسرا فتثاقلوا فقام إلى المنبر ضجرا مما يرى من أصحابه و مخالفتهم له في الرأي فخطب هذه الخطبة الشريفة..

(ما هي إلا الكوفة أقبضها و أبسطها إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك اللّه).

(و تمثل بقول الشاعر:

لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني *** على وضر من ذا الإناء قليل)

موقف قاس و شديد.. مرّ بل أمر من العلقم.. الأسى في القلب و اللوعة في

ص: 205

النفس.. ما أصعبه من موقف ذاك الذي يقفه الإنسان و يرى أمام عينيه حقه يسلب و عدوه يتنمر و مع ذلك يرى الناس تقف منه موقف المتردد و الشاك بل الخاذل و المعاند..

و أمير المؤمنين عاش في الكوفة يرى عصيان أهلها له و ترددهم و شكهم و تسويفهم و تأخرهم.. يحركهم فلا يتحركون.. يدفعهم بلسانه و بيانه فلا يسمعون.. يصيح بهم و يصرخ في وجوههم و لكن دون جدوى...

و هذه الصيحة منه واحدة من جملة الصيحات فيها تأنيب و تحقير و استصغار...

ما هي إلا الكوفة ليس لي غيرها و لا أملك سواها إنها تحت يدي أحركها كيف أشاء، إنها طوع يميني.. إنها لحقارتها كالدرهم في يد صاحبه و ما يفيده و إن كان تحت يده إن لا يقدر على سدّ خلته و قضاء حاجته و هكذا هي الكوفة لحقارتها يقول «ما هي إلا الكوفة و يعقبها بقوله: إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك اللّه» أي إن لم يكن لي من الملك و السلطان إلا الكوفة التي تحوي النفاق و العصيان و التمرد و الخلاف فلا كانت و أبعدها اللّه عني و زواها عن ملكي.

ثم استشهد ببيت من الشعر استصغارا لها و تحقيرا و إن الكوفة بالنسبة إلى بقية البلدان كبقايا الدسم الذي يتخلف في الإناء فلا يستفاد منه بل تشمئز منه النفس و تتقزز و هكذا الكوفة..

(انبئت بسرا قد اطلع اليمن و إني و اللّه لأظن أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم) أخذ في حثهم على الجهاد و دفعهم للاستنفار لعلهم يتحسسون فيتحركون و ينهضون فهو يخبرهم أن قد وصلت إليه الأنباء بأن بسر بن أرطأة قد استولى على اليمن و ملكها و أصبحت تحت يده و من هذا النبأ المفجع الدامي دخل في قراءة جديدة للأحداث و إن القضية لن تنتهي عند هذا الحد و تتوقف عند حدود اليمن بل إني أقسم باللّه صادقا لأظن و ظن الألمعي يقين فكيف بظن الولي أن هؤلاء معاوية و عصابته سيتولون الأمر بدلكم و ستنتقل الدولة منكم إليهم...

ثم أخذ في تعليل هذا الظن بقوله:

(باجتماعهم على باطلهم و تفرقكم عن حقكم و بمعصيتكم إمامكم في الحق و طاعتهم إمامهم في الباطل و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم و بصلاحهم في بلادهم و فسادكم فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته).

ص: 206

من سنن التاريخ:

و هذه سنن تاريخية جعلها اللّه لكل قوم و أمة ذكر الإمام منها أربعة يجب أن يتمتع بها أهل العراق فخالفوها و يجب أن يمتنع عنها أهل الشام ففعلوها، من كان حقه أن يقوم بها أهملها و من كان حقه أن يهملها فعلها.

الأولى: اجتمع أهل الشام على باطلهم فقد اتفقت كلمتهم على محاربة الحق و التقوا كلهم على هدف واحد قد جمعوا شملهم و وحدوا كلمتهم و انتفى الخلاف من بينهم و هؤلاء كان الواجب عليهم أن لا يجتمعوا على باطل.

و في مقابل اجتماع هؤلاء على باطلهم، تفرق أهل العراق عن حقهم، فإنهم تحت أمرة القيادة الشرعية و مع ذلك لم يجتمعوا و تتوحد كلمتهم...

الثانية: إن أهل العراق كانوا لا يسمعون كلام الإمام و لا يستجيبون له، كان يدفعهم لجهاد معاوية و حزبه فيتباطئون و يتأخرون بل يفرون و ينكصون، حتى قال قولته الشريفة لا رأى لمن لا يطاع و ود لو أن معاوية يصرفه صرف الدرهم بالدينار فيعطيه واحدا من أهل الشام و يأخذ عشرة منه..

هذا كله و الحق مع إمامهم و هو الخليفة الذي انعقدت له البيعة بإجماع المسلمين...

و أما أهل الشام فإنهم أطاعوا معاوية و لم يخالفوا أمره كان إذا وجههم إلى جهة استجابوا و إذا أمرهم بأمر امتثلوا.. رفع معاوية راية الثأر لعثمان فكلهم استجابوا له و حمّل الإمام دم عثمان فكلهم صدقوا و امتثلوا.. إنهم نظروا إلى معاوية أنه ولي أمرهم و القائم بشئونهم و إنه حلقة الوصل بينهم و بين الإسلام و قد رباهم معاوية على طاعته و التزام أمره و عدم الرد عليه و مواجهته بما يكره و لذا لم نسمع بحادثة واحدة تمرد فيها أهل الشام على معاوية مع إن مدة حكمه تجاوزت الأربعين سنة بين الإمارة و الخلافة..

الثالثة: إن أهل الشام أدوا الأمانة إلى صاحبهم حيث أخذ معاوية عليهم البيعة أن يقاتلوا عدوه و يثأر لعثمان و قد وفوا له بما عاهدوه عليه و صدقوا فيما أعطوا و قد كانوا يتفانون في الدفاع عنه.. و أما أهل العراق فإنهم بايعوا الإمام ثم منهم من نقض البيعة و كاتب معاوية كالأشعث بن قيس و منهم من بايع و لم يخرج للقتال و منهم من تردد و توقف.

الرابعة: صلاحهم في بلادهم فقد كان أهل الشام في أحسن حال و أمورهم منتظمة

ص: 207

هادئة يسمعون كلام معاوية و يطيعونه و مع الأمن و الهدوء تتم الصناعات و يفلح التجار و تروج السلع.

و هكذا عكس أهل العراق فقد كان الاضطراب يسود البلاد و تعم الفوضى و ينتشر حبل الفرقة و الاختلاف.. و هذه الأمور الأربعة مع القيام بها يكون النجاح و الفوز و الظفر و مع الإخلال بها يكون الوهن و السقوط و الهزيمة و قد وضع اللّه للنجاح و الفشل أسبابا فمن أخذ بعوامل النجاح نجح و من اختار الأخرى سقط.

ثم إن الإمام اشتد في ذمهم بما ضربه لهم بأنهم لو ائتمنهم على كأس و هو أمر زهيد لا يطمع فيه ذو مروءة و كرامة و صاحب همة و نفس عالية، لو ائتمنهم على ذلك لخانوه فيه و لم يسلموه له كما سلمهم إياه بل لا بد و أن يسلبوا منه شيئا و لو كانت عروته و المهم عندهم أن لا يسلموا الأمانة كما تسلموها.. و هذا رمي لهم بالخيانة و انه لم يسلم من خيانتهم له..

(اللهم إني قد مللتهم و ملوني و سئمتهم و سئموني فابدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا مني، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما و اللّه لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم.

هنالك لو دعوت أتاك منهم: فوارس مثل أرمية الحميم) كنت أقرأ هذه الكلمات فأتصور سيدي الإمام و هي تخرج من بين ثناياه و قد جرحت قلبه الكريم و أدمت عينيه الشريفتين.. كنت أحس أن عليا في أشد المعاناة و الألم و في أقسى ظروف حياته..

كنت أتصور أن معارك الإسلام في بدر و أحد و خيبر و الأحزاب و المناوشة بالسيوف و التعرض للموت أيسر بكثير مما يعانيه الإمام الآن و ما يعيشه من الظروف الصعبة القاسية...

و اللّه إنني أقرأها فتجرح قلبي و يشدني الأسى و الألم و أتذكر عليا و هي تخرج منه محملة بأشد ما يكون الأسى و المعاناة..

إنني أعرف عليا يتحمل ما لا تتحمله الجبال الرواسي فكيف خرجت هذه الكلمات منه و كيف تحمل إخراجها؟.. و كيف استطاعت الآذان أن تلتقطها ثم لا تستجيب لندائه أو تموت...

اللهم إني قد مللتهم لخيانتهم و تقاعسهم و عدم الاستجابة للحق... مللتهم لرفضهم الأوامر الشرعية و بعدهم عن امتثالها.. مللتهم لأنهم يريدون الدعة و السكون

ص: 208

و ينتظرون معاوية أن يغزوهم و يسيطر على بلادهم و يستعبد رقابهم.. مللتهم لرفضهم الحق و سكوتهم على الباطل...

«و ملوني» لأني أريدهم للّه و يريدوني لأنفسهم «ملوني» لأني أريدهم للجهاد و القتال و هم يريدون الدعة و السكون.

«ملوني» لأني أحملهم على مر الحق و هم يريدون الباطل و يطلبون الضلال.

«ملوني» لأني أريدهم قادة و حكاما و هم يريدون البقاء سوقة و عامة...

نعم مللتهم و ملوني.. و سئمتهم و سئموني و لم يعد أحدنا يطيق الآخر أو يصبر عليه و يستمع منه و بعد ذلك تضرع إلى اللّه أن يبدله بهم خيرا منهم ممن يسمعوا كلامه و يستجيبوا له.. أن يكونوا صالحين خيرين طيبين يرتاح إليهم و يعمل معهم...

كما دعا عليهم أن يبعث بدله قائدا أشر منه بنظرهم لأنهم يعتبرونه مصدر قلق لهم و إزعاج و هو يريد عزهم فإذا جاء الشرير حقيقة ذاقوا وبال أمرهم و عرفوا قصده.

ثم من لوعته و حرقة قلبه.. من المعاناة و الألم الممض.. من عذاب الروح يتوجه إلى اللّه و يدعو عليهم أن يذيب قلوبهم و يحللها كما يذوب الملح بالماء بأن يرسل عليهم من يمارس عليهم القهر و الظلم حتى يشعر أحدهم أن نفسه تتقطع و روحه تخرج و يعاني مرارة هذا التمرد ثم تمنى أن يكون له بدلهم ألف فارس من بني فراس بن غنم يستجيبون له إذا ناداهم و يلبون دعوته مسرعين و بني فراس بن غنم من كنانة حي مشهور بالشجاعة و الحمية و سرعة إجابة الداعي..

ترجمة بسر بن أرطأة:

قال صاحب الإصابة: بسر بن أرطأة أو ابن أبي أرطأة...

قال ابن حبان: من قال ابن أبي أرطأة فقد وهم و اسم أبي أرطأة عمير بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي العامري.

يكنى أبا عبد الرحمن مختلف في صحبته.

كان من شيعة معاوية و كان معاوية وجهه إلى اليمن و الحجاز في أول سنة أربعين و أمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ففعل ذلك و قد ولي البحر لمعاوية و وسوس في آخر أيامه.. و له أخبار شهيرة في الفتن.. قيل مات أيام معاوية و قيل أنه

ص: 209

بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان.. و قيل مات في خلافة الوليد سنة ست و ثمانين.. انتهى...

و في تاريخ ابن عساكر: كان بسر(1) من شيعة معاوية بن أبي سفيان و شهد معه صفين و كان معاوية وجهه إلى اليمن و الحجاز في أول سنة أربعين و أمره أن يستقرأ من كان في طاعة على فيوقع بهم ففعل بمكة و المدينة و اليمن أفعالا قبيحة و قد ولي البحر لمعاوية و قتل باليمن ابني عبيد اللّه بن العباس..

و دعا الإمام على بسر فقال: اللهم إن(2) بسرا باع دينه بالدنيا و انتهك محارمك و كانت طاعه مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك، اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله و لا توجب له رحمتك و لا ساعة من نهار، اللهم العن بسرا و عمرا و معاوية و ليحل عليهم غضبك و لتنزل بهم نقمتك و ليصيبهم بأسك و زجرك الذي لا ترده عن القوم المجرمين فلم يلبث بسر بعد ذلك إلا يسيرا حتى وسوس و ذهب عقله فكان يهذي بالسيف و يقول:

أعطوني سيفا أقتل به لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب و كانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات..6.

ص: 210


1- الغدير ج - 11 ص 21.
2- ابن أبي الحديد ج ص - 1 116.

26 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

و فيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له

العرب قبل البعثة

إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا (1) للعالمين، و أمينا (2) على التّنزيل (3)، و أنتم معشر العرب على شرّ دين، و في شرّ دار، منيخون (4) بين حجارة خشن (5)، و حيّات صمّ (6)، تشربون الكدر و تأكلون الجشب (8)، و تسفكون (9) دماءكم، و تقطعون أرحامكم (10). الأصنام فيكم منصوبة، و الآثام (11) بكم معصوبة (12).

و منها صفته قبل البيعة له

فنظرت فإذا ليس لي معين (13) إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، و أغضيت (15) على القذى (16)، و شربت على الشّجا (17)، و صبرت على أخذ الكظم (18)، و على أمرّ من طعم العلقم (19).

و منها: و لم يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا، فلا ظفرت (20) يد البائع، و خزيت (21) أمانة المبتاع (22)، فخذوا للحرب أهبتها، و أعدّوا لها عدّتّها، فقد شبّ لظاها، و علا سناها، و استشعروا الصّبر، فإنّه أدعى إلى النّصر.

ص: 211

اللغة

1 - النذير: فعيل بمعنى المنذر و هو المخوف، الرسول لأن إحدى مهماته ذلك.

2 - الأمين: جمعه أمناء، المأمون، الثقة، الذي لا يخون.

3 - التنزيل: القرآن، ما ينزل من علو شيئا فشيئا.

4 - منيخون: مقيمون من أناخ الناقة إذا أبركها.

5 - خشن: خلاف لان و نعم.

6 - حيات صم: الصم: أما الأرض الصلبة، أو من الصمم الذي هو عدم السمع.

7 - الكدر: نقيض الصفاء.

8 - الجشب: من الطعام الغليظ أو الذي بدون ادام.

9 - سفك الدم: صبه و سفك دمه إذا قتله.

10 - قطع الرحم: ضد وصله، عدم الإحسان إلى أقاربه بما يعد في العرف إحسانا.

11 - الآثام: الخطايا، فعل ما لا يحل.

12 - معصوبة: مشدودة.

13 - المعين: المساعد.

14 - ضننت: بخلت من الضن و هو البخل.

15 - أغضيت: على كذا أطبقت عليه جفني.

16 - القذى: ما يقع في العين و يوجب أذيتها.

17 - الشجا: ما يعترض في الحلق.

18 - الكظم: مجرى النفس.

19 - العلقم: شجر بالغ المرارة.

20 - ظفر: فاز، أدرك ما طلبه.

21 - خزيت: من الخزي و هو الذب و الإهانة.

22 - المبتاع: المشتري.

23 - الأهبة: الاستعداد.

24 - شب لظاها: أو قدت نارها و أثيرت أو ارتفع لهبها.

25 - علا سناها: ارتفع ضوؤها.

ص: 212

الشرح

اشارة

(إن اللّه بعث محمدا صلى اللّه عليه و آله و سلم نذيرا للعالمين و أمينا على التنزيل).

هذه الخطبة تستعرض ثلاثة أمور:

الأول: أمر الناس قبل بعثة الرسول و ما كانوا عليه من التخلف و الانحلال..

الثاني: حاله و أهل بيته بعد وفاة رسول اللّه.

الثالث: حالة عدوه المتمثلة بمعاوية و عمرو بن العاص و كيف تمت الصفقة بينهما و الاتفاق على قتاله...

أما الأول فقد استهله بذكر بعثة رسول اللّه و ذكر إحدى غايات البعثة و هي كونه صلوات اللّه عليه نذيرا للعالمين يخوفهم عذاب اللّه و يحذرهم عقابه و ذكر هذه الصفة لما في غريزة الإنسان من دفع الضرر و رفعه عن نفسه باعتبار أنه أولى من جلب المنفعة فكثيرون من الناس قد لا يريدون النفع و لكنهم لا يقبلون الخسارة و قد يرضون بعدم النصر و لكنهم لا يقبلون الهزيمة و هكذا و هذه الصفة لرسول اللّه قد ذكرها القرآن و وصفه بها قال تعالى:(1)«إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لاٰ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحٰابِ اَلْجَحِيمِ » .

كما إنه عليه السلام وصف النبي بالأمانة على ما أنزله اللّه من وحي بحيث أدى إلى العباد ما حمله اللّه دون زيادة أو نقيصة.

(و أنتم معشر العرب على شر دين) وصف العرب بما كانوا عليه من بؤس و تعاسة ابتداء بعقيدتهم الدينية حيث أسفوا فيها حتى عبدوا الأحجار و قدسوا الأباطيل و تقربوا بما يتنافى و الالتفات إلى اللّه.. هبطوا في عقيدتهم إلى عبادة الأصنام و الأوثان.. يصنعون من التمر إلها يعبدونه حتى إذا جاعوا أكلوه.. يستحسنون الحجر فيتوجهون إليه بالعبادة حتى إذا وجدوا أحسن منه نبذوه و اتخذوا غيره و هكذا... و هل هناك شر و أفسد من عقيدة يختلقها الإنسان لنفسه متى شاء و يستبدلها بغيرها متى شاء بل قد يمسخها و يبطلها متى يشاء؟!.. و لو أردنا أن نستعرض عقيدة العرب و ما كانوا عليه لرأينا العجب العجاب كيف انحدروا إلى هذا المستوى المنخفض.. ثم استعرض بعض أوصافهم القبيحة فذكر أنهم:

(و في شر دار) قال الشراح أنه أراد بها نجد أو تهامة و الحجاز و بين شرها بذكر هذه الأوصاف.

ص: 213


1- سورة البقرة، آية 119.

(منيخون بين حجارة خشن و حيات صم) فمن سوء اختيارهم أنهم اختاروا الإقامة و الاستقرار في بلاد ذات أحجار خشنة و حيات صماء لا تسمع و هي شر الحيات و أقواها أذى و ضررا هذا إذا أردنا أن نحمل الكلام على ظاهره و قد يراد به المجاز و إن الأعداء من حولهم في خشونة كالحجارة و في أذية كالحيات الصم الشديدة الإيذاء..

(تشربون الكدر و تأكلون الجشب) يشربون الماء الملوث غير الصافي الذي تجمع في غدران و آبار قد سفت عليه الريح بأوساخها و أما أكلهم فقد كان جراد يلتقطونه و دواب يصطادونها من ضب و دب و ثعلب و أرنب و أين هذا من موائد غيرهم و طعامهم.. و عابهم بهذا باعتبار ما للغذاء من أثر في نفسية الإنسان و نموه و مزاجه..

(و تسفكون دماءكم) فقد كانت الغارات تشن منهم على بعضهم و كانت حروبهم على أتفه الأمور و أحقرها كحرب البسوس و حرب داحس و الغبراء و غيرهما من المعارك التي أثارتها أتفه الأسباب و أقلها شأنا..

(و تقطعون أرحامكم) فإن هذه الحروب كانت تقطع و شائج القربى و تفصل القريب عن قريبه فقرابة النساء معدومة لا توصل..

(الأصنام فيكم منصوبة و الآثام بكم معصوبة) فقد كانت كل قبيلة تتخذ صنما لها تعبده من دون اللّه و قد تعرض لها المؤرخون الذين كتبوا في حياة العرب و دياناتهم و عددوا الأصنام و اسماءها و اسم كل صنم و لمن كان...

و أما الآثام فقد كانت محيطة بهم دائرة حولهم لا ينفكون عنها و لا يتركون ممارستها فمن لا يعرف اللّه ينحرف عن عبادته و يأخذ في ممارسة الرذائل و المعاصي و يرتكب الفواحش...

ثم إن هذا الذي عدده من الرذائل و الأمور السلبية يقابلها النعمة العظمى ببعثة رسول اللّه و كيف أن اللّه قد أبدل سوء حالهم بأحسن حال فمن جهة العقيدة قد عادت إليهم عقولهم ورد إليهم رشدهم فاهتدوا إلى اللّه و عبدوه و بتدلت الأحوال الاجتماعية فصفى الود و وصلة الرحم و نبذت الأصنام و هجرت الآثام و حفظت الدماء و عاشوا خير عيشة و أرغد حياة..

(فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت) يشرح الإمام حالة بعد وفاة رسول اللّه و ما حلّ به و بأهله.. إنه نظر إلى ما وقع من أمر الخلافة حيث تمت لأبي بكر في غياب الإمام و بني هاشم فرأى أن القيام في وجه الحالة القائمة يكلفه

ص: 214

التضحية بأهل بيته دون أن يحقق المطلوب أو يدرك الغاية التي من أجلها يقوم فحفظهم و لم يغامر بهم و يعرضهم طعمة للموت دون ثمرة..

(و أغضيت على القذى و شربت على الشجى) أي تحملت ما لا يتحمل و صبرت على ما لا يصبر عليه.. أغمضت عيني على الألم الذي نالني من انحراف المجتمعين عني و توليتهم لأبي بكر و شربت على الشجى ففي حين أن الشجي الذي علق شيء في حلقه يصعب أن يشرب و الحال كذلك لكن أنا برغم أنهم سلبوا حقي صبرت و احتسبت..

(و صبرت على أخذ الكظم و على أمر من طعم العلقم) أخذوا عليّ جميع المسالك و ضيقوا جميع الجوانب و لم يتركوا لي منفذا أستطيع أن أخرج منه للدفاع عن حقي فقد عقدوا البيعة و تمموا الصفقة و أغروا بعض الناس و أرعبوا آخرين و هدّدوا فئة ثالثة و هكذا لم يبق إلا الإمام و بنو هاشم و بعض خواصهم و ذكر أنه صبر على أمر من طعم العلقم فإن العلقم لا يصبر عليه أحد و قد صبر الإمام على ما هو أمر منه...

و في هذا الكلام الشريف احتجاج واضح على رفض البيعة و إنه عليه السلام لم يعط بيده طوعا بل كان يطلب مناهضتهم و جهادهم لو كان يملك الأعوان و الأنصار و يقدر على إعادة الحق و إزهاق الباطل و لكنّ قلة الناصر و فقد المعين جعله يصر و يحتسب و عند اللّه الحساب و لا يمكن الخروج عن هذا الظهور في الكلام إلا بقرينة أو تصريح يخالفه و هو مفقود.

(و لم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا فلا ظفرت يد البايع و خزيت أمانة المبتاع).

صفقة التجار بين معاوية و عمرو بن العاص:

يشير الإمام هنا إلى ما جرى بين معاوية و عمرو بن العاص و ما اتفقا عليه من قسمة المغانم بينهما إن انتصر معاوية على علي و استطاع بسط سلطانه على بلاد الإسلام...

و إن هذه الصفقة بينهما قد تناقلتها الأخبار و رواها المؤرخون و وصلت انباؤها إلى القاصي و الداني و عرفها القريب و البعيد و لم تغب معالمها حتى عن ربات الحجال و الأطفال.. و أضحت كل شركة ضلالة و لقاء كفر و اجتماع باطل منها يؤخذ و على منوالها ينسج.. معاوية و عمرو شريكان على قتال الحق و رفيقان في درب الباطل و لا أتصور نفعيا في العالم و انتهازيا باع دينه و ضميره بمستوى عمرو بن العاص.. باع عمرو

ص: 215

دينه و شرفه و كرامته و إنسانيته إن كان فيه شيء منها - بدنيا حقيرة قليلة عفنة باطلة...

صورة من الضرورة أن نذكرها بإيجاز لتبقى شاهدا على مظلومية الحق الذي جسده الإمام و اجتمع ضده معاوية و عمرو في صفقة من الرذالة يبقى عارها عليهما مدى الدهر...

أشار عتبة بن أبي سفيان على أخيه معاوية أن يستعين بعمرو بن العاص فكتب له يستدعيه و يعلمه أن عليا أرسل إليه جريرا بن عبد اللّه البجلي لأخذ البيعة منه و قد حبس نفسه عليه فقدم عمرو على معاوية و عند دخوله عليه قال له يا أبا عبد اللّه: إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى اللّه و شق عصا المسلمين و قتل الخليفة و أظهر الفتنة و فرّق الجماعة و قطع الرحم فقال عمرو: من هو؟.

قال: علي..

قال: و اللّه يا معاوية ما أنت و علي حملى بعير ليس لك هجرته و لا سابقته و لا صحبته و لا جهاده و لا فقهه و لا علمه و واللّه إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد غيره و لكني قد تعودت من اللّه تعالى إحسانا و بلاء جميلا فما تجعل لي أن شايعتك على حربه و أنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر.

قال: حكمك.

قال: مصر طعمة، فتلكأ عليه معاوية ثم قال له معاوية: يا أبا عبد اللّه إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك إنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا.

قال عمرو: دعني عنك.

قال معاوية: إني لو شئت أن أمنّيك و أخدعك لفعلت.

قال عمرو: لا لعمر اللّه ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك.

قال معاوية: أدن مني أسارك فدنا منه عمرو ليساره فعض معاوية أذنه و قال: هذه خدعة هل ترى في البيت أحد؟ ليس غيري و غيرك.

ثم قال معاوية لعمرو: يا أبا عبد اللّه أما تعلم إن مصر مثل العراق ؟.

قال: بلى و لكنها إنما تكون لي إذا كانت لك و إنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق.

و سمع المحاورة عتبة بن أبي سفيان فقال لمعاوية:

ص: 216

أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام.

فقال معاوية لعتبة بت عندنا الليلة فلما بات عنده أنشد شعرا يحث معاوية على اشتراء عمرو بما قال.. و سمع معاوية قول عتبة فأرسل إلى عمرو فأعطاه مصر.

فقال عمرو: لي اللّه عليك بذلك شاهد.

قال: نعم، لك اللّه عليّ بذلك إن فتح اللّه علينا الكوفة.

فقال عمرو: و اللّه على ما نقول وكيل.

فخرج عمرو من عنده فقال له إبناه: ما صنعت ؟.

قال: أعطانا مصر طعمة.

قالا: و ما مصر في ملك العرب.

قال: لا أشبع اللّه بطونكما إن لم تشبعكما مصر.

و كتب له معاوية بمصر كتابه و كتب على ألا ينقض شرط طاعته فكتب عمرو..

على ألا تنقض طاعة شرطا فكايد كل واحد منهما صاحبه.

و سمع مروان فغضب و قال ما بالي لا أشترى كما اشتري عمرو.

فقال معاوية: إنما يشترى الرجال لك.

و الإمام يشير في كلامه هذا الذي نحن بصدده إلى هذه الصفقة التي تمت على حساب الإسلام و المسلمين و الحق و الدين فإن عمرا لم يبايع معاوية و يشايعه و يتابعه حتى شرط عليه أن يؤتيه مصر ثمنا للبيعة و أجرا لمتابعته في حرب الحق.

ثم دعا عليهما معا بأن يخسر البايع و هو معاوية و قد خسر الدنيا فلا تسمع له ذكرا الآن إلا بكل سوء و خزي و أما في الآخرة فله عذاب أليم.

و دعا على عمرو أيضا بالخزي لما أؤتمن عليه فخانه و هو عهد اللّه و ميثاقه و الالتزام بالإيمان و مقتضياته.. و أي خزي حاق بعمرو و قد أصبحت صفقته عنوانا لكل من باع دينه بدنيا زهيدة لا قيمة لها...

(فخذوا للحرب أهبتها و أعدوا لها عدتها فقد شب لظاها و علا سناها و استشعروا الصبر فإنه أدعى إلى النصر) بعد أن رأى أعلام الحرب قد رفعت و طبولها قد قرعت أمرهم أن يتأهبوا لها و يعدوا لها عدتها و ما تحتاجه من أمور معنوية أو مادية.. لقد ارتفعت حرارتها و اقتربت ساعتها بحيث انكشف للناظرين وقوعها فاتخذوا الصبر في قلوبكم و عيشوا حقيقته فإنه أجدر بالنصر و من صبر ظفر..

ص: 217

27 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

و قد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا. و فيها يذكر فضل الجهاد، و يستنهض الناس، و يذكر علمه بالحرب، و يلقي عليهم التبعة لعدم طاعته

فضل الجهاد

أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه اللّه لخاصّة (1) أوليائه، و هو لباس التّقوى، و درع (2) اللّه الحصينة (3)، و جنّته (4) الوثيقة.

فمن تركه رغبة عنه (5) ألبسه اللّه ثوب الذّلّ (6)، و شمله (7) البلاء (8)، و ديّث (9) بالصّغار (10) و القماءة (11)، و ضرب على قلبه بالإسهاب (12)، و أديل (13) الحقّ منه بتضييع (14) الجهاد، و سيم (15) الخسف (16)، و منع النّصف (17).

استنهاض الناس

ألا و إنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا، و سرّا و إعلانا، و قلت لكم: أغزوهم (18) قبل أن يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم (19) إلاّ ذلّوا. فتواكلتم (20) و تخاذلتم (21) حتّى شنّت (22) عليكم الغارات (23)، و ملكت عليكم الأوطان. و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار (24)، و قد قتل حسّان بن حسّان البكريّ ، و أزال خيلكم عن

ص: 218

مسالحها (25)، و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، و الأخرى المعاهدة (26)، فينتزع (27) حجلها (28) و قلبها (29) و قلائدها (30) و رعثها (31)، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع (32) و الاسترحام (33). ثمّ انصرفوا وافرين (34) ما نال رجلا منهم كلم (35)، و لا أريق لهم دم (36)؛ فلو أنّ امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما (38)، بل كان به عندي جديرا؛ فيا عجبا! عجبا - و اللّه - يميت القلب و يجلب الهمّ (39) من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم! فقبحا لكم و ترحا (40)، حين صرتم غرضا (41) يرمى: يغار عليكم (42) و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون! فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الحرّ قلتم: هذه حمارّة القيظ (43)، أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ، و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم:

هذه صبارّة القرّ (45)، أمهلنا (46) ينسلخ (47) عنّا البرد، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ، فإذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون؛ فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ!.

البرم بالناس

يا أشباه الرّجال و لا رجال! حلوم (48) الأطفال، و عقول ربّات الحجال (49)، لوددت (50) أنّي لم أركم و لم أعرفكم معرفة - و اللّه - جرّت (51) ندما، و أعقبت سدما (52). قاتلكم اللّه! لقد ملأتم قلبي قيحا (53)، و شحنتم (54) صدري غيظا (55)، و جرّعتموني (56) نغب (57) التّهمام (58) أنفاسا، و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان (59) و الخذلان (60)؛ حتّى لقد قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، و لكن لا علم له بالحرب.

للّه أبوهم! و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا (61)، و أقدم فيها مقاما منّي!

ص: 219

لقد نهضت (62) فيها و ما بلغت العشرين، و هأنذا قد ذرّفت (63) على السّتّين! و لكن لا رأي لمن لا يطاع!

اللغة

1 - الخاصة: جمعها خواص ضد العامة، المقربون و الذين تخصهم بنفسك.

2 - الدرع: مؤنث سماعي.

3 - الحصينة: المنيعة.

4 - الجنة: بالضم كل ما اشترت به و وقى.

5 - رغب عنه: زهدا فيه، و أعرض عنه و رغب فيه أراده و أحبه.

6 - الذل: الهوان.

7 - شمله: لفه و غطاه.

8 - البلاء: الغمّ .

9 - ديث: ذلّل.

10 - الصغار: الذل و الضيم.

11 - القماءة: الذل و الصغار.

12 - الإسهاب: ذهاب العقل، أو كثرة الكلام.

13 - أديل: من الإدالة و هي الغلبة.

14 - تضييع: من ضيّع الشيء إذا أهمله - أو أهلكه و فقده.

15 - سيم: من سامه خسفا أي كلفه و أولاه.

16 - الخسف: الذل و المشقة.

17 - النصف: الانصاف و العدل.

18 - الغزو: قصد الآخرين بالحرب و سلب الأموال.

19 - عقر الدار: وسطها و أصلها.

20 - فتواكلتم: يكل كل واحد منكم الأمر إلى صاحبه.

21 - تخاذلتم: خذل بعضكم بعضا و الخذل هو ترك النصرة و الإعانة.

22 - شنت: من شن الماء إذا صبه متفرقا و شن عليهم الغارة إذا وجهها نحوهم من كل جهة.

23 - الغارات: مفردها غارة، النهب، الخيل المسرعة المغيرة، هجوم الخيل من كل جهة .

ص: 220

24 - الأنبار: بلد في العراق على الجانب الشرقي من الفرات.

25 - مسالحها: المسالح جمع مسلحة الثغر و الحدود.

26 - المعاهدة: الذمية.

27 - ينتزع: من نزع بمعنى اقتلع.

28 - الحجل: الخلخال.

29 - و قلبها: جمع قلب، السوار.

30 - قلائدها: مفردها قلادة ما جعل في العنق من الحلي.

31 - رعثها: بضم الراء و العين جمع رعاث القرط.

32 - الاسترجاع: قول إنا للّه و إنا إليه راجعون.

33 - و الاسترحام: طلب الرحمة أو مناشدته بالرحم.

34 - وافرين: الوافر التام.

35 - الكلم: الجرح.

36 - أريق الدم: صبّه و سفكه و قولهم أراق دمه كناية عن أنه قتله.

37 - الأسف: التحسر.

38 - الملوم: من اللوم و هو العذل، و هو المواجهة بكلام لإتيانه بما لا يناسبه..

39 - الهّم: جمع هموم، الحزن.

40 - الترح: ضد الفرح، الحزن.

41 - الغرض: الهدف.

42 - يغار عليكم: تغزون، تشن عليكم الغارة.

43 - حمارة الغيظ: شدة حره.

44 - يسبّخ عنا الحر: يخفف عنا الحر.

45 - صبارة القر: شدّة البرد و القر بضم القاف البرد.

46 - أمهلنا: اصطبر علينا، انتظرنا.

47 - ينسلخ: يذهب، و ينكشف و سلخ الخروف إذا كشط جلده.

48 - الحلوم: مفرده حلم، ضد الطيش، العقل...

49 - ربات الحجال: النساء و الحجال جمع حجلة بيت يزين بالستور و الثياب و الأسّرة.

50 - وددت: تمنيت، و أحببت.

51 - جرّت: من جر الشيء إذا جذبه.

52 - السدم: الحزن.

53 - القيح: الصديد الذي يكون في القرحة.

54 - شحنتم: ملأتم و الشحناء، العداوة.

ص: 221

55 - الغيظ: الغضب أو شدته.

56 - جرعتموني: من جرع بمعنى ابتلع و جرّعه الماء أبلعه إياه جرعة بعد جرعة.

57 - النغب: الجرعة.

58 - التهمام: الهم.

59 - العصيان: ترك الطاعة و عدم الانقياد.

60 - الخذلان: عدم النصرة.

61 - المراس: الممارسة.

62 - نهضت: من نهض بالأمر إذا قام به.

63 - ذرّفت: زدت.

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة أوليائه و هو لباس التقوى و درع اللّه الحصينة و جنته الوثيقة) هذه الخطبة الشريفة كانت بعد الانصراف من واقعة صفين و قد بعث معاوية بجنده و رجاله يغزون أطراف البلاد الخاضعة لسلطة الإمام و يرهبونهم و قد وجه من جملة من وجه سفيان بن عوف الغامدي و معه ستة آلاف مقاتل و أمره أن يلزم جانب الفرات و يمر على هيت و الأنبار و يتوغل إلى المدائن و أعلمه أن غارته هذه كغارته على الكوفة و قال له: يا سفيان إن هذه الغارات على أهل العراق ترعب قلوبهم و تفرح كل من له فينا هوى منهم، و أخرب كل ما مررت به من القرى و أحرب الأموال، فإن حرب الأموال شبيه بالقتل و هو أوجع للقلب..

و خرج سفيان و نفذ ما أمره به أستاذه معاوية فأغار على هيت فلم يجد فيها أحدا لأن أهلها عرفوا بغارته عليهم فتركوها و هربوا..

ثم أكمل سيره إلى الأنبار و كان عليها من قبل الإمام أشرس بن حسان البكري و قد عرف بقدومهم فعبأ أصحابه و كانوا فيما يقرب الخمسمائة و عرف الأشرس و أصحابه أنهم لا طاقة لهم بهم و لكنه أراد الجهاد و المواجهة فقرر الأشرس و نصف أصحابه قتالهم فخرج إليهم و هو يقرأ: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ثم قال لأصحابه: من كان لا يريد لقاء اللّه و لا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب و من أراد ما عند اللّه فما عند اللّه خير للأبرار ثم نزل في ثلاثين رجلا و قاتلوا حتى قتلوا و هرب الباقون...

ص: 222

و بعد هذا الحدث قدم علج من أهل الأنبار على الإمام فأخبره الخبر فصعد المنبر و قال:

إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار و هو معتز لا يخاف ما كان و اختار ما عند اللّه على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا. ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم فلم ينبس أحد منهم بكلمة.

فلما رأى صمتهم نزل و خرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة و الناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا: إرجع يا أمير المؤمنين و نحن نكفيك فقال: ما تكفونني و لا تكفون أنفسكم فلم يزالوا به حتى رجع..

ثم وجه سعيد بن قيس في ثمانية آلاف وراء سفيان بن عوف الغامدي و بقي الإمام في حزن حتى عاد سعيد و كان الإمام في مرض فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد و معه الحسن و الحسين و عبد اللّه بن جعفر و دعا سعدا مولاه فدفع إليه كتابا يقرأه على الناس، فكان هذه الخطبة.. و هذه الخطبة روعة في البيان.. سلسة على اللسان.. عذبة الألفاظ، فيها لذة و نخوة و اندفاع حتى إنها انتخبت في الأدب العربي لتدريس الطلاب لجمالها و قوة بيانها...

و ذكر الإمام إن الجهاد باب من أبواب الجنة ترغيبا للناس و بيانا للحقيقة و إذا كان من أبواب الجنة فعلى الراغبين فيها أن يدخلوا منه و أن يلجوا إليها عن هذا الطريق...

الجهاد باب من أبواب الجنة و لكنه لم يفتح لكل الناس و لن يفتح إلا لفئة واحدة.. إنها فئة المجاهدين.. فئة المناضلين و المدافعين عن شرف الإسلام و عزته و رفعته و سمو منزلته... باب مغلق في وجه الناس و يفتحه المجاهد بدمه و جراحه..

بسيفه و رمحه و سنانه.. بالكلمة المحقة في وجه الباطل الذي يعربد و ينتفخ.. الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة أوليائه.. لأناس اختصوا باللّه و باعوا أنفسهم منه فكان اللّه لهم.. إنهم خواص اللّه و أحباؤه الذين نظروا إليه فعشقوا المسير نحو كرامته...

ثم وصف الجهاد بأنه لباس التقوى فمن كان تقيا كان مجاهدا. و من كان مع اللّه كان مجاهدا.. و هنا يظهر زيف المقولة التي رسمها لنا الاستعمار و تقبلها بعض البسطاء من أبناء الأمة.. المقولة التي تقول إن القتال يتنافى مع التقوى و لا يجتمع معها..

فليسمع البسطاء كيف يرد الإمام على أصحاب هذه المقولة و كيف يعري أقوالهم عن

ص: 223

الصحة و ينسب الجهاد إلى التقوى و يجعله لباسا لها...

ثم يصفه بأنه درع اللّه الحصينة.. الجهاد هي الدرع الواقي من الخطيئة.. التي تحصّن الإنسان من الوقوع في الحرام و تحصنه بعقيدته فيبقى مؤمنا تقيا عزيزا كريما...

الجهاد يحصّن الأمة من الوقوع بين براثن الأعداء، و يجعل لأبنائها العزة و الكبرياء بجعل الإسلام عزيزا و أبناءه أعزاء أقوياء...

كما وصفه بأنه جنة اللّه الوثيقة فبه تحفظ النفوس و الكرامات و الأرض و الأموال..

به تحكم الأمور و توثق فلا تزال الأمة ترهب و تتقى و في حفظ و مهابة طالما بقي الجهاد قائما، و إن شواهد التاريخ حاضرة فعند ما كان الجهاد شعار هذه الأمة كان النصر حليفها و العز لا يفارقها و الفتوحات أمامها و لكنها عند ما تركت الجهاد أصيبت بالهوان و الذل و تسلطت عليها أضعف الأمم و أحقرها و هانت حتى ذلت و لم يعد لها في حساب الأمم حساب و لم يبق لها دور يذكر..

جولة سريعة في الجهاد:

الجهاد في الإسلام «هو القتال من أجل إعلاء كلمة اللّه» بهذا التعريف يمكن أن نحدد مفهوم الجهاد و أبعاده و خلفياته و ما يراد منه.. و هو من أهم الواجبات التي حضّ الشارع عليها.. إنه القتال من أجل اللّه و من أجل عباد اللّه.. من أجل أن ترتفع كلمة اللّه عالية في الأرض، من أجل أن يتحرر الإنسان من ظلم أخيه الإنسان و اضطهاده..

الجهاد في الكتاب:

شرّع اللّه الجهاد في كتابه و ذكره في آيات عديدة و حض عليه المؤمنين و دفعهم نحوه...

قال تعالى:(1)

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتٰالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ » .

و قال تعالى:(2)«وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لاٰ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ » .

ص: 224


1- سورة البقرة، آية - 216-190.
2- سورة البقرة، آية - 216-190.

و قال تعالى(1): «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جٰاهِدِ اَلْكُفّٰارَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ» .

و هذه عينات من آيات كثيرة...

الجهاد في السنة:

لا نريد أن نذكر كل ما جاء في هذا و ما فصّله رسول اللّه و الأئمة و لكن أيضا هذه عينات من تلك النفحات الكريمة...

1 - قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : فوق كل ذي بر بر حتى يقتل في سبيل اللّه فإذا قتل في سبيل اللّه فليس فوقه بر.

2 - قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : الخير كله في السيف و تحت السيف و في ظل السيف.

3 - قال الصادق عليه السلام: قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : للجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح و هم متقلدون بسيوفهم و الجمع في الموقف و الملائكة ترحب بهم قال: فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلا و فقرا في معيشته و محقا في دينه، إن اللّه أغنى (أعز) أمتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها..

غاية الجهاد:

الجهاد في الإسلام لا يعني بوجه من الوجوه السيطرة على الناس و استعبادهم، بل هو من أجل دحر الطواغيت المتسلطين على رقاب الناس الذين يفرضون سلطانهم عليهم و يمارسون الظلم و القهر، و لذا عند ما يتحرر الإنسان و ينطق بكلمة الإسلام يصبح في عداد المسلمين له ما لهم و عليه و ما عليهم و لا يجوز التعدي عليه بأي شكل بل يحفظ دمه و ماله و عرضه...

و ليس القتال من أجل المال و الغنيمة فإن المسلم المجاهد أبعد ما يكون عن هذا المتاع الحقير.

و ليس القتال من أجل أمر من أمور الدنيا و رسول اللّه في جواب الأعرابي الذي سأله: الرجل يقاتل للغنيمة و الرجل يقاتل للذكر و الرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل

ص: 225


1- سورة التوبة، آية - 73.

اللّه ؟ فيقول النبي مجيبا: من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه...

إذن القتال من أجل اللّه و من أجل الإسلام هو الهدف الأعلى للمجاهد المسلم.

الجهاد على أقسام:

اشارة

1 - جهاد المشركين ابتداء لدعوتهم إلى الإسلام المعبر عنه «الجهاد الابتدائي».

2 - جهاد من يريد غزو المسلمين و قتالهم و سلب مالهم و الاستيلاء على أرضهم و هو المعبر عنه (بالدفاع).

3 - جهاد من يريد قتل نفس محترمة.

4 - جهاد البغاة على الإمام و هم الخارجون عن سلطان الإمام العادل.

جهاد المشركين ابتداء:

يجب نشر الإسلام و إيصاله إلى كل الناس بحيث لا يبقى فرد إلا و الدعوة الإسلامية قد وصلته و بما أن الطواغيت يبسطون سلطانهم على الضعفاء فلا يمكن أن يتم إيصال الدعوة إليهم إلا بدحر الطواغيت و إزالة عروشهم الظالمة و من هنا يدفع الإسلام بالمسلمين إلى أن يحطموا الأسوار المضروبة على الإنسان المستضعف بإزالة الحكم الكافر الذي يقف سدا بين الدعوة و بينه و يتعين على المسلمين أن يشنوا الحرب لإزالة هذا الحكم الكافر و لكن قبل البدء يجب أن يتوجه الدعاة إلى إيضاح الإسلام و بيان و شرح أحكامه و خصوصياته فإذا رفضت الحكومة الظالمة أن تذعن لحكم اللّه و إرادته عندها تشن الحرب عليها..

و هذه الحرب هدفها الأول و الأخير أن تجعل الناس مسلمين يدينون للّه في كل أمر و نهي و يجب تنفيذها متى رأى الإمام المصلحة في شنها عليهم بدون تحديد لعددها و كم مرة يجب أن تشن في السنة.

و يشترط لإقامة الجهاد الابتدائي أمور:

1 - أن يكون الإمام موجودا أو نائبه الخاص و هو المنصوب للجهاد و بعض الفقهاء لا يشترط وجود الإمام بل يكتفي برأي الفقيه في غياب حضرته الشريفة.

2 - احتمال النصر في المعركة.

3 - أن يسبق المعركة تعريف الإسلام للأعداء حتى إذا رفضوه قامت الحجة عليهم و جاز قتالهم.

ص: 226

و يجب هذا الجهاد على عامة المكلفين وجوبا كفائيا فتوفر الأمة من يقوم بهذه الفريضة و إذا توانت أو تأخرت عصت و أثمت.

شروط المجاهد:

يجب أن تجتمع في المجاهد شروط عدة فإذا تمت فيه وجب عليه أن ينضم إلى جهاد الفتح - الجهاد الابتدائي - و هذه الشروط هي:

1 - البلوغ.

2 - العقل.

3 - الحرية فلا يجب على العبد.

4 - البصر فلا يجب على الأعمى.

5 - السلامة من المرض.

6 - عدم العرج البالغ حد الإقعاد.

7 - عدم الفقر فلو كان فقيرا لا يملك نفقته و نفقة عياله فلا يجب.

8 - الرجولة فلا جهاد على المرأة.

الجهاد الدفاعي:

و هو فيما لو هدّد الكفار بلاد المسلمين و خيف من أن يكون هجومهم موجبا لمحق الدين و إذلال المسلمين ففي مثل ذلك تسقط جميع الشروط فيجب عندها على كل قادر أن يدفع عن بلاد المسلمين، الصغير و الكبير، الذكر و الأنثى البالغ و غير البالغ، الأعمى و البصير، العبد و الحر..

الدفاع عن النفس:

إذا هددك أحد بالقتل و أراد أن ينفذ ذلك وجب عليك أن تدفعه عن نفسك و إن أدى إلى قتله..

جهاد البغاة:

و هم الخارجون على حكم الإمام الذين يريدون أن يزرعوا الرعب في قلوب المسلمين و هؤلاء يجب قتالهم حتى يعودوا إلى طاعة الإمام و من هذا القبيل كان قتال الإمام علي لأهل الجمل و صفين...

ص: 227

(فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذل و شمله البلاء) بعد أن وصف الجهاد بالصفات الإيجابية ذكر الصفات السلبية و التبعات التي تلحق من يتخلف عنه و يزهد فيه و في هذا الكلام ترغيب فيه و ترهيب عن التخلف عنه فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه ثوب الذل بحيث يصبح الذل ملازما له شاملا لبدنه و قد أحاط به الغم و الهم و من كان بهذه الصفات كان موته خيرا من حياته...

(و ديّث بالصغار و القماءة) استولى عليه الأعداء و ذللوه ذلة أصبح معها صغيرا حقيرا تمارس عليه ألوان الظلم و القهر و الاضطهاد.

(و ضرب على قلبه بالإسهاب) أصيب من جراء ترك الجهاد بعجز عن تدبير أموره و صعب عليه الخلاص عما يحيط به لأن نتيجة ترك الجهاد أن يستولي الأعداء عليه.

و من كانت نتيجته هذا أصيب بشلل فكري و عجز عن حلول ما يصيبه من مشاكل...

أو يراد أصيب بكثرة الكلام لما يصيبه من الخوف و الفزع من جراء الغارات عليه.

(و أديل الحق منه بتضييع الجهاد) من ضيّع الجهاد و لم يقم به اقتص الحق منه بأن أصيب بالذل و الحقارة..

(و سيم الخسف و منع النصف) ناله الذل و الهوان و امتنع أحد عن نصره و إعطائه حقه أما ظالمه و عدوه فلن يعطيه حقه لأنه هو الظالم و المعتدي و لم نر ظالما أعطى مظلومه حقه و أما غيره فلان من كان مقصرا في حق نفسه و لم ينتصر لها فغيره أشد تقصيرا في الانتصار له و الاندفاع من أجله..

(ألا و أنى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرا و إعلانا) أخذ الإمام على نفسه قتال البغاة و كان يصيح في وجوه أتباعه و يصرخ باستمرار لقتالهم و كان يحضهم على الدوام أن ينهضوا فإن في مواجهتهم أجر و ثواب و عز و قوة و في هذا المقام لوم لهم و اعتذار له و إنه لم يقصر في دعوتهم إلى القتال فقد دعاهم في جميع الحالات و عيّن لهم الأعداء.

(و قلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلوا) هذه مقولة الإمام يقولها لأهل العراق و صيحته التي صمّت الآذان و لكنها لم تؤثر بهم أو تهز عضوا من أعضائهم كان يقول لهم اغزوهم فإن الحق معكم و لكم.. حرروا الأوطان و المقدسات و ردّوا العصاة إلى حظيرة الطاعة و الإيمان.. ليكن غزوكم لهم قبل أن

ص: 228

تدفعهم الجرأة إلى غزوكم و النيل من أطرافكم و يعلل الإمام سبب أمرهم بالغزو و ابتدائهم به بأنه ما غزي قوم في أصل دارهم و مقرهم إلا ذلوا، فإن الأمر الطبيعي إن الذي يتقدم من العدو و يدخل عليه هو الذي يمتلك القوة المادية و المعنوية و يعتد بنفسه للإقدام و الغزو.. و مضافا إلى هذا أن المغز و يتضعضع حاله و تتشتت أفكاره و يدخل عليه و على أهله و ابنائه و ذريته الوهن و الضعف و يأخذه الهم و الغم الذي تسقط به معنوياته و بالتالي ينهزم نفسيا و يكون هذا ابتداء الفشل و أول الهزيمة..

(فتواكلتم و تخاذلتم حتى شنّت عليكم الغارات و ملكت عليكم الأوطان) إن صيحات الإمام كانت تقابل من أهل العراق بالاتكالية، فكل واحد يدفع الأمر عن نفسه و يكله إلى غيره.. هذا يقول غيري يقوم بالجهاد، و ذاك يبادله الرأي و هكذا كان كل واحد يدفع الأمر عن نفسه و لا ينصر أحدهم الآخر و يندفعوا جميعا إلى القتال و قد بقوا في اتكالية و انهزامية و تسويف و تأخير حتى وجّه معاوية جنده إلى غزوهم فكان يبعث بالسرايا لغزو البلاد الخاضعة لسلطة الإمام بل ملكت عليهم الأوطان فلم يستطيعوا الخروج من أماكنهم لأن معاوية أخذ في احتلال البلاد و غزوها و التسلط عليها و هم لا يدرون متى تمر الغارة و متى تجىء فيخافون مفاجأتها لهم..

(و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار و قد قتل حسان بن حسان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها) يذكر الإمام ما جاءه من الأخبار و هي نتيجة سكوتهم و عدم إقدامهم على حرب معاوية فإن سفيان بن عوف الغامدي الذي وجهه معاوية في ستة آلاف مقاتل للغزو و الإرهاب قد دخل الأنبار التي يتولى عليها من قبل الإمام حسان بن حسان البكري و كانت معركة استشهد فيها حسان مع ثلاثين من أتباعه ثم ذكر كيف أزال خيل أهل العراق عن حدودهم و دفعهم عنها و استولى عليها..

(و لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعثها) ثم أشار إلى ما وصله من الأنباء و ما نقله إليه الراءون و كيف كان فعل سرايا معاوية التي كان يبعثها لغزو أطراف مملكة الإمام.. صورة بشعة يتنكر لها الإسلام و يبرأ من فاعلها و الآمر بها...

كان يدخل الرجل من جند معاوية على المرأة المسلمة و الأخرى الذمية لا يمنعه حياء و لا يحجزه دين، يدخل فينتزع خلخالها من رجلها الذي لا يظهر إلا لزوجها و سوارها الذي في يدها و قلائدها التي تعلقها في رقبتها و أقراط أذنيها.. فلا يرعون حرمة و لا يحفظون عفة..

ص: 229

(ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع و الاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم) أراد توبيخهم و الطعن فيهم بأنهم لو كانوا رجالا لدفعوا و دافعوا عنها و لكنها لا تملك قوة فكانت تسترجع تقول كما يقول المصاب «إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ » و تطلب منهم الرحمة لضعفها و جبروتهم، لقد أخذوا ما وقع تحت أيديهم و غنموا ما لا قوة ثم عادوا إلى بلادهم محمّلين موفورين لم يصب أحد منهم بجرح و لم يسقط لهم قتيل.. صورة للفظاظة و القسوة التي مارسها جيش معاوية يقابلها صورة أخرى للمستضعف الذي لا ناصر له و لا معين..

(فلو أن امرا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا..) أراد استنهاض همهم و دفعهم للثأر ورد الضربة بأن هذا الأمر الذي حدث لشدته و قوة وقعه لو مات المسلم حسرة و أسى من بعده لكان معذورا بل ترقى ليقول إن الموت بعده حقيق و أهل أن يموت الإنسان بعد هذا الحادث المؤلم الممضّ ..

(فيا عجبا! اعجبا و اللّه يميت القلب و يجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرقكم عن حقكم) فيا عجبا يثير عجبا إنه العجب و اللّه الذي يميت القلب لا يدعه حيا نابضا متحركا و يجلب الهم و الغم و الحزن و الذي يعمل كل ذلك هو اجتماع معاوية و قومه و ائتلافهم على باطلهم الذي هم فيه حيث أنهم بغاة خارجون على الحكم الشرعي، و تفرقكم و تشتتكم عن حقكم فلكم الحق و معكم الحق و مع هذا في تشتت و فرقة و عدم وحدة كلمة أو موقف أو رأي...

(فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمي) دعا عليهم بالسوء و الحزن و الهم و الغم يصيبهم عند ما تحولوا إلى هدف يرميه معاوية و يقصده في غزوه و غاراته..

(يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون و يعصى اللّه و ترضون) و هل هناك أقسى على القلب من أن يغير معاوية و جنده عليهم و هم لا يردون غارة أو يقابلونها بغارة مثلها تنزل بالأعداء الإساءة، و يتوجه معاوية و جنده بغزوهم و أخذ أموالهم و هم لا يغزونهم و لا يردون غزوهم و كذلك يعصى اللّه عند ما يشن معاوية غاراته و لا يدفعونها بل يرضون بها بسكوتهم عنها و عدم ردها بالقوة القهر..

(فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمّارة القيظ أمهلنا يسبّخ عنا الحر و إذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القرّ أمهلنا ينسلخ عنا البرد كل هذا فرارا من الحر و القر فإذا كنتم من الحر و القر تفرون فأنتم و اللّه من السيف أفر) هكذا كانت حالة الإمام مع أهل العراق صورة ينقلها الإمام بدقة و يحكي واقعهم بل يحكي

ص: 230

كلامهم.. بألفاظه.. صورة المعاناة و الألم من هذا الشعب...

المفارقة الواضحة بين قائد يريد أن ينتزع لهم النصر و يوفر لهم العزة و بين شعب يتعلل بالحر و شدته تارة و بالبرد و قساوته أخرى...

إذا قال لهم سيروا لقتال أعدائكم في أيام الصيف قالوا و بصوت واحد هذا أو ان الحر و شدته انتظرنا حتى يخف الحر و يعتدل المناخ و يبرد الجو و إذا أمرهم في أيام الشتاء تعللوا بأن هذا أو ان شدة البرد أمهلنا و أخرنا حتى يذهب عنا البرد و هكذا بين الحر و البرد تركوا الجهاد و عطلوه و منعوا أنفسهم أجره و ثوابه و بالتالي إذا كانوا من الحر و القر يفرون و منهما يهربون فهم من ملاقاة حرّ السيف و وقعه أشد فرارا و أقوى هربا... إنهم لا يفرون من الحر و لا القر و إنما يفرون من حر السيوف و وميضها...

أكتب هذه الكلمات في يوم الخميس الواقع في 16 كانون الثاني سنة 1991 ميلادية و أنا استمع إلى الراديو يذيع بيانات الحرب التي ابتدأت صباح هذا اليوم بين العراق و بين أمريكا خاصة و متعددة الجنسيات بشكل عام...

فإن العرب و المسلمين يرون كيف يشن الأمريكيون و البريطانيون و الفرنسيون و الإيطاليون و غيرهم يشنون حربهم ضد العراق و شعبه و تخرج ألف و ثلاثمائة طائرة دفعة واحدة في هجوم واحد على العراق.. و إنني استمع إلى بعض وكالات الأخبار الأجنبية تنقل أن ما ألقي على بغداد من المتفجرات يعادل ضعفي ما ألقي على هيروشيما اليابانية.. أستمع هذا و أتوجع و أتألم بل أبكي لهذا الشعب العراقي الذي يعاني من ظلم حكامه و ظلم العالم له.. أقول إنني أسمع ما أسمع و أعيد إلى ذهني صورة الإمام و كلماته و مدى عذابه منهم و معهم.. رفضوه و لم يطيعوه فكانت نتيجتهم أن أصيبوا بحكام لا يرحمون و بأعداء أيضا لا يرحمون..

(يا أشباه الرجال و لا رجال حلوم الأطفال و عقول ربات الحجال) وصف حالهم و واقع أمرهم فقد شبههم بالرجال شكلا و هيئة ثم نفى عنهم الرجولة باعتبار أنهم فقدوا الغيرة و الحمية و الدفاع عن الكرامة و العزة.. و وصف أحلامهم بأحلام الأطفال حيث يقودهم عجزهم إلى تخيل ما لا يصح أو يدرك و وصف عقولهم بالعجز فعقول النساء و المرأة بطبعها أبعد ما تكون عن الحرب و إدارتها..

(لوددت أني لم أركم و لم أعرفكم، معرفة - و اللّه - جرّت ندما و أعقبت سدما) تمنى الإمام أنه لم يرهم و لم يعرفهم لقبح أفعالهم و سوء تصرفاتهم فهو يرى سلوكهم و يعرف قلوبهم.. ثم قال إنها معرفة و اللّه كنت أتمنى أن تدفع إلى راحة نفس و فرح

ص: 231

و سرور حينما يترقب انتصاره بهم و لكن معرفته بهم أدت إلى ندمه على هذه المعرفة و أتت له بالحزن و الغم حيث كانت على خلاف ما يتوقع.

(قاتلكم اللّه لقد ملأتم قلبي قيحا و شحنتم صدري غيظا) ثم دعا عليهم بالطرد عن رحمة اللّه و البعد عن كرامته و مقاتلة اللّه للعبد تعني أبعاده و طرده عن ساحة رحمته.

ثم ذكر تألمه و شدة تحسره بأنهم قد ملاؤا قلبه قيحا كناية عن المعاناة و بلوغ الألم منتهاه و كذلك ملأتم صدري غيظا أي حقدا و غضبا عليكم لما فعلتم..

(و جرعتموني نغب التهمام أنفاسا و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان) جعلتم أنفاسي هما أتنفسه جرعة جرعة و أتناوله شيئا فشيئا فيكون موتا بطيئا قاسيا على النفس مؤلما لها...

و أبطلتم عليّ ما أنا فيه من رأي صحيح سليم بعصيانكم و تمردكم و مخالفتكم لي... و تخلفكم عني و عن أمري..

(حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب) من جراء تمردهم عليه و عصيانهم له قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع لا يخاف الأعداء و لا يهاب الموت و لكنه لا خبرة له بالحرب و لا علم له بفنونها و تنظيمها و كيف يكتسب النصر و يحقق الفوز و ذلك على سيرة من ينسب إلى القائد النصر أو الفشل و لكنهم لم يعرفوا أن قوم عليّ خالفوا عليا و لم يطيعوه فيما يرسم من خطط و يضع من ترتيبات فيظنون أن عليا هو الذي يفشل في الحرب.. إن الإمام كان يصر على قتال البغاة و لا يرى غير هذا رأيا، لا يقبل حلا وسطا و لا مفاوضات مستجدة بعد الأولى التي جرت، و لكن معاوية و عمرو بن العاص و من معهما رفعوا المصاحف فخدعوا المغفلين و البسطاء من أتباع الإمام فأجبروه على وقف القتال و قد نهاهم عن ذلك و قال لهم إن معاوية و عمرو بن العاص و غيرهما ليس لهم دين و لا أخلاق فأبوا عليه و لجو حتى أجبروه على التحكيم ثم فرضوا عليه أبا موسى الأشعري مفاوضا عنه حتى قال: «لقد جاؤني بأبي موسى الأشعري مبرنسا» و هكذا كان يرشدهم إلى طرق النصر و مسالك الفوز فكانوا يقابلونه بالرفض و التمرد و العصيان و هل بعد هذا تخفى على الإمام عوامل النصر و لا يعرف كيف يحقق الفوز...

لقد أدرك العالم و كل مفكر حر و باحث مدقق أن عليا لو كان يطاع لانتزع النصر العسكري من معاوية و أصحابه و قضى عليهم بمن معه و لكن تمرد أصحابه و عصيانهم له

ص: 232

كان السبب المباشر وراء كل إخفاق و فشل يتهم به الإمام..

(للّه أبوهم و هل أجد منهم أشد لها مراسا و أقدم فيها مقاما مني، لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين و ها أنذا قد ذرفت على الستين، و لكن لا رأي لمن لا يطاع) هذا رد على قريش و ما تتهمه به من عدم علمه بالحرب و بيان لوجه الفشل الذي يتراءى لهم أنه منه...

للّه أبوهم مدح لهم لو كانوا يعرفون الحقيقة أو يتعرفون عليها مني فليأخذوها إن شاءوا صافية من معدنها و استفهمهم تنبيها لهم و توبيخا هل هناك من العرب من مارس الحرب و دخل في لهواتها مثل عليّ و هل هناك من هو أقدم بها منه، إنه قد قام بها و هو فتى لم يبلغ العشرين من عمره و هو الآن قد تجاوز الستين و من كان طيلة هذه الفترة في الحرب عرف أسرارها و أدرك أسبابها و وقف على أبواب النصر و كيف ينتزع؛ و قد أدرك القريب و البعيد و المسلم و المشرك و الولي و العدو كيف كان يسير النصر عند ما يسير عليّ؟ و كيف تفتح أبواب الحصون المنيعة عند ما يسمع أهلها بقدوم عليّ؟، و كيف يخاف الأبطال و يسقطون عند مواجهتهم لعلي ؟.. و ليذكر لنا التاريخ أن عليّا فرّ في موقعة أو خاف من بطل أو جبن في حالة ؟!.. نتحدى العالم بأن يأتوا بحادثة واحدة قد طرق الخوف فيها قلب علي ؟...

فترة طويلة يسجل الإمام فيها أشرف صفحات العز و الكرامة لا يخدش له موقف و لا يطعن له في رأي...

و بعد ذلك يبيّن سبب الفشل في الحرب و إدارتها و إن من لا يطاع فيما يرتئيه كأنه بدون رأي أو كان رأيه فاسدا لعدم الأخذ به و إن كان صحيحا سليما.. و هو سلام اللّه عليه كان يدخل في هذه الكبرى فلم يقبل رأيه فكأنه بدون رأي أو يجب أن لا يبدي رأيه إذا كان لا يطاع و هذا هو السبب الذي دعا قريشا لاتهامه بعدم معرفته بالحرب و فنونها و أسباب انتزاع النصر من العدو..

ص: 233

28 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هو فصل من الخطبة التي أولها «الحمد للّه غير مقنوط من رحمته» و فيه أحد عشر تنبيها أمّا بعد، فإنّ الدّنيا أدبرت (1)، و آذنت (2) بوداع (3) و إنّ الآخرة قد أقبلت و أشرفت (4) باطّلاع (5)، ألا و إنّ اليوم المضمار (6)، و غدا السّباق (7)، و السّبقة (8) الجنّة، و الغاية النّار، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته (9)! ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه (10)! ألا و إنّكم في أيّام أمل من ورائه أجل؛ فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله (11) فقد نفعه عمله، و لم يضرره (12) أجله. و من قصّر (13) في أيّام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر (14) عمله، و ضرّه أجله.

ألا فاعملوا في الرّغبة (15) كما تعملون في الرّهبة (16)، ألا و إنّي لم أر كالجنّة نام طالبها، و لا كالنّار نام هاربها، ألا و إنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل، و من لا يستقيم به الهدى، يجرّ (17) به الضّلال إلى الرّدى (18). ألا و إنّكم قد أمرتم بالظّعن (19)، و دللتم على الزّاد (20)، و إنّ أخوف ما أخاف عليكم أثنتان: أتّباع الهوى، و طول الأمل، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون (21) به أنفسكم غدا.

قال السيد الشريف - رضي اللّه عنه - و أقول: إنّه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، و يضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام، و كفى به قاطعا لعلائق الآمال، و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار، و من أعجبه قوله عليه السلام: «ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السّباق، و السّبقة الجنّة و الغاية النّار» فإن فيه - مع فخامة اللفظ، و عظم قدر المعنى، و صادق التمثيل،

ص: 234

و واقع التشبيه - سرّا عجيبا، و معنى لطيفا، و هو قوله عليه السلام: «و السّبقة الجنّة، و الغاية النّار» فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، و لم يقل: «السّبقة النّار» كما قال: «السّبقة الجنّة»؛ لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب، و غرض مطلوب، و هذه صفة الجنة و ليس هذا المعنى موجودا في النار، نعوذ باللّه منها! فلم يجز أن يقول: «و السّبقة النّار» بل قال: «و الغاية النّار»: لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها، و من يسره ذلك، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا، فهي في هذا الموضع كالمصير و المآل، قال اللّه تعالى: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ» و لا يجوز في هذا الموضع أن يقال: سبقتكم - بسكون الباء - إلى النار، فتأمل ذلك، فباطنه عجيب، و غوره بعيد لطيف. و كذلك أكثر كلامه عليه السلام. و في بعض النسخ: و قد جاء في رواية أخرى «و السّبقة الجنة» - بضم السين» و السّبقة عندهم: اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض؛ و المعنيان متقاربان، لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم و إنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود.

اللغة

1 - أدبرت: تصرمت و مضت.

2 - آذنت: أعلمت.

3 - الوداع: من المسافر تركه لأهله خافضين و من الناس تشيعهم له و الدعاء له...

4 - أشرفت: من أشرف على الشيء إذا طلع عليه من فوق.

5 - الاطلاع: يقال أشرفت باطلاع أي أقبلت علينا بغتة.

6 - المضمار: المكان أو الزمان الذي تضمر فيه الخيل للمسابقة و التضمير إحداث الضمور و قلة اللحم.

7 - السباق: سباق الخيل إجراؤها في مضمار تتسابق فيه.

8 - السبقة: الغاية التي يتسابق عليها.

9 - المنية: الموت.

10 - البؤس: الشقاء، الشدة.

11 - أجل: الموت، الوقت المحدود.

12 - يضرره: من الضرر ضد النفع، الشدة و الضيق و سوء الحال.

13 - قصّر: في الأمر توانى فيه..

14 - خسر: ضد ربح، ضل و هلك.

ص: 235

15 - الرغبة: فيه إرادته و محبته.

16 - الرهبة: من رهب على وزن علم خاف.

17 - يجر: به يجذبه و يسحبه.

18 - الردى: الهلاك.

19 - الظعن: الرحيل.

20 - الزاد: جمعه أزودة و أزواد ما يتخذ من الطعام للسفر.

21 - تحرزون: تحفظون.

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن الدنيا أدبرت و آذنت بوداع و إن الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع) حديث الدنيا حديث ذو شجون نعت إلينا نفسها منذ دخلنا فيها و صرنا من أبنائها و من أول يوم يولد فيه الإنسان يبتدأ بهدم عمره و يتحرك نحو الآخرة فهو يمشي و كلما مشى خلّفها وراء ظهره و تركها و هكذا تغيب عنا و تبتعد إنها أعلمتنا أننا في مرحلة و داع لها لا لقاء بعده.. يودّعها الانسان و هو محزون عليها متأسف على ما فاته منها و هو العارف بحقيقتها و إنه لم يخلق لها...

و أما الآخرة فقد أقبلت لأن الإنسان يسير نحوها و من سار نحو هدف وصل إليه و الإنسان يقطع أيام عمره و دورة الفلك تجري شاء أم أبي و سيصل إلى نهاية العمر في الدنيا و يصل إلى الآخرة لقد رت طلائعها و ستتبيّن الأعمال التي قام بها هذا الإنسان...

(ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق و السبقة الجنة و الغاية النار) في هذه الدنيا يكون الاستعداد للآخرة فمن تنّبه إلى مخاطر الدنيا إذا تعلّق بها و تمسك بمتاعها خرج منها و هو خفيف الظهر و هذا بعكس المثقل الذي حمل من أوزار الدنيا و آثامها فإن الأول مصيره إلى الجنة بينما الثاني مصيره إلى النار...

الدنيا حلبة سباق يتبارى عليها الناس فهذا يعرفها و يعرف آثارها و خطرها فيسلك مسالك الأبرار و الأخيار و يأخذ طريق الشرفاء و يكون نظره إلى الجنة يسعى إليها و يبذل قصاراه من أجلها بينما ذاك جهلها أو غفل عنها فغرته بمفاتنها و تزّينت له فاستهوته فسار خلفها و أرادها و طلب ودّها فأردته و أوصلته إلى النار...

ص: 236

الدنيا ساحة على ثراها يتسابق الناس و غدا يوم القيامة تكون النتيجة فأما إلى الجنة و أما إلى النار و بيد هذا الإنسان يكون الخيار و هو يرسم نتيجته التي يريدها..

(أفلا تائب من خطيئته قبل منيته) هذا أول النجاح و بدء الفلاح أن يضع الإنسان قدميه على الطريق الصحيح و هذا لا يكون إلا بأن يبتدأ بالتوبة عن كل ذنب ارتكبه...

التوبة هي المدخل الصحيح لبدأ العمل الناجح... أن تندم على سيئاتك و تعود إلى ربك و تصحح مسارك.. التوبة قبل الموت.. و أنت صحيح، قوي، قادر نشيط، و أنت في كمال عقلك و تمام قوتك و مع ذلك تبكي على خطيئتك و تعود لربك.. التوبة هي المفتاح الذي يفتح أمامك أبواب الرحمة و العطف و توصلك إلى المقام الكريم..

فهل من تائب عن ذنبه قبل الموت..

(ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه) بعد أن ذكر التوبة أتبعها بالعمل الصالح من أجل نفسه.. من أجل سعادتها و كرامتها.. من أجل أن تعيش في رحمة اللّه و رضوانه قبل أن يأتي يوم الشقاء و قد فات أو ان العمل و مضت أزمانه..

(ألا و إنكم في أيام أمل من ورائه أجل فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله و لم يضرره أجله) حضّ عليه السلام الناس على العمل قبل حلول الموت فإن الإنسان يأمل بأمر و يستطيع أن يعمل له في دار الدنيا فمن عمل في أيام أمله ما يريده من الأعمال و هو قادر على ذلك قبل الموت لم يضره الموت لو جاءه لأنه ينقله من دار العمل و التعب إلى دار الجزاء و الثواب و هناك يتلقى جزاء ما عمله و ما قام به و لا يكون هذا الموت ضارا له أو مؤثرا عليه.

(و من قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله و ضره أجله) من قصر في دار الدنيا و توانى عن العمل في أيام الأمل قبل أن يحضره الموت ثم جاءه الموت خسر العمل من حيث أنه لم يعمل وقت العمل و قد فات وقته الآن و ضره الأجل أي ألحق به الضرر و هو العقاب لأن هذا الموت نقله إلى عالم صعب عجيب يحاسب المرء فيه على تقصيره و قلة عمله...

و بعبارة موجزة: من عمل في دار الدنيا و جاءه الموت لم يؤذيه شيء و من لم يعمل و جاءه الأجل كان الموت مصيبة له حيث ينقله إلى العذاب و الهوان..

الإيمان الصحيح:

(ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة) و هذه من قواعد الإيمان و أسسه

ص: 237

عليها يمكن الحكم بالإيمان الصحيح و بها توزن قوته و ضعفه و قلقه و استقراره...

بعض الناس يعبدون اللّه حالة ضعفهم و فقرهم و بؤسهم و شقائهم.. عند ما تشتد الأزمات عليهم و تحيط بهم يتوجهون إليه يستنجدون به و يستجيرون به.. ترتفع أصواتهم بالدعاء و النداء.. في حالة الفقر تراهم لا يقطعون جمعة و لا جماعة. و لا يفارقون تجمعات المؤمنين و مجالسهم و لكن عند ما تأتيهم الدنيا و تقبل عليهم و يحسون بلذتها و يتذوقون طمعها يتنكرون للإيمان و تنطفيء جذوته في نفوسهم و لا يعودون يذكرون اللّه إلا قليلا - عفوا - بل قد ينسون اللّه تماما و يتنكرون لمجالسهم التي تربوا فيها و عاشوا في أكنافها..

و في زمن النبي حادثة و قصة مرت على رجل يسمى ثعلبة فيها عبرة للذين اغتنوا بعد فقر فبطروا و كفروا فأنزل اللّه فيه و فيهم آيات يتلوها الناس و يذكرون قصته...

ثعلبة بن حاطب كان من الأنصار - فقيرا - قال للنبي (صلی الله علیه و آله) أدع اللّه أن يرزقني مالا.

فقال له النبي (صلی الله علیه و آله) : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة و الذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا و فضة لسارت ثم أتاه بعد ذلك فقال له يا رسول اللّه: أدع اللّه أن يرزقني مالا و الذي بعثك بالحق لئن رزقني اللّه لأعطين كل ذي حق حقه.

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : اللهم ارزق ثعلبة مالا، فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها ثم كثرت نموا حتى تباعد عن المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة و الجماعة و بعث إليه رسول اللّه المصدق ليأخذ الصدقة فأبى و بخل و قال: ما هذه إلا أخت الجزية.

فقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة فأنزل اللّه فيه قوله تعالى:(1)

«وَ مِنْهُمْ مَنْ عٰاهَدَ اَللّٰهَ لَئِنْ آتٰانٰا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ فَلَمّٰا آتٰاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ وَ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ » .

فالمسلم هو الذي يعبد اللّه في السراء و الضراء و في الشدة و الرخاء..6.

ص: 238


1- سورة التوبة، آية - 75-76.

(ألا و إني لم أر كالجنة نام طالبها و لا كالنار نام هاربها) و هذا تصوير لحالة الناس و ما يعيشون فيه، كلنا يطلب الجنة و يريدها و لكن ننام عنها و لا نسعى لها.. الجنة طريقها العمل الصالح.. الصلاة.. الصيام.. الحج.. إعانة المحتاجين.. سد عوزهم.. القيام بالواجبات و مع ذلك العلم و المعرفة بالطريق لا نمشي عليها و لا نسعى لها...

و نخاف النار.. نرتجف منها، نسأل اللّه أن لا نراها و لا ترانا و لكن مع ذلك لم نجعل الحواجز بيننا و بينها، لم نمنعها من الوصول إلينا.. إننا نهرب منها بلساننا و نقترب منها بأعمالنا و سلوكنا.. و هذا هو موضع العجب و مكانه تريد أمرا و تنام عنه و تخاف من أمر و لا تفر منه..

(ألا و أنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل) الحق يجب أن يتبع لأن فيه المصلحة العامة و الخير و المنفعة لكل الناس.. القانون الشرعي هو الحق و لربما تنزلا و مجاراة إنه لا ينفع بعض الأفراد فإن الباطل يضرهم قطعا.. إذا كان العدل لا ينفعك شخصيا فالظلم إذا عم شملك و ضرك..

(و من لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال إلى الردى) من لا تجعله آيات اللّه و بيناته مستقيما عدلا يبصر الحق و يهتدي إليه فالانحراف يدفعه إلى العمى و الموت.. و الهدى نور يضعك على مستقيم الصراط و الضلال ظلام يجرك إلى الهلاك..

(ألا و إنكم قد أمرتم بالظعن و دللتم على الزاد) أمرنا بالرحيل عن دار الدنيا و التوجه إلى الآخرة و كل راحل لا بد له من زاد يناسبه و يناسب رحلته لئلا يجوع و يتألم و يحتاج، و زاد الآخرة التقوى و العمل الصالح قال تعالى: «وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُونِ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ » فقد أرشدنا اللّه إلى زاد الآخرة و ما ينفع لها و قد تزود الأخيار و الأبرار من أبناء الأمة بزاد ينفعهم و نسأل اللّه أن نقتدي بهم و نتزود كما تزودوا..

(و إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى و طول الأمل).

إتباع الهوى و طول الأمل:

تخوف علينا من خصلتين سيئتين يمكن أن تكونا سبب شقائنا.

الأولى: اتباع الهوى و هو ان يسير الإنسان وراء رغبته و ما يحب دون أن يتبصر في

ص: 239

موافقة الشرع على ما يحب أو يكره و في ذلك وقوع في المآثم و المعاصي و انحراف في السلوك و العمل...

الهوى يدفع الإنسان إلى معاداة الأولياء و صداقة الأشقياء و إذا استولى على نفس إنسان أضله و منعه عن الحق و الإنصاف و قد سمى اللّه اتباع الهوى عبادة للهوى. قال تعالى: «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ » فالذي يعبد اللّه يتقيد بأوامره و يلتزم بأحكامه و أما من لم يلتزم بأحكام اللّه و يتبع الهوى فهو عابد له من دون اللّه.

قال الصادق عليه السلام: احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس بشيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم و حصائد ألسنتهم.

الثانية: طول الأمل و بالطبع الأمل المنسي للآخرة و طول الأمل رذيلة عامة تشمل الناس جميعا باستثناء بعض الخواص الذين وقفوا على الحقيقة و عرفوا أن العمر ينقضي و إن الموت آت لا محالة.

(فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا) أمرنا بأن نتزود و نحن في دار الدنيا و نعيش فيها نتزود فيها بما فيها بأن نتصدق بما أعطانا اللّه منها و نكرم عباده و لا نبخل على أحد و نساعد كل أحد و بهذه و أمثالها نحفظ أنفسنا من النار و نقيها عذاب الملك الجبار و ندرك جنة اللّه و غفرانه...

