بطاقة تعريف: مفید، محمدبن محمد، 413 - 336ق .
لقب واسم المنشئ: الإرشاد في معرفة حجج الله علی العباد/ تاٴلیف الشیخ المفید الامام ابي عبدالله محمدبن محمدبن النعمان العکبري ، البغدادي ؛ تحقیق موسسه آل البیت علیهم السلام لاحیاآ التراث .
مواصفات النشر: قم : موسسه آل البیت (علیهم السلام )، لاحیاآ التراث ، 1416ق = 1374.
مشخَصَّاًت ظاهری : ج 2
فروست : (موسسه آل البیت (علیهم السلام ) لاحیاآ التراث ؛ 147، 148)
شابک : 964-319-000-52sS 10000ریال (دورة من مجلدين ) ؛ 964-319-000-52sS 10000ریال (دورة من مجلدين ) ؛ 964-319-000-52sS 10000ریال (دوره دوجلدی ) ؛ 964-319-000-52sS 10000ریال (دورة من مجلدين )
حالة الاستَمّاع: قائمة المؤلفين السابقة
ملحوظة: ما قبل الطباعة ، الموتمر العالمی لالفیه الشیخ المفید، 1413ق . = 1372
ملحوظة: كتاب الرسائل
موضوع : ائمه اثناعشر
امامت
المعرف المضاف: موسسه آل البیت (علیهم السلام ). لاحیاآ التراث
تصنيف الكونجرس: BP36/5 /م 7الف 4 1374
تصنيف ديوي: 297/95
رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-7268
معلوِّمٌ ات التسجيلة الببليوغرافية: القائمة السابقة
المحقق والمصحح : عباسعلی کریمیان 1402
ص: 1
حقوق الطبع المحفوظة
الطبعة الثانية
1429 ه - 2018 م
مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث
بیروت - لبنان - صلّی الله علیه و آله ب 34 / 24 - تلفاکس 54131 - هاتف 5448.5
E-mail:alalbayt@inco.com.ib
ص: 2
المقدّمة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، منتهى الحمد، و غايته، و صلّى اللّه على محمّد النبيُّ ّّ الأمّي، و الرحمة المهداة، و على أهلُ بيته سفن النجاة، و منائر الهدى.
فلعله من البديهي القول بانّ كتابة التأريخ، أو ما يصطلح على تسميته بعَلِمَ التاريخ، يعد بلا شَكَّ من علوِّم المعرفة الّتي حظيت بالعناية الواسعة من قبل المسلمين بحيثُ يعدو من العسير تصور وجود أمة اخرى اقامت لها تأريخا واسعا و مسهبا كما هو لدى المسلمين.
و إذا كانَ همّ المسلمين عقب العهد الإسلامي الأول هو تثبيت و حفظ مغازي الرسول الاكرم (صلّى اللّه عليه و آله) لما لها من دلَّالة مهمة على حقيقة شَهِدَت الانعطاف الكبير المعاكس في حياة البشرية، نحو إقرار المثل، و تصحيح الانحراف الذي اصاب كلُّ الكيانات الاساسية في البنيان البشري، و ترجمة ملموسة لحاجة المجتَمّع الإسلامي في محاولته ارساء العقائد و الاحكام الشرعية الّتي جَاَءَ بها صاحب الشريعة، و تثبيتها كأصول تعَبْدية، فان القرآنُ
ص: 3
الكريم قد فتح الباب على مصراعيه امام عموم المسلمين لتدارس حياة الأمم السالفة و الغابرة، كمناهج أكادمية و تربوية لتلافي موارد العطب و مواضع الهلكة، كما أشار إليه قوله تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّٰهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلاٰلَةُ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ.(1)
و قالَ تعالى فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ* أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا. (2)
و غير ذلكَ من الآيات الكريمة الّتي يصعب حصرها و ايرادها هنا.
و بذا فقد أوقد القرآنُ في مخَيْلٍة المسلم المتدَبَّر في آياته فَكِّرْة البحث و التنقيب عن حياة الأمم السالفة، و الّتي أشار إليها كتاب اللّه تعالى تلميحا و تذكيرا، و لا يتأتى ذلكَ إلاّ من خلال التشمير و البحث الجاد و الرصين لاستحصال حكاية ما مضى و غاص في رمال ارض الجزيرة و ما يحيط بها من امتدادات سحيقة مترامية الاطراف.
و لما كانت الدعوة الإسلامية طرية و اعوادها غضة لم تنل منها سني الشيخوخة شيئاً، فلم تكن كتابة تأريخها بمتعسرة و لا شاقة ابدا، و لا يعسر على الباحثين و المؤرخين وضع اللبنات الاساسية لتأريخ اسلامي متكامل يبقى زادا و معاشا دينيا و دنيويا للاجيال اللاحقة و الدهور المتعاقبة، حتّى يرث اللّه تعالى الأَرض و من عليها، هذا إذا اقترن مداد كاتبيه بالصَدَقَ و الأمانة، و تجاوز التحزب و التَّعصُّب، و الحرص على التَمَسُّك بكلمة الحَقَّ رغم مشقة المخاض، و هذا ما لم يوفق له معظم كتبة التأريخ و صانعي اسس بنائه الشامخ، فتوارثته
ص: 4
الاجيال هجينا مشوبا بالادران، و هو ما سيتبين من خلال ما سنتعرض إليه لاحقا.
بلى لم تكن مسألة اقامة أسس تأريخ اسلامي متَخَصُّصُ بممتنعة و شاقة ابدا، بل كانت المشقة العظيمة تكمن في كتابة تأريخ الحَقَّب الماضية الّتي مضى عليها الزمن و ما ابقى لها حتّى اطلالا، و بالاخَصَّ في ارض الجزيرة، مهبط الوحي، و منطلق الرسالة المحمّد ية المباركة، حيثُ أَنّ ما توافر من معلوِّمٌ ات متناثرة عن طبيعة الأحوال الّتي كانت سائدة آنذاك، كانت من الندرة و التشتت بشَكَّل لا يتيح للمؤرخ القدرة على استيعابها و بشَكَّل جامع و شامل يطمئن إليه، و لقد كانَ أَكثر ما ورد عنها لا يتجاوز النقوش المكتوبة بالخط المسند على حوائط المعابد و الاديرة و اعمدة الحصون و القصور في الحيرة و اليمن، ترافقها روايات و أساطير منقولة شفاها عن أسماء الملوك القدماء و حكاياتهم، مَعَ قصص غامضة و مهولة او مشوشة عن أيّام القبائل و حَرُوبها مشفوعة بالاشعار، و الّتي ضاع معظمها بضياع اشعارها، و اما ما قيل من ان وهب بن مُنَبَّهُ، و عُبَيد بن شرية (1)كانا من مصنفي تأريخ تلكَ الحَقَّبة الماضية، فلا مناص من القول بَانَ حقيقة عملهما ما كانَ إلاّ تسطير ملحمي، و سرد مشوش، لانهما ما كانا في عملهما إلاّ كخابطي عشوة في أَكثر ما أورداه.
تلكَ كانت مشقة الكتابة للعصور السابقة لبداية التوجه نحو كتابة التأريخ، و اما التأريخ الإسلامي، فكما ذكرنا سالفا كانَ حظه وافرا في كثرةِ ما كتب عَنْهُ، و ما الّف في شأَنّه، فهناك العشرات من المحاولات المستَمّرة، و الّتي حاولت ان تضع لبنات التأريخ الإسلامي و رصّ أسسه في ارض الواقع المعاش، حلّ بأكثرها النسيان و الضياع، أو عدم الالتفات إِلَى مدى جديتها او
ص: 5
رصانتها العَلِمَية، فبقيت جملة محددة و مشخَصَّة، يذهب معظم الباحثين إِلَى ان أشهر من كتب في هذا الجانب كانا محمّد بن إسحاق بن يسار (ت 151 ه) و محمّد بن عمر الواقدي (ت 207 ه) ، و ان كانَ قد سَبقه ما في التصنيف عروة ابن الزبير (1)، و وهب بن مُنَبَّهُ (2)، بيد ان ندرة او قلة ما وصل بايدي الباحثين و المؤرخين، لم تحدد للاخيرُين سيرة متكاملة محددة المعالم، إلاّ أَنّ كثرةِ نقول ابن إسحاق و الواقدي عنهما تبين بوضوح انهما-و بالاخَصَّ عروة بن الزبير-كانا قد سبقا في هذا المضمار (3).
كما ان التأمل في هاتين السيرتين-و اللتين تعدان بلا شَكَّ دعامتين مهمتين في تدوين ما عرف بالتأريخ الإسلامي-تبين بوضوح أيضاً انهما كانا في احيان كثيرة تابعتين لعروة بن الزبير في تحديد مساريهما، و تثبيتهما للوقائع المهمة، لا سيما فيما يتعلق بالهجرة إِلَى الحبشة و المدينة، و غَزوة بدر و غيرُهُا، و كذا بالنسبة لوهب بن مُنَبَّهُ، حيثُ روى ابن إسحاق عَنْهُ القسم الأوّل من السِّيرة.
و ان كانَ هذا الامر لا يلغي في حدوده وجود ثلة لا باس بها من المؤرخين و أصحّابَ السير، حاولت أَنّ تدلَّي بدلَّوها في هذا المعترك المهم امثال: أَبانَ بن عثمان (ت 105 ه) و شرحبيل بن سَعدُ (ت 123 ه) و ابن شهاب الزهري
ص: 6
(ت 124 ه) و عاصم بن عُمَربن قتادة (ت 120 ه) و عَبْد اللّه بن أبي بكر بن حزم (ت 135 ه) و موسى بن عقبة (ت 141 ه) و معُمَربن راشد (ت 150 ه) ، و غيرُهُم ممّن عاصروا تلكَ الحَقَّبة الزمنية أو بعدها بقليل، امثال محمّد بن سَعدُ (ت 230 ه) ، و ابن هشام (ت 230 ه) .
و لعلّ التأمل اليسير في مجمل أسماء المؤرخين و زمن كتابتهم للتأريخ يبين بوضوح ان أسس التأريخ المعروف لدينا الآن قد بنيت ابان الحُكْمَين: الاموي -المغتصب للخلافة الشرعية برائده معاوية بن أبي سُفيان-و العبّاسيّ-المتاجر بشعار آل محمّد -و لا يخفى على ذي لب فطن ما دأب عليه رجال و ساسة الدولتين من محاولات متكررة لاضفاء هالة الشرعية و القدسية على حكميهما مَعَ دفع أصحّابَ الحَقَّ الشرعيين عن مناصبهم الّتي رتبها اللّه تعالى لهم.
و لعله من الطبيعي ان يَعُمُّد النظامان و اتباعهما إِلَى تشذيب كلُّ الأصول التأريخية الّتي قد لا تتوافق مَعَ الخط الذي تنتهجه الدولتان، أو تسخيرُ الاقلام لأَنّ تتوافق في مساراتها و الّتي تتناغم مَعَ التوجهات غير المشروعة لرواد هاتين الدولتين.
ان المرور العابر لا التأمل المتدَبَّر يكشف بوضوح ضعف الأصول التأريخية الّتي وصلت إِلَى العصور اللاحقة لتلك الأزمنة، و اسفاف هذه الموسوعات في التحدث عن حياة الملوك و مجالس مجونهم و دقائق أمورهم، و اعراضها المقصود عن اهم القضايا العقائدية الّتي ابتنى عليها الدين الإسلامي الحنيف.
و من المؤلم أَنّ يلجأ الكثير من المؤرخين إِلَى اعتَمّاد ما يصل إليهم من النصوص التأريخية دونَ اخضاعها للنقد و المناقشة، بل و الانكى من ذلكَ أَنّ تجد منهم من يتنصل من تبعه ما يورده من وقائع و احداث و ما ستتلقفه الاجيال اللاحقة به و كأَنّّها حقائق مسلمة لأَنّّها وردت في مرجع مهم من مراجع
ص: 7
التأريخ، كما ادعى ذلكَ الطبريّ في مقدّمة كتابه الشهير بتأريخ الأمم و الملوك، حيثُ قالَ: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستُنكِرُه قارئه، أو يستشنعه سامعه. . . . ، فليَعلَمُ انه لم يؤت في ذلكَ من قبلنا، و انما اتى في بعض ناقليه إلينا، و انّا انما ادينا ذلكَ على نحو ما أدي إلينا» ! ! .
و لا ادري اي الاخبار يتنصل من تبعتها الطبريّ-الذي يعد مرجعا للمؤرخين عند الاختلاف، كما يُذَكَّرُ ذلكَ سلفه ابن الأثير-أ هي اخبار سيف ابن عمر الأسَدي الذي اصر على نقل اخباره رغم ما اتّفقَ عليه الجميع من الطعن به و التشهير بمذهبه (1)، أم هي الروايات المتناقضة الّتي يرويها لواقعة واحدة كما هو معروف عَنْهُ، ام تسرب الاسرائيليات من الاخبار إِلَى متن كتابه و طعن المؤرخين بذلكَ كما في قصة خلق الشمس و القمر و غيرُهُا، ام شيء آخر؟
نعم هذا ما حَصَلَ، و الأعظم من ذلكَ ان يعد ذلكَ تأريخا، و يجتر المؤرخون ما جَاَءَ به اسلافهم لتصبح تلكَ الترهات حقائق تبنى عليها جملة واسعة من التصورات و المعتقدات، و يختلط السليم بالسقيم.
قالَ ابن الأثير في سرده لكيفية كتابة تأريخه (3:1) : «فابتدأت بالتأريخ الكبير الذي صنّفه الامام أبو جعفر الطبريّ، اذ هو الكتاب المعَوَّل عند الكافَّةَ عليه، و المرُجُوعُ عند الاختلاف إليه، فأَخَذَت ما فيه من جميع تراجمه، لم اخل بترجمة واحدة منها» .
ص: 8
و هكذا دواليك، و ما ذاك بمستبعد و لا بمستغرب، فان في هذا الامر ما يُوافِق هوى الحكومات المتلاحقة، و الّتي حاولت جاهدة أَنّ ترسم خطوط التأريخ بعيدا عن مرتكزاته الاساسية و الّتي تشَكَّل النقيض المضاد لوجودهم اللقيط، و الخطر الأكبر امام احلامهم السقيمة.
ان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يرحل عن هذه الدُّنيا حتّى بيّن للامة سبيل نجاتها، و مرتكز عقائدها، و السبيل القَوِيَم الذي ترتبط به كلُّ الابعاد و ان تنافرت.
نعم ان الأئمة من أهلُ البيت عليهم السلام و رغم ما جهدت أقلام المستأجرين و سيوف اسيادهم الظالمين من العمل على تجاهلهم، رغم أَنّ ذلكَ يخالف ما اقروه في صحاحهم من افضليتهم و علوِّ شأَنّهم-هم بلا شَكَّ قطب الرحى، و مركز حركة التأريخ، و المرجع القَوِيَم في فهم كلُّ ما يحيط بِهِم من أحدٌاث، أسوة بجدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما هذا التخبط و الضياع إلاّ ثمرة واضحة لقلب موازين الحَقَّائق و العَدُوٍّ خلف السرّاب.
و لكن و رغم كلُّ ما احاط عملية كتابه التأريخ من كذب و تزوير و قهر و تنكيل، فان هذا لم يمنع من ان يَعُمُّد البعض إِلَى اعتَمّاد المنهج العَلِمَي الرصين في كتابة التأريخ، و ان ترث منهم الاجيال اللاحقة صفحات بيضاء ناصعة لا تشوبها ادران التَّعصُّب و لا التحزب.
و لعلّ كتاب الإرشاد لشيخنا المفيد رحمه اللّه نموذج حيُّ-مَعَ غيرُهُ من النماذج القديرة لرجالات الشيعة الافذاذ-في رسم صورة التعامل العَلِمَي و الصحيح مَعَ التأريخ باعتَمّاد المنهج العقائدي الذي اختطه لامته رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) .
و لا غرابة في ذلكَ، فالشيخ المفيد يعد باتّفاق المؤالف و المخالف شيخ اساتذة الكلام، و صاحب الآراء المجددة، في وقت شَهِدَ فيها العالم الإسلامي
ص: 9
فترة تعد من ابرز الفترات التأريخية و ادقها، حيثُ انسحب ظل الدولة العبّاسية عن معظم بقاع الوطن الإسلامي، و لم يبق للخليفة العبّاسيّ آنذاك إلاّ بغداد و اعمالها، و الّتي كانت للبويهيين السيطرة التامة عليها، حيثُ فسحوا المجال امام الحريات المذهبية و المقالَات الدينية، فاحتدم الصراع الفَكِّرْي بين رجال المذاهب بشَكَّل ليس له مثيل، حيثُ كانَ على اشده بين الأشاعرة و المُعتزِلِة، و كانَ لكل منهم زعماء كلاميون و عَلِمَاء مفَكِّرْون، و كانت الشيعة تؤلف القوّة الثالثة الّتي يتزعمها الشيخ المفيد رحمه اللّه، و الذي استطاع-و من خلال براعته في صناعة الكلام، و قوّةُ حجيته، و قدرته الكبيرة على الإحاطة بالكثير من العلوِّم المختلفة-أَنّ يفند و يضعّف آراء الفريقين، و يثبت بطلانها.
كما ان الشيخ رحمه اللّه يعد من اوائل الذين لم يتوقفوا على حرفية النصوص و الأحاديث، بل بالاعتَمّاد على منطق الفَكِّرْ المجرد و الحرّ المبتني على عقائد رصينة و قَوِيَة، و يشير إِلَى ذلكَ بوضوح قوله في شرحه لعقائد الصدوق رحمه اللّه في باب النفوس و الأرواح: «لكن أصحّابنا المتعلقين بالاخبار أصحّابَ سلامة، و بعد ذهن، و قلة فطنة، يمرون على وجوههم فيما يسمعون من الأحاديث، و لا ينظرون في سندها، و لا يفرقون بين حقها و باطلها، و لا يفهمون ما يدخل عليهم في اثباتها و لا يحصّلون معانّيَ ما يطلقون منها» .
و من هنا فلا يسع المرء و هو يتأمل و يطالع صفحات كتاب الإرشاد للشيخ المفيد رحمه اللّه إلاّ أَنّ ترتسم في مخَيْلٍته جوانب من الابعاد الرائعة لذهنية مؤلّفه، و جهده في اخراج صورة تَمّثل البناء الاساسي الرصين لما يسمى بعَلِمَ التأريخ، رحم اللّه الشيخ المفيد، و اسكنه في فسيح جنانه.
ص: 10
لا يخفى على أحدٌ مدى الاهمية البالغة الّتي يحظى بها كتاب الإرشاد لشيخنا المفيد رحمه اللّه، و ما يتَمّيز به من كونه مصدرا مهما و مرجعا معتَمّدا في بابه.
و من هنا فقد راودت اذهان العامُلين في المؤسّسة فَكِّرْة الاقدام على تحقيق هذا الاثر المهم و التراث الرائع و وضعه في مكانه اللائق به أسوة بغيرُهُ من الكتب المهمة الّتي قامت بتحقيقها و نشرها.
و لما يتَمّتع به الكتاب من اهمية كبيرة فقد حرصت المؤسّسة-و كعادتها دائما عند شروعها باي عمل تحقيقي-على استحصال جملة من النسخ المخطوطة له، و بمواصفات خاصّة، و أَنّ تكون قريبة من عصر المؤلّف قدر الإمكان.
و قد تفضل مشَكَّورا سماحة العلامة المحقق حجّة الإسلام و المسلمين السيّد عَبْد العُزِيَز الطباطبائي مشَكَّورا بتزويد المؤسّسة بعناوين جملة من المخطوطات القيمة و المهمة، و الّتي تتَمّتع بمواصفات كثيرة، اهمها مقابلتها على نسخة منقولة من نسخة مقروءة على الشيخ رحمه اللّه، كما أثبت ذلكَ في موارد متعدّدة منها.
و النسخ المخطوطة الّتي تَمّّ الاعتَمّاد عليها في مقابلة الكتاب هي ثلاث نسخ:
النسخة المحفوظة، في مكتبة آية اللّه العظمى السيّد المرعشيّ العامُّة في قم برقم 1144، وقع الفراغ من نسخها يوم الجمعة لاربع عشر بقين من شوال سنة خمس و ستين و خمسمائة.
و بهامشها كتب: قابلت نسختي هذه بنسخة مولانا الامام الأجل الكبير العالم العابد السيّد ضياء الدين تاج الإسلام ذي الجلالتين عَلِمَ ابي الرضا
ص: 11
فضل اللّه بن عليّ بن عُبَيد اللّه الحسني الراونديّ ادام اللّه ظله، و تَمّت المقابلة ليلة الاحد سلخ ربيع الأوّل سنة 566 هجرية.
و هي نسخة معربة و سليمة، رمزنا لها بالحرف «ش» .
النسخة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 13112، فرغ من نسخها يوم الجمعة الرابع عشر من محرم سنة خمس و سبعين و خمسمائة.
و في هامشها كتب: قوبل و صحح بنسخة مولانا الإمام ضياء الدين قدس اللّه روحه. و هي كسابقتها نسخة واضحة و معربة، رمزنا لها بالحرف «م» .
النسخة المحفوظة في مكتبة السيّد حسين الشيرازي، زودنا بمصورتها سماحة السيّد الطباطبائي، يعود تأريخ نسخها إِلَى القرن السابع أو الثامن، رمزنا بها بالحرف «ح» .
كما استعنا بنسخة اخرى محفوظة في المكتبة الوطنية في طهران، راجعنا عليها سند الكتاب و مقدّمته، و قد رمزنا لها بالحرف «ق» .
و ما ان اكتَمّلت النسخ لدى المؤسّسة حتّى اوكلت إِلَى جملة من اللجان المختصة مسئولية الشروع بهذا العمل، و وفقا لمنهجية التحقيق المشترك المتبعة في المؤسّسة، و هي:
لجنة المقابلة: و تتحدد مسئوليتها في ضبط الاختلافات الموجودة بين مجموعة النسخ و الأصل المطبوع، و قد كلف بهذا العمل كلُّ من الاخوة الأفاضل: الحاجّ عزّ الدين عَبْد الملك و الأخ محمّد عَبْد علي محمّد و الأخ محمّد حسين الجبوري.
لجنة التخريج: و لما كانَ الكتاب من الأصول القديمة المُعْتِبرة، فقد روعيت عند تخريج رواياته و أحاديثه الدقة في اختيار المصادر و الّتي تكون قبل عصر المؤلّف أو قريبة منه.
ص: 12
و اما ما أثبت من مصادر بعد عصر المؤلّف فلم يكن الغرض منها إلا إعضاد النسخ الخطية.
و قد أَنّيطت مسئولية هذه اللجنة بسماحة حجّة الإسلام الشيخ محمّد الرسولي و حجّة الإسلام السيّد مصطفى الحيدري.
لجنة كتابة الهوامش: و عملها صياغة الهوامش الخاصُّة بالتخريجات و التعليقات و التصحيحات و كتابتها، و انيط عمل هذه اللجنة بالاخ مشتاق المظَفَر.
لجنة تقَوِيَم النصّ: و تقع عليها مسئولية حسم الاختلافات الواردة بين النسخ و اختيار الصواب، و شرح المفردات اللغويّة، و كلُّ الاعمال المؤدية إِلَى ضبط النصّ، و قد أَنّيطت مسئولية هذه اللجنة بالاخ المحقق الفاضل اسد مولوي.
لجنة المراجعة النهائية: و يعتبر عملها الحلقة النهائية من اعمال تحقيق الكتاب، و تقع على عاتقها مسئولية مراجعة الكتاب من كافَّةَ جوانَبَّه قبل ارساله إِلَى الطبع، و قد أَنّيطت مسئولية هذه اللجنة بالاخ المحقق الفاضل كاظم الجواهري.
و انيطت مسئولية الاشراف على تحقيق هذا الكتاب و التحقّق من تثبيت اللمسات الأخيرُة له و متابعة اعمال لجانه المختلفة على عاتق الأخ المحقق الفاضل علاء آل جعفر مسئول لجنة مصادر «بحار الأَنّوار» في المؤسّسة.
و قد تفضّل مشَكَّورا كلّ من أصحّابَ السماحة حجّة الإسلام المحقّق السيّد محمّد الشبيري بمراجعة متن الكتاب، و سماحة حجّة الإسلام السيّد محمّد جواد الشبيري مراجعة سنده، و إعادة النظر في جميع مراحل العمل.
ص: 13
فقوبل الكتاب مرّة اخرى على نسختي «ش» و «م» و إثبات الاختلافات السندية الموجودة في النسختين في الهامش، بينما اقتصر في متن الكتاب على الاختلافات المهمّة، و قد استعين في هذه المرحلة بنسخة «ق» في سند الكتاب و مقدّمته، و نسخة «ح» في موارد الاختلاف بين النسختين.
و بذلا جهدا مشَكَّورا في الرُجُوعُ إِلَى المصادر و تعيين الصحيح من السّقيم و إضافة تعاليق قيّمة و تحقيقات رجاليّة و غيرُهُا، فللّه درّهما و عليه أجرهما.
عَلِمَا بأَنّّ من خواص نسخة «ش» أَنّّها نسخة منقولة مِمَّا قرئ على الشيخ كما هو الظاهر من هوامش ج 1/34 و 85 و 260، ج 2/77 و 89 و 160، و المصرّح به في ج 1/129.
و لذا كانت هذه النسخة مُورِدٌ اعتَمّادنا أولا و من ثمّ نسخة «م» الّتي يتفق متنها غالبا مَعَ هامش نسخة «ش» ، و من ثمّ سائر النسخ الأخرى.
و ختاما لا يَفوُتُنا إلاّ أَنّ نتقدم بالشَكَّر الجزيل و الثناء الوافر لسماحة العلاّمة المحقّق حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ محمّد رضا الجعفري الذي راجع الكتاب و أبدى ملاحظاته القيّمة، و لكلّ من آزرنا في إخراج هذا الجهد.
و الحمد للّه وحده، و صلّى اللّه على محمّد و آله و سلّم
مؤسّسة آل البيت عليهم السّلام لاحياء التّراث
ص: 14
الصورة
(*) صورة الصفحة الأخيرُة من النسخة المحفوظة في مكتبة آية اللّه السيّد المرعشيّ العامُّة، و الّتي رمزنا لها بالحرف «ش» .
ص: 15
الصورة
(*) صورة الصفحة الأخيرُة من نسخة مجلس الشورى الإسلامي، و الّتي رمزنا بالحرف «م» .
ص: 16
الإرشاد في معرفة حجج الله علی العباد
تالیف الشیخ المفید الامام ابی عبدالله محمدبن محمدبن النعمان العکبری ، البغدادی
تحقیق موسسه آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث
ص: 1
ص: 2
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
و به ثِقتي
أخبَرنَا السيّدُ الأجل عميدُ الرؤساء أبو الفتح يحيى بن محمّد بن نصْر بن عليّ بن حيا (1) _أدام الله عُلُوّه _ققراءةً عليه سنةَ أربعين وخمسمائة ، قال : حَدَّثنا القاضي الأجَلّ أبو المَعالي أحمد بن عليّ بن قدامَة في سنة ثمانٍ وسبعين وأربعمائة ، قال : حَدَّثني الشيخُ السعيد المُفيد أبو عبدالله محمّدُ بنُ النُعمان -رضي الله عَنْهُ- في سنةِ إحدى عشرة وأربعمائة قال : (2)
الحمدُ لله على ما ألْهَمَ من معرفته ، وهدَى إليه من سبيل طاعته ، وصَلَواته على خِيرته من بَريّته ، محمّد سيّدِ أنبيائه وصفوته ، وعلى الائمة المعصومين الراشدين من عِترته ، وسلّم.
ص: 3
فإنّي مُثْبِتٌ - بتوفيق الله و معونته - ما سألتَ - أيدك الله - إثباتَه من أسماءِ أئمة الهُدى علیهم السلام و تاريخ أعمارهم، و ذِكر مَشاهدهم، و أسماء أولادهم، وطُرفٍ من أخبارهم المفيدة لعلم أحوالهم ، لتِقفَ على ذلك وقوفَ العارف بهم ، ويَظْهَرَ لك الفرقُ ما بين الدعاوى والاعتقادات فيهم ، فتميّزبنظرك فيه ما بين الشبهات منه والبيّنات ، وتعتمد الحقً فيه اعتماد ذويَ الإِنصاف والديانات ، وأنا مجيبك إلى ما سألت ، ومتحرٍّ فيه الإِيجاز والاختصار حَسَب ما أثرت من ذلك والتمست ، وبالله أثق ، وإيّاه أستهدي إلى سبيل الرشاد.
و بعدُ:
ص: 4
أوّلُ أئمّة المؤمنين، و وُلاةِ المسلمين، و خلفاء الله تعالى في الدين، بعد رسول الله الصادق الأمين محمّد بن عَبْدُالله خاتَمّ النبيُّ ّين، - صلواتُ الله عليه و آله الطاهرين - أخوه و ابنُ عمّه، و وزيره على أمرُه، و صِهْرُه على ابنته فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين ، أَميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب بن عَبْدالمطّلب بن هاشم بن عَبْد مناف سيّد الوصيّين - عليه أفضلَ الصلاة و التسليم -.
كُنيتُه: أبو الحسن، وُلِد بمَكّة في البيت الحرام يومَ الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، و لم يُولد قبله و لا بعده مولودٌ في بيت الله تعالى سواه إكراماً من الله تعالى له بذلكَ و إجلالاً لمحلّه في التعظيم.
و أُمُّه: فاطمة بنتُ أسَد بن هاشم بن عَبْد مناف رضي الله عنها، و كانت كالأُمّ لرسول الله صلّی الله علیه و آله وسلّم ، رُبي في حِجْرِهَا، و كانَ شاكراً لبرّها، و آمَنَتْ به صلّی الله علیه و آله الأولين، و هاجَرَت معه في جملة المهاجرين . و لما قبضها الله تعالى إليه كَفّنها النبيُّ صلی الله علیه و آله بقميصه ليَدْرَأ به عنها هوامَّ الأرض ، وتوسّد في قبرها لتَأْمَنَ بذلك من ضَغْطة القبر ، ولقّنها الإقرارَ بولاية ابنها _ أمير المؤمنين علیه السلام - لتجيبَ به عند المسألة بعد الدفن، فخَصَّها بهذا الفَضْل
ص: 5
العظيم لمنَزَلتها من الله تعالى و منه عَلَیْهِ السَّلامُ، و الخبرُ بذلكَ مشهورٌ (1) .
فكانَ أَميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عَلَیْهِ السَّلامُ و إِخوتُه أوّل من ولدِه هاشم مرتين (2)و حاز بذلكَ مَعَ النشوء في حِجر رسول الله صلّی الله علیه و آله و التأدب به الشرفين. و كانَ أوّلَ من آمن بالله عزَّ و جلّ و برسوله صلّی الله علیه و آله من أهلُ البيت و الأصحّاب، و أوّلَ ذَكَرٍ دعاه رسول الله صلّی الله علیه و آله إِلَى الإسلام فأجاب، و لم يزل يَنصُرُ الدين، و يُجاهد المشركين، و يَذُبُّ عن الإيمان، و يَقتُلُ أهلُ الزيغ و الطغيان، و يَنشُرُ معالمَ السنّة و القرآنُ، و يَحكُمُ بالعدلٌَّ و يَأمُرُبالإحسان. فكانَ مُقامُه مَعَ رسول الله صلّی الله علیه و آله بعد البعثة ثلاثا و عشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة بمكّة قبل الهجرة مشاركاً له في مِحَنه كلِّها، متحمّلًا عَنْهُ أكبر أثقالَه، و عشر سنين بعد الهجرة بالمدينة يُكافِح عَنْهُ المشركين و يُجاهد دَوَّنَهُ الكافرين، و يَقيه بنفسه منأعدائه في الدين، إِلَى أَنّ قبضه الله تعالى إِلَى جنّته و رَفَعه في عليّين، فمضى - صلّی الله علیه و آله - و لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ يومئذ ثلاث و ثلاثون سنة .
فاخْتلِفت الأُمّة في إمامته يومَ وفاة رسول الله صلّی الله علیه و آله، فقالَت شِيعتهُ - و هم بنو هاشم و سَلمان و عمّار و أبوذَرّ و المقداد و خُزَيمة ابن ثابت ذو الشهادتين و أبو أيّوب الأَنّصاري و جابر بن عَبْدُالله الأَنّصاري
ص: 6
و أبو سعيد الخُدري، و أمثالهم من جِلّة (1)المهاجرين و الأَنّصار - : إنّه كانَ الخليفةَ بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله و الإمامَ لفضله على كافَّةَ الأَنّام بما اجتَمّع له من خَصَّال الفَضْل و الرَّأْي و الكمال، من سَبْقه الجماعةَ إِلَى الإيمان، و التبريز عليهم في العَلِمَ بالأحكام، و التقدُّمِ لهم في الجهاد، و البَينونِة منهم بالغاية في الورع و الزهد و الصلاح، و اختَصَّاصه من النبيُّ صلّی الله علیه و آله في القُربى بما لم يَشركه فيه أحدٌ من ذوي الأرحام.
ثم لنصّ الله على ولايته في القرآنُ، حيثُ يقولُ جَلّ اِسْمُهَ : (إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ)(2)، و معلوِّمٌ ً أَنّه لم يزكّ في حال ركوعه أحدٌ سواه عَلَیْهِ السَّلامُ، و قد ثبتَ في اللغة أَنّ الولي هو الأوّلَى بلا خلاف.
و إذا كانَ أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ - بحكم القرآنُ - أوّلَى بالناس من أَنّفسهم، لكونه وليهم بالنص في التبيان، وجبت طاعته على كافّتهم بجلي البيان، كما وجبت طاعة الله و طاعة رسوله عَلَیْهِ السَّلامُ بما تَضَمَّنه الخبرُ عن ولايتهما للخلق في هذه الآية بواضح البرهانُ.
وَ بِقَوْلِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله يَوْمَ اَلدَّارِ، وَ قَدْ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ - خَاصَّةً - فِيهَا لِلْإِنْذَارِ: «مَنْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ يَكُنْ أَخِي وَ وَصِيِّي وَ وَزِيرِي وَ وَارِثِي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي» فَقَامَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ علیه السلام مِنْ بَيْنِ جَمَاعَتِهِمْ، وَ هُوَ أَصْغَرُهُمْ يَوْمَئِذٍ سِنّاً فَقَالَ: «أَنَا أُؤَازِرُكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ» فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: اِجْلِسْ فَأَنْتَ أَخِي وَ وَصِيِّي
ص: 7
وَ وَزِيرِي وَ وَارِثِي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي» و هذا صريح القول في الاستخلاف.
وَ بِقَوْلِهِ - أَيْضاً - عَلَیْهِ السَّلامُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ : وَ قَدْ جَمَعَ اَلْأُمَّةَ لِسَمَاعِ اَلْخِطَابِ «أَ لَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ»؟ فَقَالُوا: اَللَّهُمَّ بَلَى، فَقَالَ لَهُمْ عَلَیْهِ السَّلامُ - عَلَى اَلنَّسَق ِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اَلْكَلاَمِ -: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» فأوجب له عليهم من فَرْضِ الطاعة و الولاية ما كانَ له عليهم، بما قررهم به من ذلكَ و لم يتناكروه. و هذا أيضاً ظاهر في النص عليه بالإمامة و الاستخلاف له في المقامُ.
وَ بِقَوْلِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ لَهُ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى تَبُوكَ : أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» فأوجب له الوزارة و التَخَصُّصُ بالمودة و الفَضْل على الكافَّةَ ، و الخلافة عليهم في حياته و بعد وفاته، لشهادة القرآنُ بذلكَ كلِّهِ لهارون من موسى علیهما السلام؛ قالََ اللهُ عزَّ و جلّ مُخبراً عن موسى عَلَیْهِ السَّلامُ: (وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هٰارُونَ أَخِي* اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَ نَذْكُرَكَ کَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنٰا بَصِيراً *قٰالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ*) (1) فثبت لهارون عَلَیْهِ السَّلامُ شركة موسى في النبوة، و وزارته على تأدية الرسالة و شد أزره به في النصرة. و قالَ في استخلافه له: (اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ) (2) فثبتت له خلافته بمحكم التنزيل .
فلمّا جَعَلَ رسول الله صلّی الله علیه و آله لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ
ص: 8
جميعَ منازل هارون من موسى عَلَیْهِ السَّلامُ في الحُكمِ له منه إلّا النُبوّة ، وجبت له وزارةُ الرسول صلّی الله علیه و آله و شدّ الأَزر بالنصرة و الفَضْل و المحبّة ، لما تقتضيه هذه الخَصَّال من ذلكَ في الحَقَّيقة، ثُّمّ الخلافةُ في الحياة بالصريح، و بعد النُبوّة بتخَصَّيص الاستثناء لما أخَرَجَ منها بذكر البَعد، و أَمثالِ هذه الحجج كثيرة مِمَّا يطول بذكره الكتاب، و قد استقصينا القول في إثباتها في غير هذا الموضع من كتبنا، و الحمد لله.
فكانَت إمامةُ أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بعد النبيّ صلّی الله علیه ، و آله ثلاثينَ سَنَة، منها أربع و عشرون سنة و أشهرُ ممّنوعاً من التصرّف على أحكامها، مستعمِلاً للتقية و المُداراة . و منها خمس سنين و أشهرُ مُمْتَحَناً بجهاد المنافقين من الناكثين و القاسطين و المارقين، و مُضطَهَداً بِفِتَن الضالّین ، كما كانَ رسولُ الله صلّی الله علیه و آله ثلاث عشرة سنة من نبوَّتِه ممّنوعاً من أحكامها، خائفاً ومحبوساً وهارباً ومطروداً ، لا يتمكّن من جهاد الكافرين ، ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين ، ثمّ هاجر وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهداً للمشركين مُمْتَحَناً بالمنافقين ، إلى أن قبضه اللّه _ تعالى _ إليه وأسكنه جنات النعيم.
و كانت وفاةُ أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ قبيلَ الفجر من ليلة الجمعة ليلة إحدى و عشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة قَتيلٌاَ بالسيف، قَتْلُه ابن مُلجَم المُرادي - لَعَنَه الله - في مسجد الكوفة، و قد خَرَجَ عَلَیْهِ السَّلامُ يُوقِظ الناسَ لصلاة الصبح ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، و قد كانَ ارتصده من أوّلَ الليل لذلك، فلمّا مرّ به في المسجد و هو مُستَخفٍ بأمرُه مُماكرٌ بإظهار النوم في جملة النيام، ثار إليه فضربه على
ص: 9
أم رأسه بالسيف - و كانَ مسموماً- فمكث يومَ تسعة عشر و ليلةَ عشرين و يومَها و ليلةَ إحدى و عشرين إِلَى نَحْو الثلث الأوَّل من الليل، ثُّمّ قَضى نحبه عَلَیْهِ السَّلامُ شهيداً و لقيَ ربَّه - تعالى - مظلوما.
و قد كانَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَعْلَمُ ذلكَ قبل أوانه و يُخبر به النّاس قبلَ زمانه، و تَوَلَّى غسله و تكفينَه ابناه الحسنُ و الحسينُ علیهما السلام بأمرُه، و حَمَلاه إِلَى الغّرِيّ من نَجَف الكوفة، فدَفَناه هناك و عَفّيا موضع قبره، بوصيّةٍكانت منه إليهما في ذلكَ، لما كانَ يَعلَمُ ه عَلَیْهِ السَّلامُ من دولة بني أُمَيِّة من بعده، و اعتقادهم في عَداوته، و ما ينتهون إليه بسوء النيّات فيه من قبيح الفعال و المقالَ بما تَمّكّنوا من ذلكَ، فلم يزل قبرُه عَلَیْهِ السَّلامُ مُخفيً حتّى دَلّ عليه الصادقُ جعفر بنُ محمّد علیهما السلام في الدولة العبّاسية و زاره عند وروده إِلَى أبي جعفر (1) - و هو بالحيرة - فَعَرََََفَته الشيعة و استأنَفوا إذ ذاك زيارته عَلَیْهِ السَّلامُ و على ذُرِّيَّتِهِ الطاهرين و كانَ سنّه عَلَیْهِ السَّلامُ يوم وفاته ثلاثا و ستين سنة .
ص: 10
مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ اَلْمُنْذِرِ اَلطَّرِيقِيُّ ،عَنِ اِبْنِ اَلْفُضَيْلِ اَلْعَبْدِيِّ (1)،عَنْ فِطْرٍ، عَنْ أَبِي اَلطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ -رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ - قَالَ: جَمَعَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلنَّاسَ لِلْبَيْعَةِ، فَجَاءَ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ اَلْمُرَادِيُّ - لَعَنَهُ اَللَّهُ - فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ثُمَّ بَايَعَهُ، وَ قَالَ عِنْدَ بَيْعَتِهِ لَهُ: «مَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا! فَوَ اَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخْضَبَنَّ (2)هَذِهِ مِنْ هَذَا» وَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَ رَأْسِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ اِبْنُ مُلْجَمٍ عَنْهُ مُنْصَرِفاً قَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ مُتَمَثِّلاً :
اُشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ *** فَإِنَّ اَلْمَوْتَ لاَقِيكَ
وَ لاَ تَجْزَعْ مِنَ اَلْمَوْتِ *** إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ
كَمَا أَضْحَكَكَ اَلدَّهْرُ *** كَذَاكَ اَلدَّهْرُ يُبْكِيكَ(3) .
ص: 11
وَ رَوَى اَلْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمّ َالِيِّ ،عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ اَلسَّبِيعِيِّ ،عَنِ اَلْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: أَتَى اِبْنُ مُلْجَمٍ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَبَايَعَهُ فِيمَنْ بَايَعَ، ثُمَّ أَدْبَرَ عَنْهُ فَدَعَاهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَتَوَثَّقَ مِنْهُ، وَ تَوَكَّدَ عَلَيْهِ أَلاَّ يَغْدِرَ وَ لاَ يَنْكُثَ فَفَعَلَ، ثُمَّ أَدْبَرَ عَنْهُ فَدَعَاهُ اَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلثَّانِيَةَ فَتَوَثَّقَ مِنْهُ وَ تَوَكَّدَ عَلَيْهِ أَلاَّ يَغْدِرَ وَ لاَ يَنْكُثَ فَفَعَلَ، ثُمَّ أَدْبَرَ عَنْهُ فَدَعَاهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلثَّالِثَةَ فَتَوَثَّقَ مِنْهُ وَ تَوَكَّدَ عَلَيْهِ أَلاَّ يَغْدِرَ وَ لاَ يَنْكُثَ، فَقَالَ اِبْنُ مُلْجَمٍ: وَ اَللَّهِ - يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ - مَا رَأَيْتُكَ فَعَلْتَ هَذَا بِأَحَدٍ غَيْرِي. فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :
«أُرِيدُ حِبَاءَهُ وَ يُرِيدُ قَتْلِي *** عَذِيرَكَ (1)مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادٍ (2)
اِمْضِ - يَا اِبْنَ مُلْجَمٍ - فَوَ اَللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَفِيَ بِمَا قُلْتَ» (3) .
وَ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ اَلضُّبَعِيُّ عَنِ اَلْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ - لَعَنَهُ اَللَّهُ - إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ له: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، اِحْمِلْنِي فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَنْتَ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ اَلْمُرَادِيُّ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «أَنْتَ
ص: 12
عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ اَلْمُرَادِيُّ؟» قَالَ:نَعَمْ .قَالَ «يَا غَزْوَانُ، اِحْمِلْهُ عَلَى اَلْأَشْقَرِ فَجَاءَ بِفَرَسٍ أَشْقَرَ» فَرَكِبَهُ اِبْنُ مُلْجَمٍ اَلْمُرَادِيُّ وَ أَخَذَ بِعِنَانِهِ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ:
«أُرِيدُ حِبَاءَهُ وَ يُرِيدُ قَتْلِي *** عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادٍ» (1)
قَالَ:فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، وَ ضَرَبَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قُبِضَ عَلَيْهِ وَ قَدْ خَرَجَ مِنَ اَلْمَسْجِدِ، فَجِيءَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «وَ اَللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَصْنَعُ بِكَ مَا أَصْنَعُ، وَ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ قَاتِلِي ، وَ لَكِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ لِأَسْتَظْهِرَ بِاللَّه ِ عَلَيْكَ» .
وَ مَا رَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ اَلْأَحْوَلُ عَنِ اَلْأَجْلَحِ ،عَنْ أَشْيَاخِ كِنْدَةَ، قَالَ:سَمِعْتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً يَقُولُونَ: سَمِعْنَا عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلْمِنْبَرِ يَقُولُ: «مَا يَمْنَعُ أَشْقَاهَا أَنْ يَخْضِبَهَا مِنْ فَوْقِهَا بِدَمٍ؟» وَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ (2) .
ص: 13
وَ رَوَى عَلِيُّ بْنُ اَلْحَزَوَّرِ ،عَنِ اَلْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: خَطَبَنَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي اَلشَّهْرِ اَلَّذِي قُتِلَ فِيهِ فَقَالَ: «أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَ هُوَ سَيِّدُ اَلشُّهُورِ ،وَ أَوَّلُ اَلسَّنَةِ، وَ فِيهِ تَدُورُ رَحَى اَلسُّلْطَان َ . أَلاَ وَ إِنَّكُمْ حَاجٌّ اَلْعَام َ صَفّاً وَاحِداً ،وَ آيَةُ ذَلِكَ أَنِّي لَسْتُ فِيكُمْ» قَالَ:فَهُوَ يَنْعَى نَفْسَهُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ نَحْنُ لاَ نَدْرِي (1) .
وَ رَوَى اَلْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ اَلْعَبَّاسِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَتَعَشَّى لَيْلَةً عِنْدَ اَلْحَسَنِ وَ لَيْلَةً عِنْدَ اَلْحُسَيْنِ وَ لَيْلَةً عِنْدَ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ (2)، وَ كَانَ لاَ يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِ لُقَمٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اَللَّيَالِي فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ: «يَأْتِينِي أَمْرُ اَللَّهِ وَ أَنَا خَمِيص ٌ ، إِنَّمَا هِيَ لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ» فَأُصِيبَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي آخِرِ اَللَّيْلِ (3) .
وَ رَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ:حَدَّثَتْنِي أُمُّ مُوسَى - خَادِمَةُ (4)عَلِيٍّ علیه
ص: 14
السلام وَ هِيَ حَاضِنَةُ فَاطِمَةَ اِبْنَتِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ - قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ لاِبْنَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ: «يَا بُنَيَّةِ، إِنِّي أَرَانِي قَلَّ مَا أَصْحَبُكُمْ» قَالَتْ: وَ كَيْفَ ذَلِكَ: يَا أَبَتَاهْ؟ قَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ نَبِيَّ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي مَنَامِي وَ هُوَ يَمْسَحُ اَلْغُبَارَ عَنْ وَجْهِي وَ يَقُولُ: يَا عَلِيُّ ،لاَ عَلَيْكَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ».
قَالَتْ: فَمَا مَكَثْنَا إِلاَّ ثَلاَثاً حَتَّى ضُرِبَ تِلْكَ اَلضَّرْبَةَ. فَصَاحَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ فَقَالَ:«يَا بُنَيَّةِ لاَ تَفْعَلِي، فَإِنِّي أَرَى رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يُشِيرُ إِلَيَّ بِكَفِّهِ: يَا عَلِيُّ هَلُمَّ إِلَيْنَا، فَإِنَّ مَا عِنْدَنَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ» (1) .
وَ رَوَى عَمَّارٌ اَلدُّهْنِيُّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ اَلْحَنَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «رَأَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله فِي مَنَامِي، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ اَلْأَوَدِ وَ اَللَّدَدِ (2)وَ بَكَيْتُ، فَقَالَ:لاَ تَبْكِ يَا عَلِيُّ وَ اِلْتَفِتْ ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَجُلاَنِ مُصَفَّدَان ِ ، وَ إِذَا جَلاَمِيدُ تُرْضَخُ بِهَا رُءُوسُهُمَا»
فَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ مِنَ اَلْغَدِ كَمَا كُنْتُ أَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي اَلْجَزَّارِينَ لَقِيتُ اَلنَّاسَ يَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ، قُتِلَ أَمِيرُ
ص: 15
اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ (1) .
وَ رَوَى عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ اَلْحَسَنِ اَلْبَصْرِيِّ قَالَ: سَهِرَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي اَللَّيْلَةِ اَلَّتِي قُتِلَ (2)فِي صَبِيحَتِهَا، وَ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى اَلْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ اَللَّيْلِ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ اِبْنَتُهُ أُمُّ كُلْثُومٍ -رَحْمَةُ اَللَّهِ-: عَلَيْهَا مَا هَذَا اَلَّذِي قَدْ أَسْهَرَكَ؟ فَقَالَ: «إِنِّي مَقْتُولٌ لَوْ قَدْ أَصْبَحْتُ» وَ أَتَاهُ اِبْنُ اَلنَّبَّاحِ فَآذَنَهُ (3)بِالصَّلاَةِ، فَمَشَى غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَتْ لَهُ اِبْنَتُهُ أُمُّ كُلْثُومٍ: مُرْ جَعْدَةَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَ:نَعَمْ، مُرُوا جَعْدَةَ فَلْيُصَلِّ» (4). ثُمَّ قَالَ: «لاَ مَفَرَّ مِنَ اَلْأَجَلِ» فَخَرَجَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ وَ إِذَا هُوَ بِالرَّجُلِ قَدْ
سَهِرَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا يَرْصُدُهُ، فَلَمَّا بَرَدَ اَلسَّحَرُ نَامَ، فَحَرَّكَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِرِجْلِهِ وَ قَالَ لَهُ: «اَلصَّلاَةَ» فَقَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ (5) .
وَ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ سَهِرَ تِلْكَ اَللَّيْلَةَ، فَأَكْثَرَ اَلْخُرُوجَ وَ اَلنَّظَرَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ هُوَ يَقُولُ: «وَ اَللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَ لاَ كُذِبْتُ، وَ إِنَّهَا اَللَّيْلَةُ اَلَّتِي وُعِدْتُ بِهَا ثُمَّ يُعَاوِدُ مَضْجَعَهُ فَلَمَّا طَلَعَ اَلْفَجْرُ شَدَّ إِزَارَهُ (6)وَ خَرَجَ وَ هُوَ يَقُولُ:
ص: 16
«اُشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ *** فَإِنَّ اَلْمَوْتَ لاَقِيكَ (1)
وَ لاَ تَجْزَعْ مِنَ اَلْمَوْتِ *** إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ»
فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى صَحْنِ اَلدَّارِ اِسْتَقْبَلَتْهُ (2)اَلْإِوَزُّ فَصِحْنَ فِي وَجْهِهِ، فَجَعَلُوا
يَطْرُدُونَهُنَّ فَقَالَ: «دَعُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نَوَائِحُ» ثُمَّ خَرَجَ فَأُصِيبَ عَلَیْهِ السَّلامُ (3) .
مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلسِّيَرِ :مِنْهُمْ أَبُو مِخْنَفٍ لُوطُ بْنُ يَحْيَى، وَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَاشِدٍ، (وَ أَبُو هِشَامٍ اَلرِّفَاعِيُّ ) (4)، وَ أَبُو عَمْرٍو اَلثَّقَفِيُّ ،وَ غَيْرُهُمْ، أَنَّ نَفَراً مِنَ اَلْخَوَارِجِ اِجْتَمَعُوا بِمَكَّةَ، فَتَذَاكَرُوا اَلْأُمَرَاءَ فَعَابُوهُمْوَ عَابُوا أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ وَ ذَكَرُوا أَهْلَ اَلنَّهْرَوَانِ وَ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ أَنَّا شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا لِلَّهِ، فَأَتَيْنَا أَئِمَّةَ اَلضَّلاَلِ فَطَلَبْنَا غِرَّتَهُمْ فَأَرَحْنَامِنْهُمُ اَلْعِبَادَ وَ اَلْبِلاَدَ، وَ ثَأَرْنَا بِإِخْوَانِنَا لِلشُّهَدَاءِ بِالنَّهْرَوَانِ. فَتَعَاهَدُوا عِنْدَ اِنْقِضَاءِ اَلْحَجِّ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ
ص: 17
عَلِيّاً، وَ قَالَ اَلْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ اَلتَّمِيمِيُّ : أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ، وَ قَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ اَلتَّمِيمِيُّ : أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ اَلْعَاصِ؛ (وَ تَعَاقَدُوا) (1)عَلَى ذَلِكَ وَ (تَوَافَقُوا) (2)عَلَيْهِ وَ عَلَى اَلْوَفَاءِ وَ اِتَّعَدُوا لِشَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ تِسْعَعَشْرَةَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
فَأَقْبَلَ اِبْنُ مُلْجَمٍ - وَ كَانَ عِدَادُهُ فِي كِنْدَةَ - حَتَّى قَدِمَ اَلْكُوفَةَ، فَلَقِيَ بِهَا أَصْحَابَهُ فَكَتَمَهُمْ أَمْرَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْتَشِرَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِذْ زَارَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ - مِنْ تَيْمِ اَلرِّبَابِ - فَصَادَفَ عِنْدَهُ قَطَام ِ بِنْتَ اَلْأَخْضَرِ اَلتَّيْمِيَّةَ، وَ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَتَلَ أَبَاهَا وَ أَخَاهَا بِالنَّهْرَوَانِ، وَ كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ زَمَانِهَا فَلَمَّا رَآهَا اِبْنُ مُلْجَمٍ شُغِفَ بِهَا وَاِشْتَدَّ إِعْجَابُهُ بِهَا، فَسَأَلَ فِي نِكَاحِهَا وَ خَطَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ: مَا اَلَّذِي تُسَمِّي لِي مِنَ اَلصَّدَاقِ؟ فَقَالَ لَهَا: اِحْتَكِمِي مَا بَدَا لَكِ، فَقَالَتْ لَهُ: أَنَا مُحْتَكِمَةٌ عَلَيْكَ ثَلاَثَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَ وَصِيفاً وَ خَادِماً، وَ قَتْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهَا: لَكِ جَمِيعُ مَا سَأَلْتِ، وَ أَمَّا قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَنَّى لِي بِذَلِكِ؟ فَقَالَتْ: تَلْتَمِسُ غِرَّتَهُ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَهُ شَفَيْتَ نَفْسِي وَ هَنَأَكَ اَلْعَيْشُ مَعِي، وَ إِنْ قُتِلْتَ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا. فَقَالَ: أَمَا وَ اَللَّهِ مَا أَقْدَمَنِي هَذَا اَلْمِصْرَ - وَ قَدْ كُنْتُ هَارِباً مِنْهُ لاَ آمَنُ مَعَ أَهْلِهِ _ إِلاَّ مَا سَأَلْتِنِي مِنْ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَكِ مَا سَأَلْتِ. قَالَتْ: فَأَنَا طَالِبَةٌ لَكَ بَعْضَ مَنْ يُسَاعِدُكَ عَلَى ذَلِكَ وَ يُقَوِّيكَ.
ثُمَّ بَعَثَتْ إِلَى وَرْدَانَ بْنِ مُجَالِدٍ - مِنْ تَيْمِ اَلرِّبَابِ- فَخَبَّرَتْهُ اَلْخَبَرَ
ص: 18
وَ سَأَلَتْهُ مَعُونَةَ اِبْنِ مُلْجَمٍ، فَتَحَمَّلَ ذَلِكَ لَهَا، وَ خَرَجَ اِبْنُ مُلْجَمٍ فَأَتَى رَجُلاً مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ فَقَالَ: يَا شَبِيبُ، هَلْ لَكَ
فِي شَرَفِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ؟ قَالَ: وَ مَا ذَاكَ؟ قَالَ: تُسَاعِدُنِي عَلَى قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَ كَانَ شَبِيبٌ عَلَى رَأْيِ اَلْخَوَارِجِ، فَقَالَ لَهُ: يَا اِبْنَ مُلْجَمٍ، هَبِلَتْكَ اَلْهَبُولُ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِدًّا، وَ كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ اِبْنُ مُلْجَمٍ: نَكْمُنُ لَهُ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْأَعْظَمِ فَإِذَا خَرَجَ لِصَلاَةِ اَلْفَجْرِ فَتَكْنَا بِهِ، وَ إِنْ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ شَفَيْنَا أَنْفُسَنَا وَ أَدْرَكْنَا ثَأْرَنَا. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَجَابَهُ، فَأَقْبَلَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلاَ اَلْمَسْجِدَ عَلَى قَطَامِ - وَ هِيَ مُعْتَكِفَةٌ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْأَعْظَمِ، قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهَا قُبَّةٌ - فَقَالَ لَهَا: قَدِ اِجْتَمَعَ رَأْيُنَا عَلَى قَتْلِ هَذَا اَلرَّجُلِ، قَالَتْ لَهُمَا: فَإِذَا أَرَدْتُمَا ذَلِكَ فَالْقِيَانِي فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ.
فَانْصَرَفَا مِنْ عِنْدِهَا فَلَبِثَا أَيَّاماً، ثُمَّ أَتَيَاهَا وَ مَعَهُمَا اَلْآخَرُ لَيْلَةَ اَلْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ اَلْهِجْرَةِ، فَدَعَتْ لَهُمْ بِحَرِيرٍ فَعَصَبَتْ (1)بِهِ صُدُورَهُمْ، وَ تَقَلَّدُوا أَسْيَافَهُمْ وَ مَضَوْا وَ جَلَسُوا (2)مُقَابِلَ اَلسُّدَّة ِ اَلَّتِي كَانَ يَخْرُجُ مِنْهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى اَلصَّلاَةِ، وَ قَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَلْقَوْا إِلَى اَلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ اَلْعَزِيمَةِ عَلَى قَتْلِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، وَ وَاطَأَهُمْ عَلَيْهِ، وَ حَضَرَ اَلْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي تِلْكَ اَللَّيْلَةِ لِمَعُونَتِهِمْ عَلَى مَا اِجْتَمَعُوا عَلَيْهِ.
وَ كَانَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ اَللَّيْلَةِ بَائِتاً فِي اَلْمَسْجِدِ،فَسَمِعَ اَلْأَشْعَثَ يَقُولُ لاِبْنِ مُلْجَمٍ: اَلنَّجَاءَ اَلنَّجَاءَ لِحَاجَتِكَ فَقَدْ فَضَحَكَ
ص: 19
اَلصُّبْحُ، فَأَحَسَّ حُجْرٌ بِمَا أَرَادَ اَلْأَشْعَثُ فَقَالَ لَهُ: قَتَلْتَهُ يَا أَعْوَرُ. وَ خَرَجَ مُبَادِراً لِيَمْضِيَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَيُخْبِرَهُ اَلْخَبَرَ وَ يُحَذِّرَهُ مِنَ اَلْقَوْمِ، وَ خَالَفَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَدَخَلَ اَلْمَسْجِدَ، فَسَبَقَهُ اِبْنُ مُلْجَمٍ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، وَ أَقْبَلَ حُجْرٌ وَ اَلنَّاسُ يَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ، قُتِلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ. وَ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْأَزْدِيُّ قَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي فِي تِلْكَ اَللَّيْلَةِ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْأَعْظَمِ مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ اَلْمِصْرِ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ (1)اَلشَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى رِجَالٍ يُصَلُّونَ قَرِيباً مِنَ اَلسُّدَّةِ وَ خَرَجَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ لِصَلاَةِ اَلْفَجْرِ، فَأَقْبَلَ يُنَادِي «اَلصَّلاَةَ اَلصَّلاَةَ» فَمَا أَدْرِي أَ نَادَى أَمْ رَأَيْتُ بَرِيقَ اَلسُّيُوفِ وَ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: لِلَّهِ اَلْحُكْمُ - يَا عَلِيُّ - لاَ لَكَ وَ لاَ لِأَصْحَابِكَ. وَ سَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «لاَ يَفُوتَنَّكُمُ اَلرَّجُلُ» فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ مَضْرُوبٌ، وَ قَدْ ضَرَبَهُ شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ فَأَخْطَأَهُ وَ وَقَعَتْ ضَرْبَتُهُ فِي اَلطَّاقِ، وَ هَرَبَ اَلْقَوْمُ نَحْوَ أَبْوَابِ اَلْمَسْجِدِ وَ تُبَادِرُ اَلنَّاسُ لِأَخْذِهِمْ.
فَأَمَّا شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَصَرَعَهُ وَ جَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ، وَ أَخَذَ اَلسَّيْفَ مِنْ يَدِهِ لِيَقْتُلَهُ بِهِ، فَرَأَى اَلنَّاسَ يَقْصِدُونَ نَحْوَهُ فَخَشِيَ أَنْ يُعَجِّلُوا عَلَيْهِ وَ لاَ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَوَثَبَ عَنْ صَدْرِهِ وَ خَلاَّهُ وَ طَرَحَ اَلسَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَ مَضَى شَبِيبٌ هَارِباً حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَ دَخَلَ عَلَيْهِ اِبْنُ عَمٍّ لَهُ فَرَآهُ يَحِلُّ اَلْحَرِيرَ عَنْ صَدْرِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا، لَعَلَّكَ قَتَلْتَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: لاَ فَقَالَ:نَعَمْ، فَمَضَى اِبْنُ عَمِّهِ فَاشْتَمَلَ عَلَى سَيْفِهِ، ثُمَّ
دَخَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ.
ص: 20
وَ أَمَّا اِبْنُ مُلْجَمٍ، فَإِنَّ رَجُلاً مِنْ هَمْدَانَ لَحِقَهُ فَطَرَحَ عَلَيْهِ قَطِيفَةً (1) كَانَتْ فِي يَدِهِ، ثُمَّ صَرَعَهُ وَ أَخَذَ اَلسَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَ جَاءَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ
عَلَیْهِ السَّلامُ، وَ أَفْلَتَ اَلثَّالِثُ فَانْسَلَّ بَيْنَ اَلنَّاس ِ.
فَلَمَّا أُدْخِلَ اِبْنُ مُلْجَمٍ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ نَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ «اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ، إِنْ أَنَا مِتُّ فَاقْتُلُوهُ كَمَا قَتَلَنِي، وَ إِنْ سَلِمْتُ رَأَيْتُ فِيهِ رَأْيِي» فَقَالَ اِبْنُ مُلْجَمٍ:
وَ اَللَّهِ لَقَدِ اِبْتَعْتُهُ بِأَلْفٍ وَ سَمَمْتُهُ بِأَلْفٍ، فَإِنْ خَانَنِي فَأَبْعَدَهُ اَللَّهُ.
قَالَ:وَ نَادَتْهُ أُمُّ كُلْثُومٍ: يَا عَدُوَّ اَللَّهِ، قَتَلْتَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: إِنَّمَا قَتَلْتُ أَبَاكِ، قَالَتْ: يَا عَدُوَّ اَللَّهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ بَأْسٌ، قَالَ لَهَا: فَأَرَاكِ إِنَّمَا تَبْكِينَ عَلَيَّ إِذاً، لَقَدْ وَ اَللَّهِ ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً لَوْ
قُسِمَتْ بَيْنَ أَهْلِ اَلْأَرْضِ لَأَهْلَكَتْهُمْ.
فَأُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ إِنَّ اَلنَّاسَ لَيَنْهَشُونَ (2)لَحْمَهُ بِأَسْنَانِهِمْ كَأَنَّهُمْ سِبَاعٌ، وَ هُمْ يَقُولُونَ: يَا عَدُوَّ اَللَّهِ مَا ذَا فَعَلْتَ (3)أَهْلَكْتَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَ قَتَلْتَ خَيْرَ اَلنَّاسِ. وَ إِنَّهُ لَصَامِتٌ مَا يَنْطِقُ.
فَذُهِبَ بِهِ إِلَى اَلْحَبْسِ.
وَ جَاءَ اَلنَّاسُ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالُوا لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ مُرْنَا بِأَمْرِكَ فِي عَدُوِّ اَللَّهِ، فَلَقَدْ أَهْلَكَ اَلْأُمَّةَ وَ أَفْسَدَ اَلْمِلَّةَ. فَقَالَ لَهُمْ أَمِيرُ
اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنْ عِشْتُ رَأَيْتُ فِيهِ رَأْيِي، وَ إِنْ هَلَكْتُ فَاصْنَعُوا
ص: 21
بِهِ (1)مَا يُصْنَعُ بِقَاتِلِ اَلنَّبِيِّ ، اُقْتُلُوهُ ثُمَّ حَرِّقُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّارِ » .
قَالَ: فَلَمَّا قَضَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، وَ فَرَغَ أَهْلُهُ مِنْ دَفْنِهِ،جَلَسَ اَلْحَسَنُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ أَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِابْنِ مُلْجَمٍ، فَجِيءَ بِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: «يَا عَدُوَّ اَللَّهِ، قَتَلْتَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمْتَ اَلْفَسَادَ فِي اَلدِّينِ» ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَ اِسْتَوْهَبَتْ أُمُّ اَلْهَيْثَمِ بِنْتُ اَلْأَسْوَدِ اَلنَّخَعِيَّةِ جِيفَتَهُ (2)مِنْهُ لِتَتَوَلَّى إِحْرَاقَهَا، فَوَهَبَهَا لَهَا فَأَحْرَقَتْهَا بِالنَّارِ.
وَ فِي أَمْرِ (3)قَطَامِ وَ قَتْلِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ اَلشَّاعِرُ:
فَلَمْ أَرَ مَهْراً سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ *** كَمَهْرِ قَطَامِ مِنْ فَصِيحٍ وَ أَعْجَمَ
ثَلاَثَةِ آلاَفٍ وَ عَبْدٍ وَ قَيْنَة ٍ *** وَ ضَرْبِ عَلِيٍّ بِالْحُسَامِ اَلْمُصَمَّمِ (4)
وَ لاَ مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ وَ إِنْ غَلاَ *** وَ لاَ فَتْكَ إِلاَّ دُونَ فَتْكِ اِبْنِ مُلْجَمٍ
وَ أَمَّا اَلرَّجُلاَنِ اَللَّذَانِ كَانَا مَعَ اِبْنِ مُلْجَمٍ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ أَجْمَعِينَ فِي اَلْعَقْدِ عَلَى قَتْلِ مُعَاوِيَةَ وَ عَمْرِو بْنِ اَلْعَاصِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا ضَرَبَ مُعَاوِيَةَ وَ هُوَ رَاكِعٌ فَوَقَعَتْ ضَرْبَتُهُ فِي أَلْيَتِهِ وَ نَجَا مِنْهَا وَ أُخِذَ وَ قُتِلَ مِنْ وَقْتِهِ. وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَإِنَّهُ وَافَى عَمْراً فِي تِلْكَ اَللَّيْلَةِ وَ قَدْ وَجَدَ عِلَّةً فَاسْتَخْلَفَ رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ يُقَالُ لَهُ: خَارِجَةُ بْنُ أَبِي حَبِيبَةَ اَلْعَامِرِيُّ، فَضَرَبَهُ
ص: 22
بِسَيْفِهِ وَ هُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمْرٌو، فَأُخِذَ وَ أُتِيَ بِهِ عَمْرٌو فَقَتَلَهُ، وَ مَاتَ خَارِجَةُ فِي اَلْيَوْمِ اَلثَّانِي (1) .
مَا رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ اَلرَّوَاجِنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ (2)بْنُ عَلِيٍّ
اَلْعَنَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْوَفَاةُ قَالَ لِلْحَسَنِ وَ اَلْحُسَيْنِ علیهما السلام: «إِذَا أَنَا مِتُّ فَاحْمِلاَنِي عَلَى سَرِيرِي ،ثُمَّ أَخْرِجَانِي وَ اِحْمِلاَ مُؤَخَّرَ اَلسَّرِيرِ فَإِنَّكُمَا
ص: 23
تُكْفَيَانِ مُقَدَّمَهُ، ثُمَّ اِئْتِيَا بِيَ اَلْغَرِيَّيْنِ (1)،فَإِنَّكُمَا سَتَرَيَانِ صَخْرَةً بَيْضَاءَ تَلْمَعُ نُوراً، فَاحْتَفِرَا فِيهَا فَإِنَّكُمَا تَجِدَانِ فِيهَا سَاجَة ً ، فَادْفِنَانِي فِيهَا».
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ أَخْرَجْنَاهُ وَ جَعَلْنَا نَحْمِلُ مُؤَخَّرَ اَلسَّرِيرِ وَ نُكْفَى مُقَدَّمَهُ، وَ جَعَلْنَا نَسْمَعُ دَوِيّاً وَ حَفِيفاً حَتَّى أَتَيْنَا اَلْغَرِيَّيْنِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ (تَلْمَعُ نُوراً) (2)،فَاحْتَفَرْنَا فَإِذَا سَاجَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: «مِمَّا اِدَّخَرَ نُوحٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ». فَدَفَنَّاهُ فِيهَا، وَ اِنْصَرَفْنَا وَ نَحْنُ مَسْرُورُونَ بِإِكْرَامِ اَللَّهِ لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَلَحِقَنَا قَوْمٌ مِنَ اَلشِّيعَةِ لَمْ يَشْهَدُوا اَلصَّلاَةَ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْنَاهُمْ بِمَا جَرَى وَ بِإِكْرَامِ اَللَّهِ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ نُعَايِنَ مِنْ أَمْرِهِ مَا عَايَنْتُمْ فَقُلْنَا لَهُمْ: إِنَّ اَلْمَوْضِعَ قَدْ عُفِيَ أَثَرُهُ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُعلیه السلام، فَمَضَوْا وَ عَادُوا إِلَيْنَا فَقَالُوا إِنَّهُمُ اِحْتَفَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً (3) .
وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ (4)قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرَ عَلَیْهِ السَّلامُ: أَيْنَ دُفِنَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ
ص: 24
عَلَیْهِ السَّلامُ؟ قَالَ: «دُفِنَ بِنَاحِيَةِ (1)اَلْغَرِيَّيْنِ وَ دُفِنَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ وَ دَخَلَ قَبْرَهُ اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ رَضِيَ
اَللَّهُ عَنْهُ» (2) .
وَ رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ اِبْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ،عَنْ رِجَالِهِ قَالَ: قِيلَ لِلْحُسَيْنِ (3)بْنِ عَلِيٍّ علیهما السلام: أَيْنَ دَفَنْتُمْ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «خَرَجْنَا بِهِ لَيْلاً عَلَى مَسْجِدِ اَلْأَشْعَثِ، حَتَّى خَرَجْنَا بِهِ إِلَى اَلظَّهْرِ بِجَنْبِ اَلْغَرِيِّ، فَدَفَنَّاهُ هُنَاكَ» (4) .
وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِشَةَ (5)
ص: 25
قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ خَازِمٍ (1)قَالَ: خَرَجْنَا يَوْماً مَعَ اَلرَّشِيدِ مِنَ اَلْكُوفَةِ نَتَصَيَّدُ، فَصِرْنَا إِلَى نَاحِيَةِ اَلْغَرِيَّيْنِ وَ اَلثُّوَيَّةِ (2)، فَرَأَيْنَا ظِبَاءً فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهَا اَلصُّقُورَ وَ اَلْكِلاَبَ، فَجَاوَلَتْهَا (3)سَاعَةً ثُمَّ لَجَأَتِ (4)اَلظِّبَاءُ إِلَى أَكَمَةٍ فَسَقَطَتْ عَلَيْهَا فَسَقَطَتِ اَلصُّقُورُ نَاحِيَةً وَ رَجَعَتِ اَلْكِلاَبُ، فَعَجِبَ (5)
ص: 26
اَلرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اَلظِّبَاءَ هَبَطَتْ مِنَ اَلْأَكَمَةِ فَهَبَطَتِ اَلصُّقُورُ وَ اَلْكِلاَبُ فَرَجَعَتِ اَلظِّبَاءُ إِلَى اَلْأَكَمَةِ فَتَرَاجَعَتْ عَنْهَا اَلْكِلاَبُ، وَ اَلصُّقُورُ فَفَعَلَتْ (1)ذَلِكَ ثَلاَثاً (2)فَقَالَ: اَلرَّشِيدُ: اُرْكُضُوا، فَمَنْ لَقِيتُمُوهُ فَأْتُونِي بِهِ، فَأَتَيْنَاهُ بِشَيْخٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ،فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: أَخْبِرْنِي مَا هَذِهِ اَلْأَكَمَةُ؟ قَالَ: إِنْ جَعَلْتَ لِيَ اَلْأَمَانَ أَخْبَرْتُكَ. قَالَ: لَكَ عَهْدُ اَللَّهِ وَ مِيثَاقُهُ أَلاَّ أُهَيِّجَك َ وَ لاَ أُوذِيَكَ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ آبَائِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ فِي هَذِهِ اَلْأَكَمَةِ قَبْرَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ، جَعَلَهُ (3)اَللَّهُ حَرَماً لاَ يَأْوِي إِلَيْهِ شَيْءٌ إِلاَّ أَمِنَ. فَنَزَلَ هَارُونُ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَ صَلَّى عِنْدَ اَلْأَكَمَةِ وَ تَمَرَّغَ عَلَيْهَا وَ جَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ اِنْصَرَفْنَا.
قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَائِشَةَ: فَكَأَنَّ قَلْبِي لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَجْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَرَأَيْتُ بِهَا يَاسِراً رَحَّالَ (4)اَلرَّشِيدِ، فَكَانَ يَجْلِسُ مَعَنَا إِذَا طُفْنَا، فَجَرَى اَلْحَدِيثُ إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ لِيَ اَلرَّشِيدُ لَيْلَةً مِنَ اَللَّيَالِي، وَ قَدْ قَدَّمْنَا مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلْنَا اَلْكُوفَةَ:
يَا يَاسِرُ، قُلْ لِعِيسَى بْنِ جَعْفَرٍ فَلْيَرْكَبْ، فَرَكِبَا جَمِيعاً وَ رَكِبْتُ مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا صِرْنَا (5)إِلَى اَلْغَرِيَّيْنِ، فَأَمَّا عِيسَى فَطَرَحَ نَفْسَهُ فَنَامَ، وَ أَمَّا اَلرَّشِيدُ فَجَاءَ إِلَى أَكَمَةٍ فَصَلَّى عِنْدَهَا، فَكُلَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دَعَا وَ بَكَى وَ تَمَرَّغَ
ص: 27
عَلَى اَلْأَكَمَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا عَمِّ (1)أَنَا وَ اَللَّهِ أَعْرِفُ فَضْلَكَ وَ سَابِقَتَكَ، وَ بِكَ وَ اَللَّهِ جَلَسْتُ مَجْلِسِي اَلَّذِي أَنَا فِيهِ (2)وَ أَنْتَ أَنْتَ، وَ لَكِنَّ وُلْدَكَ يُؤْذُونَنِي وَ يَخْرُجُونَ عَلَيَّ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يُعِيدُ هَذَا اَلْكَلاَمَ وَ يَدْعُو وَ يَبْكِي، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَقْتِ اَلسَّحَرِ قَالَ لِي: يَا يَاسِرُ، أَقِمْ عِيسَى، فَأَقَمْتُهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عِيسَى، قُمْ فَصَلِّ عِنْدَ قَبْرِ اِبْنِ عَمِّكَ. قَالَ لَهُ : وَ أَيُّ عُمُومَتِي هَذَا؟ قَالَ: هَذَا قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَوَضَّأَ عِيسَى وَ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَالاَ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَ اَلْفَجْرُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَدْرَكَكَ اَلصُّبْحُ. فَرَكِبْنَا وَ رَجَعْنَا إِلَى اَلْكُوفَةِ (3) .
ص: 28
فمن ذلكَ ما جاءت به الأَخبار في تقدّم إيمانه بالله و رسوله علیه
السلام و سَبقه به كافَّةَ المكلفين من الأَنّام.
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْجَيْشِ اَلْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْبَلْخِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو اَلْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ اَلْقَاسِمِ اَلْبِرْتِيُّ (1)قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ اَلْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُخُثَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ (عَبْدِ اَللَّهِ) (2)، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَفِيفٍ (3)عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
ص: 29
كُنْتُ جَالِساً مَعَ اَلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَجَاءَ شَابٌّ فَنَظَرَ إِلَى اَلسَّمَاءِ حِينَ تَحَلَّقَتِ (1)اَلشَّمْسُ، ثُمَّ اِسْتَقْبَلَ اَلْكَعْبَةَ فَقَامَ يُصَلِّي، ثُمَّ جَاءَ غُلاَمٌ فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَتِ اِمْرَأَةٌ فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا، فَرَكَعَ اَلشَّابُّ فَرَكَعَ اَلْغُلاَمُ وَ اَلْمَرْأَةُ، ثُمَّ رَفَعَ اَلشَّابُّ فَرَفَعَا، ثُمَّ سَجَدَ اَلشَّابُّ فَسَجَدَا، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ، أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقَالَ اَلْعَبَّاسُ: أَمْرٌ عَظِيمٌ، أَ تَدْرِي مَنْ هَذَا اَلشَّابُّ؟ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ - اِبْنُ أَخِي - أَ تَدْرِي مَنْ هَذَا اَلْغُلاَمُ؟ هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - اِبْنُ أَخِي - أَ تَدْرِي مَنْ هَذِهِ اَلْمَرْأَةُ؟ هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. إِنَّ اِبْنَ أَخِي هَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّهُ - رَبَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ - أَمَرَهُ بِهَذَا اَلدِّينِ اَلَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَ لاَ وَ اَللَّهِ مَا عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ عَلَى هَذَا اَلدِّينِ غَيْرُ هَؤُلاَءِ اَلثَّلاَثَةِ (2) .
أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلصَّيْرَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ اَلْقَاسِمِ اَلْبِرْتِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ سَهْلِ بْنِ صَالِحٍ - وَ كَانَ قَدْ جَازَ مِائَةَ سَنَةٍ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا اَلْمُعَمَّرِ عَبَّادَ بْنَ
عَبْدِ اَلصَّمَدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله
علیه و آله: «صَلَّتِ اَلْمَلاَئِكَةُ عَلَيَّ وَ عَلَى عَلِيٍّ سَبْعَ سِنِينَ» وَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى
ص: 30
اَلسَّمَاءِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ إِلاَّ مِنِّي وَ مِنْ عَلِيٍّ » (1).
وَ بِهَذَا اَلْإِسْنَادِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ اَلْقَاسِمِ اَلْبِرْتِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْهَاشِمِيُّ - أَبُو فَاطِمَةَ - قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَةَ اَلْعَدَوِيَّةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى مِنْبَرِ اَلْبَصْرَةِ يَقُولُ: «أَنَا اَلصِّدِّيقُ اَلْأَكْبَرُ، آمَنْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ أَبُو بَكْرٍ، وَ أَسْلَمْتُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (2) .
أَخْبَرَنِي أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ اَلْمُقْرِئُ اَلْبَصِيرُ (اَلسِّيرَوَانِيُّ) (3) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي اَلثَّلْجِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ اَلنَّوْفَلِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَلْحَمِيدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اَلْغَفَّارِ اَلْفُقَيْمِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ - مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ - عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَ عَمَّارٌ حَاجَّيْنِ، فَنَزَلْنَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَّا اَلْخُفُوفُ (4)قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّا لاَ نَرَاهُ إِلاَّ وَ قَدْ دَنَا اِخْتِلاَطٌ مِنَ اَلنَّاسِ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: اِلْزَمْ كِتَابَ اَللَّهِ وَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَنَّهُ قَالَ: «عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ
ص: 31
آمَنَ بِي، وَ أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُنِي يَوْمَ، اَلْقِيَامَةِ، وَ هُوَ اَلصِّدِّيقُ اَلْأَكْبَرُ، وَ اَلْفَارُوقُ بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ، وَ أَنَّهُ يَعْسُوبُ (1)اَلْمُؤْمِنِينَ، وَ اَلْمَالُ يَعْسُوبُ اَلظَّلَمَة ِ » (2) .
قالَ الشيخ المفيد (3): و الأَخبار في هذا المعنى كثيرة، و شواهدها جمة-فمن ذلكَ: قَوْلُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ اَلْأَنْصَارِيِّ ذِي اَلشَّهَادَتَيْنِ - رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ - فِيمَا أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو عُبَيْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ اَلْمَرْزُبَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ قَالَ: أَنْشَدَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ اَلنَّحْوِيُّ، عَنِ اِبْنِ عَائِشَةَ لِخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِت ٍ اَلْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ:
مَا كُنْتُ أَحْسَبُ (هَذَا اَلْأَمْرَ مُنْصَرِفاً) (4)*** عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنٍ
أَ لَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِهِمْ *** وَ أَعْرَفَ اَلنَّاسِ بِالْآثَارِ (5)وَ اَلسُّنَنِ
وَ آخِرَ اَلنَّاسِ عَهْداً بِالنَّبِيِّ وَ مَنْ *** جِبْرِيلُ عَوْنٌ لَهُ فِي اَلْغُسْلِ وَ اَلْكَفَنِ
مَنْ فِيهِ مَا فِيهِمْ لاَ يَمْتَرُونَ بِهِ *** وَ لَيْسَ فِي اَلْقَوْمِ مَا فِيهِ مِنَ اَلْحَسَنِ
مَا ذَا اَلَّذِي رَدَّكُمْ عَنْهُ فَنَعْلَمُهُ (6)*** هَا إِنَّ بَيْعَتَكُمْ مِنْ (أَغْبَنِ اَلْغَبَن ِ ) (7)(8).
ص: 32
فصل و من ذلكَ ما جَاَءَ في فضله عَلَیْهِ السَّلامُ على الكافَّةَ في العَلِمَ
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ اَلتَّمِيمِيُّ اَلنَّحْوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْقَاسِمِ اَلْمُحَارِبِيُّ اَلْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُونُسَ اَلنَّهْشَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي اَلصَّبَّاحِ اَلْكِنَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ اَلسُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْلَمُ أُمَّتِي، وَ أَقْضَاهُمْ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِي (1).
أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ اَلْجِعَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى أَبُو جَعْفَرٍ اَلْعِجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو (2)قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ (3)،عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَقُولُ: أَنَا مَدِينَةُ اَلْعِلْمِ وَ عَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ اَلْعِلْمَ فَلْيَقْتَبِسْهُ مِنْ عَلِيٍّ »(4).
أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ اَلْجِعَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ
ص: 33
اَلْحَكَمِ اَلْحَنَّاطُ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ صَالِحٍ اَلْأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ اَلْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ، عَنِ اَلْأَشْعَثِ بْنِ طَلِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ اَلْحَسَنَ اَلْعُرَنِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اِسْتَدْعَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلِيّاً فَخَلاَ بِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْنَا سَأَلْنَاهُ مَا اَلَّذِي عَهِدَ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: «عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ مِنَ اَلْعِلْمِ، فُتِحَ لِي مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ» (1) .
أَخْبَرَنِي أَبُوالحُسین مُحَمَّدُ بْنُ اَلْمُظَفَّرِ اَلْبَزَّازُ (2)قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي اَلسَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ سَعْدٍ اَلْكِنَانِيِّ، عَنِ اَلْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالْخِلاَفَةِ خَرَجَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ مُعْتَمّاً بِعِمَامَةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، لاَبِساً بُرْدَيْهِ (3)، فَصَعِدَ اَلْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ وَعَظَ وَ أَنْذَرَ، ثُمَّ جَلَسَ مُتَمَكِّناً وَ شَبَّكَ بَيْنَ
ص: 34
أَصَابِعِهِ وَ وَضَعَهَا أَسْفَلَ سُرَّتِهِ (1)ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ اَلنَّاسِ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، سَلُونِي فَإِنَّ عِنْدِي عِلْمَ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ. أَمَا - وَ اَللَّهِ - لَوْ ثُنِيَ لِيَ اَلْوِسَادُ (2)، لَحَكَمْتُ بَيْنَ أَهْلِ اَلتَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَ بَيْنَ أَهْلِ اَلْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَ أَهْلِ اَلزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ، وَ أَهْلِ اَلْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ، حَتَّى يَزْهَرَ (3)كُلُّ كِتَابٍ مِنْ هَذِهِ اَلْكُتُبِ وَ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ عَلِيّاً قَضَى بِقَضَائِكَ. وَ اَللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ وَ تَأْوِيلِهِ مِنْ كُلِّ مُدَّعٍ عِلْمَهُ، وَ لَوْ لاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اَللَّهِ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ » -ثُمَّ قَالَ -: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَة َ ، لَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ آيَةٍ آيَةٍ، لَأَخْبَرْتُكُمْ بِوَقْتِ نُزُولِهَا وَ فِي مَنْ (4)نَزَلَتْ وَ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاسِخِهَا مِنْ مَنْسُوخِهَا، وَ خَاصِّهَا مِنْ عَامِّهَا، وَ مُحْكَمِهَا مِنْ مُتَشَابِهِهَا، وَ مَكِّيِّهَا مِنْ مَدَنِيِّهَا. وَ اَللَّهِ مَا فِئَةٌ (تَضِل ُّ أَوْ تُهْدَى) (5)إِلاَّ وَ أَنَا أَعْرِفُ قَائِدَهَا وَ سَائِقَهَا وَ نَاعِقَهَا إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ »(6) .
في أَمثالِ هذه الأَخبار مِمَّا يطول به الكتاب.
ص: 35
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْمُظَفَّرِ اَلْبَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ ابْنِ عِمْرَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُوسَى، (عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هَارُونَ) (1)قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيَّ رَحِمَهُ اَللَّهُ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدْتَ بَدْراً؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَقُولُ لِفَاطِمَةَ وَ قَدْ جَاءَتْهُ ذَاتَ يَوْمٍ تَبْكِي وَ تَقُولُ: «يَا رَسُولَ اَللَّهِ عَيَّرَتْنِي نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِفَقْرِ عَلِيٍّ . فَقَالَ: لَهَا اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: أَ مَا تَرْضَيْنَ يَا فَاطِمَةُ - أَنِّي زَوَّجْتُكِ أَقْدَمَهُمْ سِلْماً، وَ أَكْثَرَهُمْ عِلْماً، إِنَّ اَللَّهَ اِطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ اَلْأَرْضِ اِطِّلاَعَةً فَاخْتَارَ مِنْهُمْ أَبَاكِ فَجَعَلَهُ نَبِيّاً، وَ اِطَّلَعَ إِلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَعْلَكِ فَجَعَلَهُ وَصِيّاً، وَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ (أُنْكِحَكِ إِيَّاهُ) (2)أَ مَا عَلِمْتِ يَا فَاطِمَةُ أَنَّكِ بِكَرَامَةِ اَللَّهِ إِيَّاكِ زَوَّجْتُكِ (3)أَعْظَمَهُمْ حِلْماً وَ أَكْثَرَهُمْ عِلْماً، وَ أَقْدَمَهُمْ سِلْماً» فَضَحِكَتْ فَاطِمَةُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اِسْتَبْشَرَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی
ص: 36
الله علیه و آله: «يَا فَاطِمَةُ، إِنَّ لِعَلِيٍّ ثَمَانِيَةَ أَضْرَاسٍ قَوَاطِعَ لَمْ تُجْعَلْ لِأَحَدٍ مِنَاَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ: هُوَ أَخِي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ لَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ اَلنَّاسِ، وَ أَنْتِ - يَا فَاطِمَةُ - سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ زَوْجَتُهُ، وَ سِبْطَا اَلرَّحْمَةِ سِبْطَايَ وُلْدُهُ (1)، وَ أَخُوهُ اَلْمُزَيَّنُ بِالْجَنَاحَيْنِ فِي اَلْجَنَّةِ يَطِيرُ مَعَ اَلْمَلاَئِكَةِ حَيْثُ يَشَاءُ، وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ وَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِي، وَ آخِرُ اَلنَّاسِ عَهْداً بِي وَ هُوَ وَصِيِّي وَ وَارِثُ اَلْأَوْصِيَاءِ (2)» (3) .
قَالَ اَلشَّيْخُ اَلْمُفِيدُ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ اَلرَّازِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ سُلَيْمَانَ اَلدَّيْلَمِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ اَلْجُعْفِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ قَالَ: قَالَ: لَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ سَبْعُ خِصَالٍ، مَا مِنْهُنَّ خَصَّْلَةٌ فِي اَلنَّاسِ: مِنَّا اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: وَ مِنَّا اَلْوَصِيُّ خَيْرُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَ مِنَّا حَمْزَةُ أَسَدُ اَللَّهِ وَ أَسَدُ رَسُولِهِ وَ سَيِّدُ اَلشُّهَدَاءِ، وَ مِنَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ اَلْمُزَيَّنُ بِالْجَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي اَلْجَنَّةِ حَيْثُ يَشَاءُ، وَ مِنَّا سِبْطَا هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ، وَ مِنَّا قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ اَلَّذِي أَكْرَمَ اَللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ، وَ مِنَّا اَلْمَنْصُورُ (4).
ص: 37
وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَيْمَنَ (1)، عَنْ أَبِي حَازِمٍ - مَوْلَى اِبْنِ عَبَّاسٍ - عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ «يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ تُخَاصَمُ فَتَخْصِم ُ بِسَبْعِ خِصَالٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِثْلُهُنَّ: أَنْتَ أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَعِي إِيمَاناً ،وَ أَعْظَمُهُمْ جِهَاداً، وَ أَعْلَمُهُمْ بِآيَاتِ (2)اَللَّهِ، وَ أَوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اَللَّهِ، وَ أَرْأَفُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ، وَ أَقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَ أَعْظَمُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ مَزِيَّةً (3).
في أَمثالِ هذه الأَخبار و معانَيها، مِمَّا هي أشهرُ عند الخاصَّة و العامُّة من أَنّ يحتاج فيها إِلَى إطالة خَطَبَ (4).و لو لم يكن منها إلّا ما انتَشَر ذكرُه، و اشتهرت الرواية به من حديثٌ الطائر، وَ قَوْلُ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله: «اَللَّهُمَّ اِئْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ، يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا اَلطَّائِرِ» (5)فَجَاءَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ . لكفى، إذ كانَ أَحَبَّ الخلق إِلَى الله تعالى، و أعظمهم ثوابا عنده، و أكثرَهم قُرباً إليه، و أفضلَهم عملاً له.
وَ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَنْصَارِيِّ، وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ
ص: 38
عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «ذَاكَ خَيْرُ اَلْبَشَرِ، لاَ يَشُكُّ فِيهِ إِلاَّ كَافِرٌ »(1) . حُجَّةَ واضحة فيما قدَّمناه، و قد أَسْنَدَ ذلكَ جابر في رواية جاءت بأسانيد متّصلة معروفة عند أهل النقل (2) و الأَدلّةُ على أَنّ أَميرَالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ أفضلُ النّاس بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله متناصرةٌ، لو قَصَدنا إِلَى إثباتها (3)لأَفردنا لها كتاباً، و فيما رَسَمناه من الخبرُ بذلكَ مُقْنَعٌ فيما قصدناه من الاختَصَّار، و وضعِه في مكانه من هذا الكتاب.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ اَلْمَعْرُوفُ بِابْنِ اَلْجِعَابِيِّ اَلْحَافِظِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ اَلْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ اَلدِّهْقَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اَلْأَعْمَشُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ
ص: 39
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلْمِنْبَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهِدَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَيَّ أَنَّهُ لاَ يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَ لاَ يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ» (1) .أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ اَلْمَرْزُبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ اَلْبَغَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ عُمَرَ اَلْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا اَلنَّضْرُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي اَلْجَارُودِ، عَنِ اَلْحَارِثِ اَلْهَمْدَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ اَلْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «قَضَاءٌ قَضَاهُ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى لِسَانِ اَلنَّبِيِّ (2)اَلْأُمِّيِّ صلّی الله علیه و آله أَنَّهُ لاَ يُحِبُّنِي إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَ لاَ يُبْغِضُنِي إِلاَّ مُنَافِقٌ، وَ قَدْ خٰابَ مَنِ اِفْتَرىٰ» (3) . أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْمُظَفَّرِ اَلْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى اَلْبَرْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْن سَالِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا اَلْأَعْمَشُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی
الله علیه و آله: أَنَّهُ لاَ يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَ لاَ يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ» (4) .
ص: 40
فصل من ذلكَ ما جَاَءَ في أَنّه عَلَیْهِ السَّلامُ و شيعته هم الفائزون
أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ اَلْمَرْزُبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ اَلْحَافِظُ (1)قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدٍ اَلْكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَالِبٍ (2)، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرِ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «سُئلتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَقُولُ: إِنَّ عَلِيّاً وَ شِيعَتَهُ هُمُ
ص: 41
اَلْفَائِزُونَ (1) .
أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْجَوْهَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ عِيسَى اَلْهَاشِمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْعَلاَءِ: قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ اَلْعَلاَءِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ اَلْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «قَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى قَضِيباً مِنْ يَاقُوت ٍ أَحْمَرَ لاَ يَنَالُهُ إِلاَّ نَحْنُ وَ شِيعَتُنَا، وَ سَائِرُ اَلنَّاسِ مِنْهُ بَرِيئُونَ» (2).
أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اَللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ اَلْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدٍ اَلْكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ اَلسُّلَيْكِ (3)عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَ لاَ عَذَابَ، قَالَ: ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: هُمْ شِيعَتُكَ وَ أَنْتَ إِمَامُهُمْ (4) .
ص: 42
أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي (أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى اَلْكَرْخِيُّ )(1)قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو اَلْعَيْنَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا (مُحَمَّدُ بْنُ عَائِشَةَ) (2)عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرٍو اَلْبَجَلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ، قَالَ: «شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حَسَدَ اَلنَّاسِ إِيَّايَ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ ، إِنَّ أَوَّلَ أَرْبَعَةٍ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ: أَنَا وَ أَنْتَ وَ اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ، وَ، ذُرِّيَّتُنَا، خَلْفَ ظُهُورِنَا، وَ أَحِبَّاؤُنَا خَلْفَ ذُرِّيَّتِنَا، وَ أَشْيَاعُنَا عَنْ أَيْمَانِنَا وَ شَمَائِلِنَا» (3).
