المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1423 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-354-3
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف: آية اللّه العلامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375ه- )
الجزء الاول
تحقيق : موسسۀ آل البیت لاحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1438 ه - 2017م
موسسة آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صيدلية دياب - ط 2
تلفاكس : 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - حرب : 24/34
البريد الإلكتروني alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بسم اللّه الرحمن الرحیم
ص: 4
بقلم السيّد على الحسيني الميلاني
بسم اللّه الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين .
أما بعد ..
فقد كنت سجّلت سابقاً ملحوظات على كتاب ابن روزبهان في الردّ على نهج الحق للعلامة الحلّي رحمه اللّه تعالى ، فلما عزمَتْ مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث على تحقيق كتاب دلائل الصدق لنهج الحق
طلبت مني تنظيم تلك الملحوظات وترتيبها، لتكون مقدّمة له ، فأجبت
ص: 5
الطلب أداءً لبعض ما وجب ..
وكان عنوان ما كتبته : أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان ، و هو يشتمل على مطالب تمهيدية في أصول البحث والمناقشة، وفي علم الكلام، وفي خصوص الإمامة ، ثم دراسات في مباحث الإمامة من كتاب ابن روزبهان ، فأقول وباللّه التوفيق :
إن صاحب أية فكرة أو عقيدة أو رأي يرى من حقه الطبيعي أن ينشرها بين الناس ويدعو الآخرين إليها ..
إلا أن لتقدّمه ونجاحه في مشروع الدعوة هذه شروطاً ، كما أن دعوته إلى فكره بحاجةٍ إلى أدوات .. لا سيما إذا كان في مقابل رأيه رأي آخر وله أتباع يدعون إليه .. فيقع الصراع العقيدي والفكري بين الجانبين ، لأنّ كلّاً منهما يدعي الحق والصواب ، ويحاول التغلب على الآخر والسيطرة عليه فكرياً .
إن للتغلب في ميدان الصراع العقيدي أصولاً وأدواتٍ تختلف عنها في ميدان الحرب والمواجهة العسكرية .. نوضحها في ما يأتي :
لقد وضع العقلاء - وهم أصحاب الأفكار والآراء - حدوداً وقيوداً للصراع في هذا المجال ، وأسسوا للغلبة فيه أُسساً جعلوها المعيار والميزان للرضوخ لفكر أو لرفض فكر آخر ... فكانت أساليب «الجدل» التي بحث عنها ونقحت مسائلها في كتب المنطق .
ولقد أحسنوا في اختيار هذا المصطلح لهذا العلم أو لهذه الصناعة ،
ص: 6
لشدّة ارتباط المعنى اللغوي للكلمة بالغرض المنطقي منها ..
قال الراغب الأصفهاني : «الجدال : المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل ، أي : أحكمت فتله ، ومنه الجديل ، وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة ، والأجدل : الصقر المحكم البنية ، والمجدل : القصر المحكم البناء .
ومنه : الجدال ، فكأن المتجادلين يقتل كلّ واحدٍ الآخر عن رأيه .
وقيل : الأصل في الجدال الصراع، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة ، وهي الأرض الصلبة»(1)
ولقد أقرت الأديان السماوية أسلوب «الجدل» وأتخذه الأنبياء السابقون طريقاً من طرق الدعوة .. وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من ذلك كما سيأتي ..
وأما نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلّم، ففى الوقت الذي أُرسل كما خاطبه اللّه عزّ وجلّ في الآية المباركة : «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا »(2) فقد حدّد له كيفية الدعوة وأداتها بقوله له :«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » (3) ثمّ أمره بالجدال حين يكون هناك جدال منهم ، فقال بعد
ص: 7
ذلك : (« وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (1)
وفي الجملة ، فإنّ الوظيفة الأولية هي البلاغ والدعوة إلى سبيل اللّه ، فإن كان هناك من تنفعه الحكمة فيها، وإن كان من عموم الناس فبالنصيحة والموعظة الحسنة ، فإن وجد في القوم من يريد الوقوف أمامه أو التغلّب عليه وجب عليه جداله .
ولعل المقصود - هنا - أهل الكتاب ، كما في الآية الأخرى : «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(2).
وعلى ضوء ما تقدّم، فإن الجدال قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً، قال تعالى : « وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ »(3)
وهناك في القرآن الكريم موارد من تعليم اللّه سبحانه النبي الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم طريقة الاستدلال ، ففي سورة يس مثلاً :«وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (4)
وفي سورة البقرة : «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
ص: 8
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» ((1))
وفي سورة البقرة أيضاً :«قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» .(2) .
وفي سورة المائدة :«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3)
وفي سورة المائدة أيضاً :«وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ...»(4)
في سورة الأنعام : «قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا...»(5)
وفي سورة الأنبياء : «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ *لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ...»(6)
كما جاءت في القرآن الكريم موارد كثيرة من مجادلات واحتجاجات
الأنبياء السابقين
ص: 9
ففي قضايا إبراهيم عليه السلام .. قال تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (1)
وقال تعالى : «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ»(2)
وقال سبحانه وتعالى : «قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ*ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ*قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ »(3)
وفي قضايا نوح عليه السلام .. قال تعالى : «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ...قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ...»(4)
وهكذا .. في قضايا سائر الأنبياء ، صلوات اللّه وسلامه عليهم
ص: 10
أجمعين .
ثمّ إنّه قد جاء التعبير عن الجدال بالباطل» ب- «الجدال بغير سلطان» في قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ» (1)و «السلطان» هو «الحجّة» سمّيت به لسيطرتها وتسلّطها على القلوب (2).
ومنه يُفهم أنّ المراد من «الجدال بالحق»، هو «الجدال بالحجّة» .
لكنّ «الحجّة» إنّما يحصل لها «السلطان» على القلوب إذا كانت «بالتي هي أحسن»(3) فلذا أمر اللّه تعالى بذلك ..
وفي هذا إشارة إلى آداب البحث والمناظرة والجدل ..
لقد فسرت الكلمة ب- الطريقة التي هي أصلح وأقرب للنتيجة والنفع (4) . . وهو تفسير صحيح يتناسب مع المواضع المختلفة التي استعملت فيها الكلمة في القرآن الكريم..
قال تعالى :«وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ »(5)
ص: 11
أي : بالطريقة التي هي أعود وأنفع له(1) .
وقال تعالى : «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ » (2).
أي : بأن يتكلموا مع المشركين بالطريقة التي لا تعود بالفائدة على الشيطان في تحصيل مقاصده من الوقيعة بين المؤمنين وبين المشركين (3)
فاللّه سبحانه يريد من المؤمنين أن يكون جدالهم مقروناً بما يعينهم في إقامة الحجّة وإفحام الخصوم وظهور الحق على الباطل .
وتلخص : إن الجدال المقبول شرعاً وعقلاً هو : الجدال ب- : الحجّة المعتبرة ، مع رعاية الآداب
و «الحجة المعتبرة عند المسلمين كافّة هو « القرآن الكريم» و «السنّة النبوية» .. وهم في كلّ مسألة يقع الجدال بينهم فيها يرجعون إلى الكتاب والسنة ، وهذا ما أمر به اللّه تعالى إذ قال :
...« فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»(4)
وقال : «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا »(5)
ص: 12
وقال :«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ »(1)
فكل «شيء» وقع التنازع فيه بين الأُمّة ، وكل أمر «شجر» بينهم، يجب ردّه إلى « اللّه والرسول » ، وماكان لاحدمنهم« إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» بل« وربك»انهم«لایومنون» حتى يحكموا النبي ، « ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا »مِمَّا قَضَيْ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ».
إن الرجوع إلى القرآن الكريم واضح لا لبس فيه، فالقرآن نزل ب«لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ » (2) ، فإن أمكن استظهار معنى اللفظ فيه ولو بمراجعة المعاجم اللغوية والكتب المعدة لمعاني ألفاظه فهو .. وإلا وجب الرجوع إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المبعوث به إلى الأمة .
فالمسلمون يحتاجون إلى السُنّة النبوية المعتبرة، لكونها المصدر الثاني ، ولكونها - أيضاً - المرجع لفهم ما أغلق من ألفاظ القرآن ، ومعرفة قيد ما أطلق ، أو المخصص لما ورد ظاهراً في العموم فيه ، وهكذا ..
ف «الحجّة المعتبرة »في مقام «الجدل» هي «الكتاب والسُنّة» . أمّا« الكتاب» فلا ريب في حجيته، والمسلمون متفقون على تصديقه ، والاحتجاج به في الخصومات .
وأتفقوا أيضاً على حجّيّة «السُنّة» ووجوب تصديقها والاحتجاج بها ، في كل باب ، لكنّهم مختلفون في طريق ثبوتها .. كما هو معلوم ..
ص: 13
ومن هنا وجب على «المجادل» أن يحتج منها بما هو حجّةً على الطرف الآخر ..
وبعبارة أخرى، فإن احتجاج المسلمين بعضهم على بعض في المسائل المختلفة يدور في الأغلب مدار القرآن والسنة ، أما القرآن فقد اتفقوا على حجّيّته ، وأمّا السُنّة فمنها ما اتفقوا على تصديقه، فيكون مرجعاً في الخصومة ، ومنها ما اختلفوا فيه وفي هذا القسم لا بد من أن يحتج كل بما يصدّقه الآخر ، وإلا لم تكن «حجّة معتبرة» ، وهذا أمر مسلَّم به عند الكل ، ونكتفي هنا بإيراد تصريح به من أحد مشاهير العلماء : قال ابن حزم الأندلسي - في معرض الحديث عن احتجاج أهل السُنّة على الإمامية - :
«لا معنى لاحتجاجنا عليهم ،برواياتنا، فهم لا يصدقونها ، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم، فنحن لا نصدقها ، وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به ، سواء. صدقه المحتج أو لم يصدقه ؛ لأنّ من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير حينئذ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه» (1) .
فهذه هي« الحجّة المعتبرة عند الجدل بالحق».
وأما الآداب التي يجب على الطرفين الالتزام بها - في الجدل المقصود
ص: 14
منه تحرّي الحقِّ والوصول إلى الحقيقة - مضافاً إلى الحجّة المعتبرة ، تلك الآداب التي جاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم « بالتي هي أحسن » (1)
فأهمها :
1 - أن يُدلي برأيه والحجّة المعتبرة عنده بكل رفق وسكينة ووقار .
2 - أن يختار لمطلبه الألفاظ الواضحة والعبارات الجميلة .
3 - أن يجتنب السب والشتم .
4 - أن يجتنب الأساليب الملتوية ، والخروج عن البحث ، بما يشوّش على الخصم فكره .
5 - أن لا يتصرّف في كلام الخصم بزيادة فيه أو نقصان ، ولا ينسب إليه شيئاً لا يقول به أو حجّةً لا يعتبرها.
هذا إذا كان البحث والجدل بالكتابة .
وأما إذا كان بالقول، فيضاف إليها آداب أخرى ، كأن لا يقاطعه كلامه ، وأن لا يرفع صوته إلا بالمعروف ..
هذا، وقد تحصل مما ذكرنا أن الجدل قد يكون بالحق ، وقد يكون بالباطل ، والجدل بالحقِّ هو إقامة الحجّة المعتبرة عند الطرفين أو عند الطرف الآخر ، مع رعاية الآداب والأخلاق السامية.
ولم نكن - في البحث الذي عرضناه على ضوء آيات القرآن الكريم - بصدد التحقيق عن أن «علم الجدل » هو « علم المناظرة»، أو أن الأوّل هو العلم الباحث عن الطرق التي يُقتدر بها على إبرام ونقض حجّة الخصم ،
ص: 15
والثاني هو العلم الباحث عن آداب المناظرة والبحث ، فإن العلماء اختلفوا في هذا المطلب، لكنّه لا يعنينا الآن .. كما إنا لم نفرّق هنا بين «الجدل» وبين «الاحتجاج» وبين «المناظرة»، فليتنبه إلى ذلك .
قد أشرنا إلى أن« علم الجدل» لا يختص بمطلب دون غيره، أو مسألة دون أخرى ، فإنّه علم يستعمل في شتّى المسائل الخلافية ، من فقه وحديثٍ وفلسفة واقتصاد وسياسة ... وغيرها من العلوم ، إذ يقيم كلّ ذي رأي حجّته المعتبرة على دعواه وما يتبنّاه ، ثمّ يتناظران طبق القواعد المقررة والأصول المؤسسة ، حتى يتميّز الحق عن الباطل ، والصواب من الخطأ.
ومن العلوم التي كثر الجدل في مسائلها وما يزال هو : «علم الكلام» .
والظاهر أن لا اختلاف كبير بين العلماء في تعريف علم الكلام ،وفائدته ، والغرض من وضعه وتأسيسه .
قال القاضي عضد الدين الإيجي :(1)
ص: 16
الكلام : علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه».
قال : «وفائدته أمور :
الأوّل : الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان .
الثاني : إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجّة ، وإلزام المعاندين بإقامةالحجه.
الثالث : حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين .
الرابع : أن يبنى عليه العلوم الشرعية فإنّه أساسها .
الخامس : صحة النية والاعتقاد، إذ بها يرجى قبول العمل .
قال :
وغاية ذلك كلّه : الفوز بسعادة الدارين» (1) .
وقال سعد الدين التفتازاني(2):
ص: 17
الكلام» هو : العلم بالعقائد الدينية عن الأدلّة اليقينية».
قال :« وغايته : تحلية الإيمان (بالإيقان».
ومنفعته : الفوز بنظام المعاش ، ونجاة المعاد» (1)
• والفياض اللاهيجي (2)، شارح التجريد من أصحابنا ، ذكر كلا التعريفين في كتابه شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام (3).
فالغرض الذي من أجله وُضع علم الكلام من قبل علماء الإسلام هو إقامة الحجة المعتبرة من العقل والنقل «بالتي هي أحسن »على أصول الدين ، إرشاداً للمسترشدين، وإلزاماً للمعاندين، ولتحفظ به قواعد الدين
ص: 18
عن أن تزلزلها شبه المبطلين ، ولأن العقائد الدينية هي الأساس للعلوم الشرعية والأحكام العملية ، فمَن صحت عقائده قبلت أعماله الشرعية ، وكيف تُقبل الأعمال عن العقائد الباطلة أو ممّن هو في شك من أمر
دینه ؟!
فعلم الكلام - بالنظر إلى موضوعه - من أهم العلوم الضرورية للأمة ؛ لأنه المتكفّل لبيان ما على المكلَّفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية ، كما أن علم الفقه يتكفّل بيان ما يجوز وما لا يجوز عليهم من الناحية العملية ، مع جواز التقليد فيه .
وكما أن بقاء الشريعة المقدّسة في أحكامها الفرعية بعلم الفقه وجهود الفقهاء فيه ، كذلك علم الكلام وآثار المتكلمين في الحفاظ على الأصول الاعتقادية .
على إن من الواضح أنه إذا استوعب الإنسان الأدلة والبراهين على المعتقدات الحقة الصحيحة ، تمكن من الدفاع عنها والإجابة عن الشبهات المطروحة حولها ، بل ودعوة الآخرين إليها بالقلم واللسان ..
ومن هنا كثر اهتمام العلماء بهذا العلم ، وكثرت الكتب المؤلّفة فيه من مختلف المذاهب الإسلامية ..
وهذه أسماء بعض الكتب المؤلّفة فى أصول الدين من قبل علماء الإمامية في مختلف القرون :
1 - أوائل المقالات : للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن
ص: 19
النعمان البغدادي ، الملقب بالمفيد ، المتوفى سنة 413 .
2 - الذخيرة في علم الكلام : للسيّد المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي البغدادي ، المتوفى سنة 436 .
3 - تقريب المعارف : للشيخ أبي الصلاح تقي الدين الحلبي ، المتوفى سنة 447 .
4 - كنز الفوائد : للشيخ أبي الفتح الكراجكي ، المتوفى سنة 449 .
5 - الاعتقاد الهادي إلى طريق الرشاد : للشيخ أبي جعفر الطوسي، المتوفى سنة 460 .
6 - الاعتصام في علم الكلام : للشيخ زين الدين علي بن عبد الجليل البياضي ، من علماء القرن السادس .
7 - المنقذ من التقليد : للشيخ سديد الدين محمود الحمصي الرازي ، من علماء القرن السادس.
8 - التجريد : للشيخ نصير الدين محمّد بن محمد الطوسي، المتوفى سنة 672 .
9 - المسلك في أصول الدين : للشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر ابن الحسن ، المحقق الحلّي، المتوفى سنة 676 .
10 - قواعد المرام في علم الكلام للشيخ كمال الدين ميثم بن علي ابن ميثم البحراني ، المتوفى سنة 679 .
11 - مناهج اليقين في أصول الدين . -
12 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد
ص: 20
13 - نهج الحق وكشف الصدق .
14 - نهج المسترشدين في أصول الدين .
15 - الباب الحادي عشر ، في أصول الدين .
والخمسة الأخيرة كلّها للشيخ أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي، المتوفى سنة 726 ، وله كتب أخرى في أصول الدين غير ما ذُكر .
ومن أشهر كتب أهل السنّة في أصول الدين :
1 - تمهيد الأوائل : للباقلاني
2 - الأربعين في أصول الدين : للفخر الرازي .
3 - العقائد : للنسفي .
4 - شرح العقائد النسفية : للتفتازاني .
5 - المواقف في علم الكلام : للإيجي .
شرح المواقف : للشريف الجرجاني .
7 - شرح المقاصد : للتفتازاني .
8 - الإبانة عن أصول الديانة : للأشعري .
9 - بحر الكلام : للنسفي .
10 - الصحائف : للسمرقندي .
11 - طوالع الأنوار : للبيضاوي .
ص: 21
12 - زبدة الكلام : لصفي الدين الهندي الأرموي .
13 - أبكار الأفكار: للآمدي .
14 - مشارق النور : لعبد القادر البغدادي .
15 - شرح التجريد : للعلاء القوشجي .
وموضوعات كتب أصول الدين في الأصل هي : إثبات الصانع وصفاته ، ومسائل العدل، ثمّ النبوة والإمامة ، والمعاد .
إلا أن مناهج المتكلمين في كتبهم في أصول الدين مختلفة ، ولكنّ المتعارف بينهم إيراد مسائل من باب المقدّمة، تتعلّق بالمعلوم، فيقسمونه إلى الموجود والمعدوم ، ثمّ يقسمون الموجود إلى الممكن والواجب ، والممكن ينقسم إلى الجوهر والعرض ، ثمّ يذكرون ما للجوهر والعرض من الأحكام أو الأقسام.
ثمّ يشرعون في إثبات واجب الوجود .. ثم يبحثون عن صفاته تعالى ، من القدرة ، والعلم ، والحياة ، والإرادة ، والإدراك ، والتكلّم ... وعمّا يستحيل عليه من الصفات ، كالمماثلة لغيره ، والتركب ، والتحيّز ، وقيام الحوادث به، واستحالة رؤية غيره له سبحانه ...
ثم يدخلون في مسائل العدل، ويتعرّضون هنا لمسألة الحسن والقبح
العقليّين ، وللجبر والاختيار...
ثمّ يأتي دور مباحث النبوة ، وصفات النبي، من العصمة ونحوها، ويبحثون في الإمامة بعد النبوة ، فتطرح هنا جميع المسائل الخلافية في
ص: 22
الإمامة والإمام بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
ثمّ يبحثون عن المعاد، في مسائل كثيرة ..
وإذا عرفنا موقع علم الكلام في الإسلام ، ومدى تأثيره في حفظ الدين والشريعة المقدّسة ، فسوف يكون من المقطوع به ضرورة تعلّم هذا العلم وتطويره ونشره ، فكيف يصح القول حينئذ بأنّ علم الكلام من أسباب هزائم المسلمين أمام أعداء الإسلام ؟!
فإنه طالما بُنيت الأصول الاعتقادية على الحقِّ، وأسست على الكتاب والسنة الصحيحة والعقل السليم، ثمّ قصد بالبحث عنها الوصول إلى الحقيقة والواقع في كلّ مسألة خلافية ، مع التزام الباحث - لا سيما في رحلة إقامة الحجّة على الغير - بالعدل والإنصاف والأخلاق الكريمة والقواعد المقرّرة للمناقشة والمناظرة ، هذه الأمور التي أشار إليها القرآن بقوله : «بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » ، كان علم الكلام من خير أسباب صمودنا وثباتناأمام الأعداء ، ووحدتنا فيما بيننا .
أما إذا كان الغرض من علم الكلام والاستفادة منه هو التغلب على الخصم - ولو بالسب والشتم - فلا شك أن هذا الأسلوب فاشل ، وأنّه سيؤدي إلى تمزق المسلمين وتفرّق صفوفهم ، وإلى الهزيمة أمام الأعداء .
فالقول بأنّه «لقد فشل أسلوب علم الكلام حتى الآن» وأنّه «أحد أسباب هزائمنا » (1) على إطلاقه ليس بصحيح .
ص: 23
وفي الجملة ، فإنّ علم الكلام من العلوم الإسلامية الأساسية، ولم يكن العلم في يوم من الأيام من أسباب ضعف المسلمين وهزيمتهم ، بل كان - متى ما استخدم على حقيقته وأتبعت أساليبه الصحيحة - من أسباب وحدة المسلمين ورص صفوفهم وصمودهم أمام الخصوم .
إنا لا ننكر أن بعض المتكلمين اتخذوا علم الكلام وسيلة لتوجيه عقائدهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة ، إلا أن هذا لا يختص بعلم الكلام ، فقد اتَّخِذ غيره من العلوم الإسلامية وسيلة للأهداف والأغراض المخالفة للحق والدين ، وهذا لا يسوّغ اتّهام « العِلم»، بل على الناس أن يفرّقوا بين المتكلمين ، فيعرفوا المحق منهم فيتبعوه ويعرفوا المُغرض فيحذروه .
وإننا لنعتقد أن طرح المسائل الخلافية بين العلماء، ثمّ عرضها على الكتاب والسنّة والعقل السليم والمنطق الصحيح المقبول لدى العقلاء ، وتحكيم الأدلّة المتينة والحجج المعتبرة ، هو من خير الطرق لتحقيق الوحدة بين المسلمين ...
وهذا هو الغرض الذي لأجله أسس علم الكلام ، فهذا العلم في الحقيقة يدعو إلى الوحدة والوئام ، ويحذر من التفرق والخصام، فهو لا يتنافى مع وحدة المسلمين وحسب، بل من أسبابها ووسائلها إن استخدم على الطريقة الصحيحة وأبتغي به الحق والصواب ، وباللّه التوفيق .
وكما ذكرنا .. فإنّه إذا كان الاستدلال منطقياً والبحث سليماً ، وكانت
ص: 24
الأدلة مستندة إلى ما لا محيص عن قبوله والتسليم به ، فلا شك في تأثيره في القلوب الطالبة للحق ، والمحبّة للخير والفلاح .. وهذا هو السرّ في الأمر بالجدل بالتي هي هي أحسن ..
وقد كان الجدل بالتي هي أحسن من أولى الطرق والأساليب التي سلكها الأنبياء والأوصياء وسائر المصلحون في هداية البشرية إلى الصراط المستقيم .
وبالفعل .. فقد كان لعلم الكلام والجدل الصحيح ، المستند إلى الكتاب والسنّة والعقل والحجج المعتبرة المقبولة ، الأثر البالغ في تقدّم مذهب الإمامية وتشيّع الأمم ..
فهناك المئات من الناس في مختلف البلدان تشيعوا ببركة كتاب المراجعات لآية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه .
وتلك قصة العلامة الحلّي وتشيّع أُمّةٍ بكاملها على أثر مناظرة واحدة قام بها مع كبار علماء عصره من أهل السنة في البلاد الإيرانية .
وتشيّع بلاد جبل عامل كان على يد أبي ذر الغفاري رضي اللّه عنه ، كما يحدّثنا كبار علماء المنطقة (1).
فظهر - بهذا المختصر - ما في قول القائل ، وهو يتهجم على علم الكلام: «لم يتشيّع سُنّي إلا على مستوى الأفراد والقناعات»(2).
ولعلّ من أهمّ ما وقع فيه الخلاف بين الشيعة الاثني عشرية وبين
ص: 25
غيرهم هي المسائل التالية :
1 - في صفات الباري ، وأنها هل هي عين الذات أو زائدة عليها ؛ فقال الإمامية بأنّ صفاته تعالى عين ذاته وليست زائدة عليها .
2 - في التجسيم ، وهذا ما نفاه الإمامية وعدّوا القول به كفراً ، لكن بعض الفرق يقولون بأنّ اللّه يداً ،ورجلاً، وأنّه يصعد وينزل ... تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .
3 - في القرآن ، فقالت الإمامية بحدوثه وقال الآخرون بقدمه ، وللمسألة قضايا وحوادث مذكورة في السير والتواريخ .
4 - في أفعال العباد ، فقال قوم بالجبر وقال آخرون بالتفويض ، وذهبت الإمامية إلى أنّه لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين .
5-في مسائل العدل، فقالت الإمامية بأنّ اللّه لا يفعل القبيح، وأنّه يريد الطاعات ويكره المعاصي، وأنه يفعل لغرض وحكمةٍ ، وأنه يمتنع عليه التكليف بما لا يطاق ... إلى غير ذلك .
6- في الإمامة والخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فالإمامية يقولون بأنّ الخليفة بعده هو علي بن أبي طالب بنص من اللّه ورسوله ، وقال أهل السنّة بأنه أبو بكر بن أبي قحافة بانتخاب من الناس .
وكانت الإمامة من بين المباحث في أصول الدين والمسائل الخلافية منها ، أشدّها حساسية وأهميةً ، بل هى المسألة المتقدّمة على غيرها بالزمان
والمرتبة ، ولذا قالوا :
ص: 26
« أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة ، إذ ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان»(1) .
والمسلمون لم يختلفوا فى أصل «الإمامة») بل اتفقوا على وجوبها،
وهذا ما نص عليه كبار العلماء من الشيعة والسُنّة .
قال ابن حزم :« اتفق جميع أهل السنّة وجميع المرجئة وجميع المعتزلة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة ، وأن الأمّة فرض واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام اللّه ، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم .. والقرآن والسُنّة قد وردا بإيجاب الإمام . . . » (2) .
أما الإمامية الاثنا عشرية فكان اهتمامهم بأمر الإمامة من جهة أنّها عندهم من صلب أصول الدين كما سيأتي ، وقد ورد في الروايات عن أئمتهم عليهم السلام في الإمامة :
«إنّ الإمامة أس الإسلام النامي ، وفرعه السامي .. إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ
المؤمنين » (3) .
ومن كلماتهم عليهم السلام في الإمام :
ص: 27
«بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء
والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف» (1) .
وقال العلامة الحلّي في مقدمة كتابه منهاج الكرامة في معرفة الإمامة : «أما بعد ، فهذه رسالة شريفة ، ومقالة لطيفة ، اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين ، وهي مسألة الإمامة التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة وهي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان،والتخلّص من غضب الرحمن»(2) .
وممّا يشير إلى أهمية الإمامة وعظمتها عند المسلمين ما جاء في كتبهم في تعريفها ، المتفق عليه بينهم :
قال القاضي الإيجي :« قال قوم: الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ..
ونقض بالنبوة ..
والأولى أن يقال : هي خلافة الرسول في إقامة الدين ، بحيث يجب اتباعه على كافة الأُمّة »(3) .
وقال التفتازاني : «الإمامة رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافةً عن النبي . . . » (4).
ص: 28
وقال العلامة الحلّي بتعريف الإمامة : «الإمامة رئاسة عامة في أُمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابةً عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم »(1).
فقال الفاضل المقداد السيوري(2) بشرحه :
«الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني .
فالرئاسة جنس قريب، والجنس البعيد هو النسبة ، وكونها عامة فصل يفصلها عن ولاية القضاة والنوّاب . و في أُمور الدين والدنيا ) بيان
لمتعلّقها ، فإنّها كما تكون في الدين فكذا في الدنيا . وكونها لشخص إنساني، فيه إشارة إلى أمرين :
أحدهما : إنّ مستحقها يكون شخصاً معيناً معهوداً من اللّه تعالى ورسوله ، لا أي شخص اتفق .
وثانيهما : إنّه لا يجوز أن يكون مستحقها أكثر من واحد في عصر
واحد .
ص: 29
وزاد بعض الفضلاء في التعريف : بحق الأصالة ، وقال في تعريفها : الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني بحق الأصالة واحترز بهذا عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية ، فإنّ رئاسته عامة لكن ليست بالأصالة .
والحقِّ : إن ذلك يخرج بقيد العموم ، فإنّ النائب المذكور لا رئاسة له على إمامه ، فلا تكون رئاسته عامة .
ومع ذلك كلّه ، فالتعريف ينطبق على النبوّة . فحينئذ زاد فيه : بحق النيابة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أو بواسطة بشر» (1).
هذا ، وقد أورد الفياض اللاهيجي في شرح التجريد كلا تعريفي الإيجي ،والتفتازاني ، وارتضاهما(2) مما يدلّ على أن المقصد واحد وإن اختلفت الألفاظ وتنوعت التعاريف .
وهذا هو المهم في المقام، فإنّ علماء الفريقين متفقون على تعريف الإمامة بما ذكر.
ومن هذا التعريف - المتفق عليه بين الشيعة والسنة - يتبيّن أنّ الإمامة من أصول الدين وليست من الفروع ، لأنها نيابة عن النبي ، فهي من شؤون النبوة ومتعلقاتها .
مضافاً إلى أحاديث اتفقوا عليها كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
ص: 30
«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفةٍ ، لكن لا بد وأن يكون المراد منها معنى واحداً وهو ما دلّ عليه اللفظ المذكور .
وهو بهذا اللفظ في عدّةٍ من الكتب كشرح المقاصد(1)..
وفي مسند أحمد وغيره بلفظ : «من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية »(2) .
وبلفظ : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» كما في
بعض الكتب(3) .
وله ألفاظ أخرى(4) .
ص: 31
فإنّ هذا الحديث دليل صريح على وجوب معرفة الإمام ، والاعتقاد بولايته الإلهية، ووجوب طاعته والانقياد له ، وإن الجاهل به أو الجاحد له يموت على الكفر ، كما هو حكم من كان كذلك بالنسبة إلى نبوّة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم .
وبما ذكرناه غنى وكفاية عن غيره من الأدلة .
ومن هنا، فقد حكي عن بعض الأشاعرة، كالقاضي البيضاوي ، موافقة الإمامية في أن الإمامة أصل من أصول الدين (1) ، وعن بعضهم ، كالتفتازاني ، أنّها بعلم الفروع أليق (2)، والمشهور بينهم كونها من المسائل الفرعية .
وكأن الوجه في قول المشهور منهم بكون الإمامة من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلفين : أن نصب الإمام واجب على الأُمّة لا على اللّه .. قال السعد التفتازاني :
« نصب الإمام واجب على الخلق سمعاً عندنا وعند عامة المعتزلة ، وعقلاً عند بعضهم ، وعلى اللّه عند الشيعة ... لنا وجوه ... الأوّل - وهو العمدة - : إجماع الصحابة ، حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات ، واشتغلوا به عن دفن الرسول . . . »(3) .
ص: 32
إنّهم قالوا بوجوب نصب الإمام ...
ثمّ قالوا بأن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مات بلا وصية وأنكروا أن يكون هناك نص أو تعيين من اللّه ورسوله بالإمامة لأحدٍ من بعده ..
فكان وجوب نصبه من وظائف المكلفين(1).
والدليل العمدة على ذلك : إجماع الصحابة ، حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات وأشتغلوا به عن دفن الرسول ...
واذا كان هذا هو العمدة في الأدلة ، فالأمر سهل .. ففي هذا الدليل نظر من وجوه(2) ، أحدها : عدم تحقق هذا الإجماع !
نعم ، ترك أبو بكر وعمر ومن تابعهما جنازة رسول اللّه صلّى اللّه وآله وسلّم على الأرض ، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع جمع من الأنصار للنظر في أمر الخلافة .. ثمّ أقبلوا على بني هاشم ومن بقي معهم حول الجنازة ، يطالبونهم البيعة لأبي بكر !
فالذين جعلوا ذلك أهم الواجبات»..« حتى قدموه على دفن النبي »
هم طائفة من الصحابة ، وليس كلهم .
هذا بناءً على أن يكون اجتماع الأنصار في السقيفة للنظر في أمر
ص: 33
الخلافة .
أما بناءً على ما قيل من أنّهم اجتمعوا هناك للنظر في شؤونهم الخاصة بهم ، وللاتّفاق على رأي واحد في التعامل مع المهاجرين .. ونحو ذلك .. فالأمر أوضح ..
وتقول الشيعة :
1 - أمر الإمامة بيد اللّه سبحانه.
2 - ويجب عليه نصب الإمام .
3 - وإنّه قد فعل(1) .
أمّا أنّ أمرها بيده ، فيدلُّ عليه الكتاب والسُنّة ، ومن ألطف ما وجدته السنّة في هذا الباب ، ما رواه أرباب السير:
«وذكر ابن إسحاق : أنه صلى اللّه عليه [وآله] وسلّم عرض نفسه على كندة وكلب ، أي إلى بطن منهم يقال لهم : بنو عبد اللّه ، فقال لهم : إن اللّه قد أحسن اسم أبيكم ، أي : عبد اللّه ، أي : فقد قال صلّى اللّه عليه
[ وآله] وسلّم : أحب الأسماء إلى اللّه عزّ وجلّ عبد اللّه وعبد الرحمن . ثمّ عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم .
وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة ، أي فقال له رجل منهم : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثمّ أظفرك اللّه على من خالفك ،
ص: 34
أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
فقال : الأمر إلى اللّه يضعه حيث شاء .
فقال له : أنقاتل العرب دونك - وفي رواية : أنهدف نحورنا للعرب دونك ، أي : نجعل نحورنا هدفاً لنبلهم - فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا ؟ !
لا حاجة لنا بأمرك . وأبوا عليه»(1).
فإنّ هذا الخبر جدير بالملاحظة الدقيقة . .
لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - حين عرض نفسه على تلك القبيلة ودعاهم إلى التوحيد - في أصعب الظروف وأشقها ، إنّه كان یطلب من القوم -حسب هذه الأخبار - أن يؤمنوا به ويحموه من كيد المشركين وأذاهم .. «فيردّون عليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أقبح الردّ ، يقولون له : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك» .
إنه صل اللّه علیه واله وسلم كان يعنيه حتى الرجل الواحد يؤمن به ويتبعه ويمنعه من أن يلحقه الأذى من قريش وغيرها .
ومع كلّ هذا ، فلما طلبت منه تلك القبيلة أن يعِدَهم برئاسة إن أظفره اللّه على من خالفه ! أجاب بكل صراحة وبلا أي تردّد : «الأمر إلى اللّه يضعه حيث شاء أي : ليس أمر خلافته من بعده بيده ، كما لم يكن أمر نبوّته
بیده..
إن هذا الخبر لمن أقوى الأدلة السمعية على إن نصب الإمام بيد اللّه سبحانه وتعالى ، وليس الأمر بيد الرسول فضلاً عن أن يترك إلى الناس !!
ص: 35
وأما وجوب النصب على اللّه ، فلوجوه ، منها : وجوب اللطف عليه .
وأما أنه قد نصب الإمام بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فيدلُّ عليه الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، والأحاديث القطعية عن النبي العظيم ، وهذا هو موضوع كتب الإمامة التي ألفها علماء الإمامية .
تقول الشيعة : إنّ اللّه سبحانه و رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم وقد عيّنا عليّاً ونصباه
خليفة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
ويقول أهل السنّة : بأنّ الخليفة بعد النبي هو أبو بكر ، باختيار من الناس.
وقد تم استدلال الشيعة الإمامية على إمامة عليّ بعد رسول اللّه في ثلاثة فصول :
1 - الأدلّة على إمامته من الكتاب والسنة .
2 - الدليل على إمامته من العقل، وهو يتشكّل من قياس صغراه من الحديث والسيرة والتاريخ: إن عليّاً كان أفضل الخلق بعد النبي ؛ وكبراء من العقل : إن تقدّم المفضول على الفاضل قبيح .
3 - الموانع من إمامة أبي بكر وصاحبيه ، وذلك بالنظر إلى : تعريف الإمامة ، والغرض منها ، والشروط المعتبرة في الإمام ..
ولقد أقامت الإمامية الحجج المعتبرة في هذه الفصول الثلاثة بالتي هي أحسن» .
ص: 36
ومن ذلك احتجاجهم على القائلين بإمامة أبي بكر بما يصدّقونه ويعتقدون به من الأدلة والحجج، واستنادهم إلى كتب القوم وأقوال علمائهم كما هي القاعدةالأصلية في المناظرة ..
ففي الاستدلال بحديث غدير خم على إمامة عليّ عليه السلام ..
يقول الشيعي : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «ألستُ أَوْلى بالمؤمنين
من أنفسهم ؟! قالوا : بلى .
قال : فمن كنت مولاه فعلی مولاه ، اللّهم والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه . . . »
فإذا قال بعض أهل السنّة : هذا كذب(1) ، لم يقله رسول اللّه !
قال الشيعي : أخرجه فلان وفلان ... من أعلام أهل السنة(2)
ص: 37
وإذا قال الخصم : وأين كان علي في ذلك اليوم ؟! كان باليمن ...(1)
اضطرّ الشيعي لأن يقول : روى قدومه من اليمن : فلان وفلان ... من أهل السنة (2)
فإن عاد فقال : صدر الحديث : «ألستُ أَوْلى ...» لا أصل له(3)
قال الشيعي : رواية فلان وفلان ... من أهل السنّة ... (4)
فإن أنكر مجيء المولى» بمعنى «الأولى»(5) .
أخرج له الشيعي قائمة بأسماء كبار اللغويين من أهل السنة القائلين
بمجيء «المولى» بمعنى الأولى » (6)
ويستدل الشيعى بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم :
ص: 38
«أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ».
ويعترض بعض أهل السنّة بأنّه كذب على رسول اللّه (1)
فيجيب الشيعي : أخرجه فلان وفلان ... (2)وصححه فلان وفلان ...(3) من أهل السنّة .
فيرجع الخصم ليقول : فأبو بكر و ... أبواب كذلك !(4)
ص: 39
لكنّ الشيعي يثبت له - وعلى ضوء كتب أهل السنة - جهل أبي بكر وصاحبيه بأبسط المسائل الدينية ، حتى عرفهم بها المغيرة بن شعبة وأمثاله من جهلة الصحابة !(1)
فيلتجئ بعضهم إلى أن يقول : ليس «علي» في الحديث علماً ، بل هو وصف للباب ، أي : مرتفع ! (2) .
فاستهجن منه ذلك غير واحدٍ من علماء طائفته وسخر منه آخرون (3)..
ويستدل الشيعة بالحديث في قصة الطير :
فقد أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بطير ليأكله ، فقال :
«اللّهمّ ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك يأكل معي من هذا الطير ».
فجاء على فأكل معه.
فاضطرب كلام أعلام الخصوم في مقام الجواب عن هذا الاستدلال :
فزعم أحدهم بأن هذا كذب موضوع !(4).
ص: 40
لكن قد أخرجه فلان وفلان ..من الأئمة الكبار .. من أهل السنة ..
وله أسانيد كثيرة ، رجالها ثقات ، بتوثيق من فلان وفلان...من علماء الجرح والتعديل ، من أهل السنة(1) ..
فجعلوا يتشبثون - في ردّ هذا الحديث الصحيح سنداً ، والصريح في أفضلية علي أمير المؤمنين عليه السلام - باحتمالات باردة، وبتعللات سخيفة ..
لعلّ الدعاء كان لكراهة الأكل وحده !
ولعل عليّاً كان الأحب إلى اللّه والرسول في الأكل فقط !
ولعل المراد من قوله : «اللّهم ائتني بأحب الخلق ... ... هو : اللّهمّ
ائتني بمن هو من أحب الخلق ..!
وهكذا ...
وأخيراً :
لعلّ أبا بكر وعمر لم يكونا حاضرين حينذاك في المدينة المنوّرة !!
وكُتُب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في أصول الدين، وفي الإمامة
منها بالخصوص ، يمكن تقسيمها إلى قسمين :
ص: 41
الأوّل : ما ألّفه علماء هذه الطائفة لبيان أدلّتها على ما ذهبت إليه في أصول الدين وفي خصوص الإمامة ، وهي كتب ألفوها لبيان عقائد الشيعة مع الإشارة إلى أدلّتها، وفيها جاءت العقائد الشيعية ية مع المقارنة أحياناً بغيرها من عقائد الفرق ؛ ومن هذا القسم :
أوائل المقالات : للشيخ المفيد البغدادي .
والذخيرة في علم الكلام : للسيّد المرتضى الموسوي البغدادي . والاقتصاد الهادي إلى الرشاد : للشيخ أبي جعفر الطوسي .
وتجريد الاعتقاد : للشيخ نصير الدين الطوسي .
وكتب العلامة الحلّي ، ككتاب «نهج الحق وكشف الصدق» الذي سنتكلّم عليه بالتفصيل .
الثاني : ما ألّفه العلماء في «رد» أو «نقض» ما كتبه الخصوم ضدّ
المذهب الإمامي .
والظاهر أن كتبهم من هذا القسم أكثر عدداً منها من القسم الأوّل ، وذلك لأنّ خصومهم قد دأبوا منذ عهدٍ بعيد على الهجوم عليهم بالسب والشتم ، وعلى المكابرة وإنكار الحقائق ...
فمن السهل أن يقول القائل منهم في حديث : «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هلك» (1) : «كذب
ص: 42
موضوع »(1) ..
أو أن الحديث : «خُلقت أنا وعليٌّ من نور واحد»(2) : «موضوع بإجماع أهل السنة » (3) ..
أو أن الحديث : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك . . . »(4) : «لم يروه أحد من أصحاب الصحاح ، ولا صححه أئمّة الحديث »(5) .
وكذا من السهل أن يقول القائل منهم مثلاً في حديث الغدي(6) : «لم يقل من أحد أئمّة العربية بمجيء (المولى ) بمعنى (الأَوْلى)(7)..
وفي حديث الثقلين : إني تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض » (8): أنّه قال :
ص: 43
«... كتاب اللّه وسنّتي »(1) ..
وفي حديث سد الأبواب : «أُمرت بسد الأبواب إلا باب عليّ » (2) : «إنّ هذه الفضيلة كانت لأبي بكر فقلبته الرافضة إلى : علي !(3) ..
وفي حديث المنزلة : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى»(4) : «إنّه لا يدل على عموم المنزلة»(5) ..
إنّ كلّ واحدٍ من هذه الأقاويل سطر واحد أو سطران ، لكن الجواب عنه يستدعي الكثير من البحث، وربّما يشكل كتاباً برأسه ، كما هو واضح .
فمن هنا نرى كثرة كتب الردّ والنقض في مؤلّفات الإمامية ، فهم - في الأغلب - في مقام الدفاع عن مباني المذهب ، وأسس الدين ، وربما لا نجد كتاباً لأحدهم وضعه للهجوم على الخصوم .
ص: 44
*فلقد ألّف الجاحظ - المتوفى سنة 255 - كتاب العثمانية للهجوم على الشيعة ، وقد شحنه بالكذب وإنكار الضروريات وجحد البديهيات ، وحتّى شجاعة أمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - حاول إنكارها (1)- كما قال المسعودي -: «طلباً لإماتة الحق ومضادّةً لأهله ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون »(2).
لكنه عاد فنقض ما كتبه ، فكان أوّل من ردّ على العثمانية (3).
ثمّ ردّ عليها جماعة من الإمامية وغيرهم بردود اشتهرت ب- «نقض العثمانية» ، منهم : أبو جعفر الإسكافي المعتزلي - المتوفى سنة 240 - ، والمسعودي صاحب مروج الذهب - المتوفى سنة 346 -، والسيد جمال الدين ابن طاووس الحلّي - المتوفى سنة 673 - في بناء المقالة الفاطمية ، وهو مطبوع .
* وألف القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي - المتوفى سنة 415 - كتاب المغني ، وتعرّض فيه لعقائد الإمامية بالردّ والنقد ، وخصوصاً في باب الإمامة ، إذ كان - كما جاء في خطبة كتاب الشافي - قد بلغ النهاية في جمع الشبه ، وأورد قوي ما اعتمده شيوخه، مع زيادات يسيرة سبق إليها ، وتهذيب مواضع تفرد بها» (4).
فكتب السيد المرتضى - المتوفى سنة 436 - في الردّ عليه كتاب
الشافي في الإمامة ، ثمّ لخصه تلميذه الشيخ أبو جعفر الطوسي - المتوفى
ص: 45
سنة 460 - واشتهر كتابه ب: تلخيص الشافي .
*ثم كتب شهاب الدين الشافعي الحنفي الرازي - من بني مشاط - كتاباً سمّاه بعض فضائح الروافض ، هاجم فيه الشيعة وتحامل عليهم .
فردّ عليه معاصره الشيخ نصير الدين عبد الجليل بن أبي الحسين القزويني(1) بكتاب بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض ، وهو مطبوع .
* ثم ظهر أحمد بن عبد الحليم الحرّاني ، ابن تيمية ، فألف كتاب منهاج السُنّة ، زعم أنّه ردّ على كتاب منهاج الكرامة للعلامة الحلّي ، لكنّه - من أوله إلى آخره - مجموعة سباب وافتراءات وما هو - في مجمله - إلا بغض لأمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم الصلاة والسلام .
فكتب بعض معاصريه ردّاً عليه، هو كتاب الإنصاف والانتصاف لأهل
الحق من أهل الإسراف ، تم تأليفه سنة 757
وكتب في الردّ عليه أيضاً : السيد مهدي القزويني - المتوفى سنة 1348 - كتاب منهاج الشريعة .
ولهذا العبد العاجز - صاحب المقدّمة - كتاب دراسات في منهاج السُنّة ، وهو كتاب جليل مطبوع منتشر في البلاد .
كما جاء الردّ على منهاج السُنّة في شرح منهاج الكرامة لهذا العبد ، والجزء الأول منه مطبوع الآن .
*وألف يوسف الأعور الواسطي الشافعي كتاب الرسالة المعارضة في الردّ على الرافضة .
ص: 46
فردّ عليه : الشيخ عز الدين الحسن بن شمس الدين المهلبي الحلّي ، في سنة 840 بكتاب الأنوار البدرية في كشف شبه القدرية ، قال : التزمت فيه على أن لا استدلّ من المنقول عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم إلا بما ثبت من طريق الخصم ، ولا أفعل كما فعل الناصب في كتابه»(1) .
كما ردّ عليه أيضاً : الشيخ نجم الدين خضر بن محمد الحبلرودي الرازي بكتاب التوضيح الأنور في دفع شبه الأعور ، وذلك في سنة 839 في مدينة الحلةبالعراق.
*وألف ابن حجر الهيتمي المكي - المتوفى سنة 974 - كتاب الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة ، قال في خطبته : فإنّي سئلت قديماً في تأليف كتاب يبيّن حقية خلافة الصديق وإمارة ابن الخطاب ، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب ، فجاء بحمد اللّه أنموذجاً لطيفاً ، ومنهاجاً شريفاً ، ومسلكاً منيفاً .
ثمّ سئلت في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام ، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرّفة أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلى ذلك ، رجاء لهداية بعض من زل به قدمه عن أوضح المسالك . . . »(2).
فردّ عليه القاضي نور اللّه التستري - الشهيد في الديار الهندية سنة 1019 -بكتاب الصوارم المهرقة في الردّ على الصواعق المحرقة ، وقد طبع
ص: 47
غير مرّة .
*وكتب من يدعى محمد نصر اللّه الكابلي - وهو نكرة لم يعرف ،
ولعلّه اسم مستعار - كتاب الصواقع الموبقة.
*ثم جاء المولوي عبد العزيز الدهلوي - المتوفى سنة 1239 - فأخذمطالبه وأنتحلها في كتابه تحفة اثنا عشريه بالفارسية .. وهو كتاب في التهجم على الشيعة الاثني عشرية، في الأصول والفقهيات وغير ذلك ...
*ثمّ إنّ النعمان الألوسي البغدادي نشره بالعربية ملخصاً باسم مختصر التحفة الاثنا عشرية، فزاد عليه في الهوامش بعض أتباع بني أُميّة وأعداء الدين الحنيف ما سوّلت له نفسه الخبيثة من الأكاذيب والأراجيف ، وطبعته الأيدي الأثيمة من أذناب الكفر العالمي مرات عديدة.
فكتبت على التحفة الردود الكثيرة من قبل كبار علماء الشيعة في البلاد الهندية ، في الأبواب المختلفة ، وفنّدوا مزاعمه ، وكشفوا أباطيله ،وزيّفوا تمويهاته، جملةً وتفصيلاً، وقد تناول السيد مير حامد حسین النيسابوري اللكهنوي - المتوفى سنة 1306 - باب الإمامة منه بالردّ والنقد ، في كتابه العظيم عبقات الأنوار في إثبات إمامة الأئمة الأطهار .
كما كتبت على مختصر التحفة ردود أخرى كذلك .
ومن شاء التفصيل عنه وعن سائر الردود على كتاب التحفة فليرجع إلى كتابنا دراسات في كتاب العبقات (1) .
ص: 48
وهكذا ، توالت كتب التهجم على الشيعة حتّى زماننا هذا ، بل كثرت فيه وتضاعفت ، وما زالوا يكرّرون الشتائم والأكاذيب والتهم والأباطيل ، التي تفوه بها السابقون منهم، ورُدّ عليها الردّ الجميل من علماء الإمامية .
وما زال علماء الطائفة في موقف الدفاع عن المذهب وصدّ الهجمات الواردة من مختلف البلاد .
* * *
ص: 49
للعلّامة الحلّى
وكتاب نهج الحق وكشف الصدق أحد كتب العلامة الحلي رحمه اللّه في الأصولين والفقه ، مع المقارنة بآراء المخالفين في مسائل العلوم الثلاثة ، وهو من خيرة الكتب المقارنة بين المذاهب الإسلامية .
قال رحمه اللّه في المقدّمة : «وقد وضعنا هذا الكتاب الموسوم ب- نهج الحق وكشف الصدق طالبين فيه الاختصار وترك الإكثار ، بل اقتصرنا فيه على مسائل ظاهرة معدودة، ومطالب واضحة محدودة ، وأوضحت فيه لطائفة المقلدين من طوائف المخالفين إنكار رؤسائهم ومقلديهم القضايا البديهية ، والمكابرة في المشاهدات الحسيّة، ودخولهم تحت فرق السوفسطائية ، وأرتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل وروية ، لعلمي بأن المنصف منهم إذا وقف على مذهب من يقلده تبرأ منه وحاد عنه ، وعرف أنه ارتكب الخطأ والزلل، وخالف الحق في القول والعمل .
فإن اعتمدوا الإنصاف ، وتركوا المعاندة والخلاف ، وراجعوا أذهانهم الصحيحة، وما تقتضيه جودة القريحة، ورفضوا تقليد الآباء ، والاعتماد على أقوال الرؤساء ، الذين طلبوا اللذة العاجلة، وأهملوا أهوال الآجلة ، حازوا القسط والدنو من الإخلاص، وحصلوا النصيب الأسنى من النجاة والخلاص ، وإن أبوا إلا استمراراً على التقليد، فالويل لهم من نار الوعيد ،
ص: 50
وصدق عليهم قوله تعالى : «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ » (1)
وإنّما وضعنا هذا الكتاب حسبةً اللّه ورجاءً لثوابه ، وطلباً للخلاص من أليم عقابه ، بكتمان الحق وترك إرشاد الخلق . . . »(2)
وكانت عناوين مسائل هذا الكتاب :
1- في الإدراك .
2 - في النظر .
3 - في صفاته تعالى .
4 - في النبوة .
5 - في الإمامة .
6 - في المعاد .
7 - في أصول الفقه.
8 - في ما يتعلق بالفقه.
وفي كلّ فرع من فروع هذه المسائل يقول : «قالت الإمامية» و «قالت الأشاعرة» و «قالت المعتزلة ، معتمداً في الاحتجاج وكذا في نقل آراء الآخرين على أشهر كتب القوم وأتقنها ، أمثال :
الصحاح الستة ..
والجمع بين الصحيحين ..
ومسند أحمد بن حنبل ..
ص: 51
والأم ، للشافعي ..
وسنن البيهقي ..
و مصابيح السُنّة ، للبغوي ..
والمغازي ، للواقدي ..
وتاريخ الطبري ..
وأنساب الأشراف ، للبلاذري ..
والاستيعاب ، لابن عبد البر ..
وإحياء علوم الدين ، للغزالي ..
والمغني ، للقاضي عبد الجبار ..
والكشاف ، للزمخشري ..
والتفسير الكبير ، للرازي ..
وهو في أغلب الموارد - حين يذكر القولين أو الأقوال - يخاطب الناظر فيها وأبناء المذاهب الأخرى ، بكلمات الوعظ والنصيحة ، كقوله في
موضع :
«فلينظر العاقل في المقالتين، ويلمح المذهبين ، وينصف في الترجيح ، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ، ويترك تقليد الآباء والمشايخ الآخذين بالأهواء ، وغرتهم الحياة الدنيا ، بل ينصح نفسه ولا يعوّل على غيره ، ولا يُقبل عذره غداً في القيامة : إنّي قلّدت شيخي الفلاني ، أو وجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة، فإنّه لا ينفعه ذلك يتبرأ المتّبعون من أتباعهم ويفرون من أشياعهم ، وقد
يوم القيامة ، يوم نص اللّه تعالى على ذلك في كتابه العزيز .
ولكن أين الآذان السامعة ، والقلوب الواعية ؟! وهل يشك العاقل في
ص: 52
الصحيح من المقالتين ؟! وأن مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل ، وأنّها أشبه
بالدين ؟ ! . . . »(1) .
وكقوله في موضع آخر :
«فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ، ويتبع ما يقوده عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ، ويعتقد ضدّ الصواب ، فإنّه لا يُقبل منه غداً يوم الحساب ، وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الذين قال اللّه تعالى عنهم : «وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (2)». (3).
فهذا هو أسلوب العلامةرحمه اللّه في كتابه.
* * *
ص: 53
وإهمال كشف العاطل (1)
لابن روزبهان
وقد كتب الفضل بن روزبهان ، في نقض كتاب نهج الحق وكشف الصدق كتاباً أسماه ب- إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل افتتحه بسب الإمامية عامة والعلّامة الحلّي خاصة ! فإنّه قال بعد أن أثنى على صحابة رسول اللّه واللّه
ما نصه :
«ثمّ وثب فرقة بعد القرون المتطاولة والدول المتداولة ، يلعنونهم ويشتمونهم ، ولكل قبيح ينسبونهم ، فويل لهذه الفئة الباغية التي يسخطون العصبة الرضية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، شاهت الوجوه ، ونالت
كلّ مكروه .
ثمّ إنّ زماننا قد أبدى من الغرائب، ما لو رآه محتلم في رؤياه لطار من وكر الجفن نومه ، ولو شاهده يقظان في يومه لاعتكر من ظلام الهموم يومه »(2).
ص: 54
من كتاب ابن روزبهان
أقول :
كانت تلك عبارات ابن روزبهان في بداية كتابه، وقد رأيت من الضروري أن أقرأ كتابه من أوله إلى آخره، لأتعرف على عقائد هذا الرجل ونفسيته ، ولأجل المقارنة بينه وبين العلّامة الحلّي وكتابه ، بل حتى أعطي لكلّ منصف نموذجاً من كتب الفريقين، ليقرأه ويقف على أسلوبه ، ثمّ يختار ما شاء منهما كما يحكم عقله ودينه، فإلى القارئ الكريم هذه الفصول في أساليب ابن روزبهان في كتابه ، بذكر موارد من كلّ أسلوب :
وسوّد الفضل صفحات كتابه بسب وشتم العلامة والشيعة عامة بما لا يُسمع عادةً إلا من الجهلة الأرذال والسوقة الأنذال ، ومن الواضح أنّ مثل هذه الأشياء تدل - مضافاً إلى دلالتها على عدم الورع والتقوى ، وعلى سوء الأدب والأخلاق - على بطلان عقيدة الشخص وعجزه عن الدفاع عنها.
ونحن نورد بعض ما تفوّه به هذا الرجل :
«ثمّ ما ذكر ... من المبالغات والتقعقعات الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي يميل بها خواطر القلندرية والعوام إلى مذهبه الباطل
ص: 55
ورأيه الكاسد الفاسد» (1).
«هذا غاية الجهل والتعصب، وهو رجل يريد ترويج طاقاته ليعتقده
القلندرية والأوباش ورعاع الحلّة من الرفضة والمبتدعة» (2) .
«هذا الرجل الطاماتي الذي يصنّف الكتاب ويرد على أهل الحق ، ويبالغ في إنكار العلماء والأولياء ، طلباً لرضا السلطان محمد خدا بنده ، ليعطيه إدراراً ويفيض عليه مدراراً »(3) .
«هذا غاية التعصب والخروج عن قواعد الإسلام، نعوذ باللّه من عقائده الفاسدة الكاسدة»(4)
«هذا غاية الجهل والعناد والخروج عن قاعدة البحث ، بحيث لو نسب هذا الكلام إلى العوام استنكفوا منه» (5).
«والطامات والخرافات التي يريد أن يميل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غير ملتفت إليها »(6) .
«إن الرجل كَوْدَن طاماتي متعصب ، فتعصب لنفسه لا اللّه ورسوله ، والعجب أنّه كان لا يأمل أن العقلاء ربّما ينظرون في هذا الكتاب فيفتضح عندهم ! ما أجهله من رجل متعصب ! نعوذ باللّه من شر الشيطان و شركه »(7).
ص: 56
«وهذه الطاقات المميلة لقلوب العوام لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بنّه من الطامات افتراء» (1) .
«ولا عجب من هذه الشيعة، فإن الكذب والافتراء طبيعتهم وبه خلقت غريزتهم» (2) .
«يذكرون الأشياء عن الأئمة ، ويمزجون كلّ ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب»(3).
« ما ذكره من الطامات والتنفير فهو الجري على عادته في المزخرفات والترهات »(4) .
«هذا الرجل أصمّ أُطروش لا يسمع نداء المنادي ، وصوّر لنفسه مذهباً وافترى أنّه مذهب الأشاعرة ويورد عليه الاعتراضات ... والعجب أنه لا يخاف أن يلقى اللّه بهذه العقيدة الباطلة التي هو إثبات الشركاء اللّه تعالى في الخلق مثل المجوس، وذلك المذهب أردأ من مذهب المجوس بوجه ؛ لأن المجوس لا يثبتون إلا شريكاً واحداً يسمونه : أهرمن ، وهؤلاء يثبتون شركاء لا تحصر ولا تحصى ، إنّهم إذا قيل لهم : لا إله إلا اللّه يستكبرون(5) .
«مع ذلك ، افترى على الصادق - عليه السلام - كذباً في حقهم»(6).
« فعلم أنّ هذا الرجل مفتر كودن كذاب، مثل كوادن حلّة وبغداد ،
ص: 57
لا أفلح من رجل سوء»(1) .
«والعجب أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين هذين المعنيين ، ثمّ من العجب كل العجب أنّهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأملون ... فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ونسبوا إلى أنفسهم الأفعال ، وفيه خطر الشرك»(2) .
«وهذا يدلّ على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصبه وعدم فهمه ، أما كان يستحي من ناظر في كتابه ؟ !» (3).
«نعم ، ربّما فهم ذلك الأعرابي الجافي ، الحلّي الوطن ، ذلك المعنى
من كلام اللّه تعالى» (4).
«ورأينا المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود، يخفون مذهبهم
ويسمونه التقيّة ، ويهربون من كل شاهق إلى شاهق ، ولو نسب إليهم سب إليهم أنهم معتزليّون أو شيعة يستنكفون عن هذه النسبة»(5) .
«وكأن هذا الرجل لم يمارس قط شيئاً من المعقولات ، والحق أنه ليس أهلاً لأن يباحث ، لدناءة رتبته في العلم ، ولكن ابتليت بهذا مرّةً فصبرت ... وكلّ هذه الاستدلالات خرافات وهذيانات لا يتفوه بها إلا أمثاله في العلم والمعرفة(6) .
«لكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال اللّه تعالى : «وَإِذَا
ص: 58
« ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ » (1).(2)
«انظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات، حسب أن هذا الكلام حطب يسرق ؟! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضاً ؟! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان وأظهر جهله وتعصبه على أهل الإيمان »((3).
«ومثله المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبال وأخذ من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذذ به .
فهذا ابن المطهّر النجس كالزبال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ، ويكفر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنه يحسن صنعاً، نعوذ باللّه من الضلال ، واللّه الهادي »(4).
«فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الرائع في جنّة عالية قطوفها دانية ، واللّه تعالى يجازيه »(5).
«العجب من هذا الرجل ، أنّه يفتري الكذب ثمّ يعترض عليه ، فكأنه لم يتفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة ، وسمع عقائدهم من مشايخه من الشيعة وتقرّر بينهم أن هذه عقائد الأشاعرة ، ثمّ لم يستح
ص: 59
من اللّه تعالى ومن الناظر في كتابه ، وأتى بهذه الترهات والمزخرفات» (1)
« هذا الرجل السوء الفحاش ، وكأنه حسب أنّ الأنبياء أمثاله من رعاع الحلّة الذين يفسدون على شاطئ الفرات بكل ما ذكره، نعوذ باللّه من التعصب فإنّه أورده النار »(2).
«فهذا كذب أظهر وأبين من كذب مسيلمة الكذاب»(3)
«فكيف هذا الرجل الجاهل بالحديث والأخبار ، بل بكل شيء ، حتى أنّي ندمت من معارضة كتابه وخرافاته بالجواب ، لسقوطه عن مرتبة المعارضة ، لانحطاط درجته في سائر العلوم، معقولها ومنقولها ، أصولها وفروعها ، لكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت »(4) .
«والعجب من هذا الرجل أنّه يبالغ في احتراز الأنبياء عن الكذب وينسب الكذب الصراح إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، نعوذ باللّه من هذا» (5).
« هذا الرجل لا يعرف ما يقول ، وهو كالناقة العشواء يرتعي كلّ حشيش»(6) .
«أيّها الجاهل العامي ، الضال العاصي ، الشيعة ينسبون أنفسهم إلى الأئمة الاثني عشر ، أترى أئمة أهل السنة والجماعة يقدحون في أهل بيت النبوّة والولاية ؟! أتراهم يا أعمى القلب أنّهم يفترون مثلك ومثل أضرابك على الأئمّة ، ويفترون المطاعن|والمثالب ممّا لم يصح به خبر ، بل ظاهر
ص: 60
عليه آثار الوضع والبطلان ؟ ! » (1).
«ثمّ جاء ابن المطهر الأعرابي ، البوّال على عقبيه، ويضع لهم المطاعن ، قاتله اللّه من رجل سوء بطاط» (2).
«إن هذا الرجل السوء يذكر لمثل هذا الرجل [ يعني أبا بكر ] المطاعن ، لعن اللّه كلّ مخالف طاعن، وكنت حين بلغت باب المطاعن أردت أن أطوي عنه كشحاً ، ولا أذكر منه شيئاً ، لأنّها تؤلم خاطر المؤمن ويفرح بها المنافق الفاسد الدين، لأن من المعلوم أن هذا الدين قام في خلافة هؤلاء الخلفاء الراشدين، ولما سمع المنافق أن هؤلاء مطعونون فرح بأنّ الدين المحمدي لا اعتداد به ، لأنّ هؤلاء المطعونين - حاشاهم - كانوا مؤسسي هذا الدين، وهذا ثلمة عظيمة في الإسلام، وتقوية كاملة للكفر أقدم به الروافض لا أفلحوا .... »(3).
«ثمّ جاء البوّال الذي استوى قوله وبوله، فيجعله [أي: عثمان ] كالكفار ، ولا يقبل دفنه مع المسلمين، أنّ له وتُفّ ، والصفع على رقبته بكل كف »(4).
والفضل وإن كان يتظاهر في كتابه بحب أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام، ويعترف ببعض مناقبهم وفضائلهم ، لكنّه يحاول الدفاع عن
ص: 61
خصومهم وتبرئة مناوئيهم عن المثالب ، وتبرير أو تهوين ما صدر عنهم تجاه النبي وأهل بيته الأطهار، ولا بأس بإيراد طرف من نصوص عباراته في ذلك :
فمثلاً نجده يقول عن خروج عائشة ضدّ أمير المؤمنين علیه السلام ، تقود الجيوش لحربه في البصرة ، ما هذا لفظه :
«إنّها خرجت محتسبةً ، لأنّ قتلة عثمان قتلوا الإمام وهتكوا حرمة الإسلام ، فخرجت تريد الاحتساب وأخطأت في هذا الخروج مع الاجتهاد ، فيكون الحق مع علي ، وهي لم تكن عاصية ، للاجتهاد ... بل ذكر أرباب الأخبار أنّ بعد الفراغ من وقعة الجمل، دخل علي على عائشة ، فقالت عائشة : ما كان بيني وبينك إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ! فقال أمير المؤمنين : واللّه ما كان إلا هذا. وهذا يدلّ على نفي العداوة ...»(1).
فاقرأ وأحكم في دين هذا الرجل وعقله بما يقتضيه العلم بالقرآن والأحكام الشرعية ومجريات الأمور .
ويقول عن الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح ، وأمثالهم ، ما نصه :
«معظم ما يطعنون على عثمان هو تولية بني أُمية على الممالك،
ص: 62
وذلك لأنه رأى أمراء بني أمية أولي رشد ونجابة وعلم بالسياسات ... وكان بنو أمية على هذه النعوت»(1).
قال العلّامة تحت عنوان مطاعن معاوية » : « وقد روى الجمهور منها أشياء كثيرة ، وهي أكثر من أن تحصى، منها ما روى الحميدي ، قال : قال رسول اللّهصلی اللّه علیه وال : ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية بصفين ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار(2) ؛ فقتله معاوية ؛ ولما سمع معاوية اعتذر فقال : قتله من جاء به فقال ابن عباس : فقد قتل رسول اللّه حمزة لأنه جاء به إلى الكفار ! )(3).
فقال الفضل : قول أهل السنة والجماعة في معاوية : إنه رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله ] وسلّم ، وصحبته ثابتة . لا ينكره الموافق والمخالف ، وكان كاتب وحي رسول اللّه صلى اللّه عليه [ وآله]
وسلّم .
وبعد أن توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه[ وآله] وسلّم ... ولاه عمر في إمارة الشام ... ثم ولاه عثمان الشام وأضافه ما فتحه من بلاد الروم ، وكان على ولايتها مدّة خلافة عثمان بن عفان . ثم لما تولّى الخلافة أمير المؤمنين علي عزله من إمارة الشام ...
ص: 63
ومذهب أهل السنّة والجماعة : إنّ الإمام الحق بعد عثمان كان عليّ ابن أبي طالب ، ولا نزاع لأحد من أهل السنة في هذا ، وإن كلّ من خرج على عليّ كانوا بغاةً ، على الباطل، ولكن كانوا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ينبغي أن يُحفظ اللسان عنهم ، ويُكَفَّ عن ذكرهم وما جرى بين الصحابة ، لأنه يورث الشحناء ويثير البغضاء ، ولا فائدة في ذكره .
وأما ما ذكره من مطاعن معاوية فلا اهتمام لنا أصلاً بالذب عنه ، فإنّه لم يكن من الخلفاء الراشدين حتى يكون الذب عنه موجباً لإقامة سنة الخلفاء وذبّ الطعن عن حريمهم، ليقتدوا بهم الناس ، ولا يشكوا في كونهم الأئمّة ، لأنّ معظم الإسلام منوط بآرائهم، فإنّهم كانوا خلفاء النبوة ووارثي العلم والولاية .
وأما معاوية فإنّه كان من ملوك الإسلام ،والملوك في أعمالهم لا يخلون عن المطاعن ، ولكن كفّ اللسان عنهم أَوْلى ، لأن ذكر مطاعنه لا تتعلّق به فائدة ما أصلاً ... وقد قال رسول اللّه : لا تذكروا موتاكم إلا بالخير . . . »(1) .
أقول :
في هذا الكلام ينصّ الفضل على عدم اهتمامهم بالذب عن معاوية، لكن أبناء تيمية وحجر وكثير والعربي وأمثالهم يهتمون الاهتمام البالغ بالذب عنه ، ولو سلمنا صدق الفضل - ولو في حق نفسه في الأقل -
ص: 64
في عدم الاهتمام بالذب عن معاوية والجواب عن مطاعنه ، فقد وجدنا في كلامه المذكور :
1 - يصف معاوية ب« كاتب وحي رسول اللّه» ، وهو ما يزعمه أولياؤه له ، وهو ممّا لا أساس له من الصحة، ولا نصيب له من الحقيقة .
2 - يدعو إلى الكفّ وحفظ اللسان عنه، بل يرى أولوية ذكره بالخير ، ولذا قال - في جواب رواية العلّامة «إن معاوية قتل أربعين ألفاً من المهاجرين والأنصار وأولادهم .. »(1) ، وروايته دخول أروى بنت الحارث ابن عبد المطلب على معاوية وقولها له : «لقد كفرت النعمة ، وأسأت لابن عمّك الصحبة ، وتسمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك . . . »(2) - : «إنّ هذه الحكايات والأخبار التي لم تصح بها رواية ، ولم يقم بصحتها برهان ، ترك ذكرها أولى وأليق ، سيّما أنّها متضمنة لنشر الفواحش وعظام هذه الجماعة رميمة، ولم يبق لهم آثار ...» (3).
3 - ويقول بأنه رجل من الصحابة وصحبته ثابتة ، مشيراً إلى ما كرّره في كتابه من وجوب تعظيم الصحابة كلهم ! ومن ذلك قوله : «مذهب عامة العلماء أنه يجب تعظيم الصحابة كلّهم ، والكف عن القدح فيهم ، لأنّ اللّه عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ... والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة . ثم إن من تأمّل سيرتهم، ووقف على مآثرهم وجدّهم في نصرة الدين ، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، لم يتخالجه شكٍّ في عظم شأنهم، وبراءتهم
ص: 65
عما نسب إليهم المبطلون من المطاعن ، ومنعه ذلك عن الطعن فيهم ، ورأى
ذلك مجانباً للإيمان»(1) .
أقول :
لكنّ المنصف إذا تأمل في هذه الكلمات ومناقشاته في استدلالات العلّامة ، حصل له الشك والتردّد في صدق الفضل في مقاله بأن لا اهتمام له بالذب عن معاوية ، لا سيّما بالنظر إلى قوله بالنسبة إلى الأخبار والحكايات التي استدل بها العلّامة : « لم تصح بها رواية ، ولم يقم بصحتها برهان »..
بل قوله في قضيّة سبّ معاوية لأمير المؤمنين علیه السلام : «أمّا سبّ أمير المؤمنين - نعوذ باللّه من هذا - فلم يثبت عند أرباب الثقة ، وبالغ العلماء في إنكار وقوعه، حتى إن المغاربة وضعوا كتباً ورسائل ، وبالغوا فيه كمال المبالغة ...» (2)يدلّ بوضوح على كونه في مقام الدفاع عن معاوية بكلّ اهتمام ! وذلك لوجود أخبار سب معاوية لأمير المؤمنين علیه السلام ، وحتّ الناس على ذلك ، في كثير من الكتب المعتمدة عند القوم ، حتى في الصحاح ! . .
أخرج مسلم في صحيحه : «أمر معاوية سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟! فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم يقول له - وقد
ص: 66
خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له عليٌّ : يا رسول اللّه ! خلفتني مع النساء والصبيان ؟! فقال له رسول اللّه - : أما ترضى ... وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية ... ولما نزلت هذه الآية «تعالوا . . . »(1). . . » (2) .
فهذا الحديث في كتاب التزموا بصحة رواياته ، ودلالته واضحة .
هذا ، ولفظاعة صنع معاوية ، ولأنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال : «من سبّ عليّاً فقد سبني »(3) .. ومن سب رسول اللّه فهو كافر بالإجماع ، ولأن ثبوت كفر معاوية بهذا وغيره يؤدي إلى الطعن في من نصبه وفي من سبقه ، تحيّر القوم وأضطربوا !!
أما تكذيب الخبر - كما فعل الفضل - فمردود بأنه في الصحيح . .
وأما الالتزام به لصحته فيترتب عليه ما ذكرناه ، وهو هادم لأساس مذهبهم ، فكأنّهم لم يجدوا بُدّاً من التلاعب في متن الحديث :
فرواه بعضهم بلفظ : «قدم معاوية في بعض حجاته ، فدخل على سعد ، فذكروا عليّاً، فنال منه ، فغضب سعد . . . » (4) .
ثمّ جاء ابن كثير فأسقط جملة : فنال منه ، فغضب سعد» (5).
ورواه أحمد في المناقب باللفظ التالي : «ذكر علي عند رجل وعنده سعد بن أبي وقاص ، فقال له سعد : أتذكر علياً ؟ ! . . . »(6) .
ص: 67
ورواه النسائي في الخصائص بلفظ آخر ، هو : « عن سعد ، قال : كنت جالساً فتنقصوا عليّ بن أبي طالب ، فقلت : لقد سمعت رسول اللّه ...» (1).
وأبو نعيم الأصفهاني أراح نفسه من المشكلة، فأسقط القصة من
أصلها ! فلم يذكر إلا : «عن سعد بن أبي وقاص ، قال : قال رسول اللّه في علي ثلاث خلال ...»(2).
ومن ذا الذي يشك في عداء عبد اللّه بن الزبير لأمير المؤمنين عليه السلام ؟! ومع ذلك يعدّه الفضل في ذلك يعده الفضل في الخلفاء الراشدين بزعمه ! فيقول في معنى حديث الاثني عشر خليفة : «ثمّ ما ذكر من عدد اثني عشر خليفة ، فقد اختلف العلماء في معناه ، فقال بعضهم : هم الخلفاء بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم ، وكان اثنا عشر منهم ولاة الأمر إلى ثلاثمائة سنة ، وبعدها وقعت الفتن والحوادث ، فيكون المعنى أن أمر الدين عزيز في مدة خلافة اثني عشر ، كلهم من قريش .
وقال بعضهم : إن عدد الصلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر ، وهم : الخلفاء الراشدون ، وهم خمسة ، وعبد اللّه بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز ، وخمسة أُخر من خلفاء بني العباس. فيكون هذا إشارة إلى الصلحاء من
الخلفاء القرشية »(3) .
وإذا كان من الخلفاء الراشدين فما هو الأصل في أعمالهم بنظره ؟ !
ص: 68
قال : «الأصل أن تحمل أعمال الخلفاء الراشدين على الصواب»(1) !
وقال الفضل - وهو في الحقيقة يقصد الدفاع عن أنس بن مالك - : وأما ما ذكر أن أمير المؤمنين استشهد من أنس بن مالك ، فاعتذر بالنسيان ، فدعا عليه ؛ فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض ...»(2).
وأقول :
ذكر هذا الخبر : ابن السائب الكلبي في جمهرة النسب، والبلاذري في أنساب الأشراف ، وأبن قتيبة في المعارف ، وعنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، وأبن عساكر في تاريخ دمشق ، وأبن حجر في الصواعق ، وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ(3).
وكم من قضيّة ثابتة لا تقبل الجدل والتشكيك كذبها الفضل
ص: 69
وأنكرها ! وجعل يسب ويشتم العلّامة لذكرها !!
وقد رأينا أن نذكر عشرة موارد من هذا القبيل ، تاركين الحكم للباحث المنصف الحرّ :
قال الفضل : قد صح أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة ، وقد قال الجزيري : من ادعى أن أبا بكر كان في جيش أسامة فقد أخطأ ، لأن النبي بعد أن أنفذ جيش أسامة قال : مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس ؛ ولو كان مأموراً بالرواح مع أسامة لم يكن رسول اللّه يأمره بالصلاة بالأمة»(1)
أقول :
هذا كلامه !
ونحن للاختصار نكتفي بكلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري ، فإنّه يقول ما ملخصه :
«كان تجهيز أسامة يوم السبت، قبل موت النبي بيومين ... فبدأ برسول اللّه وجعه في اليوم الثالث ، فعقد لأسامة لواء بيده ، فأخذه أسامة ، فدفعه إلى بريدة، وعسكر بالجرف . وكان ممّن ندب مع أسامة من كبار
المهاجرين والأنصار ، منهم : أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وسعد وسعيد ، وقتادة بن النعمان ، وسلمة بن أسلم . فتكلّم في ذلك قوم ... ثمّ اشتد برسول اللّه وجعه فقال : أنفِذوا جيث- أسامة .
ص: 70
وقد روي ذلك عن : الواقدي، وابن سعد ، وأبن إسحاق ، وأبن الجوزي ، وابن عساكر ...» (1).
وقال الفضل : «وأما ما ذكر أن أبا بكر تفرّد برواية هذا الحديث من بين سائر المسلمين ، فهذا كذب صراح ... فكيف يقول هذا الفاجر الكاذب إن أبا بكر تفرد برواية حديث عدم توريث رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله ] وسلّم ؟ ! » (2) .
أقول :
هذا كلامه ، ونحن نذكر أسماء بعض كبار أئمّة أهل السنّة ممّن نص على تفرّد أبي بكر بالحديث المزبور ، ونشير إلى محال كلماتهم في ذلك :
القاضي الإيجي.. (3)
الفخر الرازي ..(4)
أبو حامد الغزالي ..(5)
ص: 71
سيف الدين الآمدي.. (1).
علاء الدين البخاري..(2)
سعد الدين التفتازاني..(3)
جلال الدين السيوطي عن : البغوي وأبي بكر الشافعي وأبن عساكر(4).
المتقي الهندي ، عن : أحمد ومسلم وأبي داود وابن جرير والبيهقى.. (5)
ابن حجر المكي (6).
وقال الفضل : «وأما ما ذكره من كشف بيت فاطمة ، فلم يصح بهذا رواية قطعاً » (7).
أقول :
خبر كشف بیت فاطمة الزهراء عليها السلام من أصدق الأخبار
ص: 72
وأثبتها ، وقد رواه جمع كثير من الأئمة الأعلام من أهل السنّة في كتبهم المعروفة المشهورة ، فمنهم من رواه بالإسناد، ومنهم من أرسله إرسال المسلّمات ، وتنتهي أسانيدهم إلى أبي بكر نفسه ، في خبر يبدي فيه أبو بكر أسفه على أمورٍ فعلها ود لو تركها ، في كلام طويل ، ونحن نذكر القدر المحتاج إليه هنا ، وذلك قوله : وددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن غلّقوه على الحرب".
ومن رواته :
أبو جعفر الطبري ، في التاريخ 353/2 ..
وأبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب الأموال : 174 ..
وابن عبد ربه القرطبي، في العقد الفريد 279/3 ..
والمسعودي ، في مروج الذهب 301/2. .
وابن قتيبة ، في الإمامة والسياسة 36/1 ..
وسعيد بن منصور ..
والطبراني، في المعجم الكبير 62/1 ح 43 ..
وابن عساكر ، في تاريخ دمشق 418/30 - 422 . .
وخيثمة بن سليمان الأطرابلسي ..
والمتقي الهندي ، عن الأربعة الأواخر ، في كنز العمّال 631/5 ح14113.
ولقد رواه الطبري قائلاً : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا
يحيى بن عبد اللّه بن بكير ، قال : حدثنا الليث بن سعد، قال حدثنا
علوان ، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه ، أنّه دخل على أبي بكر .... فأورد الخبر بطوله ، وفيه : «فوددت اني
ص: 73
لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب» ثم قال بعد الخبر :
«قال لي يونس : قال لنا يحيى : ثمّ قدم علينا علوان بعد وفاة الليث ، هذا الحديث ، فحدثني به كما حدثني الليث بن سعد حرفاً أنه حدّث هو به الليث بن سعد، وسألته عن اسم أبيه فأخبرني أنه علوان بن داود».
ثمّ قال الطبري : «وحدثني محمد بن إسماعيل المرادي ، قال : حدثنا عبد اللّه بن صالح المصري ، قال : حدثني الليث ، عن علوان بن صالح ، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن أبا بكر الصديق قال ... ثم ذكر نحوه ولم يقل فيه : ( عن أبيه ) »(1) .
صحّة السند :
أقول : ورجال السند كلهم ثقات، وأكثرهم من الأئمة الأعلام :
*فأما يونس بن عبد الأعلى، الصدفي المصري ، فهو من رجال مسلم والنسائي وابن ماجة ، ومن مشايخ أبي حاتم وأبي زرعة وابن خزيمة وأبي عوانة وأمثالهم من الأئمة ؛ وقد وُصف ب- «ركن من أركان الإسلام »وقال الذهبي عنه : «كان كبير المعدّلين والعلماء في زمانه بمصر».. «كان قرّة عین ،مقدّماً في العلم والخير والثقة»، توفي سنة 264(2).
*وأما يحيى بن عبد اللّه بن بكير، المصري، فهو من رجال الصحيحين وغيرهما، ووصفه الذهبي ب- «الإمام المحدّث ، الحافظ
ص: 74
الصدوق ... كان غزير العلم، عارفاً بالحديث وأيّام الناس ، بصيراً بالفتوى ، صادقاً ، ديناً ... ما علمت له حديثاً منكراً حتّى أُورده مات سنة231 (1).
*وأمّا الليث بن سعد ، عالم الديار المصرية، فهو من رجال الستة .. قال الذهبي : «كان الليث رحمه اللّه فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها، ومن يفتخر بوجوده الإقليم . . . » (2).
*وأما علوان بن داود ، فقد أورده أبو حاتم في الثقات(3) ، وحسنه سعيد بن منصور كما سيأتي ، وكذا ورد في سند الحاكم في مستدركه كما ستعلم كذلك .
وأبن أبي حاتم ذكره بعنوان «علوان بن إسماعيل» ، قال : «علوان بن إسماعيل الفرقسائي، روى عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف .. روى عنه : الليث ... سمعت أبي يقول ذلك»(4) . وقيل : علوان بن صالح (5) ، وهكذا ورد في الإسناد الثاني للطبري(6) ، وفي بعض الكتب أنه توفي سنة 180(7).
*وأما صالح بن كيسان، فهو من رجال الصحاح الستة ، قال الذهبي : صالح بن كيسان ، الإمام الحافظ الثقة ، أبو محمد ، ويقال : أبو
ص: 75
الحارث ، المدني ...»(1)
*وأما عمر بن عبد الرحمن بن عوف، فهو من رجال أبي داود ، .قال الحافظ ابن حجر : مقبول »(2) .
وتلخص : صحة الحديث على ضوء كلمات علماء القوم ، مضافاً إلى :
1 - إن الحاكم النيسابوري أخرج قطعةً منه ، في كتاب الفرائض ، من المستدرك على الصحيحين بإسناده عن علوان بن داود ، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه ؛ وهي قوله : «وددت أني سألت النبي صلی اللّه علیه واله عن ميراث العمة والخالة ، فإنّ في نفسي منها حاجة» (3)
2 - إن المتقي الهندي أخرج الحديث ، فأسنده إلى : أبي عبيد في كتاب الأموال ، والعقيلي ، وخيثمة بن سليمان الأطرابلسي في فضائل الصحابة ، الطبراني ، ابن عساكر ، سعيد بن منصور ، وقال : «إنّه حديث
حسن»(4) .
وسعيد بن منصور الذي حسن الحديث من أعلام الأئمة في الحديث والرجال ، ومن رجال الصحاح الستة .
فعن أحمد بن حنبل : كان سعيد من أهل الفضل والصدق .
وعن أبي حاتم الرازي : هو ثقة ، من المتقنين الأثبات ، ممّن جمع
ص: 76
وصنف .
وقال الذهبي : الحافظ الإمام ، شيخ الحرم ، مؤلف كتاب السنن(1) (2)
3 - إن سعيد بن عفير ، الراوي الآخر للحديث عن علوان بن داود ، وهو سعيد بن كثير بن عفير المصري، وينسب إلى جده ، من رجال الصحيحين وغيرهما ..
وقال ابن عدي ما ملخصه : «لم أسمع أحداً ولا بلغني عن أحد من الناس كلام في سعيد بن كثير بن عفير ، وهو عند الناس صدوق ثقة . وقد حدث الأئمّة من الناس ، ولا أعرف سعيد بن عفير غير المصري ، ولم أجد لسعيد بعد استقصائي على حديثه شيئاً مما ينكر عليه أنه أتى بحديث به برأسه إلا حديث مالك عن عمه أبي سهيل، أو أتى بحديث زاد في إسناده إلا حديث غسل النبي ، وكلا الحديثين يرويهما عنه ابنه عبيد اللّه ، ولعلّ البلاء من عبيد اللّه ، لأني رأيت سعيد بن عفير مستقيم الحديث (3).
وذكر الذهبي كلام ابن عدي وتعقبه : بلى ، لسعيد حديث منكر من رواية عبد اللّه بن حماد الأملي ، عن سعيد بن عفير ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبيد اللّه بن عمر ، عن أبي الزبير ، عن جابر مرفوعاً، في عدم وجوب العمرة . . . » (4).
وتلخص : إنّ الرجل من أصدق الناس وأوثقهم، وإن حديثه عن «علوان» ليس حديثاً منكراً .
ص: 77
هذا ، وقد رواه عن علوان بن داود رجل آخر أيضاً ، اسمه الوليد بن الزبير ، كما سيأتي في رواية ابن عساكر .
4 - إن ابن عساكر أخرج هذا الحديث وليس فيه «علوان» ، قال : أخبرنا أبو البركات عبد اللّه بن محمد بن الفضل الفراوي وأُمّ المؤيد نازيين المعروفة بجمعة بنت أبي حرب محمد بن الفضل بن أبي حرب ، قالا : أنا أبو القاسم الفضل بن أبي حرب الجرجاني ، أنبأ أبو بكر أحمد بن الحسن ، نا أبو العباس أحمد بن يعقوب ، نا الحسن بن مكرم بن حسان البزار أبو علي ببغداد ، حدثني أبو الهيثم خالد بن القاسم ، قال : حدثنا ليث ابن سعد، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، أنه دخل على أبي بكر...»
قال ابن عساكر: كذا رواه خالد بن القاسم المدائني عن الليث ، وأسقط منه علوان بن داود .
وقد وقع لي عالياً من حديث الليث ، وفيه ذكر علوان ، أخبرناه ...» .
ثمّ قال : ورواه غير الليث عن علوان ، فزاد في إسناده رجلاً بينه وبين صالح بن كيسان ، أخبرناه أبو القاسم بن السوسي وأبو طالب الحسيني ، قالا : أنا علي بن محمد، أنا أبو محمد بن أبي نصر ، أنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان(1) ، أنا أبو محمد عبد اللّه بن زيد بن عبد الرحمن النهراني ، نا الوليد بن الزبير ، ثنا علوان بن داود البجلي ، عن أبي محمد المدني، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، قال : دخلت على أبي بكر ... (2).
ص: 78
قلت :
والظاهر وقوع السهو في هذا السند ، فإنّ «أبو محمد المدني» هو صالح بن كيسان لا غيره ، و الوليد بن الزبير» كأنه الذي ذكره ابن أبي حاتم ، قال : سمع منه أبي بحمص وروى عنه أبي بحمص وروى عنه ... سئل أبي عنه فقال : صدوق »(1) .
ه - إن أبا عبيد ...
وهو القاسم بن سلام ، الإمام الحافظ ، المجتهد ، ذو الفنون ، المقبول عند الكلّ ، قال إسحاق بن راهويه : إن اللّه لا يستحيي من الحقِّ ، أبو عبيد أعلم منّي ومن ابن حنبل والشافعي ... توفي سنة 224 (2)، روى في كتاب الأموال قال : حدثني سعيد بن عفير ، قال : حدثني علوان بن داود - مولى أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن حميد ابن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه عبد الرحمن . قال : دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفّي فيه ، فسلمت عليه ، وقلت : ما أرى بك بأساً والحمد لله ، ولا تأس على الدنيا ، فواللّه إن علمناك إلا كنت صالحاً مصلحاً.
فقال : أما إنّي لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهم وددت أني لم أفعلهم ، وثلاث لم أفعلهم وددت أني فعلتهم، وثلاث وددت أني سألت رسول اللّه عنهم .
فأمّا التي فعلتها ووددت أني لم أفعلها فوددت أني لم أكن فعلت
ص: 79
كذا وكذا - لخلة ذكرها ، قال أبو عبيد : لا أريد ذكرها (1). . . .(2)
أقول :
لو كان ما فعله أبو بكر حقاً ، لما أعرض أبو عبيد عن ذكره ، ولو كان الخبر كذباً لكذب الخبر قبل أن يكتم تلك الخلة ولا يذكرها !! - وإن ابن تيمية - المعروف بنصبه وعناده لأهل البيت علیهم السلام
يعترف بالقضية ثم يقول بلا حياء : «إنّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال اللّه الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه ، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنّه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء»(3) .
وقال الفضل : «شأن أئمة الإسلام وخلفاء النبوة أن يحفظوا صورة سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله] وسلّم في الأمة ، فأمرهم بترك المغالاة ، والإجماع على أن الإمام له أن يأمر بالسُنّة أن يحفظوها ، ولا يختص أمره بالواجبات ، بل له الأمر بإشاعة المندوبات ، وهذا مما لا نزاع فيه ، كما أجاب قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك المغالاة والتواضع في قوله ، وأما تخطئة قاضي القضاة في جوابه ، فخطأ بيّن ، لأنّه لم يرتكب المحرّم ، بل هدّد به . . . » (4).
ص: 80
أقول :
لقد حرّم عمر المغالاة بالمهر ، وهذا ما فهمه الناس من كلامه ، وهو ما رواه وفهمه كذلك أئمة القوم من قوله .
أما أصل خطبته في ذلك ، فقد أخرجه أحمد في المسند (1) والدارمي والترمذي وابن ماجة والنسائي والبيهقي في سننهم في كتاب النكاح (2) ، وقال الحاكم بعد أن روى الحديث ببعض طرقه : «فقد تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وهذا الباب لي مجموع في جزء كبير ، ولم يخرجاه ».
فقد نص على تواتر الخبر، ووافقه الذهبي (3) . ولكن لم يذكر اعتراض المرأة ، ولا كلام عمر ، ثم عدوله عما قاله ! ..
قال السيوطي : وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى - بسند جيد- عن مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب المنبر ثمّ قال : أيها الناس ! ما إكثاركم في صداق النساء ، وقد كان رسول اللّه وأصحابه وإنّما الصدقات في ما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها ؛ فلا أعرفنّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم . ثم نزل .
فاعترضته امرأة من قريش فقالت له : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس
ص: 81
أن يزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم ؟! قال : نعم . فقالت : أما سمعت ما أنزل اللّه ، يقول : « »(1) فقال : اللّهم غفرانك ، كلّ الناس أفقه من عم عمر .
ثم رجع ، فركب المنبر فقال : يا أيها الناس ! إنّي كنت قد نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ .
وأخرج عبد الرزاق وأبن المنذر عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء . فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن اللّه يقول : «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا» - من ذهب . قال : وكذلك هي في قراءة ابن مسعود- ، فقال عمر : إنّ امرأة خاصمت عمر فخصمته .
وأخرج الزبير بن بكار في الموفقيات ، عن عبد اللّه بن مصعب ، قال : قال عمر : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة : ما ذاك لك ! قال : ولم ؟! قالت : لأنّ اللّه يقول : «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا » . فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ » (2).
وتلخص :
1 - إن عمر حرّم .
2 - وهدّد بإلقاء الزيادة في بيت المال .
ص: 82
3 - وإن الناس فهموا من كلامه التحريم ، فاعترضته المرأة القرشية .
4 - وخصمته بالقرآن ، فرجع عن تحريمه .
5 - وظهرت جرأته على اللّه تعالى، أو جهله بالأحكام الشرعية .
وهذا الموضع أيضاً من جملة المواضع التي يظهر فيها الفرق بين ابن روزبهان وابن تيمية ، فإنّ ابن تيمية يصرّح بكون قوله مخالفاً للنص ، وإنّه قد أخطأ فيه ، إلا أنّه كان مجتهداً ، وهو لم ينفّذ اجتهاده لما علم ببطلانه(1) .
وقال الفضل : «قد ثبت في الصحاح عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم اتخذ حجرةً في المسجد ، وعن ابي هريرة : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ... ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ، وعن أبي ذرّ ..
وهذه الأخبار كلّها في الصحاح ، وهذا يدل على إن رسول اللّه كان يصلّي التراويح بالجماعة أحياناً ولم يداوم عليها مخافة أن تفرض على المسلمين فلم يطيقوا ..
فلما انتهى هذه المخافة جمعهم عمر وصلّى التراويح ... فقال عمر : بدعة ونعمت البدعة ! أراد به أنه لم يتقرّر أمرها في زمان رسول اللّه ، وهذا لا ينافي كونها معمولة في بعض الأوقات ...(2) .
ص: 83
أقول :
ذكر الحافظ السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح ما ملخصه :
سئلت مرات : هل صلى النبي صلى اللّه عليه [ وآله] وسلّم التراويح وهي العشرون ركعة المعهودة الآن ؟ وأنا أجيب بلا، ولا يقنع منّي بذلك ، فأردت تحرير القول فيها ؛ فأقول : الذي وردت به الأحاديث الصحيحة والحسان والضعيفة : الأمر بقيام رمضان والترغيب فيه، من غير تخصيص بعدد ، وإنّه لم يثبت أنّه صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم صلّى عشرين ركعة ، وإنّما صلّى ليالى صلاة لم يذكر عددها ، ثمّ تأخّر في الليلة الرابعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها .
وقد تمسك بعض من أثبت ذلك بحديث ورد فيه ، لا يصلح الاحتجاج به ، وأنا أورده و أبين وهاءه ، ثمّ أُبين ما ثبت بخلافه :
روى ابن أبي شيبة في مسنده ، قال : حدثنا يزيد ، أنا إبراهيم بن عثمان ، عن الحكم بن مقسم، عن ابن عباس : أن رسول اللّه كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر ...
قلت : هذا الحديث ضعيف جداً لا تقوم به حجّة . قال الذهبي في الميزان : إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الكوفي ، قاضي واسط ... ( فذكر الكلمات في تجريحه) . قال الذهبي : ومن مناكيره ما رواه عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس ، قال : كان رسول اللّه يصلّي في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر ...
الوجه الثاني : إنّه قد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عائشة :
ص: 84
سئلت عن قيام رسول اللّه في رمضان فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة .
الثالث : قد ثبت في صحيح البخاري عن عمر أنه قال في التراويح : نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل فسماها بدعة ، يعني بدعة حسنة . وذلك صريح في أنّها لم تكن في عهد رسول اللّه . وقد نص على ذلك الإمام الشافعي وصرّح به جماعات من الأئمة ، منهم الشيخ عز الدين ابن عبد السلام حيث قسّم البدعة إلى خسمة أقسام وقال : ومثال المندوبة صلاة التراويح ، ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات . ثمّ قال : وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي ... وقد قال عمر في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه يعني : إنّها محدثة لم تكن . هذا آخر كلام الشافعي .
الرابع : إنّ العلماء اختلفوا في عددها ، ولو ثبت ذلك من فعل النبي لم يُختلف فيه .
وفي الأوائل للعسكري : أوّل من سنّ قيام رمضان عمر، سنة أربع عشرة . وأخرج البيهقي وغيره من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، قال : إنّ عمر بن الخطاب أوّل من جمع الناس على قيام شهر رمضان ، الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي حثمة . وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، نحوه ..
وأخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللّه يرغب في قيام رمضان ولم يكن رسول اللّه جمع الناس على القيام »(1) .
ص: 85
هذه خلاصة ما ذكره السيوطي في رسالته .
فالحاصل : أوّلاً: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يصل الركعات المعهودة عندهم في شهر رمضان ، أصلاً .
وثانياً : إنّه لم يصل تلك الركعات جماعة .
وثالثاً : إنّ القيام بهذه الصلاة جماعة من أوليات عمر وبدعه ، وإن ذلك رأي الشافعي وجماعات كبيرة من
الأئمّة الأعلام.
وقال الفضل : «الأئمة المجتهدون قد يعرض لهم الخطأ في الأحكام ...
وإن صح ما ذكر من حكم عمر في الحامل والمجنونة، فربما كان الشيء مما ذكرناه ، ولا يكون هذا طعناً .
وكيف يصح لأحدٍ أن يطعن في علم عمر وقد شاركه النبي في علمه كما ورد في الصحاح عن ابن عمر ؟! ... »(1) .
أقول :
قد ثبت جهل عمر بآيات الكتاب والأحكام الشرعية ، في موارد كثيرة ، فإن أصر أولياؤه على كونه عالماً بالكتاب والأحكام ، لزمهم القول بجرأته على اللّه والرسول في تلك المواضع ، ومخالفته للنصوص عن علم وعمد..
ص: 86
ومن ذلك هذان الموضعان وقد ثبت في المصادر أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي منعه من رجمها، وتشكيك ابن روزبهان في صحة الخبر مكابرة واضحة ، تبع فيها ابن تيمية الحراني (1).
أمّا قضيّة المرأة الحامل التي ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها ، فقد أخرجها :
عبد الرزاق بن همام الصنعاني ..(2)
وعبد بن حميد (3)..
وابن المنذر (4) .
وابن أبي حاتم(5) ...
والبيهقي..(6)
وابن عبد البر (7)..
والمحب الطبري(8)
والمتقي الهندي (9)..
قال ابن عبد البر : فكان عمر يقول : لولا علي لهلك عمر(10).
ص: 87
وأمّا قضية المرأة المجنونة التي زنت ، فقد أخرجها :
عبد الرزاق بن همام(1)..
والبخاري (2)..
وأحمد ..(3)..
والدارقطني (4)..
وغيرهم من الأئمّة الأعلام (5) . . قال المناوي : فقال عمر : لولا عليٌّ هلك عمر» (6) .
فكيف يكون عمر مشاركاً للنبي في علمه والحال هذه ؟!
ألا تكذب هذه الواقعة الثابتة مثل تلك الأخبار ، لا سيما وأنّها مروية عن ابن عمر ؟!
ص: 88
وقال الفضل : ضرب عثمان عبد اللّه بن مسعود ممّا لا رواية فيه أصلاً إلا لأهل الرفض، وأجمع الرواة من أهل السنّة أن هذا كذب وافتراء ، وكيف يضرب عثمان عبد اللّه بن مسعود وهو من أخص أصحاب رسول اللّه ومن علمائهم ؟! . . . » (1) .
أقول :
قال ابن قتيبة : « وكان ممّا نقموا على عثمان أنّه ... طلب إليه عبد اللّه ابن خالد بن أسيد صلةً ، فأعطاه أربعمئة ألف درهم من بيت مال المسلمين ، فقال عبد اللّه بن مسعود في ذلك ، فضربه إلى أن دقّ له
ضلعين »(2) .
وتجد ما كان بينه وبين ابن مسعود في :
تاريخ الطبري 595/2 - 596 . .
العقد الفريد 308/3 ..
الأوائل - لأبي هلال العسكري - : 129. .
الكامل في التاريخ 477/2..
أسد الغابة 285/3 رقم 3177..
الرياض النضرة 84/3 ..
ص: 89
تاريخ الخلفاء : 185..
تاريخ الخميس 261/2..
ومصادر كثيرة غيرها في التاريخ والسير ومباحث الإمامة (1) . فهل هؤلاء من أهل الرفض ؟ !
وقال الفضل : وضرب عمّار بن ياسر ممّا لا رواية به في كتاب من الكتب، ونحن نقول في جملته : إن هذه الأخبار وقائع عظيمة تتوفر الدواعي على نقلها وروايتها ، أترى جميع أرباب الروايات سكتوا عنه إلا شرذمة يسيرة من الروافض ؟! ولقد صدق مأمون الخليفة حيث قال : أربعة في أربعة ... والكذب في الروافض ... »(2)
أقول :
إن كان هذا الخبر كذباً ، فالقوم أكذب من غيرهم ؛ لأنّهم يكذبون على الخلفاء الراشدين عندهم !!
إن خبر ضرب عثمان عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه موجود في أشهر كتب القوم في التواريخ والسير ، وغيرها ..
قال ابن عبد ربه : ومن حديث الأعمش - يرويه أبو بكر بن أبي شيبة - قال : كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه ، في صحيفة ،
ص: 90
91
فقالوا من يذهب بها إليه ؟ فقال عمار: أنا . فذهب بها إليه ، فلما قرأها قال : أرغم اللّه أنفك . قال : وأنف أبي بكر وعمر . قال : فقام إليه فوطئه حتّى غشي عليه . ثمّ ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث، إمّا أن تعفو، وإما أن تأخذ الأرش، وإما أن تقتص . فقال : واللّه لا قبلت واحدة منها حتّى ألقى اللّه . قال أبو بكر : فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح ، فقال : ما كان على عثمان أكثر ممّا
صنع»(1).
وفي الاستيعاب : «فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : واللّه لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان(2) .
وروى الطبري وابن الأثير - في خبر - : قال مسروق بن الأجدع لعمّار : ( يا أبا اليقظان ، على ما قتلتم عثمان ؟! قال : على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا . فقال : واللّه ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين»(3).
وحتى أئمة اللغة أوردوا القصّة ، ففي مادة «صبر» ما نصه عن ابن الأثير وابن منظور والزبيدي : « وفي حديث عمار حين ضربه عثمان ، فلمّا عوتب في ضربه إيّاه قال : هذه يدي لعمّار فليصطبر . معناه : فليقتص »(4).
وقال الفضل : «أمّا سبّ أمير المؤمنين - نعوذ باللّه منهذا - فلم يثبت
ص: 91
عند أرباب الثقة ، وبالغ العلماء في إنكار وقوعه ، حتى إن المغاربة وضعوا كتباً ورسائل وبالغوا فيه كمال المبالغة . وأنا أقول شعراً . . . »(1) .
أقول :
لا يدافع عن معاوية - رئيس الفرقة الباغية - إلا النواصب ، بل إنّ أكثرهم وقاحة وأشدّهم نصباً لا يجرأ على تكذيب سب معاوية لأمير المؤمنين عليه السلام ، لأن ذلك من ضروريات التاريخ ..
وقوله : «فلم يثبت عند أرباب «الثقة يكفي في كذبه ما أخرجه مسلم في صحيحه : «قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا التراب ؟! فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللّه فلن
أسبه . . . »(2).
وقال السيوطي : كان بنو أمية يسبّون علي بن أبي طالب في الخطبة ، فلما ولّي عمر بن عبد العزيز أبطله وكتب إلى نوّابه بإبطاله وقرأ مكانه
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ »(3) الآية . فاستمرت قراءتها إلى الآن» (4).
وقال الجاحظ : «إن قوماً من بني أُميّة قالوا لمعاوية يا أمير : المؤمنين ! إنّك قد بلغت ما أملت ، فلو كففت عن هذا الرجل ؟ فقال : لا واللّه حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر
ص: 92
فضلاً» (1)
هذا ، وأبن تيمية لم ينكر سب معاوية لأمير المؤمنين وأمره بذلك ، وإنّما جَعَلَ يدافع عن ذلك ! وكان مما صرّح به قوله : ومعاوية رضي اللّه عنه وأصحابه ما كانوا يكفّرون عليّاً ... ومن سب أبا بكر وعمروعثمان فهو أعظم إثماً ممّن سبّ عليّاً وإن كان متأولاً » (2) فاقرأ وأحكم !!
وقال الفضل - بجواب بيان العلّامة كيفية استناد العلوم الإسلامية كلّها ورجوعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام -: «وأما قوله : إن الشافعي قرأ على محمد بن الحسن ، فهو كذب باطل » (3).
أقول :
قال المزي بترجمة الشافعي : روى عن : إبراهيم بن سعد الزهري ... ومحمّد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن خالد الجندي . . . »(4) .
وقال الخطيب : سمع من مالك بن أنس ... ومحمد بن الحسن الشيباني ، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي . . . » (5) .
ص: 93
بل قال الذهبي : «وأخذ باليمن عن و ببغداد عن محمد بن الحسن فقيه العراق ، ولازمه ، وحمل عنه وقر بعير ...»(1).
فإن كان ابن روزبهان جاهلاً بمثل هذه الأمور ، فكيف يتكلّم في القضايا العقلية والمسائل العلمية، وإن كان عالماً متعمداً في تكذيبه للعلامة ، فاللّه حسيبه !
ثمّ إنّه عندما يستدل العلامة برواية من كتب علماء أهل السنّة وينقل عنها الأخبار في مقام الاحتجاج بها ، يضطرّ الفضل إلى الطعن فيهم أو في الكتب أو إلى إنكار كونهم من أهل السنة ، ليرد بذلك الحديث الذي استدلّ به العلّامة وأراد إلزام القوم به ، ومن ذلك :
قوله : «وأحمد بن حنبل قد جمع في مسنده الضعيف والمنكر ، لأنه مسند لا صحيح صحيح ، وهو ، وهو لا يعرف المسند من الصحيح ولا يفرّق بين الغث والسمين» (2) .
أقول :
بل الفضل لا يعرف المسند من الصحيح ، وكأنه توهم أن من سمّى كتابه ب- المسند فلا يكون ملتزماً بالصحة كما التزم البخاري مثلاً في كتابه الموسوم ب الصحيح ، والحال أن جماعةً من كبار أئمة أهل السنّة كالحافظ
ص: 94
أبي موسى المديني ، والحافظ عبد المغيث بن زهير الحنبلي البغدادي ، وغيرهما يصرحون بالتزام أحمد بن حنبل في مسنده ب «الصحة» (1)، وقد
فصلنا الكلام في ذلك في بعض كتبنا(2)
وقوله : «فنحن لا نعرف ابن المغازلي وأشباهه ممّن يذكر عنهم
المناكير والشواذ» (3).
وقال أيضاً في ابن المغازلي : «رجل مجهول ، لا يعرفه أحد من العلماء ، من جملة المصنفين
والمحدّثين ))(4) .
أقول :
ونحن نذكر بعض من يعرفه من العلماء ليتبين صدق الفضل من كذبه!
قال السمعاني في «الجُلّابي »: «بضم الجيم وتشديد اللام وفي آخرها الباء المنقوطة بواحدة. هذه النسبة إلى الجُلّاب . والمشهور بهذه النسبة :
أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن الطيب الجُلّابي ، المعروف بابن المغازلي، من أهل واسط العراق ، كان فاضلاً عارفاً برجالات واسط وحديثهم ، وكان حريصاً على سماع الحديث وطلبه ، رأيت له ذيل التاريخ لواسط ، وطالعته وأنتخبت منه .
ص: 95
سمع أبا الحسن علي بن عبد الصمد الهاشمي ، وأبا بكر أحمد بن محمد الخطيب ، وأبا الحسن أحمد بن مظفّر العطار ، وغيرهم .
روى لنا عنه ابنه بواسط، وأبو القاسم علي بن طراد ، الوزير ببغداد .وغرق ببغداد في الدجلة ، في صفر سنة 483 ، وحمل ميتاً إلی واسط ، فدفن بها .
وأبنه : أبو عبد اللّه ، محمد بن علي بن محمد الجلابي . كان ولي القضاء والحكومة بواسط، نيابةً عن أبي العباس أحمد بن بختيار الماندائي . وكان شيخاً فاضلاً عالماً ، سمع أباه ، وأبا الحسن محمد بن محمد بن مخلّد الأزدي ، وأبا علي إسماعيل بن أحمد بن كماري القاضي ، وغيرهم .
سمعت منه الكثير بواسط في النوبتين جميعاً ، وكنت الازمه مدّة مقامي بواسط، وقرأت عليه الكثير بالإجازة له عن أبي غالب محمد بن أحمد بن بشران النحوي الواسطي »(1) .
*وقوله : «أكثر ما ذكر من مناقب الخوارزمي موضوعات»(2) .
وقال : «هذا حديث موضوع منكر لا يرتضيه العلماء . وأكثر ما ذكر من مناقب الخوارزمي فكذلك . وهذا الخوارزمي رجل كأنه شيعي مجهول لا يعرف بحال ، ولا يعدّه العلماء من أهل العلم ، بل لا يعرفه أحد ،
ولا اعتداد برواياته وأخباره » (3).
ص: 96
أقول :
ونحن نذكر طرفاً ممّا قال العلماء بترجمة (الخوارزمي) ليتبين صدق
الفضل من كذبه كذلك ! . .
1 - قال الحافظ تقي الدين الفاسي : «الموفّق بن أحمد بن أحمد بن محمد بن محمد المكي ، أبو المؤيد ، العلامة ، خطيب خوارزم، كان أديباً فصيحاً مفوَّهاً ، خطب بخوارزم دهراً، وأنشأ الخطب ، وأقرأ الناس ، وتخرج به جماعة ، وتوفّي بخوارزم في صفر سنة 568 ..
وذكره الذهبي هكذا في تاريخ الإسلام» (1).
وذكره الشيخ محيي الدين ابن أبي الوفاء عبد القادر القرشي الحنفي في طبقات الحنفية ، وقال : «الموفّق بن أحمد بن محمد المكي ، خطيب خوارزم ، أُستاذ ناصر بن عبد السيد ، صاحب المغرب ، أبو المؤيد ، مولده في حدود سنة 484 . ذكره القفطي في أخبار النحاة ، أديب فاضل ، له معرفة بالفقه والأدب. وروى مصنفات محمد بن الحسن عن عمر بن بن أحمد النسفى النسفي ، ومات سنة 568 . فأخذ علم العربية عن محمد الزمخشري» (2).
2 - وقال الحافظ السيوطى : الموفق بن أحمد بن ... المعروف : بأخطب خوارزم، قال الصفدي: كان متمكناً في العربية ، غزير العلم ، فقيهاً فاضلاً، أديباً ، شاعراً ، قرأ على الزمخشري ، وله خطب وشعر . قال
ص: 97
القفطي : وقرأ عليه ناصر المطرزي ، وُلد في حدود سنة 484 ، ومات سنة 568»(1).
هذا، وقد اعتمد على الخطيب الخوارزمي ونقل عنه كبار العلماء ، مع وصفه بالأوصاف الحميدة والألقاب الجميلة ، كالشيخ الإمام أبي المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي ، صاحب جامع مسانيد أبي حنيفة ، فقد روى عنه في الكتاب المذكور في مواضع عديدة، مع وصفه ب «العلّامة ، أخطب خطباء خوارزم، صدر الأئمة ونحو ذلك(2) .
* قوله : «فالطبري من الروافض مشهور بالتشيّع ، مع إن علماء بغداد
هجروه لغلوّه في الرفض والتعصب، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره»(3) .
أقول :
لقد ناقض الفضل نفسه، فاعتمد على الطبري في كلام له ، كما ستعرف في فصل التناقضات» ... ولنذكر جملةً من كلمات علماء قومه في شأن الطبري ليتبين صدق الفضل من كذبه !
قال الذهبي : «محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الإمام العلم المجتهد ، عالم العصر ، أبو جعفر الطبري، صاحب التصانيف البديعة ، من أهل أمل طبرستان ، مولده سنة 224 ، وطلب العلم بعد 240 ، وأكثر الترحال ، ولقي نبلاء الرجال ، وكان من أفراد الدهر علماً وذكاء وكثرة تصانيف ، قل أن ترى العيون مثله ... واستقر في أواخر أمره ببغداد ، وكان
ص: 98
من كبار أئمة الاجتهاد ...
وقال الخطيب : كان أحد أئمة العلماء ، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه ، لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظاً لكتاب اللّه ، عارفاً بالقراءات ، بصيراً بالمعاني ، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها ، عارفاً بأقوال لصحابة والتابعين ، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتأريخهم ، وله كتاب التفسير لم يصنّف مثله ، وكتاب سمّاه لم أر سواه في معناه ، لكن لم يتمه ...
قلت : كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في التفسير ، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس ، عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك ...
قال الحاكم : سمعت حسينك بن علي يقول : أوّل ما سألني ابن خزيمة فقال لي : كتبت عن محمد بن جرير الطبري ؟ قلت : لا . قال : ولم ؟! قلت : لأنّه كان لا يظهر ، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه . قال : بئس ما فعلت ، ليتك لم تكتب عن كلّ من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر » (1).
إذاً ، كان بينه وبين الحنابلة فقط شيء ، لا بينه وبين بينه وبين علماء بغداد » ، وإنّهم كانوا يمنعون من الدخول عليه ، لا أن العلماء «هجروه» !
وكم فرق بين كلام ابن روزبهان ، وبين الحقيقة والواقع ؟! وأمّا رمي الطبري بالتشيع أو الرفض،فلروايته حديث الغدير .
ص: 99
واحتجاجه لتصحيحه ، رداً على ابن أبي داود ! وأيضاً : لقوله بجواز مسح الرجلين في الوضوء ..
وقد قال الذهبي : وكان ممن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات ، من جاهل وحاسد وملحد ، فأما أهل الدين
والعلم فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته بما كان يرد عليه من حصّة من ضيعة خلّفها له أبوه بطبرستان يسيرة »(1).
أقول :
فليلاحظ حال ابن روزبهان على ضوء كلام الذهبي !
هذا، وفي المقابل نراه يعتمد على من هو موصوف عندهم بالتعصب ، ويدافع عمّن ذكروا له القوادح الكثيرة المسقطة عن الاعتبار ؛ ومن ذلك :
لقد نقل العلامة رحمه اللّه عن الجاحظ مطلباً في مقام الاحتجاج والإلزام قائلاً: «قال الجاحظ ، وهو من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين عليه السلام»(2) .
فقال الفضل : «وأما ما ذكر أن الجاحظ كان من أعدائه، فهذا
ص: 100
كذب» (1).
أقول :
قال ابن تيميّة في كلام له : «نعم، مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم ، كالذين قاتلوا معه وأتباعهم بعدهم ، يقولون : إنه كان في قتاله على الحق مجتهداً مصيباً، وإن عليّاً ومن معه كانوا ظالمين أو مجتهدين مخطئين ، وقد صنّف لهم في ذلك مصنفات ، مثل المروانية الذي صنفه الجاحظ » (2).
فانظر من الكاذب ؟! وهل الفضل أكثر تعنتاً من ابن تيمية ؟ !
وإن شئت التفصيل فارجع إلى الجزء السادس من كتابنا الكبير ((3).
لقد حكم الفضل على كثير من أحاديث مناقب أمير المؤمنين عليه السلام بالبطلان والوضع، ولما لم يكن عنده أي دليل على مدعاه ، ذكر كلام أبي الفرج ابن الجوزي في كتابه الموضوعات !
فمن ذلك ردّه على استدلال العلّامة بقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «كنت أنا وعلي بن وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي اللّه ...» بقوله : «ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في كتاب الموضوعات من طريقين، وقال: هذا
ص: 101
حديث موضوع على رسول اللّه ...» (1).
كما إنه طعن في بعض الرواة الذين نقل عنهم العلامة ، ولم يذكر دليلاً على طعنه إلا كلام ابن الجوزي في كتاب الموضوعات..
ومن ذلك قوله في الكلبي : قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات : وكان من كبار الكذابين : وهب بن وهب القاضي ، ومحمد بن السائب الكلبي ، و ... »قال : «والغرض أنّ محمّد بن السائب الكلبي من الكذابين الوضاعين » (2) .
أقول :
ونحن مضطرون هنا إلى ذكر بعض كلمات أئمة القوم في ابن الجوزي وفي خصوص كتاب الموضوعات ، ليتبين السبب الحقيقي لاعتماد الفضل عليه وعلى كتابه في مقابلة العلّامة في مثل هذه المواضع ، ولكي تعرف حقيقة حال الفضل أيضاً !
قال الذهبي - بترجمة أبان بن يزيد العطّار - : «قد أورده العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في الضعفاء ، ولم يذكر فيه أقوال من وثقه . وهذا من عیوب كتابه ، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق » (3).
وقال بترجمة ابن الجوزي : «كان كثير الغلط في ما يصنّفه ... له وهم كثير في تواليفه ... » (4) .
ص: 102
وقال ابن حجر الحافظ - بترجمة ثمامة بن الأشرس ، بعد قصة -: دلّت هذه القصة على إن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينقد ما يحدث به»(1).
وقال السيوطي : قال الذهبي في التاريخ الكبير : لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة، بل باعتبار كثرة اطلاعه و جمعه » (2).
وقال السيوطي : «وأعلم أنّه جرت عادة الحفاظ - كالحاكم وأبن حبّان والعقيلي وغيرهم - أنّهم يحكمون على حديث بالبطلان من حيثية سند مخصوص ، لكون راويه اختلق ذلك السند لذلك المتن ، ويكون ذلك المتن معروفاً من وجه آخر ، ويذكرون ذلك في ترجمة ذلك الراوي يجرحونه به ، فيغتر ابن الجوزي بذلك ويحكم على المتن بالوضع مطلقاً ، ويورده في كتاب الموضوعات ، وليس هذا بلائق ، وقد عاب عليه الناس ذلك ، آخرهم الحافظ ابن حجر »(3).
وقال السيوطي بشرح النواوي مازجاً بالمتن: «وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلّدين ، أعني أبا الفرج ابن الجوزي ، فذكر في كتابه كثيراً ممّا لا دليل على وضعه ، بل هو ضعيف ، بل وفيه الحسن والصحيح ، وأغرب من ذلك أن فيها حديثاً من صحيح مسلم ! قال الذهبي : ربما ذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حساناً قوية»(4) .
ص: 103
أقول :
فهل كان ابن روزبهان جاهلاً بحال ابن الجوزي وكتابه ؟ !
ثمّ إنّه قد ينقل الحديث أو غيره من كتاب من الكتب، ويظهر بعد المراجعة عدم وجوده فيه .. وبالعكس، عندما يستدل العلّامة بحديث أو ينسب إلى القوم عقيدة أو قولاً ، فينفي وجوده أو ما يفيده في الكتاب أو شيء من الكتب .. وهذه موارد من ذلك :
*ذكر العلامة أقوالاً للأشاعرة في الجواب عمّا أورد عليهم في مسألة الكسب ، فقال الفضل :
«وأما هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم» .
فذكر الشيخ المظفّر أنّها موجودة في شرح المقاصد .
والعجيب أنه مع قوله : «فما رأيناها في كتبهم يقول بالنسبة إلى القول الثاني من تلك الأقوال : هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني من الأشاعرة» (1) .
*وذكر الفضل قصة زنا المغيرة ودرء عمر الحد عنه ، بنحو ينزّه فيه المغيرة عن ذلك الفعل الشنيع وعمر عن تعطيل حدّ اللّه فيه ، فقال :
ص: 104
«هذا رواية الثقات ، ذكره الطبري في تاريخه بهذه الصورة ، وذكره البخاري في تاريخه ، وأبن الجوزي ، وأبن خلكان ، وابن كثير ، وسائر المحدثين، وأرباب التاريخ في كتبهم» ..
قال : وعلى هذا الوجه هل يلزم طعن ؟؟ ! » (1) .
فقال الشيخ المظفّر في الجواب : «قبح الكذب عقلي وشرعي ، ولا سيّما في مقام تحقيق المذهب الحقِّ الذي يسأل اللّه العبد عنه ، ، وأقبح منه عدم المبالاة به وعدم الحياء ممن يطلع عليه.
أنت ترى هذا الرجل يفتعل قصّةً وينسبها إلى كتب معروفة ، وما
رأيناه منها خالٍ عن أكثر هذه القصة كتاريخ الطبري ووفيات الأعيان ولنذكر ما في تاريخ الطبري ووفيات الأعيان لتعلم كذبه في ما نسبه إليهما ، ونستدل به على كذبه في ما نسبه إلى غيرهما ...»(2).