ص: 240

29 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

بعد غارة الضحاك بن قيس صاحب معاوية على الحاج بعد قصة الحكمين و فيها يستنهض أصحابه لما حدث في الأطراف أيّها النّاس، المجتمعة أبدانهم (1)، المختلفة أهواؤهم (2)، كلامكم يوهي (3) الصّمّ (4) الصّلاب (5)، و فعلكم يطمع (6) فيكم الأعداء! تقولون في المجالس (7): كيت و كيت (8)، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد (9)! ما عزّت (10) دعوة من دعاكم، و لا استراح (11) قلب من قاساكم (12)، أعاليل (13) بأضاليل (14) و سألتموني التّطويل (15)، دفاع ذي الدّين المطول (16). لا يمنع الضّيم (17) الذّليل! و لا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ (18)! أيّ دار بعد داركم تمنعون، و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور (19) و اللّه من غررتموه، و من فاز بكم فقد فاز - و اللّه - بالسّهم (20) الأخيب (21)، و من رمى (22) بكم فقد رمى بافوق (23) ناصل (24). أصبحت و اللّه لا أصدّق قولكم، و لا أطمع في نصركم، و لا أوعد (25) العدوّ بكم. ما بالكم (26)؟ ما دواؤكم (27)؟ ما طبّكم (28)؟ القوم رجال أمثالكم. أقولا بغير علم! و غفلة من غير ورع (29)! و طمعا في غير حقّ !؟.

اللغة

1 - الأبدان: الأجساد.

ص: 241

2 - الأهواء: الآراء.

3 - يوهي: يضعف.

4 - الصم: جمع أصم و هو من الحجارة الصلب.

5 - الصلاب: جمع صليب و هو الشديد.

6 - يطمع: من الطمع و هو نزوع النفس إلى الشيء شهوة له.

7 - المجالس: مفرده مجلس موضع الجلوس و القعود.

8 - كيت و كيت: كناية عن الحديث.

9 - حيدي حياد: من الحيدان و هو الميل و الانحراف عن الشيء و هو كلمة يقولها الهارب.

10 - ما عزت: ما قويت و لا اشتدت.

11 - استراح: وجد الراحة و هي ضد التعب، السرور.

12 - قاساكم: قاسى مقاساة الألم كابده و عالج شدته.

13 - أعاليل: جمع أعلولة ما يحتج به و يجعله علة لعمله..

14 - أضاليل: مفردها أضلولة ضد الهدى.

15 - التطويل: جعله طويلا و هو ضد القصر.

16 - المطول: كثير المطل و هو التسويف في أداء الدين و تأجيله.

17 - الضيم: الظلم.

18 - الجد: الاجتهاد.

19 - المغرور: المخدوع.

20 - السهم: جمعه سهام، قدح الميسر يقارع به، واحد النبل.

21 - الأخيب: هو الأشد خيبة و هي عدم الظفر و الفشل في تحصيل المطلوب.

22 - رمى: ألقى.

23 - الأفوق: مكسور الفوق و الفوق موضع الوتر من السهم.

24 - الناصل: العاري عن النصل.

25 - أوعده: أهدده و أوعد بكم الأعداء أهددهم بكم.

26 - ما بالكم: ما شأنكم و البال القلب و الخاطر.

27 - ما دواؤكم: ما هو الدواء الذي يشفيكم و يصححكم.

28 - ما طبكم: ما علاجكم.

29 - الورع: التقي، من يجتنب المحرمات و المشتبهات.

ص: 242

الشرح

(أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم) هذه الخطبة الشريفة كانت بعد التحكيم و قبل قتال علي لأصحاب النهروان و ذلك أن الإمام كان يتهيأ لقتال معاوية و أراد الخروج إليه فوقع النزاع بينه و بين الخوارج فارتاح معاوية و أطمأن و عاد الإمام إليهم فقتلهم فسرّ معاوية كثيرا...

و عند ما وصل النبأ إلى معاوية استدعى الضحاك بن قيس الفهري و قال له: سر حتى تمر بناحية الكوفة و ترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي عليه السلام فأغر عليه و إن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها و إذا أصبحت في بلد فامس في أخرى و لا تقيمن لخيل بلغك إنها قد سرّحت إليك لتلقاها فتقاتلها، فسرحه في ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف..

فأقبل الضحاك فنهب الأموال و قتل من لقي من الأعراب حتى مر بالثعلبية فأغار على الحاج ثم أقبل فلقى عمرو بن عميس بن مسعود و هو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود فقتله في طريق الحاج و قتل معه ناسا من أصحابه.

فقام الإمام عند ما وصله النبأ و حثهم على الخروج و أن يمنعوا عدوهم عن حريمهم و بلادهم، فردوا عليه ردا ضعيفا و رأى منهم عجزا و فشلا.

فقال: و اللّه لوددت أن لي بكل ثمانية منكم رجلا منهم ويحكم أخرجوا معي ثم فروا عني ما بدا لكم فو اللّه ما أكره لقاء ربي على نيتي و بصيرتي و في ذلك روح لي عظيم و فرج من مناجاتكم و مقاساتكم...

ثم خطبهم هذه الخطبة...

صورة أمينة ينقلها الإمام إلينا، يصف حال أصحابه و ما كانوا عليه من التشتت و الفرقة.. صورة بشعة لقوم لا يجمعهم جامع و لا يوحد كلمتهم هدف...

فالأجسام مجتمعة تراهم جميعا و لكن قلوبهم شتى و أراؤهم مختلفة فهذا يريد الدعة و السلامة و ذاك يريد التحكيم أن يجري و القضايا تمشي و ذلك لا يهمه شيء و لا يلتفت لشيء و هكذا تتوزعهم الآراء و تتقسمهم النظريات...

(كلامكم يوهي الصم الصلاب و فعلكم يطمع فيكم الأعداء) لو استمع أحد إليكم لأخذته نشوة كلامكم و استيقن النصر و إنه لا يفصله عنه إلا أن يمد إليه يده فيطاله..

ص: 243

كلامكم يفتت الصخور القوية الصلبة لكثرة تهديدكم و وعيدكم و ما تقولونه من الاستعداد لقتال عدوكم و التهيؤ لهم و لكن مقابل هذا فأنتم ضعفاء الأفعال لا تعملون و لا تتحركون بل تغزون فلا تتأثرون مما يجعل اعداءكم يطمعون فيكم و يتوقعون أخذكم و النصر عليكم.. فأنتم تقولون ما لا تفعلون..

(تقولون في المجالس كيت و كيت فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد) هكذا كانت مجالسهم يحكيها الإمام لهم و ينقلها إليهم.. إنهم يتبجحون و ينتفخون و يخططون و يرسمون و ينتصرون و لكنهم لا يزالون في مجالسهم لا يحركون ساكنا... صورة ينقلها عن قوم عاشوا معه و تنطبق على واقعنا العربي و الإسلامي بأنظمته و حكامه و قادته و مسئوليه.. فإن عادت العرب و المسلمين قاطبة تتحدث عن فلسطين و تحريرها و تظن بل تتيقن سقوط اسرائيل إذا استمعت إليهم في قممهم و جلساتهم و لكن إلى الآن يخشى أحدهم و يخاف أن يطلق طلقة واحدة على اسرائيل.. إنه يخاف أن يغضبها لأن الذي جاء به إلى كرسي الحكم هو نفسه الذي زرع الكيان الصهيوني في فلسطين و هو الذي يحرسها و يدافع عنها...

في المجالس تزحفون على الأعداء و تحررون العباد و البلاد و لكن في ساحات القتال تبتعدون و تتنحون و تنكرون بل تتنكرون لما قيل...

و في هذا اليوم يصدق هذا الكلام على العرب كما صدق على أصحاب الإمام يومها... اليوم بتاريخ العشرين من شهر كانون الثاني لسنة ألف و تسعمائة و واحد و تسعين هجرية تحترق العراق بقذائف أمريكا و فرنسا و بريطانيا و إيطالية و كندا و السعودية و مصر و لا من سامع أو رافع لصوته... كلهم ينادون الموت لأمريكا و لكنهم يساندونها و يساعدونها..

(ما عزت دعوة من دعاكم) من استجار بكم و طلب النصر منكم لم ينجح و لم يفلح و لم يفز بعز و نصر لأنكم لا تستجيبون له و لا تعزونه بنصركم..

(و لا استراح قلب من قاساكم) من أجرى عليكم الفظاظة و استعمل فيكم القساوة لم يسترح قلبه لأن في ذلك خروج عن طبيعته و فيه مخالفة لربه كما إنكم تهربون إلى الأعداء و تلتحقون بهم...

(أعاليل بأضاليل) يعللون عدم استجابتهم له و تأخرهم عنه بعلل باطلة فاسدة لا صحة لها و لا طائل تحتها.

ص: 244

(و سألتموني التطويل دفاع ذي الدين المطول) إنكم سألتموني تأخير الحرب و تأجيلها رغم أنها ملزمة لكم و واجبة عليكم على مستوى المدين المماطل الذي يمتنع عن أداء دينه مع كونه قادرا و موسرا و لكن لا يبادر إلى الوفاء تمردا و عصيانا و أنتم كذلك..

(لا يمنع الضيم الذليل) فمن شرب كأس الذل و المهانة و تربى على الضعة و الحقارة لا يستطيع أن يتحرر أو يرفع الظلم عن نفسه.

(و لا يدرك الحق إلا بالجد) الحصول على الحقوق لا يكون إلا بالتعب و التضحية و بذل الدماء و الأموال، و لم تتحرر أمة من الأمم إلا بالجهاد و الكفاح و لن تتحرر فلسطين من اليهودي الغاصب إلا بالجهاد المقدس و توطين النفس على القتل و الصبر على الأذى..

(أي دار بعد داركم تمنعون و مع أي إمام بعدي تقاتلون) توبيخ لهم و تقريع و بيان و توضيح بأن الشرفاء يدافعون عن أوطانهم و ديارهم و أنتم لا تدفعون عنها بشيء و هذا قبيح منكم فإذا كنتم لا تدفعون عن أوطانكم فلن تدفعوا الضيم عن أحد و لن تنتصروا لمظلوم قط...

ثم إذا لم تقاتلوا معي و أنا علي بن أبي طالب صاحب اليد البيضاء و الجهاد الميمون و السابقة و الأخلاق و الخليفة الشرعي فمع أي إمام بعدي تقاتلون، إنكم لن تقاتلوا و إذا قاتلتم فمع الطغاة و الظالمين ضد مصالحكم و منافعكم...

(المغرور و اللّه من غررتموه) من استمع كلامكم المعسول و صدّق به فهو المخدوع الذي سيرى كذبكم و يدرك غفلته عنكم و عن أعمالكم..

(و من فاز بكم فقد فاز و اللّه بالسهم الأخيب) إذا خرجتم من نصيب واحد و سهمه و فاز بكم فقد فاز بأخسر صفقة و ضل سهمه و سقط نصيبه لأنه لن يدرك فيكم إلا التعب و العناء و همّ الفكر و البال..

(و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل) من وجهكم لقتال الأعداء و من اجزتهم فقد رماهم بما لا يهزمهم و لا يحقق نصرا أو فوزا عليهم.. و شبههم بالسهم الذي يرمى به الهدف و لكن قوسه غير سليم فلا يصل إلى الهدف، و هم كذلك لا يصل دافعهم إلى الجهاد إلى نصر أو فوز..

(أصبحت و اللّه لا أصدق قولكم و لا أطمع في نصركم و لا أوعد العدو بكم) لقد

ص: 245

وصل اليأس بالإمام أنه أقسم على هذه الأمور الثلاثة أنه أصبح لا يصدقهم فيما يقولون لكثرة ما قالوا و تحدثوا دون أن يفعلوا أو يعملوا بما قالوا و تحدثوا.. لقد قالوا و كذبوا..

و قالوا و كذبوا و هكذا حتى انتزعت الثقة من كلامهم و لم يعد يصدقهم فيما يقولون..

ثم إنه لم يعد يطمع في نصرهم و كيف يطمع في نصر المتخاذلين و القاعدين الذين لا يتحركون و لا يقومون و قد جربهم فلم يقعوا عند حسن ظنه بهم..

و أيضا لا يقدر بعد اليوم أن يهدد العدو بهم و يقول له إنه قادم بهم إليه..

(ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبكم ؟ القوم رجال أمثالكم) أراد أن يثير حفائظهم و يحرك شعورهم إن بقي لهم شعور و حفائظ.. إنه يقول لهم إن أنصار معاوية و أتباعه رجال مثلكم...

ليسوا هم أفهم منكم أو أعلم أو أشد في الحرب ممارسة.. ما بالكم لا تفكرون و تجتمعون و تحاربون كما يفعل أهل الشام و هم بشر مثلكم و ما دواؤكم الذي إذا عالجتكم به أصبحتم كأهل الشام طاعة و إقداما و التزاما و هم رجال أمثالكم..

استفهامات فيها توبيخ و استنكار لحالهم و ما هم عليه لعلهم يرجعون و إلى الحق يفيئون..

(أقوالا بغير علم و غفلة من غير ورع و طمعا في غير حق) تقولون ما لا تفعلون و هذه صفة قبيحة قال تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ » تكثرون الكلام بدون أعمال هذا إذا كانت النسخة أقوالا بغير عمل.

أما إذا كانت أقوالا بغير علم فهو رمي لهم بالجهل و أنهم يرمون كلامهم بدون رصيد شرعي له أو مستند يعتمدون عليه...

ثم يقول لهم إنهم يغفلون عن مصالحهم و يتركون واجباتهم بدون أن يكون ذلك عن خوف من اللّه أو تورع عن الحرام...

و بعبارة أخرى إنهم يغفلون عن بعض الواجبات فلا يؤدونها و ليس ذلك لتورعهم الذي ربما اخطئوا في تصوره...

و أخيرا قال لهم إنهم يطمعون في غير حق يريدون زيادة في عطائهم بدون استحقاق منهم له..

ص: 246

30 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في معنى قتل عثمان و هو حكم له على عثمان و عليه و على الناس بما فعلوا و براءة له من دمه لو أمرت (1) به لكنت قاتلا، أو نهيت (2) عنه لكنت ناصرا (3)، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله (4) من أنا خير منه، و من خذل لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير منّي. و أنا جامع لكم أمره (1) استأثر (5) فأساء (6) الأثرة (7)، و جزعتم (8) فأسأتم الجزع، و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع.

اللغة

1 - الأمر: هو الطلب من العالي إلى الداني.

2 - النهي: هو الكف عن الفعل.

3 - الناصر: المعين.

4 - خذله: لم ينصره، ترك إعانته.

5 - استأثر: بالشيء استبد به و خص نفسه به.

6 - أساء: من ساء فلانا إذا أحزنه؛ فعل به ما يكره.

7 - الأثرة: الاختيار، الأنانية.

8 - جزعتم: من الجزع و هو عدم الصبر.

الشرح

(لو أمرت به لكنت قاتلا) الحديث عن عثمان و قتله،... و قد تبرأ الإمام من ذلك و بيّن براءته بأقصر عبارة و أخصرها و هو حتى ينسب القتل لشخص إنما يكون بأحد

ص: 247

أمرين ؟ إما أن يباشر القتل أو يأمر به و الإمام لم يباشر القتل و لم يدّعه عليه أحد حتى اعداؤه و مناؤوه و أما الأمر فإنه ينفيه و يشهد بذلك موقفه و سفارته بين الثوار و بين عثمان و هذا الكلام منه يشهد أيضا بذلك..

(أو نهيت عنه لكنت ناصرا) و لو نهى عن قتله لكان ناصرا له و لكنه لم ينه عن قتله لما فعله من أحداث و لوجود الثوار و قيام الثورة في وجهه و ضياع كلامه هدرا في تلك الأجواء الصعبة التي لا يستمع فيها صوت على عادة العامة عند ما يرغبون في أمر أو يكرهون أمرا..

(غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه) و هذا من الإمام ذم لأنصار عثمان الذين هم السبب في قتله حيث تجاوزوا المعقول و أخذوا المحصول و أوردوه موارد الهلكة بأعمالهم الشائنة و تصرفاتهم السيئة كمروان و غيرهم من حثالة الأمويين فإنهم هم الذين نصروه فلم يكونوا أفضل ممن لم ينصره و لا يستطيعون ادعاء ذلك فإن الصحابة كانوا في المدينة و هم أفضل من مروان و جماعته..

(و من خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني) و الصحابة هم الذين خذلوا عثمان و تركوا نصرته و الدفاع عنه و هم يعرفون قيمتهم و فضيلتهم و أنهم أشرف و أفضل ممن نصر عثمان و انتصر له لأنه لم ينصره إلا مروان و جماعة بني أمية المنتفعين بخلافته و المستفيدين من مقامه..

(و أنا جامع لكم أمره استأثر فأساء الأثرة و جزعتم فأسأتم الجزع و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع) و أنا ملخّص لكم و بعبارة موجزة قضيته و قصته أما هو فإنه استبد بالأمور و أخذ لنفسه و لعشيرته ما هو للمسلمين و جنى سيوفهم فأساء بهذا التقديم لنفسه و أهله على عامة المسلمين إساءة بالغة و أما المسلمون فقد جزعوا و ضاقت صدورهم و لم يتحملوا و يصبروا فأساءوا بقتله، فهو أساء بالاستئثار لأنه تجاوز حده و هم أساءوا بالجزع لأنهم تجاوزوا حده..

هذا هو رأي الإمام و ما يجري عليه في الدنيا و أما عند اللّه فإن لكل منهما حكم خاص به للقاتل و المقتول هو يعلمه و سوف يلحق مستحقه لا محالة..

ص: 248

31 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما أنفذ عبد اللّه بن عباس إلى الزبير يستفيئه (1) إلى طاعته قبل حرب الجمل لا تلقينّ طلحة، فإنّك إن تلقه تجده كالثّور (2) عاقصا قرنه (3)، يركب الصّعب (4) و يقول: هو الذّلول (5). و لكن الق الزّبير، فإنّه ألين عريكة (6)، فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز و أنكرتني (7) بالعراق، فما عدا (8) ممّا بدا.

قال السيد الشريف: و هو - عليه السلام - أوّل من سمعت منه هذه الكلمة، أعني: «فما عدا مما بدا».

اللغة

1 - يستفيئه: من فاء بمعنى رجع و يستفيئه يسترجعه.

2 - الثور: ذكر البقر و جمعه ثيران و أثوار و ثيار و ثيرة.

3 - عقص الشعر: فتله و لواه و الأعقص من التيوس ما التوى قرناه على أذنيه من خلفه.

4 - الصعب: الدابة الجموح.

5 - الذلول: الدابة المنقادة المطيعة.

6 - ألين عريكة: أسلس خلقا، و العريكة الطبيعة.

7 - أنكرتني: جهلتني و لم تعرفني.

8 - عداه: عن الأمر صرفه و شغله.

ص: 249

الشرح

(لا تلقين طلحة فإنك أن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه يركب الصعب و يقول هو الذلول) في البصرة تواجه الجيشان و قبل بدء المعركة، في موقعة الجمل أحب الإمام أن يرمي آخر سهم معه لعله يرجع ضالا أو يهدي تائها و لذا أرسل ابن عباس إلى الزبير ثالث ثلاثة قاد الناس لقتال الإمام و مع أن طلحة ثاني الثلاثة فإنه نهاه عن لقائه قائلا له هذا القول الذي يحكي نفسية طلحة و يقرأها كما هي. ينهاه أن يأتي طلحة لما يعرفه عنه من كبرياء و غطرسة و ما فيه من عناد و يعبر عنه الإمام بقوله تجده كالثور عاقصا قرنه أي يستعد للقتال لا يفهم و لا يعي و للكبر الذي فيه يعمل ما فيه هلاك دينه و دنياه و يخوض الحرب و مع ذلك يدعي و يقول إنه لم يعمل إلا أمور المطلوبة التي تحفظ الدين.. و إنه طيب مطيع..

(و لكن الق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا) بعد أن نهاه عن لقاء طلحة لما يعرفه عنه من نفسية فاسدة أمره أن يلقى الزبير و علل ذلك بأنه سلس ينقاد و يسمع أمره أن يقول له:

يقول لك ابن خالك و عدل عن قوله: يقول لك أمير المؤمنين لما في كلمة ابن خالك من القربى و الرحم تذكيرا له باصرة مهمة طيبة لعلها تحرك فيه بقايا نخوة رحمية ترجعه إلى الحق و تلويه عن الباطل...

عرفتني بالحجاز أيام السقيفة عند ما وقفت إلى جانبي و طالبت بحقي و أبيت أن تبايع أبا بكر ثم عند ما جعلها عمر شورى كنت معي و قد بايعتني عرفتني في الحجاز و جهلتني و لم تعرفني في العراق حيث قدت الجيوش لحربي و قتالي...

ثم قال له «ما عدا مما بدا» ما الذي ظهر لك من أموري حتى تنكرت لما ابتدأت به من بيعتي و متابعتي... إن الإمام لم يغيّر و لم يبدّل و إنما الزبير هو الذي بدّل و غيّر حيث رأى الأمرة فأحبها و طلبها و سعى جهده من أجلها حتى قاد الجيوش لانتزاعها من أهلها و ممن هو أحق بها منه.

تقول الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: سألت ابن عباس رضي اللّه عنه عن ذلك فقال: إني أتيت الزبير فقلت له: فقال له:

إني أريد ما تريد كأنه يقول الملك لم يزدني على ذلك فرجعت إلى علي عليه السلام فأخبرته ...

ص: 250

فكان الزبير يطلب الأمر لنفسه أو يكون شريكا للإمام بها و هذا ما كان يتوقعه من خلافة الإمام هو و طلحة فلما تبين لهما أن لا نصيب لهما من الحكم أعلنا التمرد و الحرب..

ص: 251

32 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

و فيها يصف زمانه بالجور، و يقسم الناس فيه خمسة أصناف، ثم يزهد في الدنيا

معنى جور الزمان

أيّها النّاس، إنّا قد أصبحنا في دهر (1) عنود (2)، و زمن كنود (3)، يعدّ (4) فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظّالم فيه عتوّا (5)، لا ننتفع بما علمنا، و لا نسأل عمّا جهلنا، و لا نتخوّف قارعة (6) حتّى تحلّ بنا (7).

أصناف المسيئين

و النّاس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلاّ مهانة نفسه (8)، و كلالة حدّه (9)، و نضيض وفره (10)، و منهم المصلت لسيفه (11)، و المعلن بشرّه (12)، و المجلب بخيله (13) و رجله (14)، قد أشرط نفسه (15)، و أوبق دينه (16) لحطام (17) ينتهزه (18)، أو مقنب (19) يقوده، أو منبر يفرعه (20). و لبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا، و ممّا لك عند اللّه عوضا! و منهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا، قد طامن (21) من شخصه، و قارب من خطوه، و شمّر (22) من ثوبه، و زخرف (23) من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة (24) إلى المعصية.

و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه (25)، و انقطاع سببه، فقصرته

ص: 252

الحال على حاله، فتحلّى (26) باسم القناعة، و تزيّن بلباس أهل الزّهادة، و ليس من ذلك في مراح (27) و لا مغدى (28).

الراغبون في الله

و بقي رجال غضّ أبصارهم (29) ذكر المرجع (30)، و أراق دموعهم (31) خوف المحشر (32)، فهم بين شريد (33) نادّ (34)، و خائف مقموع (35)، و ساكت مكعوم (36)، وداع مخلص، و ثكلان (37) موجع (38)، قد أخملتهم (39) التّقيّة (40)، و شملتهم (41) الذّلّة (42)، فهم في بحر أجاج (43)، أفواههم ضامزة (44)، و قلوبهم قرحة (45)، قد وعظوا حتّى ملّوا (46)، و قهروا (47) حتّى ذلّوا، و قتلوا حتّى قلّوا.

التزهيد في الدنيا

فلتكن الدّنيا في أعينكم أصغر من حثالة (48) القرظ (49)، و قراضة الجلم (50)، و اتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم، و ارفضوها ذميمة (51)، فإنّها قد رفضت من كان أشغف (52) بها منكم.

قال الشريف - رضي اللّه عنه -: أقول: و هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، و هي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يشك فيه، و أين الذهب من الرّغام! و أين العذب من الأجاج! و قد دلّ على ذلك الدليل الخرّيت و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ؛ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب «البيان و التبيين» و ذكر من نسبها إلى معاوية، ثم تكلّم من بعدها بكلام في معناها، جملته أنه قال: و هذا الكلام بكلام علي عليه السلام أشبه، و بمذهبه في تصنيف الناس، و في الإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال، و من التقية و الخوف، أليق.

قال: و متى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد، و مذاهب العبّاد!.

ص: 253

اللغة

1 - الدهر: العصر، الزمان.

2 - عنود: جائر.

3 - كنود: كفور.

4 - يعدّ: يحسب.

5 - العتو: الاستكبار و تجاوز الحد و العاتي هو الجبار.

6 - القارعة: الخطب يقرع من ينزل به أي يصيبه، الداهية.

7 - تحل بنا: تنزل بنا.

8 - المهانة: الحقارة.

9 - كلالة حده: ضعف سلاحه، و كلّ السيف إذا لم يعد يقطع.

10 - نضيض وفره: قلة ماله، و النضيض القليل، و الوفر المال.

11 - أصلت سيفه: أخرجه من غمده و شهره.

12 - إعلان شره: المظهر لشره و المجاهر به.

13 - أجلب بخيله: أجلب عليهم أعان عليهم.

14 - الرجل: جمع راجل الماشي على رجليه.

15 - أشرط نفسه لكذا: هيأها و أعدها.

16 - أوبق دينه: أهلكه.

17 - الحطام: أصله ما تكسر من العشب اليابس و هنا المال.

18 - انتهز: اختلس و استلب.

19 - المقنب: الجمع من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين.

20 - فرع المنبر: علاه.

21 - طامن: خفض.

22 - شمّر: من ثوبه قصّر.

23 - الزخرف: التزيين و التنميق.

24 - الذريعة: الوسيلة.

25 - ضؤولة النفس: حقارتها.

26 - تحلى: تزيّن.

27 - المراح: المكان الذي تأوي إليه الماشية في الليل.

28 - مغدى: من غدا إذا ذهب في الصباح.

29 - غض بصره: كفه و كسره عما لا يحل له.

ص: 254

30 - المرجع: محل الرجوع، المعاد و الرجوع إلى اللّه.

31 - أراق الدموع: صبّها و أجراها.

32 - المحشر: المعاد و الحساب، يوم المحشر يوم يحشر الناس فيه للحساب.

33 - الشريد: المشرد، المطرود.

34 - نادّ: المنفرد، الهارب إلى الوحدة.

35 - المقموع: المقهور.

36 - المكعوم: من كعم البعير إذا شد فاه لئلا يعض.

37 - ثكلان: من الثكل و هو الحزن.

38 - موجع: متألم، مريض.

39 - أخملتهم: من الخمول و هو الذي لا نباهة له، الساقط.

40 - التقية: الخوف.

41 - شملتهم: عمتهم.

42 - الذلة: ضد العزة من ذلّ إذا هان.

43 - الأجاج: الملح.

44 - ضامزة: ساكنة.

45 - قرحة: مجروحة.

46 - ملّوا: سئموا و ضجروا.

47 - قهروا: غلبوا.

48 - الحثالة: الثفل.

49 - القرظ: ورق السلم يدبغ به.

50 - قراضة الجلم: الجلم هو المقراض تجز به أوبار الإبل و قراضته ما تساقط من قرضه.

51 - الذميمة: القبيحة.

52 - أشغف: من الشغاف و هو الحب الذي يصل إلى شغاف القلب - الوله.

الشرح

(أيها الناس إنّا قد أصبحنا في دهر عنود و زمن كنود) وصف عليه السلام زمانه و حال الناس فيه و بيّن معايب ذلك الزمن الذي أشبه ما يكون انطباقا على زماننا.. قد كان الزمن في عهد رسول اللّه زمن جهاد و وفاء و إخلاص، زمن ترتفع فيه قيمة المحسن و تعلو منزلته و يؤخذ على يد الظالم حتى يرتدع أو يتوب، يبحث الناس عن العلم

ص: 255

و ينتفعون به و هو بأمن و سلامة من كل نازلة ببركة وجود النبي و حضوره و لكن اقد أصبحنا اليوم في زمن ظالم و وقت كافر و نسب الظلم و الكفر إلى الزمان لوجودهما فيه و إن كان في الحقيقة الظلم و الكفر من أهله، و قد رأى الإمام تحول الناس عن الحق و عدولهم عن الإيمان،. رأى الظلم يستشري و يتخذ أعوانا و أنصارا، يرى معاوية و جنده و يرى طلحة و الزبير و عائشة.. يرى الانحراف و الظلم..

(يعد فيه المحسن مسيئا) و هكذا تنعكس و تتبدل المقاييس و الموازين.. من سيئات الزمن أن يتحول المحسن البار فاعل الخير إلى مسيئ فاسد..

(و يزداد الظالم فيه عتوا) في زمن الظلم و الكفر يكثر الظالمون و يزدادون في غيهم و يسترسلون في ضلالهم لأنهم بمأمن من سطوات الشريعة و أخذها و من أمن العقوبة أساء الأدب..

(لا ننتفع بما علمنا) و هذا توبيخ للمقصرين الذين لا يعملون بما يعلمون.

(و لا نسأل عما جهلنا) و هذا من حظ سوء الإنسان و شقاوته إنه لا يعرف الأمر الفلاني ثم لا يسأل عنه تكبرا عن المسألة أو جبنا و خجلا أو لغيرها من الدواعي، إنه يبقى في الجهل و لا يكلف نفسه عناء السؤال...

(و لا نتخوف قارعة حتى تحل بنا) لا نحسب للأحداث حسابها و لا نعد لها عدتها، لا نفكر في عواقب الأمور و نتطلع إلى المستقبل و ما يحمله حتى إذا نزلت بنا المصيبة و حلت الكارثة عندها التفتنا إلى أنفسنا و انتبهنا من غفلتنا و لكن أين المخرج و كيف السبيل ؟.. و لا مخرج و لا سبيل...

(و الناس على أربعة أصناف منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه و كلالة حده و نضيض وفره) هذا هو الصنف الأول من الأربعة و هو في طبعه الفساد و الانحراف و يريدهما و لكن الحواجز و الموانع تقف في وجهه و تمنعه من القيام بالرذيلة، فإن جبلته مطبوعة على الفساد و لكن لحقارته و ضعته أولا و لعدم قدرته و عجزه ثانيا و لقلة ماله و إفلاسه ثالثا، فهذه الحواجز هي التي تقف دون سعيه في الفساد و الاضلال فلم يمتنع زهدا و إنما امتنع عجزا،..

(و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشره و المجلب بخيله و رجله) و هذا ثاني الأربعة من الأشرار الذين يطلبون الدنيا و قد بين كيف يكون سلوكهم للحصول عليها إنهم قد جردوا السيف و استعملوه في كل ما يحقق أغراضهم فقتلوا و سفكوا الدماء و أعلنوا شرهم

ص: 256

و جهروا بظلمهم و استعملوا كل الوسائل المتاحة لهم و كنى عن ذلك بأجلاب الخيل و الرجل..

(قد أشرط نفسه و أوبق دينه) إن هذا الرجل الشرير قد هيأ نفسه و استعد بجميع الوسائل المعنوية و المادية لإحراز الدنيا و اصطيادها و لكنه قد أفسد دينه و أهلك نفسه بهذا الطلب القبيح..

(لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه) بيّن عليه السلام الأسباب الداعية لهذا الشخص إلى فعل ما يفعله و العلل التي من أجلها كان يسعى، إنه كان يسعى من أجل مال الدنيا ليحصل عليه.. إنه يسعى من أجل حطام الدنيا و ما فيها أو كان يسعى من أجل الزعامة الدنيوية فيتحول إلى رئيس تحت أمرته الناس و الجند يأمر فيطاع فإن صاحب المقنب هو الرئيس الذي تحت أمرته ثلاثين أو أربعين فرسا برجالها و بهم يحقق ما يريد..

أو يكون بكل سعيه يسعى ليعتلي منبرا كناية عن كونه زعيما دينيا له سيطرة على قلوب الناس و توجيههم فهو يطلب بواسطة الدين الدنيا و زعامتها..

(و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا و ممالك عند اللّه عوضا) و الإمام لا يترك الهفوة تمر و الرذيلة تسري حتى يبين فسادها و ضررها و يحذّر من شرها لعل إنسانا ينظر لنفسه أو يرجع إلى ربه...

إنه من الشقاء و التعاسة أن يتجر الإنسان بهذه التجارة الخاسرة من أجل المال أو الرياسة بفرعيها الديني و الدنيوي يبيع نفسه و يجعلها ثمنا لهذه الدنيا و عوضا عما أعده اللّه له في الآخرة من جنات و قصور و عيون و حور عين...

فهو يبيع نفسه و ما أعده اللّه له في الآخرة بمال الدنيا أو زعامتها و هي تجارة خاسرة و معاملة سفهية و هل من عاقل راشد يقوم على مثل هذه التجارة؟..

(و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا) هذا ثالث الأربعة من الذين يطلبون الدنيا.. إنه الذي يظهر بعمله أنه يعمل للآخرة و لكن في الواقع يطلب بعمله الدنيا.. يصلي من أجل أن يصطاد قلوب الناس و ثقتهم ليفتك بهم و بما معهم... يظهر الزهد و النسك و لكن يريد أن تضع الناس أموالها بين يديه فيستغلها لصالحه و صالح أسرته، ينادي بالدين من أجل أن يترأس على الناس، إن صوته يعلو من أجل الآخرة ظاهرا و لكنه يطلب الدنيا في قرارة نفسه و عمقها.. إنه لا يطلب بعمل الدنيا الآخرة بل العكس يطلب بعمل الآخرة الدنيا..

ص: 257

(قد طامن من شخصه و قارب من خطوه و شمر من ثوبه و زخرف من نفسه للأمانة و اتخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية) بين عليه السلام الوسائل و الطرق التي يصطاد بها هذا الرجل قلوب الناس.. إنها طرق شريفة يسلكها الصالحون و أرباب المعرفة، و أهل التقى و الإيمان يسلكها هذا الشخص بنفسه و يقلدهم فيها..

إنه قد طامن من نفسه أي تواضع و التواضع علامة الدين فإن المتكبر بعيد عن الدين لأنه خلاف تعاليمه و وصاياه و قارب من خطوه ليظهر عليه الوقار و السكينة و عدم الطيش و الخفة و شمّر من ثوبه ليظهر أنه محتاط في طهارته و بالتالي متدين ملتزم و أيضا يزخرف من نفسه للأمانة فهو يمدحها أمام الناس و يعدّد طاعاته المقربة من اللّه و أعماله الشرعية كي يكون موضع أمانات الناس و أسرارهم.

إنه اتخذ هذه الأفعال ذريعة إلى المعصية.. فهذه كانت سترا و وقاية جعلها اللّه ليدخل منها الإنسان إلى الطاعة و الجنة و ما فيه رضى اللّه و إذا بهذا الشخص يتخذ هذه الأمور التي يطمأن إلى أن من اتخذها كان من عباد اللّه الصالحين، يتخذها هذا وسيلة من أجل معصية اللّه التي هي طلب الدنيا و الترأس فيها على الناس..

(و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه فقصرته الحال على حاله فتحلى باسم القناعة و تزين بلباس أهل الزهادة و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى) و هذا رابع الأربعة ممن يطلب الدنيا و يريدها و لكن العجز أقعده و القلة منعته.. إنه في قرارة نفسه يريد الملك و الرياسة و السلطة و لكن ضعته و حقارة نفسه و عدم ملكه للأسباب التي توفر ذلك كان وراء قعوده و سكونه و أضحى كما هو على حاله التي يقدر عليها فتحلى باسم القناعة و هذا كثير ما يستعمله العاجز و غير المتمكن فهو لا يقدر على شراء سيارة فيشتري دراجة و يظهر أمام الناس أنه قانع راض و لكن في الحقيقة لم تكن قناعة عن قدرة و إنما كانت عن عجز..

و تزين بلباس أهل الزهادة من ممارسة العبادات و البعد عن المحرمات و القيام ببعض المستحبات.

ثم إنه عليه السلام نفى عنه القناعة و الزهد أصلا و عبّر عنهما بقوله و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى.

(و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع و أراق دموعهم خوف المحشر) هذا هو القسم الخامس الذي لم يذكره الإمام مع الأربعة المتقدمين إنه قسم أفرده لخصوصياته و خصائصه و ما يتمتع به من مناقب و صفات.. صنف عز وجوده في زماننا، أقل من

ص: 258

الكبريت الأحمر.. لم تقع أعيننا على واحد منهم فعسى أن يجود الزمان بمن يصف الإمام...

هؤلاء الرجال غض أبصارهم ذكر المرجع فقد وضعوا الآخرة نصب أعينهم و عرفوا أنهم سوف يعودون إليها.. يعرفون المصير المحتوم الذي ينتظرهم، هذا المصير هو وحده الذي منعهم عن الحرام و عن ممارسة الممنوعات.. فإن الإنسان إذا أيقن أنه سيرجع إلى اللّه عرف مصيره و نهايته فإنه لا بد و أن يمتنع عن كل حرام و يمتنع عن كل فساد...

و كذلك بكوا في ظلمات الليل خوفا من الوقوف بين يدي اللّه.. إنهم ينتحبون لعلهم في الآخرة يضحكون..

(فهم بين شريد ناد) أهل الآخرة الذين لا يداهنون و لا يسايرون على حساب الدين.. الذين هم للّه و همهم كلمة اللّه.. هؤلاء مشرّدون في أطراف الأرض بعيدون في بقاعها.. قالوا كلمة الحق فأغضبت الظالمين فأرادوهم فهربوا و نأوا في طول الأرض و عرضها..

(و خائف مقموع) و من لم يقدر على الهرب و الفرار فهو يعيش الخوف و الفزع على نفسه و دينه في قهر و إذلال..

(و ساكت مكعوم) فهو ساكت قهرا عنه ممنوع من الكلام و الحديث لا يقدر أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن منكر..

(وداع مخلص) فهذا يتوجه إلى اللّه يدعوه بإخلاص و لا يدعو غيره.

(و ثكلان موجع) و هذا متألم حزين لما يصيب الدين على أيدي الظالمين..

(قد أخملتهم التقية) فمن الخوف لا يظهرون و لا يعرفون فمن هنا ليسوا في الواجهة و المقدمة، لم تعرفهم وسائل الإعلام و لم تكتب عنهم الصحف و المجلات..

(و شملتهم الذلة) و الاتقياء أذلة في دولة الظالمين و المعتدين يمارس عليهم أنواع من الاستهزاء و السخرية و لكن إلى حين.

(فهم في بحر أجاج) يعيشون منفردين ضمن هذا العالم الفاسد الذي لا يرعى الحقوق و لا يحفظ الحدود..

(أفواههم ضامزة) أفواههم ساكتة لا تستطيع إنكار المنكر و رفع الصوت في وجه الانحراف و الفساد..

ص: 259

(و قلوبهم قرحة) قلوبهم مجروحة بما يجري أمامهم من المنكرات فلا يستطيعون تغييرها كناية عن أساهم و لوعتهم و أسفهم..

(قد وعظوا حتى ملوا) قاموا قدر استطاعتهم في إرشاد الناس و بيان الأحكام حتى سئمت نفوسهم لعدم الاستجابة لهم..

(و قهروا حتى ذلوا) جرت عليهم عملية القهر و الضغط حتى أذلهم الطغاة فلذا نجد من شدة سوط السلطان و سيفه لا يظهر الإنسان علنا و لا يمارس عبادته بحرية كاملة..

(و قتلوا حتى قلوا) فلذا نرى رجال اللّه قلة بل نوادر لأن الداعية للّه سيواجه العالم بلسانه و موقفه و قلمه و يده و هذا يعرّضه للهلاك و القتل و لكثرة الظالمين و ممارساتهم و ما يلاحقون به هؤلاء الرجال قلوا و أصبحوا أقل من القليل..

(فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ و قراضة الجلم) توجه الإمام في نهاية هذه الخطبة إلى موعظة الناس و ردهم إلى اللّه و ذلك باستصغار الدنيا و نبذها و تركها و التخلي عنها لأنها السبب في بعد الإنسان عن اللّه.

و على الإنسان أن يجعلها في عينه أصغر و أحقر من بقايا النبات الذي يدبغ به أو ما يتساقط عند ما يجز الغنم فإن ذلك شيء تافه حقير لا يسأل عنه أحد و لا يبحث عنه أحد فكذلك أنتم انبذوا الدنيا و احتقروها و احتقروا ما فيها.

(و اتعظوا بمن كان قبلكم) فقد سبقتنا أمم كثيرة لم يبق منها أثر، ماتوا جميعا و قضوا كلهم و لم يبق إلا ذكرهم نسمع بهم و نعلم أخبارهم قد لقوا وجه ربهم و عنده الحساب و لهم الثواب أو العقاب فهؤلاء يجب أن نأخذهم عبرة لنا و موعظة نأخذ من أعمالهم ما يفيدنا و نجتنب عنها ما يضرنا.. فنعمل بالأولى و نترك الثانية و هكذا تكون طريقة العاقل يرى غيره فيأخذ تجربته و يستفيد منها و لا يرضى أن يكون هو محط التجربة..

(قبل أن يتعظ بكم من بعدكم) لا تكونوا أنتم محط التجربة فيستفيد منكم غيركم مما يأتي بعدكم و لا تستفيدون أنتم ممن سبقكم.

(و ارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم) اتركوها قبيحة سيئة فإنها لقبحها و سيئاتها قد تركت من كان أشد حبا لها منكم و أشد رغبة... إنها تخلّت عمن كان أشد حبا لها فهي بالأولى أن تترككم و لم تحبوها كحبهم.

ص: 260

33 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

عند خروجه لقتال أهل البصرة، و فيها حكمة مبعث الرسل، ثم يذكر فضله و يذم الخارجين قال عبد اللّه بن عباس - رضي اللّه عنه -: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار (1) و هو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت: لا قيمة لها! فقال عليه السلام: و اللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّا، أو أدفع باطلا، ثم خرج فخطب الناس فقال:

حكمة بعثة النبي

إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا، و لا يدّعي (2) نبوّة، فساق (3) النّاس حتّى بوّأهم محلّتهم، و بلّغهم منجاتهم (5)، فاستقامت قناتهم (6)، و اطمأنّت صفاتهم (7).

فضل علي

أما و اللّه إن كنت لفي ساقتها (8) حتّى تولّت بحذافيرها (9): ما عجزت (10) و لا جبنت (11)، و إنّ مسيري هذا لمثلها؛ فلأنقبنّ الباطل حتّى يخرج الحقّ من جنبه.

توبيخ الخارجين عليه

ما لي و لقريش! و اللّه لقد قاتلتهم كافرين، و لأقاتلنّهم مفتونين (13)،

ص: 261

و إنّي لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم! و اللّه ما تنقم منّا قريش إلاّ أنّ اللّه اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا (14)، فكانوا كما قال الأوّل:

أدمت لعمري شربك المحض (15) صابحا *** و أكلك بالزّبد المقشّرة البجرا (16)

و نحن و هبناك العلاء و لم تكن *** عليّا، و حطنا حولك الجرد و السّمرا (17)

اللغة

ذي قار: موضع قريب من البصرة.

2 - أدعى: الشيء زعم أنه له حقا أو باطلا.

3 - ساق: الماشية حثها على المشي من خلف.

4 - بوأهم: أسكنهم.

5 - المنجاة: جمعها مناج الباعث على النجاة.

6 - القناة: الرمح، عمود الظهر المنتظم للفقار.

7 - الصفاة: الحجر الأملس.

8 - الساقة: جمع سائق.

9 - تولت بحذافيرها: أي بأسرها.

10 - العجز: عدم القدرة.

11 - الجبن: الفزع و الخوف.

12 - نقّب: ثقب.

13 - مفتونين: ضالين.

14 - الحيز: المكان و هو مأخوذ من الحوز أي الجمع و هذا في حيز فلان أي في جهته و مكانه.

15 - المحض: اللبن الخالص.

16 - البجر: الأمر العظيم.

17 - الجرد: جمع أجرد و هو الفرس الذي دق شعره و قصر و يمدح به الفرس.

18 - السمر: مفرده أسمر و هو الرمح.

ص: 262

الشرح

قال عبد اللّه بن عباس - رضي اللّه عنه - دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار و هو يخصف نعله.

فقال لي: ما قيمة هذا النعل ؟.

فقلت: لا قيمة لها.

فقال عليه السلام: و الله لهي أحب إليّ من أمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا ثم خرج فخطب الناس فقال خرج الإمام من المدينة قاصدا البغاة في البصرة و عند ما وصل إلى ذي قار قرب البصرة كانت بينه و بين ابن عباس هذه المحاورة الرائعة التي تكشف عن الهدف الأعلى للإمام من الخلافة و إن غاية الحكم عنده ليس أن يعتلي كرسي الحكم بل مهمة الحكم و غاية الحاكم أن يبسط سلطان الحق و العدل بين الناس و إلا فلا قيمة للحكم بل قط اعتباره و لا يعود له مبرر في الوجود و البقاء...

و الإمام خطب الناس بعد ذلك فقال:

(إن اللّه بعث محمدا صلى اللّه عليه و آله و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا و لا يدعي نبوة فساق الناس حتى بوأهم محلتهم و بلغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم و اطمأنت صفاتهم) قدم الإمام هذه المقدمة ليدخل منها إلى مقصوده و هو مبررات حربه للبغاة و إنها كحرب رسول اللّه لقريش و هي كافرة بينما الآن يحاربها الإمام و هي ضالة منحرفة ثم بين نقمة قريش عليه و سبب ذلك.. ذكر مبعث رسول اللّه المبارك و إنه سبحانه بعثه نبيا و ليس في العرب كافة من يقرأ كتابا فهي أمة أميّة لا تحسن القراءة و لا تجيدها و لم يدع أحد من ابنائها نبوة و أنه رسول من قبل السماء إلى الناس في تلك الحالة بعث اللّه رسوله محمدا فقام بدوره الرسالي في تقويم الأمة و تعديلها فساق الناس بجهاده و كفاحه حتى أسكنهم مكانهم اللائق بهم من حيث إيصالهم إلى زيادة الأمم و قيادة العالم و أوصلهم إلى سعادتهم و ما ينجيهم من النار، و بعبارة أخرى جعلهم أمة تحتل مكانها في قيادة العالم و في ذلك سعادة الدنيا كما جعلها أمة ناجية من عذاب اللّه و عقابه و بذلك سعادة الآخرة فاعتدلت قوتها لأنها وضعت في موضعها من حيث أن هذه القوة تحولت إلى الجهاد في سبيل اللّه بعد أن كانت في طرق الغزو و النهب و السلب و ذلك هو الاعوجاج و الانحراف التي كانت عليه قبل بعثة الرسول و أطمأنت صفاتهم أي كانوا مهزوزين مضطربين مهددين من قبل بعضهم بغارة يشنها عليه الآخرون أو حرب يوقدها

ص: 263

عدوهم و أما الآن فقد استقر الوضع و ارتاحت القلوب و النفوس..

(أما و اللّه إن كنت لفي ساقتها حتى تولت بحذافيرها ما عجزت و لا جبنت) ذكر عليه السلام دوره في استقامة أمور العرب و استقرارهم و إنه من الذين ساقوها أمامهم و دفعوها للإسلام و الإيمان و هذا واضح سليم فإن نظرة واحدة إلى معارك الإسلام و غزواته يقف الإنسان على مدى ما قدمه الإمام في هذا السبيل و يرى بأم عينه دوره في نشر الإسلام و القضاء على الكفر و هكذا بقي مجاهدا حتى تولت الجاهلية بكل عاداتها و تقاليدها و مواريثها السخيفة، لم يعجز عن أداء مهمة أو ينكل في موقف أو يتخاذل و يخاف من عدو في حال بل هو القوي في كل موقف و الشجاع أمام كل حادثة و أمام كل بطل...

(و إن مسيري هذا لمثلها فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه) يشد عزائم أتباعه و أنصاره و يقوّي شوكتهم بأنه لن يجبن و لن يضعف و هو كما كان سيبقى و هذه المسيرة التي هو فيها و التي يقودها مثل التي كانت مع رسول اللّه على الحق و لسوف يشق الباطل فيقضي على البغاة من أجل أن تتحد الأمة و تتوحد و تفيئ الفئة الباغية إلى حكم اللّه أو يقضى عليها..

(ما لي و لقريش، و اللّه لقد قاتلتهم كافرين و لأقاتلنهم مفتونين و إني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم) استفهم عليه السلام عما تنكر عليه قريش استفهاما استنكاريا و إنه ليس عليه شيء يمكن أن يؤخذ عليه حتى تقف منه هذا الموقف العدائي...

ثم أراد أن يذكرّهم بماضيهم و يخوّفهم من مستقبلهم بأنه قد قاتلهم على زمن رسول اللّه و قد كانوا كفارا فهداهم اللّه بسيفه و جهاده و هو الآن سيقاتلهم بغاة ضلالا منحرفين و أنا كما عهدوني بالأمس، أنا صاحبهم الذي يعرفونه جيدا و يعرفون موافقه المشهورة و أنا صاحبهم اليوم أيضا،. أنا الذي يقف في وجوههم و يقاومهم و يردهم إلى الطاعة و الانقياد و يخلصهم من الفتنة و الانحراف.. أنا لهم اليوم مفتونين كما كنتم لهم بالأمس كافرين..

(و اللّه ما تنقم منا قريش إلا أن اللّه اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا فكانوا كما قال الأول:

أدمت لعمري شريك المحض صابحا *** و أكلك بالزبد المقشرة البجرا

و نحن وهبناك العلاء و لم تكن *** عليا و حطنا حولك الجرد و السمرا)

ص: 264

أقسم عليه السلام أن قريشا لا تشكو من علي خاصة و أهل البيت عامة إلا اختيار اللّه لهم و اصطفائهم عليهم و هذه هي عقدة النقص في قريش ترى نفسها قاصرة عن بني هاشم لا تدرك علاها و لا تبلغ ذراها فيؤذيها أن ترى من هو أفضل منها، و بهذه الفضيلة الإلهية و الاختصاص الرباني كان الطريق لإدخال قريش في الحيز الذي عم البشرية و هو إدخالهم في الإسلام و قد أصبح لهم عزا و قوة و اقتدارا... و استشهد بهذين البيتين من الشعر على أن ما هم فيه من الفضل و النعيم فضل جهاد أهل البيت و تضحياتهم و ما قدموه في سبيل انتشار الإسلام و بسط سلطانه الذي منه استمدت قريش مقامها و أمجادها..

ص: 265

34 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج، و فيها يتأفف بالناس، و ينصح لهم بطريق السداد أفّ لكم (1)! لقد سئمت (2) عتابكم (3)! أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة عوضا (4)؟ و بالذّلّ من العزّ خلفا (5)؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم (6)، كأنّكم من الموت في غمرة (7)، و من الذّهول (8) في سكرة (9). يرتج (10) عليكم حواري (11) فتعمهون (12)، و كأنّ قلوبكم مألوسة (13)، فأنتم لا تعقلون. ما أنتم لي بثقة سجيس اللّيالي (14)، و ما أنتم بركن (15) يمال بكم، و لا زوافر (16) عزّ يفتقر إليكم. ما أنتم ألاّ كإبل ضلّ (18) رعاتها (19)، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس - لعمر اللّه - سعر (20) نار الحرب أنتم! تكادون و لا تكيدون، و تنتقص (21) أطرافكم فلا تمتعضون (22)؛ لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون (23)، غلب و اللّه المتخاذلون (24)! و ايم اللّه إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس (25) الوغى (26)، و استحرّ الموت (27)، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرّأس. و اللّه إنّ امرأ يمكّن (28) عدوّه من نفسه يعرق لحمه (29)، و يهشم (30) عظمه، و يفري (31) جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك إن شئت؛ فأمّا أنا فو اللّه دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفيّة (32) تطير منه فراش الهام (33)، و تطيح (34) السّواعد و الأقدام، و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء.

ص: 266

طريق السداد

أيّها النّاس، أنّ لي عليكم حقّا، و لكم عليّ حقّ : فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم، و توفير فيئكم (35) عليكم، و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا. و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النّصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، و الطّاعة حين آمركم.

اللغة

1 - أف: كلمة تضجر، و استقذار و مهانة.

2 - سئم: ضجر و ملّ .

3 - العتاب: اللوم، الإنكار عليه بشيء من فعله.

4 - العوض: البدل.

5 - الخلف: العوض.

6 - دارت أعينكم: اضطربت من الجزع.

7 - الغمرة: من الغمر و هو الستر.

8 - الذهول: النسيان.

9 - سكرة: الموت غشيته و شده و السكر ضد الصحو.

10 - يرتج: يغلق.

11 - الحوار: المحاورة.

12 - تعمهون: من عمه تحير و تردد.

13 - المألوسة: المخلوطة بمس الجنون.

14 - السجيس: الأبد.

15 - الركن: ما يقوى به، العز و المنعة و من البناء الجانب الأقوى منه، الشريف.

16 - الزوافر: جمع زافرة و زافرة الرجل أنصاره و عشيرته.

17 - الإبل: الجمال.

18 - ضل: ضاع و ذهب.

19 - الرعاة: مفردها الراعي كل من ولي أمر قوم و من يتولى تدبير شئون قطيع من الحيوانات.

ص: 267

20 - السعر: جمع ساعر موقد النار.

21 - تنتقص: من نقص الشيء ذهب منه شيء بعد تمامه.

22 - تمتعضون: تغضبون و تأنفون.

23 - ساهون: غافلون.

24 - المتخاذلون: من خذل إذا ترك نصرته و معونته.

25 - حمس: كفرح اشتد و صلب في دينه.

26 - الوغى: الحرب و ساحة الوغى ساحة الحرب و في الأصل للصوت و الجلبة.

27 - استحر: بلغ في النفوس غاية شدته.

28 - يمكّن: عدوه منه يجعل له سلطانا عليه و قوة.

29 - يعرق لحمه: يأكل اللحم حتى لا يبقى منه شيء على العظم.

30 - هشم: العظم كسّره.

31 - يفري: لحمه أي يمزقه.

32 - المشرفية: السيوف.

33 - فراش الهام: العظام الرقيقة التي تلي القحف.

34 - تطيح السواعد: تسقط.

35 - الفيء: الخراج و ما يحويه بيت المال.

الشرح

(أف لكم لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا و بالذل من العز خلفا) بعد انتهاء أمر الخوارج في النهروان أراد الإمام أن يكمل شوطه في جهاد معاوية فدعاهم للخروج فورا إليه و لكنهم أصروا أن يدخلوا الكوفة و يرجعوا إلى أهلهم فيستعدوا فرجع بهم إلى النخيلة فعسكر هناك و أمرهم أن يلزموا ذلك المكان فكانوا يتسللون و يدخلون الكوفة فتركوه عليه السلام و ما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل و بقي المعسكر خاليا فلا من دخل الكوفة خرج إليه و لا من أقام معه صبر فلما رأى ذلك دخل الكوفة فخطب الناس و حثهم فلم ينفروا فتركهم أياما ثم خطبهم هذه الخطبة...

«أف لكم» لم يقلها الإمام إلا بعد أن طفح الكيل.. إنهم لم يستجيبوا له و لم يمتثلوا أمره و قد خطبهم أكثر من مرة و حثهم فلم يجد منهم استجابة فآذاه تمردهم و عدم

ص: 268

استجابتهم فبادرهم بكلامه «أف لكم لقد سئمت عتابكم» مللت من كثرة تأنيبكم و ذكر سقطاتكم و لم يعد بإمكاني أن أعدد أفعالكم.

أرضيتم أن تبيعوا الآخرة الباقية و ما فيها من النعيم و الحور و الخير بالدنيا الزائلة الفانية؛ إنها صفقة خاسرة من غير راشد و رضيتم بالذل يطالكم بقعودكم و سكوتكم و عدم قيامكم بالجهاد.. و هذا استفهام استنكاري توبيخي يقصد به الحث و الدفع..

(إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة و من الذهول في سكرة) إذا دعاهم الإمام لحرب معاوية و الخروج إليه أصيبوا بالخوف و الفزع و كان حالهم كحال الذي يغشى عليه من الموت و هو الذي قرب من حال الموت و غشيته أسبابه فيذهل و يذهب عقله و يشخص بصره فلا يطرف و هذا تصوير لشدة كراهتهم للحرب بحيث صارت دعوتهم إليه مؤذية لهم منغصة عليهم هدؤهم و سكونهم..

(يرتج عليكم حواري فتعمهون و كأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون) بيّن حاله معهم عند ما يحاورهم و يطرح عليهم القضايا و يحشرهم في أفعالهم و تصرفاتهم فيترددون و يضطربون و هذه حالة العاجز الذي يرى خطأه و لا يستطيع أن يجيب على تصرفه جوابا صحيحا مقنعا فينغلق عليه الجواب و يعجز عن الرد و يصبح حالهم كمن أصابه مس في عقله فهو يتصرف بغير شعور و بالتالي لا تكون تصرفاته محكومة بالسداد و التوفيق فهم لا يفكرون و لا عقل لهم يحكم تصرفاتهم..

(ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي) نزع الإمام ثقته منهم حيث كانوا يعدونه ثم لا يفون دخلوا الكوفة على أمل الخروج منها لحرب عدوهم فاستطابوا الجلوس بين الأهل و العيال و امتنعوا و هكذا كانوا يخالفون ما يقولون فأنا لا أثق بكم أبدا و على طول الدهر و هذا لشدة ما رأى منهم من المخالفات..

(و ما أنتم بركن يمال بكم) نفى عنهم أن يكونوا قوة يعتمد عليها في انتزاع النصر أو قوة تقهر الأعداء و ينتصر بهم عليهم..

(و لا زوافر عز يفقتر إليكم) لستم أنصار عز لمن. يحتاج إليكم لأنكم أذلاء فلا تدفعون ضيما و لا ترفعون حيفا..

(ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر) لاختلاف آرائهم و تشتت كلماتهم و عدم اجتماعهم على أمر واحد شبههم بالجمال التي غاب عنها المسئولون عن حفظها و رعايتها فلغيابهم عنها إذا اجتمعت من جهة تفرقت من أخرى

ص: 269

لعدم الرابط بينها و عدم الجامع فكل فرد يختار ما يحب و يتجه كيف يشاء..

(لبئس - لعمر اللّه - سعر نار الحرب أنتم) بئس الرجال أنتم للحرب إذا اشتعلت نارها لأنها تحتاج إلى رجال أشداء أقوياء و أنتم لستم على مستوى ذلك..

(تكادون و لا تكيدون و تنتقص أطرافكم فلا تمتعضون) يرسم لكم الأعداء طرق الاحتيال و المكر التي تضر بكم و تؤذيكم و لا تردون لهم أمثالها أو تقابلونها بأشباهها فهم أقدر منكم على الفتك.

و أما بلادكم فإنها تتقلص من نواحيها حيث يشن عدوكم عليها الغارات فيستولي على بعضها و بذلك يحوزها و لا تتأثرون أو تغضبون شأن من لا يعنيهم الأمر و لا يخصهم و هذه صفات رذيلة يجتنبها الشرفاء..

(لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون غلب و اللّه المتخاذلون) معاوية كان يخطط باستمرار للتغلب على أهل العراق يستدعي عمروا من فلسطين و يشتري الضمائر و يرشي الرؤساء و يحيك المؤامرات.. في الشام مركزه و لكن عملاؤه في عاصمة حكم الإمام ينقلون إليه ما يجري بحذافيره، كانوا يكتبون إليه و يبينون له مواطن الضعف.. إنه لم ينم بل يفكر في الوسائل التي يغلب بها الإمام و أنصاره و لكن في مقابل هذه اليقظة من قبل أهل الشام و قيادتهم كان أهل العراق في غفلة لا يتنبهون و لا يتحسسون و كان الإمام يعيش هذا الفارق الكبير فينذرهم و يرشدهم و يحرك فيهم الهمم و يبعث فيهم روح الاندفاع كأنه يقرأ بين القبور فلا أحد يسمع.

ثم أراد أن يعطيهم النتيجة التي سيصلون إليها إن استمروا على ذلك و هي أن كل متخاذل غير مندفع في تحصيل حقه سينهزم و يغلبه خصمه فلا تكونوا متخاذلين لئلا تغلبوا..

(و أيم اللّه إني لأظن بكم أن لو حمس الوغى و استحر الموت قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس) و هذا قسم منه و هو صادق فيما يقسم أنه إذا كان في قلب المعركة و قد اشتد أوراها و حمى وقعها و ارتفعت حراراتها و بلغت من الشدة مداها، في تلك اللحظات الصعبة سيفرون عنه و يتركونه وحيدا لا يعودون إليه أبدا كما لا يعود الرأس إلى الالتئام إذا تحطم و تهشم و تكسر..

(و اللّه أن أمرا يمكّن عدوه من نفسه يعرق لحمه و يهشم عظمه و يفري جلده لعظيم عجزه ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره) أقسم عليه السلام بأن أي إنسان يتخاذل عن مقارعة الأعداء و يتوانى فيمكّنهم من نفسه يمارسون عليه أنواع الذل و الانتقام فيأخذون

ص: 270

أمواله و يسلبون كرامته و يدوسون مقدساته فهذا من أعجز الناس فكرا و منطقا و قوة لا يملك قلبا شجاعا و لا قوة يواجه بها جبروت الظالمين و في هذا الكلام حث على أن لا يكونوا كذلك..

(أنت فكن ذاك إن شئت فأما انا فوالله دون ان اعطى ذلك ضرب بالمشرقيه تطير منه فراش الهام و تطيح السواعد و الأقدام و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء) بعد أن بين أن الأقوياء و الشرفاء لا يسلمون أنفسهم إلى أعدائهم ليمارسوا عليهم أنواع الذل و القهر أبي لنفسه أن يكون من أولئك الضعفاء الذين استسلموا للأعداء و خاطب من تقبل نفسه ذلك بأنك أنت إذا اخترت أن تكون ذلك الذي يمكّن عدوه من نفسه فأنت و شأنك و ما اخترت، تختار الذل فأنت و ما تختار تتحمل مسئولية نفسك و تختار ما تريد من أنواع الذل أما أنا علي بن أبي طالب فلن أمكن أعدائي مني و لن أقبل أن أدفع إليهم بنفسي يمارسون ما يشاءون من إذلال عليها و قهر و اضطهاد،.. لا يكون ذلك بل سأعطيهم السيف الذي به تطير رؤوسهم و تنفصل سواعدهم و أقدامهم و بعد هذه المقاومة ليكن ما يريد اللّه و ما يشاء أغلب أم أغلب.. فهو عليه السلام أخذ على نفسه و علمنا كيف تكون الصلابة في مواجهة الباطل و إن العاقل لا يعطي عدوه شيئا يمكنه به من نفسه بل يبذل قصارى جهده في مواجهته و يدفعه بكل وسيلة حتى لو كانت المقارعة بالسيوف التي تنال الرءوس و الأطراف..

(أيها الناس إن لي عليكم حقا و لكم عليّ حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم) الحقوق بين الحاكم و المحكوم متبادلة فليس الحاكم طاغوتا يتحكم في رقاب الناس و يمارس عليهم ما يشاء و ما يحب دون ضوابط تحكم تصرفاته و تحد من صلاحياته، بل إنه محكوم لقانون شرعي لا يخرج عنه أو يتعداه و هو بعد ذلك كله مسئول عن رعيته و يذكر الإمام جملة من هذه الواجبات و المسئوليات فأولها النصيحة للرعية بأن يتوخى لهم ما ينفعهم و يفيدهم فيرشدهم إليه و يأمرهم به و ينصحهم بممارسته و القيام به، فيدلهم على الطريق السليمة التي يسعدوا بها في دنياهم و آخرتهم.

(و توفير فيئكم عليكم) و هي أموال المسلمين و ما جنته سيوفهم تكون لهم فلا يصرفها الحاكم في شهواته و قراباته كما فعل ذلك الخليفة الثالث فأثار المسلمين عليه و كانت من جملة الأسباب التي دعت للتخلص منه.. ففيء المسلمين و ما في بيت المال هو للمسلمين يقسم بينهم بالسوية و قد كانت سيرة الإمام مع ابن أمه هي نفسها التي أجراها مع جميع المسلمين و عليهم دون تفاوت أو تمييز..

ص: 271

(و تعليمكم كيلا تجهلوا) فالجهل و الأمية وراء كل تأخر و تقهقر و لم ترتق الأمم إلا بالعلم و المعرفة و واجب الحاكم أن يوفر للرعية الظروف المناسبة كي يتعلموا بل فرض الإسلام على المسلم المعرفة و أشاد بالعلم و العلماء و حث على ذلك.. و إن الدول الراقية تفرض على شعبها أن يتعلم و تسلك جميع الطرق من أجل القضاء على الأمية و الجهل..

(و تأديبكم كيما تعلموا) و كذلك من واجبات الحاكم أن يؤدب المسيئين الذين يتجاوزون القانون و ردهم إلى الطاعة فمن قتل قتل و من اعتدى اقتص منه و من تجاوز الحد أقيمت عليه الحدود و هكذا دواليك فيأخذ قصاصه المجرم و يتأدب به غيره و يعلم الحكم من يجهله، و إقامة الحدود و الاقتصاص من المنحرفين وظيفة الحاكم و له هذا المقام و عليه تجري هذه الأمور..

(و أما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة) بعد أن ذكر ما للرعية من حقوق على الحاكم ذكر هنا حقه عليهم و أول الحقوق و أهمها أن يكونوا أوفياء له فيما بايعوه عليه.. بايعوه على أن يكون خليفة يقوم بشئونهم و يدبر أمورهم فيجب عليهم أن يفوا بذلك فلا يبايعوا غيره و لا يعطوا يدا لسواه و لا يقبلوا إلا به.. إنهم رضوا به قائدا لهم و خليفة عليهم فليس لهم بعد ذلك أن يعطوا لغيره ما أعطوه له..

(و النصيحة في المشهد و المغيب) بأن يكونوا في حال غيابه كما هم في حال حضوره إذا رأوا أمرا فيه مصلحة بادروا إلى بيانه و الافصاح عنه و إذا رأوا عورة بينوها و أوضحوا معالمها فإن النصيحة - بيان الصالح و ما فيه منفعة و فائدة - تجري بين المسلمين عامة و تتأكد فيما بين الحاكم و المحكوم لأثرها على المجتمع فيما لو تركت و لم يخبر بها الحاكم..

(و الإجابة حين أدعوكم و الطاعة حين آمركم) فإذا دعوتكم لأمر لبيتم الأمر و استجبتم لدعائي فبادرتم بدون تسويف أو تأخير فليس لكم أن تتمردوا أو تتوقفوا أو تتعللوا و تتساءلوا فإن الحاكم يبحث عن مصلحة شعبه و ما ينفعهم فهو عند ما يأمرهم يجب عليهم الامتثال و الطاعة و الانقياد لتحصيل منافعهم و ما فيه مصلحتهم..

ص: 272

35 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

بعد التحكيم و ما بلغه من أمر الحكمين و فيها حمد اللّه على بلائه، ثم بيان سبب البلوى

الحمد على البلاء

الحمد للّه و إن أتى الدّهر (1) بالخطب (2) الفادح (3)، و الحدث (4)، الجليل. و أشهد أن لا إله إلا اللّه لا شريك له، ليس معه إله غيره، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، صلّى اللّه عليه و آله.

سبب البلوى

أمّا بعد، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب (5) تورث الحسرة (7)، و تعقب (8) النّدامة (9). و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، و نخلت (10) لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم (11) عليّ إباء المخالفين الجفاة (12)، و المنابذين (13) العصاة، حتّى ارتاب (14) النّاصح بنصحه، و ضنّ (15) الزّند (16) بقدحه (17)، فكنت أنا و إيّاكم كما قال أخو هوازن (18):

أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى (19) *** فلم تستبينوا (20) النّصح إلاّ ضحى الغد

ص: 273

اللغة

1 - الدهر: الزمن.

2 - الخطب: الأمر العظيم.

3 - الفادح: من فدحه الأمر إذا أعاله و أبهظه و أعجزه.

4 - الحدث: الحادث.

5 - المجرّب: الذي جربته الأمور و أحكمته.

6 - تورث: تترك و تخلّف.

7 - الحسرة: التلهف، و الحسران من اشتدت حسرته و ندامته على أمر فاته.

8 - تعقب: تخلف.

9 - الندامة: الحزن و الأسف.

10 - نخل: الدقيق صفاه و أخلصه.

11 - أبيتم: من أبى الشيء إذا كرهه و لم يرضه و أبى عليه امتنع و أبى الشيء عليه منعه عنه.

12 - الجفاة: هم الخشن الغلاظ الذين لا يؤلفون.

13 - المنابذين: من نبذ الشيء إذا طرحه.

14 - ارتاب: أشك و أتردد.

15 - ضنّ : بخل.

16 - الزند: العود الذي يقدح به النار.

17 - القدح: بالزند محاولة إخراج النار منه.

18 - هوازن: قبيلة عربية.

19 - منعرج اللوى: اسم المكان.

20 - تستبينوا: من أبان الشيء إذا اتضح و استبان الشيء وضح.

الشرح

اشارة

(الحمد للّه و إن أتى الدهر بالخطب الفادح و الحدث الجليل) ابتدأ عليه السلام بحمد اللّه على ما جاء به الزمن من الضراء و البلاء فإنه أتى بأمر عظيم و حادث كبير ألا و هو انحراف الحكمين في حكمهما و عدولهما عن الحق إلى الضلال من حيث خلعا الخليفة الشرعي بدون مبرر و هو حمد على السراء و الضراء..

ص: 274

(و أشهد أن لا إله إلا اللّه لا شريك له ليس معه إله غيره و أن محمدا عبده و رسوله صلى اللّه عليه و آله) اعتراف و إقرار للبركة و التذكير تعليما لنا و تأديبا بأن اللّه واحد لا شريك له و أراد تأكيد هذا المضمون بنفي الشريك معه و اتبع ذلك بالشهادة لمحمد بأنه عبد اللّه و رسوله..

(أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة و تعقب الندامة) قبل أن يدخل في مقصوده أراد أن يبين كبرى كلية و قضية حقيقية و مفادها أن رفض قبول رأي الإنسان الناصح الذي يؤدي النصيحة و هي لا تؤدي إلا إذا قلب الناصح وجه الأمور و صدرها و عرف أسفلها و أعاليها و دخل إلى عمقها الشفيق الذي دفعه العطف و الحب و من كان شفوقا على إنسان بحث عما يريحه و ينفعه...

العالم الذي يعرف الأمور و له خبرة بها و اطلاع عليها المجرب، الذي تتبع القضايا و أدرك صحتها فإن هذا الإنسان الذي اجتمعت فيه هذه الصفات إذا خالفه أحد كان خلافه و رفض قوله و عدم قبوله يورث الألم و الحسرة و يأتي بالندامة و الملامة..

(و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري) إشارة منه بل تصريح إلى أنه رفض التحكيم و لم يقبل به و قال لأهل العراق لا تضعوا سيوفكم إلا بعد النصر و تحقيق الأمر و إن معاوية و عمرو بن العاص و من خلفهما لم يرفعوا المصاحف طاعة لحكمها و إنما رفعوها خدعة و غدرا فأبوا عليه و رفضوا قوله و خرجت الخوارج عليه و أجبرته على قبول التحكيم..

(و نخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر) استخلصت لكم الرأي الصحيح مما جربته و وقفت عليه و علمته و هو رفض التحكيم و متابعة القتال و لكن لم تطيعوا رأيي بل عصيتم و تمردتم.

و الحق معي و مع ما ذهبت إليه من الرأي و قوله لو كان يطاع لقصير أمر فهو مثل يضرب لكل ناصح عصى و هو مصيب في رأيه.

و أصله: إن جذيمة الأبرش من ملوك العرب كان قد قتل أبا الزباء ملكة الجزيرة و بعد فترة بعثت إليه ليتزوجها خدعة منها له و سألته القدوم عليها فأجابها إلى ذلك و خرج إليها في ألف فارس و خلّف باقي جنوده مع ابن أخته عمرو بن عدي و كان قصير مولى له أشار عليه أن لا يتوجه إليها فلم يقبل رأيه فلما قرب جذيمة من الجزيرة استقبله جنود الزباء بالعدة و لم ير منهم إكراما له فأشار عليه قصير بالرجوع عنها و قال: إنها امرأة و من شأن النساء الغدر فلم يقبل فلما دخل إليها غدرت به و قتلته فعندها قال قصير:

ص: 275

«لا يطاع لقصير أمر» فذهبت قولته مثلا...

(فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة و المنابذين العصاة) امتنعتم عن قبول رأيي امتناع المعاندين البعداء عني في جفاء و غلظة المحاربين لي المتمردين على أمري و هكذا كانوا فلم يحاوروا الإمام و يستمعوا منه بل بخشونة و رعونه كان حديثهم معه و منطقهم.، لم يقبلوا إلا التحكيم و لم يسمعوا لكلام الإمام و مقولته و قد كان الخوارج بهذه الصفات و عاملوه بأشد ما يكون حتى هددوه بأنه إذا لم يقبل بالتحكيم سوف يقتلونه كما قتل عثمان.. إلى كلام جاف غليظ حتى حملوه على القبول كرها و قسرا...

(حتى ارتاب الناصح بنصحه و ضن الزند بقدحه فكنت انا و إياكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد)

هذا منه بيان لكثرة ما اجتمع منهم على رأي واحد يخالف الحق حتى أن الناصح عند ما يراهم مجتمعين على رأي واحد يشكك في رأيه حيث يذهب إلى أن هذه الكثرة لم تكن لتذهب كلها إلى الباطل و يجتمع رأيها على غير الحق.

و أما قوله و ضن الزند بقدحه أي امتنعت عن ابداء الآراء المفيدة الصائبة عند ما رأيت رفضكم و امتناعكم عن قبول رأي و هو مثل يضرب لمن يبخل بفوائده لما يجده من رفض قوله...

ثم إنه كان أمره و أمرهم كما قال أمرهم و نصحهم و أرشدهم فلم يقبلوا منه و لكنهم أدركوا خطأهم و ندموا على تمردهم عند ما اتضحت لهم الأمور فتبين لهم سوء اختيارهم بعد حين...

و هذا البيت من الشعر لدريد بن الصمة يشرح قصته مع أخيه و تفصيلها أن أخاه عبد اللّه غزا بني بكر بن هوازن فغنم منهم و استاق إبلهم فلما كان بمنطقة منعرج اللوى قال: و اللّه لا أبرح حتى أنحر البقيعة و هي ما ينحر من النهب قبل القسمة و أجيل السهام فقال له أخوه دريد: لا تفعل فإن القوم في طلبك فأبى عليه فأقام و نحر البقيعة و بات فلما أصبح هجم القوم عليه فطعنوه فاستغاث بأخيه دريد فدفع عنه فطعن أيضا و حال الليل فنجا دريد و مات أخوه فقال دريد قصيدة من جملتها هذا البيت من الشعر.

تاريخ و موقف:

بايع المهاجرون و الأنصار عليا خليفة بعد قتل عثمان و لكن طلحة و الزبير و أم

ص: 276

المؤمنين عائشة خرجوا إلى البصرة فكانت موقعة الجمل الذي قتل فيها جمع غفير من المسلمين بما فيهم طلحة و الزبير و نجت المرأة و بعد ذلك النبأ المروع تمرد معاوية في الشام و لم يكن قد أعطى الطاعة أو أعلن البيعة فجرت الرسل فأبى ابن أبي سفيان إلا تمردا و عنادا فما كان من الإمام إلا أن جهز جيشا لقتاله و هو أيضا في مقابله جهز جيشا بعد أن استدعى عمرو بن العاص و اتخذه وزيرا و أعطاه مصرا طعمة...

و في أواخر سنة ست و ثلاثين كان الجيشان في مواجهة بعضهما و هما على أهبة الاستعداد للقتال و لكنهما توادعا في شهر محرم من سنة سبع و ثلاثين على أن يتركا الحرب هذا الشهر لعلهما يصلان إلى صلح فلما انقضى أنذرهم الإمام و دعاهم إلى الطاعة فأبوا و تمردوا فكانت موقعة صفين التي ذهبت بأعيان الصحابة و وجهاء الأمة و زعماء الملة و التي خلفت جرحا أعقبه شهادة الإمام و انتقال الخلافة إلى ابن هند...

و نحن سنوجز الواقعة و نقتصر في تفاصيلها و نبين منها رأي الإمام و كيف رفض الهدنة مع معاوية و لم يقبل بوقف الحرب و لكنه غلب على رأيه و رأي الأشتر و من معهما...

كان القادة من جيش علي الأشتر النخعي على خيل الكوفة و سهل بن حنيف على جند البصرة و عمار بن ياسر على رجالة الكوفة و قيس بن سعد على رجالة البصرة و هاشم بن عتبة المرقال معه الراية و جعل مسعر بن فدكي على قراء الكوفة و أهل البصرة.

و أما معاوية فجعل على ميمنته ذي الكلاع الحميري و على ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري و على مقدمته أبا الأعور السلمي و على خيل دمشق عمرو بن العاص و على رجالة دمشق مسلم بن عقبة المري و على الناس كلهم الضحاك بن قيس...

ابتدأ القتال في أول صفر من سنة سبع و ثلاثين و أخذ يشتد و يقوى حتى بلغ ذروته و مداه في ليلة هي أعظم ليلة لم يشهد مثلها العرب من ذي قبل تسمى ليلة الهرير.

و قد أشرف الأشتر في صبيحتها على عسكر معاوية ليدخله حتى وصل الأمر بمعاوية أن وضع رجله بالركاب و أراد الفرار.

و عندئذ أشار عمرو على معاوية بقوله الق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا و إن ردوه اختلفوا أدعهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك و بينهم فإنك بالغ به حاجتك في القوم و إني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.

فعرف معاوية ذلك و قال: صدقت.

ص: 277

ثم أمر معاوية بالمصاحف أن ترفع فرفع خمسمائة مصحف من جملتها مصحف المسجد الأعظم.

ثم نادوا يا معشر العرب اللّه اللّه في النساء و البنات و الأبناء من الروم و الترك و أهل فارس غدا إذا فنيتم.. اللّه اللّه في دينكم هذا كتاب اللّه بيننا و بينكم.

و عند ما سمع أصحاب الإمام ذلك اختلفوا فيما بينهم فطائفة قالت: القتال، و طائفة قالت: المحاكمة إلى كتاب اللّه و لا يحل لنا الحرب و قد كان الأشعث قد خطب في أصحابه من كندة و لوح بوقف الحرب.

و عند ما رأى الإمام من أصحابه هذا الاختلاف قام خطيبا فقال: «أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب اللّه و لكنّ معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط و ابن أبي سرح و ابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا و رجالا فكانوا شر صغار و شر رجال و يحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها و إنهم يعرفونها و يعلمون بها و لكنها الخديعة و الوهن و المكيدة أعيروني سواعدكم و جماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه و لم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا...

فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي سيوفهم على عواتقهم و قد اسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي و زيد بن حصين و عصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوه باسمه لا بأمرة المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت إليه و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فو اللّه لنفعلنها إن لم تجبهم.

فردهم الإمام و بين لهم أنها المكيدة و المكر فأبوا و طلبوا منه أن يبعث وراء الأشتر و يرده عن القتال فأرسل وراءه فاستمهله الأشتر عدو الفرس فأصروا عليه حتى أنبأه أن القوم خيّروه بين قتل الإمام أو يرجع الأشتر فرجع الأشتر و سبهم و سبوه.

و ابتدأت المفاوضات على أن يحيوا ما أحيا القرآن و يميتوا ما أمات القرآن...

فاختار أهل الشام عمرو بن العاص.