فصل من ذلكَ ما جاءت به الأَخبار في أَنّ ولايته عَلَیْهِ السَّلامُ عَلِمَ على طيب المولد و عَداوته عَلِمَ على خبثه
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْجَيْشِ اَلْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْبَلْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا (4)أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْعَلَوِيُّ قَالَ:
ص: 43
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اَلْمُنْعِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْفَزَارِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ علیهما السلام، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَقُولُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیه السلام: أَ لاَ أَسُرُّكَ؟ أَ لاَ أَمْنَحُكَ؟ أَ لاَ أُبَشِّرُكَ؟! فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اَللَّهِ بَشِّرْنِي. قَالَ: فَإِنِّي خُلِقْتُ أَنَا وَ أَنْتَ مِنْ طِينَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَضَلَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ فَخَلَقَ اَللَّهُ مِنْهَا شِيعَتَنَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ دُعِيَ اَلنَّاسُ بِأَسْمَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ سِوَى شِيعَتِنَا فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ لِطِيبِ مَوْلِدِهِمْ» (1) .
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْجَيْشِ اَلْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ قَالَ: حَدَّثَنَا (مُحَمَّدُ بْنُ سلم اَلْكُوفِيُّ )(2)قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ (3)بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحُسَيْنِ اَلزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ (4)، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ يُدْعَى (5)اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ بِأَسْمَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ، مَا خَلاَ شِيعَتَنَا فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ لِطِيبِ مَوَالِيدِهِمْ» (6).
ص: 44
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْقُمِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامِ بْنِ سُهَيْلٍ اَلْإِسْكَافِيُّ (1)قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعْمَةَ اَلسَّلُولِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ حَرَامٍ اَلْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله ذَاتَ يَوْمٍ - جَمَاعَةً مِنَ اَلْأَنْصَارِ - فَقَالَ لَنَا «يَا مَعْشَرَ (2)اَلْأَنْصَارِ بُورُوا (3)أَوْلاَدَكُمْ بِحُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَمَنْ أَحَبَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لِرِشْدَة ٍ (4)وَ مَنْ أَبْغَضَهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لِغَيَّةٍ (5)» (6) .
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْجَيْشِ اَلْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْبَلْخِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا (7)أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ (8)قَالَ: أَخْبَرَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ
ص: 45
ابْنِ غَالِبٍ، عَنْ (عَلِيِّ بْنِ اَلْحَسَنِ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ) (1)عَنْ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمّ الِيِّ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ اَلسَّبِيعِيِّ ، عَنْ بَشِيرٍ اَلْغِفَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ خَادِمَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، أَتَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِوَضُوءٍ فَقَالَ لِي: «يَا أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا اَلْبَابِ اَلسَّاعَةَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ خَيْرُ اَلْوَصِيِّينَ، أَقْدَمُ اَلنَّاسِ سِلْماً، وَ أَكْثَرُهُمْ عِلْماً وَ أَرْجَحُهُمْ حِلْماً» فَقُلْتُ: اَللَّهُمَّ اِجْعَلْهُ مِنْ قَوْمِي. قَالَ: فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنَ اَلْبَابِ وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَتَوَضَّأُ، فَرَدَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلْمَاءَ عَلَى وَجْهِ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ حَتَّى اِمْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ : «يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَ حَدَثَ فِيَّ حَدَثٌ؟» فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «مَا حَدَثَ فِيكَ إِلاَّ خَيْرٌ، أَنْتَ مِنِّي وَ أَنَا مِنْكَ، تُؤَدِّي عَنِّي وَ تَفِي بِذِمَّتِي، وَ تُغَسِّلُنِي وَ تُوَارِينِي فِي لَحْدِي، وَ تُسْمِعُ اَلنَّاسَ عَنِّي وَ تُبَيِّنُ لَهُمْ مِنْ بَعْدِي» فَقَالَ عَلِيٌّ علیه السلام: «يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَ وَ مَا بَلَّغْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَ لَكِنْ تُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ بَعْدِي» (2) .
ص: 46
أَخْبَرَنِي أَبُو اَلْجَيْشِ اَلْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ دَاهِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي دَاهِرُ بْنُ يَحْيَى اَلْأَحْمَرِيُّ اَلْمُقْرِئُ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةَ اَلْأَسَدِيِّ (1)، عَنِ اِبْن عَبَّاسٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله قَالَ: لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: «اِسْمَعِي وَ اِشْهَدِي، هَذَا عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ (2)»(3).
وَ بِهَذَا اَلْإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي اَلثَّلْجِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلسَّلاَمِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ اَلْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي اَلْجَحَّافِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ: قِيلَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: أَوْصِ، قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ، قِيلَ: إِلَى مَنْ قَالَ: إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ، قِيلَ: عُثْمَانُ؟ قَالَ: لاَ، وَ لَكِنْ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ حَقّاً أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، إِنَّهُ لَزِرُّ (4)اَلْأَرْضِ، وَ رَبَّانِيُّ (5)هَذِهِ اَلْأُمَّةِ، لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُوهُ
ص: 47
لَأَنْكَرْتُمُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا (1) .
وَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ اَلْحَصِيبِ اَلْأَسْلَمِيِّ - وَ هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ اَلْعُلَمَاءِ، بِأَسَانِيدَ يَطُولُ شَرْحُهَا - قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَمَرَنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ وَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ، فَقَالَ: «سَلِّمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِإِمْرَةِ اَلْمُؤْمِنِينَ» فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا (2) .
في أَمثالِ هذه الأَخبار يطول بها الكتاب.
فصل فأما مناقبه الغنية - بشُهرتُها و تواتر النقل بها، و إجماع العُلِمَاءُ عليها - عن إيراد أسانيد الأَخبار بها، فهي كثيرة يطول بشرحها (3)الكتاب، و في رسمنا منها طرفا كفاية عن إيراد جميعها في الغرض الذي وضعنا له هذا الكتاب، إن شاء الله.
فمن ذلكَ: أَنّ النبيُّ صلّی الله علیه و آله جمع خاصّةً أَهَّلَه و عشيرته، في ابتداء الدعوة إِلَى الإسلام فعرض عليهم الإيمان، و استنصرهم على أهلُ الكفر و العَدُوٍّان، و ضمن لهم على ذلكَ الحظوة في الدُّنيا، و الشرف
ص: 48
و ثواب الجنِّان، فلم يجبه أحدٌ منهم إلّا أَميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام فنحله بذلكَ تحقيق الإخوة و الوزارة و الوصية و الوراثة و الخلافةُ ، و أَوجَبَ له به الجنِّة.
و ذلكَ في حديثٌ الدار، الذي أجمع على صِحَّتِهِ نقاد الآثار، حِينَ جَمَعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ فِي دَارِ أَبِي طَالِبٍ، وَ هُمْ أَرْبَعُونَ - رَجُلاً يَوْمَئِذٍ - يَزِيدُونَ رَجُلاً أَوْ يَنْقُصُونَ رَجُلاً - فِيمَا ذَكَرَهُ اَلرُّوَاةُ - وَ أَمَرَ أَنْ يُصْنَعَ لَهُمْ فَخِذُ شَاةٍ مَعَ مُدٍّ مِنَ اَلْبُرِّ، وَ يُعَدَّ لَهُمْ صَاعٌ مِنَ اَللَّبَنِ، وَ قَدْ كَانَ اَلرَّجُلُ مِنْهُمْ مَعْرُوفاً بِأَكْلِ اَلْجَذَعَة ِ فِي مَقَامٍ (1)وَاحِدٍ، وَ يَشْرَبُ اَلْفَرَقَ (2)مِنَ اَلشَّرَابِ فِي ذَلِكَ اَلْمَقَامِ، وَ أَرَادَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِإِعْدَادِ قَلِيلِ اَلطَّعَامِ وَ اَلشَّرَابِ لِجَمَاعَتِهِمْ إِظْهَارَ اَلْآيَةِ لَهُمْ فِي شِبَعِهِمْ وَ رِيِّهِمْ مِمَّا كَانَ لاَ يُشْبِعُ اَلْوَاحِدَ مِنْهُمْ وَ لاَ يُرْوِيهِ.ثُمَّ أَمَرَ بِتَقْدِيمِهِ لَهُمْ، فَأَكَلَتِ اَلْجَمَاعَةُ كُلُّهَا مِنْ ذَلِكَ اَلْيَسِيرِ حَتَّى تَمَلَّئُوا مِنْهُ، وَ لَمْ يَبِنْ مَا أَكَلُوهُ مِنْهُ وَ شَرِبُوهُ فِيهِ، فَبَهَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَ بَيَّنَ لَهُمْ آيَةَ نُبُوَّتِهِ، وَ عَلاَمَةَ صِدْقِهِ بِبُرْهَانِ اَللَّهِ تَعَالَى فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ: لَهُمْ بَعْدَ أَنْ شَبِعُوا مِنَ اَلطَّعَامِ وَ رَوُوا مِنَ اَلشَّرَابِ: «يَا بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَنِي إِلَى اَلْخَلْقِ كَافَّةً، وَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، فَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ) (3) وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كَلِمَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلَى اَللِّسَانِ ثَقِيلَتَيْنِ فِي اَلْمِيزَانِ، تَمْلِكُونَ بِهِمَا اَلْعَرَبَ وَ اَلْعَجَمَ،
ص: 49
وَتَنْقَادُ لَكُمْ بِهِمَا اَلْأُمَمُ وَ تَدْخُلُونَ بِهِمَا اَلْجَنَّةَ، وَ تَنْجُونَ بِهِمَا مِنَ اَلنَّارِ، شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ، فَمَنْ يُجِبْنِي إِلَى هَذَا اَلْأَمْرِ وَ يُؤَازِرْنِي عَلَيْهِ وَ عَلَى اَلْقِيَامِ بِهِ، يَكُنْ أَخِي وَ وَصِيِّي وَ وَزِيرِي وَ وَارِثِي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي» فَلَمْ يُجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ. فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ - وَ أَنَا إِذْ ذَاكَ أَصْغَرُهُمْ سِنّاً، وَ أَحْمَشُهُمْ (1)سَاقاً، وَ أَرْمَصُهُمْ (2)عَيْناً - فَقُلْتُ: أَنَا - يَا رَسُولَ اَللَّهِ - أُؤَازِرُكَ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ. فَقَالَ: اِجْلِسْ ثُمَّ أَعَادَ اَلْقَوْلَ عَلَى اَلْقَوْمِ ثَانِيَةً فَأَصْمَتُوا، وَ قُمْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَقَالَتِيَ اَلْأُولَى، فَقَالَ: اِجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَى اَلْقَوْمِ مَقَالَتَهُ ثَالِثَةً فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحَرْفٍ فَقُلْتُ: - أَنَا أُؤَازِرُكَ - يَا رَسُولَ اَللَّهِ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ، فَقَالَ: اِجْلِسْ، فَأَنْتَ أَخِي وَ وَصِيِّي وَ وَزِيرِي وَ وَارِثِي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي» فَنَهَضَ اَلْقَوْمُ وَ هُمْ يَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ : يَا أَبَا طَالِبٍ، لِيَهْنِكَ (3)اَلْيَوْمَ إِنْ دَخَلْتَ فِي دِينِ اِبْنِ أَخِيكَ، فَقَدْ جَعَلَ اِبْنَكَ أَمِيراً عَلَيْكَ (4) . فصل هذه منقبة جليلة اختَصَّ بها أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ و لم يَشْرَكه
ص: 50
فيها أحدٌ من المهاجرين الأوّلَين و لا الأَنصار، و لا أحدٌٌ من أهلُ الإسلام، و ليس لِغيره عِدلٌ لها من الفَضْل و لا مقاربٌ على حال، و في الخبرُ بها ما يُفيد أَنّ به عَلَیْهِ السَّلامُ تَمَكَّنَ النبيُّ ّّ صلّی الله علیه و آله من تبليغ الرسالة، و إظهار الدعوة، و الصَّدع بالإسلام ، و، لولاه لم تَثْبُتِ الملّة و لا استقرّت الشريعة، و لاظَهَرَتِ الدعوة فهو عَلَیْهِ السَّلامُ ناصرُ الإسلام، و وزيرُ الداعي إليه من قِبَلِ الله - عزَّ و جلّ - و بضمانه لنبيّ الهدى عَلَیْهِ السَّلامُ النصرةَ تَمّ له في النبوّة ما أراد، و في ذلكَ من الفَضْل ما لا تُوازنه (1)الجبالُ فضلاًً، و لا تُعادلَّه الفضائلُ كلّها محلّاً و قدراً.
فصل
و من ذلكَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ عَلَیْهِ السَّلامُ لَمَّا أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، عِنْدَ اِجْتِمَاعِ اَلْمَلَإِ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْ مُظَاهَرَتِهِمْ - بِالْخُرُوجِ مِنْ (2)مَكَّةَ، وَ أَرَادَ اَلاِسْتِسْرَارَ بِذَلِكَ وَتَعْمِيَةَ خَبَرِه ِ عَنْهُمْ، لِيَتِمَّ لَهُ اَلْخُرُوجُ عَلَى اَلسَّلاَمَةِ مِنْهُمْ، أَلْقَى خَبَرَهُ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اِسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهُ، وَ كَلَّفَهُ اَلدِّفَاعَ عَنْهُ بِالْمَبِيتِ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ هُوَ اَلْبَائِتُ عَلَى اَلْفِرَاشِ، وَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله بَائِتاً (3)عَلَى حَالِهِ اَلَّتِي كَانَ يَكُونُ عَلَيْهَا فِيمَا سَلَفَ مِنَ اَللَّيَالِي.
ص: 51
فَوَهَبَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَ شَرَاهَا مِنَ اَللَّهِ فِي طَاعَتِهِ وَ بَذَلَهَا دُونَ نَبِيِّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ لِيَنْجُوَ بِهِ مِنْ كَيْدِ اَلْأَعْدَاءِ، وَ تَتِمَّ لَهُ بِذَلِكَ اَلسَّلاَمَةُ وَ اَلْبَقَاءُ، وَ يَنْتَظِمَ لَهُ بِهِ اَلْغَرَضُ فِي اَلدُّعَاءِ إِلَى اَلْمِلَّةِ وَ إِقَامَةِ اَلدِّينِ وَ إِظْهَارِ اَلشَّرِيعَةِ. فَبَاتَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مُسْتَتِراً (1)بِإِزَارِهِ، وَ جَاءَهُ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ تَمَالَئُوا (2)عَلَى قَتْلِهِ فَأَحْدَقُوا بِهِ وَ عَلَيْهِمُ اَلسِّلاَحُ، يَرْصُدُونَ طُلُوعَ اَلْفَجْرِ لِيَقْتُلُوهُ ظَاهِراً، فَيَذْهَبَ، دَمُهُ فَرْغاً (3)بِمُشَاهَدَةِ بَنِي هَاشِمٍ قَاتِلِيهِ مِنْ جَمِيعِ اَلقَبَائِلِ، وَ لاَ يَتِمُّ لَهُمُ اَلْأَخْذُ بِثَأْرِهِ مِنْهُمْ، لاِشْتِرَاكِ اَلْجَمَاعَةِ فِي دَمِهِ، وَ قُعُودِ كُلِّ قَبِيلٍ عَنْ قِتَالِ رَهْطِهِ وَ مُبَايَنَةِ أَهْلِهِ.
فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ نَجَاةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ حِفْظِ دَمِهِ، وَ بَقَائِهِ حَتَّى صَدَعَ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَ لَوْ لاَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ، لَمَا تَمَّ لِنَبِيِّ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلتَّبْلِيغُ وَ اَلْأَدَاءُ، وَ لاَ اِسْتَدَامَ لَهُ اَلْعُمُرُ وَ اَلْبَقَاءُ، وَ لَظَفِرَ بِهِ اَلْحَسَدَةُ وَ اَلْأَعْدَاءُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ اَلْقَوْمُ وَ أَرَادُوا اَلْفَتْكَ بِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ ثَارَ إِلَيْهِمْ، وَ فتَفَرَّقُوا عَنْهُ حِينَ عَرَفُوهُ، وَ اِنْصَرَفُوا عَنْهُ وَ قَدْ ضَلَّتْ حِيَلُهُمْ (4)فِي اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله، وَ اِنْتَقَضَ مَا بَنَوْهُ مِنَ اَلتَّدْبِيرِ فِي قَتْلِهِ، وَ خَابَتْ ظُنُونُهُمْ، وَ بَطَلَتْ آمَالُهُمْ، وَ، كَانَ بِذَلِكَ اِنْتِظَامُ اَلْإِيمَانِ، وَ، إِرْغَامُ اَلشَّيْطَانِ، وَ، خِذْلاَنُ أَهْلِ اَلْكُفْرِ وَ اَلْعُدْوَانِ.
ص: 52
و لم يشرك أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في هذه المنقبة أحدٌ من أهلُ الإسلام، و لا اختَصَّ بنظير لها على حال، و، لا مقارب لها في الفَضْل بصحيح الاعتبار.
و في أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ و مبيته على الفراش، أَنّزل الله تعالى (وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ) (1)-(2) .
فصل
و من ذلكَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله كَانَ أَمِينَ قُرَيْشٍ عَلَى وَدَائِعِهِمْ، فَلَمَّا فَجَأَهُ مِنَ اَلْكُفَّارِ مَا أَحْوَجَهُ إِلَى اَلْهَرَبِ مِنْ مَكَّةَ بَغْتَةً، لَمْ يَجِدْ فِي قَوْمِهِ، وَ، أَهْلِهِ، مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَى مَا كَانَ مُؤْتَمَناً عَلَيْهِ سِوَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَاسْتَخْلَفَهُ فِي رَدِّ اَلْوَدَائِعِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ لِمُسْتَحِقِّيهِ، وَ جَمْعِ بَنَاتِهِ وَ نِسَاءِ أَهْلِهِ وَ أَزْوَاجِهِ وَ اَلْهِجْرَةِ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَ لَمْ يَرَ أَنَّ أَحَداً يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ كَافَّةِ اَلنَّاسِ، فَوَثِقَ بِأَمَانَتِهِ، وَ عَوَّلَ عَلَى نَجْدَتِهِ وَ شَجَاعَتِهِ، وَ اِعْتَمَدَ فِي اَلدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِهِ وَ حَامَّتِه ِ عَلَى بَأْسِهِ وَ قُدْرَتِهِ، وَ اِطْمَأَنَّ إِلَى ثِقَتِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَ حُرَمِهِ، وَ عَرَفَ مِنْ وَرَعِهِ وَ عِصْمَتِهِ
ص: 53
مَا تَسْكُنُ اَلنَّفْسُ مَعَهُ إِلَى اِئْتِمَانِهِ (1)عَلَى ذَلِكَ.
فَقَامَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِهِ أَحْسَنَ اَلْقِيَامِ، وَ رَدَّ كُلَّ وَدِيعَةٍ إِلَى أَهْلِهَا، وَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَ حَفِظَ بَنَاتِ نَبِيِّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ آلِهِ وَ حُرَمَهُ، وَ هَاجَرَ بِهِمْ مَاشِياً عَلَى قَدَمِهِ (2)،يَحُوطُهُمْ مِنَ اَلْأَعْدَاءِ، وَ يَكْلَؤُهُمْ (3)مِنَ اَلْخُصَمَاءِ، وَ يَرْفُقُ بِهِمْ فِي اَلْمَسِيرِ حَتَّى أَوْرَدَهُمْ عَلَيْهِ اَلْمَدِينَةَ، عَلَى أَتَمِّ صِيَانَةٍ وَ حِرَاسَةٍ وَ رِفْقٍ وَ رَأْفَةٍ وَ حُسْنِ تَدْبِيرٍ فَأَنْزَلَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله عِنْدَ وُرُودِهِ اَلْمَدِينَةَ دَارَهُ، وَ أَحَلَّهُ قَرَارَهُ وَ خَلَطَهُ بِحُرَمِهِ وَ أَوْلاَدِهِ، وَ لَمْ يُمَيِّزْهُ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَ لاَ اِحْتَشَمَه ُ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ وَ سِرِّهِ .
و هذه منقبة توحد بها عَلَیْهِ السَّلامُ من كافَّةَ أهلُ بيته و أصحّابه، و لم يَشْرَكه فيها أحدٌ من أتباعه و أشياعه، و لم يَحْصُل لغيرُهُ من الخلق فضل سواها يعادلَّها عند السبر، و لا يقاربها على الامتحانُ، و هذه (4)مضافة إِلَى ما قدَّمناه من مناقبه، الباهر فضلها القاهر شرفها قلوب العقلاء (5).
فصل
و من ذلكَ أَنّ الله تعالى خَصَّه بتلافي فارط من خالف نبيُّه صلّی الله
ص: 54
علیه و آله في أوامره، و إصلاح ما أفسدوه، حتّى انتظمت به أَسبابٌ الصلاح، و اتسق بيمنه و سعادة جده و حسن تدبيره و التوفيق اللازم له أمور المسلمين و قام به عمود الدين.
أ لا تَرى أَنَّّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله أَنْفَذَ خَالِدَ بْنَ اَلْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ دَاعِياً لَهُمْ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ، وَ لَمْ يُنْفِذْهُ مُحَارِباً، فَخَالَفَ أَمْرَهُ صلّی الله علیه و آله وَ نَبَذَ عَهْدَهُ، وَ عَانَدَ دِينَهُ، فَقَتَلَ اَلْقَوْمَ وَ هُمْ عَلَى اَلْإِسْلاَمِ، وَ أَخْفَرَ ذِمَّتَهُمْ وَ هُمْ أَهْلُ اَلْإِيمَانِ، وَ عَمِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَمِيَّةِ اَلْجَاهِلِيَّةِ وَ طَرِيقَةِ أَهْلِ اَلْكُفْرِ وَ اَلْعُدْوَانِ، فَشَانَ فَعَالُهُ اَلْإِسْلاَمَ، وَ نَفَّرَ بِهِ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ مَنْ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى اَلْإِيمَانِ، وَ كَادَ أَنْ يَبْطُلَ بِفِعْلِهِ نِظَامُ اَلتَّدْبِيرِ فِي اَلدِّينِ.
فَفَزِعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي تَلاَفِي فَارِطِهِ، وَ إِصْلاَحِ مَا أَفْسَدَهُ، وَ دَفْعِ اَلْمَعَرَّةِ عَنْ شَرْعِهِ بِذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَنْفَذَهُ لِعَطْفِ اَلْقَوْمِ وَ سَلِّ سَخَائِمِهِمْ وَ اَلرِّفْقِ بِهِمْ ، فِي تَثْبِيتِهِمْ عَلَى اَلْإِيمَانِ، وَ أَمَرَهُ أَنْ يَدِيَ اَلْقَتْلَى، وَ يُرْضِيَ بِذَلِكَ أَوْلِيَاءَ دِمَائِهِمُ اَلْأَحْيَاءَ.
فَبَلَغَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْ ذَلِكَ مَبْلَغَ اَلرِّضَا، وَ زَادَ عَلَى اَلْوَاجِبِ بِمَا تَبَرَّعَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ عَطِيَّةِ مَا كَانَ بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنَ اَلْأَمْوَالِ، وَ قَالَ: لَهُمْ: «قَدْ أَدَّيْتُ (1)دِيَاتِ اَلْقَتْلَى، وَ أَعْطَيْتُكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اَلْمَالِ مَا تَعُودُونَ بِهِ عَلَى مُخَلَّفِيهِمْ (2)لِيَرْضَى اَللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ صلّی الله علیه و آله وَ تَرْضَوْنَ بِفَضْلِهِ عَلَيْكُمْ» وَ أَظْهَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِالْمَدِينَةِ مَا
ص: 55
اِتَّصَلَ بِهِمْ مِنَ اَلْبَرَاءَةِ مِنْ صَنِيعِ خَالِدٍ بِهِمْ، فَاجْتَمَعَ بَرَاءَةُ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِمَّا جَنَاهُ خَالِدٌ، وَ اِسْتِعْطَافُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْقَوْمَ بِمَا صَنَعَهُ بِهِمْ، فَتَمَّ بِذَلِكَ اَلصَّلاَحُ وَ اِنْقَطَعَتْ بِهِ مَوَادُّ اَلْفَسَادِ، وَ لَمْ يَتَوَلَّ ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ لاَ قَامَ بِهِ مِنَ اَلْجَمَاعَةِ سِوَاهُ، وَ لاَ رَضِيَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِتَكْلِيفِهِ أَحَداً مِمَّنْ عَدَاهُ .
و هذه منقبة يزيد شرفها على كلُّ فضل يُدَّعى لغير أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ - حقا كانَ ذلكَ أم باطلاً - و هي خاصّةً لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ لم يَشركه فيها أحدٌ منهم، و لا حَصَلَ لغيرُهُ عدلٌَّ لها من الأعمال (1).
فصل
وَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله لَمَّا أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، سَأَلَ اَللَّهَ - جَلَّ اِسْمُهُ- أَنْ يُعَمِّيَ أَخْبَارَهُ عَلَى قُرَيْشٍ لِيَدْخُلَهَا بَغْتَةً، وَ كَانَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَدْ بَنَى اَلْأَمْرَ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهَا عَلَى اَلاِسْتِسْرَارِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِعَزِيمَةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلَى فَتْحِهَا، وَ أَعْطَى اَلْكِتَابَ اِمْرَأَةً سَوْدَاءَ (2)كَانَتْ وَرَدَتِ اَلْمَدِينَةَ تَسْتَمِيحُ بِهَا
ص: 56
اَلنَّاسَ وَ تَسْتَبِرُّهُمْ (1)،وَ جَعَلَ لَهَا جُعْلاً عَلَى أَنْ تُوصِلَهُ إِلَى قَوْمٍ سَمَّاهُمْ لَهَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ عَلَى غَيْرِ اَلطَّرِيقِ.
فَنَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِذَلِكَ، فَاسْتَدْعَى أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالَ لَهُ : «إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِي قَدْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبَرِنَا، وَ قَدْ كُنْتُ سَأَلْتُ اَللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ أَخْبَارَنَا عَلَيْهِمْ، وَ اَلْكِتَابُ مَعَ اِمْرَأَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَخَذَتْ عَلَى غَيْرِ اَلطَّرِيقِ، فَخُذْ سَيْفَكَ وَ اِلْحَقْهَا وَ اِنْتَزِعِ اَلْكِتَابَ مِنْهَا وَ خَلِّهَا وَ صِرْ بِهِ إِلَيَّ » ثُمَّ اِسْتَدْعَى اَلزُّبَيْرَ بْنَ اَلْعَوَّامِ وَ قَالَ لَهُ : «اِمْضِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذِهِ اَلْوَجْهِ» فَمَضَيَا وَ أَخَذَا عَلَى غَيْرِ اَلطَّرِيقِ فَأَدْرَكَا اَلْمَرْأَةَ ، فَسَبَقَ إِلَيْهَا اَلزُّبَيْرُ فَسَأَلَهَا عَنِ اَلْكِتَابِ اَلَّذِي مَعَهَا، فَأَنْكَرَتْ وَ حَلَفَتْ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ مَعَهَا وَ بَكَتْ، فَقَالَ اَلزُّبَيْرُ: مَا أَرَى - يَا أَبَا اَلْحَسَنِ - مَعَهَا كِتَاباً فَارْجِعْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِنُخْبِرَهُ بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهَا.
فَقَالَ لَهُ : أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «يُخْبِرُنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَنَّ مَعَهَا كِتَاباً وَ يَأْمُرُنِي بِأَخْذِهِ مِنْهَا، وَ تَقُولُ أَنْتَ أَنَّهُ لاَ كِتَابَ مَعَهَا» ثُمَّ اِخْتَرَطَ اَلسَّيْف َ وَ تَقَدَّمَ إِلَيْهَا فَقَالَ: «أَمَا وَ اَللَّهِ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجِي اَلْكِتَابَ لَأَكْشِفَنَّكِ، ثُمَّ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ» فَقَالَتْ لَهُ: إِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَعْرِضْ يَا اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ بِوَجْهِكَ عَنِّي، فَأَعْرَضَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِوَجْهِهِ عَنْهَا فَكَشَفَتْ قِنَاعَهَا، وَ أَخْرَجَتِ اَلْكِتَابَ مِنْ عَقِيصَتِهَا (2)
فَأَخَذَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ صَارَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه
ص: 57
و آله فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى بِ الصَّلاَةَ جَامِعَةً، فَنُودِيَ فِي اَلنَّاسِ فَاجْتَمَعُوا إِلَى اَلْمَسْجِدِ حَتَّى اِمْتَلَأَ بِهِمْ، ثُمَّ صَعِدَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلْمِنْبَرَ وَ أَخَذَ اَلْكِتَابَ بِيَدِهِ وَ قَالَ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنِّي كُنْتُ سَأَلْتُ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْ يُخْفِيَ أَخْبَارَنَا (1)عَنْ قُرَيْشٍ وَ إِنَّ رَجُلاً مِنْكُمْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبَرِنَا، فَلْيَقُمْ صَاحِبُ اَلْكِتَابِ، وَ إِلاَّ فَضَحَهُ اَلْوَحْيُ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، فَأَعَادَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَقَالَتَهُ ثَانِيَةً، وَ قَالَ: «لِيَقُمْ صَاحِبُ اَلْكِتَابِ وَ إِلاَّ فَضَحَهُ اَلْوَحْيُ » فَقَامَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَ هُوَ يُرْعَدُ كَالسَّعَفَةِ فِي يَوْمِ رِيحِ اَلْعَاصِفِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَنَا صَاحِبُ اَلْكِتَابِ، وَ مَا أَحْدَثْتُ نِفَاقاً بَعْدَ إِسْلاَمِي، وَ لاَ شَكّاً بَعْدَ يَقِينِي. فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «فَمَا اَلَّذِي حَمَلَكَ عَلَى أَنْ كَتَبْتَ هَذَا اَلْكِتَابَ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ لِي أَهْلاً بِمَكَّةَ، وَ لَيْسَ لِي بِهَا عَشِيرَةٌ فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ اَلدَّائِرَةُ لَهُمْ عَلَيْنَا، فَيَكُونُ كِتَابِي هَذَا كَفّاً لَهُمْ عَنْ أَهْلِي، وَ يَداً لِي عِنْدَهُمْ، وَ لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ لِشَكٍّ فِي اَلدِّينِ.
فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ مُرْنِي بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ.
فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَ لَعَلَّ اَللَّهَ تَعَالَى اِطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَغَفَرَ لَهُمْ أَخْرِجُوهُ مِنَ اَلْمَسْجِدِ»
قَالَ: فَجَعَلَ اَلنَّاسُ يَدْفَعُونَ فِي ظَهْرِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ، وَ هُوَ يَلْتَفِتُ (2)إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله لِيَرِقَّ عَلَيْهِ (3)، فَأَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه
ص: 58
و آله بِرَدِّهِ وَ قَالَ لَهُ : «قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَ عَنْ جُرْمِكَ، فَاسْتَغْفِرْ رَبَّك (1)وَ لاَ تَعُدْ بِمِثْلِ مَا جَنَيْتَ» (2) . فصل
و هذه المنقبة لاحقة بما سلف من مناقبه عَلَیْهِ السَّلامُ و فيها أَنّ به عَلَیْهِ السَّلامُ و فیها انّ به علیه السّلام تَمَّ لرسول الله التدبيرُ في دخول مَكّة، و كفي مئونة القَوْم و ما كانَ يَكرَهُهُ من معرفتهم بقَصده إليهم حتّى فجأهم بَغتةً، و لم يَثِق في استخراج الكتاب من المرأة إلّا بأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ و لا استنصح في ذلكَ سواه، و لا عَوَّل على غيره، و كانَ به عَلَیْهِ السَّلامُ كفايتُه المهمّ، و بلوغه المراد، و انتظامُ تدبيره، و صلاحُ أمر المسلمين، و ظُهُورُ الدين.
و لم يكن في إنفاذُ الزُبَير مَعَ أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فضل يُعتَدُّ به، لأَنّه لم يَكفِ مُهِمَاً، و لا أغنى بمضيه شيئاً، و إنّما أَنّفذه رسول الله صلّی الله علیه و آله لأَنّه في عداد بني هاشم من جهة أُمّه صَفِيّة بنتِ عَبْدالمطّلب، فأراد عَلَیْهِ السَّلامُ أَنّ يَتَوَلّى العملَ بما استسر به من تدبيره - خاص أَهَّلَه، و كانت للزبير شجاعةُ و فيه إقدام، مَعَ النسب الذي بينه و بين أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فعَلِمَ أَنّه يُساعده على ما بعثه له، إذ كانَ تَمامُ
ص: 59
الأَمرُ لهما فراجَعَ إليهما بما يَخُصُّهما مِمَّا يَعُمُّ بني هاشم من خيرُ أو شر. فكانَ الزبير تابعا لأَميرِالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ و وقع منه فيما أَنّفذه (1)فيه ما لم يُوافِق صوابَ الرَّأْي، فتداركه أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ .
و فيما شَرَحناه في هذه القصة بيانُ اختَصَّاص أميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ. من المنقبة و الفضيلة بما لم يَشْرَكه فيه غيرُهُ، و لا داناه سواه بفضل يقاربه فضلاً عن أَنّ يُكافِئه،و الله المحمود
فصل
و من ذلكَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله أَعْطَىَ اَلرَّايَةَ (فِي يَوْمِ) (2)اَلْفَتْحِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَ أَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا مَكَّةَ أَمَامَهُ، فَأَخَذَهَا سَعْدٌ وَ جَعَلَ يَقُولُ:
اَلْيَوْمُ يَوْمُ اَلْمَلْحَمَةِ *** اَلْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ (3)اَلْحُرَمَةُ .
فَقَالَ بَعْضُ اَلْقَوْمِ لِلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله: أَ مَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ وَ اَللَّهِ إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَهُ اَلْيَوْمَ صَوْلَة ٌ فِي قُرَيْشٍ. فَقَالَ: عَلَیْهِ السَّلامُ: لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَدْرِكْ - يَا عَلِيُّ - سَعْداً وَ خُذِ اَلرَّايَةَ مِنْهُ، وَ كُنْ أَنْتَ اَلَّذِي تَدْخُلُ بِهَا».
ص: 60
فاستدرك رسولُ الله صلّی الله علیه و آله بأَميرالمؤمنين صلّی الله علیه و آله ما كَادَ يَفوت من صَوَاب التدبير، بتهجّم سَعدٍ و إقدامه على أهلُ مَكّة، و عَلِمَ أَنّ الأَنّصارَ لا تَرضى أَنّ يَأخُذَ أحدٌ من النّاس من سيّدها سَعدٍ الراية، و يَعزلَه عن ذلكَ المقامُ، إلّا من كانَ في مثل حال النبيُّ صلّی الله علیه و آله من جَلالة القدر، و رفيع المكان، و فَرْضِ الطاعة، و من لا يَشيِنُ سَعْداً الانصرافُ به عن تلكَ الولاية.
و لو كانَ بحَضرة النبيُّ صلّی الله علیه و آله من يَصلَحُ لذلك سوى أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ لعَدَلَ بالأَمرُ إليه، و كانَ مذكوراً هناك بالصلاح بمثل ما قام به أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ، و إذا كانت الأَحكامُ إنّما تجب بالأَفعالِ الواقعة، و كانَ ما فعله النبيُ صلّی الله علیه و آله بأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ من التعظيم و الإجلال، و التأهيل لما أَهَّلَه له من إصلاح الأُمور، و استدراك ما كانَ يَفوُتُ بعمل غيره على ما ذكرناه، وجب القضاءُ في هذه المنقبة بما يَبينُ بها ممّن سواه، و يَفضُلُ بشرفها على كافَّة من عداه (1).
فصل
و من ذلكَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ اَلسِّيَرِ (2)أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی اللّه علیه وآله
ص: 61
بَعَثَ خَالِدَ بْنَ اَلْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ اَلْيَمَنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ، وَ أَنْفَذَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فِيهِمُ اَلْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - رَحِمَهُ اَللَّهُ - فَأَقَامَ خَالِدٌ عَلَى اَلْقَوْمِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُوهُمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَسَاءَ ذَلِكَ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَدَعَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يُقْفِلَ (1)خَالِداً وَ مَنْ مَعَهُ. وَ قَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِمَّنْ مَعَ خَالِدٍ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ فَاتْرُكْهُ»
قَالَ اَلْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَه ُ ، فَلَمَّا اِنْتَهَيْنَا إِلَى أَوَائِلِ أَهْلِ اَلْيَمَنِ، وَ بَلَغَ اَلْقَوْمَ اَلْخَبَرُ فَتَجَمَّعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْفَجْرَ ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَى اَلْقَوْمِ كِتَابَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ كُلُّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، (وَ كَتَبَ بِذَلِكَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله) (2)فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ اِسْتَبْشَرَ وَ اِبْتَهَجَ، وَ خَرَّ سَاجِداً شُكْراً لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَ جَلَسَ وَ قَالَ: «اَلسَّلاَمُ عَلَى هَمْدَانَ اَلسَّلاَمُ عَلَى هَمْدَانَ» وَ تَتَابَعَ بَعْدَ إِسْلاَمِ هَمْدَانَ أَهْلُ اَلْيَمَنِ عَلَى اَلْإِسْلاَمِ. (3) .
و هذه أيضاً منقبة لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ ليس لِأَحدٍ من الصحابة مثلها و لا مقاربُها، و ذلكَ أَنّه لمّا وقف الأَمر فيما بعث له خالدَ و خيف الفسادُ به، لم يُوجَد من يَتَلافى ذلكَ سوى أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فَنُدِبَ له فقام به أحسنُ قيام، و جَرى على عادة الله عنده في التوفيق لما
ص: 62
يلائم إيثارَ النبيُّ صلّی الله علیه و آله و كانَ بيمنه و رفقه و حُسن تدبيره، و خلوصِ نيّته في طاعة الله. هدايةُ من اهتدى بهداه (1)من النّاس، وإجابةُ من أجاب إِلَى الإسلام و عمارةُ الدين، و قوّةُ الإيمان، و بلوغ النبيُّ صلّی الله علیه و آله مِمَّا آثره (من المراد) (2)و انتظام الأَمرُ فيه على ما قرت به عينه، و ظَهَرَ استبشاره به و سروره بتَمامه لكافَّةَ أهلُ الإسلام .
و قد ثبتَ أَنّ الطاعة تتعاظم بتعاظم النفع بها، كما تَعظُم المعصيةُ بتعاظم الضرر بها، و لذلك صارت الأَنّبياءُ عَلَیْهِ السَّلامُ أعظمُ الخلق ثواباً، لتعاظم النفع بدعوتهم على سائر المنافع بأعمال من سواهم.
فصل
و مثلُ ذلكَ مَا كَانَ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ مِنِ اِنْهِزَامِ، مَنِ اِنْهَزَمَ وَ قَدْ أُهِّلَ لِجَلِيلِ اَلْمَقَامِ بِحَمْلِ اَلرَّايَةِ، فَكَانَ بِانْهِزَامِهِ مِنَ اَلْفَسَادِ مَا لاَ خِفَاءَ بِهِ عَلَى اَلْأَلِبَّاءِ، ثُمَّ أُعْطِيَ صَاحِبُهُ اَلرَّايَةَ بَعْدَهُ، فَكَانَ مِنِ اِنْهِزَامِهِ مِثْلُ اَلَّذِي سَلَفَ مِنَ اَلْأَوَّلِ، وَ خِيفَ فِي (3)ذَلِكَ عَلَى اَلْإِسْلاَمِ وَ شَأْنِهِ مَا كَانَ مِنَ اَلرَّجُلَيْنِ فِي اَلاِنْهِزَامِ، فَأَكْبَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ أَظْهَرَ
ص: 63
اَلنَّكِيرَ لَه ُ وَ اَلْمَسَاءَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ مُعْلِناً: «لَأُعْطِيَنَّ اَلرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يُحِبُّهُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ، وَ يُحِبُّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ، كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ، لاَ يَرْجِعُ حَتَّى يَفْتَحَ اَللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. فَأَعْطَاهَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَكَانَ اَلْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ» (1) . و دلَّ فحوى كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ على خروج الفرارين من الصفة الّتي أوجبها لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ كما خَرَجَا بالفرار من صفة الكر و الثبوت للقتال و في تلافي أَميرُالمؤمنين بخَيْبَرُ ما فرط من غيرُهُ دليل على توحده من الفَضْل فيه بما لم يَشْرَكه فيه من عداه.
و في ذلكَ يقولُ حسان بن ثابت الأَنّصاريّ:
وكان عليُّ أرْمَدَ العَيْنِ يَبْتَغي *** دَواءً فلمّا لَمْ يُحس مُداوِيا
شَفاهُ رسولُ الله منه بتُفلةٍ *** فبورك مَرِقياً وبورك راقِيا
وقال سأعْطِي الراية اليومَ *** كَمِيّاً (2)مُحِباً للإله مُواليا
يُحِبّ إلهي والإله يُحبُّه *** به يَفْتَحُ الله الحُصُونَ الأوابِيا (3)
فأصْفى بها دونََ البَربّة كلَّها *** عَلِيّاً وسمّاهُ الوَزيرَ المُواخِيا
ص: 64
فصل
وَ مِثْلُ ذَلِكَ - أَيْضاً - مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ اَلْبَرَاءَةِ (1)، وَ قَدْ دَفَعَهَا اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيَنْبِذَ بِهَا عَهْدَ اَلْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا سَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ نَزَلَ جَبْرَئِيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ لَهُ : إِنَّ اَللَّهَ يُقْرِئُكَ اَلسَّلاَمَ، وَ يَقُولُ لَكَ: لاَ يُؤَدِّي عَنْكَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ. فَاسْتَدْعَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالَ لَهُ : «اِرْكَبْ نَاقَتِيَ اَلْعَضْبَاءَ وَ اِلْحَقْ أَبَا بَكْرٍ فَخُذْ بَرَاءَةَ مِنْ يَدِهِ، وَ اِمْضِ بِهَا إِلَى مَكَّةَ، فَانْبِذْ عَهْدَ اَلْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِمْ، وَ خَيِّرْ أَبَا بَكْرٍ بَيْنَ أَنْ يَسِيرَ مَعَ رِكَابِك َ أَوْ يَرْجِعَ إِلَيَّ »
فَرَكِبَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ نَاقَةَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله اَلْعَضْبَاءَ، وَ سَارَ حَتَّى لَحِقَ أَبَا بَكْرٍ فَلَمَّا رَآهُ فَزِعَ مِنْ لُحُوقِهِ بِهِ، وَ اِسْتَقْبَلَهُ وَ قَالَ: فِيمَ جِئْتَ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ؟ أَ سَائِرٌ مَعِي أَنْتَ، أَمْ لِغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ : أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَمَرَنِي أَنْ أَلْحَقَكَ فَأَقْبِضَ مِنْكَ اَلْآيَاتِ مِنْ بَرَاءَةَ، وَ أَنْبِذَ بِهَا عَهْدَ اَلْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِمْ، وَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكَ بَيْنَ أَنْ تَسِيرَ مَعِي، أَوْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ»
فَقَالَ: بَلْ أَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَ عَادَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ ، إِنَّكَ أَهَّلْتَنِي لِأَمْرٍ طَالَتِ اَلْأَعْنَاقُ فِيهِ
ص: 65
إِلَيَّ ، فَلَمَّا تَوَجَّهْتُ لَهُ رَدَدْتَنِي عَنْهُ، مَا لِي، أَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ؟
فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «لاَ، وَ لَكِنَّ اَلْأَمِينَ هَبَطَ إِلَيَّ عَنِ اَللَّهِ جَلَّ جَلاَلُهُ بِأَنَّهُ لاَ يُؤَدِّي عَنْكَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ، وَ عَلِيٌّ مِنِّي، وَ لاَ يُؤَدِّي عَنِّي إِلاَّ عَلِيٌّ ». في حديثٌ مشهورٌ. (1)
فكانَ نَبذُ العهد مختصّاً بمن عَقَدَه، أو بمن يَقوم مقامَه في فَرْضِ الطاعة، و جلالة القدر، و عُلوِّ الرتبة، و شرف المقامُ، و من لا يُرتابُ بفعاله، و لا يُعتَرَضُ في مقالَه، و من هو كنفس العاقد، و أمرُه أمرُه، فإذا حَكَمَ بحكم مضى و استقر به، و أُمِنَ الاعتراضُ فيه، و كانَ بنَبذُ العهد قوّةُ الإسلام، و كمالُ الدين، و صلاحُ أمر المسلمين، و تَمام فتح مَكّة، و اتساق أحوال الصلاح، فأحب الله تعالى أَنّ يَجعَلَ ذلكَ على يد من ينوه باسمه، و يُعلِي ذكرَه، و يُنَبّه على فضله، و يَدُلّ على علوّ قدره، و يُبَيِّنُه به ممّن سواه، فكانَ ذلكَ أَميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عَلَیْهِ السَّلامُ .
(و لم يكن) (2)لِأَحدٍ من القَوْم فضل يقارب الفَضْل الذي وصفناه، و لا شركه فيه أحدٌ منهم على ما بَيِّناه.
وأمثالُ ما عَدَدْناه كثيرٌ، إن عَمِلنا على إيراده طال به الكتاب، و اتّسع به الخَطّاب، و فيما أَثبتناهُ منه في الغرض الذي قصدناه كفايةٌ لذوي الأَلباب.
ص: 66
فصل
فأَمّا الجهاد الذي ثَبتت به قواعدُ الإسلام، و استقرّت بثبوتها شرائعُ الملّة و الأَحكام، فقد تَخَصُّصُ منه أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بما اشتهر ذكره في الأَنّام، و استفاض الخبرُ به بين الخاصُ و العامُ، و لم تختلف فيه العُلِمَاءُ، و لا تنازع في صِحَّتِهِ الفهماء، و لا شَكَّ فيه إلّا غُفل لم يتأمل الأَخبار، و لا دفعه ممّن نظر في الآثار، إلّا معانَد بَهّاتُ لا يستحيي من العار.
فمن ذلكَ ما كانَ منه عَلَیْهِ السَّلامُ في غَزاة بدر المذكورة في القرآنُ، و هي أوّلُ حرب كانَ به الامتحانُ، و ملأَت رَهْبَتُها صدورَ المعدودين من المسلمين في الشجعانَ، و راموا التَأَخَّرَ عنها لخوفهم منها و كراهتهم لها، على ما جَاَءَ به محكم الذكر في التبيان، حيثُ يقولُ - جل جلاله - فيما قص به من نبئهم (1)على الشرح و البيان (كَمٰا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكٰارِهُونَ يُجٰادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ مٰا تَبَيَّنَ كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ) (2) في الآي المتصلة بذلكَ إِلَى قوله تعالى (وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (3) بل إِلَى آخر
ص: 67
السورة. فإنّ الخبرَ عن أحوالهم فيها يتلُو بَعْضُهُ بعضاً، و إن اخْتلِفت ألفاظُه و اتَّفِقْتَ معانَيه.
وَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ خَبَرِ هَذِهِ اَلْغَزَاةِ، أَنَّ اَلْمُشْرِكِينَ حَضَرُوا بَدْراً مُصِرِّينَ عَلَى اَلْقِتَالِ، مُسْتَظْهِرِينَ فِيهِ بِكَثْرَةِ اَلْأَمْوَالِ، وَ اَلْعَدَدِ وَ اَلْعُدَّةِ وَ اَلرِّجَالِ، وَ اَلْمُسْلِمُونَ إِذْ ذَاكَ نَفَرٌ قَلِيلٌ عَدَدُهُمْ هُنَاكَ، حَضَرَتْهُ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ اِخْتِيَارٍ، وَ شَهِدَتْهُ عَلَى اَلْكُرْهِ مِنْهَا لَهُ وَ اَلاِضْطِرَارِ، فَتَحَدَّتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالْبِرَازِ وَ دَعَتْهُمْ إِلَى اَلْمُصَافَّةِ وَ اَلنِّزَالِ (1)،وَ اِقْتَرَحَتْ فِي اَللِّقَاءِ مِنْهُمُ اَلْأَكْفَاءَ، وَ تَطَاوَلَتِ اَلْأَنْصَارُ لِمُبَارَزَتِهِمْ فَمَنَعَهُمُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ : «إِنَّ اَلْقَوْمَ دَعَوُا اَلْأَكْفَاءَ مِنْهُمْ» ثُمَّ أَمَرَ عَلِيّاً أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالْبُرُوزِ إِلَيْهِمْ، وَ دَعَا حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ وَ عُبَيْدَةَ بْنَ اَلْحَارِثِ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يَبْرُزَا مَعَهُ.
فَلَمَّا اِصْطَفُّوا لَهُمْ لَمْ يُثْبِتْهُمُ (2)اَلْقَوْم ُ ،لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَغَفَّرُوا (3)فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ، فَانْتَسَبُوا لَهُمْ، فَقَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ. وَ نَشِبَتِ اَلْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَ بَارَزَ اَلْوَلِيدُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَلَمْ يَلْبَثْهُ (4)حَتَّى قَتَلَهُ، وَ بَارَزَ عُتْبَةُ حَمْزَةَ - رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ - فَقَتَلَهُ حَمْزَةُ، وَ بَارَزَ شَيْبَةُ عُبَيْدَةَ - رَحِمَهُ اَللَّهُ - فَاخْتَلَفَتْ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَانِ، قَطَعَتْ إِحْدَاهُمَا فَخِذَ عُبَيْدَةَ، فَاسْتَنْقَذَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِضَرْبَةٍ بَدَرَ بِهَا شَيْبَةَ فَقَتَلَهُ،
ص: 68
وَ شَرِكَهُ فِي ذَلِكَ حَمْزَةُ - رِضْوَانُ اَللَّهِ عَلَيْهِ - فَكَانَ قَتْلُ هَؤُلاَءِ اَلثَّلاَثَةِ أَوَّلَ وَهْنٍ لَحِقَ اَلْمُشْرِكِينَ، وَ ذُلٍّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، وَ رَهْبَةٍ اِعْتَرَاهُمْ بِهَا اَلرُّعْبُ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَمَارَاتُ نَصْرِ اَلْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ بَارَزَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْعَاصَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ اَلْعَاصِ، بَعْدَ أَنْ أَحْجَمَ عَنْهُ ُ مَنْ سِوَاهُ فَلَمْ يَلْبَثْهُ أَنْ قَتَلَهُ. وَ بَرَزَ إِلَيْهِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَتَلَهُ، وَ بَرَزَ بَعْدَهُ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَتَلَهُ، وَ قَتَلَ بَعْدَهُ نَوْفَلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ - وَ كَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ - وَ لَمْ يَزَلْ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقْتُلُ وَاحِداً مِنْهُمْ بَعْدَ وَاحِدٍ، حَتَّى أَتَى عَلَى شَطْرِ اَلْمَقْتُولِينَ مِنْهُمْ، وَ كَانُوا سَبْعِينَ قَتِيلاً (1)تَوَلَّى كَافَّةُ مَنْ حَضَرَ بَدْراً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ مَعَ ثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ اَلْمُسَوِّمِينَ قَتْلَ اَلشَّطْرِ مِنْهُمْ، وَ تَوَلَّى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ قَتْلَ اَلشَّطْرِ اَلْآخَرِ وَحْدَهُ، بِمَعُونَةِ اَللَّهِ لَهُ وَ تَوْفِيقِهِ وَ تَأْيِيدِهِ وَ نَصْرِهِ، وَ كَانَ اَلْفَتْحُ لَهُ بِذَلِكَ وَ عَلَى يَدَيْهِ، وَ خُتِمَ اَلْأَمْرُ بِمُنَاوَلَةِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله كَفّاً مِنَ اَلْحَصَى (2)،فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ وَ قَالَ: «شَاهَتِ اَلْوُجُوهُ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ وَلَّى اَلدُّبُرَ بِذَلِكَ مُنْهَزِماً، وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ شُرَكَائِهِ فِي نُصْرَةِ اَلدِّينِ مِنْ خَاصَّةِ (آلِ اَلرَّسُولِ) (3)- علیه وآله السلام -وَ مَنْ أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ اَلْكِرَامِ عَلَيْهِمُ اَلتَّحِيَّةُ وَ اَلسَّلاَمُ كَمَا قَالَ: اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ (وَ كَفَى اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتٰالَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) (4) .
ص: 69
فصل
و قد أثبت رواة العامُّة و الخاصُّة معا أسماء الذين تَوَلَّى أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ قَتْلَهم ببدر من المشركين، على اتّفاق فيما نقلوه من ذلكَ و اصطلاح فكانَ ممّن سُمُّوه:
الوَليدُ بن عُتْبة - كما قدّمناه - و كانَ شجاعاً جريئاً فاتكاً وقاحاً، تَهابُه الرجال.
و العاصُ بن سعيد، و كانَ هَوْلاً عظيماً تَهابهُ الأَبطال. و هو الذي حادَ عَنْهُ عُمَر بن الخَطّاب، و قصّته فيما ذكرناه مشهورٌة، و نحن نُثبتها (1)فيما نورده بعد إن شاء الله.(2)
و طُعَيْمةُ بن عَدِيّ بن نَوْفَل، و كانَ من رُوُوس أهلُ الضلالَ.
و نَوْفَلُ بن خُوَيْلِد، وَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ اَلْمُشْرِكِينَ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُقَدِّمُهُ وَ تُعَظِّمُهُ وَ تُطِيعُهُ، وَ هُوَ اَلَّذِي قَرَنَ أَبَا بَكْرٍ بِطَلْحَةَ - قَبْلَ اَلْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ - وَ أَوْثَقَهُمَا بِحَبْلٍ وَ عَذَّبَهُمَا يَوْماً إِلَى اَللَّيْلِ حَتَّى سُئِلَ فِي أَمْرِهِمَا (3)وَ لَمَّا عَرَفَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حُضُورَهُ بَدْراً، سَأَلَ اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَهُ فَقَالَ: «اَللَّهُمَّ اِكْفِنِي نَوْفَلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ»
ص: 70
فَقَتَلَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ . و
زَمعَة بن الأَسْوَد .
و الحارثُ بن زَمعَة .
و النَضْرُ بن الحارث بن عَبْد الدار .
و عُمَيرُ بن عثُّمّان ان بن كَعب بن تَيْم، عمّ طَلْحة بن عُبَيد الله .
و عثُّمّان و مالك ابنا عُبَيد الله أخوا طَلْحة بن عُبَيد الله .
و مسعود بن أبي أُمَيِّة بن المُغِيرة .
و قَيْسُ بن الفاكه بن المُغِيْرة .
وحُذَيْفَةُ بن أبي حذيفة بن المُغِيْرة .
و أبو قِيسْ بن الوَليدُ بن المُغِيْرة .
و حَنْظَلَةُ بن أبي سُفيان .
و عَمْروُ بن مَخزوم .
و أبو المُنْذِر بن أبي رِفاعَة .
و مُنَبَّهُ بن الحجاج السَهِميّ .
و العاص (1)بن مُنَبَّهُ .
و عَلْقَمَةُ بن كَلَدَة .
ص: 71
و أبو العاص بن قِيسْ بن عَدِيّ .
و معاويةُ بن المُغِيْرة بن أبي العاص .
و لُوذانُ بن ربيعة .
و عَبْدُالله بن المُنْذِر بن أبي رِفاعَة .
و مسعود بن أُمَيِّة بن المُغِيْرة .
و حاجبُ بن السائب بن عُوَيْمرِ .
و أوسُ بن المُغِيْرة بن لُوْذان .
و زيدُ بن مُلَيص .
و عاصمُ بن أبي عَوف .
و سعيدُ بن وَهْب، وحليف بني عامر .
و معاويةُ بن عامر بن عَبْد القَيسْ .
و عَبْدُالله بن جَميل بن زُهَيْر بن الحارث بن أسَد .
و السائبُ بن مالك .
و أبو الحَكَم بن الأَخْنَس .
و هشام بن أبي أُمَيِّة بن المُغِيْرة .
فذلك خمسة و ثلاثون رجلاً (1)سوى من اخْتلِف فيه أو شَرِك أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فيه غيرُهُ و هم أَكثر من شَطْر المقتَوَلّين
ص: 72
ببدر على ما قدَّمناه .
فصل
فمن مختصر الأَخبار الّتي جاءت بشرح ما أَثبتناهُ، مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثِ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «لَقَدْ حَضَرْنَا بَدْراً وَ مَا فِينَا فَارِسٌ غَيْرُ اَلْمِقْدَادِ بْنِ اَلْأَسْوَدِ، وَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَ مَا فِينَا إِلاَّ مَنْ نَامَ، غَيْرُ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَإِنَّهُ كَانَ مُنْتَصِباً فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَ يَدْعُو حَتَّى اَلصَّبَاحِ» (1) .
وَ رَوَى عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله - قَالَ: لَمَّا أَصْبَحَ اَلنَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ، اِصْطَفَّتْ قُرَيْشٌ أَمَامَهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَ أَخُوهُ شَيْبَةُ وَ اِبْنُهُ اَلْوَلِيدُ، فَنَادَى عُتْبَةُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ. فَبَدَرَ (2)إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةٌ مِنْ شُبَّانِ اَلْأَنْصَارِ فَقَالَ: لَهُمْ عُتْبَةُ، مَنْ أَنْتُمْ؟ فَانْتَسَبُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لاَ حَاجَةَ بِنَا إِلَى مُبَارَزَتِكُمْ ، إِنَّمَا طَلَبْنَا بَنِي عَمِّنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِلْأَنْصَارِ: «اِرْجِعُوا إِلَى
ص: 73
مَوَاقِفِكُمْ ثُمَّ قَالَ: «قُمْ يَا عَلِيُّ قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عُبَيْدَةُ، قَاتِلُوا عَلَى حَقِّكُمُ اَلَّذِي بَعَثَ اَللَّهُ بِهِ نَبِيَّكُمْ، إِذْ جَاءُوا بِبَاطِلِهِمْ لِيُطْفِئُوا نُورَ اَللَّهِ» فَقَامُوا فَصَفُّوا لِلْقَوْمِ، وَ كَانَ عَلَيْهِمُ اَلْبَيْضُ فَلَمْ يُعْرَفُوا، فَقَالَ لَهُمْ عُتْبَةُ: تَكَلَّمُوا، فَإِنْ كُنْتُمْ أَكْفَاءَنَا قَاتَلْنَاكُمْ. فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، أَسَدُ اَللَّهِ وَ أَسَدُ رَسُولِهِ فَقَالَ: عُتْبَةُ: كُفْوٌ كَرِيمٌ. وَ قَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ» وَ قَالَ عُبَيْدَةُ: أَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ اَلْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ .
فَقَالَ: عُتْبَةُ لاِبْنِهِ اَلْوَلِيدِ: قُمْ يَا وَلِيدُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ - وَ كَانَا إِذْ ذَاكَ أَصْغَرَيِ اَلْجَمَاعَةِ سِنّاً - فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، أَخْطَأَتْ ضَرْبَةُ اَلْوَلِيدِ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اِتَّقَى بِيَدِهِ اَلْيُسْرَى ضَرْبَةَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَبَانَتْهَا.
فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ بَدْراً وَ قَتْلَهُ اَلْوَلِيدَ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَمِيضِ خَاتَمِهِ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَصَرَعْتُهُ وَ سَلَبْتُهُ، فَرَأَيْتُ بِهِ رَدْعاً (1)مِنْ خَلُوقٍ (2)، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ».
ثُمَّ بَارَزَ عُتْبَةُ حَمْزَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ حَمْزَةُ، وَ مَشَى عُبَيْدَةُ وَ ك- َانَ أَسَنَّ اَلْقَوْمِ - إِلَى شَيْبَةَ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَأَصَابَ ذُبَابُ سَيْفِ (3)شَيْبَةَ عَضَلَةَ سَاقِ عُبَيْدَةَ فَقَطَعَتْهَا، وَ اِسْتَنْقَذَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ حَمْزَةُ مِنْهُ وَ قَتَلاَ شَيْبَةَ، وَ حُمِلَ عُبَيْدَةُ مِنْ مَكَانِهِ فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ (4).
ص: 74
وَ فِي قَتْلِ عُتْبَةَ وَ شَيْبَةَ وَ اَلْوَلِيدِ تَقُولُ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ:
([أَ] يَا عَيْنُ) (1)جُودِي بِدَمْعٍ سَرِبٍ *** عَلَى خَيْرِ خِنْدِفٍ لَمْ يَنْقَلِبْ
تَدَاعَى لَهُ رَهْطُهُ غُدْوَةً *** بَنُو هَاشِمٍ وَ بَنُو اَلْمُطَّلِبِ
يُذِيقُونَهُ حَرَّ (2)أَسْيَافِهِمْ *** يَجُرُّونَهُ (3)بَعْدَ مَا قَدْ شَجِبَ(4) (5) .
وَ رَوَى اَلْحُسَيْنُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ عُمَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: لَقَدْ تَعَجَّبْتُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ جُرْأَةِ اَلْقَوْمِ، وَ قَدْ قَتَلْتُ اَلْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ وَ قَتَلَ حَمْزَةُ عُتْبَةَ وَ شَرِكْتُهُ فِي قَتْلِ شَيْبَةَ، إِذْ أَقْبَلَ إِلَيَّ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ فَسَالَتْ عَيْنَاهُ، وَ لَزِمَ اَلْأَرْضَ قَتِيلاً »(6).
وَ رَوَى أَبُو بَكْرٍ اَلْهُذَلِيُّ ، عَنِ اَلزُّهْرِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: مَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِسَعِيدِ بْنِ اَلْعَاصِ فَقَالَ: اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ نَتَحَدَّثُ عِنْدَهُ، فَانْطَلَقَا، قَالَ: فَأَمَّا عُثْمَانُ فَصَارَ إِلَى مَجْلِسِهِ اَلَّذِي يَشْتَهِيهِ (7)،وَ أَمَّا أَنَا فَمِلْتُ فِي نَاحِيَةِ اَلْقَوْمِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ عُمَرُ
ص: 75
وَ قَالَ: مَا لِي أَرَاكَ كَأَنَّ فِي نَفْسِكَ عَلَيَّ شَيْئاً؟ أَ تَظُنُّ أَنِّي قَتَلْتُ أَبَاكَ؟ وَ اَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَاتِلَهُ، وَ لَوْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَعْتَذِرْ مِنْ قَتْلِ كَافِرٍ،وَ لَكِنِّي مَرَرْتُ بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ فَرَأَيْتُهُ يَبْحَثُ لِلْقِتَالِ كَمَا يَبْحَثُ اَلثَّوْرُ بِقَرْنِهِ، وَ إِذَا شَدْقَاهُ قَدْ أَزْبَدَا كَالْوَزَغِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ هِبْتُهُ وَ رُغْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا اِبْنَ اَلْخَطَّابِ؟ وَ صَمَدَ لَهُ عَلِيٌّ فَتَنَاوَلَهُ، فَوَ اَللَّهِ مَا رِمْتُ مَكَانِي حَتَّى قَتَلَهُ.
قَالَ: وَ كَانَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ حَاضِراً فِي اَلْمَجْلِسِ فَقَالَ: «اَللَّهُمَّ غَفْراً، ذَهَبَ اَلشِّرْكُ بِمَا فِيهِ، وَ مَحَا اَلْإِسْلاَمُ مَا تَقَدَّمَ فَمَا لَكَ تُهَيِّجُ اَلنَّاسَ!؟» فَكَفَّ عُمَرُ قَالَ سَعِيدٌ: أَمَا إِنَّهُ مَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ أَبِي غَيْرَ اِبْنِ عَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَ أَنْشَأَ اَلْقَوْمُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ (1) .
وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ اَلزُّبَيْرِ : أَنَّ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ أَقْبَلَ يَوْمَ بَدْرٍ نَحْوَ طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ فَشَجَرَهُ بِالرُّمْحِ، وَ قَالَ لَهُ : «وَ اَللَّهِ، لاَ تُخَاصِمُنَا فِي اَللَّهِ بَعْدَ اَلْيَوْمِ أَبَداً » (2) .
وَ رَوَى عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ اَلزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا عَرَفَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حُضُورَ نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ بَدْراً قَالَ: «اَللَّهُمَّ اِكْفِنِي نَوْفَلاً» فَلَمَّا اِنْكَشَفَتْ قُرَيْشٌ رَآهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَدْ تَحَيَّرَ لاَ يَدْرِي مَا يَصْنَعُ فَصَمَدَ لَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَنَشِبَ فِي حَجَفَتِهِ (3)فَانْتَزَعَهُ مِنْهَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ سَاقَهُ وَ - كَانَتْ دِرْعُهُ مُشَمَّرَةً -
ص: 76
فَقَطَعَهَا، ثُمَّ أَجْهَزَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَلَمَّا عَادَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله سَمِعَهُ يَقُولُ: «مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِنَوْفَلٍ؟ فَقَالَ له: أَنَا قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ» فَكَبَّرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله وَ قَالَ: «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَجَابَ دَعْوَتِي فِيهِ» (1) .
فصل
و فيما صنعه أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ ببدر، قَالَ أُسَيْدُ بْنُ (أَبِي إِيَاسٍ) (2)يُحَرِّضُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ عَلَيْهِ:
فِي كُلِّ مَجْمَعِ غَايَةٍ أَخْزَاكُمْ *** جَذَعٌ أَبَرَّ عَلَى اَلْمَذَاكِي اَلْقُرَّحِ (3)
لِلَّهِ دَرُّكُمْ أَ لَمَّا تُنْصِفُوا (4)*** قَدْ يُنْصِفُ (5)اَلْحُرُّ اَلْكَرِيمُ وَ يَسْتَحِي
هَذَا اِبْنُ فَاطِمَةَ اَلَّذِي أَفْنَاكُمْ *** (ذَبْحاً وَ قِتْلَةَ قَعْصَةٍ (6)لَمْ تُذْبَحْ) (7)
ص: 77
أَعْطُوهُ خَرْجاً وَ اِتَّقُوا بِضَرِيبَةٍ *** فِعْلَ اَلذَّلِيلِ وَ بَيْعَةً لَمْ تُرْبَحْ
أَيْنَ اَلْكُهُولُ وَ أَيْنَ كُلُّ دِعَامَةٍ *** فِي اَلْمُعْضِلاَتِ وَ أَيْنَ زَيْنُ اَلْأَبْطَحِ
أَفْنَاهُمْ قَعْصاً وَ ضَرْباً يَفْتَرِي (1) *** بِالسَّيْفِ يُعْمِلُ حَدَّهُ لَمْ يَصْفَحْ (2)(3).
فصل في ذِكر غَزاة أُحُد
ثُّمّ تلت بَدراً غَزاةُ أُحُد، فكانَت رايةُ رسول الله صلّی الله علیه و آله بيد أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فيها، كما كانت بيده يومَ بدر، فصار اللِواءُ إليه يومئذ ففاز بالرايةُ و اللِواء جميعاً، و كانَ الفَتْحُُ له في هذه الغَزاة كما كانَ له ببدر - سواء - و اختَصَّ بحسن البلاء فيها و الصَبر، و ثبوت القدم عند ما زلت من غيرُهُ الأقدامُ، و كانَ له من الغَناء عن رسول الله صلّی الله علیه و آله ما لم يكن لسواه من أهلُ الإسلام، و قَتَل الله بسيفه رُؤُوسَ أهلُ الشرك و الضَلال، و فرّج الله به الكَرْبَ عن نبيُّه عَلَیْهِ السَّلامُ، و خَطَبَ بفضله في ذلكَ المقامُ جبرئيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ في ملائكة الأَرض و السماء، و أَبانَ نبيُّ الهدى عَلَیْهِ السَّلامُ من اختَصَّاصه به ما كانَ مستورا عن عامّة النّاس.
فمن ذلكَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي اَلْحَسَنُ بْنُ مُوسَى
ص: 78
بْنِ رَبَاحٍ (1) - مَوْلَى اَلْأَنْصَارِ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو اَلْبَخْتَرِيِّ اَلْقُرَشِيُّ قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ قُرَيْشٍ وَ لِوَاؤُهَا جَمِيعاً بِيَدِ قُصَيِّ بْنِ كِلاَبٍ، ثُمَّ لَمْ تَزَلِ اَلرَّايَةُ فِي يَدِ وُلْدِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ يَحْمِلُهَا مِنْهُمْ مَنْ حَضَرَ اَلْحَرْبَ، حَتَّى بَعَثَ اَللَّهُ رَسُولَهُ صلّی الله علیه و آله فَصَارَتْ رَايَةُ قُرَيْشٍ وَ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَأَقَرَّهَا فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي غَزَاةِ وَدَّانَ (2)وَ هِيَ أَوَّلُ غَزَاةٍ حُمِلَ (3)فِيهَا رَايَةٌ فِي اَلْإِسْلاَمِ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله ثُمَّ لَمْ تَزَلْ مَعَهُ فِي اَلْمَشَاهِدِ، بِبَدْرٍ وَ هِيَ اَلْبَطْشَةُ اَلْكُبْرَى، وَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَ كَانَ اَللِّوَاءُ يَوْمَئِذٍ فِي بَنِي عَبْدِ اَلدَّارِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَاسْتُشْهِدَ وَ وَقَعَ اَللِّوَاءُ مِنْ يَدِهِ فَتَشَوَّفَتْهُ اَلقَبَائِلُ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَدَفَعَهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَجُمِعَ لَهُ يَوْمَئِذٍ اَلرَّايَةُ وَ اَللِّوَاءُ، فَهُمَا إِلَى اَلْيَوْمِ فِي بَنِي هَاشِمٍ (4) .
"وَ قَدْ رَوَى اَلْمُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ أَرْبَعٌ مَا هُنَّ لِأَحَدٍ: هُوَ أَوَّلُ عَرَبِيٍّ وَ عَجَمِيٍّ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله. وَ هُوَ صَاحِبُ لِوَائِهِ فِي كُلِّ زَحْفٍ وَ هُوَ اَلَّذِي ثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَ اَلْمِهْرَاسِ (5)
ص: 79
يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ - وَ فَرَّ اَلنَّاسُ - وَ هُوَ اَلَّذِي أَدْخَلَهُ قَبْرَهُ (1) .
وَ رَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ اَلْجُهَنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارٌ قَالَ حَدَّثَنَا: اَلْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: وَجَدْنَا مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - يَوْماً - طِيبَ نَفْسٍ فَقُلْنَا لَهُ: لَوْ حَدَّثْتَنَا عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ وَ كَيْفَ كَانَ؟
فَقَالَ: أَجَلْ - ثُمَّ سَاقَ اَلْحَدِيثَ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى ذِكْرِ اَلْحَرْبِ - فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «اُخْرُجُوا إِلَيْهِمْ عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ» فَخَرَجْنَا فَصَفَفْنَا لَهُمْ صَفّاً طَوِيلاً ، وَ أَقَامَ عَلَى اَلشِّعْبِ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَ اَلْأَنْصَارِ، وَ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْهُمْ، وَ قَالَ: «لاَ تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا وَ إِنْ قُتِلْنَا عَنْ آخِرِنَا، فَإِنَّمَا نُؤْتَى مِنْ مَوْضِعِكُمْ هَذَا» قَالَ: وَ اَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِإِزَائِهِمْ خَالِدَ بْنَ اَلْوَلِيدِ، وَ كَانَتِ اَلْأَلْوِيَةُ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ بَنِي عَبْدِ اَلدَّارِ، وَ كَانَ لِوَاءُ اَلْمُشْرِكِينَ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَ كَانَ يُدْعَى كَبْشَ اَلْكَتِيبَةِ.
قَالَ: وَ دَفَعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِوَاءَ اَلْمُهَاجِرِينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ تَحْتَ لِوَاءِ اَلْأَنْصَارِ.
قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى أَصْحَابِ اَللِّوَاءِ فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ اَلْأَلْوِيَةِ، إِنَّكُمْ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّمَا يُؤْتَى اَلْقَوْمُ مِنْ قِبَلِ أَلْوِيَتِهِمْ، وَ إِنَّمَا أُتِيتُمْ
ص: 80
يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قِبَلِ أَلْوِيَتِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ قَدْ ضَعُفْتُمْ عَنْهَا فَادْفَعُوهَا إِلَيْنَا نَكْفِكُمُوهَا.
قَالَ: فَغَضِبَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَ قَالَ: أَ لَنَا تَقُولُ هَذَا؟ وَ اَللَّهِ لَأُورِدَنَّكُمْ بِهَا اَلْيَوْمَ حِيَاضَ اَلْمَوْتِ. قَالَ: وَ كَانَ طَلْحَةُ يُسَمَّى كَبْشَ اَلْكَتِيبَةِ .
قَالَ: فَتَقَدَّمَ وَ تَقَدَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ عَلِيٌّ : «مَنْ أَنْتَ؟» قَالَ: أَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَا كَبْشُ اَلْكَتِيبَةِ قَالَ: فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ» بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ ثُمَّ تَقَارَبَا فَاخْتَلَفَتْ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَانِ فَضَرَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ ضَرْبَةً عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، فَبَدَرَتْ عَيْنَاهُ وَ صَاحَ صَيْحَةً لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا قَطُّ وَ سَقَطَ اَللِّوَاءُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مُصْعَبٌ، فَرَمَاهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اَللِّوَاءَ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عُثْمَانُ، فَرَمَاهُ عَاصِمٌ - أَيْضاً- فَقَتَلَهُ، فَأَخَذَهُ عَبْدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ صُؤَابٌ - وَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ اَلنَّاسِ - فَضَرَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ يَدَهُ فَقَطَعَهَا، فَأَخَذَ اَللِّوَاءَ بِيَدِهِ اَلْيُسْرَى فَضَرَبَهُ (1)عَلَى يَدِهِ فَقَطَعَهَا فَأَخَذَ اَللِّوَاءَ عَلَى صَدْرِهِ وَ جَمَعَ يَدَيْهِ وَ هُمَا مَقْطُوعَتَانِ عَلَيْهِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَسَقَطَ صَرِيعاً فَانْهَزَمَ اَلْقَوْمُ، وَ أَكَبَّ اَلْمُسْلِمُونَ عَلَى اَلْغَنَائِمِ.
وَ لَمَّا رَأَى أَصْحَابُ اَلشِّعْبِ اَلنَّاسَ يَغْنِمُونَ (2)قَالُوا: يَذْهَبُ هَؤُلاَءِ بِالْغَنَائِمِ وَ نَبْقِي نَحْنُ؟! فَقَالُوا لِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، اَلَّذِي كَانَ رَئِيساً
ص: 81
عَلَيْهِمْ نُرِيدُ أَنْ نَغْنِمَ كَمَا غَنَمَ اَلنَّاسُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَمَرَنِي أَنْ لاَ أَبْرَحَ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا وَ هُوَ لاَ يَدْرِي أَنَّ اَلْأَمْرَ يَبْلُغُ إِلَى مَا تَرَى، وَ مَالُوا إِلَى اَلْغَنَائِمِ وَ تَرَكُوهُ، وَ لَمْ يَبْرَحْ هُوَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ وَلِيدٍ فَقَتَلَهُ.
وَ جَاءَ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يُرِيدُهُ، فَنَظَرَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فِي حَفٍّ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: لِمَنْ مَعَهُ: دُونَكُمْ هَذَا اَلَّذِي تَطْلُبُونَ، فَشَأْنَكُمْ، بِهِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ضَرْباً بِالسُّيُوفِ وَ طَعْناً بِالرِّمَاحِ وَ رَمْياً بِالنَّبْلِ وَ رَضْخاً بِالْحِجَارَةِ، وَ جَعَلَ أَصْحَابُ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله يُقَاتِلُونَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً ،وَ ثَبَتَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ أَبُو دُجَانَةَ اَلْأَنْصَارِيُّ وَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ لِلْقَوْمِ يَدْفَعُونَ عَنِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ كَثُرَ عَلَيْهِمُ اَلْمُشْرِكُونَ، فَفَتَحَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَيْنَيْهِ فَنَظَرَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ - وَ قَدْ كَانَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِمَّا نَالَهُ - فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ ، مَا فَعَلَ اَلنَّاسُ؟ قَالَ: نَقَضُوا اَلْعَهْدَ وَ وَلَّوُا اَلدُّبُرَ، فَقَالَ لَهُ : فَاكْفِنِي هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ قَدْ قَصَدُوا قَصْدِي» فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَكَشَفَهُمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ - وَ قَدْ حَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى- فَكَرَّ عَلَيْهِمْ فَكَشَفَهُمْ، وَ أَبُو دُجَانَةَ وَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ قَائِمَانِ عَلَى رَأْسِهِ، بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَيْفُهُ لِيَذُبَّ عَنْهُ.
وَ ثَابَ إِلَيْه ِ مِنْ أَصْحَابِهِ اَلْمُنْهَزِمِينَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ وَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ. وَ صَعِدَ اَلْبَاقُونَ اَلْجَبَلَ، وَ صَاحَ صَائِحٌ بِالْمَدِينَةِ: قُتِلَ رَسُولُ اَللَّهِ ،فَانْخَلَعَتِ اَلْقُلُوبُ لِذَلِكَ، وَ تَحَيَّرَ اَلْمُنْهَزِمُونَ فَأَخَذُوا يَمِيناً وَ شِمَالاً.
ص: 82
وَ كَانَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ جَعَلَتْ لِوَحْشِيٍّ جُعْلاً عَلَى أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَوْ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوْ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهَا: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَلاَ حِيلَةَ لِي فِيهِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهُ (يُطِيفُونَ بِهِ)، وَ أَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ إِذَا قَاتَلَ كَانَ أَحْذَرَ مِنَ اَلذِّئْبِ، وَ أَمَّا حَمْزَةُ فَإِنِّي أَطْمَعُ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِذَا غَضِبَ لَمْ يُبْصِرْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَ كَانَ حَمْزَةُ - يَوْمَئِذٍ - قَدْ أَعْلَمَ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ، فَكَمَنَ لَهُ وَحْشِيٌّ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ، فَرَآهُ حَمْزَةُ فَبَدَرَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَخْطَأَتْ رَأْسَهُ، قَالَ وَحْشِيٌّ : وَ هَزَزْتُ حَرْبَتِي حَتَّى إِذَا تَمَكَّنْتُ مِنْهُ رَمَيْتُهُ، فَأَصَبْتُهُ فِي أُرْبِيَّتِهِ (1)فَأَنْفَذْتُهُ وَ تَرَكْتُهُ حَتَّى إِذَا بَرَدَ صِرْتُ إِلَيْهِ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، وَ شُغِلَ عَنِّي وَ عَنْهُ اَلْمُسْلِمُونَ بِهَزِيمَتِهِمْ.
وَ جَاءَتْ هِنْدٌ فَأَمَرَتْ بِشَقِّ بَطْنِ حَمْزَةَ وَ قَطْعِ كَبِدِهِ وَ اَلتَّمْثِيلِ بِهِ، فَجَدَعُوا أَنْفَهُ وَ أُذُنَيْهِ وَ مَثَّلُوا بِهِ وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَشْغُولٌ عَنْهُ لاَ يَعْلَمُ بِمَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ اَلْأَمْرُ.
قَالَ اَلرَّاوِي لِلْحَدِيثِ -وَ هُوَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ - قُلْتُ لاِبْنِ مَسْعُودٍ: اِنْهَزَمَ اَلنَّاسُ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلاَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ أَبُو دُجَانَةَ وَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ؟!
قَالَ: اِنْهَزَمَ اَلنَّاسُ إِلاَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَحْدَهُ وَ ثَابَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله نَفَرٌ ، وَ كَانَ أَوَّلَهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَ أَبُو دُجَانَةَ وَ سَهْلُ
ص: 83
ابْنُ حُنَيْفٍ وَ لَحِقَهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ .
فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ؟!
قَالَ: كَانَا مِمَّنْ تَنَحَّى.
قَالَ: قُلْتُ فَأَيْنَ كَانَ عُثْمَانُ؟!
قَالَ: جَاءَ بَعْدَ ثَلاَثَةٍ مِنَ اَلْوَقْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «لَقَدْ ذَهَبْتَ فِيهَا عَرِيضَةً» (1).
قَالَ، فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ مِمَّنْ تَنَحَّى.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ فَمَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟
قَالَ: عَاصِمٌ وَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ .
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ثُبُوتَ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي ذَلِكَ اَلْمَقَامِ لَعَجَبٌ.
فَقَالَ: إِنْ تَعَجَّبْتَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ تَعَجَّبَتْ مِنْهُ اَلْمَلاَئِكَةُ، أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ جَبْرَئِيلَ قَالَ: فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ - وَ هُوَ يَعْرُجُ إِلَى اَلسَّمَاءِ - لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو اَلْفَقَارِ وَ لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ .
فَقُلْتُ لَهُ: فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ جَبْرَئِيلَ؟
فَقَالَ: سَمِعَ اَلنَّاسُ صَائِحاً يَصِيحُ فِي اَلسَّمَاءِ بِذَلِكَ، فَسَأَلُوا اَلنَّبِيَّ
ص: 84
صلّی الله علیه و آله عَنْهُ فَقَالَ: «ذَاكَ جَبْرَئِيلُ» (1) .
وَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: لَمَّا تَفَرَّقَ اَلنَّاسُ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي يَوْمِ أُحُدٍ، جَاءَ عَلِيٌّ مُتَقَلِّداً سَيْفَهُ حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : «مَا لَكَ لَمْ تَفِرَّ مَعَ اَلنَّاسِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَ أَرْجِعُ كَافِراً بَعْدَ إِسْلاَمِي!» فَأَشَارَ لَهُ إِلَى قَوْمٍ اِنْحَدَرُوا مِنَ اَلْجَبَلِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى قَوْمٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَهَزَمَهُمْ فَجَاءَ جَبْرَئِيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، لَقَدْ عَجِبَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ (وَ عَجِبْنَا مَعَهُمْ) (2)مِنْ حُسْنِ مُوَاسَاةِ عَلِيٍّ لَكَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «وَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا وَ هُوَ مِنِّي وَ أَنَا مِنْهُ» فَقَالَ: جَبْرَئِيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ: وَ أَنَا مِنْكُمَا (3) .
وَ رَوَى اَلْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ (4)عَنِ اَلسُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ : أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ خَرَجَ يَوْمَئِذٍ فَوَقَف َ بَيْنَ
ص: 85
اَلصَّفَّيْنِ، فَنَادَى: يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُعَجِّلُنَا بِسُيُوفِكُمْ إِلَى اَلنَّارِ، وَ يُعَجِّلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى اَلْجَنَّةِ، فَأَيُّكُمْ يَبْرُزُ إِلَيَّ ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «وَ اَللَّهِ لاَ أُفَارِقُكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى أُعَجِّلَكَ بِسَيْفِي إِلَى اَلنَّارِ» فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى رِجْلَيْهِ فَقَطَعَهُمَا، وَ سَقَطَ فَانْكَشَفَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اَللَّهَ - يَا اِبْنَ عَمِّ - وَ اَلرَّحِمَ . فَانْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى مَوْقِفِهِ فَقَالَ لَهُ : اَلْمُسْلِمُونَ (أَ لاَ أَجَزْتَ) (1)عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: «نَاشَدَنِيَ اَللَّهَ وَ اَلرَّحِمَ، وَ وَ اَللَّهِ لاَ عَاشَ بَعْدَهَا أَبَداً » فَمَاتَ طَلْحَةُ فِي مَكَانِهِ ، وَ بُشِّرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله بِذَلِكَ فَسُرَّ بِهِ وَ قَالَ: «هَذَا كَبْشُ اَلْكَتِيبَةِ» (2) .
وَ قَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: لَمَّا اِنْهَزَمَ اَلنَّاسُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لَحِقَنِي مِنَ اَلْجَزَعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي، وَ كُنْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَجَعْتُ أَطْلُبُهُ فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ: مَا كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ لِيَفِرَّ، وَ مَا رَأَيْتُهُ فِي اَلْقَتْلَى، وَ أَظُنُّهُ رُفِعَ مِنْ بَيْنِنَا إِلَى اَلسَّمَاءِ، فَكَسَرْتُ جَفْنَ سَيْفِي وَ قُلْتُ فِي نَفْسِي لَأُقَاتِلَنَّ بِهِ عَنْهُ حَتَّى أُقْتَلَ، وَ حَمَلْتُ عَلَى اَلْقَوْمِ فَأَفْرَجُوا فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله قَدْ وَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، فَقُمْتُ: عَلَى رَأْسِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ وَ قَالَ: مَا صَنَعَ اَلنَّاسُ يَا عَلِيُّ ؟ فَقُلْتُ كَفَرُوا - يَا رَسُولَ اَللَّهِ - وَ وَلَّوُا اَلدُّبُرَ
ص: 86
(مِنَ اَلْعَدُوِّ) (1)وَ أَسْلَمُوكَ. فَنَظَرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَى كَتِيبَةٍ قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: رُدَّ عَنِّي يَا عَلِيُّ هَذِهِ اَلْكَتِيبَةَ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهَا بِسَيْفِي أَضْرِبُهَا يَمِيناً وَ شِمَالاً حَتَّى وَلَّوُا اَلْأَدْبَارَ. فَقَالَ لِيَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: أَ مَا تَسْمَعُ يَا عَلِيُّ مَدِيحَكَ فِي اَلسَّمَاءِ، إِنَّ مَلَكاً يُقَالُ لَهُ رِضْوَانُ يُنَادِي: لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو اَلْفَقَارِ وَ لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ فَبَكَيْتُ سُرُوراً، وَ حَمِدْتُ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ» (2) .
وَ قَدْ رَوَى اَلْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ علیهما السلام، عَنْ آبَائِهِ، قَالَ، نَادَى مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ يَوْمَ أُحُدٍ: لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو اَلْفَقَارِ ، وَ لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ »(3) .
وَ رَوَى مِثْلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَصْحَابَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَقُولُونَ: نَادَى فِي يَوْمِ أُحُدٍ مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ: لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو اَلْفَقَارِ، وَ لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ (4) .
ص: 87
وَ رَوَى سَلاَّمُ بْنُ مِسْكِينٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ اَلْمُسَيَّبِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ مَقَامَ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ يَوْمَ أُحُدٍ، لَوَجَدْتَهُ قَائِماً عَلَى مَيْمَنَةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَ قَدْ وَلَّى غَيْرَهُ اَلْأَدْبَارَ (1) .
وَ رَوَى اَلْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَمِيلُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ اَللِّوَاءِ يَوْمَ أُحُدٍ تِسْعَةً، قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ عَنْ آخِرِهِمْ، وَ اِنْهَزَمَ اَلْقَوْمُ، وَ طَارَتْ مَخْزُومٌ مُنْذُ فَضَحَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: وَ بَارَزَ عَلِيٌّ اَلْحَكَمَ بْنَ اَلْأَخْنَسِ، فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ نِصْفِ اَلْفَخِذِ فَهَلَكَ مِنْهَا. (2)
وَ لَمَّا جَالَ اَلْمُسْلِمُونَ تِلْكَ اَلْجَوْلَةَ، أَقْبَلَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ - وَ هُوَ دَارِعٌ - وَ هُوَ يَقُولُ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، فَعَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ أُمَيَّةُ، وَ صَمَدَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ فَنَشِبَ فِي بَيْضَةِ مِغْفَرِهِ، وَ ضَرَبَ أُمَيَّةُ بِسَيْفِهِ فَاتَّقَاهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِدَرَقَتِه ِ فَنَشِبَ فِيهَا، وَ نَزَعَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ سَيْفَهُ مِنْ مِغْفَرِهِ، وَ خَلَصَ أُمَيَّةُ سَيْفَهُ مِنْ دَرَقَتِهِ أَيْضاً ثُمَّ تَنَاوَشَا، فَقَالَ: عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «فَنَظَرْتُ إِلَى فَتْقٍ تَحْتَ إِبْطِهِ فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ فِيهِ فَقَتَلْتُهُ، وَ اِنْصَرَفْتُ عَنْهُ» (3) .
ص: 88
وَ لَمَّا اِنْهَزَمَ اَلنَّاسُ عَنِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فِي يَوْمِ أُحُدٍ، وَ ثَبَتَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ : «مَا لَكَ لاَ تَذْهَبُ مَعَ اَلْقَوْمِ؟ فَقَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: أَذْهَبُ وَ أَدَعُكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، وَ اَللَّهِ لاَ بَرِحْتُ حَتَّى أُقْتَلَ، أَوْ يُنْجِزَ اَللَّهُ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنَ اَلنَّصْرِ.فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله «أَبْشِرْ يَا عَلِيُّ فَإِنَّ اَللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَ لَنْ يَنَالُوا مِنَّا مِثْلَهَا أَبَداً»
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى كَتِيبَةٍ قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : «لَوْ حَمَلْتَ عَلَى هَذِهِ يَا عَلِيُّ » فَحَمَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَتَلَ مِنْهَا هِشَامَ بْنَ أُمَيَّةَ اَلْمَخْزُومِيَّ وَ اِنْهَزَمَ اَلْقَوْمُ.
ثُمَّ أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «اِحْمِلْ عَلَى هَذِهِ» فَحَمَلَ عَلَيْهَا فَقَتَلَ مِنْهَا عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْجُمَحِيَّ ، وَ اِنْهَزَمَتْ أَيْضاً.
ثُمَّ أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «اِحْمِلْ عَلَى هَذِهِ» فَحَمَلَ عَلَيْهَا فَقَتَلَ مِنْهَا بِشْرَ بْنَ مَالِكٍ اَلْعَامِرِيَّ، وَ اِنْهَزَمَتِ اَلْكَتِيبَةُ، فَلَمْ يَعُدْ بَعْدَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَ تَرَاجَعَ اَلْمُنْهَزِمُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ اِنْصَرَفَ اَلْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَّةَ، وَ اِنْصَرَفَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَى اَلْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُ فَاطِمَةُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ، وَ لَحِقَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَدْ خَضَبَ اَلدَّمُ يَدَهُ إِلَى كَتِفِهِ وَ مَعَهُ ذُو اَلْفَقَارِ فَنَاوَلَهُ فَاطِمَةَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالَ لَهَا: «خُذِي هَذَا اَلسَّيْفَ فَقَدْ صَدَقَنِي اَلْيَوْمَ»
وَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
ص: 89
أَ فَاطِمُ هَاكِ اَلسَّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمٍ *** فَلَسْتُ بِرِعْدِيدٍ وَ لاَ بِمَلِيمٍ (1)
لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْذَرْتُ فِي نَصْرِ أَحْمَدَ *** وَ طَاعَةِ رَبٍّ بِالْعِبَادِ عَلِيمٍ (2)
أَمِيطِي دِمَاءَ اَلْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّهُ *** سَقَى آلَ عَبْدِ اَلدَّارِ كَأْسَ حَمِيمٍ
وَ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «خُذِيهِ يَا فَاطِمَةُ، فَقَدْ أَدَّى بَعْلُكِ مَا عَلَيْهِ، وَ قَدْ قَتَلَ اَللَّهُ بِسَيْفِهِ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ» (3) .
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ صَاحِبُ لِوَاءِ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اَلْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اَلدَّارِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ، وَ قَتَلَ اِبْنَهُ أَبَا سَعِيدِ بْنَ طَلْحَةَ، وَ قَتَلَ أَخَاهُ كَلْدَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ، وَ قَتَلَ عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ حُمَيْدِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اَلْعُزَّى، وَ قَتَلَ أَبَا اَلْحَكَمِ بْنَ اَلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ اَلثَّقَفِيَّ ، وَ قَتَلَ اَلْوَلِيدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ، وَ قَتَلَ أَخَاهُ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ، وَ قَتَلَ أَرْطَاةَ بْنَ شُرَحْبِيلَ، وَ قَتَلَ هِشَامَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْجُمَحِيَّ ، وَ بِشْرَ بْنَ مَالِكٍ، وَ قَتَلَ صُؤَاباً مَوْلَى بَنِي عَبْدِ اَلدَّارِ، فَكَانَ اَلْفَتْحُ لَهُ، وَ رُجُوعُ اَلنَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله بِمَقَامِهِ يَذُبُّ عَنْهُ دُونَهُمْ.
وَ تَوَجَّهَ اَلْعِتَابُ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى إِلَى كَافَّتِهِمْ، لِهَزِيمَتِهِمْ - يَوْمَئِذٍ- سِوَاهُ وَ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ اَلْأَنْصَارِ، وَ كَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ وَ قِيلَ: أَرْبَعَةً أَوْ خَمْسَةً .
و في قَتْلُه عَلَیْهِ السَّلامُ من قَتَل يوم أحدٌ، و عنائه في الحرب، و حسن بلائه، يقولُ الحجاج بن علاط السلمي:
للّه أيُّ مُذَبِّب عن حِزبه (1)*** أعني ابنَ فاطمة ( المُعَمّ المُخْولا ) (2)
جادت يداك له بعاجل طَعنة *** تَرَكَتْ طليحةَ للجَبين مجّدَلا
و شدّ دت شدّةِ باسل فكشفتهم *** بالسَفح (3)إذ يَهوون أسفل أسفلا (4)
ص: 91
و عللت سيفك بالدماء و لم تكن *** لتردّه حرّان حتّى ينهلا (1)(2)
فصل
وَ لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِلَى بَنِي اَلنَّضِيرِ ،عَمِلَ عَلَى حِصَارِهِمْ، فَضَرَبَ قُبَّتَهُ فِي أَقْصَى بَنِي حَطْمَةَ (3)مِنَ اَلْبَطْحَاءِ .
فَلَمَّا أَقْبَلَ اَللَّيْلُ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي اَلنَّضِيرِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ اَلْقُبَّةَ، فَأَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله أَنْ تُحَوَّلَ قُبَّتُهُ إِلَى اَلسَّفْحِ (4)وَ أَحَاطَ بِهِ اَلْمُهَاجِرُونَ وَ اَلْأَنْصَارُ .