وقال الفضل - في الدفاع عن عثمان في إيوائه الحكم بن أبي العاص وأهله - :
«روى أرباب الصحاح أن عثمان لما قيل له : لم أدخلت الحكم بن أبي العاص ؟ ! قال : استأذنت رسول اللّه في إدخاله فأذن لي ، وذكرت ذلك لأبي بكر وعمر فلم يصدّقاني ، فلما صرت والياً عملت بعلمي في إعادتهم إلى المدينة . وهذا مذكور في الصحاح ، وإنكار هذا النقل من قاضي القضاة إنكار باطل لا يوافقه نقل الصحاح ... »(3) .
ص: 105
أقول :
قد ادعى هذا قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي ، وأعترض عليه السيّد المرتضى علم الهدى - كما نقل العلّامة عنه - بأن هذا - قول قاضي القضاة - لم يُسمع من أحدٍ ، ولا نُقل في كتاب ، ولا يُعلم من أين نقله القاضي ؟ ! أو في أي كتاب وجده ؟ !(1).
وهنا أيضاً يقول الشيخ المظفّر : لا أثر لهذا الخبر في صحاحهم بحسب التتبع ، ولم أجد من نقله عنها ، ولو كان موجوداً فيها فلِمَ لمْ يعيّن
،
الكتاب ومحل ذكره منه بعد إنكار المرتضى رحمه اللّه ... » (2)
*وذكر الفضل مطلباً - في مقام الدفاع عن عثمان وتبرئته عن تعطيل حد اللّه في عبيد اللّه بن عمر - ونسبه إلى التواريخ قائلاً :
«هذا ما كان من أمر الهرمزان على ما ذكره أرباب صحاح التواريخ ، ونقله الطبري وغيره ...» (3).
فقال الشيخ المظفّر : عجباً لهذا الرجل من عدم حيائه من الكذب وعدم مبالاته به ، فإنّه نسب ما ذكره في قصة الهرمزان إلى الطبري وغيره ، وقد نظرت تاريخ الطبري وغيره ممّا حضرني من كتبهم، فلم أجد
بها . . . » (4)
ص: 106
وما أكثر تحريفات الفضل في الأخبار والروايات وكلمات العلماء ، بزيادة أو نقيصة ، وهو في نفس الوقت يتهم العلّامة والشيعة بالاختلاق والافتراء ، ونحن نذكر من ذلك موارد ليزداد الباحث المنصف بصيرةً
وأطلاعاً على واقع حال الفضل وقومه :
*قال العلّامة - في مبحث أن الأنبياء معصومون ، في ذكر ما في كتب القوم من الإهانة والقدح في الأنبياء - : وفي الصحيحين ، عن عبد اللّه بن : أنه كان يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم أنه دعا زید بن عمرو بن نفيل ، وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول اللّه ، فقدّم إليه رسول اللّه سفرةً فيها لحم فأبى أن يأكل منها ، ثم قال : إنّي لا أكل ما تذبحون على أنصابكم ، ولا أكل ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه .»
قال العلّامة : «فلينظر العاقل : هل يجوز له أن ينسب نبيه إلى عبادة الأصنام والذبح على الأنصاب ويأكل منه ، وأنّ زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف باللّه منه وأتم حفظاً ورعاية لجانب اللّه تعالى ؛ نعوذ باللّه من هذه الاعتقادات الفاسدة » (1) .
فقال الفضل :
«من غرائب ما يستدل به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : روايةهذاالحديث. فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه ، وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه ، وتمام
ص: 107
الحديث : أن رسول اللّه لما قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال : وأنا أيضاً لا أكل من ذبيحتهم ومما لم يُذكر اسم اللّه عليه ؛ فأكلا معاً .
وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمة من الطعن في الرواية ، نسأل اللّه العصمة من التعصب ، فإنّه بئس الضجيع » (1).
أقول :
قد ذكر العلّامة الحديث عن «الصحيحين» ، أما الفضل فادعى وجود التتمة ولم ينسبها إلى كتاب ! وجعل يتهم العلّامة ! وقد قال الشيخ المظفّر : قد راجعنا صحيح البخاري ، فوجدنا الحديث أثر أبواب المناقب، وفي باب ما ذُبح على النصب والأصنام من كتاب الذبائح ، وما رأينا لهذه التتمة أثراً (2).
وقد رواه أحمد في مسنده ، ولم يذكر ما أضافه الخصم (3).
وليست هذه أوّل كلمة وضعها بل سبق له مثلها قريباً في روايات اللّهو وسيأتي له أمثالها .
ولا عجب، فإنّها سُنّة لهم في غالب أخبارهم، ومنها أصل هذا الحديث ، ولكنّي أعجب من إرعاده وإبراقه وسؤاله العصمة عن التعصب ، ونسبته إلى المصنف عدم الأمانة ! وكأنّه يريد بذلك أن يدعو قومه إلى
ص: 108
إضافة هذه التتمّة » (1) .
*وقال العلّامة : من مسند أحمد .. : لما نزل « وأنذر عشيرتك الأقربين » (2) جمع النبي من أهل بيته ثلاثين ، فأكلوا وشربوا ثلاثاً ، ثم قال لهم من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون خليفتي ، ويكون معي في الجنّة ؟ فقال على : أنا ؛ فقال : أنت» (3) .
فقال الفضل : «وفي مسند أحمد بن حنبل ( ويكون خليفتي) غير موجود ، بل هو من إلحاقات الرافضة . وهذان الكتابان اليوم موجودان وهم لا يبالون من خجلة الكذب والافتراء»(4) .
أقول :
الحديث رواه العلّامة عن مسند أحمد والكتابان موجودان - كما ذكر الفضل ، وقد قال الشيخ المظفّر في جوابه : «من أعجب العجب أن يكذب هذا الرجل وينسب الكذب إلى آية اللّه المصنف رحمه اللّه ، وشدّد النكير عليه وعلى علمائنا أهل الصدق والأمانة .
وإذا أردت أن تعرف كذبه فراجع المسند 111 من الجزء الأوّل ، تجد الحديث مشتملاً على لفظ «خليفتي»
وهكذا نقله في الكنز عن المسند ، وعن ابن جرير ، قال : وصححه،
ص: 109
وعن الطحاوي والضياء في المختارة (1). . . »(2) .
*وقال العلّامة في حديث تزويج أمير المؤمنين بالزهراء عليهما السلام : «في مسند أحمد بن حنبل : إن أبا بكر وعمر خطبا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فاطمة عليها السلام ، فقال : إنّها صغيرة ؛ فخطبها عليُّ فزوجها منه(3) »(4).
فقال الفضل : «صح في الأخبار أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة فقال رسول اللّه : إنّي أنتظر أمر اللّه فيها ، ولم يقل : إنّها صغيرة ، وهذا افتراء على أحمد بن حنبل ، وكلّ من قال هذا فهو مفتر على رسول اللّه وناسباً(5) للكذب إليه . . . »(6) .
فقال الشيخ المظفّر : « ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن المسند قد رواه بعينه النسائي في أوائل كتاب النكاح من سننه ، في باب تزويج المرأة مثلها في السن(7) ، ورواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ولم يتعقبه
ص: 110
*وقال العلّامة - في اعتراضات عمر على النبي بسوء أدب -: «وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي، في مسند عبد اللّه بن عمر بن بن عمر بن الخطاب : إنّه لمّا توفّي عبد اللّه بن أبي سلول ، جاء ابنه عبد اللّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فسأله أن يصلّي عليه ، فقام رسول اللّه ليصلّي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه ! أتصلي عليه وقد نهاك ربّك أن تصلي عليه ؟ ! فقال رسول اللّه : إنّما خيّرني اللّه تعالى(1) . . . » (2).
فقال الفضل : غيَّر الحديث عن صورته ، والصواب - من رواية « الصحاح - أن عمر قال الرسول اللّه : أتصلّي عليه وهو قال كذا وكذا ؟ ! وطفق يعدّ مثالبه وما ظهر عليه من نفاقه ، فقال رسول اللّه : دعني ! فأنا مأمور ومخيَّر ؛ فصلّى عليه ، فأنزل اللّه تصديقاً لفعل عمر ونهيه عن الصلاة عليه قوله : «وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ...» (3) الآية ؛ وهذا من مناقب عمر حيث وافقه اللّه على فعله وأنزل على تصديق قوله القرآن . . . »(4) .
فقال الشيخ المظفّر في جوابه : «قد روى البخاري هذا الحديث بألفاظه التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه(5) ، وكذلك مسلم في فضائل عمر(6) ،وفي أوّل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (7) .. فما نسيه الفضل إلى
ص: 111
المصنف اللّه من تغيير صورة الحديث جهل وتحامل .
بل الفضل هو الذي غيّر صورة الحديث الذي صوّبه . . . » (1)
*وقال العلامة - في زيادة عمر في الأذان : الصلاة خير من النوم - : «روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في حديث أبي محذورة سمرة ابن مغير لمّا علّمه الأذان(2) . . . » (3)فلم يذكر فيه : «الصلاة خير من النوم ».
فقال الفضل : روى مسلم في صحيحه ، وكذا الترمذي والنسائي في صحيحهما، عن أبي محذورة ، قال : قلت: يا رسول اللّه ! علّمني الأذان فذكر الأذان وقال بعد « حي على الفلاح »: فإن كانت صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم» (4).
فقال الشيخ المظفّر : ما أصلف وجهه وأقل حيائه ، كيف افترى في حديث أبي محذورة هذه الزيادة على صحيح مسلم وهو بأيدي الناس ، ولا أثر لها فيه(5) ، كما إنّه لا وجود لهذا الحديث في صحيح الترمذي حتّى بدون الزيادة، وإنّما أشار إليه إشارة (6) .
نعم، هو موجود بالزيادة في صحيح النسائي ، في الأذان في السفر ، من طريق واحدٍ ضعيف(7) ، ورواه قبله من طرق بدون هذه الزيادة(8) . . . » (9).
ص: 112
*وقال العلامة : روى البخاري ومسلم في صحيحهما : قال عمر للعباس وعليّ : فلمّا توفّي رسول اللّه قال أبو بكر : أنا ولي رسول اللّه فجئتما أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من
أبيها .. فقال أبو بكر : قال رسول اللّه : لا نورث ما تركنا صدقة.
فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ؛ واللّه يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق .
ثمّ توفّي أبو بكر فقلتُ: أنا وليّ رسول اللّه وولي أبي بكر ؛ فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، واللّه يعلم أنّي لصادق بار راشد تابع للحق ...»
قال العلّامة : « ... إنه وصف اعتقاد عليّ والعباس في حقه وحق أبي بكر بأنّهما كاذبان آثمان غادران خائنان .. فإن كان اعتقاده فيهما حقاً وكان قولهما صدقاً ، لزم تطرّق الذمّ إلى أبي بكر وعمر ، وأنهما لا يصلحان للخلافة .. وإن لم يكن كذلك ، لزم أن يكون قد قال عندها :بتاناً وزوراً إن كان اعتقاده مخطئاً ، وإن كان مصيباً لزم تطرّق الدم إلى عليّ والعباس حيث اعتقدا في أبي بكر وعمر ما ليس فيهما (1)...»(2) .
أقول :
هذا ما نقله العلّامة من الصحيحين وعلّق عليه بأمور منها ما ذكرناه . فقال الفضل : «هذا كلام أدخله هذا الكاذب في الحديث الصحيح من رواية البخاري ... وليس فيه ما قال : فرأيتماه كاذباً غادراً خائناً حتّى
ص: 113
يحتاج إلى الاعتذار(1) .
قال العلامة : «روى البخاري ومسلم في صحيحهما .... »فذكر القصة عنهما، ونحن نذكر لك واقع حال اللفظ الذي أنكره الفضل ونسب إدخاله في الحديث إلى العلامة ، كي تعرف الحقيقة، وأنّ العلامة لم يُدخِل في الحديث، وإنما الخيانة من البخاري ومن لف لفه !!
أخرج مسلم في صحيحه عن مالك بن أوس : إن عمر قال مخاطباً لعلي والعباس :
«فلما توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه[ وآله] وسلّم قال أبو بكر : أنا ولي رسول اللّه ؛ فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها . فقال أبو بكر : قال رسول اللّه : ما نورث ما تركنا صدقة ؛ فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، واللّه يعلم أنّه لصادق بار راشد تابع للحق . ثمّ توفّي أبو بكر ، وأنا ولي رسول اللّه وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، واللّه يعلم أنّي لصادق باز راشد تابع للحقِّ (2)»
هذا نص الحديث في صحيح مسلم . وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه ، ولكنّه في كلّ موضع
بلفظ يختلف عن غيره !
*أخرجه في باب فرض الخمس باللفظ التالي:«... فقبضها أبو بكر ، فعمل فيها بما عمل رسول اللّه صلى اللّه عليه[ وآله] وسلّم ، واللّه
ص: 114
يعلم أنّه فيها لصادق بار راشد تابع للحقِّ ؛ ثمّ توفّى اللّه أبا بكر ، فكنت أنا وليّ أبي بكر ، فقبضتها سنتين من إمارتي ، أعمل فيها بما عمله رسول اللّه وما عمل فيها أبو بكر ، واللّه يعلم أنّي فيها لصادق بار راشد تابع للحق» (1).
فحذف البخاري من الحديث كلتا الفقرتين: «فرأيتماه ...» و «فرأيتماني ...».
* وأخرجه في كتاب المغازي في حديث بني النضير : «فقبضه أبو بكر ، فعمل فيه بما عمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله] وسلّم ، وأنتم حينئذ - فأقبل على علي وعباس وقال : - تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان، واللّه يعلم أنه فيه لصادق بار راشد تابع للحقِّ . ثم توفّى اللّه أبا بكر ، فقلت : أنا وليّ رسول اللّه وأبي بكر ، فقبضته سنتين من إمارتي ، أعمل فيه بما عمل فيه رسول اللّه وأبو بكر ، واللّه يعلم أنّي فيه صادق بار راشد تابع للحق . . . » (2).
فأسقط فقرة : «فرأيتماه ...» وجعل مكانها تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان، وحذف الفقرة الثانية .
*وأخرجه فى كتاب النفقات ، باب حبس نفقة الرجل قوت سنته : « فقبضها أبو بكر يعمل فيها بما عمل به فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ]وسلّم ، وأنتما حينئذ - وأقبل على عليّ وعباس - تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا ؛ واللّه يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحقِّ ؛ ثمّ توفّى اللّه أبا بكر فقلتُ : أنا وليّ رسول اللّه وأبي بكر ، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما
ص: 115
عمل رسول اللّه وأبو بكر ...»(1).
فأسقط الفقرة الأولى وجعل مكانها : «تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا »وأسقط الفقرة الثانية .
*وأخرجه في كتاب الفرائض ، باب قول النبي : لا نورث ما تركنا صدقة :
«فتوفى اللّه نبيه فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول اللّه ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول اللّه ، ثمّ توفّى اللّه أبا بكر فقلت : أنا ولي ولي رسول اللّه ، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول اللّه وأبو بكر ...»(2) .
فحذف الفقرتين معاً ، ولم يجعل شيئاً مكانهما !
*وأخرجه في كتاب الاعتصام ، باب ما يكره من التعمّق والتنازع :
« ثم توفى اللّه نبيه فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول اللّه ، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل فيها رسول اللّه ، وأنتما حينئذ - وأقبل على عليّ وعبّاس فقال : - تزعمان أن أبا بكر فيها كذا ، واللّه يعلم أنّه فيها صادق بار راشد تابع للحقِّ ؛ ثمّ توفّى اللّه أبا بكر فقلت : أنا وليّ رسول اللّه وأبي بكر فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل به رسول اللّه وأبو بكر ...»(3).
فحذف الفقرة الأولى ، ووضع مكانها «تزعمان أن أبا بكر فيها كذا» ،
أمّا الفقرة الثانية فقد حذفها !
فممن هذا التلاعب بالأخبار ؟! وهل الفضل يجهل هذا أو يتجاهل ؟ !
ولماذا يتهم العلّامة والإمامية ؟ !
ص: 116
*وقال العلّامة - في مبحث عصمة الأنبياء -: «وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين قالت عائشة : رأيت النبي يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر(1).
وروى الحميدي عن عائشة ، قالت : دخل عليَّ رسول اللّه وعندي جاریتان تغنّيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبي . فأقبل عليه رسول اللّه وقال : دعها . فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا(2) . . .»(3) .
فقال الفضل : « وأما منع أبي بكر عنه ، فإنّه كان يعلم جوازه في أيام العيد، وتتمة الحديث : أن النبي قال لأبي بكر : «دعهما ، فإنّها أيام عيد» فلذلك منعه أبو بكر ، فعلمه رسول اللّه أن ضرب الدف والغناء ليس بحرام في أيام العيد (4) .
أقول :
أين هذه التتمة ؟! ومن أين جاء بها الفضل ؟!
قال الشيخ المظفّر : «وأما ما ذكره من تتمّة الحديث، فمن إضافاته ، على إنّها لا تنفعه بالنظر إلى تلك الأمور السابقة ، ومن أحب الاطلاع على كذبه في هذه الإضافة - أعني قوله : ( فإنّها أيام عيد ) - تعليلاً لقوله لأبي بكر : «دعها فليراجع الباب الثاني من كتاب العيدين من صحيح البخاري(5) ،
ص: 117
وآخر كتاب العيدين من صحيح مسلم (1)»(2).
*وآخر تحريف من الفضل نذكره : تحريفه كلام الحافظ القاضي عياض ، وتفصيل ذلك : :
إن العلامة رحمه اللّه ذكر - في معرض ما في كتب القوم من الصحاح
وغيرها من الهتك لنبينا وسائر الأنبياء علیهم السلام- قصة (( الغرانيق»(3).
فأنكر الفضل وجود القصّة في الصحاح .. ثمّ قال في آخر كلامه : وذكر الشيخ الإمام القاضي أبو الفضل موسى بن عياض(4) اليحصبي المغربي في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى أن هذا من مفتريات الملاحدة ولا أصل له ، وبالغ في هذا كل المبالغة»(5).
فقال الشيخ المظفر: «وأما ما نسبه إلى القاضي عياض في كتاب الشفا فافتراء عليه ؛ لأنّه إنما قال : صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض الأهواء والتفسير وتعلّق بذلك
ص: 118
وكم من مورد ناقض الفضل فيه نفسه .. نكتفي من ذلك بذكر موردین:
*قال العلامة طاب ثراه في مباحث أفضلية أمير المؤمنين علیه السلامالمستلزمة لإمامته : ( المطلب الثاني : العلم . والناس كلهم - بلا خلاف -عيال عليه في المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والأحكام الشرعية والقضايا النقلية ... وروى الترمذي في صحيحه : إن رسول اللّه صل اللّه علیه وال قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) . . . » (2).
فقال الفضل في جوابه : «ما ذكره من علم أمير المؤمنين ، فلا شك أنه من علماء الأمة ، والناس محتاجون إليه فيه ، وكيف لا ؟! وهو وصيّ النبي في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف ، فلا نزاع لأحدٍ فيه .
وأما ما ذكره من صحيح الترمذي ، فصحيح (3) ...» (4)
ص: 119
وأقول :
قال الفضل في حق أمير المؤمنين علیه السلام بأنه «من علماء الأمة» .. فإن أراد أنّه من علماء الأمة بمعنى أن فى الأمّة من يساويه في العلم ، فهذا لايجتمع مع كونه وصي النبي في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف» ، فيحصل التناقض .
وإن أراد أنه« من علماء الأُمّة» لكن لا يساويه غيره فيه، لكونه «وصي النبي ...» فقد اعترف بأعلمية الإمام علیه السلام بالنسبة إلى غيره ، وهذا المطلوب، ولكنّه لا يعترف به مكابرة وعناداً للحق .
*واستدل العلامة رحمه اللّه برواية أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المشهورين ، في قضيّة إقدام عمر على إحراق بيت أمير المؤمنين علیه السلام (1)(2).
فأجاب الفضل قائلاً: «من أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر ، وهو إحراق عمر بيت فاطمة .
وما ذكر أن الطبري ذكره في التاريخ ، فالطبري من الروافض ، مشهور بالتشيع ، مع إن علماء بغداد هجروه لغلوّه في الرفض والتعصب ، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره، وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشك أنّه رافضي متعصب ، يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب ، لأن العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذب صراح وافتراء
ص: 120
بين ...»(1).
فهنا يطعن في الطبري صاحب التاريخ وفي كتابه، ويسقطه عن الاعتبار .
لكنه في بعض الموارد الأخرى يعتمد عليه ويحتج بروايته...
فمثلاً : عندما يريد الدفاع عن عمر في قضية تعطيله حدّ المغيرة بن شعبة في الزنا ، يقول بعد نقل الخبر : «هذا رواية الثقات ، ذكره الطبري في تاریخه بهذه الصورة» (2)(3).
ومثلاً : عندما يريد الدفاع عن عثمان في تعطيله حدّ عبيد اللّه بن عمر في قتل الهرمزان ، يأتي بخبر فيقول :
«هذا ما كان من أمر الهرمزان على ما ذكره أرباب صحاح التواريخ ،
فاعتماده على الطبري بعد كلامه المذكور في جرحه تناقض .
بل نقل في مورد آخر عنه وعن ابن الجوزي مع النصّ على كونهما من أرباب صحّة الخبر ! وهذا لفظه :
«خروج أبي ذرّ - على ما ذكره أرباب الصحاح ، وذكره الطبري (6).
وأبن ، الجوزي من أرباب صحة الخبر - أنه ذهب إلى الشام ، وكان مذهب أبي ذرّ
ص: 121
أن قوله تعالى :«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ »(1) محكم غير منسوخ ، وكنز الذهب والفضة حرام وإن أخرجوا زكاته ، ومذهب عامة الصحابة والعلماء أنّها منسوخة بالزكاة . . . » (2) .
*ومن تناقضاته : إنّه عدّ عمر بن عبد العزيز في عمر بن عبد العزيز في الخلفاء الراشدين في معنى حديث الأئمة بعدي اثنا عشر...»(3).
وهو مع ذلك ذكر نزول الآية « وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ »(4)في أولاد مروان .. وهذا كلامه في الدفاع عن معاوية ، حين قال العلامة : إنّه نزل في حقه وحق أنسابهفي« وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ»(5) قال : «هذه الآية اختلف في شأن نزولها ، قال بعضهم : نزلت في رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه[ وآله ]وسلّم، وأنّه رأى في الرؤيا أولاد مروان ينزون على منبره ؛ ولم يذكر أحد من علماء السنة أنه نزل في معاوية (6)» (7)
*ومن تناقضاته : إنّه منع من لعن معاوية وذكر مساوئه ، وقال بأن ذكر مطاعنه محض الغيبة الضارّة وقد قال رسول اللّه : لا تذكروا موتاكم إلا بالخير . وهو يقرّ بصحة حديث ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ويعترف
ص: 122
بأنّ أصحاب معاوية قتلوا عماراً ، وهم الفئة الباغية (1).
*ومن تناقضاته قوله : مذهب عامة العلماء أنّه يجب تعظيم الصحابة كلّهم والكفّ عن القدح فيهم ، لأنّ اللّه تعالى عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه (2)ثمّ قوله عن سورة الجمعة : فأنزل اللّه الآية في (( شأن من يذهب ويترك رسول اللّه قائماً، وفي كل طائفة يكون عوام وخواص ، ولا يبعد هذا عن الإنسان»(3).
أقول :
فهل يرى وجوب تعظيم هؤلاء أيضاً ؟ !
وهذا أيضاً ممّا يلوح للناظر في كتابه بكثرة :
* فمثلاً : قال العلامة طاب ثراه : «الرابع عشر - من مسند أحمد بن حنبل، وفي الصحاح الستة عن النبي صلی اللّه علیه[ واله ]من عدة طرق : إن علياً منى وأنا من عليّ ، وهو ولي كل مؤمن بعدي ، لا يؤدي عنّي إلا أنا أو علي ... »(4) .
فانظر إلى كلام الفضل في جوابه : «اتصال النبي بعلي في النسب . وأُخوّة الإسلام والنصرة والمؤازرة، غير خفى على أحدٍ ، ولا دلالة على
ص: 123
النص بخلافته ، لأن مثل هذا الكلام قال رسول اللّه لغير علي ، كما ذكر أنّه قال : الأشعريون إذا قحطوا ،أرملوا أنا منهم وهم منّي ؛ ولا شك أن الأشعريين بهذا الكلام لم يصيروا خلفاء ، فلا يكون هذا نصاً»(1) .
أقول :
وهكذا عارض الفضل حديث الصحاح الستة وغيرها بحديث رووه في الأشعريين ..
ألا يعلم الفضل عدم ورود جملة وهو ولي كل مؤمن بعدي» في حق أحدٍ غير على علیه السلام؟!
ألا يعلم عدم ورود جملة لا يؤدّي عنّي إلا أنا أو عليّ» في حق أحدٍ سواه ؟!
هذا، وقد جاءت جملة : «إنّ عليّاً منّي وأنا من عليّ متعقبة بهاتين الجملتين ، لتدلّ على معنى غير المعنى المراد منها في حديث الاشعريين إن صح ...
وكلّ هذه الأمور يعلمها الفضل ، لكنّه يخرج عن البحث فراراً من الإقرار بالحق !
*وكذلك تجده يأبى الإقرار بالحقِّ في مسألة أشجعية الإمام أمير
المؤمنين علیه السلام ، فالعلّامة رحمه اللّه يقول: «أجمع الناس كافة على إن علياعلیه السلام كان أشجع الناس بعد النبي صلی اللّه علیه [واله]...»(2) .
وهل فى هذا كلام لأحدٍ حتّى لا يعترف الفضل بالأشجعية، بل
ص: 124
يقول : «شجاعة أمير المؤمنين أمر لا ينكره إلا من أنكر وجود الرمح السماك في السماء ...»(1) .
*وكذلك في آية التطهير وحديث الكساء ، فالعلامة رحمه اللّه ينقل عن مسند أحمد والجمع بين الصحاح الستة عن أُمّ سلمة ... ثمّ يقول : «وقد روي نحو هذا المعنى من صحيح أبي داود وموطأ مالك وصحيح مسلم في عدة مواضع وعدة طرق » (2) .
فإن كان العلّامة كاذباً - والعياذ باللّه - فليردّ عليه الفضل بعدم وجود الحديث في الصحاح ، وإن كان صادقاً في النقل فليعترف بالحق .. لكنّه
يقول :
«إنّ الأُمّة اختلفت فيها أنّها اختلفت فيها أنّها في من نزلت، وظاهر القرآن يدلّ على إنّها نزلت في أزواج النبي ؛ وإن صدق في النقل عن الصحاح فكانت نازلة في آل العبا، وهي من فضائلهم ، ولا تدلّ على النص بالإمامة » (3).
فلماذا هذا العناد ؟ !
وهو بالإضافة إلى مناقشته في دلالات أحاديث مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد أنكر جملة من الأحاديث والقضايا الواضحة الدلالة على أفضليته عليه السلام ، ومنها ما هو من خصائصه التي لا يشاركه فيها أحد أصلاً !
ص: 125
*فقد أنكر ولادة الإمام عليه السلام في الكعبة المعظمة ، وهذه عبارته :
«المشهور بين الشيعة أن أمير المؤمنين ولد في الكعبة ، ولم يصححه علماء التواريخ ، بل عند أهل التواريخ أن حكيم بن حزام وُلد في الكعبة ولم يولد فيها غيره»(1)
أقول :
ليس هذا مشهوراً بين الشيعة فحسب، بل هو مشهور عند الآخرين كذلك، بل الخبر به متواتر عندهم وكذا عند غيرهم كما نص عليه الحاكم النيسابوري.(2).
*وأنكر أن تكون الراية يوم حنين بيد أمير المؤمنين عليه السلام ، وأدعى كونها بيد أبي بكر !
قال العلامة قدس سره : « وفى غزاة حنين حين استظهر النبيصلی اللّه علیه[ وآله] ولا بالكثرة ، فخرج بعشرة آلاف من المسلمين ، فعانهم أبو بكر وقال : لن تغلب اليوم من قلة ؛ فانهزموا بأجمعهم . . . » (3) .
فأجاب الفضل بقوله : « وأما ما ذكر من أمر حنين وأنّ أبا بكر عانهم ، فهذا من أكاذيبه، وكيف يعين أبو بكر أصحاب رسول اللّه ، وكان هو ذلك اليوم شيخ المهاجرين وصاحب رايتهم ... » (4).
ص: 126
أقول :
هنا مطالب :
1 - إن أبا بكر قد عان المسلمين في ذلك اليوم ، وإن ما ذكره العلامة موجود في غير واحدٍ من التفاسير ، بتفسير قوله تعالى: « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ »(1)(2).
2 - إن الراية كانت بيد أبي بكر ؟!.. من قال هذا ؟!
3 - بل إن من خصائص أمير المؤمنينعلیه السلام كون الراية بيده في جميع الحروب والغزوات ، وهذا ما نص عليه غير واحدٍ من أعلام أهل السنة(3)
فمن الكاذب إذاً ؟ !
*ومن خصائصه علیه السلام أنه أوّل من أسلم ، وإليك عبارة الفضل في ذلك :
«ما ذُكر أنّ عليّاً أوّل الناس إسلاماً ، فهذا أمر مختلف فيه ، وأكثر العلماء على إنّ أوّل الناس إسلاماً هو خديجة ، وقال بعضهم : أبو بكر ، وقال بعضهم : زيد بن حارثة . . . »(4) .
*وقال في آية التطهير : «أكثر المفسرين على إن الآية نزلت في شأن الأزواج »(5) .
ص: 127
أقول :
نص عبارة ابن حجر المكي: «أكثر المفسّرين على إنّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين» (1).
وقال في الآية«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ...»(2).
«اختلف المفسّرون في الآية نزلت في من ؟ قال كثير منهم : نزلت في صهيب الرومي ... وأكثر المفسرين على إنّها نزلت في الزبير بن العوام ومقداد بن الأسود ...
ولو كان نازلاً في شأن أمير المؤمنين علي ... ليس هو بنص في إمامته »(3) .
أقول :
فكثير من المفسّرين يقولون : «صهيب»، وأكثر المفسرين يقولون : «الزبير والمقداد» .
أما أمير المؤمنين علیه السلام «لو كان نازلاً في شأنه ...» ..
لكنك تجد القول بنزول الآية المباركة في أمير المؤمنين علیه السلام في ذيلها ، لأنه بات في مكان النبيصلی اللّه علیه السلام ولا ليلة الهجرة، في كثير من التفاسير المشهورة لأهل السنّة ، كتفاسير الرازي والقرطبي والثعلبي وأبي حيان
ص: 128
الأندلسي والنيسابوري والآلوسي(1) ، بل في شرح النهج عن أبي جعفر الإسكافي : وقد روى المفسرون كلّهم أن قول اللّه تعالى :«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي »
الآية نزلت في عليّ ليلة المبيت على الفراش» (2).
وتجد الخبر بترجمة الإمام علیه السلام ، من تاريخ ابن عساكر وأسد الغابة وتاريخ الخميس، وغيرها من كتب التواريخ والسير (3).
وتجده في باب الإيثار من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي 37/4 .
وتجد الإيعاز إليه في حديث عمرو بن ميمون عن ابن عباس ، المشتمل على الفضائل العشر ، التي هي خصائص لأمير المؤمنين الصحيح ، سنداً بالقطع واليقين ، وهو في مسند أحمد بن حنبل 330/1 -331 ، والخصائص - للنسائي - : 34 ح 23 ، والمستدرك على الصحيحين 143/3 ح4652.
وأخرج الحاكم في المستدرك بسندٍ - وافقه عليه الذهبي - عن عليّ ابن الحسين علیه السلام قال : «إنّ أوّل من شرى نفسه ابتغاء رضوان اللّه عليّ بن أبي طالب . وقال عليّ عند مبيته على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه[ وآله] من الطويل ]:
ص: 129
وقيت بنفسي خيرَ مَن وطئ الحَصا* ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجْرِ
رسول إله خاف أن يمكروا به* وبات رسول اللّه فى الغار آمناً
فنجاه ذو الطَوْلِ الإلهُ مِن المَكر* مُوقّى وفي حفظ الإله وفي سِتْرِ
وبِتُ أُراعيهم ولم يَشْهَمُونني *وقد وطنتُ نفسي على القتل والأُسرِ»(1).
*وقال العلامة في أدلّة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من الآيات الشريفة :
«الثامنة : قوله تعالى : «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ».(2).
روى الجمهور عن ابن عباس ، قال : قال رسول صلی اللّه علیه[ وآله] : انتهت الدعوة إليَّ وإلى عليّ ، لم يسجد أحدنا لصنم قط ، فاتخذني نبياً واتخذ عليّاً وصيّاً »(3).
فقال الفضل : «هذه الرواية ليست في كتب أهل السنّة والجماعة . . . » (4).
ص: 130
أقول :
هذه الرواية رواها الحافظ ابن المغازلي في كتابه مناقب الإمام عليّ ابن أبي طالب علیه السلام بسندٍ له عن ابن مسعود (1).
وقد استدلّ بها العلّامة في كتابه منهاج الكرامة فلم ينكرها ابن تيمية في رده عليه (2) ، لكنّ الفضل ينكر أصل وجودها في كتبهم ، وكأنه هنا أشدّ تعصباً من ابن تيميّة المعروف بالنصب ! !
*وقال العلامة : «العاشرة : قوله تعالى : «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ »...(3).
نقل الجمهور عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللّه واللّه : أنا المنذر وعلي الهادي ، وبك يا علي يهتدي المهتدون» (4) .
فقال الفضل : ليس هذا في تفاسير أهل السنة ، ولو صح دلّ على أنّ عليّاً هادي ، وهو مسلّم ؛ وكذا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم هداة ، لقوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . ولا دلالة فيه على النص » (5).
أقول :
وفي مثل هذا الموضع يمكن للباحث أن يطلع على حال الفضل
ص: 131
عقيدةً وعلماً وعدالة ! !
أمّا أوّلاً : فلأنّه أنكر أن يكون تفسير «الهادي» في الآية المباركة في شيء من تفاسير السُنة ، مع إن الأقوال بذلك عندهم كثيرة ، والروايات به معتبرة ، فلاحظ :
مسند أحمد 126/1 ، تفسير الطبري 343/7 ح 20160 و 20161 ، المستدرك على الصحيحين 140/3 ح
4646 ، المعجم الصغير 261/1 ، مجمع الزوائد ،41/7 ، تاريخ بغداد 372/12 رقم 6816 ، تاریخ دمشق
359/42 ، الدر المنثور 608/4 ، وغيرها (1).
ثمّ إنّ من رواته : ابن أبي حاتم ، في تفسيره الخالي عن الموضوعات ، كما ذكر ابن تيمية (2) ، وأيضاً فإن الهيثمي قال : رجال المسند ثقات(3)، وكذلك فقد صححه الحاكم ، وأخرجه الضياء في المختارة ، وبعض أسانيد ابن عساكر صحيح بلا كلام .
هذا، وقد رووا هذا الحديث عن جمع من الصحابة ، منهم : علي عليه السلام ، عبد اللّه بن العباس ، عبد اللّه بن مسعود ، جابر بن عبد اللّه ، بريدة ، سعد بن معاذ ، أبو برزة الأسلمي ... وغيرهم .
ص: 132
وأما ثانياً : فلأنه ادعى التساوي في الهداية بين «أمير المؤمنين »عليه الصلاة والسلام وبين سائر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه [وآله]، على الإطلاق ، وهذا ما لا يدعيه أدنى الناس إنصافاً وأقلهم عقلاً .
وأما ثالثاً : فلانه عارض الأحاديث الواردة في تفسير الآية المباركة بحديث «أصحابي كالنجوم» ، وهي معارضة باطلة لا يزعمها إلا جاهل أو متعصب ، وذلك لوجهين.
الأوّل : إن أحاديث تفسير الآية بأمير المؤمنينعلیه السلام متفق عليها بين الطرفين، معتبرة عند الفريقين ، كثيرة عدداً ، وصحيحة سنداً ... وحديث أصحابي كالنجوم خبر واحد انفرد به أهل السنّة ، ولا يكون حجّةً على الإمامية حتى لو كان صحيحاً سنداً عندهم .
والثاني : إن حديث أصحابي كالنجوم باطل موضوع عند كبار أئمّة القوم ، فهل يجهل الفضل ذلك أو يتجاهل ؟ !
قال أحمد بن حنبل : حديث غير صحيح (1).
وقال ابن حزم خبر مكذوب، موضوع ، باطل ، لم يصح قطّ(2).
وقال أبو حيان : حديث موضوع ، لا يصح بوجه عن رسول اللّه (3).
وقال ابن القيم عن طرق الحديث : لا يثبت شيء منها ... فهذا كلام لا يصح عن النبي صلی اللّه علیه [وآله](4).
وقال ابن الهمام : حديث لم يُعرف .(5).
ص: 133
وقال الشوكاني : فيه مقال معروف (1).
وأورده الألباني المعاصر في الأحاديث الموضوعة والضعيفة (2).
*وقال العلّامة : «الثانية عشرة - قوله تعالى: « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ»(3).. روى الجمهور عن أبي سعيد الخدري ، قال : ببغضهم عليّاً عليه السلام) (4).
فقال الفضل : «ليس في تفسير أهل السنة . وإن صح دلّ على فضيلته لا نص على إمامته (5) .
أقول :
أليس كتاب الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور من تفاسير السنّة ، ومؤلّفه الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي ، صاحب المؤلّفات الكثيرة الشهيرة ، رواه فيه بتفسير الآية عن غير واحد من أئمّة الحديث والتفسير (6)؟ !
فإن كان الفضل جاهلاً بهذا فما الذي يحمله على الإنكار إلا العناد لأهل بيت النبي الاطهار؟ !
*وقال العلّامة : روى ابن عبد البر وغيره من السُنّة في قوله
ص: 134
تعالى : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا » (1)، قال : إن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليلة أسري به جمع اللّه بينه وبين الأنبياء ثم قال له : سلهم يا محمد على ماذا بعثتم ؟ قالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلا اللّه ، وعلى الإقرار بنبوّتك ، والولاية لعلي بن أبي طالب»(2).
فقال الفضل : ليس هذا من رواية أهل السنة . . . »(3).
أقول :
وهذا الإنكار كسابقه .. ومن رواة هذا الخبر من أعلام السنة :
الحاكم النيسابوري ، في كتاب معرفة علوم الحديث : 96
أبو إسحاق الثعلبي ، في تفسيره الكبير ، المخطوط .
أبو نعيم الحافظ، في كتاب ما نزل في عليّ ، كما ذكر غير واحدٍ من الحفاظ(4).
الديلمي ، صاحب فردوس الأخبار (5).
والحافظ ابن حجر في زهرة الفردوس ، كما ذكر ابن عراق(6) .
ورواه الحاكم الحسكاني ، والخطيب الخوارزمي ، وشيخ الإسلام
ص: 135
الحمويني ، والحافظ أبو عبد اللّه الكنجي ، وغيرهم (1).
رووه عن أمير المؤمنين ، وعن عبد اللّه بن مسعود، وابن عبّاس ، وأبي هريرة ... وبعض أسانيدهم صحيح بلا ريب ... وقال العلامة : الثامنة عشرة - سورة« هل أتى » (2).. روى الجمهور : إن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول اللّه . . . »(3) .
فقال الفضل : «ذكر بعض المفسرين في شأن نزول السورة ما ذكره ؛ ولكن أنكر على هذه الرواية كثير من المحدثين وأهل التفسير ، وتكلّموا في أنّه يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ ، ويجوّع نفسه وأهله حتّى يشرف على الهلاك ؟ ... وإن صح ، الرواية لا تدلّ على النص كما علمته »(4) .
أقول :
الرواة لنزول السورة في أهل البيت الالالالالالام من السُنّة كثيرون جداً ، ومنهم :
أبو جعفر الطبري، وأبن عبد ربه القرطبي ، وأبو القاسم الطبراني ، والحاكم النيسابوري ، وابن مردويه الأصبهاني ، وأبو نعيم الأصبهاني ، وأبو إسحاق الثعلبي ، والحاكم الحسكاني ، وأبن المغازلي الشافعي ، وأبو الحسن
ص: 136
الواحدي ، وأبو عبد اللّه الحميدي ، والبغوي ، والزمخشري ، والخوارزمي ، وأبو موسى المديني ، والفخر الرازي ، وأبن الأثير ، وأبو عمرو ابن الصلاح ، وابن طلحة الشافعي ، والقاضي البيضاوي ، والمحبّ الطبري، والنسفي والحمويني ، والخازن ، والقاضي الإيجي ، وأبن حجر العسقلاني ، والجلال السيوطي ، وأبو السعود العمادي ، والشوكاني ، والآلوسي ... وغيرهم من أئمّة الحديث والتفسير .
رووه عن : أمير المؤمنين الا اللّه ، وعن ابن عباس ، وزيد بن أرقم ، وسعيد بن جبير ، والأصبغ بن نباتة ، وقنبر ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبي صالح ، وقتادة ، والضحاك ... وغيرهم من الصحابة وأعلام التابعين ، العلماء في علوم القرآن .
قال القرطبي : وقال أهل التفسير : نزلت في علي وفاطمة ...»(1) .
وقال سبط ابن الجوزي : قال علماء التأويل : فيهم نزل . . . »(2).
وقال الألوسى : ( والخبر مشهور »(3) .
وكان هذا الخبر مما احتج به المأمون على علماء بغداد في أفضلية علي وأهل البيت علیهم السلام ، في خبر طويل رواه ابن عبد ربه القرطبي الأندلسي...(4).
وورد في أشعار السيد الحميري وغيره في عداد فضائل الإمام عليّ عليه الصلاة والسلام (5) .
ص: 137
وذكر غير واحدٍ من العلماء : إنّ السؤال كانوا ملائكة من عند ربّ العالمين ، أراد بذلك اختبار أهل البيت علیهم السلام(1).
وإذا كان هذا اختباراً من اللّه ، وفضيلةً من فضائلهم علیهم السلام عند قاطبة العلماء ، فأي قيمةٍ لقول من يقول بعدم جواز فعلهم ؟!
وبه أسانيد معتبرة من طرقهم ...
فقول الفضل : «إن صح»ومناقشته في القضية - نقلاً عن كثير من المحدثين وأهل الظاهرة في تكذيبه للخبر أو تشكيكه ، دليل آخر على جهله أو تعصبه !
وأما المناقشة المذكورة فقد أجاب عنها علماؤنا .. ويكفي في الردّ على الفضل ما قاله الشيخ المظفّر : كيف استشكل من جواز تلك الصدقةوهو قد ذكر في مبحث الحلول أن أبا يزيد البسطامي ترك شرب الماء سنةً تأديباً لنفسه (2) ، وعدّه منقبةً له(3) ؟ !
*وقال العلامة : قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ » (4) . . روى الجمهور عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلی اللّه علیه [وآله]: هم أنت يا علي وشيعتك ...»(5).
فقال الفضل : «هذا غير مذكور في التفاسير، بل الظاهر العموم . وإن
ص: 138
سلّم فلا نص» (1) .
أقول :
أليس الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور من كتب التفاسير ؟ ! رواه فيه عن ابن عدي عن ابن عباس. وعن ابن مردويه عن علي علیه السلام . وعن ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري. وعن ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري(2).
فهم يروونه عن جماعة من الأصحاب، بأسانيدهم ، في الكتب قبل زمان الفضل وبعده ... وابن مردويه - بالخصوص - من أشهر أئمتهم في التفسير والحديث .
*وقال العلّامة : «الرابعة والثلاثون - قوله تعالى : «وصالح المؤمنين ».(3). أجمع المفسرون وروى الجمهور أنّه على علیه السلام»(4).
فقال الفضل :« اتفق المفسرون أنّ المراد من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر ... وإن صح نزوله في أمير المؤمنين فلا شك أنه صالح المؤمنين ولكن لا يدلّ على النصّ المدّعى » (5).
أقول :
أخرجه الحافظ السيوطي في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن
ص: 139
علي علیه السلام . وعن ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس . وعن ابن مردويه عن أسماء بنت عميس (1).
ورواه الثعلبي في التفسير الكبير عن أسماء (2).
وكذا الحافظ أبو نعيم عنها ، في كتابه في ما نزل في عليّ من القرآن (3).
ولعل العمدة هنا رواية ابن أبي حاتم هذا الخبر في تفسيره ، فقد نص ابن تيمية على إنّ تفسيره خالٍ من الموضوعات كما مرّ بنا سابقاً .
هذا ، بالاضافة إلى روايات أصحابنا الإمامية .. فيكون الخبر متفقاً عليه بين الفريقين . فما الحامل للفضل على الإنكار ؟ !
*قال العلّامة : «الخامسة والثلاثون - قوله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي... »(4).
روى الجمهور عن أبي سعيد الخدري، أنّ النبي صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم دعا الناس إلى عليّ عليه السلام في يوم غدير خم ...»(5) .
فقال الفضل : « ... الذي ذكره من مفتريات الشيعة . . . »(6).
أقول :
وماذا تقول للفضل إذا علمت أنّ من رواة هذا الحديث - نزول الآية
ص: 140
في أمير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير - من أهل السنّة هم :
أبو جعفر الطبري ..
وأبو الحسن الدارقطني ..
وأبو حفص ابن شاهين ، كما في شواهد التنزيل 156/1 ح 210..
والحاكم النيسابوري، في المستدرك على الصحيحين 118/3 ح 4576..
وابن مردويه الأصفهاني ، كما في الدر المنثور 19/3 ..
وأبو نعيم الأصفهاني ...
وأبو بكر البيهقي ..
والخطيب البغدادي ، كما في تاريخ بغداد 290/8 رقم 4392 ..
وأبو سعيد السجستاني ..
وأبن المغازلي ، كما في مناقب الإمام علي : 69 ح 24 ..
والحاكم الحسكاني ، كما في شواهد التنزيل 156/1 - 160 ح 210 - 215..
وأبو القاسم ابن السمرقندي ..
وأبو منصور الديلمي ، كما في مناقب الإمام علي بن أبي الطالب علیه السلام -للخوارزمي -
: 135 : 135 ح 152 ..
وابن عساكر الدمشقي، كما في تاريخ دمشق 237/42 ..
و ابن كثير الدمشقي ، كما في البداية والنهاية 279/7 ..
وجلال الدين السيوطي ، كما في الدر المنثور19/3(1) .
ص: 141
وغيرهم من أئمّة الحديث والتفسير .. فكيف يقول : إنّه من مفتريات الشيعة ؟ !
*وقال العلّامة : «السادسة والستون - « وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ» (1) .. هو عليّ ، لأنّه كان مؤمناً مهاجراً ذا رحم»(2) .
فقال الفضل : «ظاهر الآية العموم، ولم يذكر المفسّرون تخصيصاً بأحد ، ولو خص فلا دلالة له على النصّ، والاستدلال بأنّه مؤمن مهاجر ذو رحم لا يوجب التخصيص ، لشمول الأوصاف المذكورة لغيره» (3)
أقول :
لماذا هذه المكابرة الواضحة الفاضحة ؟ !
أولاً : البحث يدور بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين أبي بكر ، والآية المباركة تثبت الأولوية لمن جمع الأوصاف الثلاثة ، وأبو بكر غير جامع لها كما لا يخفى على الفضل، ولعلّه لذا قال : «لغيره» ولم يقل : أبو
بكر .
وثانياً : وإذا كان الغير ليس ابن أبي قحافة ، فمن يقصد الفضل به ؟!
ثمّ لماذا يدّعي الحبّ لأمير المؤمنين عليه السلام ويسعى لإنكار فضائله ومناقبه حتى بالأكاذيب والأباطيل ؟!
ص: 142
143
*وقال العلّامة : « وأمّا السُنّة ، فالأخبار المتواترة عن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم الدالة على إمامته ، وهي أكثر من أن تحصى ، وقد صنف الجمهور وأصحابنا في ذلك وأكثروا (1) » .
فقال الفضل : «وأما ما ذكر من أنّ الأخبار متواترة عن النبي صلّى اللّه عليه [ وآله] وسلّم على إمامة عليّ ، فنسأله أولاً عن معنى التواتر ؟ !
فإن قال : أن يبلغ عدد الرواة حداً لا يمكن للعقل أن يحكم بتواطئهم على الكذب .
فنقول : اتفق جميع المحدّثين أنه ليس لنا حديث متواتر إلا قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار .
فهذا الحديث في كل عصر رواه جماعة ، يحكم العقل على امتناع تواطئهم على الكذب . وبعضهم ألحق حديث : «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» بالتواتر .
فكيف هذا الرجل الجاهل بالحديث والأخبار ، بل بكل شيء حتى إنّي ندمت من معارضة كتابه وخرافاته بالجواب ، لسقوطه عن مرتبة المعارضة ، لانحطاط درجته في سائر العلوم، معقولها ومنقولها ، أصولها
وفروعها، ولكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت . . . » (2).
أقول :
يقال لهذا الشيخ العالم بالحديث والأخبار، بل بكل شيء !! وبغض
ص: 143
النظر عما ادعاه من الاتفاق على انحصار التواتر بما ذكره من أين لك القطع بأنّ العلّامة كان يقصد من
«التواتر» خصوص التواتر «اللفظي» ؟ !
أليس التواتر ينقسم إلى : «لفظي» و «معنوي» و «إجمالي» ؟ !
لماذا هذا التهجّم وهذه السباب والشتائم ؟ !
فما الذي قاله العلّامة حتى استحق كل ذلك وأمثاله ، بل الأشدّ والأقبح منه ، كما ذكرنا في فصل السباب والشتائم» ؟ ! هذا أوّلاً..
وثانياً : فإنّ جملةً من الأخبار الدالّة على إمامته متواترة يقيناً ، وقد أقرّ السنة ، كبار علماء القوم بذلك ، وأبن روزبهان جاهل أو يتجاهل لتعصبه !
وسنذكر مناقشات الفضل في بعض استدلالات العلّامة من ليرى الباحث المنصف مدى التزام الرجل بالآداب الدينية ورعايته لجانب الصدق والإنصاف ، وليجد الفرق الواضح بين طريقة العلّامة وعلماء الإمامية ، وبين طريقة الفضل وعلماء العامة في النظر والبحث والاستدلال .
*قال العلامة : «الثاني : من مسند أحمد -: «لما نزل «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(1)جمع النبي صلى اللّه عليه [وآله] وسلّم من أهل بيته ثلاثين ، فأكلوا وشربوا ثلاثاً ، ثمّ قال لهم : من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون خليفتي ويكون معي في الجنّة ؟ فقال عليّ : أنا . فقال :
أنت . . . »(2) .
فقال الفضل : «هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات في قصة طويلة ، وليس فيه «ويكون خليفتي»، وهذا من وضعه أو من وضع
ص: 144
مشايخه من شيوخ الرفض وأهل التهمة والافتراء .
وفي مسند أحمد بن حنبل : ( ويكون خليفتي) غير موجود ، بل هو من إلحاقات الرفضة.
وهذان الكتابان اليوم موجودان ، وهم لا يبالون من خجلة الكذب والافتراء . . . »(1) .
أقول :
ماذا لو وجد الباحث ويكون خليفتي في مسند أحمد» ؟! وماذا لو وجد في الموضوعات حديثين في أولهما وخليفتي من أهلي» وفي الثاني وخليفتي في أهلي ؟! هل يبالي الفضل وأمثاله من خجلة الكذب ؟! وهل يبقى مناص لهم من قبول الحديث ودلالته على الإمامة والخلافة لأمير المؤمنين بعد النبي بلا فصل ؟! وهل يبقى لهم من عذر في القول بإمامة غيره ؟ !
ولفظ الحديث في مسند أحمد كما يلي :
«الأسود بن عامر ، عن شريك ، عن الأعمش، عن المنهال ، عن عن عباد بن عبد اللّه الأسدي ، عن علي علیه السلام، قال : لما نزلت هذه الآية : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » قال : جمع النبي صلى اللّه عليه[ وآله] وسلم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا ؛ قال : فقال لهم : من يضمن عنّي دَيني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ، ويكون خليفتي في أهلي ؟
فقال رجل - لم يسمه شريك - : يا رسول اللّه ! أنت كنت بحراً ، مَن
ص: 145
يقوم بهذا ؟ !
قال : ثمّ قال الآخر..
قال : فعرض ذلك على أهل بيته.
فقال عليٌّعلیه السلام : أنا »(1)
أقول :
ولو كان ثمة إلحاق فهو في كلمة « في أهلي» ، فإنّها وإن كانت لا تضرّ بالاستدلال ؛ لعدم الفرق بين أهله وغيرهم من المسلمين ، إلا أنها غير موجودة في بعض المصادر ..
وفي بعضها الآخر كلمة «فيكم» بدل «في أهلي».. روى ذلك ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي ، قال صلّى اللّه عليه وآله] وسلّم : « يا بني عبد المطلب ! إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه ؛ فأيكم يؤازرني على أمري هذا ؟
[ قال علي ] : فقلت - وأنا أحدثهم سناً ، وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً - أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه .
فأخذ برقبتي فقال : إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا !
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع
ص: 146
لعلي» (1) .
وفي تفسير البغوي بعد : فأيكم يؤازرني على أمري هذا: «ويكون أخي ووصتي وخليفتي فيكم »(2).
وفي لفظ ابن مردويه : «من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي وليّكم من بعدي » (3) .
وفي لفظ آخرجه أحمد وابن جرير والضياء المقدسي : «فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي» ؟(4) .
وليس هذا الحديث في مسند أحمد فقط .. فقد أخرجه باللفظ المذكور :
1 - أبو جعفر الطبري وصححه ، تاريخ الطبري 543/1 ..
2 - أبو جعفر الطحاوي ..
3 - الضّياء المقدسي في كتاب المختارة الذي التزم فيه بالصحة (5)، وربما قدّمه بعضهم على بعض الكتب المعتبرة المشهورة ..
4 - ابن أبي حاتم ، الذي نص ابن تيميّة على إنّه لا يروي في تفسيره شيئاً من الموضوعات (6).
5 - أبو بكر ابن مردويه الأصبهاني..
6 - أبو نعيم الأصفهاني. .
ص: 147
7 - أبو بكر البيهقي ، في دلائل النبوة 179/2. .
8 - ابن الأثير الجزري، في الكامل في التاريخ 585/1 - 586..
9 - الشيخ علي المتقي الهندي، في كنز العمّال 131/13 ح 36419و ص 174 ح36520...
فهؤلاء جملة من رواة هذا الحديث العظيم، الذي هو نص في إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وإن رغمت أنوف النواصب اللئام .
ومن أعجب العجب أن يكذب الفضل ويفتري على العلّامة الكذب !
* وقال العلامة : «السادس - في مسند أحمد وفي الجمع بين الصحاح الستة ما معناه : إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله] وسلّم بعث براءة مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلما بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليّاً فردّه ، فرجع أبو بكر إلى النبي صلّى اللّه عليه [ وآله] وسلّم فقال : يا رسول اللّه ! أنزل في شيء ؟! قال : لا ، ولكن جبرائيل جاءني وقال : لا يؤدّي عنك إلا فيَّ أنت أو رجل منك» (1).
فذكر الفضل الخبر بنحو آخر بلا ذكر مصدر ، ثمّ قال : «هذا حقيقة الخبر، وليس فيه دلالة على نص ، ولا قدح في أبي بكر . وأما ما ذكر أن رسول اللّه قال : لا ، ولكنّ جبرائيل أتاني ... فهذا فهذا من ملحقاته وليس في أصل الحديث هذا الكلام »(2).
أقول :
أولاً : إنّ العلامةرحمه اللّه ذكر مصدر حديثه، والفضل لم يذكر لما ذكره
ص: 148
مصدراً ، وإن دققت فيه النظر وجدته مختلقاً موضوعاً !
وثانياً : الجملة المذكورة موجودة في مسند أحمد بنص الحديث ، وهذا لفظه :
«عن علي ، قال : لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ، دعا النبي أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني النبي فقال لي : أدرك أبا بكر ، فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم ؛ فلحقته بالجحفة ، فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي فقال : يا رسول اللّه ، نزل في شيء ؟!
قال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك »(1).
فانظر من الكاذب المختلق ؟ !
*وقال العلامة : روى الخوارزمي عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم : عليّ يوم القيامة على الحوض ، لا يدخل الجنة إلا من جاء بجواز من عليّ »(2).
فقال الفضل : من ضروريات الدين أنّ النبي صلّى اللّه [وآله] وسلّم صاحب الحوض المورود والشفاعةالعظمى والمقام المحمود يوم القيامة . وأمّا أنّ عليّاً صاحب الحوض فهو من مخترعات الشيعة ، ولم يرد به نقل صحيح . وهذا الرجل الذي ينقل كلّ مطالبه من كتب أصحابنا لم ينقل هذا منهم ، وذلك لأنّه لم يصح فيه نقل عندنا ...» (3) .
ص: 149
اقول :
إنّما ينقل العلامة الأحاديث من كتاب أو كتابين من كتب أهل السنة ولم يكن يقصد الاستيعاب والاستقصاء، وإنّما مراده بيان أنّ مناقب الإمام عليه السلام متفق عليها بين الطرفين .
وهذا الحديث رواه من كتاب الخوارزمي(1) ، وهو من علماء أهل
السُنّة كما ذكرنا في فصل «الطعن في علماء السُنّة» .
ومن رواته أيضاً :
1 - أحمد بن حنبل ، كما كما في الصواعق المحرقة : 265 .
2 - أبو القاسم الطبراني ، كما في الصواعق المحرقة : 265.
3 - أبو عبد اللّه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 148/3 ح4669 وصححه .
4 - ابن حجر المكي ، في الصواعق المحرقة : 265 .
5 ه - علي المتقي الهندي ، في كنز العمّال 145/13ح36484 وص 157ح36484 .
فاقرأ وأحكم من الكذاب المفتري !!
أقول :
وبهذا القدر ممّن ذكرته كفاية .. وقد قال الشيخ المظفر - في بيان موقف القوم من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام المخرجة في كتبهم ، وما
ص: 150
يروونه فضيلة لغيره - : « ... ولذا لا يروون له عليه السلام فضيلة إلا وطعنوا مهما أمكن بسندها أو دلالتها ، ولا تنشرح نفوسهم لها ، بخلاف ما إذا رووا فضيلة لغيره ! ولا بُدّ أن يظهر اللّه مخفيات سرائرهم على صفحات أرقامهم وطفحات أقلامهم ، كما رأيته من هذا الرجل في كثير من كلماته» (1) .
أقول :
خصوصاً في ما رووه بفضل عمر ! فقد ذكر ابن روزبهان : « وكان عمر من المحدثين ، وكان وزير رسول اللّه » (2) .. «وكيف يصح لأحدٍ أن يطعن في علم عمر ؟ ! وقد شاركه النبي في علمه ، كما ورد في الصحاح عن ابن عمر ، قال : سمعت رسول اللّه يقول : بينا أنا نائم أُتيتُ بقدح لبن
فشربت . . . »(3) .
بل قال : «فضائله لا تعد ولا تحصى »(4)!
والأعجب من ذلك محاولة إلزام الإمامية بما رواه قومه في حقّ الآخرين، خصوصاً عمر !! يقول : روي في الصحاح عن سعد بن أبي وقاص ، قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول اللّه وعنده نسوة من قريش تكلّمنه ، عالية أصواتهن ... فقلن : نعم ، أنت أفظ وأغلظ . فقال رسول اللّه : يابن الخطاب ! والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك غير فجك» (5) .
ص: 151
فقال ابن روزبهان : هذا حديث نقله جمهور أرباب الصحاح ، ولا شك في صحته لأحدٍ ، وهذا حجّة على الروافض حيث يقولون : إنّ بيعة أبي بكر كانت باختيار عمر بن الخطاب ؛ فإنّه لو صح ما ذكروا أنه باختياره فهو حق لا شك فيه ، بدليل هذا الحديث، لأنه سلك فجاً يسلك الشيطان فجاً غيره ...» .
قال :« وهذا من الإلزاميات العجيبة التي ليس لهم جواب عن هذا ألبتة» (1).