فقال الأشعث و القراء الذين صاروا خوارج اخترنا أبا موسى الأشعري.

فقال الإمام: لا أرضى بأبي موسى و لا أرضى أن أوليه فهذا ابن عباس.

قالوا: و اللّه ما نبالي أ كنت أنت أو ابن عباس و لا نريد إلا رجلا هو منك و من

ص: 278

معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر.

قال عليه السلام: فإني أجعل الأشتر.

فقال الأشعث: و هل سعّر الأرض علينا إلا الأشتر و هل نحن إلا في حكم الأشتر.

قال عليه السلام و ما حكمه ؟.

قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت و ما أراد.

فلما أبى الناس إلا أبا موسى و الرضا(1) بالكتاب و أرادوا أن يكتبوا الكتاب.

كتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين فقال عمرو: اكتب اسمه و اسم أبيه هو أميركم و أما أميرنا فلا.

فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا، لا تمحها و إن قتل الناس بعضهم بعضا فأبى ذلك علي مليا من النهار ثم أن الأشعث بن قيس قال: امح هذا الاسم فمحى فقال على: اللّه أكبر سنة بسنة و اللّه إني لكاتب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يوم الحديبية فكتب محمد رسول اللّه و قالوا: لست برسول اللّه و لكن اكتب اسمك و اسم أبيك فأمرني رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بمحوه فقلت: لا أستطيع.

فقال: أرنيه فمحاه بيده و قال: إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب...

و كتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل الكوفة و من معهم و قاضى معاوية على أهل الشام و من معهم. إننا ننزل على حكم اللّه و كتابه و أن لا يجمع بيننا غيره و إن كتاب اللّه بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحي ما أحيا و نميت ما أمات فما وجد الحكمان في كتاب اللّه و هما أبو موسى عبد اللّه بن قيس و عمرو بن العاص عملا به و ما لم يجداه في كتاب اللّه فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة و أخذ الحكمان من علي و معاوية و من الجندين من العهود و المواثيق أنهما آمنان على أنفسهما و أهليهما و الأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه و على عبد اللّه بن قيس و عمرو بن العاص عهد اللّه و ميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرادها في حرب و لا فرقة حتى يعصيا و أجل القضاء إلى رمضان و أن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه و إن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة و أهل الشام و شهد الشهود من الطرفين و أبى الأشتر أن يشهد.7.

ص: 279


1- تاريخ ابن الأثير ج - 3 حوادث سنة 37.

اجتمع الحكمان في دومة الجندل و مع كل منهما فرقة من أتباعه.

و بعد أخذ و رد و طول جدال أرتأ أبو موسى الأشعري أن يخلع الرجلين و يجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا.

فقال عمرو: الرأي ما رأيت فأقبلا إلى الناس و هم مجتمعون.

فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق فتكلم أبو موسى.

فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح اللّه به أمر هذه الأمة.

فقال عمرو: صدق و بر تقدم يا أبا موسى فتكلم، فتقدم أبو موسى.

فقال له ابن عباس: ويحك و اللّه إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم به قبلك ثم تكلم به بعده فإنه رجل غادر و لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما فإذا قمت في الناس خالفك.

و كان أبو موسى مغفلا فقال: إنا قد اتفقنا و قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها و ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي و رأي عمرو عليه و هو أن نخلع عليا و معاوية و يولي الناس أمرهم من أحبوا و إني قد خلعت عليا و معاوية فاستقبلوا أمركم و ولوا عليكم من رأيتموه أهلا ثم تنحى.

و أقبل عمرو فقام و قال: إن هذا قد قال ما سمعتموه و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و أثبت صاحبي معاوية فإنه ولي ابن عفان و الطالب بدمه و أحق الناس بمقامه.

فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو و مكايده.

فقال أبو موسى: فما أصنع ؟ وافقني على أمر ثم نزع عنه.

فقال ابن عباس: لا ذنب لك يا أبا موسى، الذنب لمن قدّمك في هذا المقام.

قال: غدر فما أصنع ؟.

فقال ابن عمر أنظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة، صار إلى رجل ما يبالي ما صنع و إلى آخر ضعيف.

و قال أبو موسى لعمرو: لا وفقك اللّه غدرت و فجرت إنما مثلك «كمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث».

فقال عمرو: إنما مثلك «كمثل الحمار يحمل أسفارا» و بين الكلب و الحمار ضاع أمر الأمة و توجهت إلى غير وجهتها السليمة.

ص: 280

فعاد أصحاب الإمام إلى الكوفة في هم و غم أرادوا مع إمامهم أن يهيئوا أنفسهم ليخرجوا إلى قتال معاوية و رجع أصحاب معاوية إليه بالبهجة و السرور و لم تهمل الأيام عليا أو تتركه حتى ينفجر الموقف مع أهل النهروان من أصحاب الإمام فيقتلهم ثم يقتل الإمام بيد خارجي كافر و ينتقل الأمر إلى الحسن عليه السلام و لظروف صعبة يذكرها التاريخ يستولي معاوية على مقاليد الحكم و يتولى الأمر بالغلبة و القهر...

و مقصودنا من سرد ما أوردناه أن الإمام رفض مبدأ التحكيم و حذر أصحابه من قبوله و لكنهم رفضوا أمره و أبوا عليه إلا القبول.. و بعد القبول فرضوا عليه أبا موسى الأشعري و الإمام يعرفه و يعرف موقفه منه و هكذا كانت مسيرة الأحداث..

ص: 281

36 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في تخويف أهل النهروان (1) فأنا نذير (2) لكم أن تصبحوا صرعى (3) بأثناء هذا النّهر (4)، و بأهضام (5) هذا الغائط (6)، على غير بيّنة (7) من ربّكم، و لا سلطان (8) مبين معكم: قد طوّحت (9) بكم الدّار، و احتبلكم (10) المقدار (11)، و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم (12) عليّ إباء المنابذين (13)، حتّى صرفت (14) رأيي إلى هواكم، و أنتم معاشر (15) أخفّاء الهام (16)، سفهاء الأحلام (17)؛ و لم آت - لا أبالكم - بجرا (18)، و لا أردت لكم ضرّا (19).

اللغة

1 - النهروان: بلدة قريبة من بغداد.

2 - النذير: المنذر و هو المخوف و النذير هو الذي يعلم بالشيء و يحذر من عواقبه.

3 - صرعى: جمع صريع أي طريح.

4 - أثناء النهر: منعطفاته.

5 - الأهضام: جمع هضم و هو المطمئن من الوادي.

6 - الغائط: من الأرض ما انخفض منها.

7 - البينة: الدليل و الحجة ما يظهر به الشيء.

8 - السلطان: جمعه سلاطين.

9 - طوحت: من طاح إذا هلك و سقط و طوح به رماه.

10 - احتبلكم: أوقعكم في حبالته.

ص: 282

11 - المقدار: القدر الإلهي.

12 - أبيتم: من أبى الشيء إذا كرهه و أبى عليه امتنع و أبى الشيء عليه منعه عنه.

13 - المنابذين: من نبذ الشيء إذا طرحه.

14 - صرفت: الرأي عن كذا حولته عنه و دفعته.

15 - معاشر: مفرده معشر الجماعة.

16 - أخّفاء الهام: الهام الرأس و الخفة في العقول الطيش.

17 - سفهاء الأحلام: السفهاء الحمقى و الأحلام العقول.

18 - البجر: بالضم الشر و الأمر العظيم و الداهية.

19 - الضر: ضد النفع، الشدة و الضيق، سوء الحال.

الشرح

اشارة

(فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر) وجّه الإمام كلامه إلى الخوارج المعبر عنهم أيضا في لسان الأحاديث النبوية بالمارقين و قد أخبر صلوات اللّه عليه أنهم شرار الناس و أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية و كانوا قد أجبروا الإمام على التحكيم ثم حكموا بكفر من رضي به بما فيه أنفسهم و لكنهم تابوا و أمروا غيرهم بالتوبة منه فوعظهم الإمام و خوفهم و أنذرهم و كانت هذه الخطبة بمثابة إنذار لهم و تهديد بأنه لن يتركهم يعيثون في الأرض فسادا بل سيأخذهم و يقضي عليهم.

خوفهم و حذرهم من أن يكونوا ضحايا و أمواتا في أطراف هذا النهر و منعطفاته حيث يتجمعون و يلتقون لقتاله و قد أنذرهم الإمام و حاورهم و ناقشهم و أوضح لهم السبيل و بين لهم الحق و لكن لقصورهم الفكري و الثقافي و ضيق أفقهم الذي يرونه كانوا مصرين على موقفهم الخاطئ...

(و بإهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم و لا سلطان مبين معكم) حذرهم و أنذرهم أن يكونوا قتلى في منعطفات النهر و تعرجاته و في منبسط الأرض و سهلها و موتهم هذا يكون بدون بينة لهم و لا حجة تدعم موقفهم و ما ذهبوا إليه من الرأي و الموقف و هذا إسقاط لإعذارهم و أنهم حمقى يقدمون على الموت بدون مبرر شرعي أو حجة...

(قد طوحت بكم الدار و احتبلكم المقدار) دفعتكم الدنيا و طرحتكم بعيدا في

ص: 283

مهاوي الهلكة و قضت عليكم شهواتكم و تعصبكم الأعمى و كبلتكم أقدار اللّه في حبالة لا يمكنكم الفكاك منها..

(و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المنابذين) رفض الأمام التحكيم و لم يقبل به و قال للناس إن هذه خدعة و نهاهم عن قبوله و لكنهم رفضوا قوله و قالوا له: إن أن تقبل و إن أن نقتلك كما قتلنا ابن عفان فقد رفضوا رأيه رفض الأعداء الحاقدين و التاريخ ينقل رفض الإمام و تحذيره لهم و كلماته في هذا الرفض..

(حتى صرفت رأيي إلى هواكم) فما ذهب إليه الإمام من رفض التحكيم و الإصرار على متابعة الحرب حتى النهاية هو الرأي الصائب الذي يجب أن يعمل به و لكن الإمام تنازل عنه أمام ضغط الرأي المخالف الذي اجتمع عليه القراء و أصحاب الأهواء ممّن كانت نظرتهم محدودة أو محكومة بحكم الهوى و لكن الإمام سجله للتاريخ و قاله أمام الناس ليكون له حجة عليهم إذا غيّروا مواقفهم و بدلوها و قد كان ما حسب الإمام و قدره.. (و أنتم معاشر أخفاء الهام سفهاء الأحلام و لم آت - لا أبا لكم - بجرا و لا أردت لكم ضرا) و أنتم جماعات لضعف عقولكم تتحولون في كل وقت عن آرائكم و تغيّرون مواقفكم لم تبلغوا الرشد في تصوراتكم و تقديراتكم للأمور و هذا الوصف منه لهم في موقعه فقد عرفوا بقصور النظر و الانكماش على الذات و عدم إمكان التحاور، و الإصرار على ما يرون مع خطأ مصدره و مقصده فالعقول ضعيفة و الأحلام خفيفة ثم بيّن أنه لم يأت بسيئة أو شر و لا أراد لهم ضرا عند ما قبل معهم و تحت ضغوطهم و ما أجبروه عليه من التحكيم حفظا لوحدتهم و عدم تشتتهم خوفا عليهم أن يضرب بعضهم بعضا و تذهب ريحهم..

الخوارج:

اشارة

الخوارج جماعة انشقت من جيش الإمام علي عليه السلام و قد ذهبت أول أمرها إلى إجباره و من كان على رأيه إلى التحكيم عند ما رفع معاوية المصاحف أمامها و دعاها إلى النزول على حكمه ثم عدلت عن رأيها و رأت خطأ ما ذهبت إليه من التحكيم و عدته كفرا يحتاج إلى التوبة منه و الإقلاع عنه و قد أرادوا من الإمام ذلك و أصروا عليه أن يرفض التحكيم بعد أن أجبروه عليه فكان جوابه أبعد أن أعطاهم العهد و رضي بالحكومة ينتقضها دون مبرر فما كان منهم إلا أن اعتزلوه و نابذوه و نحن ننقل بعض أخبارهم بشكل موجز يتناسب و المقام الذي نحن فيه...

ص: 284

إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) عنهم:

وردت الأخبار عن النبي بهذه الفرقة المارقة و قد رواها أصحاب الصحاح و نقلها المفسرون و بلغت في كثرتها حد التواتر أذكر منها.

1 - عن أبي سعيد الخدري كما في صحيح البخاري(1) قال: بينما نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يقسّم قسما أتاه ذو الخويصرة و هو رجل من بني تميم.

فقال: يا رسول اللّه أعدل.

فقال: ويلك و من يعدل إذا لم أعدل ؟ قد خبت و خسرت إن لم أعدل.

فقال عمر: يا رسول اللّه ائذن لي فيه فاضرب عنقه.

قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (إلى أن قال) آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدر در و يخرجون على خير فرقة من الناس.

(قال أبو سعيد) فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم و أنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الذي نعت...

2 - روى بسنده عن عبيدة عن علي كما في صحيح مسلم في باب التحريض على قتل الخوارج قال: ذكر الخوارج فقال: فيهم مخدج اليد أو مؤدن اليد أو مثدون اليد لو لا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد اللّه الذين يقتلونهم على لسان محمد صلّى اللّه عليه و سلّم قال: قلت: أنت سمعته من محمد صلّى اللّه عليه و سلّم ؟.

قال: إي و رب الكعبة إي و رب الكعبة...

و روى مسلم في صحيحة في كتاب الزكاة باب التحريض على قتل الخوارج روى بسنده عن زيد بن وهب الجهني إنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج.

فقال علي: أيها الناس إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤن القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء و لا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء و لا

ص: 285


1- صحيح البخاري باب بدء الخلق.

صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرؤن القرآن يحسبون أنه لهم و هو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم ما مضى لهم على لسان نبيهم لا تكلوا على العمل و آية ذلك أن فيهم رجلا له عضد و ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض (إلى أن قال) و قتل بعضهم على بعض و ما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان.

فقال علي: التمسوا فيهم المخدج فالتمسوه فلم يجدوه فقام علي بنفسه حتى أتى أناسا قد قتل بعضهم على بعض قال: أخرجوهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال:

صدق اللّه و بلغ رسوله فقام إليه عبيدة فقال: يا أمير المؤمنين اللّه الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ؟ قال: إي و اللّه الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا و هو يحلف له.

و روى مضمون هذا الحديث في قتال الخوارج.

ابن ماجة في صحيحة باب ذكر الخوارج و كذلك أبو داود في باب قتال الخوارج و أحمد بن حنبل في مسنده و رواه في مستدرك الصحيحين و في الطبقات لابن سعد و في الحلية لأبي نعيم و تاريخ بغداد و الهيثمي في مجمعه و كنز العمال.

و بالجملة فكما قلنا بلغ حد التواتر عن النبي (صلی الله علیه و آله) ...

قصة الخوارج:

رفع معاوية المصاحف على الرماح بعد أن كاد يهلك و قال جماعته بيننا و بينكم كتاب اللّه من لثغور الشام بعد أهله ؟! من لثغور العراق بعد أهله ؟...

فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب اللّه...

فقال لهم علي: عباد اللّه أمضوا على حقكم و صدقكم و قتال عدوكم فإن معاوية و عمرا و ابن أبي معيط و حبيبا و ابن أبي سرح و الضحاك ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا فكانوا شر أطفال و شر رجال ويحكم و اللّه ما رفعوها إلا خديعة و وهنا و مكيدة.

فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب اللّه فنأبى أن نقبله فقال لهم علي: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا لحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم(1) و نسوا عهده و نبذوا كتابه

ص: 286


1- الكامل في التاريخ لأبن الأثير ج - 3 ص 317.

فقال له مسعر بن فدكي التميمي و زيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد: يا علي أجب إلى كتاب اللّه عز و جل إذا دعيت إليه و إلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلناه بابن عفان.

قال الإمام: فاحفظوا عني نهيي إياكم و احفظوا مقالتكم لي فإن تطيعوني فقاتلوا و إن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم...

و في شرح النهج لأبن أبي الحديد.

فجاءه من أصحابه - أصحاب الإمام(1) - زهاء عشرين ألفا مقنعيّن في الحديد، شاكي سيوفهم على عواتقهم و قد أسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي و زيد بن حصين و عصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوه باسمه لا بأمرة المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت إليه و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فو اللّه لنفعلنها إن لم تجبهم...

فقال لهم: ويحكم! أنا أول من دعا إلى كتاب اللّه و أول من أجاب إليه و ليس يحل لي و لا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله، إني إنما قتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم و نقضوا عهده و نبذوا كتابه و لكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوك و أنهم ليس العمل بالقرآن يريدون..

قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتينك و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله..

تنبيه: يجب أن نتنبه إلى أمرين مهمين.

الأول: إن الإمام كان يرفض التحكيم و يأباه و يصر على مواصلة المعركة حتى نهايتها فإن النصر بعد ساعات و هذا ما صرح به في كلماته و استشهد القوم عليه.

الثاني: إن الخوارج كانوا أسرع الناس إلى قبول فكرة التحكيم و إنهم هددوا الإمام بتسليمه لمعاوية أو قتله إن هو لم يوقف المعركة و يقبل بالتحكيم..

اعتزال الخوارج عليا:

تحت ضغط الخوارج و من يجتمع معهم في الرأي اضطر الإمام أن يوقف معركة

ص: 287


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج - 3 ص 317.

صفين و قد قهروه أيضا على اختيار من يفاوض عنه بارتضائهم لأبي موسى الأشعري مع رفض الإمام له..

و كتبت صحيفة الهدنة و اختيار الحكمين و بعد أن تم ذلك و رجع الإمام إلى الكوفة و الهدنة قائمة ينتظر الناس ما يرجع به الحكمان و إذا بالخوارج يعلنون التمرد و العصيان و ينشقون عن جيش الإمام متخذين لأنفسهم حكومة حرب مؤقتة في حروراء في إثني عشر ألفا من الزهاد و العباد و نادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي و أمير الصلاة عبد اللّه بن الكوّا اليشكري و الأمر شورى بعد الفتح و البيعة للّه عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر...

و سمع الإمام بموقف الخوارج و جاءته أخبارهم فأرسل ابن عباس و أمره أن لا يعجل في خصومتهم حتى يقدم عليهم...

قدم الإمام عليهم و هم يخاصمون ابن عباس فقال له: ألم أنهك عن كلامهم...

ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة.

ثم قال لهم: من زعيمكم ؟.

قالوا: ابن الكوا.

قال: فما أخرجكم علينا؟.

قالوا: حكومتك يوم صفين.

قال: أنشدتكم اللّه أ تعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف و قلتم نجيبهم قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب دين ؟ و ذكر ما كان قال لهم، ثم قال لهم قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن و يميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف و إن أبيا فنحن عن حكمهما براء...

قالوا: فخبرّنا أ تراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء.

قال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمّنا القرآن و هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال.

قالوا: فخبرنا عن الأجل لما جعلته بينكم ؟.

قال: ليعلم الجاهل و يثبت العالم و لعل اللّه يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة...

ثم لم يقتنعوا بمقالة الإمام و لم يحجوه بشيء عندهم بل كانوا يعكرون صفو

ص: 288

الجماعة و ينابذونها و يرون الأمة كلها قد كفرت بهذا التحكيم و عليها أن تتوب و رفعوا شعار «لا حكم إلا للّه» فكان الإمام يقول: لا حكم إلا للّه يريد به غير ما أرادوا و يطلب غير ما طلبوا.. حتى قال له بعض قادتهم: تب من خطيئتك و ارجع عن قضيتك و اخرج بنا إلى عدونا حتى نلقى ربنا فقال له علي عليه السلام: أردتكم على ذلك فعصيتموني و قد كتبنا بيننا و بين القوم كتابا و شرطنا شروطا و أعطينا عليها عهودا و قد قال اللّه تعالى:

«وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ » ..

فقال حرقوص بن زهير: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.

فقال علي: ما هو بذنب و لكنه عجز عن الرأي و قد نهيتكم.

فقال زرعة أحد قادتهم: يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقتلنك أطلب وجه اللّه تعالى.

فقال علي: بؤسا لك ما اشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح...

قال: وددت لو كان ذلك...

و خطب الإمام ذات يوم فحكمت المحكمة في جوانب المسجد «قالوا لا حكم إلا للّه».

فقال الإمام: كلمة حق أريد بها باطل إن سكتوا غممناهم و إن تكلموا حججناهم و إن خرجوا علينا قاتلناهم...

ثم خطب الإمام في يوم آخر فقام رجل فقال: «لا حكم إلا للّه» ثم توالى عدة رجال يحكمون.

فقال علي: اللّه أكبر، كلمة حق أريد بها باطل.

أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه و لا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، و لا نقاتلكم حتى تبدءونا و إنما فيكم أمر اللّه.

ثم إن الخوارج التقوا في منزل عبد اللّه بن وهب الراسبي فخطبهم و زهدهم في الدنيا فأمّروه عليهم بعد أن رفضها غيره...

قرروا جميعا أن يخرجوا عن دائرة حكم الإمام و ينفصلوا عنه و خططوا لذلك بنصب رئيس لهم بايعوه فكان عبد اللّه بن وهب الراسبي و خرجوا إلى جسر النهروان و كتبوا إلى إخوانهم في الآفاق أن يوافوهم...

ص: 289

خرجت الخوارج و قد جرى التحكيم على غير كتاب اللّه و قد اتخذوا موقفا من الإمام على مستوى عدائهم لمعاوية...

و كتب الإمام إلى الخوارج المجتمعين بالنهر: بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين و عبد اللّه بن وهب و من معهما من الناس: أما بعد فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب اللّه و اتبعا هواهما بغير هدى من اللّه فلم يعملا بالسنة و لم ينفذا القرآن حكما فبرىء اللّه منهما و رسوله و المؤمنون فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا و عدوكم و نحن على الأمر الأول الذي كنا عليه.

فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك و إنما غضبت لنفسك فإن شهدت على نفسك بالكفر و استقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا و بينك و إلا فقد نبذناك على سواء إن اللّه لا يحب الخائنين.

فلما قرأ الكتاب يئس منهم فرأى أن يدعهم و يمضي لحرب أهل الشام.

ثم كتب الإمام إلى ابن عباس في البصرة أن يشخص إليه من أهلها المقاتلة فخرج إليه ثلاثة آلاف و مائتان و كتب إلى سعد بن مسعود في المدائن بإرسال من عنده من المقاتلة.

و في تلك الأثناء، ترتفع بعض الأصوات بقتال الخوارج و التخلص منهم حتى يتفرغوا لقتال أهل الشام و تكون أظهرهم في أمن و كذلك أموالهم و ذريتهم...

فقال لهم الإمام: بلغني إنكم قلتم كيت و كيت و إن غير هؤلاء الخارجين أهم إلينا فدعوا ذكرهم و سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكا و يتخذوا عباد اللّه خولا فناداه الناس: أن سربنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت..

الخوارج و الإفساد في الأرض:

أخذ الإمام على نفسه أن لا يقاتل الخوارج طالما أنهم لم يقاتلوه و لم يفسدوا في الأرض أو يرّوعوا الناس و يعتدوا عليهم.. و لكن هذه العصابة المتحجرة غير الواعية لم تكتف بالاعتزال عن الإمام و مخالفته في نهجها الفكري الخاطئ حتى سلكت طريق الإفساد و ترويع الناس بل هددت نظام حكم الإمام عند ما عمدت إلى المسلمين تقتل من خالفها منهم في الرأي و المعتقد و من ذلك كما يرويه التاريخ و أنقل نص ابن الأثير في كامله فيقول:

ص: 290

لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلا يسوق بامرأة على حمار فدعوه فانتهروه فأفزعوه و قالوا له: من أنت.

قال: أنا عبد اللّه بن خبّاب صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقالوا له: أفزعناك ؟.

قال: نعم.

قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تنفعنا به.

فقال: حدثني أبي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها مؤمنا و يصبح كافرا و يصبح كافرا و يمسي مؤمنا.

قالوا: لهذا الحديث سألناك.

فما تقول في أبي بكر و عمر؟ فأثنى عليهما خيرا.

قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته و في آخرها؟.

قال: إنه كان محقا في أولها و في آخرها.

قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم و بعده ؟.

قال: إنه أعلم باللّه منكم و أشد توقيا على دينه و أنفذ بصيرة.

فقالوا: إنك تتبع الهوى و توالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها و اللّه لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا.

فأخذوه و كتفوه ثم أقبلوا به و بامرأته و هي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه.

فقال آخر: أخذتها بغير حلها و بغير ثمن فألقاها، ثم مرّ بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه فقالوا: هذا فساد في الأرض فلقى صاحب الخنزير فأرضاه.

فلما رأى ذلك منهم ابن خبّاب قال: لئن كنتم صادقين فيما رأى فما عليّ منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا و لقد آمنتموني، قلتم: لا روع عليك فاضجعوه فذبحوه فسال دمه في الماء، و أقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة ألا تتقون اللّه فبقروا بطنها و قتلوا ثلاث نسوة من طيىء و قتلوا أم سنان الصيداوية.

فلما بلغ عليا قتلهم عبد اللّه بن خباب و اعتراضهم الناس بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم و ينظر ما بلغه عنهم و يكتب به إليه و لا يكتمه فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه و أتى عليا الخبر و الناس معه.

ص: 291

فقالوا: يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا و أموالنا؟ سربنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام...

فخرج إليهم الإمام بالناس و لما وصل إليهم قال لهم: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فقالوا: كلنا قتلهم و كلنا مستحل لدمائكم و دمائهم فدار حوار و نقاش و خطبهم الإمام بقوله:

إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا الوادي و بأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم و لا برهان مبين.. الخطبة المتقدمة...

فتنادى الخوارج: لا تخاطبوهم و لا تكلموهم و تهيئوا للقاء اللّه.. الرواح الرواح إلى الجنة فعاد علي عنهم.

ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر و كانوا غربه فقال لعلي أصحابه: إنهم قد عبروا الجسر.

فقال: لن يعبروا فأرسلوا طليعة فعاد و أخبرهم أنهم عبروا النهر و كان بينهم و بينه عطفة من النهر فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد فقال: إنهم عبروا النهر.

فقال علي: و اللّه ما عبروه و إن مصارعهم لدون الجسر و واللّه لا يقتل منكم عشرة و لا يسلم منهم عشرة و تقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه و كان الناس قد شكوا في قوله و ارتاب به بعضهم فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا و أخبروا عليا بحالهم فقال:

و اللّه ما كذبت و لا كذبت ثم أنه عبأ أصحابه فجعل على ميمنته حجر بن عدي و على ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس الرياحي و على الخيل أبا أيوب الأنصاري و على الرجالة أبا قتادة الأنصاري و على أهل المدينة و هم سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد بن عبادة.

و عبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي و على الميسرة شريح بن أوفى العبسي و على خيلهم حمزة بن سنان الأسدي و على رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي.

و أعطى علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان فناداهم أبو أيوب فقال: من جاء تحت هذه الراية فهو آمن و من لم يقتل و لم يستعرض و من انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن و خرج من هذه الجماعة فهو آمن لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم فقال فروة بن نوفل الأشجعي: و اللّه ما أدري على أي شيء نقاتل عليا أرى

ص: 292

أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنجين و الدسكرة، و خرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة و خرج إلى علي نحو مائة و كانوا أربعة آلاف فبقي مع عبد اللّه بن وهب ألف و ثمانمائة فزحفوا إلى علي و كان علي قد قال لأصحابه كفوا عنهم حتى يبدءوكم فتنادوا الرواح إلى الجنة و حملوا على الناس فافترقت خيل علي فرقتين.. فأهلكوا في ساعة فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا...

و لما فرغ علي من المعركة أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج فالتمسوه فقال بعضهم: ما نجده حتى قال بعضهم ما هو فيهم فقال الإمام: و اللّه إنه لفيهم، و اللّه ما كذبت و لا كذبت ثم إنه جاءه رجل فبشره فقال يا أمير المؤمنين قد وجدناه و قيل بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل و معه سليم بن ثمامة الحنفي و الريان بن صبرة فوجده في حفرة على شاطىء النهر في خمسين قتيلا فلما استخرجه نظر إلى عقده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة و حملة عليها شعرات سود فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى ثم تترك فتعود إلى منكبيه فلما رآه قال: اللّه أكبر ما كذبت و لا كذبت لو لا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص اللّه على لسان نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم عارفا للحق الذي نحن عليه.

و قال حين مر بهم و هم صرعى: بؤسا لكم لقد ضركم من غركم.

قالوا: يا أمير المؤمنين من غرهم ؟.

قال: الشيطان و أنفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني و زينت لهم المعاصي و نبأتهم أنهم ظاهرون.

و لم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة كان فيهم يزيد بن نويرة الأنصاري و له صحبة و سابقة و شهد له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالجنة و كان أول من قتل..

الخلاصة:

إن الخوارج كانوا على ضلال في خروجهم و قد خرجوا على الخليفة الشرعي بدون مبرر إلا ما تصوّروه حجة لديهم و هي حجة قد بيّن الإمام فسادها و أوضح لهم طريق الحق...

ثم إنهم لو خالفوه في وجهة النظر و اقتصروا على المعارضة السياسة لما حاربهم

ص: 293

الإمام و قتلهم و لكن باعتبار خروجهم عليه بقوة السلاح و العسكر و التجمعات ثم منابذته و إعلان الحرب عليه كان لا بد له من محاربتهم و قتالهم و ردهم إلى الطاعة أو القضاء عليهم...

ثم لا ننسى ما أخبر به من أنه لن ينجو منهم إلا دون العشرة و لن يقتل من جيشه إلا دون العشرة و أيضا يجب أن نتذكر ذو الثدية و كشف الإمام عن هذه العلامة و بيانها للناس و إنه قد أخبر النبي به و بما يجري عليه و بما هو فيه من الضلال..

ص: 294

37 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يجري مجرى الخطبة و فيه يذكر فضائله - عليه السلام - قاله بعد وقعة النهروان فقمت بالأمر (1) حين فشلوا (2)، و تطلّعت (3) حين تقبّعوا (4)، و نطقت حين تعتوا (5)، و مضيت بنور اللّه حين وقفوا. و كنت أخفضهم (6) صوتا، و أعلاهم فوتا (7)، فطرت (8) بعنانها (9)، و استبددت (10) برهانها (11). كالجبل لا تحرّكه القواصف (12)، و لا تزيله (13) العواصف. لم يكن لأحد فيّ مهمز (14) و لا لقائل فيّ مغمز (15)، الذّليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، و القويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه. رضينا عن اللّه قضاءه، و سلّمنا (16) للّه أمره. أ تراني أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ؟ و اللّه لأنا أوّل من صدّقه، فلا أكون أوّل من كذب عليه. فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، و إذا الميثاق (17) في عنقي لغيري.

اللغة

1 - قمت بالأمر: نهضت به.

2 - فشلوا: من الفشل و هو الخور و الجبن.

3 - تطلعت: أشرفت.

4 - تقبعوا: اختبئوا و أصله من تقبع القنفذ إذا أدخل رأسه في جلده.

5 - تعتعوا: من التعتعة و هي التردد و الاضطراب في الكلام من عي أو حصر.

ص: 295

6 - أخفضهم: خفض صوته ضد رفعه غضه و أخفاه.

7 - الفوت: السبق.

8 - طار به: سبق به و سارع.

9 - العنان: سير اللجام الذي تضبط به الفرس.

10 - استبد: بالأمر انفرد به و استقل.

11 - الرهان: الجعل الذي وقع التراهن عليه.

12 - القواصف: من قصف العود إذا كسره.

13 - أزاله: نحّاه، و محاه.

14 - المهمز: من الهمز الوقيعة بالعيب.

15 - المغمز: من الغمز. و هو الطعن.

16 - سلّمنا: رضينا و انقدنا.

17 - الميثاق: العهد.

الشرح

(فقمت بالأمر حين فشلوا) يذكر عليه السلام بعض مفاخره ردا لمن أتهمه بما لا يليق به فذكر أنه نهض بأمر الإسلام و الدعوة له بلسانه و سنانه فقد عرفته ساحات الوغى و في كل غزوة لسيفه صولة حتى قيل ما قام الإسلام إلا بسيف علي و مال خديجة و نظرة سريعة نحو غزوات النبي تتضح الأمور و تتبين فلم تخل غزوة من حضوره بل كان في كل واحدة بطلها غير المنازع و فارسها غير المقارع و في مقابل ذلك ترى غيره يجبن و يتردد و يخور و لا يقدر على مواجهة الأعداء حتى قالوا عن عمر عند ما أرسله النبي لفتح خيبر رجع و هو يجبن أصحابه و أصحابه يجبنونه، نعم كان من دأب عمر أن يقول للنبي إذا جاءه أسير: دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه أو إذا كان أحد من أصحابه الضعفاء يقول:

ائذن لي يا رسول اللّه أن أضرب عنق هذا المنافق..

(و تطلعت حين تقبعوا) بحثت عن الأمور الغامضة و عما يفيد الأمة و سألت رسول اللّه عن كل صغيرة و كبيرة و لم يشغلني شاغل عن محادثته و الاستفادة منه و قد كان الإمام تربى في بيت النبي و سمع منه ما لم يسمعه أحد حتى قال: علمني رسول اللّه ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب.. و في المقابل كان غيره يضم جوانحه و ينزوي خلف تجارة يديرها أو مصالح يبحث عنها فكان ضعيف الهمة عن طلب ما يطلبه الإمام.

ص: 296

(و نطقت حين تعتعوا) أفصحت عن المسائل المهمة و المشكلات المدلهمة في حين أصيبوا بالعجز و العي و لم يستطيعوا أن يدركوا ما أدركت و قد ثبت أن الخلفاء عادوا إلى الإمام و سألوه عما أشكل عليهم حتى قال عمر قولته المشهورة لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن.. و قوله: لو لا علي لهلك عمر..

(و مضيت بنور اللّه حين وقفوا) سرت وفق الأمر الإلهي و اهتديت إليه، فإنه عليه السلام فتح عينيه على رسالة اللّه و ما رسمته لهذا الإنسان من منهج عقيدي و حركي بينما غيره وقف عن هذا الوحي الإلهي و هذه الرسالة المنجية..

(و كنت أخفضهم صوتا و أعلاهم فوتا) و على عادة أهل الحركة، الذين يعملون بهدوء و صمت فقد كان عليه السلام بهدوء المؤمن الواعي الذي لا يملأ الدنيا إعلاما و أخبارا كان يجري نحو الهدف الإلهي المرسوم و لذا مع هذا الهدوء كان له قصب السبق في كل الحقول و على كل المستويات و في جميع الميادين..

(فطرت بعنانها و استبددت برهانها) تملك الإمام ناصية الفضائل و الكمالات و لم تقدر أن تزّل قدمه في موقف و لذا كان يؤخذ عليه موقفه المبدئي الرسالي الذي لا يساوم عليه و لا يتنازل عنه، لقد ذهب بالفضائل كلها و اجتمع فيه ما تفرق في غيره. و قد انفرد بها و فاز بنتيجتها التي أهلته للإمامة و قيادة الأمة و بالحقيقة لقد كان هذا الرجل يتيم المعدن جاد به الدهر فردا لم يشفع بنظير أو شبيه، حارت العقول و الألباب في تفسيره و بعد تطواف كبير حول أعتاب هذه الشخصية أقرت بالعجز و تيقنت الفشل في الوصول إلى تفسير معقول لهذه الشخصية الإلهية و صدق رسول اللّه الذي قال له: يا علي لم يعرفك إلا اللّه و أنا...

(كالجبل لا تحركه القواصف و لا تزيله العواصف) و أي جبل كان ابن أبي طالب..

كان جبل الإيمان و العقيدة و التقوى و إن الجبل ليفل منه و ابن أبي طالب لا يفل منه وقف في حروبه مع النبي موقفا ينفرد فيه و يعز على غيره مثله.. و تلك مواقفه مسطورة مذكورة و ضرباته مشهورة مذكورة يتحدث بها الجبناء فتشد من عزائمهم و تطرد فشلهم و يتذكرها أهل الشجاعة فتقوى شجاعتهم و تشتد.. و ليس الأمر بمقتصر على فترة النبوة بل في كل مراحل حياته كان ثابت الجنان قوي البرهان لم تفل منه الأيام ضعفا و لم تصبه بوهن و إنما كان يزداد صلابة و قوة و ثباتا على الموقف الذي يتبناه و يذهب إليه قال أحمد شوقي أمير الشعراء مخاطبا الإمام قائلا:

يا جبلا تأبى الجبال ما حمل *** ما ذا رمت عليك ربة الجمل

ص: 297

(لم يكن لأحد فيّ مهمز و لا لقائل فيّ مغمز) و بأي شيء يعاب ابن أبي طالب و لا عيب فيه فهو طاهر من الذنوب نقي من العيوب نعم إذا كانت تعاب الفضائل و المكارم فلابن أبي طالب أن يعاب لأنه جمع ما تفرق في غيره و التقى فيه ما توزع في سواه..

و هل يعاب الإيمان و السبق إليه ؟ و هل يعاب الجهاد في سبيل اللّه و دفع الظلم و الجور؟..

(الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له و القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه) الحق هو الميزان في نظر الإمام و قد عاش الإمام هذا الميزان و لم يغيّر عنه أو يبدله بسواه و قد أجراه على نفسه حتى جاء معه في لسان النبي عند ما قال له: الحق مع علي و علي مع الحق و أراد أيضا أن يجري بين الناس فيصغر الكبير العزيز أمام هذا الحق و يكبر الضعيف الحقير الذي له هذا الحق...

الذليل.. الضعيف.. الذي ليس له عشيرة تحميه و تدفع عنه هو عند علي عزيز كبير طالما أن له الحق و هو يبقى كذلك حتى يأخذ له الحق و أما العزيز بقوته و عشيرته و ماله و سلطانه فهو الضعيف أمام الحق و سيبقى هكذا حتى يأخذ منه الحق..

(رضينا عن اللّه قضاءه و سلمنا للّه أمره) يقول شرّاح النهج أن هذا الكلام منه كان لما تفرّس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبر به عن النبي (صلی الله علیه و آله) من أخبار الملاحم و الغائبات و قد كان شك منهم جماعة في أقواله و منهم من واجهه بالشك و التهمة.

و هو هنا يرضى بقضاء اللّه الذي يحكمه و يسلم بأمره الذي يأمره من حيث أنه يواجه بهذه التهم الباطلة و الشكوك الزائفة..

(أ تراني أكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ؟ و اللّه لأنا أول من صدقه فلا أكون أول من كذب عليه) استفهام استنكاري و إن ذلك لا يكون أبدا.. و إنه عليه السلام لا يجري في حقه أن يكذب على رسول اللّه و يقول عنه ما لم يقله و قد بين صدق ذلك بأنه أول من صدقه و آمن بنبوته و تابعه في مسيرته يوم لا منافع و لا أطماع فهل يكون أول من يكذب عليه و هو المحامي و المدافع عنه و من بادر إلى الإيمان بشيء لا يبادر إلى نقضه و إبطاله و هو قد آمن بالنبي و صدقه فلن يخالفه أو يفتري عليه و هو هو بالنسبة إليه..

(فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي و إذا الميثاق في عنقي لغيري) قالوا إنه ينظر إلى بيعة الخلفاء الذين تقدموه و إلى وصية النبي له بالصبر عليهم و الكف عن مواجهتهم بأنه نظر فيما آل إليه أمره بعد البيعة لهم و تسلطهم فإذا طاعته لهم بوصية النبي له سبقت بيعته لهم فهو مأمور بطاعتهم و عدم منابذتهم قبل أن يأخذوا البيعة منه و إذا

ص: 298

الميثاق الذي أمرني به النبي بعدم قتالهم في عنقي لهؤلاء الجماعة المغتصبين للحق.

و يمكن أن يكون مراده - و اللّه و قائله أعلم - نظرت فيما أنا عليه فإذا طاعتي واجبة على القوم لأنني الوصي و صاحب الحق و هذا ثابت قبل البيعة لي منهم و إذا العهد بالقيام في شئون الإمارة الذي هو في رقبتي و من مهمتي إذا به لغيري ممن اغتصب الحق و تولى الأمر..

ص: 299

38 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها و إنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ : فأمّا أولياء (1) اللّه فضياؤهم (2) فيها اليقين (3)، و دليلهم (4) سمت (5) الهدى و أمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضّلال (6)، و دليلهم العمى، فما ينجو (7) من الموت من خافه (8)، و لا يعطى البقاء من أحبّه.

اللغة

1 - الأولياء: مفردها ولي النصير، المحب التابع الحليف، كل من ولي أمر أحد، المطيع للّه.

2 - الضياء: النور و أضاء البيت إذا أناره.

3 - اليقين: إزاحة الشك و تحقيق الأمر/العلم الحاصل عن استدلال و نظر.

4 - الدليل: جمعه أدلة و أدلاء، المرشد، البرهان، الهادي.

5 - السمت: الطريق.

6 - الضلال: ضد الهدى، الانحراف عن الدين و عن الطريق.

7 - ينجو: نجا من كذا إذا خلص منه و النجاة الخلاص.

8 - خافه: من الخوف و هو الفزع.

الشرح

(و إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق) سميت الشبهة شبهة لشبهها بالحق أي فيها جانب يشبه الحق و لو صورة...

ص: 300

و الشبهة تغرّ الإنسان و تحرفه إذا كان بسيطا ضعيفا و يتمسك بها أهل الأهواء و الميول فيلوحون بها أمام البسطاء و الجماهير و يستغلونهم من خلالها بحجة أنها الحق لوجه الشبه الموجود بينها و بين الحق و قد استغل كثيرون من الناس بعض الشعارات المشتبه بها و بعض المواقف و عن طريقها استغلوا الناس و وصلوا إلى مآربهم و قد وردت الأحاديث عن النبي و الأئمة و قسمت الأشياء إلى ثلاثة أمور..

1 - قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : حلال بيّن(1) و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم.

2 - و عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الأمور ثلاثة: أمر تبيّن لك رشده فاتبعه و أمر تبين لك غيّه فاجتنبه و أمر اختلف فيه فرده إلى اللّه عز و جل..

(فأما أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين و دليلهم سمت الهدى) قسّم الإمام الناس إلى قسمين بحسب موقفهما من الشبهة فهذا القسم الأول و هو الواعي المثقف المتعلم الملتزم الذي يرى بنور اللّه فأمامهم أضواء كاشفة يستطلعون بها الحق و وجه الصواب..

إنهم الذين غرفوا من علوم الإسلام و وقفوا على أصول الشريعة الذين وصلوا إلى درجة عالية من العلم و المعرفة هؤلاء بنور اليقين الذي هو العلم الصحيح يسيرون نحو تبديد ما يعترضهم من شبهات و دليلهم الذي يقودهم و يرشدهم هو الهدى و نور العلم و المعرفة..

(و أما أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضلال و دليلهم العمى) و هذا هو القسم الثاني الذين هم أعداء اللّه البعيدون عنه العاصون لأمره هؤلاء يستغلونها في سبيل الانحراف و الضلال و يتخذونها ممسكا بأيديهم يدخلون من خلاله إلى الإفساد و الإضلال و لا دليل لهم صحيح على مدعاهم و إنما الجهل و عدم الوعي و عدم العلم وراء هذا الانحراف و السلوك الشاذ..

(فما ينجو من الموت من خافه و لا يعطى البقاء من أحبه) من خاف الموت و فزع منه لا ينجو منه أو يقدر على التخلص من ملاقاته و هذه حقيقة واقعية و إسلامية قال تعالى: «أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ » (2)..

و هذا منه عليه السلام تذكير بهذه الحقيقة التي سوف يصل إليها الإنسان فيجب أن8.

ص: 301


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب 12.
2- سورة النساء، آية - 78.

يعد العدة لما بعدها و ما ينتظره وراءها...

و من أحب البقاء و دوام الحياة فلن يعطاه و أي إنسان يحب الموت و الخروج من الدنيا إنهم قلة بل صفوة الناس و خيرتهم الذين عرفوا اللّه و ما عنده فأطاعوه و اشتاقوا إلى رحمته و لم يقدروا على الصبر عما عنده و هذه أيضا حقيقة تذكّر الإنسان بقيمة هذه الحياة و إن هذا الإنسان لن يخلد فيها و لن يبقى أكثر مما كتبه اللّه له فيها..

ص: 302

39 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

خطبها عند علمه بغزوة النعمان بن بشير صاحب معاوية لعين التمر، و فيها يبدي عذره، و يستنهض الناس لنصرته منيت (1) بمن لا يطيع (2) إذا أمرت و لا يجيب (3) إذا دعوت، لا أبا لكم! ما تنتظرون بنصركم ربّكم ؟ أما دين يجمعكم، و لا حميّة (4) تحمشكم (5)! أقوم فيكم مستصرخا (6)، و أناديكم متغوّثا (7)، فلا تسمعون لي قولا، و لا تطيعون لي أمرا، حتّى تكشّف (8) الأمور عن عواقب (9) المساءة (10)، فما يدرك بكم ثار (11)، و لا يبلغ (12) بكم مرام، (13)، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجتم (14) جرجرة الجمل الأسرّ (15)، و تثاقلتم (16) تثاقل النّضو (17) الأدبر (18)، ثمّ خرج إليّ منكم جنيد (19) متذائب (20) ضعيف «كأنّما يساقون إلى الموت و هم ينظرون».

قال السيد الشريف: أقول: قوله عليه السلام: «متذائب» أي مضطرب، من قولهم:

تذاءبت الريح، أي اضطرب هبوبها. و منه سمي الذئب ذئبا، لاضطراب مشيته.

اللغة

1 - منيت: ابتليت.

2 - يطيع: ينقاد.

3 - أجاب: عن السؤال رد له الجواب.

4 - الحمية: النخوة و المروة.

ص: 303

5 - تحمشكم: تجمعكم و تغضبكم.

6 - المستصرخ: المستنصر.

7 - متغوثا: قائلا و اغواثاه و الغوث الإغاثة.

8 - تكشّف: تنجلي، و تظهر.

9 - العواقب: آخر كل شيء، الجزاء.

10 - المساءة: الحزن أو فعل ما يكرهه.

11 - الثار: الدم و الطلب به، الذحل.

12 - يبلغ: يوصل، و البلاغ الإيصال إلى الشيء المطلوب.

13 - المرام: جمعه مرامات المطلب، المقصود.

14 - جرجرتم: الجرجرة صوت يردده الجمل و أكثر ما يكون عند الإعياء.

15 - الأسّر: داء يأخذ البعير في سرته.

16 - تثاقلتم: تباطأتم و تماهلتم و أثاقل إلى الدنيا ركن إليها و الأصل الثقل الذي هو ضد الخفة.

17 - النضو: المهزول.

18 - الأدبر: المعقور، القرح يصيب الدابة و غيرها من حمل و شبهه.

19 - جنيد: تصغير الجند للتحقير.

20 - متذائب: مضطرب.

الشرح

اشارة

(منيت بمن لا يطيع إذا أمرت و لا يجيب إذا دعوت) ففي حين تبتلى الشعوب بقادتها و حكامها ابتلي علي بشعبه و رعيته فكان هو المظلوم بينهم المبتلى بهم و في هذه الخطبة ألم شديد من أصحابه الذين تقاعسوا عن نصرته و لم يدفعوا معه غارات معاوية التي كان يشنها على أطراف البلاد التي تحت حكمه خطبها عند ما أغار النعمان بن بشير من قبل معاوية على عين التمر الذي كان يتولاها مالك بن كعب الأرحبي من قبل الإمام و لم يكن معه إذ ذاك سوى مائة رجل فكتب مالك إلى الإمام يخبره الخبر فصعد عليه السلام على المنبر و حثهم على الخروج إليه و نجدته فلم يخرج منهم إلا ثلاثماية رجل فقام عندها و خطب بهم بهذه الخطبة التي تحكي مدى ألمه و أساه و عمق جرحه و أذاه.

ابتليت بشعب لا يطيع أمري أو يلتزم به إذا أمرت مع إن ما أنشده إنما هو لصالحهم

ص: 304

و من أجل منافعهم و إذا دعوتهم إلى قتال عدوهم لا يلبون و لا يسرعون و أي أذية أكبر من قائد يريد العزة لشعبه و هو يتمنّع عنها و يرفض قبولها..

(لا أبالكم ما تنتظرون بنصركم ربكم أما دين يجمعكم و لا حمية تحمشكم) أراد أن يستفزهم و يحثهم عن طريق هذا الاستفهام الاستنكاري بانكم لأي شيء تؤخرون الانتصار للّه و المقاتلة من أجله ؟. أي شيء تنتظرون حتى تنتصروا للّه و تدفعوا الظالمين، و تحققوا إرادة اللّه ؟!..

ثم بيّن لهم دوافع القتال و الإثارة لعلهم يعودون لأنفسهم فيتحركون و ينهضون و قد حرك فيهم الحس الديني الذي يدفع عنه الإنسان برغبة و شوق و يشعر من خلاله أنه مع اللّه و إن جهوده مقبولة، أما دين يجمعكم و تلتقون عليه فتحاربون من أجل عدوكم ؟ و لا غيرة و أنفة تغضبكم و تحرك فيكم ردّ الاعتداء و دفع الأعداء...

(أقوم فيكم مستصرخا و أناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا و لا تطيعون لي أمرا) استصرخكم و أطلب نصركم و أقف على أعواد المنبر أدعوكم لإعانتي في دفع الأعداء..

إنني في كل يوم أقف خطيبا أطلب منكم المساعدة و العون و لكن لا تسمعون ندائي...

نزلهم منزلة من لم يسمع من حيث الأثر و لا تطيعون لي أمرا بل تتكاسلون و تتأففون و لا تستجيبون...

(حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة فما يدرك بكم ثار و لا يبلغ بكم مرام) و سأبقى استنصركم و أناديكم و لكن ستبقون تتمردون و لا تستجيبون حتى تظهر العواقب السيئة لعدم هذه الاستجابة ثم أراد أن يحكي لهم واقعهم و ما هم عليه و ما يشعر به نحوهم لعلهم يتحفزون و يتحركون قال لهم: إن من يريد أن يطلب ثأره و حقه المهدور لا يحصل عليه و لا يناله لأنكم أعجز من أن تحصلوا لطالب الثأر حقه كما إن من أراد مقعدا و مطلبا بكم لا يدركه و لا يصل إليه لأنكم عاجزون عن البلوغ به إلى مطلبه و مقصده...

(دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جررة الجمل الأسر و تثاقلتم تثاقل النضو الأدبر) دعوتكم إلى الخروج لنصرة إخوانكم المهددين من قبل العدو فكنتم كالجمل المريض الذي يتحرك بإعياء و كلل لا طاقة له و لا قدرة و تباطأتم تباطوء المهزول المقروح فإنه يعجز عن الحمل و يتوجع منه و هم كانوا بصورتهم كذلك كانت كلمات الإمام لا تحركهم و لا تدفعهم بل كانوا يسوّفون و يتأخرون و يطلبون الدعة و البعد عن الحرب و كانت كلماته عليه السلام تؤذيهم و تؤلمهم مع إنها كانت الحق و العدل و لكنهم لا يطيقون سماعها لحبهم للسلامة. و إن جرت إلى الهوان و المذلة...

ص: 305

(ثم خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف «كإنما يساقون إلى الموت و هم ينظرون) تصغير لشأنهم و بيان لقلة من خرج منهم و لبى نداءه إنهم جنود قليلون ثلاثماية لا غير بغير استقرار و لا عزيمة إنني أشعر من القراءة في صفوفهم و من النظر إليهم إنهم خارجون كرها عنهم، حياء و خجلا فكأنهم يساقون إلى الموت قهرا عنهم و إلى ما لا يرغبون فيه..

ترجمة النعمان بن بشير:

النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي و أمه عمرة بنت رواحة أخت عبد اللّه بن رواحة ولد في السنة الأولى للهجرة و كان أول مولود للأنصار بعد الهجرة كما كان عبد اللّه بن الزبير أول أولاد المهاجرين بعد الهجرة و كان النعمان من جملة من لم يبايع الإمام علي و قد كان عثماني الهوى و عند ما قتل عثمان أخذ قميصه و أصابع زوجته نائلة فلحق بالشام و سلمهم لمعاوية الذي رفعهم أمام أهل الشام و أخذ يحرك عواطفهم للثأر له من الإمام علي الخليفة الشرعي و هناك رواية ينقلها ابن(1) أبي الحديد في شرحه عن صاحب الغارات ننقلها مع التحفظ عليها بل استبعادها عن مثل النعمان الذي لم يبايع عليا بل هرب بقميص عثمان و أصابع نائلة إلى معاوية تقول الرواية:

إن النعمان بن بشير قدم هو و أبو هريرة على علي عليه السلام من عند معاوية بعد أبي مسلم الخولاني يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان لعل الحرب أن تطفأ و يصطلح الناس و إنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان و أبي هريرة من عند علي عليه السلام إلى الناس و هم لمعاوية عاذرون و لعلي لائمون و قد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك و أن يظهر عذره.

فقال لهما: إئتيا عليا فأنشداه اللّه و سلاه باللّه لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم و منعهم ثم لا حرب بيننا و بينه فإن أبى فكونوا شهداء اللّه عليه.

و أقبلا على الناس فأعلماهم بذلك فأتيا إلى علي عليه السلام فدخلا عليه فقال له أبو هريرة: يا أبا حسن: إن اللّه قد جعل لك في الإسلام فضلا و شرفا، أنت ابن عم محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قد بعثنا إليك ابن عمك معاوية، يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب

ص: 306


1- شرح ابن أبي الحديد ج - 2 ص 301.

و يصلح اللّه تعالى ذات البين، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به و يجمع اللّه تعالى أمرك و أمره و يصلح بينكم و تسلم هذه الأمة من الفتنة و الفرقة ثم تكلم النعمان بنحو من ذلك..

فقال لهما علي: دعا الكلام في هذا: حدثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلا؟ يعني الأنصار.

قال: لا. قال: فكل قومك قد اتبعني إلاّ شذاذا منهم ثلاثة أو أربعة، أ فتكون أنت من الشذاذ فقال النعمان: أصلحك اللّه، إنما جئت لأكون معك و ألزمك و قد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام و رجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك و طمعت أن يجري اللّه تعالى بينكما صلحا فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك و كائن معك.

فأما أبو هريرة فلحق بالشام و أقام النعمان عند علي عليه السلام فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمر أن يعلم الناس ففعل و أقام النعمان بعده شهرا ثم خرج فارا من علي عليه السلام حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي - و كان عامل علي عليه السلام عليها فأراد حبسه و قال له: ما مرّ بك بيننا.

قال: إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت فحبسه و قال: كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك فناشده و عظم عليه أن يكتب لعلي فيه فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري و هو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي عليه السلام فجاءه مسرعا فقال لمالك بن كعب: اخل سبيل ابن عمي يرحمك اللّه فقال: يا قرظة: إتق اللّه و لا تتكلم في هذا فإنه لو كان من عباد الأنصار و نساكهم لهم يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين.

فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله و قال له يا هذا لك الأمان اليوم و الليلة و غدا و اللّه إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك فخرج مسرعا لا يلوي على شيء و ذهبت به راحلته فلم يدر أين يتسكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو فكان النعمان يحدث بعد ذلك و يقول: و اللّه ما علمت أين أنا حتى سمعت قوله قائلة تقول و هي تطحن..

شربت مع الجوزاء كاسا ردية *** و أخرى مع الشعري إذا ما استقلت

معتقة كانت قريش تصونها *** فلما استحلوا قتل عثمان حلّت

فعلمت أني عند حي من أصحاب معاوية و إذا الماء لبني القين فعلمت أني قد انتهيت إلى الماء.

ص: 307

ثم قدم على معاوية فخبره بما لقي و لم يزل معه مصاحبا لم يجاهد عليا و يتبع قتلة عثمان حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية و قد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة. أما من رجل أبعث به بجريدة خيل حتى يغير على شاطىء الفرات فإن اللّه يرعب بها أهل العراق فقال له النعمان: فابعثني فإن لي في قتالهم نية و هوى و كان النعمان عثمانيا.

قال: فانتدب على اسم اللّه فانتدب و ندب معه ألفي رجل و أوصاه أن يتجنب المدن و الجماعات و ألا يغير إلا على مسلحة.

فأقبل النعمان بن بشير حتى دنا من عين التمر و بها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له معه ما جرى و مع مالك ألف رجل و قد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها فكتب مالك إلى علي عليه السلام أما بعد فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف فرأيك سددك اللّه و ثبتك و السلام.

فوصل الكتاب إلى علي عليه السلام فصعد المنبر و قال للناس: اخرجوا هداكم اللّه إلى مالك بن كعب أخيكم فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل اللّه يقطع بكم من الكافرين طرفا ثم نزل.

فلم يخرجوا فأرسل إلى وجوههم و كبرائهم فأمرهم أن ينهضوا و يحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا و اجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثماية أو دونها فقام عليه السلام و خطب خطبته المتقدمة «منيت بمن لا يطيع».

ثم ورد الخبر عليه بهزيمة النعمان بن بشير و نصرة مالك بن كعب..

و في مقابل هذه اليد البيضاء عند معاوية كافأه بولاية الكوفة حيث نصبه أميرا عليها سنة 59.

و قد تزوج بنائلة بنت عمارة الكلابية بعد - أن طلقها معاوية و تزويجها حبيب بن مسلمة الفهري و طلاقها منه - و قد كان على الكوفة حتى كتب أهلها إلى الحسين يستقدمونه إليهم...

و قد التحق بالشام عند ما ولى يزيد لابن زياد الكوفة و قد أرسله يزيد إلى أهل المدينة حيث كانت تعيش الغليان و كان عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة يحدثهم بأفعال يزيد القبيحة و سيئاته و يدعوهم إلى الثورة عليه.

ص: 308

فجاء النعمان ليهدأ المدينة و كان الأنصار(1) فيها فأتى قومه و أمرهم بلزوم الطاعة و خوفهم الفتنة و قد كان بالشام عند قدوم السبايا و الرءوس إليها و لما مات يزيد بن معاوية و استخلف معاوية بن يزيد عن قرب دعا النعمان(2) إلى ابن الزبير ثم دعا إلى نفسه فواقعه مروان بن الحكم بعد أن واقع الضحاك بن قيس فقتل النعمان بن بشير و ذلك سنة خمس و ستين....

ص: 309


1- ابن الأثير ج/ 4 ص 104.
2- الإصابة ج - 3..

40 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حكم إلا للّه» قال عليه السلام: كلمة حقّ يراد بها باطل! نعم إنّه لا حكم إلاّ للّه، و لكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة (1) إلاّ للّه، و إنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ (2) أو فاجر (3) يعمل في إمرته المؤمن، و يستمتع (4) فيها الكافر، و يبلّغ (5) اللّه فيها الأجل (6)، و يجمع به الفيء (7)، و يقاتل به العدوّ، و تأمن به السّبل (8)، و يؤخذ (9) به للضّعيف من القويّ ؛ حتّى يستريح (10) برّ، و يستراح من فاجر.

و في رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال:

حكم اللّه أنتظر فيكم.

و قال: أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التّقيّ ؛ و أمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقيّ ؛ إلى أن تنقطع مدّته، و تدركه منيّته (11).

اللغة

1 - الإمرة: الولاية.

2 - البر: جمعه أبرار المحسن الخيّر.

3 - الفاجر: الفاسق المسترسل في عمل المعاصي، الزاني..

4 - يستمتع: يتمتع و يتلذذ.

5 - يبلّغ: من بلغ إذا وصل.

6 - الأجل: الوقت، نهاية العمر.

ص: 310

7 - الفيء: مال الخراج و الغنيمة و ما يحويه بيت مال المسلمين.

8 - السبل: الطرق.

9 - يؤخذ به: يقتص به.

10 - يستريح: يسكن و يجد الراحة.

11 - المنية: الموت.

الشرح

(قال عليه السلام: كلمة حق يراد بها باطل نعم إنه لا حكم إلا للّه) هذا هو الشعار الذي رفعه الخوارج و نادوا به و حاربوا من أجله شعار «لا حكم إلا للّه».. و هو شعار صحيح و براق.. شعار يحرك الناس و يصطاد قلوبهم و يجعلهم أسرى تحت حروفه لا يستطيعون مواجهته أو رده أو مجابهته.. الحكم للّه وحده.. الأمر للّه و النهي للّه بيده التحريم و بيده التحليل.. شعار منتزع من عمق عقيدة المؤمن و التزامه.. بهذا يدين اللّه و بمضمونه يعتقد و لكن هذا الشعار الصحيح السليم قد استغل من أجل تمرير موقف أراده الخوارج.. إنهم انحرفوا به و فسروه بما يلائم طبيعة تعقيدهم و انكماشهم على أنفسهم و تحجرهم الفكري و الثقافي...

كلمة حق و لكن يراد بها باطل، يراد من خلال هذا الشعار تعطيل دورة الحياة، يريدون الفوضى و اختلال النظام و التسيب.. يريدون كما يقول الإمام:

(و لكن هؤلاء يقولون: لا أمرة إلا للّه) إنهم ينفون الأمرة التي تتولى تسيير شئون الناس و تنظر في قضاياهم و تحكم في منازعتهم و تفصل في مشكلات حياتهم... ينفون الإمرة التي تستتبع أمرا أو نهيا لم ينص الشارع عليه بخصوصه فكأنهم ينظرون إلى أن الأمير لا يجوز له الخروج عن المنصوص من القضايا و الأمور و من هنا لا حاجة للأمير طالما أن القضايا ظاهرة و أفرادها محصورة و مصاديقها معدودة و أما غير المنصوص فلا يمكن للأمير أن يدخل فيه فمن هنا ينفون الإمارة التي تتولى تنفيذ بعض القضايا التي تعترض مسيرة الأمة و من هنا قالوا «لا حكم إلا للّه»...

و لكن هؤلاء الخوارج نسوا أن النصوص الشرعية أغلبها عامة و محدودة فيها قواعد عامة تندرج تحتها مصاديق القضايا التي كانت يوم صدورها كما تدخل تحتها المستجدات من الأمور و القضايا الحادثة.

ص: 311

و من أعجب ما رأيت أنني رأيت بعض العلماء المتدينين و المعروفين بصدق الإيمان يشن حملة عنيفة على من يذهب لعيادة الطبيب بحجة أن هذا يتنافى و الإيمان باللّه و لحسن الصدف وجدته يضع نظارته على عينيه فقلت له و كيف أنت حصلت على هذه النظارات و كيف تستعملها و هي لم تكن على عهد رسول اللّه و تتنافى أيضا مع الإيمان باللّه فعندها غمغم القضية و ارتبك و لم أحب أن أحرجه أكثر من ذلك أو أتابع معه الحديث في هذا الشأن...

ثم بين الإمام العلل و الأسباب الداعية لوجوب الإمارة.

(و إنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر) لا بدية الإمارة على الناس أمر يفرضه العقل فإن الجسد لا بد له من رأس يديره و يدبر شئونه و يوجهه لما فيه المصلحة، و الناس لا يصلحهم إلا أمير المؤمنين يرعى شئونهم و يصلح أحوالهم و إلا دبت الفوضى و سواء كان هذا الأمير برا أم فاجرا فإنه ضروري الوجود و لا بد من حضوره أما إذا كان برا فيعمل المؤمن بتكاليفه المفروضة عليه و تعميم شعائره المطلوبة منه و يؤدي واجباته كاملة غير منقوصة بحرية و إرادة و أما في إمرة الفاجر فيتمتع بها الكافر حيث تباح له المحرمات و لا يمنعه عن ممارستها مانع.

و بعضهم أرجع ضمير في إمرته إلى الأمير الفاجر بخصوصه و لكن لا داعي لذلك بعد أن كان الأقرب إلى الفهم و ما ينسجم مع التفسير أن يرجع الأول للأول و الثاني للثاني بحيث يعمل في إمرة البر المؤمن و يستمتع في إمرة الفاجر الكافر...

(و يبلّغ اللّه فيها الأجل) أي هذه الإمرة لا بد و أن تنتهي إلى أجلها المضروب لها عندها تنتهي و تتوقف و يتعطل مفعولها و يرجع الإنسان إلى اللّه و في هذا تذكير للإنسان بنهايته و إن مدة بقائه قصيرة محدودة...

(و يجمع به الفيء و يقاتل به العدو و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر و يستراح من فاجر) و هذه من خصائص الإمرة و من ضروريات وجودها إنها تجمع ما توفر من الأموال العامة العائدة إلى المسلمين و مصالحهم من خراج و جزية و غنيمة و غيرها من الموارد فتوزعها على أهلها و المستحقين منهم...

كما إنها تجمع الجند و تنظمه و تبعث به إلى قتال العدو و فتح البلاد...

و بهذه الإمرة و ما لها من سطوة و سلطة و قهر و قوة و عزيمة و شوكة يخالفها الأشرار و قطاع الطرق و السراق فلا يقدمون على هذه الأفعال خوفا منها فتأمن الطرق و يعم الأمن و السلام و يطمئن الناس إلى أعمالهم و أموالهم.

ص: 312

و بهذه الإمرة يؤخذ من القوي الظالم للضعيف المظلوم و هذا يمكن تحققه من حيث أنه لا يضر بمصلحة الحاكم و مقامه.

و هذه الأمور تتحقق في إمرة الفاجر كما تتحقق في إمرة البر و يشهد به الواقع و ما نشاهده و نراه من حكومات الجور و دول الضلال حيث يقومون بذلك و تتحقق في أيامهم هذه الأمور.

و هكذا تبقى الأمور حتى يستريح بربموته أو تبديل حكم الظالم الذي هو في عهده أو يستراح من فاجر بموته أو عزله و اقتلاع جذوره...

و أما على الرواية الأخرى.

(حكم اللّه أنتظر فيكم) أي سوف أنفذ فيكم حكم اللّه من القتل إذا تجاوزتم الكلام إلى الإخلال بالأمن و النظام و الاعتداء على الناس...

(و قال: أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقي) تكون له الساحة مفتوحة و الفرص متوفرة فيستطيع أن يؤدي واجباته و يسارع إلى مغفرة من ربه و جنة عرضها السموات و الأرض...

(و أما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى أن تنقطع مدته و تدركه منيته) ففي دولة الظالمين يأخذ المنحرف قسطه الأوفر من الملذات المحرمة حيث أنها توفر له الأجواء لمثل هذه الأفعال القبيحة و يبقى يمارس الرذائل و القبائح حتى تنتهي مدته المحدودة و يأتيه الموت فينقلب من داره القبيحة إلى دار الحساب و العذاب..

ص: 313

41 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها ينهى عن الغدر و يحذر منه أيّها النّاس، إنّ الوفاء (1) توأم (2) الصّدق، و لا أعلم جنّة (3) أوقى (4) منه، و ما يغدر من علم كيف المرجع (6). و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا (7)، و نسبهم (8) أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة (9). ما لهم! قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب (10) وجه الحيلة (11) و دونها مانع من أمر اللّه و نهيه، فيدعها (12) رأي عين بعد القدرة عليها، و ينتهز (13) فرصتها (14) من لا حريجة له في الدّين.

اللغة

1 - الوفاء: بالوعد اتمامه و المحافظة عليه.

2 - التوأم: جمعه توائم المولود مع غيره في بطن واحدة.

3 - الجنة: بالضم الوقاية و أصلها ما استتر به من درع و نحوه.

4 - أوقي: من الوقاية، الحفظ و الصيانة.

5 - يغدر: يخون، من الغدر و هو الخيانة و نقض العهد.

6 - المرجع: محل الرجوع، الآخرة.

7 - كيسا: فطنة و ذكاء.

8 - نسبهم: وصفهم.

9 - الحيلة: القدرة على التصرف.

10 - الحول القلّب: البصير بتحويل الأمور و تقليبها.

11 - وجه الحيلة: مأخذها و سبلها.

ص: 314

12 - يدعها: يتركها.

13 - ينتهز: يبادر.

14 - الفرصة: جمعها فرص الوقت المناسب و النهزة يقال انتهز الفرصة أي اغتنمها.

15 - الحريجة: التحرج و التحرز من الآثام.

الشرح

اشارة

(أيها الناس إن الوفاء توأم الصدق).

الوفاء:

الوفاء كلمة مضمونها العمل بما تقول او تعطي.. أن تقف عند كلامك الذي تأخذه على نفسك و تشرطه للآخرين عليها.. أن يتوافق عملك و قولك و تنسجم مع نفسك و مع مواقفك... أعطيت للّه عهدا أن تعبده لا تشرك به شيئا فهل و فيت ؟ و شهدت بأن محمدا رسول اللّه فهل تقبّلت ما جاء به و نفذّته على نفسك و على الحياة و الأحياء.. هل وفيت للّه و للناس و لنفسك بما أخذت على نفسك ؟...

الوفاء كلمة جفّ معناها في سلوك الناس و نضب معينها عند الناس، فلا وفاء إذا أضرّ بمصلحتك و أفسد عليك بعض هدوئك.. و لا وفاء إذا تعارض مع بعض متع الدنيا و شهواتها...

الوفاء سمة المؤمنين و شيمة المسلمين و أخلاق المتدينين و هو مع الصدق أشقاء تربيا في رحم واحدة و في نفس الوقت معا فمن و في فقد صدق...

و قد مدح اللّه الأوفياء في كتابه فقال: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا و قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : من كان(1) يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف إذا وعد و عن هشام بن سالم قال: سمعت(2) أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ و لمقته تعرّض و ذلك قوله: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون»..

ص: 315


1- الكافي ج - 2 ص 364 باب خلف الوعد.
2- الكافي ج - 2 ص 364 باب خلف الوعد.

(و لا أعلم جنة أوقى منه) من عرف ثواب الوفاء و أجره و إنه مصداق من مصاديق الطاعة للّه و عرف أن طاعة اللّه تأخذ بيد الإنسان الوفي إلى الجنة عرف أنه من أشد الأمور وقاية من النار و حجابا عنها و هو ترغيب في الوفاء و حث عليه لما فيه من التزام بأوامر اللّه و تكاليفه التي التزم بها الإنسان و عليه الوفاء بها و تطبيقها...

(و ما يغدر من علم كيف المرجع) من عرف الآخرة و الحساب و إن هذا الإنسان سوف يرجع إلى اللّه ليوفيه حسابه و يعطيه جزاءه ثوابا و عقابا لم يغدر أبدا بما أعطى من العهود و المواثيق و لا يخالفها أو ينقضها بل يلتزم بها و ينفذها و إن أدت إلى ضرره أو خسارته...

(و لقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة).. على عليه السلام زمانه و هو قد اختبره عن قرب و عاش في قلب الحركة الحياتية و وقف على مراحل الحياة و ما يعترض سبيل الرجال.. عرف الرجال و اختبرهم في المواقف و في الحديث و في الصبر و في الولاية و في جميع مجالات الحياة فرأى أن أكثرهم استعمل فطنته و مهارته في الغدر و نكث العهد و عدم الوفاء بما يقطع على نفسه و قد أعدّ أهل الجهل ذلك التصرف منهم لباقة و دراية في شئون الحياة و كيفية اصطيادها و الوقوف عليها، فمن وصل إلى الزعامة و الرياسة بالغدر و الخيانة فهو الفطن اللبيب الواعي المدرك الملهم الذي يعرف كيف يعيش.. نسبوا اليه الذكاء و حسن التدبير و الدراية و إن كانت كلها وليدة الغدر و الخيانة...

(ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى الحول القلب وجه الحيلة و دونها مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين).

الحاجز هو تقوى اللّه:

دعى عليهم لأنهم رموه بقصور في السياسة متجاهلين معرفته و ما له من خبرة و دراية و لذا يضع هنا المبرر لسلوكه و سياسته كما إنه يرسم بذلك قانون السياسة الإسلامية.

يقول إن المحنك المجرب الذي عاش تقلبات الحياة و تحولاتها و عرف ما فيها من أحداث و مشاكل و وقف على كل أسبابها و مسبباتها و شروط النجاح فيها و الفشل هذا الإنسان يستطيع أن يقتطف ثمارها و ينال رغباته منها و يحقق شهواته و لكن مع ذلك يحتاج لكي يحقق ذلك أن يتحلل من دينه و يتخلى عن معتقداته و يبيع شرفه و ضميره..

ص: 316

فالفرصة مؤاتية و الطريق مفتوحة و الباب على مصراعيه يستطيع الدخول منه بيسر و سهولة و لكن شرط أن يتنازل عن دينه و تقواه و يرتكب المعصية و الإثم...

و لكن هذه الأمور يتنازل عنها بعض الناس فتأتيه فرصة يصطاد منها ما يتمناه و يحقق طموحاته الظالمة و شهواته الباطلة...

فالفرصة لكلا الرجلين متاحة و لكنّ الأول يمتنع عن الإقدام عليها لأنها تخالف دينه و عقيدته بينما الآخر يقدم عليها دون مانع من دين أو حاجز من شرف و كرامة...

و هذا يصدق مطابقة على علي و معاوية فعلي كان يعرف الأبواب التي بها يستطيع أن يحقق لشخصيته منزلة عظيمة و يعرف السبل التي يقضي بها على معاوية و لكن الالتزام الشرعي كان يقف دون اقتحامه لتلك الأبواب.. بينما معاوية كان لا يحجزه شيء و لا يردعه أو يقف في وجهه شيء...

علي يريدها بيضاء صافية طاهرة لا تشوبها شائبة و لا يعكر صفوها شيء... يريدها إسلامية في مقدماتها و نتائجها عكس معاوية يريدها كيف جاءت و عن أي طريق كانت..

و لذا رفع قميص عثمان بدون حق.. و رفض بيعة علي بدون حق.. و جمع إليه عمرو بن العاص بدون حق و أعطاه مصر طعمة بدون حق و هكذا عدّد ما شئت تجد كل خطواته معصية و انحرافا و تمردا و عصيانا و إن عليا يعرف كل تلك الطرق و لكن تقوى اللّه كانت تحجزه عن ممارسة مثل هذه الأفعال...

و إن معاوية الرمز أضحى تلامذته اليوم من الكثرة بحيث نعجز عن الإحاطة بعددهم، إنهم كثيرون.. و كثيرون جدا.. عن يديه تخرجوا و إلى مدرسته انتموا و ببراعة أدوا دوره.. لقد احتلوا الصدارة و تربعوا كراسي الحكم و تولوا أمر الأمة.. لهم الكلام و بيدهم مفتاح الحل و العقد.. استغلوا الظروف باعوا الدين و تخلوا عنه و راحوا وراء مناصبهم يلهثون...

علي الرمز تخرج من مدرسته ثلة قليلة و قليلة جدا آثروا الحرمان و الجوع و العري.. آثروا الصمت و العزلة و الاضطهاد آثروا كل ذلك على أن يعطوا من دينهم و عقيدتهم شيئا و أنت ترى الأحرار و الشرفاء يلزمون بيوتهم بينما الأشرار و الفساق يصولون و يجولون و ما جلوس الشرفاء لعجز و عدم قدرة و لكن تقوى و إيمانا و عقيدة و التزاما..

ص: 317

42 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيه يحذر من اتباع الهوى و طول الأمل في الدنيا أيّها النّاس، إنّ أخوف (1) ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى (2)، و طول الأمل؛ فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة. ألا و إنّ الدّنيا قد ولّت حذّاء (5)، فلم يبق منها إلاّ صبابة (6) كصبابة الإناء اصطبّها (7) صابّها (8). ألا و إنّ الآخرة قد أقبلت، و لكلّ منهما بنون (9)، فكونوا من أبناء الآخرة، و لا تكونوا من أبناء الدّنيا، فإنّ كلّ ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة، و إنّ اليوم عمل و لا حساب، و غدا حساب، و لا عمل.

قال الشريف: أقول: الحذاء، السريعة، و من الناس و من يرويه «جذّاء».

اللغة

1 - الخوف: الفزع.

2 - الهوى: جمعه أهواء إرادة النفس و ميلانها إلى مستلذاتها.

3 - صد: منع.

4 - ولت: راحت و أدبرت.

5 - حذّاء: بالتشديد الماضية السريعة.

6 - الصبابة: بالضم البقية من الماء و اللبن في الإناء.

7 - اصطبها: سكبها.

8 - صابها: ساكبها.

9 - بنون: أولاد.

ص: 318

الشرح

(أيها النّاس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان اتباع الهوى و طول الأمل) يتخوف الإمام علينا و ضمن هذا الخوف تحذير لنا لا يخاف علينا من شيء كما يخاف علينا من اثنين:

اتباع الهوى و طول الأمل...

و اتباع الهوى هو السير وفق ما تشتهيه النفس و ترغب فيه دون النظر إلى حكم اللّه و مراقبة ما ينبغي و من عادة النفس أنها تأمر بالسوء إلا من عصم اللّه و لذا يجب أن يكون المؤمن في حالة يقظة باستمرار و في حالة طوارئ مع نفسه يدقق فيما ترغب و تشتهي و يحاسبها فيما تريد...

و أما طول الأمل فهو أن يمتد بصره إلى الأفق البعيد من الدنيا فيطلب ما فيها و يقطع النظر عن الآخرة...

(فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، و أما طول الأمل فينسي الآخرة) و هذه علة خوف الإمام علينا من اتباع الهوى و طول الأمل و هنا يمكن الخطر، هنا تزلّ الأقدام و يعثر الفطن اللبيب و تضيع الأحكام و يسقط الحق صريعا.. الهوى الذي يصد عن الحق و يمنع من الحكم بالعدل...

عند ما يتحكّم الهوى في نفس الفرد يقوده إلى الردى، فالهوى هو الذي يمنعك من الحكم بالحق، و الهوى هو الذي يدفعك لترى شرار أهلك أفضل من غيرهم من الكرام،. و الهوى هو الذي يدفعك لتقف إلى جانب عشيرتك الظالمة و أرحامك المعتدين.. الهوى هو الذي يصدك و يمنعك عن قبول الحق و العدل و من مشى وراء هواه يتردى و يسقط في نار جهنم و أما من يعدل عن ذلك و يخالف هواه فإن الجنة هي المأوى كما قال تعالى(1): «وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىٰ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوىٰ » ..

و في الحديث عن الصادق قال: احذروا(2) أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس بشيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم و حصائد ألسنتهم..

و عن أبي الحسن: لا تدع النفس و هواها فإن هواها في رداها و ترك النفس و ما

ص: 319


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 81 حديث 1-3.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 81 حديث 1-3.

تهوى أذاها و كفّ النفس عما تهوى دواؤها..

و أما علة الخوف من الأمل فإنه ينسى الآخرة و من هنا يأتي الخطر في الأمل و هو أن يمتد أمله فيسيء عمله و ينسى آخرته.. أمله أن يصبح صاحب ثروة ضخمة فيعمل من أجل ذلك و يسعى في سبيل ذلك فيروح يجمع المال من حله و من حرامه من الطرق المشروعة و الأخرى الممنوعة ناسيا آخرته و إنه سيعود إلى ربه فيحاسبه على المال الحرام...

و يمتد أمله إلى بناء شخصيته فيعمل على قطع أرحامه و منازعة أصحاب الحق حقوقهم و يعتدي و يتجاوز المرسوم و هكذا ينسى الآخرة و حسابها و هذا هو الأمل المذموم المكروه..