فَلَمَّا اِخْتَلَطَ اَلظَّلاَمُ فَقَدُوا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: اَلنَّاسُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، لاَ نَرَى عَلِيّاً؟ فَقَالَ: عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَرَاهُ فِي بَعْضِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ» فَلَمْ يَلْبَثْ (5)أَنْ جَاءَ بِرَأْسِ اَلْيَهُودِيِّ اَلَّذِي رَمَى اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله، وَ كَانَ يُقَالُ لَهُ عَزُورَا (6)، فَطَرَحَهُ بَيْنَ يَدَيِ اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ .
ص: 92
فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «كَيْفَ صَنَعْتَ؟» فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ هَذَا اَلْخَبِيثَ جَرِيئاً شُجَاعاً، فَكَمَنْتُ لَهُ وَ قُلْتُ مَا أَجْرَأَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِذَا اِخْتَلَطَ اَلظَّلاَمُ (1)، يَطْلُبُ مِنَّا غِرَّةً، فَأَقْبَلَ مُصْلِتاً سَيْفَهُ فِي تِسْعَةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اَلْيَهُودِ، فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ، وَ أَفْلَتَ أَصْحَابُهُ، وَ لَمْ يَبْرَحُوا قَرِيباً (2)، فَابْعَثْ مَعِي نَفَراً فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَظْفَرَ بِهِمْ».
فَبَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَعَهُ عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، وَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَلِجُوا (3)اَلْحِصْنَ، فَقَتَلُوهُمْ وَ جَاءُوا بِرُءُوسِهِمْ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَأَمَرَ أَنْ تُطْرَحَ فِي بَعْضِ آبَارِ بَنِي حَطْمَةَ.
وَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فَتْحِ حُصُونِ بَنِي اَلنَّضِيرِ .
وَ فِي تِلْكَ اَللَّيْلَةِ قُتِلَ كَعْبُ بْنُ اَلْأَشْرَفِ، وَ اِصْطَفَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَمْوَالَ بَنِي اَلنَّضِيرِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ صَافِيَةٍ قَسَمَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بَيْنَ اَلْمُهَاجِرِينَ اَلْأَوَّلِينَ.
وَ أَمَرَ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ فَحَازَ مَا لِرَسُولِ اَللَّهِ مِنْهَا فَجَعَلَهُ صَدَقَةً، فَكَانَ فِي يَدِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ فِي يَدِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بَعْدَهُ، وَ هُوَ فِي وُلْدِ فَاطِمَةَ حَتَّى اَلْيَوْمِ .
و فيما كانَ من أمر أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في هذه الغَزاة، و قَتْلُه
ص: 93
اليهوديَ و مجيئه إِلَى النبيُّ صلّی الله علیه و آله برءوس التسعة النَفَر، يقولُ حَسّان بن ثابت:
لله أي كريهةٍ (1)أبليتها *** ببني قُرَيظة و النفوس تَطَلَّع
أردى رَئيسهُم و آبَ بتسعة *** طَوْرا يَشْلُّهم (2)و طوراَ يَدْفَع
فصل
و كانت غَزاة الأحزاب بعد بني النضير .
وَ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ اَلْيَهُودِ مِنْهُمْ سَلاَّمُ بْنُ أَبِي اَلْحَقِيقِ اَلنَّضْرِيُّ، وَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَ كِنَانَةُ بْنُ اَلرَّبِيعِ، وَ هَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ اَلْوَالِبِيُّ ، وَ أَبُو عُمَارَةَ اَلْوَالِبِيُّ (3)- فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي وَالِبَةَ - خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ، فَصَارُوا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، لِعِلْمِهِمْ بِعَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ تَسَرُّعِهِ إِلَى قِتَالِهِ فَذَكَرُوا لَهُ مَا نَالَهُمْ مِنْهُ وَ سَأَلُوهُ اَلْمَعُونَةَ لَهُمْ عَلَى قِتَالِهِ.
فَقَالَ: لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَا لَكُمْ حَيْثُ تُحِبُّونَ، فَاخْرُجُوا إِلَى قُرَيْشٍ فَادْعُوهُمْ (4)إِلَى حَرْبِهِ، وَ اِضْمَنُوا اَلنُّصْرَةَ لَهُمْ، وَ اَلثُّبُوتَ مَعَهُمْ حَتَّى
ص: 94
تَسْتَأْصِلُوهُ.
فَطَافُوا عَلَى وُجُوهِ قُرَيْشٍ، وَ دَعُوهُمْ إِلَى حَرْبِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ قَالُوا لَهُمْ: أَيْدِينَا مَعَ أَيْدِيكُمْ وَ نَحْنُ مَعَكُمْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُ (1)فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ اَلْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَهْلُ اَلْكِتَابِ اَلْأَوَّلِ وَ اَلْعِلْمِ اَلسَّابِقِ، وَ قَدْ عَرَفْتُمُ اَلدِّينَ اَلَّذِي جَاءَ، بِهِ مُحَمَّدٌ وَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ اَلدِّينِ، فَدِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ أَمْ هُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنَّا؟ فَقَالُوا لَهُمْ: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، فَنَشِطَتْ قُرَيْشٌ لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله .
وَ جَاءَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ مَكَّنَكُمُ اَللَّهُ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَ هَذِهِ يَهُودُ تُقَاتِلُهُ مَعَكُمْ، وَ لَنْ تَنْفَلَّ (2)عَنْكُمْ حَتَّى يُؤْتَى عَلَى جَمِيعِهَا، أَوْ تَسْتَأْصِلَهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَهُ. فَقَوِيَتْ عَزَائِمُهُمْ - إِذْ ذَاكَ - فِي حَرْبِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله .
ثُمَّ خَرَجَ اَلْيَهُودُ حَتَّى أَتَوْا غَطَفَانَ وَ قَيْسَ عَيْلاَنَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ ضَمِنُوا لَهُمُ اَلنُّصْرَةَ وَ اَلْمَعُونَةَ، وَ أَخْبَرُوهُمْ بِاتِّبَاعِ قُرَيْشٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَ اِجْتَمَعُوا مَعَهُمْ.
وَ خَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَ قَائِدُهَا - إِذْ ذَاكَ- أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَ خَرَجَتْ غَطَفَانُ وَ قَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي بَنِي فَزَارَةَ، وَ اَلْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فِي بَنِي مُرَّةَ، وَ وَبَرَةُ بْنُ طَرِيفٍ فِي قَوْمِهِ مِنْ أَشْجَعَ، وَ اِجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ مَعَهُمْ.
ص: 95
فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِاجْتِمَاعِ اَلْأَحْزَابِ عَلَيْهِ، وَ قُوَّةِ عَزِيمَتِهِمْ فِي حَرْبِهِ، اِسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى اَلْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ، وَ حَرْبِ اَلْقَوْمِ إِنْ جَاءُوا إِلَيْهِمْ عَلَى أَنْقَابِهَا. (1)
وَأَشَارَ سَلْمَانُ اَلْفَارِسِيُّ - رَحِمَهُ اَللَّهُ - عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِالْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِحَفْرِهِ وَ عَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَ عَمِلَ فِيهِ اَلْمُسْلِمُونَ .
وَ أَقْبَلَتِ اَلْأَحْزَابُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَهَالَ اَلْمُسْلِمِينَ أَمْرُهُمْ وَ اِرْتَاعُوا مِنْ كَثْرَتِهِمْ وَ جَمْعِهِمْ، فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنَ اَلْخَنْدَقِ، وَ أَقَامُوا بِمَكَانِهِمْ بِضْعاً وَ عِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إِلاَّ اَلرَّمْيُ بِالنَّبْلِ وَ اَلْحِصَارُ.
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله ضَعْفَ قُلُوبِ أَكْثَرِ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ حِصَارِهِمْ لَهُمْ وَ وَهْنِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ، بَعَثَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَ اَلْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ - وَ هُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ - يَدْعُوهُمْ إِلَى صُلْحِهِ وَ اَلْكَفِّ عَنْهُ وَ اَلرُّجُوعِ بِقَوْمِهِمَا عَنْ حَرْبِهِ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثُلُثَ ثِمَارِ اَلْمَدِينَةِ .
وَ اِسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ إِلَى عُيَيْنَةَ وَ اَلْحَارِثِ فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنْ كَانَ هَذَا اَلْأَمْرُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنَ اَلْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ اَللَّهَ أَمَرَكَ فِيهِ بِمَا صَنَعْتَ، وَ اَلْوَحْيَ جَاءَكَ بِهِ فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ، وَ إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَهُ لَنَا، كَانَ لَنَا فِيهِ رَأْيٌ.
فَقَالَ: علیه وآله السلام: «لَمْ يَأْتِنِي وَحْيٌ بِهِ، وَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اَلْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَ جَاءُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ
ص: 96
أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إِلَى أَمْرٍ مَا»
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمُ عَلَى اَلشِّرْكِ بِاللَّهِ وَ عِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ، لاَ نَعْبُدُ اَللَّهَ وَ لاَ نَعْرِفُهُ، وَ نَحْنُ لاَ نُطْعِمُهُمْ مِنْ ثَمَرِنَا إِلاَّ قِرًى أَوْ بَيْعاً، وَ اَلْآنَ حِينَ أَكْرَمَنَا اَللَّهُ بِالْإِسْلاَمِ وَ هَدَانَا لَهُ وَ أَعَزَّنَا بِكَ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا؟ مَا لَنَا إِلَى هَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَ اَللَّهِ لاَ نُعْطِيهِمْ إِلاَّ اَلسَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ.
فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «اَلْآنَ قَدْ عَرَفْتُ مَا عِنْدَكُمْ، فَكُونُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى لَنْ يَخْذُلَ نَبِيَّهُ وَ لَنْ يُسْلِمَهُ حَتَّى يُنْجِزَ (1)لَهُ مَا وَعَدَهُ».
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي اَلْمُسْلِمِينَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى جِهَادِ اَلْعَدُوِّ (2)وَ يُشَجِّعُهُمْ وَ يَعِدُهُمُ اَلنَّصْرَ.
وَ اِنْتَدَبَتْ فَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ لِلْبِرَازِ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدِّ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ وَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ - اَلْمَخْزُومِيَّانِ - وَ ضِرَارُ بْنُ اَلْخَطَّابِ وَ مِرْدَاسٌ اَلْفِهْرِيُّ، فَلَبِسُوا لِلْقِتَالِ ثُمَّ خَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ، حَتَّى مَرُّوا بِمَنَازِلِ بَنِي كِنَانَةَ فَقَالُوا : تَهَيَّئُوا - يَا بَنِي كِنَانَةَ - لِلْحَرْبِ ثُمَّ أَقْبَلُوا تُعْنِقُ (3)بِهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى اَلْخَنْدَقِ .
فَلَمَّا تَأَمَّلُوهُ قَالُوا: وَ اَللَّهِ إِنَّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ اَلْعَرَبُ تَكِيدُهَا.
ص: 97
ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَاناً مِنَ اَلْخَنْدَقِ فِيهِ ضِيقٌ، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ (1)فَاقْتَحَمَتْهُ، وَ جَاءَتْ بِهِمْ فِي اَلسَّبَخَةِ بَيْنَ اَلْخَنْدَقِ وَ سَلْعٍ . (2)
وَ خَرَجَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمُ اَلثُّغْرَةَ اَلَّتِي اِقْتَحَمُوهَا، فَتَقَدَّمَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ اَلْجَمَاعَةَ اَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، وَ قَدْ أَعْلَمَ لِيُرَى مَكَانُهُ.
فَلَمَّا رَأَى اَلْمُسْلِمِينَ وَقَفَ هُوَ وَ اَلْخَيْلُ اَلَّتِي مَعَهُ وَ قَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ : عَمْرٌو اِرْجِعْ يَا اِبْنَ أَخِ فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ.
فَقَالَ لَهُ : أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «قَدْ كُنْتَ - يَا عَمْرُو - عَاهَدْتَ اَللَّهَ أَنْ لاَ يَدْعُوَكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ (3)إِلاَّ اِخْتَرْتَهَا مِنْهُ»
قَالَ: أَجَلْ فَمَا ذَا.
قَالَ: «فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْإِسْلاَمِ».
قَالَ: لاَ حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ.
قَالَ: «فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اَلنِّزَالِ».
فَقَالَ: اِرْجِعْ فَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَ بَيْنَ أَبِيكَ خُلَّةٌ، وَ مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ.
ص: 98
فَقَالَ لَهُ : أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: « لَكِنَّنِي -وَ اَللَّهِ - أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ مَا دُمْتَ آبِياً لِلْحَقِّ».
فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، وَ قَالَ: أَ تَقْتُلُنِي؟! وَ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ وَ ضَرَبَ وَجْهَهُ حَتَّى نَفَرَ، وَ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ مُصْلِتاً سَيْفَهُ، وَ بَدَرَهُ بِالسَّيْفِ فَنَشِبَ سَيْفُهُ فِي تُرْسِ عَلِيٍّ وَ ضَرَبَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ ضَرْبَةً فَقَتَلَهُ.
فَلَمَّا رَأَى عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَ هُبَيْرَةُ وَ ضِرَارٌ عَمْراً صَرِيعاً، وَلَّوْا بِخَيْلِهِمْ مُنْهَزِمِينَ حَتَّى اُقْتُحِمَتِ (1)اَلْخَنْدَقُ لاَ تَلْوِي (2)عَلَى شَيْءٍ، وَ اِنْصَرَفَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى مَقَامِهِ اَلْأَوَّلِ - وَ قَدْ كَادَتْ نُفُوسُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى اَلْخَنْدَقِ تَطِيرُ جَزَعاً - وَ هُوَ يَقُولُ:
نَصَرَ اَلْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ *** وَ نَصَرْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابٍ (3)
فَضَرَبْتُهُ وَ تَرَكْتُهُ مُتَجَدِّلاً *** كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَ رَوَابِيَ (4)
وَ عَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِه ِ وَ لَوْ أَنَّنِي *** كُنْتُ اَلْمُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي (5)
لاَ تَحْسَبُنَّ اَللَّهَ خَاذِلَ دِينِهِ *** وَ نَبِيِّهِ يَا مَعْشَرَ اَلْأَحْزَابِ
ص: 99
وَ قَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ اَلْوَاقِدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنا (1)عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ اِبْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ اَلزُّهْرِيِّ قَالَ: جَاءَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ وَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ وَ ضِرَارُ بْنُ اَلْخَطَّابِ - فِي يَوْمِ اَلْأَحْزَابِ - إِلَى اَلْخَنْدَقِ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ يَطْلُبُونَ مُضَيَّقاً مِنْهُ فَيَعْبُرُونَ، حَتَّى اِنْتَهَوْا إِلَى مَكَانٍ أَكْرَهُوا خُيُولَهُمْ فِيهِ فَعَبَرَتْ، وَ جَعَلُوا (يَجُولُونَ بِخَيْلِهِمْ) فِيمَا بَيْنَ اَلْخَنْدَقِ وَ سَلْعٍ، وَ اَلْمُسْلِمُونَ وُقُوفٌ لاَ يُقْدِمُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَ جَعَلَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ يَدْعُو إِلَى اَلْبِرَازِ وَ (يَعْرِضُ بِالْمُسْلِمِينَ) (2)وَ يَقُولُ:
وَ لَقَدْ بَحَحْتُ مِنَ اَلنِّدَاءِ بِجَمْ *** عِهِمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟
فِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُومُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْ بَيْنِهِمْ لِيُبَارِزَهُ (3)فَيَأْمُرُهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِالْجُلُوسِ اِنْتِظَاراً مِنْهُ لِيَتَحَرَّكَ (4)غَيْرُهُ،وَاَلْمُسْلِمُونَ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ اَلطَّيْرَ، لِمَكَانِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ وَ اَلْخَوْفِ مِنْهُ وَ مِمَّنْ مَعَهُ وَ وَرَاءَهُ.
فَلَمَّا طَالَ نِدَاءُ عَمْرٍو بِالْبِرَازِ وَ تَتَابَعَ قِيَامُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «اُدْنُ مِنِّي يَا عَلِيُّ فَدَنَا مِنْهُ، فَنَزَعَ
ص: 100
عِمَامَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ وَ عَمَّمَهُ بِهَا، وَ أَعْطَاهُ سَيْفَهُ - وَ قَالَ لَهُ : «اِمْضِ لِشَأْنِكَ» ثُمَّ قَالَ: «اَللَّهُمَّ أَعِنْهُ» فَسَعَى نَحْوَ عَمْرٍو وَ مَعَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَنْصَارِيُّ - رَحِمَهُ اَللَّهُ - لِيَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَ مِنْ عَمْرٍو.
فَلَمَّا اِنْتَهَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ : «يَا عَمْرُو، إِنَّكَ كُنْتَ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُ: لاَ يَدْعُونِي أَحَدٌ إِلَى ثَلاَثٍ إِلاَّ قَبِلْتُهَا أَوْ وَاحِدَةً مِنْهَا.
قَالَ: أَجَلْ.
قَالَ: «فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ وَ أَنْ تُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ».
قَالَ: يَا اِبْنَ أَخِ أَخِّرْ هَذِهِ عَنِّي.
فَقَالَ لَه أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَمَا إِنَّهَا خَيْرٌ لَكَ لَوْ أَخَذْتَهَا».
ثُمَّ قَالَ: «فَهَاهُنَا أُخْرَى»
قَالَ: مَا هِيَ.؟
قَالَ: «تَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جِئْتَ».
قَالَ: لاَتُحَدِّثُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِهَذَا أَبَداً.
قَالَ:«فَهَاهُنَا أُخْرَى:.
قَالَ: مَا هِيَ. ؟
قَالَ: «تَنْزِلُ فَتُقَاتِلُنِي».
ص: 101
فَضَحِكَ عَمْرٌو وَ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ اَلْخَصْلَةَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ أَحَداً مِنَ اَلْعَرَبِ يَرُومُنِي عَلَيْهَا، وَ إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَقْتُلَ اَلرَّجُلَ اَلْكَرِيمَ مِثْلَكَ، وَ قَدْ كَانَ أَبُوكَ لِي نَدِيماً.
قَالَ: عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لَكِنَّنِي أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَانْزِلْ إِنْ شِئْتَ».
فَأَسِفَ (1)عَمْرٌو وَ نَزَلَ وَ ضَرَبَ وَجْهَ فَرَسِهِ (حَتَّى رَجَعَ). (2)
فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ رَحِمَهُ اَللَّهُ: وَ ثَارَتْ بَيْنَهُمَا قَتَرَةٌ، فَمَا رَأَيْتُهُمَا وَ سَمِعْتُ اَلتَّكْبِيرَ تَحْتَهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ قَدْ قَتَلَهُ، وَ اِنْكَشَفَ أَصْحَابُهُ حَتَّى طَفَرَتْ خُيُولُهُمُ اَلْخَنْدَقَ، وَ تَبَادَرَ اَلْمُسْلِمُونَ حِينَ سَمِعُوا اَلتَّكْبِيرَ يَنْظُرُونَ مَا صَنَعَ اَلْقَوْمُ، فَوَجَدُوا نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اَللَّهِ فِي جَوْفِ اَلْخَنْدَقِ لَمْ يَنْهَضْ بِهِ فَرَسُهُ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، فَقَالَ: لَهُمْ قِتْلَةً: أَجْمَلَ مِنْ هَذِهِ، يَنْزِلُ بَعْضُكُمْ أُقَاتِلُهُ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَ لَحِقَ هُبَيْرَةَ فَأَعْجَزَهُ فَضَرَبَ قَرَبُوسَ سَرْجِهِ وَ سَقَطَتْ دِرْعٌ كَانَتْ عَلَيْهِ، وَ فَرَّ عِكْرِمَةُ، وَ هَرَبَ ضِرَارُ بْنُ اَلْخَطَّابِ .
فَقَالَ جَابِرٌ: فَمَا شَبَّهْتُ قَتْلَ عَلِيٍّ عَمْراً إِلاَّ بِمَا قَصَّ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ دَاوُدَ وَ جَالُوتَ، حَيْثُ يَقُولُ: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ) (3) - (4) .
ص: 102
وَ قَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ اَلرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَارُونَ اَلْعَبْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ اَلسَّعْدِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ اَلْيَمَانِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا بَا عَبْدِ اَللَّهِ، إِنَّنَا لَنَتَحَدَّثُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مَنَاقِبِهِ، فَيَقُولُ لَنَا أَهْلُ اَلْبَصْرَةِ: إِنَّكُمْ تُفْرِطُونَ فِي عَلِيٍّ ، فَهَلْ أَنْتَ مُحَدِّثِي بِحَدِيثٍ فِيهِ؟
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا رَبِيعَةُ، وَ مَا تَسْأَلُنِي عَنْ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ؟ وَ اَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ وُضِعَ جَمِيعُ أَعْمَالِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فِي كِفَّةِ اَلْمِيزَانِ، مُنْذُ بَعَثَ اَللَّهُ مُحَمَّداً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ (1)، وَ وُضِعَ عَمَلُ عَلِيٍّ فِي اَلْكِفَّةِ اَلْأُخْرَى، لَرَجَحَ عَمَلُ عَلِيٍّ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ.
فَقَالَ: رَبِيعَةُ هَذَا اَلَّذِي لاَ يُقَامُ لَهُ وَ لاَ يُقْعَدُ (2).
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا لُكَع ُ ، وَ كَيْفَ لاَ يُحْمَلُ؟! وَ أَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ وَ حُذَيْفَةُ وَ جَمِيعُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ يَوْمَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ، وَ قَدْ دَعَا إِلَى اَلْمُبَارَزَةِ!؟ فَأَحْجَمَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ مَا خَلاَ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ فَإِنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ اَللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَ اَلَّذِي نَفْسُ حُذَيْفَةَ بِيَدِهِ، لَعَمَلُهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ أَعْمَالِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ (3) .
وَ قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ (4)،عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ قَالَ: قَالَ: عَلِيٌّ يَوْمَ اَلْخَنْدَقِ :
ص: 103
أَ عَلَيَّ تَقْتَحِمُ اَلْفَوَارِسُ هَكَذَا *** عَنِّي وَ عَنْهَا خَبِّرُوا (1)أَصْحَابِي
اَلْيَوْمَ تَمْنَعُنِي اَلْفِرَارُ حَفِيظَتِي *** وَ مُصَمِّمٌ فِي اَلرَّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
(أَرْدَيْتُ عَمْراً حين أخلص صقله) (2) *** صَافِي اَلْحَدِيدِ مُجَرَّبٍ قَضَّابٍ
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ مُتَجَدِّلاً *** كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَ رَوَابِيَ
وَ عَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِهِ وَ لَوْ أَنَّنِي *** كُنْتُ اَلْمُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي (3).
وَ رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ عَمْراً أَقْبَلَ نَحْوَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ: هَلاَّ سَلَبْتَهُ - يَا عَلِيُّ - دِرْعَهُ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ تَكُونُ لِلْعَرَبِ دِرْعٌ مِثْلُهَا، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنِّي اِسْتَحَيْتُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْ سَوْأَةِ اِبْنِ عَمِّي» (4) .
وَ رَوَى عَمْرُو (5)بْنُ اَلْأَزْهَرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ اَلْحَسَنِ : أَنَّ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ لَمَّا قَتَلَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ اِحْتَزَّ رَأْسَهُ وَ حَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ، فَقَبَّلاَ رَأْسَ عَلِيٍّ
ص: 104
ع (1) .
وَ رَوَى عَلِيُّ بْنُ اَلْحَكِيمِ اَلْأَوْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ يَقُولُ : لَقَدْ ضَرَبَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ ضَرْبَةً مَا كَانَ فِي اَلْإِسْلاَمِ ضَرْبَةٌ أَعَزُّ مِنْهَا - يَعْنِي ضَرْبَةَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ - وَ لَقَدْ ضُرِبَ عَلِيٌّ ضَرْبَةً مَا كَانَ فِي اَلْإِسْلاَمِ أَشْأَمُ مِنْهَا، يَعْنِي ضَرْبَةَ اِبْنِ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ اَللَّهُ (2) .
وَ فِي اَلْأَحْزَابِ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ:
(إِذْ جٰاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا* هُنٰالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً* وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً - إِلَى قوله - وَ كَفَى اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتٰالَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) (3) .
فتوجه العتب إليهم و التوبيخ و التقريع و العِتاب، و لم ينجُ من ذلكَ أحدٌُ -باتّفاق- إلّا أَميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عَلَیْهِ السَّلامُ إذ كانَ الفَتْحُُ له و على يديه و كانَ قَتْلُه عمرا و نَوْفَلُ بن عَبْدُالله سبب هزيمة المشركين .
وَ قَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بَعْدَ قَتْلِهِ هَؤُلاَءِ اَلنَّفَرَ: «اَلْآنَ
ص: 105
نَغْزُوهُمْ وَ لاَ يَغْزُونَا (1).
وَ قَدْ رَوَى يُوسُفُ بْنُ كُلَيْبٍ، (عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ) (2)وَ غَيْرِهِ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ) بِعَلِيٍّ (وَ كَانَ اَللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) (3).
وَ فِي قَتْلِ عَمْرٍو يَقُولُ حَسَّانُ:
أَمْسَى اَلْفَتَى عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَبْتَغِي *** بِجُنُوبِ (4)يَثْرِبَ غَارَةً لَمْ تُنْظَرْ
فَلَقَدْ وَجَدْتَ سُيُوفَنَا مَشْهُورَةً *** وَ لَقَدْ وَجَدْتَ جِيَادَنَا لَمْ تَقْصُرْ
وَ لَقَدْ رَأَيْتَ غَدَاةَ بَدْرٍ عُصْبَةً *** ضَرَبُوكَ ضَرْباً غَيْرَ ضَرْبِ اَلْمُحَسِّرِ (5)
ص: 106
أَصْبَحْتَ لاَ تُدْعَى لِيَوْمِ عَظِيمَةٍ *** يَا عَمْرُو أَوْ لِجَسِيمِ أَمْرٍ مُنْكَرٍ.
وَ يُقَالُ: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ شِعْرُ حَسَّانَ بَنِي عَامِرٍ أَجَابَهُ فَتًى مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي اِفْتِخَارِهِ بِالْأَنْصَارِ:
كَذَبْتُمْ - وَ بَيْتِ اَللَّهِ - لَمْ (1)تَقْتُلُونَنَا *** وَ لَكِنْ بِسَيْفِ اَلْهَاشِمِيِّينَ فَافْخَرُوا
بِسَيْفِ اِبْنِ عَبْدِ اَللَّهِ أَحْمَدَ فِي اَلْوَغَى *** بِكَفِّ عَلِيٍّ نِلْتُمْ ذَاكَ فَاقْصُرُوا
فَلَمْ تَقْتُلُوا عَمْرَو بْنَ عَبْدٍ بِبَأْسِكُمْ (2)*** وَ لَكِنَّهُ اَلْكُفْءُ (3)اَلْهِزَبْرُ اَلْغَضَنْفَرُ
عَلِيٌّ اَلَّذِي فِي اَلْفَخْرِ طَالَ بِنَاؤُهُ (4)*** فَلاَ تُكْثِرُوا (5)اَلدَّعْوَى عَلَيْنَا فَتَفْخَرُوا (6)
بِبَدْرٍ خَرَجْتُمْ لِلْبِرَازِ فَرَدَّكُمْ *** شُيُوخُ قُرَيْشٍ جَهْرَةً وَ تَأَخَّرُوا
فَلَمَّا أَتَاهُمْ حَمْزَةُ وَ عُبَيْدَةُ *** وَ جَاءَ عَلِيٌّ بِالْمُهَنَّدِ يَخْطِرُ
فَقَالُوا نَعَمْ أَكْفَاءُ صِدْقٍ فَأَقْبَلُوا *** إِلَيْهِمْ سِرَاعاً إِذْ بَغَوْا وَ تَجَبَّرُوا
فَجَالَ عَلِيٌّ جَوْلَةً هَاشِمِيَّةً *** فَدَمَّرَهُمْ لَمَّا عَتَوْا وَ تَكَبَّرُوا
فَلَيْسَ لَكُمْ فَخْرٌ عَلَيْنَا بِغَيْرِنَا *** وَ لَيْسَ لَكُمْ فَخْرٌ يُعَدُّ وَ يُذْكَرُ (7).
وَ قَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْمَدَائِنِيِّ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وَدٍّ نُعِيَ إِلَى أُخْتِهِ فَقَالَتْ: مَنْ ذَا اَلَّذِي اِجْتَرَأَ عَلَيْهِ؟
ص: 107
فَقَالُوا: اِبْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ لَمْ يَعْدُ يَوْمَهُ عَلَى يَدِ كُفْءٍ كَرِيمٍ، لاَ رَقَأَتْ دَمْعَتِي إِنْ هَرَقْتُهَا عَلَيْهِ، قَتَلَ اَلْأَبْطَالَ وَ بَارَزَ اَلْأَقْرَانَ، وَ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَى (يَدِ كُفْءٍ كَرِيمٍ قَوْمُهُ) (1)، مَا سَمِعْتُ أَفْخَرَ مِنْ هَذَا يَا بَنِي عَامِرٍ ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
لَوْ كَانَ قَاتِلُ عَمْرٍو غَيْرَ قَاتِلِهِ *** لَكُنْتُ أَبْكِي عَلَيْهِ آخِرَ اَلْأَبَدِ
لَكِنَّ قَاتِلَ عَمْرٍو لاَ يُعَابُ بِهِ *** مَنْ كَانَ يُدْعَى قَدِيماً بَيْضَةَ اَلْبَلَدِ.(2)(3)
وَ قَالَتْ أَيْضاً فِي قَتْلِ أَخِيهَا، وَ ذِكْرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام:
أَسَدَانِ فِي ضِيقِ اَلْمَكَرِّ تَصَاوَلاَ *** وَ كِلاَهُمَا كُفْءٌ كَرِيمٌ بَاسِلٌ
فَتَخَالَسَا مُهَجَ اَلنُّفُوسِ كِلاَهُمَا *** وَسْطَ اَلْمَذَادِ (4)مُخَاتِلٌ وَ مُقَاتِلٌ
وَ كِلاَهُمَا حَضَرَ اَلْقِرَاعَ حَفِيظَةً *** لَمْ يَثْنِهِ عَنْ ذَاكَ شُغُلٌ شَاغِلٌ
فَاذْهَبْ عَلِيُّ فَمَا ظَفِرْتَ بِمِثْلِهِ *** قَوْلٌ سَدِيدٌ لَيْسَ فِيهِ تَحَامُلٌ
فَالثَّأْرُ عِنْدِي يَا عَلِيُّ فَلَيْتَنِي *** أَدْرَكْتُهُ وَ اَلْعَقْلُ مِنِّي كَامِلٌ
ذَلَّتْ قُرَيْشٌ بَعْدَ مَقْتَلِ فَارِسٍ *** فَالذُّلُّ مُهْلِكُهَا وَ خِزْيٌ شَامِلٌ.
ص: 108
ثُمَّ قَالَتْ وَ اَللَّهِ لاَ ثَأَرَتْ قُرَيْشٌ بِأَخِي مَا حَنَّتِ اَلنِّيبُ (1) (2) .
فصل
وَ لَمَّا اِنْهَزَمَ اَلْأَحْزَابُ وَ وَلَّوْا عَنِ اَلْمُسْلِمِينَ اَلدُّبُرَ، عَمِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلَى قَصْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَ أَنْفَذَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَيْهِمْ فِي ثَلاَثِينَ مِنَ اَلْخَزْرَجِ، فَقَالَ لَهُ : «اُنْظُرْ بَنِي قُرَيْظَةَ، هَلْ تَرَكُوا (3)حُصُونَهُمْ؟».
فَلَمَّا شَارَفَ سُورَهُمْ سَمِعَ مِنْهُمُ اَلْهُجْرَ، فَرَجَعَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «دَعْهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ سَيُمَكِّنُ مِنْهُمْ، إِنَّ اَلَّذِي أَمْكَنَكَ مِنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ لاَ يَخْذُلُكَ فَقِفْ (4)حَتَّى يَجْتَمِعَ اَلنَّاسُ إِلَيْكَ، وَ أَبْشِرْ بِنَصْرِ اَللَّهِ، فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ نَصَرَنِي بِالرُّعْبِ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»
قَالَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «فَاجْتَمَعَ اَلنَّاسُ إِلَيَّ وَ سِرْتُ حَتَّى دَنَوْتُ مِنْ سُورِهِمْ، فَأَشْرَفُوا عَلَيَّ فَحِينَ رَأَوْنِي صَاحَ صَائِحٌ مِنْهُمْ: قَدْ جَاءَكُمْ قَاتِلُ عَمْرٍو، وَ قَالَ آخَرُ: قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ قَاتِلُ عَمْرٍو، وَ جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَصِيحُ بِبَعْضٍ وَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَ أَلْقَى اَللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ، وَ سَمِعْتُ رَاجِزاً يَرْجُزُ:
ص: 109
قَتَلَ عَلِيٌّ عَمْراً *** صَادَ (1)عَلِيٌّ صَقْراً
قَصَمَ عَلِيٌّ ظَهْراً *** أَبْرَمَ عَلِيٌّ أَمْراً
هَتَكَ عَلِيٌّ سِتْراً
فَقُلْتُ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَظْهَرَ اَلْإِسْلاَمَ وَ قَمَعَ اَلشِّرْكَ، وَ كَانَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله قَالَ: لِي حِينَ تَوَجَّهْتُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اَللَّهِ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ (2)أَرْضَهُمْ وَ دِيٰارَهُمْ، فَسِرْتُ مُسْتَيْقِناً (3)لِنَصْرِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ حَتَّى رَكَزْتُ اَلرَّايَةَ فِي أَصْلِ اَلْحِصْنِ ، فَاسْتَقْبَلُونِي فِي صَيَاصِيهِمْ (4)يَسُبُّونَ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله!!
فَلَمَّا سَمِعْتُ سَبَّهُمْ لَهُ عَلَیْهِ السَّلامُ كَرِهْتُ أَنْ يَسْمَعَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، فَعَمِلْتُ عَلَى اَلرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ قَدْ طَلَعَ، فَنَادَاهُمْ: يَا إِخْوَةَ اَلْقِرَدَةِ وَ اَلْخَنَازِيرِ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسٰاءَ صَبٰاحُ اَلْمُنْذَرِينَ (5) فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا اَلْقَاسِمِ مَا كُنْتَ جَهُولاً وَ لاَ سَبَّاباً! فَاسْتَحْيَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ رَجَعَ اَلْقَهْقَرَى قَلِيلاً».
ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ بِإِزَاءِ حُصُونِهِمْ، وَ أَقَامَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله مُحَاصِراً لِبَنِي قُرَيْظَةَ خَمْساً وَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، حَتَّى سَأَلُوهُ
ص: 110
اَلنُّزُولَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَحَكَمَ فِيهِمْ (1)سَعْدٌ بِقَتْلِ اَلرِّجَالِ، وَ سَبْيِ اَلذَّرَارِيِّ وَ اَلنِّسَاءِ، وَ قِسْمَةِ اَلْأَمْوَالِ.
فَقَالَ: اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «يَا سَعْدُ لَقَدْ، حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اَللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ».
وَ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله بِإِنْزَالِ اَلرِّجَالِ مِنْهُمْ - وَ كَانُوا تِسْعَمِائَةِ رَجُلٍ - فَجِيءَ بِهِمْ إِلَى اَلْمَدِينَةِ وَ قُسِمَ اَلْأَمْوَالُ، وَ اُسْتُرِقَّ اَلذَّرَارِيُّ وَ اَلنِّسْوَانُ.
وَ لَمَّا جِيءَ بِالْأُسَارَى إِلَى اَلْمَدِينَةِ حُبِسُوا فِي دَارٍ مِنْ دُورِ بَنِي اَلنَّجَّارِ، وَ خَرَجَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِلَى مَوْضِعِ اَلسُّوقِ اَلْيَوْمَ فَخَنْدَقَ فِيهِ خَنَادِقَ، وَ حَضَرَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مَعَهُ وَ اَلْمُسْلِمُونَ، وَ أَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُخْرَجُوا، وَ تَقَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي اَلْخَنْدَقِ .
فَأُخْرِجُوا أَرْسَالاً وَ فِيهِمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَ هُمَا - إِذْ ذَاكَ - رَئِيسَا اَلْقَوْمِ ، فَقَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَ هُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: يَا كَعْبُ مَا تَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لاَ تَعْقِلُونَ، أَ لاَ تَرَوْنَ اَلدَّاعِيَ لاَ يَنْزِعُ، وَ مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُ، هُوَ وَ اَللَّهِ اَلْقَتْلُ.
وَ جِيءَ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله قَالَ: أَمَا وَ اَللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي عَلَى
ص: 111
عَدَاوَتِكَ وَ لَكِنْ مَنْ يَخْذُلِ اَللَّهُ يُخْذَلْ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى اَلنَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ، كِتَابٌ وَ قَدَرٌ وَ مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ .
ثُمَّ أُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ هُوَ يَقُولُ: قِتْلَةٌ شَرِيفَةٌ بِيَدِ شَرِيفٍ فَقَالَ لَهُ : أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: «إِنَّ خِيَارَ اَلنَّاسِ يَقْتُلُونَ شِرَارَهُمْ، وَ شِرَارَ اَلنَّاسِ يَقْتُلُونَ خِيَارَهُمْ، فَالْوَيْلُ لِمَنْ قَتَلَهُ اَلْأَخْيَارُ اَلْأَشْرَافُ، وَ اَلسَّعَادَةُ لِمَنْ قَتَلَهُ اَلْأَرْذَالُ اَلْكُفَّارُ فَقَالَ: صَدَقْتَ، لا تَسْلُبْنِي حُلَّتِي، قَالَ: «هِيَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ ذَاكَ قَالَ: سَتَرْتَنِي سَتَرَكَ اَللَّهُ، وَ مَدَّ عُنُقَهُ فَضَرَبَهَا عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ لَمْ يَسْلُبْهُ مِنْ بَيْنِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ: «مَا كَانَ يَقُولُ حُيَيٌّ وَ هُوَ يُقَادُ إِلَى اَلْمَوْتِ ؟ » فَقَالَ: (1)كَانَ يَقُولُ:
لَعَمْرُكَ مَا لاَمَ اِبْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ *** وَ لَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اَللَّهُ يُخْذَلْ
لَجَاهَدَ (2)حَتَّى بَلَغَ اَلنَّفْسُ جُهْدَهَا *** وَ حَاوَلَ يَبْغِي اَلْعِزَّ كُلَّ مُقَلْقَلٍ
فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ:
«لَقَدْ كَانَ ذَا جِدٍّ وَ جَدٍّ (3)بِكُفْرِهِ *** فَقِيدَ إِلَيْنَا فِي اَلْمَجَامِعِ يُعْتَلُ
فَقَلَّدْتُهُ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةَ مُحْفِظٍ (4)فَصَارَ إِلَى قَعْرِ اَلْجَحِيمِ يُكَبَّلُ
ص: 112
فَذَاكَ مَآبُ اَلْكَافِرِينَ وَ مَنْ يَكُنْ *** مُطِيعاً لِأَمْرِ اَللَّهِ فِي اَلْخُلْدِ يُنْزَلُ»
وَ اِصْطَفَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِنْ نِسَائِهِمْ عَمْرَةَ بِنْتَ خُنَافَةَ (1)،و قَتَلَ مِنْ نِسَائِهِمْ اِمْرَأَةً وَاحِدَةً كَانَتْ أَرْسَلَتْ عَلَيْهِ صلّی الله علیه و آله حَجَراً - وَ قَدْ جَاءَ بِالْيَهُودِ يُنَاظِرُهُمْ قَبْلَ مُبَايَنَتِهِمْ لَهُ - فَسَلَّمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ اَلْحَجَرِ .
وَ كَانَ اَلظَّفَرُ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، وَ فَتْحُ اَللَّهِ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَ مَا أَلْقَاهُ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ اَلرُّعْبِ مِنْهُ ، وَ مَاثَلَتْ هَذِهِ اَلْفَضِيلَةُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ فَضَائِلِهِ، وَ شَابَهَتْ هَذِهِ اَلْمَنْقَبَةُ مَا سَلَفَ ذِكْرُهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ صلّی الله علیه و آله.
فصل (2)
و قد كانَ من أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في غَزوة وادي الرَمْل، و يُقالَ: إنها كانت تُسَمّى بغَزوة السلسلة، ما حفظه العُلِمَاءُ، و دَوَّنَهُ الفُقَهاءُ و نَقَله أصحّابُ الآثار، و رواه نَقَلةُ الأَخبار، مِمَّا يَنضاف إِلَى
ص: 113
مناقبه عَلَیْهِ السَّلامُ في الغزوات، و يُماثل فضائله في الجهاد، و ما توحّد به في معناه من كافَّةَ العباد.
وَ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ اَلسِّيَرِ ذَكَرُوا: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً، إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي جِئْتُكَ لِأَنْصَحَكَ، قَالَ: «وَ مَا نَصِيحَتُكَ؟» قَالَ: قَوْمٌ مِنَ اَلْعَرَبِ قَدْ عَمِلُوا عَلَى أَنْ يُثْبِتُوكَ (1)بِالْمَدِينَةِ وَ وَصَفَهُمْ لَهُ.
قَالَ: فَأَمَرَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ أَنْ يُنَادِيَ بِ الصَّلاَةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعَ اَلْمُسْلِمُونَ، فَصَعِدَ اَلْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّ هَذَا عَدُوَّ اَللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ قَدْ (2)أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ، يَزْعُمُ أَنَّهُ يُثْبِتُكُمْ (3)بِالْمَدِينَةِ، فَمَنْ لِلْوَادِي؟».
فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. فَنَاوَلَهُ اَللِّوَاءَ وَ ضَمَّ إِلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ وَ قَالَ لَهُ : «اِمْضِ عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ».
فَمَضَى فَوَافَى (4)اَلْقَوْمَ ضَحْوَةً، فَقَالُوا لَهُ: مَنِ اَلرَّجُلُ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولٌ لِرَسُولِ اَللَّهِ، إِمَّا أَنْ تَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أَوْ لَأَضْرِبَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ؟ قَالُوا لَهُ: اِرْجِعْ إِلَى صَاحِبِكَ فَإِنَّا فِي جَمْعٍ لاَ تَقُومُ لَهُ.
فَرَجَعَ اَلرَّجُلُ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِذَلِكَ، فَقَالَ
ص: 114
اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «مَنْ لِلْوَادِي؟» فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ.
قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيْهِ اَلرَّايَةَ وَ مَضَى، ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِ مَا عَادَ صَاحِبُهُ اَلْأَوَّلُ.
فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟» فَقَامَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اَللَّهِ؟» قَالَ: «اِمْضِ إِلَى اَلْوَادِي» قَالَ: «نَعَمْ» وَ كَانَتْ لَهُ عِصَابَةٌ لاَ يَتَعَصَّبُ بِهَا حَتَّى يَبْعَثَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي وَجْهٍ شَدِيدٍ.
فَمَضَى إِلَى مَنْزِلِ فَاطِمَةَ علیها السلام، فَالْتَمَسَ اَلْعِصَابَةَ مِنْهَا؟ فَقَالَتْ: «أَيْنَ تُرِيدُ، أَيْنَ بَعَثَكَ أَبِي؟ قَالَ: إِلَى وَادِي اَلرَّمْلِ» فَبَكَتْ إِشْفَاقاً عَلَيْهِ.
فَدَخَلَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله وَ هِيَ عَلَى تِلْكَ اَلْحَالِ.فَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ تَبْكِينَ؟ أَ تَخَافِينَ أَنْ يُقْتَلَ بَعْلُكِ؟ كَلاَّ، إِنْ شَاءَ اَللَّهُ» فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ: لاَ تَنْفَسْ (1)عَلَيَّ بِالْجَنَّةِ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ».
ثُمَّ خَرَجَ وَ مَعَهُ لِوَاءُ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَمَضَى حَتَّى وَافَى اَلْقَوْمَ بِسَحَرٍ فَأَقَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ اَلْغَدَاةَ وَ صَفَّهُمْ صُفُوفاً، وَ اِتَّكَأَ عَلَى سَيْفِهِ مُقْبِلاً عَلَى اَلْعَدُوِّ، فَقَالَ: لَهُمْ: «يَا هَؤُلاَءِ، أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ، أَنْ تَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، وَ إِلاَّ ضَرَبْتُكُمْ بِالسَّيْفِ».
ص: 115
قَالُوا: اِرْجِعْ كَمَا رَجَعَ صَاحِبَاكَ.
قَالَ: «أَنَا أَرْجِعُ؟! لاَ وَ اَللَّهِ حَتَّى تُسْلِمُوا أَوْ أَضْرِبَكُمْ بِسَيْفِي هَذَا، أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ».
فَاضْطَرَبَ اَلْقَوْمُ لَمَّا عَرَفُوهُ، ثُمَّ اِجْتَرَءُوا عَلَى مُوَاقَعَتِهِ، فَوَاقَعَهُمْ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ، سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً، وَ اِنْهَزَمَ اَلْمُشْرِكُونَ، وَ ظَفَرَ اَلْمُسْلِمُونَ وَ حَازُوا اَلْغَنَائِمَ، وَ تَوَجَّهَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله.
فَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهَا- قَالَتْ: كَانَ نَبِيُّ اَللَّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ قَائِلاً (1)فِي بَيْتِي إِذِ اِنْتَبَهَ فَزِعاً مِنْ مَنَامِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: اَللَّهُ جَارُكَ، قَالَ: «صَدَقْتِ، اَللَّهُ جَارِي، لَكِنْ هَذَا جَبْرَئِيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ يُخْبِرُنِي: أَنَّ عَلِيّاً قَادِمٌ» ثُمَّ خَرَجَ إِلَى اَلنَّاسِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَامَ اَلْمُسْلِمُونَ لَهُ صَفَّيْنِ مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله.
فَلَمَّا بَصُرَ بِالنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله تَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ وَ أَهْوَى إِلَى قَدَمَيْهِ يُقَبِّلُهُمَا، فَقَالَ لَهُ : عَلَیْهِ السَّلامُ: «اِرْكَبْ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى وَ رَسُولَهُ عَنْكَ رَاضِيَانِ» فَبَكَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَرَحاً، وَ اِنْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَ تَسَلَّمَ اَلْمُسْلِمُونَ اَلْغَنَائِمَ.
فَقَالَ: اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله لِبَعْضِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي اَلْجَيْشِ: «كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَمِيرَكُمْ؟» قَالُوا: لَمْ نُنْكِرْ مِنْهُ شَيْئاً، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَؤُمَّ بِنَا فِي صَلاَةٍ إِلاَّ قَرَأَ بِنَا فِيهَا بِقُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ. فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله «سَأَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ»
ص: 116
فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ : لِمَ لَمْ تَقْرَأْ بِهِمْ فِي فَرَائِضِكَ إِلاَّ بِسُورَةِ اَلْإِخْلاَصِ؟» فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَحْبَبْتُهَا» قَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهَا».
ثُمَّ قَالَ لَهُ : يَا عَلِيُّ ، لَوْ لاَ أَنَّنِي أُشْفِقُ أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مَا قَالَتِ اَلنَّصَارَى فِي عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ اَلْيَوْمَ مَقَالاً لاَ تَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنْهُمْ إِلاَّ أَخَذُوا اَلتُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ».
فصل
فكانَ الفَتْحُ في هذه الغَزاة لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ خاصّةً، بعد أَنّ كانَ من غيرُهُ فيها من الإفساد ما كانَ، و اختَصَّ علي عَلَیْهِ السَّلامُ من مَديح النبيُّ صلّی الله علیه و آله بها بفضائل لم يَحْصُل منها شيء لغيرُهُ.
و قد ذِكر كثيرُ من أصحّابَ السِّيرة (1): أَنّ في هذه الغَزاة نَزَل على النبيُّ صلّی الله علیه و آله: (وَ اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً...) (2) إِلَى آخرها فتضمّنت ذكرَ الحال فيما فعله أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فيها.
ص: 117
فصل
ثُمَّ كَانَ مِنْ بَلاَئِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ بِبَنِي اَلْمُصْطَلَقِ، مَا اِشْتَهَرَ عِنْدَ اَلْعُلَمَاءِ، وَ كَانَ اَلْفَتْحُ لَهُ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي هَذِهِ اَلْغَزَاةِ، بَعْدَ أَنْ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ نَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، فَقَتَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ رَجُلَيْنِ مِنَ اَلْقَوْمِ وَ هُمَا مَالِكٌ وَ اِبْنُهُ، وَ أَصَابَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِنْهُمْ سَبْياً كَثِيراً فَقَسَمَهُ فِي اَلْمُسْلِمِينَ.
وَ كَانَ فِيمَنْ (1)أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ مِنَ اَلسَّبَايَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ اَلْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ، وَ كَانَ شِعَارُ اَلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي اَلْمُصْطَلَقِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ (2)وَ كَانَ اَلَّذِي سَبَى جُوَيْرِيَةَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَجَاءَ بِهَا إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَاصْطَفَاهَا اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ .
فَجَاءَ أَبُوهَا إِلَى اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ بَعْدَ إِسْلاَمِ بَقِيَّةِ اَلْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ اِبْنَتِي لاَ تُسْبَى، إِنَّهَا اِمْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ؛ قَالَ: اِذْهَبْ فَخَيِّرْهَا» قَالَ: أَحْسَنْتَ (3)وَ أَجْمَلْتَ.
وَ جَاءَ إِلَيْهَا أَبُوهَا فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةِ لاَ تَفْضَحِي قَوْمَكِ، فَقَالَتْ لَهُ: قَدِ اِخْتَرْتُ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ.
فَقَالَ: لَهَا أَبُوهَا: فَعَلَ اَللَّهُ بِكِ وَ فَعَلَ، فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی
ص: 118
الله علیه و آله وَ جَعَلَهَا فِي جُمْلَةِ أَزْوَاجِهِ (1) .
فصل
ثُّمّ تلا بني المُصْطَلِق الحُدَيْبِيَّة، و كانَ اللِواء يومئذ إِلَى أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ كما كانَ إليه في المشاهد قبلها، و كانَ من بلائه في ذلكَ اليوم عند صف القَوْم في الحرب للقتال ما ظَهَرَ خَبَرُه و استفاض ذكره.
وَ ذَلِكَ بَعْدَ اَلْبَيْعَةِ اَلَّتِي أَخَذَهَا اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله عَلَى أَصْحَابِهِ وَ اَلْعُهُودِ عَلَيْهِمْ فِي اَلصَّبْرِ، وَ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْمُبَايِعَ لِلنِّسَاءِ عَنِ اَلنَّبِيِّ علیه وآله السلام، وَ كَانَتْ بَيْعَتُهُ لَهُنَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ طَرَحَ ثَوْباً بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُنَّ ثُمَّ مَسَحَهُ بِيَدِهِ، فَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُنَّ لِلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ بِمَسْحِ اَلثَّوْبِ، وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَمْسَحُ ثَوْبَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ مِمَّا يَلِيهِ.
وَ لَمَّا رَأَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو تَوَجُّهَ اَلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، ضَرَعَ إِلَى اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي اَلصُّلْحِ، وَ نَزَلَ عَلَيْهِ اَلْوَحْيُ بِالْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَ أَنْ يَجْعَلَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ كَاتِبَهُ يَوْمَئِذٍ وَ اَلْمُتَوَلِّيَ لِعَقْدِ اَلصُّلْحِ بِخَطِّهِ.
فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اُكْتُبْ يَا عَلِيُّ : بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ».
فَقَالَ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: هَذَا كِتَابٌ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ يَا مُحَمَّدُ،
ص: 119
فَافْتَتِحْهُ بِمَا نَعْرِفُهُ (1)وَ اُكْتُبْ: بِاسْمِكَ اَللَّهُمَّ.
فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ: «اُمْحُ مَا كَتَبْتَ وَ اُكْتُبْ: بِاسْمِكَ اَللَّهُمَّ»
فَقَالَ لَهُ : أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لَوْ لاَ طَاعَتُكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ لَمَا مَحَوْتُ بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ» ثُمَّ مَحَاهَا وَ كَتَبَ: بِاسْمِكَ اَللَّهُمَّ.
فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اُكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو » فَقَالَ: سُهَيْلٌ: لَوْ أَجَبْتُكَ فِي اَلْكِتَابِ اَلَّذِي بَيْنَنَا إِلَى هَذَا، لَأَقْرَرْتُ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ! فَسَوَاءٌ شَهِدْتُ عَلَى نَفْسِي بِالرِّضَا بِذَلِكَ أَوْ أَطْلَقْتُهُ مِنْ لِسَانِي، اُمْحُ هَذَا اَلاِسْمَ وَ اُكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ. فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنَّهُ وَ اَللَّهِ لَرَسُولُ اَللَّهِ عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ»
فَقَالَ: سُهَيْلٌ اُكْتُبْ اِسْمَهُ يَمْضِي اَلشَّرْطُ.
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «وَيْلَكَ يَا سُهَيْلُ، كُفَّ عَنْ عِنَادِكَ»
فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اُمْحُهَا يَا عَلِيُّ »
فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ يَدِي لاَ تَنْطَلِقُ بِمَحْوِ اِسْمِكَ مِنَ اَلنُّبُوَّةِ»
ص: 120
قَالَ لَهُ : «فَضَعْ يَدِي عَلَيْهَا فَمَحَاهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِيَدِهِ، وَ قَالَ: لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «سَتُدْعَى إِلَى مِثْلِهَا فَتُجِيبُ وَ أَنْتَ عَلَى مَضَضٍ»
ثُمَّ تَمَّمَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْكِتَابَ.
وَ لَمَّا تَمَّ اَلصُّلْحُ نَحَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله هَدْيَهُ فِي مَكَانِهِ .
فكانَ نظامُ تدبير هذه الغَزاة مُعَلَّقاً بأَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ، و كانَ ما جرى فيها من البيعة وصفِّ النّاس للحرب ثُّمّ الهُدنةِ و الكتاب كلِّهِ لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ و كانَ فيما هيأه الله تعالى له من ذلكَ حقن الدماء و صلاح أمر الإسلام .
و قد روى الناسُ له عَلَیْهِ السَّلامُ، في هذه الغَزاة - بعد الذي ذكرناه - فضيلتين اختَصَّ بهما و انضافا إِلَى فضائله العظام و مناقبه الجسام:
فَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ رِجَالِهِ، عَنْ (فَائِدٍ مَوْلَى عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سَالِمٍ) (1)قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي عُمْرَةِ (2)اَلْحُدَيْبِيَةِ نَزَلَ اَلْجُحْفَةَ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا مَاءً، فَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بِالرَّوَايَا، حَتَّى إِذَا كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ رَجَعَ سَعْدٌ بِالرَّوَايَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِيَ ،لَقَدْ وَقَفَتْ قَدَمَايَ رُعْباً مِنَ اَلْقَوْمِ فَقَالَ لَهُ : اَلنَّبِيُّ علیه و آله
ص: 121
السلام «اِجْلِسْ».
ثُمَّ بَعَثَ رَجُلاً آخَرَ، فَخَرَجَ بِالرَّوَايَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَكَانِ اَلَّذِي اِنْتَهَى إِلَيْهِ اَلْأَوَّلُ رَجَعَ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ : «لِمَ رَجَعْتَ؟» فَقَالَ: وَ اَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا اِسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْضِيَ رُعْباً.
فَدَعَا رَسُولُ اَللَّهِ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَرْسَلَهُ بِالرَّوَايَا، وَ خَرَجَ اَلسُّقَاةُ وَ هُمْ لاَ يَشُكُّونَ فِي رُجُوعِهِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ رُجُوعِ (1)مَنْ تَقَدَّمَهُ.
فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالرَّوَايَا حَتَّى وَرَدَ اَلْحِرَارَ (2)فَاسْتَقَى، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ لَهَا زَجَلٌ (3).
فَكَبَّرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله وَ دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ (4).
وَ فِي هَذِهِ اَلْغَزَاةِ أَقْبَلَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَرِقَّاءَنَا لَحِقُوا بِكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيْنَا. فَغَضِبَ رَسُولُ اَللَّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ حَتَّى تَبَيَّنَ اَلْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «لَتَنْتَهُنَّ - يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ رَجُلاً اِمْتَحَنَ اَللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى اَلدِّينِ»
فَقَالَ: بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ اَلرَّجُلُ؟ قَالَ: «لاَ» قِيلَ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: «لاَ ، وَ لَكِنَّهُ خَاصِفُ اَلنَّعْلِ فِي اَلْحُجْرَةِ» فَتَبَادَرَ
ص: 122
اَلنَّاسُ إِلَى اَلْحُجْرَةِ يَنْظُرُونَ، مَنِ اَلرَّجُلُ؟ فَإِذَا هُوَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ .
وَ رَوَى هَذَا اَلْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالُوا فِيهِ: إِنَّ عَلِيّاً قَصَّ هَذِهِ اَلْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ اَلنَّارِ »(1).
و كانَ الذي أصلَحَه أَميرُالمؤمنين من نعل النبيُّ صلّی الله علیهما شسعها (2)فإنّه كانَ انقطع فخَصَّف موضعه و أصلحه .
وَ رَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْعَمِّيُّ ، عَنْ نَائِلِ بْنِ نَجِيحٍ (3)عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «اِنْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَدَفَعَهَا إِلَى عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ يُصْلِحُهَا، ثُمَّ مَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ غَلْوَةً (4)- أَوْ نَحْوَهَا - وَ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى اَلتَّأْوِيلِ كَمَا (قَاتَلَ مَعِي) (5)عَلَى اَلتَّنْزِيلِ»
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا ذَاكَ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ» فَقَالَ عُمَرُ:
ص: 123
فَأَنَا يَا رَسُولَ اَللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ» فَأَمْسَكَ اَلْقَوْمُ وَ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ : فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «لَكِنَّهُ خَاصِفُ اَلنَّعْلِ - وَ أَوْمَأَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ - وَ إِنَّهُ اَلْمُقَاتِلُ عَلَى اَلتَّأْوِيلِ إِذَا تُرِكَتْ سُنَّتِي وَ نُبِذَتْ، وَ حُرِّفَ كِتَابُ اَللَّهِ، وَ تَكَلَّمَ فِي اَلدِّينِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَيُقَاتِلُهُمْ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى إِحْيَاءِ دِينِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ» (1) .
فصل
ثُّمّ تلت الحُدَيْبِيَّة خَيْبَرُ، و كانَ الفَتْحُ فيها لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بلا ارتياب، و ظَهَرَ من فضله في هذه الغَزاة (ما اجتَمّع على نَقَله) (2)الرُواة و تفرد فيها من المناقب بما لم يَشْرَكه فيه أحدٌ من النّاس.
فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى اَلْأَزْدِيُّ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ اَلْيَسَعِ وَ عُبَيْدِ اَللَّهِ (3)بْنِ عَبْدِ اَلرَّحِيمِ، عَنْ عَبْدِ اَلْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ وَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ اَلْآثَارِ قَالُوا لَمَّا دَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِنْ خَيْبَرَ، قَالَ: لِلنَّاسِ قِفُوا فَوَقَفَ اَلنَّاسُ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ قَالَ: «اَللَّهُمَّ رَبَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَ مَا أَظْلَلْنَ، وَ رَبَّ اَلْأَرَضِينَ اَلسَّبْعِ وَ مَا
ص: 124
أَقْلَلْنَ، وَ رَبَّ اَلشَّيَاطِينِ وَ مَا أَضْلَلْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ (1)هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ وَ خَيْرَ مَا فِيهَا، وَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَ شَرِّ مَا فِيهَا ثُمَّ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ (فِي اَلْمَكَانِ) (2)فَأَقَامَ وَ أَقَمْنَا بَقِيَّةَ يَوْمِنَا وَ مِنْ غَدِهِ. (3)
فَلَمَّا كَانَ نِصْفُ اَلنَّهَارِ نَادَانَا مُنَادِي رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا جَاءَنِي وَ أَنَا نَائِمٌ، فَسَلَّ سَيْفِي وَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي اَلْيَوْمَ! قُلْتُ: اَللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ، فَشَامَ اَلسَّيْفَ (4)وَ هُوَ جَالِسٌ كَمَا تَرَوْنَ لاَ حَرَاكَ بِهِ» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ،لَعَلَّ فِي عَقْلِهِ شَيْئاً فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ نَعَمْ دَعُوهُ ثُمَّ صَرَفَهُ وَ لَمْ يُعَاقِبْهُ.
وَ حَاصَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله خَيْبَرَ بِضْعاً وَ عِشْرِينَ لَيْلَةً؛ وَ كَانَتِ اَلرَّايَةُ يَوْمَئِذٍ لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَلَحِقَهُ رَمَدٌ أَعْجَزَهُ عَنِ اَلْحَرْبِ،وَ كَانَ اَلْمُسْلِمُونَ يُنَاوِشُونَ (5)اَلْيَهُودَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِي حُصُونِهِمْ وَ جَنَبَاتِهَا.
فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَحُوا اَلْبَابَ،وَ قَدْ كَانُوا خَنْدَقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ،وَ خَرَجَ مَرْحَبٌ بِرِجْلِهِ يَتَعَرَّضُ (6)لِلْحَرْبِ،فَدَعَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ : «خُذِ اَلرَّايَةَ» فَأَخَذَهَا - فِي جَمْعٍ مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ -
ص: 125
فَاجْتَهَدَ وَ لَمْ يُغْنِ شَيْئاً،فَعَادَ يُؤَنِّبُ اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ يُؤَنِّبُونَهُ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ اَلْغَدِ تَعَرَّضَ لَهَا عُمَرُ،فَسَارَ بِهَا غَيْرَ بَعِيدٍ،ثُمَّ رَجَعَ يُجَبِّنُ أَصْحَابَهُ وَ يُجَبِّنُونَهُ
فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «لَيْسَتْ هَذِهِ اَلرَّايَةُ لِمَنْ حَمَلَهَا، جِيئُونِي بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ» فَقِيلَ لَهُ:إِنَّهُ أَرْمَدُ، فَقَالَ: «أَرُونِيهِ تُرُونِي رَجُلاً يُحِبُّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ، وَ يُحِبُّهُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا لَيْسَ بِفَرَّارٍ»
فَجَاءُوا بِعَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُودُونَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «مَا تَشْتَكِي يَا عَلِيُّ ؟ قَالَ: رَمَدٌ مَا أُبْصِرُ مَعَهُ وَ صُدَاعٌ بِرَأْسِي، فَقَالَ لَهُ : اِجْلِسْ وَ ضَعْ رَأْسَكَ عَلَى فَخِذِي» فَفَعَلَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ ذَلِكَ فَدَعَا لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله وَ تَفَلَ فِي يَدِهِ فَمَسَحَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ (1)وَ رَأْسِهِ، فَانْفَتَحَتْ عَيْنَاهُ وَ سَكَنَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنَ اَلصُّدَاعِ ، وَ قَالَ فِي دُعَائِهِ لَهُ: «اَللَّهُمَّ قِهِ اَلْحَرَّ وَ اَلْبَرْدَ» وَ أَعْطَاهُ اَلرَّايَةَ - وَ كَانَتْ رَايَةً بَيْضَاءَ - وَ قَالَ لَهُ : «خُذِ اَلرَّايَةَ وَ اِمْضِ بِهَا، فَجَبْرَئِيلُ مَعَكَ، وَ اَلنَّصْرُ أَمَامَكَ، وَ اَلرُّعْبُ مَبْثُوثٌ فِي صُدُورِ اَلْقَوْمِ، وَ اِعْلَمْ - يَا عَلِيُّ - أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي كِتَابِهِمْ: أَنَّ اَلَّذِي يُدَمِّرُ عَلَيْهِمُ اِسْمُهُ إِلْيَا (2)، فَإِذَا لَقِيتَهُمْ فَقُلْ: أَنَا عَلِيٌّ ، فَإِنَّهُمْ يُخْذَلُونَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ»
قَالَ: عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ فَمَضَيْتُ بِهَا حَتَّى أَتَيْتُ اَلْحُصُونَ فَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَ عَلَيْهِ مِغْفَرٌ وَ حَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ (3)مِثْلَ اَلْبَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ، وَ هُوَ
ص: 126
يَرْتَجِزُ وَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبٌ *** شَاكٍ سِلاَحِي بَطَلٌ مُجَرَّبٌ
فَقُلْتُ:
أَنَا اَلَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةً *** لَيْثٌ لِغَابَاتٍ (1)شَدِيدٌ قَسْوَرَةٌ
أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ اَلسَّنْدَرَةِ (2)
فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَبَدَرْتُهُ فَضَرَبْتُهُ فَقَدَدْتُ اَلْحَجَرَ وَ اَلْمِغْفَرَ وَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَ اَلسَّيْفُ فِي أَضْرَاسِهِ فَخَرَّ صَرِيعاً»
وَ جَاءَ فِي اَلْحَدِيثِ: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ لَمَّا قَالَ: «أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»قَالَ: حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ اَلْقَوْمِ: غُلِبْتُمْ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى (3)فَدَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنَ اَلرُّعْبِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مَعَهُ اَلاِسْتِيطَانُ بِهِ.
وَ لَمَّا قَتَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مَرْحَباً، رَجَعَ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَ أَغْلَقُوا بَابَ اَلْحِصْنِ عَلَيْهِمْ دُونَهُ، فَصَارَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَيْهِ فَعَالَجَهُ حَتَّى فَتَحَهُ، وَ أَكْثَرُ اَلنَّاسِ مِنْ جَانِبِ اَلْخَنْدَقِ لَمْ يَعْبُرُوا مَعَهُ، فَأَخَذَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بَابَ اَلْحِصْنِ فَجَعَلَهُ عَلَى اَلْخَنْدَقِ جِسْراً لَهُمْ حَتَّى عَبَرُوا فَظَفِرُوا بِالْحِصْنِ وَ نَالُوا اَلْغَنَائِمَ.
ص: 127
فَلَمَّا اِنْصَرَفُوا مِنَ اَلْحُصُونِ، أَخَذَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِيُمْنَاهُ فَدَحَا بِهِ أَذْرُعاً مِنَ اَلْأَرْضِ، وَ كَانَ اَلْبَابُ يُغْلِقُهُ عِشْرُونَ رَجُلاً مِنْهُمْ.
وَ لَمَّا فَتَحَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْحِصْنَ وَ قَتَلَ مَرْحَباً، وَ أَغْنَمَ اَللَّهُ اَلْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ، اِسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَسُولَ اَللَّهِ أَنْ يَقُولَ شِعْراً. فَقَالَ لَهُ : «قُلْ»
فَأَنْشَأَ يَقُولُ
وَ كَانَ عَلِيٌّ أَرْمَدَ اَلْعَيْنِ يَبْتَغِي *** دَوَاءً فَلَمَّا لَمْ يُحِسَّ مُدَاوِياً
شَفَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ مِنْهُ بِتَفْلَةٍ *** فَبُورِكَ مَرْقِيّاً وَ بُورِكَ رَاقِياً
وَ قَالَ: سَأُعْطِي اَلرَّايَةَ اَلْيَوْمَ صَارِماً *** كَمِيّاً مُحِبّاً لِلرَّسُولِ مُوَالِياً (1)
يُحِبُّ إِلَهِي وَ اَلْإِلَهُ يُحِبُّهُ *** بِهِ يَفْتَحُ اَللَّهُ اَلْحُصُونَ اَلْأَوَابِيَا
فَأَصْفَى بِهَا دُونَ اَلْبَرِيَّةِ كُلِّهَا *** عَلِيّاً وَ سَمَّاهُ اَلْوَزِيرَ اَلْمُؤَاخِيَا
وَ قَدْ رَوَى أَصْحَابُ اَلْآثَارِ عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ اَلْجَدَلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «لَمَّا عَالَجْتُ بَابَ خَيْبَرَ جَعَلْتُهُ مِجَنّاً لِي وَ قَاتَلْتُ اَلْقَوْمَ فَلَمَّا أَخْزَاهُمُ اَللَّهُ وَضَعْتُ اَلْبَابَ عَلَى حِصْنِهِمْ طَرِيقاً، ثُمَّ رَمَيْتُ بِهِ فِي خَنْدَقِهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَقَدْ حَمَلْتَ مِنْهُ ثِقْلاً فَقَالَ: مَا كَانَ إِلاَّ مِثْلَ جُنَّتِيَ اَلَّتِي فِي يَدِي فِي غَيْرِ ذَلِكَ اَلْمَقَامِ» (2) .
وَ ذَكَرَ أَصْحَابُ اَلسِّيَرِ: أَنَّ اَلْمُسْلِمِينَ لَمَّا اِنْصَرَفُوا مِنْ خَيْبَرَ رَامُوا
ص: 128
حَمْلَ اَلْبَابِ فَلَمْ يُقِلَّهُ (1)مِنْهُمْ إِلاَّ سَبْعُونَ رَجُلاً . (2). و في حمل أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ الباب يقولُ الشاعر إن امرأ حمل الرتاج (3)بخَيْبَرُ *** يوم اليهود بقدرة لمؤيد
حمل الرتاج رتاج باب قموصها (4)*** و المسلمون و أهلُ خَيْبَرُ شَهِدَ (5)
فَرَمى به و لقد تَكَلَّفَ رَدَّهُ *** سبعون شخَصَّاً كلِّهِم مُتَشَدّدُ (6)
رَدُّوه بعد مَشقَّةٍ و تكلُّفٍ (7)*** و مقالَِ بَعْضُهُم لبعض اردُدوا (8)
فصل
ثُّمّ تلا غَزاة خَيْبَرُ مواقف لم تجر مجرى ما تقدمها فنصمد
ص: 129
لذكرها، و أكثرها كانَ بُعوثاًَ لم يَشْهَدها رسول الله صلّی الله علیه و آله، و لا كانَ الاهتَمامُ بها كالاهتَمام بما سَلَف لضعف العَدُوّ، و غَناء بعضِ المسلمين عن غيرُهُم فيها، فَأَضْرَبْنا عن تَعدادها، و إن كانَ لأَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في جميعها حظُّ وافر من قول أو عمل.
ثُّمّ كانت غَزاة الفَتْح، و هي الّتي تَوَطّد (1)أمر الإسلام بها، و تَمَهّد الدين بما منّ الله تعالى على نبيُّه صلّی الله علیه و آله فيها، و كانَ الوعد تقدَّمَ في قوله عزَّ اِسْمُهَ: (إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اَللّٰهِ وَ اَلْفَتْحُ) (2) إِلَى آخر
ص: 130
السورة، و قوله تعالى قبلها بمدّة طويلة: (لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاٰ تَخٰافُونَ) (1) .
فكانَت الأَعيُنُ إليها مُمْتَدّة، و الرِقاب إليها مَتَطاوِلة، و دَبَّر رسولُ الله صلّی الله علیه و آله الأَمرُ فيها بكتَمّان مسيره إِلَى مَكّة، و سَتْرِ عُزِيَمته على مراده بأَهَّلَها و سأل الله - عزَّ اِسْمُهَ- أَنّ يَطْوِيَ خَبَرُه عن أهلُ مَكّة حتّى يبغتهم بدخولها، فكانَ المؤتَمّن على هذا السرّ و المودع له - من بين الجماعةُ - أَميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عَلَیْهِ السَّلامُ، فكانَ الشريك لرسول الله صلّی الله علیه و آله في الرَّأْي، ثُّمّ نَماه النبيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَى جماعةُ من بعد و استَتَبَّ الأَمرُ فيه على أحوال كانَ أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في جميعها متفرّداً من الفَضْل بما لم يَشْرَكه فيه غيرُهُ من النّاس.
فمن ذلكَ أَنَّهُ لَمَّا كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ - وَ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً مَعَ رَسُولِ - اَللَّهِ كِتَاباً إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُطْلِعُهُمْ عَلَى سِرِّ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي اَلْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ جَاءَ اَلْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِمَا صَنَعَ وَ بِنُفُوذِ كِتَابِ حَاطِبٍ إِلَى اَلْقَوْمِ فَتَلاَفَى ذَلِكَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ ، وَ لَوْ لَمْ يَتَلاَفَهُ بِهِ لَفَسَدَ اَلتَّدْبِيرُ اَلَّذِي بِتَمَامِهِ كَانَ نَصْرُ اَلْمُسْلِمِينَ .
و قد مضى الخبرُ في هذه القصة فيما تقدّم، فلا حاجة بنا إِلَى إعادته
ص: 131
فصل
وَ لَمَّا دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ اَلْمَدِينَةَ لِتَجْدِيدِ اَلْعَهْدِ بَيْنَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ بَيْنَ قُرَيْشٍ، عِنْدَ مَا كَانَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فِي خُزَاعَةَ وَ قَتْلِهِمْ مَنْ قَتَلُوا مِنْهَا، فَقَصَدَ أَبُو سُفْيَانَ لِيَتَلاَفَى اَلْفَارِطَ مِنَ اَلْقَوْمِ، وَ قَدْ خَافَ مِنْ نُصْرَةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لَهُمْ، وَ أَشْفَقَ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ. فَأَتَى اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله وَ كَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَرْدُدْ عَلَيْهِ جَوَاباً.
فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَهُ (1)أَبُو بَكْرٍ فَتَشَبَّثَ بِهِ وَ ظَنَّ أَنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى بُغْيَتِهِ مِنَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَسَأَلَهُ كَلاَمَهُ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. لِعِلْمِ أَبِي بَكْرٍ بِأَنَّ سُؤَالَهُ فِي ذَلِكَ لاَ يُغْنِي شَيْئاً.
فَظَنَّ أَبُو سُفْيَانَ بِعُمَرَ بْنِ خَطَّابٍ مَا ظَنَّهُ بِأَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ، فَدَفَعَهُ بِغِلْظَةٍ وَ فَظَاظَةٍ كَادَتْ أَنْ تُفْسِدَ اَلرَّأْيَ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله .
فَعَدَلَ (2)إِلَى بَيْتِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ وَ عِنْدَهُ فَاطِمَةُ وَ اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ : يَا عَلِيُّ ، إِنَّكَ أَمَسُّ اَلْقَوْمِ بِي رَحِماً وَ أَقْرَبُهُمْ مِنِّي قَرَابَةً، وَ قَدْ جِئْتُكَ فَلاَ أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِباً، اِشْفَعْ لِي إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ فِيمَا قَصَدْتُهُ. فَقَالَ لَهُ : وَيْحَكَ - يَا بَا سُفْيَانَ - لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلَى
ص: 132
أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ» فَالْتَفَتَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَقَالَ لَهَا: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي اِبْنَيْكِ (1)أَنْ يُجِيرَا بَيْنَ اَلنَّاسِ فَيَكُونَا سَيِّدَيِ اَلْعَرَبِ إِلَى آخِرِ اَلدَّهْرِ. فَقَالَتْ: «مَا بَلَغَ بُنَيَّايَ أَنْ يُجِيرَا بَيْنَ اَلنَّاسِ، وَ مَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله».
فَتَحَيَّرَ أَبُو سُفْيَانَ (وَ سُقِطَ فِي يَدِهِ) (2)ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يَا بَا اَلْحَسَنِ، أَرَى اَلْأُمُورَ قَدِ اِلْتَبَسَتْ عَلَيَّ فَانْصَحْ لِي (3)فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: «مَا أَرَى شَيْئاً يُغْنِي عَنْكَ وَ لَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ فَقُمْ وَ أَجِرْ بَيْنَ اَلنَّاسِ، ثُمَّ اِلْحَقْ بِأَرْضِكَ» قَالَ: فَتَرَى ذَلِكَ مُغْنِياً عَنِّي شَيْئاً؟ قَالَ: «لاَ وَ اَللَّهِ مَا أَظُنُّ وَ لَكِنِّي لاَ أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ».
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي اَلْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ اَلنَّاسِ. ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّداً فَكَلَّمْتُهُ، فَوَ اَللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئاً ثُمَّ، جِئْتُ اِبْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْراً، ثُمَّ لَقِيتُ اِبْنَ اَلْخَطَّابِ فَوَجَدْتُهُ فَظّاً غَلِيظاً لاَ خَيْرَ فِيهِ ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيّاً فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنُ اَلْقَوْمِ لِي، وَ قَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ فَصَنَعْتُهُ، وَ اَللَّهِ مَا أَدْرِي يُغْنِي عَنِّي شَيْئاً أَمْ لاَ، فَقَالُوا: بِمَا أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ
ص: 133
أُجِيرَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فَفَعَلْتُ: فَقَالُوا لَهُ: هَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لاَ. قَالُوا: وَيْلَكَ وَ اَللَّهِ مَا زَادَ اَلرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، فَمَا يُغْنِي عَنْكَ؟ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ: لاَ وَ اَللَّهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ .
و كانَ الذي فعله أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بأبي سُفيان من أصوب رأي لتَمام أمر المسلمين و أصحّ تدبير، و به تَمّ للنبيُّ صلّی الله علیه و آله في القَوْم ما تَمّ.
أ لا تَرى أَنّه عَلَیْهِ السَّلامُ صَدَقَ أبا سُفيان عن الحال، ثُّمّ لان له بعضَ اللين حتّى خَرَج عن المدينة وهو يَظُنُّ أنّه على شيء ، فانقطع بخروجه على تلك الحال موادُّ كيده التي كان يتشعَّثُ بها الأمرُعلى النبي صلّی الله علیه و آله و ذلكَ أَنّه لو خَرَجَ آئِساً حَسَب ما أيأسَه الرجلاًن، لتجدَّدَ للقوم من الرَّأْي في حَربه عَلَیْهِ السَّلامُ و التحرز منه ما لم يخطر لهم ببال، مَعَ مجيء أبي سُفيان إليهم بما جَاَءَ، أو كانَ يقيم بالمدينة على التَمّحل لتَمام مراده بالاستشفاع إِلَى النبيُّ صلّی الله علیه و آله فيتجدّدُ بذلك أمرٌ يَصُدّ النبيَ صلّی الله علیه و آله عن قصد قريش، أو يثبطه عنهم تثبيطاً يَفوُتُه معه المراد، فكانَ التوفيق من الله تعالى مقارناً لرأي أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فيما رآه من تدبير الأَمرُ مَعَ أبي سُفيان، حتّى انتظَمَ بذلكَ للنبيُّ صلّی الله علیه و آله من فتح مَكّة ما أراد
فصل
وَ لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِدُخُولِ
ص: 134
مَكَّةَ بِالرَّايَةِ، غَلُظَ عَلَى اَلْقَوْمِ وَ أَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ اَلْحَنَقِ عَلَيْهِمْ، وَ دَخَلَ وَ هُوَ يَقُولُ:
اَلْيَوْمُ يَوْمُ اَلْمَلْحَمَةِ *** اَلْيَوْمُ تُسْبَى (1)اَلْحُرَمَةُ
. فَسَمِعَهَا اَلْعَبَّاسُ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله: أَ مَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا يَقُولُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ إِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَدْرِكْ - يَا عَلِيُّ - سَعْداً فَخُذِ اَلرَّايَةَ مِنْهُ، وَ كُنْ أَنْتَ اَلَّذِي يَدْخُلُ بِهَا مَكَّةَ» فَأَدْرَكَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ سَعْدٌ مِنْ دَفْعِهَا.
فكانَ تلافي الفارط من سَعد في هذا الأَمرُ بأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ، و لم يَرَ رسول الله صلّی الله علیه و آله أحدٌا من المهاجرين و الأَنّصار يَصْلَحُ لأَخَذَ الرايةُ من سيّد الأَنّصار سوى أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ، و عَلِمَ أَنّه لو رام ذلكَ غيرُهُ لامتَنَع سَعدُ عليه (2)، فكانَ في امتناعه فسادُ التدبير و اختلاف ُالكلمة بين الأَنّصار و المهاجرين، و لمّا لم يكن سَعدُ يَخْفِضُ جناحه لِأَحدٍ من المسلمين و كافَّهِ النّاس سوى النبيُّ صلّی الله علیه و آله و لم يكن وجه الرَّأْي تَوَلّي رسولِ الله عَلَیْهِ السَّلامُ أَخْذَ الرايةَ منه بنفسه، ولّى ذلكَ من يَقُومُ مقامَُه و لا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ، و لا
ص: 135
يَعْظُمُ أحدٌ من المقَّرين بالملّة عن الطاعة له، و لا يَراه دَوَّنَهُ في الرتبة.
و في هذا من الفَضْل الذي تَخَصُّصُ به أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ ما لم يَشْرَكه فيه أحدٌ، و لا ساواه في نظيرٍ له مساوٍ، و كانَ عِلْمَ اللهِ تعالى و رسوله عَلَیْهِ السَّلامُ في تَمام المصلحةَ بإنفاذُ أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ دونَ غيره، ما كَشَفَ عن اصطفائه لجسيم (1)الأُمور، كما كانَ عِلْمَ الله تعالى فيمن اختاره للنُبوّة و كمالِ المصلحةَ ببِعْثته (2)كاشفا عن كونهم أفضلَ الخلق أجمعين
فصل
وَ كَانَ عَهْدُ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِلَى اَلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى مَكَّةَ، أَنْ لاَ يَقْتُلُوا بِهَا إِلاَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَ آمَنَ مَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ اَلْكَعْبَةِ سِوَى نَفَرٍ كَانُوا يُؤْذُونَهُ صلّی الله علیه و آله مِنْهُمْ: مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ وَ اِبْنُ خَطَلٍ عَبْدُ اَلْعُزَّى وَ اِبْنُ أَبِي سَرْحٍ وَ قَيْنَتَانِ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ بِمَرَاثِي أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَتَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ إِحْدَى اَلْقَيْنَتَيْنِ وَ أَفْلَتَتِ اَلْأُخْرَى، حَتَّى اُسْتُومِنَ لَهَا بَعْدُ، فَضَرَبَهَا فَرَسٌ بِالْأَبْطَحِ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ فَقَتَلَهَا. وَ قَتَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْحُوَيْرِثَ بْنَ نُقَيْذِ بْنِ
ص: 136
كَعْبٍ (1) وَ كَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِمَكَّةَ .
وَ بَلَغَهُ عَلَیْهِ السَّلامُ أَنَّ أُخْتَهُ أُمَّ هَانِئٍ قَدْ آوَتْ نَاساً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مِنْهُمُ: اَلْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَ قَيْسُ بْنُ اَلسَّائِبِ، فَقَصَدَ عَلَیْهِ السَّلامُ نَحْوَ دَارِهَا مُقَنِّعاً بِالْحَدِيدِ، فَنَادَى «أَخْرِجُوا مَنْ آوَيْتُمْ » قَالَ: فَجَعَلُوا يَذْرُقُونَ - وَ اَللَّهِ - كَمَا تَذْرُقُ اَلْحُبَارَى خَوْفاً مِنْهُ.
فَخَرَجَتْ أُمُّ هَانِئٍ - وَ هِيَ لاَ تَعْرِفُهُ - فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اَللَّهِ، أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ وَ أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ اِنْصَرِفْ عَنْ دَارِي. فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَخْرِجُوهُمْ » فَقَالَتْ: وَ اَللَّهِ لَأَشْكُوَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، فَنَزَعَ اَلْمِغْفَرَ عَنْ رَأْسِهِ فَعَرَفَتْهُ، فَجَاءَتْ تَشْتَدُّ حَتَّى اِلْتَزَمَتْهُ وَ قَالَتْ: فَدَيْتُكَ، حَلَفْتُ لَأَشْكُوَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: لَهَا: «اِذْهَبِي فَبَرِّي قَسَمَكِ فَإِنَّهُ بِأَعْلَى اَلْوَادِي».
قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: فَجِئْتُ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ هُوَ فِي قُبَّةٍ يَغْتَسِلُ، وَ فَاطِمَةُ عَلَیْهِ السَّلامُ تَسْتُرُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله كَلاَمِي قَالَ: «مَرْحَباً بِكِ يَا أُمَّ هَانِئٍ وَ أَهْلاً » قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، أَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَقِيتُ مِنْ عَلِيٍّ اَلْيَوْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله «قَدْ أَجَرْتُ مَنْ أَجَرْتِ» فَقَالَتْ فَاطِمَةُ علیها
ص: 137
السلام: «إِنَّمَا جِئْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ تَشْتَكِينَ عَلِيّاً فِي أَنَّهُ أَخَافَ أَعْدَاءَ اَللَّهِ وَ أَعْدَاءَ رَسُولِهِ!» فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «قَدْ شَكَرَ اَللَّهُ لِعَلِيٍّ سَعْيَهُ، وَ أَجَرْتُ مَنْ أَجَارَتْ أُمُّ هَانِئٍ لِمَكَانِهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ»
وَ لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلْمَسْجِدَ، وَجَدَ فِيهِ ثَلاَثَمِائَةٍ وَ سِتِّينَ صَنَماً، بَعْضُهَا مَشْدُودٌ بِبَعْضٍ بِالرَّصَاصِ، فَقَالَ لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :«أَعْطِنِي يَا عَلِيُّ كَفّاً مِنَ اَلْحَصَى» فَقَبَضَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ كَفّاً فَنَاوَلَهُ، فَرَمَاهَا بِهِ وَ هُوَ يَقُولُ (قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ إِنَّ اَلْبٰاطِلَ كٰانَ زَهُوقاً)(1) فَمَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلاَّ خَرَّ لِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ مِنَ اَلْمَسْجِدِ فَطُرِحَتْ وَ كُسِرَتْ .
فصل
و فيما ذكرناه من أعمال أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في قَتْل من قَتَل من أعداء الله بمكَة ، و إخافة من أخاف، و معونةِ (2)رسول الله صلّی الله علیه و آله على تطهير المسجد من الأصنام، و شدّةِ بأسه في الله، و قطع الأرحام في طاعة الله أدلُّ دليلٍ على تَخَصُّصِه من الفَضْل بما لم يكن لِأَحدٍ منهم سهم فيه، حَسَبَ ما قدَّمناه.
ص: 138
فصل
ثُّمّ اتصل بفتح مَكّة إنفاذُ رسول الله صلّی الله علیه و آله خالدَ بن الوَليدُ إِلَى بني جَذِيمة بن عامر - و كانوا بالغُمَيْصاء (1)- يدعوهم إِلَى الله عزَّ و جلّ، و إنّما أَنّفذه (2)إليهم للترَة (3)الّتي كانت بينه و بينهم.
وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصَابُوا فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ نِسْوَةً مِنْ بَنِي اَلْمُغِيرَةِ، وَ قَتَلُوا اَلْفَاكِهَ بْنَ اَلْمُغِيرَةِ - عَمَّ خَالِدِ بْنِ اَلْوَلِيدِ - وَ قَتَلُوا عَوْفاً -أَبَا عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِذَلِكَ، وَ أَنْفَذَ مَعَهُ عَبْدَ اَلرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لِلتِّرَةِ أَيْضاً اَلَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُمْ، وَ لَوْ لاَ ذَلِكَ مَا رَأَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله خَالِداً أَهْلاً لِلْإِمَارَةِ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَ خَالَفَ فِيهِ عَهْدَ اَللَّهِ وَ عَهْدَ رَسُولِهِ، وَ عَمِلَ فِيهِ عَلَى سُنَّةِ اَلْجَاهِلِيَّةِ، وَ اِطَّرَحَ حُكْمَ اَلْإِسْلاَمِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَبَرَأَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِنْ صَنِيعِهِ، وَ تَلاَفَى فَارِطَهُ بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ. و قد شَرَحنا من ذلكَ في ما سلف ما يُغني عن تكراره في هذا المكان.
ص: 139
فصل
ثُمَّ كَانَتْ غَزَاةُ حُنَيْنٍ حِينَ اِسْتَظْهَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِيهَا بِكَثْرَةِ اَلْجَمْعِ، فَخَرَجَ عَلَیْهِ السَّلامُ مُتَوَجِّهاً إِلَى اَلْقَوْمِ فِي عَشَرَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، فَظَنَّ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ لَنْ يُغْلَبُوا لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ جَمْعِهِمْ وَ كَثْرَةِ عِدَّتِهِمْ وَ سِلاَحِهِمْ، وَ أَعْجَبَ أَبَا بَكْرٍ اَلْكَثْرَةُ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: لَنْ نُغْلَبَ اَلْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، فَكَانَ اَلْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا ظَنُّوهُ، وَ عَانَهُمْ (1)أَبُو بَكْرٍ بِعُجْبِهِ بِهِمْ.
فَلَمَّا اِلْتَقَوْا مَعَ اَلْمُشْرِكِينَ لَمْ يَلْبَثُوا حَتَّى اِنْهَزَمُوا بِأَجْمَعِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله إِلاَّ عَشَرَةُ أَنْفُسٍ: تِسْعَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ خَاصَّةً، وَ عَاشِرُهُمْ أَيْمَنُ، اِبْنُ أُمِّ أَيْمَنَ فَقُتِلَ أَيْمَنُ - رَحِمَهُ اَللَّهُ - وَ ثَبَتَ اَلتِّسْعَةُ اَلْهَاشِمِيُّونَ حَتَّى ثَابَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَنْ كَانَ اِنْهَزَمَ، فَرَجَعُوا أَوَّلاً فَأَوَّلاً، حَتَّى تَلاَحَقُوا، وَ كَانَتِ اَلْكَرَّةُ لَهُمْ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ .
وَ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى وَ فِي إِعْجَابِ أَبِي بَكْرٍ بِالْكَثْرَةِ (وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضٰاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمٰا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ
ص: 140
رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ)(1) يَعْنِي أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَئِذٍ وَ هُمْ ثَمَانِيَةٌ - أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ تَاسِعُهُمْ -
اَلْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اَللَّهِ .
وَ اَلْفَضْلُ بْنُ اَلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ عَنْ يَسَارِهِ.
وَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ اَلْحَارِثِ مُمْسِكٌ بِسَرْجِهِ عِنْدَ ثَفَر (2) . َبَغْلَتِهِ.
وَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسَّيْفِ.
وَ نَوْفَلُ بْنُ اَلْحَارِثِ وَ رَبِيعَةُ بْنُ اَلْحَارِثِ، وَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، وَ عُتْبَةُ وَ مُعَتِّبٌ اِبْنَا أَبِي لَهَبٍ حَوْلَهُ.
وَ قَدْ وَلَّتِ اَلْكَافَّةُ مُدْبِرِينَ سِوَى مَنْ ذَكَرْنَاهُ، وَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ اَلْغَافِقِيُّ
لَمْ يُوَاسِ اَلنَّبِيَّ غَيْرُ بَنِي هَا *** شِمٍ عِنْدَ اَلسُّيُوفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ
هَرَبَ اَلنَّاسُ غَيْرَ تِسْعَةِ رَهْطٍ *** فَهُمْ يَهْتِفُونَ بِالنَّاسِ أَيْنَ
ثُمَّ قَامُوا مَعَ اَلنَّبِيِّ عَلَى اَلْمَوْتِ *** فَآبُوا زَيْناً لَنَا غَيْرَ شَيْنٍ
وَ ثَوَى أَيْمَنُ اَلْأَمِينُ مِنَ اَلْقَوْ *** مِ شَهِيداً فَاعْتَاضَ قُرَّةَ عَيْنٍ.
وَ قَالَ اَلْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا اَلْمَقَامِ:
نَصَرْنَا رَسُولَ اَللَّهِ فِي اَلْحَرْبِ تِسْعَةً *** وَ قَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا
ص: 141
وَ قَوْلِي إِذَا مَا اَلْفَضْلُ شَدَّ بِسَيْفِهِ *** عَلَى اَلْقَوْمِ أُخْرَى - يَا بُنَيَّ - لِيَرْجِعُوا
وَ عَاشِرُنَا لاَقَى اَلْحِمَامَ بِنَفْسِهِ *** لِمَا نَالَهُ فِي اَللَّهِ لاَ يَتَوَجَّعُ.
يَعْنِي بِهِ أَيْمَنَ اِبْنَ أُمِّ أَيْمَنَ .
وَ لَمَّا رَأَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله هَزِيمَةَ اَلْقَوْمِ عَنْهُ، قَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ - وَ كَانَ رَجُلاً جَهْوَرِيّاً صَيِّتاً - «نَادِ فِي اَلْقَوْمِ وَ ذَكِّرْهُمُ اَلْعَهْدَ» فَنَادَى اَلْعَبَّاسُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَهْلَ بَيْعَةِ اَلشَّجَرَةِ (1) يَا أَصْحَابَ سُورَةِ اَلْبَقَرَةِ (2) إِلَى أَيْنَ تَفِرُّونَ ؟ اُذْكُرُوا اَلْعَهْدَ اَلَّذِي عَاهَدْتُمْ (3)عَلَيْهِ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، وَ اَلْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ قَدْ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَ كَانَتْ لَيْلَةً ظَلْمَاءَ، وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فِي اَلْوَادِي وَ اَلْمُشْرِكُونَ قَدْ خَرَجُوا عَلَيْهِ مِنْ شِعَابِ اَلْوَادِي وَ جَنَبَاتِهِ وَ مَضَايِقِهِ مُصْلِتِينَ بِسُيُوفِهِمْ وَ عُمُدِهِمْ وَ قِسِيِّهِمْ.
قَالُوا: فَنَظَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِلَى اَلنَّاسِ بِبَعْضِ وَجْهِهِ فِي اَلظَّلْمَاءِ، فَأَضَاءَ كَأَنَّهُ اَلْقَمَرُ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ. ثُمَّ نَادَى اَلْمُسْلِمِينَ: «أَيْنَ مَا عَاهَدْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْهِ؟» فَأَسْمَعَ أَوَّلَهُمْ وَ آخِرَهُمْ ، فَلَمْ يَسْمَعْهَا رَجُلٌ إِلاَّ رَمَى بِنَفْسِهِ إِلَى اَلْأَرْضِ فَانْحَدَرُوا إِلَى حَيْثُ كَانُوا مِنَ اَلْوَادِي، حَتَّى لَحِقُوا بِالْعَدُوِّ فَوَاقَعُوهُ.