قلت:
إي واللّه ، إلزام الإمامية بما لا يروونه ولا يرون صحته من الإلزاميات العجيبة ! !
وبقيت هنا عدة نقاط...
الأولى : إنّ هذا الرجل يحاول تنزيل بعض الفضائل الصحيحة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام على حقيّة خلافة المشايخ ، فقد قال في حديث : «علي مع الحق والحق مع عليّ» : «هذا دليل على حقية الخلفاء ، لأنّ الحقِّ كان مع عليّ ، وعلي كان معهم، حيث تابعهم وناصحهم ، فثبت من هذا خلافة الخلفاء»(2) .
الثانية : إنّه يحاول الجمع بين حبّ عليّ وأهل البيت عليهم السلام ، وبين حبّ الشيخين وعموم الصحابة ؛ فهو يقول في موضع من كتابه ، في حبّ الإمام عليه السلام : «الحمد لله الذي جعلنا من أهل محبّته ، وملأ
ص: 152
قلوبنا من صفو مودته»(1) .. ثم يقول في موضع آخر: «المروافض لا يحكمون بالمحبّة إلا بمثالب الغير » (2)..
ويقول في موضع ثالث : كلّ ما نقل من فضائله وفضائل أهل بيت النبي ما لم يكن سبباً إلى الطعن في أفاضل الصحابة ، فنتسلّمه ونوافقه فيه لأنّ فضائلهم لا تحصى ، ولا ينكره إلا منكر نور الشمس والقمر ... فإنّ أهل السنّة يعملون بكل حديث وخبر صحيح بشرائطها ، ولكن كما صح عندهم الأحاديث الدالة على فضل عليّ بن أبي طالب وأهل بيت رسول اللّه ، كذلك صح عندهم الأحاديث الدالة على فضائل الخلفاء الراشدين ، فهم يجمعون بين الأحاديث الصحاح وينزلون كلاً منزله الذي أنزله اللّه ، ولا ينقصون أحداً ممن صح فيه هذا الحديث .
والشيعة ينقلون الأحاديث من كتب أصحابنا مما يتعلق بفضائل أهل البيت، ويسكتون عن فضائل الخلفاء وأكابر الصحابة ، ليتمشى لهم الطعن والقدح ، وهذا غاية الخيانة في الدين، وأية خيانة أعظم من أنّ رجلاً ذكر بعض كلام أحدٍ مما يتعلق بشيء، وترك البعض الآخر مما يتعلق بعين ذلك الشيء ، ليتمشى به مذهبه ومعتقده ؟! ونعوذ باللّه من هذه العقائد الفاسدة »(3).
بل إنّه يرى في كلام آخر له أنّ التشكيك في فضائل أكابر الصحابة -كالخلفاء - ينافي الإيمان ، وهذه عبارته :
«لا يشك مؤمن في فضائل عليّ بن أبي طالب ، ولا في فضائل أكابر
ص: 153
الصحابة كالخلفاء» (1).
فأولاً : إنّه يشترط في قبول الخبر الصحيح الوارد عندهم في فضل أمير المؤمنين عليه السلام أن لا يكون سبباً إلى الطعن في من تقدّم عليه الخلافة ، وإلا فالخبر غير مقبول ؛ هذا كلامه.
وأي خبر في فضله عليه السلام لا يكون سبباً في القدح في القوم وإبطال تقدّمهم عليه ؟ !
وثانياً : إنّه في الوقت الذي لا يروي في كتابه رواية واحدة من كتب الإمامية ليستدلّ بها على العلّامة الحلّي أو يلزمه بها ، يريد من الإمامية قبول كل ما ورد في كتب قومه في فضل الصحابة ، بل يقول إن التشكيك في ذلك منافٍ للإيمان !
وثالثاً : إنّه لم يرو في كتابه رواية مسندةً - ولا واحدة - عن شيء من كتب قومه ، فكأنّه لم يكن له إلمام بعلوم الحديث والأسانيد والرجال ، ومع ذلك يدّعي صحة ما رووه في حق الصحابة !
ورابعاً : إنّه ينص هنا على التسليم بما صح في فضل علي عليه السلام ، ولكنّه في كثير من الموارد التي يستدل العلامة الحلّي فيها بالأحاديث الصحاح يكذب بالحديث أو يشكك في صحته، تبعاً لابن تيميّة وإن لم يصرّح باسمه والأخذ منه !
وخامساً : إذا كان يدعي حبّ علي عليه السلام، وكان صادقاً بحمد اللّه على ذلك ، فما باله قد والى أشدّ أعدائه وأكبر مبغضيه كمعاوية وأبن العاص ومروان وأشباههم، ولم يحكم عليهم بالنفاق ، مع اتضاح حالهم في
ص: 154
بغض الإمام واستمرارهم على عداوته وسبّه ؛ كما قال الشيخ المظفر ؟ !
وسادساً : إنّه يتهم الإمامية بالخيانة ، وكأنه يجهل أدنى شرائط البحث والجدل !
وقد كرّر هذا الرجل أمثال هذه الكلمات ، مع افتراءات وأباطيل أخرى ، فمثلاً : يقول في موضع : «والعجب ، إن هذا الرجل لا ينقل حديثاً : إلا من جماعة أهل السنّة ، لأنّ الشيعة ليس لهم كتاب ولا رواة ولا علماء مجتهدون مستخرجون للأخبار ، فهو في إثبات ما يدعيه عيال على كتب أهل السنّة ، فإذا صار كذلك ، فلِمَ لا يروي عن كتب الصحاح ؟ ! . . . » (1) ! .
يقول هذا ، وكأنه يجهل أنّ ما يصنعه العلّامة الحلّي هو الصواب في مقام المناظرة ! ويدعي مع ذلك أن لا كتاب للشيعة ولا علماء ، وأنهم في إثبات إمامة أمير المؤمنين وإبطال خلافة من تقدّم عليه عيال على أهل
السُنّة !
لكنّه في موضع آخر يعترف بوجود كتب للشيعة ، غير إنّه يرميها بأنّها من موضوعات يهودي !! فيقول : «وصحاحنا ليس ككتب الشيعة التي اشتهر عند السُنة أنّها موضوعات يهودي كان يريد تخريب بناء الإسلام ، فعملها وجعلها وديعةً عند الإمام جعفر الصادق ، فلما توفّي حسب الناس إنّه من كلامه، واللّه أعلم بحقيقة هذا الكلام، وهذا من المشهورات ، ومع هذا لا ثقة لأهل السنّة بالمشهورات ، بل لا بُدّ من الإسناد الصحيح حتى تصح الرواية .
وأما صحاحنا ، فقد اتفق العلماء أنّ كلّ ما عُدّ من الصحاح - سوى
ص: 155
107
التعليقات في الصحاح السنّة - لو حُلف بالطلاق أنّه من قول رسول اللّه أو من فعله وتقريره ، لم يقع الطلاق ، ولم يحنث»(1) .
فانظر ، كيف يتجاسر على الإمام الصادق عليه السلام ، وعلى عامة الإمامية ، ثمّ يحاول الخروج من عهدة ذلك !!
الثالثة : لقد قال في كل من علي وأبي بكر وعمر : «له فضائل لا تُعدّ ولا تحصى » ...
لكن من الأفضل ؟ !
وهل تقديم المفضول على الفاضل جائز أو قبيح ؟ !
لا يخفى أنّ العلامة الحلّىرحمه اللّه استدل لإمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالنقل والعقل . أما النقل ، فالكتاب ونصوص السُنّة الصحيحة عند القوم والمعتبرة عند الفريقين ..
وأمّا العقل ، فبأفضلية أمير المؤمنين ، وأنّ الأفضل هو الإمام .
وقد أجاب ابن روزبهان عن الأدلة النقلية بأنّها ليست بنص على الإمامة ، وأمّا عن الوجوه العقلية فقد صرّح قائلاً: «إمامة المفضول عندنا جائزة » (2) .
وهذا من أهم مواضع المقارنة بين آراء ابن روزبهان وآراء ابن تيمية ، فإنّه على شدّة نصبه وعداوته لأمير المؤمنين عليه السلام، ينص في غير موضع من كتابه منهاج السنّة - كغيره من أعلام القوم - على عدم جواز
ص: 156
تولية المفضول مع وجود الفاضل (1).
أما ابن روزبهان فيجوز ذلك ، بل يدعي كونه مذهب أهل السنة - إن كان مراده من قوله : «عندنا ذلك ، ليتمكن من تبرير إمامة أبي بكر بعد رسول اللّه !
وهكذا ، فقد وجدنا ابن روزبهان - في مواضع من كتابه - أشدّ عداءً لأمير المؤمنين من ابن تيمية ..
فمثلاً : لمّا استدل العلّامة في كتابه منهاج الكرامة بقوله تعالى: « إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا » (2) وذكر الرواية الواردة في ذيلها عن طريق الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي (3)، لم يكذب ابن تيمية تلك الرواية ، وإنّما طالب بصحتها(4) !
أما ابن روزبهان فيقول : هذه الرواية ليست من كتب أهل السنّة والجماعةولا أحد من المفسرين ذكر هذا » (5).. بل قد تكلّم في ابن المغازلى وطعن فيه كما تقدّم.
ووجدنا إقرار ابن تيمية بحكم عمر برجم الحامل والمجنونة(6) ، وأبن
روزبهان يكذب أو يشكك في الخبر كما تقدم .
هذا، وقد كان في النية أن نقارن بين ابن روزبهان وبين ابن تيمية
ص: 157
وكتابيهما في الردّ على العلامة الحلّي، ولكنا تركنا ذلك إلى مجال آخر خوفاً من الإطالة .
والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً .
علي الحسيني الميلاني
ص: 158
هو الشيخ الأجل أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر ، المعروف بالعلّامة الحلّي، والعلّامة على الإطلاق ، ويطلق عليه العلماء : آية اللّه ، وإمام المعقول والمنقول .
وُلد في 29 شهر رمضان سنة 647 ه- كما ذكره هو نفسه في الخلاصة، وتوفّي ليلة السبت 21 من المحرم سنة 726 ه- .
ذكره معاصره ابن دوواد الحلّي في رجاله فقال: « : «شیخ الطائفة وعلامة وقته ، وصاحب التحقيق والتدقيق ، كثير التصانيف ، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول ، مولده سنة 648 ، وكان والده - قدس اللّه روحه - فقيهاً محققاً ، عظيم الشأن ».
وما ذكره ابن داوود من تاريخ ولادته هو الأشهر والأصح .
ووصفه معاصره القاضي البيضاوي ب- «إمام المجتهدين في علم الأصول.
وقال ابن كثير : «شيخ الروافض بتلك النواحي ، وله التصانيف
ص: 159
الكثيرة ، يقال : تزيد على مئة وعشرين مجلداً، وعدتها خمسة وخمسون مصنفاً ، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض وغير ذلك ، من كبار وصغار ، وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه» . وذكره الصفدي فقال : «الإمام العلّامة ذو الفنون ، عالم الشيعة وفقيههم ، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته ... وكان يصنّف وهو راكب ، وكان ريض الأخلاق ، حليماً ، قائماً بالعلوم ، حكيماً ، طار ذكره في الأقطار ، وأقتحم الناس إليه وتخرج به أقوام كثيرة» .
ووصفه ابن حجر في لسان الميزان فقال : «عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم ، وكان آيةً في الذكاء ، شرح مختصر ابن الحاجب شرحاً جيداً سهل المأخذ غايةً في الإيضاح ، وأشتهرت تصانيفه في حياته ، وهو الذي ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه المعروف بالردّ على الرافضي ، وكان ابن المطهر مشتهر الذكر وحسن الأخلاق ، ولما بلغه بعض كتاب ابن تيمية قال : لو كان يفهم ما أقول أجبته» .
وقال في الدرر الكامنة : لازم النصير الطوسي، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها، وصنف في الأصول والحكمة ، وكان رأس الشيعة بالحلّة ، وأشتهرت تصانيفه ، وتخرّج به جماعة ، وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حل ألفاظه وتقريب معانيه ، وصنف في فقه الإمامية وكان قيماً بذلك داعياً إليه .
ولما وصل إليه كتاب ابن تيمية في الردّ عليه كتب أبياتاً أوّلها :
لو كنتَ تعلمُ كلّ ما عَلمَ الوَرى *طُرّاً لَصِرت صديق كل العالم
لكنْ جَهِلتَ فقلت : إن جميع من *يهوى خلافَ هَواكَ ليسَ بعالم
وقال ابن تغري بردي : «كان عالماً بالمعقولات ، وكان رضي الخُلق
ص: 160
حليماً ، وله وجاهة عند خربنده ملك التتر ، وله عدة مصنّفات» .
وقصته مع أولجايتو وانتقاله إلى مذهب الإمامية مشهورة .
قرأ رحمه اللّه على عدد كثير من العلماء كالخواجة نصير الدين الطوسي ، وابن ميثم البحراني ، وشمس الدين الكشي الشافعي ، الذي كان يعترض عليه العلامة أحياناً فيحير الشيخ بجوابه ويعترف له بالعجز
وقد تتلمذ على يديه خَلق كثير .
توفّي بالحلة المزيدية (1) ، ونقل إلى النجف الأشرف فدفن في حجرة عن يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة من جهة الشمال، وقبره ظاهر معروف مزور إلى اليوم .
* * *
ص: 161
162
هو أبو الخير فضل اللّه بن روزبهان - القاضي بأصبهان - بن فضل اللّه الأمين بن أمين الدين ، الخنجي الأصل، الأصبهاني الشيرازي الشافعي الصوفي ، الشهير ب- خواجه مولانا - أو : خواجه ملا ، مؤرّخ ، مشارك في بعض العلوم .
ذكره السخاوي في الضوء اللامع فقال : لازم جماعة كعميد الدين الشيرازي ، وتسلّك بالجمال الأردستاني وتجرد معه ، وتقدم في فنون من عربية ومعان وأصلين وغيرها، مع حسن سلوك وتوجه وتقشف ولطف عشرة وأنطراح (2)وذوق وتقنع.
قدم القاهرة فتوفيت أمه بها ، وزار بيت المقدس، والخليل ، ومات شيخه الجمال ببيت المقدس فشهد دفنه ، وسافر إلى المدينة النبوية فجاور بها أشهراً من سنة سبع وثمانين ، ولقيني بها فسُرّ بعد أن تكدّر حين لم يجدني بالقاهرة مع إنّه حسن له الاجتماع بالخيضري فما انشرح به ، وقرأ علَيَّ البخاري بالروضة ، وسمع دروساً في الاصطلاح ، وأغتبط بذلك كله ، وكان يبالغ في المدح بحيث عمل قصيدة بديعة يوم ختمه
أُنشدت
ص: 162
بحضرتنا في الروضة ، أوّلها :
روى النسيم حديث الأحباء*فصح مما روى أسقام أحشائى (1)
وهي عندي بخطه الحسن مع ما قيل نظماً من غيره، وكذا عمل أُخرى في ختم مسلم، وقد قرأه على أبي عبد اللّه محمد بن أبي الفرج المراغي حينئذ ، أولها :
صَحْحتُ عَنكُم حديثاً في الهوى حَسَنا *أن ليسَ يعشَقُ مَن لَمْ يَهجُرِ الوَسَنا
وهي بخطه أيضاً في ترجمته من التاريخ الكبير ، وكتبت له إجازة حافلة ، افتتحتها بقولي :
أحمد اللّه ، ففضل اللّه لا يجحد ، وأشكره فَحَقِّ له أن يُشكر ويُحمد ، وأُصلّي على عبده المصطفى سيدنا محمد..
ووصفته بما أثبته أيضاً في التاريخ المذكور ..
وقال لي : إنّه جمع مناقب شيخه الأردستاني ، وإن مولده فما بين الخمسين إلى الستين ، ثم لقيني بمكة في موسمها ، فحج ورجع إلى بلاده مبلغاً إن شاء اللّه سائر مقاصده ومراده، وبلغني في سنة سبع وتسعين أنه كان كاتباً في ديوان السلطان يعقوب لبلاغته وحسن إشارته» .
وذكر السيد نعمة اللّه الجزائري في مقاماته بأنه كانت له بنت ، فلمّا بلغت مبلغ النساء خطبها منه شرفاء مكة وعلماء الحرمين ، فقال : فقال : بنتي هذا(2)
ص: 163
لا كفو لها ، لأنّ سلطان العجم وإن كان علوياً - أي السلطان الشاه إسماعيل الصفوي - إلّا أنّه من الرَّفَضَة ، وسلطان الروم وإن كان من أهل السنّة إلا أنّه ليس بعلوي» .. إلى آخر ما قال .
وكان صاحب أسفار ، فسافر إلى الحرمين ، وبيت المقدس : والقاهرة ، والخليل ، وما وراء النهر - سمرقند و بخارى -، وكان يصحب معه أسرته، وتولى القضاء بمص- بمصر والحرمين.
طإبطال المنهج الباطل» في الردّ على ابن المطهر..
و طبديع الزمان» في قصة حي بن يقظان ..
و شرح «الوصايا» لعبد الخالق الغجدواني ..
و عالم آرا في تاريخ الدولة البايندرية - فارسي ..
وتعليقة على «إحياء العلوم» للغزالي ..
وتعليقة على تفسير «الكشاف للزمخشري ..
وتعليقة على شرح المواقف ..
وتعليقة على شرح الطوالع ..
وتعليقة على تفسير البيضاوي ..
وشرح المقاصد في الكلام ..
وكتاب في الإجازات ..
وكتاب في ترجمة شيخه الأردستاني .
* * *
ص: 164
هو السيد الشريف نور اللّه بن شریف الدین عبد اللّه بن ضياء الدين نور اللّه بن محمد شاه الحسيني المرعشي التستري ، المعروف ب- : الشهيد الثالث .
وُلد في تستر بخوزستان سنة 956 ه- ، ونشأ ونشأ بها، وأخذ العلوم الأولية عن أفاضل مدينة تستر ، ومنهم والده ، ثمّ انتقل إلى مشهد الإمام الرضا لال سنة 979 وكان عمره نحو 23 عاماً ، وحضر دروس العلّامة المحقق المولى عبد الواحد التستري وغيره ، بقي في مدينة مشهد نحو 14 عاماً .
ثمّ انتقل سنة 993 إلى البلاد الهندية، وتقرب إلى أبي الفتح ابن عبد الرزاق الكيلاني وكان له جاه في بلاط أكبر شاه ( 942) - 1025 ه- ) فولاه القضاء بمدينة لاهور ، فاستقل إلى أيام جهانگير ، وكان يخفي مذهبه
عن الناس تقيّة ، ويقضي على مذهبه بما وافقه من مذهب أهل السنّة .
وقال صاحب رياض العلماء : هو أوّل من أظهر التشيع في بلاد « الهند من العلماء علانية ، وصدع بالحق الصريح والصدق الفصيح تقريراً
ص: 165
و تحريراً ، نظماً ونثراً ، وجاهد في إعلاء كلمة اللّه ، وجاهر بإمامة عترة رسول اللّه ، حتى استشهد جوراً في بلدة لاهور من بلاد الهند ، وقتل ظلماً فيها لأجل تشيّعه وتأليفه إحقاق الحق ، وقصة قتله مشهورة ، وذلك في عام 1019 ه- »
له سبعة وتسعون كتاباً ورسالة ، أشهرها :
إحقاق الحق ؛ وهو الذي أوجب قتله، ألّفه ردّاً على الفضل بن روزبهان في كتابه «إبطال نهج الباطل».
مجالس المؤمنين ..
مصائب النواصب ..
الصوارم المهرقة في الردّ على الصواعق المحرقة ..
حاشية على تفسير البيضاوي ..
الحسن والقبح ..
وغيرها .
* * *
ص: 166
167 .
(1).
نسبه و اسرته:
هو : العلّامة الحجّة الشيخ محمد حسن بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللّه بن الشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن مظفّر الصيمري (2) الجزائري(3) .
زعيم ديني كبير ، متكلّم وباحث قدير، أديب وكاتب معروف ، وصاحب قريحة شعرية رقيقة .
يرجع نسب شيخنا المترجم إلى أسرة عريقة بالفضل والعلم ، عرفت في النجف الأشرف أواسط القرن الثاني عشر ، ولها فروع كثيرة وأنتشر أفرادها في كثير من المدن، كالبصرة ، والقرنة ، والمدينة، والمحمرة ، والأهواز ، وكربلاء ، والحيرة ، وعفك ، وبغداد ، ويسكن قسم منهم مدينة حلب .
ص: 167
ویرجع نسب آل المظفر إلى آل مسروح من أصول آل علي المضريين ، القاطنين في أرض العوالي بالحجاز ، ولا تزال بعض فروعها تسكن في عوالي المدينة المنوّرة حتى يومنا هذا، وقد كان لأحد أفرادالاسرةالماضين - وهو الشيخ يونس بن الشيخ أحمد - مراسلات معهم واتصال وثيق بهم .
وقد هاجر مظفر بن عطاء اللّه - جدّ الأُسرة الأعلى - من مدينة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه[ وآله] قبل القرن العاشر الهجري وقصد النجف الأشرف ، فقط فيها واختلف على علمائها فاستفاد منهم ، أما وجودهم في البصرة والمُدَيْنَة فيتّصل بالقرن الحادي عشر .
وقد نبغ من هذه الأسرة أعلام كثيرون ، أشهرهم الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبد الحسين ، المعروف بالجزائري، المعاصر للشيخ جعفر, الكبير ، رحل من النجف إلى الكاظمية فتوطنها وقرأ على أساتذتها ، وله مؤلّفات ذهبت ضمن كتبه التي بيعت بعد وفاته ، وتوفي بها فدفن في رواق المرقد الكاظمي، وله مسجد فيها يعرف باسمه إلى اليوم ، وقد وُجدت له أحكام ممضاة من علماء وقته .
ووالد المترجم هو العلّامة الشيخ محمّد المظفر ، من كبار علماء الإمامية في مطلع القرن الرابع عشر ، وقد توفي في أوّل ربیع الأوّل سنة 1322ه- في سنّ الستّين بمرض الوباء ، وله عدة مصنفات ، منها : توضيح الكلام في شرح شرائع الإسلام، وهو دورة فقهية كاملة شرح فيها كتاب «شرائع الإسلام» للمحقق الحلّي بإيجاز وتركيز ، وهو لا يزال مخطوطاً
ص: 168
ويرجع نسبه من جهة الأُمّ إلى عائلة الطريحي ، وهي عائلة عربية ، علمية استوطنت النجف الأشرف منذ عدة قرون ، وتُعدّ من أقدم العوائل العربية في النجف ، فأُمه الفاضلة ابنة الشيخ عبد الحسين الطريحي .
وللمترجم ثلاثة إخوة كانوا من العلماء الأعلام ، وهم :
1 - الحجّة الشيخ عبد النبي ، المتوفى سنة 1337 ه- ، وهو الذي تولّى رعاية شيخنا المترجم بعد وفاة والدهم.
2 - الشيخ محمد حسين ، المتوفى سنة 1381 ه- ، باحث عالم بالأدب والتاريخ ، له تصانيف عديدة منها : الإمام الصادق علیه السلام ، الإسلام نشوؤه وارتقاؤه ، تاريخ الشيعة ، ميثم التمار ، مؤمن الطاق .
3 - العلامة الكبير الشيخ محمد رضا المتوفى سنة 1384 ه- ، عميد كلية الفقه في النجف الأشرف ، صاحب المصنفات الجليلة : أصول الفقه ، المنطق ، عقائد الإمامية ، السقيفة ، والكتب الثلاثة الأولى من الكتب الأساسية في منهج الحوزات العلمية ، وعليها المدار اليوم في دروس مرحلة المقدمات ، وهو مضافاً إلى كونه عالماً مجتهداً وفقيهاً أُصولياً فقد كان أديباً وشاعراً مجيداً .
ولد شيخنا المترجم له في النجف الأشرف في 12 صفر عام 1301،
ص: 169
ونشأ فيها ، وترعرع في أنديتها ومحافلها ، درس على والده وغيره النحو ، والصرف، وعلوم البلاغة ،والمنطق ، والحساب ، والفلك ، وعلم الكلام ، والحديث ، والفقه وأصوله ، وعلوم الدين والأدب ، ونال منها حظاًوافراً. حضر دروس الشيخ الآخوند محمّد كاظم الخراساني ، والسيّد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي،وشيخ الشريعة الأصفهاني ، والشيخ علي ابن الشيخ باقر الجواهري ، وقد أجازه معظم هؤلاء المراجع العظام إجازة الاجتهاد عام 1332 ه ، كما أجازه بالرواية شيخه شيخ الشريعة ..
فاستقلّ برأيه وباشر في مواصلة الأبحاث الخارجية منذ ذلك الحين فأتم عشرات الدورات الفقهية والأصولية، حضرها رعيل كبير من أهل الفضل والعلم ، وقد تخرّج على يديه جملة من الأفاضل .
وقد تنبه إلى مقامه العلمي عشرات الرجال من أهل اليقين والمعرفة ه مع وجود زعماء مشتهرين آنذاك، أمثال الميرزا النائيني والسيد أبو الحسن الأصفهاني ، وكان السيد أبو الحسن يحترمه ويجله وقد رجاه غير مرّة أن يُرجع إليه كل ما يتعلّق بالقضاء إليه ، ولكنه رفض رفضاً باتاً ، وآثر الانعزال والانصراف إلى التأليف والتدريس والعبادة ، كما كرّر عليه أن يقيم صلاة الجماعة بمكانه في الجامع الهندي فرفض أيضاً، ولم يخرج من العراق طيلة حياته إلا مرة واحدة سافر فيها إلى إيران عام 1368 الزيارة الإمام علي الرضا علیه السلام للاستشفاء بعد إجراء عملية جراحية أُجريت له في النجف الأشرف .
وبعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني سنة 1365 ه ظهر شيخنا المظفّر إماماً مبرزاً ومرجعاً من مراجع المسلمين، رغم أنه كان قد آثر العزلة.
ص: 170
وصفه الشيخ جعفر آل محبوبة بأنه من العلماء الأبرار ، والمجتهدين الأخيار ، لم يناقش في ورعه وصلاحه، وللناس فيه أتم الوثوق ، صلّى خلفه كثير من أهل الفهم والمعرفة ، ورجع إليه في التقليد جماعة من الناس ، تقرأ في غضون جبينه آثار الأبرار ، وتلوح على مخايله سمات أهل الورع ، يغلب عليه الهدوء والسكون .
ثمّ قال : رأيته رجلاً صالحاً نقي الضمير ، طاهر النفس ، متعففاً ، صادقاً في القول .
ووصفه صاحب شعراء الغريّ بقوله : عرفته معرفة حقة، واتصلت بشخصه - شأن غيري ممّن اتّخذوا العلم صفة لهم - فوجدته إنساناً فذاً قد حصل على كافة الصفات الطيبة والخلال الحميدة ، قد نُزِّه عن كلّ ما يوصم به المرء من زَهْوِ وتدليس أو حبّ للظهور والغطرسة، يتواضع للكبير والصغير بصورة لم تُفقده قوّةَ الشخصية ، وجلال الزعيم ، ولطف مزاجه حتى عاد كالزجاجة الصافية التي لا درن عليها أو غبار ، وبهذا أخذ بمجامع قلوب مختلف الطبقات ورجال الدين، وقلّ من حاز على رضا الناس إلا هو وأفراد يُعدّون بالأصابع قد تجردوا عن زَهْوِ الحياة وزخرفها ، وابتعدوا عن كل ما يوجد الريبة والشك ، وتمشى باحتياطه في سيرته حتى لا يكاد أن يتطرق الوهم إلى نفسه، فقد بلغ مرتبة من الصفاء والتجرد أهلته أن يرتفع في جوّه الذي زخر بالأصفياء والأولياء ارتفاعاً بيِّناً، ويظهر في مجتمعه الذي كثر فيه مراجع الدين ظهوراً دون أن يرغب به أو يقصده، وكم جاءه المال فتغاضى عنه ، وأتبعته الزعامة فأعرض عنها، وهو بقية السلف الصالح الذين تتواتر عنهم القصص والأخبار بهذا الشأن .
ثم قال : عرفته معرفة جعلتني أكبر مقامه لا لغاية ، وأُحبّه لا لقصد
ص: 171
سوى ما احتفظ به من شخصية رصينة مُحكمة الروح والعقل، محكمة الدين والخُلُق، لهذه الصفات أحببته وأحبه الآلاف مثلي من الذين لم يحترموا إلا الحق والعدل والدين، ولهذه الصفات أكبرته ؛ لأنه سخر بالزعامات المزيفة ، والشخصيات المرهلة والنفسيات التي أتعبت هواها فقادها إلى مصير مظلم وهُوّة عميقة من محاسبة اللّه والضمير ، ولهذه الصفات عرفت أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، ... ليعيد إلى النفوس
الساخطة اطمئنانها ، والقلوب المرتبكة سكونها، والعقائد المتزلزلة إرجاعها ، لهذه الصفات أصبح المترجم له علماً من أعلام الدين ، لا يرجع له إلا من عرف اللّه وتبع تعاليم الدين الصحيحة .
وقال في حقه الشيخ محمّد شيخ الشريعة - من علماء باكستان ، بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة شيخنا الفقيد ، والتي أُقيمت في النجف الأشرف - : اعتدتُ ألا أكتب إلا ما يترجم شعوري ، وأبتدئ بإرضاء ضميري قبل غيري ، فحقاً أقول : إنا فقدنا بارتحال شيخنا الأعظم آية اللّه المظفّر أطهر وأطيب وأزكى شخص عرفته في حياتي ، وأعتقد أنّ الهيئة العلمية الدينية النجفية والجامعة الإسلامية العامة قد انثلمت بوفاة فقيدنا الأكبر ، فقد كان منهلاً لروّاد العلم، ومقتدى للمؤمنين ، وأباً باراً للمسلمين.
ثمّ قال : لا يجتمع التواضع والمرونة مع الكبرياء ولكنهما يجامعان العظمة، فقد كان رحمه اللّه عظيماً متواضعاً ، مهاب الجانب محبوباً ، يغمر جليسه بعظمته الروحية الأخلاقية، ويصهره حتى يصبح منطق الجليس نزيهاً عارياً من الغمز واللمز ، فلم تكن ترى في مجلسه غير الأدب الديني من دون أن يحدّد أحداً في منطقه ، إذا ذهبت إليه بحاجة كان يتضاءل كأنه
ص: 172
المحتاج ولم تتركه إلا وأنت راض عنه سواءً أجابك أم ردّك ، وإن قل الأخير .
كان جواداً بذولاً ، في شخصيته وماله ، وكلّ ما أُوتي ، فقد كان رحمه اللّه يعتقد أنّ شخصيّته مِلْك للمسلمين يجب أن ينتفعوا بها ، ولم يبخل بها على أحد ، وأعتقد أنّ التصدّق بالشخصية أعظم وأصعب على الرجل من التصدّق بماله ، بل أشدّ من التصدّق بنفسه بمراتب .
وقال الشيخ محمد طاهر آل راضي : كلّ يعلم علقة آل المظفّر بجمعية منتدى النشر ، وقد آزر المرحوم جميع خطوات الجمعية ، لا لأنّ إخوانه منسوبون إليها ، بل لاعتقاده أنّ تلك الحركة خطوة إصلاحية للدين
والمجتمع .
ثمّ قال : أقسم باللّه - وهو علَيَّ شهيد - إنّي مع قربي بجواره وحظوتي بمجالسته - سفراً وحضراً - ما وجدته نصر الجمعية أو جهات أُخرى بدوافع الانتماءات الفردية والتعصبات الخاصة ، بل لم يكن يفهم التعصبات القبلية أو القومية، ولا أَغالِ إن قلتُ: إن أخاه وأي مسلم آخر كان عنده سيّان إلا بما ميز الشارع بينهما ، وكان التمايز عنده بالتقوى لا بالبياض والسواد ، وكان مجبولاً على هذا الخلق الكريم ، لا أنّه يعمل به إطاعة للشرع الحنيف فقط .
وكمال الدين أن تُصبح الأحكامُ أخلاقاً مزيجاً بدم الرجل ولحمه .
كان فرداً عاماً محذوفاً عنه جميع الإضافات الخاصة ، ولمثله الحق أن يكون على رأس أُمة إسلاميةعالمية ، مع إنّه كان قدوة في التقوى ، بعيداً عن التقشف والرياء ، يحضر على المائدة الفخمة، ويشارك الفقراء في ماكلهم البسيطة ، لا ينكر الأوّل تقشّفاً ، ولا الثاني تكبراً ، يبتسم للفقير ،
ص: 173
ولا يخضع لذوي الجاه والسلطان ، متواضع مع الأول وعظيم مع الثاني وكان عظيماً مع الناس أكثر من عظمته عند نفسه على حد قول إمامنا السجاد علیه السلام: «ولا ترفعنى في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها » .
ثمّ قال : وإنّي لأحفظ له كلمة ، وكم له من كلمات خالدة ! وهي :
«إن الرياء في زماننا لا معنى له ؛ لأنّ له ؛ لأنّ سوء الظنّ بلغ بالناس حداً يتوهمون العبادة الخالصة من المؤمن رياءً، فلا فائدة للمرائي، ورياؤه لا ينخدع به الناس».
ثم قال الشيخ محمد طاهر آل راضي في كلمته : ولا تظنّ أنّه لدمائة أخلاقه كان ممن تقتحمه العين ، فلقد كانت له هيبة تكاد أن ترتعد لها الفرائص ، وتصطك لها الأخامص ، ويخفق لها القلب .
كل ذلك في ما أعتقد سرّ هيبته الطاعة ، وعلو مكانته منها ، من غير أن يكون في شيء من ذلك متكلفاً أو متزمتاً ، فإنّه المجبول على الترسل والتبسط ، ولكنه خُلق خيراً زكيّاً.
ثم قال : وقد ذكر لي بعض ثقات أقاربه ، وكان أكبر من شيخنا سناً : إنّ الشيخ لما كان صبياً ما كانت له بطبعه هواية أن يلهو أو يلعب ، بل كان يحشر نفسه مع الصبيان ، ولكنه يقف منهم على كتب فلا يشاركهم لعبهم ولهوهم ، فكأنّه خُلق على الاتزان ، وطبع على الوقار .
وإنّي كنت أجتمع به، وأعد اجتماعي به من توفيقاتي ، كمن يجتمع مع ملك من ملائكة اللّه ، ولم أسمع سمع منه منه مدة العمر أن تعرّض لأحدٍ إلا بالخير والإطراء إذا كان ممن يستحق ذلك ، وإلا فلا يتعرّض له ، وربّما يتعرّض غيره له فتكون خطته خِطة الدفاع عنه وحمله على الصحة.
ص: 174
وهو ميمون النقيبة ، مبارك الذات والفعل، أما بركة ذاته فلطهارتها بالطاعة والمعرفة والفناء في مرضاة اللّه مع علمه البالغ وفضله العظيم الجمّ وأما بركة الفعل فقد شاهدته عقد الزواج لشاب على فتاة ، وبعد العقد ابتلي الزوج بداء كان منه على أشد نواحي الخطر ، يكاد أن يكون ميؤساً منه ، ثمّ عافاه اللّه وعاد إلى الصحة الكاملة ، وتزوّج الزوجة التي عقدها الشيخ فاتفق أن اجتمعت بأحد العلماء فتذاكرنا ما جرى لهذا الشاب فقال لي : أمّا أنا فكنت على رجاء قوي ، لم أيأس كما يئس الناس ؛ لأنّ العاقد له كان الشيخ ، فإنّه الميمون المبارك ، قد جُرِّب أنّه ما عقد لشخص فخاب زواجه.
وكان - طاب مثواه - حليماً ، يسعني أن أقول : إنه ما رُني غضب لنفسه أو لأمر من أمور الدنيا ، ولكنه كان يتأجج ناراً ويتميز غيظاً إذا هتكت عصمة من عصم الدين.
لقد كان أعلى اللّه مقامه مضرب المثل في التقوى والعدالة عند الناس ، حتى إنّي كنت أتصوّره أنّه معصوم غير واجب العصمة ، والناظر إليه يحس أنه يواجه وجهاً تنطق أساريره بمعنوية الهداية ونور الهدى ، وكنت أقصده للائتمام به في الصلاة ، فإنّه - مضافاً إلى كونه في أقصى درجات العدالة - فقد كانت له في الصلاة نغمة ، ولا سيما في قنوته ، فكأنها تأخذ بيدك فترفعك إلى نور معرفة اللّه ، وكأنّك ترى الجنّة والنار ماثلتين بين عينيك بإيحاء من تأثير صوته الخاشع ، وعذوبة لهجته ، وكمال معرفته ، ومعراجيّة نفسه، وأتصالها به تبارك وتعالى فناء وعرفاناً .
وكان - رحمه اللّه - من المجتهدين القلائل الذين تلقوا حوادث تطوّر الزمن بنفس متفتحة بعيدة عن التزمت، فنظر بذلك إلى الحياة نظرةً سمحاء ، ومتى واتاه الدليل أو قامت عنده الحجّة الشرعية أجاز ما يسهل
ص: 175
على الناس أمر حياتهم .
فمثلاً كان يرى طهارة الكتابيين وجواز الزواج منهم . .
كما كان يرى أنّ الأدلة غير متوفّرة على إن المتنجس يُنجس . .
وكان أعلى اللّه مقامه يرى لزوم ترتيب الأثر في ما تعلّق بإثبات الأهلة على وفق حكم الحاكم الشرعي ؛ معللاً بأنّ الحاكم بالهلال مجتهد أهل للحكم إذا تمت الموازين ، وقد رتب الأثر على ذلك في بعض بعض أهلة فطر شهر رمضان ، عندما حكم بالهلال بعض المراجع وخالفه الآخرون ، لقد نظر شيخنا في ذلك إلى الواقع دون أن يلتفت إلى زاوية غير الحق ، وفي نفس الوقت فإنّ هذه الحادثة تكشف عن فنائه في ذات اللّه وتجرّده وبعده عن الأنانية .
وله من أمثال ذلك الكثير ، يترصد الحقِّ دائماً ولا يحيد عنه، ولا تصدّه عنه نزوة من حبّ الذات ،وخلجاتها ولا نزعة من نزعات الكبرياء وتخيّلاتها .
وكان شيخنا من مشايخ التدريس ، دقيق النظر ، عميق التفكير والتحقيق ، حسن الأسلوب في التفهيم، فقد كان يحرر المسألة بتحرير واضح يتبين فيه موضع الخلاف جليّاً ، لئلا تلتبس الآراء من حيث تداخل بعض المصاديق ببعض ، ثمّ يُبدي رأيه معتضداً بالحجّة ، ذاباً عما اختاره في تفنيد ما قيل أو يمكن أن يقال على خلافه ، مؤيّداً بالذوق الصحيح العالي ، والفطرة السليمة الحرّة ، غير مأخوذ بما يستدعي اتباع المشهور لكونه مشهوراً من دون أن تسانده الأدلة.
وبالإمكان مراجعة كتبه الاستدلالية - ومنها كتابه المطبوع في مباحث
ص: 176
الحج - لتجد أسلوبه بارزاً في عرض الأدلة ومناقشتها، والانتهاء إلى الرأي السديد.
والمترجم له بالإضافة إلى تفوقه في الفقه والأصول ، وسُموّه في فهمها، فقد نال حظوةً كبرى في الأدب والنظم ، وله مع الشيخ جواد الشبيبي اللّه - الذي صاهره على ابنته الكبرى - مساجلات أدبية .. ومنها
قول الشبيبي من أبيات مطلعها :
فخرتُ بأعمامي وطُلْتُ بأخوالي *فزاحمتُ في الأفلاك كوكبها العالي
فأجابه شيخنا المظفر ، وذلك في 26 رمضان 1352 بقصيدة ، منها :
سهرت الليالي في أمانٍ وآمال* فإنّ الأماني بَعْدَكُم رأسُ أموالي
وَكَمْ جُبتُ ليلَ البَيْنِ أقطعُ جَوَّهُ* بسيارة للفكر تحمل أثقالى
أقولُ لعين الشمس : لا تَبزُغي بهِ *فقد سار بي فكري على برق آمالي
تبشرنی یا شمس أن سوف نلتقي * وأحظى برؤيا كوكب الشرفِ العالي
وأنتَ إذا وافيت واستتر الدجى *وأَنْجُمُهُ مَنْ يُخبرُ الندبَ عَن حالي
ص: 177
وإني لا أرضى يضونك مِنّةً* إذا بَزعَتْ شمسُ العُلى فوق أطلالي
بغُرتِها نورُ الجلالة ساطع* بها يهتدي الساري إلى المَفْخَرِ العالي
أضاءت على أُفْقِ الكمال مُطِلَّةٌ *وجَرَّتْ بروض الفضل فاضل أذيال
وألقت سناها في خمائل للعُلى* فزانت بلاد الشرق في الحَسَبِ الغالى
وبدر الهدى أنواره يَستفيدها *لأبنائه من نورها الساطع الحالي
جلا اليوم ذكراها لنفس تُفيدُها* نفائس فخر لا نفائس أموالِ
وكتب من مدينة القرنة إلى صديقه الشيخ محمد رضا الخزاعي في صدر كتاب عام 1329ه :
صَبوتُ وقد سقاني الشوقُ صَابا *ولم أرَ صَبْوتي إلا صوابا
وبِئْتُ ولى فؤاد مُستهام* يَرى عَذْبَ السلُوّ لهُ عَذابا
رحلت وقلبي المعمود آبا* إليك ، فقلتُ : ترجعُ ؟ قال : أبى
وقد أَوْدَعْتُهُ لكَ فَارْعَ فِيهِ *ودادي ، إنّهُ لهَواكَ ذابا
فأَمْسَتْ تحسد القلب المعنى* عُيوني كي يُعاني ذا الجنابا
فیا قلبي ألا أبْلِغْهُ حالي* وقُلْ : ودّعتُه صَبّاً مُصابا
ص: 178
ترجمة الشيخ المظفّر المظفّر ....
يَبيتُ مُسهَّداً سَهرانَ طَرْفٍ *قريحَ الجَفْنِ يَنسكبُ انسكابا
فمَنْ لي لَو يَحلّ سوادَ عيني* كما هو في سُوَيْدا القلبِ ذابا
وتَجْمَعُني وخير أخ ودودٍ* ديارٌ أخصبَتْ فيه جنابا
فأُشهِدُ واحداً في العِزَّ فَرداً* فَتَى طابت مآثره وطابا
حليف الفضل والإفضال قدماً* ومَنْ ملأت أياديه الرحابا
محمّد الرضا الزاكي أصولاً *رضي الفرع نَدْباً مُستطابا
ألا يا نسمة الأسحار هبى لِمَنْ مَلَكَتْ مَواهِبُه الرقابا
زعني بلغيه سلام عانٍ *بهِ حَضَرت مودته وغابا
* * *
وله قصيدة يخاطب بها أمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام:
دهتني الهموم ولا مُنجد*وقلبي بها مُتهِمْ مُنْجِدُ
وَلاكَ فمُ الضُّرَّ قَلبي وقَدْ *طوى صَبْرِيَ الزَّمَنُ الأَنْكَدُ
فأَقْوَتْ مَعَالِمُهُ بعدما *وهى عَن قِوى جَلَدي الجَلْمَدُ
ولَمّا هَمَا كَبِدي للضَنَى* وأجْهَدَهُ الشَّجَنُ المُكْمِدُ
رَبطت فؤادي بكَفِّ المُنى* زَماناً ومالي سواها يَدُ
فَمُذْ حَابَ ظَنِّي وَرَدْتُ الأمير* وما طابَ لي غيرَهُ مَوْرِدُ
فیا رحمةَ اللّهِ عَطفاً فَقَدْ* تَجهمني الصاحب المُسْعِدُ
عَهِدْتُكَ لِلْمُلْتَجِي جُنَّةً *إذا مادهی جَلَلٌ مُجْهِدُ
وقد كنتَ مَقصَدَ أهلِ الرّجا *لدى الضُّرَّ إِذْ عَزَّ مَن يُقصَدُ
ولولاك غاضَتْ بِحارُ الندى *وما كان رفد ولا مُرْفِدُ
ولولاك ما دَر دَرُ الحَيا* ولا دارَ في أُنْقِهِ فَرْقَدُ
ص: 179
فحقق رَجاي بِما أبتَغِي* فَقَدْ حُقِّ لي مِنكُمُ الموعد
أترضى بأني أشقى وفي* فؤادي لظى شَجَني تُوقَدُ ؟!
وترضى أبيتُ ليالي الأسى *وعين الرجا طَرْفُها أرمدُ ؟ !
وترضى أضل ومنك الرشاد* وأنتَ لما نابَني تَشْهَدُ ؟!
ولولاك ما سارَ فُلْكُ الهُدى* ولا بان رُشْدّ ولا مُرْشِد !
فإن لَمْ يَسَعْنا مَدى فَضلِكم *وضاقَ بِنا فَلِمَنْ نَقْصِدُ ؟!
وَحَاشا يضيقُ وأنتَ الجَوادُ* وآيةً جُودِك لا تُجْحَدُ
أتُغْضِي وأنتَ الوَليُّ الذي* يُحَلُّ بأمرك ما يُعْقَدُ؟!
أتُغْضِي وأنتَ القَديرُ الذي *لك الأمر والنهي والسؤدد
فإِن لم تَغِثْ فَلِمَنْ نلتجي* وما في الوَرى مَقْصَدٌ يُحْمَدُ ؟!
بباب الرّجا عَكَفَتْ هِمّتي* ويَصْرُخُ في نَبَنِي المِذْوَدُ
إلى المُصطفى وإليك أنتهى* رجائي وحقاً به أَسْعَدُ
وله يرثي الإمام الحسن السبط علیه السلام بقوله :
الرُّسْلُ تَفْخَرُ والأملاك والأُمم *بالطاهر المُجتبى والبَيتُ والحَرَمُ
والأرضُ تَخضعُ إجلالاً لهيبته* والعقل يخدمه واللوحُ والقَلمُ
ما الإنس والجن والأملاك قاطبةً* إلا لهُ خُلِقوا قدماً وإِن عَظَموا
مِن مَعشر أَحدَقتْ بالعَرشِ مُشْرِقَةً* أنوارهمْ وَهُمُ الأسحارُ والكَلِمُ
ص: 180
وعصبة كان في نص الغديرِ لَهُمْ *فَضْلٌ جَلِيٌّ وفيهِ تَمّتِ النِّعَمُ
أئمّةٌ للهُدى طَابَتْ أُرُومَتُهُمْ* وفي بُيُوتِهِمُ الآيات والحِكَمُ
لَهُمْ إيابُ الوَرى يومَ الحِسابِ وفي *أيْدِيهُمُ الحَوضُ والنَّعْماءُ والنِّقَمُ
فَمِنهُمُ الحَسنُ الزاكي ومَن شَرُفَتْ *بحُسنه الخصلتانُ الحُكْمُ والكَرَمُ
رُوحُ النبيَّ ونَفْسُ المُرتضى وأخُ الشهي* د وابنُ التي تُجْلى بها الظُّلَمُ
هُوَ المَلاذُ ومَن فيهِ المَعَاذُ غداً *وفيه لِلْمُلْتَجِي مَنْجَى ومُعْتَصَمُ
الدينُ والعِلمُ والعَليا به جُمِعَتْ* لكنْ تَفرّقَ عنه الناسُ حينَ عَمُوا
ما رُوعِيَتْ لرسولِ اللّهِ حُرمته* فيه ولا عهده ، كلا ولا الرَّحِمُ
باعوا بدنياهُمُ الأُخرى على خَطَلِ *ويَمّموا قَتْلَهُ يا بِسَما أَمَمُوا
تَعْاً لَهُمْ تركوا الوَعْدَ اللئيم على* منابر المصطفى يَنْزُو وَيَحْتَكِمُ
لا غَرْوَ أنهم أحرى بَمِثْلِهُم * إذ سادَهُمْ بعدَ يَعسُوبِ الهُدَى الرَّحَمُ
ص: 181
قَدْ عاهد المُجتبى والغَدرُ شِيمَتُهُ *فَخانَهُ وَهُوَ مَن تُرعى بهِ الدِّمَمُ
وَدَسٌ سُمّاً نَقيعاً قد أصاب بهِ *فؤادَه يا فداهُ العُرْبُ والعَجَمُ
ومنه ألقى لِما يَلْقاء طائفةٌ *من قلبِه قِطَعاً في الطَّسْتِ وَهْوَ دَمُ
* * *
ومن شعره يستنجد بالإمام المهديعلیه السلام قوله :
إلامَ أُقاسي الأسى والوَصَبْ *وحَتّامَ أَضْنى وقلبي يَجِبْ
فيا رحمةَ اللّهِ عَطفاً على *مقیم بِجَنبِكَ رَهْنِ النُّوبْ
تَرامَتْ إليكَ رِكَابُ الهَوى *تَخُبُّ بِرَكْبِ الرَّجا والطَّلَبُ
* * *
وقال يتشوّق إلى وطنه وهو في البصرة :
ربوع الحِمى هَلْ إليكِ رجوعُ *وهَلْ لي بداراتِ الديارِ طُلوع ؟ !
وهل تَرِدُ الألحاظُ مَنْهَلَ أُنسِها* ويجمعُها والماجدِينَ شُروع ؟ !
وهل يبلغ المَعمودُ مأمَنَ عِزّهِ *يأمَنُ رَوْعَ للكَثِيبِ مَرُوعُ ؟ !
ص: 182
وهل لي في تلك المَنازِلِ وَقْفةٌ *تُبَتُ لَدَيها لَوعةٌ ووُلوعُ ؟!
فَقَدْ مَلَكَتْ قَلْبي الأبي هُمومُهُ *وعاصي دموعي للغرام مُطيعُ
وكَمْ بِتُ مِنْ بَعدِ الوَداع مُسَهَّداً *أعاني الأسى والوادعون هجُوعُ
فَمَن لي بِكَوْمَاء بَرى جسمها السُّرى *وشوقي بُراها والغَرامُ نُسوعُ
لتبلغني أرضَ الغَرِي ورَوضَ* ة الوصي التي منها الزمانُ يَضُوعُ
فأمْسِك أطراف العتاب بِمِذْوَدي* وأَفرُشُ خَدّاً ما عَلاهُ خُضُوعُ
وله هذه المقطوعة الجميلة :
حيّاكَ يا قلبُ فأحياكا* رِيمُ الحِمى إذْ زارَ مَغْناكا
بُشراك فيه زائراً بَعْدَما* أبْعَدَ لُقياك وأشجاكا
أخْلَفَك الوعد ولم يَتَّئِب *وعندما وافاك أوفاكا
لقد قضى بالعدلِ ما بيننا *وبَعْدَما راعاكَ أَرْعاكا
جنيتُ مِن فِيهِ جَناهُ وَقَدْ* عدا بريّاه وأزواكا
***
وله في صدر كتاب عن لسان بعض الأصحاب :
يا من به الأحكامُ والحِكَمُ *دارتْ فأَمَّتْ دارَهُ الأُمَمُ
لك في الأنامِ مَناقِبٌ ظَهَرَتْ *لم يُحصِها القرطاس والقلمُ
ص: 183
فَنَداكَ قامَ لكَ الفَخارُ بِهِ* إن الفَخارَ دِعامُهُ الكَرمُ
وجميلُ خُلْقِكَ دانَ فيهِ لك* العربُ الكُماةُ الصِّيدُ والعَجَمُ
وعَظيمُ حِلمِك قد بَلَغت بهِ * ما ليسَ يبلُغُ نَعْتَهُ الكَلِمُ
ما هَزَتِ الأيامُ رُكنك فى* ما فيه رُكنُ الطَّوْدِ يَنهَدِمُ
هبتْ عَليكَ زَعازِعٌ فَغَدَتْ* منها بحارُ البَغْيِ تَلتظِمُ
لكِنّما قابَلْتَ عَاصِفَها* برزينِ حِلْمِ زانَهُ الحُلُمُ
هذا تراتُكَ مِن نَبِيَّ هُدى* تُجلى بِنُورِ جَبينِه الظُّلَمُ
ووصيه الزاكي والهما* أسمى الوَرى وسواهُمُ الخَدَمُ
فاهْنَاً بأنّكَ يا وَليَّهُمُ* ومطيعَهُمْ مِنْهُمْ ونَجْلَهُمْ
فَهُمُ الأسود وأنتَ شِبلُهم *وهُمُ الأُصول وأنتَ فَرْعُهُمْ
وتَبِعْتَهُمْ في كلّ مَكْرُمةٍ *لِتَنالَ يومَ الفصل وَصْلَهُمْ
فَغَدَوتَ ربَّ الفخرِ مُنفرداً *وندى يديك وإنّه قَسَمُ
قَسَمَ الإِلهُ لكَ العَلاءَ رِضاً *دُونَ الوَرى إنّ العُلى قَسَمُ
أُهدي إليكَ سَلامَ ذي كَلَفٍ *عاني الحُشاشةَ شَفَهُ الألم
ما غَرَّدتْ بِنتُ الأراكِ وما* سَقَتِ الوَرى مِن كَفَكَ الدِّيمُ
* **
وله مؤرّخاً عام ولادة عبد الأمير بن الشيخ محمد رضا الخزاعي :
يرَبْعِ العِزَّ عِندَك رَوضُ مَجدِك *يُغرِّدُ في هَناكَ ونُجْح قصدِك
ويَنشُرُ فيه أعلامَ التّهاني *ويَنشُرُ لؤلؤ البشرى بجهدك
بمولودٍ لِذاتِك قلتُ : أرّخ *«تَصَوَّرَ نُورُهُ مِن بَدرِ مَجدِك »
1320
ص: 184
وله تشطير لأبياتٍ جاءته في رسالة من أحد أصدقائه ، يقول فيها :
(دَهري أراني عَجَبا) *دامَ لهُ تَعَجُبي
تاهَ بِهِ سَرْحُ النهى *(وهو كثيرُ العَجَبِ )
( مِن عَيْلَم علامة) *أظهر ما لم أحسَبٍ
ناهيك فيهِ مِن فتى* (حِلْفِ النّهى والأدب)
(مهذب راسي الحجى) *خفيف طبع عربي
إنّى وإن قل الفدا* (أفديه من مهذب)
وما سمعنا عن فتى *مِثْلِ له في الأدب
قد حالَ عن وُدّ أخ *ذا حسب و
صدق ما يسمعُهُ* مِن كَذِبِ الأوهام بي
ولَمْ يُصَدِّقْ نَبَئي *وإِنْ يَكُنْ عنِ النَّبِي
وكَذَّبَ الوُجدان مِنْ* صِدْقٍ فِعالِ الأنجب
قد طُبِعَتْ نفسي على *طَبْع عَنِ العَرْج أبي
يا فئة طابوا وما *ندنوا بالريب
مذاقهم طاب وما* طاب لهم ذو وَصَبٍ
أَقولُها لأنّهُمْ* يَعْلُونَ مَن لَمْ يُذنبٍ
لَمْ يَحْفَظُوني وَهُمُ *يَنْسُونَ ذَنْبَ المُذَنبِ
نَفْتَةُ سُوءٍ صَدرتْ* من ذي أسى مُعَذِّبِ
يقدحُ منها شررٌ* مِنْ مُهجةِ ذِي لَهَبٍ
إن أخاكَ طَيِّبٌ* نفساً لطيبِ الحَسَبِ
نما بحِجْرٍ طَيِّبِ * مِن طَيِّبٍ مِن طَيِّبِ
ص: 185
نَفْسٌ له عزيزة *أَنْفَسُ نَفْسٍ لأبي
كانت كما تهوى العُلى *مقرها في الشهبِ
قَدْ أَنْجَبَتْهُ عُصْبَةٌ* حَلَّتْ بأعلى منصب
لَمّا تَنادَتْ للعُلى* حَوَتْ جَميعَ الرُّتَبِ
علماً وحلماً، عفةً* عفواً بيوم الغضب
فضلاً سَخاءً وَرَعاً *حَيّاً كمال الأدت
ما السبب الذي بِهِ *استحقُ سُوءَ العَتَبِ
وليس بالجاني الذي *استوجب ما لم يجب
لَم يَجْن غيرَ إِنَّهُ* أَجَنَّ حُبَّ النُّجُبِ
فَلَوْتُمْ مُتَيَّماً *قال : هواكُم مَذْهَبي
ومِلّتي حُبُّكُمْ* وإِنْ قَطَعتُمْ سَببي
ولَم يَزِلْ دِيني الهوى *وَعَنْهُ لَم أَنقَلِبِ
حتّى أُوارى قَبلَكُمْ *تحت صفيح النوب
ويَدفنوني دُونَكُمْ* فديتُكُمْ في التُّرَبِ
وللحِسابِ يَنشُرُو *نَ كل جِسمٍ تَرِبِ
وللجوابِ يسألو *ني عِندَ نَشْرِ الكُتُبِ
فأُفُصِحُ القول الذي *لقِيتُ مِنه وَصَبي
مُنادياً فيه بما *مَنْ قالَه لَمْ يَخِبٍ
آل محمّدٍ هَوِي* تُ حَسبُنا ذا الأدبِ
مِنْهُمْ وَفِيهِمْ قَدْ طَلَبْ *ت ولقاهُم مَطلَبي
طُوبَى لِمَن أَحَبَّهُمْ *وَهْيَ أَعزُّ الرُّتَبِ
ص: 186
ودان في ولاهُمُ *وعَنْهُمْ لَمْ يَرْغَب
أنى وَفَوْا لِحُبِّهِ *وَعْداً وَوَفَّوْا أَرَبى
فإنني على الإيا *أفدي وَفاهُم بِأَبي
دامُوا ودامَ وُدُّهُمْ* ما دام عُمْرُ الحِقَبِ
وما زَهَتْ زَهْرُ الرُّبى* تحتَ سَقيطِ الحَبِبِ
***
وكتب في صدر رسالة :
كتابی قد تضمّنَ منكَ ذِكرا *يُحَلّي فيه ناظره نشيده
إذا نَشرَ المَلا ما فيه يطوي *ويُملي من مزاياك العديده
ذكا فيه الندي كان فيه *غدَتْ تجنى مساعيك الحميده
وكتب في صدر كتاب :
سَلامٌ مَا لَمَى شَفَتَيْ غَريرٍ* تَرَشَّفَهُ الذي فيهِ شِفَاهُ
يبيتُ مُسهداً سكران صاح* خليفَ الحُزنِ تَيَّمَهُ هَواهُ
رَمَتهُ يدُ النَّوى عنه فأمسى *یكابِدُ ما تحمل في نَواهُ
بكاه لِجُودِه بالصدِّ حتّى *جَرَتْ في صَوبِ أدمُعِه دِماهُ
غَريقاً في بحور الهم أضحى *ونار لظى الصَّبابةِ في حَشاهُ
بأَطْيَبَ منهُ نَشراً حِينَ يَهدي *ويَنشرُ مِن فَم الذكرى شَذاهُ
ولا رَشفُ الحُمَيا حِينَ تُجني *بأشهى للندامى مِن جَناهُ
ولا نَقرُ المَثاني حِينَ تَشدو*بأحلى للخواطر مِن تَناهُ
ولا زُهْرُ الدَّراري حِينَ تَبدو* بأزهى للنواظر من سناه
ص: 187
إلى عَلياكَ يُهْدِى مِن مُعَنّى *تحيل الجسم أنحلَهُ عَناه
فيا مَلِكَ الفواضل أنتَ بحرٌ* وأين البدرُ من سامي عُلاه ؟!
به العليا تُباهي كلَّ مَولى *فَهل مَن رامَ مَفْخَرَهُ حَكَاهُ ؟ !
وكان إلى الفواضل خير مأوى *فهل ساوئ فضائله سواه ؟ !
جَوادٌ ما جرى في الجُودِ إلا* وقال الناسُ ما أقصى مَداهُ !