و أما إذا كان الأمل مع حفظ الآخرة و عدم نسيانها فإن الإسلام يرغب فيه و لولاه لانقطع العمل.. لولاه لم يسع الإنسان لعزته و لم يبن الحياة و يسعدها أو ينطلق في أجواء الحضارة.. لو لا الأمل ما أرضعت أم ابنها و لا سعى والد من أجل ولده و لا وضع الإنسان حجرا فوق حجر..

و من هنا ورد الذم للأمل المنسي للآخرة ففي الصحيفة السجادية:

اللهم صلّ على محمد و آل محمد و اكفنا طول الأمل و قصّره عنا بصدق العمل حتى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة و لا استيفاء يوم بعد يوم و لا اتصال نفس بنفس و لا لحوق قدم بقدم و سلمنا من غروره و أمنا من شروره...

(ألا و إن الدنيا قد ولّت حذّاء فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء اصطبها صابّها) تزهيد في الدنيا و ترغيب في الآخرة أما الدنيا فإنها مضت مسرعة و ما أسرعها في عمر الإنسان و لم يبق منها إلا قليل جدا لا ينظر إليه و لا يهتم به و شبهها ببقايا الإناء التي شرب ماؤها و لم يبق إلا حثالة قليلة لا ينظر إليها كذلك من مضت أيامه و انقضت أوقاته و لم يبق له من الدنيا إلا هذه الجرعة الباقية من عمره يجب أن يزهد فيها و ينعى وجودها عنده...

(ألا و إن الآخرة قد أقبلت) لأن الدنيا إذا ذهبت و مضت و جاءت الآخرة و ما أسرع ما يصل إليها الإنسان.. إنه يمشي نحوها بسني عمره القصيرة فكل يوم يمضي يقترب من الآخرة و بمقدار بعده عنه يلتقي مع آخرته...

(و لكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل ولد

ص: 320

سيلحق بأبيه يوم القيامة و إن اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل) للدنيا أبناء إنهم الذين يعبدونها و يقدسونها و يسعون فيها الفساد ناسين أوامر اللّه و نواهيه ضاربين عرض الجدار دعوات الأنبياء و المصلحين.. أبناء الدنيا هم الذين عصوا اللّه فيها و تمردوا على إرادته و حاربوا أولياءه.. أبناء الدنيا هم الذين استعلوا على الناس و تكبروا عليهم و استعبدوهم و حطموا فيهم شعور العزة و الكرامة...

و كما إن للدنيا أبناء فللآخرة أبناء و أبناء الآخرة هم الذين نظروا إلى اللّه نظرة الربوبية و إنه الحاكم المطلق بيده الأمر و بيده النهي.. أبناء الآخرة هم المطيعون للّه العاملون بأمره الذين يعمرون الدنيا بإخلاصهم للّه و عبادتهم له و طاعتهم لحكمه.. أبناء الآخرة هم المصلون، الصائمون العابدون، الخاشعون، المتصدقون، المحسنون، العاملون.. و إن كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة فمن كان من أبناء الآخرة و نظر إليها و أعد لها عدتها و سينال ما أعده اللّه فيها و هي باقية له لأنها باقية بينما أبناء الدنيا سيلتحقون بها و هي لا دوام لها و لا بقاء، و ابناؤها لن يبقوا و لن يدوموا و لن يحصلوا منها على شيء لأنها زائلة فانية و كذلك ابناؤه تبعا يفنون و لا يبقون...

ثم رغبّ في العمل و حضّ عليه بأن دار الدنيا هي دار العمل و دار الجهاد.. الدار التي يتقرّر بها مصير هذا الإنسان فإن عمل وجّد و اجتهد فإلى الجنة مصيره و إن أهمل و ضيّع و سوّف و لم يعمل فهناك الخسارة الكبيرة التي لا يستطيع معها أن يعوض أو يستدرك لأنه متى وصل إلى الآخرة انقطع العمل و توقف السعي فمن يزرع في الدنيا يحصد في الآخرة و من لا يزرع فإنه لن يحصد إلا الندامة و العذاب...

و إذا كانت الدنيا هي شوط الإنسان الوحيد للعمل فيجب أن يغتنم الفرص و لا يفوت وقتا إلا يكتسب فيه عملا صالحا يقربه من اللّه و يدرك نتيجته في الآخرة سرورا و سعادة و جنة و حريرا..

ص: 321

43 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبد اللّه البجلي إلى معاوية و لم ينزل معاوية على بيعته إنّ استعدادي (1) لحرب أهل الشّام و جرير عندهم، إغلاق (2) للشّام، و صرف (3) لأهله عن خير إن أرادوه. و لكن قد وقّت (4) لجرير وقتا لا يقيم بعده إلاّ مخدوعا (5) أو عاصيا. و الرّأي عندي مع الإناة (6) فأرودوا (7)، و لا أكره لكم الإعداد (8).

و لقد ضربت أنف هذا الأمر و عينه، و قلّبت ظهره و بطنه، فلم أر لي فيه إلاّ القتال أو الكفر بما جاء محمّد صلّى اللّه عليه. إنّه قد كان على الأمّة وال (10) أحدث أحداثا (11)، و أوجد النّاس مقالا (12)، فقالوا، ثمّ نقموا فغيّروا (14).

اللغة

1 - الاستعداد: التهيؤ.

2 - إغلاق: الباب عدم فتحه.

3 - صرفه: رده و منعه و دفعه.

4 - وقّت: جعل له وقتا محدودا.

5 - المخدوع: من خدع إذا مكر به و احتال عليه.

6 - الأناة: التأني التثبت، الرفق.

ص: 322

7 - أرودوا: أرفقوا.

8 - الإعداد: التهيئة.

9 - قلّبت: من قلب الشيء إذا حوله جعل باطنه ظاهره و أعلاه أسفله و يراد هنا اختبره.

10 - وال: حاكم.

11 - الأحداث: مفرده حدث الأمر الحادث المنكر.

12 - المقال: مصدر القول و هو الكلام.

13 - نقموا: كرهوا.

14 - غيروا: حولوا و بدلوا ما كان عليه و هنا قتلوه.

الشرح

اشارة

(إن استعدادي لحرب أهل الشام و جرير عندهم إغلاق للشام و صرف لأهله عن خير إن أرادوه) كان همّ الإمام أن يقيم الحجة القاطعة على معاوية و أهل الشام و يعذر إن هو حاربهم و قاتلهم و لذا أرسل جرير بن عبد اللّه البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته و لزوم طاعته و كتب له كتابا يبيّن له فيه أن القوم الذين بايعوا من تقدمه قد بايعوه و إن بيعته قد لزمته و هو في الشام و ليس له أن يختار أو يفسخ و صورة الكتاب: إني قد عزلتك ففوض الأمر إلى جرير و السلام.

و قال لجرير: صن نفسك عن خداعه فإن سلم إليك الأمر و توجّه إليّ فأقم أنت بالشام و إن تعلل بشيء فارجع.. فلما عرض جرير الكتاب على معاوية تعلل بمشاورة أهل الشام و هكذا بقي يدافع بجرير و يسوفه و يؤخره و هنا طلب أنصار الإمام و أتباعه أن يستعد لحرب أهل الشام علنا و يشهر ذلك فأجابهم الإمام إن الاستعداد لحرب أهل الشام و جرير عندهم لم يعد فهذا معناه إننا اتخذناهم أعداء و ابتدأنا في حربهم و هذا يثير حفائظهم و يجعل بيننا و بينهم سدا لانتفاهم بعده و يمنعهم أيضا من البيعة التي هي خير جامع إن أرادوا الخير و أحبوه...

(و لكن قد وقّت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا) و الإمام هنا في غاية الضبط للأمور و الدقة فيها إنه قد حدّد لجرير وقتا معينا لا يتجاوزه فإن مضى الوقت و لم يعد جرير فإن ذلك يكون لأحد أمرين إمّا أن معاوية خدعه و أخذ يماطله في الجواب

ص: 323

و يسوّف في الرد و إمّا أن جريرا نفسه قد تمرد و عصى و أحب معاوية و البقاء عنده و على كل حال فالوقت المعين يأتي بالخبر اليقين...

(و الرأي عندي مع الأناة فأرودوا و لا أكره لكم الإعداد) ثم بيّن لهم رأيه و هو الرأي الصحيح و السليم و هو التأني و الرفق و الانتظار و عدم استعجال الأمور فتمهلوا قليلا عسى أن تتضح الأمور و تستبين و مع ذلك لا أكره لكم أن تستعدوا و لكن ليس بشكل ظاهر لأن ذلك كما تقدم يغلق الشام و يمنع أهلها من خير إن أرادوه..

(و لقد ضربت أنف هذا الأمر و عينه و قلّبت ظهره و بطنه فلم أر لي فيه إلا القتال أو الكفر بما جاء محمد صلى اللّه عليه) بين الإمام نقطة ذات أبعاد كبيرة أوضح فيها مشروعية قتاله لمعاوية بل وجوبها عليه بحيث يكون التباطؤ بها و عدم الإقدام عليها يعادل الكفر و ذلك بأنه فحص الأمر بينه و بين معاوية من جميع جوانبه و درسه بكل أحواله و شئونه و فكر فيه باستيعاب و استيفاء فلم يجد إلا الكفر أو القتال و ذلك لأن النص قد ورد عن النبي و هو الصادق الأمين: يا علي ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و معاوية رأس الفرقة القاسطة و لا يجوز الاجتهاد في مورد النص - إن قلنا إن الاّئمة يجتهدون - و إلا فهم أصحاب الشرع و الدين أقوالهم و أفعالهم حجة و بما أن الكفر على الإمام محال فتعين القتال إن أصرّ معاوية على الشقاق و العناد...

ثم مضافا إلى ذلك فإنه الولي الشرعي الذي انعقدت له الخلافة - على مبنى القوم - و لا يجوز للإمام أن يهمل قضية تهدد وحدة المسلمين التي هي من أهم مصالحهم إذ بها عزتهم و قوتهم و هنا لا بد من قتال معاوية حتى يرده إلى الطاعة و عليه فتوى الجميع و إن الخارج عليه باغ عاد يجب قتاله و إلا إذا لم يقم الإمام بذلك كان فاسقا متهاونا و هو على حد الكفر بل في لسان بعض الأحاديث يصدق عليه ذلك...

(إنه قد كان على الأمة وال أحدث أحداثا و أوجد الناس مقالا، فقالوا ثم نقموا فغيروا) ثم أشار الإمام إلى عثمان و أضرب عن تسميته تكرما و ترفعا فقال: إنه الخليفة المتولي لأمر الأمة الإسلامية أحدث أمورا منكرة عظيمة خالفت العدل و الحق و ما عليه شريعة اللّه. من استئثاره بالفيىء و تولية أقاربه على رقاب الأمة بدون كفاءة أو جدارة و اقطاعهم القطايع و إبطاله الحدود و بعبارة جامعة حوّل الإسلام إلى منافع العصابة الأموية التي لم تؤمن باللّه و لهذه الأسباب و غيرها مما هو مذكور في محله جعل للمسلمين عليه سبيلا إلى الطعن فيه و القدح في تصرفه و كانت هذه هي الخطوة الأولى التي سلكوها ثم لما أصر على عمله و لم يرتدع أو يرعو و عجزوا عن إصلاحه بالوعظ و الإرشاد و النقد البناء أظهروا معايبه و اتخذوا المواقف السلبية منه ثم أخيرا بعد اليأس من

ص: 324

إصلاحه عمدوا إلى قتله و كان لا بد من هذا التغيير الدموي الذي يقضي على رأس الضلال و الانحراف و يمنع الأمويين من استغلال الإسلام و تحويله لمصالحهم الشخصية و إن عثمان الذي كانت سيرته على هذا النهج المنحرف لا يثأر له و خصوصا من معاوية الذي كان يقدر على نصرته فأخرها عنه عمدا حتى قتل ثم عمد إلى الطلب بالثأر له خدعة منه و مكرا يطلب من وراء ذلك منصب الخلافة و الجلوس محله و هكذا كان و عليه جرت الأحداث..

ترجمة جرير بن عبد اللّه البجلي:

جرير بن عبد اللّه بن جابر(1) بن مالك بن نضرة بن ثعلبة بن جشم بن عوف بن خزيمة بن حرب بن علي البجلي يكنى أبا عمر و قيل أبا عبد اللّه الصحابي الشهير.

جزم ابن عبد البر بإنه أسلم قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأربعين يوما و قد غلّطه صاحب الإصابة و قال إنه في حجة الوداع قد استنصت الناس و جزم الواقدي أنه وفد على النبي في شهر رمضان سنة عشر..

و ذكر الشيخ الطوسي في رجاله أنه من أصحاب الرسول فقال: جرير بن عبد اللّه أبو عمرو و يقال أبو عبد اللّه البجلي سكن الكوفة و قد الشام برسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية و أسلم في السنة التي قبض فيها النبي (صلی الله علیه و آله) و قيل أن طوله كان ستة أذرع.

و في حواشي الخلاصة للشهيد الثاني - أقول - إن إرسال علي عليه السلام و إن دل على مدح أولا لكن مفارقته له عليه السلام و لحوقه بمعاوية كما هو معلوم مشهور يدفع ذلك المدح و يخرجه من هذا القسم و سيرته و تخريب علي داره بالكوفة بعد لحوقه بمعاوية مشهور.

و في منهج المقال بعد نقله - أقول - و كذا ما روي أن مسجده بالكوفة من المساجد المحدثة فرحا بقتل الحسين عليه السلام و كذا انحرافه عن أهل البيت...

تولى جرير همدان من قبل عثمان و كان عليها واليا عند ما قتل عثمان فبعث وراءه الإمام علي و عزله عنها و أرسله إلى معاوية ثم إنه بعد رجوعه إلى العراق لم يطل به المقام حتى هرب إلى معاوية أو إلى قرقيسيا و هي أيضا من البلدان الخاضعة لسلطان معاوية و توفي سنة إحدى و خمسين و قيل أربع و خمسين..

ص: 325


1- الإصابة في تمييز الصحابة ج - 1 ص 232.

44 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، و كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام و أعتقهم، فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام قبّح اللّه (1) مصقلة! فعل فعل السّادة (2)، و فرّ (3) فرار العبيد! فما أنطق مادحه (4) حتّى أسكته، و لا صدّق واصفه حتّى بكّته (5)، و لو أقام لأخذنا ميسوره (6)، و انتظرنا بماله وفوره (7).

اللغة

1 - قبحه اللّه: نحاه عن الخير.

2 - السادة: الأشراف، المقدمون عند الناس.

3 - فرّ: هرب.

4 - المادح: من مدح أحسن الثناء عليه، ضد ذمه.

5 - بكتّه: عنّفه و قرّعه.

6 - الميسور: ما تيسر له ضد المعسور.

7 - الوفور: مصدر وفر المال إذا تم.

الشرح

اشارة

(قبحّ اللّه مصقلة فعل فعل السادة و فرّ فرار العبيد) سبب هذا الكلام من الإمام أن الخريت بن راشد الناجي قد شهد مع الإمام في صفين ثم انحرف عنه و جمع معه جموعا

ص: 326

و هدد أمن المواطنين حتى قتل بعضهم فوجّه إليه الإمام معقل بن قيس فتعقبه نحو جبال رامهرمز فانهزم الخريت و لكنه هرب مع جماعة إلى بلاد فارس حتى انتهوا إلى أسياف البحر و كان هناك قوم نصارى قد ارتدوا عند ما رأوا ما يحدث بين المسلمين فأكمل معقل طريقه و هجم على الخريت فقتله و انهزم أتباعه فأعمل السيف في مستحقهم ثم أخذ النصارى أسرى و سار بهم حتى مرّ على مصقلة بن هبيرة الشيباني و هو عامل الإمام علي على أردشير خرة و هم خمسمائة إنسان فبكى إليه النساء و الصبيان و تصايح الرجال و استغاثوا به فاشتراهم بخمسمائة ألف درهم و أطلقهم و أكمل معقل مسيره حتى وصل إلى أمير المؤمنين فأخبره الخبر و ما كان من أمر مصقلة فقال له: أحسنت و أصبت و وفقت و انتظر الإمام أن يبعث مصقلة بالمال فأبطأ به فكتب إليه أن يدفع المبلغ المرقوم و إلا فليأتي إليه فأتى إلى الكوفة فأقره أياما ثم طالبه بالمال فأدى إليه مائتي ألف درهم و عجز عن الباقي ثم فر إلى معاوية فكانت هذه الكلمة المباركة من الإمام في حقه فقد دعا عليه أن يبعده اللّه عن الخير و يقذف به جانبا عن فعل المعروف لما أرتكبه من فعل شائن حيث أنه فعل فعل ذوي الكرامة و الشهامة الذين إذا استغاث بهم مغيث لبوا استغاثته و استجابوا لطلبه.. فعل ذوي المروءات الذين لا تغمض لهم عين و عيون اللاجئين إليهم ساهرة و لكنه مقابل هذا الفعل الشريف فرّ من الحق و العدل فرار العبيد خوفا من المواجهة فإن الجبان العاجز لا يقدر على مواجهة خصمه فيلوذ بالفرار و كذلك حال العبيد...

(فما أنطق مادحه حتى أسكته و لا صدّق واصفه حتى بكته) فلم يكد يسمع السامع بفعله الكريم و يبتدأ بمدحه و الثناء عليه و الإشادة بهذا العمل الشريف حتى يطرق سمعه نبأ فراره و هربه من وجه العدالة فلا يكمل المدح و لا يستمر بالإطراء...

و كذلك لم يصدق واصفه بالفعل الكريم و العمل الشريف حتى يضطر أن يعنفه و يسبه و يتكلم عليه بما يشينه لأنه أتبع الفعل الجميل بفعل قبيح فغطّى عليه و قضى على حسنه...

(و لو أقام لأخذنا ميسوره و انتظرنا بماله وفوره) ثم بيّن الإمام أسلوبه و طريقة عمله فيما لو بقي الشريف على مقامه المحمود و لم يفر بأنه كان سيتخذ معه طريق الكرام فيقبل ما هو متيسر له و موجود عنده ثم يمهله بالباقي إلى وقت وجوده و توفره فيأخذه و بذلك يحفظ ماء وجه الكريم كما يحفظ أموال الأمة و عامة المسلمين.

ص: 327

ترجمة مصقلة بن هبيرة الشيباني:

ذكر ابن أبي الحديد فقال:

مصقلة بن هبيرة بن شبل بن تيري بن امرىء القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن شيبان بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.. ولاه الإمام علي على أردشير خرة..

و لما مرّ به بنو ناجية اشتراهم و افتداهم من معقل بن قيس الذي سباهم و لما عجز عن أداء ما التزم به هرب إلى معاوية فكتب إليه الإمام هذه الكلمات الكريمة التي مرّ ذكرها..

ص: 328

45 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هو بعض خطبة طويلة خطبها يوم الفطر، و فيها يحمد اللّه و يذم الدنيا

حمد اللّه

الحمد للّه غير مقنوط (1) من رحمته، و لا مخلوّ (2) من نعمته، و لا مأيوس (3) من مغفرته، و لا مستنكف (4) عن عبادته، الّذي لا تبرح (5) منه رحمة، و لا تفقد (6) له نعمة.

ذم الدنيا

و الدّنيا دار مني (7) لها الفناء (8)، و لأهلها منها الجلاء (9)، و هي حلوة خضراء، و قد عجلت (10) للطّالب، و التبست (11) بقلب النّاظر؛ فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد (12)، و لا تسألوا فيها فوق الكفاف (13)، و لا تطلبوا منها أكثر من البلاغ (14).

اللغة

1 - مقنوط: القنوط هو اليأس.

2 - مخلو: من خلا إذا انفرد، و مضى، ترك و ألقى.

3 - مأيوس: من اليأس و هو القنوط.

4 - مستنكف: من الاستنكاف و هو الاستكبار.

5 - لا تبرح: لا تزال يقال ما برح غنيا أي لم يزل كذلك..

6 - تفقد: تغيب.

ص: 329

7 - مني: قدّر من منّاه اللّه إذا قدّره.

8 - الفناء: الهلاك ضد البقاء.

9 - الجلاء: الخروج عن الوطن.

10 - عجلت: من عجل ضد بطؤ، أسرع.

11 - التبست: اختلطت و امتزجت.

12 - ارتحلوا: من رحل عن المكان إذا تركه و انتقل عنه.

13 - الزاد: ما يتخذ من الطعام للسفر.

14 - الكفاف: ما أغنى عن الناس، سد الحاجة.

15 - البلاغ: الكفاية.

الشرح

(الحمد للّه غير مقنوط من رحمته) حمد اللّه سبحانه في هذه المواطن لم لها من المواقع و الأهمية و أولها أنه لا ييأس من رحمة اللّه و لا يصاب بهذا المرض من عرف اللّه و عرف رحمته فهو الرحمن الرحيم و من صفاته الرحمة و بها أوجد هذا الإنسان و أخرجه من زاوية العدم إلى الوجود، و بها رزقه و أعطاه و حسّن صورته، و بها كانت الخيرات و العطايا.. الرحمة التي هي عين كفاية المرء و عطائه و إمداده و إرفاده.. و ما الرحمة التي يعيش بها الناس و تسري فيما بينهم إلا جزء من تلك الرحمة الإلهية الكبرى...

(و لا مخلو من نعمته) لا تخلو من نعم اللّه و عطاياه و نعمه علينا متتالية متتابعة مترادفة من أصل الوجود إلى كل موجود و كما قال تعالى: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا» و هي نعم ظاهرة تراها الأبصار و هناك نعم باطنة تراها البصائر و في كل نفس نعمة و في كل حركة نعمة و في كل مقام و مقال و مكان و زمان نعمة، جلّت نعمك يا ربّ و بوركت عطاياك...

(و لا مأيوس من مغفرته) و هذه هي عقيدة المؤمنين فإنهم قوم لا يدّب اليأس في قلوبهم، فمهما أساؤا و أخطئوا و تنكبوا عن الطريق يبقى أملهم في اللّه كبير و أملهم في غفران ذنوبهم عظيم، إن ذنوب العباد ليست أكبر من عفو اللّه و من ظن ذلك كان ظنه أكبر من خطيئته.. الأمل في غفران الذنوب عقيدة إيمانية في قلب كل مسلم قال تعالى: «يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً» ..

ص: 330

و قال تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ » ..

(و لا مستنكف عن عبادته) لا يتكبر المخلوق عن عبادة الخالق و كيف ؟ و اللّه سبحانه هو الكمال المطلق المستحق للعبادة دون غيره فلا يتكبر عن عبادته و قد أذعن لهذه الحقيقة الأنبياء و الملائكة و الصالحون و كل ذي عقل فطن لبيب...

قال تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ » .

(الذي لا تبرح منه رحمة و لا تفقد له نعمة) فاللّه كله رحمة و رحماته تتوزع على خلقه و تنال الجميع لا تنفذ تلك الرحمات و لا تنتهي بل هو الغني بها و ما في الخلق إلا رشحات منها أفاضها عليهم و هي أيضا من رحماته و أما نعمه فلا تفقد في موقع و لا تنعدم في محل بل هي حتى فيما يظن أنها نقمة فلربما كانت هي نعمة كما هو المشاهد في ابتلاء الأنبياء و الصالحين و ما يمر على الأولياء و المخلصين...

(و الدنيا دار مني لها الفناء و لأهلها منها الجلاء) و هذه دخول في الموعظة و تذكير لنا بحال الدنيا و صفاتها و إنها الدار التي قدر اللّه لها الفناء فلن تدوم و لن تستمر بل وجودها إلى زوال و بقاؤها إلى فناء.. فالأحياء يموتون و عنها يرحلون و لا يبقون و الأشياء ينسفها ربي نسفا فيجعلها قاعا صفصفا...

و إذا كانت إلى فناء و أهلها إلى جلاء عنها فكيف يتعامل معها الإنسان و كيف يحوّل وجوده فيها؟ إن على هذا الإنسان أن ينظر إلى ما وراءها من الحياة الباقية التي لا تفنى...

(و هي حلوة خضراء و قد عجلّت للطالب و التبست بقلب الناظر) بيّن أسباب التهالك عليها و الركون إليها و الاطمئنان بحالها إنها حلوة المنظر تسّر من رآها و تدفعه لطلبها، إنه يرى الحكم و السلطة فيغره ذلك و يسعى للسيطرة و الحكم ناسيا أن ملوكا تعاقبوا عليها و لم يبقوا...

و إنه يرى المال فيعجبه اقتناؤه فيسعى من أجله من الحلال و الحرام و ينسى أن قارون جامع المال قد مات و هكذا مات من أتى بعده...

يرى الطيبات فيسعى إليها ناسيا من أكلوها و استلذوا بها فإن ديدان الأرض و حشراتها قد أكلتهم و هكذا...

إنها قد توفرت عند من يطلبها و يرغب فيها و يريدها قال تعالى: «مَنْ كٰانَ يُرِيدُ»

ص: 331

«اَلْعٰاجِلَةَ عَجَّلْنٰا لَهُ فِيهٰا مٰا نَشٰاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنٰا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاٰهٰا مَذْمُوماً مَدْحُوراً» .

و هذه الدنيا الحلوة إذا نظر إليها الإنسان فإنها تدخل إلى قلبه و خصوصا إذا كانت ملائمة للطباع موافقة للمزاج فيصبح مولعا بها متيما بحبها.

(فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد) و إذا كان لا بد من الارتحال عنها و الجلاء منها و كان لا بد لهذا السفر من زاد فليكن أفضل الزاد و أحسنه ألا و هو التقوى كما قال تعالى: «وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ » .

(و لا تسألوا فيها فوق الكفاف) نهى عليه السلام أن يطلب الإنسان فوق حاجته و ما يسد عوزه لأن الزيادة تتطلب السعي لها و في ذلك صرف للعمر فيما يفنى و لا أجر فيه ثم إنه إذا حصل عليه فإنه سيرتحل عنه و يتركه لغيره فإن كان من العصاة يكون قد أعان غيره على المعصية و إن كان من أهل الطاعة فإنه يسعد به غيره فلو صرف من أوقاته الزائدة عن تحصيل كفافه فيما فيه سعادته من طاعة اللّه لكان فيه كل الخير و السعادة الدائمة...

قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : اللهم ارزق محمدا و آل محمد و من أحب محمدا و آل محمد العفاف و الكفاف و ارزق من أبغض محمدا و آل محمد المال و الولد...

و عن الصادق عليه السلام: طوبى لمن أسلم و كان عيشه كفافا..

(و لا تطلبوا منها أكثر من البلاغ) اتركوا طلب ما زاد منها عن حاجتكم و قدر كفايتكم لئلا تندموا على ما تخلفونه منها و ما زاد عن قدر الحاجة فهو للحوادث أو للوارث.

ص: 332

46 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

عند عزمه على المسير إلى الشام و هو دعاء دعا به ربه عند وضع رجله في الركاب اللّهمّ إنّي أعوذ (1) بك من وعثاء (2) السّفر (3)، و كآبة (4) المنقلب (5)، و سوء المنظر (6) في الأهل و المال و الولد. اللّهمّ أنت الصّاحب في السّفر، و أنت الخليفة في الأهل، و لا يجمعهما غيرك؛ لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا، و المستصحب لا يكون مستخلفا.

قال السيد الشريف رضي اللّه عنه: و ابتداء هذا الكلام مرويّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و قد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ كلام و تممه بأحسن تمام؛ و من قوله: «و لا يجمعهما غيرك» إلى آخر الفصل.

اللغة

1 - أعوذ: أستجير.

2 - الوعثاء: المشقة و أصل الوعث المكان السهل الكثير الدهس تغيب فيه الأقدام و يشق المشي فيه.

3 - السفر: قطع المسافة و الخروج من المكان المقيم فيه.

4 - الكآبة: الحزن.

5 - المنقلب: الرجوع.

6 - المنظر: المرأى و سوء المنظر قبح المرأى.

الشرح

(اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر و كآبة المنقلب و سوء المنظر في الأهل و المال و الولد) هذا الدعاء من أمير المؤمنين عند ما وضع رجله في الركاب من منزله بالكوفة

ص: 333

متوجها إلى الشام لحرب معاوية و أصحابه و قد ورد عن الأئمة أدعية كثيرة لمن أراد السفر و هذا تعبير عن ولاء المسلم للّه و توجهه إليه و إنه يبتدىء مسيره في طاعة اللّه و يستمد منه القوة و العون..

و الإمام يستجير باللّه و يطلب منه العون أن لا يلحقه مشقة في سفره و لا يصيبه حزن و أسى عند عودته و لا تقع عيناه على ما يسؤه و يؤذيه في أهله و ماله و ولده..

و السفر مهما كان قصيرا طالما إنه سفر ففيه مشقة و تعب و مخالفة للعادة التي اعتادها الإنسان فإن من عادة كل واحد أن يقيم في وطنه و يستقر فيه و ذلك موجب لاستقرار النفس و ارتياحها و لذا يطلب الإمام و يعلّمنا كيف نستجير باللّه من تعب السفر..

كما يطلب من اللّه و يدعوه أن يرجع بدون حزن بل يرجع بسرور من تجارة رابحة و زيارة مقبولة و جهاد مبارك ميمون يرضي اللّه و كذلك إذا عاد أن يكون أهله و أمواله و أولاده على ما أحب لا يرى فيهم سوءا أو أذية.

(اللهم أنت الصاحب في السفر) أنت تصحبني في سفري و أنت رفيقي في رحلتي و من كان اللّه صاحبه و رفيقه فإنه لن يتخلى عنه أو يهمله بل سيوفر له كل ما يسعده و يخفف عنه الأذى، إنه يكفيه مهمات الأمور...

(و أنت الخليفة في الأهل) أي المتولي لأمور أهلي و المدبر لشئونهم و القائم بأمرهم و من كان اللّه خليفته على أهله أطمأن و ارتاح و ذهب في سفره و هو في غاية القوة و هدوء الأعصاب و الفكر...

(و لا يجمعهما غيرك، لأن المستخلف لا يكون مستصحبا و المستصحب لا يكون مستخلفا) لا يجمع الصحبة و الاستخلاف غير اللّه لأنه القادر المطلق و العالم المطلق المحيط بالأمور كلها و هي تحت يده و مستجيبة له و أما غيره فإنه إذا كان في مكان خلى منه آخر و هكذا يستحيل أن يكون غيره مستخلفا و مستصحبا لأن المستخلف هو الباقي خليفة على الأهل و المستصحب هو المرافق في السفر و هذا لا يجتمع مع الأول..

ص: 334

47 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في ذكر الكوفة كأنّي بك يا كوفة (1) تمدّين مدّ (2) الأديم (3) العكاظيّ (4)، تعركين (5) بالنّوازل (6)، و تركبين (7) بالّزلازل، و إنّي لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءا (8) إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل، و رماه بقاتل!

اللغة

1 - الكوفة: بلدة على شط الفرات اتخذها الإمام علي عاصمة حكمه.

2 - مدّ: بسط و تمدد انبسط.

3 - الأديم: الجلد المدبوغ.

4 - العكاظي: نسبة إلى عكاظ و هو سوق قرب مكة كانت تجتمع فيه العرب ببضاعتها و تتفاخر و تنشد أجود أشعارها.

5 - تعركين: من العرك و هو الدلك.

6 - النوازل: المصائب.

7 - تركبين: من ركب الدابة إذا علاها، وضع الشيء فوق الشيء.

8 - السوء: الشر، الفساد، الآفة.

الشرح

اشارة

(كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي، تعركين بالنوازل و تركبين بالزلازل) علاقة الإنسان بالأرض علاقة طبيعية و حب الوطن من الإيمان فمن نشأ في تربة أحبها و ألفها فإذا أراد فراقها صعب عليه فراقها و عز عليه تركها.

ص: 335

فكيف إذا كانت ملتقى الأحبة و الأتباع و فيها العز و الوفاء و بالأخص إذا كان فيها مضافا إلى ذلك بركة و قدسية و بعض الخصوصيات الإيمانية فإن الإنسان يزداد تعلقه بها و ارتباطه بكل ذرة تحويها، تشده إليها هذه الخصوصيات فيدافع عنها و يكافح من أجلها..

و الإمام كان يرتبط بالكوفة برابطة قوية، فقد كانت عاصمة حكمه، و ملتقى أصحابه و فيها مسجدها الجامع المبارك الذي صلى فيه النبي و قد كانت تضم بيوتات العرب و أشرافها و الإمام ينظر بعين الغيب فيحكي ما سيجري على الكوفة بعده و ما سيصيبها و يحل بأهلها، يقول ذلك بحسرة و ألم...

كأني بك يا كوفة، كأني أبصرك و أشاهدك و أرى رؤية العين حالك و قد حكم فيك الجبابرة و ما رسوا عليك أقسى أنواع الظلم و الاضطهاد و القهر، تصيبك الحوادث المؤلمة و المصائب المرعبة و قد لاقت الكوفة من الأمويين و عملاؤهم الشيء الكثير فقد صبّوا جام غضبهم عليها لكثرة من بها من الشيعة...

(و إني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءا إلا ابتلاه اللّه بشاغل و رماه بقاتل) و بعد أن أخبر بما يجري على الكوفة و يمر عليها من المصائب و المحن أخبر أيضا بأن كل جبار عنيد يخالف اللّه في عباده و يقصدها بسوء لا بد و أن يأخذه اللّه أخذ عزيز مقتدر فيبتلي بعضهم بشغل في نفسه بأن تصيبه آفة أو عاهة لا تدعه يكمل مخططه الجهنمي الرهيب، كزياد بن أبيه الذي جمع أهل الكوفة للبراءة من علي فأصابه الفالج و شغل بنفسه عن غيره و منهم من رماه اللّه بقاتل أذاقه حر الحديد و النار كابن زياد و ابنه عبيد اللّه و الحجاج و ابن الزبير و غيرهم..

الكوفة:

بعد فتح العراق كتب حذيفة إلى عمر: إنا لعرب قد رقت بطونها و جفت أعضاءها و تغيرت ألوانها و كان مع سعد فكتب عمر إلى سعد: أخبرني ما الذي غيّر ألوان العرب و لحومهم ؟.

فكتب إليه سعد: إن الذي غيرهم و خومة البلاد و إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان فكتب إليه عمر أن إبعث سلمان (الفارسي) و حذيفة (ابن اليمان) رائدين فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني و بينكم فيه بحر و لا جسر فأرسلهما سعد، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار فسار غربي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة و سار حذيفة

ص: 336

في شرقي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة - و كل رمل و حصباء مختلطين فهو كوفة - فأتيا عليها و فيها ديرات ثلاثة: دير حرمة و دير أم عمرو و دير سلسلة و خصاص فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا و دعوا اللّه تعالى أن يجعلها منزل الثبات فلما رجعا إلى سعد بالخبر و قدم كتاب عمر إليه أيضا كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو و عبد اللّه بن المعتم أن يستخلفا على جندهما و يحضرا عنده ففعلا و كان بين نزول الكوفة و وقعة القادسية سنة و شهران..

و أول شيء خط فيها و بني مسجدها ثم رمى رجل شديد النزع بسهم و أمر أن يبنى فيما وراء ذلك..

و بنوا لسعد دارا بحياله و هي قصر الإمارة الذي لا يزال أثره إلى اليوم.

ثم اتخذها الإمام علي عاصمة لحكمه لكثرة من بها من شيعته و لقربها من دمشق حيث معاوية الذي أعلن التمرد...

و لقد نالت نصيبا وافرا من غضب الحكام و سوطهم و خصوصا في زمن عبيد اللّه بن زياد و أبيه و الحجاج و عموم الأمويين، و هي إلى الآن قاعدة التشيع و ولاؤها لأهل البيت ثابت راسخ قوي لم يتزعزع أو يتزلزل بل كلما اشتدت الأزمات يشتد التمسك بالعترة و الرجوع إليها..

ص: 337

48 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

عند المسير إلى الشام قيل: إنه خطب بها و هو بالنخيلة خارجا من الكوفة إلى صفين الحمد للّه كلّما وقب (1) ليل و غسق (2)، و الحمد للّه كلّما لاح (3) نجم و خفق (4)، و الحمد للّه غير مفقود (5) الإنعام (6)، و لا مكافا (7) الإفضال (8).

أمّا بعد، فقد بعثت مقدّمتي (9)، و أمرتهم بلزوم (10) هذا الملطاط (11) حتّى يأتيهم أمري، و قد رأيت أن أقطع هذه النّطفة (12) إلى شرذمة (13)، منكم، موطّنين (14) أكناف (15) دجلة (16)، فأنهضهم (17) معكم إلى عدوّكم، و أجعلهم من أمداد (18) القوّة لكم.

قال السيد الشريف: أقول: يعني - عليه السلام - بالملطاط هاهنا السّمت الذي أمرهم بلزومه، و هو شاطىء الفرات، و يقال ذلك أيضا لشاطئ البحر، و أصله ما استوى من الأرض.

و يعني بالنطفة ماء الفرات، و هو من غريب العبارات و عجيبها.

اللغة

1 - وقب: دخل.

2 - الغسق: من غسق الليل إذا أظلم.

3 - لاح: بدا و ظهر.

4 - خفق: غاب.

5 - مفقود: من فقد غاب عنه و عدم.

6 - الإنعام: العطايا.

ص: 338

7 - مكافأ: مجازاة.

8 - الإفضال: الإحسان و قيل الابتداء به بدون علة.

9 - مقدمتي: من المقدمة و هي طليعة الجيش التي تتقدم عليه.

10 - لزوم: ثبت و دام.

11 - الملطاط: ساحل البحر، عدم المفارقة، التعلق بالشيء.

12 - النطفة: الماء الصافي.

13 - الشرذمة: النفر القليلون.

14 - موطنين: من وطنه و استوطنه اتخذه وطنا.

15 - الأكناف: الجوانب واحدها كنف.

16 - دجلة: نهر ينبع من جبال طوروس في تركيا و يمر بديار بكر و الموصل و بغداد.

17 - أنهضهم: من نهض بمعنى قام و أنهضهم أقامهم.

18 - الإمداد: جمع مدد و هو ما يمد به الجيش تقوية له.

الشرح

(الحمد للّه كلما وقب ليل و غسق) الحمد للّه صيغة افتتح اللّه بها قرآنه، إنها اعتراف و إقرار بحق اللّه و إنه المستحق للحمد و لكي تنطلق الشفاه بها و تكون صادقة يجب أن يكون ناطقها ملتزما بأوامر اللّه و أحكامه يقوم بالواجبات و يترك المحرمات و لا يتعدى حدود ما رسمه اللّه له في شريعته..

- عن الصادق عليه السلام قال: الشكر للنعم اجتناب المحارم و تمام الشكر قول:

الحمد للّه رب العالمين.

- و ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله: لا إله إلا اللّه نصف الميزان و الحمد للّه يملأه.

- و عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) من ظهرت عليه النعمة فليكثر قول الحمد للّه..

و الإمام سيد العابدين و أصدق العارفين يحمد اللّه في كل أوقاته و لكنه يخصص هذه الأوقات و الحالات لما فيها من خصوصية تنبه الفرد إليها فهو يحمد اللّه كلما دخل الليل و أظلم لما في تلك الآية من لفت النظر و إنها موضع السكون و الهدوء و الاستقرار.

(و الحمد للّه كلما لاح نجم و خفق) و كذلك الحمد أمام هذه الظاهرة الكونية العظيمة التي يشير ظهور الكواكب و غيابها إلى عظمة خالقها و مبدعها و لما فيها من الزينة

ص: 339

و الجمال و الأنس لدى النفوس و إن كانت بعيدة عنه لا تطالها يده...

(و الحمد للّه غير مفقود الإنعام و لا مكافأ الإفضال) و الحمد للّه الذي لا تفقد نعمه بل هي متوالية متتالية متكررة مستمرة من أصغر النعم إلى أعظمها كما أن له الحمد لعدم قدرتنا على مجازاته على هذه النعم و هذا الإحسان و كيف يقابل من كان عطاؤه ابتداء و بدون استحقاق بل تفضلا و إحسانا...

(أمّا بعد فقد بعثت مقدمتي و أمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري) عند ما توجه الإمام إلى صفين وجه زياد بن النضر و شريح بن هاني في إثنتي عشر ألف فارس مقدمة له و أمرهم أن يلزموا جانب الفرات فساروا حتى وصلوا إلى عانات و أما هو فقد خرج من الكوفة إلى المداين و إليها أشار بأنه سيقطع الفرات إلى الجانب الآخر حيث تقع المداين..

(و قد رأيت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم موطنين أكناف دجلة) إنه رأى أن يعبر النهر إلى الجهة الأخرى حيث أهل المدائن القلة القليلة الساكنة و المستوطنة هناك في جوانب دجلة...

(فأنهضهم معكم إلى عدوكم و اجعلهم من أمداد القوة لكم) استنهضهم و أحثهم على الخروج إليكم ليقاتلوا معكم عدوكم معاوية و أصحابه و اجعلهم المدد لكم و القوة على عدوكم..

ص: 340

49 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيه جملة من صفات الربوبية و العلم الإلهي الحمد للّه الذي بطن (1) خفيّات (2) الأمور، و دلّت (3) عليه أعلام (4) الظّهور، و امتنع (5) على عين البصير (6)؛ فلا عين من لم يره تنكره (7)، و لا قلب من أثبته (8) يبصره: سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه، و قرب في الدّنوّ (9) فلا شيء أقرب منه. فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، و لا قربه ساواهم (10) في المكان به. لم يطلع (11) العقول على تحديد (12) صفته، و لم يحجبها (13) عن واجب معرفته، فهو الّذي تشهد (14) له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود (15)، تعالى اللّه عمّا يقوله المشبّهون (16) به و الجاحدون له علوّا كبيرا!.

اللغة

1 - بطن: بطنت الوادي إذا دخلته و بطنت الأمر علمت باطنه.

2 - الخفيات: المستورات، البواطن، الأسرار.

3 - دلت: أرشدت و هدت.

4 - الأعلام: الأعلام جمع العلم المنار يهتدى به ثم جعل لكل ما يستدل به على شيء.

5 - امتنع: العزيز، الشديد الذي لا يقدر عليه و حصن منيع يتعذر الوصول إليه.

6 - البصير: المبصر الذي يرى بنظره.

7 - أنكره: جحده، جهله.

8 - أثبته: عرفه حق المعرفة، بينه بالبينات.

ص: 341

9 - الدنو: القرب.

10 - ساواهم: ماثلهم، و ساوى الشيء عادله.

11 - يطلع: يعلم.

12 - التحديد: رسم حدود الشيء عن الشيء الآخر و تميزه عنه.

13 - حجبه: منعه و ستره.

14 - تشهد: تقر، تخبر.

15 - الجحود: الإنكار.

16 - المشبهون: قوم شبهوا اللّه بخلقه أي صوّروة مثلهم..

الشرح

(الحمد للّه الذي بطن خفيات الأمور) هذه جملة من الصفات الربوبية التي يصفه بها الإمام و هي في غاية التنزيه للّه عن كل نقص أو عيب.

1 - إنه يعلم بواطن الأشياء و خفاياها لا يعزب عن علمه شيء من الذرة التائهة الصغيرة إلى المجرة الهائلة العظيمة. و علمه بالأشياء الحادثة كعلمه بما لم يحدث لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء.

(و دلت عليه أعلام الظهور) ما ظهر من هذه الموجودات و بان كلها تدل على أن اللّه هو صانعها لحدوثها المفتقر إلى موجد لها غني بالذات ألا و هو اللّه، فمن الأثر نكتشف وجود المؤثر و من المعلول نضع أيدينا على وجود العلة و من وجود الكون و ما فيه نعرف أن له صانعا حكيما هو اللّه تعالى. و قد استدل الأعرابي ببساطته و صفاء فكره عند ما سئل عن اللّه فقال: البعرة تدل على البعير و أثر الأقدام يدل على المسير أ فسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج ألا يدلان على اللطيف الخبير.

(و امتنع على عين البصير) فالبصير بأدق ما يبصر يعجز عن رؤية اللّه لأن الرؤية تستدعي تحديد الجهة للمرئي و أن يكون جسما و اللّه سبحانه منزه عن الجسمية و الجهتية فلا جهة تحويه و لا تخلو منه جهة و هو ليس بجسم فلا يمكن رؤيته...

و عند ما طلب موسى الرؤية قال: «لَنْ تَرٰانِي» (1) فهو نفي مؤبد يشمل الآخرة

ص: 342


1- سورة الأعراف، آية: 143.

فضلا عن الدنيا.. و قال تعالى(1): «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ» ...

(فلا عين من لم يره تنكره و لا قلب من أثبته يبصره) ليست الأشياء على مستوى واحد و لا ذات خصائص واحدة بل كل صنف له خصوصية و عناصر ذاتية تحكمه و تخرجه عن غيره و لذا لا يمكن إخضاعها جميعا لمقياس واحد كما لا يمكن أن يحكمها قانون واحد و قد كانت أمور كشفها العلم الحديث تقرب هذا المعنى و توضحه فالجراثيم مثلا تفتك ببدن الإنسان و تقوض حركته و هو لا يراها بالعين المجردة - إنه يراها بالمجهر الذي يكبّرها ملايين المرات - و لو لا ذلك لأمكنه إنكارها لأنه لم يرها و لكنه يكون مخطئا في إنكاره لأنه لم يستعمل لها أدواتها المعدة لها...

و اللّه سبحانه و تعالى جلت قدرته له صفات ذاتية تفوق تصور هذا الإنسان و لا يقع سبحانه تحت نظر هذا الإنسان العاجز فإذا استعمل بصره فلن يرى اللّه لقصور البصر و جلال اللّه عن ذلك و لكن مع ذلك لا يستطيع أن ينكر وجوده و يتنكر لجوده لأن العقل يحكم بوجوده و يصدق به...

و كذلك من أثبت وجود اللّه لعقله لا يمكن أن يدعي رؤيته بعينه لأن الأول طريق معرفته دون الآخر...

و بعبارة أخرى مختصرة إن طريق معرفة اللّه و الإيمان به هو العقل فإذا حكم بوجوده فليس معنى ذلك أن يخضع للرؤية البصرية فذلك ما لا يمكن إدراكه كما أن من لم يره لا يقدر أن ينفيه لأن البصر ليس هو الطريق الصحيح لمعرفته...

(سبق في العلو فلا شيء أعلى منه) علوه كما له المطلق الذي تتفرع منه الكمالات النسبية الأخرى... فهو العالم، الحي، الدائم السرمدي الأزلي و جميع صفات الكمال الذي لا يقاس بها كمال آخر مما نعرف أو نرى...

(و قرب في الدنو فلا شيء أقرب منه) فهو مع كل شيء و كما قال تعالى:(2)«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ» ...

(فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه و لا قربه ساواهم في المكان به) أراد عليه السلام أن يطرد من أذهاننا ما ربما نتخيله و نتوهمه من أن استعلاؤه يبعده عنا فلا نلتقي به6.

ص: 343


1- سورة الأنعام، آية: 103.
2- سورة ق، آية: 16.

أو أن قربه منا يساوينا معه في المكان و الزمان فنجتمع معه كلا فليس ذلك مراده لأنه منزه عن المكان و الزمان و الجهة و عن الأين و الكيف...

(لم يطلع العقول على تحديد صفته و لم يحجبها عن واجب معرفته) معرفة اللّه بحقيقته و كنهه أمر لا تدركه العقول القاصرة و هذا هو الشيء الذي ينفيه الإمام و يمنع العقول أن تدركه لأن كل ما يتصوره الإنسان من صفات و خصائص فهي أمور تخيلّها و ركبّها و هي تتنافى مع ذات اللّه و ما هو عليه و كما في الحديث: لعل النمل ترى أن للّه زبانيتين كمالها لأنها تتصور الكمال بهما...

نعم نحن أدركنا الصفات بحسب ما أعطانا من المعرفة و بهذا المقدار زودنا اللّه من العلم و أعطانا من العقل لندرك قدر الواجب في معرفة الصفات فهو سبحانه وهب لكل نفس قسطا من المعرفة يعرف بها هذه الصفات قدر طاقته و قدرته...

(فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود تعالى اللّه عما يقوله المشبهون به و الجاحدون له علوا كبيرا) فإن هذه الآيات الظاهرة و الكائنات الحادثة كلها تحكي عن وجوده و تدل على ذاته، فكما أن الجاحد يستدل بالأثر على المؤثر و بالمعلول على العلة في غير هذه القضية فيجب أن يستدل هنا و يعرف أن للكون خالقا و صانعا فهذه حجة عليه و كما قال تعالى:(1)«وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ » تعالى اللّه و جلّ أن يشبّه بغيره و علا علوا كبيرا عما يقوله المنكرون الذين هم جاحدون..4.

ص: 344


1- سورة النمل، آية: 14.

50 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيه بيان لما يخرب العالم به من الفتن و بيان هذه الفتن إنّما بدء (1) وقوع الفتن (2) أهواء (3) تتّبع، و أحكام تبتدع (4)، يخالف (5) فيها كتاب اللّه، و يتولّى (6) عليها رجال رجالا، على غير دين اللّه. فلو أنّ الباطل خلص من مزاج (7) الحقّ لم يخف على المرتادين (8)؛ و لو أنّ الحقّ خلص (9) من لبس (10) الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين؛ و لكن يؤخذ من هذا ضغث (11)، و من هذا ضغث، فيمزجان (2)! فهنالك يستولي الشّيطان على أوليائه، و ينجو «الّذين سبقت لهم من اللّه الحسنى».

اللغة

1 - البدء: بفتح الباء و سكون الدال الابتداء، الأول.

2 - الفتن: مفردها الفتنة الاختبار، الامتحان، الابتلاء، الضلال، الاختلاف.

3 - الأهواء: مفردها الهوى إرادة النفس و ميلانها إلى مستلذاتها.

4 - تبتدع: من البدعة إحداث أمر لم يكن و شرعا إدخال أمر في الدين على أنه منه.

5 - يخالف: ضد يوافق.

6 - يتولى: يتّبع.

7 - مزاج: من المزج و هو الخلط.

8 - المرتادين: الطالبين.

9 - خلص: صفى.

10 - اللبس: لبس عليه الأمر خلطه و جعله مشتبها بغيره خافيا.

ص: 345

11 - الضغث: بكسر الضاد قبضة من حشيش تشتمل على الرطب و اليابس.

12 - يمزجان: من مزج الشراب بالماء إذا خلطه.

الشرح

(إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللّه و يتولى عليها رجال رجالا على غير دين اللّه) أشار عليه السلام في هذا الكلام إلى ما وقع بين المسلمين من الاختلاف بعد وفاة رسول اللّه - و يمكن أن يعمّم الكلام لكل أمر يشبهه - و هو أن أول نشوء الاختلاف في الآراء و انتشار المذاهب الباطلة و تعدد وجهات النظر إنما كان من جهة هوى النفس و الرغبة في المنصب و الرياسة و اصطياد الدنيا فهذا الإنسان له هوى في الزعامة فيبتدع من رأسه رأيا شخصيا و فكرا فطيرا يخالف به عمومات القرآن و ما أنزل اللّه ثم إنه بما له من سلطة و قوة أو بما له من رصيد شعبي يتبعه و يحبه ترى الناس خلفه يأخذون بآرائه و يروجون لها و ينشرونها بين الناس دعاة و مبشرين دون أن يتلفتوا إلى دين اللّه و حكمه و دون أن يعودوا إلى المنزل من كتابه لكي يفتشوا عن صحة هذا الرأي أو فساده.. إنهم يغلقون أفكارهم و يقلدون الرجل بل يكونون دعاة من دعاته و بوقا إعلاميا من أبواقه...

إن أصحاب المذاهب الباطلة و الفرق الفاسدة كانت أول ما ابتدأت وليدة الهوى ثم سارت الرجال خلف مبتدعيها دون فكر أو دراية و هكذا...

(فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين و لو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه و ينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى) بيّن عليه السلام أسباب و دواعي اتباع الناس للرجل المبتدع و هو أن التمويه و التضليل طريق يسلكه و منهج يتخذه. فلو أن الباطل كان ظاهرا بينا لم يخف على طلاب الحق و رواده الذين يهمهم الالتزام به و اتباعه، إذ ليس بين الناس و بين الحق عداوة و لو أن الباطل كان واضحا ظاهرا لاجتنبه الناس و ابتعدوا عنه..

و لكن هذا المبتدع يأخذ من الباطل مضمونه و حقيقته و من الحق شعاره و ثوبه ثم يلبس الثوب للمضمون و يأخذ بعرض ذلك أمام الناس فيستهوي الضعفاء و أصحاب العقول الخفيفة فيجرهم إليه و إلى نهجه و يدعوهم إلى الإيمان بما يطرحه و يذهب إليه

ص: 346

فترى الكثير يتبعون أثره و يرفعون شعاره و يحاربون من أجله.. لقد خلط الحق بالباطل فاشتبه الأمر على من لا معرفة لهم بالأمور و لا دارية لهم في تمييز الحق من الباطل و هذا النموذج ما أكثر مصاديقه في الدنيا و في كل يوم شعار يرفع و ناس تتبع و في زماننا شيوعية و اشتراكية و رأس مالية و دارونية و هندوسية و هكذا تتعدد المدارس و تكثر الآراء و تختلف النظريات...

و لكن الإنسان المسدد المؤيد بقوة عقلية الذي يرى بنور اللّه و ما وضعه له من العلامات و نصبه له من الأدلة يهتدي إلى تزييف الباطل و رفضه و معرفة الحق و الإيمان به فهو من الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى و أما غيرهم فمن أولياء الشيطان و اتباعه الذين يمشون في ضلال و عمى...

ص: 347

51 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين و منعوهم الماء قد استطعموكم القتال (1)، فأقرّوا (2) على مذلّة (3)، و تأخير محلّة؛ أو روّوا (4) السّيوف من الدّماء ترووا من الماء؛ فالموت في حياتكم مقهورين (5)، و الحياة في موتكم قاهرين. ألا و إنّ معاوية قاد (6) لمة (7) من الغواة (8)، و عمّس (9) عليهم الخبر، حتّى جعلوا نحورهم (10) أغراض (11) المنيّة (12).

اللغة

1 - استطعموكم القتال: طلبوا القتال منكم.

2 - أقروا: أما من الإقرار و هو الاعتراف أو من القرار و هو الثبوت و السكون.

3 - المذلة: الهوان.

4 - روّوا: من روى إذا شبع من الماء.

5 - المقهور: المغلوب، الذليل.

6 - قاد: الدابة مشى أمامها آخذا بقيادها و زمامها..

7 - اللمة: الجماعة القليلة.

8 - الغواة: مفردها الغاوي و هو الضال المنقاد للهوى.

9 - عمسّ : أبهم و عمي.

10 - النحور: مفردها نحر و هو أعلى الصدر.

11 - الأغراض: جمع غرض و هو الهدف.

12 - منية: الموت.

ص: 348

الشرح

اشارة

(قد استطعموكم القتال فأقروا على مذلة و تأخير محلة أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء).

و هذا فارق آخر بين على و معاوية:

سبق معاوية إلى شريعة الماء في صفين و قد أجمع و أصحابه أن يمنعوه عن علي و أصحابه و وصل النبأ إلى الإمام فدعا صعصعة بن صوحان فقال: ائت معاوية و قل له:

إنّا سرنا إليك مسيرنا هذا و إنّا نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم و إنك قدّمت خيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك و بدأتنا بالحرب و نحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك و نحتج عليك و هذه أخرى فقد فعلتموها قد حلتم بين الناس و بين الماء فخلّ بينهم و بينه حتى ننظر فيما بيننا و بينكم و فيما قدمنا له و قدمتم له و إن كان أحب إليك أن تدع ما جئتنا له و ندع الناس يقتتلون حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.

فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية، قال معاوية لأصحابه ما ترون ؟.

قال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان.

قال عمرو بن العاص: خلّ بين القوم و بين الماء فإنهم لن يعطشوا و أنت ريّان و لكن لغير الماء فانظر فيما بينك و بينهم.

عاد الوليد مقالته.

و قال عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح - و كان أخا لعثمان من الرضاعة. امنعهم الماء إلى الليل فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا و كان رجوعهم هزيمتهم.

ثم إن معاوية قرر أن يمنعهم الماء فعندها قام الإمام خطيبا و خطب هذه الخطبة التي يحثهم فيها على انتزاع الشريعة و الاستيلاء عليها بقوة السلاح...

و فعلا دخل الأشتر و الأشعث و أصحاب الإمام و أزالوا أبا الأعور و من معه من جند معاوية و استولوا عليها.

فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم أمس، أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه، ما أغنى عنك أن تكشف لهم السؤة.

ص: 349

فقال معاوية: دع عنك ما مضى فما ظنك بعلي ؟.

قال: ظني إنه لا يستحل منك ما استحللت منه و إن الذي جاء له غير الماء...

ثم قال أصحاب الإمام للإمام: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك.

فقال: لا خلوا بينهم و بينه لا أفعل ما فعله الجاهلون سنعرض عليهم كتاب اللّه و ندعوهم إلى الهدى فإن أجابوا و إلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء اللّه يقول الراوي:

فو اللّه ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم و سقاة أهل الشام و رواياتهم و روايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنسانا...

و الإمام يقول لأصحابه في هذه الخطبة إنهم طلبوا منكم القتال و أرادوا أن تطعموهم إياه عند ما منعوكم من ارتياد المشرعة و أنتم بين أحد خيارين.

إما أن تقبلوا بذلك فلا تحركوا ساكنا ترضون بالذل و الهوان و تتأخرون عن المحلة الرفيعة و المقام الكريم و هذا ما لا يرضاه اللّه لكم و لا ترضونه لأنفسكم فإن العزة للّه و لرسوله و للمؤمنين.

و إما أن تسقوا السيوف من دمائهم و عندها تسقون من الماء، فالمقدمة لكي تشربوا و ترتوا أن تشرب سيوفكم من دمائهم فهي التي تمهد لكم الدخول إلى المشرعة و تسهل لكم شرب الماء و ما أعظم هذا البيان العلوي الذي يحرك الجماد و يدفع بالجبان إلى لهوات المعارك و القتال و يؤهله ليكون من الشجعان...

(فالموت في حياتكم مقهورين و الحياة في موتكم قاهرين).

نشيد الأحرار:

هذا نشيد رائع وضعه الإمام إمام القادة و الأحرار فأخذوا يرددونه باستمرار أمام جيوشهم و رعيتهم يتغنون به و يعزفون معه موسيقى النصر و آيات المجد.. كلمات معدودة تختصر الموت كما تختصر الحياة.. على أساسها نعرف حياة الأمم و نعرف موتها كما نعرف حياتنا و موتنا.. ميزان صحيح و سليم يضعه الإمام بين أيدينا يدفعنا من خلاله أن نكون أحياء.. فحياة الذل و الهوان و الضعة و العار هي موت حقيقي و إن كانت في ثوب الأحياء، فالشعوب المستعمرة التي يمارس عليها الظلم و تستلب خيراتها و تصادر حرياتها هي شعوب ميتة و إن كانت تتنفس و تتحرك كالأحياء... فالموت هو في الحياة الذليلة الوضيعة المهانة...

ص: 350

و أما الحياة فهي في الموت الشريف الذي يزلزل بنيان الحكم الظالم و قواعده المستبدة، الحياة هي التي تخرج من الموت منتصرة تعيش على ألسنة الأحرار و الثوار فالموت حياة عند ما يموت الحر من أجل هدفه و غايته و أصدق شاهد على هذا ثورة أبي عبد اللّه الحسين أبيّ الضيم الذي خرج على الحكم الأموي فهشم بنيانه و حطم قواعده و أتى على كل شيء فيه فهدّه من أساسه و ارتفع ذكره و عاش خالدا منتصرا.. إنها هي الحياة في الموت... الملايين في شرق الأرض و غربها تقدسه تحتفل بذكرى ولادته و ذكرى شهادته و أضحت عاشوراء رمزا و منارا لكل ثائر من أجل اللّه و الحق...

مئات السنين بعد الألف قد مضت و كأنه يعيش في كل أمة و في كل جيل.. يعيش في قلوبهم و في ضمائرهم و في حركة حياتهم.. أضحى رمزا و شعارا يعيش ما عاش إنسان على هذه الأرض... الحياة في الموت الشريف العزيز الذي يذل الطغاة و الظالمين و يقضي على جبروتهم و ظلمهم...

(ألا و إن معاوية قاد لمة من الغواة و عمّس عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية) ثم بين حال معاوية مع من معه و كيف سار بهم، إنهم قلة من الذين أضلهم بحيله و أعمى عليهم الخبر الصحيح من وراء قتاله حيث رفع قميص عثمان و طالب بالثأر له و أخذ من هذا شعارا يقاتل الحق به و قد هيأكل الأمور التي تدعمه في هذه الحرب من شراء بعض الصحابة الضعفاء في إيمانهم كأبي هريرة و عمرو بن العاص و الضحاك بن قيس و غيرهم ممن لا يعرف غير مصلحته و منفعته في الحياة ثم اشترى من الرؤساء أنفسهم فوزع عليهم الأموال و أعطاهم الأعطيات و مناهم و أغراهم حتى ذلل كل صعب و عسير و استطاع من خلال ذلك أن يبني جبهة قوية دفعها بكل ما تملك لتقاتل تحت شعار الثأر لعثمان و إن كان يطلب من وراء ذلك الملك و الإمارة على الناس...

و قد قدم أهل الشام أنفسهم و بذلوا دماءهم من أجل ما نادى به معاوية فاصطاد بذلك قلوبهم و أدرك أمنيتة في دفعهم لقتال الخليفة الشرعي و إن معاوية و إن مات شخصه و لكنه لا يزال يعيش برمزه..

ص: 351

52 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي في التزهيد في الدنيا، و ثواب اللّه للزاهد، و نعم اللّه على الخالق

التزهيد في الدنيا

ألا و إنّ الدّنيا قد تصرّمت (1)، و آذنت (2) بانقضاء، و تنكّر معروفها و أدبرت (4) حذّاء (5)، فهي تحفز (6) بالفناء (7) سكّانها، و تحدو (8) بالموت جيرانها، و قد أمرّ (9) فيها ما كان حلوا (10)، و كدر (11) منها ما كان صفوا (12)، فلم يبق منها إلاّ سملة (13) كسملة الإداوة (14) أو جرعة (15) كجرعة المقلة (16)، لو تمزّزها (17) الصّديان (18) لم ينقع (19). فأزمعوا (20) عباد اللّه الرّحيل عن هذه الدّار المقدور (21) على أهلها الزّوال؛ و لا يغلبنّكم (22) فيها الأمل، و لا يطولنّ عليكم فيها الأمد (23).

ثواب الزهاد

فو اللّه لو حننتم حنين الولّه (24) العجال (25)، و دعوتم بهديل الحمام (26)، و جأرتم (27) جؤار متبتّلي (28) الرّهبان (29)، و خرجتم إلى اللّه من الأموال و الأولاد، التماس القربة (30) إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيّئة أحصتها (31) كتبه، و حفظتها رسله، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه، و أخاف عليكم من عقابه.

ص: 352

نعم الله

و تاللّه لو انماثت (32) قلوبكم انمياثا، و سألت (33) عيونكم من رغبة (34) إليه أو رهبة (35) منه دما، ثمّ عمّرتم (36) في الدّنيا، ما الدّنيا باقية، ما جزت (37) أعمالكم عنكم - و لو لم تبقوا شيئا من جهدكم (38) - أنعمه (39) عليكم العظام، و هداه إيّاكم للإيمان.

اللغة

1 - تصرمت: انقطعت و فنيت.

2 - آذنت: أعلمت.

3 - تنكر: جهل.

4 - أدبرت: ولت و ذهبت من أدبر إذا جعله وراءه.

5 - حذاء: سريعة.

6 - تحفز: تسوق.

7 - الفناء: العدم، الهلاك، خلاف البقاء.

8 - تحدو: تسوق.

9 - أمرّ: الشيء صار مرا.

10 - الحلو: ضد المر، الطيب اللذيذ.

11 - كدر: تعكر و تغيّر لونه و اختلط بما لا يستساغ شربه.

12 - صفوا: خالصا نقيا.

13 - السملة: البقية من الماء في الإناء.

14 - الإداوة: المطهرة، الإناء يتطهر به.

15 - الجرعة: من الماء البلعة.

16 - المقلة: بفتح الميم و تسكين القاف حصاة يضعها المسافرون في الإناء ليعرف قدر ما يشرب كل منهم.

17 - التمزز: الامتصاص قليلا قليلا.

18 - الصديان: العطشان.

19 - لم ينقع: لم يرو.

ص: 353

20 - أزمعوا: أعزموا.

21 - المقدور: المكتوب.

22 - لا يغلبنكم: لا ينتصر عليكم و يقهركم.

23 - الأمد: الغاية.

24 - الوله: في الأصل ذهاب العقل، كل أنثى فقدت ولدها.

25 - العجال: جمع عجول و من النوق من فقدت ولدها.

26 - هديل الحمام: صوت الحمام عند بكائه لفقد إلفه، صوت نوحه.

27 - جأرتم: الجؤار الصوت المرتفع.

28 - متبتلي: من المتبتل و هو المنقطع للعبادة.

29 - الرهبان: المبالغ في الخوف، من اعتزل عن الناس إلى الدير طلبا للعبادة.

30 - التماس القربة: طلبا للقربة.

31 - أحصتها: عدّتها و ضبطتها.

32 - انماثت: ذابت و انماث الملح إذا ذاب.

33 - سالت: جرت.

34 - رغب إليه: أراده و أحبه و رغب عنه أعرض عنه و تركه.

35 - الرهبة: الخوف، الفزع.

36 - عمرتم: عشتم عمرا طويلا.

37 - جزت: وفت و كفت.

38 - الجهد: الطاقة و القدرة.

39 - أنعمه: الأنعم جمع نعمة، العطية.

الشرح

(ألا و إن الدنيا قد تصرمت و آذنت بانقضاء) بيّن عليه السلام حال الدنيا و زوالها و نفّر منها و من الركون إليها ألا و إن الدنيا قد انقضت و مضت شيئا فشيئا فكل فرد يوجد فيها ينقضي من عمره ساعة فساعة و يوما فيوما و إنها أعلمت بانقضائها و أخبرت بزوالها حيث لم تبق لغيرنا ممن سبقنا و هي تحكي زوالها بمرورها علينا في كل يوم فلسان حالها كأنه ينطق بزوالها...

(و تنكّر معروفها و أدبرت حذاء) فما كنت تعرفه قد يأتي زمان تجهله، فالصورة التي كنت تحملها لأحبتك قد انمحت من ذهنك بعد غيابهم الطويل، و ما كنت تعرفه من

ص: 354

العلوم و المعارف قد تجهله و تتنكر له و لم يعد لك صلة به، إنها تمشي بسرعة و تنقضي على عجل بل ما أعجل أيامها و أسرع سنين العمر فيها و عودة سريعة إلى ما اختزنه الإنسان في عقله أو حوته مفكرته عن ماضيه يدرك كيف مرت الأعمار و انقضت الأيام...

(فهي تحفز بالفناء سكانها و تحدو بالموت جيرانها) هذه الدنيا تسوق سكانها و تدفعهم إلى الفناء فإن كل يوم يمر يدفع بهذا الإنسان نحو الموت و الفناء فالموت في كل يوم و مع كل لحظة فانت مجموعة أيام كلما مرّ يوم مات شطر منك فكأن الدنيا هي التي تدفعك إلى الفناء و إنها لتسوق جيرانها الذين هم الناس باعتبار قربهم منها إلى الموت و إن دنيا تدفع بهذا الإنسان إلى الموت جدير به أن يزهد فيها و يعدّ العدة لما بعدها.

(و قد أمرّ فيها ما كان حلوا و كدر منها ما كان صفوا) ما كان حلوا لذيذ الطعم طيب المذاق قد يصبح مرا علقما فالمريض يتحول العسل في فمه إلى خل و الحلو إلى مرّ و يرى الأمور الجميلة قبيحة و تتحول الدنيا بسعتها إلى أضيق من سم الخياط،.. إن أيام الصفاء و الهدوء قد تكدرت فالشباب أتى عليه المشيب و الغنى أتى عليه الفقر و الصحة أتى عليها المرض، و الحياة أتى عليها الموت و هكذا عدّد ما شئت و اذكر من شئت فستجد كل لذة يعقبها مرارة حتى ما تتصور اللذة فيه كالاّكل و النكاح يتحول إلى أسباب للمرض و الضغث و الانحلال و يسرّع في فناء الإنسان و زواله عن الدنيا...

(فلم يبق منها إلا سملة كسملة الإدواة أو جرعة كجرعة المقلة لو تمززها الصديان لم ينقع) هذا تحقير للدنيا و تصغير لشأنها إذ أنه لم يبق منها إلا شربة قليلة و بقية حقيرة شبّه ما فيها و ما يطمع الإنسان به منها ببقية الإناء التي يتطهّر به أو بما يتنازع به من الماء فلقلته، يجعل لكل واحد قليل منه لو أراد أن يشربها الإنسان لا ترويه و لا تطفئ ظمأه و الدنيا بما فيها حقيرة بهذا المستوى لا يأكل منها إلا بمقدار شبعه و لا يشرب منها إلا بمقدار ما يرتوي و لا يلبس فوق حاجته و هكذا دواليك و هذا جزء قليل مما فيها و حقير لا يستحق التنازع عليه و القتال من أجله...

(فازمعوا عباد اللّه الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال و لا يغلبنكم فيها الأمل و لا يطولن عليكم فيها الأمد) بعد أن بيّن هذه الدنيا و حقارتها و إنها لا تستحق الاهتمام قال اجمعوا أمركم و اعزموا على الرحيل عنها فإن الرحيل مكتوب على أهلها فكل نفس ذائقة الموت ثم نهانا عن غلبة الأمل بأن يمنّينا بأن أمامنا آمال يجب أن نحققها. يجب أن نملك المال و الثروة و الجاه و السلطان.. يجب أن نسعى و نكد من

ص: 355

أجل تحقيق ما نصبو إليه هكذا و بهذا اللسان يدفعنا الأمل لننسى أننا على أهبة الاستعداد للرحيل و أنه لا بد منه و قد يكون طول العمر من أسباب نسيان الرحيل، فلأنه تقدم في العمر و في صحة جيدة و عافية يظن أنه لا يزال الوقت بعيد... كلا فإن الذي يطلب الصغير يطلب الكبير فعلى كل واحد أن يستعدّ...

(فو اللّه لو حننتم حنين الوّله العجال و دعوتم بهديل الحمام) أقسم عليه السلام باللّه بأنهم لو عاشوا لوعة الشوق و الألم الذي يبلغ منتهاه و أصبحوا كما هو الحال عند النياق إذا فقدن صغارهن فإنهن يظهر عليهن ذلك في حركاتهن و حيرتهن...

أو يكونوا في الوفاء للّه كالحمام التي تفقد إلفها فتبقى تعيش الألم و الحزن و تكاد تموت حزنا..

(و جأرتم جؤار متبتلي الرهبان) كنتم في انقطاعكم للّه و نداءكم له و استغاثتكم به كالرهبان الذين يعرفون بذلك في الزمن الأول كما هو معروف يوم كان للمسيح مريدون أما الآن فأكثر ما يسمى رهبان عراة من هذه الصفة...

(و خرجتم إلى اللّه من الأموال و الأولاد) بأن قدمتم أموالكم أمامكم حقوقا و صدقات و إحسان و خيرات.

و أما الأولاد فقد آثرتم اللّه عليهم و طلبتم رضى اللّه و حبه على حبهم و رضاهم.

(التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه و حفظتها رسله لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه و أخاف عليكم من عقابه) لو قمتم بكل ما ذكرت و فعلتم كل ما قلت من أجل اللّه و من أجل القرب منه و تحقيق رضاه لكان ذلك قليل في جنب ما أعده اللّه للمطيعين العاملين و لو كان ذلك أيضا يطلب به غفران ذنب واحد لكان ذلك قليل مما أعده اللّه من عقابه...

و بعبارة مختصرة الإنسان يعمل من أجل أن يصل إلى درجة معينة أو من أجل أن يمحي سيئة معينة و كل ذلك لا يعد شيئا مقابل ما أعده اللّه للمطيعين من الثواب و للعاصين من العقاب...

(و تاللّه لو انماثت قلوبكم انمياثا) أي لو ذابت قلوبكم و تفتت.

(و سالت عيونكم من رغبة إليه أو رهبة منه دما) بلغت بكم الحال مبلغا عظيما بحيث بكيتم بدل الدموع دما و رغبة في ثوابه و ما أعدّه اللّه لأهل طاعته أو خوفا منه و فزعا لما أعده لأهل معصيته...

ص: 356

(ثم عمرتم في الدنيا ما الدنيا باقية) أي بقيتم على ذلك الذي تقدم طيلة أعماركم التي لو كانت بعمر الدنيا و امتدادها لفعلتم كل ذلك طيلة الحياة...

(ما جزت أعمالكم عنكم - و لو لم تبقوا شيئا من جهدكم أنعمه عليكم العظام و هداه إياكم للإيمان) لو فعلتم كل ما تقدم بجهدكم و طاقتكم و لم تتركوا شيئا إلا بذلتموه ما وفت كل هذه الأعمال و الأتعاب بعطايا اللّه و منحه العظام فإن نعم اللّه لا تعد و لا تحصى و أعمالكم محصورة محدودة و لعل أعظم نعمة و أهم نعمة هي نعمة الإيمان و الهداية إليه فإن الإيمان باللّه و رسوله و الالتزام بشرع اللّه و منهاجه من أعظم المنح و العطايا على الإطلاق لأن بهذه الهداية يرتفع الإنسان من الحضيض إلى أرفع درجات الكرامة و يؤهل لخطاب اللّه و تكاليفه.. بهذه الهداية و هذا الإيمان أصبح الإنسان من أهل جنة اللّه و أهل كرامة اللّه... و ما قيمة الأتعاب و الجهد و العناء في مقابل ما أعده اللّه...

ص: 357

53 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذكرى يوم النحر و صفة الأضحية و من تمام (1) الأضحية (2) استشراف أذنها (3)، و سلامة عينها، فإذا سلمت الأذن و العين سلمت الأضحية و تمّت، و لو كانت عضباء القرن (4) تجرّ (5) رجلها إلى المنسك (6).

قال السيد الشريف: و المنسك هاهنا المذبح.

اللغة

1 - التمام: الكمال.

2 - الأضحية: جمعها أضاحي الشاة التي تذبح ضحى عيد الأضحى.

3 - استشراف أذنها: تفقد أذنها حتى لا تكون مجدوعة أو مشقوقة.

4 - عضباء القرن: مكسورة القرن.

5 - تجر: تسحب و تجذب.

6 - المنسك: المذبح.

الشرح

(و من تمام الأضحية استشراف أذنها و سلامة عينها فإذا سلمت الأذن و العين سلمت الأضحية و تمت و لو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المنسك) هذه فقرة التقطها الرضي من خطبة خطبها الإمام يوم النحر و يذكر فيها الأضحية و هي ما يذبح من

ص: 358

الحيوانات ضحى ذلك النهار و قد بيّن عليه السلام شروطها لتكون كاملة تامة و هي أن تكون سليمة الأذن غير مجدوعة و لا مشقوقة و قد عبر عن ذلك باستشراف أذنها أي طولها الدال على سلامتها و كذلك يجب أن تكون سليمة البصر غير عمياء فإذا تم ذلك فيها فقد كملت و سلمت و صحت أن تكون أضحية و لو كانت مكسورة القرن و الرجل أو هزيلة...

هذا ما ذكره الإمام و لكن الفقهاء قالوا إن من حج حج التمتع وجبت عليه الأضحية المعبر عنها بالهدى و يجب أن يكون من الإبل أو البقر أو الغنم و يحددون لكل صنف سنّه الذي يجب أن يكون عليه ليجزي كما بينوا أنه يعتبر فيه أن يكون تام الأعضاء فلا يجزي الأعور و الأعرج و المقطوع أذنه و المكسور قرنه الداخل و نحو ذلك و هناك بعض الاحتياطات التي أحببنا أن نعرض عنها..

و يقولون: يستحب أن يكون الهدى.

1 - أن يكون بدنة و مع العجز فبقرة و مع العجز فكبش.

2 - أن يكون سمينا غير هزيل.

3 - أن يباشر المضحي الذبح بنفسه فإن لم يتمكن فليضع السكين بيده و يقبض الذابح على يده و لا بأس بأن يضع يده على يد الذابح.

ص: 359

54 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها يصف أصحابه بصفين حين طال منعهم له من قتال أهل الشام فتداكّوا (1) عليّ تداكّ الإبل (2) الهيم (3) يوم وردها (4)، و قد أرسلها (5) راعيها (6)، و خلعت (7) مثانيها (8)؛ حتّى ظننت أنّهم قاتليّ ، أو بعضهم قاتل بعض لديّ (9). و قد قلّبت (10) هذا الأمر بطنه و ظهره حتّى منعني النّوم، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود (11) بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فكانت معالجة (12) القتال أهون (13) عليّ من معالجة العقاب، و موتات الدّنيا أهون عليّ من موتات الآخرة.

اللغة

1 - تداكوا: ازدحموا.

2 - الإبل: الجمال.

3 - الهيم: العطاش.

4 - الورد: الشرب.

5 - أرسلها: بعثها و أطلقها، وجهّها.

6 - الراعي: جمعه رعاة و رعيان و رعاء، المتولى لأمر قوم، المسئول عن الماشية.

7 - خلعت: نزعت.

8 - مثانيها: المثاني حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير.

9 - لديّ : ظرف مكاني، عندي.

10 - قلّبت: الأمر فكرت فيه، و اختبرته.

ص: 360

11 - الجحود: الكفر.

12 - المعالجة: الممارسة، الدفاع.

13 - أهون: أسهل، أخّف.

الشرح

اشارة

(فتداكوا عليّ تداك الإبل الهيم يوم وردها و قد أرسلها راعيها و خلعت مثانيها حتى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لديّ )..

الناس و بيعة علي:

يصف الإمام حال بيعته و كيف اجتمع الناس عليه و ازدحموا لمبايعته و قد شبههم بالجمال التي حلّ راعيها عقالها و أرسلها نحو مشربها المعدّ لها فإن من رأى ذلك رأى شيئا عجيبا في المسابقة و التدافع من أجل الوصول إلى الماء، و قد كان المسلمون بعد مقتل عثمان يتعطشون لحكم الإمام و خلافته فلذا ازدحموا عليه يبايعونه و لم يتخلف منهم ألا بضع نفر أصحاب مصالح و منافع أو كان في قلوبهم حقد و حسد على الإمام و يصف ذلك الازدحام بحيث بلغ مبلغا ظن أنهم سيقتلونه أو يقتل بعضهم لبعض عنده و هو تصوير لمدى اندفاع الناس و مسارعتهم إلى بيعته.

و قد ذكر أرباب التاريخ و أصحاب السير كيف كانت بيعته و ما جرى فيها و تتلخص في أن الإمام لم يرغب فيها لما يعرف من ظروفها و أحداثها و ما سوف يعترض طريقه فيها و قد ذكر ابن أبي الحديد أن المهاجرين(1) و الأنصار اجتمعوا و تداولوا الأمر و استقر رأيهم على أن يولوا الإمام على الناس «فأتوا عليا فاستخرجوه من داره و سألوه بسط يده فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل إليهم على وردها حتى كاد بعضهم يقتل بعضا فلما رأى منهم ما رأى سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس و قال: إني كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر.