قَالُوا: وَ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ اَلْقَوْمِ، إِذَا أَدْرَكَ ظَفَراً مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ
ص: 142
أَكَبَّ عَلَيْهِمْ، وَ إِذَا فَاتَهُ اَلنَّاسُ رَفَعَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَاتَّبَعُوهُ، وَ هُوَ يَرْتَجِزُ وَ يَقُولُ:
أَنَا أَبُو جَرْوَلٍ لاَ بَرَاحَ *** حَتَّى نُبِيحَ اَلْقَوْمَ (1)أَوْ نُبَاحَ.
فَصَمَدَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَضَرَبَ عَجُزَ بَعِيرِهِ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَطَّرَهُ (2)،ثُمَّ قَالَ:
قَدْ عَلِمَ اَلْقَوْمُ لَدَى اَلصَّبَاحِ *** أَنِّي فِي اَلْهَيْجَاءِ ذُو نَصَاحٍ.
فَكَانَتْ هَزِيمَةُ اَلْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ أَبِي جَرْوَلٍ لَعَنَهُ اَللَّهُ.
ثُمَّ اِلْتَأَمَ اَلْمُسْلِمُونَ وَ صَفُّوا لِلْعَدُوِّ، فَقَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «اَللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَ قُرَيْشٍ نَكَالاً فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالاً» وَ تَجَالَدَ اَلْمُسْلِمُونَ وَ اَلْمُشْرِكُونَ، فَلَمَّا رَآهُمُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ قَامَ فِي رِكَابَيْ سَرْجِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَ قَالَ: اَلْآنَ حَمِيَ اَلْوَطِيسُ (3)
أَنَا اَلنَّبِيُّ لاَ كَذِبَ *** أَنَا بْنُ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ .
فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ وَلَّى اَلْقَوْمُ أَدْبَارَهُمْ، وَ جِيءَ بِالْأَسْرَى إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مُكَتَّفِينَ.
ص: 143
وَ لَمَّا قَتَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ أَبَا جَرْوَلٍ وَ خُذِلَ اَلْقَوْمُ لِقَتْلِهِ، وَضَعَ اَلْمُسْلِمُونَ سُيُوفَهُمْ فِيهِمْ، وَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقْدُمُهُمْ حَتَّى قَتَلَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنَ اَلْقَوْمِ، ثُمَّ كَانَتِ اَلْهَزِيمَةُ وَ اَلْأَسْرُ حِينَئِذٍ، وَ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ اَلْغَزَاةِ، فَانْهَزَمَ فِي جُمْلَةِ مَنِ اِنْهَزَمَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ .
فَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ أَبِي مُنْهَزِماً مَعَ بَنِي أَبِيهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَصِحْتُ بِهِ: يَا اِبْنَ حَرْبٍ وَ اَللَّهِ مَا صَبَرْتَ مَعَ اِبْنِ عَمِّكَ، وَ لاَ قَاتَلْتَ عَنْ دِينِكَ، وَ لاَ كَفَفْتَ هَؤُلاَءِ اَلْأَعْرَابَ عَنْ حَرِيمِكَ. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مُعَاوِيَةُ، قَالَ: اِبْنُ هِنْدٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، ثُمَّ وَقَفَ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَ اِنْضَمَمْتُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ حَمَلْنَا عَلَى اَلْقَوْمِ فَضَعْضَعْنَاهُمْ، وَ مَا زَالَ اَلْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ يَأْسِرُونَ مِنْهُمْ حَتَّى اِرْتَفَعَ اَلنَّهَارُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِالْكَفِّ عَنْهُ وَ نَادَى: أَنْ لاَ يُقْتَلَ أَسِيرٌ مِنَ اَلْقَوْمِ.
وَ كَانَتْ هُذَيْلٌ بَعَثَتْ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ اِبْنُ اَلْأَكْوَعِ (1)أَيَّامَ اَلْفَتْحِ عَيْناً عَلَى اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ حَتَّى عَلِمَ عِلْمَهُ، فَجَاءَ إِلَى هُذَيْلٍ بِخَبَرِهِ فَأُسِرَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَمَرَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَآهُ أَقْبَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ اَلْأَنْصَارِ وَ قَالَ: عَدُوُّ اَللَّهِ اَلَّذِي كَانَ عَيْناً عَلَيْنَا، هَا هُوَ أَسِيرٌ فَاقْتُلْهُ، فَضَرَبَ اَلْأَنْصَارِيُّ عُنُقَهُ، وَ بَلَغَ ذَلِكَ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله فَكَرِهَهُ وَ قَالَ: «أَ لَمْ آمُرْكُمْ أَنْ لاَ تَقْتُلُوا أَسِيراً!».
ص: 144
وَ قُتِلَ بَعْدَهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ زُهَيْرٍ وَ هُوَ أَسِيرٌ.
فَبَعَثَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَى اَلْأَنْصَارِ وَ هُوَ مُغْضَبٌ فَقَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَ قَدْ جَاءَكُمُ اَلرَّسُولُ أَلاَّ تَقْتُلُوا أَسِيراً؟» فَقَالُوا: إِنَّمَا قَتَلْنَا بِقَوْلِ عُمَرَ . فَأَعْرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ فِي اَلصَّفْحِ عَنْ ذَلِكَ.
وَ قَسَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي قُرَيْشٍ خَاصَّةً، وَ أَجْزَلَ اَلْقِسْمَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَ اَلْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَ هِشَامِ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ، وَ اَلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ فِي أَمْثَالِهِمْ.
وَ قِيلَ: إِنَّهُ جَعَلَ لِلْأَنْصَارِ شَيْئاً يَسِيراً، وَ أَعْطَى اَلْجُمْهُورَ لِمَنْ سَمَّيْنَاهُ، فَغَضِبَ قَوْمٌ مِنَ اَلْأَنْصَارِ لِذَلِكَ، وَ بَلَغَ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَنْهُمْ مَقَالٌ سَخِطَهُ، فَنَادَى فِيهِمْ فَاجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ: لَهُمُ:
«اِجْلِسُوا، وَ لاَ يَقْعُدُ مَعَكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ» فَلَمَّا قَعَدُوا جَاءَ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ يَتْبَعُهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ حَتَّى جَلَسَ وَسْطَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَجِيبُونِي عَنْهُ » فَقَالُوا قُلْ يَا رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ:
«أَ لَسْتُمْ كُنْتُمْ ضَالِّينَ فَهَدَاكُمُ اَللَّهُ بِي؟ فَقَالُوا: بَلَى، فَلِلَّهِ اَلْمِنَّةُ وَ لِرَسُولِهِ.
قَالَ: «أَ لَمْ تَكُونُوا عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ، فَأَنْقَذَكُمْ اَللَّهُ بِي؟ قَالُوا بَلَى، فَلِلَّهِ اَلْمِنَّةُ وَ لِرَسُولِهِ. . قَالَ: «أَ لَمْ تَكُونُوا قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمُ اَللَّهُ بِي؟ قَالُوا بَلَى، فَلِلَّهِ اَلْمِنَّةُ وَ لِرَسُولِهِ. قَالَ: «أَ لَمْ تَكُونُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اَللَّهُ
ص: 145
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟ قَالُوا: بَلَى،فَلِلَّهِ اَلْمِنَّةُ وَ لِرَسُولِهِ.
ثُمَّ سَكَتَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ: «أَ لاَ تُجِيبُونِي بِمَا عِنْدَكُمْ؟» قَالُوا: بِمَ نُجِيبُكَ فِدَاكَ آبَاؤُنَا وَ أُمَّهَاتُنَا، قَدْ أَجَبْنَاكَ بِأَنَّ لَكَ اَلْفَضْلَ وَ اَلْمَنَّ وَ اَلطَّوْلَ عَلَيْنَا. قَالَ: «أَمْ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: وَ أَنْتَ قَدْ كُنْتَ جِئْتَنَا طَرِيداً فَآوَيْنَاكَ، وَ جِئْتَنَا خَائِفاً فَآمَنَّاكَ، وَ جِئْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ»
فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْبُكَاءِ وَ قَامَ شُيُوخُهُمْ وَ سَادَاتُهُمْ إِلَيْهِ فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَ رِجْلَيْهِ، قَالُوا بَلَى، ثُمَّ قَالُوا: رَضِينَا بِاللَّهِ وَ عَنْهُ، وَ بِرَسُولِهِ وَ عَنْهُ، وَ هَذِهِ أَمْوَالُنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ، وَ إِنَّمَا قَالَ: مَنْ قَالَ: مِنَّا عَلَى غَيْرِ وَغْرِ صَدْرٍ (1)وَ غِلٌّ ٍّ فِي قَلْبٍ، وَ لَكِنَّهُمْ ظَنُّوا سَخَطاً عَلَيْهِمْ وَ تَقْصِيراً بِهِمْ وَ قَدِ اِسْتَغْفَرُوا اَللَّهَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَ لِأَبْنَاءِ اَلْأَنْصَارِ. وَ لِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ اَلْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ اَلْأَنْصَارِ أَ مَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ غَيْرُكُمْ بِالشَّاةِ وَ اَلنَّعَمِ، وَ تَرْجِعُونَ أَنْتُمْ وَ فِي سَهْمِكُمْ رَسُولُ اَللَّهِ؟» قَالُوا: بَلَى رَضِينَا فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «اَلْأَنْصَارُ كَرِشِي وَ عَيْبَتِي (2)،لَوْ سَلَكَ اَلنَّاسُ وَادِياً وَ سَلَكَتِ اَلْأَنْصَارُ ،شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ اَلْأَنْصَارِ اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ».
وَ قَدْ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَعْطَى اَلْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَرْبَعاً مِنَ اَلْإِبِلِ يَوْمَئِذٍ فَسَخِطَهَا، وَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
ص: 146
(أَ تَجْعَلُ نَهْبِي) (1)وَ نَهْبَ اَلْعُبَيْ *** دِ (2) بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَ اَلْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَ لاَ حَابِسٌ *** يَفُوقَانِ شَيْخِي فِي اَلْمَجْمَعِ
وَ مَا كُنْتُ دُونَ اِمْرِئٍ مِنْهُمَا *** وَ مَنْ تَضَعِ اَلْيَوْمَ لاَ يُرْفَعْ
فَبَلَغَ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله قَوْلُهُ فَاسْتَحْضَرَهُ وَ قَالَ لَهُ : «أَنْتَ اَلْقَائِلُ:
أَ تَجْعَلُ نَهْبِي وَ نَهْبَ اَلْعُبَيْ *** دِ بَيْنَ اَلْأَقْرَعِ وَ عُيَيْنَةَ»
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، لَسْتَ بِشَاعِرٍ، قَالَ: «وَ كَيْفَ؟» قالَ، قَالَ:بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَ اَلْأَقْرَعِ
فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ:«قُمْ - يَا عَلِيُّ - إِلَيْهِ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ»(3)
قَالَ: فَقَالَ اَلْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: فَوَ اَللَّهِ لَهَذِهِ اَلْكَلِمَةُ كَانَتْ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ يَوْمِ خَثْعَمٍ حِينَ أَتَوْنَا فِي دِيَارِنَا. فَأَخَذَ بِيَدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي، طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَانْطَلَقَ بِي، وَ لَوْ أَرَى أَنَّ أَحَداً يُخَلِّصُنِي مِنْهُ لَدَعَوْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا
ص: 147
عَلِيُّ ، إِنَّكَ لَقَاطِعٌ لِسَانِي؟ قَالَ: «إِنِّي لَمُمْضٍ فِيكَ مَا أُمِرْتُ».
قَالَ: ثُمَّ مَضَى بِي فَقُلْتُ: يَا عَلِيُّ إِنَّكَ لَقَاطِعٌ لِسَانِي؟ قَالَ: «إِنِّي لَمُمْضٍ فِيكَ مَا أُمِرْتُ» قَالَ: فَمَا زَالَ بِي حَتَّى أَدْخَلَنِي اَلْحَظَائِرَ (1)فَقَالَ لِي: «اِعْتَدَّ مَا بَيْنَ أَرْبَعٍ إِلَى مِائَةٍ» قَالَ، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، مَا أَكْرَمَكُمْ وَ أَحْلَمَكُمْ وَ أَعْلَمَكُمْ!
قَالَ: فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَعْطَاكَ أَرْبَعاً وَ جَعَلَكَ مَعَ اَلْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ شِئْتَ فَخُذْهَا، وَ إِنْ شِئْتَ فَخُذِ اَلْمِائَةَ وَ كُنْ مَعَ أَهْلِ اَلْمِائَةِ»
قَالَ، قُلْتُ أَشِرْ عَلَيَّ قَالَ: «فَإِنِّي آمُرُكَ أَنْ تَأْخُذَ مَا أَعْطَاكَ وَ تَرْضَى»
قُلْتُ: فَإِنِّي أَفْعَلُ .
فصل
وَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ طُوَالٌ آدَمُ أَجْنَأُ (2)، بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ اَلسُّجُودِ، فَسَلَّمَ وَ لَمْ يَخُصَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُكَ وَ مَا صَنَعْتَ فِي هَذِهِ اَلْغَنَائِمِ. قَالَ:
«وَ كَيْفَ رَأَيْتَ؟» قَالَ: لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ. فَغَضِبَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه
ص: 148
و آله وَ قَالَ: «وَيْلَكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ اَلْعَدْلُ عِنْدِي فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ!»
فَقَالَ: اَلْمُسْلِمُونَ: أَ لاَ نَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: «دَعُوهُ سَيَكُونُ لَهُ أَتْبَاعٌ يَمْرُقُونَ مِنَ اَلدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ اَلسَّهْمُ مِنَ اَلرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُهُمُ اَللَّهُ عَلَى يَدِ أَحَبِّ اَلْخَلْقِ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِي»
فَقَتَلَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فِيمَنْ قَتَلَ يَوْمَ اَلنَّهْرَوَانِ مِنَ اَلْخَوَارِجِ .
فصل
فانظر الآن إِلَى مناقب أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في هذه الغَزاة، و تأَمَّلها و فَكِّرْ في معانَيها، تجده عَلَیْهِ السَّلامُ قد تَوَلَّى كلَّ فضلٍ كانَ فيها، و اختَصَّ من ذلكَ بما لم يَشْرَكه فيه أحدٌ من الأُمَّة.
و ذلكَ أَنّه عَلَیْهِ السَّلامُ ثَبَتَ مَعَ النبيُّ صلّی الله علیه و آله عند انهزامِ كافَّةِ النّاس، إلّا النَفَر الذين كانَ ثبوتُهم بثبوته عَلَیْهِ السَّلامُ.
و ذلكَ أَنّا قد أحطنا عِلْمَا بتقدُّمه عَلَیْهِ السَّلامُ في الشجاعة و البَأْس و الصَبر و النَجْدة، على العبّاس و الفَضْل - ابنه - و أبي سُفيان بن الحارِث، و النَفَر الباقين لظُهُورِ أمرُه في المقامُات الّتي لم يَحْضرْها أحدٌ منهم، و اشتهار خَبَرُه في مُنازَلَةِ الأَقران و قَتْل الأَبطال، و لم يُعرَف لِأَحدٍ من هؤلاء مقامُ من مقامُاته، و لا قَتيلٌ عُزِيَ إليهم بالذِكر.
فعُلِمَ بذلكَ أَنّ ثبوتُهم كانَ به عَلَیْهِ السَّلامُ و لولاه كانت
ص: 149
الجنِّايةُ على الدين لا تُتَلافى، و أَنّ بمَقامه ذلكَ المَقام و صَبرِه مَعَ النبيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ كانَ رُجُوعُ المسلمين إِلَى الحَرْب و تشجُّعِهم في لقاء العَدُوٍّ.
ثُّمّ كانَ مِن قَتْلُه أبا جَرْوَل متقدّمَ المشركين ما كانَ هو السببَ في هَزيمة القَوْم و ظَفَر المسلمين بِهِم، و كانَ من قَتْلُه عَلَیْهِ السَّلامُ الأربعين الذين تَوَلَّى قَتْلَهم الوهنُ على المشركين و سببُ خذلانهم و هَلَعِهم، و ظَفَر المسلمين بِهِم، و كانَ من بَلِيَّةِ المتقدّمَ عليه في مقامُ الخِلافةِ من بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله أَنّ عانَ المسلمينَ بإعجابه بالكَثرةِ، فكانَت هَزيمتُهم بسبب ذلكَ، أو كانَ أحدٌ أسبابها.
ثُّمّ كانَ من صاحبَه في قَتَل الأسرى من القَوْم و قد نَهَى النبيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ عن قَتْلَهم، ما ارتكب به عظيمَ الخلاف لله تعالى و لرسوله، حتّى أغضبه ذلكَ و آسَفَه فأَنّكره و أكبره.
و كانَ من صَلاح أمر الأَنّصار بمعونته للنبيُّ صلّی الله علیه و آله في جمعهم و خطابهم، ما قَوِيَ به الدين و زال به الخوفُ من الفتنة الّتي أظلت القَوْم بسبب القسمة، فساهم رسول الله صلّی الله علیه و آله في فضل ذلكَ و شركه فيه دونَ من سواه.
و تَوَلَّى من أمر العبّاس بن مِرداس ما كانَ سببَ استقرار الإيمان في قلبه و زَوال الرَيْب في الدين من نفسه، و الانقياد إِلَى رسول الله صلّی الله علیه و آله و الطاعة لأَمره و الرضا بحكمه.
ثُّمّ جَعَلَ رسولُ الله صلّی الله علیه و آله الحُكْمَ على المُعترِض في قضائه عَلَماً على حق أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في فعاله، و صوابه في
ص: 150
حَرُوبه، و نَبَّه على وجوب طاعته و حَظْرِ معصيته، و أَنّ الحَقَّ في حَيِّزه و جَنْبَتِه، و شَهِدَ له بأَنّه خيرُ الخليقة.
و هذا يُباين ما كانَ من خُصومة الغاصبين لمقامُه من الفعال، و يُضادُّ ما كانوا عليه من الأعمال، و يُخْرِجُهم من الفَضْل إِلَى النَقْص الذي يُوبِقُ صاحبَه - أو يكاد - فضلاً عن سُمُّوه على أعمال المُخْلِصين في تلكَ الغَزاة و قُرْبهم بالجهاد الذي تَوَلَّوه، فبانوا به ممّن ذكرناه بالتقصير الذي وصفناه.
فصل
وَ لَمَّا فَضَّ اَللَّهُ تَعَالَى جَمْعَ اَلْمُشْرِكِينَ بِحُنَيْنٍ، تَفَرَّقُوا فِرْقَتَيْنِ: فَأَخَذَتِ اَلْأَعْرَابُ وَ مَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى أَوْطَاسٍ (1)، وَأَخَذَتْ ثَقِيفٌ وَ مَنْ تَبِعَهَا إِلَى اَلطَّائِفِ. فَبَعَثَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله أَبَا عَامِرٍ اَلْأَشْعَرِيَّ إِلَى أَوْطَاسٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى اَلْأَشْعَرِيُّ، وَ بَعَثَ أَبَا سُفْيَانَ صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ إِلَى اَلطَّائِفِ .
فَأَمَّا أَبُو عَامِرٍ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ بِالرَّايَةِ وَ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ اَلْمُسْلِمُونَ لِأَبِي مُوسَى: أَنْتَ اِبْنُ عَمِّ اَلْأَمِيرِ وَ قَدْ قُتِلَ، فَخُذِ اَلرَّايَةَ حَتَّى نُقَاتِلَ دُونَهَا، فَأَخَذَهَا أَبُو مُوسَى، فَقَاتَلَ اَلْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَ أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَإِنَّهُ لَقِيَتْهُ ثَقِيفٌ فَضَرَبُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَانْهَزَمَ وَ رَجَعَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: بَعَثْتَنِي مَعَ قَوْمٍ لاَ يُرْقَعُ بِهِمُ
ص: 151
اَلدِّلاَءُ مِنْ هُذَيْلٍ وَ اَلْأَعْرَابِ فَمَا أَغْنَوْا عَنِّي شَيْئاً فَسَكَتَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله عَنْهُ.
ثُمَّ سَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى اَلطَّائِفِ، فَحَاصَرَهُمْ أَيَّاماً، وَ أَنْفَذَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي خَيْلٍ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَطَأَ مَا وَجَدَ وَ يَكْسِرَ كُلَّ صَنَمٍ وَجَدَهُ.
فَخَرَجَ حَتَّى لَقِيَتْهُ خَيْلُ خَثْعَمٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ اَلْقَوْمِ يُقَالُ لَهُ شِهَابٌ، فِي غَبَشِ اَلصُّبْح ِ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَنْ لَهُ؟» فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَوَثَبَ أَبُو اَلْعَاصِ بْنُ اَلرَّبِيعِ زَوْجُ بِنْتِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: تُكْفَاهُ أَيُّهَا اَلْأَمِيرُ، فَقَالَ:«لاَ،وَ لَكِنْ إِنْ قُتِلْتُ فَأَنْتَ عَلَى اَلنَّاسِ» فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ هُوَ يَقُولُ:
إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ حَقّاً *** أَنْ يَرْوِيَ اَلصَّعْدَةَ (1)أَوْ تُدَقَّا (2).
ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَ مَضَى فِي تِلْكَ اَلْخَيْلِ حَتَّى كَسَرَ اَلْأَصْنَامَ، وَ عَادَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ هُوَ مُحَاصِرٌ لِأَهْلِ اَلطَّائِفِ.
فَلَمَّا رَآهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله كَبَّرَ لِلْفَتْحِ، وَ أَخَذَ بِيَدِهِ فَخَلاَ بِهِ وَ نَاجَاهُ طَوِيلاً .
ص: 152
فَرَوَى عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ سَيَابَةَ وَ اَلْأَجْلَحُ - جَمِيعاً - عَنْ أَبِي اَلزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لَمَّا خَلاَ بِعَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ يَوْمَ اَلطَّائِفِ، أَتَاهُ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ فَقَالَ: أَ تُنَاجِيهِ دُونَنَا وَ تَخْلُو بِهِ دُونَنَا فَقَالَ: «يَا عُمَرُ» مَا أَنَا اِنْتَجَيْتُهُ، بَلِ اَللَّهُ اِنْتَجَاهُ» (1)
قَالَ: فَأَعْرَضَ عُمَرُ وَ هُوَ يَقُولُ: هَذَا كَمَا قُلْتَ لَنَا قَبْلَ اَلْحُدَيْبِيَةِ: (لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ) (2) فَلَمْ نَدْخُلْهُ وَ صُدِدْنَا عَنْهُ، فَنَادَاهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَدْخُلُونَهُ فِي ذَلِكَ اَلْعَامِ». (3)
ثُّمّ خَرَجَ من حِصْن الطائفَ نافع بن غيلان بن مُعْتِب في خَيْلٍ من ثَقِيفٍ، فلَقِيَه أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بِبَطْن وج (4)فقَتْلُه، و انهزم المشركون و لَحِقَ القَوْم الرعبُ، فنَزَل منهم جماعةُ إِلَى النبيُّ صلّی الله علیه و آله فأسلموا، و كانَ حصار النبيُّ صلّی الله علیه و آله الطائفَ بَضْعَةَ عشر يوماً .
ص: 153
فصل
و هذه الغَزاةُ أيضاً مِمَّا خَصَّ الله تعالى فيها أَميرَالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بما انفرد به من كافَّة النّاس، و كانَ الفَتْحُ فيها على يده، و قَتْلِ من قُتِلَ من خَثْعم به دونَ سواه، و حَصَلَ له من المناجاة الّتي أضافها رسول الله صلّی الله علیه و آله إِلَى الله - عزَّ اِسْمُهَ - ما ظَهَرَ به من فضله و خصوصيَّته من الله تعالى بما بَانَ به من كافَّةَ الخلق، و كانَ من عدوه فيها ما دلَّ على باطنه و كَشَفَ الله تعالى به عن حقيقة سِرِّه و ضميره، و في ذلكَ عبرة لأوّلَي الأَلباب.
فصل
ثُمَّ كَانَتْ غَزَاةُ تَبُوكَ فَأَوْحَى اَللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى اِسْمُهُ إِلَى نَبِيِّهِ صلّی الله علیه و آله: أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، وَ يَسْتَنْفِرَ اَلنَّاسَ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، وَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى حَرْبٍ، وَ لاَ يُمْنَى بِقِتَالِ عَدُوٍّ، وَ أَنَّ اَلْأُمُورَ تَنْقَادُ لَهُ بِغَيْرِ سَيْفٍ، وَ تَعَبَّدَهُ بِامْتِحَانِ أَصْحَابِهِ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ وَ اِخْتِبَارِهِمْ، لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ وَ تَظْهَرَ سَرَائِرُهُمْ.
فَاسْتَنْفَرَهُمُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله إِلَى بِلاَدِ اَلرُّومِ، وَ قَدْ أَيْنَعَتْ ثِمَارُهُمْ وَ اِشْتَدَّ اَلْقَيْظُ عَلَيْهِمْ، فَأَبْطَأَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ رَغْبَةً فِي اَلْعَاجِلِ، وَ حِرْصاً عَلَى اَلْمَعِيشَةِ وَ إِصْلاَحِهَا، وَ خَوْفاً مِنْ شِدَّةِ اَلْقَيْظِ
ص: 154
وَ بُعْدِ اَلْمَسَافَةِ (1)وَ لِقَاءِ اَلْعَدُوِّ، ثُمَّ نَهَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى اِسْتِثْقَالٍ لِلنُّهُوضِ وَ تَخَلَّفَ آخَرُونَ.
وَ لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلْخُرُوجَ اِسْتَخْلَفَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي أَهْلِهِ وَ وُلْدِهِ وَ أَزْوَاجِهِ وَ مُهَاجَرِهِ، وَ قَالَ لَهُ، «يَا عَلِيُّ إِنَّ اَلْمَدِينَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ بِي أَوْ بِكَ»
وَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلِمَ مِنْ خُبْثِ نِيَّاتِ اَلْأَعْرَابِ، وَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَ مَنْ حَوْلَهَا، مِمَّنْ غَزَاهُمْ وَ سَفَكَ دِمَاءَهُمْ، فَأَشْفَقَ أَنْ يَطْلُبُوا اَلْمَدِينَةَ عِنْدَ نَأْيِهِ عَنْهَا وَ حُصُولِهِ بِبِلاَدِ اَلرُّومِ أَوْ نَحْوِهَا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ مَعَرَّتِهِمْ، وَ إِيقَاعِ اَلْفَسَادِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ، وَ اَلتَّخَطِّي إِلَى مَا يَشِينُ أَهْلَهُ وَ مُخَلَّفِيهِ.
وَ عَلِمَ عَلَیْهِ السَّلامُ أَنَّهُ لاَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إِرْهَابِ اَلْعَدُوِّ وَ حِرَاسَةِ دَارِ اَلْهِجْرَةِ وَ حِيَاطَةِ مَنْ فِيهَا ، إِلاَّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَاسْتَخْلَفَهُ اِسْتِخْلاَفاً ظَاهِراً، وَ نَصَّ عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِهِ نَصّاً جَلِيّاً.
وَ ذَلِكَ فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ اَلرِّوَايَةُ أَنَّ أَهْلَ اَلنِّفَاقِ لَمَّا عَلِمُوا بِاسْتِخْلاَفِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلْمَدِينَةِ، حَسَدُوهُ لِذَلِكَ وَ عَظُمَ عَلَيْهِمْ مُقَامُهُ فِيهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ، وَ عَلِمُوا أَنَّهَا تَنْحَرِسُ بِهِ، وَ لاَ يَكُونُ لِلْعَدُوِّ فِيهَا مَطْمَعٌ، فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَ كَانُوا يُؤْثِرُونَ خُرُوجَهُ مَعَهُ، لِمَا يَرْجُونَهُ مِنْ وُقُوعِ اَلْفَسَادِ وَ اَلاِخْتِلاَطِ عِنْدَ نَأْيِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله عَنِ اَلْمَدِينَةِ، وَ خُلُوِّهَا مِنْ مَرْهُوبٍ مَخُوفٍ يَحْرُسُهَا.
ص: 155
وَ غَبَطُوهُ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلرَّفَاهِيَةِ وَ اَلدَّعَة ِ بِمُقَامِهِ فِي أَهْلِهِ، وَ تَكَلُّفِ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمُ اَلْمَشَاقَّ بِالسَّفَرِ وَ اَلْخَطَرِ.
فَأَرْجَفُوا بِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالُوا: لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِكْرَاماً لَهُ وَ إِجْلاَلاً وَ مَوَدَّةً، وَ إِنَّمَا خَلَّفَهُ اِسْتِثْقَالاً لَهُ. فَبَهَتُوهُ بِهَذَا اَلْإِرْجَافِ كَبَهْتِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالْجِنَّةِ تَارَةً، وَ بِالشِّعْرِ أُخْرَى، وَ بِالسِّحْرِ مَرَّةً، وَ بِالْكِهَانَةِ أُخْرَى. وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ضِدَّ ذَلِكَ وَ نَقِيضَهُ، كَمَا عَلِمَ اَلْمُنَافِقُونَ ضِدَّ مَا أَرْجَفُوا بِهِ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ خِلاَفَهُ، وَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله كَانَ أَخَصَّ اَلنَّاسِ بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، وَ كَانَ هُوَ أَحَبَّ اَلنَّاسِ إِلَيْهِ وَ أَسْعَدَهُمْ عِنْدَهُ وَ أَفْضَلَهُمْ لَدَيْهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِرْجَافُ اَلْمُنَافِقِينَ بِهِ، أَرَادَ تَكْذِيبَهُمْ وَ إِظْهَارَ فَضِيحَتِهِمْ ، فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي اِسْتِثْقَالاً وَ مَقْتاً! فَقَالَ لَهُ : رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: اِرْجِعْ يَا أَخِي إِلَى مَكَانِكَ، فَإِنَّ اَلْمَدِينَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ بِي أَوْ بِكَ، فَأَنْتَ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي وَ دَارِ هِجْرَتِي وَ قَوْمِي، أَ مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» .
فتضمّن هذا القول من رسول الله صلّی الله علیه و آله نصَّه عليه بالإمامة، و إبانته عن الكافَّة بالخلافةُ و دلَّ به على فضل لم يَشْرَكه فيه سواه، و أَوجَبَ له به عَلَیْهِ السَّلامُ جميع منازل هارون من موسى، إلّا ما خَصَّه العرف من الأُخُوة و استثناه هو عَلَیْهِ السَّلامُ من النبوّة .
ص: 156
أ لا تَرى أَنّه عَلَیْهِ السَّلامُ جَعَلَ له كافَّةَ منازل هارون من موسى، إلّا المستثنى منها لفظاً أو عقلاً. و قد عَلِمَ كلُّ من تأمَّلَ معانّيَ القرآنُ، و تصفَّح الروايات و الأَخبار، أَنّ هارون عَلَیْهِ السَّلامُ كانَ أخا موسى لأَبيه و أُمُّه و شريكه في أمرُه و وزيره على نبوَّتِه و تبليغه رسالات ربه ، و أَنّ الله تعالى شدّ به أزره و أَنّه كانَ خليفته على قومه، و كانَ له من الإمامة عليهم و فَرْضِ الطاعة كإمامته و فَرْضِ طاعته، و أَنّه كانَ أَحَبَّ قومه (1)إليه و أفضلَهم لديه.
قالََ اللهُ عزَّ و جلّ حاكيا عن موسى عَلَیْهِ السَّلامُ (قٰالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هٰارُونَ أَخِي * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (2) فأجاب الله تعالى مسألته و أعطاه سؤله في ذلكَ و أُمِنَيّته حيثُ يقولُ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ (3) و قالَ حاكيا عن موسى عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (4) .
فلمّا جَعَلَ النبيُّ صلّی الله علیه و آله عَلِيَّاً عَلَیْهِ السَّلامُ منه بمنَزَلة هارون من موسى، أَوجَبَ له بذلكَ جميع ما عَدَدْناه، إلّا ما خَصَّه العرف من الأُخُوة و استثناه من النبوّة لفظاً.
و هذه فضيلةُ لم يشرَك فيها أحدٌ من الخلق أَميرَالمؤمنين علیه
ص: 157
السلام و لا ساواه في معناها و لا قاربه فيها على حال، و لو عَلِمَ الله تعالى أَنّ بنبيُّه عَلَیْهِ السَّلامُ في هذه الغَزاة حاجة إِلَى الحرب و الأَنّصار، لما أَذِنَ له في تخليف أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ عَنْهُ حَسَب ما قدَّمناه، بل عَلِمَ أَنّ المصلحةَ في استخلافه، و أَنّ إقامته في دار هجرته مُقامُه أفضلُ الأعمال، فدَبَّر الخلقَ و الدين بما قضاه في ذلكَ و أمضاه ،على ما بَيِّناه و شَرَحناه.
فصل
وَ لَمَّا عَادَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِنْ تَبُوكَ إِلَى اَلْمَدِينَةِ قَدِمَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «أَسْلِمْ - يَا عَمْرُو- يُؤْمِنْكَ اَللَّهُ مِنَ اَلْفَزَعِ اَلْأَكْبَرِ» فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَ مَا اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ، فَإِنِّي لاَ أَفْزَعُ!؟ فَقَالَ: « يَا عَمْرُو، إِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَحْسِبُ وَ تَظُنُّ ، إِنَّ اَلنَّاسَ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلاَ يَبْقَى مَيِّتٌ إِلاَّ نُشِرَ وَ لاَ حَيٌّ إِلاَّ مَاتَ، إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ، ثُمَّ يُصَاحُ بِهِمْ صَيْحَةٌ أُخْرَى، فَيُنْشَرُ مَنْ مَاتَ وَ يَصُفُّونَ جَمِيعاً، وَ تَنْشَقُّ اَلسَّمَاءُ وَ تُهَدُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبٰالُ، وَ تَزْفِرُ اَلنِّيرَانُ (1)وَ تَرْمِي بِمِثْلِ اَلْجِبَالِ شَرَراً ،فَلاَ يَبْقَى ذُو رُوحٍ إِلاَّ اِنْخَلَعَ قَلْبُهُ وَ ذَكَرَ ذَنْبَهُ وَ شُغِلَ بِنَفْسِهِ إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ فَأَيْنَ أَنْتَ - يَا عَمْرُو- مِنْ هَذَا؟» قَالَ: أَلاَ إِنِّي أَسْمَعُ أَمْراً عَظِيماً، فَآمَنَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ، وَ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ نَاسٌ، وَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِيكَرِبَ نَظَرَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ عَثْعَثٍ اَلْخَثْعَمِيِّ
ص: 158
فَأَخَذَ بِرَقَبَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: أَعْدِنِي عَلَى هَذَا اَلْفَاجِرِ اَلَّذِي قَتَلَ وَالِدِي، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «أَهْدَرَ اَلْإِسْلاَمُ مَا كَانَ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ » فَانْصَرَفَ عَمْرٌو مُرْتَدّاً فَأَغَارَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ بَنِي اَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَ مَضَى إِلَى قَوْمِهِ، فَاسْتَدْعَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَمَّرَهُ عَلَى اَلْمُهَاجِرِينَ، وَ أَنْفَذَهُ إِلَى بَنِي زُبَيْدٍ، وَ أَرْسَلَ خَالِدَ بْنَ اَلْوَلِيدِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ اَلْأَعْرَابِ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ اَلْجُعْفِيَّ (1)،فَإِذَا اِلْتَقَيَا فَأَمِيرُ اَلنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَسَارَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اِسْتَعْمَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ اَلْعَاصِ وَ اِسْتَعْمَلَ خَالِدٌ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا مُوسَى اَلْأَشْعَرِيَّ .
فَأَمَّا جُعْفِيٌّ فَإِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ بِالْجَيْشِ اِفْتَرَقَتْ فِرْقَتَيْنِ؛ فَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى اَلْيَمَنِ، وَ اِنْضَمَّتِ (2)اَلْفِرْقَةُ اَلْأُخْرَى إِلَى بَنِي زُبَيْدٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَكَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ اَلْوَلِيدِ: أَنْ قِفْ حَيْثُ أَدْرَكَكَ رَسُولِي. فَلَمْ يَقِفْ ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ: تَعَرَّضْ لَهُ حَتَّى تَحْبِسَهُ. فَاعْتَرَضَ لَهُ خَالِدٌ حَتَّى حَبَسَهُ، وَ أَدْرَكَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَعَنَّفَهُ عَلَى خِلاَفِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى لَقِيَ بَنِي زُبَيْدٍ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ كُشَرُ . (3)فَلَمَّا رَآهُ بَنُو زُبَيْدٍ قَالُوا لِعَمْرٍو: كَيْفَ أَنْتَ - يَا بَا ثَوْرُ- إِذَا لَقِيَكَ هَذَا اَلْغُلاَمُ اَلْقُرَشِيُّ فَأَخَذَ مِنْكَ اَلْأَتَاوَةَ (4)قَالَ: سَيَعْلَمُ إِنْ لَقِيَنِي.
ص: 159
قَالَ: وَ خَرَجَ عَمْرٌو فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَامَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فَقَالَ لَهُ : دَعْنِي يَا بَا اَلْحَسَنِ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي أُبَارِزْهُ. فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّ لِي عَلَيْكَ طَاعَةً فَقِفْ مَكَانَكَ» فَوَقَفَ، ثُمَّ بَرَزَ (1)إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَصَاحَ بِهِ صَيْحَةً فَانْهَزَمَ عَمْرٌو وَ قُتِلَ أَخُوهُ وَ اِبْنُ أَخِيهِ وَ أُخِذَتِ اِمْرَأَتُهُ رُكَانَةُ بِنْتُ سَلاَمَةَ، وَ سُبِيَ مِنْهُمْ نِسْوَانٌ، وَ اِنْصَرَفَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ خَلَّفَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ لِيَقْبِضَ صَدَقَاتِهِمْ، وَ يُؤْمِنَ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ مِنْ هُرَّابِهِمْ مُسْلِماً.
فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ وَ اِسْتَأْذَنَ عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَذِنَ لَهُ فَعَادَ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ، وَ كَلَّمَهُ فِي اِمْرَأَتِهِ وَ وُلْدِهِ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ.
وَ قَدْ كَانَ عَمْرٌو لَمَّا وَقَفَ بِبَابِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ وَجَدَ جَزُوراً قَدْ نُحِرَتْ فَجَمَعَ قَوَائِمَهَا ثُمَّ ضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهَا جَمِيعاً، وَ كَانَ يُسَمَّى سَيْفُهُ اَلصَّمْصَامَةَ .
فَلَمَّا وَهَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ لِعَمْرٍو اِمْرَأَتَهُ وَ وُلْدَهُ وَهَبَ لَهُ عَمْرٌو اَلصَّمْصَامَةَ .
وَ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَدِ اِصْطَفَى مِنَ اَلسَّبْيِ جَارِيَةً، فَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ اَلْوَلِيدِ بُرَيْدَةَ اَلْأَسْلَمِيَّ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ قَالَ لَهُ : تَقَدَّمِ اَلْجَيْشَ إِلَيْهِ فَأَعْلِمْهُ مَا فَعَلَ عَلِيٌّ مِنِ اِصْطِفَائِهِ اَلْجَارِيَةَ مِنَ اَلْخُمُسِ لِنَفْسِهِ، وَ قَعْ فِيهِ.
ص: 160
فَسَارَ بُرَيْدَةُ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى بَابِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِ غَزْوَتِهِمْ وَ عَنِ اَلَّذِي أَقْدَمَهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِيَقَعَ فِي عَلِيٍّ ، وَ ذَكَرَ لَهُ اِصْطِفَاءَهُ اَلْجَارِيَةَ مِنَ اَلْخُمُسِ لِنَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اِمْضِ لِمَا جِئْتَ لَهُ، فَإِنَّهُ سَيَغْضَبُ لاِبْنَتِهِ مِمَّا صَنَعَ عَلِيٌّ . فَدَخَلَ بُرَيْدَةُ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ مَعَهُ كِتَابٌ مِنْ خَالِدٍ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ بُرَيْدَةَ، فَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَ وَجْهُ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ بُرَيْدَةُ : يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّكَ إِنْ رَخَّصْتَ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا ذَهَبَ فَيْؤُهُمْ فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «وَيْحَكَ - يَا بُرَيْدَةُ - أَحْدَثْتَ نِفَاقاً! إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَحِلُّ لَهُ مِنَ اَلْفَيْءِ مَا يَحِلُّ لِي، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَيْرُ اَلنَّاسِ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ، وَ خَيْرُ مَنْ أُخَلِّفُ مِنْ بَعْدِي لِكَافَّةِ أُمَّتِي، يَا بُرَيْدَةُ، اِحْذَرْ أَنْ تُبْغِضَ عَلِيّاً فَيُبْغِضَكَ اَللَّهُ»
قَالَ بُرَيْدَةُ: فَتَمَنَّيْتُ أَنَّ اَلْأَرْضَ اِنْشَقَّتْ بِي فَسُخْتُ فِيهَا، وَ قُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِ اَللَّهِ وَ سَخَطِ رَسُولِهِ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ، اِسْتَغْفِرْ لِي فَلَنْ أُبْغِضَ عَلِيّاً أَبَداً، وَ لاَ أَقُولُ فِيهِ إِلاَّ خَيْراً. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله .
فصل
و في هذه الغَزاة من المنقبة لأَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ ما لا يُماثلها منقبةٌ لِأَحدٍ سواه، و الفَتْحُ فيها كانَ على يديه خاصّةً، و ظَهَرَ من فضله و مشاركته للنبيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ فيما أحله الله تعالى له من الفَيء،
ص: 161
و اختَصَّاصِه من ذلكَ بما لم يكن لغيرُهُ من النّاس، و بانَ من مودّة رسول الله صلّی الله علیه و آله و تفضيله إيّاه ما كانَ خَفِيَّا على من لا عَلِمَ له بذلكَ، و كانَ من تَحذيره بُرَيدة و غيرَه من بُغضه و عُدواته و حُثّه له على مودّته و ولايته و رَدَّ كيد أعدائه في نُحورهم، ما دلَّ على أَنّه أفضلُ البريّة عند الله تعالى و عنده و أحقُّهم بمقامُه (1)من بعده، و أخَصَّهم به في نفسه و آثرهم عنده.
فصل
ثُمَّ كَانَتْ غَزَاةُ اَلسِّلْسِلَةِ، وَ ذَلِكَ أَنَّ أَعْرَابِيّاً جَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْه ِ وَ قَالَ لَهُ : جِئْتُكَ لِأَنْصَحَ لَكَ.
قَالَ: «وَ مَا نَصِيحَتُكَ؟» قَالَ: قَوْمٌ مِنَ اَلْعَرَبِ قَدِ اِجْتَمَعُوا بِوَادِي اَلرَّمْلِ، وَ عَمِلُوا عَلَى أَنْ يُبَيِّتُوكَ بِالْمَدِينَةِ وَ وَصَفَهُمْ لَهُ.
فَأَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله أَنْ يُنَادَى بِ الصَّلاَةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعَ اَلْمُسْلِمُونَ وَ صَعِدَ اَلْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّ هَذَا عَدُوَّ اَللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ قَدْ عَمِلَ عَلَى تَبْيِيتِكُمْ، فَمَنْ لَهُمْ،» فَقَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلصُّفَّةِ فَقَالُوا: نَحْنُ نَخْرُجُ إِلَيْهِمْ - يَا رَسُولَ اَللَّهِ - فَوَلِّ عَلَيْنَا مَنْ شِئْتَ. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَخَرَجَتِ اَلْقُرْعَةُ عَلَى ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ وَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَاسْتَدْعَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ : «خُذِ اَلرَّايَةَ (2)
ص: 162
وَ اِمْضِ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فَإِنَّهُمْ قَرِيبٌ مِنَ اَلْحَرَّةِ» فَمَضَى وَ مَعَهُ اَلْقَوْمُ حَتَّى قَارَبَ أَرْضَهُمْ، وَ كَانَتْ كَثِيرَةَ اَلْحِجَارَةِ وَ اَلشَّجَرِ، وَ هُمْ بِبَطْنِ اَلْوَادِي، وَ اَلْمُنْحَدَرُ إِلَيْهِ صَعْبٌ.
فَلَمَّا صَارَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى اَلْوَادِي وَ أَرَادَ اَلاِنْحِدَارَ خَرَجُوا إِلَيْهِ فَهَزَمُوهُ وَ قَتَلُوا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ جَمْعاً كَثِيراً، وَ اِنْهَزَمَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ اَلْقَوْمِ.
فَلَمَّا وَرَدُوا (1)عَلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله عَقَدَ لِعُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ وَ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ، فَكَمَنُوا لَهُ تَحْتَ اَلْحِجَارَةِ وَ اَلشَّجَرِ،فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَهْبِطَ خَرَجُوا إِلَيْهِ فَهَزَمُوهُ.
فَسَاءَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ : عَمْرُو بْنُ اَلْعَاصِ: اِبْعَثْنِي - يَا رَسُولَ اَللَّهِ - إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ اَلْحَرْبَ خُدْعَةٌ، فَلَعَلِّي أَخْدَعُهُمْ. فَأَنْفَذَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ وَ وَصَّاهُ فَلَمَّا صَارَ إِلَى اَلْوَادِي خَرَجُوا إِلَيْهِ فَهَزَمُوهُ، وَ قَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً.
وَ مَكَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَيَّاماً يَدْعُو عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَعَقَدَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَرْسَلْتُهُ كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ وَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ قَالَ: « اَللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، فَاحْفَظْنِي فِيهِ وَ اِفْعَلْ بِهِ وَ اِفْعَلْ» فَدَعَا لَهُ مَا شَاءَ اَللَّهُ.
وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ، وَ خَرَجَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِتَشْيِيعِهِ، وَ بَلَغَ مَعَهُ إِلَى مَسْجِدِ اَلْأَحْزَابِ، وَ عَلِيٌّ علیه
ص: 163
السلام عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ مَهْلُوبٍ (1)،عَلَيْهِ بُرْدَانِ يَمَانِيَّانِ، وَ فِي يَدِهِ قَنَاةٌ خَطِّيَّةٌ (2)، فَشَيَّعَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ أَنْفَذَ مَعَهُ فِيمَنْ أَنْفَذَ أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ عَمْرَو بْنَ اَلْعَاصِ، فَسَارَ بِهِمْ عَلَیْهِ السَّلامُ نَحْوَ اَلْعِرَاقِ مُتَنَكِّباً لِلطَّرِيقِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ اَلْوَجْهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِمْ عَلَى مَحَجَّةٍ غَامِضَة ٍ ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى اِسْتَقْبَلَ اَلْوَادِيَ مِنْ فَمِهِ، وَ كَانَ يَسِيرُ اَللَّيْلَ وَ يَكْمُنُ اَلنَّهَارَ.
فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ اَلْوَادِي أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَكْعَمُوا (3)اَلْخَيْل َ ،وَ وَقَفَهُمْ مَكَاناً وَ قَالَ: «لاَ تَبْرَحُوا» وَ اِنْتَبَذَ أَمَامَهُمْ فَأَقَامَ نَاحِيَةً مِنْهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى عَمْرُو بْنُ اَلْعَاصِ مَا صَنَعَ لَمْ يَشُكَّ أَنَّ اَلْفَتْحَ يَكُونُ لَهُ،فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِهَذِهِ اَلْبِلاَدِ مِنْ عَلِيٍّ ، وَ فِيهَا مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَ هِيَ الضِّبَاعُ وَ اَلذِّئَابُ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا خَشِيتُ أَنْ تُقَطِّعَنَا، فَكَلِّمْهُ يَخْلُ عَنَّا نَعْلُو اَلْوَادِيَ.
قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ فَأَطَالَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ حَرْفاً وَاحِداً، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لاَ وَ اَللَّهِ مَا أَجَابَنِي حَرْفاً.
فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ اَلْعَاصِ لِعُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ: أَنْتَ أَقْوَى عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَخَاطَبَهُ فَصَنَعَ بِهِ مِثْلَ مَا صَنَعَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ
ص: 164
فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ.
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ اَلْعَاصِ: أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نُضِيعَ أَنْفُسَنَا، اِنْطَلِقُوا بِنَا نَعْلُو اَلْوَادِيَ، فَقَالَ لَهُ اَلْمُسْلِمُونَ: لاَ وَ اَللَّهِ لاَ نَفْعَلُ، أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَنْ نَسْمَعَ لِعَلِيٍّ وَ نُطِيعَ فَنَتْرُكُ أَمْرَهُ وَ نَسْمَعُ لَكَ وَ نُطِيعُ.
فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَحَسَّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْفَجْرَ، فَكَبَسَ (1)اَلْقَوْمَ وَ هُمْ غَارُّونَ (2)فَأَمْكَنَهُ اَللَّهُ مِنْهُمْ، وَ نَزَلَتْ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله: وَ (اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً ...)(3) إِلَى آخِرِ اَلسُّورَةِ، فَبَشَّرَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله أَصْحَابَهُ بِالْفَتْحِ، وَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله يَقْدُمُهُمْ فَقَامُوا لَهُ صَفَّيْنِ.
فَلَمَّا بَصُرَ بِالنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله تَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اِرْكَبْ فَإِنَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ رَاضِيَانِ عَنْكَ» فَبَكَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَرَحاً، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: «يَا عَلِيُّ لَوْ لاَ أَنَّنِي أُشْفِقُ أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ اَلنَّصَارَى فِي اَلْمَسِيحِ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ اَلْيَوْمَ مَقَالاً لاَ تَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ اَلنَّاسِ إِلاَّ أَخَذُوا اَلتُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ».
ص: 165
فصل
فكانَ الفَتْحُ في هذه الغَزاة لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ خاصّةً، بعد أَنّ كانَ من غيره فيها من الإفساد ما كانَ و اختَصَّ عَلَیْهِ السَّلامُ من مَديح النبيُّ صلّی الله علیه و آله فيها بفضائل لم يَحْصُل منها شيءٌ لغيره و بَانَ له من المنقبة فيها ما لم يَشْرَكه فيه سواء.
فصل
وَ لَمَّا اِنْتَشَرَ اَلْإِسْلاَمُ بَعْدَ اَلْفَتْحِ وَ مَا وَلِيَهُ مِنَ اَلْغَزَوَاتِ اَلْمَذْكُورَةِ وَ قَوِيَ سُلْطَانُهُ، وَفَدَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله اَلْوُفُودُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَ مِنْهُمْ مَنِ اِسْتَأْمَنَ لِيَعُودَ إِلَى قَوْمِهِ بِرَأْيِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ فِيهِمْ.
وَ كَانَ فِي مَنْ وَفَدَ عَلَيْهِ أَبُو حَارِثَةَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ فِي ثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنَ اَلنَّصَارَى، مِنْهُمُ اَلْعَاقِبُ وَ اَلسَّيِّدُ وَ عَبْدُ اَلْمَسِيحِ فَقَدِمُوا اَلْمَدِينَةَ وَقْتَ (1)صَلاَةِ اَلْعَصْرِ ، وَعَلَيْهِمْ لِبَاسُ اَلدِّيبَاجِ وَ اَلصُّلُب ُ ، فَصَارَ إِلَيْهِمُ اَلْيَهُودُ وَ تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ فَقَالَتِ اَلنَّصَارَى لَهُمْ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، (وَ قَالَتْ لَهُمُ اَلْيَهُودُ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصٰارىٰ عَلىٰ شَيْءٍ وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلىٰ
ص: 166
شَيْءٍ...)(1) إِلَى آخِرِ اَلْآيَةِ.
فَلَمَّا صَلَّى اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله اَلْعَصْرَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ يَقْدُمُهُمُ اَلْأُسْقُفُ، فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ، مَا تَقُولُ فِي اَلسَّيِّدِ اَلْمَسِيحِ؟ فَقَالَ: اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «عَبْدٌ لِلَّهِ اِصْطَفَاهُ وَ اِنْتَجَبَهُ» فَقَالَ: اَلْأُسْقُفُ: أَ تَعْرِفُ لَهُ - يَا مُحَمَّدُ - أَباً وَلَدَهُ فَقَالَ: اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لَمْ يَكُنْ عَنْ نِكَاحٍ فَيَكُونَ لَهُ وَالِدٌ» قَالَ: فَكَيْفَ قُلْتَ: إِنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ، وَ أَنْتَ لَمْ تَرَ عَبْداً مَخْلُوقاً إِلاَّ عَنْ نِكَاحٍ وَ لَهُ وَالِدٌ؟ فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى اَلْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى قَوْلِهِ:
(إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ * فَيَكُونُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ ) (2) فَتَلاَهَا اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله عَلَى اَلنَّصَارَى، وَ دَعَاهُمْ إِلَى اَلْمُبَاهَلَةِ، وَ قَالَ: «إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ اِسْمُهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ اَلْعَذَابَ يَنْزِلُ عَلَى اَلْمُبْطِلِ عَقِيبَ اَلْمُبَاهَلَةِ،وَ يُبَيِّنُ اَلْحَقَّ مِنَ اَلْبَاطِلِ بِذَلِكَ» فَاجْتَمَعَ اَلْأُسْقُفُ مَعَ عَبْدِ اَلْمَسِيحِ وَ اَلْعَاقِبِ عَلَى اَلْمَشُورَةِ ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى اِسْتِنْظَارِهِ إِلَى صَبِيحَةِ غَدٍ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى رِحَالِهِمْ قَالَ لَهُمُ اَلْأُسْقُفُ: اُنْظُرُوا مُحَمَّداً فِي غَدٍ، فَإِنْ غَدَا بِوُلْدِهِ وَ أَهْلِهِ فَاحْذَرُوا مُبَاهَلَتَهُ، وَ إِنْ غَدَا بِأَصْحَابِهِ فَبَاهِلُوهُ،
ص: 167
فَإِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ اَلْغَدِ جَاءَ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ آخِذاً بِيَدِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَ اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ يَمْشِيَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَ فَاطِمَةُ - صلوات الله علیهم - تَمْشِي خَلْفَهُ، وَ خَرَجَ اَلنَّصَارَى يَقْدُمُهُمْ أُسْقُفُهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله قَدْ أَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ، سَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ:هَذَا اِبْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ هُوَ صِهْرُهُ وَ أَبُو وُلْدِهِ وَ أَحَبُّ اَلْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَ هَذَانِ اَلطِّفْلاَنِ اِبْنَا بِنْتِهِ مِنْ عَلِيٍّ وَ هُمَا مِنْ أَحَبِّ اَلْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَ هَذِهِ اَلْجَارِيَةُ بِنْتُهُ فَاطِمَةُ أَعَزُّ اَلنَّاسِ عَلَيْهِ وَ أَقْرَبُهُمْ إِلَى قَلْبِهِ.
فَنَظَرَ اَلْأُسْقُفُ إِلَى اَلْعَاقِبِ وَ اَلسَّيِّدِ وَ عَبْدِ اَلْمَسِيحِ وَ قَالَ لَهُمُ: اُنْظُرُوا إِلَيْهِ قَدْ جَاءَ بِخَاصَّتِهِ مِنْ وُلْدِهِ وَ أَهْلِهِ لِيُبَاهِلَ بِهِمْ وَاثِقاً بِحَقِّهِ، وَ اَللَّهِ مَا جَاءَ بِهِمْ وَ هُوَ يَتَخَوَّفُ اَلْحُجَّةَ عَلَيْهِ، فَاحْذَرُوا مُبَاهَلَتَهُ، وَ اَللَّهِ لَوْ لاَ مَكَانُ قَيْصَرَ لَأَسْلَمْتُ لَهُ، وَ لَكِنْ صَالِحُوهُ عَلَى مَا يَتَّفِقُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ، وَ اِرْجِعُوا إِلَى بِلاَدِكُمْ وَ اِرْتَئُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَقَالُوا لَهُ: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، فَقَالَ اَلْأُسْقُفُ: يَا بَا اَلْقَاسِمِ إِنَّا لاَ نُبَاهِلُكَ وَ لَكِنَّا نُصَالِحُكَ، فَصَالِحْنَا عَلَى مَا نَنْهَضُ بِهِ.
فَصَالَحَهُمْ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ مِنْ حُلَلِ اَلْأَوَاقِيِّ قِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَماً جِيَاداً، فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ كَانَ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَ كَتَبَ لَهُمُ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله كِتَاباً بِمَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، وَ كَانَ اَلْكِتَابُ:
ص: 168
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ اَلنَّبِيِّ رَسُولِ اَللَّهِ لِنَجْرَانَ وَ حَاشِيَتِهَا، فِي كُلِّ صَفْرَاءَ وَ بَيْضَاءَ وَ ثَمَرَةٍ وَ رَقِيقٍ، لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ غَيْرُ أَلْفَيْ حُلَّةٍ مِنْ حُلَلِ اَلْأَوَاقِيِّ ثَمَنُ (1)كُلِّ حُلَّةٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَماً، فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ، يُؤَدُّونَ أَلْفاً مِنْهَا فِي صَفَرٍ، وَ أَلْفاً مِنْهَا فِي رَجَبٍ، وَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعُونَ دِينَاراً مَثْوَاةَ رَسُولِي مِمَّا فَوْقَ ذَلِكَ، وَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَدَثٍ يَكُونُ بِالْيَمَنِ مِنْ كُلِّ ذِي عَدَنٍ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ، ثَلاَثُونَ دِرْعاً وَ ثَلاَثُونَ فَرَساً وَ ثَلاَثُونَ جَمَلاً عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ، لَهُمْ بِذَلِكَ جِوَارُ اَللَّهِ وَ ذِمَّةُ (مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ) (2)فَمَنْ أَكَلَ اَلرِّبَا مِنْهُمْ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ.
وَ أَخَذَ اَلْقَوْمُ اَلْكِتَابَ وَ اِنْصَرَفُوا .
فصل
و في قصة أهلُ نَجْران بيان عن فضل أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ مَعَ ما فيه من الآية للنبيُّ صلّی الله علیه و آله و المعجز الدال على نبوَّتِه.
ص: 169
أ لا تَرى إِلَى اعتراف النصارى له بالنبوّة ، و قطعِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ على امتناعهم من المباهلة، و علمِهم بأَنّهم لو باهلوه لَحَلَّ بِهِم العذابُ، و ثقتِه عَلَیْهِ السَّلامُ بالظَفَرِ بِهِم و الفَلَجِ بالحُجَّة عليهم.
و أَنّ الله تعالى حَكَمَ في آية المباهلة لأَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بأَنّه نفسُ رسول الله صلّی الله علیه و آله، كاشفاً بذلكَ عن بلوغه نهاية (1)الفَضْل، و مساواتِه للنبيّ عَلَیْهِ وَ آله السَّلامُ في الكمال و العصمة من الآثام، و أَنّ اللهَ جل ذكره جَعَلَه و زوجتَه و وَلَدَيْه - مَعَ تقارب سنّهما - حُجَّةً لنبيُّه عَلَیْهِ السَّلامُ و برهاناً على دينه، و نص على الحُكْم بأَنّ الحسن و الحسين أبناؤه، و أَنّ فاطمةَ عَلَیْهِ السَّلامُ نساؤه المتوجِّهُ إليهن الذكر و الخَطّاب في الدعاء إِلَى المباهلة و الاحتجاج و هذا فضلٌ لم يَشْرَكهم فيه أحدٌ من الأُمّة، و لا قاربَهم فيه و لا ماثَلهم في معناه، و هو لاحِقٌ بما تقدّم من مناقب أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ الخاصَّة له، على ما ذكرناه.
فصل
ثُّمّ تلا وَفْدَ نَجْران من القصص المُنْبِئَة عن فضل أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ و تَخَصُّصِه من المناقب بما بَانَ به من كافَّة العباد، حُجَّةُ الوداع و ما جرى فيها من الأَقاصيص، و كانَ فيها لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ من جليل المقامُات. فمن ذلكَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله
ص: 170
كَانَ قَدْ أَنْفَذَهُ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى اَلْيَمَنِ لِيُخَمِّسَ زَكَاتَهَا (2)، وَ يَقْبِضَ مَا وَافَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنَ اَلْحُلَلِ وَ اَلْعَيْنِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ، فَتَوَجَّهَ عَلَیْهِ السَّلامُ لِمَا نَدَبَهُ إِلَيْهِ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، فَأَنْجَزَهُ مُمْتَثِلاً فِيهِ أَمْرَهُ مُسَارِعاً إِلَى طَاعَتِهِ، وَ لَمْ يَأْتَمِنْ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَحَداً غَيْرَهُ عَلَى مَا اِئْتَمَنَهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَ لاَ رَأَى فِي اَلْقَوْمِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بِهِ سِوَاهُ، فَأَقَامَهُ عَلَیْهِ السَّلامُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ وَ اِسْتَنَابَهُ فِيهِ، مُطْمَئِنّاً إِلَيْهِ، سَاكِناً إِلَى نُهُوضِهِ بِأَعْبَاءِ مَا كَلَّفَهُ فِيهِ.
ثُمَّ أَرَادَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلتَّوَجُّهَ لِلْحَجِّ وَ أَدَاءِ فَرْضِ اَللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيهِ، فَأَذَّنَ فِي اَلنَّاسِ بِهِ وَ بَلَغَتْ دَعْوَتُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ أَقَاصِيَ بِلاَدِ اَلْإِسْلاَمِ، فَتَجَهَّزَ اَلنَّاسُ لِلْخُرُوجِ وَ تَأَهَّبُوا مَعَهُ، وَ حَضَرَ اَلْمَدِينَةَ مِنْ ضَوَاحِيهَا وَ مِنْ حَوْلِهَا وَ يَقْرُبُ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، فَخَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله بِهِمْ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي اَلْقَعْدَةِ، وَ كَاتَبَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اَلْحَجِّ مِنَ اَلْيَمَنِ وَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ نَوْعَ اَلْحَجِّ اَلَّذِي قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ، وَ خَرَجَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَارِناً لِلْحَجِّ بِسِيَاقِ اَلْهَدْيِ وَ أَحْرَمَ مِنْ ذِي اَلْحُلَيْفَةِ (3)وَ أَحْرَمَ اَلنَّاسُ مَعَهُ، وَ لَبَّى (4)ع مِنْ عِنْدِ اَلْمِيلِ اَلَّذِي بِالْبَيْدَاءِ، فَاتَّصَلَ مَا بَيْنَ اَلْحَرَمَيْنِ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى كُرَاعِ اَلْغَمِيمِ (5)،
ص: 171
وَ كَانَ اَلنَّاسُ مَعَهُ رُكْبَاناً وَ مُشَاةً فَشَقَّ عَلَى اَلْمُشَاةِ اَلْمَسِيرُ، وَ أَجْهَدَهُمُ اَلسَّيْرُ وَ اَلتَّعَبُ بِهِ ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ اِسْتَحْمَلُوهُ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجِدُ لَهُمْ ظَهْراً، وَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشُدُّوا عَلَى أَوْسَاطِهِمْ وَ يَخْلِطُوا اَلرَّمَلَ (1)،بِالنَّسْلِ (2)، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَ اِسْتَرَاحُوا إِلَيْهِ، وَ خَرَجَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ اَلْعَسْكَرِ اَلَّذِي كَانَ صَحِبَهُ إِلَى اَلْيَمَنِ، وَ مَعَهُ اَلْحُلَلُ اَلَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ .
فَلَمَّا قَارَبَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ اَلْمَدِينَةِ، قَارَبَهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْ طَرِيقِ اَلْيَمَنِ، وَ تَقَدَّمَ اَلْجَيْشَ لِلِقَاءِ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ خَلَّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَدْرَكَ اَلنَّبِيَّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى مَكَّةَ، فَسَلَّمَ وَ خَبَّرُهُ بِمَا صَنَعَ وَ بِقَبْضِ مَا قَبَضَ، وَ أَنَّهُ سَارَعَ لِلِقَائِهِ أَمَامَ اَلْجَيْشِ، فَسُرَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله لِذَلِكَ وَ اِبْتَهَجَ بِلِقَائِهِ وَ قَالَ لَهُ : «بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ ؟ فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّكَ لَمْ تَكْتُبْ لِي بِإِهْلاَلِكَ وَ لاَ عَرَّفْتَنِيهِ (3)فَعَقَدْتُ نِيَّتِي بِنِيَّتِكَ فَقُلْتُ: اَللَّهُمَّ إِهْلاَلاً كَإِهْلاَلِ نَبِيِّكَ، وَ سُقْتُ مَعِي مِنَ اَلْبُدْنِ أَرْبَعاً وَ ثَلاَثِينَ بَدَنَةً، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: اَللَّهُ أَكْبَرُ، قَدْ سُقْتُ أَنَا سِتّاً وَ سِتِّينَ وَ أَنْتَ شَرِيكِي فِي حَجِّي وَ مَنَاسِكِي وَ هَدْيِي، فَأَقِمْ عَلَى إِحْرَامِكَ وَ عُدْ إِلَى جَيْشِكَ فَعَجِّلْ بِهِمْ إِلَيَّ حَتَّى نَجْتَمِعَ بِمَكَّةَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ»
ص: 172
فَوَدَّعَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ عَادَ إِلَى جَيْشِهِ، فَلَقِيَهُمْ عَنْ قُرْبٍ فَوَجَدَهُمْ قَدْ لَبِسُوا اَلْحُلَلَ اَلَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَ قَالَ: لِلَّذِي كَانَ اِسْتَخْلَفَهُ فِيهِمْ: «وَيْلَكَ، مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ تُعْطِيَهُمُ اَلْحُلَلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَدْفَعَهَا إِلَى اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ لَمْ أَكُنْ أَذِنْتُ لَكَ فِي ذَلِكَ ؟» فَقَالَ :سَأَلُونِي أَنْ يَتَجَمَّلُوا بِهَا وَ يُحْرِمُوا فِيهَا ثُمَّ يَرُدُّونَهَا عَلَيَّ . فَانْتَزَعَهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنَ اَلْقَوْمِ وَ شَدَّهَا فِي اَلْأَعْدَالِ فَاضْطَغَنُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا دَخَلُوا مَكَّةَ كَثُرَتْ شِكَايَتُهُمْ مِنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مُنَادِيَهُ فَنَادَى فِي اَلنَّاسِ: «اِرْفَعُوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ خَشِنٌ فِي ذَاتِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، غَيْرُ مُدَاهِنٍ فِي دِينِه ِ » فَكَفَّ اَلنَّاسُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَ عَلِمُوا مَكَانَهُ مِنَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله، وَ سَخَطَهُ عَلَى مَنْ رَامَ اَلْغَمِيزَةَ فِيهِ. فَأَقَامَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى إِحْرَامِهِ تَأَسِّياً بِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله .
وَ كَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله كَثِيرٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ سِيَاقِ هَدْيٍ. فَأَنْزَلَ اَللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ (وَأَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّٰهِ) (1) فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «دَخَلَتِ اَلْعُمْرَةُ فِي اَلْحَجِّ وَ - شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِ إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْأُخْرَى - إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ » ثُمَّ قَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لَوِ اِسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ اَلْهَدْيَ» ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ لَمْ يَسُقْ مِنْكُمْ هَدْياً فَلْيُحِلَّ وَ لْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، وَ مَنْ سَاقَ مِنْكُمْ هَدْياً فَلْيُقِمْ عَلَى إِحْرَامِهِ. فَأَطَاعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ اَلنَّاسِ
ص: 173
فِي ذَلِكَ وَ خَالَفَ بَعْضٌ، وَ جَرَتْ خُطُوبٌ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَشْعَثُ أَغْبَرُ، وَ نَلْبَسُ اَلثِّيَابَ وَ نَقْرَبُ اَلنِّسَاءَ وَ نَدَّهِنُ!
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَ مَا تَسْتَحْيُونَ أَنْ تَخْرُجُوا وَ رُءُوسُكُمْ تَقْطُرُ مِنَ اَلْغُسْلِ وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلَى إِحْرَامِهِ!
فَأَنْكَرَ رَسُولُ اَللَّهِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَ قَالَ: «لَوْ لاَ أَنِّي سُقْتُ اَلْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَ جَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْياً فَلْيُحِلَّ» فَرَجَعَ قَوْمٌ وَ أَقَامَ آخَرُونَ عَلَى اَلْخِلاَفِ.
وَ كَانَ فِيمَنْ أَقَامَ عَلَى اَلْخِلاَفِ لِلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ، فَاسْتَدْعَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالَ لَهُ: «مَا لِي أَرَاكَ - يَا عُمَرُ- مُحْرِماً أَ سُقْتَ هَدْياً؟!» قَالَ: لَمْ أَسُقْ، قَالَ: «فَلِمَ لاَ تُحِلُّ وَ قَدْ أَمَرْتُ مَنْ لَمْ يَسُقِ اَلْهَدْيَ بِالْإِحْلاَلِ؟» فَقَالَ: وَ اَللَّهِ يَا رَسُولَ اَللَّهِ لاَ أَحْلَلْتُ وَ أَنْتَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ:«إِنَّكَ لَنْ تُؤْمِنَ بِهَا حَتَّى تَمُوتَ».
فَلِذَلِكَ أَقَامَ عَلَى إِنْكَارِ مُتْعَةِ اَلْحَجِّ، حَتَّى رَقِيَ اَلْمِنْبَرَ فِي إِمَارَتِهِ فَنَهَى عَنْهَا نَهْياً مُجَدَّداً (1)وَ تَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالْعِقَابِ.
وَ لَمَّا قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله نُسُكَهُ أَشْرَكَ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ فِي هَدْيِهِ، وَ قَفَلَ إِلَى اَلْمَدِينَةِ وَ هُوَ مَعَهُ وَ اَلْمُسْلِمُونَ، حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى اَلْمَوْضِعِ اَلْمَعْرُوفِ بِغَدِيرِ خُمٍّ، وَ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ إِذْ ذَاكَ لِلنُّزُولِ لِعَدَمِ اَلْمَاءِ
ص: 174
فِيهِ وَ اَلْمَرْعَى، فَنَزَلَ صلّی الله علیه و آله فِي اَلْمَوْضِعِ وَ نَزَلَ اَلْمُسْلِمُونَ مَعَهُ.
وَ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهِ فِي هَذَا اَلْمَكَانِ نُزُولَ اَلْقُرْآنِ عَلَيْهِ بِنَصْبِهِ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ خَلِيفَةً فِي اَلْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ اَلْوَحْيُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ لَهُ فَأَخَّرَهُ لِحُضُورِ وَقْتٍ يَأْمَنُ فِيهِ اَلاِخْتِلاَفُ مِنْهُمْ عَلَيْهِ وَ عَلِمَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِنْ تَجَاوَزَ غَدِيرَ خُمٍّ اِنْفَصَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ إِلَى بِلاَدِهِمْ وَ أَمَاكِنِهِمْ وَ بَوَادِيهِمْ فَأَرَادَ اَللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ لِسَمَاعِ اَلنَّصِّ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ تَأْكِيداً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهِ. فَأَنْزَلَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ عَلَيْهِ (يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (1) يَعْنِي فِي اِسْتِخْلاَفِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اَلنَّصِّ بِالْإِمَامَةِ عَلَيْهِ (وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ) (2) فَأَكَّدَ بِهِ اَلْفَرْضَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَ خَوَّفَهُ مِنْ تَأْخِيرِ اَلْأَمْرِ فِيهِ، وَ ضَمِنَ لَهُ اَلْعِصْمَةَ وَ مَنْعَ اَلنَّاسِ مِنْهُ.
فَنَزَلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلْمَكَانَ اَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لِمَا وَصَفْنَاهُ مِنَ اَلْأَمْرِ لَهُ بِذَلِكَ وَ شَرَحْنَاهُ، وَ نَزَلَ اَلْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، وَ كَانَ يَوْماً قَائِظاً شَدِيدَ اَلْحَرِّ، فَأَمَرَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِدَوْحَاتٍ هُنَاك َ فَقُمَّ مَا تَحْتَهَا، وَ أَمَرَ بِجَمْعِ اَلرِّحَالِ فِي ذَلِكَ اَلْمَكَانِ، وَ وَضْعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى فِي اَلنَّاسِ بِالصَّلاَةِ، فَاجْتَمَعُوا مِنْ رِحَالِهِمْ إِلَيْهِ، وَ إِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَيَلُفُّ رِدَاءَهُ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ اَلرَّمْضَاءِ. فَلَمَّا اِجْتَمَعُوا صَعِدَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى تِلْكَ اَلرِّحَالِ حَتَّى صَارَ فِي ذِرْوَتِهَا، وَ دَعَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَرَقِيَ مَعَهُ حَتَّى قَامَ عَنْ يَمِينِهِ،
ص: 175
ثُمَّ خَطَبَ لِلنَّاسِ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ، وَ وَعَظَ فَأَبْلَغَ فِي اَلْمَوْعِظَةِ، وَ نَعَى إِلَى اَلْأُمَّةِ نَفْسَهُ ، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنِّي قَدْ دُعِيتُ وَ يُوشِكُ أَنْ أُجِيبَ، وَ قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوفٌ (1)مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَ إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَداً (2): كِتَابَ اَللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ»
ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:(3)«أَ لَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ؟» فَقَالُوا: اَللَّهُمَّ بَلَى، فَقَالَ لَهُمْ عَلَى اَلنَّسَقِ، وَ قَدْ أَخَذَ بِضَبْعَيْ (4)أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَرَفَعَهُمَا حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِمَا وَ قَالَ: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاَهُ، اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ اُنْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اُخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ».
ثُمَّ نَزَلَ صلّی الله علیه و آله - وَ كَانَ وَقْتُ اَلظَّهِيرَةِ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ زَالَتِ اَلشَّمْسُ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ لِصَلاَةِ اَلْفَرْضِ فَصَلَّى بِهِمُ اَلظُّهْرَ، وَ جَلَسَ صلّی الله علیه و آله فِي خَيْمَتِهِ، وَ أَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَجْلِسَ فِي خَيْمَةٍ لَهُ بِإِزَائِهِ، ثُمَّ أَمَرَ اَلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنِّئُوهُ بِالْمَقَامِ، وَ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَفَعَلَ اَلنَّاسُ ذَلِكَ كُلُّهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ وَ جَمِيعَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِ، وَ يُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ اَلْمُؤْمِنِينَ فَفَعَلْنَ.
ص: 176
وَ كَانَ مِمَّنْ أَطْنَبَ فِي تَهْنِئَتِهِ بِالْمَقَامِ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ فَأَظْهَرَ لَهُ اَلْمَسَرَّةَ بِهِ وَ قَالَ: فِيمَا قَالَ: بَخْ بَخْ يَا عَلِيُّ ، أَصْبَحْتَ مَوْلاَيَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
وَ جَاءَ حَسَّانُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، اِئْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ فِي هَذَا اَلْمَقَامِ مَا يَرْضَاهُ اَللَّهُ؟ فَقَالَ لَهُ: «قُلْ يَا حَسَّانُ عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ فَوَقَفَ عَلَى نَشَزٍ (1)مِنَ اَلْأَرْضِ، وَ تَطَاوَلَ اَلْمُسْلِمُونَ لِسَمَاعِ كَلاَمِهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يُنَادِيهِمْ يَوْمَ اَلْغَدِيرِ نَبِيُّهُمْ *** بِخُمٍّ وَ أَسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنَادِياً
وَ قَالَ: فَمَنْ مَوْلاَكُمْ وَ وَلِيُّكُمْ *** فَقَالُوا وَ لَمْ يَبْدُوا هُنَاكَ اَلتَّعَادِيَا
إِلَهُكَ مَوْلاَنَا وَ أَنْتَ وَلِيُّنَا *** وَ لَنْ تَجِدَنَّ مِنَّا لَكَ اَلْيَوْمَ عَاصِياً
فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا عَلِيُّ فَإِنَّنِي *** رَضِيتُكَ مِنْ بَعْدِي إِمَاماً وَ هَادِياً
فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ *** فَكُونُوا لَهُ أَنْصَارَ صِدْقٍ مُوَالِياً
هُنَاكَ دَعَا اَللَّهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ *** وَ كُنْ لِلَّذِي عَادَى عَلِيّاً مُعَادِياً.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «لاَ تَزَالُ - يَا حَسَّانُ - مُؤَيَّداً بِرُوحِ اَلْقُدُسِ مَا نَصَرْتَنَا بِلِسَانِكَ».
و إنّما اشترط رسول الله صلّی الله علیه و آله في الدعاء له، لعَلِمَه بعاقبة أمرُه في الخلاف، و لو عَلِمَ سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق، و مثلُ ذلكَ ما اشترط الله تعالى في مدح أزواج النبيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ، ولم يَمْدَحْهُنَّ بغير اشتراط ، لعلمه أنَّ منهنّ من يتغيّر بعد
ص: 177
الحال عن الصلاح الذي يُستَحَقّ عليه المدحُ والإكرامُ، فقالَ عزَّ قائلاً : (يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ) (1) و لم يَجْعَلهن في ذلكَ حَسَب ما جَعَلَ أهلَ بيت النبي صلّی الله علیه و آله في محلّ الإكرام والمِدْحَة ، حيث بَذَلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير ، فأنزل اللهُ سبحانه وتعالى في عليّ بن أبي طالب وفاطمةَ والحسنِ والحسين عَلَیْهِ السَّلامُ و قد آثروا على أَنّفسهم مَعَ الخَصَّاصة الّتي كانت بِهِم، فقالَ جلّ قائلاً : (وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً * إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً * إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقٰاهُمُ اَللّٰهُ شَرَّ ذٰلِكَ اَلْيَوْمِ وَ لَقّٰاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً * وَ جَزٰاهُمْ بِمٰا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً) (2) فقَطَعَ لهم بالجزاء ، ولم يَشْتَرِط لهم كما اشتَرط لغيرهم ، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بَيِّناه.
فصل
فكانَ في حَجَّةِ الوداع من فضل أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ الذي اختَصَّ به ما شَرَحناه، و انفرد فيه من المنقبة الجلّيلة بما ذكرناه، فكانَ شريكَ رسول الله صلّی الله علیه و آله في حجّه و هَدْيه و مناسكه، و وَفَّقه الله تعالى لمساوٍاة نبيُّه، عَلَیْهِ السَّلامُ في نيّته و وفاقه في عبادته،
ص: 178
و ظَهَرَ من مكانه عنده صلّی الله علیه و آله و جلّيل محلّه عند الله سُبحانَه ما نوه به في مدحته، فأوجب له فَرْضِ طاعته على الخلائق و اختَصَّاصه بخلافته، و التصريح منه بالدعوة إِلَى أتباعه و النهي عن مخالفته، و الدعاء لمن اقتدى به في الدين و قام بنصرته، و الدعاء على من خالفه، و اللعن لمن بارَزَه بعَداوته. و كَشَفَ بذلكَ عن كونه أفضلَ خلق الله تعالى و أجلّ بريته، و هذا مِمَّا لم يَشْرَكه - أيضاً - فيه أحدٌ من الأُمّة، و لا تَعَرَّض (1)منه بفضل يُقاربه على شبهةٍ لمن ظنّه، أو بصيرة لمن عرَف المعنى في حقيقته، و الله المحمود.
فصل
ثُّمّ كانَ مِمَّا أَكَّدَ له الفَضْل و تَخَصُّصِه منه بجلّيل رتبته، ما تَلا حَجَّةَ الوداع من الأُمور المُتَجدَّدة لرسول الله صلّی الله علیه و آله و الِأَحدٍاث الّتي اتّفقت (بقضاء الله و قدره) (2).
وَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَیْهِ السَّلامُ تَحَقَّقَ مِنْ دُنُوِّ أَجَلِهِ مَا كَانَ (قَدَّمَ اَلذِّكْرَ) (3)بِهِ لِأُمَّتِهِ، فَجَعَلَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُومُ مَقَاماً بَعْدَ مَقَامٍ فِي اَلْمُسْلِمِينَ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ اَلْفِتْنَةِ بَعْدَهُ وَ اَلْخِلاَفِ عَلَيْهِ وَ يُؤَكِّدُ وَصَاتَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ وَ اَلاِجْتِمَاعِ عَلَيْهَا وَ اَلْوِفَاقِ، وَ يَحُثُّهُمْ عَلَى اَلاِقْتِدَاءِ
ص: 179
بِعِتْرَتِهِ وَ اَلطَّاعَةِ لَهُمْ وَ اَلنُّصْرَةِ وَ اَلْحِرَاسَةِ، وَ اَلاِعْتِصَامِ بِهِمْ فِي اَلدِّينِ، وَ يَزْجُرُهُمْ عَنِ اَلْخِلاَفِ وَ اَلاِرْتِدَادِ. فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَیْهِ السَّلامُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلرُّوَاةُ عَلَى اِتِّفَاقٍ وَ اِجْتِمَاعٍ مِنْ قَوْلِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ:
«أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ وَ أَنْتُمْ وَارِدُونَ عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، أَلاَ وَ إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنِ اَلثَّقَلَيْنِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، فَإِنَّ اَللَّطِيفَ اَلْخَبِيرَ نَبَّأَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَلْقَيَانِي، وَ سَأَلْتُ رَبِّي ذَلِكَ فَأَعْطَانِيهِ، أَلاَ وَ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُهُمَا فِيكُمْ: كِتَابَ اَللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَفَرَّقُوا وَ لاَ تُقَصِّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا، وَلاَ تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ.
أَيُّهَا اَلنَّاسُ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ بَعْدِي تَرْجِعُونَ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَتَلْقَوْنِي فِي كَتِيبَةٍ كَمَجَرِّ اَلسَّيْلِ اَلْجَرَّارِ (أَلاَ وَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخِي) (1)وَ وَصِيِّي يُقَاتِلُ بَعْدِي عَلَى تَأْوِيلِ اَلْقُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ. (2)
فَكَانَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُومُ مَجْلِساً بَعْدَ مَجْلِسٍ بِمِثْلِ هَذَا اَلْكَلاَمِ وَ نَحْوِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ عَقَدَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ اَلْإِمْرَةَ، وَ نَدَبَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِجُمْهُورِ اَلْأُمَّةِ إِلَى حَيْثُ أُصِيبَ أَبُوهُ مِنْ بِلاَدِ اَلرُّومِ، وَ اِجْتَمَعَ رَأْيُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى إِخْرَاجِ جَمَاعَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ فِي
ص: 180
مُعَسْكَرِهِ، حَتَّى لاَ يَبْقَى فِي اَلْمَدِينَةِ عِنْدَ وَفَاتِهِ صلّی الله علیه و آله مَنْ يَخْتَلِفُ فِي اَلرِّئَاسَةِ، وَ يَطْمَعُ فِي اَلتَّقَدُّمِ عَلَى اَلنَّاسِ بِالْإِمَارَةِ، وَ يَسْتَتِبُّ اَلْأَمْرُ لِمَنِ اِسْتَخْلَفَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَ لاَ يُنَازِعُهُ فِي حَقِّهِ مُنَازِعٌ، فَعَقَدَ لَهُ اَلْإِمْرَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَ جَدَّ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي إِخْرَاجِهِمْ، فَأَمَرَ أُسَامَةَ بِالْبُرُوزِ (1)عَنِ اَلْمَدِينَةِ بِمُعَسْكَرِهِ إِلَى اَلْجُرْفِ (2)، وَ حَثَّ اَلنَّاسَ عَلَى اَلْخُرُوجِ إِلَيْهِ وَ اَلْمَسِيرِ مَعَهُ وَ حَذَّرَهُمْ مِنَ اَلتَّلَوُّمِ وَ اَلْإِبْطَاءِ عَنْهُ.
فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ اَلشَّكَاةُ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَرَضِ اَلَّذِي عَرَاهُ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اِتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ اَلنَّاسِ وَ تَوَجَّهَ إِلَى اَلْبَقِيعِ فَقَالَ: لِمَنْ تَبِعَهُ: «إِنَّنِي قَدْ أُمِرْتُ بِالاِسْتِغْفَارِ لِأَهْلِ اَلْبَقِيعِ» فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَلسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ اَلْقُبُورِ، لِيَهْنِئْكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا فِيهِ اَلنَّاسُ، أَقْبَلَتِ اَلْفِتَنُ كَقِطَعِ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلَهَا آخِرُهَا» ثُمَّ اِسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ اَلْبَقِيعِ طَوِيلاً، وَ أَقْبَلَ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: لَهُ «إِنَّ جَبْرَئِيلَ عَلَیْهِ السَّلامُ كَانَ يَعْرِضُ عَلَيَّ اَلْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيَّ اَلْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَ لاَ أَرَاهُ إِلاَّ لِحُضُورِ أَجَلِي».
ثُمَّ قَالَ: «يَا عَلِيُّ إِنِّي خُيِّرْتُ بَيْنَ خَزَائِنِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْخُلُودِ فِيهَا أَوِ اَلْجَنَّةِ، فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَ اَلْجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَاغْسِلْنِي وَ اُسْتُرْ عَوْرَتِي،
ص: 181
فَإِنَّهُ لاَ يَرَاهَا أَحَدٌ إِلاَّ أُكْمِهَ».
ثُمَّ عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ فَمَكَثَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَوْعُوكاً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ مَعْصُوبَ اَلرَّأْسِ، مُعْتَمِداً، عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيُمْنَى يَدَيْهِ، وَ عَلَى اَلْفَضْلِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ بِالْيَدِ اَلْأُخْرَى، حَتَّى صَعِدَ اَلْمِنْبَرَ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ، قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوفٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي أُعْطِهِ إِيَّاهَا، وَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ فَلْيُخْبِرْنِي بِهِ.
مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ، لَيْسَ بَيْنَ اَللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ شَيْءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ بِهِ عَنْهُ شَرّاً إِلاَّ اَلْعَمَلُ.
أَيُّهَا اَلنَّاسُ، لاَ يَدَّعِي مُدَّعٍ وَ لاَ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَ اَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لاَ يُنْجِي إِلاَّ عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ وَ لَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ، اَللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟».
ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلاَةً خَفِيفَةً وَ دَخَلَ بَيْتَهُ، وَ كَانَ إِذْ ذَاكَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا فَأَقَامَ بِهِ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ.
فَجَاءَتْ عَائِشَةُ إِلَيْهَا تَسْأَلُهَا أَنْ تَنْقُلَهُ إِلَى بَيْتِهَا لِتَتَوَلَّى تَعْلِيلَهُ، وَ سَأَلَتْ أَزْوَاجَ اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي ذَلِكَ فَأَذِنَّ لَهَا، فَانْتَقَلَ صلّی الله علیه و آله إِلَى اَلْبَيْتِ اَلَّذِي أَسْكَنَهُ عَائِشَةُ، وَ اِسْتَمَرَّ بِهِ اَلْمَرَضُ أَيَّاماً وَ ثَقُلَ عَلَیْهِ السَّلامُ .
فَجَاءَ بِلاَلٌ عِنْدَ صَلاَةِ اَلصُّبْحِ وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَغْمُورٌ بِالْمَرَضِ فَنَادَى: اَلصَّلاَةَ یَرحِمَكُمُ اَللَّهُ، فَأُوذِنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِنِدَائِهِ، فَقَالَ: «يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَعْضُهُمْ فَإِنَّنِي مَشْغُولٌ بِنَفْسِي».
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ وَ قَالَتْ حَفْصَةُ مُرُوا عُمَرَ .
ص: 182
فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حِينَ سَمِعَ كَلاَمَهُمَا وَ رَأَى حِرْصَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى اَلتَّنْوِيهِ بِأَبِيهَا وَ اِفْتِتَانِهِمَا بِذَلِكَ وَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حَيٌّ !: «اُكْفُفْنَ فَإِنَّكُنَّ صُوَيْحِبَاتُ يُوسُفَ» (1)ثُمَّ قَامَ عَلَیْهِ السَّلامُ مُبَادِراً خَوْفاً مِنْ تَقَدُّمِ أَحَدِ اَلرَّجُلَيْنِ، وَ قَدْ كَانَ أَمَرَهُمَا عَلَیْهِ السَّلامُ بِالْخُرُوجِ إِلَى أُسَامَةَ، وَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهُمَا قَدْ تَخَلَّفَا.
فَلَمَّا سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ وَ حَفْصَةَ مَا سَمِعَ، عَلِمَ أَنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ عَنْ أَمْرِهِ فَبَدَرَ لِكَفِّ اَلْفِتْنَةِ وَ إِزَالَةِ اَلشُّبْهَةِ، فَقَامَ عَلَیْهِ السَّلامُ - وَ أَنَّهُ لاَ يَسْتَقِلُّ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلضَّعْفِ - فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اَلْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ فَاعْتَمَدَهُمَا وَ رِجْلاَهُ تَخُطَّانِ اَلْأَرْضَ مِنَ اَلضَّعْفِ. فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ وَجَدَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَ إِلَى اَلْمِحْرَابِ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ تَأَخَّرْ عَنْهُ ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَ قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مَقَامَهُ فَكَبَّرَ وَ اِبْتَدَأَ اَلصَّلاَةَ اَلَّتِي كَانَ قَدِ اِبْتَدَأَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَ لَمْ يَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ فِعَالِهِ.
فَلَمَّا سَلَّمَ اِنْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَ اِسْتَدْعَى أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ جَمَاعَةً مِمَّنْ حَضَرَ اَلْمَسْجِدَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ: «أَ لَمْ آمُرْ أَنْ تَنْفُذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ؟!» فَقَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ: «فَلِمَ تَأَخَّرْتُمْ عَنْ أَمْرِي؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّنِي كُنْتُ خَرَجْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ لِأُجَدِّدَ (2)بِكَ عَهْداً. وَ قَالَ عُمَرُ: يَا
ص: 183
رَسُولَ اَللَّهِ، لَمْ أَخْرُجْ لِأَنَّنِي لَمْ أُحِبَّ أَنْ أَسْأَلَ عَنْكَ اَلرَّكْبَ. فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلّی الله علیه و آله: « فَانْفُذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ فَانْفُذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ» يُكَرِّرُهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنَ اَلتَّعَبِ اَلَّذِي لَحِقَهُ وَ اَلْأَسَفِ، فَمَكَثَ هُنَيْهَةً مُغْمًى عَلَيْهِ، وَ بَكَى اَلْمُسْلِمُونَ وَ اِرْتَفَعَ اَلنَّحِيبُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَ وُلْدِهِ وَ اَلنِّسَاءِ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ مَنْ حَضَرَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (1).
فَأَفَاقَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ:«اِئْتُونِي بِدَوَاةٍ وَ كَتِفٍ، أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَداً» ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ يَلْتَمِسُ دَوَاةً وَ كَتِفاً فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اِرْجِعْ، فَإِنَّهُ يَهْجُرُ !!! فَرَجَعَ. وَ نَدِمَ مَنْ حَضَرَهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ اَلتَّضْجِيعِ (2) فِي إِحْضَارِ اَلدَّوَاةِ وَ اَلْكَتِفِ، فَتَلاَوَمُوا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا : إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ، لَقَدْ أَشْفَقْنَا مِنْ خِلاَفِ رَسُولِ اَللَّهِ .
فَلَمَّا أَفَاقَ صلّی الله علیه و آله قَالَ بَعْضُهُمْ: أَ لاَ نَأْتِيكَ بِكَتِفٍ يَا رَسُولَ اَللَّهِ وَ دَوَاةٍ؟ فَقَالَ: «أَ بَعْدَ اَلَّذِي قُلْتُمْ!! لاَ، وَ لَكِنَّنِي أُوصِيكُمْ بِأَهْلِ بَيْتِي خَيْراً ثُمَّ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْ اَلْقَوْمِ فَنَهَضُوا ، وَ بَقِيَ عِنْدَهُ اَلْعَبَّاسُ وَ اَلْفَضْلُ وَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ أَهْلُ بَيْتِهِ خَاصَّةً.
فَقَالَ لَهُ اَلْعَبَّاسُ:يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنْ يَكُنْ هَذَا اَلْأَمْرُ فِينَا مُسْتَقَرّاً بَعْدَكَ فَبَشِّرْنَا، وَ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّا نُغْلَبُ عَلَيْهِ فَأَوْصِ بِنَا، فَقَالَ: «أَنْتُمُ اَلْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ بَعْدِي» وَ أَصْمَتَ فَنَهَضَ اَلْقَوْمُ وَ هُمْ يَبْكُونَ قَدْ
ص: 184
أَيِسُوا (1)مِنَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله .
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اُرْدُدُوا عَلَيَّ أَخِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَ عَمِّي » فَأَنْفَذُوا مَنْ دَعَاهُمَا فَحَضَرَا، فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ بِهِمَا اَلْمَجْلِسُ قَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله : «يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اَللَّهِ، تَقْبَلُ وَصِيَّتِي وَ تُنْجِزُ عِدَتِي وَ تَقْضِي عَنِّي دَيْنِي؟» فَقَالَ اَلْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، عَمُّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ذُو عِيَالٍ كَثِيرٍ، وَ أَنْتَ تُبَارِي اَلرِّيحَ سَخَاءً وَ كَرَماً، وَ عَلَيْكَ وَعْدٌ لاَ يَنْهَضُ بِهِ عَمُّكَ.
فَأَقْبَلَ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: «يَا أَخِي، تَقْبَلُ وَصِيَّتِي وَ تُنْجِزُ عِدَتِي وَ تَقْضِي عَنِّي دَيْنِي وَ تَقُومُ بِأَمْرِ أَهْلِي مِنْ بَعْدِي؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. فَقَالَ لَهُ: «اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَزَعَ خَاتَمَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَالَ لَهُ: «خُذْ هَذَا فَضَعْهُ فِي يَدِكَ وَ دَعَا بِسَيْفِهِ وَ دِرْعِهِ وَ جَمِيعِ لاَمَتِهِ فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَ اِلْتَمَسَ عِصَابَةً كَانَ يَشُدُّهَا عَلَى بَطْنِهِ إِذَا لَبِسَ سِلاَحَهُ وَ خَرَجَ إِلَى اَلْحَرْبِ، فَجِيءَ بِهَا إِلَيْهِ فَدَفَعَهَا إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالَ لَهُ: «اِمْضِ عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ إِلَى مَنْزِلِكَ».