همامٌ ما يَهُم بِغَيرِ حَزمٍ *ولا يَهْمِي الحَيَا كَحَيا حِباهُ
فتى العليا الذي خَطَبَتْهُ قِدماً *فأمهرها بما مَلَكَتْ يَداهُ
فيا دامت مساعيه ودامت *له البُشرى لِتُبلِغَهُ مُناهُ
ولا زالَ الفَخارُ به يُنادي *وفي إظهارِ عَلياه نداهُ
وله مؤرّخاً بناء دار لأحد أصدقائه :
شَيَّد بيتاً للندى* نَدْبٌ سَما أندادَهُ
بيتاً سما هامَ السَما* لمَا غَدا عِمادَهُ
أبو الحَسْنَيْنِ مَنْ بِه *نالَ الهُدى مُرادَهُ
إنَّ الفَخارَ جُملةً* ألقى له قياده
فَصَحُ في تاريخه*( لفخرِه قد شادَهُ)
1329
***
وله يهنئ الشيخ جواد بن الشيخ صافي الطريحي بقرانه سنة 1321 ،
وهو من أوائل شعره :
غادة دارت رحاها *بفؤادي من شَجاها
تُخْجِلُ الشمس إذا ما* بزغت رأدَ ضُحاها
ص: 188
أُحرقت قلب المُعَنّى* وشَجَتْهُ بهَواها
بنهارِ الحُسنِ يُهدى *وبِلَيلِ الجَعْدِ تاها
يا خَليلَيَّ إذا عُجْ *تم إلى الحي سلاها
أتراها يومَ بانَتْ *حن قلبي لسواها
وسلاها عَن فؤادي* أثرى يوماً سلاها
عَلَّها رَقَتْ لصَبّ *بات رقاً في هواها
ملكت قلبي فساءتْ *وبإحسانِ جَزاها
إن تكن قد أَسْخَطْتَني *ونَفَتْ عني رضاها
فَبِمَدحي لِجَوادٍ *حَقَّقَتْ نفسي مُناها
مِن بُيوتِ المجد لكن* فَضلُهم فوقَ ذُراها
أُسرة فوقَ الثَّرَيَّا* رَفَعَ الفَخرُ بِناها
قَد سَمَتْ قَدْراً فَشَدَّتْ *أَنْمُلُ العَلْيا حِباها
هيَ عَينٌ لِلمَعالي* رَغِمَتْ أَنفُ عِداها
أدركوا العلياء حتى* بلغوا أقصى مداها
ملكوا قَيْدَ المَعالي *فَقَضَوْا حقُّ عُلاها
دُمْتُمُ في غَضٌ عيش *والعُلى غَضٌ بناها
وقد أغنى السيخ المظفرقدس سره المكتبة الإسلامية بمصنفات جليلة في شتّى العلوم ، منها :
1 - دلائل الصدق لنهج الحق : وهو من أنفس الكتب في بابه ، طبع
ص: 189
غير مرّة في النجف الأشرف ، وطهران ، والقاهرة، وهو الذي تقرأ له هذه المقدمة
2 - شرح القواعد، وهو شرح كبير على قواعد الأحكام للعلامة الحلّي .
3 - الإفصاح عن أحوال رجال الصحاح : كتاب وحيد في بابه ، وهو قيد التحقيق في مؤسستنا ، وسيصدر قريباً إن شاء اللّه تعالى .
4 - شرح كفاية الأصول للآخوند الخراساني .
5 - حاشية على العروة الوثقى .
6 - رسالة في فروع العلم الإجمالي .
7 - وجيزة المسائل : وهي رسالة عملية مطبوعة تتضمن خلاصة آرائه وفتاواه في المسائل الفقهية ، كتبها لتكون مرجعاً لمقلديه.
8 - حاشية على رسالة السيد أبو الحسن الأصفهاني .
9 - حاشية على رسالته الصغيرة .
10 - حاشية على مناسك الحج للسيد أبو الحسن الأصفهاني .
11 - حاشية على الرسالة العملية للشيخ عبد الحسين مبارك .
12 - مضافاً إلى مجموعة شعره .
توفي رحمه اللّه ظهيرة يوم الأربعاء 23ربیع الأوّل سنة 1375 ه بمستشفى الكرخ ببغداد ، بعد مرض عضال ، وحين أعلن عن وفاته اهتزت الأوساط الشيعية في العراق وغيره لهذا النبأ المروّع، ونقل جثمانه الطاهر
ص: 190
إلى النجف الأشرف يوم الخميس 24 ربیع الأوّل بموكب قل نظيره ، وقد رقد في جوار إمامه أمير المؤمنين علي علیه السلام ، في مقبرته الخاصة الكائنة على الشارع العام من طريق الكوفة اليوم .
وقد كان يومه يوماً مشهوداً شاركت فيه جماهير المؤمنين ، وتعطلت فيه الأعمال ، وأغلقت الأسواق، وتوقفت الدراسات الدينية لمدة عشرة أيام حزناً على شيخنا العظيم ، وأقيمت مجالس الفاتحة في النجف وفي كثير من أنحاء العراق وخارجه، وأمتدت إلى يوم الأربعين .
كما أُقيم في ذكرى أربعينيته حفل تأبيني كبير في مدرسة الإمام البروجردي في النجف الأشرف يوم 8 جمادى الآخرة سنة 1375 ه ، وأُخرى في مدينة البصرة في 22 جمادى الآخرة ، أُلقيت فيها قصائد الرثاء وكلمات التأبين من قبل علماء الأمة وأدبائها عبّرت عمّا لشيخنا رضوان اللّه مكانة سامية في نفوس المؤمنين ؛ وقد أرّخ وفاته شعراً عدد من عليه من الأفاضل ، كان من بينهم العلامة السيد محمد الحلّي، الذي قال :
كم للهدى بعد أبي أحمد* من أمل خابَ ونجمٍ حَبا
فَشِرْعَةُ الحقِّ بتاريخها* تنعى رجالها (الحسن) المجتبى
وقد رثاه السيد مصطفى جمال الدين بقصيدة عنوانها «الفتنة الكبرى »قالها بتاريخ 1955/11/23 في حفل التأبين ، رثاء له وتأييداً لأخيه الشيخ محمد رضا المظفّر ، الذي قاد حملة التجديد في الحوزة العلمية ، يقول في مطلعها :
تَبقى - يَتيهُ بها الخُلودُ ويَفْخَرُ - *ذكراك في شَفَةِ الزمانِ تَكَرَّرُ
ص: 191
192
الليلُ يَطويها : خُشوعاً ذابِلاً* والصبحُ يُطلِقُها قوى تَتَفجِّرُ
وَلَأنْتَ في الحالين : أقوى ضارع* يَعنُو .. وأَلْيَنُ قائد يتحرّرُ
شَمَحَتْ طَهارةُ أصْغَرَيْكَ : فمنطق *صاف، وقلب بالحنانِ مُفجِّرُ
وصلابة في الحقِّ دُونَ مَنالِها *فكرٌ أَشَلُّ، وخاطِرٌ مُتحجِّرُ
تعبت عيون الركب .. ليس بمُدرك *أذيال شوطك طرفه المتحيّرُ
وَكَبَتْ بهم صَهَواتُ مَجدِ خَيلُها* هَزلى، من العُشْبِ المُهَوْمِ تَعثُرُ
وتَدرّعوا جُبَبَاً بَلَيْنَ، يَكادُ مِن *مزق بها تَرَفُ الغَضارةِ يَطفُرُ
آمنتُ أنّ الصِدْقَ أبلَقُ دُونَهُ*سَعَةُ المَدى .. والزَيْفَ أعرجُ أَزْوَرُ
* **
أأبا (الدلائل) مِن ضَمِيرِكَ (صِدقُها) *يُسقى .. ومن وضح بطبعك تُسفير
ومن الصّفاءِ العَذْبِ تَجري رِقّةً* وصفاءَ طَبع ، في مداها ، الأسطرُ
ص: 192
فالنفس - وَاضِحةَ السُّلوكِ وَجْهَمَةٌ -*لا بُدَّ في ما أنْتَجَتْ تَتصوَّرُ
فإذا صفا طَبْعُ النجوم وَجَدتُ في *وضح الغديرِ صَفاءَها يتموّرُ
وإذا غَرَسْتَ الكَرْمَ في مُستَنْقَعِ *سيخ .. طَعِمْتُ المِلحَ في ما يُثمِرُ
يُهنيك أنّكَ قد وَصَلْتَ إلى المدى *عَفَّ اليَدَيْنِ ، وَوَجْهُ يومِكَ مُسفِرُ
وبَلَغْتَ مرماها ، وثوبُك لم يكن *أبداً بلون غُبارِها يَتغيَّرُ
في حينَ صَفَّقَتِ الجُموع لفارس *يَطَأُ العِنانَ جَوادُهُ فَيُقَصِّرُ
ومساهم في الشوط أكبرُ حِزْقِهِ : *لو يعتليه من الغُبارِ الأكثَرُ !!
ومُجانِبِ سَمْتَ الجميع وهَمهُ *في: كيفَ يَختَزِلُ الطريق فيَظْهَرُ !!
ومُحدِ الأنصار ، يُوهِمُ نَفْسَهُ *أن المُصفِّقَ مُعجَبٌ مُتأثر !!
تَعِبوا ... فَدُونَ الغاية الكبرى يد *توهِي العِنانَ ، وحَاجِرٌ لا يُطفَرُ
* **
ص: 193
ومنها :
أأبا ( الدلائل) هل تراك قصيدتي* سَمْحاً ، كعهدِكَ في الحياة فتَعْذِرُ ؟!
فلقد حَشَدْتُ خواطري ليَطِيبَ مِن *ذكراك هذا المنبرُ المُتذكِّرُ
لكنّها ثارث ، وأَطْبَقَ أُفقها* بدخانِ قَلبٍ لم يزل يتفجرُ
حتى إذا انحسَرَ الدّخانُ وَلُحْتَ في* طرَرِ الغُروب، وضَوء وجهك أصفرُ
أدركتُ أنا قادمون لليلة *عُسرى، يغيمُ بها الرجاء الخير
يُهْنِيكَ أنّكَ قد بلغتَ مَغِيبَها *كالشمس ، لم يَحْجُبْ سَناكَ العِشْيرُ
وتركتَ في (القَمَرينِ) بعدك للسرى* فى الليلة الظلماء ما يُتَنَوَّرُ
فالجيل مِن هَدي (الرضا) مُتقدم *في شوطه ، ومن (الحسينِ مُظفَرُ )
***
ص: 194
لأهمية الكتاب المتمثلة بكونه دورة كلامية عقائدية كاملة ، جاءت على مباحث الإلهيات والنبوة والإمامة بأسلوب علمي رصين ، قوي السبك وبلغة سهلة ، مع خُلق رفيع في أدب المناظرة والحوار ، مما جعله في نظر الأوساط العلمية الردّ الأمثل على كتاب ابن روزبهان ، والكتاب الأفضل في تبيين عقائد الإمامية الاثني عشرية وإبراز معالمها ، فأصبح دلائل الصدق» في موقع الريادة على المستويين الحجاجي والكلامي .
مضافاً إلى ذلك أنّ أيّاً من طبعتي الكتاب في طهران والقاهرة غير متوفرتين في المكتبات لمن يروم اقتناءها ، بعد مضي أكثر من ربع قرن على آخر طبعاته ، ممّا جعل الحصول على إحداها عسيراً .
هذا ، مع حاجة الكتاب إلى مزيد من التحقيق والتعضيد بشكل يليق بمستواه ، خصوصاً بعد أن أصبحت أكثر المصادر الإسلامية - سواء الشيعية منها أو السُنّية - متوفّرة في زماننا الحاضر بشكل ملحوظ، علاوة على تطوّر وسائل الطباعة بمستوى عالٍ ممّا يجعل إمكانية إخراج الكتاب بشكل أنيق وبطباعة فنّية حديثة قليلة الأخطاء تساعد القراء وطلاب الحقيقة على مطالعته بسهولة ...
لذلك كلّه فقد شرعت مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث بتحقيق هذا السفر الجليل وفق أسلوب العمل الجماعي ، الذي تميزت به أعمالها .
هذا، وقد جرت خطوات العمل كالآتي :
ص: 195
اعتمدنا في عملنا على مخطوطة ومطبوعتين ، هي :
1 - النسخة المخطوطة : وهي التي أتحفنا بها نجل المؤلّف الأستاذ الدكتور محمود المظفر - حفظه اللّه تعالى -، دوّنها الشيخ المصنف قدس سره بخطه الشريف ، وهي كاملة المحتوى واضحة الخط ، كتبت عناوينها بشكل بارز، ويشاهد فيها بعض التصحيحات والتعليقات كتبها الشيخ المؤلف رحمه اللّه في الحاشية
وتتألف هذه النسخة من ثلاثة أجزاء، وقع الفراغ منها في ربیع الآخر 1350 ه- ، تضمنت هذه الأجزاء أصول الدين ، ولم يتعرض فيها إلى أصول الفقه وفروعه في رده على ابن روزبهان ، وقد أشار إلى سبب بقوله : « وليقف إلى هنا جواد القلم ، فإنّ أُصول الدين هي الأصل ، فإن وفق ذلك اللّه سبحانه الناظر في هذا الكتاب لاتباع الحقِّ فهو في غنى عن الكلام في أصول الفقه وفروعه ، وإلا فهو بعيد عن الهداية ،وعسانا إذا سنحت الفرصة تتم الكتاب ، واللّه هو الموفق»
وذكر الشيخ المظفرقدس سره في خاتمة الكتاب منهجيته في النقل من كتب أهل السنة ، فقد قال فيها :
«خاتمة : نقدّم فيها العذر لإخواننا الكرام عن قلة ما ننقل من كتب أهل السنّة ، فنقول :
أنت تعلم أنّ النجف الأشرف بلدة إمامية ، ولا حاجة لأهلها في اقتناء كتب القوم ، ولكن قد توجد في بعض المكتبات ، وأنا بالخصوص لا أملك شيئاً منها سوى كنز العمال في أثناء تأليفي لهذا الكتاب ، وما كنت أعرف
ص: 196
أكثر كتبهم مسمّى ولا اسماً .
ولمّا شرعت في هذا الكتاب التزمت باستعارة ما أحتاجه منها ، فاستعرت ما تيسر لي منها ، فقل لذلك نقلي عن كتبهم ، وقد كان لا يهون على نفسي أن تطول عندي إقامة كتاب غيري، فأنا ربّما استعرت الكتاب حيناً وأعدته إلى صاحبه ، ولذا تراني أنقل عن الكتاب الواحد مرة عنه بنفسه ومرة بالواسطة ، وربّما أنقل عن الكتاب شيئاً في مقام وفيه أشياء نافعة لمقامات أخر لا أعلم بها ، مضافاً إلى ضيق الوقت وأهتمامي بما هو أهمّ لديّ .. ومع ذلك قد جاء بحمد اللّه تعالى وافياً بالمطلوب ، كافياً لطالب الحق .
وأنا أرجو ممن يطلع من إخواني على أكثر مما ضمنته هذا الكتاب أن يعلّق عليه ، وله الفضل على ، والجزاء الأسنى من اللّه عز وجل .
فمما نقلت عنه كثيراً :
صحيحا مسلم والبخاري، وعينت المحل الذي فيه الرواية بذكر الباب والكتاب من الصحيحين ، لسهولة الوصول إليها بذلك ، ولم أُعين الصحيفة لتعدّد طبعهما، لا سيما البخاري، مع إنه يقرب حدوث طبعات
أُخر لهما ..
ونقلت أيضاً عن صحيح الترمذي في جملة من المقامات ...
كما نقلت قليلاً عن صحيحي النسائي وأبي داود وموطأ مالك ،وعيّنت المحلّ بالباب والكتاب ونحو ذلك ..
ونقلت كثيراً عن الدرّ المنثور للسيوطي ، وتعرف المحلّ منه بالآية ..
كما ربّما نقلت عن تفسير الزمخشري والرازي وبعض التفاسير
ص: 197
الأخر ، وتعرف المحل أيضاً بالآية ..
ونقلت أيضاً عن مستدرك الحاكم أبي عبد اللّه ، المطبوع بالطبعة ولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن ..
وعن كنز العمّال ، المطبوع أيضاً بهذه المطبعة ..
وعن تاريخ الطبري ، المطبوع بالطبعة الأولى بالمطبعة الحسينية المصرية ..
وعن كامل ابن الأثير ، المطبوع أيضاً بالطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية المصرية ..
وعن مسند أحمد بن حنبل ، المطبوع بالمطبعة الميمنية بمصر ، الذي انتهى طبعه سنة 1313 هجرية ..
وعن شرح النهج لابن أبي الحديد، المطبوع بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر ، الذي انتهى طبعه سنة 1329 هجرية ..
وعن العقد الفريد لابن عبد ربه ، المطبوع بمصر ، المجزأ إلى أربعة أجزاء ، الذي انتهى طبعه سنة 1331 هجرية ، وقد أنقل عن المطبوع في غير هذه السنة ..
وعينت المحلّ في هذه المذكورات أخيراً بالصحيفة من الجزء، ليكون أسهل للتناول ..
ونقلت أيضاً كثيراً عن صواعق ابن حجر ، وعيّنت المحلّ بالفصل والباب ..
وعلى هذا القياس ...
وقد وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب في اليوم ... »
ص: 198
2 - طبعة طهران : وقد طبعت في حياة المؤلّف قدس سره، وأشرف على تصحيحها بنفسه ، فجاءت مختلفة عن النسخة المخطوطة في موارد كثيرة ، فقد غيّر وأصلح كثيراً من الموارد في ردّه على الفضل بن روزبهان ، ورتب بعض فقراتها - قياساً لما كانت عليه في النسخة المخطوطة - كتغيير جملة بجملة أخرى ، أو تقديم حديث على آخر ، كما أضاف إليها عناوين للمطالب .
وجاءت هذه الطبعة في ثلاثة أجزاء .. طبع الجزء الأوّل منها بمطبعة «بو ذر جمهري» في طهران ، سنة 1369 ه .
وطبع الجزء الثاني بالمطبعة الحيدرية في النجف الأشرف ، سنة1372 ه .
أما الجزء الثالث فقد طُبع بمطبعتي بو ذر جمهري» و «مروي چاپخانه عالي علوي في طهران ،
سنة 1373 ه .
وقد عبّرنا عن هذه الطبعة ب ( طبعة طهران من باب التغليب .
وقد طبعت هذه الطبعة مرّة أخرى في كل من طهران وبيروت بالتصوير « الأُوفسيت»، إلا أنّ طبعة لبنان لم تر النور ، لما كانت تمرّ بلبنان من ظروف عصيبة في تلك الفترة .
3-طبعة القاهرة : وهي التي طبعت بعد وفاة الشيخ بعد وفاة الشيخ المظفرقدس سره ، وبعد مرور نحو ربع قرن على الطبعة الأولى ، وهي في ثلاثة أجزاء ضخام ، تم طبعها بصفّ جديد في مطبعة «دارالمعلم للطباعة» في القاهرة، سنة 1396ه .
ثمّ أعادت مؤسسة الثقافة الإسلامية «بنياد فرهنگي كوشانپور» في طهران طبع الكتاب بالتصوير على هذه الطبعة .
ص: 199
وقد كانت هذه الطبعة كثيرة الأسقاط والأغلاط ، وتوجد فيها اختلافات كثيرة مقارنة بالنسخة المخطوطة وطبعة طهران ، المذكورتين آنفاً ، لذا فقد جعلناها نسخة مساعدة في تحقيقنا للكتاب .
وعبّرنا عن هذه الطبعة ب : «طبعة القاهرة» .
وبما أنّ «طبعة القاهرة »هي الأكثر تداولاً اليوم، فقد اعتمدها سماحة السيد الميلاني حفظه اللّه في كتابته «أجلى البرهان» مقدّمةً لهذه الطبعة المحققة من الكتاب ، والتي مرّت بنا سابقاً .
1 - قمنا بعملية المقابلة بين النسخة المخطوطة وبين المطبوعتين و معارضتها على بعضها، وتثبيت ما ورد من اختلافات مهمة ، وذلك باتباع أسلوب التلفيق بين النسخة المخطوطة وبين طبعة طهران ، اللتين اعتبرناهما نسختي الأصل ، وجعلنا طبعة القاهرة نسخة مساعدة لما فيها من أغلاط وأسقاط كما أشرنا إلى ذلك سابقاً .
فإن كان هناك خلاف مع المصدر وكانتا متفقتين على شيء ، قلنا في الهامش : « في الأصل .... كذا وكذا ، وإن لم تكونا كذلك ، ذكرنا صفة النسخة للتمييز بينهما ، وربّما ذكرنا الاختلاف الوارد في طبعة القاهرة - ولم يحدث ذلك إلا نادراً جداً - فنذكر مكان الطبع تمييزاً لها عما في المطبوعة الأُخرى .
كما قمنا بمقابلة كلام العلّامة الحلّي قدس سره تدل على «نهج الحق» و «إحقاق الحق» المطبوع والمخطوط أمّا بالنسبة إلى كلام ابن روزبهان ، فقد قابلناه وطبقناه على كتاب
ص: 200
إحقاق الحق» ، لأن كتابه «إبطال نهج الباطل» لم يُطبع مستقلاً ، كما أنه لم يُطبع كاملاً في« إحقاق الحق» المطبوع ، لأنه هو الآخر لم يُطبع بتمامه ، ممّا حدا بنا لمقابلة نصوص ابن روزبهان على ما طبع من «إحقاق الحق »والبقية على المخطوط منه ، الذي نمتلك منه عدة نسخ مخطوطة.
2 - استخراج النصوص والأقوال الأخرى الواردة في الكتاب مع المصادر المنقولة عنها مباشرة أو بالواسطة إن لم يتوفر لدينا ذلك المصدر ، ولم نُعْنَ بالاختلافات البسيطة والطفيفة والجزئية منها ، ولم نُشر في الهامش إلا إلى ما كان منها ذا تأثير على المعنى ، أو ما كان منها اختلافاً مهماً ضرورياً ، فلم نُشر إلى تقديم كلمة على أخرى ، أو جملة على أختها ، أو ما نقله الشيخ المظفر قدس سره بالمعنى أو مختصراً ، إلا في حالات الضرورة .
3- تصحيح الأخطاء المطبعية أو الإملائية أو النحوية دون الإشارة إليها في الهامش.
4 - ضبط بعض المفردات بالشكل ، تلافياً لوقوع اللبس في قراءتها ، وشرحنا بعضاً آخر منها ، لتوضيح معناها والمراد منها.
5 - التعريف ببعض الأعلام والوقائع المذكورة في ثنايا الكتاب ، وتوسعنا في استخراج بعض الأحاديث والمطالب إن دعت الضرورة إلى ذلك .
6 - التنسيق في ما بين العمليات السابقة وصياغة الهوامش بعد سبر غور الاختلافات والتعليقات الموجودة ، وانتقاء الصحيح والمناسب منها ضمن نسق واحد .
7 - تقطيع النص وتوزيعه وتقويمه، تجري بصورة تبادلية تكاملية ، أي إنّ ما ورد من اختلافات سواء ما بين النسخ المعتمدة في التحقيق ، أو
ص: 201
في المصادر التي استخرجت منها الأقوال والنصوص، أو ما كتب من تعليقات وتوضيحات، فإنّها تخضع لقراءتين مختلفتى الذوق والأسلوب، لنحصل على أكمل وأفضل صورة ممكنة .
8 - صف الحروف وتنضيدها إلكترونياً .
9 - مراجعة نهائية لكل ما ورد في متن الكتاب وهامشه ، وملاحظة كل الأعمال التي جرت على الكتاب في النقاط السابقة على شاشة الكمپیوتر.
1 - كلّ ما بين القوسين المعقوفتين [ ] في المتن -ما عدا العناوين الرئيسة أو الفرعية ، أو أسماء الأوزان الشعرية - هو من المصدر ، إلا ما أُشير إليه في الهامش .
2 - كانت هناك بعض التخريجات في الهامش أثبتها المصنفقدس سره وفق طبعات المصادر القديمة ، فأبقيناها على ما هي عليه، وألحقنا بها عبارة : « منه قدس سره » محافظة منا على الأصل، ثمّ أضفنا إلى ذلك التخريجات الجديدة وفق طبعات المصادر الجديدة ، لتعسّر الحصول على تلك الطبعات أوّلاً ، ولأن الطبعات الجديدة أكثر تداولاً وأسهل تناولاً ثانياً ، وجعلنا ذلك بين القوسين المعقوفتين [ ] .
3- وفي تراجم الرجال من مقدّمة الشيخ المظفر قدس سره اكتفينا بتخريج الأقوال من المصدرين المعتمدين من قبله ، وهما ميزان الاعتدال و «تهذيب التهذيب» إلا إذا دعت الضرورة إلى غير ذلك ، أو جاء التصريح باسم مصدرٍ ما في أحد الأقوال المنقولة .
ص: 202
4 - وكذا الحال بالنسبة إلى النقولات الأخرى في الكتاب ، فقد التزمنا بالتخريج عن المصادر المنقول عنها في المتن ، إلا إذا اضطررنا لإيضاح مبهم أو توضيح مطلب .
نسدي شكرنا إلى مرشد العمل في الكتاب وموجهه والمشرف عليه : سماحة العلامة حجّةالإسلام والمسلمين السيّد علي الحسيني الميلاني .
ولا يفوتنا أن نشكر كل من ساهم وأدلى بدلوه في سبيل إخراج هذا السفر القيم إلى الملأ العلمي ، لا سيما الإخوة منتسبي المؤسسة في دمشق الذين قاموا بإنجاز عملية التحقيق بمختلف مراحلها بأفضل صورة ممكنة ، :وهم رباح كاظم ناصر الفتلي علي جمعة باروني ، عامر عبد الحسين : عباس ، علي جلال باقر ، عبد الكريم حسن الجوهر ، جواد حسين محمد الورد ، عبد الأمير عبد علي مشهد ، بشير حسين اللامي .
كما نثمن الدور القيم الذي اضطلع به مدير فرع المؤسسة في دمشق الاستاذ المحقق الفاضل السيّد محمّد علي الحكيم في تقويم نص الكتاب وإدارة أعماله .
ونسأله جل شأنه أن يتقبل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم ، ويجعله هديّة مزجاة إلى ولي نعمتنا، وليّ اللّه الأعظم، الإمام الحجّة المنتظر المهديّ ، عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف ، ملتمسين منه نظرة لطف وعطف
ورحمة .
مؤسسة آل البيت علیه السلام
لاحياء الثراث
ص: 203
ص: 204
الصورة
ص: 205
الصورة
ص: 206
الصورة
ص: 207
الصورة
ص: 208
الصورة
ص: 209
الصورة
ص: 210
الصورة
ص: 211
ص: 212
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الأوّل
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 1
ص: 2
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي جلّ أن تدركه المشاعر والأبصار ، وتنزّه أن يتّحد بغيره ، أو يشبه الأغيار.
العدل الذي لا يعذّب مع الجبر والاضطرار ، ولا يكلّف بدون الوسع والاختيار.
والصلاة الزاكية على طيّب الذكر والآثار ، سيّدنا ونبيّنا المعصوم بالجهر والإسرار ، وعلى آله المصطفين حجج الملك الجبّار ، وسلّم عليهم تسليما دائما ما اختلف الليل والنهار ، وجعلنا من أوليائهم ومعهم في دار القرار.
وبعد :
فإنّي لمّا سعدت بالنظر إلى كتاب « نهج الحقّ وكشف الصدق » للإمام العلّامة ، الذي انتهت إليه في العلم والعمل الزعامة ، الطاهر المطهّر ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، قدّس اللّه روحه ، ونوّر ضريحه ، وجدته كتابا حافلا بالفضل ، مشحونا بالقول الفصل.
وقد ردّ عليه فاضل الأشاعرة بوقته : الفضل بن روزبهان ، وأجاب عنه
ص: 3
سيّدنا الشريف ، الحاوي لمرتبتي السعادة : العلم والشهادة ، السيّد نور اللّه الحسيني ، قدّس اللّه نفسه ، وطيّب رمسه ، فجاء وافيا شافيا كما يهواه الحقّ ويرتضيه الإنصاف.
لكنّي أحببت أن أقتدي به وأصنّف غيره ، عسى أن أفوز مثله بالأجر والشهادة ، ونقلت عنه كثيرا ، وعبّرت عنه ب : السيّد السعيد.
وتعرّضت في بعض المقامات - تتميما للفائدة - إلى بعض كلمات ابن تيميّة التي يليق التعرّض لها ، ممّا ردّ بها كتاب « منهاج الكرامة » للإمام المصنّف العلّامة ، وإن لم أصرّح باسمه غالبا ..
ولو لا سفالة مطالبه ، وبذاءة لسان قلمه ، وطول عباراته ، وظهور نصبه وعداوته ، لنفس النبيّ الأمين وأبنائه الطاهرين ، لكان هو الأحقّ بالبحث معه ؛ لأنّي - إلى الآن - لم أجد لأحد من علمائنا ردّا عليه ، لكنّي نزهت قلمي عن مجاراته ، كما نزّه العلماء أقلامهم وآراءهم عن ردّه.
ولمّا كان عمدة جوابه وجواب غيره - في مسألة الإمامة - هو المناقشة في سند الأحاديث الواردة في فضائل أهل البيت ومطاعن أعدائهم ، وضعت المقدّمة الآتية لتستغني بها عن جواب هذا على وجه الإجمال ، ولنفعها في المقصود.
ولقد سمّيت كتابي هذا :
دلائل الصدق لنهج الحقّ
فأسأل اللّه ربّي أن يعينني على إتمامه ، ويوفّقني لحسن ختامه ، إنّه أكرم المسؤولين وأرحم الراحمين.
ص: 4
إعلم أنّه لا يصحّ الاستدلال على خصم إلّا بما هو حجّة عليه ، ولذا ترى المصنّف رحمه اللّه وغيره من علمائنا إذا كتبوا في الاحتجاج على أهل السنّة التزموا بذكر أخبارهم لا أخبارنا.
والقوم لم يلتزموا بقاعدة البحث ، ولم يسلكوا طريق المناظرة! فإنّهم يستدلّون في مقام البحث بأخبارهم على مذهبهم ، ويستندون إليها في الجواب عمّا نورده عليهم ، وهو خطأ ظاهر!
على أنّ أحاديثهم - كما ستعرف - حريّة بأن لا تصلح للاستدلال بها في سائر مطالبهم - حتّى عندهم! - وإن كانت ممّا توسم بالصحّة بينهم!
لكنّها صالحة للاستدلال عليهم وإثبات مناقب آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ومثالب أعدائهم وإن ضعّفوا جملة منها.
وبيان المدّعى يحتاج إلى البحث في مطالب :
ص: 5
ص: 6
إنّ عامّة أخبارهم - التي نستدلّ بها عليهم - حجّة عليهم ؛ لأمرين :
إنّها إمّا صحيحة السند عندهم ، أو متعدّدة الطرق بينهم ؛ والتعدّد يوجب الوثوق والاعتبار كما ستعرفه في طيّ مباحث الكتاب.
إنّها ممّا يقطع - عادة - بصحّتها ؛ لأنّ كلّ رواية لهم في مناقب أهل البيت ومثالب أعدائهم ، محكومة بوثاقة رجال سندها وصدقهم في تلك الرواية وإن لم يكونوا ثقات في أنفسهم!
ضرورة أنّ من جملة ما تعرف به وثاقة الرجل وصدقه في روايته التي يرويها : عدم اغتراره بالجاه والمال ، وعدم مبالاته - في سبيلها - بالخطر الواقع عليه ، فإنّ غير الصادق لا يتحمّل المضارّ بأنواعها لأجل كذبة يكذبها لا يعود عليه فيها نفع ، ولا يجد في سبيلها إلّا الضرر!
ومن المعلوم أنّ من يروي في تلك العصور السالفة فضيلة لأمير المؤمنين علیه السلام أو منقصة لأعدائه فقد غرّر بنفسه ، وجلب البلاء إليه ، كما هو واضح لكلّ ذي أذن وعين.
ذكر الذهبي في « تذكرة الحفّاظ » بترجمة الحافظ ابن السقّاء عبد اللّه
ص: 7
ابن محمّد الواسطي ، قال : « إنّه أملى حديث الطير في واسط (1) فوثبوا به وأقاموه وغسلوا موضعه »! (2).
ص: 8
ص: 9
وذكر ابن خلّكان في « وفيات الأعيان » بترجمة النسائي أحمد بن شعيب ، صاحب كتاب « السنن » أحد الصحاح الستّة ، أنّه : « خرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي في فضائله ، فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتّى يفضّل؟!
وفي رواية أخرى : لا أعرف له فضيلة إلّا : لا أشبع اللّه بطنه ... فما زالوا يدفعون في حضنه ... - وفي رواية : يدفعون في خصييه - وداسوه ، حتّى حمل إلى الرملة ومات بها ...
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : لمّا داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو منقول » (1).
ص: 10
فإذا كان هذا فعلهم مع أشهر علمائهم لمجرّد إنكار فضل معاوية ، فما ظنّك بفعلهم مع غيره إذا روى ما فيه طعن على الخلفاء الأوّل؟!
وذكر ابن حجر في « تهذيب التهذيب » بترجمة نصر بن عليّ بن صهبان ، نقلا عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، قال : « لمّا حدّث نصر بأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد حسن وحسين ، فقال :
من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما كان في درجتي يوم القيامة (1)..
ص: 11
أمر المتوكّل بضربه ألف سوط!
فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له : هذا من أهل السنّة ؛ فلم يزل به حتّى تركه »! (1).
ونقل ابن حجر أيضا في الكتاب المذكور بترجمة أبي الأزهر أحمد ابن الأزهر النيسابوري ، أنّه لمّا حدّث أبو الأزهر ، عن عبد الرزّاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد اللّه ، عن ابن عبّاس ، قال :
« نظر النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى عليّ علیه السلام فقال :
أنت سيّد في الدنيا ، سيّد في الآخرة .. الحديث (2) ..
أخبر بذلك يحيى بن معين ، فبينا هو عنده في جماعة [ من أهل الحديث ] إذ قال يحيى : من هذا الكذّاب النيسابوري الذي يحدّث عن عبد الرزّاق بهذا الحديث؟!
فقام أبو الأزهر فقال : هو ذا أنا!
فتبسّم يحيى فقال : أما إنّك لست بكذّاب ؛ وتعجّب من سلامته
ص: 12
وقال : الذنب لغيرك في هذا الحديث! » (1). انتهى.
وقال الذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة أبي الأزهر : « كان عبد الرزّاق يعرف الأمور ، فما جسر يحدّث بهذا الأثر إلّا أحمد بن الأزهر والذنب لغيره » (2).
ويعني بغيره : محمّد بن عليّ بن سفيان النجّاري (3) كما بيّنه الذهبي.
فليت شعري ما الذي يخافه عبد الرزّاق مع شرفه وشهرته وفضله ، لو لا عادية (4) النواصب ، وداعية السوء ، وأن يواجهه مثل ابن معين بالتكذيب ، وأن يشيطوا (5) بدمه؟!
ص: 13
ويا عجبا من ابن معين! لم يرض بكتمانه فضائل أمير المؤمنين علیه السلام حتّى صار يقيم الحواجز دون روايتها!
وأعجب من ذلك قوله : « الذنب فيه لغيرك » فإنّ رجال سند الحديث كلّهم من كبار علماء القوم وثقاتهم! (1).
وما أدري ما الذي أنكره من هذا الحديث؟! وهو لم يدلّ إلّا على فضيلة مسلّمة مشهورة ، من أيسر فضائل أمير المؤمنين.
ولعلّه أنكر تمام الحديث ، وهو : « من أحبّك فقد أحبّني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، وحبيبك حبيب اللّه ، وبغيضك بغيض اللّه ، والويل لمن أبغضك [ بعدي ] »!
وذلك لأنّهم يجدون من أنفسهم بغض إمام المتّقين ، ويعسوب الدين (2) ، وهم يزعمون أنّهم لا يبغضون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !
ص: 14
كما يعلمون بغض معاوية وسائر البغاة لأمير المؤمنين ، وأنّهم أشدّ أعدائه ، والبغيضون له ، وهم يرونهم أولياء اللّه وأحبّاءه!
ولذا ، لمّا أشار الذهبي في ( الميزان ) إلى الحديث قال : « يشهد القلب بأنّه باطل »! (1).
وأنا أشهد له بشهادة قلبه ببطلانه ، إذ لم يخالط قلبه حبّ ذلك الإمام الأعظم ، فكيف يصدّق بصحّته؟! - وإن استفاضت بمضمونه الرواية - حتّى
روى مسلم أنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة (2) [ إنّه ] لعهد النبيّ الأمّيّ إليّ أنّه لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق » (3).
ص: 15
فإذا كان هذا حال ملوكهم وعلمائهم وعوامّهم في عصر العبّاسيّين ، فكيف ترى الحال في عصر الأمويّين ، الذي صار فيه سبّ أخ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه شعارا ودينا لهم ، والتسمية باسمه الشريف ذنبا موبقا عندهم؟!
قال ابن حجر في « تهذيب التهذيب » بترجمة عليّ بن رباح : « قال المقرئ : كان بنو أميّة إذا سمعوا بمولود اسمه عليّ قتلوه! فبلغ ذلك رباحا فقال : هو عليّ - مصغّرا (1) - ، وكان يغضب من ( عليّ ) ويحرّج على من
ص: 16
سمّاه به.
وقال الليث : قال عليّ بن رباح : لا أجعل في حلّ من سمّاني عليّ (1) ، فإنّ اسمي : عليّ » (2). انتهى.
ونقل ابن أبي الحديد ، عن أبي الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدائني في « كتاب الأحداث » أنّ معاوية كتب نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة ، أن : برئت الذمّة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته! (3).
إلى أن قال ما حاصله : وكتب إلى عمّاله أن يدعوا الناس إلى الرواية في فضل عثمان والصحابة والخلفاء الأوّلين! وأن لا يتركوا خبرا يروى في عليّ إلّا وأتوه بمناقض له في الصحابة!
وقرئت كتبه على الناس ، وبذل الأموال ، فرويت أخبار كثيرة في مناقبهم مفتعلة ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتّى تعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة.
وكان أعظم الناس - في ذلك - بليّة : القرّاء المراؤون ، والمستضعفون ، الّذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا عند ولاتهم ، ويصيبوا الأموال ، حتّى انتقلت تلك الأخبار إلى أيدي الديّانين الّذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها
ص: 17
ورووها.
ثمّ قال : وقد روى ابن عرفة - المعروف ب : نفطويه ، وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم (1) - في تاريخه ما يناسب هذا الخبر (2).
ولهذه الأمور ونحوها خفي جلّ فضائل أمير المؤمنين علیه السلام وإن جلّ الباقي عن الإحصاء ، ونأى عن العدّ والاستقصاء ، وليس بقاؤه إلّا عناية من اللّه تعالى بوليّه والدين الحنيف.
ويشهد لإخفائهم فضائله ما رواه البخاري ، عن أبي إسحاق ، قال : « سأل رجل البراء - وأنا أسمع - : أشهد عليّ بدرا؟ قال : بارز وظاهر » (3).
أترى أنّه يمكن أن يخفى في الصدر الأوّل محلّ أمير المؤمنين علیه السلام ببدر ، حتّى يحتاج إلى السؤال عن مشهده بها؟! وهي إنّما قامت بسيفه ، لو لا اجتهاد الناس في كتمان فضائله! (4).
ص: 18
وإذا رووا شيئا منها فلا يروونه على وجهه وبتمامه ، كما تدلّ عليه روايتهم لخطبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الغدير! (1).
ص: 19
ص: 20
أمن الجائز عقلا أن يأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقمّ (1) ما تحت الدوح (2) ، ويجمع المسلمين - وكانوا نحو مائة ألف - ويقوم في حرّ الظهيرة تحت وهج الشمس ، على منبر يقام له من الأحداج ، ويصعد خطيبا - وهو بذلك الاهتمام - رافعا بعضد عليّ علیه السلام ، ثمّ لا يقول إلّا : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه »؟!
ص: 21
لا أرى عاقلا يرتضي ذلك ، ولا سيّما إذا حمل ( المولى ) على الناصر أو نحوه!(1).
فلا بدّ أن تكون الواقعة كما رواها الشيعة ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله خطب تلك الخطبة الطويلة البليغة الجليلة ، التي أبان فيها عن قرب موته ، وحضور أجله ، ونصّ على خلفائه ، وولاة الأمر من بعده ، وأنّه مخلّف في أمّته الثقلين ، آمرا بالتمسّك بهما لئلّا يضلّوا ، وببيعة عليّ علیه السلام ، والتسليم عليه بإمرة المؤمنين.
لكنّ القوم بين من لم يرو أصل الواقعة - إضاعة لذكرها - وبين من روى اليسير منها بعد الطلب من أمير المؤمنين علیه السلام ! فكان لها بعده نوع ظهور ، وإن اجتهد علماء الدنيا في درس أمرها ، والتزهيد بأثرها.
ولو رأيت كيف يسرع علماؤهم في رمي الشخص بالتشيّع ، الذي يجعله هدفا للبلاء ، ومحلّا للطعن ، لعلمت كيف كان اهتمامهم في درس
ص: 22
فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ! وكيف كان ذلك الشخص في الإنصاف والوثاقة بتلك الرواية التي رواها ، حتّى إنّهم رموا النسائي بالتشيّع كما ذكره في « وفيات الأعيان » (1).
وما ذلك إلّا لتأليفه كتاب : « خصائص أمير المؤمنين علیه السلام » وقوله : لا أعرف لمعاوية فضيلة إلّا « لا أشبع اللّه بطنه » مع استفاضة هذا الحديث حتّى رواه مسلم في صحيحه (2) كما ستعرف.
وكذا رموا بالتشيّع :
أبا عبد اللّه الحاكم محمّد بن عبد اللّه (3) ..
وأبا نعيم الفضل بن دكين (4) ..
وعبد الرزّاق (5) ..
ص: 23
وأبا حاتم الرازي (1) ..
وابنه عبد الرحمن (2) ..
وغيرهم ممّن لا ريب بتسنّنه من علمائهم (3) ؛ لروايتهم بعض فضائل آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وعنايتهم بها في الجملة.
وما ذلك إلّا ليحصل الردع بحسب الإمكان عن رواية مناقبهم وتدوينها ، وإن كان قصد الراوي بيان سعة اطّلاعه ، وطول باعه.
وإذا صحّح قسما منها زاد طعنهم فيه وفي روايته! مع أنّ طريقتهم التساهل في باب الفضائل ، لكن في فضائل أعداء أهل البيت علیهم السلام !
ص: 24
فظهر - ممّا ذكرنا - لكلّ متدبّر : أنّ جميع ما روي في مناقب آل محمّد صلی اللّه علیه و آله وكذا مثالب أعدائهم ، حقّ لا مرية فيه ، ولا سيّما مع روايته عندنا ، وتواتر الكثير منه ؛ فيكون ممّا اتّفق عليه الفريقان ، وقام به الإسنادان.
بخلاف ما روي في فضائل مخالفي أهل البيت ، فإنّه من رواية المتّهمين بأنواع التهم! ولو كان له أقلّ أصل لتواتر ألبتّة ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع ، بعكس فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولا سيّما مع طلبهم مقابلة ما جاء في فضل أهل البيت علیهم السلام ؛ فيكون كذبا جزما!
ولو لا خوف الملال ، لأطنبنا في المقال ، وفي ما ذكرناه كفاية لمن أنصف وطلب الحقّ.
* * *
ص: 25
ص: 26
في بيان أنّ تضعيفهم للرواية ومناقشتهم في السند لا قيمة لها ولا عبرة بها ؛ لأمرين:
إنّ علماء الجرح والتعديل ، مطعون فيهم عندهم ، فلا يصحّ اعتبار أقوالهم ، كما يدلّ عليه ما في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد اللّه بن ذكوان ، المعروف بأبي الزناد ، قال : « قال ربيعة [ فيه ] : ليس بثقة ولا رضيّ ».
ثمّ قال : « لا يسمع قول ربيعة فيه ؛ فإنّه كان بينهما عداوة ظاهرة » (1).
وفي ( الميزان ) أيضا بترجمة الحافظ أبي نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد اللّه ، قال : هو « أحد الأعلام ، صدوق ، تكلّم فيه بلا حجّة ، ولكن هذه عقوبة من اللّه لكلامه في ابن مندة بهوى ».
ثمّ قال : « وكلام ابن مندة في أبي نعيم فظيع ، لا أحبّ حكايته ».
ثمّ قال : « كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ، لا سيّما إذا لاح لك أنّه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ، ما ينجو منه إلّا من عصم اللّه ، وما علمت أنّ عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصدّيقين ، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس »! (2).
ص: 27
فإنّ هذه الكلمات ونحوها دالّة على أنّ الطعن للحسد والهوى والعداوة فاش بينهم ، وعادة لهم ، فلا يجوز الاعتبار بأقوالهم في مقام الجرح والتعديل حتّى مع اختلاف العصر ، أو عدم ظهور الحسد والعداوة ؛ لارتفاع الثقة بهم ، وزوال عدالتهم ، وصدور الكذب منهم.
وأسخف من ذلك ما في « تهذيب التهذيب » بترجمة عبيد اللّه بن سعيد أبي قدامة السرخسي ، قال : قال الحاكم : روى عنه محمّد بن يحيى ثمّ ضرب على حديثه ... وسبب ذلك أنّ محمّدا دخل عليه فلم يقم له! (1).
فإنّ من هذا فعله كيف يعتمد عليه في التوثيق والتضعيف ، ويجعل عدم روايته عن شخص دليل الضعف؟!
وقريب منه ما ذكروه في ترجمة النسائي ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في « المطلب الثالث » (2).
وأعظم من ذلك ما في « تهذيب التهذيب » بترجمة سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف ، قال : إنّ مالكا لم يكتب عنه.
قال الساجي : يقال : إنّه (3) وعظ مالكا فوجد عليه فلم يرو عنه! (4).
فإنّ من يترك الرواية عن شخص لموعظته له ، حقيق بأن لا يجعل
ص: 28
عدم روايته عن الأشخاص علامة الضعف ، وأولى بأن لا يعتمد على توثيقه وتضعيفه.
نعم ، ذكر في « تهذيب التهذيب » أيضا عن ابن معين ، أنّ سعدا تكلّم في نسب مالك فترك الرواية عنه (1).
فحينئذ يمكن أن يكون بهذا وجه لترك مالك الرواية عنه!
لكن لا لوم على سعد ، إذ لا يمكن لعاقل أن يرى أحدا ولد بعد أبيه بثلاث سنين (2) زاعما أنّه حمل في هذه المدّة ، ويصدّق نسبه!
وذكر في « تهذيب التهذيب » بترجمة محمّد بن إسحاق - صاحب « السيرة » - أنّ مالكا قال في حقّه : « دجّال من الدجاجلة » (3).
ثمّ ذكر في الجواب عنه قول محمّد بن فليح : « نهاني مالك عن شخصين من قريش ، وقد أكثر عنهما في ( الموطّأ )! وهما ممّن يحتجّ بهما » (4).
وحاصله : أنّ قدح مالك لا عبرة به ؛ لأنّ فعله ينقض قوله!
وإليك جملة من علماء الجرح والتعديل ، لتنكشف لك الحقيقة تماما!
ص: 29
ولنذكر أشهرهم وأعظمهم بيسير من أحوالهم التي تيسّر لي فعلا بيانها ..
ذكر في « تهذيب التهذيب » بترجمة عليّ بن عاصم بن صهيب الواسطي ، أنّ [ ابن ] أبي خيثمة (1) قال : « قلت (2) لابن معين : إنّ أحمد يقول : ( ليس هو ) (3) بكذّاب ، قال : لا واللّه ما كان [ عليّ ] عنده قطّ ثقة ، ولا حدّث عنه بشيء ، فكيف صار اليوم عنده ثقة؟! » (4).
فإنّه صريح في اتّهام ابن معين لأحمد وتكذيبه له.
ونقل السيّد العلوي الجليل محمّد بن عقيل (5) في كتابه : « العتب
ص: 30
الجميل » ، عن المقبلي (1) في « العلم الشامخ » ، أنّ أحمد لمّا تكلّم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها ، جعلها عدل التوحيد أو زاد!
ثمّ ذكر المقبلي ، أنّ أحمد كان يردّ رواية كلّ من خالفه في هذه المسألة ، تعصّبا منه ؛ قال : وفي ذلك خيانة للسند (2).
ثمّ قال : بل زاد فصار يردّ الواقف ، ويقول : فلان واقفيّ مشؤوم.
بل غلا وزاد ، وقال : لا أحبّ الرواية عمّن أجاب في المحنة كيحيى ابن معين (3).
صدق المقبلي ، فإنّ من سبر « تهذيب التهذيب » و « ميزان الاعتدال » رأى ذلك نصب عينه.
ص: 31
ذكر في « تهذيب التهذيب » بترجمة همّام بن يحيى بن دينار ، أنّ أحمد بن حنبل قال : « شهد يحيى بن سعيد شهادة في حداثته ، فلم يعدّله همّام ، فنقم عليه » (1).
وفي « ميزان الاعتدال » : « قال أحمد : ما رأيت [ يحيى ] بن سعيد أسوأ رأيا [ في أحد ] منه في حجّاج وابن إسحاق وهمّام ، لا يستطيع أحد [ في ] أن يراجعه فيهم » (2).
وبالضرورة : أنّ تفسيق المسلم والحقد عليه مستمرّا - لأمر معذور فيه ظاهرا - أعظم ذنب ، مسقط لفاعله ، ومانع من الاعتبار بقوله في الجرح والتعديل.
ويروى هذا عن عليّ بن المديني (1) من وجوه » (2).
وقال أيضا في ترجمة شجاع بن الوليد : قال أحمد بن حنبل : لقي ابن معين شجاعا ، فقال له : يا كذّاب! فقال له شجاع : إن كنت كذّابا وإلّا فهتكك اللّه ، وقال أحمد : أظنّ أنّ دعوة الشيخ أدركته (3).
ونحوه في « ميزان الاعتدال » أيضا (4).
وقد تقدّم تناقض كلامه في قضيّة أبي الأزهر ، فإنّه نسبه إلى الكذب أوّلا ، ثمّ ما برح حتّى صدّقه ونسب الكذب إلى ثقات علمائهم! (5).
فإنّ أحمد بن حنبل كذّبه كما ذكره ابن حجر والذهبي في الكتابين المذكورين ، بترجمة ابن المديني (6).
وقال ابن حجر : « قيل لإبراهيم الحربي : أكان ابن المديني يتّهم بالكذب؟
قال : لا ، إنّما حدّث بحديث [ فزاد ] فيه كلمة ليرضى ابن أبي دؤاد (7).
ص: 33
قيل له : فهل كان يتكلّم في أحمد؟
قال : لا ، إنّما كان إذا رأى في كتابه حديثا عن أحمد قال : اضرب عليه ، ليرضى ابن أبي دؤاد »! (1).
وليت شعري كيف لا يتّهم بالكذب ، وقد زعم أنّه زاد في الحديث إرضاء لصاحبه؟!
وهل يتصوّر عدم كلامه في أحمد ، وقد فعل معه ما هو أشدّ من الكلام ومن فروعه ، وهو الضرب على حديثه؟!
وبالضرورة : إنّ من يزيد في الحديث كذبا ، ويضرب على ما هو معتبر ، ويبطل الصحيح المقبول عندهم ، طلبا للدنيا ورضا أهلها ، لا يؤمن أن يوافق الهوى في توثيق الرجال وتضعيفهم!
وإن شئت قلت : إنّ ضربه على أحاديث أحمد طعن في أحدهما ، وهو من المطلوب.
ذكر الذهبي في ( الميزان ) بترجمة إسماعيل بن رافع ، أنّ جماعة من علمائهم ضعّفوا إسماعيل ، وجماعة قالوا : متروك [ الحديث ].
ثمّ قال : « ومن تلبيس الترمذي ، قال : ضعّفه بعض أهل العلم » (2).
ص: 34
وذكر أيضا بترجمة يحيى بن يمان حديثا وقال : « حسّنه الترمذي مع ضعف ثلاثة فيه ، فلا يغترّ بتحسين الترمذي ، فعند المحاقّة غالبها ضعاف » (1).
وقال أيضا بترجمة كثير بن عبد اللّه المزني : « لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي » (2).
فإنّهم ذكروا أنّه ناصبيّ معلن به (3) ، كما ستعرفه في ترجمته بالمطلب الثالث إن شاء اللّه تعالى (4).
ومن المعلوم أنّ الناصب : فاسق منافق ؛ لما سبق في رواية مسلم أنّ مبغض عليّ علیه السلام منافق (5) ، ولا ريب أنّ النفاق أعظم الفسق ، وقد قال تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... ) (6).
بل النفاق نوع من الكفر ، بل أشدّه ، فلا يقبل قول مثله في الرجال ، وشهادته فيهم مردودة ، وتوثيقه وتضعيفه غير مسموع.
قال في ( الميزان ) بترجمته : « قال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح
ص: 35
[ وذكره في طبقات الشافعية ] : غلط الغلط الفاحش في تصرّفه (1) ؛ وصدق أبو عمرو.
وله أوهام يتبع بعضها بعضا (2) ».
ثمّ قال : « قال أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام : سمعت عبد الصمد بن محمّد [ بن محمّد ] يقول : سمعت أبي يقول : أنكروا على ابن حبّان قوله : النبوّة العلم والعمل ؛ وحكموا عليه بالزندقة ، وهجروه وكتبوا فيه إلى الخليفة ، فأمر بقتله.
وقال أبو إسماعيل الأنصاري : سألت يحيى بن عمّار عنه فقال :
رأيته ، ونحن أخرجناه من خراسان (3) ، كان له علم كثير ، ولم يكن له كبير دين! » (4).
قال ابن خلّكان في ترجمته من « وفيات الأعيان » : كان كثير الوقوع في العلماء المتقدّمين ، لا يكاد أحد يسلم من لسانه ، فنفرت منه القلوب ، واستهدف لفقهاء وقته ، فتمالأوا على بغضه ، وردّوا قوله ، واجتمعوا على تضليله ، وشنّعوا عليه.
إلى أن قال : وفيه قال أبو العبّاس بن العريف : لسان ابن حزم ،
ص: 36
وسيف الحجّاج بن يوسف شقيقان (1).
مضافا إلى أنّه كان شبيها بابن تيميّة في شدّة النصب لآل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ولذا كان يستشهد بأقواله في نقص أمير المؤمنين علیه السلام وإمام المتّقين ، كما يعرف شدّة نصبه من له إلمام بكتابه المسمّى ب : « الفصل في الملل والأهواء والنحل » الذي ملأه بالجهل والهذيان ، وأخلاه من العلم والإيمان! (2).
فإنّه كان ناصبيا ظاهر النصب لآل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! بيّن التعصّب على من احتمل فيه ولاء أهل البيت علیهم السلام ، كما يشهد به كتابه المذكور ، فإنّه ما زال يتحامل فيه على كلّ رواية في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وعلى رواتها ، وكلّ من أحسّ منه حبّهم!
وقد ذكر هو في « تذكرة الحفّاظ » الحافظ ابن خراش وأطراه في الحفظ والمعرفة ، ثمّ وصفه بالتشيّع ، واتّهمه بالرواية في مثالب الشيخين ، ثمّ قال مخاطبا له وسابّا إيّاه بما لفظه : « فأنت زنديق معاند للحقّ ، فلا رضي اللّه عنك ؛ مات ابن خراش إلى غير رحمة اللّه سنة ثلاث وثمانين
ص: 37
بعد المائتين »!(1).
وما رأيناه قال بعض هذا فيمن(2) سبّ أمير المؤمنين علیه السلام ومرق عن الدين ، بل رأيناه يسدّد أمره ، ويرفع قدره ، ويدفع القدح عنه بما تمكّن ، كما هو ظاهر لمن يرى يسيرا من « ميزان الاعتدال »!
وقد نقل السيّد الأجل السيّد محمّد بن عقيل في كتابه العتب الجميل : 113 ، عن السبكي - تلميذ الذهبي - أنّه وصف شيخه الذهبي بالنصب(3).
ونقل أيضا عن المقبلي قوله من قصيدة [ من البسيط ] :
وشاهدي كتب أهل الرفض أجمعهم
والناصبين كأهل الشام كالذهبي(4)
ولنكتف بهذا القدر من ذكر علماء الجرح والتعديل ، المطعون فيهم بالنصب واتّباع الهوى ونحوهما ، فالعجب ممّن يستمع لأقوالهم ، ويصغي لآرائهم ، ويجعلهم الحجّة بينه وبين اللّه تعالى في ثبوت سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !
من الأمرين الموجبين لإلغاء مناقشتهم في السند ، أنّ ابن روزبهان
ص: 38
قال في آخر مطالب الفضائل متّصلا بالمطاعن :
« اتّفق العلماء على أنّ كلّ ما في الصحاح الستّة - سوى التعليقات - لو حلف بالطلاق أنّه من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو من فعله وتقريره ، لم يقع الطلاق ولم يحنث »! (1).
فإنّ مقتضى هذا الإجماع أنّهم يلغون أقوال علمائهم في تضعيف رجال الصحاح الستّة ، لا سيّما صحيحي البخاري ومسلم ، فإنّهم جميعا يحتجّون بأخبارهما بلا نكير!
وبالضرورة : أنّه لم يرد نصّ ، ولم تقم حجّة على استثناء رجال صحاحهم ، فيلزم إلغاء أقوال علمائهم في الرجال مطلقا ، وإلّا فالفرق تحكّم.
* * *
ص: 39
ص: 40
إنّ أخبارهم غير صالحة للاستدلال بها على شيء من مطالبهم ؛ لأنّ منتقى أخبارهم ما جمعته الصحاح الستّة ، وهي مشتملة على أنواع من الخلل ، ساقطة عن الاعتبار ألبتّة ؛ لأمور :
إنّهم ذكروا في كيفيّة جمعها وفي جامعيها ما يقضي بوهنها.
ذكر ابن حجر في « تهذيب التهذيب » بترجمة سويد بن سعيد الهروي ، أنّ إبراهيم بن أبي طالب قال لمسلم : كيف استجزت الرواية عن سويد [ في الصحيح ]؟! قال : ومن أين [ كنت ] آتي بنسخة حفص بن ميسرة؟! (1).
ومثله في « ميزان الاعتدال » (2).
فهل ترى أنّ هذا عذر في الرواية عن الضعفاء؟! وهو يدّعي أنّه
ص: 41
لا يروي في صحيحه إلّا عن ثقة! فيكون غارّا (1) خائنا ، فيسقط كتابه عن الاعتبار!
ونقل الذهبي في ( الميزان ) بترجمة أحمد بن عيسى بن حسّان المصري ، أنّ أبا زرعة ذكر عنده صحيح مسلم فقال : « هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئا يتشرّفون (2) به.
وقال : يروي عن أحمد بن عيسى في ( الصحيح ) ما رأيت أهل مصر يشكّون في أنّه - وأشار إلى لسانه - » (3).
وذكر ابن حجر بترجمة عمرو بن مرزوق ، أنّ الأزدي قال : « كان عليّ ابن المديني صديقا لأبي داود ، وكان أبو داود لا يحدّث حتّى يأمره عليّ ، وكان ابن معين يطري عمرو بن مرزوق ويرفع ذكره ، ولا يصنع ذلك بأبي داود لطاعته لعليّ » (4).
وهذا يدلّ على أنّ اعتبارهم للرجال تبع للهوى لا للحقّ!
وذكر ابن حجر بترجمة أحمد بن صالح المصري ، أنّ الخطيب قال :
احتجّ بأحمد بن صالح جميع الأئمّة إلّا النسائي ، فإنّه نال منه جفاء في مجلسه ، فذلك السبب الذي أفسد الحال بينهما.
وقال العقيلي : كان أحمد بن صالح لا يحدّث أحدا حتّى يسأل عنه ، فجاءه النسائي ، فأبى أن يأذن له ، فشنّع عليه (5). انتهى ملخّصا.
ص: 42
وذكر ابن حجر بترجمة ابن ماجة محمّد بن يزيد بن ماجة ، أنّ في كتابه « السنن » أحاديث ضعيفة جدّا ، حتّى بلغني أنّ السريّ كان يقول : مهما انفرد بخبر [ فيه ] فهو ضعيف غالبا ... ووجدت بخطّ الحافظ شمس الدين محمّد بن عليّ الحسيني ما لفظه : سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجّاج المزّي يقول : كلّ ما انفرد به ابن ماجة [ فهو ] ضعيف (1).