فنهض الناس معه حتى دخل المسجد فكان أول من بايعه طلحة فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي: تخوفت ألا يتم له أمره لأن أول يد بايعته شلاء ثم بايعه الزبير و بايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة و عبد اللّه بن عمر و أسامة بن زيد و سعد بن أبي

ص: 361


1- ابن أبي الحديد ج - 4 ص 8.

وقاص و كعب بن مالك و حسان بن ثابت و عبد اللّه بن سلام...

و قال ابن أبي الحديد أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به لما ندبهم إلى الشخوص لحرب أصحاب الجمل و أنهم لم يتخلفوا عن البيعة و إنما تخلفوا عن الحرب...

(و قد قلّبت هذا الأمر بطنه و ظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب و موتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة) فكّر الإمام في قتال هؤلاء القوم أو السكوت عنهم و كلا الطريقين مرّ و صعب ففي الأول إزهاق النفوس و القضاء عليها و في الثاني الكفر بما جاء به النبي إما لأن الرسول أخبره و أمره كما في الحديث الصحيح «يا علي ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين» و إما لأن سكوت ولي الأمر يؤدي إلى تمزيق الدولة الإسلامية و توزيعها بين أهل المطامع و الولي دوره دور المحافظ على هذه الوحدة و الحامي لها و المدافع عنها و سكوته خلاف ما نصب من أجله و كان واليا، و قد رأى سلام اللّه عليه إنّ مباشرة القتال و شن الحرب مع ما فيها من قساوة و مرارة و إسالت دماء و عذاب و ألم أسهل من عذاب اللّه في الآخرة و ما فيها من العقاب لأن عذاب الدنيا و مصاعبها إلى انتهاء بينما عذاب الآخرة لا انتهاء له...

ص: 362

55 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين أمّا قولكم: أكلّ ذلك كراهية (1) الموت ؟ فو اللّه ما أبالي (2)؛ دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ . و أمّا قولكم شكّا في أهل الشّام! فو اللّه ما دفعت (3) الحرب يوما إلاّ و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، و تعشو (4) إلى ضوئي، و ذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها، و إن كانت تبوء (5) بآثامها (6).

اللغة

1 - الكراهية: البغض.

2 - ما أبالي: لا أهتم.

3 - دفعت: الحرب أخرتها و أبعدتها.

4 - تعشو: تبصر بصرا خفيفا، و الأعشى هو الذي لا يرى بالليل إلا قليلا.

5 - تبوء: ترجع.

6 - الآثام: الذنوب.

الشرح

(أما قولكم: أكلّ ذلك كراهية الموت ؟ فو اللّه ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ) يجيب الإمام في كلامه هذا عن حديث جرى بين أنصاره و أتباعه و مجمل القضية مع قولهم: إن الإمام بعد احتلاله لمشرعة الماء و استيلائه عليها من جند معاوية

ص: 363

بقي أياما دون أن يرسل إلى معاوية رسولا أو معاوية يرسل إليه خبرا أو رسولا، يتوقع الإمام من أصحاب معاوية أن يروا عدله و حسن سيرته و سمته فيهتدي إلى الحق من أراد و في هذه الفترة ضج أهل العراق و ضاقت صدورهم و أخذوا يتحدثون فيما بينهم فهذا يقول إن الإمام كره الموت و خافه و لذا يؤخره و ذاك يقول: إنه شك في قتال أهل الشام و لم يظهر له جواز قتالهم فلما سمع الإمام منهم ذلك قال كلمته ردا عليهم مفندا مدعاهم و أنهم على خطأ و باطل من القول...

أما قولهم إن تأخيره القتال كراهيته الموت و بغضا به فهذا ما لا يفكر فيه علي و يقسم باللّه و هو البار الصادق في قسمه إنه لا يهمه الموت و لا يحسب له حسابا سواء قصده الموت أم هو قصد الموت فإن الموت لا يخيف المتقين الصادقين فكيف يخيف الاولياء المقربين...

(و أما قولكم شكا في أهل الشام فو اللّه ما دفعت الحرب يوما إلا و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي و تعشو إلى ضوئي و ذلك أحب إليّ من أن أقتلها على ضلالها و إن كانت تبوء بآثمها) بعد أن رد على من قال إنه يؤخر الحرب خوفا من الموت رد هنا على من قال إنه يؤخرها شكا في أهل الشام يقول لهم: إنه لم يؤخرها لشكه في جواز قتالهم فإن وجوب قتالهم ظهر للعيان و هو عنده من المسلمات حيث أخبره النبي بقتاله لهم أو من حيث أنه الخليفة الشرعي الذي يجب أن يرد الناس إلى الطاعة و الجماعة و من خرج عن ذلك وجب قتاله و أهل الشام من هذا القبيل و لكن تأخيره للقتال كان ينظر من ورائه إلى غاية سامية عظيمة هي رجاؤه في أن يتبصّر بعض الناس و يدرك الحقيقة فيهتدي إلى طريق النجاة و ما هو عليه فيلحقه و يدرك حفظه في الخير و الحق و هذا هو هدف كل الأنبياء و المصلحين فليس الحرب هدفا في نفسها و إنما هي من أجل غاية أسمى؛ من أجل هداية الناس و إرشادهم و ردهم إلى الطريق المستقيم و الإمام لا يريد أن يقتل الكافر أو الفاسق و إنما يريد أن يقتل الكفر و الفسق المتجسد في نفسه فإذا أدرك ذلك فلا يهمه قتله، فتأخير القتال رجاء عودة بعض الضالين و المنحرفين و هدايتهم إلى الحق أحب إليه من قتلهم و إن كان فيما لو قتلهم كانوا من أهل المعصية و عادوا إلى النار بما انحرفوا و ارتكبوا من المحرمات.. لقد كان همّ الإمام و الأئمة من ولده أن يرشدوا الناس إلى الحق و يسعوا من أجل ذلك و قد كان يؤذيهم إصرار الناس و عنادهم على الكفر و الضلال فكانوا لا يتركون فرصة إلا و اغتنموها من أجل هدايتهم و إرشادهم...

ص: 364

56 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يصف أصحاب رسول اللّه و ذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح و لقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا: ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا و تسليما، و مضيّا على اللّقم (1)، و صبرا على مضض (2) الألم، و جدّا في جهاد العدوّ؛ و لقد كان الرّجل منّا و الآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول (4) الفحلين (5) يتخالسان (6) أنفسهما:

أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون (7)، فمرّة لنا من عدوّنا و مرّة لعدوّنا منّا، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت (8)، و أنزل علينا النّصر، حتّى استقرّ الإسلام ملقيا جرانه (9)، و متبوّئا (10) أوطانه. و لعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم، ما قام للدّين عمود، و لا اخضرّ للإيمان عود. و ايم اللّه لتحتلبنّها دما (11)، و لتتبعنّها ندما!.

اللغة

1 - اللقم: من الطريق الجادة الواضحة منها.

2 - المضض: لذع الألم و برحاؤه.

3 - الجد: الاجتهاد.

4 - التصاول: أن يحمل كل واحد من القرنين على صاحبه.

5 - الفحل: الذكر من كل حيوان و فحول الشعراء المفضلون عموما..

6 - التخالس: التسالب و الانتهاب.

7 - المنون: الموت.

ص: 365

8 - الكبت: الإذلال.

9 - الجران: للبعير مقدّم عنقه.

10 - تبوأ: المنزل نزله و سكن فيه.

11 - الاحتلاب: استخراج ما في الضرع من اللبن.

الشرح

(و لقد كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا و تسليما و مضيا على اللقم و صبرا على مضض الألم وجدا في جهاد العدو) هذا الكلام منه عليه السلام وجهه إلى أصحابه يريد من خلاله أن يحثهم على الجهاد و الثبات و يدفعهم إلى القتال و قد شرح واقع المسلمين الذين عاشوا مع النبي و أحوالهم التي كانوا عليها بيّن فيها كيف كانوا يتخلون عن أقرب الناس إليهم و أشدهم لحمة بهم بل كانوا يقتلون الآباء و الأبناء و الإخوة و الأعمام من أجل الإسلام فلا يزيدهم ذلك إلا إيمانا باللّه و تسليما له و لرسول اللّه و سيرا واضحا على الطريق الواضحة المستقيمة التي هي رائدة أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) و كانوا يصبرون على شدة الألم و العذاب و يجتهدون في الجهاد حتى يحققوا إرادة اللّه و بعبارة أخرى كانوا مع النبي يتخلون عن كل عزيز، يطيعون أمر اللّه و يسلمون له و يصّممون على السير نحو الهدف المرسوم لهم في صبر و اجتهاد..

(و لقد كان الرجل منا و الآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون) بيان لقوة صبر المسلمين و جلدهم و يذكر الإمام هذا المشهد الحي و يرسمه بريشته الصادقة التي أكثر ما تنطق عليه و هي أن الرجل من المسلمين و الآخر من الكافرين كانا يتعاركان و يتجادلان في ساحة المعركة كل واحد منهما يريد القضاء على الآخر و استلاب روحه و إنهاء وجوده، كل واحد من الخصمين يريد أن ينتهي من صاحبه فهي معركة إنهاء الوجود، فالمسلم يريد إنهاء الكافر و كذلك الكافر يريد إنهاء المسلم...

(فمرة لنا من عدونا و مرة لعدونا منا فلما رأى اللّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت و أنزل علينا النصر) و بقيت القضية هكذا مرة تكون الغلبة لنا على عدونا و أخرى تكون لعدونا علينا فلما رأى اللّه أننا نصدقه فيما أنزل من البينات و نعدّ العدة و نجاهد في سبيله أنزل علينا النصر و على عدونا الهزيمة و القهر...

ص: 366

و هكذا في كل وقت عند ما يلتزم المسلمون بقواعد الجهاد و أوامر اللّه و يعلم الله صدق التوجه ينزل نصره عليهم...

(حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه و متبوئا أوطانه و لعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود و لا أخضر للإيمان عود، و أيم اللّه لتحتلبنها دما و لتتبعنها ندما) ما كان من الجهاد و الصبر فإنما كان من أجل الإسلام و بقي الجهاد مستمرا حتى استطاع الإسلام أن يبسط سلطانه على الأرض و ينشر تعاليمه في قلوب الناس و يستقر في أعمالهم و تصرفاتهم...

ثم يقسم أن المسلمين لو كانوا يتعاملون مع النبي و هو القائد العام و يتعاملون مع بعضهم و فيما بينهم كما هم يتعاملون الآن معه و مع الإسلام و أحكام الجهاد لم يستطع الإسلام أن يقوى أو يصبح له دولة و لم يستطع المؤمنون أن يجهروا به أو يعملوا بأحكامه...

ثم أقسم أنهم سيحصدون نتيجة هذا التصرف الأرعن و التمرد و العصيان... إنهم و نتيجة تقصيرهم لن يستطيعوا إحقاق الحق و إزهاق الباطل و دفع الظالم و كبت العدو بل هذا التخاذل سيجر عليهم المآسي و الويلات و يأتي على كرامتهم و عزتهم و دينهم و أخيرا سيندمون على تقصيرهم و تأكلهم الحسرة و لكن لا ينفع الندم..

ص: 367

57 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في صفة رجل مذموم، ثم في فضله هو عليه السلام أمّا إنّه سيظهر عليكم (1) بعدي رجل رحب (2) البلعوم (3)، مندحق (4) البطن، يأكل ما يجد، و يطلب ما لا يجد، فاقتلوه، و لن تقتلوه! ألا و إنّه سيأمركم بسبّي و البراءة منّي؛ فأمّا السّبّ (5) فسبّوني، فإنّه لي زكاة (6)، و لكم نجاة؛ و أمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّي؛ فإنّي ولدت على الفطرة (7)، و سبقت إلى الإيمان و الهجرة.

اللغة

1 - سيظهر عليكم: سيغلب من ظهر عليه إذا غلبه.

2 - الرحب: الواسع.

3 - البلعوم: مجرى الطعام.

4 - المندحق: البارز.

5 - السبّ : الشتم.

6 - الزكاة: النمو.

7 - الفطرة: الخلقة، و هنا الإسلام.

الشرح

اشارة

(أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد و يطلب ما لا يجد)..

ص: 368

معاوية و دعاء النبي عليه:

هذا الكلام من الإمام يتطابق و ما ورد من الأخبار عن النبي في حق معاوية و إنه المراد في هذا الحديث فقد ذكر ابن أبي الحديد عن صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: سيظهر على الناس رجل من أمّتي عظيم السرم واسع البلعوم يأكل و لا يشبع يحمل وزر الثقلين يطلب الإمارة يوما فإذا أدركتموه فابقروا بطنه قال: و كان في يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضيب قد وضع طرفه في بطن معاوية...

و هذا هو ما استظهره ابن أبي الحديد و ذهب إليه و أيضا هو الذي يساعد عليه واقع الحال و ما جرى على الإمام و شيعته من بعده...

يخبر عليه السلام أنه سيتغلب عليهم بعد الإمام معاوية و لم يسمه ترفعا عن ذكر اسمه و إلا فإن الأوصاف عليه تنطبق و الحر تكفيه الإشارة و الكناية أبلغ من التصريح...

و من صفته أنه رحب البلعوم أكول ذو بطن بارز منتفخ يأكل ما يجد و لشدة نهمه يطلب ما لا يجد و ينقل الرواة أن معاوية كان بهذه الصفات فقد دعى عليه النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: لا أشبع اللّه بطنه...

فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أنه كان يلعب مع الصبيان فجاء له النبي (صلی الله علیه و آله) فهرب و توارى فجاء النبي و ضربه بين كتفيه ثم قال: اذهب فادع لي معاوية قال: فجئت فقلت: هو يأكل ثم قال: اذهب فادع لي معاوية: قال: فجئت فقلت هو يأكل فقال (صلی الله علیه و آله) : «لا أشبع اللّه بطنه».

و قد استجاب اللّه للنبي دعوته فكان يأكل فلا يشبع و سيرته مروية حتى أصبح يضرب به المثل و قال بعضهم...

و صاحب لي بطنه كالهاوية *** كأن في أمعائه معاوية

و روى محمد بن إسحاق الأصبهاني عن مشايخه أن الإمام النسائي المحدث المعروف و المشهور خرج إلى دمشق فسئل عن معاوية ما يروي من فضائله فقال: «ما أعرف له فضيلة ألا لا أشبع اللّه بطنه»...

(فاقتلوه و لن تقتلوه) أمرهم بقتله لفساده و ضلاله و ما عليه من الانحراف ثم أخبرهم بأنهم لن يستطيعوا قتله... (ألا و إنه سيأمركم بسبي و البراءة مني: فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة و لكم نجاة

ص: 369

و أما البراءة فلا تتبرءوا مني فإني ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة) بعد أن بيّن حال هذا الطاغية و بعض أوصافه و أخبرهم أنهم لن يقدروا على قتله بيّن أفعاله الشنيعة و ما سيرتكبه في حق الإمام و ما سيكلف القوم من القيام به و هذه مفردة من مفردات الإمام التي أخبر أنها ستجري في المستقبل فجاءت كفلق الصبح...

ألا و إنه سيأمركم بسبي،.. و قد حملت الأيام مضمون هذا النبأ.. لقد أمر معاوية عماله أن يسبوا الإمام على منابر المسلمين و قد جعلها سنّة في خطبة الجمعة يذكّر بها إمام الجماعة إن نسيها أو أهملها...

و كذلك البراءة من علي كانت تعرض الرجال على السيوف فمن تبرأ من أبي تراب عاش و من أبى قتل و قد حصدت سيوف معاوية أشراف الناس و أهل الولاء لعلي...

و عند ما ولىّ المغيرة بن شعبة على الكوفة جعلها وصيته التي لم تسمح له نفسه بتجاوزها...

قال له: «قد أردت إيصاءك(1) بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا على بصرك و لست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي و ذمه و الترحم على عثمان و الاستغفار له و العيب على أصحاب علي و الإقصاء لهم»...

و قال ابن أبي الحديد:

«و قد كان معاوية يلعنه(2) على رءوس الأشهاد و على المنابر في الجمع و الأعياد في المدينة و مكة و في سائر مدن الإسلام..».0.

ص: 370


1- الطبري حوادث سنة 51.
2- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج ص - 5 130.

58 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

كلم به الخوارج حين اعتزلوا الحكومة و تنادوا: أن لا حكم إلا للّه أصابكم (1) حاصب (2)، و لا بقي منكم آثر (3). أبعد إيماني باللّه، و جهادي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه، أشهد على نفسي بالكفر! «لقد ضللت (4) إذا و ما أنا من المهتدين!» فأوبوا (5) شرّ مآب، و ارجعوا على أثر الأعقاب (6). أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ (7) شاملا، و سيفا قاطعا، و أثرة (8) يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة (9).

قال الشريف: قوله عليه السلام «و لا بقي منكم آبر» يروى على ثلاثة أوجه:

أحدها أن يكون كما ذكرناه: «آبر» بالراء، من قولهم للذي يأبر النخل - أي: يصلحه - و يروى «آثر» و هو الذي يأثر الحديث و يرويه أي يحكيه، و هو أصح الوجوه عندي، كأنه عليه السلام قال: لا بقي منكم مخبر! و يروى «آبز» - بالزاي المعجمة - و هو الواثب - و الهالك أيضا يقال له: آبز.

اللغة

1 - أصاب: أدركه، استأصله، و السهم أصابه لم يخطئه.

2 - الحاصب: ريح شديدة تحمل الحصى و التراب.

3 - الآثر: الذي يروي الحديث و يحكيه.

4 - ضللت: ما اهتديت، جرت عن دين اللّه.

5 - أوبوا: من آب بمعنى رجع.

6 - الأعقاب: جمع عقب بكسر القاف و هو مؤخر القدم.

ص: 371

7 - الذل: الهوان.

8 - الأثرة: الاستبداد بالشيء و التفرد به.

9 - سنة: الطريقة، و العادة.

الشرح

(أصابكم حاصب و لا بقي منكم آثر) الخطاب موجّه إلى الخوارج الذين طلبوا منه على أثر قبول التحكيم أن يرجع عنه و يشهد على نفسه بالكفر من جراء قبوله له ثم يتوب و يقودهم إلى قتال معاوية فتوجه إليهم بالدعاء عليهم أن يصيبهم اللّه بالبلاء الشديد الذي يفقدوا فيه الرؤية و يكون فيه العذاب و لا بقي منهم أحد ينقل خبرا أو يرفع أثرا...

(أبعد إيماني باللّه و جهادي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه أشهد على نفسي بالكفر لقد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين) رد عليهم بإنكار ما أرادوه منه و إبطاله بأنه بعد إيمانه باللّه و الإقرار بوجوده و وحدانيته و جهاده مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الدال على تصديقه و الإيمان برسالته أبعد ذلك أشهد على نفسي بأني كفرت لا كان ذاك و لم يكن شيء منه فإن من يشهد على نفسه بالكفر فهو ضال منحرف و ليس من أصحاب الهداية أو ممن عرف طعم الإيمان،.. و حاشا لعلي أن يخامره شك في اللّه أو في رسول اللّه... و هو القائل: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» تعبير عن أنه وصل إلى مرتبة عليا تفوق الحس و لا يبلغها إنسان مثله...

إن من يؤمن باللّه و يجاهد بين يدي رسول اللّه و يلقي نفسه في قلب المعارك و يعرّض نفسه للأخطار حاشاه أن يشك أو يتردد في اللّه أو في رسول اللّه...

(فأوبوا شر مآب و ارجعوا على أثر الأعقاب) عودوا كما شئتم كفارا فإنه شر رجوع أردتموه و ارجعوا إلى الإيمان كما كنتم بمعنى أنكم إذا أردتم الكفر فأنتم و شأنكم و لكنه عود باطل يعقبه العودة إلى الإيمان و العودة إليه كما خرجتم منه...

(أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا و سيفا قاطعا و أثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة) أخبار بما سيجري عليهم بأن الطغاة سيمارسون عليهم الذل و يسومونهم الهوان و يسلطون عليهم السيف و يسيرون فيهم بالحرمان بحيث تصبح فيهم سنّة يتداولها الخلفاء الظالمون و قد كان هذا الأمر يجري عليهم و فيهم فقد جرد الولاة فيهم السيف و عرضوا عليه في كل مكان و حرمهم السلطان العطاء كما منعهم من بيت المال...

ص: 372

قال ابن أبي الحديد في شرحه: و اعلم أن(1) الخوارج على أمير المؤمنين (ع) كان أصحابه و أنصاره في الجمل و صفين قبل التحكيم و هذه المخاطبة لهم و هذا الدعاء عليهم، و هذه الأخبار عن مستقبل حالهم و قد وقع ذلك فإن اللّه سلّط على الخوارج بعده الذل الشامل و السيف القاطع و الأثرة من السلطان و ما زالت حالهم تضمحل حتى أفناهم اللّه تعالى و أفنى جمهورهم و لقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة و بنيه الحتف القاضي و الموت الزؤام.2.

ص: 373


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد ج - 4 ص 132.

59 - و قال عليه السلام

اشارة

لما عزم على حرب الخوارج، و قيل له:

إن القوم عبروا جسر النهروان! مصارعهم (1) دون النّطفة (2)، و اللّه لا يفلت (3) منهم عشرة، و لا يهلك (4) منكم عشرة.

قال الشريف: يعني بالنطفة ماء النهر، و هي أفصح كناية عن الماء و إن كان كثيرا جما.

و قد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضيّ ما أشبهه.

اللغة

1 - مصارعهم: هلاكهم و أصل الصرع الطرح على الأرض.

2 - النطفة: ماء النهر، الماء الصافي.

3 - يفلت: ينجو و يخلص.

4 - يهلك: يموت.

الشرح

اشارة

(مصارعهم دون النطفة و اللّه لا يفلت منهم عشرة و لا يهلك منكم عشرة).

أخبار علي بالغيب:

قال الإمام هذه الكلمة ردا على من جاءه قائلا: البشرى يا أمير المؤمنين..

ص: 374

قال: ما بشراك ؟.

قال: إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك فابشر فقد منحك اللّه أكتافهم.

قال: أنت رأيتهم قد عبروا النهر.

قال: نعم فأحلفه ثلاث مرات في كلها يقول: نعم. فقال: و اللّه ما عبروا و لن يعبروا و إن مصارعهم لدون النطفة...

قال الشارح المعتزلي: هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره و نقل الناس له كافة و هو من معجزاته و أخباره المفصلة عن الغيوب...

ثم جاء أصحابه يخبرونه أنهم عبروا النهر و في كل مرة كان الإمام ينكر ذلك.

و قالوا أنه كان شاب من الناس قال: و اللّه لأكونن قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان رمحي في عينيه أ يدعي علم الغيب فلما انتهى علي إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم و عرقبوا خيولهم و حبوا على ركبهم و تحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل فنزل ذلك الشاب.

فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت شككت فيك آنفا و إني تائب إلى اللّه و إليك فاغفر لي.

فقال علي: إن اللّه هو الذي يغفر الذنوب فاستغفره و ما انكشفت المعركة... إلا و هناك تسعة رجال قد أفلتوا من الخوارج و كان المقتول من جيش الإمام ثمانية.

ص: 375

60 - و قال عليه السلام

اشارة

لما قتل الخوارج فقيل له: يا أمير المؤمنين، هلك القوم بأجمعهم! كلاّ (1) و اللّه؛ إنّهم نطف (2) في أصلاب (3) الرّجال، و قرارات النّساء (4) كلّما نجم (5) منهم قرن (6) قطع (7)، حتّى يكون آخرهم لصوصا (8) سلاّبين.

اللغة

1 - كلاّ: نفي و ردع.

2 - نطف: مفردها النطفة و هي ماء الرجل.

3 - الأصلاب: مفرده صلب و هي فقرات الظهر.

4 - قرارات النساء: الأرحام.

5 - نجم: ظهر و طلع.

6 - قرن: رئيس.

7 - قطع: الشيء جزّءه و أبانه و فصله.

8 - لصوصا سلاّبين: سراق مختلسون.

الشرح

(كلا و اللّه، إنهم نطف في أصلاب الرجال و قرارات النساء كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين) و هذا إخبار منه ورد على من قال إن الخوارج قد ماتوا و لم يبق منهم بعد قتلهم أحد فأجابهم الإمام كلا و اللّه ليس الأمر كما تقولون من أنهم قد ماتوا بل إن هناك على رأيهم من لا يزال في أرحام النساء ينتظر السقوط و منهم

ص: 376

من هو في أصلاب الرجال، إن هناك من يحمل أفكارهم و يعيش برأيهم و قد ثبت ذلك و ظهر.

ثم أخبر أنهم كلما ظهر منهم رئيس أو قائد قتل و هكذا يبقى السيف قائما فيهم حتى يتحولوا في نهاية المطاف إلى سرّاق مختلسين و أصحاب سلب و نهب يقول ابن أبي الحديد:

و قد صحّ إخباره عليه السلام عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان و أنها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد و هكذا وقع و صح إخباره عليه السلام أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصا سلاّبين فإن دعوة الخوارج اضمحلت و رجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع الطريق متظاهرين بالفسوق و الفساد في الأرض.

ص: 377

61 - و قال عليه السلام

اشارة

لا تقاتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب (1) الحقّ فأخطأه (2)، كمن طلب الباطل فأدركه (3).

قال الشريف: يعني معاوية و أصحابه.

اللغة

1 - طلب: أراد و سعى.

2 - أخطأ: من الخطأ و هو ضد الصواب.

3 - أدركه: بلغه.

الشرح

(لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) قاتل الإمام الخوارج و أباد خضراءهم في حياته و هو يوصي أن لا يقاتلوا بعده: أما قتالهم فلأنهم مفسدون خارجون يهددون أمن الناس و ينشرون الفوضى و الذعر في أركان الدولة فكان على ولي الأمر أن يقاتلهم لئلا يغتر بهم الجاهلون و يشتبه الأمر على الآخرين...

و أما نهيه عن قتالهم بعده فلأنهم سيمثلون الشوكة الجارحة في عين الحكم الأموي و هو حكم ظالم فيجب أن لا يستقر و لا يرتاح فينشغل بهم عن الشيعة و ملاحقتهم...

يضاف إلى ذلك أن حروب الخوارج للحكم الأموي أضعفته كثيرا و أغرت به الكثيرين.

و أيضا فإن الخوارج و إن كانوا في نهجهم الفكري على ضلال و انحراف لكنهم أقل

ص: 378

خطرا من معاوية و أصحابه ففي حين أن الخوارج كانوا يطلبون الحق و لكنهم أخطئوا فيه فإن معاوية كان يطلب الباطل و يسعى له و قد كان له من القوة و السلطة ما يدرك به ذلك و قد أدركه حيث تولى أمر الخلافة و هو ليس من أهلها، فهو يطلبها و يعلم أنه على باطل لأنه ليس من أهلها و لا تحل لطليق مثله..

ص: 379

62 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما خوّف من الغيلة و إنّ عليّ من اللّه جنّة (1) حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت (3) عنّي و أسلمتني (4)؛ فحينئذ لا يطيش السّهم (5)، و لا يبرأ (6) الكلم (7).

اللغة

1 - الجنة: بالضم ما يستتر به من درع و ترس، الوقاية.

2 - الحصينة: المنيعة، المحكمة.

3 - انفرجت: انكشفت.

4 - أسلمتني: تركتني و شأني.

5 - طاش: جاز و لم يصب هدفه.

6 - يبرأ: يشفى.

7 - الكلم: الجرح.

الشرح

(و إن عليّ من اللّه جنة حصينة فإذا جاء يومي انفرجت عني و أسلمتني فحينئذ لا يطيش السهم و لا يبرأ الكلم) هذه الكلمة قالها ردا على من خوّفه الغيلة إذ كان أعداؤه كثيرون و كان بعضهم يجهر بعدائه بل يسمعه بعض ذلك.

فقال لهم عليه السلام إن هناك عناية إلهية تحفظني و تمنع وصول الأسباب القاتلة إليّ و لا يقدر أحد من اغتيالي أو النيل مني و قد كان عليه السلام في الصفوف الأولى

ص: 380

للمجاهدين، كان يقذف بنفسه في وسط المعارك و يخوض الحروب مع الأبطال و الفرسان و أصحاب الشجاعة فلا يعود إلا مظفرا منتصرا و نظرة سريعة إلى حروب الإسلام و معاركه في أيام الرسول تجد عليا بطلها غير المنازع و فارسها غير المدافع فقد كانت العناية الإلهية تحرسه و توفر له أسباب الحماية و لكل واحد من الناس حماية خاصة تدفع عنه الموت طالما أنه بعد الموت لم يأت...

ثم يقول فإذا جاء يومي - وقت الموت - تخلّت هذه الحماية عني و ابتعدت عن ساحتي فنفذت أسباب الموت إليّ و استطاعت أن تؤثر عليّ ... عند ما تسقط و سائط الدفاع و تنهار يسهل الغزو و الدخول و التأثير، عندها يدخل الموت و ينهي هذه الحياة و تقع إصابته في الصميم صائبة في الهدف التي أرادته و توجهت نحوه و لا يكون فيها زلل أو انحراف و لا شفاء من جرح يصيبه سهم المنون..

ص: 381

63 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحذر من فتنة الدنيا ألاّ إنّ الدّنيا دار لا يسلم (1) منها إلاّ فيها، و لا ينجى (2) بشيء كان لها:

ابتلي (3) النّاس بها فتنة (4)، فما أخذوه منها لها أخرجوا منه و حوسبوا عليه، و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه (5) و أقاموا فيه، فإنّها عند ذوي العقول (6) كفيء (7) الظّلّ ، بينا تراه سابغا (8) حتّى قلص (9)، و زائدا حتّى نقص.

اللغة

1 - يسلم: ينجى و يخلص.

2 - ينجى: من النجاة و هو الفوز و الخلاص...

3 - ابتلي: الابتلاء، الاختبار.

4 - الفتنة: الاختبار و الامتحان.

5 - قدموا عليه: أتوه و أقبلوا عليه.

6 - ذوي العقول: ذوي الألباب.

7 - الفيء: الظل.

8 - السابغ: التام.

9 - قلص: انقبض.

الشرح

(ألا إن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها) تحذير من الدنيا و تنبيه منها بذكر بعض خصوصياتها و صفاتها لعل هذا الإنسان يتنبه إلى خطرها و أثرها فيبادر إلى علاجها و استصلاحها و السير على هدى اللّه و منهاجه فيها،. و قد بيّن عليه السلام أن السلامة من

ص: 382

عيوب الدنيا لا يكون إلا فيها أما باجتناب كل محرّم و ممنوع و في ذلك سلامة لهذا الإنسان رأسا و نجاة فورا، فمن لم يعص اللّه فقد سلم و أما أن يكون بالتوبة و العودة إلى اللّه و هذا أيضا فيها و لا يمكن أن يقع في غيرها...

(و لا ينجي بشيء كان لها) بيان لسبب النجاة و الفوز و إن من عمل للدنيا و أراد النجاة بعمله فلا يوفق للنجاة و لا يدرك أسباب الفوز...

من عمل للدنيا ربما أدرك ذلك و فاز به و لكنه لا ينفعه في الآخرة،.. فمن سعى وراء الجاه و السلطان و الحكم ربما أدرك ذلك و لكنه إذ أراد بذلك الزعامة لنفسها و الحكم لنفسه فقد خاب و لم يدرك أسباب النجاة...

و من طلب المال و سعى له و كد و تعب من أجل أن يقال عنه أنه ثري غني فحسب فهذا المال لن ينفعه أو يحقق له الفوز و النجاة من النار و هكذا كل من سعى في الدنيا لأجل الدنيا فإنه لن يدرك النجاة و الفوز...

(ابتلى الناس بها فتنة) فما كلف به العباد و ما أصابهم من صعاب و شدائد أو منح و محن فإنما هي اختبار و امتحان لهذا العبد كي يرى صبره و إيمانه و مدى تحمّله و هل يقدر على الصمود أمام صعوبة الامتحان و هل ينجح فيه ؟.. هل يقدّر نعمة اللّه فيحمده عليها فلا يبطر و يعصي اللّه فيها؟... إنّ اللّه و إن كان عنده علم الغيب و يعلم ما يؤول إليه أمر هذا الإنسان من طاعة أو معصية لكنه يريد أن يقيم عليه الحجة الفعلية ليقطع عذره و يمنعه من توجيه السؤال لو ابتليت لصبرت و لو أعصيت لشكرت...

(فما أخذوه منها لها أخرجوا منه و حوسبوا عليه و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه و أقاموا فيه) هذا ترغيب للعمل من أجل الآخرة و تزهيد و تبعيد عن العمل الذي يكون للدنيا..

فإن من جمع المال من الدنيا لأجل الدنيا زال عنه المال بموته و حوسب عليه لتقصيره في أخذه من غير حله أو لوضعه في غير محله.

و من أحب السلطة و الحكم لأجل السلطة و الحكم و ليس للّه و من أجل إقامة حكم اللّه فهذا سوف يزول عنه الملك و السلطان إن حصل عليه ثم يحاسب عليه في الآخرة، و هكذا كل ما أخذ من الدنيا لأجل الدنيا فإن الإنسان سوف يخرج منه و يتركه رغما عنه و قهرا عن أنفه ثم يحاسب عليه...

و أما ما أخذ من الدنيا لأجل الآخرة فإنه يكون قد قدّمه أمامه و سوف يقدم عليه

ص: 383

وراءه و يتنعم به و يسرّ بلقائه، فمن طلب المال من أجل مساعدة الفقراء و المساكين و التخفيف عنهم فإن هذا سوف يلاقي في الآخرة نتيجة عمله و سيجزى به الجزاء الأوفى، نعيم مقيم و ظل ظليل و حور عين...

(فإنها عند ذوي العقول كفيء الظل بينا تراه سابغا حتى قلص و زائدا حتى نقص) ثم أشار إلى الدنيا بنظر أهل العقول و إنها عندهم كظل ما أسرع ما يزول فإنك تجد الظل صباحا يمتد طويلا إلى المغرب ثم تأتي الساعات القليلة فتمحو آثاره و لا تبقي له وجود و هكذا الدنيا سريعة المحور بينما العمر في ابتدائه طفولة لاهية و غير مسئولة فإذا بالشباب ثم المشيب ثم إلى القبر الحبيب و كما يقول الإمام في بعض كلماته: ما أسرع الساعات في اليوم و ما أسرع الأيام في الشهر و ما أسرع الشهور في السنة و ما أسرع السنين في العمر...

و إنني في يومي هذا أتذكر أول مجيئي إلى بلدي في سنة 1967 و هي المرة الأولى التي ابتدأت فيها العمل فإنني كنت أصلي جماعة في مسجد نبي اللّه شيث و كان خلفي بضع عشر رجلا لم يبق منهم اليوم مخبر و إنني أجد قوتي قد انهارت و قد مر عليّ منذ ذلك التاريخ إلى كتابة هذه الكلمات ما يقارب ربع قرن من الزمن...

ص: 384

64 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في المبادرة إلى صالح الأعمال فاتّقوا اللّه عباد اللّه، و بادروا (1) آجالكم (2) بأعمالكم، و ابتاعوا (3) ما يبقى لكم بما يزول عنكم، و ترحّلوا (4) فقد جدّ بكم (5)، و استعدّوا للموت فقد أظلّكم (6)، و كونوا قوما صيح بهم (7) فانتبهوا (8)، و علموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا (9)؛ فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا (10)، و لم يترككم سدى (11)، و ما بين أحدكم و بين الجنّة أو النّار إلاّ الموت أن ينزل به (12).

و إنّ غاية تنقصها اللّحظة، و تهدمها (13) السّاعة، لجديرة (14) بقصر المدّة (15) و إنّ غائبا يحدوه (16) الجديدان: اللّيل و النّهار، لحريّ (17) بسرعة الأوبة (18). و إنّ قادما يقدم بالفوز أو الشّقوة (19) لمستحقّ لأفضل العدّة (20) فتزوّدوا (21) في الدّنيا، ما تحرزون (22) به أنفسكم غدا. فاتّقى عبد ربّه، نصح نفسه، و قدّم توبته، و غلب شهوته، فإنّ أجله مستور (23) عنه، و أمله خادع (24) له، و الشّيطان موكّل به، يزيّن (25) له المعصية ليركبها، و يمنّيه (26) التّوبة ليسوّفها (27)، إذا هجمت (28) منيّته (29) عليه أغفل ما يكون عنها. فيا لها حسرة (30) على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، و أن تؤدّيه (31) أيّامه إلى الشّقوة،! نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا و إيّاكم ممّن لا تبطره (32) نعمة، و لا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، و لا تحلّ به بعد الموت ندامة (33) و لا كآبة (34).

ص: 385

اللغة

1 - بادروا: سارعوا.

2 - آجالكم: مفردها الأجل وقت الموت.

3 - ابتاعوا: اشتروا.

4 - ترحلوا: من الترحل و هو الانتقال.

5 - جدّبكم: حثثتم و أزعجتم إلى الرحيل.

6 - أظلكم: دنا منكم حتى ألقى بظله عليكم.

7 - صيح بهم: هلكوا.

8 - انتبهوا: استيقظوا.

9 - استبدلوا: من أبدل الشيء إذا أخذ عوضا عنه و بادله أخذ منه مثل ما أعطاه.

10 - العبث: اللهو بما لا فائدة فيه.

11 - سدى: مهملين.

12 - نزل به: حلّ .

13 - تهدمها: تنقضها و تسقطها.

14 - جديرة: بكذا: خليقة به و أهل له.

15 - قصر المدة: قلتها و صغرها.

16 - يحدوه: يسوقه.

17 - لحري: لحقيق، و جدير.

18 - الأوبة: الرجعة.

19 - الشقوة: ضد السعادة، الشدة و العسر.

20 - العدة: ما هيأته و أعددته من سلاح.

21 - تزودوا: من الزاد و هو ما يأخذه المسافر من الطعام.

22 - تحرزون: تحفظون و تصونون.

23 - المستور: المغطى.

24 - خدعه: مكر به و احتال عليه.

25 - يزيّن: يزخرف و يحسّن.

26 - يمنيه: يرغبه في الأمر الباطل كذبا.

27 - يسّوفها: يؤخرها.

28 - هجم: عليه انتهى إليه بغتة على غفلة منه، أسرع دخوله.

29 - المنية: الموت.

ص: 386

30 - الحسرة: التهلف و التأسف.

31 - تؤديه: توصله.

32 - البطر: الطغيان.

33 - ندامة: من ندم إذا حزن و أسف.

34 - كآبة: حزن.

الشرح

(فاتقوا اللّه عباد اللّه و بادروا آجالكم بأعمالكم) أمر عليه السلام بتقوى اللّه و الاحتراز من معصيته و باعتبار أن الموت يأتي مسرعا و قد يأتي فجأة فأمرنا بأن نسبقه بأعمالنا بأن نسارع إليها و نجعل الموت نصب أعيننا و نبني على أننا و إياه في سباق فهو يريد أن يسبقنا بالقضاء علينا و الانتهاء منها و نحن نريد أن نسبقه بالأعمال الصالحة و الخيرات و المبرات...

(و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم) اشتروا الآخرة بهذه الدنيا و اجعلوا زينة الدنيا و ما فيها عوضا عن الآخرة فإن الدنيا فانية زائلة غير باقية فإذا باعها الإنسان و اشترى الآخرة فقد ربح الخلود و البقاء و النعيم المقيم و بيع الدنيا الفانية ليربح الآخرة إنما يكون بطاعة اللّه و التزام أمره سواء كان في الكلمة أو الموقف في السياسة أو الاقتصاد أو في أي مجال من مجالات الحياة...

(و ترحلوا فقد جد بكم) تأهبوا و خذوا زادكم معكم فإنكم بعنف و على عجل تساقون نحو الموت و من قطع المسافة بإزعاج كان لا بد له من الزاد...

(و استعدوا للموت فقد أظلكم) هيئوا العدة لمقابلة الموت الذي هو فوق رؤوسكم لا تدرون متى يختطفكم و يحطّ بثقله عليكم و السلاح الذي يواجه به الموت و ينتصر الإنسان به عليه هو سلاح الإيمان باللّه و رسوله و الأئمة من أهل بيت نبيه و العمل بكل ما أمر و الوقوف عما نهى، بسلاح الإيمان و الالتزام ينتصر الإنسان على الموت كما قال أمير المؤمنين عليه السلام عند ما سقط شهيدا «فزت و رب الكعبة» فإنها الكلمة التي تعبّر عن الانتصار على الموت و الحياة الدنيا و كل مشاكلها...

(و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا و علموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا) كونوا من الذين نودي عليهم فأيقظهم النداء و أسمعهم الحق صوته فانتبهوا لأنفسهم و تيقظوا لها

ص: 387

فإن العاقل إذا تحرك عقله توجه نحو الخير و الهدى و إذا انتبه علم أن الدنيا فانية زائلة فبحث عن البقاء و الخلود و لن يجد ذلك إلا في رحاب اللّه و طاعته فإن عاقبته جنة خالدا فيها أبدا...

(فإن اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا و لم يترككم سدى) إن اللّه لم يخلق هذا الإنسان للهو و اللعب و الأمور الباطلة بل خلقه من أجل هدف عظيم كبير و هو تكامله و صلاحه و قد استنكر اللّه هذه المقولة بقوله:(1)«أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ » ...

كما إنه لم يتركنا بدون تكليف في الدنيا بل أرسل إلينا الرسل و أنزل الكتب و بيّن لنا ما هو المطلوب منا و ما هو الواجب علينا، إنه سبحانه كلفنا بتكاليف و التكليف تشريف حيث أخرجنا به من زاوية الحيوانات إلى كرامة الإنسان و شرفه... (و ما بين أحدكم و بين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به و إن غاية تنقصها اللحظة و تهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة) كل واحد منا يتحدد مصيره بعد عبور هذا الحاجز المعبر عنه بالموت فإن هذه المحطة تحتوي على بابين باب إلى الجنة و الآخر إلى النار فما بين المطيع للّه و العامل بأمره إلا أن يقطع هذا الجسر المعبر عنه بالموت حتى يدخل إلى جنة النعيم و ما بين العاصي و النار إلا أن يقطع نفس هذا الجسر ليدخل عذاب السعير...

ثم نبه إلى قصر عمر الإنسان في الدنيا و إن الحياة هي أنفاس المرء و لحظاته كناية عن سرعة أيام الإنسان في الدنيا و عدم استقراره بها و بالنهاية تهدمه ساعات الموت و من كانت حياته بهذه السرعة من الانقضاء و الزوال يجب أن يتنبه لها و يستعد لما بعدها...

(و إن غائبا يحدوه الجديدان: الليل و النهار لحري بسرعة الأوبة) و إن الموت الذي هو غائب عنا يسوقه إلينا الليل و النهار فكلما مضى ليل أو نهار قرب الموت منا و هكذا و ما أسرع ما يصلان به إلينا، إنه سيعود إلينا بسرعة الليل و النهار...

(و إن قادما يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة) باعتبار أن الموت عند ما يقدم علينا و يحل بنا سوف يحمل معه أحد أمرين إما الفوز بالجنة أو الشقاء بالنار فمثل هذا القادم علينا يحتاج إلى استعداد له و إعداد بأشد ما يكون الاستعداد و الإعداد و أفضل عدة هي الإيمان و العمل الصالح و حسن الظن باللّه...

(فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا) أمر عليه السلام أن يتزود5.

ص: 388


1- سورة المؤمنون، آية: 115.

كل منا و نحن في الدنيا أحياء أن نتزود منها بما فيها من خيرات و حسنات ما نحفظ به أنفسنا غدا من النار و من عذاب الملك الجبار فإن في الدنيا كثير من الأعمال التي بها يحفظ الإنسان نفسه يوم القيامة من العذاب...

(فاتقى عبد ربه، نصح نفسه و قدم توبته، و غلب شهوته) و هذه مفردات الزاد التي أمرنا عليه السلام بها و هي تقوى اللّه باجتناب معاصيه و العمل بأوامره و طاعته في كل صغيرة و كبيرة و نصح النفس هو توخي الخير لها و كل ما يقربها نحو اللّه من أعمال البر و الصدقات و البعد عن الفساد و السيئات.

و تقديم التوبة قبل الموت من جملة الزاد و التوبة تعني الرجوع إلى اللّه و العودة إليه و هي واجبة عند التمرد و العصيان و قبل حلول الموت.

و أما غلبته لشهوته فهو أن لا يطيع نفسه فيما تشتهي و ترغب و النفس ترغب في ترك التكليف لأنه يحللها من كل التزام ففي حين أن الصلاة و الصوم و الحج و غيرها تكاليف و هي موجبة لشيء من التعب فإن النفس تريد الراحة منها و التحلل من الالتزام بها و من غلب شهوته قام بالواجبات و ترك المحرمات... (فإن أجله مستور عنه و أمله خادع له و الشيطان موكل به يزيّن له المعصية ليركبها و يمنيه التوبة ليسوفها إذا هجمت منيته عليه أغفل ما يكون عنها) و هذه جملة أمور أولها أن وقت موت الإنسان مطوي عنه لا يعلمه إلا علام الغيوب و إذا كان الأجل مستورا فيجب على الإنسان أن يكون دائما على طاعة اللّه لئلا يأتيه الموت و هو على أمر يكرهه اللّه.

و ثانيا: فإن أمل الإنسان في الحياة و ما فيها من شباب و مال و قوة يخدع الإنسان و يجعله يعتد بهذه الأمور و يسوف عمل الخير و يؤخر في أعمال البر و هذه سيئة الأمل الخادع الذي يضل الإنسان و يحرفه عن الطاعة إلى المعصية...

و منها أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق كما في الحديث يأخذ في الوسوسة لهذا الإنسان و يزين له المعصية بأنها لذيذة و طيبة و إن في العمر سعة بعد ذلك يرمّم ما هدم و يصلح ما فسد و يتوب إلى اللّه و يرجع فيكون قد أدرك لذة الدنيا و نعيمها و الآخرة و نعيمها و لكن هذا الإنسان قد تدركه منيته قبل توبته فيخسر الآخرة و ذلك هو الخسران المبين...

(فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة و أن تؤديه أيامه إلى الشقوة) تحسّر عليه السلام و تأسف على كل إنسان غافل عن التوبة و عما ينفعه و يقربه من

ص: 389

اللّه لأن عمره يكون حجة عليه فإن اللّه أعطاه العمر ليؤدي الطاعة فإذا به يؤدي المعصية فبدلا من أن يشهد عمره له يشهد عليه و تكون أيامه المملوءة بالمعصية و التمرد مؤدية به إلى العذاب و الشقاء...

(نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا و إياكم ممن لا تبطره نعمة و لا تقصر به عن طاعة ربه غاية و لا تحل به بعد الموت ندامة و لا كآبة) ثم دعا له و للحاضرين و نسأل اللّه أن نكون مشمولين بهذا الدعاء...

1 - ممن لا تبطره نعمة أي لا تكون النعمة من مال أو جاه أو أولاد سببا للانحراف و الطغيان فنستعلي بها على عباد اللّه أو نمارس بها الظلم أو نستعملها في الحرام فإن كثيرا ممن أنعم اللّه عليهم قد حولوا نعمه إلى وسائط للمعصية و التمرد عليه...

2 - أن لا تكون أي غاية أو هدف أو أمر مهم ينظر إليه الإنسان أن لا يكون ذلك من أسباب التقصير في طاعة اللّه بل تكون طاعة اللّه هي المقدمة على كل غاية مهما كانت تلك الغاية محبوبة أو مرغوبة...

3 - أن لا يحل بعد الموت به و بنا حزن أو يلحقنا ندم بأن نكون من أصحاب الجنة و لا نكون من أصحاب النار فإن أصحاب النار هم النادمون المحزونون..

ص: 390

65 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها مباحث لطيفة من العلم الإلهي الحمد للّه الّذي لم تسبق له حال حالا، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا، و يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا؛ كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، و كلّ عزيز غيره ذليل، و كلّ قويّ غيره ضعيف، و كلّ مالك غيره مملوك، و كلّ عالم غيره متعلّم، و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز، و كلّ سميع غيره يصمّ (1) عن لطيف الأصوات (2)، و يصمّه كبيرها، و يذهب عنه ما بعد منها، و كلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان و لطيف الأجسام، و كلّ ظاهر غيره باطن و كلّ باطن غيره غير ظاهر. لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، و لا تخوّف من عواقب زمان، و لا استعانة على ندّ (3) مثاور (4)، و لا شريك مكاثر (5)، و لا ضدّ منافر (6)؛ و لكن خلائق مربوبون (7)، و عباد داخرون (8)، لم يحلل في الأشياء فيقال: هو كائن، و لم ينأ (9) عنها فيقال: هو منها بائن (10). لم يؤده (11) خلق ما ابتدأ، و لا تدبير ما ذرأ (12)، و لا وقف به عجز (13) عمّا خلق، و لا ولجت (14) عليه شبهة فيما قضى و قدّر، بل قضاء متقن (15)، و علم محكم (16)، و أمر مبرم (17). المأمول مع النّقم (18)، المرهوب مع النّعم!.

ص: 391

اللغة

1 - يصمّ : مضارع صم إذا أصيب بالصمم و فقد السمع.

2 - لطيف الأصوات: المنخفض منها الذي لا يسمع.

3 - الند: المثل و النظير.

4 - المثاور: المواثب و هو المحارب.

5 - المكاثر: المفتخر بالكثرة.

6 - الضد المنافر: الذي يحاكم ضده في الرقعة و النسب.

7 - مربوبون: مملوكون.

8 - داخرون: ذليلون من دخر بمعنى ذل.

9 - نأ: بعد.

10 - البائن: المنفصل.

11 - لم يؤده: لم يعجزه و يثقله.

12 - ذرأ: خلق.

13 - العجز: عدم القدرة.

14 - ولجت عليه: دخلت عليه.

15 - المتقن: من اتقن الأمر إذا أحكمه.

16 - محكم: المبرم، المتقن.

17 - المبرم: المحكم.

18 - النقم: جمع نقمة و هي العقوبة.

الشرح

(الحمد للّه الذي لم تسبق له حال حالا فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا و يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا) اللّه سبحانه و تعالى منزّه عن الجسمية و المكانية و الزمانية لأن من يحتاج إلى هذه الأمور فهو الممكن و المخلوق و أما الخالق واجب الوجود فهو الذي أبدع هذه الأمور و هو الغني عنها و من هنا كان سبحانه و لم يكن زمان و لا مكان و لم يكن شيء في الوجود و جميع صفاته عين ذاته لا تتقدم عليه و لا تتأخر عنه و لا تتكثر بحسب الذات...

ليس له حال يتقدم بها على حال و ليس معنى كونه أولا أنه في وقت آخر يكون آخرا

ص: 392

أو يكون ظاهرا ثم يكون باطنا فإن هذا يستحيل في حقه لأنه يؤدي إلى الحدوث و اللّه منزه عن ذلك بل هو في نفس الوقت الذي يكون أولا يكون آخرا و في نفس الوقت الذي يكون ظاهرا يكون باطنا...

و معنى أوليته أنه كان و لم يكن أحد معه و معنى آخريته أنه يبقى و يفنى كل شيء.

و معنى أنه ظاهر أي بيّن بآياته و علاماته فكل ما في الوجود يحكي عنه و ينطق بوجوده.

و معنى أنه باطن أي لا تدرك حقيقته أدق العقول و أعلمها...

و هناك تفاسير للظاهر و الباطن كثيرة نرى الإعراض عنها أولى...

(كل مسمى بالوحدة غيره قليل) باعتبار أن الواحد أقل الأعداد و أصغرها فإذا وصفت واحدا به و سميته به فقلت جاء واحد فهو تقليل له و تحقير، و أما بالنسبة للّه فالوحدة تعني الغنى و العز...

و ليس معنى الوحدة أنها العددية لأن اللّه ليس له ثاني، بل الوحدة تعني أنه متفرد في صفاته لا يشبهه أحد فهو واحد في الذات و في الصفات و كل ما يقع في الأوهام فهو منزه عنه...

(و كل عزيز غيره ذليل) لأن العزيز و هو الممتنع بالأهل و السلطان و العشيرة و المال و غيرها من أمور الدنيا مهما كان عزيزا سيصرعه الموت إن نجا من مصائب الدنيا و محنها و ما يعترض طريقها و أما بالنسبة للّه فهو العزيز المطلق الذي لا يطرأ عليه شيء مما يذل أو يهين...

(و كل قوي غيره ضعيف) لأن القوة نسبية و هي في البشر تسقط أمام الموت و الفناء بينما قوته هي القوة الحقيقية التي لا ضعف فيها و لا وهن يعتريها...

(و كل مالك غيره مملوك) كل مالك من الناس مهما كان يحوي و يملك فهو مملوك للّه و تحت سلطانه لا يخرج عن إرادته و حكمه و اللّه وحده المالك المطلق الذي لا يعارضه في حكمه أحد...

(و كل عالم غيره متعلم) فالعلماء يتعلمون من بعضهم حتى يصبحوا كذلك و هم جميعا يتعلمون مما أفاض عليهم و أذن لهم فيه بينما هو سبحانه علمه عين ذاته العالم بكل شيء و المطلّع على كل شيء و لا يخفى عليه شيء بينما علوم الناس نسبية و تنتهي عند حدّ و تؤخذ ممن تقدم أو ممن هو أعلم...

ص: 393

(و كل قادر غيره يقدر و يعجز) فغير اللّه من مخلوقاته يقدر على شيء و يعجز عن شيء آخر و يقوم بشيء و يستحيل في حق شيء أما هو سبحانه فلأن قدرته عين ذاته فهو القادر المطلق الذي لا يعجزه شيء...

(و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها) كل إنسان له سمع يتوقف عند حد محدود من سماعه الأصوات و مهما كان سليما و صحيحا و فريدا فلن يدرك الأصوات الخفية كما إن الأصوات العالية تعطله عن السمع و تمنعه عنه فالصيحة إذا كانت عالية تصم الآذان و تفقد السمع لأن أدوات السمع لا تتحمل الضغط الشديد عليها كما إن الأصوات إذا خفيت عجز السمع عن إدراكها و إذا بعدت الأصوات عجز السمع عن التقاطها فهو يلتقط إلى مسافة معينة فإذا زادت لم يعد يسمع..

و أما اللّه فهو السميع لكل صوت مهما كان خفيا و لا يؤثر عليه صوت مهما كان قويا...

(و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام) و حاسة البصر عند غير اللّه لها حد محدود لا يمكن أن تتجاوزه، فهي خاضعة للإمكان و محدودة بحدوده فلا يرى الألوان في الظلمة و لا يرى ما دق و صغر من الأجسام و إنّ المكروبات أجسام لا يراها البصر و لا يقع عليها...

و أما اللّه فهو البصير الذي لا يخفى عليه أمر يرى كل صغيرة و كبيرة بدون استثناء...

(و كل ظاهر غيره باطن و كل باطن غيره غير ظاهر) الأشياء إما أن تكون ظاهرة غير باطنة كما هي الحال في الإنسان و الحيوان و الأشياء التي نراها حولنا و تظهر لنا و للعيان و إما أن تكون باطنة ندرك آثارها كالحب و البغض و غيرها و إن كنا لا نراها و لا نحس بها عند الآخرين و إن كنا نحس بها كل في انفراده...

و أما اللّه فإنه أظهر ما يكون و أخفى ما يكون ففي الوقت الذي يحكي وجوده كل ما في الكون و ينطق بذلك الوجود كل موجود في نفس الوقت يخفى لشدة ظهوره عن أعين الناس و لا تقدر العقول على الوقوف على كنه ذاته و استكشاف حقيقته فهو حي قادر عليم حكيم لأننا وجدنا الأحياء و أصحاب القدرة و العلماء و الحكماء...

(لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان) نفى عليه السلام أن يكون ما خلقه اللّه من أجل

ص: 394

غاية راجعة إليه و فائدة عائدة عليه فإنه سبحانه الغني المطلق من كل الجهات ليس في ذاته و لا في صفاته نقص و ذكر بعض ما يمكن أن يتصور كونه غاية ثم نفاه فلم يخلق سبحانه الخلق من أجل تقوية سلطانه و تشديده فإن أصحاب السلطان و القوة يدعّمون قوتهم بما يبنون و يعملون لأنهم ضعفاء السلطان و القوة...

(و لا تخوف من عواقب زمان) لم يخلق ما خلق خوفا من غدر الزمان و نكباته كمن يجمع و يدخّر تخوفا من ساعات العسر و الحاجة و هذا إنما يجري في البشر الذين يحكمهم الإمكان و الضعف و تؤثر عليهم عوامل الزمان أما اللّه فهو الذي خلق الزمان و المكان و لا يؤثر فيه شيء...

(و لا استعانة على ند مثاور) لم يخلق ما خلق من أجل أن يستعين به على شبيه له محارب و مقاتل و جل اللّه أن يكون له نظير أو شبيه.

(و لا شريك مكاثر و لا ضد منافر) فليس له شريك يفتخر بما يملك و يفاخر اللّه فيما له حتى يخلق اللّه هذا الخلق ليكاثره به و يفتخر به عليه و يعدّد ما يملك أو يذكر ما خلق.

كما أنه ليس له ضد يواجهه و يقف في وجهه و يفتخر عليه بجاهه و سلطانه حتى يخلق هذا الخلق فيعلو و يرتفع قدرا عليه...

(و لكن خلائق مربوبون و عباد داخرون) فكل موجود مخلوق للّه و كل مخلوق مملوك له و هو ربهم و هم له عباد أذلاء ضعفاء إما بالمقال أو بلسان الحال...

(لم يحلل في الأشياء فيقال: هو كائن و لم ينأ عنها فيقال هو منها بائن) لم يحلل في شيء من الأشياء فيكون مثلها و داخل في صميمها لأن الحلول يستلزم الجسمية و المشابهة و هو منزه عن ذلك كما إنه لم يبتعد عنها بحيث ينقطع حبل الاتصال بينه و بينها فنسلبه سلطانه عليها و علمه بها بل هو في نفس الوقت الذي يكون بعيدا فهو قريب بل أقرب من كل قريب...

(لم يؤده خلق ما ابتدأ و لا تدبير ما ذرأ) لم يعجز أو يصاب بجهد و تعب من جراء ما خلق كما هي الحال عند البشر بل سبحانه بعلمه بالشيء و إرادته يتحقق المطلوب كما إنه لا يعجزه تدبير ما خلق من رزق له و تقدير حياة و ضبط نظام و قوام و استعداد...

(و لا وقف به عجز عما خلق و لا ولجت عليه شبهة فيما قضى و قدّر) لم يعجز عما خلق بل بكلمة كن التي لم يكن هناك أخصر منها كان ما كان من مخلوقات و كائنات.

كما إنه لم تدخل عليه شبهة فيما قضى من أمر أو قدر من تدبير لأن الشبهة تكون

ص: 395

وليدة الجهل و عدم وضوح الرؤية و اللّه سبحانه العالم المطلق انكشفت له دقائق الأمور و جليلها، عظيمها و حقيرها...

(بل قضاء متقن و علم محكم و أمر مبرم) فما قضاه و أوجده في مكانه كان يسير وفق ما رسم له من دور و حركة في دقة و نظام و حكمة بل الأمور لديه منكشفة و هو خالقها في أمر محكم متقن لا نقص فيه أو خلل يعتريه...

(المأمول مع النقم المرهوب مع النعم) و هذه قاعدة إيمانية و هي أن اللّه مع شدة نقمته و عذابه هو المأمول لكل خير و رحمة كما إنه مع النعم و المنح و العطايا يجب أن يرهبه الإنسان و يخاف من سطواته و نقماته، فمع وجود النقمة الفعلية هناك أمل فيه كبير بالرحمة و رفع العذاب، و مع وجود النعم الفعلية هناك خوف و حذر من نزعها عن هذا الإنسان و تبديلها بعذاب و عقاب.

ص: 396

66 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في تعليم الحرب و المقاتلة و المشهور أنه قاله لأصحابه ليلة الهرير أو أول اللقاء بصفين معاشر (1) المسلمين: استشعروا (2) الخشية (3)، و تجلببوا (4) السّكينة (5)، و عضّوا (6) على النّواجذ (7)، فإنّه أنبى (8) للسّيوف عن الهام (9).

و أكملوا الّلأمة (10)، و قلقلوا (11) السّيوف في أغمادها (12) قبل سلّها (13).

و الحظوا (14) الخزر (15)، و اطعنوا (16) الشّزر (17)، و نافحوا (18) بالظّبا (19)، وصلوا السّيوف بالخطا (20)، و اعلموا أنّكم بعين اللّه، و مع ابن عمّ رسول اللّه. فعاودوا (21) الكرّ (22)، و استحيوا من الفرّ (23)، فإنّه عار (24) في الأعقاب (25)، و نار يوم الحساب. و طيبوا (26) عن أنفسكم نفسا، و أمشوا إلى الموت مشيا سجحا (27)، و عليكم بهذا السّواد الأعظم (28)، و الرّواق (29) المطنّب (30)، فاضربوا ثبجه (31)، فإنّ الشّيطان كامن (32) في كسره (33)، و قد قدّم للوثبة (34) يدا، و أخّر للنّكوص (35) رجلا. فصمدا صمدا (36)! حتّى ينجلي (37) لكم عمود الحقّ «و أنتم الأعلون، و اللّه معكم، و لن يتركم (38) أعمالكم».

اللغة

1 - معاشر: جمع معشر و هي الجماعة.

2 - استشعروا: من الشعار و هو ما يلي الجسد من اللباس.

ص: 397

3 - الخشية: الخوف.

4 - تجلببوا: من الجلباب و هو الثوب الواسع.

5 - السكينة: الثبات و الوقار.

6 - عضوا: العضّ هو الإمساك بالأسنان.

7 - النواجذ: جمع ناجذ و هو أقصى الأضراس.

8 - أنبى: من نبا السيف إذا لم يقطع.

9 - الهام: مفردها هامة و هو الرأس.

10 - اللاّمة: الدرع و تطلق على آلات الحرب.

11 - قلقلوا: من القلقلة و هو التحريك.

12 - الأغماد: جمع غمد و هو جفن السيف.

13 - سلها: و سل السيف إذا أخرجه من الغمد.

14 - الحظوا: انظروا.

15 - الخزر: النظر بمؤخر العين عند الغضب.

16 - اطعنوا: من الطعن و هو الضرب و الوخز.

17 - الشزر: الطعن عن اليمين و الشمال.

18 - نافحوا: ضاربوا و دفعوا.

19 - الظبا: جمع ظبة و هي طرف السيف وحده.

20 - الخطا: جمع خطوة ما بين القدمين عند المشي.

21 - عاودوا: ارجعوا و عودوا إلى حالتكم الأولى.

22 - الكر: الرجوع.

23 - الفر: الفرار، الهرب.

24 - العار: العيب كل ما يعيب الإنسان من قول أو فعل.

25 - الأعقاب: أما جمع عقب بالضم أي العاقبة أو على وزن كتف الأولاد..

26 - طيبوا: هوّنوا.

27 - السجح: السهل.

28 - السواد الأعظم: عامة الناس و جمهورهم.

29 - الرواق: الفسطاط.

30 - المطنب: المشدود بالأطناب و هي جمع طنب بضمتين حبل يشد به سرادق البيت.

31 - الثبج: الوسط.

32 - كامن: مستخفى.

33 - كسره: بالكسر شقه الأسفل.

ص: 398

34 - الوثبة: الطفرة.

35 - النكوص: الرجوع.

36 - الصمد: القصد.

37 - ينجلي: ينكشف و يظهر.

38 - لن يتركم: لا ينقصكم.

الشرح

(معاشر المسلمين استشعروا الخشية) تتضمن هذه الخطبة بعض الارشادات الحربية و التعاليم العسكرية و كذلك تحتوي على تقوية النفس معنويا حتى تكتمل القوتان العسكرية و المعنوية...

و هذا الخطاب إلى معسكره و صاهم أن يعيشوا الخشية و هي الخوف من اللّه لأن من خاف اللّه قام بأداء حقه و جهاد عدوه و لم يتهاون أو يتكاسل أو يفرّ، و من خاف من اللّه هانت عليه مصاعب الحياة و استطاع أن يطرد كل خوف من أي جهة و من أي شخص كان...

(و تجلببوا السكينة) أمرهم أن يكون الوقار شاملا في الحرب يعني ضبط الأعصاب و السيطرة عليها فلا تصاب بالاضطراب و يفقد صاحبها السيطرة عليها فإن ذلك يؤدي إلى اختلال في التوجه و عدم التركيز على المطلوب في تلك الساعات الصعبة...

(و عضوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن الهام) و هذا إما محمول على الحقيقة من أن العض على الأضراس الخلفية يوجب تصلب الجمجمة فلا يأخذ السيف منها مأخذه، أو كناية عن شدة الاهتمام بأمر الحرب و ترك الاضطراب و أن يفعل المحارب فعل المقهور الذي يريد أن يتخلص من قاهره و عدوه...

(و أكملوا اللأمة) أي وزعوا آلات الحرب و لباسها على البدن كله كل واحدة في موقعها و مكانها المعدّ لها حتى لا يكون جزء من الجسد خاليا مما يجب أن يكون عليه...

(و قلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها) أي حركوا السيوف و هي في الأغماد لتتأكدوا من سهولة إخراجها عند ما تحتاجون إلى إخراجها...

ص: 399

(و الحظوا الخزر) انظروا نظرة الغضبان الذي ينظر بمؤخرة عينه احتقارا للمنظور و احتقانا منه...

(و اطعنوا الشزر) اضربوا يمينا و شمالا عن جانبيكم فإن ذلك يعم و يستطيع المحارب خلاله أن تأخذ يده مجالها برحابة و سهولة...

(و نافحوا بالظبا) اضربوا الأعداء و ادفعوهم بأطراف السيوف قبل أن تختلطوا بهم و تقتربوا منهم فيمنعكم القرب من حرية الحركة...

(و صلوا السيوف بالخطا) إن قصرت السيوف عن تناول الأعداء فلا تنتظروهم حتى يهجموا عليكم بل أنتم بادروا إلى القفز نحو العدو و تناوله و أخذه...

(و اعلموا أنكم بعين اللّه و مع ابن عم رسول اللّه) أراد تسكين قلوبهم و إعطائهم الثقة و هذا من أهم الأمور و أفضلها أن يطمئن إلى أن اللّه يراه و يرعاه و يرضى عن سلوكه و الإمام يقول لهم إنكم تحت نظر اللّه و رعايته هو المطلع عليكم الناظر إليكم و من كان تحت نظر اللّه فاز و نجا ثم اتبع ذلك بإرشادهم و تذكيرهم إلى أنهم مع ابن عم رسول اللّه و لهذا الرجل موقعه و دوره و كل المسلمين يعرفون أنه القائم مقام النبي و إن الخلافة له و إن حربه كحرب رسول اللّه محقة مشروعة و إنه على المنهج الإلهي و إن عدوه عدو للّه و لرسوله و لكل رسالات الأنبياء، و عند ما تستشعر النفوس هذا المعنى و تقف عليه تحل فيها السكينة و تطمئن القلوب...

(فعاودوا الكر) إذا حصل منكم فرّ لحالة ضعف أو تحيزتم إلى فئة أو انحرفتم لقتال فعودوا إلى الحرب و النزال و لا تستمروا على النكوص و الفرار...

(و استحيوا من الفر فإنه عار في الأعقاب و نار يوم الحساب) خوفهم من الفرار و الهروب من المعركة بأمرين عظيمين أحدهما في الدنيا و هو أنه يبقى سمة و علامة يعاب به الأولاد و الأحفاد فيكون الفار قد ترك لعقبه ميراثا قبيحا يخجلون به بين الناس و في المجتمع و يبقى يلاحقهم مدى الحياة...

و الثاني أن في الفرار من المعركة غضب اللّه و عذابه، فإن الفرار معصية كبيرة يستحق صاحبها النار لأنه يوهن قوة المجاهدين و يفت في عزائمهم و يقضي على معنوياتهم و من هنا كان جرما كبيرا يستحق به النار...

(و طيبوا عن أنفسكم نفسا) اسخوا بأنفسكم و جودوا بها عن رضى و قناعة و حب و وطنوها على القتل و الشهادة فإنكم ستنالون أفضل الجزاء و أحسنه و يعوض عليكم خيرا مما تقدمون...

ص: 400

(و امشوا إلى الموت مشيا سجحا) أقبلوا على الموت و اطلبوه طائعين راغبين فإن من يستسهل الموت و يسعى إليه برغبة يحقق المعجزات و ينال الفوز و النصر...

(و عليكم بهذا السواد الأعظم و الرواق المطنب فاضربوا ثبجه) بيّن عليه السلام لهم هذا الهدف المهم الذي يدير المعركة عند العدو و يوجهها و جهتها و كان معاوية قد أقام خيمة التف بها الناس و اجتمع حولها العسكر فأمر عليه السلام بالهجوم عليه فإن مركز القيادة إذا ضرب اختلت التوازنات عند الجيوش و تضعضعت الصفوف.. أمرهم أن يهجموا على مجتمع الناس حيث خيمة معاوية هناك و ليضربوا وسطه...

(فإن الشيطان كامن في كسره و قد قدم للوثبة يدا و أخّر للنكوص رجلا) أشار عليهم بأن معاوية و سماه شيطانا لأنه مثلّ الشيطان في أفعاله و سلوكه و حكاه في جميع تصرفاته لأن الشيطان معاوية مختفي في جانبه ينتظر أحد أمرين فإن رأى ضعفا منكم هجم عليكم و طالكم بيده و أخذكم بقوة.

و إن رأى إنكم أقوياء و قد قهرتموه و غلبتموه فإنه على استعداد للهروب و الفرار ناجيا بنفسه و من يلحق به...

(فصمدا صمدا حتى ينجلي لكم عمود الحق و أنتم الأعلون و اللّه معكم و لن يتركم أعمالكم) أمرهم بالصمود و الثبات و القتال من أجل حقهم حتى ينتصروا فينهزم معاوية و جنده و ينتصر الحق و أصحابه و أنتم الأعلون لأنكم أصحاب الحق الذين تقاتلون من أجل اللّه و في سبيله و اللّه معكم لأنكم معه و هو الذي ينزل نصره عليكم و لن ينقصكم شيئا من الثواب و الأجر على كل عمل تقومون به أو فعل تفعلونه..

ص: 401

67 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة (1) بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم، قال عليه السلام:

ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت منا أمير و منكم أمير؛ قال عليه السلام:

فهلاّ (2) احتججتم عليهم (3) بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم، و يتجاوز (4) عن مسيئهم ؟.

قالوا: و ما في هذا من الحجة عليهم ؟.

فقال عليه السلام:

لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيّة بهم.

ثم قال عليه السلام:

فما ذا قالت قريش (5)؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلى اللّه عليه و سلم، فقال عليه السلام: احتجّوا بالشّجرة، و أضاعوا (6) الثّمرة.

اللغة

1 - السقيفة: منتدى للأنصار كانوا يجتمعون فيه معمول من خوص النخيل.

2 - هلاّ: كلمة تحضيض و حث على الفعل و هي مركبة من هل و لا.

3 - احتججتم عليهم: أتيتم بالحجة عليهم و هي الدليل و البرهان.

4 - تجاوز: المكان تخطاه و تجاوز عن سيئاته تركها و لم يؤاخذه بها.

ص: 402

5 - قريش: قبيلة عربية منها النبي (صلی الله علیه و آله) .

6 - أضاعوا: الثمرة أهملوها، أتلفوها و الضياع هو الهلاك.

الشرح

(فهلا احتججتم عليهم بأن رسول اللّه وصى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم) ذكرنا سابقا - في الخطبة الشقشقية - أنباء السقيفة و منطق أهلها بحيث أعطينا صورة وافية لا تخل بالمطلوب و لا تزرع الملل و السأم عند من يريد أخبارها و بعبارة موجزة تنسجم مع كلام الإمام هنا نقول: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة عند ما علموا بوفاة رسول اللّه و أرادوا أن يبايعوا أحدهم ليكون خليفة على المسلمين و لكن أبا بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف علموا بالاجتماع فتركوا النبي مسجى لم يتم تجهيزه و دفنه و دخلوا عليهم فأفسدوا عليهم خطتهم و حولوا الخلافة لصالح أبي بكر فبويع خليفة من قبل من كان في السقيفة و وصلت الأنباء إلى الإمام فكان منه هذا الحديث الذي رد فيه على الأنصار كما رد على قريش و ما احتجت فيه لصالحها عند ما حولت الخلافة لها دون الأنصار...

كان العزم من الأنصار أن يبايعوا سعد بن عبادة و كادت كلمتهم تجتمع على ذلك و إذا بأبي بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف يفاجؤهم فيسقط ما في أيديهم و يدب الخلاف فيما بينهم و يدور حوار يصل فيه ضعف الأنصار أن قالو: منا أمير و منكم أمير..

و يصل هذا الأمر إلى الإمام فيقول في بيان فساد هذا الرأي لمن أخبره: فهلاّ احتججتم عليهم بأن رسول اللّه وصى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم و لكن المخاطبين لم يفهموا وجه الحجة في هذا الكلام العلوي فقالوا له: و ما في هذا من الحجة عليهم.

فقال مفسرا لهم و مفهما: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم أي لو كان الحكم لهم و بيدهم السلطان لم يكونوا بحاجة إلى الوصية بهم فإن الناس تخاف ظلم السلطان و جوره فلو كان السلطان لهم فقد أمنوا الظلم فتنتفي الوصية بهم و لم يعد للوصية بهم من مبرر و لكن باعتبار أن النبي وصى بهم يدل ذلك على أنهم لا حظ لهم في الخلافة و لا تكون لهم.. ثم قال الإمام و ما ذا قالت قريش و ما هي حجتها في انتزاع الخلافة لنفسها؟.

ص: 403

قالوا له: احتجت بأنها شجرة الرسول فالرسول يرجع إليها و هو منها فيجب أن تعود إليها الفوائد و العوائد فقال لهم الإمام «احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة».

احتجوا بأن رسول اللّه منهم و بهذه القرابة ربحوا الجولة على الأنصار و انتصروا عليهم و عادوا بالخلافة و لكنهم نسوا أن أهله أقرب إليه من جميع قريش بما فيهم من تولى الخلافة، فإن الإمام من أقرب الناس إلى رسول اللّه فهو ابن عمه و زوج الزهراء ابنته و والد ولديه الحسن و الحسين.. فما احتجت به قريش على الأنصار يحتج به عليها فإن كانت حجتها صحيحة في انتزاع الخلافة يجب أن تنتزع منها الخلافة، إنها احتجت بالقرابة فنحن أقرب منها و إلا فالأنصار لهم الخلافة و لا يجوز انتزاعها منهم..

ص: 404

68 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه و قتل و قد أردت تولية (1) مصر هاشم بن عتبة؛ و لو ولّيته إيّاها لمّا خلّى (2) لهم العرصة (3)، و لا أنهزهم (4) الفرصة (5)، بلا ذمّ لمحمّد بن أبي بكر، و لقد كان إليّ حبيبا، و كان لي ربيبا (6).

اللغة

1 - التولية: جعله واليا أي حاكما.

2 - خلّى: ترك.

3 - العرصة: ساحة الدار، كل بقعة ليس فيها بناء و المقصود هنا دار الحرب.

4 - أنهزهم: أمكنهم.

5 - الفرصة: جمعها فرص، الوقت المناسب و النهزة.

6 - الربيب: ابن زوجة الرجل من غيره إذا تربى عنده.

الشرح

اشارة

(و قداردت تولية مصر هاشم بن عتبة و لو وليته إياها لما خلّى لهم العرصة و لا أنهزهم الفرصة بلا ذم لمحمد بن أبي بكر و لقد كان إليّ حبيبا و كان لي ربيبا) عند ما تولى الإمام الخلافة أرسل قيس بن سعد إلى مصر واليا ثم استدعاه و ولى محمد بن أبي بكر فلما كانت وقعة صفين اضطرب الأمر في مصر و كان معاوية قد أعطاها عمروا طعمة و وجهه إليها و معه ستة آلاف فارس...

عرف محمد بعمرو و قدومه فانتدب الناس فخرج معه أربعة آلاف رجل فوجه منهم

ص: 405

ألفين مع كنانة بن بشر لاستقبال عمرو و بقي هو في ألفين فأبلى كنانة في ذلك اليوم بلاء حسنا و قاتل حتى قتل فلما علم أصحاب محمد بذلك تفرقوا عنه فهرب محمد و اختفى عن الأنظار ظنا منه أنه ينجو بنفسه فالتجأ إلى خربة أختبئ فيها و دخل عمرو الفسطاط و وجه معاوية بن خديج أحد قادة جنده يبحث عن محمد فوجده في الخربة فأخذه و قتله و وضعه في جيفة حمار و أحرقه و عند ما وصل نبأ شهادته إلى الإمام قال هذه الكلمة: قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة الملقب بالمرقال و لو وليته إياها لما ترك مصر و ساحة الحرب فيها و لا سمح لهم بوقت يستطيعون فيه تحقيق شيء من أحلامهم و آمالهم...

و هذا الكلام منه ثناء على هاشم بن عتبة و مدح له و خوفا من أن يفهم الحضور أنه يذم محمدا قال: بلا ذم لمحمد بن أبي بكر لأن محمدا كان مخلصا طيبا و لكن ليست له خبرة هاشم و تجربته و بيّن الإمام و علل عدم ذمه لمحمد بأمرين...

الأول: أنه كان حبيبا له و من كان يحبه الإمام لا شك أنه مؤمن طاهر مطيع للّه و رسوله و قد كان محمد كذلك...

الثاني: أنه كان ربيبا له و بمستوى أولاده فقد عاش في بيته و رضع من لباناته و جاءته النجابة من تلك الأوقات الطيبة التي عاشها في كنفه و قد كان الإمام يقول: محمد ابني من ظهر أبي بكر..

ترجمة محمد بن أبي بكر:

محمد بن أبي بكر و أمه أسماء بنت عميس الخثعمية ولدته في طريق المدينة إلى مكة في حجة الوداع سنة عشرة للهجرة.

تربى محمد في حجر الإمام علي لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر و قد نشأه الإمام على الإسلام و رباه على الإيمان فجاء طيب القلب ناسكا عابدا محبا للخير..

و قد ولاه عثمان على مصر بدل ابن أبي سرح تحت ضغط المصريين المطالبين بإقالة عبد اللّه بن أبي سرح و لما كتب له كتاب الولاية و سار و من معه مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير و هو يخبط البعير خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب..

فقال له أصحاب محمد بن أبي بكر: ما قصتك ؟ و ما شأنك ؟ كأنك هارب أو طالب فقال لهم مرة: أنا غلام أمير المؤمنين و قال أخرى: أنا غلام مروان وجهني إلى عامل مصر برسالة ثم فتشوه فوجدوا معه كتابا من عثمان يأمر فيه ابن أبي سرح أن يحتال

ص: 406

لقتل محمد و إبطال الكتاب و أن يقر على عمله فلما قرأ محمد الكتاب عاد و من معه إلى المدينة و عرض الكتاب على أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) فنقموا على عثمان و تصرفاته بل ازدادت النقمة...

اشترك محمد في قتل عثمان كما في بعض الروايات و في بعضها أنه كاد و لم يفعل...

اشترك مع الإمام في حرب الجمل ضد أخته أم المؤمنين عائشة و ضد طلحة و الزبير.