فَلَمَّا كَانَ مِنَ اَلْغَدِ حُجِبَ اَلنَّاسُ عَنْهُ وَ ثَقُلَ فِي مَرَضِهِ، وَ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ لاَ يُفَارِقُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَقَامَ فِي بَعْضِ شُئُونِهِ، فَأَفَاقَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِفَاقَةً فَافْتَقَدَ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: - وَ أَزْوَاجُهُ حَوْلَهُ -: « اُدْعُوا لِي أَخِي وَ صَاحِبِي وَ عَاوَدَهُ اَلضَّعْفَ فَأَصْمَتَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: اُدْعُوا لَهُ أَبَا بَكْرٍ، فَدُعِيَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَهُ نَظَرَ إِلَيْهِ
ص: 185
وَ أَعْرَضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَهُ إِلَيَّ حَاجَةٌ لَأَفْضَى بِهَا إِلَيَّ . فَلَمَّا خَرَجَ أَعَادَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله اَلْقَوْلَ ثَانِيَةً وَ قَالَ: «اُدْعُوا لِي أَخِي وَ صَاحِبِي» فَقَالَتْ حَفْصَةُ: اُدْعُوا لَهُ عُمَرَ، فَدُعِيَ فَلَمَّا حَضَرَ رَآهُ اَلنَّبِيُّ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَانْصَرَفَ.
ثُمَّ قَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اُدْعُوا لِي أَخِي وَ صَاحِبِي» فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: اُدْعُوا لَهُ عَلِيّاً فَإِنَّهُ لاَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، فَدُعِيَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَوْمَأَ إِلَيْهِ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَنَاجَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله طَوِيلاً، ثُمَّ قَامَ فَجَلَسَ نَاحِيَةً حَتَّى أَغْفَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ لَهُ: اَلنَّاسُ: مَا اَلَّذِي أَوْعَزَ إِلَيْكَ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ؟ فَقَالَ: «عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ، فَتَحَ لِي كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ، وَ وَصَّانِي بِمَا أَنَا قَائِمٌ بِهِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ».
ثُمَّ ثَقُلَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ حَضَرَهُ اَلْمَوْتُ وَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ. فَلَمَّا قَرُبَ خُرُوجُ نَفْسِهِ قَالَ لَهُ: «ضَعْ رَأْسِي يَا عَلِيُّ فِي حَجْرِكَ، فَقَدْ جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَإِذَا فَاضَتْ نَفْسِي فَتَنَاوَلْهَا بِيَدِكَ وَ اِمْسَحْ بِهَا وَجْهَكَ ثُمَّ وَجِّهْنِي إِلَى اَلْقِبْلَةِ وَ تَوَلَّ أَمْرِي وَ صَلِّ عَلَيَّ أَوَّلَ اَلنَّاسِ، وَ لاَ تُفَارِقْنِي حَتَّى تُوَارِيَنِي فِي رَمْسِي، وَ اِسْتَعِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى» فَأَخَذَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَأَكَبَّتْ فَاطِمَةُ عَلَیْهِ السَّلامُ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَ تَنْدُبُهُ وَ تَبْكِي وَ تَقُولُ:
وَ أَبْيَضُ يُسْتَسْقَى اَلْغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالُ (1)اَلْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِل»
ص: 186
فَفَتَحَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَيْنَيْهِ وَ قَالَ بِصَوْتٍ ضَئِيلٍ: «يَا بُنَيَّةِ، هَذَا قَوْلُ عَمِّكِ أَبِي طَالِبٍ، لاَ تَقُولِيهِ، وَ لَكِنْ قُولِي: «وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ) (1) فَبَكَتْ طَوِيلاً فَأَوْمَأَ إِلَيْهَا بِالدُّنُوِّ مِنْهُ، فَدَنَتْ مِنْهُ فَأَسَرَّ إِلَيْهَا شَيْئاً تَهَلَّلَ لَهُ وَجْهُهَا.
ثُمَّ قَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ وَ يَدُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْيُمْنَى تَحْتَ حَنَكِهِ فَفَاضَتْ نَفْسُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ فِيهَا، فَرَفَعَهَا إِلَى وَجْهِهِ فَمَسَحَهُ بِهَا ثُمَّ وَجَّهَهُ وَ غَمَّضَهُ وَ مَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَ اِشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِهِ.
فَجَاءَتِ اَلرِّوَايَةُ، أَنَّهُ قِيلَ لِفَاطِمَةَ علیها السلام: مَا اَلَّذِي أَسَرَّ إِلَيْكِ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَسُرِيَ عَنْكِ مَا كُنْتِ عَلَيْهِ مِنَ اَلْحَزَنِ وَ اَلْقَلَقِ بِوَفَاتِهِ: قَالَتْ: «إِنَّهُ خَبَّرَنِي أَنَّنِي أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقاً بِهِ، وَ أَنَّهُ لَنْ تَطُولَ اَلْمُدَّةُ بِي بَعْدَهُ حَتَّى أُدْرِكَهُ، فَسُرِيَ ذَلِكَ عَنِّي». (2)
وَ لَمَّا أَرَادَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ غُسْلَهُ صلّی الله علیه و آله اِسْتَدْعَى اَلْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَاوِلَهُ اَلْمَاءَ لِغُسْلِهِ - بَعْدَ أَنْ عَصَبَ عَيْنَيْهِ - ثُمَّ شَقَّ قَمِيصَهُ مِنْ قِبَلِ جَيْبِهِ حَتَّى بَلَغَ بِهِ إِلَى سُرَّتِهِ، وَ تَوَلَّى عَلَیْهِ السَّلامُ غُسْلَهُ وَ تَحْنِيطَهُ وَ تَكْفِينَهُ، وَ اَلْفَضْلُ يُعَاطِيهِ اَلْمَاءَ وَ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ وَ تَجْهِيزِهِ تَقَدَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَحْدَهُ لَمْ
ص: 187
يَشْرَكْهُ مَعَهُ أَحَدٌ فِي اَلصَّلاَةِ عَلَيْهِ.
وَ كَانَ اَلْمُسْلِمُونَ فِي اَلْمَسْجِدِ يَخُوضُونَ فِيمَنْ يَؤُمُّهُمْ فِي اَلصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَ أَيْنَ يُدْفَنُ؟! فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله إِمَامُنَا حَيّاً وَ مَيِّتاً، فَيَدْخُلُ إِلَيْهِ فَوْجٌ فَوْجٌ مِنْكُمْ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِمَامٍ وَ يَنْصَرِفُونَ، وَ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبِضْ نَبِيّاً فِي مَكَانٍ إِلاَّ وَ قَدِ اِرْتَضَاهُ لِرَمْسِهِ فِيهِ، وَ إِنِّي دَافِنُهُ فِي حُجْرَتِهِ اَلَّتِي قُبِضَ فِيهَا فَسَلَّمَ اَلْقَوْمُ لِذَلِكَ وَ رَضُوا بِهِ.
وَ لَمَّا صَلَّى اَلْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ أَنْفَذَ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ بِرَجُلٍ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ اَلْجَرَّاحِ وَ كَانَ يَحْفِرُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَ يَضْرَحُ (1)وَ كَانَ ذَلِكَ عَادَةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَ أَنْفَذَ إِلَى زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ وَ كَانَ يَحْفِرُ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ يَلْحَدُ وَ اِسْتَدْعَاهُمَا وَ قَالَ: «اَللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ». فَوُجِدَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ فَقِيلَ لَهُ: اِحْتَفِرْ لِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، فَحَفَرَ لَهُ لَحْداً، وَ دَخَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ اَلْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ وَ اَلْفَضْلُ بْنُ اَلْعَبَّاسِ وَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ لِيَتَوَلَّوْا دَفْنَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَنَادَتِ اَلْأَنْصَارُ مِنْ وَرَاءِ اَلْبَيْتِ: يَا عَلِيُّ، إِنَّا نُذَكِّرُكَ اَللَّهَ وَ حَقَّنَا اَلْيَوْمَ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَنْ يَذْهَبَ، أَدْخِلْ مِنَّا رَجُلاً يَكُونُ لَنَا بِهِ حَظٌّ مِنْ مُوَارَاةِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: «لِيَدْخُلْ أَوْسُ بْنُ خَوَلِيٍّ» وَ كَانَ بَدْرِيّاً فَاضِلاً مِنْ بَنِي عَوْفٍ مِنَ اَلْخَزْرَجِ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ: عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اِنْزِلِ اَلْقَبْرَ» فَنَزَلَ وَ وَضَعَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلَى يَدَيْهِ وَ دَلاَّهُ فِي
ص: 188
حُفْرَتِهِ فَلَمَّا حَصَلَ فِي اَلْأَرْضِ قَالَ لَهُ: «اُخْرُجْ» فَخَرَجَ وَ نَزَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْقَبْرَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ وَضَعَ خَدَّهُ عَلَى اَلْأَرْضِ مُوَجَّهاً إِلَى اَلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ اَللَّبِنَ وَ هَالَ عَلَيْهِ اَلتُّرَابَ.
وَ كَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ اَلْإِثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ هِجْرَتِهِ وَ هُوَ اِبْنُ ثَلاَثٍ وَ سِتِّينَ سَنَةً.
وَ لَمْ يَحْضُرْ دَفْنَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله أَكْثَرُ اَلنَّاسِ، لِمَا جَرَى بَيْنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ مِنَ اَلتَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ اَلْخِلاَفَةِ، وَ فَاتَ أَكْثَرَهُمُ اَلصَّلاَةُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَ أَصْبَحَتْ فَاطِمَةُ عَلَیْهِ السَّلامُ تُنَادِي «وَا سَوْءَ صَبَاحَاهْ» فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَهَا: إِنَّ صَبَاحَكِ لَصَبَاحُ سَوْءٍ. وَ اِغْتَنَمَ اَلْقَوْمُ اَلْفُرْصَةَ لِشُغُلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، وَ اِنْقِطَاعِ بَنِي هَاشِمٍ عَنْهُمْ بِمُصَابِهِمْ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آلهريال فَتَبَادَرُوا إِلَى وِلاَيَةِ اَلْأَمْرِ، وَ اِتَّفَقَ لِأَبِي بَكْرٍ مَا اِتَّفَقَ لاِخْتِلاَفِ اَلْأَنْصَارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَ كَرَاهَةِ اَلطُّلَقَاءِ وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ تَأَخُّرِ اَلْأَمْرِ حَتَّى يَفْرُغَ بَنُو هَاشِمٍ، فَيَسْتَقِرَّ اَلْأَمْرُ مَقَرَّهُ فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ لِحُضُورِهِ اَلْمَكَانَ، وَ كَانَتْ أَسْبَابٌ مَعْرُوفَةٌ تَيَسَّرَ مِنْهَا لِلْقَوْمِ مَا رَامُوهُ، لَيْسَ هَذَا اَلْكِتَابُ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا فَنَشْرَحَ اَلْقَوْلَ فِيهَا عَلَى اَلتَّفْصِيلِ.
وَ قَدْ جَاءَتِ اَلرِّوَايَةُ: أَنَّهُ لَمَّا تَمَّ لِأَبِي بَكْرٍ مَا تَمَّ وَ بَايَعَهُ مَنْ بَايَعَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ هُوَ يُسَوِّي قَبْرَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِمِسْحَاةٍ فِي يَدِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اَلْقَوْمَ قَدْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَ وَقَعَتِ اَلْخَذْلَةُ فِي اَلْأَنْصَارِ لاِخْتِلاَفِهِمْ، وَ بَدَرَ اَلطُّلَقَاءُ بِالْعَقْدِ
ص: 189
لِلرَّجُلِ خَوْفاً مِنْ إِدْرَاكِكُمُ اَلْأَمْرَ. فَوَضَعَ طَرَفَ اَلْمِسْحَاةِ فِي اَلْأَرْضِ وَ يَدُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ (الم *أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ يَسْبِقُونٰا سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ) (1)(2)
وَ قَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ جَاءَ إِلَى بَابِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ عَلِيٌّ وَ اَلْعَبَّاسُ مُتَوَفِّرَانِ عَلَى اَلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِ فَنَادَى:
بَنِي هَاشِمٍ لاَ تُطْمِعُوا اَلنَّاسَ فِيكُمْ *** وَ لاَ سِيَّمَا تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ أَوْ عَدِيٌّ
فَمَا اَلْأَمْرُ إِلاَّ فِيكُمْ وَ إِلَيْكُمْ *** وَ لَيْسَ لَهَا إِلاَّ أَبُو حَسَنٍ عَلِيٌّ
أَبَا حَسَنٍ فَاشْدُدْ بِهَا كَفَّ حَازِمٍ *** فَإِنَّكَ بِالْأَمْرِ اَلَّذِي يُرْتَجَى مَلِيٌّ.
ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي هَاشِمٍ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَ رَضِيتُمْ أَنْ يَلِي عَلَيْكُمْ أَبُو فَصِيلٍ اَلرَّذْلُ بْنُ اَلرَّذْلِ، أَمَا وَ اَللَّهِ لَئِنْ شِئْتُمْ لَأَمْلَأَنَّهَا خَيْلاً وَ رَجِلاً. فَنَادَاهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اِرْجِعْ يَا بَا سُفْيَانَ، فَوَ اَللَّهِ مَا تُرِيدُ اَللَّهَ بِمَا تَقُولُ، وَ مَا زِلْتَ تَكِيدُ اَلْإِسْلاَمَ وَ أَهْلَهُ، وَ نَحْنُ مَشَاغِيلُ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، وَ عَلَى كُلِّ اِمْرِئٍ مَا اِكْتَسَبَ وَ هُوَ وَلِيُّ مَا اِحْتَقَبَ» فَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ فَوَجَدَ بَنِي أُمَيَّةَ مُجْتَمِعِينَ فِيهِ فَحَرَّضَهُمْ عَلَى اَلْأَمْرِ وَ لَمْ يَنْهَضُوا لَهُ.
و كانت فتنة عمت و بَلِيَّة شملت و أَسبابٌ سوء اتفقت، تَمَكَّنَ بها
ص: 190
الشيطانُ و تعاون فيها أهلُ الإفك و العُدوان، فتخاذل في إنكارها أهلُ الإيمان و كانَ ذلكَ تأوِيلُ قولِ الله عزَّ اِسْمُهَ (وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (1) فصل
و فيما عَدَدْناه من مناقب أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بعد الذي تقدّم ذكره من ذلكَ في حُجَّةَ الوداع، أدلُّ دليل على تَخَصُّصِه عَلَیْهِ السَّلامُ فيها بما لم يَشْرَكه فيه أحدٌ من الأَنّام، إذ كانَ كلُّ واحد منه بابا من الفَضْل قائماً بنفسه، غير محتاج في معناه إِلَى سواه.
أ لا تَرى أَنّ تَحَقَّقَه عَلَیْهِ السَّلامُ بالنبيُّ صلّی الله علیه و آله في مرضه إِلَى أَنّ توفّاه الله يقتضي فضله في الدين و القُربى من النبيُّ صلّی الله علیه و آله بالأَعمال المرضيّة الموجبة لسكونه إليه، و تعويله في أمرُه عليه، و انقطاعِه عن الكافَّة في تدبير نفسه إليه، و اختَصَّاصه من مودته بما لم يَشْرَكه فيه من عداه، ثُّمّ وصيّتِه إليه بما وصّاه بعد أَنّ عَرَض ذلكَ على غيره فأباه، و تحمُّلِه أعباءَ حقوقه فيه و ضمانه للقيام به و أداء الأَمانة فيما تولّاه، و تَخَصُّصِهِ بإُخُوَّة رسول الله صلّی الله علیه و آله، و صُحبتهِ المرضيّة حين دعاه، و إيداعه من علوِّم الدين ما أفرده به ممّن سواه، و تَوَلَّى غسله و جهازَه إِلَى الله، و سبق الكافَّة إِلَى الصلاة عليه و تقدُّمِهم في ذلكَ بمنَزَلته عنده و عند الله تعالى، و دلَّالةِ الأُمّة على كيفية
ص: 191
الصلاة عليه، و قد التبس الأَمرُ عليهم في ذلكَ، و إرشاده لهم إِلَى موضع دفنه، مَعَ الاختلاف الذي كانَ بينهم فيه، فانقادوا إِلَى ما دعاهم إليه من ذلكَ و رآه، فصار بذلكَ كلِّهِ أوحداً في فضله، و أَكمَلَ به من مآثره في الإسلام ما ابتدأه في أوّلَه إِلَى وفاة النبيُّ صلّی الله علیه و آله، و حَصَلَ له به نظامُ الفضائل على الاتّساق، و لم يتخلَّلْ شيئاً من أعماله في الدين فتورٌ (1)، و لا شأَنّ فضله عَلَیْهِ السَّلامُ لیه السلام فيما عَدَدْناه قصورٌ عن غايةٍ في مناقب الإيمان و فضائل الإسلام، و هذا لاحِقٌ بالمعجز الباهر الخارق للعادات، و هو مِمَّا لا يُوجَد مثلُه إلّا لنبيُّ مُرْسَل أو مَلَك مقرب و من لَحِقَ بهما في درج الفضائل عند الله تعالى، إذ كانت العادةَ جارية فيمن عدا الأَصنافِ الثلاثة بخلاف ذلكَ، على الاتّفاق من ذوي العقول، و الأَلْسُن و العادات. و الله نسأل التوفيقَ و به نعتصم من الضلالَ.
فصل
فأما الأَخبارُ الّتي جاءت بالباهر من قضاياه عَلَیْهِ السَّلامُ في الدين ، وأحكامه التي افتقر إليه في علمها كافّةُ المؤمنين ، بعد الذي أثبتناه من جملة الوارد في تقدّمه في العلم ، وتبريزِه على الجماعة بالمعرفة والفهم ، وفَزَعِ علماء الصحابة إليه فيما اَعْضَل من ذلك ، والتجائِهم إليه فيه وتسليمِهم له القضاء به ، فهي أكثرُمن أن تُحصى وأجلُّ من أن تُتعاطى ، وأنا مُورِدٌ منها جملةً تدلّ على ما بعدها إن شاء اللّه.
ص: 192
فمن ذلكَ ما رواه نَقَلةُ الآثار من العامُّة و الخاصَّة في قضاياه و رسول الله صلّی الله علیه و آله حيّ فصوَّبه فيها ، وحَكَم له بالحقّ فيما قضاه ، ودعا له بخير وأثنى عليه به ، وأبانه بالفضل في ذلك مِن الكافة ، ودَلَّ به على استحقاقه الأمرَ من بعده ، ووجوب تقدّمه على من سواه في مقام الإمامة ، كما تضمّن ذلك التنزيلُ فيما دلّ علَى معناه وعُرِف به ما حواه التأويل ، حيث يقول الله عزّ اسمه: (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (1) و قوله تعالى ذكره: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ) (2) و قوله تعالى سُبحانَه في قصة آدم عَلَیْهِ السَّلامُ و قد قالَت الملائكة: (أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قٰالَ إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ * وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ * قٰالَ يٰا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ قٰالَ «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (3) .
فنَبَّه الله سُبحانَه الملائكةَ على أَنّ آدم أَحقُّ بالخلافة منهم لأَنّه أعلمُ منهم بالأسماء وأفضلُهم في علم الأنباء.
ص: 193
و قالَ جلّ ذكره في قصة طالوت: (وَقٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمٰالِ قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ) (1) .
فجَعَلَ جهةَ حقّه في التقدُّم عليهم ما زاده اللهُ من البسطة في العَلِمَ و الجسم، و اصطفاءهُ إيّاه على كافّتهم بذلكَ، فكانَت هذه الآيات موافقةً لدلَّائل العقول في أَنّ الأعَلِمَ أَحقُّ بالتقدُّم في محلّ الإمامة ممّن لا يساويه في العَلِمَ و دلَّت على وجوب تقدّم أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ على كافَّة المسلمين في خلافة الرسول صلّی الله علیه و آله و إمامة الأُمّة لتقدمه عليهم في العَلِمَ و الحُكْمَة و قصُورهم عن منَزَلته في ذلكَ.
فصل
فممّا جاءت به الرواية في قضاياه و النبيُّ صلّی الله علیه و آله حيُّ موجودٌ ،أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله تَقْلِيدَهُ قَضَاءَ اَلْيَمَنِ، وَ إِنْفَاذَهُ إِلَيْهِمْ لِيُعَلِّمَهُمُ اَلْأَحْكَامَ وَ يُعَرِّفَهُمُ (2)اَلْحَلاَلَ مِنَ اَلْحَرَامِ، وَ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِأَحْكَامِ اَلْقُرْآنِ، قَالَ لَهُ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «تُنْفِذُنِي (3)
ص: 194
يَا رَسُولَ اَللَّهِ لِلْقَضَاءِ وَ أَنَا شَابٌّ وَ لاَ عِلْمَ لِي بِكُلِّ اَلْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ: «اُدْنُ مِنِّي» فَدَنَا مِنْهُ فَضَرَبَ عَلَى صَدْرِهِ بِيَدِهِ، وَ قَالَ: «اَللَّهُمَّ اِهْدِ قَلْبَهُ وَ ثَبِّتْ لِسَانَهُ» قَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اِثْنَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ اَلْمَقَامِ» (1).
وَ لَمَّا اِسْتَقَرَّتْ بِهِ اَلدَّارُ بِالْيَمَنِ، وَ نَظَرَ فِيمَا نَدَبَهُ إِلَيْهِ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله مِنَ اَلْقَضَاءِ وَ اَلْحُكْمِ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ، رَفَعَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ بَيْنَهُمَا جَارِيَةٌ يَمْلِكَانِ رِقَّهَا عَلَى اَلسَّوَاءِ، قَدْ جَهِلاَ حَظْرَ وَطْئِهَا فَوَطِئَاهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمَا جَوَازَ ذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمَا بِالْإِسْلاَمِ وَ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمَا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ اَلشَّرِيعَةُ مِنَ اَلْأَحْكَامِ، فَحَمَلَتِ اَلْجَارِيَةُ وَ وَضَعَتْ غُلاَماً فَاخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِيهِ، فَقَرَعَ عَلَى اَلْغُلاَمِ بِاسْمَيْهِمَا فَخَرَجَتِ اَلْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمَا فَأَلْحَقَ اَلْغُلاَمَ بِهِ، وَ أَلْزَمَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ عَبْداً لِشَرِيكِهِ، وَ قَالَ: «لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا أَقْدَمْتُمَا عَلَى مَا فَعَلْتُمَاهُ بَعْدَ اَلْحُجَّةِ عَلَيْكُمَا بِحَظْرِهِ لَبَالَغْتُ فِي عُقُوبَتِكُمَا» وَ بَلَغَ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله هَذِهِ اَلْقَضِيَّةُ فَأَمْضَاهَا، وَ أَقَرَّ اَلْحُكْمَ بِهَا فِي اَلْإِسْلاَمِ، وَ قَالَ: «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي جَعَلَ فِينَا - أَهْلَ اَلْبَيْتِ - مَنْ يَقْضِي عَلَى سُنَنِ دَاوُدَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ سَبِيلِهِ فِي اَلْقَضَاءِ» يعني القَضَاءِ بالإلهام الذي هو في مَعْنى الوحي، و نزول النص به أَنّ لو نَزَل على الصريح (2).
ص: 195
ثُمَّ رُفِعَ إِلَيْهِ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ هُوَ بِالْيَمَنِ خَبَرُ زُبْيَةٍ (1)حُفِرَتْ لِلْأَسَدِ فَوَقَعَ فِيهَا، فَغَدَا اَلنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَقَفَ عَلَى شَفِيرِ اَلزُّبْيَةِ رَجُلٌ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ وَ تَعَلَّقَ اَلْآخَرُ بِثَالِثٍ وَ تَعَلَّقَ اَلثَّالِثُ بِالرَّابِعِ، فَوَقَعُوا فِي اَلزُّبْيَةِ فَدَقَّهُمُ اَلْأَسَدُ وَ هَلَكُوا جَمِيعاً، فَقَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ أَنَّ اَلْأَوَّلَ فَرِيسَةُ اَلْأَسَدِ وَ عَلَيْهِ ثُلُثُ اَلدِّيَةِ لِلثَّانِي، وَ عَلَى اَلثَّانِي ثُلُثَا اَلدِّيَةِ لِلثَّالِثِ، وَ عَلَى اَلثَّالِثِ اَلدِّيَةُ كَامِلَةً لِلرَّابِعِ. فَانْتَهَى اَلْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَقَالَ: «لَقَدْ قَضَى أَبُو اَلْحَسَنِ فِيهِمْ بِقَضَاءِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ» (2).
ثُمَّ رُفِعَ إِلَيْهِ خَبَرُ جَارِيَةٍ حَمَلَتْ جَارِيَةً عَلَى عَاتِقِهَا عَبَثاً وَ لَعِباً، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ أُخْرَى فَقَرَصَتِ اَلْحَامِلَةَ فَقَفَزَتْ (3)لِقَرْصَتِهَا فَوَقَعَتِ اَلرَّاكِبَةُ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا وَ هَلَكَتْ فَقَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلْقَارِصَةِ بِثُلُثِ اَلدِّيَةِ، وَ عَلَى اَلْقَامِصَةِ (4)بِثُلُثِهَا، وَ أَسْقَطَ اَلثُّلُثَ اَلْبَاقِيَ بِقُمُوصِ اَلرَّاكِبَةِ لِرُكُوبِ اَلْوَاقِعَةِ (5)عَبَثاً اَلْقَامِصَةَ. وَ بَلَغَ اَلْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَأَمْضَاهُ وَ شَهِدَ لَهُ بِالصَّوَابِ بِهِ (6).
ص: 196
وَ قَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ فِي قَوْمٍ وَقَعَ عَلَيْهِمْ حَائِطٌ فَقَتَلَهُمْ، وَ كَانَ فِي جَمَاعَتِهِمُ اِمْرَأَةٌ مَمْلُوكَةٌ وَ أُخْرَى حُرَّةٌ ، وَ كَانَ لِلْحُرَّةِ وَلَدٌ طِفْلٌ مِنْ حُرٍّ، وَ لِلْجَارِيَةِ اَلْمَمْلُوكَةِ وَلَدٌ طِفْلٌ مِنْ مَمْلُوكٍ فَلَمْ يُعْرَفِ اَلْحُرُّ - مِنَ اَلطِّفْلَيْنِ - مِنَ اَلْمَمْلُوكِ، فَقَرَعَ بَيْنَهُمَا وَ حَكَمَ بِالْحُرِّيَّةِ لِمَنْ خَرَجَ سَهْمُ اَلْحُرِّيَّةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، وَ حَكَمَ بِالرِّقِّ لِمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ سَهْمُ اَلرِّقِّ مِنْهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَ جَعَلَهُ مَوْلاَهُ. وَ حَكَمَ فِي مِيرَاثِهِمَا بِالْحُكْمِ فِي اَلْحُرِّ وَ مَوْلاَهُ فَأَمْضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله عَلَيْهِ هَذَا اَلْقَضَاءَ وَ صَوَّبَهُ حَسَبَ إِمْضَائِهِ (1) . ما أسلفنا ذكره و وصفناه
فصل
وَ جَاءَتِ اَلْآثَارُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فِي بَقَرَةٍ قَتَلَتْ حِمَاراً فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، بَقَرَةُ هَذَا اَلرَّجُلِ قَتَلَتْ حِمَارِي. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اِذْهَبَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَاسْأَلاَهُ عَنْ ذَلِكَ» فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَ قَصَّا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمَا، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتُمَا رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ جِئْتُمَانِي؟ قَالاَ :هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمَا: بَهِيمَةٌ، قَتَلَتْ بَهِيمَةً لاَ شَيْءَ عَلَى رَبِّهَا.
فَعَادَا إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُمَا :«اِمْضِيَا
ص: 197
إِلَى عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ وَ قُصَّا عَلَيْهِ قِصَّتَكُمَا وَ اِسْأَلاَهُ اَلْقَضَاءَ فِي ذَلِكَ» فَذَهَبَا إِلَيْهِ وَ قَصَّا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمَا فَقَالَ لَهُمَا :كَيْفَ تَرَكْتُمَا رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ جِئْتُمَانِي؟ قَالاَ: هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، قَالَ: فَكَيْفَ لَمْ يَأْمُرْكُمَا بِالْمَصِيرِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟ قَالاَ: قَدْ أَمَرَنَا بِذَلِكَ فَصِرْنَا إِلَيْهِ. فَقَالَ: مَا اَلَّذِي قَالَ: لَكُمَا فِي هَذِهِ اَلْقَضِيَّةِ (1)قَالاَ لَهُ: كَيْتَ وَ كَيْتَ، قَالَ: مَا أَرَى إِلاَّ مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ .
فَعَادَا إِلَى اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله فَخَبَّرَاهُ اَلْخَبَرَ، فَقَالَ: «اِذْهَبَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ لِيَقْضِيَ بَيْنَكُمَا» فَذَهَبَا إِلَيْهِ فَقَصَّا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمَا، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنْ كَانَتِ اَلْبَقَرَةُ دَخَلَتْ عَلَى اَلْحِمَارِ فِي مَأْمَنِهِ، فَعَلَى رَبِّهَا قِيمَةُ اَلْحِمَارِ لِصَاحِبِهِ، وَ إِنْ كَانَ اَلْحِمَارُ دَخَلَ عَلَى اَلْبَقَرَةِ فِي مَأْمَنِهَا فَقَتَلَتْهُ، فَلاَ غُرْمَ عَلَى صَاحِبِهَا» فَعَادَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَأَخْبَرَاهُ بِقَضِيَّتِهِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ علیه وآله السلام: «لَقَدْ قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ اِسْمُهُ، ثُمَّ قَالَ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي جَعَلَ فِينَا - أَهْلَ اَلْبَيْتِ - مَنْ يَقْضِي عَلَى سُنَنِ دَاوُدَ فِي اَلْقَضَاءِ» (2)
و قد روى بعض العامُّة أَنّ هذه القضية كانت من أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بين الرجلّين باليمن، و روى بَعْضُهُم حَسَب ما قدَّمناه، و أَمثالِ ذلكَ كثيرة، و إنّما الغرض في إيراد موجز منه على الاختَصَّار.
ص: 198
فصل
في ذِكر مختصر من قضائه عَلَیْهِ السَّلامُ في إمارة أبي بكر بن أبي قحافة
فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ اَلْخَبَرُ بِهِ عَنْ رِجَالٍ مِنَ اَلْعَامَّةِ وَ اَلْخَاصَّةِ: أَنَّ رَجُلاً رُفِعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَ قَدْ شَرِبَ اَلْخَمْرَ فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ اَلْحَدَّ فَقَالَ لَهُ: إِنَّنِي شَرِبْتُهَا وَ لاَ عِلْمَ لِي بِتَحْرِيمِهَا، لِأَنِّي نَشَأْتُ بَيْنَ قَوْمٍ يَسْتَحِلُّونَهَا، وَ لَمْ أَعْلَمْ بِتَحْرِيمِهَا حَتَّى اَلْآنَ، فَارْتَجَّ (1)عَلَى أَبِي بَكْرٍ اَلْأَمْرُ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَ لَمْ يَعْلَمْ وَجْهَ اَلْقَضَاءِ فِيهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ أَنْ يَسْتَخْبِرَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَنِ اَلْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مُرْ ثِقَتَيْنِ مِنْ رِجَالِ اَلْمُسْلِمِينَ يَطُوفَانِ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ، وَ يُنَاشِدَانِهِمُ اَللَّهَ هَلْ فِيهِمْ أَحَدٌ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ اَلتَّحْرِيمِ أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله؟ فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ رَجُلاَنِ مِنْهُمْ فَأَقِمِ اَلْحَدَّ عَلَيْهِ، وَ إِنْ لَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ بِذَلِكَ فَاسْتَتِبْهُ وَ خَلِّ سَبِيلَهُ» فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ أَنَّهُ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ اَلتَّحْرِيمِ، وَ لاَ أَخْبَرَهُ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِذَلِكَ، فَاسْتَتَابَهُ أَبُو بَكْرٍ وَ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَ سَلَّمَ لِعَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي اَلْقَضَاءِ
ص: 199
بِهِ (1) .
وَ رَوَوْا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَ (فٰاكِهَةً وَ أَبًّا) (2) فَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى اَلْأَبِّ فِي اَلْقُرْآنِ، وَ قَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَ أَيُّ (3)أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَمْ كَيْفَ أَصْنَعُ إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى بِمَا لاَ أَعْلَمُ، أَمَّا اَلْفَاكِهَةُ فَنَعْرِفُهَا، وَ أَمَّا الأَبُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. فَبَلَغَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مَقَالُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «يَا سُبْحَانَ اَللَّهِ أَ مَا عَلِمَ أَنَّ اَلْأَبَّ هُوَ اَلْكَلاَءُ وَ اَلْمَرْعَى، وَ إِنَّ قَوْلَهُ عَزَّ اِسْمُهُ: (وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا) اِعْتِدَادٌ مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ فِيمَا غَذَّاهُمْ بِهِ وَ خَلَقَهُ لَهُمْ وَ لِأَنْعَامِهِمْ مِمَّا تَحْيَا بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَ تَقُومُ بِهِ أَجْسَادُهُمْ (4) .
وَ سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنِ اَلْكَلاَلَةِ فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ أَصَبْتُ فَمِنَ اَللَّهِ، وَ إِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنْ نَفْسِي وَ مِنَ اَلشَّيْطَانِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «مَا أَغْنَاهُ عَنِ اَلرَّأْيِ فِي هَذَا اَلْمَكَانِ! أَ مَا عَلِمَ أَنَّ اَلْكَلاَلَةَ هُمُ اَلْإِخْوَةُ وَ اَلْأَخَوَاتُ مِنْ قِبَلِ اَلْأَبِ وَ اَلْأُمِّ، وَ مِنْ قِبَلِ اَلْأَبِ عَلَى اِنْفِرَادِهِ، وَ مِنْ قِبَلِ اَلْأُمِّ أَيْضاً عَلَى حِدَتِهَا، قَالَ اَللَّهُ عَزَّ قَائِلاً:
ص: 200
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاٰلَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ) (1) وَ قَالَ: جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: (وَإِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاٰلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكٰاءُ فِي اَلثُّلُثِ ) (2) - (3) .
وَ جَاءَتِ اَلرِّوَايَةُ: أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ اَلْيَهُودِ جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَنْتَ خَلِيفَةُ نَبِيِّ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّا نَجِدُ فِي اَلتَّوْرَاةِ أَنَّ خُلَفَاءَ اَلْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُ أُمَمِهِمْ فَخَبِّرْنِي عَنِ اَللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ هُوَ فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فِي اَلسَّمَاءِ عَلَى اَلْعَرْشِ، فَقَالَ: اَلْيَهُودِيُّ: فَأَرَى اَلْأَرْضَ خَالِيَةً مِنْهُ، وَ أَرَاهُ عَلَى هَذَا اَلْقَوْلِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا كَلاَمُ اَلزَّنَادِقَةِ، اُغْرُبْ عَنِّي وَ إِلاَّ قَتَلْتُكَ. فَوَلَّى اَلْحِبْرُ مُتَعَجِّباً يَسْتَهْزِئُ بِالْإِسْلاَمِ، فَاسْتَقْبَلَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: «يَا يَهُودِيُّ، قَدْ عَرَفْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ وَ مَا أُجِبْتَ بِهِ، وَ إِنَّا نَقُولُ: إِنَّ اَللَّهَ جَلَّ وَ عَزَّ أَيَّنَ اَلْأَيْنَ فَلاَ أَيْنَ لَهُ، وَ جَلَّ عَنْ أَنْ يَحْوِيَهُ مَكَانٌ، وَ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِغَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَ لاَ مُجَاوَرَةٍ، يُحِيطُ عِلْماً بِمَا فِيهَا وَ لاَ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ تَدْبِيرِهِ، وَ إِنِّي مُخْبِرُكَ بِمَا جَاءَ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِكُمْ يُصَدِّقُ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ، فَإِنْ عَرَفْتَهُ أَ تُؤْمِنُ بِهِ؟» قَالَ: اَلْيَهُودِيُّ: نَعَمْ، قَالَ: «أَ لَسْتُمْ تَجِدُونَ فِي بَعْضِ كُتُبِكُمْ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَیْهِ السَّلامُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً إِذْ جَاءَهُ مَلَكٌ مِنَ اَلْمَشْرِقِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ عَزَّ
ص: 201
وَ جَلَّ، ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكٌ مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ، وَ جَاءَهُ مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكَ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلسَّابِعَةِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ جَاءَهُ مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكَ مِنَ اَلْأَرْضِ اَلسَّابِعَةِ اَلسُّفْلَى مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ عَزَّ اِسْمُهُ، فَقَالَ: مُوسَى عَلَیْهِ السَّلامُ: سُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَ لاَ يَكُونُ إِلَى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْ مَكَانٍ» فَقَالَ اَلْيَهُودِيُّ: (أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا هُوَ)(1) اَلْحَقُّ وَ أَنَّكَ أَحَقُّ بِمَقَامِ نَبِيِّكَ مِمَّنِ اِسْتَوْلَى عَلَيْهِ(2) .
و أَمثالِ هذه الأَخبار كثيرة
فصل في ذِكر ما جَاَءَ من قضاياه عَلَیْهِ السَّلامُ في إمارة عُمَربن الخَطّاب
فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلْعَامَّةُ وَ اَلْخَاصَّةُ فِي قِصَّةِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وَ قَدْ شَرِبَ اَلْخَمْرَ فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَحُدَّهُ، فَقَالَ لَهُ: قُدَامَةُ: إِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيَّ اَلْحَدُّ، لِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا إِذٰا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا
ص: 202
اَلصّٰالِحٰاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا)(1) فَدَرَأَ عُمَرُ عَنْهُ اَلْحَدَّ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَمَشَى إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: «لِمَ تَرَكْتَ إِقَامَةَ اَلْحَدِّ عَلَى قُدَامَةَ فِي شُرْبِهِ اَلْخَمْرَ؟» فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ تَلاَ عَلَيَّ اَلْآيَةَ، وَ تَلاَهَا عُمَرُ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، «لَيْسَ قُدَامَةُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اَلْآيَةِ، وَ لاَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي اِرْتِكَابِ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ، إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لاَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَاماً، فَارْدُدْ قُدَامَةَ وَ اِسْتَتِبْهُ مِمَّا قَالَ، فَإِنْ تَابَ فَأَقِمْ عَلَيْهِ اَلْحَدَّ، وَ إِنْ لَمْ يَتُبْ فَاقْتُلْهُ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ اَلْمِلَّةِ فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ لِذَلِكَ، وَ عَرَفَ قُدَامَةُ اَلْخَبَرَ، فَأَظْهَرَ اَلتَّوْبَةَ وَ اَلْإِقْلاَعَ، فَدَرَأَ عُمَرُ عَنْهُ اَلْقَتْلَ، وَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَحُدُّهُ. فَقَالَ لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ: أَشِرْ عَلَيَّ فِي حَدِّهِ، فَقَالَ: «حُدَّهُ ثَمَانِينَ، إِنَّ شَارِبَ اَلْخَمْرِ إِذَا شَرِبَهَا سَكِرَ ،وَ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَ إِذَا هَذَى اِفْتَرَى» فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ وَ صَارَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ(2).
وَ رَوَوْا: أَنَّ مَجْنُونَةً عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَجَرَ بِهَا رَجُلٌ، فَقَامَتِ اَلْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِهَا اَلْحَدَّ، فَمُرَّ بِهَا عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ لِتُجْلَدَ فَقَالَ: «مَا بَالُ مَجْنُونَةِ آلِ فُلاَنٍ تُعْتَلُ (3)؟» فَقِيلَ لَهُ:إِنَّ رَجُلاً فَجَرَ بِهَا وَ هَرَبَ، وَ قَامَتِ اَلْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: «رُدُّوهَا إِلَيْهِ: وَ قُولُوا لَهُ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ مَجْنُونَةُ آلِ فُلاَنٍ! وَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلی الله
ص: 203
علیه وآله قَالَ: رُفِعَ اَلْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ اَلْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ! إِنَّهَا مَغْلُوبَةٌ عَلَى عَقْلِهَا وَ نَفْسِهَا» فَرُدَّتْ إِلَى عُمَرَ وَ قِيلَ لَهُ مَا قَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: فَرَّجَ اَللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أَهْلِكَ فِي جَلْدِهَا. وَ دَرَأَ عَنْهَا اَلْحَدَّ (1) .
وَ رَوَوْا: أَنَّهُ أُتِيَ بِحَامِلٍ قَدْ زَنَتْ فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «هَبْ لَكَ سَبِيلٌ عَلَيْهَا، أَيُّ سَبِيلٍ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا!؟ وَ اَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: (وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ) (2) فَقَالَ عُمَرُ: لاَ عِشْتُ لِمُعْضِلَةٍ لاَ يَكُونُ لَهَا أَبُو حَسَنٍ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: «اِحْتَطْ عَلَيْهَا حَتَّى تَلِدَ، فَإِذَا وَلَدَتْ وَ وَجَدْتَ لِوَلَدِهَا مَنْ يَكْفُلُهُ فَأَقِمِ اَلْحَدَّ عَلَيْهَا» فَسُرِّيَ بِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَ عَوَّلَ فِي اَلْحُكْمِ بِهِ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ (3) .
وَ رَوَوْا: أَنَّهُ اِسْتَدْعَى اِمْرَأَةً تَتَحَدَّثُ عِنْدَهَا اَلرِّجَالُ، فَلَمَّا جَاءَهَا رُسُلُهُ فَزِعَتْ وَ اِرْتَاعَتْ وَ خَرَجَتْ مَعَهُمْ ، فَأَمْلَصَتْ (4) فَوَقَعَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَلَدُهَا يَسْتَهِلُّ ثُمَّ مَاتَ، فَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَجَمَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اَللَّهِ
ص: 204
صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وَ سَأَلَهُمْ عَنِ اَلْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: نَرَاكَ مُؤَدِّباً وَ لَمْ تُرِدْ إِلاَّ خَيْراً وَ لاَ شَيْءَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ. وَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا عِنْدَكَ فِي هَذَا يَا أَبَا اَلْحَسَنِ؟ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ مَا قَالُوا» قَالَ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: «قَدْ قَالَ اَلْقَوْمُ مَا سَمِعْتَ» قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَقُولَنَّ مَا عِنْدَكَ، قَالَ: «إِنْ كَانَ اَلْقَوْمُ قَارَبُوكَ فَقَدْ غَشُّوكَ، وَ إِنْ كَانُوا اِرْتَأَوْا فَقَدْ قَصَّرُوا، اَلدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِكَ لِأَنَّ قَتْلَ اَلصَّبِيِّ خَطَأٌ تَعَلَّقَ بِكَ» فَقَالَ: أَنْتَ وَ اَللَّهِ نَصَحْتَنِي مِنْ بَيْنِهِمْ، وَ اَللَّهِ لاَ تَبْرَحُ حَتَّى تُجَزِّئَ اَلدِّيَةَ عَلَى بَنِي عَدِيٍّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ (1) .
وَ رَوَوْا: أَنَّ اِمْرَأَتَيْنِ تَنَازَعَتَا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فِي طِفْلٍ اِدَّعَتْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَداً لَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَ لَمْ يُنَازِعْهُمَا فِيهِ غَيْرُهُمَا، فَالْتَبَسَ اَلْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ وَ فَزِعَ فِيهِ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَاسْتَدْعَى اَلْمَرْأَتَيْنِ وَ وَعَظَهُمَا وَ خَوَّفَهُمَا فَأَقَامَتَا عَلَى اَلتَّنَازُعِ وَ اَلاِخْتِلاَفِ، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: عِنْدَ تَمَادِيهِمَا فِي اَلنِّزَاعِ: «اِيتُونِي بِمِنْشَارٍ فَقَالَتْ لَهُ اَلْمَرْأَتَانِ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «أَقُدُّهُ نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا نِصْفُهُ» فَسَكَتَتْ إِحْدَاهُمَا وَ قَالَتِ اَلْأُخْرَى: اَللَّهَ اَللَّهَ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، إِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ سَمَحْتُ بِهِ لَهَا فَقَالَ: اَللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا اِبْنُكِ دُونَهَا وَ لَوْ كَانَ اِبْنَهَا لَرَقَّتْ عَلَيْهِ وَ أَشْفَقَتْ» فَاعْتَرَفَتِ اَلْمَرْأَةُ اَلْأُخْرَى بِأَنَّ اَلْحَقَّ
ص: 205
مَعَ صَاحِبَتِهَا وَ اَلْوَلَدَ لَهَا دُونَهُ، فَسُرِّيَ عَنْ عُمَرَ وَ دَعَا لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِمَا فَرَّجَ عَنْهُ فِي اَلْقَضَاءِ (1) .
وَ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ، عَنِ اَلْحَسَنِ: أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنْ خَاصَمَتْكَ بِكِتَابِ اَللَّهِ خَصَمَتْكَ، إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ اِسْمُهُ يَقُولُ: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً) (2) وَ يَقُولُ تَعَالَى: (وَ اَلْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضٰاعَةَ) (3) فَإِذَا تَمَّتِ اَلْمَرْأَةُ اَلرَّضَاعَةَ سَنَتَيْنِ، وَ كَانَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلاَثِينَ شَهْراً، كَانَ اَلْحَمْلُ مِنْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ» فَخَلَّى عُمَرُ سَبِيلَ اَلْمَرْأَةِ وَ ثَبَتَ اَلْحُكْمُ بِذَلِكَ ، يَعْمَلُ بِهِ اَلصَّحَابَةُ وَ اَلتَّابِعُونَ وَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا (4) .
وَ رَوَوْا: أَنَّ اِمْرَأَةً شَهِدَ عَلَيْهَا اَلشُّهُودُ أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا فِي بَعْضِ مِيَاهِ اَلْعَرَبِ مَعَ رَجُلٍ يَطَؤُهَا لَيْسَ بِبَعْلٍ لَهَا، فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا وَ كَانَتْ ذَاتَ بَعْلٍ، فَقَالَتِ: اَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، فَغَضِبَ عُمَرُ وَ قَالَ: وَ تَجْرَحُ اَلشُّهُودَ أَيْضاً، قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «رُدُّوهَا وَ اِسْأَلُوهَا، فَلَعَلَّ لَهَا عُذْراً» فَرُدَّتْ وَ سُئِلَتْ عَنْ حَالِهَا فَقَالَتْ: كَانَ لِأَهْلِي إِبِلٌ فَخَرَجْتُ فِي إِبِلِ أَهْلِي وَ حَمَلْتُ مَعِي مَاءً وَ لَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِي لَبَنٌ وَ خَرَجَ مَعِي
ص: 206
خَلِيطُنَا وَ كَانَتْ فِي إِبِلِهِ لَبَنٌ فنفذ [فَنَفِدَ] مَائِي، فَاسْتَسْقَيْتُهُ فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَنِي حَتَّى أُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِي، فَأَبَيْتُ، فَلَمَّا كَادَتْ نَفْسِي تَخْرُجُ أَمْكَنْتُهُ مِنْ نَفْسِي كُرْهاً. فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ:« اَللَّهُ أَكْبَرُ (فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ) (1)» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ خَلَّى سَبِيلَهَا (2) .
فصل
و مِمَّا جَاَءَ عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ في مَعْنى القَضَاءِ و صَوَاب الرَّأْي، و إِرْشَاد القَوْم إِلَى مَصَالِحِهِم و تَدارُكِ ما كَادَ يَفْسُد بِهِم (3)لولا تنبيُّهه على وجه الرَّأْي فيه -
مَا حَدَّثَ بِهِ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ اَلْهُذَلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: تَكَاتَبَتِ اَلْأَعَاجِمُ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ وَ أَهْلِ اَلرَّيِّ وَ أَهْلِ أَصْفَهَانَ وَ قُومِسَ (4)وَ نَهَاوَنْدَ، وَ أَرْسَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: أَنَّ مَلِكَ اَلْعَرَبِ اَلَّذِي جَاءَ بِدِينِهِمْ وَ أَخْرَجَ كِتَابَهُمْ قَدْ هَلَكَ - يَعْنُونَ اَلنَّبِيَّ صلّی الله علیه و آله - وَ أَنَّهُ مَلَكَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ
ص: 207
رَجُلٌ مُلْكاً يَسِيراً ثُمَّ هَلَكَ - يَعْنُونَ أَبَا بَكْرٍ- وَ قَامَ بَعْدَهُ آخَرُ قَدْ طَالَ عُمُرُهُ حَتَّى تَنَاوَلَكُمْ فِي بِلاَدِكُمْ وَ أَغْزَاكُمْ جُنُودَه ُ - يَعْنُونَ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ - وَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَهٍ عَنْكُمْ حَتَّى تُخْرِجُوا مَنْ فِي بِلاَدِكُمْ مِنْ جُنُودِهِ، وَ تَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَتَغْزُوهُ فِي بِلاَدِهِ، فَتَعَاقَدُوا عَلَى هَذَا وَ تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ.
فَلَمَّا اِنْتَهَى اَلْخَبَرُ إِلَى مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ أَنْهَوْهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ، فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَيْهِ اَلْخَبَرُ فَزِعَ عُمَرُ لِذَلِكَ فَزَعاً شَدِيداً، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله فَصَعِدَ اَلْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَعَاشِرَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ، إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ لَكُمْ جُمُوعاً، وَ أَقْبَلَ بِهَا لِيُطْفِئَ بِهَا نُورَ اَللَّهِ، أَلاَ إِنَّ أَهْلَ هَمَذَانَ وَ أَهْلَ أَصْفَهَانَ وَ اَلرَّيِّ وَ قُومَسَ وَ نَهَاوَنْدَ مُخْتَلِفَةٌ أَلْسِنَتُهَا وَ أَلْوَانُهَا وَ أَدْيَانُهَا، قَدْ تَعَاهَدُوا وَ تَعَاقَدُوا أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ بِلاَدِهِمْ إِخْوَانَكُمْ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَ يَخْرُجُوا إِلَيْكُمْ فَيَغْزُوكُمْ فِي بِلاَدِكُمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ وَ أَوْجِزُوا وَ لاَ تُطْنِبُوا فِي اَلْقَوْلِ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ اَلْأَيَّامِ.
فَتَكَلَّمُوا، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ - وَكَانَ مِنْ خُطَبَاءِ قُرَيْشٍ - فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، قَدْ حَنَّكَتْكَ اَلْأُمُورُ، وَ جَرَّسَتْكَ (1)اَلدُّهُورُ، وَ عَجَمَتْكَ اَلْبَلاَيَا، وَ أَحْكَمَتْكَ اَلتَّجَارِبُ، وَ أَنْتَ مُبَارَكُ اَلْأَمْرِ، مَيْمُونُ اَلنَّقِيبَةِ، قَدْ وُلِّيتَ فَخَبُرْتَ وَ اِخْتَبَرْتَ وَ خُبِرْتَ، فَلَمْ تَنْكَشِفْ مِنْ عَوَاقِبِ قَضَاءِ اَللَّهِ إِلاَّ عَنْ خِيَارٍ ، فَاحْضُرْ هَذَا اَلْأَمْرَ بِرَأْيِكَ وَ لاَ تَغِبْ عَنْهُ ثُمَّ جَلَسَ.
فَقَالَ عُمَرُ: تَكَلَّمُوا، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ
ص: 208
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ - يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ - فَإِنِّي أَرَى أَنْ تُشْخِصَ أَهْلَ اَلشَّامِ مِنْ شَامِهِمْ، وَ أَهْلَ اَلْيَمَنِ مِنْ يَمَنِهِمْ، وَ تَسِيرَ أَنْتَ فِي أَهْلِ هَذَيْنِ اَلْحَرَمَيْنِ وَ أَهْلِ اَلْمِصْرَيْنِ اَلْكُوفَةِ وَ اَلْبَصْرَةِ، فَتَلْقَى جَمْعَ اَلْمُشْرِكِينَ بِجَمْعِ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ - يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ - لاَ تَسْتَبْقِي مِنْ نَفْسِكَ بَعْدَ اَلْعَرَبِ بَاقِيَةً، وَ لاَ تَمَتَّعُ مِنَ اَلدُّنْيَا بِعَزِيزٍ، وَ لاَ تَلُوذُ مِنْهَا بِحَرِيزٍ، فَاحْضُرْهُ بِرَأْيِكَ وَ لاَ تَغِبْ عَنْهُ ثُمَّ جَلَسَ.
فَقَالَ عُمَرُ: تَكَلَّمُوا، فَقَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ - حَتَّى تَمَّ اَلتَّحْمِيدُ وَ اَلثَّنَاءُ عَلَى اَللَّهِ وَ اَلصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله - ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ اَلشَّامِ مِنْ شَامِهِمْ، سَارَتِ اَلرُّومُ إِلَى ذَرَارِيِّهِمْ؛ وَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ اَلْيَمَنِ مِنْ يَمَنِهِمْ، سَارَتِ اَلْحَبَشَةُ إِلَى ذَرَارِيِّهِمْ؛ وَ إِنْ أَشْخَصْتَ مَنْ بِهَذَيْنِ اَلْحَرَمَيْنِ؛ اِنْتَقَضَتِ اَلْعَرَبُ عَلَيْكَ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَكْنَافِهَا؛ حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ مِنْ عِيَالاَتِ اَلْعَرَبِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ. وَ أَمَّا ذِكْرُكَ كَثْرَةَ اَلْعَجَمِ وَ رَهْبَتَكَ مِنْ جُمُوعِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله بِالْكَثْرَةِ وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ، وَ أَمَّا مَا بَلَغَكَ مِنِ اِجْتِمَاعِهِمْ عَلَى اَلْمَسِيرِ إِلَى اَلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اَللَّهَ لِمَسِيرِهِمْ أَكْرَهُ مِنْكَ لِذَلِكَ، وَ هُوَ أَوْلَى بِتَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ، وَ إِنَّ اَلْأَعَاجِمَ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْكَ قَالُوا: هَذَا رِجْلُ اَلْعَرَبِ، فَإِنْ قَطَعْتُمُوهُ فَقَدْ قَطَعْتُمُ اَلْعَرَبَ، فَكَانَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ، وَ كُنْتَ قَدْ أَلَّبْتَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ، وَ أَمَدَّهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُمِدُّهُمْ. وَ لَكِنِّي أَرَى أَنْ تُقِرَّ هَؤُلاَءِ فِي أَمْصَارِهِمْ، وَ تَكْتُبَ إِلَى أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ فَلْيَتَفَرَّقُوا عَلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ: فَلْتَقُمْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّهِمْ حَرَساً لَهُمْ، وَ لْتَقُمْ فِرْقَةٌ فِي أَهْلِ عَهْدِهِمْ لِئَلاَّ يَنْتَقِضُوا، وَ لْتَسِرْ
ص: 209
فِرْقَةٌ مِنْهُمْ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مَدَداً لَهُمْ» فَقَالَ عُمَرُ: أَجَلْ هَذَا اَلرَّأْيُ، وَ قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُتَابِعَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ يَنْسِقُهُ إِعْجَاباً بِهِ وَ اِخْتِيَاراً لَهُ (1) .
قالَ الشيخ المفيد رضي الله عَنْهُ: فانظروا _ أيّدكم الله _ إلى هذا الموقف الذي يُنبئ بفضل الرأي إِذ تنازعه أولو الألباب والعلم ، وتأمّلوا التوفيقَ الذي قرن الله به أمير المؤمنين علیهِ السّلامُ في الأحوال كلّها ، وفزع القوم إِليه في المعْضِل من الأمور ، وأضيفوا ذلك إِلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الذي أعجز متقدّمي القوم حتّى اضطرّوا في علمه إِليه ، تجدوه من باب المعجز الذي قدّمناه ، والله وليّ التوفيق.
فهذا طرف من موجز الأَخبار فيما قَضى به أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في إمارة عُمَربن الخَطّاب، و له مثلُ ذلكَ في إمارة عثُّمّان بن عفان.
فصل
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ نَقَلَةُ اَلْآثَارِ مِنَ اَلْعَامَّةِ وَ اَلْخَاصَّةِ: أَنَّ اِمْرَأَةً نَكَحَهَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَحَمَلَتْ، فَزَعَمَ اَلشَّيْخُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا وَ أَنْكَرَ حَمْلَهَا، فَالْتَبَسَ اَلْأَمْرُ عَلَى عُثْمَانَ، وَ سَأَلَ اَلْمَرْأَةَ هَلِ اِقْتَضَّكِ اَلشَّيْخ ُ ؟وَ كَانَتْ
ص: 210
بِكْراً فَقَالَتْ: لاَ، فَقَالَ: عُثْمَانُ: أَقِيمُوا اَلْحَدَّ عَلَيْهَا فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنَّ لِلْمَرْأَةِ سَمَّيْنِ: سَمَّ اَلْمَحِيضِ وَ سَمَّ اَلْبَوْلِ، فَلَعَلَّ اَلشَّيْخَ كَانَ يَنَالُ مِنْهَا فَسَالَ مَاؤُهُ فِي سَمِّ اَلْمَحِيضِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَاسْأَلُوا اَلرَّجُلَ عَنْ ذَلِكَ» فَسُئِلَ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْزِلُ اَلْمَاءَ فِي قُبُلِهَا مِنْ غَيْرِ وُصُولٍ إِلَيْهَا بِالاِقْتِضَاضِ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَلْحَمْلُ لَهُ وَ اَلْوَلَدُ وَلَدُهُ، وَ أَرَى عُقُوبَتَهُ عَلَى اَلْإِنْكَارِ لَهُ» فَصَارَ عُثْمَانُ إِلَى قَضَائِهِ بِذَلِكَ وَ تَعَجَّبَ مِنْهُ (1) .
وَ رَوَوْا: أَنَّ رَجُلاً كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ فَأَوْلَدَهَا ثُمَّ اِعْتَزَلَهَا وَ أَنْكَحَهَا عَبْداً لَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ اَلسَّيِّدُ فَعَتَقَتْ بِمِلْكِ اِبْنِهَا لَهَا، فَوَرِثَتْ مِنْ وَلَدِهَا زَوْجَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ اَلاِبْنُ فَوَرِثَتْ مِنْ وَلَدِهَا زَوْجَهَا فَارْتَفَعَا إِلَى عُثْمَانَ يَخْتَصِمَانِ تَقُولُ: هَذَا عَبْدِي، وَ يَقُولُ: هِيَ اِمْرَأَتِي وَ لَسْتُ مُفَرِّجاً عَنْهَا، فَقَالَ: عُثْمَانُ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُشْكِلَةٌ، وَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ حَاضِرٌ فَقَالَ: «سَلُوهَا هَلْ جَامَعَهَا بَعْدَ مِيرَاثِهَا لَهُ؟» فَقَالَتْ لاَ، فَقَالَ:«لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَعَذَّبْتُهُ، اِذْهَبِي فَإِنَّهُ عَبْدُكِ لَيْسَ لَهُ عَلَيْكِ سَبِيلٌ، إِنْ شِئْتِ أَنْ تَسْتَرِقِّيهِ أَوْ تُعْتِقِيهِ أَوْ تَبِيعِيهِ فَذَاكِ لَكِ» (2) .
وَ رَوَوْا: أَنَّ مُكَاتَبَةً زَنَتْ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ وَ قَدْ عَتَقَ مِنْهَا ثَلاَثَةُ أَرْبَاعٍ، فَسَأَلَ عُثْمَانُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «يُجْلَدُ مِنْهَا بِحِسَابِ اَلْحُرِّيَّةِ، وَ يُجْلَدُ مِنْهَا بِحِسَابِ اَلرِّقِّ»
ص: 211
وَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: تُجْلَدُ بِحِسَابِ اَلرِّقِّ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «كَيْفَ تُجْلَدُ بِحِسَابِ اَلرِّقِّ وَ قَدْ عَتَقَ مِنْهَا ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهَا؟ وَ هَلاَّ جَلَدْتَهَا بِحِسَابِ اَلْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهَا فِيهَا أَكْثَرُ!» فَقَالَ: زَيْدٌ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ تَوْرِيثُهَا بِحِسَابِ اَلْحُرِّيَّةِ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَجَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ» فَأُفْحِمَ زَيْدٌ، وَ خَاَلَفَ عُثْمَانُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ صَارَ إِلَى قَوْلِ زَيْدٍ، و لم يصغ إِلَى ما قالَ بعد ظُهُورُ الحُجَّةُ عليه (1) . و أَمثالِ ذلكَ مِمَّا يطول بذكره الكتاب، و ينتشر به الخَطّاب.
فصل
وَ كَانَ مِنْ قَضَايَاهُ عَلَیْهِ السَّلامُ بَعْدَ بَيْعَةِ اَلْعَامَّةِ لَهُ وَ مُضِيِّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَهْلُ اَلنَّقْلِ مِنْ حَمَلَةِ اَلْآثَارِ: أَنَّ اِمْرَأَةً وَلَدَتْ عَلَى فِرَاشِ زَوْجِهَا وَلَداً لَهُ بَدَنَانِ وَ رَأْسَانِ عَلَى حَقْوٍ (2)وَاحِدٍ، فَالْتَبَسَ اَلْأَمْرُ عَلَى أَهْلِهِ أَ هُوَ وَاحِدٌ أَمِ اِثْنَانِ؟ فَصَارُوا إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفُوا اَلْحُكْمَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اِعْتَبِرُوهُ إِذَا نَامَ ثُمَّ أَنْبِهُوا أَحَدَ اَلْبَدَنَيْنِ وَ اَلرَّأْسَيْنِ، فَإِنِ اِنْتَبَهَا جَمِيعاً مَعاً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُمَا إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَ إِنِ اِسْتَيْقَظَ أَحَدُهُمَا وَ اَلْآخَرُ نَائِمٌ، فَهُمَا
ص: 212
اِثْنَانِ وَ حَقُّهُمَا مِنَ اَلْمِيرَاثِ حَقُّ اِثْنَيْنِ» (1) .
وَ رَوَى اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْعَبْدِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ اَلْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: بَيْنَا شُرَيْحٌ فِي مَجْلِسِ اَلْقَضَاءِ إِذْ جَاءَهُ شَخْصٌ فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ أَخْلِنِي فَإِنَّ لِي حَاجَةً، قَالَ: فَأَمَرَ مَنْ حَوْلَهُ أَنْ يَخِفُّوا عَنْهُ، فَانْصَرَفُوا وَ بَقِيَ خَاصَّةُ مَنْ حَضَرَ فَقَالَ لَهُ: اُذْكُرْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ إِنَّ لِي مَا لِلرِّجَالِ وَ مَا لِلنِّسَاءِ فَمَا اَلْحُكْمُ عِنْدَكَ فِيَّ أَ رَجُلٌ أَنَا أَمِ اِمْرَأَةٌ؟ فَقَالَ لَهُ: قَدْ سَمِعْتُ مِنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي ذَلِكَ قَضِيَّةً أَنَا أَذْكُرُهَا، خَبِّرْنِي عَنِ اَلْبَوْلِ مِنْ أَيِّ اَلْفَرْجَيْنِ يَخْرُجُ؟ قَالَ: اَلشَّخْصُ: مِنْ كِلَيْهِمَا، قَالَ: فَمِنْ أَيِّهِمَا يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: مِنْهُمَا مَعاً، فَتَعَجَّبَ شُرَيْحٌ، فَقَالَ اَلشَّخْصُ: سَأُورِدُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِي مَا هُوَ أَعْجَبُ، قَالَ: شُرَيْحٌ: وَ مَا ذَاكَ؟ قَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي عَلَى أَنَّنِي اِمْرَأَةٌ فَحَمَلْتُ مِنَ اَلزَّوْجِ، وَ اِبْتَعْتُ جَارِيَةً تَخْدُمُنِي فَأَفْضَيْتُ إِلَيْهَا فَحَمَلَتْ مِنِّي.
قَالَ: فَضَرَبَ شُرَيْحٌ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى اَلْأُخْرَى مُتَعَجِّباً وَ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ لاَ بُدَّ مِنْ إِنْهَائِهِ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَلاَ عِلْمَ لِي بِالْحُكْمِ فِيهِ. فَقَامَ وَ تَبِعَهُ اَلشَّخْصُ وَ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَصَّ عَلَيْهِ اَلْقِصَّةَ، فَدَعَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالشَّخْصِ فَسَأَلَهُ عَمَّا حَكَاهُ شُرَيْحٌ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَالَ لَهُ: «وَ مَنْ زَوْجُكَ؟» قَالَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، وَ هُوَ حَاضِرٌ فِي اَلْمِصْرِ ، فَدُعِيَ وَ سُئِلَ عَمَّا قَالَ: فَقَالَ: صَدَقَ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لَأَنْتَ أَجْرَأُ مِنْ صَائِدِ اَلْأَسَدِ حِينَ تُقْدِمُ عَلَى هَذَا اَلْحَالِ» ثُمَّ دَعَا قَنْبَراً مَوْلاَهُ فَقَالَ:
ص: 213
«أَدْخِلْ هَذَا اَلشَّخْصَ بَيْتاً وَ مَعَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنَ اَلْعُدُولِ، وَ مُرْهُنَّ بِتَجْرِيدِهِ وَ عَدِّ أَضْلاَعِهِ بَعْدَ اَلاِسْتِيثَاقِ مِنْ سَتْرِ فَرْجِهِ» فَقَالَ: اَلرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ،مَا آمَنُ عَلَى هَذَا اَلشَّخْصِ اَلرِّجَالَ وَ اَلنِّسَاءَ، فَأَمَرَ أَنْ يُشَدَّ عَلَيْهِ تُبَّانٌ (1)وَ أَخْلاَهُ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ وَلَجَه ُ فَعَدَّ أَضْلاَعَهُ، فَكَانَتْ مِنَ اَلْجَانِبِ اَلْأَيْسَرِ سَبْعَةٌ، وَ مِنَ اَلْجَانِبِ اَلْأَيْمَنِ ثَمَانِيَةٌ، فَقَالَ: «هَذَا رَجُلٌ» وَ أَمَرَ بِطَمِّ (2)شَعْرِهِ، وَ أَلْبَسَهُ اَلْقَلَنْسُوَةَ وَ اَلنَّعْلَيْنِ وَ اَلرِّدَاءَ، وَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلزَّوْجِ (3)
وَ رَوَى بَعْضُ أَهْلِ اَلنَّقْلِ أَنَّهُ لَمَّا اِدَّعَى اَلشَّخْصُ مَا اِدَّعَاهُ مِنَ اَلْفَرْجَيْنِ أَمَرَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَدْلَيْنِ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْضُرَا بَيْتاً خَالِياً وَ أَحْضَرَ اَلشَّخْصَ مَعَهُمَا وَ أَمَرَ بِنَصْبِ مِرْآتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مُقَابِلَةً لِفَرْجِ اَلشَّخْصِ وَ اَلْأُخْرَى مُقَابِلَةً لِلْمِرْآةِ اَلْأُخْرَى وَ أَمَرَ اَلشَّخْصَ بِالْكَشْفِ عَنْ عَوْرَتِهِ فِي مُقَابِلَةِ اَلْمِرْآةِ حَيْثُ لاَ يَرَاهُ اَلْعَدْلاَنِ وَ أَمَرَ اَلْعَدْلَيْنِ بِالنَّظَرِ فِي اَلْمِرْآةِ اَلْمُقَابِلَةِ لَهَا فَلَمَّا تَحَقَّقَ اَلْعَدْلاَنِ صِحَّةَ مَا اِدَّعَاهُ اَلشَّخْصُ مِنَ اَلْفَرْجَيْنِ اِعْتَبَرَ حَالَهُ بِعَدِّ أَضْلاَعِهِ فَلَمَّا أَلْحَقَهُ بِالرِّجَالِ أَهْمَلَ قَوْلَهُ فِي اِدِّعَاءِ اَلْحَمْلِ وَ أَلْغَاهُ وَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَ جَعَلَ حَمْلَ اَلْجَارِيَةِ مِنْهُ وَ أَلْحَقَهُ بِهِ (4) .
ص: 214
وَ رَوَوْا: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ اَلْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ شَابّاً حَدَثاً يَبْكِي وَ حَوْلَهُ قَوْمٌ، فَسَأَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحاً قَضَى عَلَيَّ بِقَضِيَّةٍ لَمْ يُنْصِفْنِي فِيهَا، قَالَ:«وَ مَا شَأْنُكَ؟» قَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ اَلنَّفَرَ - وَ أَوْمَأَ إِلَى نَفَرٍ حُضُورٍ - أَخْرَجُوا أَبِي مَعَهُمْ فِي سَفَرٍ، فَرَجَعُوا وَ لَمْ يَرْجِعْ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: مَاتَ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ اَلَّذِي اِسْتَصْحَبَهُ، فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ لَهُ مَالاً ، فَاسْتَحْلَفَهُمْ شُرَيْحٌ وَ تَقَدَّمَ إِلَيَّ بِتَرْكِ اَلتَّعَرُّضِ لَهُمْ .
فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: لِقَنْبَرٍ «اِجْمَعِ اَلْقَوْمَ وَ اُدْعُ لِي شُرَطَ اَلْخَمِيسِ» (1)ثُمَّ جَلَسَ وَ دَعَا اَلنَّفَرَ وَ اَلْحَدَثُ مَعَهُمْ، فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَ: فَأَعَادَ اَلدَّعْوَى وَ جَعَلَ يَبْكِي وَ يَقُولُ: أَنَا وَ اَللَّهِ أَتَّهِمُهُمْ عَلَى أَبِي يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمُ اِحْتَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ، وَ طَمِعُوا فِي مَالِهِ. فَسَأَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْقَوْمَ، فَقَالُوا كَمَا قَالُوا لِشُرَيْحٍ: مَاتَ اَلرَّجُلُ وَ لاَ نَعْرِفُ لَهُ مَالاً، فَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ ثُمَّ قَالَ: لَهُمْ مَا ذَا؟ أَ تَظُنُّونَ أَنِّي لاَ أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ بِأَبِي هَذَا اَلْفَتَى! إِنِّي إِذاً لَقَلِيلُ اَلْعِلْمِ».
ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُفَرَّقُوا، فَفُرِّقُوا فِي اَلْمَسْجِدِ، وَ أُقِيمَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى جَانِبِ أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِينِ اَلْمَسْجِدِ ثُمَّ دَعَا عُبَيْدَ اَللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبَهُ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ لَهُ: «اِجْلِسْ» ثُمَّ دَعَا وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي وَ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ، فِي أَيِّ يَوْمٍ خَرَجْتُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ وَ أَبُو هَذَا اَلْغُلاَمِ مَعَكُمْ؟» فَقَالَ: فِي يَوْمِ كَذَا وَ كَذَا، فَقَالَ: لِعُبَيْدِ اَللَّهِ: «اُكْتُبْ» ثُمَّ قَالَ
ص: 215
لَهُ: فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ؟» قَالَ: فِي شَهْرِ كَذَا، قَالَ: «اُكْتُبْ» ثُمَّ قَالَ: «فِي أَيِّ سَنَةٍ؟» قَالَ: فِي سَنَةِ كَذَا، فَكَتَبَ عُبَيْدُ اَللَّهِ ذَلِكَ، قَالَ: فَبِأَيِّ مَرَضٍ مَاتَ؟» قَالَ: بِمَرَضِ كَذَا، قَالَ: «فَفِي أَيِّ مَنْزِلٍ مَاتَ؟» قَالَ: فِي مَوْضِعِ كَذَا، قَالَ: «مَنْ غَسَّلَهُ وَ كَفَّنَهُ ؟» قَالَ: فُلاَنٌ، قَالَ: فَبِمَ كَفَّنْتُمُوهُ؟» قَالَ: بِكَذَا قَالَ: «فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ؟» قَالَ: فُلاَنٌ قَالَ: «فَمَنْ أَدْخَلَهُ اَلْقَبْرَ؟» قَالَ: فُلاَنٌ، وَ عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ يَكْتُبُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلَمَّا اِنْتَهَى إِقْرَارُهُ إِلَى دَفْنِهِ،كَبَّرَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ اَلْمَسْجِدِ ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّجُلِ فَرُدَّ إِلَى مَكَانِهِ.
وَ دَعَا بِآخَرَ مِنَ اَلْقَوْمِ فَأَجْلَسَهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا سَأَلَ اَلْأَوَّلَ عَنْهُ، فَأَجَابَ بِمَا خَالَفَ اَلْأَوَّلَ فِي اَلْكَلاَمِ كُلِّهِ. وَ عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ يَكْتُبُذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ سُؤَالِهِ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ اَلْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِجَمِيعاً أَنْ يُخْرَجَا عَنِ اَلْمَسْجِدِ نَحْوَ اَلْحَبْسِ (1)، فَيُوقَفَ بِهِمَا عَلَى بَابِهِ.
ثُمَّ دَعَا بِثَالِثٍ فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلَ اَلرَّجُلَيْنِ فَحَكَى خِلاَفَ مَا قَالاَ، وَ أَثْبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ كَبَّرَ وَ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ نَحْوَ صَاحِبَيْهِ.
وَ دَعَا بِرَابِعٍ مِنَ اَلْقَوْمِ فَاضْطَرَبَ قَوْلُهُ وَ لَجْلَج َ ،فَوَعَظَهُ وَ خَوَّفَهُ فَاعْتَرَفَ أَنَّهُ وَ أَصْحَابُهُ قَتَلُوا اَلرَّجُلَ وَ أَخَذُوا مَالَهُ، وَ أَنَّهُمْ دَفَنُوهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَ كَذَا بِالْقُرْبِ مِنَ اَلْكُوفَةِ، فَكَبَّرَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ أَمَرَ بِهِ إِلَى اَلسِّجْنِ.
وَ اِسْتَدْعَى وَاحِداً مِنَ اَلْقَوْمِ فَقَالَ لَهُ: «زَعَمْتَ أَنَّ اَلرَّجُلَ مَاتَ
ص: 216
حَتْفَ أَنْفِهِ وَ قَدْ قَتَلْتَهُ، اُصْدُقْنِي عَنْ حَالِكَ، وَ إِلاَّ نَكَلْتُ بِكَ، فَقَدْ وَضَحَ لِيَ اَلْحَقُّ فِي قِصَّتِكُمْ» فَاعْتَرَفَ مَنْ قَتَلَ اَلرَّجُلَ بِمَا اِعْتَرَفَ بِهِ صَاحِبُهُ، ثُمَّ دَعَا اَلْبَاقِينَ فَاعْتَرَفُوا عِنْدَهُ بِالْقَتْلِ وَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَ اِتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى قَتْلِ اَلرَّجُلِ وَ أَخْذِ مَالِهِ. فَأَمَرَ مَنْ مَضَى مَعَ بَعْضِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ اَلْمَالِ اَلَّذِي دَفَنُوهُ، فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْهُ وَ سَلَّمَهُ إِلَى اَلْغُلاَمِ اِبْنِ اَلرَّجُلِ اَلْمَقْتُولِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ:«مَا اَلَّذِي تُرِيدُ؟ قَدْ عَرَفْتَ مَا صَنَعَ اَلْقَوْمُ بِأَبِيكَ» قَالَ: أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ اَلْقَضَاءُ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْ دِمَائِهِمْ فِي اَلدُّنْيَا، فَدَرَأَ عَنْهُمْ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ حَدَّ اَلْقَتْلِ
وَ أَنْهَكَهُمْ عُقُوبَةً.
فَقَالَ: شُرَيْحٌ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ هَذَا اَلْحُكْمُ؟ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ دَاوُدَ عَلَیْهِ السَّلامُ مَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ وَ يُنَادُونَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا مَاتَ اَلدِّينُ قَالَ: وَ اَلْغُلاَمُ يُجِيبُهُمْ، فَدَنَا دَاوُدُ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ: يَا غُلاَمُ مَا اِسْمُكَ قَالَ: اِسْمِي مَاتَ اَلدِّينُ قَالَ لَهُ دَاوُدُ: وَ مَنْ سَمَّاكَ بِهَذَا اَلاِسْمِ؟ قَالَ: أُمِّي، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ عَلَیْهِ السَّلامُ: وَ أَيْنَ أُمُّكَ؟ قَالَ: فِي مَنْزِلِهَا، فَقَالَ دَاوُدُ عَلَیْهِ السَّلامُ: اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّكَ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَيْهَا فَاسْتَخْرَجَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا فَخَرَجَتْ، فَقَالَ: يَا أَمَةَ اَللَّهِ مَا اِسْمُ اِبْنِكِ هَذَا؟ قَالَتِ: اِسْمُهُ مَاتَ اَلدِّينُ، قَالَ: لَهَا دَاوُدُ: وَ مَنْ سَمَّاهُ بِهَذَا اَلاِسْمِ؟ قَالَتْ: أَبُوهُ قَالَ: وَ مَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ فِي سَفَرٍ لَهُ وَ مَعَهُ قَوْمٌ، وَ أَنَا حَامِلٌ بِهَذَا اَلْغُلاَمِ، فَانْصَرَفَ اَلْقَوْمُ وَ لَمْ يَنْصَرِفْ زَوْجِي مَعَهُمْ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: مَاتَ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا: مَا تَرَكَ مَالاً، فَقُلْتُ لَهُمْ: فَهَلْ وَصَّاكُمْ بِوَصِيَّةٍ؟ قَالُوا: زَعَمَ أَنَّكِ حُبْلَى، فَإِنْ وَلَدْتِ جَارِيَةً أَوْ غُلاَماً فَسَمِّيهِ مَاتَ اَلدِّينُ، فَسَمَّيْتُهُ كَمَا
ص: 217
وَصَّى وَ لَمْ أُحِبَّ خِلاَفَهُ، فَقَالَ لَهَا دَاوُدُ عَلَیْهِ السَّلامُ: فَهَلْ تَعْرِفِينَ اَلْقَوْمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَهَا دَاوُدُ: اِنْطَلِقِي مَعَ هَؤُلاَءِ _ يَعْنِي قَوْماً بَيْنَ يَدَيْهِ - فَاسْتَخْرِجِيهِمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ حَكَمَ فِيهِمْ بِهَذِهِ اَلْحُكُومَةِ، فَثَبَتَ عَلَيْهِمُ اَلدَّمُ، وَ اِسْتَخْرَجَ مِنْهُمُ اَلْمَالَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ اَللَّهِ سَمِّي اِبْنَكِ هَذَا بِعَاشَ اَلدِّينُ» (1) .
وَ رَوَوْا: أَنَّ اِمْرَأَةً هَوِيَتْ غُلاَماً فَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ اَلْغُلاَمُ، فَمَضَتْ وَ أَخَذَتْ بَيْضَةً فَأَلْقَتْ بَيَاضَهَا عَلَى ثَوْبِهَا، ثُمَّ عَلَّقَتْ بِالْغُلاَمِ وَ رَفَعَتْهُ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ قَالَتْ: إِنَّ هَذَا اَلْغُلاَمَ كَابَرَنِي عَلَى نَفْسِي وَ قَدْ فَضَحَنِي، ثُمَّ أَخَذَتْ ثِيَابَهَا فَأَرَتْ بَيَاضَ اَلْبَيْضِ وَ قَالَتْ: هَذَا مَاؤُهُ عَلَى ثَوْبِي، فَجَعَلَ اَلْغُلاَمُ يَبْكِي وَ يَبْرَأُ مِمَّا اِدَّعَتْهُ وَ يَحْلِفُ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: لِقَنْبَرٍ: «مُرْ مَنْ يُغْلِي مَاءً حَتَّى تَشْتَدَّ حَرَارَتُهُ، ثُمَّ لْتَأْتِنِي بِهِ عَلَى حَالِهِ »فَجِيءَ بِالْمَاءِ، فَقَالَ: «أَلْقُوهُ عَلَى ثَوْبِ اَلْمَرْأَةِ» فَأَلْقَوْهُ عَلَيْهِ فَاجْتَمَعَ بَيَاضُ اَلْبَيْضِ وَ اِلْتَأَمَ، فَأَمَرَ بِأَخْذِهِ وَ دَفْعِهِ إِلَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «تَطَعَّمَاهُ وَ اِلْفَظَاهُ» فَتَطَعَّمَاهُ فَوَجَدَاهُ بَيْضاً، فَأَمَرَ بِتَخْلِيَةِ اَلْغُلاَمِ وَ جَلَدَ اَلْمَرْأَةَ عُقُوبَةً عَلَى اِدِّعَائِهَا اَلْبَاطِلَ (2) .
وَ رَوَى اَلْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ اَلْحَجَّاجِ
ص: 218
قَالَ: سَمِعْتُ اِبْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: قَضَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِقَضِيَّةٍ مَا سَبَقَهُ إِلَيْهَا أَحَدٌ، وَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اِصْطَحَبَا فِي سَفَرٍ فَجَلَسَا يَتَغَدَّيَانِ، فَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ وَ أَخْرَجَ اَلْآخَرُ ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، فَمَرَّ بِهِمَا رَجُلٌ فَسَلَّمَ فَقَالاَ لَهُ: اَلْغَدَاءَ، فَجَلَسَ مَعَهُمَا يَأْكُلُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ رَمَى إِلَيْهِمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَ قَالَ: لَهُمَا: هَذِهِ عِوَضٌ عَمَّا أَكَلْتُ مِنْ طَعَامِكُمَا، فَاخْتَصَمَا وَ قَالَ: صَاحِبُ اَلثَّلاَثَةِ: هَذِهِ نِصْفَانِ بَيْنَنَا، وَ قَالَ صَاحِبُ اَلْخَمْسَةِ: بَلْ لِي خَمْسَةٌ وَ لَكَ ثَلاَثَةٌ، فَارْتَفَعَا إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ علیه السلام وَ قَصَّا عَلَيْهِ اَلْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُمَا :«هَذَا أَمْرٌ فِيهِ دَنَاءَةٌ، وَ اَلْخُصُومَةُ غَيْرُ جَمِيلَةٍ فِيهِ، وَ اَلصُّلْحُ أَحْسَنُ» فَقَالَ: صَاحِبُ اَلثَّلاَثَةِ اَلْأَرْغِفَةِ: لَسْتُ أَرْضَى إِلاَّ بِمُرِّ اَلْقَضَاءِ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ علیه السلام: «فَإِذَا كُنْتَ لاَ تَرْضَى إِلاَّ بِمُرِّ اَلْقَضَاءِ، فَإِنَّ لَكَ وَاحِداً مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَ لِصَاحِبِكَ سَبْعَةً» فَقَالَ: سُبْحَانَ اَللَّهِ، كَيْفَ صَارَ هَذَا هَكَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: «أُخْبِرُكَ، أَ لَيْسَ كَانَ لَكَ ثَلاَثَةُ أَرْغِفَةٍ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «وَ لِصَاحِبِكَ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ وَ عِشْرُونَ ثُلُثاً، أَكَلْتَ أَنْتَ ثَمَانِيَةً، وَ صَاحِبُكَ ثَمَانِيَةً، وَ اَلضَّيْفُ ثَمَانِيَةً، فَلَمَّا أَعْطَاكُمُ اَلثَّمَانِيَةَ كَانَ لِصَاحِبِكَ اَلسَّبْعَةُ، وَ لَكَ وَاحِدَةٌ» فَانْصَرَفَ اَلرَّجُلاَنِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمَا فِي اَلْقَضِيَّةِ (1) .
وَ رَوَى عُلَمَاءُ اَلسِّيَرِه: أَنَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ شَرِبُوا اَلْمُسْكِرَ عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَسَكِرُوا فَتَبَاعَجُوا بِالسَّكَاكِينِ، وَ نَالَ اَلْجِرَاحُ كُلَّ
ص: 219
وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَ رُفِعَ خَبَرُهُمْ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِمْ حَتَّى يُفِيقُوا، فَمَاتَ فِي اَلْحَبْسِ مِنْهُمُ اِثْنَانِ وَ بَقِيَ مِنْهُمُ اِثْنَانِ، فَجَاءَ قَوْمُ اَلاِثْنَيْنِ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، فَقَالُوا: أَقِدْنَا مِنْ هَذَيْنِ اَلنَّفْسَيْنِ فَإِنَّهُمَا قَتَلاَ صَاحِبَيْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: «وَ مَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ؟ وَ لَعَلَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ صَاحِبَهُ» فَقَالُوا: لاَ نَدْرِي، فَاحْكُمْ فِيهَا بِمَا عَلَّمَكَ اَللَّهُ، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «دِيَةُ اَلْمَقْتُولَيْنِ عَلَى قَبَائِلِ اَلْأَرْبَعَةِ بَعْدَ مُقَاصَّةِ اَلْحَيَّيْنِ مِنْهَا بِدِيَةِ جِرَاحِهِمَا (1)
فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ اَلْحُكْمَ اَلَّذِي لاَ طَرِيقَ إِلَى اَلْحَقِّ فِي اَلْقَضَاءِ سِوَاهُ، أَ لاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ بَيِّنَةَ عَلَى اَلْقَاتِلِ تُفْرِدُهُ مِنَ اَلْمَقْتُولِ، وَ لاَ بَيِّنَةَ عَلَى اَلْعَمْدِ فِي اَلْقَتْلِ، فَلِذَلِكَ كَانَ اَلْقَضَاءُ فِيهِ عَلَى حُكْمِ اَلْخَطَإِ فِي اَلْقَتْلِ، وَ اَللَّبْسِ فِي اَلْقَاتِلِ دُونَ اَلْمَقْتُولِ .
وَ رَوَوْا: أَنَّ سِتَّةَ نَفَرٍ نَزَلُوا فِي اَلْفُرَاتِ فَتَغَاطُّوا فِيهَا لَعِباً، فَغَرِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَشَهِدَ اِثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ، وَ شَهِدَ اَلثَّلاَثَةُ عَلَى اَلاِثْنَيْنِ أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ، فَقَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ بِالدِّيَةِ أَخْمَاساً عَلَى اَلْخَمْسَةِ اَلنَّفَرِ، ثَلاَثَةٌ مِنْهَا عَلَى اَلاِثْنَيْنِ بِحِسَابِ اَلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا، وَ خُمُسَانِ عَلَىاَلثَّلاَثَةِ بِحِسَابِ اَلشَّهَادَةِ أَيْضاً. وَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ قَضِيَّةٌ أَحَقُّ بِالصَّوَابِ مِمَّا قَضَى بِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ (2) .
ص: 220
وَ رَوَوْا: أَنَّ رَجُلاً حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ فَوَصَّى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ وَ لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَاخْتَلَفَ اَلْوَارِثُ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ، وَ تَرَافَعُوا إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِ اَلسُّبُعِ مِنْ مَالِهِ وَ تَلاَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَوْلَهُ عَزَّ اِسْمُهُ (لَهٰا سَبْعَةُ أَبْوٰابٍ لِكُلِّ بٰابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (1) - (2) .
وَ قَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ فِي رَجُلٍ وَصَّى عِنْدَ اَلْمَوْتِ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَ لَمْ يُبَيِّنْهُ، فَلَمَّا مَضَى اِخْتَلَفَ اَلْوَرَثَةُ فِي مَعْنَاهُ، فَقَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ بِإِخْرَاجِ اَلثُّمّ ُنِ مِنْ مَالِهِ، وَ تَلاَ قَوْلَهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: (إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اَلْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا) (3) إِلَى آخِرِ اَلْآيَةِ وَ هُمْ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ مِنَ اَلصَّدَقَاتِ (4) .
وَ قَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ فِي رَجُلٍ وَصَّى فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنِّي كُلَّ عَبْدٍ قَدِيمٍ فِي مِلْكِي، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَعْرِفِ اَلْوَصِيُّ مَا يَصْنَعُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:«يُعْتَقُ عَنْهُ كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فِي مِلْكِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ» وَ تَلاَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ) (5) وَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اَلْعُرْجُونَ إِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى اَلشَّبَهِ بِالْهِلاَلِ فِي تَقَوُّسِهِ وَ ضُئُولَتِهِ بَعْدَ سِتَّةِ
ص: 221
أَشْهُرٍ مِنْ أَخْذِ اَلثَّمَرَةِ مِنْهُ (1) .
وَ قَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِيناً وَ لَمْ يُسَمِّ وَقْتاً بِعَيْنِهِ، أَنْ يَصُومَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَ تَلاَ قَوْلَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا) (2) وَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ (3) .
وَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ يَدَيَّ تَمْرٌ، فَبَدَرَتْ زَوْجَتِي فَأَخَذَتْ مِنْهُ وَاحِدَةً فَأَلْقَتْهَا فِي فِيهَا، فَحَلَفْتُ أَنَّهَا لاَ تَأْكُلْهَا وَ لاَ تَلْفِظْهَا، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «تَأْكُلُ نِصْفَهَا، وَ تَرْمِي نِصْفَهَا وَ قَدْ تَخَلَّصْتَ مِنْ يَمِينِكَ» (4) .
وَ قَضَى عَلَیْهِ السَّلامُ فِي رَجُلٍ ضَرَبَ اِمْرَأَةً فَأَلْقَتْ عَلَقَةً أَنَّ عَلَيْهِ دِيَتَهَا أَرْبَعِينَ دِينَاراً، وَ تَلاَ قَوْلَهُ عَزَّ وَ جَلَّ (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ) (5) ثُمَّ قَالَ: «فِي اَلنُّطْفَةِ عِشْرُونَ دِينَاراً، وَ فِي اَلْعَلَقَةِ أَرْبَعُونَ دِينَاراً وَ فِي اَلْمُضْغَةِ سِتُّونَ دِينَاراً وَ فِي اَلْعَظْمِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ خَلْقاً ثَمَانُونَ دِينَاراً، وَ فِي اَلصُّورَةِ قَبْلَ أَنْ
ص: 222
تَلِجَهَا اَلرُّوحُ مِائَةُ دِينَارٍ، فَإِذَا وَلَجَتْهَا (1)اَلرُّوحُ كَانَ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ» (2) .
فهذا طرف من قضاياه عَلَیْهِ السَّلامُ و أحكامه الغريبة الّتي لم يَقْضِ بها أحدٌ قبله، و لا عرفها من العامُّة و الخاصَّة أحدٌ إلّا عَنْهُ، و اتّفقت عترته على العمل بها، و لومُني غيره بالقول فيها ظَهَرَ عجزه عن الحَقَّ في ذلكَ، كما ظَهَرَ فيما هو أوضح منه، و فيما أَثبتناهُ من قضاياه على الاختَصَّار كفاية فيما قصدناه إن شاء الله.
فصل
في مختصر من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في وجوب المعرفة بالله و التوحيد له و نفى التشبيه عَنْهُ و الوصفِّ لعدلٌَّ ه و صنوف الحُكْمَة و الدلَّائل و الحُجَّةُ
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ اَلْهُذَلِيُّ ،عَنِ اَلزُّهْرِيِّ وَ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ فِي اَلْحَثِّ عَلَى مَعْرِفَةِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ اَلتَّوْحِيدِ لَهُ: «أَوَّلُ عِبَادَةِ اَللَّهِ مَعْرِفَتُهُ وَ أَصْلُ مَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدُهُ، وَ نِظَامُ تَوْحِيدِهِ نَفْيُ اَلتَّشْبِيهِ عَنْهُ، جَلَّ عَنْ أَنْ تَحُلَّهُ اَلصِّفَاتُ، لِشَهَادَةِ اَلْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّتْهُ اَلصِّفَاتُ مَصْنُوعٌ، وَ شَهَادَةِ اَلْعُقُولِ أَنَّهُ - جَلَّ جَلاَلُهُ - صَانِعٌ لَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، بِصُنْعِ اَللَّهِ يُسْتَدَلُّ
ص: 223
عَلَيْهِ، وَ بِالْعُقُولِ تُعْتَقَدُ مَعْرِفَتُهُ وَ بِالنَّظَرِ تَثْبُتُ حُجَّتُهُ، جَعَلَ اَلْخَلْقَ دَلِيلاً عَلَيْهِ، فَكَشَفَ بِهِ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ ، هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْفَرْدُ فِي أَزَلِيَّتِهِ، لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَ لاَ نِدَّ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ اَلْأَشْيَاءِ اَلْمُتَضَادَّةِ عُلِمَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ اَلْأُمُورِ اَلْمُقْتَرِنَةِ عُلِمَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ» (1).
فِي كَلاَمٍ يَطُولُ بِإِثْبَاتِهِ اَلْكِتَابُ.
وَ مِمَّا حُفِظَ عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي نَفْيِ اَلتَّشْبِيهِ عَنِ اَللَّهِ عَزَّ اِسْمُهُ، مَا رَوَاهُ اَلشَّعْبِيُّ قَالَ: سَمِعَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ رَجُلاً يَقُولُ: وَ اَلَّذِي اِحْتَجَبَ بِسَبْعِ طِبَاقٍ فَعَلاَهُ بِالدِّرَّةِ (2)، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «يَا وَيْلَكَ، إِنَّ اَللَّهَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَحْتَجِبَ عَنْ شَيْءٍ، أَوْ يَحْتَجِبَ عَنْهُ شَيْءٌ، سُبْحَانَ اَلَّذِي لاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ، وَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ» فَقَالَ اَلرَّجُلُ: أَ فَأُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِي، يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لاَ لَمْ تَحْلِفْ بِاللَّهِ فَتَلْزَمَكَ كَفَّارَةٌ ،وَ إِنَّمَا حَلَفْتَ بِغَيْرِهِ» (3) .