وذكر كلّ من الذهبي وابن حجر - أو أحدهما - في كتابيهما المذكورين ، أنّ البخاري احتجّ بجماعة في صحيحة ضعّفهم بنفسه ، كما يعلم من تراجمهم في الكتابين ، كأيّوب بن عائذ (2) ، وثابت بن محمّد العابد (3) ، وحصين بن عبد الرحمن السلمي (4) ، وحمران بن أبان (5) ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي (6) ، وكهمس بن المنهال (7) ، ومحمّد بن يزيد الحزامي (8) ، ومقسم بن بجرة (9).
وإنّما خصّصنا البخاري بهذا لأنّه أعظم أرباب صحاحهم عندهم ، وإلّا فكلّهم على هذا النمط!
ص: 43
بل وجدنا أبا داود كذّب نعيم بن حمّاد الخزاعي (1) ، والوليد بن مسلم مولى بني أميّة (2) ، وهشام بن عمّار السلمي (3) ، وروى عنهم في سننه!
وقال في حقّ صالح بن بشير : لا يكتب حديثه (4) ، وكذا في حقّ عاصم بن عبيد اللّه (5) ، وروى عنهما!
مع أنّه كان يزعم أنّه لا يروي إلّا عن ثقة! كما ذكره في « تهذيب التهذيب » بترجمة داود بن أميّة (6).
ووجدنا النسائي قال في حقّ كلّ من : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي (7) وعبد الكريم بن أبي المخارق (8) وعبد الوهّاب بن عطاء الخفّاف (9) : « متروك » ، وروى عنهم في سننه!
ص: 44
وكذا الترمذي ، قال في حقّ سليمان بن أرقم أبي معاذ البصري ، وعاصم بن عمرو بن حفص : « متروك » (1) ، وروى عنهما في سننه!
وذكروا في حقّ البخاري ومسلم - اللذين هما أجلّ أرباب الصحاح عندهم ، وأصحّهم خبرا - ما يخالف الإجماع ، وهو احتجاجهما بجماعة لا تحصى مجهولة الحال ، لرواية جماعة عنهم ، بل لرواية الواحد عنهم ، مع أنّ هذا الواحد لم ينصّ على قدح أو مدح في المرويّ عنه!
ولنذكر لك بعض من اكتفيا في الاحتجاج بخبره بمجرّد رواية الواحد عنه ، لتراجع « تهذيب التهذيب » فترى صدق ما قلناه ..
فمنهم : محمّد بن عثمان بن عبد اللّه بن موهب (2).
ومحمّد بن النعمان بن بشير (3).
فإنّ البخاري ومسلما احتجّا بهما ، ولم يرو عن كلّ منهما سوى الواحد!
ومنهم : عطاء أبو الحسن السوائي (4).
وعمير بن إسحاق (5).
ص: 45
ومالك [ بن مالك ] بن جشعم (1).
ومبارك بن سعيد اليماني (2).
ونبهان الجمحي (3).
فإنّ البخاري أخرج عنهم في صحيحه ، ولم يرو عن كلّ منهم غير الواحد!
ومنهم : قرفة بن بهيس العبدي (4).
ومحمّد بن عبد اللّه بن أبي رافع الفهمي (5).
ومحمّد بن عبد الرحمن بن غنج (6).
ومحمّد بن عبد الرحمن ، مولى بني زهرة (7).
ومحمّد بن عمرو اليافعي (8).
ونافع ، مولى عامر بن سعد بن أبي وقّاص (9).
ص: 46
ووهب بن ربيعة الكوفي (1).
وأبو شعبة المدني ، مولى سويد بن مقرّن (2).
فإنّ مسلما احتجّ بهم في صحيحه ، ولم يرو عن كلّ منهم غير الواحد!
ولا موثّق لهم أصلا ، وليسوا من أهل زمن الشيخين حتّى يقال :
إنّهما يعرفان وثاقتهم بالاطّلاع!
نعم ، ذكر ابن حبّان بعضهم في « الثقات » (3) كما هي عادته في مجاهيل التابعين ، فلا عبرة به ، مع أنّه متأخّر الزمان عن البخاري ومسلم ، فلا يمكن أن يعتمدا على توثيقه!
وهذا النحو كثير جدّا في الصحيحين وبقيّة صحاحهم ، وكم رووا عمّن نصّ على جهالته ، كما ستعرف أقلّ القليل منهم قريبا عند ذكر الأسماء!
وقال في « ميزان الاعتدال » بترجمة حفص بن بغيل بعد ما ذكر قول ابن القطّان فيه : « لا يعرف له حال [ ولا يعرف ] » ..
قال : « لم أذكر هذا النوع في كتابي ، فإنّ ابن القطّان يتكلّم في كلّ من
ص: 47
لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل ، أو أخذ ممّن عاصره ، ما يدلّ على عدالته ، وهذا شيء كثير ..
ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستوون ، ما ضعّفهم أحد ، ولاهم بمجاهيل » (1).
أي : ليسوا بمجاهيل النسب - وإن كانوا مجاهيل الأحوال - كما قال ابن القطّان.
وأنت تعلم أنّه لا يكفي في اعتبار الرجل والاحتجاج بخبره مجرّد عدم تضعيف أحد له ، بل لا بدّ من ثبوت وثاقته.
وأمّا حكمه باستوائهم فغير مستو ، بعد فرض الجهالة بأحوالهم ، على أنّه غير نافع في الاحتجاج بأخبارهم ما لم تثبت وثاقتهم.
* * *
ص: 48
إنّ جملة من أخبار صحاحهم مشتملة على الكفر! كتجسّم اللّه سبحانه! وإثبات المكان والانتقال والتغيير له! وكعروض العوارض عليه من الضحك ونحوه! .. إلى غير ذلك ممّا يوجب الإمكان! (1) ..
ص: 49
حتّى رووا أنّ اللّه سبحانه يدخل رجله في نار جهنم فيزوي بعضها لبعض وتقول : قط قط! (1).
ومشتملة على وهن رسل اللّه ورسالاتهم! (2) ..
ص: 50
حتّى إنّهم صيّروا سيّد النبيّين جاهلا في أوّل البعثة بأنّه رسول مبعوث ، فعلّمه النصراني وزوجته خديجة أنّه رسول اللّه! (1).
ومشتملة على ما يوجب كذب آي من القرآن! (2) ..
ص: 51
إنّ أكثر رواتهم ، بل كلّهم ، مدلّسون في رواياتهم ، أي ملبّسون فيها ، ومظهرون خلاف الواقع ، كما لو كانت الرواية عن شخص مقبول بواسطة شخص غير مرضيّ ، فيتركون الواسطة ويروونها عن المقبول ابتداء!
أو يروونها عن شخص ضعيف وينسبونها إلى آخر ثقة ؛ ليروج الحديث منهم ويقبل.
أو يروونها عن ضعيف ويأتون باللفظ المشترك بين الضعيف والثقة ؛ ليوهم الراوي على القارئ أنّ المراد الثقة ؛ لأنّه يظهر أنّه لا يروي إلّا عن ثقة!
إلى غير ذلك من أنواع التدليس ، ولا يكاد يسلم أحد من رواتهم عنه.
قال شعبة : « ما رأيت من لا يدلّس من أصحاب الحديث إلّا عمرو بن مرّة وابن عون » ، كما نقله عنه في « ميزان الاعتدال » و « تهذيب التهذيب » بترجمة عمرو بن مرّة الجملي (1).
ويكفيك أنّ البخاري ومسلما كانا من المدلّسين!
ص: 53
قال الذهبي في ( الميزان ) بترجمة عبد اللّه بن صالح بن محمّد الجهني المصري : « روى عنه البخاري في الصحيح ... ولكنّه يدلّسه فيقول : حدّثني عبد اللّه ، ولا ينسبه » (1).
وبمعناه في « تهذيب التهذيب » بترجمة عبد اللّه أيضا (2).
وقد كان البخاري يدلّس أيضا في صحيحه محمّد بن سعيد المصلوب ، الكذّاب الشهير ، لكنّ الذهبي حمله على الخطأ! قال بترجمة ابن سعيد : « أخرجه البخاري في مواضع وظنّه جماعة »! (3).
وهو حمل بعيد ، ولو سلّم فهو يقتضي عيبا آخر في « صحيح البخاري » وسيأتي ذكر هذين الرجلين في الأسماء.
ونقل ابن حجر عن ابن مندة ، أنّه قال في كلام له : « أخرج البخاري : ( قال فلان ) .. و ( قال لنا فلان ) وهو تدليس ».
ثمّ قال ابن حجر : « الذي يظهر [ لي ] (4) أنّه يقول في ما لم يسمع : ( قال ) .. وفي ما سمع - لكن لا يكون على شرطه ، أو موقوفا - : ( قال لي ) أو : ( قال لنا ) ؛ وقد عرفت ذلك بالاستقراء من صنيعه » (5).
ص: 54
ونقل ابن حجر أيضا عن ابن مندة ، أنّه قال في حقّ مسلم : « كان يقول في ما لم يسمعه من مشايخه : ( قال لنا فلان ) وهو تدليس » (1).
فإذا كان هذا حال الصحيحين وصاحبيهما - وهما بزعمهم أصحّ الكتب - فكيف حال غيرهما؟! وكيف تعتبر أخبارهم؟! وبأيّ شيء يحصل الأمن لمن يريد الاحتجاج بها؟!
والتدليس طريقة شائعة مستمرّة بين جميع طبقاتهم ، على أنّه كذب في نفسه غالبا ، والكذب موجب لفسق صاحبه (2).
ص: 55
قال ابن الجوزي : « من دلّس كذّابا فالإثم له لازم ؛ لأنّه آثر أن يؤخذ في الشريعة بقول باطل » (1).
كما نقله عنه في « ميزان الاعتدال » بترجمة محمّد بن سعيد المصلوب (2).
والأولى لابن الجوزي أن لا يخصّص بالكذّاب ؛ لأنّ الإثم لازم أيضا لمن دلّس ضعيفا من غير جهة الكذب ؛ لأنّ الضعيف مطلقا لا يجوز الاحتجاج به.
بل من دلّس ثقة عنده كان آثما (3) ؛ لأنّ الثقة عنده ربّما لا يكون ثقة في الواقع وعند السامع وغيره ، فكيف يوقعه بالغرور ، ويدلّس عليه ما ليس له الأخذ به؟!
وسيمرّ عليك إن شاء اللّه تعالى ذكر بعض من عرف بالتدليس عندهم.
* * *
ص: 56
إنّ أكثر رجال السند في أخبار الصحاح الستّة ، مطعون فيهم عندهم بغير التدليس أيضا ، من الكذب ونحوه ، حتّى قال يحيى بن سعيد القطّان - وهو أكبر علمائهم ، وأعلمهم بأحوال رجالهم - : « لو لم أرو إلّا عمّن أرضى ، ما رويت إلّا عن خمسة! » كما حكي عنه في ( الميزان ) بترجمة إسرائيل بن يونس (1).
ولنذكر لك جماعة ممّن طعنوا بهم من غير الصحابة ، مرتّبا أسماءهم على حروف المعجم.
واشترطت على نفسي أن أذكر من رواة الصحاح من طعن به عالمان أو أكثر ، وأن يكون الطعن شديدا كقولهم : كذّاب ، أو : متّهم بالكذب ، أو :
متروك ، أو : هالك ، أو : لا يكتب حديثه ، أو : لا شيء ، أو : ضعيف جدّا ، أو : مجمع على ضعفه .. أو نحو ذلك.
ولم أذكر من قيل فيه أنّه : ضعيف ، أو : منكر الحديث ، أو : غير ضابط ، أو : كثير الخطأ ، أو : لا يحتجّ به .. أو نحو ذلك ، وإن أسقط روايته عن الحجّيّة ؛ طلبا للاختصار ، ولكفاية من جمع الشروط المذكورة في
ص: 57
الدلالة على سقم صحاحهم.
وربّما ذكرت بعض المجاهيل ، والمدلّسين ، وبعض النصّاب ؛ لتعرف اشتمال صحاحهم على أنواع الوهن.
ولا يخفى أنّ النصب أعظم العيوب ؛ لأنّ الناصب منافق كما عرفت (1) ، والمنافق كافر ، بل أشدّ منه ؛ لأنّه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان ، فيكون أضرّ على الإسلام من الكافر الصريح.
وقد ذمّ اللّه المنافقين ، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار - كما أخبر به في كتابه العزيز - ولعنهم في عدّة مواطن من الكتاب (2).
وكذلك لعنهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ما لا يحصى من المواطن (3).
ومن المعلوم أنّ الكافر لا تقبل روايته أصلا ، في الأحكام وغيرها ،
ص: 58
حتّى لو وثّقه جماعة.
وإن أردت زيادة الاطّلاع على أحوال من سنذكرهم ، وأحوال غيرهم ، من ضعاف رجال الصحاح الستّة ، فارجع إلى كتابنا المسمّى ب « الإفصاح عن أحوال رجال الصحاح » فإنّه مشتمل على جلّ المجروحين منهم ، وجلّ المطاعن فيهم.
وقد أخذت ما ذكرته هنا في أحوالهم من « ميزان الاعتدال » للذهبي ، وجعلت رمزه : ن ، ومن « تهذيب التهذيب » لابن حجر العسقلاني ، وجعلت رمزه : يب.
فإن اتّفقا على نقل ما قيل في صاحب الترجمة ، ذكرته بعد اسمه بلا نسبة لأحدهما ، وإن اختصّ أحدهما بالنقل ، ذكرته بعد رمز الناقل منهما ، على أن يكون كلّ ما بعد رمزه من خواصّه في النقل ، إلى أن تنتهي الترجمة ، أو أنقل عن الآخر.
كما إنّي رمزت إلى أهل صحاحهم برموزهم المتداولة عندهم ، فللبخاري ( خ ) .. ولمسلم ( م ) .. وللنسائي ( س ) .. ولأبي داود ( د ) ..
وللترمذي ( ت ) .. ولابن ماجة القزويني ( ق ) .. ولهم جميعا ( ع ) .. ولمن عدا مسلم والبخاري ( 4 ).
وقد جعلت قبل اسم صاحب الترجمة رمز الراوي عنه من أهل هذه الصحاح ، متّبعا نسخة ( التهذيب ) ؛ لأنّها أصحّ إلّا قليلا ، فإنّه قد يقوى عندي صحّة نسخة ( الميزان ) فأعوّل عليها في الرمز.
هذا ، وربّما كان لي كلام أو نقل عن غير هذين الكتابين ، أذكره بعد قولي : « أقول ».
فنقول وباللّه المستعان :
ص: 59
ص: 60
1 - ( ت د ق ) إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة (1) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
يب : قال الدارقطني : متروك.
وقال ابن حبّان : يقلب الأسانيد ، ويرفع المراسيل.
2 - ( ت ق ) إبراهيم بن عثمان ، أبو شيبة العبسي الكوفي ، قاضي واسط (2) :
كذّبه شعبة.
وقال ( س ) : متروك الحديث.
يب : قال أبو حاتم : تركوا حديثه.
وقال الجوزجاني : ساقط.
وقال صالح جزرة : لا يكتب حديثه.
ص: 61
3 - ( ت ق ) إبراهيم بن الفضل المخزومي (1) : قال ابن معين : ليس بشيء (2).
ن : قال ابن معين أيضا : لا يكتب حديثه.
وقال ( س ) وجماعة : متروك.
يب : قال ( س ) : لا يكتب حديثه.
وقال الدارقطني والأزدي : متروك.
4 - ( ت ق ) (3) إبراهيم بن يزيد الخوزي المكّي الأموي (4) :
قال أحمد و ( س ) : متروك (5).
يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال ابن الجنيد : متروك.
وقال ( خ ) : سكتوا عنه (6) ؛ قال الدولابي : يعني تركوه.
وقال ابن المديني : لا أكتب عنه.
ص: 62
وقال البرقي : كان يتّهم بالكذب.
وقال ابن حبّان : روى المناكير الكثيرة حتّى يسبق إلى القلب أنّه المعتمّد لها.
صلبا في السنّة ... إلّا أنّه من صلابته ربّما [ كان ] يتعدّى طوره! (1).
وقال ابن عديّ : كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على عليّ علیه السلام (2).
وقال الدارقطني : فيه انحراف عن عليّ علیه السلام ، اجتمع على بابه أصحاب الحديث ، فأخرجت جارية له فرّوجة لتذبحها ، فلم تجد من يذبحها ، فقال : سبحان اللّه!! فرّوجة لا يوجد من يذبحها ، وعليّ يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم!
ثمّ قال في يب : [ وكتابه ] في الضعفاء يوضّح مقالته.
العجب كيف كان إماما لهم في الجرح والتعديل وهو منافق؟!
وكيف تقبل شهادته وهو فاسق؟!
وأعجب منه أنّهم يصفونه بأنّه « صلب في السنّة » وهو من ألفاظ المدح عندهم!
فانظر وتبصّر!!
ص: 64
7 - ( خ د ) أحمد بن صالح المصري ، أبو جعفر الحافظ (1) : قال ( س ) : ليس بثقة ، ولا مأمون ، تركه محمّد بن يحيى ، ورماه ابن معين بالكذب.
وعن ابن معين أيضا أنّه كذّاب يتفلسف.
وقال ابن عديّ : كان ( س ) سيّئ الرأي فيه ، وأنكر عليه أحاديث ...
فسمعت محمّد بن هارون البرقي يقول : هذا الخراساني يتكلّم في أحمد ابن صالح ، لقد حضرت مجلس أحمد فطرده من مجلسه ، فحمله ذلك على أن يتكلّم فيه.
يب : قال الخطيب : احتجّ بأحمد جميع الأئمّة إلّا ( س ) ، ويقال :
كان آفة أحمد الكبر ، ونال منه ( س ) جفاء في مجلسه ، فذلك السبب الذي أفسد الحال بينهما.
9 - ( خ م س ق ) أحمد بن عيسى المصري (1) : حلف ابن معين أنّه كذّاب.
يب : قال أبو حاتم : تكلّم الناس فيه.
وقال سعيد بن عمرو البرذعي (2) : أنكر أبو زرعة على مسلم روايته عنه في الصحيح.
قال سعيد : وقال لي : ما رأيت أهل مصر يشكّون في أنّه - وأشار إلى لسانه ، كأنّه يقول : الكذب -.
ن : قال سعيد البرذعي (3) : شهدت أبا زرعة ، وذكر عنده صحيح مسلم فقال : هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئا يتشرّفون (4) به!
وقال : يروي عن أحمد في « الصحيح » ما رأيت أهل مصر يشكّون
ص: 66
في أنّه - وأشار إلى لسانه -.
10 - ( د ) أحمد بن الفرات الضبّي الحافظ (1) :
ن : قال ابن خراش : إنّه يكذب عمدا (2).
يب : قال ابن مندة : أخطأ في أحاديث ولم يرجع عنها.
11 - ( د ت س ) أزهر بن عبد اللّه الحرازي (3) :
ن : ناصبيّ ، ينال من عليّ!
يب : قال ابن الجارود : كان يسبّ عليّا!
وساق ( د ) بإسناده إلى أزهر ، قال : كنت في الخيل الّذين سبوا أنس ابن مالك فأتينا به الحجّاج.
12 - ( م 4 ) أسامة بن زيد الليثي (4) :
قال أحمد : ليس بشيء.
يب : ترك القطّان حديثه.
ص: 67
ن : قال ابن الجوزي : قال ابن معين مرّة : ترك حديثه بأخرة (1) ؛ والصحيح أنّ هذا القول ليحيى بن سعيد.
15 - ( د ق ) إسحاق بن أسيد (1) : قال أبو حاتم : لا يشتغل به.
يب : قال ابن عديّ : مجهول (2).
وقال الأزدي : تركوه.
16 - ( د ت ق ) إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة ، مولى آل عثمان بن عفّان (3) :
قال ( خ ) : تركوه.
وقال أحمد : لا تحلّ عندي الرواية عنه.
يب : قال عمرو بن عليّ وأبو زرعة و ( س ) والدارقطني والبرقاني :
متروك (4).
وتكلّم فيه مالك والشافعي وتركاه.
وقال ابن معين مرّة : ليس بثقة.
ص: 69
ومرّة : لا يكتب حديثه.
ومرّة : كذّاب.
وقال ابن عمّار وأبو زرعة : ذاهب الحديث (1).
وقال محمّد بن عاصم المصري : لم أر أهل المدينة يشكّون في أنّه متّهم ؛ قيل : في ماذا؟ قال : في الإسلام! وفي رواية أخرى : على الدين!
17 - ( خ ت ق ) إسحاق بن محمّد بن إسماعيل بن عبد اللّه ابن أبي فروة (2) :
وهّاه ( د ) جدّا.
وروى عنه ( خ ) ويوبّخونه على هذا.
ن : قال ( س ) : ليس بثقة.
يب : قال ( س ) : متروك.
18 - ( ت ق ) إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد اللّه التيمي (3) :
قال أحمد و ( س ) : متروك [ الحديث ].
يب : قال ابن معين : ليس بشيء ، ولا يكتب حديثه.
وقال [ عمرو بن عليّ ] الفلّاس : متروك [ الحديث ].
ص: 70
19 - ( ع ) إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، أبو يوسف الكوفي (1) : يب : قال عبد الرحمن بن مهدي : لصّ يسرق الحديث.
ن : كان القطّان لا يحدّث عنه ولا عن شريك.
وقال : لو لم أرو إلّا عمّن أرضى ما رويت إلّا عن خمسة!
20 - ( خ م د س ) إسماعيل بن إبراهيم بن معمر ، أبو معمر الهذلي القطيعي :
20 - ( خ (2) م د س ) إسماعيل بن إبراهيم بن معمر ، أبو معمر الهذلي القطيعي (3) :
يب : قال ابن معين : لا صلّى اللّه عليه! ذهب إلى الرقّة (4) فحدّث بخمسة آلاف حديث ، أخطأ في ثلاثة آلاف (5).
[ قال جعفر الطيالسي : ] ولم يحدّث أبو معمر حتّى مات ابن معين.
وقال أبو زرعة : كان أحمد لا يرى الكتابة عنه.
ص: 71
21 - ( ت ق ) إسماعيل بن رافع المدني ، نزيل البصرة (1) : يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة.
ومرّة : ليس بشيء.
وأخرى : متروك [ الحديث ].
وقال ( د ) : ليس بشيء ، سمع من الزهري فذهبت كتبه ، فكان إذا رأى كتابا قال : هذا [ قد ] سمعته.
وقال ابن خراش والدارقطني وعليّ بن الجنيد : متروك.
ن : ضعّفه أحمد ويحيى وجماعة.
وقال الدارقطني وغيره : متروك [ الحديث ].
ومن تلبيس ( ت ) قال : ضعّفه بعض أهل العلم (2).
وقال أبو نعيم : جار المسجد أربعين سنة لم ير في جمعة ولا جماعة.
وقال ابن عيينة : كان بيهسيّا ، فلم أذهب إليه ، ولم أقربه.
وتركه زائدة لمذهبه (1).
يب : قال محمّد بن يحيى : كان بيهسيّا ممّن يبغض عليّا علیه السلام .
والبيهسية : طائفة من الخوارج ينسبون إلى رأسهم أبي بيهس (2).
لو كان ذلك الجفاء للجمعة والجماعة ممّن يتّهمونه بالتشيّع ، لنالوه بكلّ سوء ، وبلغوا به كلّ مبلغ!
ولكن هوّن عليهم ذلك ، وبغضه لعثمان ، أنّه يبغض إمام المتّقين ،
ص: 73
ونفس النبيّ الأمين ، حتّى احتملوا سيّئاته ، وحملوا عنه ، واحتجّ به أهل صحاحهم ، ووثّقه ابن نمير والعجلي وأبو عليّ الحافظ و ( د ) وابن سعد وأحمد ، حتّى قال فيه : إنّه ثقة .. صالح! وقال ابن معين : ثقة مأمون! وقال أبو حاتم : صدوق صالح!
.. إلى غيرهم من علمائهم كما في ( يب )! (1).
مع استفاضة الأخبار ، بل تواترها ، بأنّ الخوارج مارقون عن الإسلام والدين (2).
ص: 74
فهم خارجون عن الإسلام حقيقة ، منافقون ظاهرا وواقعا.
فما بال القوم أمنوه على دينهم ووصفوه بالصلاح؟!
ولم أر من ينسب إليه الخلاف وترك الرواية عنه ، غير زائدة وابن
ص: 75
عيينة وجرير (1) كما سمعت ، وهو غريب!
23 - ( خ م د ت ق ) إسماعيل بن عبد اللّه أبي أويس بن عبد اللّه الأصبحي ، أبو عبد اللّه المدني (2) :
قال ابن معين : لا (3) يساوي فلسين.
وقال أيضا : هو وأبوه يسرقان الحديث.
وقال الدولابي في « الضعفاء » : قال النضر بن سلمة : كذّاب.
يب : قال ابن معين مرّة : مخلّط ، يكذب ، ليس بشيء.
وعن سيف بن محمّد ، قال : يضع الحديث.
وقال سلمة بن شبيب : سمعته يقول : ربّما كنت أضع الحديث لأهل
ص: 76
المدينة إذا اختلفوا في شيء ...
24 - ( م 4 ) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة ، أبو محمّد السدّي (1) :
قال ليث بن أبي سليم : كان بالكوفة كذّابان - فمات أحدهما -:
السدّي والكلبي.
يب : قال الجوزجاني : كذّاب.
25 - ( ت (2) ق ) إسماعيل بن مسلم البصري (3) :
قال القطّان : لم يزل مخلّطا ، كان يحدّثنا بالحديث الواحد على ثلاثة أضرب.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ابن المديني : لا يكتب حديثه.
وقال الجوزجاني : واه جدّا.
يب : قال ( س ) مرّة : ليس بثقة.
ومرّة : متروك [ الحديث ].
ص: 77
26 - ( خ ) أسيد بن زيد (1) : كذّبه ابن معين.
وقال ( س ) : متروك.
وقال ابن حبّان : يروي عن الثقات المناكير ، ويسرق الحديث.
وقال ابن عبد البرّ : أجمعوا (1) على ضعفه.
28 - ( خ ت ) أشهل بن حاتم (2) :
ن : قال أبو حاتم : لا شيء.
يب : قال ابن معين : لا شيء.
29 - ( م س ) أفلح بن سعيد الأنصاري القبائي (3) :
قال ابن حبّان : يروي عن الثقات الموضوعات ، لا يحلّ [ الاحتجاج به ولا ] الرواية عنه بحال.
يب : ذكره العقيلي في « الضعفاء » فقال : لم يرو عنه ابن مهدي (4).
30 - ( د ق ) أيّوب بن خوط ، أبو أميّة البصري (5) :
قال ( خ ) : تركه ابن المبارك.
وقال ( س ) والدارقطني : متروك.
وقال ابن معين : لا يكتب حديثه.
ص: 79
وقال الأزدي : كذّاب.
يب : قال الفلّاس : متروك [ الحديث ].
وقال أبو حاتم : واه ، متروك ، لا يكتب حديثه.
وقال أحمد : كان عيسى بن يونس يرميه بالكذب ( وقال : ألحقوا بكتابه ) (1).
وقال ( س ) : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال ( د ) : ليس بشيء.
وقال ابن قتيبة : وضع حديث أنس.
وقال الساجي : أجمع أهل العلم على ترك حديثه.
32 - ( د ق ) أيّوب بن قطن (1) : قال الدارقطني : مجهول.
يب : قال أبو زرعة : لا يعرف.
وقال الأزدي وغيره : مجهول.
ص: 82
34 - ( 4 ) باذام ، أبو صالح (1) :
قال ( س ) : ليس بثقة.
وقال عبد الحقّ : ضعيف جدّا.
ن : قال إسماعيل بن أبي خالد : يكذب.
يب : قال الجوزجاني : متروك.
وقال الأزدي : كذّاب.
35 - ( ق ) البختري بن عبيد الشامي (2) :
يب : قال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، ذاهب.
وقال ابن حبّان : ضعيف ذاهب ... وليس بعدل.
ص: 83
وقال الأزدي : كذّاب ساقط.
ن : ضعّفه أبو حاتم ، وغيره تركه.
36 - ( د ت س ) بسر بن أرطأة ، ويقال : ابن أبي أرطأة (1) :
قال ابن معين : كان رجل سوء.
يب : قال ابن يونس : كان من شيعة معاوية ، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز [ في أوّل سنة 40 ] وأمره أن يتقرّى (2) من كان في طاعة عليّ علیه السلام فيوقع بهم ، ففعل بمكّة والمدينة واليمن أفعالا قبيحة!
وحكى المسعودي في « مروج الذهب » أنّ عليّا علیه السلام دعا عليه [ أن ] يذهب عقله لمّا بلغه قتله ابني عبيد اللّه بن العبّاس ، وأنّه خرف (3)
أقول :
هكذا ينبغي أن تكون رواة صحاح الأخبار ، من نحو هؤلاء الثقات!
ص: 84
الخارجين على أئمّة العدل ، ولا يبالون بقتل النفوس البريّة ، ويهلكون الحرث والذرّيّة.
37 - ( د ت ق ) بشر بن رافع الحارثي ، أبو الأسباط النجراني ، إمامها ومفتيها (1) :
قال ابن حبّان : يروي أشياء موضوعة كأنّه المتعمّد لها.
يب : قال أحمد : ضعيف [ في الحديث ] ، ليس بشيء.
وقال ابن عبد البرّ : اتّفقوا على إنكار حديثه وطرح ما رواه. 38 - ( ق ) بشر بن نمير (2) :
قال أحمد : ترك الناس حديثه.
يب : قال أحمد : كذّاب يضع الحديث (3).
وقال أبو حاتم وعليّ بن الجنيد : متروك (4).
ص: 85
41 - ( م 4 ) بقيّة بن الوليد بن صائد الحمصي الكلاعي ، أبو محمّد (1) : ن : قال غير واحد : كان مدلّسا.
قال ابن حبّان : سمع من شعبة ومالك وغيرهما أحاديث مستقيمة ، ثمّ سمع من [ أقوام ] كذّابين عن شعبة ومالك ، فروى عن الثقات بالتدليس ما أخذ عن الضعفاء.
وقال أحمد : توهّمت أنّه لا يحدّث بالمناكير إلّا عن المجاهيل ، فإذا هو يحدّث بها عن المشاهير!
وقال وكيع : ما سمعت أحدا أجرأ على أن يقول : « قال رسول اللّه » من بقيّة!
وقال القطّان : يدلّس عن الضعفاء ويستبيحه ، وهذا - إن صحّ - مفسد لعدالته.
قال في ن : نعم واللّه صحّ منه أنّه من فعله! وصحّ عن الوليد بن مسلم ، [ بل ] وعن جماعة كبار فعله ، وهذا بليّة منهم.
وروى ابن أبي السريّ ، عن بقيّة : قال لي شعبة : ما أحسن حديثك! ولكن ليس له أركان!
فقلت : حديثكم أنتم ليس له أركان ، تجيؤني بغالب القطّان ، وحميد الأعرج [ وابي التيّاح ] ، وأجيؤك بمحمّد بن زياد الألهاني ، وأبي بكر ابن أبي مريم الغسّاني ، وصفوان بن عمرو السكسكي.
ص: 87
.. إلى غير ذلك ممّا في ن.
ومثله في يب وأضعافه (1).
42 - ( ت ق ) بكر بن خنيس العابد (2) :
يب : قال الدارقطني : متروك (3).
وكذا قال أحمد بن صالح المصري ، وابن خراش.
وقال أبو زرعة : ذاهب الحديث.
وقال ابن حبّان : روى أشياء موضوعة ، يسبق إلى القلب أنّه المتعمّد لها (4).
43 - ( 4 ) بهز بن حكيم بن معاوية القشيري (5) :
قال أحمد بن بشير : أتيته فوجدته يلعب بالشطرنج.
وقال ابن حبّان : تركه جماعة من أئمّتنا.
يب : قال ( د ) : لم يحدّث عنه شعبة.
* * *
ص: 88
ص: 90
45 ( 4 ) ثعلبة بن عباد العبدي (1) :
ن : قال ابن حزم : مجهول.
يب : ذكره ابن المديني في المجاهيل.
وقال ابن حزم : مججهول ؛ وتبعه ابن القطّان ، وكذا عن العجلي.
لا ينطحك بقرنيه.
[ ن : ] (1) وقال الوليد : قلت للأوزاعي : حدّثنا ثور ؛ فقال لي : فعلتها!
وقال سلمة بن العيّار (2) : كان الأوزاعي سيّئ القول في ثور.
يب : قال أحمد : نهى مالك عن مجالسته.
وقال ابن سعد : كان جدّه قتل بصفّين مع معاوية ،
فكان إذا ذكر عليّا علیه السلام قال : لا أحبّ رجلا قتل جدّي! (3)
وقال ابن المبارك [ من مجزوء الرمل ] :
أيّها الطالب علما *** إئت حمّاد بن زيد
فاطلبنّ العلم منه *** ثمّ قيّده بقيد
لا كثور وكجهم *** وكعمرو بن عبيد
* * *
ص: 92
47 - ( م د ت ق ) الجرّاح بن مليح ، والد وكيع (1) :
قال الدار قطني : ليس بشيء.
يب : حكى الإدريسي أنّ ابن معين كذّبه وقال : كان وضّاعا للحديث.
وقال ابن حبّان : يقلب الأسانيد ، ويرفع المراسيل ، وزعم ابن معين أنّه كان وضّاعا.
وقال الدوري : دخل وكيع البصرة فاجتمع عليه الناس ، فحدّثهم حتّى قال : حدّثني أبي وسفيان ؛ فصاح الناس من كلّ جانب : لا نريد أباك! [ حدّثنا عن الثوري ] ؛ فأعاد وأعادوا.
يب : قال شعبة : أكذب الناس.
وقال أبو حاتم و ( س ) والدارقطني والأزدي وغيرهم : متروك (1).
ونقل ابن الجوزي الإجماع على أنّه متروك.
51 - ( م د ت ) حاجب بن عمر الثقفي ، أبو خشينة (1) :
يب : حكى الساجي عن ابن عيينة أنّه كان إباضيّا.
52 - ( د س ) الحارث بن زياد ، شامي (2) :
ن : مجهول.
يب : روى : « اللّهمّ علّم معاوية الكتاب ، وقه الحساب » قال البغوي : لا أعلم للحارث غيره.
وقال ابن عبد البرّ : مجهول ، وحديثه منكر.
ص: 95
53 - ( د ت ) الحارث بن عمرو ، ابن أخي المغيرة بن شعبة (1) : ن : مجهول.
يب : قال ( خ ) : لا يعرف.
54 - ( 4 ) الحارث بن عمير البصري ، نزيل مكّة ، والد حمزة (2) :
قال ابن حبّان : روى عن الأثبات الأشياء الموضوعة.
وقال الحاكم : روى [ عن حميد الطويل وجعفر الصادق ] أحاديث موضوعة.
يب : قال ( خ ) : لا يبالي ما حدّث ، ضعيف جدّا.
وقال ( د ) : ليس بشيء.
58 - ( م س ق ) حبيب بن أبي حبيب يزيد الجرمي الأنماطي (1) : ن : نهى ابن معين عن كتابة حديثه.
يب : قال ابن أبي خيثمة : نهانا ابن معين أن نسمع حديثه.
وسمع منه القطّان ولم يحدّث عنه.
59 - ( ق ) حبيب بن أبي حبيب المصري ، كاتب مالك (2) :
قال ( د ) : كان من أكذب الناس.
وقال ( س ) وابن عديّ وابن حبّان : أحاديثه كلّها موضوعة (3).
وقال أبو حاتم : روى أحاديث موضوعة.
60 - ( م 4 ) حجّاج بن أرطأة بن ثور ، أبو أرطأة ، الكوفي ، القاضي (4) :
قال أحمد : في حديثه زيادة على حديث الناس.
وقال ابن حبّان : تركه ابن المبارك ، ويحيى القطّان ، وابن مهدي ، وابن معين ، وأحمد ... وكان لا يحضر الجماعة ، فقيل له في ذلك ، فقال :
ص: 98
أحضر مسجدكم حتّى يزاحمني فيه الحمّالون والبقّالون؟!
ن : قال يحيى بن يعلى : أمرنا زائدة أن نترك حديثه.
وقال أحمد : كان [ يحيى بن سعيد ] (1) سيّئ الرأي فيه ، وفي ابن إسحاق ، وليث ، وهمّام ، لا نستطيع أن نراجعه فيهم.
وقال أحمد : يدلّس ، [ روى ] عن الزهري ولم يره.
وقال الشافعي : قال حجّاج : لا تتمّ مروءة الرجل حتّى يترك الصلاة في الجماعة!
وقال الأصمعي : هو أوّل من ارتشى بالبصرة من القضاة.
وقال ( س ) : وذكر المدلّسين : حجّاج بن أرطأة ، والحسن ، وقتادة ، وحميد ، ويونس بن عبيد ، وسليمان التيمي ، ويحيى بن أبي كثير ، وأبو إسحاق ، والحكم ، وإسماعيل بن أبي خالد ، ومغيرة ، وأبو الزبير ، وابن أبي نجيح ، وابن جريج ، وسعيد بن أبي عروبة ، وهشيم ، وابن عيينة.
قال في ن : قلت : والأعمش ، وبقيّة ، والوليد بن مسلم ، وآخرون.
يب : قال أبو حاتم : يدلّس عن الضعفاء.
وقال ابن عيينة : كنّا عند منصور بن المعتمر فذكروا حديثا عن
ص: 99
الحجّاج ، قال : والحجّاج يكتب عنه؟! ... لو سكتّم لكان خيرا لكم!
وقال إسماعيل القاضي : مضطرب الحديث لكثرة تدليسه.
وقال محمّد بن نصر : الغالب على حديثه [ الإرسال ، و ] التدليس ، وتغيير الألفاظ.
61 - ( ت ق ) (1) حريث بن أبي مطر الفزاري الحنّاط (2) :
يب : قال ( س ) : ليس بثقة.
وقال ( س ) مرّة - والدولابي والأزدي وابن الجنيد : متروك.
62 - ( خ 4 ) حريز بن عثمان الرحبي الحمصي (3) :
ذكروا فيه ما يسوّد وجهه ووجوه من اتّخذوه حجّة ، من السبّ لإمام المتّقين ، وأخ النبيّ الأمين! فعليه لعنة اللّه أبد الآبدين.
وذكروا فيه أنّه داعية لمذهبه السوء ، وأنّه كذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أحاديث ينتقص بها أمير المؤمنين علیه السلام !
ص: 100
ولكنّه مع هذا الكذب ، وذلك النفاق ، طفحت كلماتهم بتوثيقه! واحتجّوا به في صحاحهم! فدلّ على أنّهم في سرائرهم ملّة واحدة!
63 - ( 4 ) حسام بن مصكّ الأزدي البصري (1) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال الدارقطني : متروك (2).
وقال أحمد : مطروح الحديث.
يب : قال الفلّاس : متروك [ الحديث ].
وقال ابن المبارك : إرم به.
وقال ابن معين مرّة : لا يكتب من حديثه شيء.
وقال ابن المديني : لا أحدّث عنه بشيء.
64 - ( ت ق ) الحسن بن عليّ النوفلي الهاشمي (3) :
قال الدارقطني : ضعيف واه.
يب : قال الحاكم وأبو سعيد النقّاش : يحدّث عن أبي الزناد بأحاديث موضوعة.
ص: 101
65 - ( ت ق ) الحسن بن عمارة بن المضرّب الكوفي ، الفقيه ، قاضي بغداد زمن المنصور (1) :
قال أحمد : متروك (2).
وقال ابن معين : ليس [ حديثه ] بشيء.
وقال شعبة : يكذب.
وقال ابن المديني : [ كان ] يضع الحديث.
وقال أبو حاتم ومسلم والدارقطني وجماعة : متروك (3).
يب : قال أحمد مرّة : أحاديثه موضوعة.
وقال ابن معين : لا يكتب حديثه.
66 - ( ع ) الحسن ، أبو سعيد ، بن يسار أبي الحسن البصري ، مولى الأنصار (4) :
ن : كثير التدليس.
يب : قال ابن حبّان : يدلّس.
وقال يونس بن عبيد : ما رأيت رجلا أطول حزنا منه.
ص: 102
هذا من دعاء أمير المؤمنين علیه السلام عليه بأن لا يزال مسوّأ (1).
وذكره ابن أبي الحديد في المنحرفين عن أمير المؤمنين علیه السلام ..
قال : وممّن قيل إنّه كان يبغض عليّا علیه السلام ويذمّه ، الحسن البصري (2).
67 - ( ت ق ) الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب (3):
قال ( س ) : متروك.
وقال الجوزجاني : لا يشتغل به.
وقال ( خ ) : قال عليّ : تركت حديثه.
وقال الساجي : ضعيف [ الحديث ] ، متروك ، يحدّث [ بأحاديث ] بواطيل (1).
69 - ( د س ) حشرج بن زياد الأشجعي (2) :
ن : لا يعرف.
يب : قال ابن حزم وابن القطّان : مجهول.
70 - ( ت ) حصين بن عمر الأحمسي (3) :
يب : نهى أحمد من الحديث عنه ، وقال : [ إنّه كان ] يكذب.
وقال ابن خراش : كذّاب.
وقال مسلم وأبو حاتم : متروك الحديث.
يب : قال أبو خيثمة : أتيته فإذا هو يحمل على عليّ علیه السلام فلم أعد إليه.
72 - ( ت ق ) حفص بن سليمان ، أبو عمر الأسدي ، صاحب القراءة (1) :
قال ابن خراش : كذّاب ، يضع الحديث.
وقال أبو حاتم : متروك (2) ، لا يصدّق.
وقال ( خ ) : تركوه.
يب : قال ابن مهدي : واللّه لا تحلّ الرواية عنه.
وقال ابن المديني : تركته على عمد.
وقال مسلم و ( س ) : متروك (3).
وقال ( س ) : لا يكتب حديثه.
73 - ( ع ) حمّاد بن أسامة ، أبو أسامة (4) :
ن : قال المعيطي : كثير التدليس.
وقال سفيان الثوري : إنّي لأعجب كيف جاز حديثه ، كان أمره بيّنا ، كان من أسرق الناس لحديث جيّد.
ص: 105
ومثله في يب عن سفيان بن وكيع.
وفي يب أيضا : قال ابن سعد : يدلّس ويبين تدليسه.
وحكى الأزدي في « الضعفاء » عن سفيان بن وكيع ، قال : كان يتتبّع كتب الرواة فيأخذها وينسخها ؛ قال لي ابن نمير : إنّ المحسن لأبي أسامة يقول : إنّه دفن كتبه ، ثمّ تتبّع الأحاديث بعد من الناس.
74 - ( م 4 ) حمّاد بن أبي سليمان مسلم الأشعري ، الفقيه الكوفي (1) :
قال الأعمش : غير ثقة.
ن : قال الأعمش : ما كنّا نصدّقه.
يب : قال أحمد : عند حمّاد بن سلمة عنه تخليط كثير.
وقال حبيب بن أبي ثابت : كان حمّاد يقول : قال إبراهيم ؛ فقلت :
واللّه إنّك لتكذب على إبراهيم ، وإنّ إبراهيم ليخطئ.
وقال ابن عديّ : لا يعرف.
ن : لا يدرى من هو؟!
76 - ( ت ) حمزة بن أبي حمزة النصيبي (1) :
قال الدارقطني و ( س ) : متروك (2).
وقال ( د ) وابن معين : ليس بشيء (3).
وقال ابن عديّ : يضع الحديث (4).
وقال أيضا : عامّة مرويّاته [ مناكير ] موضوعة.
وقال الحاكم : يروي أحاديث موضوعة (5).
77 - ( ع ) حميد بن أبي حميد تيرويه الطويل ، أبو عبيدة البصري (6) :
طرح زائدة حديثه.
ص: 107
يب : قال درست : ليس بشيء (1).
وقال ابن حبّان : يدلّس.
ن : يدلّس.
78 - ( د س ) حنان بن خارجة السلمي الشامي (2) :
ن : لا يعرف.
يب : قال ابن القطّان : مجهول الحال (3).
79 - ( ت ق ) حنظلة بن عبد اللّه السدوسي البصري (4) :
قال القطّان : تركته عمدا.
ن : قال ابن معين : ليس بشيء.
يب : قال ابن معين : ليس بثقة ولا دون الثقة.
وقال ابن حبّان : اختلط بآخره حتّى كان لا يدري ما يحدّث به ، فاختلط حديثه القديم بحديثه الأخير.
* * *
ص: 108
80 - ( ت ق ) خارجة بن مصعب السرخسي (1) :
قال ابن معين : كذّاب (2).
وقال ( خ ) : تركه ابن المبارك ووكيع.
يب : قال ( س ) وابن خراش وأبو أحمد الحاكم : متروك [ الحديث ].
وقال ابن سعد : اتّقى الناس حديثه فتركوه.
وقال ابن حبّان : يدلّس ، ويروي ما وضعوه على الثقات عن الثقات.
وقال يعقوب بن شيبة : ضعيف [ الحديث ] عند جميع أصحابنا.
81 - ( ت ق ) خالد بن إلياس - ويقال : إياس - العدوي (3) :
قال ( خ ) : ليس بشيء.
ص: 109
وقال أحمد و ( س ) : متروك (1).
وقال ابن معين : ليس بشيء ، لا يكتب حديثه.
يب : قال ( س ) مرّة : ليس بثقة ، لا يكتب حديثه.
وقيل لأبي حاتم : يكتب حديثه؟ فقال : زحفا!
وقال ( ت ) : ضعيف عند أهل الحديث.
وقال ابن عبد البرّ : ضعيف عند جميعهم.
وقال الحاكم والنقّاش : روى أحاديث موضوعة.
82 - ( م 4 ) خالد بن سلمة بن العاص المخزومي ، المعروف ب : الفأفاء (2) :
قال جرير : كان مرجئا ويبغض عليّا علیه السلام .
يب : قال ابن عائشة : كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجا بها المصطفى صلی اللّه علیه و آله !
ما ترى لو قيل : إنّ فلانا يبغض الشيخين ويحفظ هجاءهما وينشده! أيّ رجل يكون عند أهل السنّة؟!
ص: 110
وهل يمكن أن يوثّقه أحد منهم أو يثني عليه ، كما فعلوا مع هذا الرجس الخبيث المنافق؟!
وما أصدق قول القائل [ من الكامل ] :
ما المسلمون بأمّة لمحمّد
كلّا ، ولكن أمّة لعتيق
ولكن لا عجب من احتجاجهم بروايته وتوثيقه ، فإنّ من كان أئمّته وخلفاؤه يأنسون بهجاء سيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله فحقيق أن يتّخذ هذا الشيطان المارد حجّة دينه!(1).
ص: 111
قال ابن خلّكان في ترجمته : كان يتّهم في دينه ؛ ثمّ ذكر من أحواله ما هو بالكفر أشبه (1).
85 - ( د ق ) خالد بن عمرو الأموي السعيدي (2) :
قال صالح جزرة : [ كان ] يضع الحديث.
وذكر له ابن عديّ مناكير ، وقال : عندي أنّه وضعها على الليث ، فإنّ نسخة الليث عندنا ليس فيها شيء من هذا.
يب : قال ابن معين مرّة : ليس [ حديثه ] بشيء.
وأخرى : كذّاب [ حدّث عن شعبة أحاديث موضوعة ].
وقال أبو حاتم : متروك [ الحديث ].
وقال أحمد : أحاديثه موضوعة.
وقال ( د ) : ليس بشيء.
86 - ( ق ) خالد بن يزيد الدمشقي (3) :
قال أحمد : ليس بشيء.
وقال ابن معين : لم يرض أن يكذب على أبيه حتّى كذب على
ص: 114
الصحابة.
[ يب : ] (1) وقال ( د ) : متروك [ الحديث ].
87 - ( خ م س ) خثيم بن عراك بن مالك (2) :
يب : قال ابن حزم : لا تجوز الرواية عنه.
وقال سعيد بن [ أبي ] (3) زنبر ومصعب الزبيري : استفتى أمير المدينة مالكا عن شيء فلم يفته ، فأرسل إليه : ما منعك من ذلك؟! قال : لأنّك ولّيت خثيما على المسلمين ؛ فلمّا بلغه ذلك عزله.
88 - ( ع ) خلاس بن عمرو البصري الهجري (4) :
كان يحيى القطّان يتوقّى حديثه عن عليّ علیه السلام .
يب : قال ( د ) : لم يسمع من حذيفة.
وقال أيضا : يخشون أن [ يكون ] يحدّث من صحيفة الحارث الأعور.
وقال أبو حاتم : يقال : وقعت عنده صحف عن عليّ علیه السلام .
ص: 115
وقال الأزدي : تكلّموا فيه ، يقال : كان صحفيّا.
90 - ( ع ) داود بن الحصين الأموي ، مولاهم (1) :
قال ابن عيينة : كنّا نتّقي حديثه.
وقال أبو حاتم : لو لا أنّ مالكا روى عنه لترك حديثه.
وقال ابن حبّان : كان يذهب مذهب الشراة (2).
91 - ( ت ق ) داود بن الزبرقان الرقاشي (3) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال أبو زرعة : متروك.
وقال الجوزجاني : كذّاب.
ص: 117
ن : قال ( د ) : ضعيف ، ( ترك حديثه ) (1).
يب : قال ( د ) : ليس بشيء.
وقال ابن المديني : كتبت عنه يسيرا ورميت به (2) ؛ وضعّفه جدّا.
وقال يعقوب بن أبي شيبة والأزدي : متروك.
وقال ( س ) : ليس بثقة (3).
92 - ( ق ) داود بن المحبّر (4) :
قال الدارقطني : متروك (5).
يب : قال صالح بن محمّد : يكذب.
وكذّبه أحمد.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث [ على الثقات ].
وقال ( س ) والأزدي : متروك.
93 - ( ت ق ) داود بن يزيد الأودي الأعرج (6) :
كان يحيى وابن مهدي لا يحدّثان عنه.
ص: 118
وقال ابن معين : ليس بشيء (1).
وقال ( س ) : ليس بثقة.
يب : قال ابن المديني : لا أروي عنه.
وقال الأزدي : ليس بثقة.
94 - ( 4 ) درّاج بن سمعان ، أبو السمح المصري (2) :
قال الدارقطني : متروك.
وقال فضلك : ليس بثقة ولا كرامة.
* * *
ص: 119
ص: 120
95 - ( ت ق ) ذؤاد بن علبة الحارثي ، أبو المنذر (1) :
يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال أيضا : لا يكتب [ حديثه ].
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة.
وقال ابن حبّان : يروي عن الثقات ما لا أصل له ، وعن الضعفاء ما لا يعرف.
* * *
ص: 121
ص: 122
96 - ( م ت س ) رباح بن أبي معروف المكّي (1) :
يب : كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدّثان عنه ، وكان عبد الرحمن يحدّث عنه ثمّ تركه.
97 - ( ت ق ) الربيع بن بدر ، أبو العلاء البصري ، المعروف ب : عليلة (2) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) : متروك.
يب : قال ( د ) : لا يكتب حديثه.
وقال الأزدي وابن خراش والدارقطني ويعقوب بن سفيان :
متروك.
وقال أبو حاتم : لا يشتغل به ولا بروايته.
وقال ( س ) : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
ص: 123
98 - ( ت ق ) رشدين بن سعد بن مفلح ، أبو الحجّاج المصري (1) : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) : متروك (2).
يب : قالا أيضا : لا يكتب حديثه.
وقال ابن بكير : رأيت الليث أخرجه من المسجد.
99 - ( ت ) روح بن أسلم الباهلي (3) :
قال عفّان : كذّاب.
يب : قال الدارقطني : ضعيف ، متروك.
* * *
ص: 124
100 - ( ع ) زكريّا بن أبي زائدة - صاحب الشعبي - أبو يحيى الكوفي (1) :
قال أبو زرعة : يدلّس كثيرا عن الشعبي.
وقال أبو حاتم : يدلّس.
يب : قال ( د ) : يدلّس (2).
قال يحيى بن زكريّا : لو شئت سمّيت لك من بين أبي وبين الشعبي.
101 - ( م ت س ق ) زمعة بن صالح الجندي اليماني ، نزيل مكّة (3) :
قال ( خ ) : تركه ابن مهدي أخيرا.
يب : قال ( د ) : لا أخرّج حديثه.
ص: 125
وقال ابن خزيمة : أنا بريء من عهدته.
102 - ( د س ) زميل بن عبّاس المدني الأسدي ، مولى عروة بن الزبير (1) :
يب : قال أحمد : لا أدري من هو!
وقال الخطّابي : مجهول.
103 - ( ع ) زهير بن محمّد التميمي المروزي (2) :
ن : قال ابن عبد البرّ : ضعيف عند الجميع.
[ يب : ] (3) وقال ابن حبّان : يخطئ ويخالف.
104 - ( ع ) زهير بن معاوية ، أبو خيثمة الكوفي الجعفي (4) :
يب : عاب عليه بعضهم أنّه كان ممّن يحرس خشبة زيد بن عليّ علیه السلام لمّا صلب.
105 - ( ع ) زياد بن جبير بن حيّة الثقفي البصري (5) :
يب : روى ابن أبي شيبة ، قال : كان يقع في الحسن والحسين علیهماالسلام !
ص: 126
106 - ( خ م ت ق ) زياد بن عبد اللّه بن الطفيل البكّائي العامري (1) : ضعّفه ابن المديني وقال : كتبت عنه وتركته.
يب : قال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.
107 - ( ع ) زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي ، ابن أخي قطبة (2) :
يب : قال الأزدي : سيّئ المذهب ، كان منحرفا عن أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
108 - ( ت ق ) زيد بن جبيرة ، أبو جبيرة الأنصاري (3) :
قال ( خ ) : متروك (4).
وقال أبو حاتم : لا يكتب حديثه.
يب : قال الأزدي : متروك.
وقال ابن عبد البرّ : أجمعوا على أنّه ضعيف.
109 - ( س ق ) زيد بن حبّان الرقّي (5) :
قال ابن معين : لا شيء.
ص: 127
وقال أحمد : ترك حديثه.
110 - ( 4 ) زيد بن الحواري ، أبو الحواري ، مولى زياد بن أبيه ، قاضي هراة (1) :
قال ابن معين : لا شيء.
يب : قال العجلي : ليس بشيء.
وقال ابن حبّان : يروي عن أنس أشياء موضوعة [ لا أصول لها ، حتّى يسبق إلى القلب أنّه المتعمّد لها ].
* * *
ص: 128
111 - ( ع ) سالم بن أبي الجعد رافع (1) :
ن : يدلّس [ ويرسل ].
قال أحمد : لم يسمع من ثوبان ولم يلقه (2).
أقول :
ذكروا من نحو هذا كثيرا! (3).
112 - ( خ د س ق ) سالم بن عجلان الأفطس الأموي ، مولاهم ، الجزري الحرّاني (4) :
قال ابن حبّان : يتفرّد بالمعضلات عن الثقات ، ويقلب الأخبار ، اتّهم بأمر سوء فقتل صبرا.
يب : قال السعدي : كان يخاصم في الإرجاء ، داعية.
ص: 129
ن : قال الفسوي : مرجئ معاند.
113 - ( ق ) السريّ [ بن ] إسماعيل ، ابن عمّ الشعبي (1) :
قال القطّان : استبان لي كذبه في مجلس.
وقال أحمد : ترك الناس حديثه.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) : متروك (2).
114 - ( ت ق ) سعد بن طريف الإسكاف الحنظلي الكوفي (3) :
قال ابن معين : لا يحلّ لأحد أن يروي عنه.
وقال الدارقطني : متروك (4).
وقال ابن حبّان : يضع الحديث.
يب : قال ( س ) والأزدي : متروك [ الحديث ].
115 - ( د س ت ) سعد بن عثمان الرازي الدشتكي (5) :
ن : لا يدرى من هو؟!
ص: 130
116 - ( 4 ) (1) سعيد بن حيّان التيمي ، من تيم الرباب (2) : ن : لا يكاد يعرف.
يب : قال ابن القطّان : مجهول.
117 - ( م د ت ق ) سعيد بن زيد بن درهم ، أخو حمّاد (3) :
قال السعدي : يضعّفون حديثه.
يب : قال يحيى بن سعيد : ضعيف جدّا.
وقال أيضا : ليس بشيء.
119 - ( ع ) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري (1) : ن : متّفق عليه ، مع أنّه كان يدلّس عن الضعفاء ... ولا عبرة بقول من قال : يدلّس ويكتب عن الكذّابين!
يب : قال ابن مبارك : حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلّسه ، فلمّا رآني استحيى وقال : نرويه عنك!
وقال ابن معين : مرسلات سفيان شبه الريح.
ومثله عن ( د ) ، قال : ولو كان عنده شيء لصاح به.
روى الذهبي في « تذكرة الحفّاظ » بترجمة سفيان ، عن الفريابي ، قال : « سمعت سفيان يقول : لو أردنا أن نحدّثكم بالحديث كما سمعناه ما حدّثناكم بحديث واحد »! (2).
فليت شعري كيف مع هذا يقولون : هو أمير المؤمنين في الحديث؟! (3).
وذكر في « تذكرة الحفّاظ » أنّ القطّان قال في حقّه : « سفيان فوق مالك في كلّ شيء » (4).
ص: 132
وأنّ الأوزاعي قال : « لم يبق من تجتمع عليه الأمّة بالرضا والصحّة إلّا سفيان »(1).
ولا غرو أن يسمّوه أمير المؤمنين في الحديث ، إذا كان أمير المؤمنين في وجوب الطاعة مثل معاوية ويزيد والوليد والرشيد وأشباههم!
وإذا كان هذا المدلّس - الذي لم يحدّث بحديث كما سمع - أعظم علمائهم وأوثقهم ، فما حال سائر رواتهم؟!
فتدبّر وتبصّر!
120 - ( ع ) سفيان بن عيينة الهلالي (2) :
قال يحيى بن سعيد : أشهد (3) أنّه اختلط سنة 197 ه ، فمن سمع منه فيها [ وبعدها ] (4) فسماعه لا شيء.
قال في ن : سمع منه فيها محمّد بن عاصم ، ويغلب على ظنّي أنّ سائر شيوخ الأئمّة الستّة سمعوا منه قبلها.
لو صدق في غلبة ظنّه ، فالظنّ لا يغني من الحقّ شيئا!
ص: 133
وفي ن : يدلّس.
وفي يب : أورد أبو سعد السمعاني بسند له قويّ إلى عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم ، قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : قلت لابن عيينة :
كنت تكتب الحديث ، وتحدّث اليوم ، وتزيد في إسناده ، وتنقص منه؟! فقال : عليك بالسماع الأوّل ، فإنّي قد سمنت (1)!
121 - ( ت ق ) سفيان بن وكيع بن الجرّاح (2) :
قال أبو زرعة : يتّهم بالكذب.
زاد في يب عنه : لا يشتغل به.
وفي يب : قال ( س ) : ليس بثقة.
وقال مرّة : ليس بشيء.
وقال الآجري : امتنع ( د ) من التحديث عنه.
وقال أبو حاتم : تركوه.
وقال ( س ) : لا يكتب حديثه.
123 - ( م 4 ) سلم بن عبد الرحمن النخعي الكوفي ، أخو حصين (1) :
ن : اتّهمه بعض الحفّاظ.
وقال إبراهيم النخعي : كذّاب (2).
124 - ( س ق ) سلمة بن الأزرق ، حجازي (3) :
ن : لا يعرف [ حديثه ].
يب : قال ابن القّطان : لا يعرف حاله ، ولا أعرف أحدا من المصنّفين في كتب الرجال ذكره.
يب : قال أحمد : ليس بشيء.
وقال ( س ) : لا يكتب حديثه.
وقال ابن حبّان : يروي عن الثقات الموضوعات.
وقال أبو حاتم و ( ت ) وابن خراش وأبو أحمد الحاكم وغير واحد :
متروك [ الحديث ].
126 - ( م 4 ) سليمان بن داود ، أبو داود الطيالسي البصري ، الحافظ (1):
قال إبراهيم بن سعيد الجوهري : أخطأ في ألف حديث.