و لما انجلت المعركة عن هزيمة أصحاب الجمل دخل على أخته عائشة فسلم عليها فلم تكلمه.

فقال لها: أنشدك اللّه أ تذكرين يوم حدثتني عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: الحق لن يزال مع علي و علي مع الحق و لن يختلفا و لن يفترقا.

فقالت: نعم.

ولاه الإمام مصر بعد قيس بن سعد و بعد صفين و اضطراب الأمر وجه معاوية عمرو بن العاص إلى مصر و كان قد أعطاها له طعمة فدخلها و معه ستة آلاف رجل فقام محمد في أهل مصر و خطبهم و حضهم على قتاله فانتدب معه أربعة آلاف رجل فوجه منهم ألفين مع كنانة بن بشر لاستقبال عمرو و بقي هو في ألفين و قد أبلى كنانة بلاء حسنا و قاتل حتى قتل فلما رأى أصحاب محمد ذلك تفرقوا عنه فهرب متخفيا حتى انتهى إلى خربة فدخل عمرو الفسطاط و خرج معاوية بن خديج في طلبه فظفر به و كاد يموت عطشا فأخذه و ضرب عنقه ثم وضع جثته في جيفة حمار و أحرقها و لما بلغ الإمام مقتله حزن عليه حتى رئي ذلك فيه و تبيّن في وجهه.

و عند ما قدم عبد الرحمن بن المسيب(1) الفزاري على الإمام و أخبره بفرح أهل الشام و سرورهم بقتله و قوله: ما رأيت يوما قط سرورا مثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم نبأ قتل محمد بن أبي بكر فقال علي: أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به، لا بل يزيد أضعافا..

و لما بلغ عائشة مقتله جزعت جزعا شديدا و قنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و معاوية بن خديج و حلفت لا تأكل شواء بعد1.

ص: 407


1- ابن أبي الحديد في شرح النهج ج - 6 ص 61.

قتل محمد فلم تأكل شواء حتى ماتت، و ما عثرت قط إلا قالت: تعس معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و معاوية بن خديج.

قتل محمد سنة 38 للهجرة...

ترجمة هاشم بن عتبة:

قال صاحب الإصابة:

هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بن أهيب بن زهرة بن عبد مناف الزهري الشجاع المشهور المعروف بالمرقال ابن أخي سعد بن أبي وقاص.

لقب بالمرقال لأنه كان يرقل في الحرب أي يسرع من الارقال و هو ضرب من العدو.

و قال ابن الكلبي و ابن حبان له صحبة.

و قال أبو أحمد الحاكم يكنى أبا عمر و عده بعضهم في الصحابة.

و قال الخطيب: أسلم يوم الفتح و حضر مع عمه حرب الفرس بالقادسية و له بها آثار مذكورة.

و في أعيان الشيعة «و في كتاب لباب الآداب: أمد عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص في حرب القادسية بجيش عليه هاشم بن عتبة المرقال فوصلهم و العسكران متواقفان المسلمون و رستم فوقف هاشم مقابل موكب منهم ثم أخذ سهما فوضعه في قوسه و رماهم فوقع سهمه في أذن فرسه فخلها فضحك و قال: و اسوأتاه من رمية رجل كل من نرى ينتظره؛ أين ترون كان سهمه بالغا لو لم يصب أذن الفرس قالوا: العتيق و هو نهر خلف ذلك الموكب فنزل عن فرسه ثم سار يضربهم بسيفه حتى أوصلهم العتيق ثم رجع إلى موقفه...

و قد حضر اليرموك و فقئت عينه بها و هو الذي افتتح جلولاء و كانت جلولاء تسمى فتح الفتوح...

و شهد صفين مع علي و كانت معه الراية و هو على الرجالة.

قتل هو و عمار بن ياسر في تلك الموقعة سنة 38.

ص: 408

69 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في توبيخ بعض أصحابه كم أداريكم (1) كما تدارى البكار (2) العمدة (3)، و الثّياب المتداعية (4)! كلّما حيصت (5) من جانب تهتّكت (6) من آخر، كلّما أطلّ (7) عليكم منسر (8) من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل منكم بابه، و انجحر (9) انجحار الضّبّة في جحرها (11)، و الضّبع (12) في وجارها (13). الذّليل و اللّه من نصرتموه! و من رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل (14). إنّكم - و اللّه - لكثير في الباحات (15)، قليل تحت الرّايات (16)، و إنّي لعالم بما يصلحكم، و يقيم أودكم (17)، و لكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع اللّه خدودكم (18)، و أتعس جدودكم (19)! لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، و لا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ !.

اللغة

1 - اداريكم: ألاطفكم.

2 - البكار: جمع بكر و هو الفتى من الإبل.

3 - العمدة: هي الإبل التي انشدخت اسنمتها من الداخل و ظاهرها صحيح لكثرة ركوبها.

4 - الثياب المتداعية: الخلقة المتخرقة.

5 - حيصت: خيطت و الحوص الخياطة.

6 - تهتكت: تخرقّت.

ص: 409

7 - أطل: أشرف.

8 - منسر: قطعة من الجيش.

9 - انجحر: استتر في بيته.

10 - الضبة: أنثى الضب و الضب حيوان من الزواحف شبيه بالحرذون ذنبه كثير العقد.

11 - الجحر: جمعه أجحار مكان تحتفره السباع و الهوام لأنفسها.

12 - الضبع: ضرب من السباع معروف مؤنثة.

13 - الوجار: بيت الضبع.

14 - أفوق ناصل: الناصل المكسور الفوق، المنزوع النصل و الفوق موضع الوتر من السهم.

15 - الباحات: جمع باحة و هي ساحة الدار.

16 - الرايات: مفردها الراية العلم.

17 - أودكم: اعوجاجكم.

18 - اضرع اللّه خدودكم: أذل وجوهكم.

19 - أتعس جدودكم: حط من حظوظكم، و التعس الهلاك و الانحطاط.

الشرح

اشارة

(كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة و الثياب المتداعية كلما حصيت من جانب تهتكت من آخر) عانى الإمام من أصحابه أشد العناء فخاطبهم و عاتبهم و وبخهم و أنكر عليهم و لكن دون فائدة فكأنه كان ينفخ في رماد و هذا الكلام منه لهم يدل على مدى هذه المعاناة و ما كانوا عليه من اللامبالاة.

و بيّن مدى ملاطفته لهم و أخذه لهم بالرفق و اللين و شبه هذه المداراة و الملاطفة بما كان يمارسه العرب من مداراة البكر العمدة و هو الفتى من الإبل الذي انشدخ سنامه فانهم يدارونه و يرفقون به و لا يحملونه كغيرهم من الاصحاء فهم مرضى القلوب يهربون من الحمل الثقيل و هو الجهاد و مع ذلك كان يداريهم و يرفق بهم..

ثم شبههم بالثياب البالية التي إذا خيطت و أصلحت من جهة انخرقت و تمزقت من جهة أخرى لعدم تماسكها و هم أيضا كذلك فلم يكد يصلحهم من جهة إلا و قد فسدوا من

ص: 410

جهة أخرى، و لم يكد يجمعهم للحرب من ناحية إلا و قد تفرقوا من أخرى...

(كلما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه و انجحر انجحار الضبة في جحرها و الضبع في وجارها) بيّن عليه السلام شدة خوفهم و فزعهم و ما هم عليه من الهلع و الهزيمة و قد حكى واقع حالهم و سوء فعالهم و انه عند ما كانت تشرف كتائب معاوية و تطل عليهم و يسمعوا بها فعوضا عن مقابلتها و مطاردتها و جهادها يغلق كل رجل منهم باب بيته و يدخله فزعا و خوفا أن يقع بين يدي ذلك الجيش الغازي المعادي و شبههم بأنثى الضب و أنثى الضبع في الجبن و الغباء.

أقول: و ما أشبه الليلة بالبارحة و ما أشد انطباق هذا الكلام على واقعنا العربي و الإسلامي حيث تعيش إسرائيل التي احتلت فلسطين و شردت أهلها تعيش بآلتها العسكرية تدمّر و تخرب، تغزو سماء لبنان و تضرب العراق و تجتاز إلى أوغندا و تقتل الفلسطينيين في تونس و كل قطر يسأل اللّه العافية و يدعوه أن يرفع عنه بلاء اسرائيل و يقول: انج سعد فقد هلك سعيد...

(الذليل و الله من نصرتموه) بيّن أن نصرهم لإنسان إذلال له و هزيمة لأنهم جبناء المواقف لا يجمعهم رأي و لا يوحد كلمتهم مقام يهربون من مواجهة الأعداء و يجبنون عن ملاقاة الخصماء...

(و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل) ثم شبههم بالسهم المنزوع النصل المكسور الفوق الذي لا يرمى به و إذا رمي به لا يصيب و كذلك حالهم فإذا وجههم الإمام الى جهة أو إلى عدو فلن يصيب بهم عدوه و لن ينتصر بهم عليه بل هم مصدر الهزيمة و التراجع...

(إنكم و اللّه لكثير في الباحات قليل تحت الرايات) و هذه صفة ذم و دليل انهيار المجتمع و فساد الأمة يصف بها الإمام أهل العراق.. إنهم كثيرون في النوادي و الملاهي و الملتقى العام الذي يقصده الباطلون و العاطلون و لكنهم قليلون في ساحات الجهاد و في مواجهة الأعداء، ففي المواطن التي يجب أن يكون فيها الرجال فهم مفقودون و في المواطن التي يجب أن ينتزه عنها الشرفاء و أصحاب الكرامة فهم موجودون بكثرة...

(و إني لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم و لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي).

علي عارف بما يصلح الناس:

و هذه حقيقة تمتع بها ابن أبي طالب و انفرد بها عن كل رجالات الحكم و السياسة ورد في هذه الكلمة على ما يمكن أن يكون قد سمعه من بعض أصحابه المخلصين له

ص: 411

الذين كانوا يشيرون عليه بما يكتسب به ود الناس و عطفهم عليه و إعانتهم له و هذه الكلمة يرّد بها على بعض من لا يفهم عليا و لا طريقته في الحياة. بعض الذين يتصورون عليا رجل الحكم و السلطة من أجل الحكم و السلطة كما اعتادوا و كما رأوا...

إن الإمام بدون شك على معرفة عظيمة بالحياة و بالأحياء و قد كان يتمتع بذكاء منقطع النظير و ثقافة اسلامية قرآنية محمدية إلهية لا يعدله أحد من المسلمين، و من قرأ سيرة هذا الرجل و وقف على علمه و حلمه و حكمته و عدله و معرفته بالأمور أدرك أنه نموذج فريد في نوعه هذا إذا انصفنا الرجل و كانت حساباتنا معه كما تحاسب الناس الذين لا يتمتعون بعصمة إلهية...

أما إذا كانت العصمة من مختصاته فترتفع جميع التساؤلات و تسقط كل الاستفهامات لأن المعصوم لا يقع في خطأ بل يدرك وجه المصلحة و الحق و العدل في كل أمر...

أقول: إذا كان الإمام بحساب الناس أفضلهم عقلا و علما و دراية و حكمة هل يفوته معرفة ما يصلح الناس و خصوصا إذا أشير عليه و بالأخص إذا عرف أسلوب عدوه مع الناس و شراء ضمائر الناس...

إن الإمام يعرف ما يصلح الناس و هو يصرح بهذا في هذه الكلمة.. إنه السيف و السوط و شراء الضمائر و استمالة القلوب كان باستطاعة الإمام أن يأخذ الناس بالقوة كما كان يأخذهم غيره... ينكلّ بمن لا يطيع و يقتل من يتمرد و يقضي على من يخالف...

كان بمقدوره أن يرشي الزعماء و الوجهاء و المجتمع لا يزال يعيش روح القبيلة و العشيرة فيعيّن هذا حاكما و ذاك واليا و يعطي هذا من أموال المسلمين و يقتطع لذاك قطعة من الأرض و هكذا...

كان بمقدور الإمام أن يفعل كل ذلك و لكن في ذلك مخالفة للّه و معصية لحكمه، في ذلك انحراف و إضلال ينتزه عنه الإمام...

الإمام رجل يسنّ الطريق لمن بعده و يؤسس للأجيال و للعالم منهجا عدلا فهل يبدأ طريقه بالانحراف و أساسه بالاختلال،. إن هذا لا يكون فيمن أراد أن يرسم الدرب و يقيم العدل و يضع للأجيال المبدأ السليم...

إنه يعرف ما يصلحهم و ما يجعلهم على الحق و العدل و لكن ذلك يضرّ به كمشرع يريد أن يرسم للناس الطريق السليم...

(أضرع اللّه خدودكم و أتعس جدودكم) دعى عليهم بالذل أن يصيبهم كما أذلوا

ص: 412

مواقفه و لم يواجهوا معه عدوه و أن يقلّل حظوظهم و يهلكها فلا يرون خيرا لهروبهم من وجه الحق...

(لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل و لا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق) و هذه علة دعائه عليهم إنهم لا يبحثون عن الحق و يتعرفون عليه كما يبحثون عن الباطل و يعرفونه، فمعرفتهم بالباطل عميقة و ضليعة على خلاف ما يجب أن يكون عليه الإنسان الصالح في المعرفة.

و أما في العمل فإنهم يسعون في إبطال الحق و يجدّون في ذلك أكثر مما يجدّون في إبطال الباطل عكس ما يجب أن يكون عليه السلام، فهم يخالفون قواعد الإيمان نظرة و عملا منهجا و التزاما...

ص: 413

70 - و قال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه

اشارة

ملكتني عيني (1) و أنا جالس، فسنح (2) لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت: يا رسول اللّه، ما ذا لقيت (3) من أمّتك من الأود (4) و اللّدد (4)؟ فقال: «ادع عليهم» (6) فقلت: أبدلني اللّه بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي (7) شرّ الهم منّي.

قال الشريف: يعني بالأود الاعوجاج، و باللد الخصام. و هذا من أفصح الكلام.

اللغة

1 - ملكتني عيني: غلبني النوم.

2 - سنح: لي عرض لي و مرّ بي.

3 - لقيت: صادفت و استقبلت.

4 - الأود: الاعوجاج.

5 - اللدد: الخصام.

6 - دعا عليه: طلب نزول السوء به.

7 - أبدلني: به عوضني عنه و اخلف علي عوضه.

الشرح

(ملكتني عيني و أنا جالس فسنح لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم فقلت: يا رسول اللّه ما ذا لقيت من أمتك من الأود و اللدد؟.

ص: 414

فقال: «ادع عليهم» فقلت: أبدلني اللّه بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا لهم مني) منام صادق يحكيه الإمام: فبينما هو جالس و إذا به ينام فيرى رسول اللّه بطلعته المباركة الكريمة، يلتقي الحبيب بالحبيب و الروح بالروح.. طلعة غيبها الموت فاستحضرها المنام.. و ما أن يتم اللقاء حتى يقوم الولد البار بشرح مشاكله و ما يعترض سبيله أمام الوالد الحنون... في تلك اللحظات و من شدة المعاناة و من أشد الحالات صعوبة..

في تفاقم الأزمة وحدتها ينطلق لسان الإمام ليسكو إلى الرسول ما لاقاه من الأمة من الانحراف و من الخصام.. شرح له عناوين السقيفة و انحراف الخلافة و سلبها منه و غصب الزهراء حقها و ضرب متنها.. شرح له ما مارسه الظالمون من سلب الحقوق ثم لما عادت إليه الخلافة كيف قام القاسطون و المارقون و الباغون في قتاله...

لقد ضاق صدر الإمام من الأحداث و من الناس، فالاحداث متتالية متتابعة و الناس لا تسمع و لا تطيع فأخذت هذه من نفسه فراح يشرح لرسول اللّه ما جرى و يبثه الشكوى بحرارة.. و يستمع الرسول و هو لا شك متأثر حزين فيقول له: ادع عليهم.

فينطلق لسان الإمام من عذاباته و جراحاته و عمق مأساته فلا يجد إلا هذا الدعاء يطلب فيه أن يبدله اللّه أصحابا خيرا من أصحابه الذين عصوه و تمردوا على رأيه و عاندوه و رفضوا كل عروضه التي فيها عزتهم و كرامتهم و مقامهم الرفيع كما دعا عليهم أن يبدلهم شرا منه و هو لا شر فيه و لكن بنظرهم أنه يوردهم موارد الحرب و القتال و هم لا يريدون ذلك و قد استجاب اللّه دعاءه فأبدله منهم مرافقة النبي محمد و آله و الشهداء و الصالحين كما أبدلهم به و لاة ظلمة ما رسوا عليهم أبشع صور الاضطهاد و القهر فكان معاوية الطاغية و حكام بني أمية و أزلامهم من الحجاج و ابن زياد و المغيرة بن شعبة فأذاقوهم المرارات و أكلوا لحومهم و هم أحياء..

ص: 415

71 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذم أهل العراق و فيها يوبخهم على ترك القتال و النصر يكاد يتم، ثم تكذيبهم له أمّا بعد يا أهل العراق، فإنّما أنتم كالمرأة الحامل (1)، حملت فلمّا أتمّت (2) أملصت (3) و مات قيّمها (4)، و طال (5) تأيّمها (6)، و ورثها أبعدها.

أما و اللّه ما أتيتكم اختيارا؛ و لكن جئت إليكم سوقا (7). و لقد بلغني أنّكم تقولون: عليّ يكذب، قاتلكم اللّه تعالى! فعلى من أكذب ؟ أعلى اللّه ؟ فأنا أوّل من امن به! أم على نبيّه ؟ فأنا أوّل من صدّقه! كلاّ و اللّه، لكنّها لهجة (8) غبتم عنها، و لم تكونوا من أهلها، ويل امّه (9) كيلا (10) بغير ثمن! لو كان له وعاء (1). «و لتعلمنّ نبأه بعد حين».

اللغة

1 - الحامل: الحبلى و الحمل بتسكين الميم ما في البطن من ولد.

2 - أتمت: أكملت.

3 - أملصت: المرأة ألقت ولدها سقاطا.

4 - القيم: المتولي على الشيء و قيّم المرأة زوجها.

5 - طال: نقيض قصر، امتد و استمر.

6 - التأيم: من لا زوج له امرأة أم رجلا.

7 - السوق: الاضطرار.

8 - اللهجة: اللسان، الكلام.

9 - ويل أمه: في الأصل كلمة دعاء عليه و لكن تستعمل في مقام المدح أو استعظام الأمر.

ص: 416

10 - الكيل: آلة يكال بها مقابلة للموازين.

11 - الوعاء: ما يجمع فيه الشيء و يحفظ.

الشرح

(أما بعد يا أهل العراق فإنّما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت و مات.

قيّمها و طال تأيمها و ورثها أبعدها) في صفين لاح النصر للإمام بل لم يبق بينه و بين الوصول إليه مقدار عدو الفرس حتى وصل الأمر بمعاوية أن وضع رجله في ركاب فرسه و همّ بالفرار في تلك الأثناء ترفع المصاحف و يدعو أهل الشام بخدعة عمرو بن العاص أنهم يحتكمون إليها و عرف الإمام و بعض أصحابه ذلك و لكن كثيرا من جنده لم يقف على الخدعة فاستجاب للنداء و أجبر الإمام على التحكيم و قد خطب الإمام فيهم و نبههم إلى ذلك و لكنهم لم يسمعوا له و لم يطيعوا له أمرا فعزّ عليه أن يفوت النصر منه و بقيت غصة في حلقه يرددها لأهل العراق و يبيّن حالهم و ما هم عليه من الخسارة و ما أصابهم من الهزيمة جراء مخالفة أمره...

و قد شبههم هنا بالمرأة الحامل التي فرحت بحملها و استبشرت به فلما أتمت أشهر الحمل و أشرفت على الوضع أسقطت مولودها ميتا بضربة أو لطمة أو حادثة فانقلب ذلك الفرح إلى حزن و ألم ثم مات بعلها الذي كان يتولى شئونها و كفالتها فازداد حزنها و همها و كبرت مصيبتها و بقيت هكذا بدون خاطب حتى ماتت فورثها البعيد عنها الذي لا صلة له قريبة معها و هكذا كان فقد أشبهوا المرأة الحامل بأنهم كانوا على أتم الاستعداد و على أكمل عدة و أشبهوا إتمام حملها بمشارفتهم للنصر و اقتطاف ثمرته و أشبهوا إملاصها بتراجعهم عن القتال و قبول التحكيم، و ذلك رجوع غير معقول و ليس طبيعيا كما إن الاسقاط غير طبيعي من المرأة ثم شبّه عصيانهم له بموت قيم المرأة فكما أنها تفقد الراعي و القائم بالشؤون كذلك هو قد فقد ذلك بعصيانهم له و أخيرا أشبهوا المرأة التي فقدت الولد و الزوج و ورثها عند موتها البعيد كذلك هم فقد ملكهم من هو بعيد عنهم و من لا يستحق الخلافة أبدا و لا تحل له بوجه فقد حرم النبي الخلافة على الطلقاء و قال:

لا تحل الخلافة لطليق و معاوية واحد منهم...

(أما و اللّه ما أتيتكم اختيارا و لكن جئت إليكم سوقا) لم يأت الإمام إلى العراق و لم ينزل بأرضها اختيارا فقد عاش في المدينة المنورة و إلى جوار قبر الرسول طيلة حياته و لم يغادرها إلا عند ما خرج لقتال أهل الجمل و معاوية فاتخذ الكوفة مقرا لحكمه لقربها من

ص: 417

معاوية و لأن بها من أنصاره كثرة.. لقد جاءت به الأقدار و أحكام الاضطرار و قد ساق لهم ذلك ليبيّن كراهته للقيام بينهم و عدم محبته لهم...

(و لقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب قاتلكم اللّه تعالى فعلى من أكذب ؟ أعلى اللّه ؟ فأنا أول من آمن به! أم على نبيه ؟ فأنا أول من صدقه كلا و اللّه) خلق علي لغير زمانه و بدل أن يختلفوا إليه اختلفوا فيه، لم يعرفه أقرب الناس إليه حق معرفته، ضل فيه أناس فعبدوه لما وجدوا منه ما يعجز البشر و يفوق طاقتهم و قد كفره آخرون و كذبوه لأن عقولهم لم تقدر على استيعاب ما يعمل و يقول و بين هذا و ذاك بقي علي مجهول القدر و إلى يومنا هذا لم يعط حقه و لم يدرك قعره و لم تعرفه الأمة أو تقف على كنهه...

كان الإمام قد تلقى العلم عن النبي (صلی الله علیه و آله) و قد وقف منه على ما كان و ما يكون و ما يجري عليه و على الأمة و ما سيجري من أحداث و قضايا فكان يخبر بها أصحابه و أتباعه فتنطلق الأفواه الكاذبة المكذبة لترميه بما هو برىء منه و بعيد عنه.. رموه بالكذب و وصلت أنباء تكذيبه إليه فكانت هذه الكلمات بما تحوي من مرارة و بيّن كذب مقالتهم و بطلانها...

أبعدكم اللّه عن رحمته لأنكم لم تحفظوا حق اللّه في عبده حيث كذبتموني بدون حجة.

و بيّن هل يكذب على اللّه فهو أول من آمن باللّه و من كان السابق إلى الإيمان لا ينقض إيمانه و يبطله..؟ أم على رسول اللّه و هو أول من صدق و آمن به رسولا و نبيا فلن يكون مكذبا له أو كاذبا عليه إذن كلا لم تصدق دعواكم إني أكذب فيما أخبر و أقسم باللّه على بطلانها و بطلان ما يدعون عليه من أنه يكذب تأكيدا لقوله.

(لكنها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها ويل أمه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء و لتعلمن نبأه بعد حين) أوضح سبب تكذيبهم له بأنهم لم يفهموا ما يقول لأن عقولهم لا تدرك ما يخبر به و لم تقف على تحليله و معرفته لنقصانها و قصورها.. أو أن ما وصل إليه عن النبي كانوا في غياب عنه و لم يكونوا من أهله و من أهل معرفته...

ثم قال لذلك المكذب ويل أمه و هو تعجب منه أو دعاء عليه فليأخذ ما أعطيه فإنه بغير ثمن و ليستمع لما أقول فإنه ليس في مقابله شيء إنني ألقيه فليستمع إليه و لينصت و لكن من أين آتي بالقلوب القابلة المستجيبة التي تسمع و تعي ما أقول.

و سيأتي بعد مدة أنباء ما أخبركم به بعد رحيلي عنكم و استيلاء معاوية على الحكم فإنكم ستبتلون بأشد المحن و أقسى العذاب...

ص: 418

72 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى اللّه عليه و آله و فيها بيان صفات اللّه سبحانه و صفة النبي و الدعاء له

صفات اللّه

اللّهمّ داحي (1) المدحوّات (2)، و داعم (3) المسموكات (4)، و جابل (5) القلوب على فطرتها (6): شقيّها و سعيدها.

صفة النبي

اجعل شرائف (7) صلواتك، و نوامي (8) بركاتك، على محمّد عبدك و رسولك الخاتم لما سبق (9)، و الفاتح لما انغلق (10)، و المعلن (11) الحقّ بالحقّ ، و الّدافع جيشات (12) الأباطيل (13)، و الدّامغ (14) صولات (15) الأضاليل (16)، كما حمّل فاضطلع (17)، قائما بأمرك، مستوفزا (18) في مرضاتك، غير ناكل (19) عن قدم (20)، و لا واه (21) في عزم، واعيا لوحيك (22)، حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك؛ حتّى أورى (23) قبس القابس (24)، و أضاء الطّريق للخابط (25)، و هديت به القلوب بعد خوضات (26) الفتن (27) و الآثام (28)، و أقام بموضحات (29) الأعلام (30)، و نيّرات (31) الأحكام، فهو أمينك المأمون، و خازن علمك المخزون (32)، و شهيدك (33) يوم الدّين (34)، و بعيثك (35)، بالحقّ ، و رسولك إلى الخلق.

ص: 419

الدعاء للنبي

اللّهمّ افسح (36) له مفسحا في ظلّك (37)؛ و اجزه (38) مضاعفات الخير (39) من فضلك. اللّهمّ و أعل على بناء البانين بناءه، و أكرم لديك منزلته، و أتمم له نوره، و اجزه (40) من ابتعاثك له مقبول الشّهادة، مرضيّ ، المقالة، ذا منطق عدل، و خطبة فصل. اللّهمّ اجمع بيننا و بينه في برد العيش (41) و قرار النّعمة (42)، و منى الشّهوات (43)، وّ أهواء اللّذّات، و رخاء (44) الّدعة (45)، و منتهى الطّمأنينة، و تحف (46) الكرامة.

اللغة

1 - داحي: باسط.

2 - المدحوات: المبسوطات و هي الأرضون.

3 - داعم: حافظ الشيء بالدعامة و هي ما يستند به فيمنع المسند من الوقوع.

4 - المسموكات: هي السماوات و المسموك هو المرفوع.

5 - الجابل: الخالق و جبلة الإنسان خلقته.

6 - الفطرة: الخلقة التي يولد عليها الإنسان قبل أن تتلاعب به الأهواء و الآراء.

7 - الشرائف: جمع شريفة.

8 - نوامي: زوائد.

9 - الخاتم لما سبق: الختم الطبع و الأقفال و ما سبق هم الأنبياء.

10 - انغلق: من الغلق و هو الإقفال.

11 - المعلن: المظهر.

12 - جيشات: جمع جيشة من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها.

13 - الأباطيل: جمع باطل إذا فسد و سقط حكمه.

14 - الدامغ: من دمغه إذا شجّه حتى بلغت الشجة الدماغ.

15 - صولات: جمع صولة و هي السطوة.

16 - الأضاليل: جمع ضلال و هو الانحراف.

17 - اضطلع: بالأمر نهض به قويا و الضلاعة القوة.

ص: 420

18 - مستوفزا: مسرعا.

19 - ناكل: ناكص، متأخر.

20 - القدم: المشي إلى الحرب.

21 - الواهي: الضعيف.

22 - واعيا لوحيك: فاهما و حافظا.

23 - أورى: ورى الزند إذا أخرج ناره.

24 - و القبس: شعلة من النار و القابس هو الذي يطلب النار.

25 - الخابط: الذي يسير ليلا على غير جادة واضحة.

26 - خوضات: جمع خوضة و هي المرة الواحدة و خضت الماء دخلت فيه.

27 - الفتن: مفردها فتنة و هي الضلال و الكفر.

28 - الآثام: المعاصي.

29 - الموضحات: جمع موضحة و هي التي توضح الأمور و تكشفها.

30 - الأعلام: جمع علم و هو ما يستدل به على الطريق كالمنار و نحوها.

31 - نيرات: ذوات النور.

32 - المخزون: المحفوظ.

33 - شهيدك: شاهدك.

34 - يوم الدين: يوم الجزاء و الحساب.

35 - بعيثك: مبعوثك فعيل بمعنى مفعول.

36 - أفسح له: وسع له.

37 - أظل اللّه: بره و خيره و عطاياه.

38 - أجزه: من الجزاء و هو الأجر و المكافأة.

39 - مضاعفات الخير: أطواره و درجاته.

40 - المقالة: الكلام، و الحجة.

41 - برد العيش: لا نزاع فيه و لا خصام.

42 - قرار النعمة: مستقرها.

43 - منى الشهوات: ما تتعلق به الأماني من الشهوات.

44 - الرخاء: سعة الحال.

45 - الدعة: السكون و الطمأنينة.

46 - التحف: جمع تحفة ما يكرم به الإنسان من البر و اللطف.

ص: 421

الشرح

(اللهم داحي المدحوات و داعم المسموكات و جابل القلوب على فطرتها شقيها و سعيدها) في هذه الخطبة تمجيد للّه و بيان لعظيم قدرته و هذه مقدمة يدخل منها الإمام إلى الدعاء للنبي و بأنواع الأدعية التي يتصورها له.

دعاء للّه بصيغة اللهم و ذكر بعض صفاته العظيمة التي فيها آيات لأولي الألباب إنه سبحانه باسط الأرضين لتستقر عليها الأحياء و الحياة و بسطها باعتبار ما يتراءى للناظر قال تعالى: «وَ اَللّٰهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِسٰاطاً» و رافع السماوات بدعائم قدرته و ما خلقه من الجاذبية و خالق القلوب الشقية و السعيدة و معطيها الاستعداد لكل منهما و تارك الاختيار لها لتتحمل المسئولية عن الهدى و عن الضلال كما قال تعالى: «وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ » طريق الخير و طريق الشر و قد بيّن اللّه كل طريق و أظهر معالمه و أبان حدوده و رسم صورته و دعى الناس إلى طريق الخير و أظهر لهم محاسنه و عواقبه و نتائجه كما بين طريق الشر و أظهر معايبه و عواقبه و مخازيه...

(اجعل شرائف صلواتك و نوامي بركاتك على محمد عبدك و رسولك) بعد أن دعى اللّه بهذه الصفات الخاصة به ذكر المدعو له و هو النبي و سأله سبحانه أن يجعل أشرف رحماته و أعظمها و أكثرها عليه...

ثم وصف النبي بهذه الأوصاف الكريمة التي يستحق بها هذا التفضيل و هذه البركات و الرحمات و هي كونه عبد اللّه و العبودية للّه صفة مدح كريمة وصف بها اللّه نبيه حيث قال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...» و هي من منظور إسلامي تعني التحرر من كل العبوديات الأخرى، من كان عبدا للّه يتحرر من عبودية المادة و الحكم و السلطان و المال و الشهوة و كل الدنيا و ما فيها و بذلك يقترب من اللّه و يكون معه في كل حركاته و سكناته و يتحول نظره إلى إرادة اللّه و حكمه و لا يخرج عن أمره و نهيه فيرفض الآلهة البشرية و الوثنية المادية و المعنوية...

و وصفه أيضا بأنه رسول اللّه و هذه مرتبة لم يبلغها إلا من طابت طينته و طهر عنصره و نقى قلبه فعرف اللّه منه ذلك فأفاض عليه بركاته و اختصه برسالته يؤدي للناس عنه خطابه و يبلغهم مراده.. قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ » .

(الخاتم لما سبق و الفاتح لما انغلق) فقد كان هناك أنبياء، قافلة ابتدأت بأبينا آدم

ص: 422

و استوعبت ابراهيم و نوح و لوط و شعيب و غيرهم من الأنبياء كموسى و عيسى و لكن هذه القافلة المباركة ختمت بمحمد فلا رسول و لا نبي إلى البشرية بعده.. إنه اللبنة الأخيرة في بناء الأنبياء و رسالته الإسلامية هي الأطروحة الأخيرة التي تستوعب الحياة فتخطط لمسيرة هذا الإنسان قبل مولده و إلى ما بعد الموت و على أساسها تحل كل مشاكل الحياة و ما يعترض سبيل هذا الإنسان...

ففي حين كان الأنبياء قبله يأتون من قبل اللّه بوصفات تعالج أمراض أممهم المؤقتة جاءت رسالة الإسلام لتعالج أمراض الأحياء على امتداد الحياة ما كان منها و ما سيكون و إلى آخر الدنيا...

و كذلك رسول اللّه هو الذي فتح أبواب الهدى بعد أن أغلقتها الجاهلية بغبائها و ظلمها و هو الذي فتح أبواب الجنة بعد أن كانت الجاهلية قد أغلقتها بشركها و إلحادها و كفرها...

(و المعلن الحق بالحق، و الدافع جيشات الأباطيل و الدامغ صولات الأضاليل) و هذه من صفات رسول اللّه أنه أظهر الحق و هو الإسلام بالبراهين و البينات المحقة الصادقة التي لا التواء فيها و لا تزوير و قيل أظهر الحق بالحرب المشروعة و هي أيضا تدخل تحت الأولى لأنها إحدى الأدلة التي لا يفهم بعض الناس إلا لغتها فتكون حقا ضروريا...

و كذلك دفع ثوران الأباطيل حيث كان الناس في الجاهلية يعيشون حالة كبيرة من الانحرافات سواء كان على المستوى الفكري أم على المستوى الاجتماعي فهناك الاسفاف في الفكر من عبادة غير اللّه و التوجه إلى الأصنام و الأوثان كما إن هناك الغارات و الحروب و الاعتداء و الظلم...

فعند ما جاء النبي دفع هذه الأباطيل و قضى عليها بإعادة الفكر إلى مقامه و بتشريع الإسلام في كل مجالات الحياة...

و كذلك قد أهلك المتوثبين إلى الانحراف فبعثته الشريفة كانت إذانا بإعدام الباطل و زواله من الوجود...

(كما حمل فاضطلع) فقد حملّه الرسالة فحملها و كان قويا قادرا على ذلك فصل عليه على مقدار ما يناسب هذه القوة في حملها...

(قائما بأمرك مستوفزا في مرضاتك) حاملا رسالتك مع ما فيها من التكليف

ص: 423

و المشقة إذ هي أداة التغيير و وسيلة الصياغة للإنسان من جديد.

مستعجلا في القيام بكل ما يرضيك من فعل الواجبات و ترك المحرمات و القيام في هداية الناس و إرشادهم و قد كان النبي يحرص أشد الحرص في الدعوة إلى اللّه و من أجل هداية الناس...

(غير ناكل عن قدم) لم يتأخر عما يجب أن يتقدم نحوه من جهاد و تبليغ و إرشاد فقد كان أشجع البرية و أشدها جرأة و إقداما و كيف لا يكون كذلك و قد واجه العرب بل العالم كله وحيدا منفردا...

(و لا واه في عزم) فما يعتقده كان قويا فيه لا يضعف عنه و لا يتردد فيما أخذه فيه من قرار...

(واعيا لوحيك) حافظا وفاهما لما أوحيت به إليه و الرسول هو المبيّن للمبهمات، المفصّل للمجملات و قد فسر للمسلمين كتاب اللّه و بيّن لهم أحكامه و أوضح لهم ما ورد فيه...

(حافظا لعهدك) و قد أخذ اللّه على الأنبياء حمل الرسالة و أداء الأمانة و قد قام النبي بذلك فحملها و بلغها للناس و لم يترك شاردة أو واردة، صغيرة أو كبيرة إلا و قد أبلغها لهم حتى قال: ما من شيء يقربكم من الجنة إلا و قد أمرتكم به و ما من شيء يبعدكم عن النار إلا و قد نهيتكم عنه...

(ماضيا على نفاذ أمرك) مجدا مجتهدا في سبيل تحقيق ما أمرت و إدراك ما طلبت و قد كان يتعب نفسه و يجهدها و يحملها على كل صعب و عسير من أجل حمل الناس على الإيمان و الالتزام و طاعة الرحمن.

(حتى أورى قبس القابس) من كان يطلب الهداية و يبحث عنها فقد هداه و فتح أمامه أبواب النجاة، لقد حرك العقول من مكامنها و بيّن لها طريق رشدها، لقد فجر العلوم و حرك العواطف و النفوس فأخذت تعرف طريق الحق و تقتبس من علوم محمد و أنواره ما يضيء لها الطريق و يوصلها إلى جنة النعيم...

(و أضاء الطريق للخابط) فقد كان هناك من يطلب الحق و يبحث عنه و ينشده و لكن كانوا لا يعرفون الطريق إليه أو كيفية الوصول فجاء الرسول صلوات اللّه عليه و على آله فبيّن الحق و أوضح الطريق و دل الناس على كل نافع و مفيد، لقد أضاء ببيانه و كلامه الطريق الموصل إلى الجنة...

ص: 424

(و هديت به القلوب بعد خوضات الفتن و الآثام) بعد أن عاش الناس في اضطراب اجتماعي و ثارت فيهم الفتن و انتشرت المعاصي و كانوا يتقلبون في الحرام و يعيشون الحرام و لا يتورعون عن الحرام بعد هذا جاء النبي فهداهم إلى الحق و ردهم إلى العدل و وجههم للإيمان باللّه و العمل بأمره و البعد عن معصيته و نهيه...

(و أقام بموضحات الاعلام و نيرات الأحكام) بيّن الحجج الواضحة التي تقود إلى الحق و تأخذ بيد الناس إلى شاطىء السلامة كما أظهر الأحكام الشرعية و القوانين الإلهية التي ظهر حسنها و بان فضلها و عرف العالم فوائدها و نفعها...

(فهو أمينك المأمون) محمد هو الأمين قبل نبوته حتى أطلق عليه قومه ذلك و هو الأمين المأمون الذي لا يخون - بزيادة أو نقيصة - على وحي اللّه و حكمه بعد بعثته...

(و خازن علمك المخزون) فعند محمد من علم اللّه و أسراره ما ليس عند أحد من البشر لا نبي مرسل و لا ملك مقرب...

(و شهيدك يوم الدين) هو الذي يشهد يوم القيامة للمطيعين كما يشهد على العاصين، و يشهد أنه بلغ الرسالة و أدى الأمانة..

(و بعيثك بالحق) مبعوثك الذي أرسلته بالدين الحق الذي لا باطل فيه و من كان معه الحق وجب متابعته و التزام أمره.

(و رسولك إلى الخلق) أرسله اللّه إلى الناس ليعملوا بأمره و يؤدوا ما وجب عليهم بحكمه...

(اللهم أفسح لهم مفسحا في ظلك) أراد عليه السلام أن يختم خطبته بما هو مطلوب من الدعاء و قد طلب للنبي هذه الخيرات و البركات أن يوسع له من رحمته و إحسانه فإن الظل كناية عن الرحمة و العطايا و النعمة...

(و أجزه مضاعفات الخير من فضلك) أعطه يا رب على ما كان من الخيرات على يديه أضعافا مضاعفة من فضلك لأن كل ما نحن فيه ببركاته و كرمه...

(اللهم و اعل على بناء البانين بناءه) اللهم ارفع منزلته فوق كل منازل الأنبياء و اجعل دينه ظاهرا على الأديان كلها فإن كل ما بناه الأنبياء مؤقت و أما ما بناه النبي و نشره من الإسلام فهو الباقي ببقاء الدنيا...

(و أكرم لديك منزلته) اجعله قريبا منك في ظلال رحمتك، في أكرم المنازل و أفضلها.

ص: 425

(و أتمم له نوره) أما في الدنيا فأن يظهر دينه على الأديان كلها حتى لا يبقى إلا المسلم الموحد الذي يرفع شعار الإيمان باللّه و بمحمد و أما في الآخرة فأن يجعل له النور الكاشف الذي يسير بنوره المؤمنون...

(و اجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة) دعاء للّه أن يعطي النبي أجر ما كان من بعثته و جهاده و أتعابه أن يعطيه قبول الشهادة على من أراد خلاصه من النار و قبول الشهادة على كل أمر أراده.

(مرضي المقالة) و أن يرضى اللّه قوله و الرسول لا يقول إلا الحق و إلا ما يرضي اللّه.

(ذا منطق عدل و خطبة فصل) حال كون كلامه عدل لا ظلم فيه، و فيه الفصل بين الحق و الباطل و هذه كلها طلبات لزيادة شرفه و مقامه و هو صلى اللّه عليه و آله كذلك و لكن واجب الدعاء و الوفاء و تحصيل الأجر يقتضي هذا المقال...

(اللهم أجمع بيننا و بينه في برد العيش و قرار النعمة و منى الشهوات و أهواء اللذات) سأل اللّه أخيرا أن يجمع بينه و بين الرسول في هذه الأمور الطيبة المطلوبة و الأشياء المحبوبة المرغوبة سأل اللّه أن يجمع بينه و بين الرسول في برد العيش و هي الجنة و نعيمها التي لا تعب فيها و لا نصب و برد العيش عند العرب أي الحالة التي لا حرب فيها و لا نزاع...

و أن يكون و الرسول في قرار النعمة و هي النعمة المستقرة التي لا تزول و هي الجنة و نعيمها.

(و منى الشهوات و أهواء اللذات) ما تتمناه شهوات الإنسان و ترغب فيه و تهواه و تحبه من الملذات من حور و قصور و بناء دور...

(و رخاء الدعة و منتهى الطمأنينة و تحف الكرامة) أن يكون هناك في سكون و هدوء ناعم واسع و اطمئنان في غاية الاطمئنان حيث السلامة من كل آفة و عاهة و عيب مع الاكرام بنفائس الكرامة في دار المقامة... حيث لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر..

ص: 426

73 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله لمروان بن الحكم بالبصرة قالوا: أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل، فاستشفع الحسن و الحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فكلماه فيه، فخلى سبيله، فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام:

أ و لم يبايعني (1) بعد قتل عثمان ؟ لا حاجة لي في بيعته! إنّها كفّ يهوديّة (2)، لو بايعني بكفّه لغدر (3) بسبّته (4). أما إنّ له إمرة (5) كلعقة (6) الكلب أنفه، و هو أبو الأكبش (7) الأربعة، و ستلقى الأمّة منه و من ولده يوما أحمر!.

اللغة

1 - البيعة: عهد تعطيه الرعية بمتابعة الراعي و نصرته.

2 - كف يهودية: غادرة.

3 - غدر: لم يف.

4 - السبة: الاست.

5 - الإمرة: الولاية.

6 - اللعقة: اللحسة.

7 - الأكبش: مفرده كبش و هو الرئيس و في الحيوان الحمل إذا أثنى و قيل إذا أربع.

الشرح

اشارة

الحكم بن أبي العاص والد مروان كان من أشد أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) لعنه الرسول ثم غرّبه إلى الطائف و قال: لا يساكنني و ولده و بقي هناك طيلة خلافة أبي بكر و عمر فلما

ص: 427

ولي عثمان ردهم و أكرمهم عصيانا لرسول اللّه و مخالفة لعمل الخلفاء قبله و لم يكتف بذلك بل قرّب مروان و جعله وزيره و مستشاره و موضع سره فأخذ يقوده كما أراد و يوجهه حيث شاء حتى أضحى مروان هو الخليفة و لكن في ثوب عثمان و قد كانت أحداث و قضايا كان مروان قطب رحى فتنتها حتى قضى على عثمان و لما قتل هرب مروان مع أنهم كانوا يحرصون على قتله و يؤكدون على تسلمه للاقتصاص منه و لما كانت معركة الجمل كان مع عائشة يقود الجمل الملعون و وقع أسيرا فأخذ إلى أمير المؤمنين فكانت هذه الكلمة الصادقة في حق مروان الحاكية لواقعه...

(أ و لم يبايعني بعد قتل عثمان ؟) نعم لقد بايع و لكنه عاد فنكث البيعة و غدر ثم قام مع الناكثين بمحاربته.

(لا حاجة لي في بيعته) تصغيرا له و تقليلا لأهمية بيعته و إنها كعدمها لا تزيد قوة و لا تعطي دعما و قد بيّن أسباب عدم الحاجة إلى بيعته أيضا بقوله...

(إنها كف يهودية) أي غادرة لا تفي ببيعة و لا تلتزم بعهد و الغدر من صفات اليهود على امتداد التاريخ و في كل زمان و مكان و على كل المستويات...

(لو بايعني بكفه لغدر بسبته) و هذا كناية عن أنه سيغدر سرا و يكيد و لو بموضع عورته و ما لا يجوز في عرف الناس أن يسلكوه...

(أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة و ستلقى الأمة منه و من ولده يوما أحمر) و هذا أخبار منه عن أمر مجهول في زمانه صدقه الواقع بعد ذلك و يتضمن أمورا و هي:

1 - إن مروان سيتولى الأمور و لكن مدة إمارته لقصرها و تفاهتها و قلتها عبّر عنها بلعقة الكلب أنفه فإن الكلب إذا لحس أنفه فعلى العادة لا يستفيد منها شيئا ثم لقربه عبر بقلة المدة.

و قد صدق الإمام فيما أخبر فقد حكم مروان بعد معاوية بن يزيد و قالوا إن مدة خلافته تسعة أشهر على أكثر التقادير و إن ذهب بعضهم إلى أنها أربعة أشهر.

2 - أخبر أنه والد الأكبش و هم الرؤساء و الحكام الأربعة و قالوا أنهم أولاد ابنه عبد الملك و هم الوليد و سليمان و يزيد و هشام و لم يل الخلافة من بني أمية و لا من غيرهم أربعة إخوة إلا هؤلاء و قال ابن أبي الحديد بعد ذكر ما تقدم و عدم رضاه به «و عندي أنه يجوز أن يعني به بني مروان لصلبه و هم: عبد الملك و عبد العزيز و بشر و محمد و كانوا

ص: 428

كباشا أبطالا أنجادا أما عبد الملك فقد ولي الخلافة و أما بشر فولي العراق و أما محمد فولي الجزيرة و أما عبد العزيز فولي مصر و على كل حال سواء كان الأول هو الصحيح أو الثاني فلعن اللّه مروان و أبناءه و والد و ما ولد فإنهم أسوأ من جاء إلى الحكم و أشدهم ضررا على الإسلام...

3 - أخبر عليه السلام بما سيجري على أيديهم من سفك الدماء و ما سيصيب الأمة منهم من بلاء و فتنة و قتل و تشريد و من رجع إلى تاريخهم الأسود وقف على المخازي و المآسي و ما نال الأمة من البلاء و العناء..

ترجمة الحكم بن أبي العاص:

الحكم بن أبي العاص و هو عم عثمان بن عفان كان من مسلمة الفتح و من المؤلفة قلوبهم كان(1) خصّاء يخصي الغنم، كان جارا للنبي بمكة و من أولئك الأشداء عليه المبالغين في إيذائه شاكلة أبي لهب كما قال ابن هشام في سيرته.

غرّبه النبي عن المدينة إلى الطائف و قال: لا يساكنني و لا ولده...

و اختلف في سبب نفيه و تغريبه كما ينقل ذلك الرواة فقد قالوا أنه كان يتحيل و يستخفى و يسمع ما يسره النبي إلى أكابر الصحابة في مشركي قريش و المنافقين و يفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عنه.

و قيل كان يتجسس على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و هو عند نسائه و يسترق السمع و يصغي إلى ما لا يجوز.

و قيل كان يحكي النبي في مشيته و قد رآه مرة يحكيه كذلك فقال له: كذلك فلتكن يا حكم فكان مختلجا يرتعش من يومئذ..

و قد لعنه رسول اللّه و روى عن عائشة أنها قالت لمروان «فاشهد أن رسول(2) اللّه صلى اللّه عليه و آله لعن أباك و أنت في صلبه».

و قال البلاذري في الأنساب:

إن الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول اللّه في الجاهلية و كان أشد جيرانه أذى

ص: 429


1- حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 194 نقلا عن الغدير.
2- ابن أبي الحديد ج 6 ص 150.

له في الإسلام و كان قدومه المدينة بعد فتح مكة و كان مغموصا عليه في دينه فكان يمر خلف رسول اللّه فيغمز به و يحكيه و يخلج بأنفه و فمه و إذا صلى قام خلفه فأشار بأصابعه فبقى على تخليجه و أصابته خبلة و اطلع على رسول اللّه ذات يوم و هو في بعض حجر نسائه فعرفه و خرج إليه بعنزة (عصا) و قال: من عذيري من هذا الوزغة اللعين ثم قال: لا يساكنني و لا ولده فغربهم جميعا إلى الطائف فلما قبض رسول اللّه كلّم عثمان أبا بكر فيهم و سأله ردهم فأبى ذلك و قال: ما كنت لآوي طرداء رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ثم لما استخلف عمر كلّمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر» انتهى..

فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة و قد دخلها الحكم و هو يلبس فزر خلق و يسوق تيسا و الناس ينظرون إليه و إلى سوء حاله و حال من معه حتى دخل دار الخلافة ثم خرج و عليه جبة خز و طيلسان...

و قد كان رده أحد الأسباب التي أوجبت النقمة على عثمان كما أن إعطاؤه صدقات قضاعة التي بلغت ثلاثماية ألف درهم و هبة من الأسباب التي أوجبت نقمة الناس على عثمان.

توفي الحكم في خلافة عثمان قبل قتل بشهور.

ترجمة مروان بن الحكم:

مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف و أمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية الكناني يكنى أبا عبد الملك.

ولد على عهد رسول اللّه سنة اثنتين من الهجرة و قيل عام الخندق و قيل يوم أحد.

و نفي مع أبيه إلى الطائف و كان طفلا لا يعقل و لم ير رسول اللّه فلم يزل بها حتى ولي عثمان فرده إلى المدينة فقدمها مع أبيه.

و كان مروان يدعى خيط باطل لأنه كان طويلا مضطربا تزوج أم أبان بنت الخليفة عثمان فكان صهره و ابن عمه فاستولى عليه و وجهه كيف شاء.

مارس مروان الخلافة و الحكم في عهد عثمان فكان هو الخليفة و لكن في ثوب عثمان و قد مارس الظلم و الانحراف و قاد الخليفة عثمان إلى الخطيئة و المعصية و الانحراف عن سنة النبي و سنة من تقدمه من الخلفاء و قد كانت الثورة تكاد تهدأ عند ما يعطي عثمان من نفسه و يرجع فيعود مروان فيلويه عن رأيه و يحرفه عن قصده و بقي هكذا حتى قضى عليه..

ص: 430

ثم هرب من وجه العدالة إلى مكة و التحق بأم المؤمنين عائشة و قاد جملها إلى البصرة حيث كان مع الناكثين في حرب الإمام و قد وقع أسيرا فعفى عنه الإمام و خلى سبيله فارتحل إلى معاوية و بقي هناك حتى تم الصلح بين الإمام الحسن و معاوية و تولى الحكم فولى مروان المدينة ثم جمع له مكة و الطائف...

و بعد فترة عزله و ولى سعيد بن العاص فلما مات يزيد بن معاوية و تولى ابنه معاوية فلم يدم في الحكم إلا أربعين يوما و مات فقالت له أمه أم خالد اجعل الخلافة من بعدك لأخيك فأبى و قال: لا يكون لي مرّها و لكم حلوها...

ثم إن مروان وثب على الخلافة و قد بايعه الأمويون و انتصر على الضحاك و استقر في الشام و قد كانت الخلافة بعده إلى خالد بن يزيد بن معاوية فلما استقر به الأمر أراد أن يبايع لولديه عبد الملك و عبد العزيز فاستشار في ذلك فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد ليصغر من شأنه فلا يرشّح للخلافة فتزوجها..

ثم قال لخالد يوما في كلام دار بينهما و المجلس غاص بأهله اسكت يا ابن الرطبة الاست.

فقال خالد: أنت لعمري مؤتمن و خبير.

ثم قام باكيا من مجلسه و كان غلاما حينئذ فدخل على أمه فأخبرها.

فقالت له: لا يعرفن ذلك فيك و اسكت فأنا أكفيك أمره فلما دخل عليها مروان قال لها: ما قال لك خالد.؟ قالت: و ما عساه يقول ؟.

قال: لم يشكني إليك ؟.

قالت: إن خالدا أشد اعظاما لك من أن يشكيك فصدقها ثم مكثت أياما فنام عندها و قد واعدت جواريها فقمن إليه فجعلن الوسائد و البراذع عليه و جلسن عليه حتى خنقنه و ذلك بدمشق في رمضان و عاش في الخلافة تسعة أشهر و قيل عشرة.

ص: 431

74 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

لما عزموا على بيعة عثمان لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها من غيري؛ و واللّه لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين؛ و لم يكن فيها جور (1) إلاّ عليّ خاصّة، التماسا (2) لأجّر ذلك و فضله، و زهدا فيما تنافستموه (3) من زخرفه (4) و زبرجه (5).

اللغة

1 - الجور: الظلم.

2 - الالتماس: الطلب.

3 - التنافس: الرغبة في الشيء على وجه المباراة.

4 - الزخرف: أصل الزخرف هو الذهب ثم أطلق على كل مزور مموه.

5 - الزبرج: الزينة.

الشرح

اشارة

(لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري و واللّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة التماسا لأجر ذلك و فضله و زهدا فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه).

الوحدة قبل حق علي:

كان هذا الكلام منه عند ما انعقدت الشورى العمرية لاختيار الخليفة بعده و قد التقى اعضاؤها و كان الأمر يدور بين علي و بين عثمان و كان عبد الرحمن هو عرّاب تلك

ص: 432

الجلسة و مديرها و مدبر شئونها و قد كان هواه مع عثمان و قد بايعه بعد أن رفض الإمام الخلافة على شرط العمل بسيرة الشيخين...

تمت الصفقة و نجح عثمان في تولي الخلافة فوقف الإمام من هذه المبايعة موقف الرافض لها المندد بأصحابها و بيّن لهم مظلوميته و أنه أحق الناس بها من عثمان و غيره ممن ترشح لها فلما هددوه بأن يبايع و إلا قتلوه رأى من المصلحة أن يبايع فبايع كرها عنه و قال كلمته هذه..

و مفادها و مضمونها أن هذه البيعة فيها ظلم عليه خاصة لأنها حقه و هو أولى الناس بها.

و لكن طالما أن الظلم يناله خاصة فإنه يقبل و يستسلم لإصابته طالما أن أمور المسلمين سالمة لم تصب بآفة أو حدث من تمزيق لوحدة الصف و بعثرة للشمل و إدخال الوهن و الضعف على قوتهم...

و هكذا كانت نظرته صلوات اللّه عليه كان ينظر إلى وحدة المسلمين على أنها هدف مقدس لا يفرط فيه و لا يتنازل عنه و لذا كان موقفه من خلافة الخلفاء فمع بيان حقه و احتجاجه عليهم و معارضته السياسية لهم كان لا يعلن حربا و لا يسعى في فرقة بل كان يشير عليهم في كل أمر يقّوي الإسلام و يعزّزه في نظر الأعداء...

ثم بين أن تركه لطلبها و المنافسة فيها إنما يريد من ورائه الأجر و الثواب لأنه تركه من أجل اللّه و في سبيله و أيضا بيّن أنه زهدا فيما يطلبونه و يتنازعون عليه من هذه الزينة المؤقتة التي لا تبقى و لا تدوم بل هي تغر الإنسان دون فائدة أو جدوى...

قال ابن أبي الحديد:

بعد أن بايع عبد الرحمن و الحاضرون عثمان و تلكأ هو عليه السلام عن البيعة (قال): إن لنا حقا أن نعطه نأخذه و أن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى في كلام قد ذكره أهل السيرة و قد أوردنا بعضه فيما تقدم ثم قال لهم:

أنشدكم اللّه أ فيكم أحد آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بينه و بين نفسه حيث آخى بين بعض المسلمين و بعض غيري ؟.

فقالوا: لا.

فقال: أ فيكم أحد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من كنت مولاه فهذا على مولاه» غيري.

فقالوا: لا.

ص: 433

فقال: أ فيكم أحد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» غيري.

قالوا: لا.

قال: أ فيكم من أؤتمن على سورة براءة و قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري ؟.

قالوا: لا.

قال: ألا تعلمون إن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فروا عنه في مأقط (موضع القتال) الحرب في غير موطن، و ما فررت قط.

قالوا: بلى.

قال: ألا تعلمون أني أول الناس إسلاما؟.

قالوا: بلى.

قال: فأينا أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نسبا؟ قالوا: أنت.

فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه و قال: يا علي قد أبي الناس إلا عثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا.

ثم قال: يا أبا طلحة ما الذي أمرك به عمر.

قال: أن أقتل من شق عصا الجماعة.

فقال عبد الرحمن لعلي: بايع إذن و إلا كنت متبعا غير سبيل المؤمنين و أنفذنا فيك ما أمرنا به فقال: «لقد علمتم أني أحق بها من غيري و اللّه لأسلمن...» الفصل إلى آخر ثم مد يده فبايع...

ص: 434

75 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان أ و لم ينه (1) بني أميّة علمها بي عن قرفي (2)؟ أو ما وزع (3) الجهّال سابقتي (4) عن تهمتي! و لما وعظهم (5) اللّه به أبلغ من لساني. أنا حجيج (6) المارقين (7)، و خصيم (8) النّاكثين (9) المرتابين (10)، و على كتاب اللّه تعرض الأمثال، و بما في الصّدور تجازى (11) العباد!.

اللغة

1 - لم ينه: لم يزجر أو يمنع.

2 - قرفي: القرف: العيب و الاتهام.

3 - وزع: كف و ردع.

4 - سابقتي: فضيلتي و تقدمي.

5 - وعظهم: من الوعظ و هو النصح و ذكر ما يرق به القلب و يرجع إلى اللّه.

6 - الحجيج: المحاج من حج فلان فلانا إذا غلبه بالحجة.

7 - المارقين: الخارجين من الدين.

8 - الخصيم: المخاصم و المنازع و المجادل.

9 - الناكثين: أصل النكث هو النقض و صار علما على الخارجين على الإمام علي.

10 - المرتابين: المشككين.

11 - تجازى: تكافأ.

الشرح

(أو لم ينه بني أمية علمها بي عن قرفي ؟ أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي و لما وعظهم اللّه به أبلغ من لساني) كانت حجة الأمويين و على رأسهم معاوية في حرب صفين

ص: 435

دم عثمان، فقد اتهموا الإمام بأنه هو الذي قتله و أخذ معاوية و الأسرة الأموية تغذي هذه الفكرة في عقول أهل الشام و راحت تنشر قميص عثمان و تلوح به أمام الجماهير الأموية و قد كان الإمام من أكثر الناس براءة من دم عثمان فقد نصحه و وعظه و أوقفه على المحجة الواضحة و دله على الطريق المستقيم و لكنه رفض نصيحة الإمام فأجهز عليه عمله و قتله الصحابة و المسلمون لما وجدوه لا يتناه عن منكر و لا يرتدع عن حرام..

و الإمام لم يشارك في قتله و قد اتفقت كلمة المؤرخين بما فيهم مؤرخي السلطة الأموية و من لا يحب الإمام و يريده كما أن التاريخ يشهد أنه كان ينصحه و يعظه فكان يعطيه من نفسه و يقبل معه ثم يفتله مروان عن رأيه و يصرفه عما أعطى حتى قتل...

و عند ما قتل عثمان اتهمه بنو أمية و وصلت أنباء الاتهام إليه فقال هذه الكلمة الكريمة.

و مفادها أن بني أمية يعرفون مقامي و جهادي و ما قاله النبي عني و هذا يكفي أن لا أتهم في دم عثمان، فقد استفهم تعجبا من جهلهم أن يتهموه بدم عثمان و هم يعلمون مقامه في الدين يقول ابن أبي الحديد: أما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي بدم عثمان و حاله التي أشار إليها و ذكر أن علمهم بها يقتضي أن يقرفوه بذلك هي منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها و ما نطق به الكتاب الصادق من طهارته و طهارة نبيه و زوجته في قوله: (إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) و قول النبي صلى اللّه عليه و آله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى «و ذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام كما إن هارون معصوم عن مثل ذلك» انتهى.

و لا شك أن الإمام لم يشترك في دم عثمان و لكنه لم يكن غاضبا لقتله...

ثم أكد هذا المعنى بأنه ألا يردع هؤلاء الجهال سابقتي و تقدمي في الإسلام عن اتهامي بقتله.

ثم بين أنهم لن يتعظوا بكلامه و لن يعتبروا به لأنهم لم يتعظوا و يعتبروا و يعملوا بما هو أمضى حجة و أبلغ منطقا و أقوى بيانا و هو خطاب اللّه لهم حيث ينهاهم عن التهمة و ظن السوء فلم يرتدعوا أو يجتنبوا الظن فكيف يرتدعوا ببياني و منطقي...

(أنا حجيج المارقين و خصيم الناكثين المرتابين و على كتاب اللّه تعرض الأمثال و بما في الصدور تجازى العباد) بيّن قوة حجته على الذين خرجوا عن أحكام الدين باتهامه و على المشككين فيه بأنه قد شرك في دم عثمان و ذلك بما اعتمدت عليه الشريعة

ص: 436

و تبناه الدين من أن الإنسان يؤخذ بفعله أو بقوله و هذا يعرض على كتاب اللّه و فيه يؤخذ الحكم و هو صلوات اللّه عليه لم يشارك مباشرة في قتل عثمان كما أنه لم يعهد من أحد أو يدعي على أحد أنه قال اقتلوه إذا فهو برىء بحكم الشرع.

و أما أن تحاسبوه عما في نفسه و ما يحب و يكره فهذا مرده إلى اللّه و هو الذي يجازي عباده عليه و ليس للإنسان أن يشق قلوب الناس و يحاسبهم على نياتهم في دار الدنيا و لم نر أحدا من العقلاء يحاسب أحدا على نيته و ما في ضميره و إنما الحساب يجري على الأفعال و الأقوال و ما يصدر من الإنسان.

ص: 437

76 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الحث على العمل الصالح رحم اللّه امرأ (1) سمع حكما (5) فوعى (3)، و دعي إلى رشاد (4) فدنا (5)، و أخذ بحجزة (6) هاد فنجا. راقب ربّه، و خاف ذنبه، قدّم خالصا، و عمل صالحا. اكتسب مذخورا (7)، و اجتنب (8) محذورا (9)، و رمى غرضا (10)، و أحرز (11) عوضا (12). كابر هواه (13)، و كذّب مناه (14). جعل الصّبر مطيّة (15) نجاته، و التّقوى عدّة (16) وفاته. ركب الطّريقة الغرّاء (17)، و لزم المحجّة (18) البيضاء. اغتنم المهل (19)، و بادر (20) الأجل، و تزوّد من العمل.

اللغة

1 - المرء: مثلثة الميم الإنسان و يجمع على رجال من غير لفظه.

2 - حكما: حكمة.

3 - وعى: حفظ و فهم.

4 - الرشاد: الهدى و الاستقامة.

5 - دنا: قرب.

6 - الحجزة: بالضم معقد الإزار و موضع التكة.

7 - المذخور: المخبأ لوقت الحاجة.

8 - اجتنب: ترك و ابتعد.

9 - المحذور: ما يتحرز منه، الممنوع.

10 - الغرض: الهدف.

ص: 438

11 - أحرز: أصاب و جمع.

12 - العوض: البدل.

13 - كابر هواه: غالبه و عانده.

14 - المنى: الأماني الباطلة ما يتمناه.

15 - المطية: المركب.

16 - العدة: جمعها عدد الاستعداد، ما أعددته لحوادث الدهر من مال و سلاح.

17 - الغراء: النيرة الواضحة.

18 - المحجة: جادة الطريق و معظمه مقابل جوانبه و متفرعاته.

19 - اغتنم المهل: الفرصة و سعة الوقت و المهل النظرة و التؤدة.

20 - بادر: أسرع.

الشرح

(رحم اللّه امرأ سمع حكما فوعى) دعاء يراد من خلاله الترغيب في الاتصاف بهذه الأوصاف العالية و هي عشرون صفة.

أولها: أن يسمع حكمة فيقف عليها و يأخذها و يتأثر بها و يعمل بمضمونها و الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها فلا يترفع عنها أو يردها إلى أصحابها...

ثانيها: (و دعي إلى رشاد فدنا) فإذا جاء الداعي إلى الهدى و الحق و العدل و كل ما يقرب الإنسان من اللّه و من عباده اقترب منه و تقرّب إليه و عمل بمضمون ما يقول...

ثالثها: (و أخذ بحجزة هاد فنجا) فإن هناك عباد اللّه هداة يدّلون الناس على الخير و على طرق النجاة فإن كان هناك هاد فيجب التمسك به و الاعتماد على سيرته و المشي خلفه ليفوز بالسعادة و ينجو من النار...

رابعها: (راقب ربه) عاش حالة الرقابة المستمرة عليه و من عاش هذه الحالة كان من أقرب الناس إلى اللّه و أشدهم خوفا منه و أحسنهم عملا.. من عاش حالة الرقابة من اللّه عليه لم يرتكب محرما و لم يترك واجبا و كان باستمرار و في كل ما يقوم به مطيعا للّه عاملا بأمره قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : أعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

خامسها: (و خاف ذنبه) خاف من ذنوبه أن يحاسب عليها فلذا يبادر إلى منع وقوعها و إذا وقعت تداركها بالتوبة و الرجوع إلى اللّه...

ص: 439

سادسها: (قدّم خالصا) أي عمل عملا خالصا لوجه اللّه لا يشوبه رياء أو عجب أو شك.

سابعها: (و عمل صالحا) أي عمل عملا صالحا تاما غير ناقص في أصله و لا في جوانبه و هيئاته بل جاء به كما أمر اللّه بجميع شرائطه و أجزائه.

ثامنها: (اكتسب مذخورا) سعى في كسب و ربح ما يحتاج إليه يوم فقره و فاقته في الآخرة و يتجسد هذا بالعمل الصالح و تقوى اللّه...

تاسعها: (و اجتنب محذورا) ترك محرما و ممنوعا فلم يرتكب ما نهى اللّه عنه.

عاشرها: (و رمى غرضا) أصاب بأعماله ما هدف إليه من طلب الجنة و نعيمها هذا إذا كان غرضا أما إذا كان غرضا أي ترك الدنيا و ما فيها من أشياء جانبا و تخلى عنها...

حادي عشرها: (و أحرز عوضا) فعند ما طلب الآخرة بدلا عن الدنيا أدرك ذلك و أحرزه.

ثاني عشرها: (كابر هواه) خالف هواه و عانده و انتصر عليه لأن الهوى يقود الإنسان إلى النار و مخالفته تدخل الجنة.

ثالث عشرها: (و كذب مناه) ما يلقي إليه الشيطان من الأماني يكذبه بها و ينكرها عليه و لا يصدقه بها...

رابع عشرها: (جعل الصبر مطية نجاته) فمن تحلى بالصبر ظفر و ما من فرد أو أمة تمتعت بهذه الخصلة إلا نجحت في الحياة و حققت أعظم الإنجازات...

خامس عشرها: (و التقوى عدة وفاته) جعل التقوى عدته و ذخيرته و سلاحه الذي يواجه به الموت فيهون عليه ما فيه من شدائد و كرب و ما يواجهه من هول المطلع...

سادس عشرها: (ركب الطريقة الغراء) مشى على الطريقة الشرعية الواضحة بأن تعلّم أحكامها و عمل بمضمونها، ترك المشتبه به و ما فيه مظنة عدم البراءة...

سابع عشرها: (و لزم المحجة البيضاء) أي لا يفارق الطريقة الشرعية الواضحة الظاهرة لأنها طويلة تحتاج إلى نفس طويل و إلى ملازمة دائمة...

ثامن عشرها: (اغتنم المهل) عمل في أيام عمره و ما أمهله اللّه فيه فإن اللّه أعطى هذا الإنسان فرصة عمره للعمل فليغتنم هذه الفرصة و يبادر إلى طاعة اللّه و العمل الصالح ...

ص: 440

تاسع عشرها: (و بادر الأجل) سارع إلى العمل قبل حلول الموت فإنه لا يدري متى يفاجئه فيصرعه و يتوقف عندها عن العمل فليبادر بالعمل و يسبق الأجل بصالح العمل...

العشرون: (و تزود من العمل) فإن هذا العمر فرصة لا تعود مرة أخرى و بمقدار هذا الزاد ترتفع درجة المرء و تعلو رتبته...

ص: 441

77 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و ذلك حين منعه سعيد بن العاص حقه إنّ بني أميّة ليفوّقونني (1) تراث (2) محمّد صلّى اللّه عليه و آله تفويقا، و اللّه لئن بقيت لهم لأنفضنّهم (3) نفض اللّحّام الوذام (5) التّربة (6)!.

قال الشريف: و يروى «التراب الوّذمة»، و هو على القلب.

قال الشريف: و قوله عليه السلام «ليفوّقونني» أي: يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة، و هو الحلبة الواحدة من لبنها. و الوذام: جمع وذمة، و هي الحزّة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض.

اللغة

1 - ليفوقونني: ليعطونني القليل مثل فواق الناقة و هي الحلبة الواحدة من لبنها.

2 - التراث: الميراث.

3 - لأنفضهم: من نفض الشيء إذا حركه ليزيل عنه ما علق فيه من غبار و نحوه.

4 - اللّحام: القصّاب.

5 - الوذام: الكرش و المعي.

6 - التربة: اللاصقة بالتراب.

الشرح

(إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلى اللّه عليه و آله تفويقا و اللّه لئن بقيت لهم لأنفضنهم نفض اللحام الوذام التربة) استبد بنو أمية بأموال المسلمين و قد عدوا ما في

ص: 442

بيت المال من أملاكهم الخاصة يعطون و يمنعون دون موازين سليمة إلا موازين مصالحهم و قراباتهم و عملائهم و كانوا يرسلون إلى الإمام جزءا يسيرا حقيرا لا يقيم أودا و لا يرفع حاجة و في يوم بعث سعيد بن العاص و كان أميرا على الكوفة بهدايا إلى المدينة و بعث بقليل إلى علي عليه السلام و كتب إليه: إني لم أبعث إلى أحد أكثر مما بعثت به إليك إلا إلى أمير المؤمنين (عثمان) فلما جاء الرسول و سلم الرسالة للإمام قال هذه الكلمة...

و مفادها: إن بني أمية يقسطون لي ميراث رسول اللّه من الفيء و الحق تقسيطا؛ يعطونني قليلا قليلا مع أن هذا التراث حق شرعي لي و أنا أولى الناس به و هذا من ظلمهم و انحرافهم و سلبهم حقوق الناس ثم أقسم لئن بقي لهم و امتد به العمر و أصبح الوالي و القيم على أمور المسلمين ليخرجنهم من هذه الأموال التي تمتعوا بها بدون حق و سلبوها من الناس و ليخرجنها عنهم و من أيديهم كما ينفض القصاب ما يقع على الكبد و الكرش من التراب إذا وقع عليه فكيف أن القصاب لا يبقي عليها من التراب شيئا كذلك هو سيفعل ببني أمية إن جلس على كرسي الحكم...

أو يراد أنه يسقطهم من أعين الناس بذكر مثالبهم و فضح معايبهم و تعداد انحرافاتهم و جناياتهم...

ص: 443

78 - و من دعاء له عليه السلام

اشارة

من كلمات كان، عليه السلام، يدعو بها اللّهمّ اغفر لي (1) ما أنت أعلم به منّي، فإن عدت (2) فعد عليّ بالمغفرة. اللّهمّ اغفر لي ما وأيت (3) من نفسي، و لم تجد له وفاء (4) عندي.

اللّهمّ اغفر لي ما تقرّبت به (5) إليك بلساني، ثمّ خالفه قلبي. اللّهمّ اغفر لي رمزات (6) الألحاظ (7)، و سقطات (9) الألفاظ، و شهوات الجنان، و هفوات (10) اللّسان.

اللغة

1 - غفر له: أصل الغفر هو الستر و غفر له ذنوبه إذا سترها و صفح عنها و لم يحاسبه عليها.

2 - عدت: رجعت.

3 - وأيت: وعدت.

4 - الوفاء: بالعهد أو الوعد اتمامه و المحافظة عليه.

5 - تقرب به: إلى اللّه أتى به إليه تعالى و طلب القربة عنده.

6 - رمزات: جمع رمزة و هي الإشارة بالعين أو الحاجب أو الشفة.

7 - الألحاظ: جمع لحظ بفتح اللام و هو مؤخر العين.

8 - السقطات: السقط بالتحريك ردي المتاع و اللغو من القول أو الفعل.

9 - الجنان: القلب.

10 - الهفوات: جمع هفوة: الزلة.

الشرح

(اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة) النبي و الأئمة

ص: 444

صلوات اللّه عليهم معصومون عن الخطأ منزهون عن الزلل لا يعصون اللّه ما أمرهم و هم بأمره يعملون و ما ورد عنهم مما ظاهره أنهم عاصون فهو على مستوى ما ورد من أن حسنات الأبرار سيئات المقربين و قد يكون على شكل تعليم لنا و تدريب على الوقوف أمام اللّه و بين يديه نطلب منه المغفرة و الرحمة...

و الإمام هنا يعلمنا عمليا كيف يكون الوقوف بين يدي اللّه مع ما له من مواقف جهادية و بطولات إسلامية، يعلمنا أن الأبطال الشجعان يقفون أمام اللّه وقفة الذل و الضراعة يتوجهون إليه بالدعاء يطلبون منه العفو و المغفرة و الرحمة اللهم إنني أعلم ذنوبا قد ارتكبتها و قد أنسى بعضها و ارتكب بعضها بدون علم أو دارية بها فاغفرها جميعا، اغفرها فأنت أعلم بها مني و بما اجترحته و ارتكبته و إن غفرت لي ثم عدت إلى المعصية فعد على بالمغفرة فإنك أهل العفو و المغفرة...

(اللهم اغفر لي ما و أيت من نفسي و لم تجد له وفاء عندي) و هذا استغفار لما أخذه على نفسه و عاهد اللّه على تركه أو فعله ثم خالفه و نقضه و نكث ما أعطى من العهود فهذا يحتاج إلى طلب المغفرة و العفو عنه.. إن الوفاء بالعهد واجب قال تعالى: «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً» ...

(اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي) و هذا أيضا يحتاج إلى طلب المغفرة منه و هو الرياء الذي يظهر الإنسان خلاف ما يبطن فيعلن بلسانه ما يخالف به قلبه يقول إنه المؤمن المجتهد في طاعة اللّه بينما هو المشكك المتردد الكسول...

(اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ) فإن في بعض الحالات يستعمل الإنسان لحظ العيون كرمز للغمز في إنسان أو الطعن فيه أو غيبته و هذه معصية تحتاج إلى طلب المغفرة...

(و سقطات الألفاظ) الألفاظ الساقطة الرذيلة غير المؤدبة التي جرحت إنسانا أو نالت منه شيئا...

(و شهوات الجنان) أي شهوات القلوب و ما تميل إليه و ترغيب فيه مما فيه مخالفة للدين و تمرد على الشريعة...

(و هفوات اللسان) فإن زلات اللسان أشد و أصعب من عثرات الأقدام فربما خرجت الكلمة عن لسان إنسان فاشعلت فتنة دامية و تركت دمارا و خرابا و ربما أجهزت على صاحبها فأدخلته النار و مثل ذلك يستحق طلب المغفرة و العفو عنه...

ص: 445

79 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، و قد قال له: إن سرت يا أمير المؤمنين، في هذا الوقت، خشيت ألا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم فقال عليه السلام أ تزعم (1) أنّك تهدي (2) إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء (3)؟ و تخوّف من السّاعة الّتي من سار فيها حاق به (4) الضّرّ (5)؟ فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن، و استغنى عن الاستعانة باللّه في نيل (6) المحبوب و دفع المكروه؛ و تبتغي (7) في قولك للعامل بأمرك أن يوليك (8) الحمد دون ربّه، لأنّك - بزعمك - أنت هديته إلى السّاعة الّتي نال فيها النّفع، و أمن الضّرّ!!.

ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال:

أيّها النّاس، إيّاكم و تعلّم النّجوم، إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، و المنجّم كالكاهن (9)، و الكاهن كالسّاحر، و السّاحر كالكافر! و الكافر في النّار! سيروا على اسم اللّه.

اللغة

1 - أ تزعم: الزعم هو القول الذي يشك فيه أو يعتقد كذبه.

2 - تهدي: ترشد.

ص: 446

3 - صرف عنه السوء: دفعه عنه و رده.

4 - حاق به: أحاط به.

5 - الضر: بضم الضاد، ضد النفع أو سوء الحال.

6 - النيل: الإدراك.

7 - تبتغي: تطلب.

8 - يوليك: يعطيك إياه و يجعلك أولى به.

9 - الكاهن: جمعه كهان و هم الذين كانوا يخبرون عن الشياطين بكثير من الغائبات.

الشرح

(أ تزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء؟ و تخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر) هذا الكلام قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج و قد قال له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فقال عليه السلام:

أ تزعم و الزعم مبني على الباطل أ تزعم أنك بهذا العلم - علم النجوم تستطيع أن ترشد الناس إلى الساعة السعيدة التي من سار فيها صرف عنه السوء و الهزيمة فهي ساعة خير و بركة و فيها السعادة و النصر و الظفر و في مقابلها تخوفهم من ساعة النحس التي من سار فيها أحاط به الشقاء و الهزيمة و الانكسار...

و كأنه يريد أن يقول له إنك تدعي أنك تعرف الساعات التي يكون فيها النصر و الساعات التي تكون فيها الهزيمة و هذا أمر غير صحيح و لا مقبول و بيّن بطلان هذا الادعاء بقوله...

(فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن، و استغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب و دفع المكروه و تبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه لأنك بزعمك - أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع و أمن الضر) بيان لفساد ما يذهب إليه المنجمون و حرمة تصديقهم و ذلك بأدلة:

الأول: إنّ من صدّق المنجم فقد كذب القرآن و ذلك لأنه يدعي أنه يعلم الغيب باقتران الأجرام و الكواكب و كونها في وضع خاص و هذا يتنافى و قوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ» و قوله: «إن اللّه عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما

ص: 447

في الأرحام و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت»...

الثاني: إن من صدّق منجما و اعتمد عليه انقطع إليه و استغنى عن الاستعانة باللّه في نيل ما يحب و دفع ما يكره و ذلك من منظور أن المنجم يحقق ما يريده طالب الخير و ما يريده دافع الشر و يدل هذا الإنسان على موارد الصلاح و النصر و موارد الفساد و الهزيمة فلا يرجع الإنسان عندها إلى اللّه و يستغني عن الاستعانة به و طلب المدد منه بالتوجه إليه و الدعاء له و الخضوع لساحة قدسه و في هذا مخالفة لمسلمات الإيمان باللّه و أوليات العقيدة التي تربط هذا الإنسان باللّه الذي لا يمكن الاستغناء عنه سبحانه في استمرار الوجود الذي هو على مستوى الحاجة إليه في أصل الوجود...