وَ رَوَى أَهْلُ اَلسِّيرَةِ وَ عُلَمَاءُ اَلنَّقَلَةِ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، خَبِّرْنِي عَنِ اَللَّهِ تَعَالَى، أَ رَأَيْتَهُ حِينَ
ص: 224
عَبَدْتَهُ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لَمْ أَكُ بِالَّذِي (1)أَعْبُدُ مَنْ لَمْ أَرَهُ» فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ فَقَالَ لَهُ: « يَا وَيْحَكَ لَمْ تَرَهُ اَلْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ اَلْأَبْصَارِ، وَ لَكِنْ رَأَتْهُ اَلْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ اَلْإِيمَانِ، مَعْرُوفٌ بِالدَّلاَلاَتِ، مَنْعُوتٌ بِالْعَلاَمَاتِ، لاَ يُقَاسُ بِالنَّاسِ، وَ لاَ تُدْرِكُهُ اَلْحَوَاسُّ» فَانْصَرَفَ اَلرَّجُلُ وَ هُوَ يَقُولُ: اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ (2) .
و في هذا الحديثٌ دليل على أَنّه عَلَیْهِ السَّلامُ كانَ ينفي عن الله سُبحانَه رؤية الأبصار.
وَ رَوَى اَلْحَسَنُ بْنُ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْبَصْرِيُّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بَعْدَ اِنْصِرَافِهِ مِنْ حَرْبِ صِفِّينَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، خَبِّرْنَا عَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ مِنَ اَلْحَرْبِ، أَ كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى وَ قَدَرٍ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَ لاَ هَبَطْتُمْ وَادِياً، إِلاَّ وَ لِلَّهِ فِيهِ قَضَاءٌ وَ قَدَرٌ» فَقَالَ اَلرَّجُلُ: فَعِنْدَ اَللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: «وَ لِمَ؟» قَالَ: إِذَا كَانَ اَلْقَضَاءُ وَ اَلْقَدَرُ سَاقَانَا إِلَى اَلْعَمَلِ، فَمَا وَجْهُ اَلثَّوَابِ لَنَا عَلَى اَلطَّاعَةِ ؟ وَ مَا وَجْهُ اَلْعِقَابِ لَنَا عَلَى اَلْمَعْصِيَةِ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَ وَ ظَنَنْتَ يَا رَجُلُ أَنَّهُ قَضَاءٌ حَتْمٌ، وَ قَدَرٌ لاَزِمٌ، لاَ تَظُنَّ ذَلِكَ فَإِنَّ اَلْقَوْلَ بِهِ مَقَالُ عَبَدَةِ اَلْأَوْثَانِ، وَ حِزْبِ اَلشَّيْطَانِ، وَ خُصَمَاءِ اَلرَّحْمَنِ، وَ قَدَرِيَّةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ مَجُوسِهَا، إِنَّ اَللَّهَ جَلَّ جَلاَلُهُ أَمَرَ تَخْيِيراً، وَ نَهَى تَحْذِيراً، وَ كَلَّفَ يَسِيراً ، وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً، وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً،
ص: 225
وَ لَمْ يَخْلُقِ اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً (ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ ) (1) فَقَالَ لَهُ: اَلرَّجُلُ: فَمَا اَلْقَضَاءُ وَ اَلْقَدَرُ اَلَّذِي ذَكَرْتَهُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «اَلْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ، وَ اَلنَّهْيُ عَنِ اَلْمَعْصِيَةِ، وَ اَلتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِ اَلْحَسَنَةِ وَ تَرْكِ اَلسَّيِّئَةِ، وَ اَلْمَعُونَةُ عَلَى اَلْقُرْبَةِ إِلَيْهِ، وَ اَلْخِذْلاَنُ لِمَنْ عَصَاهُ، وَ اَلْوَعْدُ وَ اَلْوَعِيدُ وَ اَلتَّرْغِيبُ وَ اَلتَّرْهِيبُ، كُلُّ ذَلِكَ قَضَاءُ اَللَّهِ فِي أَفْعَالِنَا، وَ قَدَرُهُ لِأَعْمَالِنَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلاَ تَظُنَّهُ، فَإِنَّ اَلظَّنَّ لَهُ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ» فَقَالَ اَلرَّجُلُ: فَرَّجْتَ عَنِّي يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَرَّجَ اَللَّهُ عَنْكَ، وَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْتَ اَلْإِمَامُ اَلَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ *** يَوْمَ اَلْمَآبِ مِنَ اَلرَّحْمَنِ غُفْرَاناً
أَوْضَحْتَ مِنْ دِينِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِساً *** جَزَاكَ رَبُّكَ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَاناً(2) . و هذا الحديثٌ موضح عن قول أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ في مَعْنى العدلٌَّ و نفي الجبر و إثبات الحُكْمَة في أفعال الله تعالى و نفي العبث عنها
ص: 226
فصل
ومن كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في مدح العُلِمَاءُ و تصنيف النّاس و فضل العَلِمَ و الحُكْمَة
مَا رَوَاهُ أَهْلُ اَلنَّقْلِ عَنْ كُمَيْلِ بْنَ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اَللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ اَلْمَسْجِدِ حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْهُ، فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ اَلصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ: «يَا كُمَيْلُ، إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، اِحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ:
اَلنَّاسُ ثَلاَثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ، وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
يَا كُمَيْلُ، اَلْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ اَلْمَالِ، اَلْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَ أَنْتَ تَحْرُسُ اَلْمَالَ، وَ اَلْمَالُ تَنْقُصُهُ اَلنَّفَقَةُ، وَ اَلْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى اَلْإِنْفَاقِ.
يَا كُمَيْلُ، صُحْبَةُ اَلْعَالِمِ (1)دِينٌ يُدَانُ بِهِ، وَ بِهِ تَكْمِلَةُ اَلطَّاعَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَ جَمِيلُ اَلْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَ اَلْعِلْمُ حَاكِمٌ وَ اَلْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
يَا كُمَيْلُ، مَاتَ خُزَّانُ اَلْأَمْوَالِ وَ هُمْ أَحْيَاءٌ، وَ اَلْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا
ص: 227
بَقِيَ اَلدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أَمْثَالُهُمْ فِي اَلْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَاهْ هَاهْ إِنَّ هَاهُنَا عِلْماً جَمّاً - وَ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلْ أُصِيبُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ اَلدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَ يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اَللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَ بِنِعَمِهِ عَلَى كِتَابِهِ؛ أَوْ مُنْقَاداً لِلْحِكْمَةِ لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِخْبَاتِهِ، يَقْدَحُ اَلشَّكُّ لَهُ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَلاَ لاَ ذَا وَ لاَ ذَاكَ، فَمَنْهُومٌ (1)بِاللَّذَّاتِ سَلِسُ اَلْقِيَادِ لِلشَّهَوَات ِ ، أَوْ مُغْرَمٌ (2)بِالْجَمْعِ وَ اَلاِدِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ اَلدِّينِ أَقْرَبُ شَبَهاً بِهِمَا اَلْأَنْعَامُ اَلسَّائِمَةُ، كَذَلِكَ يَمُوتُ اَلْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ، اَللَّهُمَّ بَلَى، لاَ تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ، إِمَّا ظَاهِراً مَعْلُوماً أَوْ خَائِفاً (مَغْمُوراً لِئَلاَّ )(3)تَبْطُلَ حُجَجُكَ وَ بَيِّنَاتُكَ، وَ أَيْنَ أُوْلئِكَ؟ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً، اَلْأَعْظَمُونَ قَدْراً، بِهِمْ يَحْفَظُ اَللَّهُ تَعَالَى حُجَجَهُ حَتَّى يُودِعُوهَا قُلُوبَ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ اَلْعِلْمُ عَلَى حَقَائِقِ اَلْإِيمَانِ، فَاسْتَلاَنُوا رُوحَ اَلْيَقِينِ، فَأَنِسُوا بِمَا اِسْتَوْحَشَ مِنْهُ اَلْجَاهِلُونَ، وَ اِسْتَلاَنُوا مَا اِسْتَوْعَرَهُ اَلْمُتْرَفُونَ، صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اَللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَ حُجَجُهُ عَلَى عِبَادِهِ - ثُمَّ تَنَفَّسَ اَلصُّعَدَاءَ وَ قَالَ - هَاهْ، هَاهْ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ» وَ نَزَعَ يَدَهُ عَنْ يَدَيَّ وَ قَالَ لِي: «اِنْصَرِفْ إِذَا شِئْتَ» (4) .
ص: 228
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في الدعاء إِلَى معرفته و بيان فضله و صفة العُلِمَاءُ، و ما ينبغي لمتعَلِمَ العَلِمَ أَنّ يكون عليه
مَا رَوَاهُ اَلْعُلَمَاءُ بِالْأَخْبَارِ فِي خُطْبَةٍ تَرَكْنَا ذِكْرَ صَدْرِهَا إِلَى قَوْلِهِ: «وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا مِنَ اَلضَّلاَلَةِ، وَ بَصَّرَنَا مِنَ اَلْعَمَى، وَ مَنَّ عَلَيْنَا بِالْإِسْلاَمِ، وَ جَعَلَ فِينَا اَلنُّبُوَّةَ، وَ جَعَلَنَا اَلنُّجَبَاءَ، وَ جَعَلَ أَفْرَاطَنَا أَفْرَاطَ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ، نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَ نَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ، وَ نَعْبُدُ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَ لاَ نَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً فَنَحْنُ شُهَدَاءُ اَللَّهِ، وَ اَلرَّسُولُ شَهِيدٌ (1)عَلَيْنَا، نَشْفَعُ فَنُشَفَّعُ فِيمَنْ شَفَعْنَا لَهُ، وَ نَدْعُو فَيُسْتَجَابُ دُعَاؤُنَا وَ يُغْفَرُ لِمَنْ نَدْعُو لَهُ ذُنُوبُهُ، أَخْلَصْنَا لِلَّهِ فَلَمْ نَدْعُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً.
أَيُّهَا اَلنَّاسُ، تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ، وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ، وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ.
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي اِبْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ، وَ أَوْلاَكُمْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ، فَاسْأَلُونِي ثُمَّ اِسْأَلُونِي، فَكَأَنَّكُمْ بِالْعِلْمِ قَدْ نَفِدَ، وَ إِنَّهُ لاَ يَهْلِكُ
ص: 229
عَالِمٌ إِلاَّ هَلَكَ مَعَهُ بَعْضُ عِلْمِهِ، وَ إِنَّمَا اَلْعُلَمَاءُ فِي اَلنَّاسِ كَالْبَدْرِ فِي اَلسَّمَاءِ، يُضِيءُ نُورُهُ عَلَى سَائِرِ اَلْكَوَاكِبِ، خُذُوا مِنَ اَلْعِلْمِ مَا بَدَا لَكُمْ، وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تَطْلُبُوهُ لِخِصَالٍ أَرْبَعٍ: لِتُبَاهُوا بِهِ اَلْعُلَمَاءَ، أَوْ تُمَارُوا بِهِ اَلسُّفَهَاءَ، أَوْ تُرَاءُوا بِهِ فِي اَلْمَجَالِسِ، أَوْ تَصْرِفُوا وُجُوهَ اَلنَّاسِ إِلَيْكُمْ لِلتَّرَؤُّسِ، لاَ يَسْتَوِي عِنْدَ اَللَّهِ فِي اَلْعُقُوبَةِ اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ، نَفَعَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِمَا عَلِمْنَا، وَ جَعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصاً إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ» (1).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في صفة العالم و أدب المتعَلِمَ
مَا رَوَاهُ اَلْحَارِثُ اَلْأَعْوَرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «مِنْ حَقِّ اَلْعَالِمِ أَنْ لاَ يُكْثَرَ عَلَيْه ِ اَلسُّؤَالُ، وَ لاَ يُعَنَّتَ فِي اَلْجَوَابِ، وَ لاَ يُلَحَّ عَلَيْهِ إِذَا كَسِلَ، وَ لاَ يُؤْخَذَ بِثَوْبِهِ إِذَا نَهَضَ، وَ لاَ يُشَارَ إِلَيْهِ بِيَدٍ فِي حَاجَةٍ، وَ لاَ يُفْشَى لَهُ سِرٌّ، وَ لاَ يُغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَ يُعَظَّمَ كَمَا حَفِظَ أَمْرَ اَللَّهِ، وَ لاَ يَجْلِسَ اَلْمُتَعَلِّمُ أَمَامَهُ، وَ لاَ يَغْرَضَ (2)مِنْ طُولِ صُحْبَتِهِ، وَ إِذَا جَاءَهُ طَالِبُ اَلْعِلْمِ وَ غَيْرُهُ فَوَجَدَهُ فِي جَمَاعَةٍ عَمَّهُمْ بِالسَّلاَمِ وَ خَصَّهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَ لْيَحْفَظْهُ شَاهِداً وَ غَائِباً، وَ لْيَعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ فَإِنَّ اَلْعَالِمَ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ اَلصَّائِمِ اَلْقَائِمِ اَلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، وَ إِذَا مَاتَ اَلْعَالِمُ ثُلِمَ فِي اَلْإَسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ يَسُدُّهَا إِلاَّ
ص: 230
خَلَفٌ مِنْهُ، وَ طَالِبُ اَلْعِلْمِ تَسْتَغْفِرُ لَهُ اَلْمَلاَئِكَةُ، وَ تَدْعُو لَهُ فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْض»ِ(1).
فصل و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في أهلُ البدع و من قالَ في الدين برأيه، و خالف طريق أهلُ الحَقَّ في مقالَه
مَا رَوَاهُ ثِقَاتُ أَهْلِ اَلنَّقْلِ عِنْدَ اَلْعَامَّةِ وَ اَلْخَاصَّةِ، فِي كَلاَمٍ اِفْتِتَاحُهُ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَ اَلصَّلاَةُ عَلَى نَبِيِّهِ صلّی الله علیه و آله: «أَمَّا بَعْدُ، فَذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ، إِنَّهُ لاَ يَهِيجُ (2)عَلَى اَلتَّقْوَى زَرْعُ قَوْمٍ، وَ لاَ يَظْمَأُ عَلَيْهِ سِنْخُ أَصْلٍ، وَ إِنَّ اَلْخَيْرَ كُلَّهُ فِيمَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَنْ لاَ يَعْرِفَ قَدْرَهُ، وَ إِنَّ أَبْغَضَ اَلْخَلْقِ إِلَى اَللَّهِ رَجُلٌ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِيلِ، مَشْعُوفٌ (3)بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ، قَدْ لَهِجَ فِيهَا بِالصَّوْمِ وَ اَلصَّلاَةِ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ اُفْتُتِنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلٌّ لِمَنِ اِقْتَدَى بِهِ، حَمَّالُ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ؛ قَدْ قَمَشَ (4)
ص: 231
جَهْلاً فِي جُهَّالٍ عشوة (1) غَارٌّ (2)بِأَغْبَاشِ اَلْفِتْنَةِ، عَمٍ عَنِ اَلْهُدَى، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ اَلنَّاسِ عَالِماً وَ لَمْ يَغْنَ فِيهِ يَوْماً سَالِماً، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا (3)قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا اِرْتَوَى مِنْ آجِنٍ، وَ اِسْتَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ لِلنَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا اِلْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ، إِنْ خَالَفَ مَنْ سَبَقَهُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ نَقْضِ حُكْمِهِ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، كَفِعْلِهِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَ إِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى اَلْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ اَلشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ غَزْلِ اَلْعَنْكَبُوتِ، لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ ،وَ لاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً، إِنْ قَاسَ شَيْئاً بِشَيْءٍ لَمْ يُكَذِّبْ رَأْيَهُ، وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اِكْتَتَمَ بِهِ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ فِي اَلْجَهْلِ وَ اَلنَّقْصِ وَ اَلضَّرُورَةِ كَيْلاَ يُقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ، ثُمَّ أَقْدَمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَهُوَ خَائِضُ عَشَوَاتٍ، رَكَّابُ شُبُهَاتٍ خَبَّاطُ جَهَالاَتٍ، لاَ يَعْتَذِرُ مِمَّا لاَ يَعْلَمُ فَيَسْلَمَ، وَ لاَ يَعَضُّ فِي اَلْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمَ، يَذْرِي اَلرِّوَايَاتِ ذَرْوَ اَلرِّيحِ اَلْهَشِيمَ، تَبْكِي مِنْهُ اَلْمَوَارِيثُ، وَ تَصْرُخُ مِنْهُ اَلدِّمَاءُ، وَ يُسْتَحَلُّ بِقَضَائِهِ اَلْفَرْجُ اَلْحَرَامُ، وَ يُحَرَّمُ بِهِ اَلْحَلاَلُ، لاَ يَسْلَمُ بِإِصْدَارِ مَا عَلَيْهِ وَرَدَ، وَ لاَ يَنْدَمُ عَلَى مَا مِنْهُ فَرَطَ.
أَيُّهَا اَلنَّاسُ: عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَ اَلْمَعْرِفَةِ بِمَنْ لاَ تُعْذَرُونَ بِجَهَالَتِهِ، فَإِنَّ اَلْعِلْمَ اَلَّذِي هَبَطَ بِهِ آدَمُ وَ جَمِيعَ (مَا فُضِّلَتْ بِهِ) (4)اَلنَّبِيُّونَ إِلَى خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ، فِي عِتْرَةِ مُحَمَّدٍ (5)ص فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ؟ بَلْ أَيْنَ تَذْهَبُونَ؟! يَا مَنْ
ص: 232
نُسِخَ مِنْ أَصْلاَبِ أَصْحَابِ اَلسَّفِينَةِ، هَذِهِ (1)مَثَلُهَا فِيكُمْ فَارْكَبُوهَا، فَكَمَا نَجَا، فِي هَاتِيكَ مَنْ نَجَا فَكَذَلِكَ يَنْجُو فِي هَذِهِ مَنْ دَخَلَهَا، أَنَا رَهِينٌ بِذَلِكَ قَسَماً حَقّاً وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ، وَ اَلْوَيْلُ لِمَنْ تَخَلَّفَ! ثُمَّ اَلْوَيْلُ لِمَنْ تَخَلَّفَ أَ مَا بَلَغَكُمْ مَا قَالَ: فِيهِمْ نَبِيُّكُمْ صلّی الله علیه و آله حَيْثُ يَقُولُ فِي حِجَّةِ اَلْوَدَاعِ: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اَللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَ إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا. أَلاَ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ فَاشْرَبُوا وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ فَاجْتَنِبُوا» (2).
صفة الدُّنيا و التحذير منها]
فصل و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في صفة الدُّنيا و التحذير منها
«أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّمَا مَثَلُ اَلدُّنْيَا مَثَلُ اَلْحَيَّةِ، لَيِّنٌ مَسُّهَا، شَدِيدٌ نَهْشُهَا فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا، وَ كُنْ أَسَرَّ مَا تَكُونُ فِيهَا، أَحْذَرَ مَا تَكُونُ لَهَا، فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اِطْمَأَنَّ مِنْهَا إِلَى سُرُورٍ أَسْخَطَهُ مِنْهَا مَكْرُوهٌ، وَ اَلسَّلاَمُ» (3).
ص: 233
للإخوة و أَخَذَ الأهبة للقاء الله تعالى
و الوصية للناس بالعمل الصالح]
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في التزود للإخرة، و أَخَذَ الأهبة للقاء الله تعالى، و الوصية للناس بالعمل الصالح
مَا رَوَاهُ اَلْعُلَمَاءُ بِالْأَخْبَارِ، وَ نَقَلَةُ اَلسِّيرَةِ وَ اَلْآثَارِ: أَنَّهُ كَانَ عَلَیْهِ السَّلامُ يُنَادِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ حِينَ يَأْخُذُ اَلنَّاسُ مَضَاجِعَهُمْ لِلْمَنَامِ، بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ كَافَّةُ أَهْلِ اَلْمَسْجِدِ وَ مَنْ جَاوَرَهُ مِنَ اَلنَّاسِ: «تَزَوَّدُوا - رَحِمَكُمُ اَللَّهُ - فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَ أَقِلُّوا اَلْعُرْجَةَ عَلَى اَلدُّنْيَا، وَ اِنْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا يَحْضَرُكُمْ مِنَ اَلزَّادِ، فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً، وَ مَنَازِلَ مَهُولَةً، لاَ بُدَّ مِنَ اَلْمَمَرِّ بِهَا، وَ اَلْوُقُوفِ عَلَيْهَا، فَإِمَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ نَجَوْتُمْ مِنْ فَظَاعَتِهَا، وَ إِمَّا هَلَكَةٌ لَيْسَ بَعْدَهَا اِنْجِبَارٌ، يَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً، وَ تُؤَدِّيهِ أَيَّامُهُ إِلَى شِقْوَةٍ، جَعَلَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ، وَ لاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ اَلْمَوْتِ نَقِمَةٌ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِهِ وَ لَهُ وَ بِيَدِهِ اَلْخَيْرُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1) .
في الدُّنيا، و الترغيب في أعمال الآخرة]
فصل و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في التزهيد في الدُّنيا و الترغيب في أعمال الآخرة
يَا ابْنَ آدَمَ، لاَ يَكُنْ أَكْبَرُ هَمِّكَ يَوْمَكَ اَلَّذِي إِنْ فَاتَكَ لَمْ يَكُنْ
ص: 234
مِنْ أَجَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ يَوْمٍ تَحْضُرُهُ يَأْتِي اَللَّهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ، وَ اِعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَكْتَسِبَ شَيْئاً فَوْقَ قُوتِكَ إِلاَّ كُنْتَ فِيهِ خَازِناً لِغَيْرِكَ، يَكْثُرُ فِي اَلدُّنْيَا بِهِ نَصَبُكَ وَ يَحْظَى بِهِ وَارِثُكَ، وَ يَطُولُ مَعَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِسَابُكَ، فَاسْعَدْ بِمَالِكَ فِي حَيَاتِكَ وَ قَدِّمْ لِيَوْمِ مَعَادِكَ زَاداً يَكُونُ أَمَامَكَ، فَإِنَّ اَلسَّفَرَ بَعِيدٌ وَ اَلْمَوْعِدَ اَلْقِيَامَةُ، وَ اَلْمَوْرِدَ اَلْجَنَّةُ أَوِ اَلنَّارُ» (1).
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في مثلُ ذلكَ، ما اشتهر بين العُلِمَاءُ، و حفظه ذوو الفهم و الحُكْمَاء
«أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ قَدْ أَظَلَّتْ وَ أَشْرَفَتْ بِاطِّلاَعٍ ، أَلاَ وَ إِنَّ اَلْمِضْمَارَ اَلْيَوْم َ وَ غَداً اَلسِّبَاقَ، وَ اَلسَّبَقَةَ اَلْجَنَّةُ، وَ اَلْغَايَةَ اَلنَّارُ، أَلاَ وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَل ٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ يَحُثُّهُ عَجَلٌ فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ عَمَلَهُ لَمْ يَضُرَّهُ أَمَلُهُ، وَ مَنْ بَطَّأَ (2)بِهِ عَمَلُهُ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَمَلُهُ.
أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي اَلرَّغْبَةِ وَ اَلرَّهْبَةِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ رَغْبَةٌ فَاشْكُرُوا اَللَّهَ وَ اِجْمَعُوا مَعَهَا رَهْبَةً وَ إِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ رَهْبَةٌ، فَاذْكُرُوا اَللَّهَ وَ اِجْمَعُوا مَعَهَا
ص: 235
رَغْبَةً، فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ تَأَذَّنَ لِلْمُحْسِنِينَ بِالْحُسْنَى، وَ لِمَنْ شَكَرَهُ بِالزِّيَادَةِ، وَ لاَ كَسْبَ خَيْرٌ مِنْ كَسْبٍ لِيَوْمٍ تَدَّخِرُ فِيهِ اَلذَّخَائِرُ، وَ تُجْمَعُ فِيهِ اَلْكَبَائِرُ، وَ تُبْلَى فِيهَا اَلسَّرَائِرُ، وَ إِنِّي لَمْ أَرَ مِثْلَ اَلْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَ لاَ مِثْلَ اَلنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا.
أَلاَ وَ إِنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ اَلْيَقِينُ يَضُرُّهُ اَلشَّكُّ، وَ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ وَ رَأْيِهِ فَغَائِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ. أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَ دُلِلْتُمْ عَلَى اَلزَّادِ وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمُ اِثْنَانِ: اِتِّبَاعُ اَلْهَوَى، وَ طُولُ اَلْأَمَلِ، لِأَنَّ اِتِّبَاعَ اَلْهَوَى يَصُدُّ عَنِ اَلْحَقِّ، وَ طُولَ اَلْأَمَلِ يُنْسِي اَلْآخِرَةَ.
أَلاَ وَ إِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ قَدْ تَرَحَّلَتْ (1)مُقْبِلَةً، وَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَبْنَاءِ اَلْآخِرَةِ، وَ لاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلدُّنْيَا، فَإِنَّ اَلْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لاَ حِسَابَ، وَ غَداً حِسَابٌ وَ لاَ عَمَلَ» (2).
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في ذِكر خيار الصحابة و زهادهم
مَا رَوَاهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ اَلْعَبْدِيُّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ
ص: 236
عَلَیْهِ السَّلامُ ذَاتَ يَوْمٍ صَلاَةَ اَلصُّبْحِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى اَلْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ يَذْكُرُ اَللَّهَ تَعَالَى، لاَ يَلْتَفِتُ يَمِيناً وَ لاَ شِمَالاً حَتَّى صَارَتِ اَلشَّمْسُ عَلَى حَائِطِ مَسْجِدِكُمْ هَذَا - يَعْنِي جَامِعَ اَلْكُوفَةِ - قِيسَ رُمْحٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: «لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَاماً عَلَى عَهْدِ خَلِيلِي رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله وَ إِنَّهُمْ لَيُرَابِحُونَ فِي هَذَا اَللَّيْلِ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ رُكَبِهِمْ، فَإِذَا أَصْبَحُوا أَصْبَحُوا شُعْثاً غُبْراً بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ شِبْهُ رُكَبِ اَلْمِعْزَى، فَإِذَا ذَكَرُوا (1)مَادُوا كَمَا تَمِيدُ اَلشَّجَرُ فِي اَلرِّيحِ، ثُمَّ اِنْهَمَلَتْ عُيُونُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ ثِيَابَهُمْ» ثُمَّ نَهَضَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ هُوَ يَقُولُ :«كَأَنَّمَا اَلْقَوْمُ بَاتُوا غَافِلِينَ» (2) .
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في صفة شيعته المُخْلِصين
مَا رَوَاهُ نَقَلَةُ اَلْآثَارِ: أَنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اَلْمَسْجِدِ، وَ كَانَتْ لَيْلَةً قَمْرَاءَ، فَأَمَّ اَلْجَبَّانَةَ وَ لَحِقَهُ جَمَاعَةٌ يَقْفُونَ أَثَرَهُ، فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: نَحْنُ شِيعَتُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَتَفَرَّسَ فِي وُجُوهِهِمْ ثُمَّ قَالَ: «فَمَا لِي لاَ أَرَى عَلَيْكُمْ سِيمَاءَ اَلشِّيعَةِ ؟» قَالُوا: وَ مَا سِيمَاءُ اَلشِّيعَةِ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «صُفْرُ اَلْوُجُوهِ مِنَ اَلسَّهَرِ،عُمْشُ اَلْعُيُونِ مِنَ اَلْبُكَاءِ، حُدْبُ اَلظُّهُورِ مِنَ اَلْقِيَامِ، خُمْصُ اَلْبُطُونِ مِنَ
ص: 237
اَلصِّيَامِ، ذُبُلُ اَلشِّفَاهِ مِنَ اَلدُّعَاءِ، عَلَيْهِمْ غَبَرَةُ اَلْخَاشِعِينَ» (1) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ و مواعظه و ذكره الموت
مَا اِسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: « اَلْمَوْتُ طَالِبٌ وَ مَطْلُوبٌ حَثِيثٌ، لاَ يُعْجِزُهُ اَلْمُقِيمُ، وَ لاَ يَفُوتُهُ اَلْهَارِبُ ، فَأَقْدِمُوا وَ لاَ تَنْكُلُوا، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَنِ اَلْمَوْتِ مَحِيصٌ، إِنَّكُمْ إِنْ لاَ تُقْتَلُوا تَمُوتُوا، وَ اَلَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ عَلَى اَلرَّأْسِ، أَيْسَرُ مِنْ مَوْتٍ عَلَى فِرَاشٍ» (2).
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، أَصْبَحْتُمْ أَغْرَاضاً تَنْتَضِلُ فِيكُمُ اَلْمَنَايَا، وَ أَمْوَالُكُمْ نَهْبٌ لِلْمَصَائِبِ، مَا طَعِمْتُمْ فِي اَلدُّنْيَا مِنْ طَعَامٍ فَلَكُمْ فِيهِ غَصَصٌ، وَ مَا شَرِبْتُمْ مِنْ شَرَابٍ فَلَكُمْ فِيهِ شَرَقٌ، وَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا تَنَالُونَ مِنَ اَلدُّنْيَا نِعْمَةً تَفْرَحُونَ بِهَا إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى تَكْرَهُونَهَا، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّا خُلِقْنَا وَ إِيَّاكُمْ لِلْبَقَاءِ لاَ لِلْفَنَاءِ، لَكِنَّكُمْ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ تُنْقَلُونَ، فَتَزَوَّدُوا لِمَا أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ وَ خَالِدُونَ فِيهِ، وَ اَلسَّلاَمُ» (3).
ص: 238
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في الدعاء إِلَى نفسه و الدلَّالة على فضله، و الإبانة عن حقّه، و التعريض بظالمه، و الإشارة إِلَى ذلكَ و التنبيُّه عليه
مَا رَوَاهُ اَلْخَاصَّةُ وَ اَلْعَامَّةُ عَنْهُ، وَ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ اَلْمُثَنَّى وَ غَيْرُهُ مِمَّنْ لاَ يَتَّهِمُهُ خُصُومُ اَلشِّيعَةِ فِي رِوَايَتِهِ: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بَعْدَ بَيْعَةِ اَلنَّاسِ لَهُ عَلَى اَلْأَمْرِ، وَ ذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:
«أَمَّا بَعْدُ: (فَلاَ يُرْعِيَنَّ مُرْعٍ) (1)إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ، شُغِلَ عَنِ اَلْجَنَّةِ مَنِ اَلنَّارُ أَمَامَه ُ ،سَاعٍ مُجْتَهِدٌ، وَ طَالِبٌ يَرْجُو وَ مُقَصِّرٌ فِي اَلنَّارِ، ثَلاَثَةٌ، وَ اِثْنَانِ: مَلَكٌ طَارَ بِجَنَاحَيْهِ، وَ نَبِيٌّ أَخَذَ اَللَّهُ بِضَبْعَيْهِ (2)،لاَ سَادِسَ. هَلَكَ مَنِ اِدَّعَى وَ رَدِيَ (3)مَنِ اِقْتَحَمَ. اَلْيَمِينُ وَ اَلشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، وَ اَلْوُسْطَى اَلْجَادَّةُ، مَنْهَجٌ عَلَيْهِ بَاقِي (4)اَلْكِتَابِ وَ اَلسُّنَّةِ وَ آثَارِ اَلنُّبُوَّةِ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى دَاوَى هَذِهِ اَلْأُمَّةَ بِدَوَاءَيْنِ: اَلسَّوْطِ وَ اَلسَّيْفِ، لاَ هَوَادَةَ عِنْدَ اَلْإِمَامِ، فَاسْتَتِرُوا بِبُيُوتِكُمْ، وَ أَصْلِحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَ اَلتَّوْبَةُ
ص: 239
مِنْ وَرَائِكُمْ، مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ.
قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ لَمْ تَكُونُوا عِنْدِي فِيهَا مَعْذُورِينَ، أَمَا إِنِّي لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ، عَفَا اَللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ، سَبَقَ اَلرَّجُلاَنِ، وَ قَامَ اَلثَّالِثُ كَالْغُرَابِ هِمَّتُهُ بَطْنُهُ، وَيْلَهُ لَوْ قُصَّ جَنَاحَاهُ وَ قُطِعَ رَأْسُهُ لَكَانَ خَيْراً لَهُ. اُنْظُرُوا فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ فَأَنْكِرُوا،، وَ إِنْ عَرَفْتُمْ فَبَادِرُوا (1)،حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ، وَ لَئِنْ أَمِرَ (2)اَلْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَ لَئِنْ قَلَّ اَلْحَقُّ فَلَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ، وَ لَقَلَّ مَا أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ، وَ لَئِنْ رَجَعَتْ إِلَيْكُمْ نُفُوسُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ، وَ إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ، وَ مَا عَلَيَّ إِلاَّ اَلاِجْتِهَادُ.
أَلاَ وَ إِنَّ أَبْرَارَ عِتْرَتِي وَ أَطَائِبَ أَرُومَتِي (3)، أَحْلَمُ (4)اَلنَّاسِ صِغَاراً، وَ أَعْلَمُ اَلنَّاسِ كِبَاراً، أَلاَ وَ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ عِلْمِ اَللَّهِ عَلِمْنَا، وَ بِحُكْمِ اَللَّهِ حَكَمْنَا، وَ بِقَوْلٍ صَادِقٍ أَخَذْنَا، فَإِنْ تَتَّبِعُوا آثَارَنَا تَهْتَدُوا بِبَصَائِرِنَا، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يُهْلِكْكُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِينَا، مَعَنَا رَايَةُ اَلْحَقِّ مَنْ تَبِعَهَا لَحِقَ، وَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا غَرِقَ، أَلاَ وَ بِنَا تُدْرَكُ تِرَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ بِنَا تُخْلَعُ رِبْقَةُ اَلذُّلِّ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وَ بِنَا فُتِحَ لاَ بِكُمْ، وَ بِنَا يُخْتَمُ لاَ بِكُمْ» (5) .
ص: 240
في الدعاء إِلَى نفسه و عترته
فصل
و من مختصر كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في الدعاء إِلَى نفسه و عترته
قَوْلُهُ: «إِنَّ اَللَّهَ خَصَّ مُحَمَّداً بِالنُّبُوَّةِ، وَ اِصْطَفَاهُ بِالرِّسَالَةِ، وَ أَنْبَأَهُ بِالْوَحْيِ ، فَأَنَالَ (1)فِي اَلنَّاسِ وَ أَنَالَ. وَ عِنْدَنَا - أَهْلَ اَلْبَيْتِ - مَعَاقِلُ اَلْعِلْمِ، وَ أَبْوَابُ اَلْحُكْمِ، وَ ضِيَاءُ اَلْأَمْرِ، فَمَنْ يُحِبُّنَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ وَ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ، وَ مَنْ لاَ يُحِبُّنَا لاَ يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ وَ لاَ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ، وَ إِنْ دَأَبَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ» (2). فصل
وَ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدَبٍ عَنْ أَبِيهِ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ بَيْعَةِ اَلنَّاسِ لِعُثْمَانَ، فَوَجَدْتُهُ مُطْرِقاً - کَئِيباً - فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَصَابَ قَوْمَكَ؟!
قَالَ: «صَبْرٌ جَمِيلٌ»
ص: 241
فَقُلْتُ لَهُ: سُبْحَانَ اَللَّهِ، وَ اَللَّهِ إِنَّكَ لَصَبُورٌ.
قَالَ: «فَأَصْنَعُ مَا ذَا؟!».
فَقُلْتُ: تَقُومُ فِي اَلنَّاسِ وَ تَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِكَ، وَ تُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله بِالْفَضْلِ وَ اَلسَّابِقَةِ، وَ تَسْأَلُهُمُ اَلنَّصْرَ عَلَى هَؤُلاَءِ اَلْمُتَمَالِئِينَ عَلَيْكَ، فَإِنْ أَجَابَكَ عَشَرَةٌ مِنْ مِائَةٍ شَدَّدْتَ بِالْعَشَرَةِ عَلَى اَلْمِائَةِ، وَ إِنْ دَانُوا لَكَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ، وَ إِنْ أَبَوْا قَاتَلْتَهُمْ، فَإِنْ ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ سُلْطَانُ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاهُ نَبِيَّهُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ كُنْتَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ، وَ إِنْ قُتِلْتَ فِي طَلَبِهِ قُتِلْتَ شَهِيداً وَ كُنْتَ أَوْلَى (1)بِالْعُذْرِ عِنْدَ اَللَّهِ، وَ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله. فَقَالَ: «أَ تَرَاهُ - يَا جُنْدَبُ - يُبَايِعُنِي عَشَرَةٌ مِنْ مِائَةٍ؟!».
قُلْتُ أَرْجُو ذَلِكَ.
قَالَ: «لَكِنَّنِي لاَ أَرْجُو وَ لاَ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ اِثْنَيْنِ، وَ سَأُخْبِرُكَ مِنْ أَيْنَ ذَلِكَ، إِنَّمَا يَنْظُرُ اَلنَّاسُ إِلَى قُرَيْشٍ، وَ إِنَّ قُرَيْشاً تَقُولُ: إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فَضْلاً عَلَى سَائِرِ اَلنَّاسِ، وَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اَلْأَمْرِ دُونَ قُرَيْشٍ، وَ إِنَّهُمْ إِنْ وُلُّوهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ هَذَا اَلسُّلْطَانُ إِلَى أَحَدٍ أَبَداً ،وَ مَتَى كَانَ فِي غَيْرِهِمْ تَدَاوَلْتُمُوهُ بَيْنَكُمْ وَ لاَ - وَ اَللَّهِ - لاَ تَدْفَعُ قُرَيْشٌ إِلَيْنَا هَذَا اَلسُّلْطَانَ طَائِعِينَ أَبَداً»
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَ فَلاَ أَرْجِعُ فَأُخْبِرُ اَلنَّاسَ بِمَقَالَتِكَ هَذِهِ، وَ أَدْعُوهُمْ إِلَيْكَ؟
ص: 242
فَقَالَ لِي: «يَا جُنْدَبُ لَيْسَ هَذَا زَمَانَ ذَلِكَ»
قَالَ: فَرَجَعْتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اَلْعِرَاقِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا ذَكَرْتُ لِلنَّاسِ شَيْئاً مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ مَنَاقِبِهِ وَ حُقُوقِهِ زَبَرُونِي وَ نَهَرُونِي، حَتَّى رُفِعَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِي إِلَى اَلْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لَيَالِيَ وَلِيَنَا، فَبَعَثَ إِلَيَّ فَحَبَسَنِي حَتَّى كُلِّمَ فِيَّ فَخَلَّى سَبِيلِي (1) .
فصل و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ حين تخلف عن بيعته: عَبْدُالله بن عُمَربن الخَطّاب، و سَعدُ بن أبي وقاص، و محمّد بن مسلمة، و حسان بن ثابت، و أسامة بن زيد
مَا رَوَاهُ اَلشَّعْبِيُّ قَالَ: لَمَّا اِعْتَزَلَ سَعْدٌ وَ مَنْ سَمَّيْنَاهُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ تَوَقَّفُوا عَنْ بَيْعَتِهِ، حَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّكُمْ بَايَعْتُمُونِي عَلَى مَا بُويِعَ عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَبْلِي، وَ إِنَّمَا اَلْخِيَارُ إِلَى اَلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُبَايِعُوا، فَإِذَا بَايَعُوا فَلاَ خِيَارَ لَهُمْ، وَ إِنَّ عَلَى اَلْإِمَامِ اَلاِسْتِقَامَةَ، وَ عَلَى اَلرَّعِيَّةِ اَلتَّسْلِيمَ، وَ هَذِهِ بَيْعَةٌ عَامَّةٌ، مَنْ رَغِبَ عَنْهَا رَغِبَ عَنْ دِينِ اَلْإِسْلاَمِ وَ اِتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ، وَ لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً ،وَ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ، وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأَنْصَحَنَّ لِلْخَصْمِ، وَ لَأُنْصِفَنَّ لِلْمَظْلُومِ. وَ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ سَعْدٍ وَ اِبْنِ مَسْلَمَةَ وَ أُسَامَةَ وَ عَبْدِ اَللَّهِ وَ حَسَّانِ بْنِ
ص: 243
ثَابِتٍ أُمُورٌ كَرِهْتُهَا، وَ اَلْحَقُّ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ» (1) .
طَلْحة و الزبير بيعته و تأليب عائشة عليه للخروج إِلَى مَكّة]
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ عند نكث طَلْحة و الزبير بيعته و توجههما إِلَى مَكّة للاجتَمّاع مَعَ عائشة في التأليب عليه و التألف على خلافه
مَا حَفِظَهُ اَلْعُلَمَاءُ عَنْهُ، بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلّی الله علیه و آله لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ، فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَ بَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ فَلَمَّ بِهِ اَلصَّدْعَ، وَ رَتَقَ بِهِ اَلْفَتْقَ، وَ آمَنَ بِهِ اَلسُّبُلَ، وَ حَقَنَ بِهِ اَلدِّمَاءَ، وَ أَلَّفَ بِهِ بَيْنَ ذَوِي اَلْإِحَنِ وَ اَلْعَدَاوَةِ وَ اَلْوَغْرِ (2)فِي اَلصُّدُورِ وَ اَلضَّغَائِنِ اَلرَّاسِخَةِ فِي اَلْقُلُوبِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اَللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ حَمِيداً، لَمْ يُقَصِّرْ عَنِ اَلْغَايَةِ اَلَّتِي إِلَيْهَا أَدَاءُ اَلرِّسَالَةِ، وَ لاَ بَلَّغَ شَيْئاً كَانَ فِي اَلتَّقْصِيرِ عَنْهُ اَلْقَصْدُ، وَ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ اَلتَّنَازُعِ فِي اَلْإِمْرَةِ مَا كَانَ، فَتَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَ بَعْدَهُ عُمَرُ، ثُمَّ تَوَلَّى عُثْمَانُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا عَرَفْتُمُوهُ أَتَيْتُمُونِي فَقُلْتُمْ: بَايِعْنَا، فَقُلْتُ: لاَ أَفْعَلُ، فَقُلْتُمْ: بَلَى، فَقُلْتُ: لاَ، وَ قَبَضْتُ يَدِي فَبَسَطْتُمُوهَا، وَ نَازَعْتُكُمْ فَجَذَبْتُمُوهَا، وَ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ (3)عَلَى
ص: 244
حِيَاضِهَا يَوْمَ وُرُودِهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّكُمْ قَاتِلِيَّ ، وَ أَنَّ بَعْضَكُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ، فَبَسَطْتُ يَدِي فَبَايَعْتُمُونِي مُخْتَارِينَ، وَ بَايَعَنِي فِي أَوَّلِكُمْ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ طَائِعَيْنِ غَيْرَ مُكْرَهَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثَا أَنِ اِسْتَأْذَنَانِي فِي اَلْعُمْرَةِ، وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا أَرَادَا اَلْغَدْرَةَ، فَجَدَّدْتُ عَلَيْهِمَا اَلْعَهْدَ فِي اَلطَّاعَةِ وَ أَنْ لاَ يَبْغِيَا لِلْأُمَّةِ اَلْغَوَائِلَ، فَعَاهَدَانِي ثُمَّ لَمْ يَفِيَا لِي وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ نَقَضَا عَهْدِي، فَعَجَباً لَهُمَا مِنِ اِنْقِيَادِهِمَا لِأَبِي بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ خِلاَفِهِمَا لِي وَ لَسْتُ بِدُونِ أَحَدِ اَلرَّجُلَيْنِ! وَ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ، اَللَّهُمَّ اُحْكُمْ عَلَيْهِمَا بِمَا صَنَعَا فِي حَقِّي وَ صَغَّرَا مِنْ أَمْرِي، وَ ظَفِّرْنِي بِهِمَا» (1) .
فصل
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي مَقَامٍ آخَرَ بِمَا حُفِظَ عَنْهُ فِي هَذَا اَلْمَعْنَى فَقَالَ: بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ عَلَیْهِ السَّلامُ قُلْنَا: نَحْنُ أَهْلُ بَيْتِهِ وَ عَصَبَتُهُ وَ وَرَثَتُهُ وَ أَوْلِيَاؤُهُ وَ أَحَقُّ اَلْخَلاَئِقِ بِهِ، لاَ نُنَازَعُ حَقَّهُ وَ سُلْطَانَهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ [عَلَى ذَلِكَ] (2)إِذْ نَفَرَ اَلْمُنَافِقُونَ فَانْتَزَعُوا سُلْطَانَ نَبِيِّنَا مِنَّا وَ وَلَّوْهُ غَيْرَنَا، فَبَكَتْ - وَ اَللَّهِ - لِذَلِكَ اَلْعُيُونُ وَ اَلْقُلُوبُ مِنَّا جَمِيعاً مَعاً، وَ خَشُنَتْ (3)لَهُ اَلصُّدُورُ، وَ جَزِعَتِ اَلنُّفُوسُ جَزَعاً أَرْغَمَ.
ص: 245
وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَوْ لاَ مَخَافَتِي اَلْفُرْقَةَ بَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَ أَنْ يَعُودَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى اَلْكُفْرِ وَ يُعَوَّرَ (1)اَلدِّينُ، لَكُنَّا قَدْ غَيَّرْنَا ذَلِكَ مَا اِسْتَطَعْنَا. وَ قَدْ بَايَعْتُمُونِي اَلْآنَ وَ بَايَعَنِي هَذَانِ اَلرَّجُلاَنِ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ عَلَى اَلطَّوْعِ مِنْهُمَا وَ مِنْكُمْ وَ اَلْإِيثَارِ، ثُمَّ نَهَضَا يُرِيدَانِ اَلْبَصْرَةَ لِيُفَرِّقَا جَمَاعَتَكُمْ وَ يُلْقِيَا بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ، اَللَّهُمَّ فَخُذْهُمَا لِغِشِّهِمَا لِهَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ بِسُوءِ نَظَرِهِمَا لِلْعَامَّةِ».
ثُمَّ قَالَ: «اِنْفِرُوا (2) - رَحِمَكُمُ اَللَّهُ - فِي طَلَبِ هَذَيْنِ اَلنَّاكِثَيْنِ اَلْقَاسِطَيْنِ اَلْبَاغِيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ تَدَارُكُ مَا جَنَيَاه ُ »(3).
فصل
وَ لَمَّا اِتَّصَلَ بِهِ مَسِيرُ عَائِشَةَ وَ طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرِ إِلَى اَلْبَصْرَةِ مِنْ مَكَّةَ حَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «قَدْ سَارَتْ عَائِشَةُ وَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي اَلْخِلاَفَةَ دُونَ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَدَّعِي طَلْحَةُ اَلْخِلاَفَةَ إِلاَّ أَنَّهُ اِبْنُ عَمِّ عَائِشَةَ، وَ لاَ يَدَّعِيهَا اَلزُّبَيْرُ إِلاَّ أَنَّهُ صِهْرُ أَبِيهَا. وَ اَللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَا بِمَا يُرِيدَانِ لَيَضْرِبَنَّ اَلزُّبَيْرُ عُنُقَ طَلْحَةَ، وَ لَيَضْرِبَنَّ طَلْحَةُ عُنُقَ اَلزُّبَيْرِ، يُنَازِعُ هَذَا عَلَى اَلْمُلْكِ هَذَا.
وَ قَدْ - وَ اَللَّهِ - عَلِمْتُ أَنَّهَا اَلرَّاكِبَةُ اَلْجَمَلِ لاَ تَحُلُّ عُقْدَةً وَ لاَ تَسِيرُ
ص: 246
عَقَبَةً وَ لاَ تَنْزِلُ مَنْزِلاً إِلاَّ إِلَى مَعْصِيَةٍ، حَتَّى تُورِدَ نَفْسَهَا وَ مَنْ مَعَهَا مَوْرِداً، يُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ وَ يَهْرُبُ ثُلُثُهُمْ وَ يَرْجِعُ ثُلُثُهُمْ. وَ اَللَّهِ إِنَّ طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرَ لَيَعْلَمَانِ أَنَّهُمَا مُخْطِئَانِ وَ مَا يَجْهَلاَنِ. وَ لَرُبَّمَا (1)عَالِمٌ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لاَ يَنْفَعُهُ. وَ اَللَّهِ لَيَنْبَحَنَّهَا كِلاَبُ اَلْحَوْأَبِ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ مُعْتَبِرٌ وَ يَتَفَكَّرُ مُتَفَكِّرٌ! ثُمَّ قَالَ: قَدْ قَامَتِ اَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ فَأَيْنَ اَلْمُحْسِنُونَ؟» (2) .
كلام علي عَلَیْهِ السَّلامُ عند نزوله في الربذة (3)
فصل
وَ لَمَّا تَوَجَّهَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى اَلْبَصْرَةِ، نَزَلَ اَلرَّبَذَةَ فَلَقِيَهُ بِهَا آخِرُ اَلْحَاجِّ، فَاجْتَمَعُوا لِيَسْمَعُوا مِنْ كَلاَمِهِ وَ هُوَ فِي خِبَائِهِ.
قَالَ: اِبْنُ عَبَّاسٍ - رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ - فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يَخْصِفُ نَعْلاً، فَقُلْتُ لَهُ: نَحْنُ إِلَى أَنْ تُصْلِحَ أَمْرَنَا أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى مَا تَصْنَعُ، فَلَمْ يُكَلِّمْنِي حَتَّى فَرَغَ مِنْ نَعْلِهِ ثُمَّ ضَمَّهَا إِلَى صَاحِبَتِهَا ثُمَّ قَالَ لِي: «قَوِّمْهَا » فَقُلْتُ: لَيْسَ لَهَا قِيمَةٌ قَالَ: «عَلَى ذَاكَ» قُلْتُ: كَسْرُ دِرْهَمٍ، قَالَ: « وَ اَللَّهِ لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ هَذَا، إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً» قُلْتُ: إِنَّ اَلْحَاجَّ قَدِ اِجْتَمَعُوا لِيَسْمَعُوا مِنْ كَلاَمِكَ؛ فَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ حَسَناً كَانَ مِنْكَ، وَ إِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ مِنِّي، قَالَ: «لاَ، أَنَا أَتَكَلَّمُ» ثُمَّ
ص: 247
وَضَعَ يَدَهُ فِي صَدْرِي - وَ كَانَ شَثْنَ (1)اَلْكَفِّ - فَآلَمَنِي، ثُمَّ قَامَ فَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ فَقُلْتُ: نَشَدْتُكَ اَللَّهَ وَ اَلرَّحِمَ، قَالَ: «لاَ تَنْشُدْنِي» ثُمَّ خَرَجَ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
«أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلّی الله علیه و آله وَ لَيْسَ فِي اَلْعَرَبِ أَحَدٌ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً فَسَاقَ اَلنَّاسَ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ، أَمَ وَ اَللَّهِ مَا زِلْتُ فِي سَاقَتِهَا مَا غَيَّرْتُ وَ لاَ خُنْتُ، حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا. مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ، أَمَ وَ اَللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ، وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا عَنْ عَهْدٍ إِلَيَّ فِيهِ. أَمَ وَ اَللَّهِ، لَأَبْقُرَنَّ (2)اَلْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ اَلْحَقُّ مِنْ خَاصِرَتِهِ. مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّ اَللَّهَ اِخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا وَ أَنْشَدَ:
ذَنْبٌ لَعَمْرِي شُرْبُكَ اَلْمَحْضَ خَالِصاً *** وَ أَكْلُكَ بِالزُّبْدِ اَلْمُقَشَّرَةَ (3)اَلْبُجْرَا (4)
وَ نَحْنُ وَهَبْنَاكَ اَلْعَلاَءَ وَ لَمْ تَكُنْ *** عَلِيّاً وَ حُطْنَا حَوْلَكَ اَلْجُرْدَ وَ اَلسُّمْرَا(5) (6) .
ص: 248
كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ عند نزوله بذي قار (1)و لقائه بأهل الكوفة فيها
وَ لَمَّا نَزَلَ بِذِي قَارٍ أَخَذَ اَلْبَيْعَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَأَكْثَرَ مِنَ اَلْحَمْدِ لِلَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ اَلصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ جَرَتْ أُمُورٌ صَبَرْنَا فِيهَا - وَ فِي أَعْيُنِنَا اَلْقَذَى - تَسْلِيماً لِأَمْرِ اَللَّهِ تَعَالَى فِيمَا اِمْتَحَنَنَا بِهِ رَجَاءَ اَلثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ، وَ كَانَ اَلصَّبْرُ عَلَيْهَا أَمْثَلَ مِنْ أَنْ يَتَفَرَّقَ اَلْمُسْلِمُونَ وَ تُسْفَكَ دِمَاؤُهُمْ. نَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ اَلنُّبُوَّةِ، وَ أَحَقُّ اَلْخَلْقِ بِسُلْطَانِ اَلرِّسَالَةِ، وَ مَعْدِنُ اَلْكَرَامَةِ اَلَّتِي اِبْتَدَأَ اَللَّهُ بِهَا هَذِهِ اَلْأُمَّةَ. وَ هَذَا طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ اَلنُّبُوَّةِ، وَ لاَ مِنْ ذُرِّيَّةِ اَلرَّسُولِ، حِينَ رَأَيَا أَنَّ اَللَّهَ قَدْ رَدَّ عَلَيْنَا حَقَّنَا بَعْدَ أَعْصُرٍ، فَلَمْ يَصْبِرَا حَوْلاً وَاحِداً وَ لاَ شَهْراً كَامِلاً حَتَّى وَثَبَا عَلَى دَأْبِ اَلْمَاضِينَ قَبْلَهُمَا، لِيَذْهَبَا بِحَقِّي وَ يُفَرِّقَا جَمَاعَةَ اَلْمُسْلِمِينَ عَنِّي» ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمَا .
فصل
وَ قَدْ رَوَى عَبْدُ اَلْحَمِيدِ بْنُ عِمْرَانَ اَلْعِجْلِيُّ ،عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: لَمَّا اِلْتَقَى أَهْلُ اَلْكُوفَةِ بِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِذِي قَارٍ، رَحَّبُوا بِهِ وَ قَالُوا: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي خَصَّنَا بِجِوَارِكَ وَ أَكْرَمَنَا بِنُصْرَتِكَ. فَقَامَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فِيهِمْ خَطِيباً، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
«يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، إِنَّكُمْ مِنْ أَكْرَمِ اَلْمُسْلِمِينَ، وَ أَقْصَدِهِمْ تَقْوِيماً، وَ أَعْدَلِهِمْ سُنَّةً، وَ أَفْضَلِهِمْ سَهْماً فِي اَلْإِسْلاَمِ، وَ أَجْوَدِهِمْ فِي اَلْعَرَبِ
ص: 249
مَرْكَباً (1)وَ نِصَاباً. أَنْتُمْ أَشَدُّ اَلْعَرَبِ وُدّاً لِلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله وَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ. وَ إِنَّمَا جِئْتُكُمْ ثِقَةً - بَعْدَ اَللَّهِ - بِكُمْ لِلَّذِي بَذَلْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عِنْدَ نَقْضِ طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرِ وَ خَلْعِهِمَا طَاعَتِي، وَ إِقْبَالِهِمَا بِعَائِشَةَ لِلْفِتْنَةِ، وَ إِخْرَاجِهِمَا إِيَّاهَا مِنْ بَيْتِهَا حَتَّى أَقْدَمَاهَا اَلْبَصْرَةَ، فَاسْتَغْوَوْا (2)طَغَامَهَا وَ غَوْغَاءَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ اَلْفَضْلِ مِنْهُمْ وَ خِيَارَهُمْ فِي اَلدِّينِ قَدِ اِعْتَزَلُوا وَ كَرِهُوا مَا صَنَعَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ»
ثُمَّ سَكَتَ فَقَالَ: أَهْلُ اَلْكُوفَةِ: نَحْنُ أَنْصَارُكَ وَ أَعْوَانُكَ عَلَى عَدُوِّكَ، وَ لَوْ دَعَوْتَنَا إِلَى أَضْعَافِهِمْ مِنَ اَلنَّاسِ اِحْتَسَبْنَا فِي ذَلِكَ اَلْخَيْرَ وَ رَجَوْنَاهُ.
فَدَعَا لَهُمْ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُمْ - مَعَاشِرَ اَلْمُسْلِمِينَ - أَنَّ طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرَ بَايَعَانِي طَائِعَيْنِ رَاغِبَيْنِ، ثُمَّ اِسْتَأْذَنَانِي فِي اَلْعُمْرَةِ فَأَذِنْتُ لَهُمَا، فَسَارَا إِلَى اَلْبَصْرَةِ فَقَتَلاَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ فَعَلاَ اَلْمُنْكَرَ، اَللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا اَلنَّاسَ عَلَي َّ ، فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا، وَ لاَ تَحْكُمْ مَا أَبْرَمَا، وَ أَرِهِمَا اَلْمَسَاءَةَ فِيمَا عَمِلاَ» (3) .
ص: 250
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ حين نهض من ذي قار متوجها إِلَى البصرة
بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ اَلصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ فَرَضَ اَلْجِهَادَ وَ عَظَّمَهُ، وَ جَعَلَهُ نُصْرَةً لَهُ، وَ اَللَّهِ مَا صَلَحَتْ دُنْيَا قَطُّ وَ لاَ دِينٌ إِلاَّ بِهِ. وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ، وَ اِسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَ شَبَّهَ فِي ذَلِكَ وَ خَدَعَ، وَ قَدْ بَانَتِ اَلْأُمُورُ وَ تَمَخَّضَتْ. وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً، وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً تَرَكُوهُ، وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ، وَ لَئِنْ كُنْتُ شَرِكْتُهُمْ فِيهِ إِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا تَبِعَتُهُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ، وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَ إِنِّي لَعَلَى بَصِيرَتِي مَا لُبِسَتْ عَلَيَّ ، وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ فِيهَا اَلْحُمَّى (1)وَ اَلْحُمَّةُ (2)قَدْ طَالَتْ هُلْبَتُهَا وَ أَمْكَنَتْ دِرَّتُهَا، يَرْضَعُونَ أُمّاً فَطَمَتْ، وَ يُحْيُونَ بَيْعَةً تُرِكَتْ، لِيَعُودَ اَلضَّلاَلُ إِلَى نِصَابِهِ.
مَا أَعْتَذِرُ مِمَّا فَعَلْتُ، وَ لاَ أَتَبَرَّأُ مِمَّا صَنَعْتُ، فَخَيْبَةً لِلدَّاعِي وَ مَنْ دَعَا لَوْ قِيلَ لَهُ: إِلَى مَنْ دَعْوَاكَ؟ وَ إِلَى مَنْ أَجَبْتَ؟ وَ مَنْ إِمَامُكَ؟ وَ مَا سُنَّتُهُ إِذاً لَزَاحَ اَلْبَاطِلُ عَنْ مَقَامِهِ، وَ لَصَمَتَ لِسَانُهُ فَمَا نَطَقَ. وَ اَيْمُ اَللَّهِ، لَأُفْرِطَنَّ (3)لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ ، (4)لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لاَ يَلْقَوْنَ بَعْدَهُ رِيّاً
ص: 251
أَبَداً، وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عُذْرِهِ فِيهِمْ، إِذْ أَنَا دَاعِيهِمْ فَمُعَذِّرٌ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَ أَقْبَلُوا فَالتَّوْبَةُ مَبْذُولَةٌ وَ اَلْحَقُّ مَقْبُولٌ، وَ لَيْسَ عَلَى اَللَّهِ كُفْرَانٌ، وَ إِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ، وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنْ بَاطِلٍ وَ نَاصِراً لِمُؤْمِنٍ» (1).
دخوله البصرة و تحريض أصحّابه على الجهاد]
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ حين دخل البصرة: و جمع أصحّابه فحرضهم على الجهاد
فَكَانَ مِمَّا قَالَ: «عِبَادَ اَللَّهِ، اِنْهَدُوا (2)إِلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ مُنْشَرِحَةً صُدُورُكُمْ بِقِتَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ نَكَثُوا بَيْعَتِي، وَ أَخْرَجُوا اِبْنَ حُنَيْفٍ عَامِلِي بَعْدَ اَلضَّرْبِ اَلْمُبَرِّحِ وَ اَلْعُقُوبَةِ اَلشَّدِيدَةِ، وَ قَتَلُوا اَلسَّيَابِجَةَ (3)، وَ قَتَلُوا حَكِيمَ بْنَ جَبَلَةَ اَلْعَبْدِيَّ، وَ قَتَلُوا رِجَالاً صَالِحِينَ، ثُمَّ تَتَبَّعُوا مِنْهُمْ مَنْ نَجَا يَأْخُذُونَهُمْ فِي كُلِّ حَائِطٍ وَ تَحْتَ كُلِّ رَابِيَة ٍ ،ثُمَّ يَأْتُونَ بِهِمْ فَيَضْرِبُونَ رِقَابَهُمْ صَبْراً. مَا لَهُمْ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ
ص: 252
اِنْهَدُوا إِلَيْهِمْ وَ كُونُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ، وَ اِلْقَوْهُمْ صَابِرِينَ مُحْتَسِبِينَ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ مُنَازِلُوهُمْ وَ مُقَاتِلُوهُمْ وَ قَدْ وَطَّنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَى اَلطَّعْنِ اَلدَّعْسِيِّ (1)، وَ اَلضَّرْبِ اَلطِّلَخْفِيِّ (2)،وَ مُبَارَزَةِ اَلْأَقْرَانِ، وَ أَيُّ اِمْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اَللِّقَاءِ ، وَ رَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً، فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ اَلَّذِي فُضِّلَ عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ» (3).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ حين قَتَل طَلْحة و انفض أهلُ البصرة:
«بِنَا تَسَنَّمْتُمُ اَلشُّرَفَاءَ (4)،وَ بِنَا اِنْفَجَرْتُمْ (5)،عَنِ السِّرَارِ (6)،وَ بِنَا اِهْتَدَيْتُمْ فِي اَلظَّلْمَاءِ، وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ اَلْوَاعِيَةَ كَيْفَ يُرَاعُ لِلنَّبْأَةِ مَنْ أَصَمَّتْهُ اَلصَّيْحَةُ، رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ اَلْخَفَقَان ُ ؛ مَا زِلْتُ أَتَوَقَّعُ بِكُمْ عَوَاقِبَ اَلْغَدْرِ، وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ اَلْمُغْتَرِّينَ، سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ اَلدِّينِ، وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ اَلنِّيَّةِ، أَقَمْتُ لَكُمُ اَلْحَقَّ حَيْثُ تَعْرِفُونَ وَ لاَ دَلِيلَ،
ص: 253
وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لاَ تُمِيهُونَ (1). اَلْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ اَلْعَجْمَاءَ ذَاتَ اَلْبَيَانِ، عَزَبَ فَهْمُ اِمْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي، مَا شَكَكْتُ فِي اَلْحَقِّ مُنْذُ رَأَيْتُهُ، كَانَ بَنُو يَعْقُوبَ عَلَى اَلْمَحَجَّةِ اَلْعُظْمَى حَتَّى عَقُّوا أَبَاهُمْ وَ بَاعُوا أَخَاهُمْ، وَ بَعْدَ اَلْإِقْرَارِ كَانَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَ بِاسْتِغْفَارِ أَبِيهِمْ وَ أَخِيهِمْ غُفِرَ لَهُمْ» (2).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ عند تطوافه على القَتَلىک
«هَذِهِ قُرَيْشٌ، جَدَعْتُ أَنْفِي وَ شَفَيْتُ نَفْسِي، لَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ أُحَذِّرُكُمْ عَضَّ اَلسُّيُوفِ، وَ كُنْتُمْ أَحْدَاثاً لاَ عِلْمَ لَكُمْ بِمَا تَرَوْنَ، وَ لَكِنَّهُ اَلْحَيْنُ (3)وَ سُوءُ اَلْمَصْرَعِ، فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ اَلْمَصْرَعِ»
ثُمَّ مَرَّ عَلَى مَعْبَدِ بْنِ اَلْمِقْدَادِ فَقَالَ: «رَحِمَ اَللَّهُ أَبَا هَذَا، أَمَا إِنَّهُ لَو كَانَ حَيّاً لَكَانَ رَأْيُهُ أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ هَذَا» فَقَالَ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَوْقَعَهُ وَ جَعَلَ خَدَّهُ اَلْأَسْفَلَ، إِنَّا وَ اَللَّهِ - يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ - مَا نُبَالِي مَنْ عَنَدَ عَنِ اَلْحَقِّ مِنْ وَلَدٍ. وَ وَالِدٍ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «رَحِمَكَ اَللَّهُ وَ جَزَاكَ عَنِ اَلْحَقِّ خَيْراً»
قَالَ: وَ مَرَّ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ دَرَّاجٍ وَ هُوَ فِي اَلْقَتْلَى فَقَالَ: « هَذَا
ص: 254
اَلْبَائِسُ مَا كَانَ أَخْرَجَهُ؟ أَ دِينٌ أَخْرَجَهُ أَمْ نَصْرٌ لِعُثْمَانَ!؟ وَ اَللَّهِ مَا كَانَ رَأْيُ عُثْمَانَ فِيهِ وَ لاَ فِي أَبِيهِ بِحَسَنٍ»
ثُمَّ مَرَّ بِمَعْبَدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (1)فَقَالَ: «لَوْ كَانَتِ اَلْفِتْنَةُ بِرَأْسِ اَلثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهَا هَذَا اَلْغُلاَمُ، وَ اَللَّهِ مَا كَانَ فِيهَا بِذِي نَحِيزَةٍ (2)وَ لَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ أَدْرَكَهُ وَ إِنَّهُ لَيُوَلْوِلُ فَرَقاً مِنَ اَلسَّيْف ِ »
ثُمَّ مَرَّ بِمُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ فَقَالَ: « اَلْبِرُّ أَخْرَجَ هَذَا!؟ وَ اَللَّهِ لَقَدْ كَلَّمَنِي أَنْ أُكَلِّمَ لَهُ عُثْمَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ يَدَّعِيهِ قِبَلَهُ بِمَكَّةَ، فَأَعْطَاهُ عُثْمَانُ وَ قَالَ: لَوْ لاَ أَنْتَ مَا أَعْطَيْتُهُ إِنَّ هَذَا - مَا عَلِمْتُ - بِئْسَ أَخُو اَلْعَشِيرَةِ؛ ثُمَّ جَاءَ اَلْمَشُومُ لِلْحَيْنِ يَنْصُرُ عُثْمَانَ»
ثُمَّ مَرَّ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرٍ فَقَالَ: «هَذَا أَيْضاً مِمَّنْ أَوْضَعَ فِي قِتَالِنَا، زَعَمَ يَطْلُبُ اَللَّهَ بِذَلِكَ وَ لَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ كُتُباً يُؤْذِي فِيهَا عُثْمَانَ فَأَعْطَاهُ شَيْئاً فَرَضِيَ عَنْهُ»
وَ مَرَّ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ فَقَالَ: «هَذَا خَالَفَ أَبَاهُ فِي اَلْخُرُوجِ، وَ أَبُوهُ حَيْثُ لَمْ يَنْصُرْنَا قَدْ أَحْسَنَ فِي بَيْعَتِهِ لَنَا، وَ إِنْ كَانَ قَدْ كَفَّ وَ جَلَسَ حَيْثُ شَكَّ فِي اَلْقِتَالِ، وَ مَا أَلُومُ اَلْيَوْمَ مَنْ كَفَّ عَنَّا وَ عَنْ غَيْرِنَا وَ لَكِنَّ اَلْمُلِيمَ اَلَّذِي يُقَاتِلُنَا»
ثُمَّ مَرَّ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ اَلْأَخْنَسِ فَقَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ فِي اَلدَّارِ، فَخَرَجَ مُغْضَباً لِمَقْتَلِ أَبِيهِ، وَ هُوَ غُلاَمٌ
ص: 255
حَدَثٌ حُيِّنَ لِقَتْلِهِ»
ثُمَّ مَرَّ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ اَلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ فَقَالَ: «أَمَّا هَذَا فَإِنِّي (1)أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَ قَدْ أَخَذَ اَلْقَوْمَ اَلسُّيُوفُ هَارِباً يَعْدُو مِنَ اَلصَّفِّ، فَنَهْنَهْتُ عَنْهُ فَلَمْ يَسْمَعْ مَنْ نَهْنَهْتُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَ كَانَ هَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى فِتْيَانِ قُرَيْشٍ، أَغْمَارٍ (2)لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، خُدِعُوا وَ اُسْتُزِلُّوا، فَلَمَّا وَقَفُوا وَقَعُوا فَقُتِلُوا»
ثُمَّ مَشَى قَلِيلاً فَمَرَّ بِكَعْبِ بْنِ سُورٍ فَقَالَ: «هَذَا اَلَّذِي خَرَجَ عَلَيْنَا فِي عُنُقِهِ اَلْمُصْحَفُ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَاصِرُ أُمِّهِ، يَدْعُو اَلنَّاسَ إِلَى مَا فِيهِ وَ هُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا فِيهِ،، ثُمَّ اِسْتَفْتَحَ فَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ. أَمَا إِنَّهُ دَعَا اَللَّهَ أَنْ يَقْتُلَنِي فَقَتَلَهُ اَللَّهُ. أَجْلِسُوا كَعْبَ بْنَ سُورٍ» فَأُجْلِسَ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: يَا كَعْبُ، قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً، فَهَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّاً؟ ثُمَّ قَالَ: أَضْجِعُوا كَعْباً»
وَ مَرَّ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اَللَّهِ فَقَالَ: «هَذَا اَلنَّاكِثُ بَيْعَتِي، وَ اَلْمُنْشِئُ اَلْفِتْنَةَ فِي اَلْأُمَّةِ، وَ اَلْمُجْلِبُ عَلَيَّ ، اَلدَّاعِي إِلَى قَتْلِي وَ قَتْلِ عِتْرَتِي. أَجْلِسُوا طَلْحَةَ» فَأُجْلِسَ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ
«يَا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اَللَّهِ، قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً، فَهَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَ رَبُّكَ حَقّاً!؟ ثُمَّ قَالَ: أَضْجِعُوا طَلْحَةَ» وَ سَارَ. فَقَالَ لَهُ: بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، أَ تَكَلَّمُ كَعْباً وَ طَلْحَةَ بَعْدَ قَتْلِهِمَا؟ قَالَ: «أَمَ وَ اَللَّهِ، إِنَّهُمَا لَقَدْ سَمِعَا كَلاَمِي كَمَا سَمِعَ أَهْلُ اَلْقَلِيبِ (3)كَلاَمَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی اللّه
ص: 256
علیه وآله يَوْمَ بَدْرٍ»(1) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ بالبصرة حين ظَهَرَ على القَوْم، بعد حمد الله و الثناء عليه
«أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اَللَّهَ ذُو رَحْمَةٍ وٰاسِعَةٍ ، وَ مَغْفِرَةٍ دَائِمَةٍ، وَ عَفْوٍ جَمٍّ، وَ عِقَابٍ أَلِيمٍ؛ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ وَ مَغْفِرَتَهُ وَ عَفْوَهُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَ بِرَحْمَتِهِ اِهْتَدَى اَلْمُهْتَدُونَ؛ وَ قَضَى أَنَّ نَقِمَتَهُ وَ سَطَوَاتِهِ وَ عِقَابَهُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَ بَعْدَ اَلْهُدَى وَ اَلْبَيِّنَاتِ مَا ضَلَّ اَلضَّالُّونَ. فَمَا ظَنُّكُمْ - يَا أَهْلَ اَلْبَصْرَةِ - وَ قَدْ نَكَثْتُمْ بَيْعَتِي وَ ظَاهَرْتُمْ عَلَى عَدُوِّي؟».
فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: نَظُنُّ خَيْراً، وَ نَرَاكَ قَدْ ظَفِرْتَ، وَ قَدَرْتَ فَإِنْ عَاقَبْتَ فَقَدِ اِجْتَرَمْنَا ذَلِكَ، وَ إِنْ عَفَوْتَ فَالْعَفْوُ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ.
فَقَالَ: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَ اَلْفِتْنَةَ، فَإِنَّكُمْ أَوَّلُ اَلرَّعِيَّةِ نَكَثَ اَلْبَيْعَةَ وَ شَقَّ عَصَا هَذِهِ اَلْأُمَّةِ» قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَبَايَعُوهُ (2) .
ص: 257
فصل
ثُّمّ كتب عَلَیْهِ السَّلامُ بالفَتْحُ إِلَى أهلُ الكوفة
«بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ اَلْكُوفَةِ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اَللَّهَ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اَللَّهَ حَكَمٌ عَدْلٌ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ، وَ إِذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاٰ مَرَدَّ لَهُ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وٰالٍ. أُخْبِرُكُمْ عَنَّا وَ عَمَّنْ سِرْنَا إِلَيْهِ مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ، وَ مَنْ تَأَشَّبَ إِلَيْهِم ْ (1)مِنْ قُرَيْشٍ وَ غَيْرِهِمْ مَعَ طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرِ، وَ نَكْثِهِمْ (2)صَفْقَةَ أَيْمَانِهِمْ، فَنَهَضْتُ مِنَ اَلْمَدِينَةِ حِينَ اِنْتَهَى إِلَيَّ خَبَرُ مَنْ سَارَ إِلَيْهَا وَ جَمَاعَتِهَا، وَ مَا صَنَعُوا بِعَامِلِي عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، حَتَّى قَدِمْتُ ذَا قَارٍ، فَبَعَثْتُ اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ فَاسْتَنْفَرْتُكُمْ بِحَقِّ اَللَّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ حَقِّي فَأَقْبَلَ إِلَيَّ إِخْوَانُكُمْ سِرَاعاً حَتَّى قَدِمُوا عَلَيَّ ، فَسِرْتُ بِهِمْ حَتَّى نَزَلْتُ ظَهْرَ اَلْبَصْرَةِ، فَأَعْذَرْتُ بِالدُّعَاءِ، وَ قُمْتُ بِالْحُجَّةِ، وَ أَقَلْتُ اَلْعَثْرَةَ وَ اَلزَّلَّةَ مِنْ أَهْلِ اَلرِّدَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ وَ غَيْرِهِمْ، وَ اِسْتَتَبْتُهُمْ مِنْ نَكْثِهِمْ بَيْعَتِي وَ عَهْدَ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إِلاَّ قِتَالِي وَ قِتَالَ مَنْ مَعِي
ص: 258
وَ اَلتَّمَادِيَ فِي اَلْبَغْيِ (1)فَنَاهَضْتُهُمْ بِالْجِهَادِ، فَقَتَلَ اَللَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ نَاكِثاً، وَ وَلَّى مَنْ وَلَّى إِلَى مِصْرِهِمْ، وَ قُتِلَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ عَلَى نَكْثِهِمَا وَ شِقَاقِهِمَا، وَ كَانَتِ اَلْمَرْأَةُ عَلَيْهِمْ أَشْأَمَ مِنْ نَاقَةِ اَلْحِجْرِ (2)فَخُذِلُوا وَ أَدْبَرُوا وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا حَلَّ بِهِمْ سَأَلُونِي اَلْعَفْوَ، فَقَبِلْتُ مِنْهُمْ وَ غَمَدْتُ اَلسَّيْفَ عَنْهُمْ، وَ أَجْرَيْتُ اَلْحَقَّ وَ اَلسُّنَّةَ بَيْنَهُمْ، وَ اِسْتَعْمَلْتُ عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ اَلْعَبَّاسِ عَلَى اَلْبَصْرَةِ، وَ أَنَا سَائِرٌ إِلَى اَلْكُوفَةِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ، وَ قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ زَحْرَ بْنَ قَيْسٍ اَلْجُعْفِيَّ لِتَسْأَلُوهُ فَيُخْبِرَكُمْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ، وَ رَدِّهِمُ اَلْحَقَّ عَلَيْنَا، وَ رَدِّ اَللَّهِ لَهُمْ وَ هُمْ كَارِهُونَ، وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَةُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ» (3) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ حين قدم الكوفة من البصرة
بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ: «أَمَّا بَعْدُ: فَالْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي نَصَرَ وَلِيَّهُ وَ خَذَلَ عَدُوَّهُ، وَ أَعَزَّ اَلصَّادِقَ اَلْمُحِقَّ، وَ أَذَلَّ اَلْكَاذِبَ اَلْمُبْطِلَ. عَلَيْكُمْ - يَا أَهْلَ هَذَا اَلْمِصْرِ - بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ طَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ اَللَّهَ مِنْ أَهْلِ
ص: 259
بَيْتِ نَبِيِّكُمُ، اَلَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِطَاعَتِكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَحِلِينَ اَلْمُدَّعِينَ اَلْقَائِلِينَ: إِلَيْنَا إِلَيْنَا، يَتَفَضَّلُونَ بِفَضْلِنَا، وَ يُجَاحِدُونَّا أَمْرَنَا، وَ يُنَازِعُونَّا حَقَّنَا وَ يَدْفَعُونَّا عَنْهُ، وَ قَدْ ذَاقُوا وَبَالَ مَا اِجْتَرَحُوا، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. وَ قَدْ قَعَدَ عَنْ نُصْرَتِي مِنْكُمْ رِجَالٌ، وَ أَنَا عَلَيْهِمْ عَاتِبٌ (1)زَارٍ فَاهْجُرُوهُمْ وَ أَسْمِعُوهُمْ مَا يَكْرَهُونَ حَتَّى يُعْتِبُونَا وَ نَرَى مِنْهُمْ مَا نُحِبُّ» (2).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ لما عمل على المسير إِلَى الشام لقتال معاوية بن أبي سُفيان
بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ اَلصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله: «اِتَّقُوا اَللَّهَ - عِبَادَ اَللَّهِ - وَ أَطِيعُوهُ وَ أَطِيعُوا إِمَامَكُمْ، فَإِنَّ اَلرَّعِيَّةَ اَلصَّالِحَةَ تَنْجُو بِالْإِمَامِ اَلْعَادِلِ. أَلاَ وَ إِنَّ اَلرَّعِيَّةَ اَلْفَاجِرَةَ تُهْلَكُ بِالْإِمَامِ اَلْفَاجِرِ، وَ قَدْ أَصْبَحَ مُعَاوِيَةُ غَاصِباً لِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ حَقِّي، نَاكِثاً لِبَيْعَتِي، طَاعِناً فِي دِينِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ. وَ قَدْ عَلِمْتُمْ - أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ - مَا فَعَلَ اَلنَّاسُ بِالْأَمْسِ، وَ جِئْتُمُونِي رَاغِبِينَ إِلَيَّ فِي أَمْرِكُمْ حَتَّى اِسْتَخْرَجْتُمُونِي مِنْ مَنْزِلِي لِتُبَايِعُونِي، فَالْتَوَيْتُ عَلَيْكُمْ لِأَبْلُوَ مَا عِنْدَكُمْ، فَرَادَدْتُمُونِيَ اَلْقَوْلَ مِرَاراً وَ رَادَدْتُكُمُوهُ، وَ تَكَأْكَأْتُمْ عَلَيَّ تَكَأْكُؤَ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا حِرْصاً عَلَى بَيْعَتِي، حَتَّى خِفْتُ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ،فَلَمَّا
ص: 260
رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْكُمْ رَوَّيْتُ فِي أَمْرِي وَ أَمْرِكُمْ، وَ قُلْتُ: إِنْ أَنَا لَمْ أُجِبْهُمْ إِلَى اَلْقِيَامِ بِأَمْرِهِمْ، لَمْ يُصِيبُوا أَحَداً مِنْهُمْ يَقُومُ فِيهِمْ مَقَامِي، وَ يَعْدِلُ فِيهِمْ عَدْلِي. وَ قُلْتُ: وَ اَللَّهِ لَأَلِيَنَّهُمْ وَ هُمْ يَعْرِفُونَ حَقِّي وَ فَضْلِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَلُونِي وَ هُمْ لاَ يَعْرِفُونَ حَقِّي وَ فَضْلِي. فَبَسَطْتُ لَكُمْ يَدِي فَبَايَعْتُمُونِي - يَا مَعْشَرَ اَلْمُسْلِمِينَ - وَ فِيكُمُ اَلْمُهَاجِرُونَ وَ اَلْأَنْصَارُ وَ اَلتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ، فَأَخَذْتُ عَلَيْكُمْ عَهْدَ بَيْعَتِي وَ وَاجِبَ صَفْقَتِي عَهْدَ اَللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ، وَ أَشَدَّ مَا أُخِذَ عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِنْ عَهْدٍ وَ مِيثَاقٍ، لَتَفُنَّ لِي وَ لَتَسْمَعُنَّ لِأَمْرِي وَ لَتُطِيعُونِّي وَ تُنَاصِحُونِّي وَ تُقَاتِلُونَ مَعِي كُلَّ بَاغٍ عَلَيَّ ، أَوْ مَارِقٍ إِنْ مَرَقَ، فَأَنْعَمْتُمْ (1)لِي بِذَلِكَ جَمِيعاً. فَأَخَذْتُ عَلَيْكُمْ عَهْدَ اَللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ وَ ذِمَّةَ اَللَّهِ وَ ذِمَّةَ رَسُولِهِ، فَأَجَبْتُمُونِي إِلَى ذَلِكَ، وَ أَشْهَدْتُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ، وَ أَشْهَدْتُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقُمْتُ فِيكُمْ بِكِتَابِ اَللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّی الله علیه و آله.
فَالْعَجَبُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يُنَازِعُنِي اَلْخِلاَفَةَ، وَ يَجْحَدُنِي اَلْإِمَامَةَ، وَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مِنِّي، جُرْأَةً مِنْهُ عَلَى اَللَّهِ وَ عَلَى رَسُولِهِ، بِغَيْرِ حَقٍّ لَهُ فِيهَا وَ لاَ حُجَّةٍ، لَمْ يُبَايِعْهُ عَلَيْهَا اَلْمُهَاجِرُونَ، وَ لاَ سَلَّمَ لَهُ اَلْأَنْصَارُ وَ اَلْمُسْلِمُونَ.
يَا مَعْشَرَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ، وَ جَمَاعَةَ مَنْ سَمِعَ كَلاَمِي، أَ مَا أَوْجَبْتُمْ لِي عَلَى أَنْفُسِكُمُ اَلطَّاعَةَ، أَ مَا بَايَعْتُمُونِي عَلَى اَلرَّغْبَةِ، أَ مَا أَخَذْتُ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدَ بِالْقَبُولِ لِقَوْلِي، أَ مَا كَانَتْ بَيْعَتِي لَكُمْ يَوْمَئِذٍ أَوْكَدَ مِنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ وَ عُمَرَ؟ فَمَا بَالُ مَنْ خَالَفَنِي لَمْ يَنْقُضْ عَلَيْهِمَا حَتَّى مَضَيَا، وَ نَقَضَ عَلَيَّ وَ لَمْ يَفِ لِي!؟ أَ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ نُصْحِي وَ يَلْزَمُكُمْ أَمْرِي؟ أَ مَا
ص: 261
تَعْلَمُونَ أَنَّ بَيْعَتِي تَلْزَمُ اَلشَّاهِدَ مِنْكُمْ وَ اَلْغَائِبَ!؟.
فَمَا بَالُ مُعَاوِيَةَ وَ أَصْحَابِهِ طَاعِنِينَ فِي بَيْعَتِي؟ وَ لِمَ لَمْ يَفُوا بِهَا لِي وَ أَنَا فِي قَرَابَتِي وَ سَابِقَتِي وَ صِهْرِي أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِمَّنْ تَقَدَّمَنِي؟ أَ مَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله يَوْمَ اَلْغَدِيرِ فِي وَلاَيَتِي وَ مُوَالاَتِي!؟ فَاتَّقُوا اَللَّهَ - أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ - وَ تَحَاثُّوا عَلَى جِهَادِ مُعَاوِيَةَ اَلْقَاسِطِ اَلنَّاكِثِ وَ أَصْحَابِهِ اَلْقَاسِطِينَ.
اِسْمَعُوا مَا أَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اَللَّهِ اَلْمُنْزَلِ عَلَى نَبِيِّهِ اَلْمُرْسَلِ لِتَتَّعِظُوا، فَإِنَّهُ وَ اَللَّهِ عِظَةٌ لَكُمْ، فَانْتَفِعُوا بِمَوَاعِظِ اَللَّهِ، وَ اِزْدَجِرُوا عَنْ مَعَاصِي اَللَّهِ، فَقَدْ وَعَظَكُمُ اَللَّهُ بِغَيْرِكُمْ فَقَالَ: لِنَبِيِّهِ صلّی الله علیه و آله (أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ إِذْ قٰالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنٰا مَلِكاً نُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ قٰالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتٰالُ أَلاّٰ تُقٰاتِلُوا قٰالُوا وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نُقٰاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنٰا مِنْ دِيٰارِنٰا وَ أَبْنٰائِنٰا فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتٰالُ تَوَلَّوْا إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمٰالِ قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ) (1) أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ لَكُمْ فِي هَذِهِ اَلْآيَاتِ عِبْرَةً لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اَلْخِلاَفَةَ وَ اَلْإِمْرَةَ مِنْ بَعْدِ اَلْأَنْبِيَاءِ فِي أَعْقَابِهِمْ، وَ أَنَّهُ فَضَّلَ طَالُوتَ
ص: 262
وَ قَدَّمَهُ عَلَى اَلْجَمَاعَةِ بِاصْطِفَائِهِ إِيَّاهُ، وَ زِيَادَتِهِ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ، فَهَلْ تَجِدُونَ اَللَّهَ اِصْطَفَى بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ! وَ زَادَ مُعَاوِيَةَ عَلَيَّ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ _ عِبَادَ اَللَّهِ - وَ جٰاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَالَكُمْ سَخَطُهُ بِعِصْيَانِكُمْ لَهُ، قَالَ: اَللَّهُ سُبْحَانَهُ: ( لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ كٰانُوا لاٰ يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ (1) إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ) (2) (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ) (3)
اِتَّقُوا اَللَّهَ -عِبَادَ اَللَّهِ - وَ تَحَاثُّوا عَلَى اَلْجِهَادِ مَعَ إِمَامِكُمْ، فَلَوْ كَانَ لِي مِنْكُمْ عِصَابَةٌ بِعَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، إِذَا أَمَرْتُهُمْ أَطَاعُونِي، وَ إِذَا اِسْتَنْهَضْتُهُمْ نَهَضُوا مَعِي، لاَسْتَغْنَيْتُ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْكُمْ، وَ أَسْرَعْتُ اَلنُّهُوضَ إِلَى حَرْبِ مُعَاوِيَةَ وَ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ اَلْجِهَادُ اَلْمَفْرُوضُ» (4).
ص: 263
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ و قد بلغه عن معاوية و أهلُ الشام ما يؤذيه من الكلام، فَقَالَ:
«اَلْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدِيماً وَ حَدِيثاً مَا عَادَانِي اَلْفَاسِقُونَ فَعَادَاهُمُ اَللَّهُ، أَ لَمْ تَعْجَبُوا، إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْخَطْبُ اَلْجَلِيلُ، إِنَّ فُسَّاقاً غَيْرَ مَرْضِيِّينَ، وَ عَنِ اَلْإِسْلاَمِ وَ أَهْلِهِ مُنْحَرِفِينَ (1)،خَدَعُوا بَعْضَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ، وَ أَشْرَبُوا قُلُوبَهُمْ حُبَّ اَلْفِتْنَةِ ، وَ اِسْتَمَالُوا أَهْوَاءَهُمْ بِالْإِفْكِ وَ اَلْبُهْتَانِ (2)، قَدْ نَصَبُوا لَنَا اَلْحَرْبَ، وَ هَبُّوا (3)فِي إِطْفَاءِ نُورِ اَللَّهِ وَ اَللّٰهُ ،مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ. اَللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا اَلْحَقَّ فَاقْصُصْ (4)جَذْمَتَهُمْ (5)،وَ شَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ، وَ أَبْسِلْهُمْ (6)بِخَطَايَاهُمْ فَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَ لاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» (7).
ص: 264
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في تحضيضه على القتال يوم صفين
«عِبَادَ اَللَّهِ، اِتَّقُوا اَللَّهَ، وَ غُضُّوا اَلْأَبْصَارَ، وَ اِخْفِضُوا اَلْأَصْوَاتَ، وَ أَقِلُّوا اَلْكَلاَمَ، وَ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى اَلْمُنَازَلَةِ وَ اَلْمُجَاوَلَةِ وَ اَلْمُبَارَزَةِ وَ اَلْمُبَالَطَةِ (1)وَ اَلْمُبَالَدَةِ (2)وَ اَلْمُعَانَقَةِ وَ اَلْمُكَادَمَةِ (3)،وَ اُثْبُتُوا، وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَ لاٰ تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ. اَللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمُ اَلصَّبْرَ، وَ أَنْزِلْ عَلَيْهِمُ اَلنَّصْرَ، وَ أَعْظِمْ لَهُمُ اَلْأَجْرَ» (4).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ أيضاً في هذا المعنى
«مَعْشَرَ اَلْمُسْلِمِينَ إِنَّ اَللَّهَ قَدْ دَلَّكُمْ عَلىٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ، وَ تَشْفِي بِكُمْ عَلَى اَلْخَيْرِ اَلْعَظِيمِ، اَلْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ صلّی الله
ص: 265
علیه وآله وَ اَلْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَ جَعَلَ ثَوَابَهُ مَغْفِرَةَ اَلذَّنْبِ، وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ. ثُمَّ أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ، فَقَدِّمُوا اَلدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا اَلْحَاسِرَ، وَ عَضُّوا عَلَى اَلْأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ، وَ اِلْتَوُوا فِي أَطْرَافِ اَلرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ، وَ غُضُّوا اَلْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَضْبَطُ (1)لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَ أَمِيتُوا اَلْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَل ِ وَ أَوْلَى بِالْوَقَارِ. وَ رَايَتَكُمْ فَلاَ تُمِيلُوهَا وَ لاَ تُخَلُّوهَا وَ لاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ، فَإِنَّ اَلْمَانِعِينَ لِلذِّمَارِ اَلصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ اَلْحَقَائِقِ أَهْلُ اَلْحِفَاظِ اَلَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتَنِفُونَهَا.
رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً مِنْكُمْ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَ لَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ، فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِيهِ فَيَكْتَسِبَ بِذَلِكَ لاَئِمَةً وَ يَأْتِيَ بِهِ دَنَاءَةٌ فَلاَ تَعَرَّضُوا لِمَقْتِ اَللَّهِ، وَ لاَ تَفِرُّوا مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرٰارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاٰ تُمَتَّعُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً ) (2) وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ اَلْعَاجِلَةِ لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ اَلْآخِرَةِ، فَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ وَ اَلصِّدْقِ فِي اَلنِّيَّةِ، فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ اَلصَّبْرِ يُنْزِلُ اَلنَّصْرَ» (3).
ص: 266
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ و قد مر برايةُ لِأهلِ الشام لا يزول أصحّابها عن مواقفهم صبرا على قتال المؤمنين
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّ هَؤُلاَءِ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ اَلنَّسِيمُ، وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ اَلْهَامَ وَ يُطِيحُ اَلْعِظَامَ وَ تَسْقُطُ مِنْهُ اَلْمَعَاصِمُ وَ اَلْأَكُفُّ، وَ حَتَّى تَصَدَّعَ جِبَاهُهُمْ بِعُمُدِ اَلْحَدِيدِ، وَ تَنْتَثِرَ حَوَاجِبُهُمْ عَلَى اَلصُّدُورِ وَ اَلْأَذْقَانِ. أَيْنَ أَهْلُ اَلصَّبْرِ؟ أَيْنَ طُلاَّبُ اَلْأَجْرِ!؟» فَثَارَ إِلَيْهِمْ حِينَئِذٍ عِصَابَةٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فَكَشَفُوهُمْ (1) . فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في هذا المعنى
«إِنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا لِيُنِيبُوا إِلَى اَلْحَقِّ، وَ لاَ لِيُجِيبُوا إِلَى كَلِمَةِ اَلسَّوَاءِ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ (2)تَتْبَعُهَا اَلْعَسَاكِرُ، وَ حَتَّى يُرْجَمُوا (3)بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا اَلْجَلاَئِبُ (4)، وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ اَلْخَمِيسُ يَتْلُوهُ اَلْخَمِيسُ، وَ حَتَّى
ص: 267
تَدْعَقَ اَلْخُيُولُ (1)فِي نَوَاحِي أَرْضِهِمْ وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ، وَ حَتَّى تُشَنَّ اَلْغَارَاتُ فِي كُلِّ فَجٍّ وَ تَخْفِقُ عَلَيْهِمُ اَلرَّايَاتُ، وَ يَلْقَاهُمْ قَوْمٌ صُدُقٌ صُبُرٌ لاَ يَزِيدُهُمْ هَلاَكُ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَتْلاَهُمْ وَ مَوْتَاهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ إِلاَّ جِدّاً فِي طَاعَةِ اَللَّهِ، وَ حِرْصاً عَلَى لِقَاءِ اَللَّهِ.