ن : قال محمّد بن منهال الضرير : كنت أتّهم أبا داود ، قال لي : لم أسمع من ابن عون ؛ ثمّ سألته بعد سنة : أسمعت من ابن عون؟ قال : نعم ، نحو عشرين حديثا!
ونحوه في يب.
وفي الكتابين : قال محمّد بن منهال : قال يزيد بن زريع (2) : حدّثت بحديثين أبا داود [ عن شعبة ] فكتبهما عنّي ، ثمّ حدّث بهما عن شعبة.
قال في ن : دلّسهما عنه ، فكان ماذا؟! (3).
ص: 136
كان الكذب والخيانة ، وعدم الثقة والأمانة!!
127 - ( ع ) سليمان بن طرخان ، أبو المعتمر البصري (1) :
يب : قال ابن معين : يدلّس.
وقال يحيى بن سعيد : مرسلاته شبه لا شيء.
وقال : ما روى عن الحسن وابن سيرين [ صالح إذا قال : « سمعت » أو : « حدّثنا » ].
وقال ابن المبارك : لم يسمع من أبي العالية.
وقال أبو زرعة : لم يسمع من عكرمة.
وقال النهدي : لم يسمع من نافع ، ولا [ من ] عطاء.
ن : قيل : إنّه كان يدلّس عن الحسن وغيره ما لم يسمعه.
128 - ( س ت ) سمرة بن سهم (2) :
قال ابن المديني : مجهول.
ن : لا يعرف ، فلا حجّة في من ليس بمعروف العدالة ، ولا انتفت عنه الجهالة.
ص: 137
129 - ( ع ) سهيل بن أبي صالح ، ذكوان السمّان ، أبو يزيد المدني (1) : قال ابن معين : لم يزل أصحاب الحديث يتّقون حديثه.
يب : ذكره الحاكم في من عيب على مسلم إخراج حديثه.
130 - ( م ق ) سويد بن سعيد ، أبو محمّد الهروي الحدثاني الأنباري (2) :
قال أبو حاتم : كثير التدليس.
ن : روى ابن الجوزي أنّ أحمد قال : متروك [ الحديث ].
وأمّا ابن معين : فكذّبه وسبّه.
وروى ( ت ) عن ( خ ) : ضعيف جدّا.
يب : قال ( س ) : ليس بثقة ولا مأمون.
وقال ابن المديني : ليس بشيء.
وفي ن ويب : قال إبراهيم بن أبي طالب لمسلم : كيف استجزت الرواية عنه؟! فقال : ومن أين [ كنت ] آتي بنسخة حفص بن ميسرة؟!
ص: 138
131 - ( ت ق ) سويد بن عبد العزيز ، الواسطي أصلا ، القاضي (1) : قال أحمد : متروك (2).
وقال ( س ) : ليس بثقة.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
ن : واه جدّا ولا كرامة.
يب : قال ابن معين مرّة : ليس بثقة.
ومرّة : لا يجوز في الضحايا.
وضعّفه ابن حبّان جدّا.
132 - ( ت ) سيف بن محمّد الثوري (3) :
قال أحمد : كذّاب.
وقال ابن معين : كذّاب خبيث.
وقال الدارقطني : متروك.
يب : قال ( د ) : كذّاب.
وقال الساجي : يضع الحديث.
وقال ( خ ) : ذاهب الحديث.
ص: 139
133 - ( ت ق ) سيف بن هارون ، أبو الورقاء (1) : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال الدارقطني : متروك.
وقال ابن حبّان : يروي عن الأثبات الموضوعات.
يب : قال ( د ) : ليس بشيء.
* * *
ص: 140
134 - ( ع ) شبابة بن سوّار المدائني ، قيل : اسمه مروان (1) :
قال أحمد : تركته للإرجاء ، وكان داعية له.
يب : قال محمّد بن أحمد بن أبي الثلج : حدّثني أبو عليّ بن سختي المدائني ، حدّثني رجل معروف من أهل المدائن ، قال : رأيت في المنام رجلا نظيف الثوب ، حسن الهيئة ... فقال لي : إنّي أدعو اللّه ، فأمّن على دعائي : « اللّهمّ إن [ كان ] شبابة يبغض أهل بيت (2) نبيّك صلی اللّه علیه و آله فاضربه الساعة بفالج ».
قال : فانتبهت وجئت المدائن وقت الظهر ؛ وإذا الناس في هرج ...
فقالوا : فلج شبابة في السحر ومات الساعة.
135 - ( د س ) شبث بن ربعي التميمي اليربوعي (3) :
قال شبث : أنا أوّل من حزّب الحرورية.
ص: 141
يب : قال العجلي : كان أوّل من أعان على [ قتل ] عثمان ، وأعان على قتل الحسين علیه السلام [ وبئس الرجل هو ].
وقال الدارقطني : يقال إنّه كان مؤذّن سجاح(1).
وقال ابن الكلبي : كان من أصحاب عليّ علیه السلام ، ثمّ صار من(2) الخوارج ، ثمّ تاب ورجع ، ثمّ حضر قتل الحسين علیه السلام !
136 - ( د س ) شبيب بن عبد الملك التميمي البصري(3) :
ن : لا يعرف.
ص: 142
137 - ( د س ) شريق الهوزني الحمصي (1) :
ن : لا يعرف.
يب : ما كان يحيى يحدّث عنه (1).
وقال ابن عديّ : ضعيف جدّا.
وقال ابن حزم : ساقط.
وقال الساجي : كان شعبة يشهد عليه أنّه رافق رجلا فخانه.
وقال عبّاد بن منصور : سرق عيبتي (2).
وفي ن ويب : كان على بيت المال فأخذ خريطة (3) فيها دراهم - ولفط ن : فأخذ منه دراهم - فقال القائل (4) [ من الطويل ] :
لقد باع شهر دينه بخريطة
فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر؟!
* * *
ص: 144
141 - ( د ت ) صالح بن بشير ، أبو بشر المرّي البصري ، القاصّ الواعظ (1) :
قال ( س ) : متروك (2).
يب : قال ابن معين : ليس بشيء ؛ وكلّ ما حدّث به عن ثابت باطل.
وضعّفه ابن المديني جدّا ، وقال : ليس بشيء ، ضعيف ضعيف.
وقال ( د ) : لا يكتب حديثه.
وقال أبو نعيم : متروك.
وقال الخطيب : أجمعوا على ضعفه.
وقال ابن حبّان : كان صاحب قينات وسماع ، و [ كان ] ممّن يروي الموضوعات عن الأثبات.
146 - ( د ت ق ) صالح بن نبهان ، مولى التّوأمة (1) : قال القطّان ومالك : ليس بثقة.
وقال ابن حبّان : استحقّ الترك.
يب : قال ابن عيينة : ما علمت أحدا من أصحابنا يحدّث عنه.
وقال ابن سعد : رأيتهم يهابون حديثه.
147 - ( ت س ق ) صدقة بن عبد اللّه السمين ، أبو معاوية الدمشقي (2) :
يب : قال أحمد مرّة : ليس يسوي شيئا.
وقال مرّة : ليس بشيء.
وقال الدارقطني : متروك.
يب : قال الفلّاس وأبو أحمد الحاكم وعليّ بن الجنيد : متروك (1).
وقال ( س ) : ليس بثقة (2).
وقال ابن معين (3) وابن سعد ويعقوب بن سفيان : ليس بشيء.
وقال عبد اللّه بن أحمد : نهاني أبي أن أكتب عنه (4).
وقال ابن حبّان : كان الثوري إذا حدّث عنه يقول : « حدّثنا أبو شعيب » ولا يسمّيه ، وكان ينتقص عليّا علیه السلام وينال منه.
ن : قال شعبة : إذا حدّثكم سفيان عن رجل لا تعرفونه فلا تقبلوا منه ، فإنّما يحدّثكم عن مثل أبي شعيب المجنون.
* * *
ص: 148
149 - ( 4 ) الضحّاك بن مزاحم ، المفسّر (1) :
قال يحيى بن سعيد : كان ضعيفا عندنا.
وقال شعبة : قلت لمشاش : سمع الضحّاك من ابن عبّاس؟ قال :
ما رآه [ قطّ ].
وقال ابن عديّ : عرف بالتفسير ، فأمّا روايته عن ابن عبّاس وأبي هريرة وجميع من روى عنه ففي ذلك كلّه نظر.
يب : كان شعبة لا يحدّث عنه.
ن : يروى أنّه حملت به أمّه عامين! (2).
* * *
ص: 149
ص: 150
150 - ( م د ) طارق بن عمرو المكّي ، القاضي ، مولى عثمان ، ووالي عبد الملك على المدينة (1) :
يب : قال أبو الفرج الأموي : كان طارق من ولاة الجور.
وقال عمر بن عبد العزيز - لمّا ذكره والحجّاج وقرّة بن شريك ، وكانوا إذ ذاك ولاة الأمصار - : امتلأت الأرض جورا (2).
وذكر الواقدي بسنده : أنّ عبد الملك جهّز طارقا في ستّة آلاف إلى قتال من بالمدينة من جهة ابن الزبير ، فقصد خيبر فقتل بها ستّمائة (3).
ص: 151
151 - ( ت ق ) (1) طريف بن شهاب السعدي ، الأشلّ ، أبو سفيان البصري (2) : قال ( س ) : متروك (3).
وقال أحمد : ليس بشيء.
يب : قال أحمد : لا يكتب حديثه.
وقال ( س ) : ليس بثقة.
وقال ( د ) : ليس بشيء.
152 - ( ق ) طلحة بن زيد القرشي (4) :
قال ( س ) : متروك.
وقال صالح جزرة : لا يكتب حديثه.
ن : قال ابن المديني : سيّئ ، يضع الحديث.
ص: 152
يب : قال أحمد و ( د ) : يضع الحديث.
وقال أبو نعيم : لا شيء.
153 - ( ق ) طلحة بن عمرو الحضرمي ، صاحب عطاء (1) :
قال أحمد و ( س ) : متروك [ الحديث ].
وقال ( خ ) وابن المديني : ليس بشيء.
يب : قال ابن معين وأحمد : لا شيء (2).
وقال عليّ بن الجنيد : متروك.
وقال ابن حبّان : لا يحلّ كتب حديثه ولا الرواية عنه إلّا على جهة التعجّب.
154 - ( ع ) طلحة بن مصرّف الهمداني اليامي الكوفي (3) :
يب : قال العجلي : كان عثمانيّا.
وقال ابن أبي حاتم : قيل لابن معين : سمع طلحة من أنس؟ قال : لا.
155 - ( ع ) طلحة بن نافع ، أبو سفيان الواسطي ، ويقال : المكّي الإسكاف (4) :
قال ابن معين : لا شيء.
ص: 153
وقال شعبة وابن عيينة : حديثه عن جابر [ إنّما هي ] صحيفة.
ن : قال ابن المديني ، كانوا يضعّفونه في حديثه.
156 - ( خ م د س ق ) طلحة بن يحيى بن النعمان الزرقي الأنصاري (1) :
قال يعقوب بن شيبة : ضعيف جدّا.
ومنهم من قال : لا يكتب حديثه.
* * *
ص: 154
157 - ( ع ) عاصم بن بهدلة ، وهو : ابن أبي النجود الكوفي ، أبو بكر ، أحد القرّاء السبعة (1) :
قال أبو حاتم : ليس محلّه أن يقال ثقة.
يب : قال العجلي : كان عثمانيّا.
وقال ( د ) : لا يكتب حديثه.
159 - ( ت ق ) عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب (1) :
ن : قال ( س ) : متروك.
يب : قال ( ت ) مرّة : ليس بثقة.
وأخرى : متروك.
161 - ( م د س ) عبّاد بن زياد بن أبيه ، ولي لمعاوية سجستان (1) : قال ابن المديني : مجهول.
162 - ( د ق ) عبّاد بن كثير الثقفي البصري ، العابد ، المجاور بمكّة (2) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال : لا يكتب حديثه.
وقال ( خ ) : تركوه.
وقال ( س ) : متروك (3).
يب : قال أحمد : روى أحاديث كذب لم يسمعها.
وقال أبو زرعة : لا يكتب حديثه.
وقال البرقي : ليس بثقة.
وكذّبه الثوري.
ص: 157
وقال أحمد : يدلّس.
ن : قال ابن الجنيد : متروك.
وقال الساجي : مدلّس.
يب : قال ابن سعد : ضعيف عندهم.
164 - ( د ت ) عبد اللّه بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري (1) :
نسبه ابن حبّان إلى أنّه يضع الحديث.
وقال الحاكم : روى عن جماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة.
وقال ابن عديّ : عامّة ما يرويه لا يتابع عليه.
165 - ( س ق ) عبد اللّه بن بشر الرقّي ، قاضيها (2) :
يب : ذكر الساجي عن ابن معين أنّه قال : كذّاب ، لم يبق حديث منكر رواه أحد من المسلمين إلّا [ وقد ] رواه عن الأعمش.
وقال ابن حبّان : يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات.
166 - ( ت ق ) عبد اللّه بن جعفر بن نجيح ، والد عليّ بن المديني (3) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
ص: 159
وقال ( س ) : متروك [ الحديث ].
يب : كان وكيع إذا أتى على حديثه قال : جز عليه.
وقال ابن معين : ما كنت أكتب من حديثه شيئا بعد أن تبيّنت أمره.
ن : متّفق على ضعفه.
167 - ( ق ) عبد اللّه بن خراش (1) :
قال أبو زرعة : ليس بشيء.
وقال أبو حاتم : ذاهب الحديث.
يب : قال الساجي : ليس بشيء ، كان يضع الحديث.
وقال محمّد بن عمّار الموصلي : كذّاب.
168 - ( ع ) عبد اللّه بن ذكوان ، المعروف بأبي الزناد (2) :
ن : قال ربيعة : ليس بثقة ولا رضيّ.
وقال ابن عيينة : جلست إلى إسماعيل بن محمّد بن سعيد ، فقلت :
حدّثنا أبو الزناد ، فأخذ كفّا من حصى يحصبني به.
وقال ابن معين : قال مالك : كان أبو الزناد كاتب هؤلاء - يعني بني أميّة - ؛ وكان لا يرضاه [ يعني لذلك ].
ص: 160
وقيل لمالك عن حديث أبي الزناد ، بأنّ اللّه خلق آدم على صورته! فقال : لم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتّى مات ، وكان صاحب عمّال يتبعهم.
169 - ( ع ) عبد اللّه بن زيد بن أسلم العدوي ، مولى عمر (1) :
ن : مدلّس ، كان له صحف يحدّث منها ويدلّس.
يب : قال ابن معين : أولاد زيد ثلاثتهم حديثهم ليس بشيء.
وقال العجلي : كان يحمل على عليّ علیه السلام .
ص: 161
فهل لهذا قال ( خ ) : « رجل صالح »؟! وقال ابن سيرين : « ذاك أخي حقّا »؟! كما في يب (1).
170 - ( خ د س ) عبد اللّه بن سالم الأشعري الحمصي (2) :
قال ( د ) : كان يقول : أعان عليّ على قتل أبي بكر وعمر ؛ وجعل ( د ) يذمّه.
قال في ن : يعني ( في النصب ) (3).
إن صدق في قوله ، فكيف يوالون الشيخين بعد : شهادة اللّه تعالى لعليّ علیه السلام بالطهارة (4) ..
ص: 162
ص: 163
وقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ، يدور معه حيثما دار » (1)؟!
ص: 164
وإن كذب في قوله ، فكيف يعتمدون على روايات هذا المنافق الكاذب بهذا الكذب؟!
171 - ( ت ق ) عبد اللّه بن سعيد بن كيسان المقبري (1) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( خ ) : تركوه.
وقال الفلّاس وأحمد : متروك (2).
وقال الدارقطني : متروك ، ذاهب (3).
يب : قال ابن معين : لا يكتب حديثه.
وقال ( س ) : ليس بثقة ، تركه يحيى وعبد الرحمن.
وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب [ الحديث ]. 172 - ( م 4 ) عبد اللّه بن شقيق العقيلي البصري (4) :
قال القطّان : كان سليمان التيمي سيّئ الرأي فيه.
ص: 165
وقال ابن خراش : كان ثقة ، وكان ( عثمانيّا ) (1) يبغض عليّا علیه السلام !
يب : قال ابن سعد : كان عثمانيّا ، ثقة.
قال أحمد والعجلي (2) : ثقة ، وكان يحمل على عليّ علیه السلام !
من العجب دعوى وثاقة المنافق ، وقد قال تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ... ) (3)!
وأعجب منه ما في يب عن الجريري : كان مجاب الدعوة ، كانت تمرّ به السحابة فيقول ، اللّهمّ لا تجوز كذا وكذا حتّى تمطر ، فلا تجوز ذلك الموضع حتّى تمطر (4).
إذ كيف يمكن أن يكون المنافق - الذي هو أتعس من الكافر - مجاب الدعوة؟! ولا سيّما بهذه الإجابة السريعة التي لا تتخطّى إرادة الداعي ، وهي لا تكون إلّا للأنبياء وأوصيائهم!
173 - ( خ د ت ق ) عبد اللّه بن صالح بن محمّد بن مسلم ، أبو صالح المصري ، كاتب الليث (5) :
قال صالح جزرة : هو عندي يكذب في الحديث.
ص: 166
وقال أحمد بن صالح : متّهم ، ليس بشيء.
وقال ( س ) : ليس بثقة ؛ حدّث بحديث : « إنّ اللّه اختار أصحابي على العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار من أصحابي أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّا علیه السلام » وهو موضوع.
وقال أحمد بن حنبل : روى عن الليث عن [ ابن ] أبي ذئب (1) ، وما سمع الليث من [ ابن ] أبي ذئب (2).
زاد في يب : عن أحمد : ليس بشيء ، وذمّه وكرهه.
وفي يب : قال الحاكم أبو أحمد : ذاهب الحديث.
ن : قال ابن المديني : لا أروي عنه شيئا (3).
وروى عنه ( خ ) في « الصحيح » على الصحيح ، ولكنّه يدلّسه فيقول : « حدّثني عبد اللّه » ولا ينسبه [ وهو هو ]!
وفي يب ما يستلزم ذلك (4).
وفيه أيضا أنّ ( خ ) صرّح في ( البيوع ) من صحيحه بقوله :
« حدّثني (5) عبد اللّه بن صالح ، [ قال : ] حدّثني الليث [ بهذا ] » في عدّة نسخ ، عقيب ما ذكر حديث الرجل من بني إسرائيل الذي استسلف من آخر ألف دينار (6).
ص: 167
174 - ( ع ) عبد اللّه بن طاووس بن كيسان اليماني (1) : يب : ذكره ابن حبّان في « الثقات » وقال : « كان من خير عباد اللّه فضلا ونسكا ودينا » (2).
وتكلّم فيه بعض الرافضة (3).
ثمّ قال : وكان على خاتم سليمان بن عبد الملك ، وكان كثير الحمل على أهل البيت!
أقول :
لا ريب أنّه لم يقل : « كان من خير عباد اللّه ... دينا » إلّا لأنّه على مثل دينه!
ولم يمدحه بهذا جهرا إلّا لعلمه بأنّ أصحابه على شاكلته ، ولذا احتجّوا به في صحاحهم!
وما أدري كيف يكون من خيار عباد اللّه فضلا ونسكا ، وهو منابذ للثقلين ، ومتمسّك بالشجرة الملعونة في القرآن (4) ، وركن من أركان الظلم
ص: 168
والجور؟!
175 - ( خ ) عبد اللّه بن عبيدة بن نشيط ، أخو موسى (1) :
قال أحمد : لا يشتغل به.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
176 - ( س ) عبد اللّه بن عصمة الجشمي (2) :
يب : قال ابن حزم : متروك.
وقال عبد الحقّ : ضعيف جدّا.
وقال ابن القطّان : مجهول [ الحال ].
177 - ( م 4 ) عبد اللّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب(3):
كان يحيى القطّان لا يحدّث عنه.
ص: 169
وقال ابن حبّان : استحقّ الترك.
يب : قال أحمد وابن شيبة : يزيد في الأسانيد.
وقال ( خ ) : ذاهب ، ولا أروي عنه شيئا.
178 - ( ت ) (1) عبد اللّه بن عيسى الخزّاز ، أبو خلف البصري (2) :
قال ( س ) : ليس بثقة.
يب : قال ابن القطّان : لا أعلم له موثّقا.
179 - ( م د ت ق ) عبد اللّه بن لهيعة بن عقبة الحضرمي المصري ، قاضيها (3) :
كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئا.
وقال ابن حبّان : يدلّس عن الضعفاء.
يب : قال ابن مهدي : لا أحمل عنه شيئا (4).
وقال ( س ) : ليس بثقة.
وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث.
ص: 170
ن : قال ابن سعيد : قال لي بشر بن السريّ : لو رأيت ابن لهيعة لم تحمل عنه حرفا (1).
182 - ( ق ) عبد اللّه بن محمّد العدوي (1) : قال وكيع : يضع الحديث.
يب : قال الدارقطني : متروك.
وقال ابن عبد البرّ : جماعة أهل العلم [ بالحديث ] يقولون : إنّ [ هذا ] الحديث - [ يعني ] الذي أخرجه له ابن ماجة - من وضعه ، وهو موسوم عندهم بالكذب.
183 - ( ت ق ) عبد اللّه بن مسلم بن هرمز المكّي (2) :
ن : قال ابن المديني : ضعيف ضعيف.
يب : قال أحمد والفلّاس : ليس بشيء.
وقال ابن حبّان : يجب تنكّب روايته.
184 - ( 4 ) عبد الأعلى بن عامر الثعلبي الكوفي (3) :
يب : قال العقيلي : تركه ابن مهدي والقطّان.
وقال أبو عليّ الكرابيسي : من أوهى الناس.
ص: 172
185 - ( ت ق ) عبد الجبّار بن عمر الأيلي الأموي ، مولاهم (1) : قال ( س ) : ليس بثقة.
ووهّاه أبو زرعة.
يب : قال يحيى : ليس بشيء.
وقال ( د ) : غير ثقة.
وقال الدارقطني : متروك.
186 - ( م د ) عبد الرحمن بن آدم البصري ، المعروف بصاحب السقاية ، مولى أمّ برثن (2) :
يب : قال الدارقطني : نسب إلى آدم أبي البشر ، ولم يكن له أب يعرف!
وقال المدائني : استعمله عبيد اللّه بن زياد ، ثمّ عزله وأغرمه مائة ألف ، ثمّ رحل إلى يزيد بن معاوية ، فكتب إلى عبيد اللّه أن يخلف له ما أخذ منه ...
و [ كان ] من شأنه ... أنّ أمّ برثن ... أصابت غلاما لقطة ، فربّته حتّى أدرك وسمّته عبد الرحمن ، فكلّمت نساء عبيد اللّه ابن زياد فكلّمنه فيه [ فولّاه ] ، فكان يقال له : [ عبد الرحمن ] ابن أمّ برثن.
ص: 173
هكذا فلتكن الرواة الثقات! طيّبة الأعراق! من عمّال الظلمة الفسّاق!
187 - ( ت (1) ق ) عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة (2) :
قال ( س ) : متروك (3).
[ يب : ] (4) وقال ابن خراش : ليس بشيء.
ن : قال ( خ ) : ذاهب الحديث.
188 - ( 4 ) عبد الرحمن بن أبي الزناد ، أبو محمّد المدني (5) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
يب : قال الفلّاس : تركه عبد الرحمن وخطّ على حديثه.
وقال ابن المديني : كان عند أصحابنا ضعيفا.
ص: 174
189 - ( د ت ق ) عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، القاضي الإفريقي (1) : قال أحمد : ليس بشيء ، ( لا نروي عنه شيئا ) (2).
وقال ابن مهدي : ما ينبغي أن يروى عنه حديث.
وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الثقات ، ويدلّس عن محمّد بن سعيد المصلوب.
يب : قال ابن خراش : متروك.
وقال الغلابي : يضعّفونه.
190 - ( ت ق ) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي ، مولاهم (3) :
ضعّفه ابن المديني جدّا.
وقال ابن معين : ليس بشيء (4).
يب : قال ( د ) : لا أحدّث عنه.
وقال الشافعي : ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا ، فقال : اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدّثك عن أبيه عن نوح! (5).
ص: 175
وقال ابن حبّان : استحقّ الترك.
وقال ابن سعد : ضعيف جدّا.
وقال الحاكم وأبو نعيم : روى عن أبيه أحاديث موضوعة.
وقال ابن الجوزي : أجمعوا على ضعفه.
191 - ( ق ) عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب (1) :
قال أحمد : كان كذّابا.
وقال ( س ) : متروك (2).
يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال أبو حاتم : يكذب.
وقال أبو زرعة والدارقطني : متروك (3).
وقال ( س ) و ( د ) : لا يكتب حديثه.
192 - ( د ق ) عبد الرحمن بن عثمان ، أبو بحر البكراوي البصري (4) :
قال أحمد : طرح الناس حديثه.
ص: 176
وقال ابن المديني : لا أحدّث عنه.
يب : قال ( د ) : تركوا حديثه.
193 - ( ع ) عبد الرحمن بن محمّد بن زياد المحاربي ، أبو محمّد الكوفي (1) :
قال أحمد : يدلّس.
يب : قال العجلي : يدلّس ، أنكر أحمد حديثه عن معمر.
194 - ( د ) (2) عبد الرحمن بن النعمان بن معبد (3) :
يب : قال ابن المديني : مجهول.
وقال الدارقطني : متروك.
195 - ( د ق ) عبد الرحمن بن هانئ ، أبو نعيم النخعي (4) :
قال أحمد : ليس بشيء.
وقال ابن معين : كذّاب.
ص: 177
196 - ( س ق ) عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الدمشقي (1) : قال ( س ) : متروك [ الحديث ].
قال في ن : هذا عجيب! إذ يروي له ويقول : متروك!
يب : قال أحمد : أخبرت عن مروان عن الوليد أنّه قال : لا ترو عنه فإنّه كذّاب.
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة.
وقال ( د ) والدارقطني : متروك (2).
198 - ( ق ) عبد الرحيم بن زيد (1) : قال ( خ ) : تركوه.
وقال ابن معين : كذّاب.
[ يب : ] (2) وقال ( س ) : متروك [ الحديث ].
199 - ( ت ) عبد العزيز بن أبان الأموي (3) :
قال ( خ ) : تركوه.
يب : قال ( س ) : متروك [ الحديث ].
وقال ابن معين : كان واللّه كذّابا.
وقال ابن حزم : متّفق على ضعفه.
وقال يعقوب بن شيبة : هو عند أصحابنا جميعا متروك.
ص: 179
200 - ( ع ) عبد العزيز بن المختار الدبّاغ البصري (1) : يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
ومثله في ن عن أحمد بن زهير.
201 - ( م س ت ق ) عبد الكريم بن أبي المخارق ، أبو أميّة ، المعلّم البصري (2) :
قال ( س ) والدارقطني : متروك.
وقال ابن عبد البرّ : مجمع على ضعفه.
ن : قال يحيى : ليس بشيء.
وقال أحمد : ضربت على حديثه.
يب : قال أيّوب : لا تحملوا عنه فإنّه ليس بثقة (3).
وقال الفلّاس : سألت عبد الرحمن عن حديث من حديثه ، فقال : دعه!
فلمّا قام ظننت أنّه يحدّثني به (4) ، فسألته ، فقال : أين التقوى؟!
ص: 180
وكان أبو العالية - إذا سافر عبد الكريم - يقول : اللّهمّ لا تردّه علينا!
202 - ( ع ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي ، مولاهم (1) :
ن : يدلّس.
يب : قال يحيى بن سعيد : إذا قال : « قال » فهو شبه الريح.
وقال أيضا : حديثه عن عطاء لا شيء كلّه.
وقال ابن حبّان : يدلّس.
وقال الدارقطني : تجنّب تدليسه ، فهو قبيح [ التدليس ] ، لا يدلّس إلّا في ما سمعه من مجروح.
203 - ( ع ) عبد الملك بن عمير اللخمي ، قاضي الكوفة (2) :
ضعّفه أحمد جدّا.
ص: 181
وقال ابن معين : مخلّط.
يب : قال ابن حبّان : كان مدلّسا.
204 - ( س ) عبد الملك بن نافع الشيباني (1) :
ن : مجهول.
قال يحيى : يضعّفونه.
يب : قال أبو حاتم : لا يكتب حديثه.
وقال ابن معين : لا شيء.
وقال : كان خمّارا.
205 - ( ع ) عبد الواحد بن زياد ، أبو بشر العبدي ، وقيل : أبو عبيدة (2) :
قال ( د ) : عمد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها.
ن : قال يحيى : ليس بشيء.
وقال القطّان : ما رأيته يطلب حديثا بالبصرة ولا بالكوفة [ قطّ ] وكنت أذاكره حديث الأعمش لا يعرف منه حرفا (3).
ص: 182
206 - ( ق ) عبد الوهّاب بن الضحّاك (1) : قال ( س ) : متروك.
ن : كذّبه أبو حاتم.
يب : قال ( د ) : يضع الحديث.
وقال صالح جزرة : عامّة حديثه كذب.
207 - ( م 4 ) عبد الوهّاب بن عطاء الخفّاف ، أبو نصر (2) :
ن : قال ابن الجوزي : في كتاب « الموضوعات » (3) : « قال الرازي : كان يكذب.
وقال [ العقيلي و ] (4) ( س ) : متروك [ الحديث ] (5) » (6).
يب : قال ( خ ) : يدلّس عن ثور وأقوام [ أحاديث ] مناكير.
ص: 183
208 - ( ق ) عبد الوهّاب بن مجاهد (1) : يب : قال ابن معين وابن المديني : لا يكتب حديثه ، وليس بشيء.
وقال الأزدي : لا تحلّ الرواية عنه.
وقال الحاكم : روى أحاديث موضوعة.
وقال ابن الجوزي : أجمعوا على ضعفه (2).
209 - ( 4 ) عبيد اللّه بن زحر (3) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الأثبات.
وقال أبو مسهر : صاحب كلّ معضلة.
210 - ( د ت ق ) عبيد اللّه بن عبد اللّه بن موهب ، أبو يحيى التيمي (4) :
قال أحمد : لا يعرف.
يب : قال الشافعي : لا نعرفه.
وقال ابن القطّان : مجهول الحال.
ص: 184
211 - ( ت ق ) عبيد اللّه بن الوليد الوصّافي ، أبو إسماعيل الكوفي (1) : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) والفلّاس : متروك (2).
يب : قال ( س ) مرّة : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال الساجي وابن عديّ : ضعيف جدّا (3).
وقال الحاكم : روى عن محارب أحاديث موضوعة.
وقال أبو نعيم : لا شيء.
212 - ( ق ) عبيد بن القاسم (4) :
قال ( خ ) : ليس بشيء.
وقال ابن معين : كذّاب.
وقال صالح جزرة : كذّاب ، يضع الحديث.
وقال ( د ) : يضع الحديث.
وقال ( س ) : متروك [ الحديث ].
ص: 185
213 - ( د ت ق ) عبيدة بن معتّب الضبّي ، أبو عبد الكريم الكوفي (1) : قال أحمد : تركوا حديثه.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
يب : نهى يحيى عن كتابة حديثه.
وذكره ابن المبارك فيمن يترك حديثه.
وقال الفلّاس : متروك [ الحديث ].
214 - ( خ د س ت ) عتّاب بن بشير الجزري ، مولى بني أميّة (2) :
ن : قال ابن المديني : أصحابنا يضعّفونه.
وقال : ضربنا على حديثه.
يب : قال ( د ) : سمعت أحمد يقول : تركه ابن مهدي بآخره.
قال : ورأيت أحمد كفّ عن حديثه.
215 - ( م ق ) عثمان بن حيّان بن معبد ، أبو المغراء الدمشقي ، مولى أمّ الدرداء (3) :
يب : قال مالك : بعث ابن حيّان - وهو أمير المدينة - إلى محمّد بن
ص: 186
المنكدر وأصحابه فضربهم ، لما كان من كلامهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر! (1).
وقال ابن شوذب : قال عمر بن عبد العزيز : الوليد بالشام ، والحجّاج بالعراق ، ومحمّد بن يوسف باليمن ، وعثمان بن حيّان بالمدينة ، وقرّة بن شريك بمصر ؛ امتلأت واللّه الأرض جورا! (2).
216 - ( ع ) عثمان بن عاصم بن حصين ، أبو حصين الكوفي الأسدي (3) :
يب : قال الأعمش : يسمع منّي ثمّ يذهب فيرويه.
وقال وكيع : كان يقول : أنا أقرأ من الأعمش.
فقال الأعمش لرجل يقرأ عليه : إهمز « الحوت » (4) فهمزه.
فلمّا كان من الغد قرأ أبو حصين في الفجر نون فهمز الحوت (5).
فقال له الأعمش لمّا فرغ : [ أبا حصين! ] كسرت ظهر الحوت؟!
فقذفه أبو حصين!
ص: 187
فحلف الأعمش ليحدّنّه ، فكلّمه فيه بنو أسد ، فأبى ، فقال خمسون منهم : [ واللّه لنشهدنّ أنّ أمّه كما قال! ] (1) فغضب الأعمش وحلف أن لا يساكنهم [ وتحوّل عنهم ].
وقال العجلي : كان صاحب سنّة ، عثمانيّا ، رجلا صالحا!
لعلّ المبرّر لمدحه ووصفه بأنّه صاحب سنّة ، وبالصلاح - مع قذفه للمسلم الموجب لحدّه ، وعدم قبول روايته وشهادته - هو بغضه لإمام المتّقين ، ونفس النبيّ الأمين ، فانظر واعجب!
وفي التقريب : سنّيّ ، وربّما دلّس (2).
217 - ( ت ) عثمان بن عبد الرحمن [ بن عمر ] بن سعد بن أبي وقّاص (3) :
قال ( خ ) : تركوه.
وقال ابن معين : يكذب.
وقال ( س ) : متروك.
ص: 188
218 - ( د س ق ) عثمان بن عبد الرحمن بن مسلم الحرّاني المؤدّب (1) : قال ابن نمير : كذّاب.
يب : قال الأزدي : متروك.
وقال أحمد : لا أجيزه.
219 - ( د ت ق ) عثمان بن عمير ، أبو اليقظان الأعمى (2) :
قال ابن معين : ليس بشيء (3).
يب : قال الدارقطني : متروك.
وقال ابن عبد البرّ : كلّهم ضعّفه.
220 - ( ت ) عطاء بن عجلان البصري العطّار (4) :
قال ابن معين : ليس بشيء ، كذّاب ، كان يوضع له الحديث فيحدّث به.
وقال الفلّاس : كذّاب.
ص: 189
وقال أبو حاتم والدارقطني : متروك (1).
يب : قال الجوزجاني : كذّاب.
وقال ( ت ) : ضعيف ، ذاهب الحديث.
221 - ( م 4 ) عطاء بن أبي مسلم الخراساني (2) :
ذكره ( خ ) في « الضعفاء » ، ونقل عن سعيد بن المسيّب أنّه كذّبه ، فقال : كذب عليّ ، ما حدّثته [ هكذا ] (3).
ن : قال ( خ ) : لم أعرف رجلا يروي عنه مالك يستحقّ الترك غيره.
أقول : في التقريب : يهم كثيرا ، ويرسل ، ويدلّس (4).
222 - ( خ د س ) عطاء ، أبو الحسن السوائي (5) :
يب : ما وجدت له راويا غير الشيباني ، ولم أقف فيه على تعديل ولا تجريح ، وروايته عندهم عن ابن عبّاس غير مجزوم بها [ فيه ].
ص: 190
وقرأت بخطّ الذهبي : لا يعرف.
223 - ( د ت س ) عطاء العامري الطائفي ، والد يعلى (1) :
ن : لا يعرف إلّا بابنه.
يب : قال ابن القطّان : مجهول [ الحال ] ، ما روى عنه غير ابنه.
224 - ( ع ) عكرمة البربري ، مولى ابن عبّاس (2) :
كذّبه ابن المسيّب ، وابن عمر ، ويحيى بن سعيد.
وذكر عند أيّوب أنّه لا يحسن الصلاة ، فقال أيّوب : أو كان يصلّي؟!
وعن مطرّف : كان مالك يكره أن يذكره.
وقال أحمد : يرى رأي الصفرية.
وقال عطاء بن أبي رباح : كان إباضيا.
وقال مصعب الزبيري : يرى رأي الخوارج.
وقال يحيى بن بكير (3) : الخوارج الّذين بالمغرب عنه أخذوا.
ن : قال محمّد بن سيرين : كذّاب.
ص: 191
وقال حمّاد بن زيد في آخر يوم مات فيه. : أحدّثكم بحديث ما حدّثت به قطّ ، لأنّي أكره أن ألقى اللّه ولم أحدّث به ؛ سمعت أيّوب يحدّث عن عكرمة ، قال : إنّما أنزل اللّه متشابه القرآن ليضلّ به!
يب : قال ابن أبي ذئب (1) : غير ثقة (2).
وقال الشافعي : قال مالك : لا أرى لأحد أن يقبل حديثه.
وقال ابن معين : كان ينتحل مذهب الصفرية.
وقال يزيد بن أبي زياد : دخلت على عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس - وعكرمة مقيّد على باب الحشّ (3) - فقلت : ما لهذا؟! قال : إنّه يكذب على أبي.
ومثله في ن عن عبد اللّه بن الحارث.
.. إلى غير ذلك ممّا ذكروه في ترجمته (4).
ص: 192
أقول :
فمن العجب أنّ البخاري يروي في صحيحه عن هذا الكذّاب المنافق الداعية إلى المذهب السوء ، ولا يروي عن حجّة اللّه وابن حججه جعفر بن محمّد الصادق ، ولا عن أبنائه الطاهرين!!
وكذا باقي أرباب صحاحهم لم يرووا عن أكثر آل محمّد وثقله الأصغر ، ويروون عن هذا الرجس وأشباهه!! 225 - ( ق ) العلاء بن زيد (1) :
قال أبو حاتم والدارقطني : متروك (2).
وقال ابن المديني : يضع الحديث.
ص: 193
226 - ( ت ) العلاء بن مسلمة الروّاس (1) : قال الأزدي : لا تحلّ الرواية عنه.
وقال ابن طاهر : يضع الحديث.
وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الثقات.
228 - ( د ت ق ) عليّ بن عاصم بن صهيب الواسطي (1) : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال يزيد بن هارون : ما زلنا نعرفه بالكذب.
ن : قال ( س ) : متروك [ الحديث ].
يب : قال ابن معين مرّة : كذّاب ، ليس بشيء.
وقال ابن المديني : قال خالد : كذّاب فاحذروه.
وقال الدارقطني وابن المديني وأحمد : يغلط ويثبت على غلطه.
وقال ابن أبي خيثمة : قيل (2) لابن معين : إنّ أحمد يقول : إنّه ليس بكذّاب! قال : لا واللّه ما كان عنده قطّ ثقة ، ولا حدّث عنه بشيء ، فكيف صار اليوم عنده ثقة؟!
229 - ( خ د س ت ) عليّ بن عبد اللّه بن جعفر ، أبو الحسن ، ابن المديني البصري (3) :
قال المروزي : سمعت أحمد كذّبه.
ص: 195
يب : قيل لإبراهيم الحربي : أكان ابن المديني يتّهم بالكذب؟! فقال : لا ، إنّما حدّث بحديث فزاد فيه كلمة ليرضي بها ابن أبي دؤاد.
كيف يجتمع نفي التهمة عنه والإقرار بزيادته في الحديث عمدا؟!
فتأمّل!
230 - ( ق ) عليّ بن عروة (1) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال أبو حاتم : متروك الحديث.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث.
وكذّبه صالح جزرة.
231 - ( ت ) عليّ بن مجاهد الكابلي (2) :
قال يحيى بن الضريس : كذّاب.
وقال ابن معين : يضع الحديث.
وزاد في يب : صنّف كتاب « المغازي » فوضع للكلّ إسنادا.
وفي يب : قال محمّد بن مهران : كذّاب.
ص: 196
232 - ( خ ) عليّ بن أبي هاشم عبيد اللّه [ بن طبراخ البغدادي ] (1) : يب : قال أبو حاتم : ترك الناس حديثه.
وقال الأزدي : ضعيف جدّا (2).
233 - ( ت ق ) عليّ بن يزيد بن أبي هلال الألهاني (3) :
قال الدارقطني : متروك.
وقال ( س ) : ليس بثقة.
يب : قال الحاكم أبو أحمد : ذاهب الحديث.
وقال ( س ) في موضع ، والأزدي والبرقي : متروك (4).
وقال الساجي : اتّفق أهل العلم على ضعفه (5).
234 - ( ت ق ) عمّار بن سيف الضبّي ، أبو عبد الرحمن (6) :
يب : قال ( خ ) : منكر الحديث ، ذاهب.
ص: 197
وقال أبو نعيم : لا شيء.
وقال الدارقطني : متروك.
235 - ( م ت ق ) عمّار بن محمّد الثوري ، أبو اليقظان ، ابن أخت سفيان الثوري (1) :
قال ابن حبّان : استحقّ الترك.
[ ن : ] (2) وقال ( خ ) : مجهول.
236 - ( ت ق ) عمارة بن جوين ، أبو هارون العبدي البصري (3) :
قال أحمد : ليس بشيء.
وقال ( س ) : متروك [ الحديث ].
وقال الجوزجاني : كذّاب مفتر.
وقال شعبة : لأن أقدّم فتضرب عنقي أحبّ إليّ من أن أحدّث عنه.
وقال ابن معين : لا يصدق في حديثه.
وقال الدارقطني : يتلوّن خارجيّ وشيعيّ ، يعتبر بما يرويه عنه الثوري.
ص: 198
يب : قال حمّاد بن زيد : كذّاب (1) ، بالعشيّ شيء وبالغداة شيء.
وقال أبو أحمد الحاكم : متروك.
وقال ابن عليّة : يكذب.
وقال عثمان بن أبي شيبة : كان كذّابا.
وقال ابن البرقي : أهل البصرة يضعّفونه.
وقال ابن عبد البرّ : أجمعوا على أنّه ضعيف الحديث ؛ وقد تحامل بعضهم فنسبه إلى الكذب ، وكان فيه تشيّع ، وأهل البصرة يفرطون في من يتشيّع بين أظهرهم ؛ لأنّهم عثمانيّون.
قال في يب : كيف لا ينسبونه إلى الكذب وقد روى ابن عديّ في « الكامل » (2) بسنده عن بهز بن أسد ، قال : أتيته فقلت : أخرج إليّ ما سمعت من أبي سعيد.
فأخرج لي كتابا ، فإذا فيه : حدّثنا أبو سعيد أنّ عثمان أدخل في حفرته وإنّه لكافر باللّه!
[ قال : قلت : تقرّ بهذا؟!
قال : هو كما ترى!
قال : فدفعت الكتاب في يده وقمت ].
فهذا كذب ظاهر على أبي سعيد.
ص: 199
237 - ( 4 ) (1) عمارة بن حديد البجلي (2) :
قال أبو زرعة : لا يعرف.
ن : مجهول كما قال الرازيّان.
يب : قال أبو حاتم وابن السكن : مجهول.
238 - ( ت ق ) عمر بن راشد بن شجرة ، أبو حفص اليمامي (3) :
ن : قال ابن معين : ليس بشيء.
يب : قال الدارقطني : متروك.
وقال ابن حزم : ساقط.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث.
239 - ( د ق ) عمر بن عبد اللّه بن يعلى بن مرّة (4) :
قال الدارقطني : متروك.
ص: 201
يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال أبو حاتم : متروك [ الحديث ].
وقال جرير بن عبد الحميد : كان يشرب الخمر.
240 - ( ع ) عمر بن عليّ بن عطاء بن مقدّم المقدّمي البصري ، أبو جعفر (1) :
قال ابن سعد : يدلّس تدليسا شديدا ، يقول : « سمعت » و « حدّثنا » ثمّ يسكت ، فيقول : « هشام بن عروة والأعمش » (2).
يب : قال أحمد وابن معين والساجي وعمر بن شيبة : يدلّس.
242 - ( ت ق ) عمر بن هارون البلخي ، مولى ثقيف (1) : قال ( س ) وأبو عليّ الحافظ : متروك (2).
ن : قال يحيى : كذّاب خبيث.
وقال صالح جزرة : كذّاب.
وقال أحمد وابن مهدي : متروك [ الحديث ].
يب : قال أبو زكريّا : كذّاب خبيث.
وقال إبراهيم بن موسى : تركوا حديثه.
وقال ابن معين : يكذب.
هذا من الجمع بين المتضادّين ، كالتحسين له مع الجهل بحاله!
ففي ن بعد ذكر حديث له قال : حسّنه ( ت ) ولم يرقه إلى الصحّة
ص: 203
للجهل بحال عمرو (1).
244 - ( ق ) عمرو بن خالد الواسطي (2) :
قال ابن معين وأحمد : كذّاب.
وقال وكيع : كان في جوارنا يضع الحديث.
ن : قال الدارقطني : كذّاب.
يب : قال إسحاق بن راهويه وأبو زرعة : يضع الحديث.
وقال ( د ) : كذّاب.
وقال ( س ) : متروك [ الحديث ].
وقال ابن حبّان : ينفرد بالموضوعات عن الأثبات.
246 - ( م ت س ق ) عمرو بن سعيد بن العاص الأموي ، المعروف ب : الأشدق (1) :
يب : ولي المدينة لمعاوية ويزيد ، ثمّ طلب الخلافة ، وغلب على دمشق ، ثمّ قتله عبد الملك بعد ما أعطاه الأمان!
ثمّ نقل عن الطبري أنّه كان واليا ليزيد على المدينة ، وكان يجهّز الجيوش إلى قتال ابن الزبير ، فحدّثه أبو شريح أنّ مكّة حرام ، فأجابه عمرو بأنّ الحرم لا يعيذ عاصيا! (2).
ثمّ قال : وكان عمرو أول من أسرّ البسملة في الصلاة مخالفة لابن الزبير ؛ لأنّه كان يجهر بها! (3).
روى ذلك الشافعي وغيره بإسناد صحيح.
ص: 205
لا يسع المقام ذكر مخازي هذا الفاسق الملقّب بلطيم الشيطان ، المخاطب لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد قتل الحسين علیه السلام وهو على المنبر بقوله :
ثار بثارات يا رسول اللّه! (1).
فيا عجبا من القوم كيف يحتجّون بروايته؟! وكيف يثقون به في دينهم؟! وهو لا دين له!!
ولكن لا عجب ، فإنّه ليس بأسوأ من ابن العاص ، ومروان ، وسمرة ، وأشباههم! 247 - ( د ) عمرو بن عبد اللّه بن الأسوار اليماني (2) :
سرق كتابا من عكرمة فنسخه.
وقال هشام بن يوسف القاضي : ليس بثقة.
وقال ابن معين : كان سيّئ الأخذ في حال تحمّله من عكرمة ، كان يشرب فيقول عكرمة : اطلبوه ؛ فيجده (3) ، فيقوم وهو سكران ، فيقول له عكرمة [ من الرجز ] :
ص: 206
أصبب على صدرك من بردها
إنّي أرى الناس يموتونا
يب : كان معمر إذا حدّث أهل البصرة سمّاه ، وإذا حدّث أهل اليمن لا يسمّيه!
انظر واعتبر!
248 - ( خ د ) عمرو بن مرزوق ، أبو عثمان الباهلي البصري (1) :
قال ابن المديني : اتركوا حديث العمرين ؛ يعنيه وعمرو بن حكام.
يب : قال العجلي وابن عمّار : ليس بشيء.
وقال ابن المديني : ذهب حديثه.
وقال الأزدي : كان عليّ بن المديني صديقا لأبي داود ، وكان أبو داود لا يحدّث حتّى يأمره عليّ ، وكان ابن معين يطري عمرو بن مرزوق ويرفع ذكره ، ولا يصنع ذلك بأبي داود لطاعته لعليّ.
وقال سليمان بن حرب : جاء عمرو بما ليس عندهم فحسدوه (2).
تدبّر في هذه الأحوال ، واعرف منازل هؤلاء الرجال!
ص: 207
ومن المضحك ما في يب : قال ابن عديّ : سمعت أحمد بن محمّد ابن مخلد يقول : لم يكن بالبصرة مجلس أكبر من مجلس عمرو بن مرزوق ، كان فيه عشرة آلاف رجل (1).
ليت شعري أيّ مجلس يسع هذا المقدار؟!
وأيّ صوت يبلغهم إذا أراد مجلس الحديث؟! إلّا أن يرقى في المنام ، على أعواد الأوهام!
وأسخف من ذلك ما في يب ون أنّه قيل له : أتزوّجت ألف امرأة؟! قال : أو زيادة!
فإنّ المتعة عندهم حرام ، وقد منع اللّه تعالى من الجمع بين أكثر من أربع ، فكيف يقع عادة زواج أكثر من ألف امرأة على التعاقب؟! (2).
ص: 208
249 - ( م د ت س ) عمرو بن مسلم الجندي اليماني ، صاحب طاووس (1): يب : قال ابن خراش وابن حزم : ليس بشيء.
وقال ابن المديني : ذكره يحيى بن سعيد فحرّك يده ، وقال : ما أرى هشام بن حجير إلّا أمثل منه.
قلت له : أضرب على حديث هشام؟
قال : نعم.
وقال عبد اللّه بن أحمد : قلت لابن معين : عمرو بن مسلم أضعف أو هشام بن حجير؟ فضعّف عمرا وقال : هشام أحبّ إليّ.
سيأتي إن شاء اللّه في ترجمة هشام ، أنّ ابن معين ضعّفه
ص: 209
جدّا! (1).
250 - ( ت ق ) عمرو بن واقد الدمشقي ، مولى بني أميّة (2) :
روى الفسوي عن دحيم : لم يكن شيوخنا يحدّثون عنه ؛ قال : وكأنّه لم يشكّ أنّه يكذب.
وقال مروان الطاطري : كذّاب.
وقال الدارقطني : متروك (3).
ن : هالك.
قال أبو مسهر : ليس بشيء.
يب : قال أبو مسهر : يكذب.
وقال ( خ ) وأبو حاتم ودحيم ويعقوب بن سفيان : ليس بشيء.
وقال ( س ) والبرقاني : متروك [ الحديث ].
251 - ( س ق ) عمران بن حذيفة (4) :
ن : لا يعرف.
يب : أحد المجاهيل.
ص: 210
252 - ( خ د س ) عمران بن حطّان السدوسي ،لعنه اللّه وضاعف عذابه(1): يب : قال الدارقطني : متروك لسوء اعتقاده وخبث مذهبه.
وقال المبرّد في « الكامل » : كان رأس القعد (2) من الصّفريّة (3) ، وفقيههم وخطيبهم [ وشاعرهم ] (4).
قال في يب : والقعد [ ة ] : الخوارج [ كانوا ] لا يرون الحرب ، بل ينكرون على أمراء الجور حسب الطاقة ، [ ويدعون إلى رأيهم ] ويزيّنون مع ذلك الخروج [ ويحسّنونه ]!
ولكن ذكر أبو الفرج الأصبهاني : أنّه صار قعديا لمّا عجز عن
ص: 211
الحرب (1).
أيّ عذر للبخاري في الاحتجاج بحديثه؟! وهو من الدعاة إلى النفاق ، ومذهب السوء ، وعندهم أنّ الداعية لغير مذهبهم غير معتبر الرواية ، وإن زعم ( د ) أنّ الخوارج أصحّ ذوي الأهواء حديثا! (2).
على أنّه قد ردّه في يب فقال : « ليس على إطلاقه ، فقد حكى ابن أبي حاتم ، عن القاضي عبد اللّه بن عقبة المصري - وهو ابن لهيعة - عن بعض الخوارج ممّن تاب ، أنّهم كانوا إذا هووا أمرا صيّروه حديثا » (3).
وهذا هو المناسب لمروقهم عن الدين بنصّ النبيّ الأمين صلی اللّه علیه و آله .
وهل يرجى ممّن لا يحترم دماء المسلمين وأموالهم ، ولا يرعى حرمة أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، أن يكون صادقا في قوله ، ثقة في نقله؟!
وقد ذكر في يب أنّ بعضهم اعتذر للبخاري بأنّه أخرج عنه قبل أن يرى ما رأى ، فقال : فيه نظر ؛ لأنّه أخرج له من رواية يحيى بن أبي كثير عنه ، ويحيى إنّما سمع منه في حال هربه من الحجّاج ، وكان الحجّاج طلبه ليقتله من أجل المذهب ، وقصّته في هربه مشهورة (4).
ص: 212
ثمّ قال في يب : ذكر أبو زكريّا الموصلي ، عن محمّد بن بشير العبدي الموصلي ، قال : لم يمت عمران بن حطّان حتّى رجع عن رأي الخوارج ؛ وهذا أحسن ما يعتذر به عن تخريج ( خ ) له (1).
وفيه : إنّ التوبة المتأخّرة - لو سلّمت - لا تنفع في إخراجه عنه وهو على مذهبه الفاسد ، وفي حال لا يصحّ الإخراج عنه بها ، فلم يبق للبخاري عذر إلّا أنّه يعظّمه في نفسه ، ويشكر قوله في مدح ابن ملجم لعنه اللّه ولعن عمران معه [ من البسيط ] :
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها *** إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكره يوما فأحسبه *** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا (2)
ن : قال العبّاس بن الوليد بن صبح (1) : قلت لمروان بن محمّد :
لا أرى سعيد بن عبد العزيز روى عن عمير بن هانئ؟!
فقال : كان أبغض إلى سعيد من النار.
قلت : ولم؟!
قال : أ وليس هو القائل على المنبر حين بويع ليزيد [ بن الوليد ] بن عبد الملك : سارعوا إلى هذه البيعة! إنّما هما هجرتان ، هجرة إلى اللّه ورسوله ، وهجرة إلى يزيد؟!!
ليس على البخاري وغيره في مثل هذا خفاء ، ولكنّ القوم فيه ونحوه سواء!
وفي ن : قال [ ابن ] جابر : حدّثني عمير بن هانئ ، قال : ولّاني الحجّاج الكوفة ، فما بعث إليّ في إنسان أحدّه إلّا حددته ، ولا في إنسان أقتله إلّا أرسلته ، فعزلني.
لا ريب أنّ الحدّ والقتل لمجرّد أمر الحجّاج سواء في الحرمة ، كالولاية من قبله ، فلا عذر له.
وقد كذب عدوّ اللّه في دعوى مخالفة الحجّاج ، فإنّه لو أطلق واحدا
ص: 214
ممّن يريد الحجّاج قتلهم ، لجعله عوضه.
كما كذب في إظهار النسك والعبادة ، كيف؟! وهو داعية المنافق يزيد بن الوليد وعامل الحجّاج الظلوم.
255 - ( خ د ) عنبسة بن خالد بن يزيد الأيلي الأموي ، مولاهم (1) :
قال أبو حاتم : كان على خراج مصر ، وكان يعلّق النساء بالثدي.
وقال الفسوي : قال يحيى بن بكير : إنّما يحدّث عنه مجنون ( أو ) (2) أحمق ، لم يكن موضعا للكتابة عنه.
وقال أحمد بن حنبل : ما لنا ولعنبسة؟! أيّ شيء خرج علينا منه؟! هل روى عنه غير أحمد بن صالح؟!
يب : قال يحيى بن بكير : إنّ عنبسة روى عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : وفدت على مروان وأنا محتلم ؛ قال يحيى بن بكير : هذا باطل ، إنّما وفد على عبد الملك.
256 - ( خ م د ) عنبسة بن سعيد بن العاص الأموي ، أخو عمرو الأشدق (3) :
يب : قال الدارقطني : كان جليس الحجّاج.
وقال الزبير : كان انقطاعه إلى الحجّاج.
ص: 215
والرجل يعرف بقرينه.
257 - ( ت ق ) عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة (1) بن سعيد ابن العاص الأموي (2) :
قال ( خ ) : تركوه.
وقال أبو حاتم : يضع الحديث.
ن : روى ( ت ) عن ( خ ) : ذاهب الحديث.
يب : قال ابن معين : لا شيء.
وقال ( س ) : متروك.
وقال الأزدي : كذّاب.
ولا في غير هذا الحديث.
259 - ( ق ) عيسى بن أبي عيسى ميسرة المدني الحنّاط (1) :
قال ( س ) والفلّاس : متروك (2).
يب : قال الدارقطني و ( د ) : متروك [ الحديث ].
وقال ابن معين : ليس بشيء ، ولا يكتب حديثه.
260 - ( ت ق ) عيسى بن ميمون القرشي ، مولى القاسم بن محمّد (3) :
ن : قال ( خ ) : ليس بشيء.
وقال ( س ) : ليس بثقة.
وقال الفلّاس : متروك.
وقال ابن حبّان : يروي أحاديث كلّها موضوعة.
وقال ابن مهدي : قلت له : ما هذه الأحاديث التي تروي عن القاسم عن عائشة؟! قال : لا أعود.
* * *
ص: 217
ص: 218
261 - ( ت ق ) فائد بن عبد الرحمن ، أبو الورقاء العطّار الكوفي (1) :
يب : قال ابن معين : ليس بثقة ، وليس بشيء.
وقال أحمد : متروك [ الحديث ].
وقال أبو زرعة وأبو حاتم : لا يشتغل به.
وقال أبو حاتم : ذاهب الحديث ، لا يكتب حديثه ، ولو أنّ رجلا حلف أنّ عامّة حديثه كذب لم يحنث.
وقال ( د ) : ليس بشيء.
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة.
وأخرى : متروك [ الحديث ].
وقال الحاكم : روى أحاديث موضوعة.
ن : قال مسلم بن إبراهيم : دخلت عليه وجاريته تضرب بين يديه بالعود.
ص: 219
262 - ( ع ) فضيل بن سليمان النميري ، أبو سليمان البصري (1) : يب : قال ابن معين : ليس بشيء ، ولا يكتب حديثه.
وقال الآجري عن ( د ) : كان عبد الرحمن لا يحدّث عنه ، قال :
وسمعت ( د ) يقول : ذهب فضيل والسمتي إلى موسى بن عقبة فاستعارا منه كتابا فلم يردّاه.
263 - ( ع ) فليح بن سليمان ، أبو يحيى المدني ، وفليح لقب غلب عليه ، واسمه عبد الملك (2) :
ن : قال ابن معين : ليس بثقة.
وقال مرّة : يتّقى حديثه.
يب : قال ( د ) : ليس بشيء.
وقال الطبري : ولّاه المنصور على الصدقات ؛ لأنّه أشار عليه بحبس بني حسن لمّا طلب محمّد بن عبد اللّه بن الحسن (3).
* * *
ص: 220
264 - ( ق ) القاسم بن عبد اللّه العدوي العمري (1) :
قال ( س ) وأبو حاتم : متروك (2).
ن : قال ابن معين : كذّاب.
وقال أحمد : يكذب ، ويضع الحديث.
يب : قال أحمد : أفّ أفّ ، ليس بشيء.
وقال مرّة : كذّاب ، يضع الحديث.
وقال العجلي والأزدي : متروك [ الحديث ].
265 - ( د ت ق ) قبيصة بن الهلب (3) :
قال ابن المديني : مجهول ، لم يرو عنه غير سماك بن حرب.
يب : قال ( س ) : مجهول.
ص: 221
266 - ( ع ) قتادة بن دعامة ، أبو الخطّاب السدوسي البصري (1) : ن : مدلّس.
يب : قال ابن المديني ، قلت ليحيى بن سعيد : إنّ عبد الرحمن يقول : أترك كلّ من كان رأسا في بدعة يدعو إليها ؛ قال : كيف تصنع بقتادة ، وابن أبي دؤاد (2) ، وعمر بن ذرّ؟! .. وذكر قوما.
وقال ابن حبّان : كان مدلّسا على قدر فيه.
267 - ( د ت ق ) قيس بن الربيع ، أبو محمّد الكوفي (3) :
قال يحيى ، لا يكتب حديثه.
وقال ( س ) : متروك (4).
ن : قال ابن القطّان : ضعيف عندهم.
وقال محمّد بن عبيد الطنافسي : استعمله أبو جعفر على المدائن فعلّق النساء بثديهنّ ، وأرسل عليهنّ الزنابير (5).