الثالث: إن هذا المنجم يستحق الحمد من المتبع لأقواله لأنه يرشده إلى ساعات الهداية و دفع الضر و ساعات البلاء و النصر و هذا الحمد يستحقه من دون اللّه و في هذا فساد للعقيدة و انحراف عن الدين فإن اللّه وحده هو الذي يستحق الحمد بقول مطلق «الحمد للّه رب العالمين..» و أما ما يرد من الخير عن أيدي الناس فشكرهم باعتبار أنهم وسائط الخير و أدلته و أنهم لا يدعون في جنب اللّه شيئا من الاستقلالية و الانفراد. (أيها الناس إياكم و تعلّم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر فإنها تدعو إلى الكهانة، و المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار سيروا على اسم اللّه) بعد أن بيّن فساد التنجيم و ضلال المنجمين التفت إلى الناس و وجه إليهم النهي عن تعلّم أحكام النجوم لما لها من أثر سيء على العقيدة من حيث يضل فيها الإنسان و يقطع صلته باللّه و يعتمد على علم النجوم في حركاته و سكناته و استثنى من هذا النهي ما كان من هذا العلم يهتدى به إلى النجاة و الخلاص أو إلى عبادة فكل أمر ديني أو دنيوي يمكن أن يستفيده من هذا العلم يباح له تعلمه قال تعالى في مقام المنّ على بني آدم(1)«وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » و قد ورد عن الأئمة تعيين القبلة ببعض الكواكب كالجدي و غيره...

ثم إنه عليه السلام بين أسباب النهي و دواعيه من حيث أنها تدعو إلى الكهانة التي حرمها الشارع أما لأن صاحب علم النجوم يحب تعلم الكهانة أو أنه يصبح كالكاهن يخبر عن الأمور الغائبة منقطعا عن اللّه و لا يسندها إليه...

ثم شبّه المنجم بالكاهن و قد كان الكاهن يخبر عن الأمور الغائبة و للعرب سهم6.

ص: 448


1- سورة النحل، آية - 16.

وافر من الكهان و قد اشتهر منهم شق و سطيح و وجه الشبه أن كلا من المنجم و الكاهن يخبر عن الأمور الغيبية بمقدمات ظنية بل قد تكون و همية و قد يسترسل فيكذب أو يسلك سبلا باطلة تتنافى و الإيمان...

ثم شبه الكاهن بالساحر و الساحر بالكافر و تكون النتيجة أن المنجم كالكافر يستحق النار و في ذلك تنفير و تحذير يجعل الإنسان يقف من التنجيم موقفا لا يتعاطاه أو يعمل به...

ثم أمرهم أخيرا بالسير نحو هدفهم من حرب الخوارج ليدفع قول المنجم و يبيّن فساد رأيه عمليا و قد ساروا يومها و انتصروا و فشلت نبوءة المنجم و خاب من صدقه و تابعه...

و خلاصة الحديث أن الإمام ينهى عن علم التنجيم الذي يبنى على الحدث و التخمين و يكون فيه شعوذة و خلط و لذا شبهه بالكاهن و الساحر و هما مشعوذان محتالان بينما أباح ما يفيد و ينفع و هو دعوة إلى الاستفادة و ترخيص إلى توجيه الناس إلى علم ينفع به البشرية في أمر دينها أو دنياها...

ص: 449

80 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

بعد فراغه من حرب الجمل، في ذم النساء ببيان نقصهن معاشر (1) النّاس، إنّ النّساء نواقص (2) الإيمان، نواقص الحظوظ (3)، نواقص العقول: فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ (4) عن الصّلاة و الصّيام في أيّام حيضهنّ (5)، و أمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد، و أمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ (6) على الأنصاف (7) من مواريث الرّجال. فاتّقوا شرار (8) النّساء، و كونوا من خيارهنّ (9) على حذر (10)، و لا تطيعوهنّ في المعروف (11) حتّى لا يطمعن في المنكر (12).

اللغة

1 - معاشر: جمع معشر و هي الجماعة.

2 - نواقص: من النقص و هو العيب.

3 - الحظوظ: النصيب و السهم.

4 - قعد: عن الصلاة، حبسه عنها.

5 - الحيض: العادة الشهرية للمرأة.

6 - المواريث: من الميراث و هو ما يتركه الميت من التركة.

7 - الأنصاف: بفتح الهمزة و كسرها جمع النصف بتثليث النون و هو أحد جزئي الشيء.

8 - شرار: جمع شر و هو نقيض الخير اسم جامع للرذائل.

9 - الخيار: من الشيء أفضله.

10 - الحذر: التحرز؛ التخوف و التنبه.

11 - المعروف: الخير و الإحسان، كل فعل حسن، ما فيه رضى للّه.

12 - المنكر: كل فعل قبيح، ما ليس فيه رضى للّه من قول أو فعل.

ص: 450

الشرح

(معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان نواقص الحظوظ نواقص العقول فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة و الصيام في أيام حيضهن و أما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد و أما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال) قال ابن أبي الحديد «و هذا الفصل كله رمز إلى عائشة» انتهى.. و هذا أمر ينطبق عليها و على غيرها و إن كانت هي سببه و الداعية إليه...

و الإمام يبين نقصان المرأة في ثلاثة موارد.

الأول: إن النساء نواقص الإيمان و بيّن سبب ذلك بأنهن يقعدن عن الصلاة و الصيام أيام حيضهن، و قعودهن و الحالة تلك و إن كانت بأمر الشارع و لكنها لقصور فيهن من حيث كونهن في حالة لا تؤهلهن للقاء اللّه و القيام بين يديه فإن طبيعة كل مخلوق و ما يتمتع به من مؤهلات و إلا فإن المعصومة من النساء لا تأتيها العادة و تبقى على اتصال باللّه و تخرج استثناء عن القاعدة العامة في النساء...

و كلام الإمام يشير أيضا إلى أن الإيمان يقبل الزيادة و النقصان و قد وردت الأخبار بذلك...

الثاني: نقصانهن لنقصان عقولهن و بيّن ذلك بأن كل شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد.

قال تعالى: «فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتٰانِ » و قد ثبت نقصان عقل المرأة بالنسبة إلى عقل الرجل و ذلك بإلقاء نظرة سريعة على الحياة من أول ابتدائها و إلى اليوم فستجد المرأة تابعة للرجل و مقيدة به و تجد أنها لم تفلح في رأي يعارض الرجل، إنك تجد أصحاب الاختراعات و أهل الإبداع رجالا - إلا ما شذ و ندر - تجد قادة الفتح و أهل الجهاد و الكفاح - رجالا.. تجد الكتاب و الشعراء و أهل الثقافة و الفنون رجالا.. تجد حتى في أمور المرأة و مختصاتها أشهر من أبدع و أنتج إنما هم الرجال فأشهر الطباخين من الرجال و أشهر الخياطين و مصميمي الأزياء للنساء هم من الرجال...

إن هذه التبعية للرجل من المرأة مع تساوي الصنفين بل زيادة عدد النساء على الرجال أول دليل على نقصان عقلها...

الثالث: نقصانهن لنقصان حظوظهن و بيّن ذلك بأن نصيب المرأة من الميراث نصف ما للرجل.

ص: 451

قال تعالى:(1)«يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » و قد كان هذا التفاوت بسبب أن المرأة مكفولة المعاش لا تصرف مما تأخذه حتى على نفسها فنفقتها على زوجها بينما الزوج يتحمل أعباء دفع المهر لها و إعالتها سكنا و مأكلا و ملبسا فلا بد و أن يناله أكثر مما ينالها حتى يتعادل ما يدفع إليه و ما يؤخذ منه و بمقدار الإيراد يكون الصرف...

(فاتقوا شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر و لا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر) بعد أن بيّن عليه السلام نقصان المرأة دينا و عقلا و حظا أمرنا باتقاء شرار النساء بأن نبتعد عنهن فلا نتزوج الشريرة و لا نخالطها أو نتعامل معها و قد امتازت المرأة بالمكر و الحيلة و هي قادرة على أن تلبس أثوابا متعددة و أقنعة متعددة و إذا أرادت ذلك فإنها تنجح...

و نعوذ باللّه من شرار النساء فإن المرأة الشريرة تسخّر جمالها و مالها و دموعها و بدنها من أجل أن تصل إلى مرامها و تنفذ كيدها قال تعالى واصفا كيد المرأة(2)«إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » بينما وصف كيد الشيطان بالضعف قال تعالى(3)«فَقٰاتِلُوا أَوْلِيٰاءَ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطٰانِ كٰانَ ضَعِيفاً» ...

ثم أمرنا أن نكون من خيارهن على حذر بحيث يبقى على مراقبة لها دائمة يعرف أين تذهب و أين تجىء و مع من تتعامل و لا يعطيها كل أسراره و لا يطلعها على كل قضاياه لأنها بطبيعتها عاطفية تتأثر بأدنى الأمور و تتحسس من نظرة صغيرة بل في بعض الأحيان تأخذها الظنون إلى حيث لا يجوز و بمجرد أن تغضب تجرد زوجها من كل فضيلة و تبعد عنه كل حسنة و تفشي له كل أسراره صغيرها و كبيرها حقيرها و خطيرها حتى الذي يؤدي إلى هلاكه و قد سمعت مباشرة ممن ساءت عشرتها مع زوجها من الأخبار عنه ما لا يحل ذكره - سمعته للمصلحة - ثم لما رضيت عنه و عادت إليه ندمت و لكن كانت قد كسرت الجرة و فاحت الأخبار و انتشرت...

ثم نهانا عن إطاعتهن حتى في المعروف و علل ذلك لئلا يطمعن بالمنكر فإن المرأة إذا أطعتها في أمر مباح مندوب كزيارة قريب أو ولي فإنها تطمع في زيارة السينما و الملهى فإذا كان الأمر معروفا فليكن امتثالك له و القيام به لأجل كونه معروفا و لتفهم المرأة ذلك فتنقطع عن مطالبتك بالمنكر و لا تطمع فيه...6.

ص: 452


1- سورة النساء، آية - 11.
2- سورة يوسف، آية - 28.
3- سورة النساء، آية - 76.

81 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في الزهد أيّها النّاس، الزّهادة (1) قصر (2) الأمل، و الشّكر عند النّعم (3)، و التّورّع (4) عند المحارم (5)، فإن عزب (6) ذلك عنكم فلا يغلب (7) الحرام صبركم، و لا تنسوا عند النّعم شكركم، فقد أعذر (8) اللّه إليكم بحجج (9) مسفرة (10) ظاهرة، و كتب بارزة (11) العذر (12) واضحة.

اللغة

1 - الزهادة: هو الزهد عدم الميل إلى الشيء.

2 - القصر: ضد الطول.

3 - النعم: العطايا.

4 - التورع: هو الكف عن المشتبهات خوف الوقوع في المحرمات.

5 - المحارم: ما حرمه اللّه و ما لا يحل انتهاكه.

6 - عزب: بعد، و غاب و ذهب.

7 - غلب: عليه قهره و عليه.

8 - أعذر: أظهر عذره، أزال عذره.

9 - الحجج: البراهين و الأدلة.

10 - المسفرة: المشرقة.

11 - بارزة: ظاهرة.

12 - العذر: الحجة التي يعتذر بها أي يرفع اللوم عنه.

الشرح

(أيها الناس الزهادة قصر الأمل و الشكر عند النعم و التورع عن المحارم فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم و لا تنسوا عند النعم شكركم فقد أعذر اللّه إليكم

ص: 453

بحجج مسفرة ظاهرة و كتب بارزة العذر واضحة) الزهد خلة كريمة و خصلة شريفة يتطلع إليها الأتقياء و الصلحاء فيعيشون بها القرب من اللّه و الإخلاص له و قد وجهنا الإمام إليها و حصرها في أمور ثلاثة بها تتحقق و لها ترجع و هي:

1 - قصر الأمل: و من قصّر أمله في الدنيا و رأى نفسه مسجى بين يدي غاسله و مجهزه هانت عليه الدنيا و سعى من أجل أن يجيد العمل و يقوم بكل واجب.. قصر الأمل لا يعني عدم العمل بل من لا يعمل يكون كسولا مقصرا يحاسبه اللّه بل معناه الاستعداد للرحيل و تهيئة الزاد له و ما يتطلبه السفر...

2 - و الشكر عند النعم فإن لكل نعمة شكرها و أهم شكر للنعمة أن تقع في موقعها فلا تتحول إلى أداة يعصى اللّه بها فمن أعطاه اللّه ما لا يجب أن يصرفه في محله على نفسه و على من يعول و على الفقراء فيتصدق عليهم و يتحنن على الأيتام و المساكين، و أما لو حولّ نعمة اللّه إلى ما حرمه اللّه فهو لم يشكر المنعم و لم يؤد شكر النعمة...

3 - التورع عند المحارم بأن يكف عن ارتكاب ما حرمه اللّه سواء كان صغيرا أم كبيرا جليلا أم حقيرا و على كل المستويات العبادية و الاقتصادية و السياسية و لا انفصال أو تفصيل في هذه الموارد خلافا لبعض الناس الذين يتحرزون في طهارتهم و صلاتهم و عبادتهم فيبحثون عن كل شيء يخل بها فيجتنبوه بينما هم في غيرها من العواهر الذين لا يتورعون فهو في طهارته على جانب عظيم من المحافظة عليها بينما في موقفه السياسي فاسد بدرجة عالية...

ثم إنه عليه السلام بعد أن بيّن أن الزهد يكون في هذه الأمور و شعر أن كثيرين من الناس قد لا يقومون بذلك رخص في ممارسة الأمل و بقاء الإنسان و أمله بقوله - فإن عزب ذلك عنكم - فلم تقدروا على القيام به جميعا فليكن صبركم عن الحرام قويا و لا يغلبكم الحرام فتمارسونه، و هذا أمر لا يمكن الترخيص فيه أو إباحته بل يجب أن يقوّي الإنسان ملكة الصبر عنده فلا يرتكب حراما.

و كذلك لم يرخّص في شكر النعم التي يحكم العقل و النقل بوجوب شكرها و شكر من أنعم بها لأن كفرانها خروج عن الدين و الإيمان.

ثم أكد ملازمة الزهادة و علل لزّومها بأن اللّه قطع أعذاركم فلا حجة لكم لأنه أرسل إليكم الأنبياء و الأوصياء و أنزل الكتب و البينات و هي ظاهرة لا خفاء فيها و لم يعد لأحد حجة يحتج بها بعدم وصول البيان إليه و قيام الحجة عليه.

فلا حجة لكم بل الحجة للّه عليكم و من كانت الحجة عليه فلا عذر له إلا بالقيام بما هو واجب عليه..

ص: 454

82 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في ذم صفة الدنيا ما أصف من دار أوّلها عناء (1)، و آخرها فناء! في حلالها حساب، و في حرامها عقاب (2). من استغنى فيها فتن (3)، و من افتقر (4) فيها حزن (5)، و من ساعاها (6) فاتته (7)، و من قعد عنها (8) و اتته (9)، و من أبصر بها بصّرته، و من أبصر إليها أعمته.

قال الشريف: أقول: و إذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام: «و من أبصر بها بصّرته» وجد تحته من المعنى العجيب، و الغرض البعيد، ما لا تبلغ غايته و لا يدرك غوره، لا سيما إذا قرن إليه قوله: «و من أبصر إليها أعمته» فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحا نيرا، و عجيبا باهرا! صلوات اللّه و سلامه عليه.

اللغة

1 - العناء: التعب.

2 - العقاب: القصاص.

3 - فتن: من الفتنة و هي الضلالة.

4 - افتقر: احتاج.

5 - الحزن: الكآبة.

6 - ساعاها: جاراها سعيا، غالبها.

7 - فاتته: ذهبت عنه و لم يدركها.

8 - قعد عنها: لم يطلبها، و جلس عن طلبها.

9 - واتته: من المواتاة و هو حسن المطاوعة و الموافقة.

ص: 455

الشرح

(ما أصف من دار أولها عناء و آخرها فناء في حلالها حساب و في حرامها عقاب) هذا الكلام من الإمام تحذير لهذا الإنسان من الدنيا و تنفير منها و قد وصفها بهذه الأوصاف التي تجعل من يقف عليها يشمئز منها و يبتعد عنها و يعمل لما بعدها.

وصفها بأن أولها عناء أي تعب و نحن ندرك ذلك بالوجدان و على وجه الحقيقة فمنذ أن يسقط الجنين إلى الأرض و يستقبل الحياة تبتدأ المعاناة و يبتدأ العذاب ففي كل يوم آفة تصيبه و ألم يلم به فالهواء يؤذيه و المناخ الحار يضره و البرد يمرضه و هكذا تستمر المعاناة حتى إذا بلغ و أدرك مدرك الرجال تأتيه هموم الدنيا و متطلباتها من بناء مستقبل و سعي وراء رزق حتى إذا بلغ مبلغ الكهولة ضعف جسده و انحلت بنيته و غزته الآفات فأصبحت همته عاجزة و قوته ضعيفة و لم يعد يقوى على القيام منفردا فيستعين بغيره و قد يعجز و هكذا يستمر الوهن في بدنه حتى تأتي منيته...

ثم وصف آخر هذه الدار الدنيا بأن آخرها فناء و هو الموت الذي يأتي على هذا الإنسان و هذه حقيقة تتجسد أمامنا في كل يوم فهناك أموات ننقلهم إلى مثواهم الأخير و عما قليل سينقلنا من يأتي بعدنا و هكذا...

قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ » و قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ » ...

- ذكر أن في حلالها حساب فلا بد من عرض الأعمال و نشر الصحف قال تعالى:

«إِنَّ إِلَيْنٰا إِيٰابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ » و قال تعالى: «وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ » ...

- و في حرامها عقاب و إذا كان لا بد في الحرام عقاب و قصاص فمن يقوى على ذلك العقاب و من يقدر أن يطيقه و هو عقاب اللّه الشديد...

(من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن) و هذه علات الدنيا و قبائحها بل هذه فجائع أهلها و مصائبهم أن من اغتنى فيها و أصبح غنيا في ماله أو صحته أو جاهه أو في أي ميدان من ميادين الحياة تراه يضل و ينحرف و يسعى في الفساد فإذا أعطى فكرا يحول فكره إلى إضلال الناس و الانحراف بهم و إذا أعطى قوة تأخذه قوته إلى الاعتداء على الضعفاء و إذا كان صاحب مال تراه يستعمل أمواله فيما لا يجوز و يصرفه فيما هو محرم و هكذا قال تعالى و هو أصدق القائلين «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»...

ص: 456

و أما من افتقر و أصابته الحاجة فهناك قلة الصبر الذي يعقبه الهلاك فقد يحتج على ربه و قد يخرج عن طاعته فيجمع الفقر و الكفر و هما شر الحياة و أقبح ما فيها.. إنه يحزن لفقره و تدخل قلبه الكآبة...

(و من ساعاها فاتته و من قعد عنها واتته) من أراد مغالبتها فهي غالبة له لأنه لا يطلب شيئا إلا و قد فاتته أشياء و لا يحصل على أمر إلا و قد اتضح أمامه ألف أمر لا يدركه و لا يحصل عليه...

أما من قعد عنها و لم يطلبها فإنها آتية إليه قادمة عليه لا محالة فإن حاجته واصلة إليه و هذا تزهيد فيها و ترغيب في تركها...

(و من أبصر بها بصرّته و من أبصر إليها أعمته) من أبصر فيها و ما هي عليه و كيف تتحول بأهلها من حال إلى حال ؟ و ما مر عليها من أجيال فراعنة طغاة و أولياء أتقياء..

كيف عاش فيها الأنبياء و كيف مارس الظلم عليها الأشقياء.. كيف تزول و لا تدوم ؟ إن من نظر بها استبصر و اهتدى و عاد إلى اللّه و سعى إلى الجنة و نعيمها...

و أما من أبصر إليها بحيث اتخذها هدفا و تطلعت أنظاره إليها و عكف عليها و على النيل منها فلا محالة أنها تشغله عن اللّه و تصرفه عن عبادته و تعميه عن رؤية الحق و العدل و عن طريق الجنة..

ص: 457

83 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي الخطبة العجيبة و تسمى «الغراء» و فيها نعوت اللّه جل شأنه، ثم الوصية بتقواه ثم التنفير من الدنيا، ثم ما يلحق من دخول القيامة، ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الإعراض، ثم فضله عليه السلام في التذكير

صفته جل شأنه

اشارة

الحمد للّه الّذي علا بحوله (1)، و دنا (2) بطوله (3)، مانح (4) كلّ غنيمة (5) و فضل و كاشف كلّ عظيمة و أزل (6). أحمده على عواطف (7) كرمه، و سوابغ (8) نعمه (9)، و أومن به أوّلا باديا (10)، و أستهديه قريبا هاديا، و أستعينه قاهرا (11) قادرا، و أتوكّل عليه كافيا ناصرا، و أشهد أنّ محمّدا - صلّى اللّه عليه و آله - عبده و رسوله، أرسله لإنفاذ أمره (12)، و إنهاء عذره (14) و تقديم نذره (15).

اللغة

1 - الحول: القوة.

2 - دنا: قرب.

3 - الطول: الفضل و السعة.

4 - مانح: معطي.

5 - غنيمة: فائدة، ما يستفيده الإنسان.

6 - الأزل: الشدة و الضيق.

ص: 458

7 - العواطف: جمع عاطفة و هي ما يعطفك على الغير و يدنيه من معروفك.

8 - السوابغ: الكوامل من سبغ الظل إذا عم و شمل.

9 - النعم: العطايا.

10 - باديا: ظاهرا.

11 - القاهر: الغالب.

12 - أنفذ الأمر: أمضاه و أجراه.

13 - الإنهاء: الإبلاغ.

14 - عذره: ما يقدمه الإنسان حجة له إذا ليم على شيء.

15 - النذر: جمع نذير الأخبار الإلهية المنذرة بالعقاب على سوء الأفعال.

الشرح

(الحمد للّه الذي علا بحوله) ابتدأ صلوات اللّه عليه بذكر أوصاف اللّه الكمالية و الجلالية و قد وصفه بالعلو و الرفعة و لكن علوه بقوته و قدرته و ليس بمكانه لأن المكان من حاجات الإمكان و هو واجب الوجود الغني عن كل موجود...

(و دنا بطوله) فهو قريب منا ليس بالمكان و إنما بالفضل و الإحسان فنعمه قبل وجودنا و بعده و إلى آخر انقضاء حياتنا...

(مانح كل غنيمة و فضل) فما من نعمة أو عطية أو فائدة أو منحة إلا و هي فضل كرمه و عطاء يده قال تعالى: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ » ...

(و كاشف كل عظيمة و أزل) فكما أنه مبدأ الكرم في العطاء كذلك هو أساس إزالة البلايا و المصائب الكبار و الشدائد العظام فهو يعطي بكرمه و يرفع البلاء بفضله قال تعالى: «أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذٰا دَعٰاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفٰاءَ اَلْأَرْضِ » ...

(أحمده على عواطف كرمه و سوابغ نعمه) بيّن سبب حمده للّه و إنه على كرمه المتواصل المترادف و نعمه الواسعة الكبيرة الني تزيد على حاجة الإنسان و متطلباته و هي نعم ظاهرة و باطنة، يمكن للإنسان إدراكها و قد تخفى عليه...

(و أومن به أولا باديا) اعتقد به أنه الأول الذي منه صورت الكائنات و إنه الظاهر للعيان بمشاهدة القلوب و البصائر و في كل شيء له آية تدل على أنه واحد...

(و استهديه قريبا هاديا) أطلب منه الهداية و الرشاد لقربه منا بفضله وجوده و هو

ص: 459

المتصف بالهداية و واضعها فيرجع إليه فيها «اهدنا الصراط المستقيم»...

(و استعينه قاهرا قادرا) فهو القادر المطلق فمنه نطلب الاستعانة على أمورنا كلها و هو الغالب لكل أحد، و كل شيء مسخر له مأمور بأمره و من هنا نطلب منه الاستعانة...

(و أتوكل عليه كافيا ناصرا) و الكافي هو الذي لا يحتاج معه إلى أحد فيقوم بكفايته بكل أمر يحتاج و الناصر هو الدافع للأعداء و المقوي لأصحابه و معطيهم النصر و ين الأمرين كان اللّه و كان عليه التوكل...

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله لإنفاذ أمره و إنهاء عذره و تقديم نذره) إقرار للنبي محمد بالعبودية و الرسالة فهو عبد اللّه و رسوله عن يديه تؤخذ التشريعات و إليه ينتهي الإنسان في أخذ ما يريد اللّه و ما يحب.

ثم بيّن أغراض الرسالة التي من أجلها كانت بعثته و قد بيّن أمورا ثلاثة...

1 - أرسله ليبلغ الناس رسالة اللّه و ينفذها في حياتهم و يطبقها عليهم...

2 - أرسله لئلا يعذبهم بدون أن يبيّن لهم فيكون عذابهم مع بيانه عذرا له فلا يلام كما يكون لهم الحجة قبل البعثة و إيصال التكليف إليهم و تكون الحجة عليهم فيما لو قصروا و تهاونوا و لم يؤدوا المفروض عليهم...

3 - أرسله ليتقدم لهم بالإنذار الذي هو تبليغ الأحكام مع التخويف من عذاب اللّه و عقابه و إن هناك من العذاب ما لا يقوى عليه بشر...

الوصية بالتقوى

اشارة

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ضرب الأمثال (1)، و وقّت (2) لكم الآجال (3)، و ألبسكم الرّياش (4)، و أرفغ (5) لكم المعاش (6)، و أحاط (7) بكم الإحصاء (8)، و أرصد (9) لكم الجزاء (10)، و آثركم (11) بالنّعم (12) السّوابغ (13)، و الرّفد (14) الرّوافغ (15)، و أنذركم بالحجج البوالغ (16)، (17)،

ص: 460

فأحصاكم عددا، و وظّف لكم مددا (18)، في قرار خبرة (19)، و دار عبرة (20)، أنتم مختبرون فيها، و محاسبون عليها.

اللغة

1 - الأمثال: جمع المثل الشبيه و النظير.

2 - وقّت: ضرب له وقتا أي مدة و زمنا.

3 - الآجال: الأعمار.

4 - الرياش: الثياب و قيل الفاخر منها.

5 - أرفغ: العيش اتسع.

6 - المعاش: جمعه معايش ما يعاش به من المطعم و المشرب، ما تكون به الحياة.

7 - أحاط: بالشيء أحدق به من جوانبه.

8 - الإحصاء: هو عدّ الشيء و ضبطه...

9 - أرصد: أعد.

10 - الجزاء: المكافأة.

11 - آثركم: من الإيثار و هو تقديم الغير على النفس.

12 - النعم: العطايا.

13 - السوابغ: جمع سابغة و هي الواسعة.

14 - الرفد: جمع رفدة العطية و الصلة.

15 - الروافغ: الواسعة.

16 - الحجج: البراهين و الأدلة.

17 - البوالغ: الظاهرة القوية.

18 - المدد: جمع مدة و هو الوقت و الزمن.

19 - قرار خبرة: دار بلاء و اختبار.

20 - عبرة: عظة و اعتبار.

الشرح

(أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الذي ضرب الأمثال) في هذا الفصل الوصية بتقوى اللّه التي تعني اجتناب محارمه و القيام بواجباته و قد وصفه بأنه ضرب الأمثال من أجل تقريبها

ص: 461

إلى الأذهان و جعل الأمور المعنوية بصور حسية من أجل أن يسهل إدراكها و تصورها...

و قد ضرب اللّه الأمثال في القرآن قال تعالى: «وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً» .

إلى غير ذلك من عشرات الأمثال...

(و وقت لكم الآجال) أي ضرب لأعماركم أوقاتا محدودة تنتهي عندها لا يمكن تجاوزها أو التعدي عنها كما قال تعالى: «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ » و إذا كانت آجالنا مؤقتة يجب أن نستعد لها و نهيىء لها أسباب النجاة...

(و ألبسكم الرياش) فإنه سبحانه ألبس العباد الثياب فهداهم إلى حياكتها و لبسها منة منه عليهم ليحفظوا عهده و يستروا عوراتهم فلا يعصوه...

(و أرفغ لكم المعاش) رزقكم من الطيبات و وسع عليكم في الأرزاق فإنه سبحانه أغدق على الناس أكثر من حاجاتهم و مما يستحقون...

(و أحاط بكم الإحصاء) فهو يعلم عدد الخلائق لقد أحصاهم و عدهم عدا فلا يشذ عن علمه أحد، يعلم الصالح و الطالح و الشقي و التقي...

(و أرصد لكم الجزاء) قد أعد لكل واحد جزاء عمله فالشقي إلى النار و التقي إلى الجنة قال تعالى: «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ...

(و آثركم بالنعم السوابغ) أعطاكم العطايا الفائضة الواسعة الظاهرة و الباطنة فتحتاج إلى شكر...

(و الرفد الروافغ) العطايا الواسعة الكثيرة.

(و أنذركم بالحجج البوالغ) فقد جاء الأنبياء و الرسل بأظهر الحجج و أقواها و قدموا بين أيدي الناس ما يرقق قلوبهم و يكون حجة عليهم يوم القيامة...

(فأحصاكم عددا) فهو الذي يعرف عدد الخلق من مضى منهم و من هو قائم و من سيأتي بعد هذا.

(و وظف لكم مددا) أي قدّر لكم مدة حياتكم في هذه الأرض و إذا كانت مدة حياتنا

ص: 462

معدودة مقدرة يجب أن نحولها كلها إلى طاعة اللّه و مرضاته...

(في قرار خبرة و دار عبرة) في دار اختبار و ابتلاء، فيها يمتحن الإنسان ليظهر كفره من إيمانه و طاعته من عصيانه و هي دار عظة فيها يعتبر الإنسان عند ما يراجع مسيرة الناس منذ القديم و إلى الآن فيرى الفراعنة و الظالمين فيجتنب طريقتهم و يرى الأنبياء و المرسلين فيتبع طريقهم...

(أنتم مختبرون فيها و محاسبون عليها) ففي الدنيا يكون الاختبار و فيها يكون الامتحان.. في دار الدنيا يتميز المطيع من العاصي و الشقي من التقي كما أنّ الحساب عليها فإن كانت حلالا جرى عليها الحساب و إن كانت حراما جرى عليها العقاب.

التنفير من الدنيا

اشارة

فإنّ الدّنيا رنق (1) مشربها (2)، ردغ (3) مشرعها (4)، يونق (5) منظرها، و يوبق (6) مخبرها (7). غرور (8) حائل (9)، وضوء آفل (10)، و ظلّ زائل، و سناد (11) مائل (12)، حتّى إذا أنس (13) نافرها (14)، و اطمأنّ ناكرها (15)، قمصت (16) بأرجلها، و قنصت (17) بأحبلها (18)، و أقصدت (19) بأسهمها، و أعلقت (20) المرء أوهاق (21) المنيّة (22) قائدة له إلى ضنك (23) المضجع (24)، و وحشة المرجع (25)، و معاينة (26) المحلّ و ثواب العمل، و كذلك الخلف بعقب السّلف (28)، لا تقلع (29) المنيّة اختراما (30)، و لا يرعوي (31) الباقون اجتراما (32)، يحتذون (33) مثالا، و يمضون أرسالا (34)، إلى غاية الانتهاء، و صيّور (35) الفناء.

اللغة

1 - الرنق: الكدر.

2 - المشرب: مورد الماء.

3 - الردغ: الوحل و الطين المختلط بالماء.

ص: 463

4 - المشرع: مورد الشرب.

5 - يونق: يعجب.

6 - يوبق: يهلك.

7 - المخبر: المنظر.

8 - الغرور: من غرّه إذا خدعه.

9 - الحائل: المتغير اللون.

10 - الآفل: الغائب.

11 - السناد: ما يستند و يعتمد عليه.

12 - المائل: من الحيطان أي غير المستوي.

13 - أنس: ضد استوحش و هو سكون القلب و عدم النفور.

14 - النافر: المتباعد.

15 - الناكر: المنكر للأمر.

16 - قمصت: الدابة إذا رفعت يديها و طرحتهما معا.

17 - قنصت: اصطادت.

18 - الأحبل: الحبال و الشباك.

19 - أقصدت: أصابت القصد.

20 - أعلقت به: ربطت بعنقه.

21 - الأوهاق: جمع وهق بالفتح و هو الحبل.

22 - المنية: الموت.

23 - الضنك: الضيق.

24 - المضجع: موضع الضجع و هو إلقاء الإنسان جنبه بالأرض، القبر.

25 - المرجع: محل الرجوع و العود.

26 - المعاينة: المشاهدة بالعين.

27 - الخلف: المتأخرون.

28 - السلف: المتقدمون.

29 - أقلع: كف.

30 - الاخترام: الاستئصال.

31 - لا يرعوي: لا يرتدع.

32 - الاجترام: ارتكاب الجرائم.

33 - يحتذون: يقتدون.

34 - الارسال: القطيع من الإبل.

35 - صيّور الأمر: مصيره و ما يؤول إليه.

ص: 464

الشرح

(فإن الدنيا رنق مشربها) وصف الدنيا بعدة أوصاف كلها لتبيّن حقيقتها و التحذير منها فأولى أوصافها أن لذاتها مشوبة بالمنغصات و الآلام و كما يقول الحكماء ليس هناك لذة كاملة أو كما يقول بعضهم الملذات رفع للحاجات...

(ردغ مشرعها) شبه متناول الدنيا و طالبها برجل دخل في أرض موحلة فكما أن هذا تزل قدمه و يسقط و لا يتخلص إلا و عليه آثار الوحل كذلك الدنيا تزل أقدام طلابها و متناوليها إلا من كان له القدرة القوية على تجاوزها بفكره و فهمه...

(يونق منظرها و يوبق مخبرها) فالدنيا جميلة إذا نظر إليها الإنسان بمنظار ما يظهر منها فهناك أموال و جمال و عقارات و ملاهي و ملاذ.. هناك جنات و طيبات هذا ما يظهر من الدنيا و لكن لو نظر الإنسان إلى حقيقتها رأى هلاكه في هذه الأشياء.. رأى أن المال إذا أخذ من غير طريقه المشروع جريمة كما إنه إذا صرف في غير مورده جريمة..

و الحكم إذا لم يكن للّه فهو جريمة.. و هكذا حال الدنيا كلها إذا لم تكن للّه كانت مصيبة على أصحابها فهي تهلك هذا الإنسان دون أن يعرف...

(غرور حائل) إنها تغرّ الإنسان و تضعه في أجواء السعادة ثم لا تلبث أن ترميه بالبلاء و المصائب فكم من سامر عاش لذة سمره مع أحبابه و أقرانه لم يطلع الفجر عليه إلا في مساءة و حزن و ألم...

(وضوء آفل) فهي كالضوء الذي يؤنس الإنسان و يريه الدرب ثم لم يلبث أن يتحرك حتى ينطفىء فيتحير الإنسان و لا يقدر على الحركة...

(و ظل زائل) فلا يكاد يستريح الإنسان إليها حتى تخرج من يده و لا تعود إليه...

(و سناد مائل) لا يستطيع الإنسان أن يستند إليها و يعتمد عليها لأنها تتركه يسقط بمجرد أن يطمئن إليها لأنها لا تدوم لأحد...

(حتى إذا أنس نافرها و أطمأن ناكرها) هذه هي حال الدنيا تجذب إليها من كان هاربا منها نافرا عنها و كذلك من كان منكرا لها و عليها تجعله بلذاتها مطمئنا إليها حتى إذا أنس النافر و اطمأن الناكر لم تدعهم بأنسهم و اطمئنانهم بل...

(قمصت بأرجلها) فاجأتهم بهذه الوحشة المرة دفعتهم عنها فاستبدلت أنسهم بالوحشة...

ص: 465

(و قنصت بأحبلها) اصطادتهم بحبالها و شراكها التي نصبتها لهم من حب الدنيا و الانحراف و التطلع إلى ما فيه الهلاك...

(و أقصدت بأسهمها) رمتهم بأسهمها التي هي الأمراض و الآفات فأصابت مقصدها و ما هدفت إليه...

(و أعلقت المرء أوهاق المنية) ربطت هذا الإنسان بحبال الموت التي هي الأمراض و الآفات التي تزوره بين الحين و الآخر و قد تحل به و لا تخرج منه إلا بخروج روحه...

(قائدة له إلى ضنك المضجع) فهذه الأمراض تقود هذا الإنسان إلى ضيق القبر و شدته و يالها من قائدة ما أقساها و أقواها...

(و وحشة المرجع) فإن المرجع إلى القبر و هو بيت الوحشة و بيت الغربة و بيت الوحدة حيث لا أهل و لا أحباب و لا أصدقاء... تخلى الجميع عنه و تركوه في حفرته وحيدا غريبا...

(و معاينة المحل) إنه سيرى موقعه و محله الذي سيصل إليه، لقد انكشف الغطاء.. فإن القبر إما روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران.. أو كما يقول الحديث الآخر يفتح في القبر فتحة يرى موقعه في الجنة فيتنعم أو يرى موقعه في النار فيتألم...

(و ثواب العمل) فما كان يعمله في دار الدنيا من الخيرات و الأعمال الصالحة سينال جزاءه و ثوابه بعد الموت.

(و كذلك الخلف بعقب السلف) فيموت الأولون من الآباء و الأجداد و يأتي الأبناء و الحفدة و لا يعتبرون بما فعلت الدنيا بمن تقدم عليهم من أسلافهم و من تقدم عليهم...

(لا تقلع المنية اختراما) لا تخطىء المنية إصابتهم بل إصابتها في الصميم و لكل فرد فرد و هي لا ترتدع عن أخذهم أو الكف عن تناولهم و شاهد الحال ما نراه من عدم بقاء أحد ممن تقدم علينا...

(و لا يرعوي الباقون اجتراما) فبالرغم من مشاهدتهم للمنية و ما فعلت بمن تقدم عليهم فإن هؤلاء السلف الباقين لا يرتدعون أو يكفون عما يعملون من المعاصي و الآثام و ما فيه غضب الرحمن...

(يحتذون مثالا) إنهم يسيرون بسيرة من تقدمهم و يقتفون أثرهم دون أن يعتبروا بما

ص: 466

حل بهم و ما أهلكهم.. إنهم مثلهم و على طريقتهم...

(و يمضون أرسالا) يمضون متتابعين مترسلين نحو هدفهم المرسوم لهم من لقاء اللّه و نيل جزائه...

(إلى غاية الانتهاء و صيور الفناء) و هذه هي غاية و نهاية مسيرتهم إنها إلى الفناء و الهلاك و بعده يأتي الحساب فيعطي للمطيع الثواب و للعاصي العقاب..

بعد الموت البعث

اشارة

حتّى إذا تصرّمت (1) الأمور، و تقضّت (2) الدّهور (3)، و أزف (4) النّشور (5)، أخرجهم من ضرائح (6) القبور، و أوكار (7) الطّيور، و أوجرة (8) السّباع، و مطارح (9) المهالك، سراعا إلى أمره، مهطعين (10) إلى معاده، رعيلا (11) صموتا (12)، قياما صفوفا، ينفذهم البصر، و يسمعهم الدّاعي، عليهم لبوس (13) الاستكانة (14)، و ضرع (15) الاستسلام و الذّلّة (16). قد ضلّت الحيل (17)، و انقطع الأمل، و هوت (18) الأفئدة (19) كاظمة (20)، و خشعت (21) الأصوات مهيمنة (22)، و ألجم (23) العرق (24)، و عظم الشّفق (25)، و أرعدت (26) الأسماع لزبرة (27) الدّاعي إلى فصل الخطاب، و مقايضة (28) الجزاء، و نكال (29) العقاب، و نوال (30) الثّواب.

اللغة

1 - تصرمت: انقطعت و ذهبت.

2 - تقضت: تصرمت.

3 - الدهور: الأزمان.

4 - أزف: دنا و قرب.

ص: 467

5 - النشور: البعث و الحياة بعد الموت.

6 - الضرائح: جمع ضريح الشق في وسط اللحد.

7 - الأوكار: جمع وكر و هو عش الطائر.

8 - الأوجرة: جمع وجار و هو بيت السباع و الضباع و نحوها.

9 - مطارح: أماكن الطرح و الإلقاء.

10 - مهطعين: مسرعين مع خوف.

11 - الرعيل: جماعة من الناس مجتمعين.

12 - الصموت: السكوت.

13 - اللبوس: بالفتح ما يلبس.

14 - الاستكانة: الخضوع.

15 - ضرع: بالتحريك الوهن و الضعف.

16 - الذلة: الإهانة.

17 - ضلت الحيل: بطلت و تعطلت.

18 - هوت: سقطت.

19 - الأفئدة: القلوب.

20 - كاظمة: مكروبة.

21 - خشعت: ذلت و خضعت.

22 - الهيمنة: الصوت الخفي.

23 - اللجام: حديدة توضع في فم الفرس.

24 - العرق: ما يترشح من بدن الإنسان من الماء.

25 - الشفق: محركة الخوف.

26 - أرعدت: عرتها الرعدة.

27 - الزبرة: من زبره إذا نهره و زجره.

28 - المقايضة: المعاوضة.

29 - النكال: العقوبة.

30 - النوال: العطاء.

الشرح

(حتى إذا تصرمت الأمور و تقضت الدهور و أزف النشور) بعد أن ذكر صلوات اللّه عليه مآل الإنسان و مصيره و إنه سيرجع إلى القبور أراد أن يبيّن ما يلحقه بعد ذلك... إنه سيبقى فيها رهينة إلى أن تنقضي الأيام و الأزمنة المقدرة لهذه الدنيا و يقترب وقت

ص: 468

الحساب و خروج الناس من قبورهم للوقوف بين يدي اللّه عندها...

(أخرجهم من ضرائح القبور و أوكار الطيور و أوجرة السباع و مطارح المهالك) أمرهم بالخروج من مواضعهم و أماكنهم فمن توفر له قبر أخرجه منه و من أكلته الطيور أعاده من لحومها و من افترسته السباع عاد بقدرة اللّه من بطونها و من بقي في العراء طريحا حللته عوامل الأيام فتحول إلى تراب سيعود من مكان موته و هكذا سيجمع اللّه الجميع و إن تعددت أماكن قبورهم و مواضع القضاء عليهم...

(سراعا إلى أمره) و قد وصف حالهم حين صدور أمره لهم بالنشور و الخروج بأوصاف يرق لها القلب القاسي الشديد و أول أوصاف خروجهم أنهم يخرجون مسرعين إلى تنفيذ أمره بالخروج فلا تباطؤ و لا تأخير...

(مهطعين إلى معاده) مسرعين إلى الوقت الذي واعدهم فيه أن يعيدهم.

(رعيلا صموتا) مجتمعين في سكوت و خشوع ينتظرون ثوابه أو عقابه...

(قياما صفوفا ينفذهم البصر) إنهم قائمون في صفوف منتظمة تحت رقابة اللّه و نظره لا يفوته منهم أحد و لا يخرج عن إحصائه لهم كثرة عدد...

(و يسمعهم الداعي) تصل أصوات الداعي الذي يبلغهم ذلك عن اللّه إلى الجميع إنه قد أعطاه اللّه القدرة على إيصال صوته إلى كل أذن في ذلك المحشر العام...

(عليهم لبوس الاستكانة) و هذا وصف لهم في تلك الحالات الصعبة في المحشر إنهم في صورة المسكنة و الخضوع قولا و حركة و مظهرا و مخبرا...

(و ضرع الاستسلام و الذلة) بادية عليهم الذلة في استسلام للأمر الواقع بهم فلا يرفضون و لا يعاندون، إنه لهول ذلك اليوم ينقاد كل شيء و يستسلم و يذل...

(قد ضلت الحيل) بطلت وسائل التخلص المختلفة التي كان يستعملها الإنسان في دار الدنيا و لم يعدلها وجود أو دور...

(و انقطع الأمل) فلا أمل في الدنيا بعد اليوم لأنهم لن يعودوا إليها...

(و هوت الأفئدة كاظمة) سقطت القلوب عن أماكنها في كرب و حزن و ألم خالية من كل فرح و سرور فإن ذلك الوقت لهوله و شدته لم يملك الإنسان قلبه و لم يملك شجاعته بل يتهاوى و يتساقط...

(و خشعت الأصوات مهيمنة) انخفضت تلك الأصوات التي كانت عالية فلا تسمع

ص: 469

إلا همسا كما قال تعالى: «وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوٰاتُ لِلرَّحْمٰنِ فَلاٰ تَسْمَعُ إِلاّٰ هَمْساً» .

(و ألجم العرق) و لشدة يوم القيامة يصل العرق الذي يرشح من بدن الناس إلى أفواههم فيلجمهم عن الكلام و يمنعهم عن النطق...

(و عظم الشفق) اشتد الخوف و الفزع و كيف لا يخشى من ذلك اليوم و يخاف منه و فيه هذه الأهوال و الشدائد؟!...

(و أرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب و مقايضة الجزاء و نكال العقاب و نوال الثواب) اضطربت أسماع البشر و اهتزت لصوت الداعي الذي يدعوها إلى الحساب العادل و التام، إنها زجرة و صيحة من أجل أن يرفع كل حسابه و ينال جزاءه فما عمله في الدنيا له جزاء الآن و نتيجته ستظهر في هذا الموقف فمن عمل خيرا كان له الثواب عطاء من اللّه و من عمل الشر نال العقوبة و العذاب، إنه موقف رهيب يأخذ الإنسان فيه نتيجة عمله و يحصد ما زرع و يقطف ثمرة ما غرس..

تنبيه الخلق

اشارة

عباد مخلوقون اقتدارا (1)، و مربوبون اقتسارا (2)، و مقبوضون احتضارا (3)، و مضمّنون أجداثا (4)، و كائنون رفاتا (5)، و مبعوثون أفرادا، و مدينون (6) جزاء (7)، و مميّزون (8) حسابا. قد أمهلوا (9) في طلب المخرج، و هدوا سبيل المنهج (10)؛ و عمّروا (11) مهل المستعتب (12)، و كشفت عنهم سدف (13) الرّيب (14)، و خلّوا (15) لمضمار (16) الجياد (17)، و رويّة (18) الارتياد (19)، و أناة (20) المقتبس (21) المرتاد (22)، في مدّة الأجل (23)، و مضطرب (24) المهل.

اللغة

1 - الاقتدار: القدرة.

2 - الاقتسار: من القسر و هو القهر.

ص: 470

3 - الاحتضار: حضور الموت.

4 - الأجداث: القبور.

5 - الرفات: بضم الراء الحطام و الفتات.

6 - مدينون: مجزيون من الدين و هو الجزاء.

7 - الجزاء: المكافأة.

8 - مميزون: من التمييز و هو الفصل و التبيين.

9 - أمهلوا: من الإمهال و هو التأخير.

10 - المنهج: الطريق الواضح.

11 - أعمروا: عاشوا حياة طويلة.

12 - مهل المستعتب: المهل هو الإمهال و المستعتب هو المسترضي.

13 - السدف: جمع سدفة و هي الظلمة.

14 - الريب: جمع ريبة و هي الشبهة و ابهام الأمر.

15 - خلوا: تركوا.

16 - المضمار: الزمان أو المكان الذي تضمّر فيه الخيل.

17 - الجياد: كرام الخيل.

18 - الروية: التدبر و التفكر.

19 - الارتياد: طلب ما يراد.

20 - الأناة: التأخير و الانتظار.

21 - المقتبس: طالب العلم و النار.

22 - المرتاد: الطالب.

23 - الأجل: الوقت، مدة العمر.

24 - المضطرب: مدة الاضطراب أي الحركة.

الشرح

(عباد مخلوقون اقتدارا) ذكر الإمام أناسا مرت أوصافهم فيما تقدم و ذكر ما ينتابهم في يوم الحشر و النشر و ذكر هنا لاؤلئك أوصافا تحملهم على خط الطاعة و الإيمان و تبعدهم عن طريق التمرد و العصيان و ينبه بهذا الكلام على ما خلقوا من أجله و ما يصير أمرهم إليه...

فأولئك الناس الذين تقدم ذكرهم مخلوقون بقدرة اللّه القادر القوي و ليس بقدرتهم

ص: 471

و من كان مخلوقا للّه و بقدرته لا يجوز أن يخالف أمره و يعصيه...

(و مربوبون اقتسارا) و هم مملوكون لخالقهم قهرا عنهم و ليس بقدرتهم و من كان مملوكا وجب عليه الطاعة لمالكه...

(و مقبوضون احتضارا) اللّه سبحانه يقبضهم إليه و يحضرهم بالموت إلى جنابه، فإذا حضر الموت فارقت نفس هذا الإنسان الحياة و وقع حسابه على اللّه...

(و مضمنون أجداثا) و بعد القصور مصيرهم إلى القبور حيث تضمهم إلى البعث و النشور...

(و كائنون رفاتا) و هذا ما نراه بالعيان فعند ما يفتح بعض القبور القديمة لا نرى إلا عظاما تحولت إلى تراب قد أكلها الزمن و فتتها و فرقها...

(و مبعوثون أفرادا) كل إنسان يأتي وحده قد تخلى عنه أهله و أولاده و أصحابه و ترك أمواله و أرزاقه كما قال تعالى: «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونٰا فُرٰادىٰ كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مٰا خَوَّلْنٰاكُمْ وَرٰاءَ ظُهُورِكُمْ » أو قوله تعالى: «وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَرْداً» ...

(و مدينون جزاء) تجزون بما كنتم تعملون فمن عمل خيرا يجزى بالجنة و من عمل شرا يجزى بالنار كما قال تعالى: «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاٰ يُجْزىٰ إِلاّٰ مِثْلَهٰا وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ » .

(و مميزون حسابا) و لا بد أن يميزوا بحسب الجزاء فالمحسنون سينفردون طائفة خاصة يتحركون نحو الجنة و المسيئون سينفردون بأوصافهم طائفة أخرى يتحركون إلى النار...

(قد أمهلوا في طلب المخرج) أخرهم اللّه في الدنيا من أجل أن يدركوا طريق الخير و الرشاد فيعودوا إلى الطاعة و يتركوا المعصية ففي الدنيا سعة من أجل رجوعهم إلى اللّه...

(و هدوا سبيل المنهج) وضعهم اللّه على الطريق السليم حيث و فرّ لهم سبل الهداية بما زودهم به من العقول و ما بعث لهم من الرسل و الأنبياء و المبشرين...

(و عمّروا مهل المستعتب) مد اللّه في أعمارهم طويلا و أمهلهم في دار الدنيا كي يرجعوا إلى أنفسهم و يتوبوا إلى ربهم كما يمهل من أريد استعتابه و رجوعه فإنه يعطي من الوقت ما به تكون عودته و اللّه أعطانا أعمارا طويلة لنعود إليه و نرجع إلى رحابه...

ص: 472

(و كشفت عنهم سدف الريب) كشف اللّه عن بصائرهم ظلمات الشك و التردد بما أرسل إليهم من الرسل و زودهم به من العقول لإزاحة الشبه و الظنون و إدخالهم في عالم العلم و اليقين...

(و خلوا لمضمار الجياد) فقد تركهم اللّه في الدنيا كي يستعدوا للفوز في الآخرة كما تترك كرائم الخيل في محل تضميرها أو زمانه من أجل السباق و الفوز بالجائزة...

(و روية الارتياد) أمهلهم من أجل طلب الحق و الوقوف على العلم الصحيح الموصل إلى اليقين...

(و أناة المقتبس المرتاد في مدة الأجل و مضطرب المهل) فكما يتأنى المقتبس لجذوة النار كي يبصر أمامه و يرتاد مقصده كذلك اللّه أمهلهم في الدنيا مدة أجلهم فيها و أعمارهم التي أعطاهم حتى يتحركوا نحو سعادتهم و يمشوا إلى نعيمهم...

فضل التذكير

اشارة

فيا لها أمثالا صائبة (1)، و مواعظ (2) شافية (3)، لو صادفت (4) قلوبا زاكية (5)، و أسماعا واعية (6)، و آراء (7) عازمة (8)، و ألبابا (9) حازمة (10)! فاتّقوا اللّه تقيّة من سمع فخشع (11)، و اقترف (12) فاعترف، و وجل (13) فعمل، و حاذر (14) فبادر (15)، و أيقن فأحسن، و عبّر فاعتبر (16)، و حذّر فحذر، و زجر فازدجر (17)، و أجاب فأناب (18)، و راجع فتاب، و اقتدى (19) فاحتذى (20)، و أري فرأى، فأسرع طالبا، و نجا هاربا، فأفاد (21) ذخيرة (22)، و أطاب (23) سريرة (24)، و عمّر معادا، و استظهر زادا (25)، ليوم رحيله و وجه سبيله (26)، و حال حاجته، و موطن فاقته (27)، و قدّم أمامه لدار مقامه. فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له، و احذروا منه كنه (28) ما حذّركم من نفسه، و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز (29) لصدق ميعاده (30)، و الحذر من هول معاده (31).

ص: 473

اللغة

1 - صائبة: غير عادلة عن الصواب، أدركه و أصابه.

2 - المواعظ: النصائح و كل كلام يعيد الإنسان إلى اللّه.

3 - الشافية: البريئة من المرض و نحوه.

4 - صادفت: لاقت.

5 - الزاكية: الطاهرة.

6 - الواعية: الحافظة.

7 - الآراء: المعتقدات و ما يراه الإنسان.

8 - العازمة: ذات العزم.

9 - الألباب: العقول.

10 - الحازمة: ذات الحزم و الحزم ضبط الرجل أمره.

11 - خشع: خضع.

12 - اقترف: اكتسب.

13 - الوجل: الخوف.

14 - حاذر: من حذر الشيء إذا خافه.

15 - بادر: سارع.

16 - اعتبر: اتعظ.

17 - الزجر: المنع.

18 - اناب: رجع و تاب.

19 - اقتدى به: فعل مثل فعله.

20 - احتذى: شاكل بين عمله و عمل مقتداه فأحسن القدوة.

21 - أفاد: استفاد.

22 - الذخيرة: ما يدخره الإنسان و يجمعه لوقت الحاجة.

23 - أطاب: جعلها طيبة أي غير خبيثة.

24 - السريرة: الدخيلة، ضد العلانية.

25 - استظهر زادا: أعده.

26 - السبيل: الطريق.

27 - الفاقة: الحاجة.

28 - الكفة: حقيقة الشيء و نهايته و غايته.

29 - التنجز: الاستعجال و عدم التأخير.

ص: 474

30 - الميعاد: الوعد.

31 - المعاد: من الإعادة و هو الآخرة.

الشرح

(فيا لها أمثالا صائبة و مواعظ شافية) أشار هنا إلى ما قدمه من الكلام، أراد أن يرغبّهم فيه و يدفعهم للتأثر بمضمونه فيقول يا لها و ما أعظمها أمثالا أدركت مرادها و حققت مطلوبها و مواعظ تبرىء العليل و تشفي المريض و ليس العجز في البيان و إنما العجز في هذا الإنسان و المعتبر قليل و من أراد أدرك فهذا همام الذي وعظه الإمام في خطبة المتقين تفارق روحه الحياة لتأثره بالموعظة بينما غيره يقابلها بالجفاء و الخشونة و لا يتأثر بها من قريب او بعيد...

(لو صادفت قلوبا زاكية و أسماعا واعية و أراء عازمة و ألبابا حازمة) فهذه الأمثال تدرك مقصودها و هذه المواعظ تشفي المرضى إذا كان السامع قابلا لذلك و هذا لا يتحقق إلا إذا التقت هذه الكلمات مع القلوب الطاهرة التي لم تتكدر بأوساخ الحقد و الأنانية و الحسد و الأمراض الأخرى و كذلك كانت الأسماع واعية أي حافظة متأثرة بالكلام و كذلك يشترط أن تكون الآراء قاصدة للرشد و الهداية و كانت العقول قابلة للأخذ بالحزم و القوة و اليقين...

(فاتقوا اللّه تقية من سمع فخشع) أمرهم بتقوى اللّه التي تكون مثل تقوى من استجمع هذه الأوصاف و هي في مقام عظيم...

تقوى من سمع للحق و صوت العدل فخضع له و التزمه...

(و اقترف فاعترف) و تقوى من اكتسب إثما و عصى ربه فاحترق قلبه بنار المعصية فبادر إلى الاعتراف و الإقرار بمعصيته و من ثم إلى التوبة و محو الحوبة...

(و وجل فعمل) تقوى من خاف ربه فعمل لرضاه بترك معاصيه و القيام بأوامره فإن من خاف أمرا هرب منه و من أراد أمرا طلبه...

(و حاذر فبادر) تقوى من خاف عقوبة ربه فبادر إلى العمل بما يرضاه و من خاف أحدا عمل بأمره و لم يتعرض لسخطه...

(و أيقن فأحسن) تقوى من أيقن بالجزاء و الثواب و العقاب فأحسن عمله لينال أجره و يدرك ثوابه...

ص: 475

(و عبر فاعتبر) تقوى من رأى مواعظ اللّه في خلقه مرارا بل قد تكون في نفسه فاتعظ بها و أخذ الدرس ليفوز بالسعادة التي هي نتيجة العمل بما رأى من الموعظة...

(و حذّر فحذر) تقوى من خوّف من عقاب اللّه و عذابه فخاف منه و ارتدع عن كل ما يسخطه...

(و زجر فازدجر) تقوى من منع تكليفا عن المحرمات و كل ما يضر فامتنع عنها و توقف عن ممارستها...

(و أجاب فأناب) سمع كلام اللّه فأجابه و لبى نداءه ثم رجع إليه و عاد إلى رحابه و ما يحب و يرضى...

(و راجع فتاب) تقوى من راجع ذنبه و التفت إليه و أدرك أثره و قبحه فتاب إلى اللّه منه و امتنع عن العودة إليه...

(و اقتدى فاحتذى) تقوى من اقتدى بالأنبياء و رآهم المثل الأعلى له فاحتذى حذوهم و سار بطريقتهم و على نهجهم و ما رسموه و شرعوه...

(و أري فرأى) أري الدلالات و العلامات الموصلة إلى اللّه فرآها حقيقة و أدركها بعين العقل و الفهم فكانت نتيجة رؤيته و وقوفه أنه...

(فأسرع طالبا و نجا هاربا) أسرع طالبا للجنة و مريدا لها يعمل من أجل الوصول إليها كما إنه هرب من النار فنجا من ألمها و شدة حرارتها و أيضا...

(فأفاد ذخيرة) اكتسب أعمالا صالحة يعدها لهول يوم الحساب و الوقوف بين يدي الرحمن...

(و أطاب سريرة) عمل على ما يصلح نفسه و يجعل سره و ما في قلبه طيبا بأن ينوي الخير للناس و كل ما ينفعهم و يبادر إلى ذلك و لا ينوي لأحد سوءا...

(و عمّر معادا) جعل يوم حسابه عامرا بالخيرات و الأعمال الصالحة و من كان يوم حسابه مملؤا بالطاعات نجا...

(و استظهر زادا) أي حمل على ظهره زادا من الخيرات و الأعمال الصالحة أي عمل الأعمال الطيبة الصالحة التي تنفعه في ساعات الحاجة و أوقات الاضطرار...

(ليوم رحيله و وجه سبيله و حال حاجته و موطن فاقته) فهذا الزاد الذي يحمله و يعمل له إنما هو ليوم الآخرة حيث يرحل من الدنيا و يقصد الوقوف بين يدي اللّه

ص: 476

للحساب و الجزاء و في تلك الحال فهو من أشد الناس حاجة، إنه مقام الفاقة و الفقر يحتاج الإنسان فيه إلى صغير العمل الصالح فضلا عن كبيره...

(و قدم أمامه لدار مقامه) أي قدم التقوى و العمل الصالح أمامه إلى دار الإقامة و الدوام فلا يتحول عنها و كيف يتحول و قد اختارها بأعماله و سلوكه...

(فاتقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له) أمرهم بتقوى اللّه التي تعني العمل بأوامره و الامتناع عن نواهيه و لكن التقوى التي لأجلها خلقهم اللّه و هي الوصول إلى معرفته و إدراك مقاصده بدون رياء و لا سمعة و لا غرض من أغراض الدنيا فإنا خلقنا لأجل معرفته و عبادته فيجب أن نتوجه إلى هذا الهدف دون غيره مما لا يوصل إليه...

(و احذروا منه كنه ما حذركم من نفسه) احذروا من اللّه حقيقة تحذيره الذي قطعه على نفسه فإنه أخذ عليها عقاب من عصاه و تمرد على رأيه و لم يعمل بأمره قال تعالى:

«فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ » ...

(و استحقوا منه ما أعد لكم بالتنجز لصدق ميعاده و الحذر من هول معاده) اجعلوا أنفسكم مستحقة لما أعده لكم و قد أعد جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يستحقها إلا من عمل لها و ذلك بالمبادرة إلى فعل ما أمر و الصدق في طلب ما أراد و إن وراء هذه الدنيا حساب و عقاب و كذلك بالخوف و الحذر من شدائد الحساب و العقاب، فنصدق ما وعدنا به بالعمل له و نخاف من شدائد الحساب فنستعد له..

التذكير بضروب النعم

اشارة

و منها: جعل لكم أسماعا لتعي (1) ما عناها (2)، و أبصارا لتجلو (3) عن عشاها (4)، و أشلاء (5) جامعة لأعضائها، ملائمة (6) لأحنائها (7)، في تركيب صورها، و مدد عمرها، بأبدان (8) قائمة بأرفاقها (9)، و قلوب رائدة (10) لأرزاقها، في مجلّلات (11)، نعمه (12)، و موجبات (13) مننه (11)، و حواجز (15) عافيته. و قدّر (16) لكم أعمارا سترها عنكم، و خلّف (27) لكم عبرا (18) من آثار الماضين قبلكم، من مستمتع خلاقهم (19)، و مستفسح (20)

ص: 477

خناقهم (21). أرهقتهم (22) المنايا (23) دون الآمال، و شذّ بهم (24) عنها تخرّم (25) الآجال (26). لم يمهدوا (27) في سلامة الأبدان، و لم يعتبروا في أنف (28) الأوان (29). فهل ينتظر أهل بضاضة (30) الشّباب إلاّ حواني (31) الهرم (32)؟ و أهل غضارة (33) الصّحّة إلاّ نوازل (34) السّقم (35)؟ و أهل مدّة البقاء إلاّ آونة (36) الفناء؟ مع قرب الزّيال (37)، و أزوف (38) الانتقال، و علز (39) القلق و ألم المضض (40)، و غصص (41) الجرض (42)، و تلفّت (43) الاستغاثة (44) بنصرة الحفدة (45) و الأقرباء، و الأعزّة و القرناء (46)! فهل دفعت الأقارب، أو نفعت النّواحب (47)، و قد غودر (48) في محلّة الأموات رهينا (49)، و في ضيق المضجع (50) وحيدا، قد هتكت (51) الهوامّ (52) جلدته، و أبلت (53) النّواهك (54) جدّته (55) و عفت (56) العواصف (57) آثاره، و محا (58) الحدثان (59) معالمه (60)، و صارت الأجساد شحبة (61) بعد بضّتها، و العظام نخرة (62) بعد قوّتها، و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها (63)، موقنة (64) بغيب أنبائها (65)، لا تستزاد (66) من صالح عملها، و لا تستعتب (67) من سيّىء زللها (68)! أو لستم أبناء القوم و الآباء، و إخوانهم و الأقرباء؟ تحتذون (69) أمثلتهم، و تركبون قدّتهم (70)، و تطئون (71) جادّتهم (72)؟! فالقلوب قاسية عن حظّها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها! كأنّ المعنيّ (73) سواها، و كأنّ الرّشد في إحراز (74) دنياها.

اللغة

1 - وعى: حفظ و فهم.

2 - ما عناها: ما أهمها.

3 - تجلو: تكشف.

ص: 478

4 - العشا: مرض في العين يرى فيها نهارا و لا يرى ليلا.

5 - الأشلاء: جمع شلو و هو العضو.

6 - الملائمة: الموافقة.

7 - الأحناء: جمع حنو ما أعوج من البدن، الجوانب و الجهات.

8 - الأبدان: جمع بدن و هو جسد الإنسان.

9 - الأرفاق: جمع رفق بكسر الراء المنفعة أو ما يستعان به عليها.

10 - رائدة: طالبة.

11 - مجلّلات: من جلّله إذا غطاه و غمره.

12 - النعم: العطايا.

13 - الموجبات: الدواعي و البواعث و الموجبة الكبيرة من السيئات أو الحسنات.

14 - المنن: جمع المنة و هو الإحسان.

15 - الحواجز: الموانع.

16 - قدّر: حدده في قدر معين لا يزيد و لا ينقص.

17 - خلفّ : ترك.

18 - العبر: العظات، ما يعتبر به الإنسان و يتعظ.

19 - الخلاق: النصيب.

20 - المستفسح: السعة.

21 - الخناق: ما يشد على الحلق فيميت كالحبل و شبهه.

22 - أرهقتهم: أعجلتهم و أدركتهم.

23 - المنايا: جمع المنية الموت.

24 - شذّبهم: قطعهم و مزقهم من شذب الشجرة إذا قشرها.

25 - تخرمته: استأصلته و اقتطعته.

26 - الآجال: جمع الأجل وقت الموت.

27 - لم يمهدوا: لم يهيئوا و يصلحوا.

28 - أنف: أول.

29 - الأوان: الأوقات.

30 - البضاضة: النعومة، رقة الجلد و امتلاء البدن.

31 - الحواني: جمع الحنو و هو ضد الاستقامة.

32 - الهرم: الكبر، أو أقصى الكبر.

33 - الغضارة: النعمة و السعة و الخصب.

34 - النوازل: المصائب الشديدة.

35 - السقم: المرض.

ص: 479

36 - الآونة: جمع أوان الزمان.

37 - الزيّال: من زايله إذا فارقه.

38 - الأزوف: الدنو و القرب.

39 - العلز: قلق و اضطراب و هلع يصيب المريض المحتضر.

40 - المضض: الوجع، و بلوغ الحزن من القلب.

41 - الغصص: جمع غصة و هي الشجا.

42 - الجرض: هو ابتلاع الريق على هم.

43 - التلفت: صرف الوجه نحو الشيء و النظر إليه.

44 - الاستغاثة: الاستعانة.

45 - الحفدة: أولاد الأولاد.

46 - القرناء: الأصحاب.

47 - النواحب: جمع ناحبة التي ترفع صوتها بالبكاء.

48 - غودر: ترك و بقي.

49 - رهينا: حبيسا.

50 - المضجع: مكان الاضطجاع، القبر.

51 - هتكت: جذبت و قطعت و انتزعت.

52 - الهوام: الحيات و كل ذي سم يقتل.

53 - أبلت: من بلي الثوب إذا رث، فني.

54 - النواهك: جمع ناهكة و هي ما ينهك البدن أي يبليه.

55 - الجدة: الجديد ضد البالي و القديم.

56 - عفت: درست.

57 - العواصف: الرياح الشديدة.

58 - محا: الشيء أزاله و أذهب أثره.

59 - الحدثان: النوائب.

60 - المعالم: جمع معلم و هو ما يستدل به، و هنا يقصد به الآثار.

61 - شحبة: هالكة.

62 - نخرة: بالية.

63 - الأعباء: الأثقال.

64 - الايقان: الاعتقاد و العلم.

65 - الأنباء: الأخبار.

66 - لا تستزاد: لا يطلب منها الزيادة.

67 - لا تستعتب: لا يطلب منها تقديم العتبى أي التوبة من العمل القبيح.

ص: 480

68 - الزلل: الخطأ.

69 - تحتذون: تقتدون.

70 - القدة: بالكسر الطريقة.

71 - تطئون: تدوسون.

72 - جادتهم: طريقهم.

73 - المعني: المقصود.

74 - أحرز الشيء: حازه و صانه و أدخره.

الشرح

(جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها) في هذا الفصل تذكير للعباد بنعم اللّه و تنبيه لهم إلى الغاية من تلك النعم كما فيه موعظة أن يعتبروا بمن سلف من الأباء و الأجداد...

فمن النعم العظام الجسام ما جعله لنا من أدوات السمع و هي الآذان التي تلتقط ما يهمها و يخصّها و نعمة السمع عظيمة و جليلة بها يدرك الإنسان مطلوبه و يقف على جمال الألحان و الأصوات و بها يدرك مراد الآخرين و يفهم ما يقصدون و هذه الآذان عليها حقوق أن لا تسمع الباطل و لا يعصى اللّه من خلالها...

قال الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق:

و أما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا أو تكسب خلقا كريما فإنه باب الكلام إلى القلب يأوي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر و لا قوة إلا باللّه...

(و أبصارا لتجلو عن عشاها) و هذه من نعم اللّه العظمى أن خلق لنا أبصارا تكشف الأشياء و ترفع ما يمنعها من الرؤية و الوصول إلى كشف الأمور و هذه الأبصار يجب أن تستعمل فيما وجدت من أجله و شكرها يكون بذلك قال الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق...

و أما حق بصرك فغضّه عما لا يحل لك و ترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا أو تستفيد بها علما فإن البصر باب الاعتبار...

(و أشلاء جامعة لأعضائها ملائمة لأحنائها) فهذه الأعضاء التي تتوزع في البدن يضمها الهيكل الكبير و يجمعها البدن بأسره و هي موافقة للجهات التي من أجلها وجدت و كانت تناسبها و توافقها...

ص: 481

(في تركيب صورها) فوضع كل عضو في مكانه المناسب له بحيث يؤدي دوره و يضفي على هذا الإنسان الجمال و الكمال قال تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ » ، فالعين في موقعها و الفم كذلك و هكذا سائر الأعضاء إبداع إلهي عظيم من حكيم عليم...

(و مدد عمرها) فجعل لكل عضو عمرا يناسب أعمار الأعضاء الأخرى فلا يموت قبلها أو يصاب دونها...

(بأبدان قائمة بأرفاقها) فإن هذه الأبدان قائمة بمصالحها و منافعها فتدفع ما يضرها و تجري نحو ما ينفعها و فيها قوة ذاتية لمحاربة من يقصدها بسوء و فيها قوة دفاع عن كل مكروه يمكن أن يفسدها...

(و قلوب رائدة لأرزاقها) فالقلوب تطلب أرزاق هذه الأبدان و ما يديمها و يقويها،...

(في مجلالات نعمه) نعم اللّه عامة و شاملة لكل المخلوقات و أيضا تامة منذ انعقدت النطفة و إلى أن تنتهي مدة إقامته على هذه الأرض من أصغر أموره و أحقرها إلى أعظمها و أجلها...

(و موجبات مننه) فإن عطاياه الكثيرة تستحق أن يشكروه عليها و تمنعهم من اقتحام معاصيه...

(و حواجز عافيته) فإنه سبحانه جعل لهذا الإنسان عافية تحجزه عن المرض و تمنع سقوطه في أيدي العلل و هذه نعمة تستحق الشكر...

(و قدّر لكم أعمارا سترها عنكم) و هذه من النعم إنه سبحانه جعل لكل فرد عمرا معينا يعيش فيه في الدنيا و عند ما ينتهي يموت، يعلم اللّه مقداره طولا و قصرا سعادة و شقاء ستره سبحانه عن أصحابه لما في ذلك من المصلحة حيث أنه لو اطلع الإنسان على مقدار عمره على وجه اليقين اضطرب حاله و أصيب بالقلق و الهم...

(و خلّف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم) و هذه رحمة إلهية تصيب هذا الإنسان و تدركه نتيجة ما تركه من كان قبلهم من الأمم الماضية و الشعوب السابقة فإن فيها من العبر و العظات ما لا يمكن إحصاؤه أو عده... تمر على الآثار و الأطلال فتتذكر كيف كانوا و كيف عاشوا و كيف عمروا و بنوا و بعد ذلك كيف ارتحلوا و أنت و أنا على نفس الطريق و في نفس النهج...

ص: 482

(من مستمتع خلاقهم و مستفسح خناقهم) هذه بعض ما كانوا يتمتعون به من الدنيا كانوا يأخذون نصيبهم منها و يتمتعون بطيباتها و ينالون حظوظهم منها و كانوا في فسحة من الموت الذي يأخذ بأخناقهم فيمنعهم من الحياة.. لقد أخذوا حظهم في مدة حياتهم و طول بقائهم في الدنيا..

(أرهقتهم المنايا دون الآمال) لقد كانوا عقدوا الآمال العريضة على حياتهم و راحوا يرسمون مستقبلهم و ما سيصير أمرهم إليه في الدنيا و لكن كل هذا قضى عليه الموت فأهلكهم و سقطت آمالهم دون أن يتحقق منها شيء...

(و شذ بهم عنها تخرم الآجال) قطعهم الموت عن الدنيا بحلوله فيهم و أخذهم بدون إذن منهم، و من كانت هذه سيرته يجب أن يعود إلى اللّه و يرجع إلى طاعته...

(لم يمهدوا في سلامة الأبدان) لم يعملوا لآخرتهم و يستعدوا للقاء اللّه في حال الصحة و السلامة و هذه سيئة لا يتنبه لها الإنسان إلا بعد فوات الأوان، بعد أن يسقط في المرض و يشل قدرته يندم و يأسف...

(و لم يعتبروا في أنف الأوان) لم يتعظوا و يعملوا بما ينفع و يفيد في أوائل أمورهم و مبدأ حياتهم.. في حياتهم لم يستفيدوا ما ينفعهم في رحيلهم...

(فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلا حواني الهرم) و هذا استفهام استنكاري - للغافلين منا.. إنه تنبيه لنا بأن نعومة الشباب و رقة الجلود و استقامة الأجساد لا تبقى هكذا بل سيأتي عليها الزمن فتكبر فتنحني القامات المستقيمة و يذبل الشباب و يذوي...

(و أهل غضارة الصحة إلا نوازل السقم ؟) و هذه الصحة العامرة و التي لم يمر في ذهن أصحابها أنها تمرض هذه سينزل بها المرض الشديد فيقعدها عن الحركة و يمنعها من الرقاد و يجعلها تأنّ و تتألم...

(و أهل مدة البقاء إلا أونة الفناء؟) و هؤلاء الذين كانوا من أهل البقاء حيث كانت تدفعهم أحوالهم الجيدة إلى ذلك هؤلاء ينتظرهم الموت الذي ينقلهم من دارهم فيها إلى آخرة لم يعرفوها...

(مع قرب الزيال) فالمفارقة قريبة جدا و كل منا ما أسرع خطاه نحو الآخرة و مفارقة الأحبة...

(و أزوف الانتقال) قرب الانتقال عن هذه الدار إلى الدار الآخرة...

ص: 483

(و علز القلق) فإن هناك هموما و هلعا و خوفا و ارتجافا لما يقدم عليه الإنسان و ما ينتظره...

(و ألم المضض) فالقلب يتوجع لما يصيب هذا الإنسان و يلم به...

(و غصص الجرض) و من شدة ذلك الوقت أن الإنسان يغص بريقه و لا يكاد يبلعه...

(و تلفت الاستغاثة بنصرة الحفدة و الأقرباء و الأعزة و القرناء) فهذا الإنسان المسكين عند ما تحضره منيته و يقترب أجله يأخذ في النظر تارة إلى اليمين و أخرى إلى اليسار يستنجد و يستعين بذريته و أقربائه من أعمامه و أخواله و من هم أعزة لديه و أحباب له يتوجه إلى الجميع يستغيث بهم أن يعينوه أو ينصروه أو يخففوا عنه من سكرات الموت و آلامه فلا يجد من يقدر على إزالة ذلك أو يملك تخفيف ما نزل به و حل بساحته، لقد تخلى عنه الأهل و تركه الأصدقاء و عجز عنه من أحبه.. إنه وحده المصاب دونهم و هو المبتلى لا سواه...

(فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب) استفهام استنكاري أي لم تدفع أقاربه عنه الموت بل حل بساحته و لم تنفعه الباكيات عليه مهما ندبنه و بكين عليه فلا القرابة تنفع و لا البكاء يرد القضاء...

(و قد غودر في محلة الأموات رهينا و في ضيق المضجع وحيدا) قام أهله بتجهيزه و دفنه و ترك في المقابر مع من تقدمه من الموتى سجينا في قبره و يا له من محل ما أضيقه و أصغره، حفرة صغيرة يتمدد فيها البطل لا يقدر على الخروج و لا على الحركة أعاننا اللّه عليها و فيها...

(قد هتكت الهوام جلدته) فالحشرات تولت أكله فمزقت جلده الناعم و أخذت لحمه الطري...

(و أبلت النواهك جدته) فإن ذلك الجسد الغض الطري الناعم الممتلئ قد أتت عليه الرطوبة فتعفن و بلي و تمزق فإن نواهك البدن و ممزقاته كثيرة في ذلك القبر الصغير...

(و عفت العواصف آثاره) درست رياح الزمان و ما حل به كل أثر له، فلم يبق شيء يدل عليه أو يحكي عن وجوده و إنه كان...

(و محا الحدثان معالمه) لقد أزالت الأحداث و عوامل الزمان كل ما كان يدل عليه

ص: 484

أو ينبىء عن وجوده، فالبيت الذي شاده و سكنه تهدم و الشجرة التي غرسها قلعت و كل أمر يحكي عنه قد زال و قضى...

(و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها) فبعد امتلاء الأجساد و نعومتها أضحت بعد الموت سوداء متغيرة هالكة فانية...

(و العظام نخرة بعد قوتها) و هذه العظام التي كانت قوية في وجه الصدمات يتحرك بها الإنسان و يشتد لقد أضحت بعد قوتها بالية فانية فإنك تفتح بعض القبور تجد العظام قد تحولت إلى تراب...

(و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها) ما سلف و تقدم كان بالنسبة إلى هذا الجسد الترابي أما الأرواح فلها نصيبها و عليها يقع الحمل الثقيل إنها مأخوذة بأوزار ما قدمت من المعاصي و الآثام قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » ...

(موقنة بغيب أنبائها) لقد وصلتها أخبارها و ما سينالها و يصيبها بعد الموت على ألسنة الرسل و الأنبياء و تيقنت بذلك و صدقته لأنهم ألسنة اللّه إلى الخلق...

(لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سيئ زللها) بالموت انقطع العمل الصالح فلا تستطيع نفس أن تزيد فيه أو تكثر منه كما أن بالموت ترتفع أوقات التوبة و لم يعد لها مكان فقد لزمته السيئات و كل معصية فعلها لا يمكنه التحلل منها...

(أو لستم أبناء القوم و الآباء و إخوانهم و الأقرباء) بعد أن وصف حال الآباء و ما مر عليهم في الدنيا و ما يمر عليهم أثناء الموت و بعده التفت إلى الحضور يذكرهم بحالهم و يردهم إلى أصلهم فيستفهم مستنكرا أنكم أنتم أبناء القوم الذين شرحنا حالهم و وصفنا أفعالهم، إنهم الآباء و أنتم الأبناء.. إنهم الإخوان و الأقرباء الذين سيصيبكم ما يصيبهم...

(تحتذون أمثلتهم) تفعلون كما يفعلون، تقتدون بهم...

(و تركبون قدتهم) تمشون على طريقتهم التي ساروا عليها فكأنكم هم...

(و تطئون جادتهم) تسيرون على نفس الطريق الذي ساروا عليها و يصيبكم ما أصابهم تماما...

(فالقلوب قاسية عن حظها) القلوب بعيدة عن إدراك ما يصلحها و ينفعها و لا تتعظ بما مرّ على غيرها...

ص: 485

(لاهية عن رشدها) غافلة عن طلب الهداية لها و ما يوصلها إلى الحق و العدل و ما فيه نجاتها...