وَ اَللَّهِ، لَقَدْ كُنَّا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه و آله يُقْتَلُ آبَاؤُنَا وَ أَبْنَاؤُنَا وَ إِخْوَانُنَا وَ أَعْمَامُنَا، لاَ يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلاّٰ إِيمٰاناً وَ تَسْلِيماً، وَ مُضِيّاً عَلَى مَضِّ اَلْأَلَمِ، وَ جُرْأَةً عَلَى جِهَادِ اَلْعَدُوِّ، وَ اِسْتِقْلاَلاً بِمُبَارَزَةِ اَلْأَقْرَانِ. وَ لَقَدْ كَانَ اَلرَّجُلُ مِنَّا وَ اَلْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ اَلْفَحْلَيْنِ، وَ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ اَلْمَنِيَّةِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَآنَا اَللَّهُ تَعَالَى صُبُراً صُدُقاً ، أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا اَلْكَبْتَ، وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا اَلنَّصْرَ، وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مِثْلَ مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ اَلدِّينُ وَ لاَ عَزَّ اَلْإِسْلاَمُ، وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً عَبِيطاً، فَاحْفَظُوا مَا أَقُولُ» (2).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ حين رجع أصحّابه عن القتال بصفين، لما اغترهم معاوية برفع المصاحف فانصرفوا عن الحرب
«لَقَدْ فَعَلْتُمْ فَعْلَةً ضَعْضَعَتْ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ قُوَاهُ، وَ أَسْقَطَتْ
ص: 268
مُنَّتُهُ (1)،وَ أَوْرَثَتْ وَهْناً وَ ذِلَّةً لَمَّا كُنْتُمُ اَلْأَعْلَيْنَ، وَ خَافَ عَدُوُّكُمُ اَلاِجْتِيَاحَ، وَ اِسْتَحَرَّ بِهِمُ اَلْقَتْلُ، وَ وَجَدُوا أَلَمَ اَلْجَرَاحِ رَفَعُوا اَلْمَصَاحِفَ وَ دَعَوْكُمْ إِلَى مَا فِيهَا لِيَفْثَئُوكُمْ (2)عَنْهُمْ، وَ يَقْطَعُوا اَلْحَرْبَ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ، وَ يَتَرَبَّصُوا بِكُمْ رَيْبَ اَلْمَنُونِ خَدِيعَةً وَ مَكِيدَةً. فَمَا أَنْتُمْ إِنْ جَامَعْتُمُوهُمْ عَلَى مَا أَحَبُّوا، وَ أَعْطَيْتُمُوهُمُ اَلَّذِي سَأَلُوا إِلاَّ مَغْرُورُونَ> وَ اَيْمُ اَللَّهِ، مَا أَظُنُّكُمْ بَعْدَهَا مُوَافِقِي رُشْدٍ، وَ لاَ مُصِيبِي حَزْمٍ» (3).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ بعد كتب الصحيفة بالموادعة و التحكيم، و قد اخْتلِف عليه أهلُ العراق في ذلكَ
وَ اَللَّهِ، مَا رَضِيتُ وَ لاَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَرْضَوْا، فَإِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَرْضَوْا فَقَدْ رَضِيتُ، وَ إِذَا رَضِيتُ فَلاَ يَصْلُحُ اَلرُّجُوعُ بَعْدَ اَلرِّضَا، وَ لاَ اَلتَّبْدِيلُ بَعْدَ اَلْإِقْرَارِ، إِلاَّ أَنْ يُعْصَى اَللَّهُ بِنَقْضِ اَلْعَهْدِ، وَ يُتَعَدَّى كِتَابُهُ بِحَلِّ اَلْعَقْدِ، فَقَاتِلُوا حِينَئِذٍ مَنْ تَرَكَ أَمْرَ اَللَّهِ. وَ أَمَّا اَلَّذِي ذَكَرْتُمْ عَنِ اَلْأَشْتَرِ مِنْ تَرْكِهِ أَمْرِي بِخَطِّ يَدِهِ فِي اَلْكِتَابِ وَ خِلاَفِهِ مَا أَنَا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ، وَ لاَ أَخَافُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَ لَيْتَ فِيكُمْ مِثْلَهُ اِثْنَيْنِ، بَلْ لَيْتَ فِيكُمْ مِثْلَهُ وَاحِداً يَرَى، فِي عَدُوِّكُمْ مَا يَرَى إِذاً لَخَفَّتْ عَلَيَّ مَئُونَتُكُمْ،
ص: 269
وَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِي بَعْضُ أَوَدِكُمْ، وَ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَمَّا أَتَيْتُمْ فَعَصَيْتُمُونِي، فَكُنْتُ - أَنَا وَ أَنْتُمْ - كَمَا قَالَ: أَخُو هَوَازِنَ
وَ هَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ وَ إِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدْ (1).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ للخوارج حين رجع إِلَى الكوفة، و هو بظاهرها قبل دخوله إياها، بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ «اَللَّهُمَّ هَذَا مَقَامُ مَنْ فُلِجَ فِيهِ كَانَ أَوْلَى بِالْفَلْجِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَ مَنْ نَطِفَ (2)فِيهِ أَوْ غَلَّ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً. نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ حِينَ رَفَعُوا اَلْمَصَاحِفَ فَقُلْتُمْ نُجِيبُهُمْ إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ، قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالْقَوْمِ مِنْكُمْt إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ وَ لاَ قُرْآنٍ، إِنِّي صَحِبْتُهُمْ وَ عَرَفْتُهُمْ أَطْفَالاً وَ رِجَالاً فَكَانُوا شَرَّ أَطْفَالٍ وَ شَرَّ رِجَالٍ، اِمْضُوا عَلَى حَقِّكُمْ وَ صِدْقِكُمْ. إِنَّمَا رَفَعَ اَلْقَوْمُ لَكُمْ هَذِهِ اَلْمَصَاحِفَ خَدِيعَةً وَ وَهْناً وَ مَكِيدَةً، فَرَدَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي، وَ قُلْتُمْ: لاَt بَلْ نَقْبَلُ مِنْهُمْ فَقُلْتُ لَكُمُ: اُذْكُرُوا قَوْلِي لَكُمْ وَ مَعْصِيَتَكُمْ إِيَّايَ، فَلَمَّا أَبَيْتُمْ إِلاَّ اَلْكِتَابَ، اِشْتَرَطْتُ عَلَى اَلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُحْيِيَا عَلَى مَا أَحْيَاهُ اَلْقُرْآنُ ، وَ أَنْ يُمِيتَا مَا أَمَاتَ اَلْقُرْآنُ فَإِنْ حَكَمَا بِحُكْمِ اَلْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَ
ص: 270
حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِمَا فِي اَلْكِتَابِ، وَ إِنْ أَبَيَا فَنَحْنُ مِنْ حُكْمِهِمَا بُرَآءُ».
فَقَالَ لَهُ: بَعْضُ اَلْخَوَارِجِ: فَخَبِّرْنَا أَ تَرَاهُ عَدْلاً تَحْكِيمَ اَلرِّجَالِ فِي اَلدِّمَاءِ؟
فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ اَلرِّجَالَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا اَلْقُرْآنَ، وَ هَذَا اَلْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ دَفَّتَيْنِ لاَ يَنْطِقُ وَ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اَلرِّجَالُ».
قَالُوا لَهُ: فَخَبِّرْنَا عَنِ اَلْأَجَلِ، لِمَ جَعَلْتَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ.
قَالَ: «لِيَتَعَلَّمَ اَلْجَاهِلُ، وَ يَتَثَبَّتَ اَلْعَالِمُ، وَ لَعَلَّ اَللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ اَلْهُدْنَةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ. اُدْخُلُوا مِصْرَكُمْ رَحِمَكُمُ اَللَّهُ» وَ دَخَلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ (1) .
فصل
وَ مِنْ كَلاَمِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ حِينَ نَقَضَ مُعَاوِيَةُ اَلْعَهْدَ
وَ بَعَثَ بِالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ لِلْغَارَةِ عَلَى أَهْلِ اَلْعِرَاقِ، فَلَقِيَ عَمْرَو بْنَ عُمَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَتَلَهُ اَلضَّحَّاكُ وَ قَتَلَ نَاساً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، اُخْرُجُوا إِلَى اَلْعَبْدِ اَلصَّالِحِ وَ إِلَى جَيْشٍ لَكُمْ قَدْ أُصِيبَ مِنْهُ طَرَفٌ. اُخْرُجُوا فَقَاتِلُوا عَدُوَّكُمْ، وَ اِمْنَعُوا حَرِيمَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ»
ص: 271
قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدّاً ضَعِيفاً، وَ رَأَى مِنْهُمْ عَجْزاً وَ فَشَلاً، فَقَالَ: «وَاَللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُلِّ ثَمَانِيَةٍ مِنْكُمْ رَجُلاً مِنْهُمْ، وَيْحَكُمْ، اُخْرُجُوا مَعِي ثُمَّ فِرُّوا عَنِّي إِنْ بَدَا لَكُمْ فَوَاَللَّهِ مَا أَكْرَهُ لِقَاءَ رَبِّي عَلَى نِيَّتِي (1)وَ بَصِيرَتِي، وَ فِي ذَلِكَ رَوْحٌ لِي عَظِيمٌ، وَ فَرَجٌ مِنْ مُنَاجَاتِكُمْ وَ مُقَاسَاتِكُمْ وَ مُدَارَاتِكُمْ مِثْلَ مَا تُدَارَى اَلْبِكَارُ اَلْعَمِدَةُ (2)أَوِ اَلثِّيَابُ اَلْمُتَهَتِّرَةُ (3)كُلَّمَا خِيطَتْ (4)مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ جَانِبٍ عَلَى صَاحِبِهَا» (5) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ أيضاً في استنفار القَوْم و استبطائهم عن الجهاد و قد بلغه مسير بسر بن أرطاة إِلَى اليمن
«أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، فَإِنَّ أَوَّلَ رَفَثِكُم ْ وَ بَدْءَ نَقْضِكُمْ ذَهَابُ أُولِي اَلنُّهَى وَ أَهْلِ اَلرَّأْيِ مِنْكُمُ، اَلَّذِينَ كَانُوا يَلْقَوْنَ فَيَصْدُقُونَ، وَ يَقُولُونَ فَيَعْدِلُونَ، وَ يُدْعَوْنَ فَيُجِيبُونَ، وَ إِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ دَعَوْتُكُمْ عَوْداً وَ بَدْءاً، وَ سِرّاً وَ جَهْراً، وَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ، وَ اَلْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ، مَا يَزِيدُكُمْ دُعٰائِي إِلاّٰ فِرٰاراً وَ إِدْبَاراً، مَا تَنْفَعُكُمُ اَلْعِظَةُ وَ اَلدُّعَاءُ إِلَى اَلْهُدَى وَ اَلْحِكْمَةِ، وَ إِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَ يُقِيمُ لِي أَوَدَكُمْ،
ص: 272
وَ لَكِنِّي وَاَللَّهِ لاَ أُصْلِحُكُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي، وَ لَكِنْ أَمْهِلُونِي قَلِيلاً فَكَأَنَّكُمْ وَاَللَّهِ بِامْرِئٍ قَدْ جَاءَكُمْ يَحْرِمُكُمْ وَ يُعَذِّبُكُمْ فَيُعَذِّبُهُ اَللَّهُ كَمَا يُعَذِّبُكُمْ، إِنَّ مِنْ ذُلِّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ هَلاَكِ اَلدِّينِ أَنَّ بُنَيَّ أَبِي سُفْيَانَ يَدْعُو اَلْأَرْذَالَ (1)اَلْأَشْرَارَ فَيُجَابُ، وَ أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمُ اَلْأَفْضَلُونَ اَلْأَخْيَارُ فَتُرَاوِغُونَ وَ تُدَافِعُونَ، مَا هَذَا بِفِعْلِ اَلْمُتَّقِينَ!» (2).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ أيضاً في استبطاء من قعد عن نصرته
«أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمُ، اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، كَلاَمُكُمْ يُوهِنُ (3)اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمْ عَدُوَّكُمْ اَلْمُرْتَابَ. تَقُولُونَ فِي اَلْمَجَالِسِ كَيْتَ وَ كَيْتَ فَإِذَا جَاءَ اَلْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِيدِي حَيَادِ (4)، مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَ لاَ اِسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلَ أَضَالِيلَ، سَأَلْتُمُونِي اَلتَّأْخِيرَ دِفَاعَ ذِي اَلدَّيْنِ اَلْمَطُولِ. لاَ يَمْنَعُ اَلضَّيْم َ اَلذَّلِيلُ، وَ لاَ يُدْرَكُ اَلْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ. أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ؟
ص: 273
أَمْ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ اَلْمَغْرُورُ وَاَللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ فَازَ بِالسَّهْمِ اَلْأَخْيَبِ. أَصْبَحْتُ وَاَللَّهِ لاَ أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَ لاَ أَطْمَعُ فِي نُصْرَتِكُمْ، فَرَّقَ اَللَّهُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ، وَ أَبْدَلَنِي بِكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْكُمْ. وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ رَجُلاً مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ، صَرْفَ اَلدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ» (1).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ أيضاً في هذا المعنى
بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ: «مَا أَظُنُّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ - يَعْنِي أَهْلَ اَلشَّامِ - إِلاَّ ظَاهِرِينَ عَلَيْكُمْ».
فَقَالُوا لَهُ: بِمَا ذَا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟
قَالَ: «أَرَى أُمُورَهُمْ قَدْ عَلَتْ، وَ نِيرَانَكُمْ قَدْ خَبَتْ، وَ أَرَاهُمْ جَادِّينَ، وَ أَرَاكُمْ وَانِينَ وَ أَرَاهُمْ مُجْتَمِعِينَ، وَ أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ ، وَ أَرَاهُمْ لِصَاحِبِهِمْ مُطِيعِينَ، وَ أَرَاكُمْ لِي عَاصِينَ. أَمَ وَاَللَّهِ لَئِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ لَتَجِدُنَّهُمْ أَرْبَابَ سَوْءٍ مِنْ بَعْدِي لَكُمْ، لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَ قَدْ شَارَكُوكُمْ فِي بِلاَدِكُمْ، وَ حَمَلُوا إِلَى بِلاَدِهِمْ فَيْئَكُمْ وَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ
ص: 274
كَشِيشَ (1)اَلضِّبَابِ (2)لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً وَ لاَ تَمْنَعُونَ لِلَّهِ حُرْمَةً، وَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَقْتُلُونَ صَالِحِيكُمْ، وَ يُخِيفُونَ قُرَّاءَكُمْ، وَ يَحْرِمُونَكُمْ وَ يَحْجُبُونَكُمْ، وَ يُدْنُونَ اَلنَّاسَ دُونَكُمْ، فَلَوْ قَدْ رَأَيْتُمُ اَلْحِرْمَانَ وَ اَلْأَثَرَةَ، وَ وَقْعَ اَلسَّيْفِ وَ نُزُولَ اَلْخَوْفِ، لَقَدْ نَدِمْتُمْ وَ خَسِرْتُمْ عَلَى تَفْرِيطِكُمْ فِي جِهَادِهِمْ، وَ تَذَاكَرْتُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلْخَفْضِ وَ اَلْعَافِيَةِ، حِينَ لاَ يَنْفَعُكُمُ اَلتَّذْكَارُ» (3) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ لما نقض معاوية بن أبي سُفيان شرط الموادعة، و أقبل يشن الغارات على أهلُ العراق
فَقَالَ: بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ: «مَا لِمُعَاوِيَةَ قَاتَلَهُ اَللَّهُ!؟ لَقَدْ أَرَادَنِي عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَرَادَ أَنْ أَفْعَلَ كَمَا يَفْعَلُ فَأَكُونَ قَدْ هَتَكْتُ ذِمَّتِي وَ نَقَضْتُ عَهْدِي، فَيَتَّخِذَهَا عَلَيَّ حُجَّةً، فَتَكُونَ عَلَيَّ شَيْناً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ كُلَّمَا ذُكِرْتُ. فَإِنْ قِيلَ لَهُ، أَنْتَ بَدَأْتَ، قَالَ: مَا عَلِمْتُ وَ لاَ أَمَرْتُ، فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: قَدْ صَدَقَ، وَ مِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: كَذَبَ. أَمَ وَاَللَّهِ، إِنَّ اَللَّهَ لَذُو أَنَاةٍ وَ حِلْمٍ عَظِيمٍ، لَقَدْ حَلُمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ فَرَاعِنَةِ اَلْأَوَّلِينَ
ص: 275
وَ عَاقَبَ فَرَاعِنَةً، فَإِنْ يُمْهِلُهُ اَللَّهُ فَلَنْ يَفُوتَهُ، وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ، فَلْيَصْنَعْ مَا بَدَا لَهُ فَإِنَّا غَيْرُ غَادِرِينَ بِذِمَّتِنَا، وَ لاَ نَاقِضِينَ لِعَهْدِنَا، وَ لاَ مُرَوِّعِينَ لِمُسْلِمٍ وَ لاَ مُعَاهَدٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ شَرْطُ اَلْمُوَادَعَةِ بَيْنَنَا، إِنْ شَاءَ اَللَّهُ» (1).
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في مقامُ آخر
«اَلْحَمْدُ لِلَّهِ، وَ سَلاَمٌ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله رَضِيَنِي لِنَفْسِهِ أَخاً، وَ اِخْتَصَّنِي (2)لَهُ وَزِيراً. أَيُّهَا اَلنَّاسُ، أَنَا أَنْفُ اَلْهُدَى وَ عَيْنَاهُ، فَلاَ تَسْتَوْحِشُوا مِنْ طَرِيقِ اَلْهُدَى لِقِلَّةِ مَنْ يَغْشَاهُ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَاتِلِي مُؤْمِنٌ فَقَدْ قَتَلَنِي، أَلاَ وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً يَوْماً مَا، وَ إِنَّ اَلثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا وَ اَلْحَاكِمَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَ حَقِّ ذَوِي اَلْقُرْبَى وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ اَلَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ مَا طَلَبَ وَلاَ يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ (وَسَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (3) فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَتَنْتَحِرُنَّ (4)عَلَيْهَا يَا بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَدَارِ عَدُوِّكُمْ عَمَّا قَلِيلٍ، وَلَيَعْلَمُنَّ (5)
ص: 276
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (1) .
فصل و من كلامه أيضاً في مَعْنى ما تقدّم
«يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، خُذُوا أُهْبَتَكُمْ لِجِهَادِ عَدُوِّكُمْ مُعَاوِيَةَ وَأَشْيَاعِهِ»
قَالُوا: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ،أَمْهِلْنَا يَذْهَبُ عَنَّا اَلْقُرُّ.
فَقَالَ: «أَمَ وَاَللَّهِ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّ لِطَاعَتِهِمْ مُعَاوِيَةَ وَمَعْصِيَتِكُمْ لِي. وَاَللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحَتِ اَلْأُمَمُ كُلُّهَا تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَنَا أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. لَقَدِ اِسْتَعْمَلْتُ مِنْكُمْ رِجَالاً فَخَانُوا وَغَدَرُوا، وَلَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ (2)مَا اِئْتَمَنْتُهُ عَلَيْهِ مِنْ فَيْءِ اَلْمُسْلِمِينَ فَحَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَآخَرُ حَمَلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، تَهَاوُناً بِالْقُرْآنِ، وَجُرْأَةً عَلَى اَلرَّحْمَنِ، حَتَّى لَوْ أَنَّنِي اِئْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى عِلاَقَةِ سَوْطٍ لَخَانَنِي (3)وَلَقَدْ أَعْيَيْتُمُونِي»
ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ فَقَالَ: «اَللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ اَلْحَيَاةَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ، وَتَبَرَّمْتُ اَلْأَمَلَ (4)فَأَتِحْ لِي صَاحِبِي حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْهُمْ وَيَسْتَرِيحُوا مِنِّي وَلَنْ يُفْلِحُوا بَعْدِي» (5) .
ص: 277
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في مقامُ آخر
«أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنِّي اِسْتَنْفَرْتُكُمْ لِجِهَادِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تُجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا،شُهُودٌ كَالْغُيَّبِ، أَتْلُو عَلَيْكُمُ اَلْحِكْمَةَ فَتُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ (1)اَلْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، كَأَنَّكُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ؛ وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ اَلْجَوْرِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ تَتَرَبَّعُونَ حَلَقاً تَضْرِبُونَ اَلْأَمْثَالَ، وَتُنَاشِدُونَ (2)اَلْأَشْعَارَ، وَتَجَسَّسُونَ اَلْأَخْبَارَ، حَتَّى إِذَا تَفَرَّقْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِ اَلْأَسْعَارِ جَهْلَةً (3)مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ ، وَغَفْلةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ، وَتَتَبُّعاً (4)فِي غَيْرِ خَوْفٍ، نَسِيتُمُ اَلْحَرْبَ وَاَلاِسْتِعْدَادَ لَهَا، فَأَصْبَحَتْ قُلُوبُكُمْ فَارِغَةً مِنْ ذِكْرِهَا، شَغَلْتُمُوهَا بِالْأَعَالِيلِ وَاَلْأَبَاطِيلِ. فَالْعَجَبُ كُلُّ اَلْعَجَبِ وَمَا لِي لاَ أَعْجَبُ مِنِ اِجْتِمَاعِ قَوْمٍ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَخَاذُلِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ!
يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، أَنْتُمْ كَأُمِّ مُجَالِدٍ، حَمَلَتْ فَأَمْلَصَتْ، فَمَاتَ قَيِّمُهَا، وَطَالَ تَأَيُّمُهَا، وَوَرِثَهَا أَبْعَدُهَا .
وَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ لَلْأَعْوَرَ
ص: 278
اَلْأَدْبَرَ (1)جَهَنَّمَ اَلدُّنْيَا لاَ يُبْقِي وَلاَ يَذَرُ، وَمَنْ بَعْدَهُ اَلنَّهَّاسُ اَلْفَرَّاس ُ (2)اَلْجَمُوعُ اَلْمَنُوعُ، ثُمَّ لَيَتَوَارَثَنَّكُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ عِدَّةٌ، مَا اَلْآخِرُ بِأَرْأَفَ بِكُمْ مِنَ اَلْأَوَّلِ، مَا خَلاَ رَجُلاً وَاحِداً (3)ب(َلاَءٌ قَضَاهُ اَللَّهُ ) (4)عَلَى هَذِهِ اَلْأُمَّةِ لاَ مَحَالَةَ كَائِنٌ، يَقْتُلُونَ خِيَارَكُمْ ، وَيَسْتَعْبِدُونَ أَرَاذِلَكُمْ، وَيَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَكُمْ وَذَخَائِرَكُمْ مِنْ جَوْفِ حِجَالِكُمْ (5)نَقِمَةً بِمَا ضَيَّعْتُمْ مِنْ أُمُورِكُمْ وَصَلاَحِ أَنْفُسِكُمْ وَدِينِكُمْ.
يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، لِتَكُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ، وَلِتُنْذِرُوا بِهِ مَنِ اِتَّعَظَ وَاِعْتَبَرَ.كَأَنِّي بِكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ عَلِيّاً يكْذِبُ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ لِنَبِيِّهَا - صلّی الله علیه و آله - وَسَيِّدِهَا نَبِيِّ اَلرَّحْمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ صلّی الله علیه و آله حَبِيبِ اَللَّهِ، فَيَا وَيْلَكُمْ، أَ فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ!؟ أَعَلَى اَللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ أَمْ عَلَى رَسُولِهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَنَصَرَهُ كَلاَّ وَلَكِنَّهَا لَهْجَةُ خُدْعَةٍ كُنْتُمْ عَنْهَا أَغْبِيَاءَ (6)وَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ (7)بَعْدَ حِينٍ وَذَلِكَ إِذَا صَيَّرَكُمْ إِلَيْهَا جَهْلُكُمْ، وَلاَ يَنْفَعُكُمْ عِنْدَهَا عِلْمُكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ يَا أَشْبَاهَ اَلرِّجَالِ، وَلاَ رِجَالَ حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ اَلْحِجَالِ، أَمَ وَاَللَّهِ أَيُّهَا اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ،
ص: 279
مَا أَعَزَّ اَللَّهُ نَصْرَ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اِسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، وَلاَ قَرَّتْ عَيْنُ مَنْ آوَاكُمْ، كَلاَمُكُمْ يُوهِي (1)اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمْ عَدُوَّكُمُ اَلْمُرْتَابَ. يَا وَيْحَكُمْ، أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ! وَمَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ! اَلْمَغْرُورُ - وَاَللَّهِ - مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، مَنْ فَازَ بِكُمْ فَازَ بِالسَّهْمِ اَلْأَخْيَبِ، أَصْبَحْتُ لاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، فَرَّقَ اَللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأَعْقَبَنِي بِكُمْ مَنْ هُوَخَيْرٌ لِي مِنْكُمْ، وَأَعْقَبَكُمْ مَنْ هُوَشَرٌّ لَكُمْ مِنِّي
إِمَامُكُمْ يُطِيعُ اَللَّهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَإِمَامُ أَهْلِ اَلشَّامِ يَعْصِي اَللَّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ اَلدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي وَاحِداً مِنْهُمْ. وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ وَلَمْ تَعْرِفُونِي، فَإِنَّهَا مَعْرِفَةٌ جَرَّتْ نَدَماً. لَقَدْ وَرَّيْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً ، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ أَمْرِي بِالْخِذْلاَنِ وَاَلْعِصْيَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ عَلِيّاً رَجُلٌ شُجَاعٌ لَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحُرُوبِ، لِلَّهِ دَرُّهُمْ (2)هَلْ كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ أَطْوَلُ لَهَا مِرَاساً مِنِّي! وَأَشَدُّ لَهَا مُقَاسَاةً! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ، ثُمَّ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ (3)عَلَى السِّتِّينَ، لَكِنْ لاَ أَمْرَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ. أَمَ وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ رَبِّي قَدْ أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ إِلَى رِضْوَانِهِ، وَإِنَّ اَلْمَنِيَّةَ لَتَرْصُدُنِي فَمَا يَمْنَعُ أَشْقَاهَا أَنْ يَخْضِبَهَا - وَتَرَكَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ - عَهْدٌ عَهِدَهُ (4)إِلَيَّ اَلنَّبِيُّ اَلْأُمِّيُّ
ص: 280
وَقَدْ خٰابَ مَنِ اِفْتَرىٰ وَنَجَا مَنِ اِتَّقىٰ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ.
يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ هَؤُلاَءِ لَيْلاً وَنَهَاراً وَسِرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمُ اُغْزُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ، وَثَقُلَ عَلَيْكُمْ قَوْلِي، وَاِسْتَصْعَبَ عَلَيْكُمْ أَمْرِي، وَاِتَّخَذْتُمُوهُ وَرٰاءَكُمْ ظِهْرِيًّا، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ، وَظَهَرَتْ فِيكُمُ اَلْفَوَاحِشُ وَاَلْمُنْكَرَاتُ تُمَسِّيكُمْ وَتُصَبِّحُكُمْ، كَمَا فُعِلَ بِأَهْلِ اَلْمَثُلاَتِ مِنْ قَبْلِكُمْ، حَيْثُ أَخْبَرَ اَللَّهُ عَنِ اَلْجَبَابِرَةِ وَاَلْعُتَاةِ اَلطُّغَاةِ، وَاَلْمُسْتَضْعِفِينَ (1)اَلْغُوَاةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يُذَبِّحُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (2) أَمَ وَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَقَدْ حَلَّ بِكُمُ اَلَّذِي تُوعَدُونَ.
عَاتَبْتُكُمْ - يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ - بِمَوَاعِظِ اَلْقُرْآنِ فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِكُمْ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِالدِّرَّةِ فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا ، وَعَاقَبْتُكُمْ بِالسَّوْطِ اَلَّذِي يُقَامُ بِهِ اَلْحُدُودُ فَلَمْ تَرْعَوُوا (3)وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اَلَّذِي يُصْلِحُكُمْ هُوَاَلسَّيْفُ، وَمَا كُنْتُ مُتَحَرِّياً صَلاَحَكُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي، وَلَكِنْ سَيُسَلَّطُ عَلَيْكُمْ بعْدِي سُلْطَانٌ صَعْبٌ، لاَ يُوَقِّرُ كَبِيرَكُمْ، وَلاَ يَرْحَمُ صَغِيرَكُمْ، وَلاَ يُكْرِمُ عَالِمَكُمْ، وَلاَ يَقْسِمُ اَلْفَيْءَ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَكُمْ، وَلَيَضْرِبَنَّكُمْ وَلَيُذِلَّنَّكُمْ وَيُجَمِّرَنَّكُمْ (4)فِي اَلْمَغَازِي وَيَقْطَعَنَّ سَبِيلَكُمْ، وَلَيَحْجُبَنَّكُمْ عَلَى بَابِهِ،
ص: 281
حَتَّى يَأْكُلَ قَوِيُّكُمْ ضَعِيفَكُمْ، ثُمَّ لاَ يُبَعِّدُ اَللَّهُ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ مِنْكُمْ، وَلَقَلَّ مَا أَدْبَرَ شَيْءٌ ثُمَّ أَقْبَلَ (1)، وَإِنِّي لَأَظُنُّكُمْ فِي فَتْرَةٍ، وَمَا عَلَيَّ إِلاَّ اَلنُّصْحُ لَكُمْ.
يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَثٍ وَاِثْنَتَيْنِ صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَبُكْمٌ ذَوُو أَلْسُنٍ، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لاَ إِخْوَانُ صِدْقٍ عِنْدَ اَللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلْبَلاَءِ.اَللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي. اَللَّهُمَّ لاَ تُرْضِ عَنْهُمْ أَمِيراً وَلاَ تُرْضِهِمْ عَنْ أَمِيرٍ، وَأَمِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ اَلْمِلْحُ فِي اَلْمَاءِ. أَمَ وَاَللَّهِ، لَوْ أَجِدُ بُدّاً مِنْ كَلاَمِكُمْ وَمُرَاسَلَتِكُمْ مَا فَعَلْتُ، وَلَقَدْ عَاتَبْتُكُمْ فِي رُشْدِكُمْ حَتَّى لَقَدْ سَئِمْتُ اَلْحَيَاةَ؛ كُلَّ ذَلِكَ تُرَاجِعُونَ بِالْهُزْءِ (2)مِنَ اَلْقَوْلِ فِرَاراً مِنَ اَلْحَقِّ، وَإِلْحَاداً (3)إِلَى اَلْبَاطِلِ اَلَّذِي لاَ يُعِزُّ اَللَّهُ بِأَهْلِهِ اَلدِّينَ، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ،كُلَّمَا أَمَرْتُكُمْ بِجِهَادِ عَدُوِّكُمْ اِثّٰاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ، وَسَأَلْتُمُونِي اَلتَّأْخِيرَ دِفَاعَ ذِي اَلدَّيْنِ اَلْمَطُولِ. إِنْ قُلْتُ لَكُمْ فِي اَلْقَيْظِ: سِيرُوا، قُلْتُمُ: اَلْحَرُّ شَدِيدٌ، وَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ فِي اَلْبَرْدِ : سِيرُوا قُلْتُمُ اَلْقُرُّ شَدِيدٌ كُلُّ ذَلِكَ فِرَاراً عَنِ اَلْجَنَّةِ. إِذَا كُنْتُمْ عَنِ اَلْحَرِّ وَاَلْبَرْدِ تَعْجِزُونَ، فَأَنْتُمْ عَنْ حَرَارَةِ اَلسَّيْفِ أَعْجَزُ وَأَعْجَزُ، فَ إِنّٰا لِلّٰهِ وَإِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ.
يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، قَدْ أَتَانِي اَلصَّرِيخُ يُخْبِرُنِي أَنَّ أَخَا غَامِدٍ (4)قَدْ نَزَلَ
ص: 282
اَلْأَنْبَارَ عَلَى أَهْلِهَا لَيْلاً فِي أَرْبَعَةِ آلاَفٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ كَمَا يُغَارُ عَلَى اَلرُّومِ وَاَلْخَزَرِ، فَقَتَلَ بِهَا عَامِلِي اِبْنَ حَسَّانَ وَقَتَلَ مَعَهُ رِجَالاً صَالِحِينَ ذَوِي فَضْلٍ وَعِبَادَةٍ وَنَجْدَةٍ، بَوَّأَ اَللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ، وَأَنَّهُ أَبَاحَهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلْعُصْبَةَ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَاَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهَدَةِ، فَيَهْتِكُونَ سِتْرَهَا، وَيَأْخُذُونَ اَلْقِنَاعَ مِنْ رَأْسِهَا، وَاَلْخُرْصَ (1)مِنْ أُذُنِهَا، وَاَلْأَوْضَاحَ (2)مِنْ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَعَضُدَيْهَا، وَاَلْخَلْخَالَ وَاَلْمِئْزَرَ مِنْ سُوقِهَا، فَمَا تَمْتَنِعُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَاَلنِّدَاءِ: يَا لَلْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يُغِيثُهَا مُغِيثٌ، وَلاَ يَنْصُرُهَا نَاصِرٌ. فَلَوْ أَنَّ مُؤْمِناً مَاتَ مِنْ دُونِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ عِنْدِي مَلُوماً (3)، بَلْ كَانَ عِنْدِي بَارّاً مُحْسِناً. وَا عَجَبَا كُلَّ اَلْعَجَبِ، مِنْ تَظَافُرِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَفَشَلِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! قَدْ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى وَلاَ تَرْمُونَ، وَتُغْزَوْنَ، وَلاَ تَغْزُونَ وَيُعْصَى اَللَّهُ وَتَرْضَوْنَ، تَرِبَتْ (4)أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ اَلْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا، كُلَّمَا اِجْتَمَعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ جَانِبٍ» (5) .
ص: 283
فصل و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في تظلمه من أعدائه و دافعُيه عن حقّه
مَا رَوَاهُ اَلْعَبَّاسُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ اَلْعَبْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ رِجَالِهِ، قَالُوا: سَمِعْنَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ مُنْذُ بَعَثَ اَللَّهُ مُحَمَّداً صلّی الله علیه و آله رَخَاءً فَاَلْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ خِفْتُ صَغِيراً وَجَاهَدْتُ كَبِيراً، أُقَاتِلُ اَلْمُشْرِكِينَ وَأُعَادِي اَلْمُنَافِقِينَ، حَتَّى قَبَضَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَیْهِ السَّلامُ فَكَانَتِ اَلطَّامَّةُ اَلْكُبْرَى، فَلَمْ أَزَلْ حَذِراً وَجِلاً أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مَا لاَ يَسَعُنِي مَعَهُ اَلْمُقَامُ، فَلَمْ أَرَ بِحَمْدِ اَللَّهِ إِلاَّ خَيْراً. وَاَللَّهِ مَا زِلْتُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي صَبِيّاً حَتَّى صِرْتُ شَيْخاً، وَإِنَّهُ لَيُصَبِّرُنِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي اَللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اَلرَّوْحُ عَاجِلاً قَرِيباً، فَقَدْ رَأَيْتُ أَسْبَابَهُ»
قَالُوا: فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى أُصِيبَ عَلَیْهِ السَّلامُ (1) .
وَرَوَى عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ بُكَيْرٍ اَلْغَنَوِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ شَهِدَ عَلِيّاً بِالرَّحْبَةِ يَخْطُبُ فَقَالَ: فِي مَا قَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّكُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ، أَمَا وَرَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ، لَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ
ص: 284
خَلِيلِي أَنَّ اَلْأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ مِنْ بَعْدِي» (1) .
وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ اَلْأَوْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيّاً يَقُولُ: «إِنَّ فِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ اَلنَّبِيُّ اَلْأُمِّيُّ أَنَّ اَلْأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ مِنْ بَعْدِي» (2) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ عند الشورى و في الدار
مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اَلْحَمِيدِ اَلْحِمَّانِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ قَالَ: لَمَّا جَعَلَهَا عُمَرُ شُورَى فِي سِتَّةٍ، وَقَالَ: إِنْ بَايَعَ اِثْنَانِ لِوَاحِدٍ، وَاِثْنَانِ لِوَاحِدٍ فَكُونُوا مَعَ اَلثَّلاَثَةِ اَلَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ، وَاُقْتُلُوا اَلثَّلاَثَةَ اَلَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ، خَرَجَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنَ اَلدَّارِ وَهُوَمُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ فَقَالَ لَهُ: «يَا اِبْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّ اَلْقَوْمَ قَدْ عَادَوْكُمْ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ كَمُعَادَاتِهِمْ لِنَبِيِّكُمْ صلّی الله علیه و آله فِي حَيَاتِهِ، أَمَ وَاَللَّهِ، لاَ يُنِيبُ بِهِمْ إِلَى اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلسَّيْفُ»
فَقَالَ لَهُ اِبْنُ عَبَّاسٍ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟.
ص: 285
قَالَ: «أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ عُمَرَ: إِنْ بَايَعَ اِثْنَانِ لِوَاحِدٍ وَاِثْنَانِ لِوَاحِدٍ، فَكُونُوا مَعَ اَلثَّلاَثَةِ اَلَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ، وَاُقْتُلُوا اَلثَّلاَثَةَ اَلَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ؟».
قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى.
قَالَ: «أَ فَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ عَبْدَ اَلرَّحْمَنِ اِبْنُ عَمِّ سَعْدٍ، وَأَنَّ عُثْمَانَ صِهْرُ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ؟».
قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ عُمَرَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ سَعْداً وَعَبْدَ اَلرَّحْمَنِ وَعُثْمَانَ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي اَلرَّأْيِ، وَأَنَّهُ مَنْ بُويِعَ مِنْهُمْ كَانَ اَلاِثْنَانِ مَعَهُ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَمْ يُبَالِ أَنْ يُقْتَلَ طَلْحَةُ إِذَا قَتَلَنِي وَقَتَلَ اَلزُّبَيْرَ. أَمَ وَاَللَّهِ، لَئِنْ عَاشَ عُمَرُ لَأُعَرِّفَنَّهُ سُوءَ رَأْيِهِ فِينَا قَدِيماً وَحَدِيثاً، وَلَئِنْ مَاتَ لَيَجْمَعَنِّي وَإِيَّاهُ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ فَصْلُ اَلْخِطَاب ِ» (1) . فصل
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حَنَشٍ اَلْكِنَانِيِّ قَالَ: لَمَّا صَفَقَ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ عَلَى يَدِ عُثْمَانَ بِالْبَيْعَةِ فِي يَوْمِ اَلدَّارِ، قَالَ لَهُ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: حَرَّكَكَ اَلصِّهْرُ وَبَعَثَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ، وَاَللَّهِ مَا أَمَّلْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَا أَمَّلَ
ص: 286
صَاحِبُكَ مِنْ صَاحِبِهِ، دَقَّ اَللَّهُ بَيْنَكُمَا عِطْرَ مَنْشِمَ (1) ، (2) . فصل
وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلنَّقْلِ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالرَّحْبَةِ، فَذَكَرْتُ اَلْخِلاَفَةَ وَتَقَدَّمَ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِيهَا فَتَنَفَّسَ اَلصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَ وَاَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ، وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ، لَكِنِّي سَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ دُونَهَا (3)كَشْحاً (4)، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ (5)أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ (6)عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ (7)، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ اَلصَّبْرَ عَلَى
ص: 287
هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي اَلْعَيْنِ قَذًى، وَفِي اَلْحَلْقِ شَجًا مِنْ أَنْ أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، إِلَى أَنْ حَضَرَهُ أَجَلُهُ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى عُمَرَ، فَيَا عَجَباً! بَيْنَا هُوَيَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِه ِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ. لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا.
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرٍ (1)
فَصَيَّرَهَا وَاَللَّهِ فِي نَاحِيَةٍ خَشْنَاءَ، يَجْفُو مَسُّهَا، وَيَغْلُظُ كَلْمُهَا (2)فَصَاحِبُهَا (3)كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ (4)لَهَا خَرِقَ (5)وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا عَسَفَ (6)،يَكْثُرُ فِيهَا اَلْعِثَارُ وَيَقِلُّ مِنْهَا اَلاِعْتِذَارُ، فَمُنِيَ اَلنَّاسُ - لَعَمْرُ اَللَّهِ - بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ (7) وَتَلَوُّنٍ وَاِعْتِرَاضٍ، إِلَى أَنْ حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ فَجَعَلَهَا شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ.
فَيَا لَلشُّورَى وَلِلَّهِ هُمْ، مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلَيْنِ (8)مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ اَلْآنَ (أُقْرَنُ بِهَذِهِ اَلنَّظَائِرِ) (9)لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، صَبْراً عَلَى طُولِ اَلْمِحْنَةِ وَاِنْقِضَاءِ اَلْمُدَّةِ ، فَمَالَ رَجُلٌ لِضِغْنِهِ، وَصَغَا (10)آخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ
ص: 288
اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ (1)بَيْنَ نَثِيلِهِ (2)وَمُعْتَلَفِه ِ (3)وَأَسْرَعَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خَضْمَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ، إِلَى أَنْ نَزَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، فَمَا رَاعَنِي مِنَ اَلنَّاسِ إِلاَّ وَهُمْ رَسَلٌ إِلَيَّ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ يَسْأَلُونَنِي أَنْ أُبَايِعَهُمْ وَاِنْثَالُوا عَلَيَّ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ (4)فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ ،كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اَللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَلاٰ فَسٰاداً وَاَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (5) بَلَى وَاَللَّهِ، لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلَكِنْ حُلِّيَتْ دُنْيَاهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا، أَمَا وَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلنَّاصِرِ (6)وَلُزُومُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اَلْأَمْرِ أَلاَّ يَقِرُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ أَوْ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلَأَلْفَوْا دُنْيَاهُمْ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»
قَالَ: وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلسَّوَادِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً، فَقَطَعَ كَلاَمَهُ.
قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا أَسَفْتُ عَلَى شَيْءٍ وَلاَ تَفَجَّعْتُ كَتَفَجُّعِي عَلَى مَا فَاتَنِي مِنْ كَلاَمِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
ص: 289
اَلْكِتَابِ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، لَوِ اِطَّرَدْتَ مَقَالَتَكَ مِنْ حَيْثُ اِنْتَهَيْتَ (1)إِلَيْهَا؟ قَالَ: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا اِبْنَ عَبَّاسٍ، كَانَتْ شِقْشِقَةً هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ» (2) .
وَرَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «خَطَبَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلنَّاسَ بِالْكُوفَةِ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ اَلشِّيبِ، وَفِيَّ سُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ، وَسَيَجْمَعُ اَللَّهُ لِي أَهْلِي كَمَا جَمَعَ لِيَعْقُوبَ، وَذَلِكَ إِذَا اِسْتَدَارَ اَلْفَلَكُ وَقُلْتُمْ ضَلَّ أَوْ هَلَكَ، أَلاَ فَاسْتَشْعِرُوا قَبْلَهَا اَلصَّبْرَ، وَتُوبُوا (3)إِلَى اَللَّهِ بِالذَّنْبِ، فَقَدْ نَبَذْتُمْ قُدْسَكُمْ، وَأَطْفَأْتُمْ مَصَابِيحَكُمْ ،وَقَلَّدْتُمْ هِدَايَتَكُمْ مَنْ لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلاَ لَكُمْ سَمْعاً وَلاَ بَصَراً، ضَعُفَ -وَاَللَّهِ- اَلطّٰالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ، هَذَا وَلَوْ لَمْ تَتَوَاكَلُوا أَمْرَكُمْ، وَلَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نُصْرَةِ اَلْحَقِّ بَيْنَكُمْ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ اَلْبَاطِلِ، لَمْ يَتَشَجَّعْ عَلَيْكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَمَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى هَضْمِ اَلطَّاعَةِ وَإِزْوَائِهَا عَنْ أَهْلِهَا فِيكُمْ.
تِهْتُمْ كَمَا تَاهَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ مُوسَى، وَبِحَقٍّ أَقُولُ لَيُضَعَّفَنَّ عَلَيْكُمُ اَلتِّيهُ مِنْ بَعْدِي، - بِاضْطِهَادِكُمْ وُلْدِي - ضِعْفَ مَا تَاهَتْ
ص: 290
بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَلَوْ قَدِ اِسْتَكْمَلْتُمْ نَهَلاً (1)وَاِمْتَلَأْتُمْ عَلَلاً (2)مِنْ سُلْطَانِ اَلشَّجَرَةِ اَلْمَلْعُونَةِ فِي اَلْقُرْآنِ، لَقَدِ اِجْتَمَعْتُمْ عَلَى نَاعِقِ ضَلاَلٍ وَلَأَجَبْتُمُ اَلْبَاطِلَ رَكْضاً، ثُمَّ لَغَادَرْتُمْ دَاعِيَ اَلْحَقِّ، وَقَطَعْتُمُ اَلْأَدْنَى مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَوَصَلْتُمُ اَلْأَبْعَدَ مِنْ أَبْنَاءِ حَرْبٍ. أَلاَ وَلَوْ ذَابَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، لَقَدْ دَنَا اَلتَّمْحِيصُ لِلْجَزَاءِ، وَكُشِفَ اَلْغِطَاءُ، وَاِنْقَضَتِ اَلْمُدَّةُ، وَأَزِفَ اَلْوَعِيدُ (3)وَبَدَا لَكُمُ اَلنَّجْمُ مِنْ قِبَلِ اَلْمَشْرِقِ، وَأَشْرَقَ لَكُمْ قَمَرُكُمْ كَمِلْءِ شَهْرِهِ وَكَلَيْلَةِ تِمِّهِ، فَإِذَا اِسْتَتَمَّ ذَلِكَ فَرَاجِعُوا اَلتَّوْبَةَ وَخَالِعُوا اَلْحَوْبَةَ (4)وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ أَطَعْتُمْ طَالِعَ اَلْمَشْرِقِ سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ اَلرَّسُولِ صلّی الله علیه و آله فَتَدَاوَيْتُمْ مِنَ اَلصَّمَمِ، وَاِسْتَشْفَيْتُمْ مِنَ اَلْبَكَمِ، وَكُفِيتُمْ مَئُونَةَ اَلتَّعَسُّفِ وَاَلطَّلَبِ، وَنَبَذْتُمُ اَلثِّقْلَ اَلْفَادِح َ عَنِ اَلْأَعْنَاقِ، فَلاَ يُبْعِدُ اَللَّهُ إِلاَّ مَنْ أَبَى اَلرَّحْمَةَ وَفَارَقَ اَلْعِصْمَةَ، وَسَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (5) .
وَرَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ - أَيْضاً- عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ اَلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: «خَطَبَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ وَاَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اَللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ تَمْهِيلٍ وَرَخَاءٍ، وَلَمْ يَجْبُرْ كَسْرَ عَظْمِ أَحَدٍ مِنَ اَلْأُمَمِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَزْلٍ (6)وَبَلاَءٍ.
ص: 291
أَيُّهَا اَلنَّاسُ، وَفِي دُونِ مَا اِسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ خَطْبٍ وَاِسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ عَصْرٍ مُعْتَبَرٌ وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِرِ عَيْنٍ بِبَصِيرٍ. أَلاَ فَأَحْسِنُوا اَلنَّظَرَ - عِبَادَ اَللَّهِ - فِيمَا يَعْنِيكُمْ، ثُمَّ اُنْظُرُوا إِلَى عَرَصَاتِ مَنْ قَدْ أَقَادَهُ (1)اَللَّهُ بِعِلْمِهِ، كَانُوا عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، أَهْلَ جَنّٰاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقٰامٍ كَرِيمٍ ، فَهَا هِيَ عَرْصَةُ (2)اَلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهٰا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، تُنْذِرُ مَنْ نَابَهَا (3)مِنَ اَلثُّبُورِ بَعْدَ اَلنَّضْرَةِ وَاَلسُّرُورِ وَمَقِيلٍ، مِنَ اَلْأَمْنِ وَاَلْحُبُورِ، وَلِمَنْ صَبَرَ مِنْكُمُ اَلْعَاقِبَةُ وَلِلّٰهِ عٰاقِبَةُ اَلْأُمُورِ.
فَوَاهاً لِأَهْلِ اَلْعُقُولِ كَيْفَ أَقَامُوا بِمَدْرَجَةِ اَلسُّيُولِ! وَاِسْتَضَافُوا غَيْرَ مَأْمُونٍ! وَيْساً (4)لِهَذِهِ اَلْأُمَّةِ اَلْجَائِرَةِ فِي قَصْدِهَا اَلرَّاغِبَةِ عَنْ رُشْدِهَا! لاَ يَقْتَفُونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ، وَلاَ يَرْعَوُونَ عَنْ عَيْبٍ. كَيْفَ وَمَفْزَعُهُمْ فِي اَلْمُبْهَمَاتِ إِلَى قُلُوبِهِمْ، فَكُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، آخِذٌ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ، لاَ يَأْلُونَ قَصْداً، وَلَنْ يَزْدَادُوا إِلاَّ بُعْداً، لِشَدِّ أُنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، حِيَاداً كُلُّ ذَلِكَ عَمَّا وَرَّثَ اَلرَّسُولُ صلّی الله علیه و آله، وَنُفُوراً مِمَّا أُدِّيَ إِلَيْهِ مِنْ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرَضِينَ اَلْعَلِيمِ اَلْخَبِيرِ، فَهُمْ أَهْلُ
ص: 292
غَشَوَاتٍ (1)كُهُوفُ شُبُهَاتٍ قَادَةُ حَيْرَةٍ وَرِيبَةٍ مَنْ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ فَاغْرَوْرَقَ فِي اَلْأَضَالِيلِ هَذَا وَقَدْ ضَمِنَ اَللَّهُ قَصْدَ اَلسَّبِيلِ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللّٰهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (2)
فَيَا مَا أَشْبَهَهَا أُمَّةً صَدَّتْ عَنْ وُلاَتِهَا وَرَغِبَتْ عَنْ رُعَاتِهَا، وَيَا أَسَفاً أَسَفاً (3)يَكْلِمُ اَلْقَلْبَ وَيُدْمِنُ اَلْكَرْبَ مِنْ فَعَلاَتِ شِيعَتِنَا بَعْدَ مَهْلَكِي عَلَى قُرْبِ مَوَدَّتِهَا وَتَأَشُّبِ (4)أُلْفَتِهَا، كَيْفَ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَتَحُورُ أُلْفَتُهَا بُغْضاً. فَلِلَّهِ اَلْأُسْرَةُ اَلْمُتَزَحْزِحَة ُ غَداً عَنِ اَلْأَصْلِ، اَلْمُخَيِّمَةُ بِالْفَرْعِ، اَلْمُؤَمِّلَةُ لِلْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ اَلْمُتَوَكِّفَةُ اَلرَّوْحَ مِنْ غَيْرِ مَطْلِعِهِ، كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ مُعْتَصِمٌ بِغُصْنٍ آخِذٌ بِهِ، أَيْنَمَا مَالَ اَلْغُصْنُ مَالَ مَعَهُ، مَعَ أَنَّ اَللَّهَ - وَلَهُ اَلْحَمْدُ - سَيَجْمَعُهُمْ كَقَزَعِ (5)اَلْخَرِيفِ، وَيُؤَلِّفُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ اَلسَّحَابِ، يَفْتَحُ اَللَّهُ لَهُمْ (6)أَبْوَاباً يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ إِلَيْهَا كَسَيْلِ اَلْعَرِمِ، حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ (7)وَلَمْ تَمْنَعْ مِنْهُ أَكَمَةٌ، وَلَمْ يَرُدَّ رُكْنُ طَوْدٍ سَنَنَه ُ (8)يَغْرِسُهُمُ اَللَّهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَةٍ، وَيَسْلُكُهُمْ يَنٰابِيعَ فِي
ص: 293
اَلْأَرْضِ، يَنْفِي بِهِمْ عَنْ حُرُمَاتِ قَوْمٍ، وَيُمَكِّنُ لَهُمْ فِي دِيَارِ قَوْمٍ، لِكَيْ يَعْتَقِبُوا مَا غُصِبُوا، يُضَعْضِعُ اَللَّهُ بِهِمْ رُكْناً، وَيَنْقُضُ بِهِمْ طَيَّ اَلْجَنْدَلِ مِنْ إِرَمَ، وَيَمْلَأُ مِنْهُمْ بُطْنَانَ اَلزَّيْتُونِ.
وَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ بَعْدِ اَلتَّمَكُّنِ (1)فِي اَلْبِلاَدِ وَاَلْعُلُوِّ عَلَى اَلْعِبَادِ كَمَا يَذُوبُ اَلْقَارُ وَاَلْآنُكُ (2)فِي اَلنَّارِ، وَلَعَلَّ اَللَّهَ يَجْمَعُ شِيعَتِي بَعْدَ اَلتَّشْتِيتِ لِشَرِّ (3)يَوْمٍ لِهَؤُلاَءِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى اَللَّهِ اَلْخِيَرَةُ بَلْ لِلّٰهِ اَلْخِيَرَةُ وَاَلْأَمْرُ جَمِيعاً» (4) .
وَقَدْ رَوَى نَقَلَةُ اَلْآثَارِ (5)أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَقَفَ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، اَلْعَجَبُ مِنْكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ، كَيْفَ عُدِلَ بِهَذَا اَلْأَمْرِ عَنْكُمْ، وَأَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ نَسَباً، نَوْطاً (6)بِالرَّسُولِ، وَفَهْماً لِلْكِتَابِ (7)!؟ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «يَا اِبْنَ دُودَانَ (8)،إِنَّكَ لَقَلِقُ اَلْوَضِينِ (9)، ضَيِّقُ اَلْمَحْزَمِ (10)تُرْسِلُ غَيْرَ ذِي
ص: 294
مَسَدٍ (1)لَكَ ذِمَامَةُ اَلصِّهْرِ وَحَقُّ اَلْمَسْأَلَةِ وَقَدِ اِسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ كَانَتْ أَثَرَةً سَخَتْ بِهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ فَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حُجُرَاتِه ِ (2)وَهَلُمَّ اَلْخَطْبَ فِي أَمْرِ اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي اَلدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ (3)وَلاَ غَرْوَيَئِسَ اَلْقَوْمُ وَاَللَّهِ مِنْ خَفْضِي وَهِينَتِي وَحَاوَلُوا اَلاِدِّهَانَ فِي ذَاتِ اَللَّهِ وَهَيْهَاتَ ذَلِكَ مِنِّي فَإِنْ تَنْحَسِرْ عَنَّا مِحَنُ اَلْبَلْوَى أَحْمِلْهُمْ مِنَ اَلْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَإِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ، وَ لاٰ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ (4) .
فصل
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في الحُكمِ ة و الموعظة
قَوْلُهُ : خُذُوا - رَحِمَكُمُ اَللَّهُ- مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ ، وَلاَ تَهْتِكُوا
ص: 295
أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، وَأَخْرِجُوا مِنَ اَلدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُخْرَجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَلِلْآخِرَةِ خُلِقْتُمْ وَفِي اَلدُّنْيَا حُبِسْتُمْ، إِنَّ اَلْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ وَقَالَ اَلنَّاسُ: مَا خَلَّفَ؟ فَلِلَّهِ آبَاؤُكُمْ (1)قَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ، وَلاَ تُخَلِّفُوا كُلاًّ فَيَكُونَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّمَا مَثَلُ اَلدُّنْيَا مَثَلُ اَلسَّمِّ، يَأْكُلُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ» (2).
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لاَ حَيَاةَ إِلاَّ بِالدِّينِ، وَلاَ مَوْتَ إِلاَّ بِجُحُودِ اَلْيَقِينِ، فَاشْرَبُوا اَلْعَذْبَ اَلْفُرَاتَ يُنَبِّهْكُمْ مِنْ نَوْمَةِ اَلسُّبَاتِ، وَإِيَّاكُمْ وَاَلسَّمَائِمَ اَلْمُهْلِكَاتِ».
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَلدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ عَرَفَهَا، وَمِضْمَارُ اَلْخَلاَصِ لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا ، هِيَ مَهْبِطُ وَحْيِ اَللَّهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ، اِتَّجَرُوا فَرَبِحُوا اَلْجَنَّةَ» .
وَمِنْ ذَلِكَ كَلاَمُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ لِرَجُلٍ سَمِعَهُ يَذُمُّ اَلدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي مَعْنَاهَا: «اَلدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا ، مَسْجِدُ أَنْبِيَاءِ اَللَّهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَتِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ، اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ. فَمِنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِفِرَاقِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا، فَشَوَّقَتْ بِسُرُورِهَا إِلَى اَلسُّرُورِ، وَبِبَلاَئِهَا إِلَى اَلْبَلاَءِ، تَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً وَتَرْغِيباً
ص: 296
وَتَرْهِيباً. فَأَيُّهَا اَلذَّامُّ لِلدُّنْيَا وَاَلْمُعْتَلُّ (1)بِتَغْرِيرِهَا، مَتَى غَرَّتْكَ؟ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ اَلْبِلَى! أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ اَلثَّرَى! كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَمَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ! تَبْتَغِي لَهُمُ اَلشِّفَاءَ ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ اَلْأَطِبَّاءَ، وَتَلْتَمِسُ لَهُمُ اَلدَّوَاءَ، لَمْ تَنْفَعْهُمْ بِطَلِبَتِكَ، وَلَمْ تُسْعِفْهُمْ (2)بِشَفَاعَتِكَ. مَثَّلَتِ اَلدُّنْيَا بِهِمْ مَصْرَعَكَ وَمَضْجَعَكَ، حَيْثُ لاَ يَنْفَعُكَ بُكَاؤُكَ، وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ أَحِبَّاؤُكَ» (3) .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ خُذُوا عَنِّي خَمْساً، فَوَاَللَّهِ لَوْ رَحَلْتُمُ اَلْمَطِيَّ فِيهَا لَأَنْضَيْتُمُوهَا قَبْلَ أَنْ تَجِدُوا مِثْلَهَا: لاَ يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَخَافَنَّ إِلاَّ ذَنْبَهُ (4)وَلاَ يَسْتَحْيِيَنَّ اَلْعَالِمُ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ: اَللَّهُ أَعْلَمُ، (وَلاَ يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ اَلشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ) (5)وَاَلصَّبْرُ مِنَ اَلْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ اَلرَّأْسِ، مِنَ اَلْجَسَدِ، وَلاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ صَبْرَ له» (6)لَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: ك«ُلُّ قَوْلٍ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ ذِكْرٌ فَلَغْوٌ،
ص: 297
وَكُلُّ صَمْتٍ لَيْسَ فِيهِ فِكْرٌ فَسَهْوٌ، وَكُلُّ نَظَرٍ لَيْسَ فِيهِ اِعْتِبَارٌ فَلَهْوٌ» (1).
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « «لَيْسَ مَنِ اِبْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا كَمَنْ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا» (2).
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَنْ سُبِقَ إِلَى اَلظِّلِّ ضَحِي َ ، وَمَنْ سُبِقَ إِلَى اَلْمَاءِ ظَمِئَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «حُسْنُ اَلْأَدَبِ يَنُوبُ عَنِ اَلْحَسَبِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَلزَّاهِدُ فِي اَلدُّنْيَا كُلَّمَا اِزْدَادَتْ لَهُ تَحَلِّياً (3)اِزْدَادَ عَنْهَا تَوَلِّياً».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَلْمَوَدَّةُ أَشْبَكُ اَلْأَنْسَابِ وَاَلْعِلْمُ أَشْرَفُ اَلْأَحْسَابِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « إِنْ يَكُنِ اَلشُّغُلُ مَجْهَدَةً فَاتِّصَالُ اَلْفَرَاغِ مَفْسَدَةٌ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ بَالَغَ فِي اَلْخُصُومَةِ أَثِمَ وَمَنْ قَصَّرَ فِيهَا خُصِمَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلْعَفْوُ يُفْسِدُ مِنَ اَللَّئِيمِ بِقَدْرِ إِصْلاَحِهِ مِنَ اَلْكَرِيمِ».
ص: 298
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ أَحَبَّ اَلْمَكَارِمَ اِجْتَنَبَ اَلْمَحَارِمَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ حَسُنَتْ بِهِ اَلظَّنُونُ رَمَقَتْهُ اَلرِّجَالُ بِالْعُيُونِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « غَايَةُ اَلْجُودِ أَنْ تُعْطِيَ مِنْ نَفْسِكَ اَلْمَجْهُودَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَا بَعُدَ كَائِنٌ وَلاَ قَرُبَ بَائِنٌ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « جَهْلُ اَلْمَرْءِ بِعُيُوبِهِ مِنْ أَكْبَرِ ذُنُوبِهِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « تَمَامُ اَلْعَفَافِ اَلرِّضَا بِالْكَفَافِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « أَتَمُّ (1)اَلْجُودِ اِبْتِنَاءُ اَلْمَكَارِمِ وَاِحْتِمَالُ اَلْمَغَارِمِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « أَظْهَرُ اَلْكَرَمِ صِدْقُ اَلْإِخَاءِ فِي اَلشِّدَّةِ وَاَلرَّخَاءِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلْفَاجِرُ إِنْ سَخِطَ ثَلَبَ وَإِنْ رَضِيَ كَذَبَ وَإِنْ طَمِعَ خَلَبَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مَا فِيهِ عَقْلُهُ كَانَ بِأَكْثَرِ مَا فِيهِ قَتْلُهُ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اِحْتَمِلْ زَلَّةَ وَلِيِّكَ لِوَقْتِ وَثْبَةِ عَدُوِّكَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « حُسْنُ اَلاِعْتِرَافِ يَهْدِمُ اَلاِقْتِرَافَ».
ص: 299
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « لَمْ يُضِعْ مِنْ مَالِكَ مَا بَصَّرَكَ صَلاَحَ حَالِكَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلْقَصْدُ أَسْهَلُ مِنَ اَلتَّعَسُّفِ وَاَلْكَفُّ أَوْدَعُ مِنَ اَلتَّكَلُّفِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « شَرُّ اَلزَّادِ إِلَى اَلْمَعَادِ اِحْتِقَابُ ظُلْمِ اَلْعِبَادِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « لاَ نَفَادَ لِفَائِدَةٍ إِذَا شُكِرَتْ وَلاَ بَقَاءَ لِنِعْمَةٍ إِذَا كُفِرَتْ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَيَوْمٌ عَلَيْكَ فَإِنْ كَانَ لَكَ فَلاَ تَبْطَرْ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « رُبَّ عَزِيزٍ أَذَلَّهُ خُلُقُهُ وَذَلِيلٌ أَعَزَّهُ خُلُقُهُ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ لَمْ يُجَرِّبِ اَلْأُمُورَ خُدِعَ وَمَنْ صَارَعَ اَلْحَقَّ صُرِعَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « لَوْ عُرِفَ اَلْأَجَلُ قَصُرَ اَلْأَمَلُ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلشُّكْرُ زِينَةُ اَلْغِنَى وَاَلصَّبْرُ زِينَةُ اَلْبَلْوَى».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « قِيمَةُ كُلِّ اِمْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلنَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « اَلْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ شَاوَرَ ذَوِي اَلْأَلْبَابِ دُلَّ عَلَى اَلصَّوَابِ».
ص: 300
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ قَنَعَ بِالْيَسِيرِ اِسْتَغْنَى عَنِ اَلْكَثِيرِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْكَثِيرِ اِفْتَقَرَ إِلَى اَلْحَقِيرِ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ صَحَّتْ عُرُوقُهُ أَثْمَرَتْ فُرُوعُهُ».
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَنْ أَمَّلَ إِنْسَاناً هَابَهُ وَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ عَابَهُ».
و من كلامه عَلَیْهِ السَّلامُ في وصفِّ الإنسان
قَوْلُهُ: «أَعْجَبُ مَا فِي اَلْإِنْسَانِ قَلْبُهُ، وَلَهُ مَوَادُّ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَأَضْدَادِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ اَلرَّجَاءُ أَذَلَّهُ اَلطَّمَعُ وَإِنْ هَاجَ بِهِ اَلطَّمَعُ، أَهْلَكَهُ اَلْحِرْصُ، وَإِنْ مَلَكَهُ اَلْيَأْسُ قَتَلَهُ اَلْأَسَفُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ اَلْغَضَبُ اِشْتَدَّ بِهِ اَلْغَيْظُ، وَإِنْ أُسْعِفَ بِالرِّضَا نَسِيَ اَلتَّحَفُّظَ، وَإِنْ نَالَهُ اَلْخَوْفُ شَغَلَهُ اَلْحَذَرُ، وَإِنِ اِتَّسَعَ لَهُ اَلْأَمْنُ اِسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ اَلْغِرَّةُ (1)وَإِنْ جُدِّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ اَلْجَزَعُ، وَإِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ اَلْغِنَى، وَإِنْ عَضَّتْهُ فَاقَةٌ شَغَلَهُ اَلْبَلاَءُ، وَإِنْ أَجْهَدَهُ اَلْجُوعُ قَعَدَ بِهِ اَلضَّعْفُ، وَإِنْ أَفْرَطَ فِي اَلشِّبَعِ كَظَّتْهُ اَلْبِطْنَةُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ، وَكُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ» (2).
ص: 301
وَمِنْ كَلاَمِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ وَقَدْ سَأَلَ شَاهْ زَنَانَ بِنْتَ كِسْرَى حِينَ أُسِرَتْ «مَا حَفِظْتِ عَنْ أَبِيكِ بَعْدَ وَقْعَةِ اَلْفِيلِ؟» قَالَتْ: حَفِظْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا غَلَبَ اَللَّهُ عَلَى أَمْرٍ ذَلَّتِ اَلْمَطَامِعُ دُونَهُ، وَإِذَا اِنْقَضَتِ اَلْمُدَّةُ كَانَ اَلْحَتْفُ فِي اَلْحِيلَةِ. فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: أَبُوكِ ! تَذِلُّ اَلْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ اَلْحَتْفُ فِي اَلتَّدْبِيرِ» (1)
وَمِنْ كَلاَمِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ فَأَصَابَهُ شَكٌّ فَلْيَمْضِ عَلَى يَقِينِهِ، فَإِنَّ اَلْيَقِينَ لاَ يُدْفَعُ بِالشَّكِّ» (2).
وَمِنْ كَلاَمِهِ عَلَیْهِ السَّلامُ:«اَلْمُؤْمِنُ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ، وَاَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ» (3).
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَنْ كَسِلَ لَمْ يُؤَدِّ حَقّاً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ» (4).
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «أَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ: اَلصَّبْرُ، وَاَلصَّمْتُ، وَاِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ» (5).
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اَلصَّبْرُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: فَصَبْرٌ عَلَى اَلْمُصِيبَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ اَلْمَعْصِيَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى اَلطَّاعَةِ» (6).
ص: 302
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اَلْحِلْمُ وَزِيرُ اَلْمُؤْمِنِ، وَاَلْعِلْمُ خَلِيلُهُ، وَاَلرِّفْقُ أَخُوهُ، وَاَلْبِرُّ وَالِدُهُ وَاَلصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ» (1).
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «ثَلاَثَةٌ مِنْ كُنُوزِ اَلْجَنَّةِ: كِتْمَانُ اَلصَّدَقَةِ، وَكِتْمَانُ اَلْمُصِيبَةِ، وَكِتْمَانُ اَلْمَرَضِ » (2).
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اِحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، وَاِسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَأَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ» (3).
وَكَانَ يَقُولُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لاَ غِنَى مَعَ فُجُورٍ، وَلاَ رَاحَةَ لِحَسُودٍ، وَلاَ مَوَدَّةَ لِمَلُولٍ».
وَقَالَ: لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ:« اَلسَّاكِتُ أَخُو اَلرَّاضِي، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا كَانَ عَلَيْنَا».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اَلْجُودُ مِنْ كَرَمِ اَلطَّبِيعَةِ، وَاَلْمَنُّ مَفْسَدَةٌ لِلصَّنِيعَةِ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «تَرْكُ اَلتَّعَاهُدِ لِلصَّدِيقِ دَاعِيَةُ اَلْقَطِيعَةِ».
وَكَانَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «إِرْجَافُ اَلْعَامَّةِ بِالشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى مُقَدِّمَاتِ كَوْنِهِ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اُطْلُبُوا اَلرِّزْقَ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لِطَالِبِهِ».
ص: 303
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «أَرْبَعَةٌ لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ: اَلْإِمَامُ اَلْعَادِلُ لِرَعِيَّتِهِ، وَاَلْوَالِدُ اَلْبَارُّ لِوَلَدِهِ، وَاَلْوَلَدُ اَلْبَارُّ لِوَالِدِهِ، وَاَلْمَظْلُومُ، يَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ اِسْمُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لَأَنْتَصِرَنَّ لَكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «خَيْرُ اَلْغِنَى تَرْكُ اَلسُّؤَالِ، وَشَرُّ اَلْفَقْرِ لُزُومُ اَلْخُضُوعِ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ، أَفْضَلُ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «اَلْمَعْرُوفُ عِصْمَةٌ مِنَ اَلْبَوَارِ، وَاَلرِّفْقُ نَعْشَةٌ مِنَ اَلْعِثَارِ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «لاَ عُدَّةَ أَنْفَعُ مِنَ اَلْعَقْلِ، وَلاَ عَدُوَّ أَضَرُّ مِنَ اَلْجَهْلِ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «لَوْ لاَ اَلتَّجَارِبُ عَمِيَتِ اَلْمَذَاهِبُ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «مَنِ اِتَّسَعَ أَمَلُهُ قَصُرَ عَمَلُهُ».
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ : «أَشْكَرُ اَلنَّاسِ أَقْنَعُهُمْ، وَأَكْفَرُهُمْ لِلنِّعَمِ أَجْشَعُهُمْ»
في أَمثالِ هذا الكلامِ المفيد للحِكمةِ و فصل الخَطّاب، لم نَستوفِ ما جَاَءَ في معناهُ عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ، لِئَلّا ينتشر الخَطّابُ، و يطول الكتابُ، و فيما أَثبتناهُ منه مُقْنَعٌ لذوي الأَلباب.
ص: 304
فصل في آيات الله تعالى و براهينه الظاهرة على أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ الدالة على مكانه من الله عزَّ و جلّّ و اختَصَّاصه من الكرامات بما انفردَ به ممّن سواه، لِلدعوةِ إِلَى طاعته، و التَمَسُّك بِوِلايَتِهِ، و الاستبصار بحقه، و اليقين بإمامته، و المعرفة بعصمته و كماله و ظُهُورُ حُجَتِهِ.
فمن ذلكَ ما ساوى به نبيَّين من أَنّبياء الله و رُسُلِهِ و حُجَّتينِ له على خلقِه ما لا شُبهةَ في صِحَّتِهِ و لا رَيبَ في صوابه، قالََ اللهُ عزَّ اِسْمُهَ في ذِكر المسيح عيسى ابن مريَم رُوح الله و كلمته و نبيِّه و رسوله إِلَى خليقته، و قد ذَكَرَ قصّةَ والدته في حَمْلِها له و وضعها إيّاه و الأُعجوبة في ذلكَ (قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قٰالَ كَذٰلِكِ قٰالَ رَبُّكِ هُوَعَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَرَحْمَةً مِنّٰا وَكٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (1) و كانَ من آياتِ اللهِ تعالى في المسيح عيسى ابن مريمَ عَلَیْهِ السَّلامُ نُطقُه في المهدِ، و خَرَقُ العادةَ بِذلكَ، و الأُعجوبةُ فيهوالمُعجِزُ الباهرُ لعقولِ الرِّجالِ ، وكانَ من اياتِ اللهِ تعالى في أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبِ عَلَیْهِ السَّلامُ كمالُ عقلهِ و وَقارتُه و معرفتُه بالله و برسوله صلّی الله علیه و آله معَ تَقارُب سِنِّه وكونه على ظاهرِ الحالِ في عِدادِ الأطفالِ حينَ دعاه رسولُ الله صلّی الله علیه و آله إِلَى التَصديقِ به و الإقرارِ و كلّفه العلمَ بحقَه، و المعرفةَ
ص: 305
بصانِعه، و التَّوحيدَ له ،و عَهدَ إليه في الاستسرار بما أَودعه من دينهِ، و الصيانة له و الحفظ و أَداءِ الأَمانةِ فيه.
وكانَ إِذْ ذاكَ عَلَیْهِ السَّلامُ على قولِ بعضِهم من أبناءِ سبعِ سنينَ ، وعلى قولِ بعضٍ آخرَمن أبناءِ تسعٍ ، وعلى قولِ الأكثرِمن أبناءِ عشرٍ ، فكانَ كمالُ عقلهِ علیهِ السّلامُ وحصولُ المعرفَةِ له باللهِ وبرسولهِ 9 آيةً للّهِ فيه باهرةً خَرَقَ بها العادةَ ، ودَلَّ بها على مكانهِ منه واختصاصِه به وتأهيلِه لما رشّحه له من إِمامةِ المسلمينَ والحجّةِ على الخلقِ أجمعينَ ، فجرى في خرقِ العادةِ لِما ذكرناه مجرى عيسى ويحيى علیهِما السّلامُ بما وصفناه ، ولولا أنّه علیهِ السّلامُ كانَ في تلكَ الحالِ كاملاً وافراً وباللّهِ عزّ وجلّ عارفاً ، لمَا كلّفه رسولُ اللهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ الإقرارَ بنبوّته ، ولا ألزمه الإيمانَ به والتّصديقَ لرسالتهِ ، ولا دعاه إِلى الاعترافِ بحقِّه ، ولا افتتحَ الدّعوةَ به قبلَ كل أحدٍ منَ النّاسِ سوى خديجةَ علیهِا السّلامُ زوجتهِ ، وَلماُ(1)ائتَمّنه على سِرِّه الذي أُمِرَ بصيانته، فلمّا أفرده النبيُّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ بذلكَ من أَبْناءِ سِنِّه كلِّهِم في عصرِه وخَصَّه به دونََ من سواه ممّن ذكرناه، دلَّ ذلكَ على أَنّه عَلَیْهِ السَّلامُ كانَ كاملاً مَعَ تقارب سنِّه ، و عارفاً بالله تعالى وبنبيِّه صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ قبل حُلْمِه، وهذا هومعنى قولِ اللهِ تعالى عزّ و جلّّ في يحيى عَلَیْهِ السَّلامُ (وَآتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا) (2) إذ لا حَكَمَ أَوضحُ من معرفة الله وأظَهَرُ من العَلِمَ بنبوّةِ رسول الله صلّی الله علیه وآله، وأشهرُ من القدرةِ على
ص: 306
الاستدلَّالی، وأَبينُ من معرفةِ النظرِ والاعتبارِ، والعَلِمَ بوجوهِ الاستنباطِ، والوصول بذلكَ إِلَى حقائق الغائباتِ؛ وإذا كانَ الأَمرُ على ما بيّنّاه، ثبتَ أَنّ الله سُبحانَه قد خَرَقَ العادةَ في أَميرالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بالآيةِ الباهرةِ الّتي ساوى بها نبيَّيْه اللذَيْن نطق القرآنُ بآياتهِ (1)العظمى فيهما على ما شَرَحناه
فصل
ومن آياتِ اللهِ عزَّ وجلّ الخارقة للعادة في أَميرالمؤمنينَ عَلَیْهِ السَّلامُ أَنّه لم يُعْهَدْ لِأَحدٍ من مبارزة الأَقرانِ ومُنازَلَةِ الأبطالِ، مثلُ ما عُرِفَ له عَلَیْهِ السَّلامُ من كثرةِ ذلكَ على مر الزّمانِ؛ ثُّمّ إنَّه لم يُوجَد في مُما رسي الحروب إلّا من عَرَتْهُ (2)بشرٍّ ونيل منه بجراح أوشين إلّا أَميرُالمؤمنين، فإنّه لم ينله مَعَ طولِ مدة زمان حربه (3)جراح من عدوٍّ ولا شينٌ، ولا وصلَ إليه أحدٌ منهم بسُوءٍ، حتّى كانَ من أمرُه مَعَ ابنِ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ اللهُ على اغتياله إيّاه ما كانَ، و هذهِ أعجوبة أفرده الله تعالى بالآيةِ فيها، وخَصَّه بالعَلَمِ الباهر في معناها، فدلَّ بذلكَ على مكانه منه، وتَخَصُّصِه بكرامته الّتي بَانَ بفضلِها من كافَّةِ الأَنّامِ.
ص: 307
فصل
ومن آيات الله تعالى فيه عَلَیْهِ السَّلامُ أَنّه لا يُذَكَّرُ مِمَّا رسُ للحروب الّتي لقيَ فيها عدواً إلّا وهوظافرٌ به حيناً، وغير ظافر به حينا ولا نال أحدٌ منهم خَصَّمه بجراح إلّا وقَضى منها وقتاً وعوفي منها زماناً، ولم يُعهَد من لم يُفلِت منه قِرنٌ في الحرب، ولا نجا من ضربته أحدٌ فَصَلَحَ منها إلّا أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ، فإنّه لا مرية في ظَفَرِه بكل قرن بارَزَه، وإهلاكهِ كلُّ بطلٍ نازَلَه، وهذا أيضاً مِمَّا انفردَ به عَلَیْهِ السَّلامُ من كافَّة الأَنّام، وخَرَقَ اللهُ عزّوجلّّ به العادةَ في كلُّ حين وزمانٍ، وهو من دلائلهِ الواضحةِ عَلَیْهِ السَّلامُ.
فصل
ومن آياتِ اللهِ تعالى فيه أيضاً، أَنّه مَعَ طولِ ملاقاتِه للحروب ومُلابَستِه إياها، وكثرةِ من مني به فيها من شُجعانَ الأَعداءِ وصناديدهم، و تَجَمُّعِهم عليه واحتيالهم في الفَتْكِ به وبذل الجهد في ذلكَ، ما ولّى قَطُّ عن أحدٌ منهم ظَهَرَه، ولا انهزمَ عن أحدٍ منهم، ولا تَزَحْزَحَ عن مكانه، ولا هاب أحدا ًمن أقرانِه، ولم يلقَ أحدٌ سواه خَصماً له في حرب إلّا وثَبَتَ له حينا وانحرف عَنْهُ حينا، و أقدمَ عليه وقتاً وأحجمَ عَنْهُ زماناً.
وإذا كانَ الأَمرُ على ما وصفناه، ثبتَ ما ذكرناه من انفرادِه بالآيةِ
ص: 308
الباهرةِ والمعجزةِ الزاهرةِ وخَرْقِ العادةِ فيه بما دلَّ الله به على إمامته، و كَشَفَ به عن فَرْضِ طاعته، وأبانَه بذلكَ من كافَّة خليقته.
فصل
ومن آياتِه عَلَیْهِ السَّلامُ وبيِّناتِه الّتي انفردَ بها ممّن عداه، ظُهُورُ مَناقبِه في الخاصَّةِ والعامُةِ، وتَسخيرُ الجمهور لنقل فضائله وما خَصَّه اللهُ به من كرائمه، وتسليم العَدُوٍّمن ذلكَ بما (1)فيه الحُجَّةُ عليه، هذا مَعَ كثرةِ المنحرفينَ عَنْهُ والأعداء له، و تَوَفُّرِ أَسبابٌ دواعيهم إِلَى كتَمّانِ فضله وجَحْدِ حقّه، وكون الدُّنيا في يد خَصَّومه وانحرافها عن أوّلَيائه، وما اتّفقَ لِأَضدادِه من سلطان الدُّنيا، وحمل الجمهور على إطفاء نوره ودحض أمرُه، فخرق الله العادةَ بنشر فضائله، وظُهُورُ مناقبه، وتسخيرُ الكلِّ للاعتراف بذلكَ والإقرار بصحَّتهِ، واندِحاضِ ما احتال به أعداؤه في كتَمّان مناقبه وجَحْدِ حقوقه، حتّى تَمّتِ الحُجَّةُ له وظَهَرَ البرهانُ لَحِقَه.
ولما كانت العادةُ جاريةً بخلافِ ما ذكرناه فيمن اتّفقَ له من أَسبابٌ خُمولِ أمرُه ما اتّفقَ لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ فانخرقت العادةُ فيه، دلَّ ذلكَ على بَينونتِه من الكافَّة بباهرِ الآيةِ على ما وصفناه.
وَقَدْ شَاعَ اَلْخَبَرُ وَاِسْتَفَاضَ عَنِ اَلشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ خُطَبَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ يَسُبُّونَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى
ص: 309
مَنَابِرِهِمْ وَكَأَنَّمَا (1)يُشَالُ بِضَبْعِهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ، وَكُنْتُ أَسْمَعُهُمْ يَمْدَحُونَ أَسْلاَفَهُمْ عَلَى مَنَابِرِهِمْ وَكَأَنَّهُمْ (2)يَكْشِفُونَ عَنْ جِيفَةٍ (3).
وَقَالَ اَلْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اَلْمَلِكِ لِبَنِيهِ يَوْماً: يَا بَنِيَّ عَلَيْكُمْ بِالدِّينِ فَإِنِّي لَمْ أَرَ اَلدِّينَ بَنَى شَيْئاً فَهَدَمَتْهُ اَلدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ اَلدُّنْيَا قَدْ بَنَتْ بُنْيَاناً هَدَمَهُ (4)اَلدِّينُ. مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا وَأَهْلَنَا يَسُبُّونَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَيَدْفِنُونَ فَضَائِلَهُ، وَيَحْمِلُونَ اَلنَّاسَ عَلَى شَنَآنِهِ، فَلاَ يَزِيدُهُ ذَلِكَ مِنَ اَلْقُلُوبِ إِلاَّ قُرْباً وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَقْرِيبِهِمْ (5)مِنْ نُفُوسِ اَلْخَلْقِ فَلاَ يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ بُعْداً (6).
وفيما انتهى إليه الأَمرُ في دفن فضائل أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ والحيلولةِ بين العلمَاءِ ونشرها ، ما لا شُبهةَ فيه على عاقل، حتّى كانَ الرجلُّ إذا أرادَ أَنّ يَرويَ عن أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ روايةً لم يَستطعْ أَنّ يُضيفَها إليه بذكر اِسْمُهَ ونَسَبِه، و تَدعوه الضّرورةُ إِلَى أَنّ يقولُ: حدَّثَني رجلُّ من أصحّابَ رسول الله صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ أويقول حدَّثَني رجلُّ من قريش، ومنهم من يقولُ، حدَّثَني أَبوزينبَ .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ عَائِشَةَ - فِي حَدِيثِهَا لَهُ بِمَرَضِ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وَوَفَاتِهِ - فَقَالَتْ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ مُتَوَكِّئاً عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَحَدُهُمَا اَلْفَضْلُ بْنُ
ص: 310
اَلْعَبَّاسِ. فَلَمَّا حَكَى عَنْهَا ذَلِكَ لِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ قَالَ لَهُ: أَ تَعْرِفُ اَلرَّجُلَ اَلْآخَرَ؟ قَالَ: لاَ، لَمْ تُسَمِّهِ لِي، قَالَ: ذَاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وما كانت أُمِنَا تذكره بخيرُ وهي تستطيع (1) .
وكانت الوُلاةُ الجَوَرةُ تضربُ بالسَّياطِ من ذكره بخيرٍ، بل تَضربُ الرَّقابَ على ذلكَ، وتعترض عن النّاس بالبراءةِ منه؛ والعادةُ جاريةُ فيمنِ اتّفقَ له ذلكَ ألا يُذَكَرَ على وجه بخيرُ، فضلاً عن أَنّ تَذْكَرَ له فضائل أوتروى له مناقب أوتثبت له حُجَّةَ بحقِّ. وإذا كانَ ظُهُورُ فضائله عَلَیْهِ السَّلامُ و انتشارُ مناقبه على ما قدمنا ذكره من شياع ذلكَ في الخاصَّة والعامُة وتسخيرُ العَدُوِّوالولي لنَقلِه، ثبتَ خَرَقَ العادةَ فيه وبانَ وجهُ البرهانِ في معناه، بالآيةِ الباهرةِ على ما قدَّمناه.
فصل
ومن آياتِ اللهِ تعالى فيه عَلَیْهِ السَّلامُ أَنّه لم يُمْنَ أحدٌ في ولدِه و ذُرِّيَّتِهِ، بما مني عَلَیْهِ السَّلامُ في ذُرِّيَّتِهِ وذلك أَنّه لم يُعرَف خوف شمل جماعةُ من ولد نبيُّ ولا إمام ولا مَلَك زمان ولا بَرٍ ولا فاجرٍ، كالخوفُ الذي شَمِلَ ذُرِّيَّتِهِ أَميرِالمؤمنينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، ولا لَحِقَ أحداً منَ القَتَلِ والطّردِ عن الديارِ والأَوطانِ والإِخافةِ والإرهابِ ما لَحِقَ ذُرِّيَّتِهِ أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ وولدَه، ولم يَجْرِ على طائفةٍ منَ النّاسِ من ضُروبِ
ص: 311
النّكال ما جرى عليهم من ذلكَ، فقَتَلوا بالفَتْك والغِيْلةِ والاحتيالِ، و بُنيَ على كثير منهم - وهم أحياءٌ - البُنيانُ، وعُذُّبوا بالجوع والعطش حتّى ذهبتْ أَنّفسُهم على الهلاك، وأحوجهم ذلكَ إِلَى التَمّزق في البلاد، ومفارقة الديار والِأهلِ والأَوطان، وكتَمّان نَسَبهم عن أَكثر النّاس. وبلغ بِهِم الخوفُ إِلَى الاستخفاء من أحبّائهم فضلاً عن الأَعداءِ، وبلغ هربُهم من أوطانِهم إِلَى أقصى الشّرقِ والغربِ والمواضعِ النائيةِ عن العُمْرانِ، و زَهِدَ في معرفتهم أَكثرُ النّاسِ، ورغبوا عن تقريبِهم والاختلاط بِهِم، مخافةً على أَنّفسِهم وذراريهم من جبابرة الزّمانِ.
و هذهِ كلُّها أَسبابٌ تقتضي انقَطُّاعَ نظامِهم، واجتثاثَ أُصولِهم، و قلّةَ عددِهم. وهم مَعَ ما وصفناه أَكثرُ ذُرِّيَّتِهِ أحدٍ منَ الأَنّبياءِ والصّالحينَ والأوّلَياء، بل أَكثرُ من ذراريَّ كلِّ أحدٍ من النّاسِ، قد طبَّقوا بكثرتهم البلادَ، وغَلَبوا في الكثرةِ على ذراريِّ أَكثر العِبادِ ، هذا مَعَ اختَصَّاص مَناكحِهم في أَنّفسِهم دونََ البُعَداءِ، وحصرها في ذوي أَنّسابهم دِنْيةً منَ الأَقرباءِ، وفي ذلكَ خَرقُ العادةِ على ما بَيِّناه، وهودليلُ الآية الباهرةِ في أَميرُالمؤمنينَ عليّ بن أبي طالب عَلَیْهِ السَّلامُ كما وصفناه و بَيِّنَّاه ، وهذا ما لا شُبهةَ فيه، والحمدُللهِ.
فصل ومن آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّّ الباهرةِ فيه عَلَیْهِ السَّلامُ والخواصَّ الّتي أفردَه بها ودلَّ بالمعجزِ منها على إمامته ووجوبِ طاعتِه وثبوت حُجَتِهِ، ما
ص: 312
هومن جملةِ الخرائج (1)الّتي أبانَ بها الأَنّبياء و الرُّسُلَ عَلَیْهِ السَّلامُ وجَعَلَها أعلاما لهم على صدقِهم.
فمن ذلكَ ما استفاضَ عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ من إِخبارِه بالغائباتِ والكائنِ قبلَ كونِه، فلا يَخْرِمُ من ذلكَ شيئاً ويُوافِقُ المُخْبَرُ منه خَبَرَه حتّى يُتَحَقَّقُ الصَّدَقُ فيه، وهذا من أبهر مُعْجِزاتِ الأَنّبياء علیهم السلام .
أ لا تَرى إِلَى قوله تعالى فيما أَبانَ به المسيح عيسى ابن مريمَ عَلَیْهِ السَّلامُ من المعجز الباهر والآية العجيبة الدالة على نبوَّتِه (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَمٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (2) وجَعَلَ عزَّ اِسْمُه مثلُ ذلكَ من عجيب آياتِ رسولِ الله صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ فقالَ عندَ غَلَبةِ فارس الرُّومَ: (الم* غُلِبَتِ اَلرُّومُ* فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) (3) فكانَ الأَمرُ في ذلكَ.
وقالَ عزَّ وجلَّّ في أهلُ بدر قبل الوقعة: (سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ) (4) فكانَ كما قالَ من غير اختلاف في ذلكَ.
وقالَ عزَّ قائلاً : (لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
ص: 313
رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاٰ تَخٰافُونَ) (1) فكانَ الأَمرُ في ذلكَ كما قالَ.
وقالَ جلّ وعز: (إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اَللّٰهِ وَاَلْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ اَلنّٰاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللّٰهِ أَفْوٰاجاً ) (2) فكانَ الأَمرُ في ذلكَ كما قالَ.
وقالَ مُخبراً عن ضمائرِ قومٍ من أهلُ النِّفاقِ: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لاٰ يُعَذِّبُنَا اَللّٰهُ بِمٰا نَقُولُ) (3) فَخَبَّرَ عن ضمائرهم وما أَخفَوْه في سرائرهم.
وقالَ عزَّ وجلَّّ في قصّة اليهودِ: (قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هٰادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيٰاءُ لِلّٰهِ مِنْ دُونِ اَلنّٰاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ* وَلاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ) (4) فكانَ الأَمرُ كما قالََ، ولم يجسر أحدٌ منهم أَنّ يتَمّناه، فحقق ذلكَ خَبَرُه وأبان عن صَدَقَه، ودلَّ به على نبوَّتِه عَلَیْهِ السَّلامُ؛ في أَمثالِ ذلكَ مِمَّا يطول به (5)الكتاب.
فصل
والذي كانَ من أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ من هذا الجِنسِ، ما لا يُستطاعُ إنكارُه إلّا مَعَ الغَباوةِ والجهل والبَهتِ والعِنادِ؛ أ لا تَرى إِلَى ما تظاهرتْ به الأَخبار، وانتشرتْ به الآثارُ، ونقلْته الكافَّةُ عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ من قَوْلِهِ قَبْلَ
ص: 314
قِتَالِهِ اَلْفِرَقَ اَلثَّلاَثَ بَعْدَ بَيْعَتِهِ: «أُمِرْتُ بِقِتَالِ اَلنَّاكِثِينَ وَاَلْقَاسِطِينَ وَاَلْمَارِقِينَ» (1). فقاتلهم عَلَیْهِ السَّلامُ وكان الأَمرُ فيما خبر به على ما قالَ.
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ لِطَلْحَةَ وَاَلزُّبَيْرِ حِينَ اِسْتَأْذَنَاهُ فِي اَلْخُرُوجِ إِلَى اَلْعُمْرَةِ «لاَ وَاَللَّهِ مَا تُرِيدَانِ اَلْعُمْرَةَ وَإِنَّمَا تُرِيدَانِ اَلْبَصْرَةَ» (2) . فكانَ الأَمرُ كما قالَ.
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَيُخْبِرُهُ عَنِ اِسْتِئْذَانِهِمَا لَهُ فِي اَلْعُمْرَةِ: «إِنَّنِي أَذِنْتُ لَهُمَا مَعَ عِلْمِي بِمَا قَدِ اِنْطَوَيَا عَلَيْهِ مِنَ اَلْغَدْرِ، وَاِسْتَظْهَرْتُ بِاللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى سَيَرُدُّ كَيْدَهُمَا وَيُظْفِرُنِي بِهِمَا» (3). فكانَ الأَمرُ كما قالَ.
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ بِذِي قَارٍ وَهُوَجَالِسٌ لِأَخْذِ اَلْبَيْعَةِ: «يَأْتِيكُمْ مِنْ قِبَلِ (4)اَلْكُوفَةِ أَلْفُ رَجُلٍ، لاَ يَزِيدُونَ رَجُلاً، وَلاَ يَنْقُصُونَ رَجُلاً يُبَايِعُونِّي عَلَى اَلْمَوْتِ» قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: فَجَزِعْتُ لِذَلِكَ، وَخِفْتُ أَنْ يَنْقُصَ اَلْقَوْمُ عَنِ اَلْعَدَدِ أَوْ يَزِيدُوا عَلَيْهِ فَيَفْسُدُ اَلْأَمْرُ عَلَيْنَا ، وَلَمْ أَزَلْ مَهْمُوماً (دَأْبِي إِحْصَاءُ) (5)اَلْقَوْمِ، حَتَّى وَرَدَ أَوَائِلُهُمْ، فَجَعَلْتُ أُحْصِيهِمْ فَاسْتَوْفَيْتُ عَدَدَهُمْ تِسْعَمِائَةِ رَجُلٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلاً، ثُمَّ اِنْقَطَعَ مَجِيءُ اَلْقَوْمِ، فَقُلْتُ: إِنّٰا لِلّٰهِ وَإِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ مَا ذَا حَمَلَهُ عَلَى مَا قَالَ؟ فَبَيْنَا أَنَا مُفَكِّرٌ فِي ذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ شَخْصاً قَدْ أَقْبَلَ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَرَاجِلٌ عَلَيْهِ قَبَاءُ
ص: 315
صُوفٍ مَعَهُ سَيْفُهُ وَتُرْسُهُ وَإِدَاوَتُهُ (1)فَقَرُبَ مِنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :فَقَالَ لَهُ: اُمْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «وَعَلاَمَ تُبَايِعُنِي؟» قَالَ: عَلَى اَلسَّمْعِ وَاَلطَّاعَةِ، وَاَلْقِتَالِ بَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَفْتَحَ اَللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ لَهُ: «مَا اِسْمُكَ؟» قَالَ أُوَيْسٌ، قَالَ: «أَنْتَ أُوَيْسٌ اَلْقَرَنِيُّ؟» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «اَللَّهُ أَكْبَرُ، أَخْبَرَنِي حَبِيبِي رَسُولُ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ أَنِّي أُدْرِكُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِهِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ اَلْقَرَنِيُّ، يَكُونُ مِنْ حِزْبِ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ، يَمُوتُ عَلَى اَلشَّهَادَةِ، يَدْخُلُ فِي شَفَاعَتِهِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ:فَسُرِّيَ عَنِّي (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَقَدْ رَفَعَ أَهْلُ اَلشَّامِ اَلْمَصَاحِفَ، وَشَكَّ فَرِيقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَجَئُوا إِلَى اَلْمُسَالَمَةِ وَدَعَوْهُ إِلَيْهَا: «وَيْلَكُمْ إِنَّ هَذِهِ خَدِيعَةٌ، وَمَا يُرِيدُ اَلْقَوْمُ اَلْقُرْآنَ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ قُرْآنٍ، فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَاِمْضُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ فِي قِتَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا تَفَرَّقَتْ بِكُمُ اَلسُّبُلُ، وَنَدَمْتُمْ حَيْثُ (3)لاَ تَنْفَعُكُمُ اَلنَّدَامَةُ» (4) . فكانَ الأَمرُ كما قالَ وكفر القَوْم بعد التحكيم، وندموا على ما فرط منهم في الإجابةُ إليه، وتفرق بِهِم السبل، وكان عاقبتهم الدمار.
وَقَالَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَهُوَمُتَوَجِّهٌ إِلَى قِتَالِ اَلْخَوَارِجِ: «لَوْ لاَ أَنَّنِي أَخَافُ
ص: 316
أَنْ تَتَّكِلُوا وَتَتْرُكُوا اَلْعَمَلَ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا قَضَاهُ اَللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ فِيمَنْ قَاتَلَ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ مُسْتَبْصِراً بِضَلاَلَتِهِمْ، وَإِنَّ فِيهِمْ لَرَجُلاً مَوْدُونَ (1)اَلْيَدِ، لَهُ كَثَدْيِ اَلْمَرْأَةِ، هُمْ شَرُّ اَلْخَلْقِ وَاَلْخَلِيقَةِ، قَاتِلُهُمْ أَقْرَبُ اَلْخَلْقِ إِلَى اَللَّهِ وَسِيلَةً: وَلَمْ يَكُنِ اَلْمُخْدَجُ مَعْرُوفاً فِي اَلْقَوْمِ، فَلَمَّا قُتِلُوا جَعَلَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَطْلُبُهُ فِي اَلْقَتْلَى وَيَقُولُ، «وَاَللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ » حَتَّى وُجِدَ فِي اَلْقَوْمِ، فَشُقَّ قَمِيصُهُ (2)فَكَانَ عَلَى كَتِفِهِ سِلْعَةٌ (3)كَثَدْيِ اَلْمَرْأَةِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ إِذَا جُذِبَتِ اِنْجَذَبَ (4)كَتِفُهُ مَعَهَا، وَإِذَا تُرِكَتْ رَجَعَ كَتِفُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ. فَلَمَّا وَجَدَهُ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ فِي هَذَا لَعِبْرَةً لِمَنِ اِسْتَبْصَرَ» (5) .