(سالكة في غير مضمارها) تسير في غير طريقها المعد لها و ما هو من شأنها و محلها فحقها أن تكون في موكب المستسلمين للّه الملتزمين بأمره فإذا بها في قائمة الرافضين لحكم اللّه المتحللين من كل التزام...

(كأن المعنى سواها و كأن الرشد في إحراز دنياها) كأن ما ورد من الوصايا و الأحكام و التشريع و التقنين يقصد به غير هؤلاء المخاطبين و كأن الرشد في تناول الدنيا و الحصول عليها فحسب دون أن تمتد أنظارهم إلى الآخرة و الاهتمام بها..

التحذير من هول الصراط

اشارة

و اعلموا أنّ مجازكم (1) على الصّراط (2) و مزالق دحضه (4)، و أهاويل (5) زلله (6)، و تارات (7) أهواله؛ فاتّقوا اللّه عباد اللّه تقيّة ذي لبّ (8) شغل التّفكّر قلبه، و أنصب (9) الخوف (10) بدنه (11)، و أسهر (12) التّهجّد (13) غرار (12) نومه، و أظمأ (15) الرّجاء هواجر (16) يومه، و ظلف (17) الزّهد شهواته، و أوجف (18) الذّكر بلسانه، و قدّم الخوف لأمانه (20)، و تنكّب (21) المخالج (22) عن وضح السّبيل (23)، و سلك أقصد المسالك (14) إلى النّهج المطلوب؛ و لم تفتله (26) فاتلات الغرور، و لم تعم (27) عليه مشتبهات (28) الأمور، ظافرا (29) بفرحة البشرى (30)، و راحة النّعمى (31)، في أنعم نومه، و آمن يومه. و قد عبر (32) معبر العاجلة (33) حميدا، و قدّم زاد الآجلة (34) سعيدا، و بادر (35) من وجل (36)، و أكمش (37) في مهل (38)، و رغب في طلب، و ذهب عن هرب، و راقب في يومه غده، و نظر قدما (39) أمامه. فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا (40)، و كفى بالنّار عقابا و وبالا (41)! و كفى باللّه منتقما و نصيرا! و كفى بالكتاب حجيجا (42) و خصيما (43)!.

ص: 486

اللغة

1 - مجازكم: سيركم و ممركم.

2 - الصراط: هو الطريق الموصل إلى الجنة أو إلى النار.

3 - المزالق: جمع مزلق الموضع الذي لا تثبت عليه قدم.

4 - الدحض: انقلاب الرجل بغتة فيسقط المار.

5 - الأهاويل: الأمور المفزعة.

6 - الزلل: المزالق، و تطلق على المعاصي و الانحرافات.

7 - التارات: جمع تارة و هي المرة و الحين، الدفعات.

8 - اللب: العقل.

9 - أنصب: أتعب.

10 - الخوف: الفزع.

11 - البدن: الجسد.

12 - أسهر: من السهر و هو عدم النوم.

13 - التهجد: أصله السهر و يأتي بمعنى النوم فهو من الأضداد و هو هنا العبادة ليلا.

14 - الغرار: قلة النوم و أصله قلة لبن الناقة.

15 - أظمأ: من الظمأ و هو العطش.

16 - الهواجر: جمع هاجرة و هي نصف النهار عند اشتداد الحر.

17 - ظلف: منع.

18 - أوجف: أسرع و الوجيف ضرب من السير.

19 - الذكر: تسبيح اللّه و تحميده و ما أشبه ذلك.

20 - الأمان: الاطمئنان، السلامة.

21 - تنكّب: عن الشيء مال عنه.

22 - المخالج: المشاغل.

23 - وضح السبيل: الوضح محركة الجادة و السبيل هو الطريق.

24 - أقصد المسالك: أقوم الطرق.

25 - النهج: الطريق الواضح.

26 - فتله: صرفه و رده.

27 - لم تعم: من العمى و لم تعم عليه لم تخف عليه.

28 - المشتبهات: من الأمور هي المشكلة، ما لم يتضح و يظهر معناه...

29 - الظافر: الغالب و الفائز فيما يريد، المنتصر.

ص: 487

30 - البشرى: الخبر المفرح.

31 - النعمى: بضم النون سعة العيش و نعيمه.

32 - عبر: جاز و عبر الطريق إذا قطعه.

33 - العاجلة: الدنيا.

34 - الآجلة: الآخرة.

35 - بادر: سارع.

36 - الوجل: الخوف.

37 - أكمش: أسرع.

38 - المهل: الرفق و التؤدة.

39 - القدم: بضمتين المضي إلى أمام.

40 - النوال: العطاء.

41 - الوبال: الوخامة، سوء العاقبة، الشدة.

42 - الحجيج: المغالب بإظهار الحجة.

43 - الخصيم: المخاصم المجادل و المنازع.

الشرح

(و اعلموا أن مجازكم على الصراط و مزالق دحضه) كل إنسان لا بد و ان يمر على الصراط و هو الطريق إلى الجنة و مكانه فوق النار أدق من الشعرة أو حد السيف فمن اجتازه فإلى الجنة و من هوى عنه فإلى النار و بهذا جاءت الأخبار و يجب الاعتقاد به على إجماله دون تفصيلاته.. إنه طريق دقيق لا تستقر عليه إلا أقدام المطيعين.. أما العاصين فتزّل أقدامهم و يسقطون بغتة في جهنم.. إنه طريق يحتاج إلى تقوى و إيمان و التزام...

(و أهاويل زلله، و تارات أهواله) يتذكر الإنسان تلك الحالات الصعبة المرعبة التي تهدده بالسقوط في النار و تلك الأوقات التي تأتي بين الحين و الآخر بما يفزع و يرعب و من كان في معرض الوصول إلى هذه الحالات وجب عليه أن يستدركها بالعمل الصالح ليتخلص منها و ينجو من أهوالها و من المعلوم أن الطريق الذي يؤمّن العبد من هذه الأمور ينحصر بطاعة اللّه و القيام بكل ما أمر و الانتهاء عن كل ما نهى...

(فاتقوا اللّه عباد اللّه تقية ذي لب شغل التفكر قلبه) أمرهم عليه السلام أن يكونوا على تقوى اللّه، التقوى التي تحرك العقل و تستثيره في قضايا الآخرة و ما فيها و ما ينفع لإدراكها و الحصول عليها... و من لم يفكر في الآخرة لا يقدر على العمل لها؟. و من لا

ص: 488

يعلم حسنها و وجوب السعي لها لا يطلب الطريق إليها و لا يسعى لإدراكها..؟ فالتقوى المنبعثة عن فكر و إدراك هي المنطلق لحسن العمل و تمامه...

(و أنصب الخوف بدنه) أتعب الخوف بدنه فهو يشعر بالعذاب و العقاب فيتعب بدنه بالعبادات و وسائل تحصيل الخيرات، و المنافع العائدات...

(و أسهر التهجد غرار نومه) أذهبت العبادات في الليل كل نومه و منعته حتى من القليل منه و هذا دأب الصالحين حلفاء المحراب، و رهبان الليل الذين لا تغمض لهم عين و لا تأخذهم سنة بل منعهم ذكر الميعاد لذة النوم...

(و أظمأ الرجاء هواجر يومه) و رجاؤه بما أعده اللّه لعباده المطيعين جعله يتشوق إلى ذلك فيصوم في شدة الحر و ما أطيب الظمأ و أحسنه في تموز و آب عند ما تلفح الرياح الحارة وجه الصائم فيشعر أنه في عبادة و يشعر بلذة الألم في طاعة اللّه، و اللّه إنها لذة عظيمة يدركها الصائم في تلك اللحظات...

(و ظلف الزهد شهواته) و شهوات النفس كثيرة تدفع بهذا الإنسان إلى ارتكاب الحرام و لكن هذا الإنسان لزهده بالدنيا فقد امتنع عن الشهوات و متطلبات النفس و مشتهياتها...

(و أوجف الذكر بلسانه) و لسانه دائما في تمتمة تسبيحا و تحميدا و تهليلا، إن هذا اللسان في سرعة دائمة إلى ذكر اللّه و الثناء عليه و تعداد نعمه و شكره عليها...

(و قدم الخوف لأمانه) خاف في الدنيا من ارتكاب المعاصي فامتنع عنها فأدرك بذلك الأمان في الآخرة و كل من خاف اللّه في الدنيا امتنع عن ارتكاب المحارم فكان حقا على اللّه أن لا يجمع له خوف الدنيا و خوف الآخرة...

(و تنكّب المخالج عن وضح السبيل) لم تشغله الشواغل و لم تصرفه الصوارف عن الطريق المستقيم و السبيل القويم فترك الملذات المباحة و هجر الأمور الجائزة و اشتغل فيما يرضى اللّه و يوصل إلى رضوانه...

(و سلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب) و سار على أعدل الطرق إلى ما أراد اللّه و أحب، فإن الاستقامة و الطهارة و النزاهة هي أقرب الطرق إلى مراد اللّه و من أحب اللّه قصد إليه من أحب الطرق إليه و أشدها اعتدالا و استقامة...

(و لم تفتله فاتلات الغرور) لم تصرفه عن الطاعات و الأعمال الخيرة صارفات الشهوات التي تخدع المرء و تصرفه عن الصالحات فإن صوارف الدنيا كثيرة كلها تأخذ

ص: 489

بعنان هذا الإنسان و تصرفه إلى ما يضره فهذا الإنسان لا ينقاد إليها و لا يسلم عنانه بيدها...

(و لم تعم عليه مشتبهات الأمور) و الأمور المشتبهة التي لا يعلم وجهها لا يرتكبها أو يمارسها بل يفحصها و يدقق فيها حتى يحصل منها على اليقين فيما طاب منها تناوله و ما خبث اجتنبه...

(ظافرا بفرحة البشرى و راحة النعمى) لقد ظفر بالفرحة الكبرى حيث بشرته الملائكة بالفوز و السعادة إنها تتلقاه بقولها: «بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار» و هناك النعيم و السعادة و الراحة الأبدية التي لا يعكر صفوها شيء...

(في أنعم نومه و آمن يومه) في أحسن راحة و أنعمها و آمن أيامه و أسلمها حيث لا فزع و لا تعب فقد عمل في أيام الفناء لأيام البقاء...

(و قد عبر معبر العاجلة حميدا و قدم زاد الآجلة سعيدا) قد اجتاز طريق الدنيا محمود السيرة فهو كان ذا سلوك جيد يعمل في سبيل اللّه و من أجل مرضاته يروض نفسه بالتقوى و يعمل للآخرة.. كان الناس ينظرون إليه فيحمدون أفعاله...

لقد قدم زاد الآخرة الذي هو الإيمان و العمل الصالح حالة كونه سعيدا في إيمانه و عمله...

(و بادر في وجل) أسرع إلى العمل في دار الدنيا خوفا من عقاب اللّه و عذابه أو مع الخوف من قبول العمل و رده...

(و أكمش في مهل) أسرع إلى الأعمال الصالحة في فسحة العمر التي أعطاها اللّه له فإن عمر الإنسان هو الذي يحدد له مستقبله فإن أسرع إلى الطاعات فيه و عمل الصالحات فاز و إذا أخرّ و سوفّ أو عصى و تمرد خسر و ندم...

(و رغب في طلب) رغب في الحق فطلبه و سعى للحصول عليه و كما قال الإمام في بعض كلمات من رغب في أمر طلبه أو إنه رغب فيما طلب اللّه منه من الأمور...

(و ذهب عن هرب) ذهب عن الباطل هربا منه و من تبعاته و ما يلحق فاعله من العقاب و الندم...

(و راقب في يومه غده) فهو في دار الدنيا و على قيد الحياة يعمل ناظرا إلى الآخرة فكل ما ينفعه هناك سعى له في الدنيا و أجاده و أبدع فيه...

ص: 490

(و نظر قدما أمامه) نظر إلى ما يرضي اللّه فسعى إليه دون أن يلتفت إلى غيره...

(فكفى بالجنة ثوابا و نوالا و كفى بالنار عقابا و وبالا) هذا ترغيب في الجنة و ترهيب من النار.. ترغيب فيما يوصل إلى الجنة و إن من أدرك هذه الغاية فقد أدرك أقصى المنى و أغلى الأشياء كما أنّ من دخل النار كان في أقصى الشقاء و العذاب و شتان بين الجنة و ثوابها و بين النار و عقابها فكل واحدة منهما هي منتهى ما يصل إليه الأتقياء و الأشقياء...

(و كفى باللّه منتقما و نصيرا) و في اللّه وحده كفاية فهو الكافي للانتقام من الظالمين و هو الكافي لنصرة المستضعفين...

(و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما) في الكتاب الكريم حججا قوية واضحة و براهين ساطعة نيرة لا يستطيع أن يقف أمامها عاقل أو يرفضها مفكر فهي الحجج التي تفحم اللبيب و تلزمه الحجة و هي تخصمه و تنتصر عليه..

الوصية بالتقوى و ذكر خلق الإنسان

اشارة

أوصيكم بتقوى اللّه الّذي أعذر (1) بما أنذر (2)، و احتجّ بما نهج (4)، و حذّركم عدوّا نفذ (5) في الصّدور خفيّا، و نفث (6) في الآذان نجيّا (7)، فأضلّ و أردى (8)، و وعد فمنّى (9)، و زيّن (10) سيّئات الجرائم (11)، و هوّن موبقات (13) العظائم، حتّى إذا استدرج (14) قرينته (15)، و استغلق رهينته (16)، أنكر ما زيّن، و استعظم ما هوّن، و حذّر ما أمّن.

و منها في صفة خلق الإنسان أم هذا الّذي أنشأه في ظلمات الأرحام (17)، و شغف (18) الأستار، نطفة (19) دهاقا (20)، و علقة (21) محاقا (22)، و جنينا (23) و راضعا، و وليدا

ص: 491

و يافعا (24)، ثمّ منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا، ليفهم معتبرا، و يقصّر مزدجرا؛ حتّى إذا قام اعتداله (25)، و استوى مثاله (26)، نفر (27) مستكبرا، و خبط (28) سادرا (29)، ماتحا (30) في غرب (31) هواه، كادحا (32) سعيا لدنياه، في لذّات طربه (33)، و بدوات (34) أربه (35)؛ ثمّ لا يحتسب رزيّة (36)، و لا يخشع (37) تقيّة؛ فمات في فتنته غريرا (38)، و عاش في هفوته (39) يسيرا، لم يفد (40) عوضا، و لم يقض (41) مفترضا (42) دهمته (43) فجعات (44) المنيّة (45) في غبّر (46) جماحه (47)، و سنن (48) مراحه (49)، فظلّ سادرا، و بات ساهرا، في غمرات (50) الآلام، و طوارق (51) الأوجاع و الأسقام (52)، بين أخ شقيق، و والد شفيق، و داعية بالويل (53) جزعا (54)، و لا دمة (55) للصّدر قلقا؛ و المرء في سكرة ملهثة (56) و غمرة كارثة (57)، و أنّة (58) موجعة، و جذبة (59) مكربة (60)، و سوقة (61) متعبة. ثمّ أدرج في أكفانه مبلسا (63)، و جذب منقادا (64) سلسا (65)، ثمّ ألقي على الأعواد رجيع (66) و صب (67)، و نضو (68) سقم، تحمله حفدة (69) الولدان، و حشدة (70) الإخوان، إلى دار غربته، و منقطع زورته (71)، و مفرد وحشته؛ حتّى إذا انصرف المشيّع (72)، و رجع المتفجّع (73)، أقعد في حفرته نجيّا لبهتة (74) السّؤال، و عثرة (75) الامتحان. و أعظم ما هنا لك بليّة (76) نزول الحميم (77)، و تصلية (78) الجحيم (79)، و فورات (80) السّعير (81)، و سورات (82) الزّفير (83)، لا فترة (84) مريحة، و لا دعة (85) مزيحة (86)، و لا قوّة حاجزة، و لا موتة ناجزة (87)، و لا سنة (88) مسلّية، بين أطوار الموتات (90)، و عذاب السّاعات! إنّا باللّه عائذون (91)!.

عباد اللّه، أين الّذين عمّروا فنعموا (92)، و علّموا ففهموا، و أنظروا (93)

ص: 492

فلهوا (94)، و سلّموا فنسوا! أمهلوا طويلا، و منحوا (95) جميلا، و حذّروا أليما، و وعدوا جسيما! احذروا الذّنوب المورّطة (96)، و العيوب المسخطة (97).

أولي الأبصار و الأسماع، و العافية و المتاع (98)، هل من مناص (99) أو خلاص، أو معاذ (100) أو ملاذ (101)، أو فرار أو محار (103)! أم لا؟ «فأنّى تؤفكون (104)!» أم أين تصرفون (105)! أم بماذا تغترّون (106)! و إنّما حظّ أحدكم (107) من الأرض، ذات الطّول و العرض، قيد (108) قدّه (109)، متعفّرا (110) على خدّه! الآن عباد اللّه و الخناق (111) مهمل، و الرّوح مرسل (112)، في فينة (113) الإرشاد، و راحة الأجساد، و باحة (114) الاحتشاد (115)، و مهل البقيّة، و أنف (116) المشيّة (117)، و إنظار التّوبة، و انفساح (118) الحوبة (120)، قبل الضّنك (121) و المضيق، و الرّوع (122) و الزّهوق (123)، و قبل قدوم الغائب المنتظر و إخذة العزيز المقتدر.

قال الشريف: و في الخبر: أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، و بكت العيون، و رجفت القلوب. و من الناس من يسمي هذه الخطبة: «الغراء».

اللغة

1 - أعذر: أتى بما يعذر، صار معذورا.

2 - أنذر: بالأمر أعلمه و حذره من عواقبه.

3 - احتج: ادعى و أتى بالحجة و احتج بالشيء جعله حجة و عذرا له.

4 - نهج: الأمر أبانه و أوضحه.

5 - نفذ: دخل.

6 - نفث: نفخ.

7 - النجي: من تحدثه سرا.

8 - أردى: أسقط و أرداه في البئر أسقطه فيها.

ص: 493

9 - منّى: الأمنية الكذب.

10 - زيّن: حسّن و زخرف.

11 - الجرائم: الذنوب و كأنها الكبيرة منها.

12 - هوّن: الأمر عليه سهّله و خففه.

13 - الموبقات: المعاصي، و الموبق المهلك.

14 - استدرج: فلان إذا خدعه في أمر ليدخل في غيره.

15 - القرينة: التابعة.

16 - الرهينة: المرهونة و هي المحبوسة و استغلق رهينته جعله بحيث لا يمكن تخليصه.

17 - الأرحام: أماكن تكوّن الجنين في بطن الأم.

18 - شغف: جمع شغاف و هو في الأصل غلاف القلب استعاره هنا للمشيمة.

19 - النطفة: ماء الرجل أو ماء المرأة.

20 - الدهاق: المملؤة أو المتتابعة.

21 - العلقة: الدم المتجمد.

22 - المحاق: ثلاثة ليال من آخر الشهر سميت محاقا لأن القمر يخفى فيها.

23 - الجنين: الولد ما دام في رحم الأم.

24 - اليافع: هو الغلام الذي شارف البلوغ.

25 - قام اعتداله: الاعتدال هو التساوي و منه الاعتدال الربيعي إذا تساوى الليل و النهار.

26 - استوى مثاله: بلغت قامته حد ما قدر لها من النمو.

27 - نفر: جزع و تباعد، شرد.

28 - خبط: البعير إذا ضرب بيديه إلى الأرض و مشى لا يتوقى شيئا.

29 - السادر: المتحير و أيضا الذي لا يبالي و لا يهتم بما صنع.

30 - الماتح: الذي يستقى من البئر و هو على رأسه.

31 - الغرب: الدلو العظيم.

32 - الكدح: شدة السعي، الجد.

33 - الطرب: الاهتراز و الاضطراب فرحا.

34 - البدوات: من بدا إذا ظهر.

35 - الإرب: الحاجة.

36 - الرزية: المصيبة.

37 - خشع: خضع و ذل.

38 - الغرير: الشاب، أو المغرور.

39 - الهفوة: الزلة.

ص: 494

40 - لم يفد: لم يكتسب و لم يستفد.

41 - لم يقض: لم يؤد و يفعل.

42 - المفترض: الواجب.

43 - دهمته: غشيته.

44 - فجعات: الرزايا.

45 - المنية: الموت.

46 - غبرّ الشيء: بضم الغين و تشديد الباء بقايا.

47 - جماحه: يقال جمح الفرس إذا غلب فارسه و جمح الرجل إذا ركب هواه.

48 - السنن: الطريقة.

49 - مراحه: من المراح شدة الفرح و النشاط.

50 - غمرات: جمع غمرة و غمرة الشيء شدته و مزدحمه.

51 - طوارق: الدواهي.

52 - الأسقام: جمع السقم و هو المرض.

53 - الويل: الهلاك، و الشر.

54 - الجزع: عدم الصبر بالحزن و الكآبة.

55 - اللدم: ضرب الصدر.

56 - ملهثة: من لهث إذا أخرج لسانه عطشا و تعبا أو إعياء.

57 - كارثة: من كرثه الغم إذا اشتد عليه الغم و بلغ المشقة.

58 - أنة: من الأنين و هو التأوه.

59 - جذبه: من الجذب الذي هو ضد الدفع عنه و أصبح علم للمنية لأنها تجذب النفوس.

60 - مكربة: من الكرب و هو الشدة و الغم.

61 - السوقة: من ساق المريض نفسه عند الموت و سيق أسرع في نزع الروح.

62 - أدرج: الشيء في الشيء أدخله و ضمنه.

63 - مبلسا: متحيرا يائسا.

64 - منقادا: لفلان إذا أطاعه و أذعن له و خضع.

65 - السلس: السهل الانقياد.

66 - الرجيع: الكالّ و أصله أنه يرجع مرارا حتى يكلّ .

67 - الوصب: محركة المرض و الوجع.

68 - النضو: بالكسر المهزول من الإبل و غيره.

69 - الحفدة: مفردها الحافد، ابن الابن، الخادم، التابع، الناصر.

70 - الحشدة: الجمع و الحشود الجموع.

ص: 495

71 - الزورة: المرة من زار و الزيارة هي الإتيان بقصد الالتقاء بمن تريد.

72 - المشيع: الذي يخرج معك ليودعك.

73 - المتفجع: المتوجع.

74 - البهتة: الحيرة.

75 - العثرة: السقطة.

76 - البلية: المصيبة.

77 - الحميم: الماء الحار.

78 - التصلية: الاحراق و المراد هنا دخول جهنم.

79 - الجحيم: جهنم، النار.

80 - فورات: من فار القدر إذا غلت و ارتفع ما فيها.

81 - السعير: جمعه سعر لهب النار.

82 - سورات: جمع سورة الحدة و الشدة.

83 - الزفير: صوت النار عند توقدها.

84 - الفترة: الهدنة و الانكسار و الضعف.

85 - الدعة: السعة في العيش و السكون.

86 - مزيحة: مزيلة، و الإزاحة هي الإزالة.

87 - ناجزة: حاضرة.

88 - السنة: أوائل النوم.

89 - مسلية: ملهية.

90 - أطوار الموتات: أشكالها و أنواعها.

91 - عائذون: مستجيرون لائذون.

92 - نعموا: تنعموا.

93 - أنظروا: أمهلوا.

94 - لهوا: من اللهو و هو الاشتغال و التسلية بما لا يفيد.

95 - منحوا: أعطوا.

96 - المورطة: المهلكة.

97 - المسخطة: المغضبة.

98 - المتاع: كل ما ينتفع به انتفاعا قليلا غير باق.

99 - المناص: الملجأ و المفر.

100 - المعاذ: الملجأ.

101 - الملاذ: الحصن و الملجأ.

102 - الفرار: الهروب.

ص: 496

103 - المحار: المرجع.

104 - تؤفكون: تقلبون و تصرفون.

105 - تصرفون: تؤفكون و تنقلبون.

106 - تغترون: تخدعون.

107 - خط أحدكم: نصيبه و سهمه.

108 - القيد: بكسر القاف معناه المقدار و بكسرها و فتحها القامة.

109 - القد: مقدار القامة.

110 - المتعفر: الذي أصابه العفر و هو التراب.

111 - الخناق: الحبل الذي يخنق به.

112 - مرسل: غير مقيد، مطلق الحرية.

113 - الفينة: بالفتح الحال و الساعة و الوقت.

114 - الباحة: الساحة و باحة الدار ساحتها.

115 - الاحتشاد: الاجتماع.

116 - أنف: بضمتين أول الشيء.

117 - المشية: الإرادة.

118 - الانظار: الإمهال، و التأخير.

119 - الانفساح: السعة.

120 - الحوبة: الحاجة و الأرب.

121 - الضنك: الضيق.

122 - الروع: الفزع.

123 - الزهوق: للنفس معناه خروجها و زهق الشيء بطل و هلك.

الشرح

اشارة

(أوصيكم بتقوى اللّه الذي أعذر بما أنذر) حثهم عليه السلام على تقوى اللّه باعتبار أمور ثلاثة الأول أنه أعذر بما أنذر أي جعل لنفسه العذر أن يعاقب من وصله الإنذار و هو بيان الحكم مع التخويف من عاقبة تركه...

(و احتج بما نهج) و هذا ثاني الأمور الملزمة بالتقوى و هي أنه سبحانه جعل لنفسه الحجة في عقاب المتمردين بما بيّنه لهم من طرق الهدى و سبل النجاة من حيث شرّع لهم التكاليف و أوضح أمامهم السبل...

ص: 497

(و حذركم عدوا نفذ في الصدور خفيا) و هذا ثالث الأمور الموجبة للتقوى فإنّه سبحانه حذرنا من إبليس حيث قال: ««وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ » » فإنه عدو يجري منا مجرى الدم في العروق و يسري في الصدور مختفيا لا تراه و إنما ترى آثاره السيئة و قبائحه المشينة قال تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلنّٰاسِ مَلِكِ اَلنّٰاسِ إِلٰهِ اَلنّٰاسِ مِنْ شَرِّ اَلْوَسْوٰاسِ اَلْخَنّٰاسِ اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنّٰاسِ » ...

(و نفث في الآذان نجيا) و هذا أسلوب من أساليب الشيطان و طريق من طرقه الملتوية إنه يلقي في آذان الناس ما يضلهم به و يحرفهم عن مستقيم السبيل...

(فأضل و أردى) إنها صفة من صفات الشيطان يضل الإنسان بما يوسوس به إليه فيحرفه عن العدل و الحق و يهلكه بسبب هذا الانحراف...

(و وعد فمنى) إنه يعد الإنسان بأمور كاذبة لا يفي بها يعده بطول البقاء و دوام النعيم و استمرار الحياة ليعصي و يسوف التوبة و لا يشكر المنعم فيقع فجأة فريسة الموت و تضيع الآمال و يتبين كذب ما قطعه الشيطان على نفسه و ما أعطاه لهذا الإنسان من الأماني و قدمه له من الآمال...

(و زيّن سيئات الجرائم) حسّن للإنسان المعاصي القبيحة فجعله يراها حسنة إنه يأتي عن طريق الشهوات و الشباب و القوة يقول للشباب إنك في مقتبل العمر و زهرة الشباب فلو نلت حظك من هذا المحرم و بعد ذلك تتوب أو أن هذه معصية صغيرة تمحوها بحسنة و هكذا دواليك...

(و هون موبقات العظائم) جعل المهلكات العظيمة من الذنوب سهلة خفيفة على النفس و تهوينها باعتبار تداركها بالتوبة فيما بعد أو لأنها معصية مارسها غيره من الكبار فجعلهم له قدوة أو بإنكار أصل الإيمان أو بغير ذلك من وسائله المضلة و طرق انحرافاته الخطيرة و إن عصر الشباب و أيام الفتوة أكثر الأوقات خطرا و أكثرها تعرضا لتهوين المعصية و تصغيرها...

(حتى إذا استدرج قرينته و استغلق رهينته) حتى إذا دفع بتابعه من الناس إلى المعصية و الانحراف و استحكم الطوق عليه و صعب تخلصه منه و من الحرام عندها يصرخ في وجه تابعه بما يقول عنه الإمام و يحكي...

(أنكر ما زين و استعظم ما هوّن و حذر ما أمّن) و هذه صورة للشيطان و عاقبة أمره مع هذا الإنسان، إن المذنب بعد اقترافه الإثم بتزيين الشيطان له يتنكر الشيطان له و ينكر عليه

ص: 498

ما زيّن، يريد به زيادة النكاية و الشماتة، يريد أن يجعلها حسرة في قلبه فينكر تزيينه للمعصية و تحسينه لها في عين الإنسان ثم لا يقتصر على ذلك بل يروح يعظم عليه المعصية و يقول له إن اللّه لا يغفرها لك و ليس لك توبة منها حتى تزداد حسرته و يقوى كمده إنه يقوم اليوم بعد وقوعها منه بدور المحذّر و المخّوف من عاقبتها بعد أن سبق منه الأمان من عقابها و النجاة من عذابها و هذا كما قال تعالى: «وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ وَ قٰالَ لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ فَلَمّٰا تَرٰاءَتِ اَلْفِئَتٰانِ نَكَصَ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ وَ اَللّٰهُ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ » ...

(أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام و شغف الأستار) ذكر عليه السلام حال الإنسان و تقلباته و أطوار حياته و عقبّه بذكر نعمه عليه و ما أعطاه له و بيّن كفره بالنعم و إنكاره للجميل و تنكبه عن الطريق ثم كيف أدركه الموت في تلك الحالات و فصّل ما يلاقيه و ما يمر عليه و اذكر هذا الإنسان الذي أنشأه اللّه و كونه في ظلمات الأرحام حيث ينعدم النور و يدوم الديجور و هناك ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة التي تلف الجنين قال تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمٰاتٍ ثَلاٰثٍ » و هي ظلمة الرحم و البطن و المشيمة...

(نطفة دهاقا و علقة محاقا و جنينا) بيّن عليه السلام المرحلة الأولى من مراحل تكوين هذا الإنسان إنه ابتدأ من نطفة حقيرة اندفعت من الرجل إلى رحم المرأة و بعد استقرارها و نموها تحولت إلى علقة أي قطعة من الدم لم ترتسم ملامحها و لم تستبين معالمها ثم بعد ذلك تكتمل الصورة و تصبح جنينا في صورة آدمي كامل التكوين...

قال سبحانه و تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ » ...

(و راضعا و وليدا و يافعا) و هذه مرحلة أخرى من مراحل حياة الإنسان، مرحلة نزوله إلى الدنيا حيث يسقط طالبا الرضاع مستصرخا ثدي أمه يلتقطه راضعا حليبها و بعد ذلك يفطم عنه فيصبح وليدا يدرج بمفرده و يستقل في مشيته ثم بعد ذلك يصبح يافعا إذا بلغ الحلم أو كاد لأنه يرتفع عن أحواله السابقة، و هذه حالات يمر فيها الإنسان تحتاج إلى عناية و كلفة و إلى تربية و تهذيب...

و هذه كلها حسب حالاته المادية و نشأته التكوينية أما حالاته المعنوية فقد أشار إليها بقوله...

ص: 499

(ثم منحه قلبا حافظا) يفهم الأمور و يحللها و يقف على كل شاردة و واردة و يعرف مصادر الأمور و مخارجها، بهذا القلب يجمع الحب و البغض، و الإقبال و الإدبار به يستطيع أن يدرس الماضي و يعرف الحاضر و يطل على المستقبل...

(و لسانا لافظا) هذه الكتلة اللحمية بها عرف هذا الإنسان و عن طريقها استطاع أن يوصل ما بيده و ما عنده إلى الآخرين.. الكلام الذي تستطيع أن تحوّل به أمة إلى الإيمان كما تستطيع أن تخرجها منه،.. بهذا اللسان تجرح عظيما و تسقطه عن مكانته و به ترفع خاملا و تجعله سيد المواقف و زعيم العالم... بهذا اللسان تعلن الحرب على البشرية فتدمر كل ما قدمته حضارة الإنسان و تنسف له كل جهوده و به تستطيع أن توقف حمامات الدم و تحول العالم إلى واحة سلام و منطقة أمان و تبني الحضارات و تؤسس المؤسسات...

(و بصرا لاحظا) بصرا يدرك الأمور و ما يقع عليها.. بهذا البصر تكتشف طريق الحياة و تحدد الأمور و تشخصها و قد أعطى الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق حق البصر و بين ما يجب له و ما عليه و قد شرحنا هذه الرسالة المباركة و طبعت للمرة الخامسة...

(ليفهم معتبرا و يقصر مزدجرا) أعطاه اللّه هذه الأمور من أجل أن يفهم بها الحياة و يعتبر من خلالها بما جرى و ما يجري.. يتعظ بهذا العقل الذي يدرك الأمور و يحللها و يعتبر من خلال مشاهداته بهذا البصر و ما يقع عليه من عجائب الصنع و غريب الأحداث، يعتبر بما صدر عن العظماء من كلام و بما جرى على ألسنتهم من تعاليم و تشريع و عظات.. إنه أعطى ما أعطى من أجل أن يفهم الأمور و يعتبر بها و يمتنع عن القبائح و يكف عن ممارستها و يهجر المنكر و لا يقترب منه فعلا كان أم قولا أم موقفا و سلوكا...

(حتى إذا قام اعتداله و استوى مثاله) أعطى اللّه هذا الإنسان ما أعطاه حتى إذا اكتملت فيه القوى و تناسبت مع بعضها و تساوت مع أجزائها فتمت خلقته بدون زيادة أو نقصان بأن بلغت الحد الأعلى من النمو الذي يجب أن تبلغه عندئذ كانت منه هذه الهفوات و الانحرافات التي سيذكرها صلوات اللّه عليه و كأنه عليه السلام يريد مضمون و فحوى قوله تعالى: «كَلاّٰ إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ أَنْ رَآهُ » الدالة على إن هذا الإنسان عند ما اغتنى بقوته المادية بأن اكتمل في الجسم و القوة فيحاول أن يبرز عضلاته و يطغى على أقرانه، و كذلك إذا استغنى بالمال يحاول أن يصرفه في معصية اللّه..، و إذا استغنى

ص: 500

بالجاه و السلطان يحاول أن يستغله في ظلم العباد و هكذا فإن هذا الإنسان عند ما تكتمل قوته و يعتدل مزاجه و تتناسب أحواله يتحول إلى هذه الرذائل ليمارسها يقول عليه السلام...

(نفر مستكبرا) ابتعد عن أحكام اللّه و تعاليمه،.. يرى نفسه أعظم من أن يمارسها أو يقوم بها كما قال تعالى(1): «وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا وَلّٰى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ » ...

(و خبط سادرا) مارس الأمور دون دراية لها أو معرفة بها لا يبالي بما وقع منه أو صدر عنه، لا يفرّق بين ما يجب عليه و ما يجب له إنه في أبان مراهقة يغلب عليه الطيش و عدم الاتزان و الرصانة...

(ماتحا في غرب هواه) فكما إن الدلو العظيم ينزح به الماء من أجل الإرواء و رفع الظمأ فقد شبه عليه السلام هوى هذا الإنسان بالدلو الكبير فهو يأخذ بكل ما يمليه عليه هواه و يستوعب به مشتهاه دون مراجعة لدين أو أمر من أمور العقل أو الشرع المبين،.

فهو لجهله يستعمل هواه و يستوفي به كل ما يريد...

(كادحا سعيا لدنياه) إنه يجد و يجتهد و يبذل قصارى جهده في سبيل الدنيا و من أجلها و يقصر النظر عليها غافلا عن آخرته ناسيا ذكر ربه، و من كان سعيه لدنياه فحسب بالطبع تكون خسارته كبرى و مصيبته عظمى و يكون مبلغ عمله حقيرا و قليلا...

(في لذات طربه) إنه يسعى من أجل الحصول على لذاته و مرحه و فرحه فهو مغمور فيها...

(و بدوات أربه) فكل أمر يخطر بباله أو يبدو له من لذة أو فرح بادر إليه و سعى لاقتناصه دون النظر إلى عواقبه و ما يترتب عليه...

(ثم لا يحتسب رزية و لا يخشع تقية) لا يحسب للمصائب حسابا و هذا حال الجاهل الغافل و الشاب المعتد بقوته ينسى المصائب و العلل و حوادث الدهر و لا يخاف من اللّه فيرتدع عن معصيته، إنه لا يخشع قلبه و لا يخاف اللّه في معصية...

(فمات في فتنته غريرا) مات في ضلاله شابا بعد لم يستوف أيامه و لم يكمل عمره أو مات مغرورا قبل أن يستيقظ من غفلته و يستفيق من غفوته...7.

ص: 501


1- سورة لقمان، الآية: 7.

(و عاش في هفوته يسيرا) عاش مع أخطائه و زلاته و معاصيه هذا العمر القصير و ليس كله بطبع الحال بل تلك المدة التي استوفى فيها قوته و استطاع أن ينال لذته و ما أقصرها من مدة و ما أسرع سيرها في الحياة...

(لم يفد عوضا و لم يقض مفترضا) لم يستفد أمرا من أمور الكمال يعوّض به ما فاته من أيام عمره فلم يسعى من أجل تهذيب نفسه و ترويضها على التقوى و خدمة العباد كما و إنه لم يقم بواجب فرضه اللّه عليه فيؤدي بذلك حق اللّه و يسقط تكليفه الملقى عليه...

(دهمته فجعات المنية في غبرّ جماحه و سنن مراحه) بينما هو في تلك الحالات اللاهية و إذا بمصائب المنية تفجأه و دواهيها تحل بساحته إنه و في نفسه بقايا قوة و هو في أحوال لهوه و فرحه و إذا بسهام المنية و رسل الموت يأتونه يروعونه و يدعون أيامه سوداء...

(فظل سادرا و بات ساهرا) بعد أن فاجأته مصائب الموت و لم يكن يحسب لها حسابا وقع متحيرا لا يدري ما ذا يفعل لقد أسقط ما في يده و عجز عن تلافي ما قصر و بات ساهرا من الألم و الوجع...

(في غمرات الآلام و طوارق الأوجاع و الأسقام) إنه يمر في أصعب حالات الألم قد حلت به الأوجاع و الأمراض لا يستطيع التخلص منها أو الهروب من وجهها، فنفسه تنقبض و أنفاسه تتعثر و أوجاعه تشتد و لا يقوى على حركة و يفقد كل نشاط و من رأى مسجى يحتضر أدرك بأم عينه ما يعانيه المحتضر...

(بين أخ شقيق و والد شفيق) إنه مسجى يحيط به أعز الناس عليه و أقربهم إليه فهنا أخ قريب يعيش معه ألمه و أساه و هناك والد شفيق التوى قلبه عليه رقة و عطفا...

(و داعية بالويل جزعا و لا دمة للصدر قلقا) و انتشرت حوله أم و أخت و بنت و كل واحدة قد قل صبرها و فقدت عزمها فراحت تصرخ على نفسها بالهلاك لفقد العزيز و الحبيب و الكفيل أو تضرب صدرها متأثرة بكبر المصاب لفقد الأعزة و الأحباب...

و هذه صورة حقيقية ينقلها الإمام و تجري عند كل حالة موت حيث يجتمع الأقارب رجالا و نساء و لكل دوره في توديع المسجى بين أيديهم هذا هو حالهم أما حاله في تلك الساعات الصعبة فيصورها الإمام بقوله...

(و المرء في سكرة ملهثة و غمرة كارثة) إنها آخر ساعات الدنيا و أصعبها عليه، إنها شديدة الوطىء على قلب هذا الإنسان المسجى الذي قد ماتت فيه القوة و انعدمت من

ص: 502

أعضائه الحياة، إنه في غيبوبة قد فقد الوعي و ضاقت أنفاسه فراح يلهث من التعب قد أعياه المرض و شدته و قد بلغ به الغم إلى أعلى درجاته و أصعب حالاته هذا إذا كانت العبارة «ملهثة»...

أما إذا كانت ملهية فواضح أن معناها أنه قد اشتغل بنفسه عن النظر إلى من حوله...

(و أنة موجعة و جذبة مكربة) إنه في أنين مستمر من الوجع.. يتأوه بحزن و ألم و ملك الموت يستل الروح فيصيب الميت حالة شديدة عليه لا يقدر من شدتها على وصفها إلا أنها مؤلمة...

(و سوقة متعبة) حيث الملائكة تخرج الروح من البدن و تسوقها عارية عنه فتجد في تجردها تعبا و شدة لفراقه و بعدها عنه...

(ثم أدرج في أكفانه مبلسا) و بعد اجتماع الأحبة حوله و استرجاعهم و ضرب صدورهم و بعد معاناته الشدائد و الصعاب و مفارقة نفسه لبدنه فقد مات.. إنها مرحلة جديدة من الحياة بالنسبة إليه و لكن هناك تكاليف مطلوبة من الأحياء و واجبات لا يجوز التفريط بها... و مهما كان الفقيد عزيزا و حبيبا فلا بد من تغسيله و تكفينه.. إنها ثلاث خرق يعبر عنها بلسان الشرع الكفن...

1 - المئزر و يجب أن يكون ساترا ما بين السرة و الركبة.

2 - القميص يجب أن يكون ساترا ما بين المنكبين إلى نصف الساقين.

3 - الإزار يجب أن يغطي تمام البدن...

إنه يلفّ بهذه الأثواب عديم الحركة تلفه أيدي أحبته لا يملكون له من أمره شيئا..

هذا هو كل ما يصيبه من أمواله و تراثه لا يقدر على الزيادة و لا يسمح بها إن طلبها..

(و جذب منقادا سلسا) أخذ عن داره و منازل أحبته لم يمانع أو يعاند بل خاضعا بلسان الحال لا يقدر على شيء...

(ثم ألقي على الأعواد رجيع و صب و نضو سقم) بعد أن تم تجهيزه طرح على النعش «المحمل» الذي يحمل عليه الميت كليلا متعبا هزيلا سقيما قد أخذ منه المرض مأخذة فصيّره رمة بالية و هيكلا خاويا...

(تحمله حفدة الولدان و حشدة الإخوان) لقد تعاون على حمله أولاده و أولادهم و من أجتمع لتشييعه من المؤمنين... إنهم يحملونه إلى مثواه الأخير و هذا كل ما له عند

ص: 503

أولاده و أحفاده و أقربائه.. إنهم يوصلونه إلى حفرته تتناقله أيديهم.. فيوجرون و يؤدون الواجب عليهم...

(إلى دار غربته و منقطع زورته و مفرد وحشته) إنهم يحملونه إلى دار الغربة الحقيقية حيث ينقطع في قبره عن كل مخلوق.. يفقد الأحبة.. و الأولاد.. و الأصدقاء و رفقاء الصبا.. إنه لا يزار بعد اليوم كما كان يزار.. إنه وحده في وحشة لا أنيس و لا حبيب و لا عشير... غربة حقيقية عن الأهل و الوطن و الأعزة...

(حتى إذا انصرف المشيع و رجع المتفجع) فلا بد لمن شيّعه إلى مثواه الأخير من الحفدة و الإخوان أن يرجع عن قبره و لا بد لكل متوجع عليه حزين لا بد أن يعود من توديعه تاركا له في حفرته وحيدا فريدا و عندها تبدأ مصيبته العظمى و تقوم قيامته الكبرى... عندها يأتي دور الحساب يقول الإمام فبعد رجوع الحفدة و الإخوان...

القبر و سؤاله:

(أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال و عثرة الامتحان) بعد أن يصبح وحيدا في قبره و قد انصرف عنه الأحبة و المشيعون يأتي دور الحساب له و هو المعبر عنه بحساب القبر حيث يفجأه السؤال عن حياته و إيمانه و مقدار التزامه إنه امتحان صعب يسقط فيه المنحرفون و أصحاب الأهواء و الشهوات... يسقط فيه أهل الدنيا الذين انصرفوا إليها و رضعوا من ثدييها و لم يتجنبوا حرامها... و مسألة القبر مما تسالم عليها المسلمون بل انعقد عليها الإجماع إلا ممن لا يعتد بخلافه و قد وردت بها الأخبار ففي الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إن المؤمن إذا خرج من بيته شيعته الملائكة إلى قبره و يزدحمون عليه حتى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض: مرحبا بك و أهلا، أما و اللّه لقد كنت أحب أن يمشي عليّ مثلك لترين ما أصنع بك فيوسع له مد بصره.

و يدخل عليه ملكا القبر و هما قعيدا القبر منكر و نكير فيلقيان فيه الروح إلى حقويه فيقعدانه و يسألانه فيقولان:

من ربك ؟.

فيقول: اللّه تعالى.

فيقولان: ما دينك ؟.

فيقول: الإسلام.

فيقولان: و من نبيك ؟.

ص: 504

فيقول: محمد (صلی الله علیه و آله) .

فيقولان: و من إمامك ؟.

فيقول: فلان.

قال: فينادي مناد من السماء صدق عبدي افرشوا له في قبره من الجنة و افتحوا له في قبره بابا إلى الجنة و ألبسوه من ثياب الجنة حتى يأتينا و ما عندنا خير له نم يقال له: نم نومة عروس، نم نومة لا حلم فيها قال عليه السلام: و إن كان كافرا خرجت الملائكة شيعته إلى قبره يلعنونه حتى إذا انتهى إلى قبره قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا، أما و اللّه لقد كنت أبغض أن يمشي عليّ مثلك لا جرم لترين ما أصنع بك اليوم فتضيق عليه حتى يلتقي جوانحه.

قال عليه السلام: ثم يدخل عليه ملكا القبر و هما قعيدا القبر منكر و نكير.

قال أبو بصير: جعلت فداك يدخلان على المؤمن و الكافر في صورة واحدة ؟.

فقال عليه السلام: لا.

قال: فيقعدانه فيقليان فيه الروح إلى حقويه فيقولان: من ربك ؟ فيتلجلج و يقول: قد سمعت الناس يقولون.

فيقولان: لا دريت.

و يقولان له: ما دينك ؟.

فيتلجلج.

فيقولان له: لادريت.

و يقولان له: من نبيك ؟.

فيقول: قد سمعت الناس يقولون.

فيقولان له: لادريت و يسأل عن إمام زمانه.

قال عليه السلام: و ينادي مناد من السماء كذب عبدي افرشوا له في قبره من النار و افتحوا له بابا إلى النار حتى يأتينا و ما عندنا شر له فيضربانه بمرزبة ثلاث ضربات ليس منها ضربة إلا و يتطاير منها قبره نارا لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميما و قال أبو عبد اللّه عليه السلام: و يسلط اللّه عليه في قبره الحيات تنهشه نهشا و الشيطان يغمّه غما.

قال: و يسمع عذابه من خلق اللّه إلا الجن و الإنس.

و قال عليه السلام: إنه ليسمع خفق نعالهم و نفض أيديهم و هو قول اللّه عز و جل

ص: 505

«يُثَبِّتُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّٰابِتِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ » ...

(و أعظم ما هنا لك بلية نزول الحميم و تصلية الجحيم) و هذه هي أعظم مصيبة و أفدحها تصغر عندها موتات الدنيا إنها أعظم ما يلاقيه الإنسان المجرم المنحرف نزول الحميم عليه و هو الماء الحار الذي يصب عليه و النار التي تلفه و تصيبه.. نار حامية و ماء حار يغلي و هل يقدر هذا الإنسان الضعيف على تحمّل هذا العذاب و هو لا يقدر أن يحتمل حرارة عود من الثقاب...

(و فورات السعير و سورات الزفير) و هناك غليان النار و اشتدادها و أصواتها العالية التي لشدتها تبعث هذه الأصوات.. إنها نار سجرها جبارها لغضبه كما يقول الإمام في بعض خطبه.. اللهم أجرنا منها و من عذابها...

(لا فترة مريحة و لادعة مزيحة) عذاب دائم مستمر ليس هناك وقت يستريح فيه هذا الإنسان من العذاب كما إنه ليس هناك وقت هدوء و استراحة تزيل هذا العذاب و تريح صاحبه...

(و لا قوة حاجزة و لا موتة ناجزة) فليس في المقام قوة تمنع هذا العذاب و تحجبه كما إنه ليس في المقام موت عاجل يحيق بهذا الإنسان و ينهي وجوده و ينتهي.. إنه عذاب متصل مستمر...

(و لا سنة مسلية بين أطوار الموتات و عذاب الساعات إنا باللّه عائذون) فليس من نوم و لو كان قليلا و غير مستقر يلهي هذا الإنسان عن عذابه و يشغله عن هذه الآلام المختلفة و المتنوعة، بل إنها عذابات متصلة ليس بينها فرجة يتلهى بها الإنسان أو يستريح...

(عباد اللّه أين الذين عمروا فنعموا) ذكّر عليه السلام بجملة من نعم اللّه التي يجب أن تقابل بالشكر فقوبلت بالإساءة و هؤلاء هم الذين طالت أعمارهم في الدنيا و امتدت كثيرا و كانوا في سعة من العيش و رغد في الحياة.. هؤلاء الذين أعطوا هذه الأعمار الطويلة و الحياة الطيبة الناعمة المرفهة يجب أن يؤدوا شكر هذه النعمة و يقوموا بمستلزمات استمرارها و ثواب أجرها...

(و علّموا ففهموا) توضحت الأمور أمامهم و ارتفعت الغشاوة عن عيونهم فوقفوا على الحقيقة و عرفوا أحكام الشريعة و ما ينفع و يفيد في الدنيا و الآخرة فلا عذر لهم بعد هذا إذا انحرفوا و لا حجة لهم على ما ذهبوا إليه و نهجوا نحوه...

ص: 506

(و أنظروا فلهوا) أخرهم اللّه فلم يأخذهم بالعذاب و لم يستعجل عليهم بالعقاب..

و هذا التأخير لمصلحتهم لعلهم يرجعون و يتنبهون و لكنهم اشتغلوا بما لا ينفع و قضوا أوقاتهم بما لا يفيد...

(و سلّموا فنسوا) حفظوا من الآفات و العاهات فأبدانهم سالمة و أجسادهم صحيحة و لكنهم نسوا الآخرة و لم يعملوا لها كما نسوا مخبئات الدهر و مفاجات الحياة...

(أمهلوا طويلا و منحوا جميلا) أخرهم اللّه مدة هذا العمر و هو طويل بالنسبة لمن أراد أن يتوب و يعود و أعطاهم اللّه من منحه و عطاياه كل جميل و نافع و مفيد و هل هناك أجمل من هذه النعم و أوفر منها...

(و حذروا أليماً و وعدوا جسيماً) خوفهم اللّه عذابا شديدا أليما و هو النار فقال تعالى: «فَاتَّقُوا اَلنّٰارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ » ...

و وعدوا بالعطاء الكبير الذي يصغر عنه كل عطاء وعدهم اللّه بالجنة و ما فيها من نعيم و حور عين فقال تعالى:(1)«وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ» ...

(احذروا الذنوب المورطة و العيوب المسخطة) احذروا الذنوب و هي المعاصي المهلكة التي تورد مرتكبها إلى الجحيم و العيوب التي توجب غضب اللّه و عذابه...

(أولي الأبصار و الأسماع و العافية و المتاع) نادى عليه السلام على هؤلاء و صرخ بهم أن يتنبهوا و يستيقظوا نادى أصحاب الأبصار الذين يرون الحق و الباطل و يقدرون على التمييز بينهما و كذلك أصحاب الأسماع الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه..

نادى أصحاب العافية في الأبدان و الأديان و أصحاب الأموال و المقتنيات فإن هؤلاء أحق من يتنبه و يستمع و يعتبر...

(هل من مناص أو خلاص) فلا ملجأ من عذاب اللّه و لا خلاص من عقابه إذا خالف الإنسان أمره و عصى حكمه.. تحذير و تخويف لهذا الإنسان و إن الأسباب تنقطع و الشفاعات تتوقف إذا تمرد الإنسان على إرادة اللّه...

(أو معاذ أو ملاذ) لا ملجأ و لا حصن يحمي الإنسان من عذاب اللّه و عقابه و إذا تساقطت الحصون و الملاجىء و عجزت عن حماية هذا الإنسان وجب أن يستعد بوسائل2.

ص: 507


1- سورة التوبة، الآية: 72.

أخرى و ليست هي إلا الطاعة للّه و الالتزام بأمره...

(أو فرار أو محار أم لا؟) فلا هروب من عذاب اللّه إذا أحاط بهذا الإنسان و لا رجوع إلى الدنيا إذا طلب العودة. نعم لا فرار و لا رجوع بل شقوة لازمة دائمة...

(فإنى تؤفكون) إلى أي شيء ترجعون و تعودون و لا رجوع و لا عودة...

(أم أين تصرفون) في أي مكان ترجعون و لا رجوع...

(أم بماذا تغترون) كيف تخدعون بما لا طائل تحته و لا شيء ينفع فيه ثم بين فشل خدعهم بهذه النهاية لهم...

(و إنما حظ أحدكم من الأرض ذات الطول و العرض قيد قده متعفرا على خده) هذا هو نصيب الإنسان لا يقدر على أخذ الزيادة و لا يسمح له بذلك... نصيبه من هذه الأرض الواسعة الممتدة طولا و عرضا مقدار قامته طولا و مقدارها عرضا يطرح فيها و على أرضها بدون فراش و لا لحاف بل مفترشا التراب قد وضعوا خده الناعم الطري على تراب القبر قد أصابه منه ما كان يأنف منه في حياته، و رحم اللّه أمي لقد كانت تتذكر تلك الحفرة باستمرار، و تقول دائما: أعاننا اللّه على تلك الحفرة تعني القبر...

(الآن عباد اللّه و الخناق مهمل و الروح مرسل) يا عباد اللّه أعملوا الآن و أنتم في دار الدنيا لم يأخذكم الموت و يضيق عليكم به و أنفسكم حرة طليقة لم يقيدها الموت أو يمنع حركتها و بعبارة أخرى اعملوا اليوم فأنتم قادرون...

(في فينة الإرشاد) فأنتم الآن في أوقات تستطيعون فيها ارتياد الحق و العمل بالواجب و القيام بأوامر اللّه و لا بد و أن يأتي الوقت الذي تعجزون فيه عن العمل و تتوقف فيه الحركة...

(و راحة الأجساد) فأنتم في راحة بدنية فلا عذاب يصيبكم و لا ألم يحل بكم...

(و باحة الاحتشاد) فأنتم مجتمعون في دار الدنيا مع الأهل و الأحباب و الأقارب و الأصدقاء و هذا يسهل العمل و يرغب فيه...

(و مهل البقية) فهناك متسع باق من العمر تستطيعون استغلاله في طاعة اللّه و ما يقربكم منه سبحانه و تعالى...

(و أنف المشيّة) أي أوائل الإرادة حيث يجب على الإنسان أن تبدأ إرادته بالطاعة و الالتزام حتى تضع أول أقدامها على الصراط المستقيم فلا تنحرف أو تضل...

ص: 508

(و إنظار التوبة) فاللّه سبحانه أمهلنا و أجل أخذنا ليفسح لنا في التوبة كي نرجع إليه و نعود إلى رحابه و نتوب عما صدر منا من سيئات و قبائح و هذه رحمة اللّه بعباده يحب لهم أن يكونوا من أهل الجنة و يفتح لهم الأبواب لدخولها و كلما أقفلوا بابا فتح لهم أبوابا...

(و انفساح الحوبة) فأنتم في سعة تستطيعون العمل لحاجتكم في آخرتكم فكل أمر تحتاجونه في الآخرة فأنتم الآن تقدرون على القيام به لسعة الوقت...

(قبل الضنك و المضيق) ابتدءوا بالعمل قبل ضيق الزمان و ضيق المكان...

(و الروع و الزهوق) و قبل الخوف من أهوال الموت و يوم القيامة و قبل خروج الروح من البدن...

(و قبل قدوم الغائب المنتظر) قبل أن يأتي الموت الذي هو غائب عنا منتظرون لقدومه علينا...

(و إخذة العزيز المقتدر) أي سلب الأرواح بقدرة اللّه التي لا يقدر على الوقوف بوجهها أحد و لا يقدر على منعها بشر..

ص: 509

84 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذكر عمرو بن العاص عجبا لابن النّابغة (1)! يزعم (2) لأهل الشّام أنّ فيّ دعابة (3)، و أنّي امرؤ تلعابة (4): أعافس (5) و أمارس (6)! لقد قال باطلا، و نطق آثما (7). أما - و شرّ القول الكذب - إنّه ليقول فيكذب، و يعد (8) فيخلف (9)، و يسأل فيبخل (10)، و يسأل فيلحف (11)، و يخون العهد، و يقطع الإلّ (12)، فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر (13) و آمر هو! ما لم تأخذ السّيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته (14) أن يمنح (15) القرم (16) سبّتة (17). أما و الله إنّي ليمنعني من اللّعب ذكر الموت، و إنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة، إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّة (18)، و يرضخ له (19) على ترك الدّين رضيخة.

اللغة

1 - النابغة: سميت بذلك أم عمرو بن العاص لشهرتها بالفجور و تظاهرها به.

2 - يزعم: يقول، و الزعم مبني على الباطل أو ما فيه ارتياب.

3 - الدعابة: المزاح.

4 - تلعابة: كثير اللعب و التاء للمبالغة.

5 - أعافس: أعالج و أصارع.

6 - أمارس: أعالج و أصارع بالقرص.

7 - الآثم: العاصي و الإثم المعصية.

8 - يعد: من وعد و هو ما يقطعه الإنسان على نفسه من الأمور.

9 - يخلف: من أخلف إذا حنث و لم يف بما قطعه على نفسه.

ص: 510

10 - يبخل: يشحّ .

11 - يلحف: يلحّ .

12 - الإل: العهد، و القرابة.

13 - زاجر: مانع و ناه.

14 - المكيدة: الخديعة، المكر.

15 - يمنح: يعطي.

16 - القرم: في الأصل الفحل إذا ترك عن الركوب و العمل و يستعمل للسيد تشبيها به - العظيم.

17 - السبة: الاست، العورة.

18 - الأتية: العطية.

19 - رضخ له: أعطاه شيئا قليلا و الرضيخة الرشوة.

الشرح

اشارة

(عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة و أني امرؤ تلعابة أعافس و أمارس) أراد عمرو أن يفتش عن عيب في الإمام علي و هو خصمه اللدود يظهره لأهل الشام و يسقطه من أعينهم و يبيّن لهم عدم أهليته للخلافة فلم يجد إلا هذه التهمة الساقطة التي سمع بها الإمام فبين كذب مدّعيها و رد عليه بهذا الردّ المفحم الذي ذكر فيه بعض عيوب ابن العاص...

عجبا لابن النابغة و أي شيء أعجب من إنسان لا يستحي و لا يخجل.. إنه و اللّه مما يثير العجب أن ابن النابغة و هو عمرو و نسبه إلى أمه لخستها و دناءة أصلها و من عادة العرب أنها تنسب الشخص إلى أمه إما لشرفها كما يقال ابن الزهراء و أما لخستها كما يقال ابن النابغة و سميت بذلك لشهرتها بالفجور و تظاهرها به يزعم و الزعم مبني على الباطل و لا أساس فيه من الحق يزعم كذبا و زورا إن فيّ دعابة مزاحا و إني أ ضاحك الناس مما هو خارج عن حدّ الاعتدال و أعيش في حالة لاهية من اللعب و مداعبة النساء و من كان هذا شأنه لا يصلح للخلافة...

(لقد قال باطلا و نطق آثما) فما ادعاه عمرو و قاله في حق الإمام باطل لا أساس له و نطق عاصيا للّه مخالفا لأمره حيث نهى عن الكذب و هو يمارسه...

(أما و شر القول الكذب) فهناك شرور كثيرة في القول و لكن أشرها قول الكذب

ص: 511

فقد جاء في الحديث عن الصادق عليه السلام قوله: إن اللّه عز و جل جعل للشر أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب و أشر من الشراب الكذب...

(إنه ليقول فيكذب) هذه بعض صفات عمرو بن العاص و أولها: إنه إذا قال كذب على خلاف أهل الإيمان و عاداتهم فقد ارتكب أشر خصلة و أقبحها و من لا يرتدع عن الكذب كيف يصدّق في حديثه و كيف يقبل قوله.. إنه فاسق و اللّه نهى عن قبول قوله بقوله: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» ...

(و يعد فيخلف) هذه ثانية صفات عمرو القبيحة إنه إذا وعد أخلف و لم يف و هي أيضا خلاف صفات المؤمنين ففي الحديث: المؤمن إذا وعد وفى...

(و يسأل فيبخل) و هذه ثالثة صفات عمرو القبيحة إنه لا يرفد سائلا و لا يعطي محتاجا بل يشح و يبخل و يمسك يده على خلاف ما في المؤمنين...

(و يسأل فيلحف) عند ما يسأل يلح و يلج في سؤاله كأن له الحق على الناس و هذه صفة الأراذل، و أما الشرفاء فإنهم إذا سألوا كفّوا و خجلوا و استحيوا و لذا قال تعالى مادحا قوما بقوله تعالى:(1)«لاٰ يَسْئَلُونَ اَلنّٰاسَ إِلْحٰافاً» ...

(و يخون العهد) إذا عاهد اللّه أو أحد عباده يخونهم و لا يفي بما قطع على نفسه و عاهد غيره عليه و هذه رذيلة تضاف إلى رذائل ابن العاص...

(و يقطع الإل) إن كان المقصود بالإل هو العهد فيكون عطف تفسير على ما تقدم و إن كان المقصود به الرحم فتكون رذيلة جديدة من صفات ابن العاص إنه يعمل بخلاف ما أمر اللّه حيث أمر بصلة الرحم و التراحم فيما بين الأرحام فهو يقطع الرحم و لا يصلها...

(فإذا كان عند الحرب فأي زاجر و آمر هو ما لم تأخذ السيوف مأخذها فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته) و هذه رذيلة من رذائل ابن العاص و إحدى سيئاته بل هذه إحدى عوراته التي علّم الناس كيف يحتمي فيها يذكر عليه السلام أن ابن العاص قبل أن تقوم الحرب فهو الناهي و الآمر يوزّع تعاليمه و ينشر أراءه...

يصدر الأوامر و كأنه الشجاع الذي لا يفر أو ينهزم و لكن عند ما تقع الحرب و تحتدم و عند ما تشتبك السيوف و تلتحم عندها لا تجد لابن العاص مغيث أو معين إلا أن يكشف3.

ص: 512


1- سورة البقرة، الآية: 273.

عورته و يحتمي بها كما فعل عند ما نزل إلى قتال الإمام حيث كشف عن عورته فأغضى عنه الإمام و انصرف و أضحى فعله يضرب به المثل لمن دفع المكروه عن نفسه بعورته...

(أما و اللّه إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت) بعد أن بين كذب ابن العاص و بعض سيئاته و قبائحه و سوء خصاله عاد ليبين وجه ما يمنعه عن اللعب إنه ذكر الموت و ما بعده فإن من عرف أنه يموت و يحاسب و ينقطع عن العمل وجب عليه أن يستغل أوقاته فيما ينفع ليوم ميعاده و لا يضيعها فيما لا ينفع و لا يفيد.. أصحاب العقول السليمة يفكرون فيما يعود عليهم في آخرتهم بالنفع و علو الدرجات فكيف يقتلون أوقاتهم في اللعب و فيما لا ينفع...

(و إنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة) و هذه رذيلة ابن العاص بل أم الرذائل التي قادته إلى ارتكاب ما ارتكب و فعل ما فعل، فما غيرها من الرذائل إلا متولدة عنها و خارجة من رحمها،.. عند ما ينسى الإنسان الآخرة و لا يؤمن بها يأتي بكل قول زور و بهتان و لا يرتدع عن ارتكاب أي عيب أو حرام، عندها تباح له المحرمات و يرتكب الكبائر و الآثام، من لا يفكر في الآخرة و لا يحسب لها حسابها يفعل ما يريد و يقول كل ما يريد مما هو حرام و ممنوع و ابن العاص أحد رواد الكفار بالآخرة...

(إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أتية و يرضخ له على ترك الدين رضيخة) و ذكر الإمام خساسة ابن العاص فيما عقده مع معاوية من ترك دينه و أن يكون في صفه ينصره و له مصر طعمة في مقابل ذلك و هذا مذكور في كتب التاريخ و كل من تعرض لسيرة عمرو ذكر هذه الصفقة الخائبة التي باع فيها عمرو دينه مقابل مصر و حكمها...

ترجمة عمرو بن العاص:

اشارة

عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.

يكنى أبا عبد اللّه و يقال أبو محمد.

أبوه: العاص بن وائل أحد المستهزئين برسول اللّه و سماه اللّه بالأبتر لأنه قال لقريش: سيموت هذا الأبتر غدا فينقطع ذكره يعني رسول اللّه لأنه لم يكن له صلى اللّه عليه و آله ولد ذكر يعقب منه.

أمه: النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار قال: كانت النابغة أم

ص: 513

عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراها عبد اللّه بن جدعان التيمي بمكة فكانت بغيا ثم أعتقها فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب، و أمية بن خلف الجمحي و هشام بن المغيرة المخزومي و أبو سفيان بن حرب و العاص بن وائل السهمي في طهر واحد فولدت عمرا فادعاه كلهم فحكّمت أمه فيه.

فقالت: هو من العاص بن وائل و ذاك لأن العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيرا قالوا: و كان أشبه بأبي سفيان و في ذلك يقول أبو سفيان في عمرو بن العاص:

أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت *** لنا فيك منه بينات الشمائل

و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأنساب أن عمرا اختصم فيه بولادته رجلان: أبو سفيان بن حرب و العاص بن وائل فقيل لتحكم أمه فقالت أمه: إنه من العاص بن وائل السهمي.

فقال أبو سفيان: أما إني لا أشك أني وضعته في رحم أمه فأبت إلا العاص.

فقيل لها: أبو سفيان أشرف نسبا.

فقالت: إن العاص بن وائل كثير النفقة عليّ و أبو سفيان شحيح..

بهذا النسب الوضيع و بهذه الولادة القذرة كان عمرو بن العاص..

إسلامه:

أسلم عمرو سنة ثمان للهجرة بعد أن رأى قوة الإسلام و عظمته و انتصاراته فخوفا من القتل و رغبة في المغانم كان إسلامه و لذا يقول أمير المؤمنين علي «و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا...».

في عهد عمر فتحت مصر على يد عمرو بن العاص و قد تولاها من قبل عثمان مدة ثم عزله عنها فغضب و أخذ يؤلب الناس عليه و في لفظ البلاذري: و جعل يحرّض الناس على عثمان حتى رعاة الغنم ثم خرج إلى قصره في فلسطين و عثمان محصور فلما وصل نبأ قتله قال: قتلته و أنا بوادي السباع.

ثم لما بلغه قتله تربص لينظر ما يصنع الناس فلما بويع الإمام علي و تمرد معاوية و لم يبايع طلبه معاوية فاشترط عليه أن تكون له مصر طعمة خالصة فاتفقا على ذلك و اشتركا في قتال إمام الحق و جرت أحداث مؤلمة.

ص: 514

1 - برز للإمام في صفين فلما أمكنت الفرصة منه و كاد أن يقتل سقط على الأرض و كشف عورته فأعرض الإمام عنه...

2 - أشار على معاوية أن يأمر أهل الشام برفع المصاحف في وجوه أهل العراق - عند ما انهزم أهل الشام - فرفعوا المصاحف و حدثت الفتنة في جيش الإمام.

3 - اختاره معاوية للتحكيم فخدع أبا موسى الأشعري و عاد أبو موسى يشتمه و يصفه بأنه كلب و هو يصف أبا موسى بأنه حمار...

توفي عمرو بن العاص سنة 43 على أصح الأقوال عاش تسعين سنة..

ص: 515

الفهرس

كلمة سريعة 5-7

1 - من خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم و فيها ذكر الحج 13

بحث مختصر في الملائكة 33

2 - و من خطبة له عليه السلام بعد انصرافه من صفين و فيها حال الناس قبل البعثة و صفة آل النبي ثم صفة قوم آخرين 56

الحمد للّه 58

كلمة لا إله إلا اللّه 64

3 - و من خطبة له عليه السلام و هي المعروفة بالشقشقية و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له 72

الخلافة أو السقيفة و بيعة أبي بكر 77

لأبدية الخلافة 77

علي هو الخليفة 77

النبي يهيىء الأجواء لعلي 78

وفاة رسول اللّه 80

حديث السقيفة 80

عمر و أبو بكر في السقيفة 81

ملاحظات 83

ترجمة أبي بكر 85

خلافة عمر 87

ملاحظات 88

ترجمة عمر بن الخطاب 89

الشورى العمرية 93

ص: 516

ملاحظات 98

المرشحون للخلافة في رأي عمر 100

مخالفات عثمان 103

آراء الصحابة في عثمان 107

مقتل عثمان 108

ترجمة عثمان 112

بيعة الإمام 115

4 - و من خطبة له عليه السلام و هي من أفصح كلامه عليه السلام و فيها يعظ الناس و يهديهم من ضلالتهم و يقال:

إنه خطبها بعد قتل طلحة و الزبير 119

ما العمرة تريدان 122

5 - و من خطبة له عليه السلام لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب في أن يبايعا له بالخلافة و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة و فيها ينهى عن الفتنة و يبين عن خلقه و علمه 125

6 - و من كلام له عليه السلام لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة و الزبير و لا يرسل لهما القتال و فيه يبين عن صفته بأنه عليه السلام لا يخدع 131

7 - و من خطبه له عليه السلام يذم فيها أتباع الشيطان 133

8 - و من كلام له عليه السلام يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك و يدعوه للدخول في البيعة ثانية 135

ترجمة الزبير 136

9 - و من كلام له عليه السلام في صفته و صفة خصومه و يقال إنها في أصحاب الجمل 137

10 - و من خطبة له عليه السلام يريد الشيطان أو يكنى به عن قوم 138

11 - و من كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل 140

ترجمة محمد بن الحنفية 141

ص: 517

12 - و من كلام له عليه السلام لما أظفره اللّه بأصحاب الجمل و قد قال له بعض أصحابه و ددت أن أخي فلانا كان شاهدا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك 143

إنما يجمع الناس السخط و الرضا 144

13 - و من كلام له عليه السلام في ذم أهل البصرة بعد وقعة الجمل 146

14 - و من كلام له عليه السلام في مثل ذلك 151

15 - و من كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان 153

16 - و من كلام له عليه السلام لما بويع في المدينة و فيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم و فيها يقسم إلى أقسام 155

17 - و من كلام له عليه السلام في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهل و فيها: أبغض الخلائق إلى اللّه صنفان 163

18 - و من كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا و فيه يذم أهل الرأي و يكل أمر الحكم في أمور الدين للقرآن 172

أصحاب الرأي 175

19 - و من كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس و هو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه فقال: يا أمير المؤمنين: هذه عليك لا لك فخفض عليه السلام إليه بصره ثم قال: 177

ترجمة الأشعث بن قيس 180

20 - و من كلام له عليه السلام و فيه ينفر من الغفلة و ينبه إلى الفرار للّه 182

21 - و من خطبة له عليه السلام و هي كلمة جامعة للعظة و الحكمة 185

22 - و من خطبة له عليه السلام حين بلغه خبر الناكثين ببيعته و فيها يذم عملهم و يلزمهم دم عثمان و يتهددهم بالحرب 187

23 - و من خطبة له عليه السلام و تشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد و تأديب الأغنياء بالشفقة 192

ص: 518

العمل الخالص للّه 197

24 - و من خطبة له عليه السلام و هي كلمة جامعة له فيها تسويغ قتال المخالفين و الدعوة إلى طاعة اللّه و الترقي فيها لضمان الفوز 200

علي و قتال المخالفين 201

25 - و من خطبة له عليه السلام فيها ذكر الكوفة 203

من سنن التاريخ 207

ترجمة بسر بن أرطأة 209

26 - و من خطبة له عليه السلام و فيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له 211

صفقة التجار بين معاوية و عمرو بن العاص 215

27 - و من خطبة له عليه السلام و قد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا و فيها يذكر فضل الجهاد و يستنهض الناس و يذكر علمه بالحرب و يلقي عليهم التبعة لعدم طاعته 218

جولة سريعة في الجهاد 224

الجهاد في الكتاب 224

الجهاد في السنة 225

غاية الجهاد 225

الجهاد على أقسام 226

جهاد المشركين ابتداء 226

شروط المجاهد 227

الجهاد الدفاعي 227

جهاد البغاة 227

28 - و من خطبة له عليه السلام و هو فصل من الخطبة التي أولها «الحمد للّه غير مقنوط من رحمته» و فيه أحد عشر تنبيها 234

الإيمان الصحيح 237

اتباع الهوى و طول الأمل 239

29 - و من خطبة له عليه السلام بعد غارة الضحاك بن قيس صاحب معاوية على الحاج بعد قصة الحكمين و فيها يستنهض أصحابه لما حدث في الأطراف 241

ص: 519

30 - و من كلام له عليه السلام في معنى قتل عثمان و هو حكم له على عثمان و عليه و على الناس بما فعلوا و براءة له من دمه 247

31 - و من كلام له عليه السلام لما أنفذ عبد اللّه بن عباس إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل 249

32 - و من خطبة له عليه السلام و فيها يصف زمانه بالجور و يقسم الناس فيه خمسة أصناف ثم يزهد في الدنيا 252

33 - و من خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة و فيها حكمة مبعث الرسل ثم يذكر فضله و يذم الخارجين 261

34 - و من خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج و فيها يتأفف بالناس و ينصح لهم بطريق السداد 266

35 - و من خطبة له عليه السلام بعد التحكيم و ما بلغه من أمر الحكمين و فيها حمد اللّه على بلائه ثم بيان سبب البلوى 273

تاريخ و مواقف 276

36 - و من خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهروان 282

الخوارج 284

إخبار النبي عنهم 285

قصة الخوارج 286

اعتزال الخوارج عليا 287

الخوارج و الإفساد في الأرض 290

الخلاصة 293

37 - و من كلام له عليه السلام يجري مجرى الخطبة و فيه يذكر فضائله عليه السلام قاله بعد وقعة النهروان 295

38 - و من كلام له عليه السلام و فيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها 300

39 - و من خطبة له عليه السلام خطبها عند علمه بغزوة النعمان بن بشير صاحب معاوية لعين التمر و فيها يبدي عذره و يستنهض الناس لنصرته 303

ترجمة النعمان بن بشير 306

ص: 520

40 - و من كلام له عليه السلام في الخوارج لما سمع قولهم «لا حكم إلا للّه» 310

41 - و من خطبة له عليه السلام و فيها ينهى عن الغدر و يحذر منه 314

الوفاء 315

الحاجز هو تقوى اللّه 316

42 - و من كلام له عليه السلام و فيه يحذر من اتباع الهوى و طول الأمل في الدنيا 318

43 - و من كلام له عليه السلام و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبد اللّه البجلي إلى معاوية و لم ينزل معاوية على بيعته 322

ترجمة جرير بن عبد اللّه البجلي 325

44 - و من كلام له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية و كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام و اعتقهم فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام 326

ترجمة مصقلة بن هبيرة 328

45 - و من خطبة له عليه السلام و هو بعض خطبه يوم الفطر و فيها يحمد اللّه و يذّم الدنيا 329

46 - و من كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام و هو دعاء دعا به ربه عند وضع رجله في الركاب 333

47 - و من كلام له عليه السلام في ذكر الكوفة 335

الكوفة 336

48 - و من خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشام قيل: إنه خطب بها و هو بالنخيلة خارجا من الكوفة إلى صفين 338

49 - و من كلام له عليه السلام و فيه جملة من صفات الربوبية و العلم الإلهي 341

50 - و من كلام له عليه السلام و فيه بيان لما يخرب

ص: 521

العالم به من الفتن و بيان هذه الفتن 345

51 - و من خطبة له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين و منعوهم الماء 348

و هذا فارق آخر بين علي و معاوية 349

نشيد الأحرار 350

52 - و من خطبة له عليه السلام هي في التزهيد في الدنيا و ثواب اللّه للزاهد و نعم اللّه على الخلق 352

53 - و من خطبة له عليه السلام في ذكرى يوم النحر و صفة الأضحية 358

54 - و من خطبة له عليه السلام و فيها يصف أصحابه بصفين حين طال منعهم له من قتال أهل الشام 360

الناس و بيعة علي 361

55 - من كلام له عليه السلام و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين 363

56 - و من كلام له عليه السلام يصف أصحاب رسول اللّه و ذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح 365

57 - و من كلام له عليه السلام في صفة رجل مذموم ثم في فضله هو عليه السلام 368

معاوية و دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) عليه 369

58 - و من كلام له عليه السلام كلم به الخوارج حين اعتزلوا الحكومة و تنادوا: إن لا حكم إلا للّه 371

59 - و قال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج و قيل له أن القوم عبروا جسر النهروان 374

إخبا علي بالغيب 374

60 - و قال عليه السلام لما قتل الخوارج فقيل له:

يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم 376

61 - و قال عليه السّلام: لا تقاتلوا الخوارج بعدي 378

62 - و من كلام له عليه السلام لما خوّف من الغيلة 380

63 - و من خطبة له عليه السلام يحذر من فتنة الدنيا 382

ص: 522

64 - و من خطبة له عليه السلام في المبادرة إلى صالح الأعمال 385

65 - و من خطبة له عليه السلام و فيها مباحث لطيفة من العلم الإلهي 391

66 - و من كلام له عليه السلام في تعليم الحرب و المقاتلة و المشهور أنه قاله لأصحابه ليلة الهرير أو أول اللقاء بصفين 397

67 - و من كلام له عليه السلام قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال عليه السلام:

ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت منا أمير و منكم أمير قال عليه السلام 402

68 - و من كلام له عليه السلام لما قلّد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه و قتل 405

ترجمة محمد بن أبي بكر 406

ترجمة هاشم بن عتبة 408

69 - و من كلام له عليه السلام في توبيخ بعض أصحابه 409

علي عارف بما يصلح الناس 411

70 - و قال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه 414

71 - و من خطبة له عليه السلام في ذم أهل العراق و فيها يوبخهم على ترك القتال و النصر يكاد يتم ثم تكذيبهم له 416

72 - و من خطبة له عليه السلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و فيها بيان صفات اللّه سبحانه و صفة النبي و الدعاء له 419

73 - و من كلام له عليه السلام قاله لمروان بن الحكم بالبصرة 427

ترجمة الحكم بن أبي العاص 429

ترجمة مروان بن الحكم 430

74 - و من خطبة له عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان 432

الوحدة قبل حق علي 432

ص: 523

75 - من كلام له عليه السلام لما بلغه اتهام بني أمية بالمشاركة في دم عثمان 435

76 - و من خطبة له عليه السلام في الحث على العمل الصالح 438

77 - و من كلام له عليه السلام و ذلك حين منعه سعيد بن العاص حقه 442

78 - و من دعاء له عليه السلام من كلمات كان عليه السلام يدعو بها 444

79 - و من كلام له عليه السلام قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج و قد قال له:

إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم 446

80 - و من خطبة له عليه السلام بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء ببيان نقصهن 450

81 - و من كلام له عليه السلام في الزهد 453

82 - و من كلام له عليه السلام في ذم صفة الدنيا 455

83 - و من خطبة له عليه السلام و هي الخطبة العجيبة و تسمى الغراء و فيها نعوت اللّه جل شأنه ثم الوصية بتقواه ثم التنفير من الدنيا ثم ما يلحق من دخول القيامة ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض ثم فضله عليه السلام في التذكير 458

84 - و من خطبة له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص 510

ترجمة عمرو بن العاص 513

ص: 524

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.