فصل
وَرَوَى أَصْحَابُ اَلسِّيرَةِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَزْدِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْجَمَلَ وَصِفِّينَ لاَ أَشُكُّ فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ، حَتَّى نَزَلْنَا اَلنَّهْرَوَانَ فَدَخَلَنِي شَكٌّ وَقُلْتُ: قُرَّاؤُنَا وَخِيَارُنَا نَقْتُلُهُمْ!؟ إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ عَظِيمٌ. فَخَرَجْتُ غُدْوَةً أَمْشِي وَمَعِي إِدَاوَةُ مَاءٍ حَتَّى بَرَزْتُ عَنِ (6)
ص: 317
اَلصُّفُوفِ، فَرَكَزْتُ رُمْحِي وَوَضَعْتُ تُرْسِي إِلَيْهِ وَاِسْتَتَرْتُ مِنَ اَلشَّمْسِ، فَإِنِّي لَجَالِسٌ حَتَّى وَرَدَ عَلَيَّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لِي: «يَا أَخَا اَلْأَزْدِ (1)أَ مَعَكَ طَهُورٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ اَلْإِدَاوَةَ: فَمَضَى حَتَّى لَمْ أَرَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ وَقَدْ تَطَهَّرَ فَجَلَسَ فِي ظِلِّ اَلتُّرْسِ، فَإِذَا فَارِسٌ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ هَذَا فَارِسٌ يُرِيدُكَ، قَالَ: ف«َأَشِرْ إِلَيْهِ فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَبَرَ اَلْقَوْمُ وَقَدْ قَطَعُوا اَلنَّهَرَ، فَقَالَ: «كَلاَّ مَا عَبَرُوا» قَالَ: بَلَى وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلُوا، قَالَ: ك«َلاَّ مَا فَعَلُوا» قَالَ: فَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ إِذْ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَبَرَ اَلْقَوْمُ، قَالَ: «كَلاَّ مَا عَبَرُوا» قَالَ: وَاَللَّهِ مَا جِئْتُكَ حَتَّى رَأَيْتُ اَلرَّايَاتِ فِي ذَلِكَ اَلْجَانِبِ وَاَلْأَثْقَالَ، قَالَ: «وَاَللَّهِ مَا فَعَلُوا، وَإِنَّهُ لَمَصْرَعُهُمْ وَمُهَرَاقُ دِمَائِهِمْ» ثُمَّ نَهَضَ وَنَهَضْتُ مَعَه.
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي بَصَّرَنِي هَذَا اَلرَّجُلَ، وَعَرَّفَنِي أَمْرَهُ، هَذَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ كَذَّابٌ جَرِيءٌ أَوْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَعَهْدٍ مِنْ نَبِيِّهِ، اَللَّهُمَّ إِنِّي أُعْطِيكَ عَهْداً تَسْأَلُنِي عَنْهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، إِنْ أَنَا وَجَدْتُ اَلْقَوْمَ قَدْ عَبَرُوا أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُقَاتِلُهُ وَأَوَّلَ مَنْ يَطْعَنُ بِالرُّمْحِ فِي عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَعْبُرُوا (أَنْ أُقِيمَ) (2)عَلَى اَلْمُنَاجَزَةِ وَاَلْقِتَالِ. فَدَفَعْنَا إِلَى اَلصُّفُوفِ فَوَجَدْنَا اَلرَّايَاتِ وَاَلْأَثْقَالَ كَمَا هِيَ، قَالَ: فَأَخَذَ بِقَفَايَ وَدَفَعَنِي ثُمَّ قَالَ: «يَا أَخَا اَلْأَزْدِ (3)أَ تَبَيَّنَ لَكَ اَلْأَمْرُ؟» قُلْتُ أَجَلْ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: «فَشَأْنَكَ
ص: 318
بِعَدُوِّكَ» فَقَتَلْتُ رَجُلاً ثُمَّ قَتَلْتُ آخَرَ، ثُمَّ اِخْتَلَفْتُ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ أَضْرِبُهُ وَيَضْرِبُنِي فَوَقَعْنَا جَمِيعاً، فَاحْتَمَلَنِي أَصْحَابِي فَأَفَقْتُ حِينَ أَفَقْتُ وَقَدْ فَرَغَ اَلْقَوْمُ (1) .
وهذا حديثٌ مشهورٌ شائعٌ بين نَقَلةُ الآثارِ، وقد أَخبرَ به الرجلُّ عن نفسه في عهدُ أَميرِالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ وبعدَه ، فلم يَدفعْه عَنْهُ دافعُ ولا أَنّكرَ صَدَقَه فيه مُنكرٌ، وفيه إخبار بالغيب، وإبانةٌ عن علمِ الضَّميرِ ومعرفة ما في النُّفوسِ، والآيةُ باهرةٌ فيه لا يُعادِلُها إلّا ما ساواها في معناها من عظيم المعجز وجلّيلِ البرهانِ.
فصل
ومن ذلكَ ما تواترتْ به الرواياتُ من نعيه عَلَیْهِ السَّلامُ نفسه قبلَ وفاته، والخبرُ عن الحادث في قَتْلُه، وأَنّه يَخْرِجُ منَ الدُّنيا شهيداً بضربةٍ في رأسهِ يَخضِب دمُها لحيتَه، فكانَ الأَمرُ في ذلكَ كما قالَ.
فمنَ اللفظِ الذي رواه الرُواة في ذلكَ قَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: «وَاَللَّهِ لَتُخْضَبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذَا» وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (2) .
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « وَاَللَّهِ لَيَخْضِبَنَّهَا مِنْ فَوْقِهَا» وَأَوْمَأَ إِلَى شَيْبَتِهِ «مَا
ص: 319
يَحْبِسُ أَشْقَاهَا !؟»(1) .
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « مَا يَمْنَعُ أَشْقَاهَا أَنْ يَخْضِبَهَا مِنْ فَوْقِهَا بِدَمٍ» (2).
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ: « أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهُوَسَيِّدُ اَلشُّهُورِ، وَأَوَّلُ اَلسَّنَةِ، وَفِيهِ تَدُورُ رَحَى اَلسُّلْطَانِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ حَاجُّواَلْعَامِ صَفّاً وَاحِداً، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنِّي لَسْتُ فِيكُمْ» فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: إِنَّه يَنْعَى إِلَيْنَا نَفْسَهُ (3)فَضُرِبَ عَلَیْهِ السَّلامُ في لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَمَضَى فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ ذَلِكَ اَلشَّهْرِ .
وَمِنْها مَا رَوَاهُ اَلثِّقَاتُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ لَيْلَةً عِنْدَ اَلْحَسَنِ، وَلَيْلَةً عِنْدَ اَلْحُسَيْنِ، وَلَيْلَةً عِنْدَ اِبْنِ عَبَّاسٍ (4)لاَ يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِ لُقَمٍ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُ وَلَدَيْهِ - اَلْحَسَنُ أَوِ اَلْحُسَيْنُ عَلَیْهِ السَّلامُ - فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، يَأْتِي أَمْرُ اَللَّهِ وَأَنَا خَمِيصٌ، إِنَّمَا هِيَ لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ» فَأُصِيبَ مِنَ اَللَّيْلِ (5) .
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ اَلْآثَارِ: أَنَّ اَلْجَعْدَ بْنَ بَعْجَةَ (6) - رَجُلاً مِنَ
ص: 320
اَلْخَوَارِجِ - قَالَ لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :اِتَّقِ اَللَّهَ - يَا عَلِيُّ - فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، فَقَالَ: أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: «بَلْ وَاَللَّهِ مَقْتُولٌ قَتْلاً، ضَرْبَةً عَلَى (هَذَا وَتُخْضَبُ هَذِهِ) (1)وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ - عَهْدٌ مَعْهُودٌ وَقَدْ خٰابَ مَنِ اِفْتَرىٰ (2) .
وَقَوْلُهُ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي اَللَّيْلَةِ اَلَّتِي ضَرَبَهُ اَلشَّقِيُّ فِي آخِرِهَا، وَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ فَصَاحَ اَلْإِوَزُّ فِي وَجْهِهِ فَطَرَدَهُنَّ اَلنَّاسُ عَنْهُ، فَقَالَ: «اُتْرُكُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نَوَائِحُ» (3) .
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ اَلْوَلِيدُ بْنُ اَلْحَارِثِ وَغَيْرُهُ عَنْ رِجَالِهِمْ: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ لَمَّا بَلَغَهُ مَا صَنَعَهُ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ بِالْيَمَنِ قَالَ: «اَللَّهُمَّ إِنَّ بُسْراً بَاعَ دِينَهُ بِالدُّنْيَا فَاسْلُبْهُ عَقْلَهُ، وَلاَ تُبْقِ لَهُ مِنْ دِينِهِ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ عَلَيْكَ رَحْمَتَكَ، فَبَقِيَ بُسْرٌ حَتَّى اِخْتَلَطَ وَكَانَ يَدْعُوبِالسَّيْفِ، فَاتُّخِذَ لَهُ سَيْفٌ مِنْ خَشَبٍ، فَكَانَ يَضْرِبُ بِهِ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: اَلسَّيْفَ
ص: 321
اَلسَّيْفَ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ فَيَضْرِبُ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى مَاتَ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اِسْتَفَاضَ عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ مِنْ بَعْدِي عَلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، فَإِنْ عُرِضَ عَلَيْكُمُ اَلْبَرَاءَةُ مِنِّي فَلاَ تَبَرَّءُوا (2)مِنِّي فَإِنِّي عَلَى اَلْإِسْلاَمِ، فَمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ اَلْبَرَاءَةُ مِنِّي فَلْيَمْدُدْ عُنُقَهُ، فَإِنْ تَبَرَّأَ مِنِّي فَلاَ دُنْيَا لَهُ وَلاَ آخِرَةَ». فكانَ الأَمرُ في ذلكَ كما قالَ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَوْهُ أَيْضاً عَنْهُ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْ قَوْلِهِ: »أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنِّي دَعَوْتُكُمْ إِلَى اَلْحَقِّ فَتَوَلَّيْتُمْ عَلَيَّ، وَضَرَبْتُكُمْ بِالدِّرَّةِ (3)فَأَعْيَيْتُمُونِي؛ أَمَا إِنَّهُ سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلاَةٌ لاَ يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ بِهَذَا حَتَّى يُعَذِّبُوكُمْ بِالسِّيَاطِ وَبِالْحَدِيدِ، إِنَّهُ مَنْ عَذَّبَ اَلنَّاسَ فِي اَلدُّنْيَا عَذَّبَهُ اَللَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ صَاحِبُ اَلْيَمَنِ حَتَّى يَحُلَّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَيَأْخُذَ اَلْعُمَّالَ، وَعُمَّالَ اَلْعُمَّالِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ» (4). فكانَ الأَمرُ في ذلكَ كما قالَ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ اَلْعُلَمَاءُ: أَنَّ جُوَيْرِيَةَ بْنَ مُسْهِرٍ وَقَفَ عَلَى بَابِ اَلْقَصْرِ فَقَالَ: أَيْنَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ فَقِيلَ لَهُ :نَائِمٌ، فَنَادَى: أَيُّهَا اَلنَّائِمُ اِسْتَيْقِظْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُضْرَبَنَّ ضَرْبَةً عَلَى رَأْسِكَ تُخْضَبُ مِنْهَا لِحْيَتُكَ كَمَا أَخْبَرْتَنَا بِذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فَسَمِعَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ
ص: 322
فَنَادَى: «أَقْبِلْ يَا جُوَيْرِيَةُ حَتَّى أُحَدِّثَكَ بِحَدِيثِكَ» فَأَقْبَلَ، فَقَالَ: «وَأَنْتَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - لَتُعْتَلَنَّ إِلَى اَلْعُتُلِّ اَلزَّنِيمِ، وَلَيَقْطَعَنَّ يَدَكَ وَرِجْلَكَ، ثُمَّ لَيَصْلِبَنَّكَ تَحْتَ جِذْعِ كَافِرٍ» فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ اَلدَّهْرُ حَتَّى وُلِّيَ زِيَادٌ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، فَقَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ثُمَّ صَلَبَهُ إِلَى جِذْعِ اِبْنِ مُكَعْبَرٍ (1)، وَكَانَ جِذْعاً طَوِيلاً فَكَانَ تَحْتَهُ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَوْهُ: أَنَّ مِيثَمَ (3)،اَلتَّمَّارِ كَانَ عَبْداً لاِمْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَاشْتَرَاهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ مِنْهَا وَأَعْتَقَهُ وَقَالَ لَهُ: «مَا اِسْمُكَ؟» قَالَ: سَالِمٌ، قَالَ: «أَخْبَرَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ أَنَّ اِسْمَكَ اَلَّذِي سَمَّاكَ بِهِ أَبَوَاكَ فِي اَلْعَجَمِ مِيثَمٌ» قَالَ: صَدَقَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقْتَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَاَللَّهِ إِنَّهُ لاَسْمِي، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى اِسْمِكَ اَلَّذِي سَمَّاكَ بِهِ رَسُولُ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وَدَعْ سَالِماً» فَرَجَعَ إِلَى مِيثَمٍ وَاِكْتَنَى بِأَبِي سَالِمٍ.
فَقَالَ لَهُ: عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ ذَاتَ يَوْمٍ: «إِنَّكَ تُؤْخَذُ بَعْدِي فَتُصْلَبُ وَتُطْعَنُ بِحَرْبَةٍ، فَإِذَا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلثَّالِثُ اِبْتَدَرَ مَنْخِرَاكَ وَفَمُكَ دَماً فَيُخْضَبُ لِحْيَتُكَ، فَانْتَظِرْ ذَلِكَ اَلْخِضَابَ، وَتُصْلَبُ عَلَى بَابِ دَارِ عَمْرِوبْنِ حُرَيْثٍ عَاشِرَ عَشَرَةٍ أَنْتَ أَقْصَرُهُمْ خَشَبَةً وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ اَلْمَطْهَرَةِ (4)وَاِمْضِ حَتَّى أُرِيَكَ اَلنَّخْلَةَ اَلَّتِي تُصْلَبُ عَلَى جِذْعِهَا فَأَرَاهُ إِيَّاهَا.
فَكَانَ مِيثَمٌ يَأْتِيهَا فَيُصَلِّي عِنْدَهَا وَيَقُولُ: بُورِكْتِ مِنْ نَخْلَةٍ، لَكِ
ص: 323
خُلِقْتُ وَلِي غُذِّيت ِ .وَلَمْ يَزَلْ يَتَعَاهَدُهَا حَتَّى قُطِعَتْ وَحَتَّى عَرَفَ اَلْمَوْضِعَ اَلَّذِي يُصْلَبُ عَلَيْهَا (1)بِالْكُوفَةِ. قَالَ: وَكَانَ يَلْقَى عَمْرَوبْنَ حُرَيْثٍ فَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي مُجَاوِرُكَ فَأَحْسِنْ جِوَارِي، فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو: أَ تُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِيَ دَارَ اِبْنِ مَسْعُودٍ أَوْ دَارَ اِبْنِ حَكِيمٍ؟ وَهُوَلاَ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ.
وَحَجَّ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي قُتِلَ فِيهَا فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مِيثَمٌ، قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَرُبَّمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ يُوصِي بِكَ عَلِيّاً فِي جَوْفِ اَللَّيْلِ. فَسَأَلَهَا عَنِ اَلْحُسَيْنِ، قَالَتْ: هُوَفِي حَائِطٍ لَهُ، قَالَ: أَخْبِرِيهِ أَنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ اَلسَّلاَمَ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ مُلْتَقُونَ عِنْدَ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ إِنْ شَاءَ اَللَّهِ. فَدَعَتْ لَهُ بِطِيبٍ فَطَيَّبَتْ لِحْيَتَهُ، وَقَالَتْ لَهُ: أَمَا إِنَّهَا سَتُخْضَبُ بِدَمٍ.
فَقَدِمَ اَلْكُوفَةَ فَأَخَذَهُ عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ: هَذَا كَانَ مِنْ آثَرِ اَلنَّاسِ عِنْدَ عَلِيٍّ ، قَالَ: وَيْحَكُمْ، هَذَا اَلْأَعْجَمِيُّ!؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: عُبَيْدُ اَللَّهِ: أَيْنَ رَبُّكَ؟ قَالَ: بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ ظَالِمٍ وَأَنْتَ أَحَدُ اَلظَّلَمَةِ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَى عُجْمَتِكَ لَتَبْلُغُ اَلَّذِي تُرِيدُ، مَا أَخْبَرَكَ صَاحِبُكَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكَ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَّكَ تَصْلِبُنِي عَاشِرَ عَشَرَةٍ، أَنَا أَقْصَرُهُمْ خَشَبَةً وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ اَلْمَطْهَرَةِ، قَالَ: لَنُخَالِفَنَّهُ، قَالَ: كَيْفَ تُخَالِفُهُ؟ فَوَاَللَّهِ مَا أَخْبَرَنِي إِلاَّ عَنِ اَلنَّبِيِّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ عَنْ جَبْرَئِيلَ عَنِ اَللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ تُخَالِفُ هَؤُلاَءِ !؟ وَلَقَدْ عَرَفْتُ اَلْمَوْضِعَ اَلَّذِي أُصْلَبُ عَلَيْهِ أَيْنَ هُوَمِنَ اَلْكُوفَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ خَلْقِ اَللَّهِ أُلْجِمَ (2)فِي اَلْإِسْلاَمِ، فَحَبَسَهُ وَحُبِسَ مَعَهُ اَلْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: مِيثَمٌ اَلتَّمَّارُ لِلْمُخْتَارِ: إِنَّكَ تُفْلِتُ وَتَخْرُجُ ثَائِراً بِدَمِ اَلْحُسَيْنِ فَتَقْتُلُ هَذَا اَلَّذِي يَقْتُلُنَا. فَلَمَّا دَعَا عُبَيْدُ اَللَّهِ
ص: 324
بِالْمُخْتَارِ لِيَقْتُلَهُ طَلَعَ بَرِيدٌ بِكِتَابِ يَزِيدَ إِلَى عُبَيْدِ اَللَّهِ يَأْمُرُهُ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ فَخَلاَّهُ، وَأَمَرَ بِمِيثَمٍ أَنْ يُصْلَبَ، فَأُخْرِجَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ لَقِيَهُ: مَا كَانَ أَغْنَاكَ عَنْ هَذَا يَا مِيثَمُ! فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: وَهُوَيُومِئُ إِلَى اَلنَّخْلَةِ: لَهَا خُلِقْتُ وَلِي غُذِّيَتْ، فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى اَلْخَشَبَةِ اِجْتَمَعَ اَلنَّاسُ حَوْلَهُ عَلَى بَابِ عَمْرِوبْنِ حُرَيْثٍ. قَالَ: عَمْرٌو: قَدْ كَانَ وَاَللَّهِ يَقُولُ: إِنِّي مُجَاوِرُكَ. فَلَمَّا صُلِبَ أَمَرَ جَارِيَتَهُ بِكَنْسِ تَحْتِ خَشَبَتِهِ وَرَشِّهِ وَتَجْمِيرِهِ، فَجَعَلَ مِيثَمٌ يُحَدِّثُ بِفَضَائِلِ بَنِي هَاشِمٍ، فَقِيلَ لاِبْنِ زِيَادٍ: قَدْ فَضَحَكُمْ هَذَا اَلْعَبْدُ، فَقَالَ: أَلْجِمُوهُ، فَكَانَ أَوَّلَ خَلْقِ اَللَّهِ أُلْجِمَ فِي اَلْإِسْلاَمِ. وَكَانَ مَقْتَلُ مِيثَمٍ رَحْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلْعِرَاقَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ اَلثَّالِثِ مِنْ صَلْبِهِ ،طُعِنَ مِيثَمٌ بِالْحَرْبَةِ فَكَبَّرَ ثُمَّ اِنْبَعَثَ فِي آخِرِ اَلنَّهَارِ فَمُهُ وَأَنْفُهُ دَماً (1) .
وهذا من جملة الأَخبار عن الغيوب المحفوظة عن أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ، وذكره شائعٌ والرواية به بين العُلِمَاءُ مستفيضة
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ اِبْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ اَلشَّعْبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ اَلنَّضْرِ اَلْحَارِثِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ زِيَادٍ إِذْ أُتِيَ بِرُشَيْدٍ اَلْهَجَرِيِّ فَقَالَ لَهُ: زِيَادٌ مَا قَالَ: لَكَ صَاحِبُكَ يَعْنِي عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ إِنَّا فَاعِلُونَ بِكَ قَالَ: تَقْطَعُونَ يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ وَتَصْلِبُونَنِي فَقَالَ: زِيَادٌ أَمَ وَاَللَّهِ لَأُكَذِّبَنَّ حَدِيثَهُ خَلُّوا سَبِيلَهُ فَلَمَّا
ص: 325
أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قَالَ: زِيَادٌ وَاَللَّهِ مَا نَجِدُ لَهُ شَيْئاً شَرّاً مِمَّا قَالَ صَاحِبُهُ، اِقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَاِصْلِبُوهُ. فَقَالَ: رُشَيْدٌ: هَيْهَاتَ، قَدْ بَقِيَ لِي عِنْدَكُمْ شَيْءٌ أَخْبَرَنِي بِهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ؛ قَالَ: زِيَادٌ اِقْطَعُوا لِسَانَهُ، فَقَالَ: رُشَيْدٌ: اَلْآنَ وَاَللَّهِ جَاءَ تَصْدِيقُ خَبَرِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :(1) . وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ نَقَلَهُ اَلْمُؤَالِفُ وَاَلْمُخَالِفُ عَنْ ثِقَاتِهِمْ عَمَّنْ سَمَّيْنَاهُ، وَاِشْتَهَرَ أَمْرُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ اَلْجَمِيعِ، وَهُوَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ اَلْمُعْجِزَاتِ وَاَلْإِخْبَارِ عَنِ اَلْغُيُوبِ.
فصل
ومن ذلكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اَلْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِي اَلْعَالِيَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُزَرِّعُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «أَمَ وَاَللَّهِ لَيُقْبِلَنَّ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ (2)خُسِفَ بِهِمْ» فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ لَتُحَدِّثُنِي بِالْغَيْبِ، قَالَ: اِحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ، وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ مَا خَبَّرَنِي بِهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ، وَلَيُؤْخَذَنَّ رَجُلٌ فَلَيُقْتَلَنَّ وَلَيُصْلَبَنَّ بَيْنَ شُرْفَتَيْنِ مِنْ شُرَفِ هَذَا اَلْمَسْجِدِ، قُلْتُ: إِنَّكَ لَتُحَدِّثُنِي بِالْغَيْبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي اَلثِّقَةُ اَلْمَأْمُونُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ (3).
ص: 326
قَالَ: أَبُواَلْعَالِيَةِ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا جُمْعَةٌ حَتَّى أُخِذَ مُزَرِّعٌ فَقُتِلَ وَصُلِبَ بَيْنَ اَلشُّرْفَتَينِ؛ قَالَ: وَقَدْ كَانَ حَدَّثَنِي بِثَالِثَةٍ فَنَسِيتُهَا .
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنِ اَلْمُغِيرَةِ قَالَ: لَمَّا وُلِّيَ اَلْحَجَّاجُ طَلَبَ كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَحَرَمَ قَوْمَهُ عَطَاءَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى كُمَيْلٌ ذَلِكَ قَالَ: أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ نَفِدَ عُمُرِي، لاَ يَنْبَغِي أَنْ أَحْرِمَ قَوْمِي عَطِيَّاتِهِمْف فَخَرَجَ فَدَفَعَ بِيَدِهِ إِلَى اَلْحَجَّاجِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَجِدَ عَلَيْكَ سَبِيلاً، فَقَالَ لَهُ: كُمَيْلٌ: لاَ تَصْرِفْ (1)عَلَيَّ أَنْيَابَكَ وَلاَ تَهَدَّمْ عَلَيَّ (2)فَوَاَللَّهِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي إِلاَّ مِثْلُ كَوَاسِلِ (3)اَلْغُبَارِ، فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ فَإِنَّ اَلْمَوْعِدَ اَللَّهُ وَبَعْدَ اَلْقَتْلِ اَلْحِسَابُ، وَلَقَدْ خَبَّرَنِي أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ أَنَّكَ قَاتِلِي؛ قَالَ: فَقَالَ لَهُ اَلْحَجَّاجُ : اَلْحُجَّةُ عَلَيْكَ إِذَنْ، فَقَالَ كُمَيْلٌ: ذَاكَ إِنْ كَانَ اَلْقَضَاءُ إِلَيْكَ، قَالَ: بَلَى قَدْ كُنْتَ فِيمَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، اِضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ (4) .
ص: 327
وهذا - أيضاً - خبر رواه نَقَلةُ العامُّة عن ثقاتهم، وشاركهم في نَقَله الخاصَّة، ومضمونه من باب ما ذكرناه من المعجزات والبراهين البينات.
فصل ومن ذلكَ:مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ اَلسِّيرَةِ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ: أَنَّ اَلْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ اَلثَّقَفِيَّ قَالَ: ذَاتَ يَوْمٍ: أُحِبُّ أَنْ أُصِيبَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي تُرَابٍ فَأَتَقَرَّبَ إِلَى اَللَّهِ بِدَمِهِ!! فَقِيلَ لَهُ:مَا نَعْلَمُ أَحَداً كَانَ أَطْوَلَ صُحْبَةً لِأَبِي تُرَابٍ مِنْ قَنْبَرٍ مَوْلاَهُ، فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ قَنْبَرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَبُوهَمْدَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: اَللَّهُ مَوْلاَيَ، وَأَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَلِيُّ (1)نِعْمَتِي قَالَ: اِبْرَأْ مِنْ دِينِهِ، قَالَ: فَإِذَا بَرِئْتُ مِنْ دِينِهِ تَدُلُّنِي عَلَى دِينٍ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَاتِلُكَ فَاخْتَرْ أَيَّ قِتْلَةٍ أَحَبَّ إِلَيْكَ، قَالَ: قَدْ صَيَّرْتُ ذَلِكَ إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ لاَ تَقْتُلُنِي قِتْلَةً إِلاَّ قَتَلْتُكَ مِثْلَهَا، وَلَقَدْ خَبَّرَنِي أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ أَنَّ مَنِيَّتِي (2)تَكُونُ ذَبْحاً ظُلْماً بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ (3) . وهذا أيضاً من الأَخبار الّتي صحت عن أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بالغيب، وحصلت في باب المعجز القاهر والدليل الباهر والعَلِمَ
ص: 328
الذي خَصَّ الله به حججه من أَنّبيائه ورسله وأوصيائه عَلَیْهِ السَّلامُ، وهولاحق بما قدَّمناه.
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ اَلْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ ثَابِتٍ اَلثُّمّ َالِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ اَلسَّبِيعِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنِّي مَرَرْتُ بِوَادِي اَلْقُرَى، فَرَأَيْتُ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ قَدْ مَاتَ بِهَا فَاسْتَغْفِرْ لَهُ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «مَهْ، إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلاَ يَمُوتُ حَتَّى يَقُودَ جَيْشَ ضَلاَلَةٍ صَاحِبُ لِوَائِهِ حَبِيبُ بْنُ حِمَازٍ [جَمَّازٍ]» فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ تَحْتِ اَلْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَاَللَّهِ إِنِّي لَكَ شِيعَةٌ وَإِنِّي لَكَ مُحِبٌّ، قَالَ: «وَمَنْ أَنْتَ؟» قَالَ: أَنَا حَبِيبُ بْنُ حِمَازٍ [جَمَّازٍ]، قَالَ: «إِيَّاكَ أَنْ تَحْمِلَهَا، وَلَتَحْمِلَنَّهَا فَتَدْخُلُ بِهَا مِنْ هَذَا اَلْبَابِ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَابِ اَلْفِيلِ .
فَلَمَّا مَضَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَقَضَى اَلْحَسَنُ بْنُ عَلٍِّي مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَمِنْ ظُهُورِهِ مَا كَانَ، بَعَثَ اِبْنُ زِيَادٍ بِعُمَرَ بِنْ سَعْدٍ إِلَى اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَحَبِيبَ بْنَ حِمَازٍ [جَمَّازٍ] صَاحِبَ رَايَتِهِ، فَسَارَ بِهَا حَتَّى دَخَلَ اَلْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ اَلْفِيلِ (1) .
ص: 329
وهذا - أيضاً - خبر مستفيض لا يتناكره أهلُ العَلِمَ الرُواة للآثار، وهومنتشر في أهلُ الكوفة، ظاهر في جماعتهم لا يتناكره منهم اثنان، وهومن المعجز الذي بَيِّناه.
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى اَلْقَطَّانُ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ اَلزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي اَلْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ مَشِيخَتَنَا وَعُلَمَاءَنَا يَقُولُونَ: خَطَبَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: « سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَاَللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِّي عَنْ فِئَةٍ تُضِلُّ مِائَةً وَتَهْدِي مِائَةً إِلاَّ نَبَّأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَسَائِقِهَا إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ (1)
فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي كَمْ فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي مِنْ طَاقَةِ شَعْرٍ. فَقَامَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَقَالَ: «وَاَللَّهِ لَقَدْ حَدَّثَنِي خَلِيلِي رَسُولُ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ بِمَا سَأَلْتَ عَنْهُ، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ طَاقَةِ شَعْرٍ فِي رَأْسِكَ مَلَكاً يَلْعَنُكَ، وَعَلَى كُلِّ طَاقَةِ شَعْرٍ فِي لِحْيَتِكَ شَيْطَاناً يَسْتَفِزُّكَ، وَإِنَّ فِي بَيْتِكَ لَسَخْلاً (2)يَقْتُلُ اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ وَآيَةُ ذَلِكَ مِصْدَاقُ مَا
ص: 330
خَبَّرْتُكَ بِهِ، وَلَوْ لاَ أَنَّ اَلَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ يَعْسُرُ بُرْهَانُهُ لَأَخْبَرْتُكَ بِهِ، وَلَكِنْ آيَةُ ذَلِكَ مَا نَبَّأْتُ بِهِ عَنْ لَعْنَتِكَ وَسَخْلِكَ اَلْمَلْعُونِ» وَكَانَ اِبْنُهُ فِي ذَلِكَ اَلْوَقْتِ صَبِيّاً صَغِيراً يَحْبُو(1)فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ اَلْحُسَيْنِ عَلَیْهِ السَّلامُ مَا كَانَ تَوَلىَّ قَتْلَهُ وَكَانَ اَلْأَمْرُ كَمَا قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: (2) .
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ صَبِيحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ اَلْمُسَاوِرِ اَلْعَابِدِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً عَلَیْهِ السَّلامُ قَالَ: لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ يَوْماً (3): «يَا بَرَاءُ يُقْتَلُ اِبْنِيَ اَلْحُسَيْنُ عَلَیْهِ السَّلامُ وَأَنْتَ حَيٌّ لاَ تَنْصُرُهُ » فَلَمَّا قُتِلَ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ كَانَ اَلْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُولُ: صَدَقَ وَاَللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قُتِلَ اَلْحُسَيْنُ وَلَمْ أَنْصُرْهُ. ثُمَّ يُظْهِرُ اَلْحَسْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَاَلنَّدَمَ (4) .
ص: 331
وهذا - أيضاً - لاحِقٌ بما قدمنا ذكره من الإنباء بالغيوب والأَعْلامِ القاهرة للقلوب.
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عِيسَى اَلْعَامِرِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ اَلْحُرِّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ مُسْهِرٍ اَلْعَبْدِيِّ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهْنَا مَعَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى صِفِّينَ فَبَلَغْنَا طُفُوفَ كَرْبَلاَءَ وَقَفَ عَلَیْهِ السَّلامُ نَاحِيَةً مِنَ اَلْعَسْكَرِ، ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً وَاِسْتَعْبَرَ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا - وَاَللَّهِ - مُنَاخُ رِكَابِهِمْ وَمَوْضِعُ مَنِيَّتِهِمْ» فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا اَلْمَوْضِعُ؟ قَالَ: «هَذَا كَرْبَلاَءُ، يُقْتَلُ فِيهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ . . . بِغَيْرِ حِسٰابٍ» ثُمَّ سَارَ.
فَكَانَ اَلنَّاسُ لاَ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ مَا قَالَ: حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَیْهِ السَّلامُ وَأَصْحَابِهِ بِالطَّفِّ مَا كَانَ، فَعَرَفَ حِينَئِذٍ مَنْ سَمِعَ مَقَالَهُ مِصْدَاقَ اَلْخَبَرِ فِيمَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ (1) . وكان ذلكَ من عَلِمَ الغيب والخبرُ بالكائن قبل كونه، وهوالمعجز الظاهر والعَلِمَ الباهر حَسَب ما ذكرناه.
والأَخبار في هذا المعنى يطول بها الشرح، وفيما أَثبتناهُ منها كفاية فيما قصدناه.
ص: 332
فصل آخر
ومن أَعلامِه عَلَیْهِ السَّلامُ الباهرةِ ما أبانَه الله تعالى به من القدرة، وخَصَّه به من القوّةُ وخَرَقَ العادةَ بالأعجوبة فيه.
فمن ذلكَ ما جاءتْ به الآثارُ وتظاهرتْ به الأَخبارُ، و اتَّفِقَ عليه العُلِمَاءُ، وسلم له المخالفُ والمؤالفُ من قصة خَيْبَرَ وقلعِ أَميرُالمؤمنينَ عَلَیْهِ السَّلامُ باب الحِصْن بيده، ودَحْوه به على الأَرض، وكان من الثقلِ بحيثُ لا يحملهُ أقلُّ من خمسينَ رجلّاً.
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْ مَشِيخَتِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ اَلْقَاضِي قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَرَامٍ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ اِبْنَيْ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ دَفَعَ اَلرَّايَةَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ دَعَا لَهُ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ يُسْرِعُ اَلْمَسِيرَ (1)وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ لَهُ: اُرْفُقْ، حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى اَلْحِصْنِ فَاجْتَذَبَ بَابَهُ فَأَلْقَاهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلاً وَكَانَ جُهْدُهُمْ أَنْ أَعَادُوا اَلْبَابَ (2) .
وهذا مِمَّا خَصَّه الله تعالى به من القوّةِ، وخَرَقَ به العادةَ وجَعَلَه عَلَماً مُعجِزاً كما قدَّمناه.
ص: 333
فصل
ومن ذلكَ ما رواه أهلُ السِّيرة، و اشتهرَ الخبرُ به عند (1)العامُّة والخاصّة، حتّى نَظَمَتْه (2)الشُّعَراءُ، وخَطَبَت (3)به البلغاء، ورواه الفُقَهاءُ والعُلِمَاءُ، من حديثٌ الرّاهب بأَرض كربلاءَ والصخرِة، وشُهرتُه تُغني عن تكلُّف إيراد الإسناد له. وَذَلِكَ أَنَّ اَلْجَمَاعَةَ رَوَتْ: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى صِفِّينَ، لَحِقَ أَصْحَابَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ وَنَفِدَ مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ اَلْمَاءِ، فَأَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالاً يَلْتَمِسُونَ اَلْمَاءَ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ أَثَراً، فَعَدَلَ بِهِمْ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَنِ اَلْجَادَّةِ وَسَارَ قَلِيلاً فَلاَحَ لَهُمْ دَيْرٌ فِي وَسَطِ اَلْبَرِّيَّةِ فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا صَارَ فِي فِنَائِهِ أَمَرَ مَنْ نَادَى سَاكِنَهُ بِالاِطِّلاَعِ إِلَيْهِمْ فَنَادَوْهُ فَاطَّلَعَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «هَلْ قُرْبَ قَائِمِكَ هَذَا مَاءٌ يَتَغَوَّثُ بِهِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمُ؟» فَقَالَ: هَيْهَاتَ، بَيْنِي وَبَيْنَ اَلْمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخَيْنِ، وَمَا بِالْقُرْبِ مِنِّي شَيْءٌ مِنَ اَلْمَاءِ، وَلَوْ لاَ أَنَّنِي أُوتَى بِمَاءٍ يَكْفِينِي كُلَّ شَهْرٍ عَلَى اَلتَّقْتِيرِ لَتَلِفْتُ عَطَشاً.
فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ: اَلرَّاهِبُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، أَ فَتَأْمُرُنَا بِالْمَسِيرِ إِلَى حَيْثُ أَوْمَأَ إِلَيْهِ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ اَلْمَاءَ وَبِنَا
ص: 334
قُوَّةٌ فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «لاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى ذَلِكَ» وَلَوَى عُنُقَ بَغْلَتِهِ نَحْوَاَلْقِبْلَةِ وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَى مَكَانٍ يَقْرُبُ مِنَ اَلدَّيْرِ فَقَالَ: «اِكْشِفُوا اَلْأَرْضَ فِي هَذَا اَلْمَكَانِ فَعَدَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى اَلْمَوْضِعِ فَكَشَفُوهُ بِالْمَسَاحِي، فَظَهَرَتْ (1)لَهُمْ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ تَلْمَعُ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، هُنَا صَخْرَةٌ لاَ تَعْمَلُ فِيهَا اَلْمَسَاحِي فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ هَذِهِ اَلصَّخْرَةَ عَلَى اَلْمَاءِ فَإِنْ زَالَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا وَجَدْتُمُ اَلْمَاءَ، فَاجْتَهِدُوا فِي قَلْبِهَا» فَاجْتَمَعَ اَلْقَوْمُ وَرَامُوا تَحْرِيكَهَا فَلَمْ يَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً وَاِسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَآهُمْ عَلَیْهِ السَّلامُ قَدِ اِجْتَمَعُوا وَبَذَلُوا اَلْجُهْدَ فِي قَلْعِ اَلصَّخْرَةِ فَاسْتَصْعَبَتْ (2)عَلَيْهِمْ، لَوَى عَلَیْهِ السَّلامُ رِجْلَهُ عَنْ سَرْجِهِ حَتَّى صَارَ عَلَى اَلْأَرْضِ، ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ تَحْتَ جَانِبِ اَلصَّخْرَةِ فَحَرَّكَهَا، ثُمَّ قَلَعَهَا بِيَدِهِ وَدَحَى بِهَا أَذْرُعاً كَثِيرَةً، فَلَمَّا زَالَتْ عَنْ مَكَانِهَا ظَهَرَ لَهُمْ بَيَاضُ اَلْمَاءِ فَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ فَكَانَ أَعْذَبَ مَاءٍ شَرِبُوا مِنْهُ، فِي سَفَرِهِمْ وَأَبْرَدَهُ وَأَصْفَاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «تَزَوَّدُوا وَاِرْتَوُوا» فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
ثُمَّ جَاءَ إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ وَوَضَعَهَا حَيْثُ كَانَتْ، وَأَمَرَ أَنْ يُعْفَى أَثَرُهَا بِالتُّرَابِ ، وَاَلرَّاهِبُ يَنْظُرُ مِنْ فَوْقِ دَيْرِهِ، فَلَمَّا اِسْتَوْفَى عِلْمَ مَا جَرَى نَادَى: يَا مَعْشَرَ اَلنَّاسِ أَنْزِلُونِي. أَنْزِلُونِي فَاحْتَالُوا فِي إِنْزَالِهِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا أَنْتَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: لاَ قَالَ: فَمَلَكٌ مُقَرَّبٌ؟ قَالَ: «لاَ »قَالَ: فَمَنْ أَنْتَ؟
ص: 335
قَالَ: أَنَا وَصِيُّ رَسُولِ اَللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ» قَالَ: اُبْسُطْ يَدَكَ أُسْلِمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى يَدِكَ، فَبَسَطَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «اِشْهَدِ اَلشَّهَادَتَيْنِ» فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّ رَسُولِ اَللَّهِ وَأَحَقُّ اَلنَّاسِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ. فَأَخَذَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَيْهِ شَرَائِطَ اَلْإِسْلاَمِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مَا اَلَّذِي دَعَاكَ اَلْآنَ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ بَعْدَ طُولِ مُقَامِكَ فِي هَذَا اَلدَّيْرِ عَلَى اَلْخِلاَفِ؟» فَقَالَ: أُخْبِرُكَ - يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ - أَنَّ هَذَا اَلدَّيْرَ بُنِيَ عَلَى طَلَبِ قَالِعِ هَذِهِ اَلصَّخْرَةِ وَمُخْرِجِ اَلْمَاءِ مِنْ تَحْتِهَا، وَقَدْ مَضَى عَالَمٌ قَبْلِي فَلَمْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ، وَقَدْ رَزَقَنِيهِ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِنَا وَنَأْثُرُ عَنْ عُلَمَائِنَا، أَنَّ فِي هَذَا اَلصُّقْعِ عَيْناً عَلَيْهَا صَخْرَةٌ لاَ يَعْرِفُ مَكَانَهَا إِلاَّ نَبِيٌّ، أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وَلِيٍّ لِلَّهِ يَدْعُوإِلَى اَلْحَقِّ آيَتُهُ مَعْرِفَةُ مَكَانِ هَذِهِ اَلصَّخْرَةِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى قَلْعِهَا، وَإِنِّي لَمَّا رَأَيْتُكَ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ تَحَقَّقْتُ مَا كُنَّا نَنْتَظِرُهُ وَبَلَغْتُ اَلْأُمْنِيَّةَ مِنْهُ، فَأَنَا اَلْيَوْمَ مُسْلِمٌ عَلَى يَدِكَ وَمُؤْمِنٌ بِحَقِّكَ وَمَوْلاَكَ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بَكَى حَتَّى اِخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ مِنَ اَلدُّمُوعِ ثُمَّ قَالَ: «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ أَكُنْ عِنْدَهُ مَنْسِيّاً، اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي كُنْتُ فِي كُتُبِهِ مَذْكُوراً »ثُمَّ دَعَا اَلنَّاسَ فَقَالَ لَهُمُ:اِسْمَعُوا مَا يَقُولُ أَخُوكُمْ هَذَا اَلْمُسْلِمُ فَسَمِعُوا مَقَالَتَهُ (1)وَكَثُرَ حَمْدُهُمْ لِلَّهِ وَشُكْرُهُمْ عَلَى اَلنِّعْمَةِ اَلَّتِي أَنْعَمَ اَللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ .
ص: 336
ثُمَّ سَارَ عَلَیْهِ السَّلامُ وَاَلرَّاهِبُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي جُمْلَةِ أَصْحَابِهِ حَتَّى لَقِيَ أَهْلَ اَلشَّامِ، وَكَانَ اَلرَّاهِبُ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اُسْتُشْهِدَ مَعَهُ، فَتَوَلَّى عَلَیْهِ السَّلامُ اَلصَّلاَةَ عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَأَكْثَرَ مِنَ اَلاِسْتِغْفَارِ لَهُ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ: «ذَاكَ مَوْلاَيَ» (1) .
وفي هذا الخبرُ ضروب منَ المعجز: أحدُها: عِلمُ الغيب، و الثّاني: القوّةُ الّتي خَرَقَ العادةَ بها وتَميَّزَ بخصوصيَّتها من الأَنّام، مَعَ ما فيه من ثبوت البشارة به في كُتُب الله الأوّلَى، وذلك مصداق قوله تعالى: «ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ) (2) وفي ذلكَ يقولُ إسماعيلُ بنُ محمّدٍ الحِمْيَرِيَّ في قصيدتِه البائيةِ المُذهبَةِ:
[ 1] وَلَقَدْ سَرَي فِيمَا (يَسِيرُ بِلَيْلَة) (3)*** ببَعْدَ العِشَاءِ بِكَرْبِلاَ فِي مَوْكِبِ
[ 2]حَتَّي أَتي مُتَبتِّلاً فِي قَائِمٍ * * * أَلْقَي قَوَاعِدَهُ بِقَاعٍ مُجْدِبِ
[ 3]يَأْتِيهِ لَيْسَ بِحَيْثُ (يَلْقَي عَامِراً) (4)*** (غَيْرَ الوُحُوشِ) (5)وَغَيْرِ أَصْلَعَ أَشْيَبِ
[ 4]فَدَنَا فَصَاحَ بِهِ فَأَشْرَفَ مَاثِلاً ***كَالنَّسْرِ فَوْقَ شَظِيَّةٍ مِنْ مَرْقَبِ
[ 5]هَلْ قُرْبَ قَائِمِكَ الَّذِي بَوَّأْتَهُ ***مَاءٌ يُصَابُ فَقَالَ: مَا مِنْ مَشْرَبِ
[ 6]إلاَّ بِغَايَةِ فَرْسَخَيْنِ وَمَنْ لَنَا ** * بِالمَاءِ بَيْنَ نُقيً وَرِقي ٍّ سَبْسَبِ
ص: 337
[ 7]فَثَنَي الاَعِنَّةَ نَحْوَ وَعْثٍ فَاجْتَلَي***مَلْسَاءَ تَبْرُقُ كَاللُّجَيْنِ المَذْهَبِ
[ 8]قَالَ اقْلِبُوهَا إنَّكُمْ إِنْ تَقْلِبُوا * ** تُرْوَوْا وَلاَ تُرْوَوْنَ إِنْ لَمْ تُقْلَبِ
[ 9]فَاعْصَوْ صَبُوا فِي قَلْعِهَا فَتَمنَّعَتْ** *مِنْهُمْ تَمَنُّعَ صَعْبَةٍ لَمْ تُرْكَبِ
[ 10]حَتَّي إِذَا أَعيَتْهُمُ أهوت (1)لَهَا *** كَفَّاً مَتَي تَرِدِ(2)المَغَالِبَ تُغْلَبِ
[ 11]فَكَأَ نَّهَا كُرَةٌ بِكَفِّ حِزَوَّرٍ* * *عَبَلَ الذِّرَاعِ دَحَي بِهَا فِي مَلْعَبِ
[ 12]فَسَقَاهُمُ مِنْ تَحْتِهَا مُتَسَلْسِلاً *** عَذْباً يَزِيدُ علي الاَلَذِّ الاَعْذَبِ
[ 13]حَتَّي إِذَا شَرِبُوا جَمِيعاً رَدَّهَا *** وَمَضَي فَخَلَتْ مَكَانَهَا لَمْ يُقْرَبِ
[ 14]أعني ابن فاطمة الوصي ومن يقل *** فِي فَضْلِهِ وَفَعَالِهِ لَمْ (3)يَكْذِبِ (4)
ص: 338
فصل
ومن ذلكَ (ما تَظاهَر به الخبرُ من بعثةِ) (1)رسولِ اللهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ له إِلَى وادي الجنِّ، وقد أخَبَرَه جبرئيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ بأَنّ طوائفَ منهم قد اجتَمّعوا لِكِيْدِه، فأَغنى عن رسول الله صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وكفى الله المؤمنين به كيدَهم، ودَفَعَهم عن المسلمينَ بقُوَّتهِ الّتي بَانَ بها من جماعتهم.
فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي اَلسَّرِيِّ اَلتَّمِيمِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ اَلْفَرَجِ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ مُوسَى اَلنَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَبْرَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ إِلَى بَنِي اَلْمُصْطَلِقِ جَنَّبَ عَنِ اَلطَّرِيقِ، فَأَدْرَكَهُ اَللَّيْلُ فَنَزَلَ بِقُرْبِ وَادٍ وَعِرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اَللَّيْلِ هَبَطَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ يُخْبِرُهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ كُفَّارِ
ص: 339
اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَبْطَنُوا اَلْوَادِيَ يُرِيدُونَ كَيْدَهُ وَإِيقَاعَ اَلشَّرِّ بِأَصْحَابِهِ عِنْدَ سُلُوكِهِمْ إِيَّاهُ، فَدَعَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: «اِذْهَبْ إِلَى هَذَا اَلْوَادِي، فَسَيَعْرِضُ لَكَ مِنْ أَعْدَاءِ اَللَّهِ اَلْجِنُّ مَنْ يُرِيدُكَ، فَادْفَعْهُ بِالْقُوَّةِ اَلَّتِي أَعْطَاكَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَحَصَّنْ مِنْهُ بِأَسْمَاءِ اَللَّهِ اَلَّتِي خَصَّكَ بِعِلْمِهَا وَأَنْفَذَ مَعَهُ مِائَةَ رَجُلٍ مِنْ أَخْلاَطِ اَلنَّاسِ، وَقَالَ: لَهُمْ «كُونُوا مَعَهُ وَاِمْتَثِلُوا أَمْرَهُ»
فَتَوَجَّهَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى اَلْوَادِي، فَلَمَّا قَارَبَ شَفِيرَهُ أَمَرَ اَلْمِائَةَ اَلَّذِينَ صَحِبُوهُ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ اَلشَّفِيرِ،وَلاَ يُحْدِثُوا شَيْئاً حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَوَقَفَ عَلَى شَفِيرِ اَلْوَادِي، وَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَسَمَّى اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوْمَأَ إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ أَنْ يَقْرُبُوا مِنْهُ فَقَرُبُوا ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فُرْجَةٌ مَسَافَتُها غَلْوَةٌ (1)،ثُمَّ رَامَ اَلْهُبُوطَ إِلَى اَلْوَادِي فَاعْتَرَضَتْهُ (2)رِيحٌ عَاصِفٌ كَادَ أَنْ يَقَعَ اَلْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ لِشِدَّتِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ أَقْدَامُهُمْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنْ هَوْلِ مَا لَحِقَهُمْ. فَصَاحَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: «أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، وَصِيُّ رَسُولِ اَللَّهِ وَاِبْنُ عَمِّهِ؛ اُثْبُتُوا إِنْ شِئْتُمْ» فَظَهَرَ لِلْقَوْمِ أَشْخَاصٌ عَلَى صُورَةِ اَلزُّطِّ (3)تُخَيَّلُ فِي أَيْدِيهِمْ شُعَلُ اَلنَّارِ، قَدِ اِطْمَأَنُّوا بِجَنَبَاتِ اَلْوَادِي ، فَتَوَغَّلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ بَطْنَ اَلْوَادِي وَهُوَيَتْلُواَلْقُرْآنَ وَيُومِئُ بِسَيْفِهِ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَمَا لَبِثَتِ اَلْأَشْخَاصُ حَتَّى صَارَتْ كَالدُّخَانِ اَلْأَسْوَدِ، وَكَبَّرَ
ص: 340
أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ ثُمَّ صَعِدَ مِنْ حَيْثُ اِنْهَبَطَ، فَقَامَ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ حَتَّى أَسْفَرَ اَلْمَوْضِعُ عَمَّا اِعْتَرَاهُ.
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی الله علیه وآله: مَا لَقِيتَ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ؟ فَلَقَدْ كِدْنَا أَنْ نَهْلِكَ خَوْفاً وَإِشْفَاقُنَا (1)عَلَيْكَ أَكْثَرُ مِمَّا لَحِقَنَا. فَقَالَ لَهُمْ: عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنَّهُ لَمَّا تَرَاءَى لِيَ اَلْعَدُوُّ جَهَرْتُ فِيهِمْ بِأَسْمَاءِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَضَاءَلُوا، وَعَلِمْتُ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ اَلْجَزَعِ فَتَوَغَّلْتُ اَلْوَادِيَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ بَقُوا عَلَى هَيْئَاتِهِمْ لَأَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِمْ (2)وَقَدْ كَفَى اَللَّهُ كَيْدَهُمْ وَكَفَى اَلْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَسَيَسْبِقُنِي بَقِيَّتُهُمْ إِلَى اَلنَّبِيِّ عَلَیْهِ السَّلامُ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ»
وَاِنْصَرَفَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِمَنْ تَبِعَهُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ فَأَخْبَرَهُ اَلْخَبَرَ، فَسُرِّيَ عَنْهُ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ وَقَالَ لَهُ: «قَدْ سَبَقَكَ - يَا عَلِيُّ - إِلَى مَنْ أَخَافَهُ اَللَّهُ بِكَ، فَأَسْلَمَ وَقَبِلْتُ إِسْلاَمَهُ» ثُمَّ اِرْتَحَلَ بِجَمَاعَةِ اَلْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَطَعُوا اَلْوَادِيَ آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ (3) .
وهذا الحديثٌ قد روتْه العامَّةُ كما روته الخاصَّةُ ولم يتناكروا شيئاً منه.
والمُعتزِلِة لميلِها إِلَى مذهب البَراهِمِة (4)تَدفَعُه، ولبُعدِها
ص: 341
عن (1)معرفة الأَخبار تُنكِرُه، وهي سالكةٌ في ذلكَ طريقَ الزَّنادقةِ فيما طعنت به في القرآنِ، وما تَضَمَّنَه من أخبار الجنِّ وإيمانهم بالله ورسوله عَلَیْهِ السَّلامُ، وما قص الله تعالى من نبئهم في القرآنُ في سورة الجنِّ وقولهم: (إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنّٰا بِهِ ) (2) إِلَى آخر ما تضمنه الخبرُ عنهم في هذه السورة.
وإذا بطل اعتراضُ الزّنادقة في ذلكَ بتجويز العُقولِ وجود الجنِّ، وإمكان تكليفهم وثبوت ذلكَ مَعَ إعجاز القرآنُ والأُعجوبةِ الباهرةِ فيه، كانَ مثلُ ذلكَ ظُهُورُ بطلان طُعُونِ المُعتزِلِة في الخبرُ الذي رَوَيْناه، لعدم استحالة مضمونِه في العقولِ. وفي مجيئِه من طريقين مختلفين و بروايةِ فريقين في دلَّالته متباينين برهانُ صِحَّتِهِ، وليس في إنكار مَنْ عَدَلَ عن الإنصاف في النظر من المُعتزِلِة والمُجبرِة قدحٌ فيما ذكرناه من وجوب العملِ عليه.
كما أَنّه ليس في جحدِ الملحدةِ و أَصنافِ الزّنادقة واليهودِ والنصارى والمجوس والصابئينَ ما جَاَءَ مجيئَه من الأَخبار بمعجزات النبيّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ -كانشقاق القمر، وحنين الجِذْع ، وتسبيحِ الحصى، وشَكَّوى البعيرِ وكلامِ الذِّراعِ، ومجيءِ الشجرِة، وخروجِ الماءِ من بين أصَابعِه في المِيضَاةِ، وإطعامِ الخلق الكثيرِ منَ الطعامِ القليلِ (3) - قدحٌ في صحَّتِها، وصِدقِ رُواتِها، وثبوتِ الحُجَّةِ
ص: 342
بها بلِ الشُّبهَةُ لهم في دفع ذلكَ - وإن ضَعُفَتْ - أقوى من شُبهةَ مُنكِري مُعْجِزاتِ أَميرِالمؤمنينَ عَلَیْهِ السَّلامُ وبراهينهِ، لما لا خفاءَ على أهلُ الاعتبار به، مِمَّا لا حاجة بنا إِلَى شرح وجوهه في هذا المكان.
وإذا ثبتَ تَخَصُّصُ أَميرِالمؤمنينَ عَلَیْهِ السَّلامُ من القَوْم بما وصفْناه، وبينونتهُ من الكافَّة في العَلِمَ بما شَرَحناه، وضح القول في الحُكمِ له بالتقدُّم على الجماعةُ في مقامُ الإمامة، واستحقاقِه السبقَ لهم إِلَى محلِّّ الرِئاسةِ، بما تضمَّنَه الذِّكرُ الحكيمُ من قصّة داود عَلَیْهِ السَّلامُ وطالوتَ ، حيثُ يقولُ اللهُ عزَّ اِسْمُهَ: «وَقٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمٰالِ قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَزٰادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَاَلْجِسْمِ وَاَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَاَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ) (1) فجَعَلَ تعالى الحُجَّةُ لِطالوتَ في تقدِّمه على الجماعةِ من قومهِ ما جَعَلَه لوَليِّه وأَخي نبيِّه عَلَیْهِما السَّلامُ في التقدُّم على كافَّة الأُمّة، من اصطفائه عليهم، وزيادته في العَلِمَ والجسم بسطة؛ وأكد ذلكَ بمثل ما تأكد به الحُكْمَ لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ من المعجز الباهر المضاف إِلَى البينونة من القَوْم بزيادة البسطةً في العَلِمَ والجسم، فقالَ سُبحانَه: (وَقٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّٰابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَآلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (2) فكانَ (3)
ص: 343
خَرْقُ العادةَ لأَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ بما عَدَدْناه -من عَلِمَ الغيوب وغير ذلكَ -كخَرْقِ العادةَِلطالوتَ بحملِ التابوتِ سواءً، وهذا بَيِّنٌ واللهُ وليُّ التوفيق.
ولا أَزالُ أَجِدُ الجاهلَ منَ الناصِبةِ والمعانَد يظَهَرَ العجبَ (1)منَ الخبرُ بمُلاقاةِ أَميرِالمؤمنينَ عَلَیْهِ السَّلامُ الجنِّ وكفَّه شرَّهم عن النبيِّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وأصحّابه، ويتضَاحَكُ لذلكَ ويَنْسبُ الروايةَ له إِلَى الخرافات الباطلةِ، ويصنعُ مثلُ ذلكَ في الأَخبار الواردة بسوى ذلكَ من معجزاته عَلَیْهِ السَّلامُ ويقول: إنّها من موضوعات الشِّيعة، وتَخَرُّص مَنِ افتراه منهم للتكسُّب بذلكَ أو التَّعصُّب، وهذا بعينه مقالَ (2)الزَّنادقةِ وكافَّة أَعداءِ الإسلام فيما نطقَ به القرآنُ من خبر الجنِّ وإسلامهم وقولهم (إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ) (3) وفيما ثبتَ به الخبرُ عن ابن مَسعُودٍ في قصّتهِ ليلة الجنِّ، ومشاهدته لهم كالزط (4)وفي غير ذلكَ من مُعْجِزاتِ الرَّسولِ عَلَیْهِ و آلهِ السَّلامُ، فإنّهم يظَهَرَون العجب من جميع ذلكَ، ويَتضاحَكونَ عندَ سماعِ الخبرِ به والاحتجاجِ بصحَّتهِ، ويَستهزِءونَ ويُلْغطُونَ فيما يُسرِفُونَ به من سَبَّ الإسلامِ وأَهلِه، واستحماق مُعتقِدِيه والنّاصِرينَ له، ونسبتِهِم إياهم إِلَى العجز والجهلِ ووضعِ الأباطيلِ، فلينظُرِ القَوْمُ ما جَنَوْه على الإسلام بعَداوتِهم أَميرِالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ واعتمادِهم في دفعِ فضائِله ومناقبِه وآياتِه على ما
ص: 344
ضاهوا به أَصنافِ الزَّنادقةِ والكفار، مِمَّا يخَرَجَ عن طريق الحجاج إِلَى أبواب الشغب والمسافهات (1)وبالله نستعين (2)
فصل
وممّا أظَهَرَه اللهُ تعالى من الأَعْلامِ الباهرةِ على يد أَميرُالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عَلَیْهِ السَّلامُ ما استفاضتْ به الأَخبارُ، ورواه عُلماءُ السِّيرةِ والآثارِ، ونظمت فيه الشُّعَراءُ الأشعار : رُجُوعُ الشمس له عَلَیْهِ السَّلامُ مرتين (3)في حياة النبيُّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ مرة وبعد وفاته مرة أخرى.
وكانَ من حديثِ رُجُوعِها عليه في المرَّةِ الأوّلَى مَا رَوَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ اَلنَّبِيِّ صلّی الله علیه وآله، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُوسَعِيدٍ اَلْخُدْرِيُّ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ اَلصَّحَابَةِ (4): أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَعَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ بَيْنَ يَدَيْهِ، إِذْ جَاءَهُ جَبْرَئِيلُ عَلَیْهِ السَّلامُ يُنَاجِيهِ عَنِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَمَّا تَغَشَّاهُ اَلْوَحْيُ تَوَسَّدَ فَخِذَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ عَنْهُ حَتَّى غَابَتِ اَلشَّمْسُ، فَاضْطُرَّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ لِذَلِكَ
ص: 345
إِلَى صَلاَةِ اَلْعَصْرِ جَالِساً يُومِئُ بِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ إِيمَاءً، فَلَمَّا أَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ قَالَ: لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَ فَاتَتْكَ صَلاَةُ اَلْعَصْرِ؟» قَالَ لَهُ: «لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُصَلِّيَهَا قَائِماً لِمَكَانِكَ يَا رَسُولَ، اَللَّهِ وَاَلْحَالُ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا فِي اِسْتِمَاعِ اَلْوَحْيِ» فَقَالَ لَهُ: «اُدْعُ اَللَّهَ لِيَرُدَّ عَلَيْكَ اَلشَّمْسَ حَتَّى تُصَلِّيَهَا قَائِماً فِي وَقْتِهَا كَمَا فَاتَتْكَ، فَإِنَّ اَللَّهَ يُجِيبُكَ لِطَاعَتِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فَسَأَلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَللَّهَ عَزَّ اِسْمُهُ فِي رَدِّ اَلشَّمْسِ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَتْ فِي مَوْضِعِهَا مِنَ اَلسَّمَاءِ وَقْتَ اَلْعَصْرِ، فَصَلَّى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ صَلاَةَ اَلْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا ثُمَّ غَرَبَتْ. فَقَالَتْ أَسْمَاءُ : أَمَ وَاَللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا لَهَا عِنْدَ غُرُوبِهَا صَرِيراً كَصَرِيرِ اَلْمِنْشَارِ فِي اَلْخَشَبَةِ (1) .
وكان رُجُوعُها عليه بعد النبيُّ صلّی الله علیه وآله: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ اَلْفُرَاتَ بِبَابِلَ، اِشْتَغَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِتَعْبِيرِ دَوَابِّهِمْ وَرِحَالِهِمْ، وَصَلَّى عَلَیْهِ السَّلامُ بِنَفْسِهِ فِي طَائِفَةٍ مَعَهُ اَلْعَصْرَ، فَلَمْ يَفْرُغِ اَلنَّاسُ مِنْ عُبُورِهِمْ حَتَّى غَرَبَتِ اَلشَّمْسُ فَفَاتَتِ اَلصَّلاَةُ كَثِيراً مِنْهُمْ، وَفَاتَ اَلْجُمْهُورَ فَضْلُ اَلاِجْتِمَاعِ مَعَهُ، فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ كَلاَمَهُمْ فِيهِ سَأَلَ اَللَّهَ تَعَالَى رَدَّ اَلشَّمْسِ عَلَيْهِ، لِيَجْتَمِعَ (2)كَافَّةُ أَصْحَابِهِ عَلَى صَلاَةِ اَلْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا، فَأَجَابَهُ اَللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَدِّهَا عَلَيْهِ، فَكَانَتْ (3)فِي اَلْأُفُقِ عَلَى اَلْحَالِ اَلَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا وَقْتَ اَلْعَصْرِ، فَلَمَّا سَلَّمَ بِالْقَوْمِ غَابَتْ فَسُمِعَ لَهَا وَجِيبٌ (4)شَدِيدٌ هَالَ اَلنَّاسَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُوا مِنَ
ص: 346
اَلتَّسْبِيحِ وَاَلتَّهْلِيلِ وَاَلاِسْتِغْفَارِ وَاَلْحَمْدِ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَتِهِ اَلَّتِي ظَهَرَتْ فِيهِمْ .
وسار خبر ذلكَ في الآفاق وانتشر ذكره في النّاس، وفي ذلكَ يقولُ السيّد بن محمّد الحميري رحمه الله:
ردت عليه الشمس لما فاته *** وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتّى تبلج نورها في وقتها *** للعصر ثُّمّ هوت هوي الكوكب
وعليه قد ردت ببابل مرة *** أخرى وما ردت (1)لخلق معرب
إلّا ليوشع أوّلَه من بعده *** ولردها تأوِيلُ أمر معجب
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ نَقَلَةُ اَلْأَخْبَارِ، وَاِشْتَهَرَ فِي أَهْلِ اَلْكُوفَةِ لاِسْتِفَاضَتِهِ بَيْنَهُمْ، وَاِنْتَشَرَ اَلْخَبَرُ بِهِ إِلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْبِلاَدِ، فَأَثْبَتَهُ اَلْعُلَمَاءُ مِنْ كَلاَمِ اَلْحِيتَانِ لَهُ فِي فُرَاتِ اَلْكُوفَةِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ رَوَوْا: أَنَّ اَلْمَاءَ طَغَى فِي اَلْفُرَاتِ وَزَادَ حَتَّى أَشْفَقَ أَهْلُ اَلْكُوفَةِ مِنَ اَلْغَرَقِ، فَفَزِعُوا إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ فَرَكِبَ بَغْلَةَ رَسُولِ اَللَّهِ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وَخَرَجَ وَاَلنَّاسُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى شَاطِئَ اَلْفُرَاتِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ وَأَسْبَغَ اَلْوُضُوءَ وَصَلَّى مُنْفَرِداً بِنَفْسِهِ وَاَلنَّاسُ يَرَوْنَهُ، ثُمَّ دَعَا اَللَّهَ بِدَعَوَاتٍ سَمِعَهَا أَكْثَرُهُمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى اَلْفُرَاتِ مُتَوَكِّئاً عَلَى قَضِيبٍ بِيَدِهِ حَتَّى ضَرَبَ بِهِ صَفْحَةَ اَلْمَاءِ وَقَالَ: «اُنْقُصْ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ» فَغَاضَ اَلْمَاءُ حَتَّى بَدَتِ اَلْحِيتَانُ مِنْ قَعْرِ اَلْبَحْرِ فَنَطَقَ
ص: 347
كَثِيرٌ مِنْهَا بِالسَّلاَمِ عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَنْطِقْ مِنْهَا أَصْنَافٌ مِنَ اَلسُّمُوكِ، وَهِيَ: اَلْجِرِّيُّ (1)وَاَلزِّمَّارُ (2)وَاَلْمَارْمَاهِي (3).
فَتَعَجَّبَ اَلنَّاسُ لِذَلِكَ وَسَأَلُوهُ عَنْ عِلَّةِ نُطْقِ مَا نَطَقَ وَصُمُوتِ مَا صَمَتَ، فَقَالَ: «أَنْطَقَ اَللَّهُ لِي مَا طَهُرَ مِنَ اَلسُّمُوكِ، وَأَصْمَتَ عَنِّي مَا حَرَّمَهُ وَنَجَّسَهُ وَبَعَّدَهُ» (4) . وهذا خبر مستفيض شُهرتُه بالنقل والرواية كشهرة كلام الذئب للنبيّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ وتسبيح الحصى بكفه (5)وحنين الجذع إليه وإطعامه الخلق الكثير من الطعام القليل. ومن رام طعنا فيه فهولا يجد من الشُّبهَةُ في ذلكَ إلّا ما يتعلق به الطاعنون فيما عَدَدْناه من مُعْجِزاتِ النبيُّ صلّی الله علیه وآله.
فصل
وقد روى حملة الأَخبار أيضاً من حديثٌ الثعبان والآية فيه والأعجوبة مثلُ ما رووه من حديثٌ كلام الحيتان ونقصان ماء الفرات.
وَرَوَوْا: أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ
ص: 348
اَلْكُوفَةِ، إِذْ ظَهَرَ ثُعْبَانٌ مِنْ جَانِبِ اَلْمِنْبَرِ فَجَعَلَ يَرْقَى حَتَّى دَنَا مِنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ :فَارْتَاعَ اَلنَّاسُ لِذَلِكَ، وَهَمُّوا بِقَصْدِهِ وَدَفْعِهِ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ، فَلَمَّا صَارَ عَلَى اَلْمِرْقَاةِ اَلَّتِي عَلَيْهَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ قَائِمٌ، اِنْحَنَى إِلَى اَلثُّعْبَانِ وَتَطَاوَلَ اَلثُّعْبَانُ إِلَيْهِ حَتَّى اِلْتَقَمَ أُذُنَهُ، وَسَكَتَ اَلنَّاسُ وَتَحَيَّرُوا لِذَلِكَ فَنَقَّ نَقِيقاً سَمِعَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ وَأَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَاَلثُّعْبَانُ كَالْمُصْغِي إِلَيْهِ، ثُمَّ اِنْسَابَ فَكَأَنَّ (1)اَلْأَرْضَ اِبْتَلَعَتْهُ، وَعَادَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ إِلَى خُطْبَتِهِ فَتَمَّمَهَا .
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَنَزَلَ اِجْتَمَعَ إِلَيْهِ اَلنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ حَالِ اَلثُّعْبَانِ وَاَلْأُعْجُوبَةِ فِيهِ فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَنْتُمْ، وَإِنَّمَا هُوَحَاكِمٌ مِنْ حُكَّامِ اَلْجِنِّ اِلْتَبَسَتْ عَلَيْهِ قَضِيَّةٌ فَصَارَ إِلَيَّ يَسْتَفْهِمُنِي عَنْهَا فَأَفْهَمْتُهُ إِيَّاهَا وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ وَاِنْصَرَفَ» (2) .
فصل
وربما استبعد جهال من النّاس ظُهُورُ الجنِّ في صور الحيوان الذي ليس بناطق، وذلك معروف عند العرب قبل البعثة وبعدها، وقد
ص: 349
تناصرتْ به أخبارُ أهلِ الإسلامِ، وليسَ ذلكَ بأبعدَ مِمَّا أجمع (1)عليه أهلُ القبلة من ظُهُورِ إبليسَ لِأهلِ دار الندوة في صورة شيخ من أهلُ نجد، واجتَمّاعه معهم في الرَّأْي على المكر برسول الله صلّی الله علیه وآله، وظُهُورُه يوم بدر للمشركينَ في صورةِ سُرَاقَةِ بن جُعْشُم المُدْلَّجي، وقوله: (لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَإِنِّي جٰارٌ لَكُمْ) (2) قالََ اللهُ عزَّ وجلَّّ فَلَمّٰا تَرٰاءَتِ اَلْفِئَتٰانِ نَكَصَ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وَقٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ وَاَللّٰهُ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ (3) .
وكلُّ من رَامَ الطّعنَ فيما ذكرْناه من هذهِ الأياتِ ، فإِنّما يُعوِّل في ذلكَ على الملحدةِ وأصنافِ الكفّارِ من مُخالفي الملّةِ ، وَيطعنُ فيها بمثلِ ما طعنوا به في آياتِ النّبيِّ صلّی الله علیه وآله؛ وكلهم راجعٌ إِلى طُعونِ البَراهِمة والزّنادِقةِ في آياتِ الرُّسلِ صلّی الله علیه وآله : ، والحجّة عليهم ثبوتُ النُّبوّةِ وصحّةُ المعجزِلرسُلِ اللهِ صلّى اللهُ عليهم.
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اَلْقَاهِرِ بْنُ عَبْدِ اَلْمَلِكِ بْنِ عَطَاءٍ اَلْأَشْجَعِيُّ، عَنِ اَلْوَلِيدِ بْنِ عِمْرَانَ اَلْبَجَلِيِّ ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: اِتَّهَمَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ اَلْعِيزَارُ بِرَفْعِ أَخْبَارِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَجَحَدَهُ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «أَ تَحْلِفُ بِاللَّهِ يَا هَذَا إِنَّكَ مَا
ص: 350
فَعَلْتَ ذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ وَبَدَرَ (1)فَحَلَفَ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَأَعْمَى اَللَّهُ بَصَرَكَ فَمَا دَارَتِ اَلْجُمُعَةُ حَتَّى أُخْرِجَ أَعْمَى يُقَادُ قَدْ أَذْهَبَ اَللَّهُ بَصَرَهُ (2) .
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍوقَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمِيرَةَ قَالَ: نَشَدَ عَلِيٌّ عَلَیْهِ السَّلامُ اَلنَّاسَ فِي قَوْلِ اَلنَّبِيِّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» فَشَهِدَ اِثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنَ اَلْأَنْصَارِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي اَلْقَوْمِ لَمْ يَشْهَدْ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «يَا أَنَسُ» قَالَ: لَبَّيْكَ قَالَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَشْهَدَ وَقَدْ سَمِعْتَ مَا سَمِعُوا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، كَبِرْتُ وَنَسِيتُ، فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ: «اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَاضْرِبْهُ بِبَيَاضٍ - أَوْ بِوَضَحٍ - لاَ تُوَارِيهِ اَلْعِمَامَةُ» قَالَ: طَلْحَةُ بْنُ عَمِيرَةَ: فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهَا بَيْضَاءَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (3) (4) .
ص: 351
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُوإِسْرَائِيلَ عَنِ اَلْحَكَمِ عَنْ أَبِي سَلْمَانَ اَلْمُؤَذِّنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: نَشَدَ عَلِيٌّ اَلنَّاسَ فِي اَلْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَنْشُدُ اَللَّهَ رَجُلاً سَمِعَ اَلنَّبِيَّ صلّی اللهُ علیهِ وآلهِ يَقُولُ مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ فَقَامَ اِثْنَا عَشَرَ بَدْرِيّاً سِتَّةٌ مِنَ اَلْجَانِبِ اَلْأَيْمَنِ وَسِتَّةٌ مِنَ اَلْجَانِبِ اَلْأَيْسَرِ فَشَهِدُوا بِذَلِكَ قَالَ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ فَكَتَمْتُهُ فَذَهَبَ اَللَّهُ بِبَصَرِي وَكَانَ يَتَنَدَّمُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اَلشَّهَادَةِ وَيَسْتَغْفِرُ (1) .
فصل
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (2)عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَبَايَةَ. وَمُوسَى بْنِ أُكَيْلٍ اَلنُّمَيْرِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مِيثَمٍ، عَنْ عَبَايَةَ. وَمُوسَى اَلْوَجِيهِيِّ (3)عَنِ اَلْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ
ص: 352
اَلْحَارِثِ. وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: شَهِدْنَا عَلِيّاً أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَیْهِ السَّلامُ عَلَى اَلْمِنْبَرِ يَقُولُ: «أَنَا عَبْدُ اَللَّهِ وَأَخُورَسُولِ اَللَّهِ، وَرِثْتُ نَبِيَّ اَلرَّحْمَةِ ، وَنَكَحْتُ سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ، وَأَنَا سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ، وَآخِرُ أَوْصِيَاءِ اَلنَّبِيِّينَ، لاَ يَدَّعِي ذَلِكَ غَيْرِي إِلاَّ أَصَابَهُ اَللَّهُ بِسُوءٍ»
فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ عَبْسٍ كَانَ جَالِساً بَيْنَ اَلْقَوْمِ: مَنْ لاَ يُحْسِنُ أَنْ يَقُولَ هَذَا؟ أَنَا عَبْدُ اَللَّهِ وَأَخُورَسُولِ اَللَّهِ، فَلَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ حَتَّى تَخَبَّطَهُ اَلشَّيْطَانُ، فَجُرَّ بِرِجْلِهِ إِلَى بَابِ اَلْمَسْجِدِ فَسَأَلْنَا قَوْمَهُ عَنْهُ فَقُلْنَا: هَلْ تَعْرِفُونَ بِهِ عَرْضاً قَبْلَ هَذَا؟ قَالُوا اَللَّهُمَّ لاَ (1) . قالَ الشيخ المفيد رضي الله عَنْهُ والأَخبار في أَمثالِ ما ذكرناه وأثبتناه يطول بها الكتاب وفيما أودعناه كتابنا هذا من جملتها غنى عما سواه والله نسأل التوفيق وإياه نستهدي إِلَى سبيل الرشاد (2)
ص: 353
باب
ذِكر أوّلَاد أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ وعددهم وأسمائهم ومختصر من أخبارهم
فأولادُ أميرِ المؤمنينَ صلواتُ الله عليهِ سبعةٌ وعشرونَ ولداً ذكراً وأُنثى : الحسنُ والحسينُ وزينبُ الكُبرى وزينبُ الصُّغرى المكنّاةُ أمّ كًلْثومَ ، أُمهم فاطمةُ البتولُ سيِّدةُ نساءِ العالمينَ بنتُ سيِّدِ المرسلينَ محمّدٍ خاتم النّبيِّينَ صلّی الله علیه وآله .
ومحمّدٌ المكنى أبا القاسمِ ، امُّهُ خَوْلةُ بنتُ جعفر بن قيس الحَنَفِيًةُ.
وعُمَرُ ورُقيةً كانا توأمَينِ ، وأُمًّهما أُمُّ حبيب بنتُ رَبيعةَ.
والعبّاسً وجعفر وعُثمانُ وعبدُ الله الشُهداءُ معَ أخيهمِ الحسينِ ابن عليٍّ صلواتُ الله عليه وعليهم بطفِّ كربلاءَ ، أُمهم أُمُ البنينَ بنتُ حِزَامَ بنِ خالدِ بنِ دَارم.
ومحمّدُ الأصغر المكًنّى أبا بكرٍ وعًبَيْدُاللهِ الشّهيدانِ معَ أخيهما الحسينِ عَلَیْهِ السَّلامُ بالطّفِّ ، أُمُّهما ليلى بنتُ مسعود الدّارميّةُ.
ويَحيى أُمُّه أسماءُ بنتُ عُمَيْس الخَثْعَمِيّةُ رضيَ اللّهُ عنها.
وأُمُ الحسنِ ورَمْلَةُ ، أُمهما اُمُ سعيدٍ بنتُ عُرْوة بن مَسْعودِ الثّقفيِّ.
ونَفِيْسةُ وزينبُ الصُّغرى ورُقَيّةُ الصغرى وأُمُّ هانئٍ وأُمُّ
ص: 354
الكِرام وجُمانةُ المكناةُ أُمَّ جَعْفَرٍ وأُمَامة وأمُّ سَلَمَةَ ومَيْمُوْنَةُ وخَديجةُ وفاطمة ، رحمةُ اللّهِ عليهنَّ لأمهاتٍ شتّى (1).
وفي الشِّيعةِ من يَذكرُ أنّ فاطمةَ صلواتُ الله عليها أسقَطَتْ بعدَ النّبي صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ ولداً ذكَراً كانَ سَمّاه رسولُ اللّهِ علیهِ السّلامُ _ وهوحملُ _ مُحَسِّنَاً (2) فعلى قولِ هذهِ الطّائفةِ أولادُ أَميرِ المؤمنينَ علیهِ السّلامُ ثمانيةٌ وعشرونَ ، واللّهُ أعلمُ (3).
ص: 355
(تَمّ الجزء الأوّلَ من كتاب الإرشاد في معرفة حجج الله تعالى على العباد، ويتلُوه في الجزء الثاني إن شاء الله باب ذِكر الأئمة علیهم السلام ، بعد أَميرُالمؤمنين عَلَیْهِ السَّلامُ وتاريخ مواليدهم، ودلَّائل إمامتهم ومدت خلافتهم، ووقت وفاتهم، وموضع قبورهم، وعدد أوّلَادهم، وطرف من أخبارهم صلوات الله عليهم وسلم تسليما كثيرا) (1)
ص: 356
مقدّمة المؤلّف 3
باب الخبرُ عن أَميرُالمؤمنين عليه السلام 5
اخباره عليه السلام بمقَتْلُه وعَلِمَه به 11
نعيه عليه السلام نفسه إِلَى اهله وأصحّابه قبل مقَتْلُه 13
ما جَاَءَ عن تآمر الخوارج لقَتْلُه عليه السلام 1علیهِ السّلامُ
الاخبار الدالة علي موضع قبره عليه السلام 23
باب طرف من اخبار أَميرُالمؤمنين عليه السلام 2صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
انه عليه السلام أوّلَ النّاس اسلاما 2صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
انه عليه السلام اعَلِمَ الصحابة ومبلغ عَلِمَه 33
فضله ومكانته ومكانة أهلُ بيته عليهم السلام 3علیهِ السّلامُ
حديثٌ الطائر ودلَّالته على منَزَلته عليه السلام 38
ما جَاَءَ في الخبرُ بَانَ محبته ايمان وبغضه كفر 3صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
ما روي عن انه وشيعته هم الفائزون 41
الاخبار الدالة على ان ولايته عَلِمَ على طيب المولد 43
تسمية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له بامير المؤمنين في حياته 45
حديثٌ الدار ومقامُه عليه السلام 4صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
مبيته عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 51
استخلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام في ردّ ودائعه 53
ارسال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام إِلَى بني جذيمة 55
انقياده المطلق عليه السلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قضية حاطب بن أبي بلتعة 56
تسلمه الرايةُ من سَعدُ بن عبادة يوم الفَتْحُ 60
اسلام همدان على يديه عليه السلام 62
ص: 35علیهِ السّلامُ
وقعة خَيْبَرُ وما بَانَ فيها من شجاعته وقوته عليه السلام 63
ابلاغه عليه السلام سورة براءة لمشركي قريش وغيرهم 65
فضل جهاده عليه السلام في تثبيت ركائز الإسلام 6علیهِ السّلامُ
غَزوة بدر وفضله عليه السلام في انتصار المسلمين 68
اسماء من قَتْلَهم عليه السلام في غَزوة بدر من المشركين علیهِ السّلامُ0
نتف مِمَّا روي عن دوره عليه السلام في غَزوة بدر علیهِ السّلامُ3
غَزوة أحدٌ وما ظَهَرَ فيها من عظيم فضله وشجاعته عليه السلام علیهِ السّلامُ8
نداء الملائكة في السماء يوم أحدٌ بفضله عليه السلام 8علیهِ السّلامُ
شجاعته الفائقة عليه السلام في مبارزة الابطال وقَتْلَهم 88
جملة ممّن قَتَلوا بسيفه عليه السلام في أحدٌ صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ0
ما جَاَءَ عنفضله عَلَیْهِ السَّلامُ ليه السلام في غَزوة بني النضير صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ2
غَزوة الأحزاب ودوره عليه السلام فيها صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ4
مبارزته عليه السلام لعَمْروُبن عَبْد ود وقَتْلُه صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ8
ارسال النبيُّ ّّ صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام إِلَى بني قريظة 10صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
غَزوة وادي الرَمْل وفعال أَميرُالمؤمنين عليه السلام فيها 113
ما جَاَءَ عنفضله عَلَیْهِ السَّلامُ ليه السلام في غَزوة بني المُصْطَلِق 118
صلح الحُدَيْبِيَّة وما بَانَ منفضله عَلَیْهِ السَّلامُ ليه السلام في هذا الامر 11صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
ما جَاَءَ عن شجاعته عليه السلام في الحُدَيْبِيَّة 121
غَزوة خَيْبَرُ وما بَانَ فيها منفضله عَلَیْهِ السَّلامُ ليه السلام دونَ الجميع 124
فتح مكّة وبلاء أَميرُالمؤمنين عليه السلام فيه 130
مقدم أبي سُفيان إِلَى المدينة، وتوسله بأَميرُالمؤمنين وأهل بيته عليهم عليهم السلام 132
دخول أَميرُالمؤمنين عليه السلام مكّة برايةُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 134
قَتْلُه عليه السلام للمشركين الذين كانوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 136
ذِكر ارسال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام إِلَى بني جذيمة 13صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
ما بَانَ من فضله وشجاعته عليه السلام في غَزوة حنين 140
تقسيم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لغنائم حنين واعتراض بعض الأَنّصار 145
ص: 358
اشارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِلَى قَتَل عليّ عليه السلام للخوارج من بعده 148
ارسال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام لتحطيم الأصنام 152
غَزوة تبوك واستخلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام في المدينة 154
قدوم عَمْروُبن معَدِيّ كرب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 158
مبارزة عليّ عليه السلام لعَمْروُبن معَدِيّ كرب وقَتْلُه 160
خبر بريدة الاسلمي وزجر النبيُّ ّّ صلّى اللّه عليه وآله له 160
غَزاة السلسلة وما بَانَ فيها منفضله عَلَیْهِ السَّلامُ ليه السلام دونَ باقي الصحابة 162
قدوم وَفْدَ النصارى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 166
استصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أهلُ بيته عليهم السلام للمباهلة مَعَ نصارى نَجْران 16علیهِ السّلامُ
كتاب صلح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مَعَ نصارى نَجْران 16صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
ذِكر حُجَّةَ الوداع ولحاق أَميرُالمؤمنين عليه السلام برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 1علیهِ السّلامُ0
مخالفة عمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في امر متعة الحجّ 1علیهِ السّلامُ4
نزول آية التبليغ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بحق علي عليه السلام 1علیهِ السّلامُ5
تبليغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المسلمين باستخلافه لعلي عليه السلام 1علیهِ السّلامُ6
شعر حسان بن ثابت بعد مبايعة المسلمين لعلي عليه السلام بالخلافةُ 1علیهِ السّلامُعلیهِ السّلامُ
استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لاهل البقيع 181
مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واخباره المسلمين بأوان رحيله 182
تأكيده صلّى اللّه عليه وآله على صحابته بانفاذ جيش أسامة بن زيد 184
طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دواة وكتف واعتراض عُمَربن الخَطّاب 184
ايصاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّا عليه السلام بقضاء دينه بعد وفاته 185
ص: 35صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
دفعه صلّى اللّه عليه وآله بخاتَمّه وسيفه ودرعه ولامته لعلي عليه السلام 185
اعراضه صلّى اللّه عليه وآله عن أبي بكر وعمر 186
مناجاته صلّى اللّه عليه وآله عَلِيَّاً قبل وفاته 186
اشتداد المرض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 186
وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله 18علیهِ السّلامُ
اخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فاطمة عليها السلام بانها أوّلَ أَهَّلَه لحوقا به 18علیهِ السّلامُ
قيام الإمام عليّ عليه السلام بتغسيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتحنيطه وتكفينه 18علیهِ السّلامُ
قرار الإمام عليّ عليه السلام بدفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في بيته 188
تدبير البيعة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة 18صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
محاولة ابي سُفيان اثارة الفتنة بين المسلمين 1صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ0
لجوء كبار الصحابة إِلَى عليّ عليه السلام في حل معضلات الأُمور 1صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ2
دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له عليه السلام في ان يهدي اللّه قلبه ويثبت لسانه 1صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ4
انفاذه عليه السلام من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للقضاء في اليمن 1صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ5
جانب من قضاياه عليه السلام في اليمن 1صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ5
طرف من أخبار قضائه عليه السلام في إمارة أبي بكر 1صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِصلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
ما جَاَءَ من قضاياه عليه السلام في امارة عُمَربن الخَطّاب 202
ما جَاَءَ من قضاياه عليه السلام في امارة عثُّمّان بن عفان 210
جملة مِمَّا روي عن قضاياه عليه السلام في أيّام خلافته 212
في مختصر من كلامه عليه السلام 223
من كلامه عليه السلام في وجوب المعرفة باللّه والتوحيد له 223
من كلامه عليه السلام في مدح العُلِمَاءُ وتصنيف النّاس 22علیهِ السّلامُ
من كلامه عليه السلام في الدعاء إِلَى معرفته وبيان فضله 22صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
من كلامه عليه السلام في صفة العالم وادب المتعَلِمَ 230
ص: 360
من كلامه عليه السلام في أهلُ البدع 231
من كلامه عليه السلام في صفة الدُّنيا والتحذير منها 233
من كلامه عليه السلام في التزود للآخرة 234
من كلامه عليه السلام في التزهيد في الدُّنيا 234
من كلامه عليه السلام في ذِكر خيار الصحابة وزهّادهم 236
من كلامه عليه السلام في صفة شيعته المُخْلِصين 23علیهِ السّلامُ
من كلامه عليه السلام ومواعظه وذكره للموت 238
من كلامه عليه السلام في الدعاء إِلَى نفسه 23صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
من مختصر كلامه عليه السلام في الدعاء إِلَى نفسه وعترته 241
من كلامه عليه السلام حين تخلف بعض الصحابة عن بيعته 243
من كلامه عليه السلام عند نكث طَلْحة والزبير بيعته 244
من كلامه عليه السلام عند ما اتصل به خبر مسير عائشة وجماعتها إِلَى البصرة 246
من كلامه عليه السلام في الربذة عند توجهه إِلَى الشام 24علیهِ السّلامُ
من كلامه عليه السلام عند لقائه أهلُ الكوفة بذي قار 24صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
من كلامه عليه السلام حين نهض من ذي قار متوجها إِلَى البصرة 251
من كلامه عليه السلام حين دخل البصرة 252
من كلامه عليه السلام حين قَتَل طَلْحة وانفض أهلُ البصرة 253
من كلامه عليه السلام عند تطوافه على قَتَلى أهلُ الجمل 254
من كلامه عليه السلام بالبصرة حين ظَهَرَ على القَوْم 25علیهِ السّلامُ
كتابه عليه السلام بالفَتْحُ إِلَى أهلُ الكوفة 258
من كلامه عليه السلام حين قدم الكوفة من البصرة 25صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
من كلامه عليه السلام لما عزم على المسير لقتال معاوية 260
من كلامه عليه السلام ردا على أقاويل معاوية وأهل الشام 264
من كلامه عليه السلام في تحضيضه على القتال يوم صفّين 265
من كلامه عليه السلام اثناء صفّين 26علیهِ السّلامُ
من كلامه عليه السلام حين رجع أصحّابه عن القتال بصفين 268
من كلامه عليه السلام بعد كتابة الصلح مَعَ معاوية 26صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
ص: 361
من كلامه عليه السلام مَعَ الخوارج حين رجع إِلَى الكوفة 2علیهِ السّلامُ0
من كلامه عليه السلام حين نقض معاوية العهد 2علیهِ السّلامُ1
من كلامه عليه السلام في استنفار أهلُ الكوفة 2علیهِ السّلامُ2
من كلامه عليه السلام في استبطاء من قعد عن نصرته 2علیهِ السّلامُ3
من كلامه عليه السلام لما نقض معاوية شرط الموادعة 2علیهِ السّلامُ5
من كلامه عليه السلام في حث أهلُ الكوفة على الجهاد 2علیهِ السّلامُعلیهِ السّلامُ
من كلامه عليه السلام في ذمّ تقاعس أهلُ الكوفة عن الجهاد 2علیهِ السّلامُ8
من كلامه عليه السلام في تظلمه من اعدائه 284
من كلامه عليه السلام عند الشورى وفي الدار 285
خَطَبَته المسماة بالشقشقية 28علیهِ السّلامُ
من كلامه عليه السلام في تحذير قومه 2صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ0
من كلامه عليه السلام عن عدول الامر عن أهلُ البيت عليهم السلام 2صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ4
من كلامه عليه السلام في الحُكمِ ة والموعظة 2صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ5
من كلامه عليه السلام في وصفِّ الإنسان 301
مشابهته عليه السلام في كراماته للأَنّبياء عليهم السلام 305
ما تَمّيز به عليه السلام من شجاعة لا تقارن 30علیهِ السّلامُ
اضطرار اعدائه إِلَى الاعتراف بمناقبه ونشرها 30صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
عكوف اعدائه على محاربة ولدِه وذريته بغضا له عليه السلام 311
ما جَاَءَ عَنْهُ عليه السلام من اخبار بالغائبات وتحقّق ذلكَ 312
اشارته عليه السلام إِلَى قدوم وَفْدَ الكوفة لمبايعته 315
تحذيره لجماعته من سوء الاستجابة لاهل الشام 316
حديثٌه عليه السلام عن مصير الخوارج ومقَتْلَهم 316
ما رواه جندب الأزديّ عَنْهُ عليه السلام في النهروان 31علیهِ السّلامُ
اخباره عليه السلام بمقَتْلُه وكيفيته 31صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
دعاؤه عليه السلام على بسر بن ارطاة 321
اشارته عليه السلام إِلَى ما يبتلى به شيعته من بعده 322
اخباره عليه السلام جويرية بن مسهر بمقَتْلُه وكيف يكون 322
ص: 362
حديثٌه عليه السلام مَعَ ميثُّمّ التَمّار وما جرى عليه بعد ذلكَ 323
مقَتَل رشيد الهجري كما اخبر بذلكَ الإمام عليه السلام 325
حديثٌ مزرع بن عَبْد اللّه عن اخبار أَميرُالمؤمنين عليه السلام بالغيبيات 326
قَتَل الحجاج بن يوسف لكميل بن زياد 32علیهِ السّلامُ
مقَتَل قنبر بيد الحجاج كما اخَبَرُه الإمام عليه السلام 328
اخباره عليه السلام بدخول حبيب بن جماز المسجد برايةُ ابن زياد 32صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
قوله عليه السلام سلوني قبل ان تفقدونَي 330
اخباره عليه السلام البراء بعدم نصرته للامام الحسين عليه السلام 331
مروره عليه السلام بكربلاء واشارته إِلَى وقعة الطف 332
جانب مِمَّا روي من كراماته العظيمة 333
قلعه عليه السلام لباب خَيْبَرُ ودحوه به على الأَرض 333
حديثٌ الراهب بأرض كربلاء وما قيل في ذلكَ 334
مواجهته عليه السلام لطوائف من الجنِّ وانهزامهم امامه 33صلّی اللّهُ علیهِ وآلهِ
قصة ردّ الشمس له عليه السلام 345
ما روي عن طغيان ماء الفرات في خلافته عليه السلام 34علیهِ السّلامُ
حديثٌ الثعبان وما روي عن فضل أَميرُالمؤمنين عليه السلام فيه 348
ما روي عن اصابة العيزار بالعمى لكذبه على أَميرُالمؤمنين عليه السلام 350
دعاء أَميرُالمؤمنين عليه السلام على انس بن مالك 351
توقف زيد بن أرقم عن الشهادة لأَميرُالمؤمنين عليه السلام واصابته بالعمى 352
ما اصاب رجلّاً استخف بقول أَميرُالمؤمنين عليه السلام 352
ذِكر أوّلَاد أَميرُالمؤمنين عليه السلام 354
ص: 363