يب : قال محمّد [ بن عبد اللّه ] بن عمّار : كان عالما بالحديث ، لكنّه لمّا ولّي المدائن علّق رجالا ، فنفر الناس عنه.
ص: 222
268 - ( ت ق ) كثير بن زاذان النخعي الكوفي (1) :
قال أبو حاتم وأبو زرعة : مجهول.
وقال ابن معين : لا أعرفه.
269 - ( خ م د ت ق (2) ) كثير بن شنظير ، أبو قرّة البصري (3) :
قال ابن معين مرّة : ليس بشيء.
وقال الفلّاس ، كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عنه.
يب : قال ابن حزم : ضعيف جدّا.
270 - ( د ت ق ) كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف المزني المدني (4) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
ص: 223
وقال الدارقطني : متروك (1).
وضرب أحمد على حديثه.
ن : قال ( د ) والشافعي : ركن من أركان الكذب.
يب : قال أحمد : ليس بشيء.
وقال ( د ) : أحد الكذّابين.
وقال الشافعي : أحد الكذّابين ؛ أو : أحد أركان الكذب.
وقال ( س ) مرّة : متروك [ الحديث ].
وقال ابن عبد البرّ : مجمع على ضعفه.
* * *
ص: 224
271 - ( د ت ق ) لمازة بن زبّار الأزدي ، أبو لبيد البصري (1) :
ن : حضر وقعة الجمل ، وكان ناصبيا ، ينال من عليّ علیه السلام ، ويمدح يزيد!
يب : قال ابن معين : كان شتّاما.
[ وقال جرير : كان ] يشتم عليّا علیه السلام !
وقال أبو لبيد : قلت له : لم تسبّ عليّا علیه السلام ؟! قال : ألا أسبّ رجلا قتل منّا خمسمائة وألفين والشمس هاهنا؟!
وقال ابن سعد : ثقة!
وقال حرب ، عن أبيه : كان صالح الحديث ، وأثنى عليه ثناء حسنا!
قال في يب : « كنت أستشكل توثيقهم الناصبي غالبا ، وتوهينهم الشيعة مطلقا ، ولا سيّما أنّ عليّا ورد في حقّه : لا يحبّه إلّا مؤمن ، ولا يبغضه إلّا منافق (2).
ص: 225
ثمّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البغض ها هنا مقيّد بسبب! وهو كونه نصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ [ من ] الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض ، والحبّ بعكسه ، وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالبا.
والخبر في حبّ عليّ وبغضه ليس على العموم! فقد أحبّه من أفرط فيه ، حتّى ادّعى أنّه نبيّ أو أنّه إله ... والذي [ ورد ] في حقّ عليّ [ من ذلك ، ] ورد مثله في حقّ الأنصار.
وأجاب [ عنه ] العلماء ، أنّ بغضهم لأجل النصرة كان ذلك علامة النفاق ، وبالعكس ، فكذا يكون في حقّ عليّ.
وأيضا : فأكثر من يوصف بالنصب ، يكون موصوفا بصدق اللّهجة ، والتمسّك بأمور الديانة ، بخلاف من يوصف بالرفض ، فإنّ غالبهم كاذب ولا يتورّع في الأخبار.
والأصل فيه أنّ الناصبة اعتقدوا أنّ عليّا قتل عثمان أو أعان عليه ، فكان بغضهم له ديانة بزعمهم ، ثمّ انضاف إلى ذلك أنّ منهم من قتلت أقاربه في حروب عليّ »!
إنّ تقييد بغض عليّ علیه السلام بسبب نصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله غلط ، إذ يستلزم لغوية كلام رسول اللّه في إظهار فضل عليّ علیه السلام ؛ لأنّ كلّ من أبغض أحدا لنصرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله منافق ، من دون خصوصية لعليّ علیه السلام .
وكيف يحسن التقييد بالنصرة مع تمدّح أمير المؤمنين علیه السلام بقوله كما سبق عن صحيح مسلم : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، إنّه لعهد النبيّ
ص: 226
الأمّيّ صلی اللّه علیه و آله إليّ ، إنّه لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق »؟! (1)
فإنّه لو قصد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما زعمه ابن حجر - من التقييد بالنصرة - لما كان معنى لتمدّح الإمام بذلك.
وحاصل مقصود ابن حجر : أنّ نفس بغض عليّ علیه السلام والنصب له وسبّه ، ليس نقصا وعيبا ، تبرئة لأصحابه من العيب! وإن ورد مستفيضا أو متواترا ، أنّ : من سبّ عليّا وأبغضه فقد سبّ رسول اللّه وأبغضه (2).
وهذا الوجه مخصوص عنده بمن نصب العداوة لأمير المؤمنين وسبّه! بخلاف من أبغض خلفاءهم وسبّهم ، فإنّه لا يكون معذورا أصلا ، بل يكون محلّا لكلّ نقص ، وأهلا لكلّ لعن!
ص: 227
فهل هذا إلّا التعصّب والهوى؟!
وليت شعري كيف لا يكون مبغض عليّ علیه السلام منافقا ، مع اتّضاح تعظيم النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام بوجوه التعظيم ، والثناء عليه بطرق الثناء؟!
فلا يكون بحسب الحقيقة بغض عليّ وسبّه إلّا استهزاء برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وطرحا لفعله وقوله!
فهل يكون نفاق أعظم من هذا؟!
وأمّا خروج الغلاة ؛ فبالدليل ، كسائر العمومات في الكتاب والسنّة المخصّصة بالأدلّة.
وأمّا قوله : « ورد في حقّ الأنصار مثله ».
فكاذب ، افتعله النواصب ، لدفع فضل سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين.
ولو سلّم ، فمعناه - كما نقله عن علمائهم - أنّ بغضهم لأجل النصرة علامة النفاق ؛ لأنّ التعليق على الوصف مشعر بالحيثية (1) ، بخلاف ما ورد في أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّه لم يذكر فيه إلّا ما يدلّ على إرادة شخصه الكريم ، بلا اشتمال على ما يوهم إرادة النصرة.
فقد ظهر من هذا أنّه لا يجوز قبول رواية الناصب مطلقا ؛ لأنّه منافق ، والمنافق أشدّ من الكافر الصريح ، وفي أسفل درك من النار ، كما ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز (2).
ومجرّد إفادة خبره الظنّ - لو وجد ناصب ثقة - لا يجعله حجّة ؛ لأنّ
ص: 228
اللّه سبحانه قد ذمّ في كتابه العزيز متّبع الظنّ ، فقال : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ... ) (1) وقال : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ... ) (2)
ولا دليل خاصّا يقتضي إخراج الظنّ الحاصل من خبر المنافق كالكافر.
وأمّا ما ذكره من أنّ أكثر من يوصف بالنصب مشهور بصدق اللّهجة.
ففيه : إنّ الشهرة إنّما هي عند أشباهه ؛ على أنّه مناف لما ذكره سابقا بترجمة عمران بن حطّان لعنه اللّه ، من أنّ الخوارج إذا هووا أمرا صيّروه حديثا (3).
وأمّا دعوى تمسّكهم بأمور الديانة ؛ فمناف لما وصفهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المروق عن الدين (4).
ولو سلّم ، فليس تمسّكهم بدينهم إلّا كتمسّك اليهود بديانتهم ، لا يصيّر أخبارهم حجّة.
وأمّا ما زعمه من أنّ غالب من يوصف بالرفض كاذب ؛ فتحامل نشأ من العداوة الدينية والعصبية المذهبية ، ولا نعرف بعد التحامل سببا لهذه الدعوى إلّا رواية الشيعة لفضائل أهل البيت ، ومطاعن أعدائهم ، وقد سبق أنّها دليل الثقة ، إذ لا يقدم راويها إلّا على سيوف ظلمة الأمراء ، وأسنّة أقلام نصّاب العلماء ، وسهام ألسنة أهل الدنيا من الخطباء ، وهذا دليل على أنّ راوي تلك الروايات أشدّ الناس إنصافا وثقة (5).
ص: 229
وأمّا قوله : « والأصل فيه أنّ الناصبة اعتقدوا ... » إلى آخره.
ففيه : أنّ دعوى اعتقادهم مكابرة محضة من المدّعي والمدّعي له ، على أنّ الشيعة أيضا اعتقدوا - وكان اعتقادهم عن الأدلّة القويّة - : أنّ المشايخ الثلاثة اغتصبوا حقّ أمير المؤمنين ، وخالفوا نصّ النبيّ الأمين صلی اللّه علیه و آله ، فكان اعتقاد الشيعة فيهم ديانة.
فما بالهم لا تعتبر روايتهم كالنواصب؟!
وهل الفرق إلّا أنّ الشيعة تمسّكوا بالثقلين ، والنواصب نبذوهما وراء ظهورهم ؛ والناس إلى أشباههم أميل!
وأمّا قوله : « ثمّ انضاف إلى ذلك ... » إلى آخره.
فمن الطرائف! إذ لو كان هذا عذرا لما قبح بغض المشركين لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه قتل أقاربهم!
ولتمام الكلام محلّ آخر.
272 - ( م 4 ) الليث بن أبي سليم بن زنيم الكوفي (1) :
قال أحمد : ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيا [ في أحد ] منه في ليث وهمّام ومحمّد بن إسحاق ، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم.
يب : قال أبو زرعة وأبو حاتم : لا يشتغل به.
* * *
ص: 230
275 - ( م 4 ) مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي (1) : قال أحمد : ليس بشيء.
وقال ( خ ) : كان ابن مهدي لا يروي عنه.
وقال الفلّاس : سمعت يحيى بن سعيد يقول : لو شئت أن يجعلها مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبد اللّه ، فعل.
يب : قال الدارقطني : لا يعتبر به.
276 - ( ع ) مجاهد بن جبر المقرئ المكّي (2) :
ن : قال أبو بكر بن عيّاش للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف - أو شيء نحوه -؟!
قال : أخذه من أهل الكتاب!
وفي يب : ما بالهم (3) يقولون تفسير مجاهد؟!
قال : كانوا يرون أنّه يسأل أهل الكتاب!
وفي ن : من أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله تعالى : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (4) قال : يجلسه معه على
ص: 232
العرش! (1).
لا ينبغي أن يستنكره ، وإن كان تجسيما وكفرا! فإنّهم رووا ما هو أخزى ، مثل أنّ اللّه سبحانه خلق آدم على صورته ، ومثل أنّه يدخل رجله سبحانه في النار فتقول : قط قط ... إلى غير ذلك (2).
وفي يب : قال القطب الحلبي في شرح البخاري : مجاهد معلوم التدليس ، فعنعنته لا تفيد الوصل.
277 - ( م 4 ) محمّد بن إسحاق بن يسار ، صاحب ( السيرة ) (3) :
قال مالك : دجّال من الدجاجلة.
ن : قال يحيى القطّان : أشهد أنّه كذّاب.
وقال هشام بن عروة : كذّاب.
يب : قال أحمد : يدلّس.
وسأله أيّوب بن إسحاق ، فقال : تقبله إذا انفرد [ بحديث ]؟
قال : لا واللّه!
ص: 233
278 - ( ع ) محمّد بن بشّار بن عثمان ، أبو بكر ، بندار البصري الحافظ (1) : كذّبه الفلّاس.
قال في يب : يحلف (2) أنّه يكذب [ في ما يروي عن يحيى ].
وقال عبد اللّه الدورقي : جرى ذكره عند ابن معين ، فرأيته لا يعبأ به.
279 - ( د ق ) محمّد بن ثابت العبدي البصري (3) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
يب : قال أبو داود السجستاني : ليس بشيء.
281 - ( م د ) محمّد بن حاتم بن ميمون القطيعي ، المعروف ب : السمين (1) : قال ابن معين وابن المديني : كذّاب.
وقال الفلّاس : ليس بشيء.
282 - ( ت ) محمّد بن الحسن بن أبي يزيد (2) :
قال ابن معين : يكذب.
وقال ( س ) : متروك.
وقال ( د ) : كذّاب.
283 - ( د ت ق ) محمّد بن حميد بن حيّان ، الحافظ الرازي (3) :
قال ( س ) : ليس بثقة.
وقال فضلك : عندي منه خمسون ألف حديث لا أحدّث عنه بحرف.
وقال صالح جزرة : ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن سليمان
ص: 235
الشاذكوني.
وقال أيضا : ما رأيت أجرأ على اللّه منه.
وقال ابن خراش : كان واللّه يكذب.
وكذّبه أبو زرعة.
ن : قال الكوسج : أشهد أنّه كذّاب.
يب : قال ( س ) مرّة : ليس بشيء.
وأخرى : كذّاب.
وقال أبو نعيم ابن عديّ : سمعت أبا حاتم [ في منزله ] وعنده ابن خراش وجماعة من مشايخ أهل الريّ وحفّاظهم ، فذكروا ابن حميد ، فأجمعوا على أنّه ضعيف [ في الحديث ] جدّا ، وأنّه يحدّث بما لم يسمع ، وأنّه يأخذ أحاديث أهل البصرة والكوفة فيحدّث بها عن الرازيّين.
284 - ( ع ) محمّد بن خازم ، أبو معاوية الضرير الكوفي (1) :
يب : قال أبو زرعة : يدعو إلى الإرجاء.
وقال ( د ) : كان رئيس المرجئة بالكوفة.
وقال ابن سعد : يدلّس.
وقال يعقوب بن شيبة : ربّما يدلّس.
ص: 236
285 - ( ق ) محمّد بن خالد الواسطي الطحّان (1) : قال ابن معين : كذّاب ، إن لقيتموه فاصفعوه.
يب : قال أبو زرعة : رجل سوء.
وقال : قال : لم أسمع من أبي إلّا حديثا واحدا ؛ ثمّ حدّث عنه [ حديثا ] كثيرا!
286 - ( ق ) محمّد بن داب المديني (2) :
قال أبو زرعة : كان يضع الحديث (3).
ن : كذّبه ابن حبّان وغيره.
287 - ( خ 4 ) محمّد بن زياد الألهاني ، أبو سفيان الحمصي (4) :
يب : قال الحاكم : اشتهر عنه النصب كحريز بن عثمان.
ن : وثّقه أحمد والناس ، وما علمت فيه مقالة سوى قول الحاكم الشيعي : أخرج ( خ ) في الصحيح لمحمّد بن زياد ، وحريز بن عثمان ، وهما ممّن [ قد ] اشتهر عنهم النصب.
ص: 237
حرّكت الذهبي حميّة المذهب ، فنسب الحاكم - بزعم الانتقام منه - إلى التشيّع ، وما نقم عليه إلّا دين اللّه وحبّ آل المصطفى المطهّرين من الرجس.
ثمّ أنكر نصب الألهاني فقال : « ما علمت هذا من محمّد ؛ بلى ، غالب الشاميّين فيهم توقّف عن أمير المؤمنين عليّ من يوم صفّين ... » إلى آخر كلامه.
فليت شعري ما معنى التوقّف؟! وشعارهم سبّ إمام المتّقين! ودينهم بغض السادة الأطهار علیهم السلام !
فما أدري ما يريد منهم الذهبي حتّى يجعل ذلك توقّفا؟!
وهل يرتفع الإشكال عن ( خ ) بإنكار نصب الألهاني وهو يروي عن حريز الذي لا مجال لإنكار نصبه؟!
وذكره [ ابن ] البرقي في طبقة الكذّابين.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث.
289 - ( ت ق ) محمّد بن سعيد ، المصلوب ، الشامي (1) :
قال ( س ) : الكذّابون المعروفون بوضع الحديث أربعة ... ؛ وذكره منهم.
وقال أبو أحمد الحاكم : يضع الحديث.
وقال أحمد : يضع الحديث عمدا ؛ وصلبه أبو جعفر على الزندقة.
يب : قال ابن نمير : كذّاب ، يضع الحديث.
وقال أبو مسهر : هو من كذّابي الأردن.
وقال أحمد بن صالح المصري : زنديق ، ضربت عنقه ، وضع أربعة آلاف حديث عند هؤلاء الحمقى.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث ، لا يحلّ ذكره إلّا على وجه القدح فيه.
وقال الجوزجاني : مكشوف الأمر ، هالك.
وقال الحاكم : ساقط ، لا خلاف بين أهل النقل فيه.
وقال خالد بن يزيد الأزرق : قال محمّد بن سعيد : لم أبال إذا كان
ص: 239
الكلام حسنا أن أجعل له إسنادا.
.. إلى كثير ممّا قيل فيه.
وهذا الكذّاب الشهير بينهم قد روى عنه كبار رواتهم ودلّسوه.
قال في ن : روى عنه ابن عجلان والثوري ومروان الفزاري وأبو معاوية والمحاربي وآخرون ، وقد غيّروا اسمه على وجوه سترا له وتدليسا لضعفه!
.. إلى أن قال : قال عبد اللّه بن أحمد بن سوادة : قلبوا اسمه على مائة اسم وزيادة ، قد جمعتها في كتاب!
ونحوه في يب ، وذكر جماعة كثيرة من أكابر رواتهم الراوين عنه!
وقال في ن : وقد أخرجه ( خ ) في مواضع وظنّه جماعة!
يبعد خفاء الأمر على ( خ ) ، والأقرب أنّه دلّسه اتّباعا لسلفه كما دلّس عبد اللّه بن صالح.
ولو سلّم ، فهو جهل كبير من ( خ ) ، وعيب عظيم في صحيحه!
فإذا كان مثل هذا الكذّاب الشهير قد دلّسه عظماؤهم ، واشتملت على
ص: 240
رواياته صحاحهم ، فكيف تعتبر أخبارهم ، وتلحظ بعين الصحّة والثقة بها؟!
290 - ( خ م د ت ق ) محمّد بن طلحة بن مصرّف اليامي الكوفي (1) :
قال ابن معين : ثلاثة يتّقى حديثهم : محمّد بن طلحة ، وفليح بن سليمان ، وأيّوب بن عتبة ؛ سمعت هذا من أبي كامل مظفّر بن مدرك.
وقال مظفّر : قال محمّد بن طلحة : أدركت أبي كالحلم ؛ وقد روى عن أبيه أحاديث صالحة!
يب : قال عفّان : كان يروي عن أبيه ، وأبوه قديم الموت ، وكان الناس كأنّهم يكذّبونه ، ولكن من يجترئ أن يقول له : أنت تكذب ؛ كانمن فضله وكان.
291 - ( د س ق ) محمّد بن عبد اللّه بن علاثة ، أبو اليسر الحرّاني القاضي (2) :
قال الأزدي : حديثه يدلّ على كذبه.
وقال الدارقطني : متروك.
ص: 241
وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات.
يب : قال الحاكم : يروي الموضوعات ؛ ذاهب الحديث.
292 - ( د ق ) محمّد بن عبد الرحمن بن البيلماني (1) :
قال ابن حبّان : حدّث عن أبيه بنسخة شبيها بمائتي حديث كلّها موضوعة.
يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال الحاكم : روى عن أبيه [ عن ابن عمر ] المعضلات.
293 - ( ع ) محمّد بن عبيد بن أبي أميّة الطنافسي ، أخو يعلى (2) :
يب : قال أحمد : كان يظهر السنّة ، وكان يخطئ ولا يرجع عن خطئه (3).
وقال العجلي : كان عثمانيا.
وقال [ ابن سعد ] : كان ... صاحب سنّة!
يستفاد من المقام وغيره أنّ صاحب السنّة هو العثمانيّ ، أي الناصب
ص: 242
العداوة لأمير المؤمنين علیه السلام .
فهل من السنّة بغض أخي النبيّ ونفسه؟!
وهل من شرع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الثناء على مبغضي عليّ ، حتّى يمدحوا العثمانيّ بأنّه صاحب سنّة؟!
هذا ممّا تحير به العقول!!
294 - ( ت ق ) (1) محمّد بن عون الخراساني (2) :
قال ( س ) : متروك (3).
وقال ابن معين : ليس بشيء (4).
يب : قال ( د ) : ليس بشيء.
وقال الدولابي والأزدي : متروك [ الحديث ].
295 - ( ت د ق ) محمّد بن فضاء الأزدي ، أبو بحر البصري (5) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
ص: 243
وقال ( خ ) : كان سليمان بن حرب يقول : كان يبيع الشراب.
يب : قال ( س ) : ليس بثقة.
296 - ( ت ق ) محمّد بن الفضل بن عطيّة (1) :
قال أحمد : حديثه حديث أهل الكذب.
وقال ابن معين : لا يكتب حديثه.
يب : قال الفلّاس ومسلم و ( س ) وابن خراش والدارقطني :
متروك (2).
وقال صالح جزرة : يضع الحديث.
وقال ابن معين والفلّاس (3) و ( س ) وابن خراش وابن أبي شيبة (4) وإسحاق بن سليمان ويحيى بن الضريس والجوزجاني : كان كذّابا.
297 - ( ت ) محمّد بن القاسم الأسدي (5) :
كذّبه أحمد والدارقطني.
يب : قال ( د ) : غير ثقة ولا مأمون ، أحاديثه موضوعة.
وقال الأزدي : متروك.
ص: 244
298 - ( د ت س ) محمّد بن كثير الصنعاني المصّيصي (1) : ضعّفه أحمد جدّا.
وقال : حدّث بمناكير ليس لها أصل.
وقال يونس بن حبيب : قلت لابن المديني : إنّه حدّث عن الأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر وعمر ، فقال : « هذان سيّدا كهول أهل الجنّة » (2) الحديث ..
فقال عليّ : كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ ، فالآن لا أحبّ أن أراه!
يب : قال أحمد : لم يكن عندي ثقة ؛ قيل له : كيف سمعت من
ص: 245
معمر؟ قال : سمعت منه باليمن ، بعث بها إلى إنسان من اليمن.
299 - ( ق ) محمّد بن محصن العكّاشي (1) :
قال الدارقطني : متروك ، يضع.
يب : قال ابن معين وأبو حاتم : كذّاب.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث.
300 - ( ع ) محمّد بن مسلم بن تدرس ، أبو الزبير المكّي (2) :
قال سويد بن عبد العزيز : قال لي شعبة : تأخذ عنه وهو لا يحسن أن يصلّي؟!
وقال ورقاء : قلت لشعبة : ما لك تركت حديث أبي الزبير؟! قال :
[ رأيته ] يزن ويسترجح بالميزان.
يب : قال نعيم بن حمّاد : سمعت هشيما يقول : سمعت من أبي الزبير ، فأخذ شعبة كتابي فمزّقه (3).
ن : قال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي ، واحتجّ عليه
ص: 246
[ رجل ] بحديث [ عن ] أبي الزبير ، فغضب ، وقال : أبو الزبير يحتاج إلى دعامة! (1).
وكان ابن حزم يردّ من حديثه ما يقول فيه : « عن جابر » ونحوه ؛ لأنّه عندهم ممّن يدلّس.
301 - ( د ت ق ) محمّد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي (2) :
ن : مجهول.
يب : قال أبو حاتم والدارقطني : مجهول.
وقال أحمد : لا يعرف.
302 - ( م ت ق ) محمّد بن يزيد بن محمّد بن كثير ، أبو هشام الرفاعي ، قاضي بغداد (3) :
قال ( خ ) : رأيتهم مجمعين على ضعفه.
وقال ابن نمير : يسرق الحديث.
وقال أيضا : أضعفنا طلبا ، وأكثرنا غرائب.
يب : قال الحسين بن إدريس : سألت عثمان بن أبي شيبة عنه فقال :
يسرق حديث غيره فيرويه!
قلت : أعلى وجه التدليس أو الكذب؟
ص: 247
قال : كيف يكون تدليسا وهو يقول : « حدّثنا »؟!
303 - ( ت ق ) محمّد بن يعلى السلمي ، أبو عليّ ، الملقّب ب : زنبور (1) :
قال ( خ ) : ذاهب الحديث.
وقال أبو حاتم : متروك (2).
وقال ( س ) : ليس بثقة.
يب : قال العجلي : ترك الناس حديثه.
304 - ( م د س ) مخرمة بن بكير بن عبد اللّه بن الأشجّ ، أبو المسور (3) :
يب : قال ابن معين : وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه.
وقال الساجي : يدلّس.
ن : قال ابن معين : ليس [ حديثه ] بشيء.
ص: 248
وقال أحمد : لم يسمع من أبيه [ شيئا ] (1).
305 - ( ق ) مروان بن سالم الغفاري الشامي الجزري ، مولى بني أميّة (2) :
قال أحمد : ليس بثقة (3).
وقال الدارقطني : متروك [ الحديث ] (4).
وقال أبو عروبة الحرّاني : يضع الحديث.
يب : قال ( س ) : متروك [ الحديث ] (5).
وقال الساجي : كذّاب ، يضع الحديث.
وقال أبو حاتم : لا يكتب حديثه.
306 - ( خ ق ) مطّرح بن يزيد الأسدي ، أبو المهلّب (6) :
ن : مجمع على ضعفه.
ص: 249
وقال يحيى : ليس بثقة.
يب : قال يحيى والنسائي (1) : ليس بشيء.
307 - ( د ت ق ) مظاهر بن أسلم (2) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
يب : قال أبو عاصم النبيل : ليس بالبصرة حديث أنكر من حديثه.
وقال ( د ) : مجهول.
سعيد.
يب : قال أبو إسحاق الفزاري : ما كان بأهل أن يروى عنه.
وقال موسى بن سلمة : تركته ولم أكتب عنه.
309 - ( ت ق ) معاوية بن يحيى ، أبو روح الصدفي الدمشقي (1) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
زاد في يب : هالك.
وفي يب أيضا : قال الجوزجاني : ذاهب الحديث.
وقال ( س ) : ليس بشيء.
وقال أحمد : تركناه.
وقال ابن حبّان : كان يشتري الكتب ويحدّث بها ، ثمّ تغيّر حفظه ، فكان يحدّث بالوهم (2).
310 - ( ع ) معلّى بن منصور ، أبو يعلى (3) :
ن : حكى ابن أبي حاتم عن أبيه : قيل لأحمد : كيف لم تكتب عنه؟!
ص: 251
قال : يكذب (1).
يب : نقل عبد الحقّ عن أحمد أنّه رماه بالكذب.
وقال ابن سعد : من أصحاب الحديث من لا يروي عنه.
311 - ( ق ) معلّى بن هلال الطحّان (2) :
قال ابن معين : هو من المعروفين بالكذب ووضع الحديث.
وقال أحمد : أحاديثه موضوعة.
وقال ابن المبارك لوكيع : عندنا شيخ ... يضع كما يضع المعلّى.
وذكر في يب جماعة تزيد على عشرة وصفوه بالكذب.
312 - ( ع ) المغيرة بن مقسم ، أبو هشام ، الفقيه الكوفي (3) :
قال ابن فضيل : يدلّس.
يب : قال أحمد : حديثه مدخول ، عامّة ما روى عن إبراهيم إنّما سمعه من حمّاد ، ومن يزيد بن الوليد ، والحارث العكلي ، وعبيدة ، وغيرهم.
وقال العجلي : كان عثمانيا.
ص: 252
وقال إسماعيل القاضي : ليس بالقويّ فيمن لقي ، لأنّه يدلّس ، فكيف إذا أرسل؟!
وقال ابن حبّان : كان مدلّسا.
313 - ( م 4 ) مقاتل بن حيّان النبطي ، أبو بسطام ، البلخي الخزّاز (1) :
كان أحمد لا يعبأ به.
ونقل الأزدي عن وكيع أنّه كذّبه.
314 - ( م 4 ) مكحول الدمشقي الشامي (2) :
ن : صاحب تدليس.
وقال ابن سعد : ضعّفه جماعة.
يب : قال ابن سعد : كان يقول بالقدر ، وكان ضعيفا في حديثه
ص: 253
ورأيه.
315 - ( ت ق ) موسى بن عبيدة الربذي (1) :
قال أحمد : لا يكتب حديثه.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
وقال يحيى بن سعيد : كنّا نتّقيه (2).
يب : قال أحمد مرّة : لا يشتغل به.
وأخرى : لا تحلّ الرواية عنه عندي.
316 - ( ت ق ) موسى بن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي (3) :
قال ابن معين : ليس بشيء ، ولا يكتب حديثه.
وقال الدارقطني : متروك.
يب : قال ( د ) : لا يكتب حديثه.
يب : قال بندار : كتبت عنه كثيرا ثمّ تركته.
وقال أحمد : شبه لا شيء.
318 - ( ت ق ) ميمون بن موسى المرئي (1) :
قال أحمد : يدلّس.
يب : قال الفلّاس : يدلّس.
وقال ابن حبّان : يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات ، لا يجوز الاحتجاج به.
* * *
ص: 255
ص: 256
319 - ( 4 ) نجيح بن عبد الرحمن السندي ، أبو معشر (1) :
كان يحيى بن سعيد يضحك إذا ذكره.
يب : قال ابن المديني : كان ضعيفا ضعيفا.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
وقال نصر بن طريف : أكذب من في السماء و [ من في ] الأرض.
وقال أبو نعيم : روى الموضوعات ، لا شيء.
320 - ( ق ) نصر بن حمّاد الورّاق (2) :
قال ابن معين : كذّاب.
وقال مسلم : ذاهب الحديث.
وقال صالح جزرة : لا يكتب حديثه.
يب : قال أبو حاتم والأزدي : متروك [ الحديث ].
ص: 257
321 - ( م 4 ) النعمان بن راشد الجزري ، أبو إسحاق ، مولى بني أميّة (1) : يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وضعّفه يحيى القطّان جدّا. 3
322 - ( خ د ت ق ) نعيم بن حمّاد الخزاعي ، أبو عبد اللّه (2) :
قال ( د ) : كان عنده نحو عشرين حديثا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا أصل لها.
يب : قال الدولابي : قال ( س ) : ضعيف (3).
وقال غيره : [ كان ] يضع الحديث في تقوية السنّة.
وقال الأزدي : قالوا : يضع الحديث في تقوية السنّة (4).
وقال ابن معين : ليس [ في الحديث ] بشيء.
323 - ( م س ت ق ) نعيم بن أبي هند الأشجعي الكوفي (5) :
قال أبو حاتم : قيل للثوري : لم لم تسمع منه؟! قال : كان يتناول عليّا علیه السلام .
ص: 258
ن : هو لون غريب ، كوفيّ ناصبيّ!
324 - ( ت ق ) نفيع بن الحارث ، أبو داود الأعمى ، القاصّ الكوفي (1) :
قال ( س ) والدارقطني : متروك (2).
يب : قال ابن معين : ليس بشيء (3) ، يضع.
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال الحاكم : روى أحاديث موضوعة.
وقال الدولابي : متروك.
325 - ( د ت ق ) النهّاس بن قهم القيسي ، أبو الخطّاب البصري (4) :
تركه يحيى القطّان.
يب : قال ابن معين مرّة : ليس بشيء.
وقال ابن عديّ : لا يساوي شيئا.
* * *
ص: 259
ص: 260
326 - ( خ م س ) هشام بن حجير المكّي (1) :
ن : سئل عنه يحيى القطّان فلم يرضه ، وضرب عليه.
يب : ضعّفه ابن معين جدّا.
وقال ابن المديني ، عن يحيى بن سعيد : خليق أن أدعه ؛ قلت :
أضرب على حديثه؟ قال : نعم.
وقال ( د ) : ضرب الحدّ بمكّة.
327 - ( ع ) هشام بن حسّان ، أبو عبد اللّه القردوسي البصري (2) :
قال وهيب : قال لي الثوري : أفدني عن هشام ؛ فقلت : لا أستحلّ [ ذلك ].
وقال ابن عيينة : لقد أتى هشام أمرا عظيما بروايته عن الحسن.
وقال عبّاد بن منصور : ما رأيته عند الحسن قطّ.
وقال جرير بن حازم : قاعدت الحسن سبع سنين ما رأيته عنده قطّ.
ص: 261
وكان شعبة يتّقي حديثه عن عطاء [ وعكرمة ] (1) والحسن.
يب : قال ( د ) : كانوا يرون أنّه أخذ كتب حوشب (2).
وقال سفيان بن حبيب : ربّما سمعته يقول : سمعت عطاء ؛ وأجيء بعد ذلك فيقول : حدّثني الثوري وقيس عن عطاء ، هو ذاك بعينه ؛ قلت له :
إثبت على أحدهما ؛ فصاح بي!
329 - ( م 4 ) هشام بن سعد ، أبو عبّاد المدني (1) : يب : قال أحمد : هو كذا وكذا ، كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه (2).
وقال ابن معين : ليس بشيء.
330 - ( خ 4 ) هشام بن عمّار السلمي ، أبو الوليد ، خطيب دمشق [ ومقرئها ] ومحدّثها وعالمها (3) :
وقال ( د ) : حدّث بأربعمائة حديث [ مسندة ] (4) ليس لها أصل.
وقال عبد اللّه بن محمّد بن سيّار : كان يلقّن كلّ شيء ما كان من حديثه ، ويقول : أنا [ قد ] أخرجت هذه الأحاديث صحاحا.
يب : قال ( د ) : كان فضلك يدور على أحاديث أبي مسهر وغيره (5) يلقّنها هشاما ، فيحدّث بها ، وكنت أخشى أن يفتق (6) في الإسلام فتقا.
ص: 263
331 - ( ع ) هشيم بن بشير السلمي ، أبو معاوية الواسطي (1) : يب : قيل لابن معين في تساهل هشيم ، فقال : ما أدراه ما يخرج من رأسه!
ن : قال الثوري : لا تكتبوا عنه.
وقال ابن القطّان : لهشيم صنعة محذورة في التدليس ، فإنّ الحاكم أبا عبد اللّه ذكر أنّ جماعة من أصحابه اتّفقوا [ يوما ] على أن لا يأخذوا عنه تدليسا ، ففطن لذلك ، فجعل يقول في كلّ حديث يذكره : حدّثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ؛ فلمّا فرغ قال لهم : هل دلّست [ لكم ] اليوم؟! قالوا :
لا ؛ فقال : لم أسمع من مغيرة ممّا ذكرته حرفا ، إنّما قلت : حدّثني حصين [ وهو مسموع لي ] (2) ؛ ومغيرة غير مسموع لي!
يب : قال العجلي وابن حبّان : مدلّس.
وقال ابن سعد : يدلّس كثيرا.
* * *
ص: 264
334 - ( ع ) الوليد بن كثير المخزومي ، مولاهم (1) : قال ( د ) : إباضي.
يب : قال الساجي : كان إباضيا.
335 - ( ت ق ) الوليد بن محمّد الموقّري (2) ، أبو بشر البلقاوي ، مولى يزيد بن عبد الملك (3) :
قال ابن المديني : لا يكتب حديثه.
وقال ابن معين : كذّاب.
يب : قال محمّد بن عوف (4) : ضعيف كذّاب.
وقال ( س ) مرّة : ليس بثقة.
ومرّة : متروك [ الحديث ] (5).
ص: 266
زاد في ن : وهو يقول فيها : قال الأوزاعي (1).
وقال في ن : قال أبو مسهر : الوليد مدلّس ، وربّما دلّس عن الكذّابين.
وفي ن : إذا قال الوليد : عن ابن جريج ، أو : عن الأوزاعي ؛ فليس بمعتمد ، لأنّه يدلّس عن كذّابين.
يب : قال أحمد : كان رفّاعا.
وقال : اختلطت عليه أحاديث ما سمع وما لم يسمع ، وكانت له منكرات.
337 - ( ع ) وهب بن جرير بن حازم الأزدي ، أبو العبّاس البصري (1) : قال أحمد : قال ابن مهدي : هاهنا قوم يحدّثون عن شعبة ، ما رأيناهم عنده - يعرّض بوهب -.
يب : قال أحمد : ما رؤي وهب عند شعبة قطّ (2) ، ولكن كان وهب صاحب سنّة (3) ، حدّث [ كما ] (4) زعموا عن شعبة بنحو أربعة آلاف حديث.
* * *
ص: 269
ص: 270
338 - ( د ت ق ) يحيى بن أبي حيّة ، أبو جناب الكلبي (1) :
قال الفلّاس : متروك (2).
وقال أبو زرعة : يدلّس.
ن : قال ابن الدورقي [ عن يحيى بن معين ] (3) : يدلّس (4).
يب : قال أبو حاتم : لا يكتب حديثه.
وقال ( س ) : ليس بثقة.
وقال ( س ) ويزيد بن هارون وأبو نعيم وابن معين وابن حبّان وابن خراش ويعقوب بن سفيان : يدلّس.
وقال ابن نمير : أفسد حديثه بالتدليس.
ص: 271
وهو سنّة عن كبارهم كما عرفت (1).
339 - ( ت ) يحيى بن أكثم ، القاضي (2) :
[ يب : ] (3) قال ابن معين : يكذب.
وقال أبو عاصم : كذّاب.
وقال إسحاق بن راهويه : ذلك الرجل الدجّال - يعني ابن أكثم -.
340 - ( ت ) يحيى بن أبي أنيسة (4) :
قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال أحمد والدارقطني : متروك (5).
وقال الفلّاس : أجمعوا على ترك حديثه.
341 - ( ع ) يحيى بن سعيد بن قيس ، أبو سعيد المدني الأنصاري القاضي النجّاري (6) :
يب : قال يحيى بن سعيد القطّان : يدلّس.
ص: 272
وقال الدمياطي : يقال إنّه يدلّس.
342 - ( خ م د ت ق ) يحيى بن صالح الوحاظي (1) :
قال أحمد بن صالح المصري : حدّثنا يحيى بن صالح ثلاثة عشر حديثا عن مالك ما وجدناها عند غيره.
يب : قال مهنّأ : سألت أحمد عنه ، فجعل يضعّفه (2).
وقال أحمد : لم أكتب عنه لأنّي رأيته يسيء الصلاة.
وقال العقيلي : هو كذا وكذا.
343 - ( خ م س ت ) يحيى بن عبّاد الضبعي ، أبو عبّاد البصري (3) :
يب : ضعّفه الساجي وقال : لم يحدّث عنه أحد من أصحابنا
ص: 273
بالبصرة.
وقال عبد اللّه بن المديني : ليس ممّن أحدّث عنه.
344 - ( خ م ق ) يحيى بن عبد اللّه بن بكير ، أبو زكريّا المصري الحافظ ، وقد ينسب إلى جدّه (1) :
قال ( س ) : ليس بثقة.
يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
345 - ( ت ق ) يحيى بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن موهب التيمي المدني (2) :
تركه يحيى القطّان.
وقال ابن معين : ليس بشيء.
وقال شعبة : رأيته يصلّي صلاة لا يقيمها ، فتركت حديثه.
يب : قال ابن معين : لا يكتب حديثه.
وقال أبو حاتم : لا يشتغل به.
وقال ( س ) مرّة : متروك [ الحديث ].
وأخرى : لا يكتب حديثه.
وقال مسلم بن الحجّاج : ساقط ، متروك [ الحديث ].
وقال أبو عبد اللّه الحاكم : يضع الحديث.
ص: 274
346 - ( ع ) يحيى بن أبي كثير ، أبو نصر اليمامي (1) : قال العقيلي : يذكر بالتدليس.
وقال يحيى القطّان : مرسلاته شبه الريح.
وقال همّام : كنّا نحدّثه بالغداة ، فإذا جاء العشيّ قلبه علينا.
يب : قال ابن حبّان : يدلّس ، فكلّ ما روى عن أنس فقد دلّس عنه ، لم يسمع من أنس ولا من صحابي.
349 - ( م 4 ) يحيى بن يمان ، أبو زكريّا العجلي الكوفي (1) : ن : قال أبو بكر بن عيّاش : ذاهب الحديث.
يب : قال ابن معين : لم يبال أيّ شيء حدّث ، كان يتوهّم الحديث.
وقال وكيع : هذه الأحاديث التي يحدّث بها ليست من أحاديث الثوري.
350 - ( ت ق ) يزيد بن أبان الرقاشي ، أبو عمرو ، القاصّ الزاهد (2) :
قال ( س ) : متروك (3).
وقال شعبة : لأن أزني أحبّ إليّ من أن أحدّث عنه.
يب : [ قال عمرو بن عليّ : ] كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عنه.
وقال أحمد : لا يكتب حديثه.
وقال ( س ) : ليس بثقة.
وقال أبو أحمد الحاكم : متروك [ الحديث ].
ص: 276
351 - ( ت ق ) يزيد بن زياد القرشي الدمشقي ، ويقال : ابن أبي زياد (1) : قال ( س ) : متروك الحديث.
يب : قال ابن نمير : ليس بشيء.
وقال أبو حاتم مرّة : ذاهب الحديث.
ومرّة : ضعيف الحديث ، كأنّه موضوع.
352 - ( ت ق ) يزيد بن سنان ، أبو فروة الرهاوي (2) :
قال ( س ) : متروك (3).
يب : قال ( د ) : ليس بشيء.
وقال ابن عديّ : أحاديثه مسروقة.
353 - ( ت ق ) يزيد بن عياض بن جعدبة الليثي ، أبو الحكم (4) :
رماه مالك بالكذب.
وقال ابن معين مرّة : يكذب.
وأخرى : ليس بشيء.
ص: 277
وقال ( س ) : متروك (1).
يب : قال أحمد بن صالح : أظنّه [ كان ] يضع للناس.
وقال ( د ) : ترك حديثه [ ابن عيينة ].
وقال ( س ) : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال الأزدي : متروك الحديث.
354 - ( ت ق ) يعقوب بن الوليد ، أبو يوسف ، وقيل : أبو هلال (2) :
قال أحمد : من الكذّابين الكبار ، يضع الحديث.
وقال ابن معين : كذّاب.
ن : كذّبه أبو حاتم.
يب : قال الفلّاس : ضعيف [ الحديث ] جدّا.
وقال ( س ) مرّة : ليس بشيء ، متروك [ الحديث ].
ومرّة : ليس بثقة ، لا يكتب حديثه.
وقال ابن حبّان : يضع الحديث.
355 - ( ق ) يوسف بن خالد ، الفقيه ، البصري ، الليثي (3) :
قال أبو حاتم : له كتاب وضعه في التجهّم ، ينكر فيه الميزان والقيامة.
ص: 278
وقال ابن معين : كذّاب.
زاد في يب : زنديق ، لا يكتب حديثه.
يب : قال الفلّاس : يكذب.
وقال ( د ) : كذّاب.
وقال ابن معين : يكذب (1).
وقال ابن حبّان : يضع الأحاديث.
356 - ( م د ت ق ) يونس بن بكير بن واصل الشيباني الجمّال (2) :
قال ( د ) : يأخذ كلام ابن إسحاق فيوصله بالأحاديث.
ن : قال ابن المديني : لا أحدّث عنه.
وقال يحيى الحمّاني : لا أستحلّ الرواية عنه.
وقال ابن معين : مرجئ يتّبع السلطان.
ص: 279
ومثله في يب عن الساجي.
وفي الكتابين : قال إبراهيم عن ابن معين : ثقة ، كان مع جعفر بن يحيى ، وكان موسرا ؛ فقال له رجل : إنّهم يرمونه بالزندقة؟! فقال : كذب ، رأيت ابني أبي شيبة أتياه فأقصاهما ، فذهبا يتكلّمان فيه.
من البعيد أن تجتمع الوثاقة مع اتّباع السلطان الجائر ، كما يشكل أنّ من يتكلّم في الناس للرضا والسخط يكون حجّة في الجرح والتعديل.
* * *
ولنكتف بهذا المقدار من الأسماء مضيفين إليها بعض من اشتهر بكنيته ..
ص: 280
357 - ( د ت ق ) أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم الغسّاني الشامي الحمصي ، وقد ينسب إلى جدّه (1) :
قال أحمد : ليس بشيء.
يب : قال الدارقطني : متروك.
وقال ابن حبّان : استحقّ الترك.
ومثله في يب عن أحمد.
359 - ( ع ) أبو بكر بن أبي موسى الأشعري (1) :
يب : قال ( د ) : كان يذهب مذهب أهل الشام ، جاءه أبو العادية (2) قاتل عمّار ، فأجلسه إلى جنبه وقال : مرحبا بأخي!
وقال أحمد : ما سمع من أبيه.
يعني أنّه مدلّس ، أو كاذب في ما يرويه عن أبيه.
360 - ( ق ) أبو بكر الهذلي (3) :
يب : قال ابن معين مرّة : ليس بثقة.
وأخرى : ليس بشيء.
وقال غندر : يكذب.
ص: 282
وقال ( س ) : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال ( س ) وعليّ بن الجنيد : متروك [ الحديث ].
وقال ابن المديني : ليس بشيء.
وقال مرّة : ضعيف جدّا.
وأخرى : ضعيف ضعيف.
وقال الدارقطني : متروك.
361 - ( د ت (1) ق ) أبو زيد ، مولى عمرو بن حريث (2) :
قال أبو أحمد الحاكم : مجهول.
يب : قال ( خ ) وأبو زرعة وأبو إسحاق الحربي : مجهول.
وقال ابن عبد البرّ : اتّفقوا على أنّه مجهول وحديثه منكر.
362 - ( ق ) أبو سلمة العاملي الشامي الأزدي ، اسمه : الحكم بن عبد اللّه بن خطّاف ، وقيل : عبد اللّه بن سعد (3) :
قال أبو حاتم : كذّاب.
ص: 283
يب : قال ( س ) : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال الدارقطني : يضع الحديث.
وقال أبو مسهر : كذّاب.
363 - ( د ت ق ) أبو سورة ، ابن أخي أبي أيّوب الأنصاري (1) :
يب : قال الدارقطني : مجهول.
وضعّفه ابن معين جدّا.
365 - ( ق ) (1) أبو مالك الواسطي النخعي (2) : يب : قال ابن معين : ليس بشيء.
وقال ( س ) : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه.
وقال ( س ) أيضا والأزدي : متروك الحديث (3).
366 - ( د ت ق ) أبو المهزّم التميمي البصري ، اسمه : يزيد - أو : عبد الرحمن - بن سفيان (4) :
ذكره في ن في من اسمه يزيد.
تركه شعبة.
وقال ( س ) : متروك (5).
يب : قال ابن معين : لا شيء.
وقال ( س ) : ليس بثقة.
* * *
ص: 285
وبهذا فلتتمّ المقدّمة ، وقد فاتنا الكثير ، لأنّنا إنّما أردنا الكشف عن أحوال صحاحهم في الجملة.
ولنشرع بالمقصود مستعينين باللّه سبحانه ..
* * *
ص: 286
مقدمة التحقيق ... 5
أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان ... 5
علم الجدل ... 6
الجدل في القرآن ... 7
الجدل بالحقّ : إقامة الحجّة المعتبرة ... 11
الحجّة المعتبرة : الكتاب والسنّة ... 12
آداب المناظرة والجدل ... 14
علم الكلام ... 16
تعريف علم الكلام وفائدته ... 16
من كتب الإمامية في أصول الدين ... 19
من كتب أهل السنّة في أصول الدين ... 21
موضوعات كتب أصول الدين ... 22
هل علم الكلام من أسباب هزائمنا؟ ... 23
أثر علم الكلام في التشيّع ... 24
من المسائل الخلافية في علم الكلام ... 25
الإمامة ... 26
وجوب الإمامة ... 27
تعريف الإمامة ... 28
الإمامة من أصول الدين ... 30
على من يجب نصب الإمام؟ ... 32
من هو الإمام بعد النبيّ؟! ... 36
إلتزام الإمامية بالجدل بالتي هي أحسن ... 37
ص: 287
موقف الشيعة من هجوم الخصوم ... 41
نهج الحقّ وكشف الصدق ، للعلّامة الحلّي ... 50
إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل ، لابن روزبهان ...54
دراسات في مسائل الإمامة من كتاب ابن روزبهان ... 55
أوّلا - السبّ والشتم ... 55
ثانيا - التعاطف مع بني أميّة ومناوئي أمير المؤمنين ... 61
1 - عائشة ... 62
2 - أمراء بني أميّة ... 62
3 - معاوية ... 63
4 - عبد اللّه بن الزبير ... 68
5 - أنس بن مالك ... 69
ثالثا - التكذيب بقضايا ثابتة ... 69
1 - كون أبي بكر في جيش أسامة ... 70
2 - تفرّد أبي بكر برواية حديث « نحن معاشر الأنبياء ... » ... 71
3 - كشف أبي بكر بيت فاطمة علیهاالسلام ... 72
4 - تحريم عمر المغالاة في المهر ... 80
5 - ابتداع عمر صلاة التراويح ... 83
6 - حكم عمر بن برجم الحامل والمجنونة ... 86
7 - ضرب عثمان عبد اللّه بن مسعود ... 89
8 - ضرب عثمان عمّار بن ياسر ... 90
9 - سبّ معاوية أمير المؤمنين علیه السلام ... 91
10 - قراءة الشافعي على محمّد بن الحسن الشيباني ... 93
رابعا - الطعن في علماء أهل السنّة ... 94
خامسا - النقل والاعتماد على المتعصّبين ... 100
* دفاعه عن الجاحظ ... 100
* اعتماده على ابن الجوزي في كتاب « الموضوعات » ... 101
ص: 288
سادساً - نقل المطلب عن كتاب ، ونفي وجوده في كتاب ... 104
سابعا - التحريفات في الروايات والكلمات ... 107
ثامنا - التناقض ... 119
تاسعا - الخروج عن البحث ، والإباء عن الإقرار بالحقّ ... 123
عاشرا - إنكار فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ... 125
ترجمة العلّامة الحلّي ... 159
ترجمة الفضل بن روزبهان ... 162
ترجمة القاضي التستري ... 165
ترجمة الشيخ المظفّر ... 167
نسبه وأسرته ... 167
والده ... 168
والدته ... 169
إخوته ... 169
ولادته ونشأته وسجاياه ... 169
شعره ... 177
مصنّفاته ... 189
وفاته ... 190
أسلوب العمل ومنهج التحقيق ... 195
النسخ المعتمدة ... 196
عملنا في الكتاب ... 200
تنبيهات ... 202
شكر وثناء ... 203
صورة النسخة المخطوطة ... 205
ص: 289
فهرس المحتويات
متن الكتاب
مقدمة المؤلف... 3
المطلب الأوّل : أخبار العامّة حجّة عليهم... 7
الأمر الأوّل : إنهما إما صحيحة السند عندهم ، أو متعدّدة الطرق بينهم... 7
الأمر الثاني : إنها مما يقطع عادة بصحتها... 7
المطلب الثاني : لا قيمة لمناقشة أهل السنّة في السند... 27
الأمر الأوّل : إن علماء الجرح والتعديل ، مطعون فيهم عندهم... 27
أحمد بن حنبل ... 30
يحيى بن سعيد القطّان :... 32
يحيى بن معين :... 32
ابن المديني ، أبو الحسن عليّ بن عبد اللّه بن جعفر :... 33
الترمذي :... 34
الجوزجاني ، إبراهيم بن يعقوب السعدي :... 35
محمّد بن حبّان :... 35
ابن حزم ، وهو : عليّ بن أحمد بن سعيد... 36
الذهبي ، محمد بن أحمد بن عثمان... 37
الأمر الثاني : إلغاء أقوال علمائهم في تضعيف رجال الصحاح الستّة... 38
المطلب الثالث : مناقشة الصحاح الستّة... 41
الأمر الأوّل : كيفيّة جمعها ... 41
الأمر الثاني : اشتمالها على الكفر... 49
الأمر الثالث : تدليس أكثر رواتها ... 53
تدليس البخاري ... 54
تدليس مسلم... 55
خطورة التدليس... 55
الأمر الرابع : جرح أكثر رواتها ... 57
تحقيق حال رجال الصحاح الستّة... 57
ص: 290
حرف الألف
إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة... 61
إبراهيم بن عثمان ، أبو شيبة الكوفي... 61
إبراهيم بن الفضل المخزومي... 62
إبراهيم بن يزيد الخوزي المكّي الأموي... 62
إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي... 63
إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي... 63
أحمد بن صالح المصري ، أبو جعفر الحافظ... 65
أحمد بن عبد الجبّار العطاردي... 65
أحمد بن عيسى المصري... 66
أحمد بن الفرات الضبّي الحافظ... 67
أزهر بن عبد اللّه الحرازي ... 67
أسامة بن زيد الليثي... 67
أسباط ، أبو اليسع... 68
إسحاق بن إبراهيم الحنيني ... 68
إسحاق بن أسيد ... 69
إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة... 69
إسحاق بن محمّد بن إسماعيل بن عبد اللّه ابن أبي فروة ... 70
إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد اللّه التيمي ... 70
إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، أبو يوسف الكوفي... 71
إسماعيل بن إبراهيم بن معمر ، أبو معمر الهذلي القطيعي ... 71
إسماعيل بن رافع المدني ، نزيل البصرة ... 72
إسماعيل بن سميع الكوفي ، الحنفي ، بيّاع السابري ... 72
ص: 291
إسماعيل بن عبد اللّه ، أبي أويس بن عبد اللّه الأصبحي... 76
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة ، أبو محمّد السدّي... 77
إسماعيل بن مسلم البصري... 77
أسيد بن زيد ... 78
أشعث بن سعيد البصري ، أبو الربيع السمّان ... 78
أشهل بن حاتم... 79
أفلح بن سعيد الأنصاري القبائي ... 79
أيّوب بن خوط ، أبو أميّة البصري ... 79
أيّوب بن سويد الرملي ... 80
أيّوب بن قطن ... 81
أيّوب بن النجّار الحنفي ، اليمامي ... 81
حرف الباء
باذام ، أبو صالح... 83
البختري بن عبيد الشامي ... 83
بسر بن أرطأة ، ويقال : ابن أبي أرطأة ... 84
بشر بن رافع الحارثي ، أبو الأسباط النجراني... 85
بشر بن نمير... 85
بشير - مصغراً - لبن مهاجر الغنوي الكوفي... 86
بشير بن ميمون... 86
بقيّة بن الوليد بن صائد الحمصي الكلاعي ، أبو محمّد ... 87
بكر بن خنيس العابد ... 88
بهز بن حكيم بن معاوية القشيري ... 88
ص: 292
حرف التاء
تمّام بن نجيح الدمشقي ، نزيل حلب ... 89
حرف الثاء
ثعلبة بن عباد العبدي ... 91
ثور بن يزيد بن زياد الكلاعي الحمصي ... 91
حرف الجيم
الجرّاح بن مليح ، والد وكيع ... 93
جعفر بن الزبير الدمشقي ... 93
جعفر بن ميمون ، بيّاع الأنماط ... 94
جعفر بن يحيى بن ثوبان ... 94
حرف الحاء
حاجب بن عمر الثقفي ، أبو خشينة ... 95
الحارث بن زياد ، شامي ... 95
الحارث بن عمرو ، ابن أخي المغيرة بن شعبة ... 96
الحارث بن عمير البصري ، نزيل مكّة ، والد حمزة ... 96
الحارث بن نبهان الجرمي البصري ... 96
حارثة بن أبي الرجال ... 97
حبيب بن أبي ثابت ... 97
حبيب بن أبي حبيب يزيد الجرمي الأنماطي ... 98
حبيب بن أبي حبيب المصري ، كاتب مالك ... 98
ص: 293
حجّاج بن أرطأة بن ثور ، أبو أرطأة ، الكوفي ، القاضي ... 98
حريث بن أبي مطر الفزاري الحنّاط... 100
حريز بن عثمان الرحبي الحمصي ... 100
حسام بن مصكّ الأزدي البصري ... 101
الحسن بن عليّ النوفلي الهاشمي ... 101
الحسن بن عمارة بن المضرّب الكوفي... 102
الحسن ، أبو سعيد بن يسار أبي الحسن البصري... 102
الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب ... 103
الحسين بن قيس الرحبي الواسطي... 103
حشرج بن زياد الأشجعي ... 104
حصين بن عمر الأحمسي ... 104
حصين بن نمير الواسطي ، أبو محصن الضرير ... 104
حفص بن سليمان ، أبو عمر الأسدي ... 105
حمّاد بن أسامة ، أبو أسامة ... 105
حمّاد بن أبي سليمان مسلم الأشعري ... 106
حمّاد بن حميد ... 106
حمزة بن أبي حمزة النصيبي ... 107
حميد بن أبي حميد تيرويه الطويل ، أبو عبيدة البصري ... 107
حنان بن خارجة السلمي الشامي ... 108
حنظلة بن عبد اللّه السدوسي البصري ... 108
حرف الخاء
خارجة بن مصعب السرخسي ... 109
خالد بن إلياس - ويقال : إياس - العدوي ... 109
ص: 294
خالد بن سلمة بن العاص المخزومي ، المعروف ب : الفأفاء ... 110
خالد بن عرفطة - أو : ابن عرفجة - ... 112
خالد بن عبد اللّه القسري ... 113
خالد بن عمرو الأموي السعيدي ... 114
خالد بن يزيد الدمشقي ... 114
خثيم بن عراك بن مالك ... 115
خلاس بن عمرو البصري الهجري ... 115
الخليل بن زكريّا البصري ... 116
حرف الدال
داود بن الحصين الأموي ، مولاهم ... 117
داود بن الزبرقان الرقاشي ... 117
داود بن المحبّر ... 118
داود بن يزيد الأودي الأعرج ... 118
درّاج بن سمعان ، أبو السمح المصري ... 119
حرف الذال
ذُؤاد بن عُلبَة الحارثي ، أبو المنذر ... 121
حرف الراء
رباح بن أبي معروف المكّي ... 123
الربيع بن بدر ، أبو العلاء البصري ، المعروف ب : عليلة ... 123
رشدين بن سعد بن مفلح ، أبو الحجّاج المصري ... 124
روح بن أسلم الباهلي... 124
ص: 295
حرف الزاي
زكريّا بن أبي زائدة ، أبو يحيى الكوفي ... 125
زمعة بن صالح الجندي اليماني ، نزيل مكّة ... 125
زميل بن عبّاس المدني الأسدي... 126
زهير بن محمّد التميمي المروزي ... 126
زهير بن معاوية ، أبو خيثمة الكوفي الجعفي ... 126
زياد بن جبير بن حيّة الثقفي البصري ... 126
زياد بن عبد اللّه بن الطفيل البكّائي العامري ... 127
زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي ، ابن أخي قطبة ... 127
زيد بن جبيرة ، أبو جبيرة الأنصاري ... 127
زيد بن حبّان الرقّي ... 127
زيد بن الحواري ، أبو الحواري... 128
حرف السين
سالم بن أبي الجعد رافع... 129
سالم بن عجلان الأفطس الأموي ... 129
السريّ بن إسماعيل ، ابن عمّ الشعبي ... 130
سعد بن طريف الإسكاف الحنظلي الكوفي ... 130
سعد بن عثمان الرازي الدشتكي ... 130
سعيد بن حيّان التيمي ، من تيم الرباب ... 131
سعيد بن زيد بن درهم ، أخو حمّاد ... 131
سعيد بن محمّد الورّاق ... 131
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ... 132
ص: 296
سفيان بن عيينة الهلالي ... 133
سفيان بن وكيع بن الجرّاح ... 134
سلّام بن سليم - أو : سلم - الطويل ... 134
سلم بن عبد الرحمن النخعي الكوفي ، أخو حصين ... 135
سلمة بن الأزرق ، حجازي ... 135
سليمان بن أرقم ، أبو معاذ البصري ... 135
سليمان بن داود ، أبو داود الطيالسي البصري... 136
سليمان بن طرخان ، أبو المعتمر البصري ... 137
سمرة بن سهم... 137
سهيل بن أبي صالح ، ذكوان السمّان ، أبو يزيد المدني ... 138
سويد بن سعيد ، أبو محمّد الهروي الحدثاني الأنباري ... 138
سويد بن عبد العزيز ، الواسطي أصلا ، القاضي ... 139
سيف بن محمّد الثوري... 139
سيف بن هارون ، أبو الورقاء ... 140
حرف الشين
شبابة بن سوّار المدائني ، قيل : اسمه مروان ... 141
شبث بن ربعي التميمي اليربوعي ... 141
شبيب بن عبد الملك التميمي البصري ... 142
شريق الهوزني الحمصي ... 143
شريك بن عبد اللّه النخعي ، أبو عبد اللّه القاضي ... 143
شعيب بن صفوان ، أبو يحيى الكوفي ... 143
شهر بن حوشب الأشعري الشامي ... 143
حرف الصاد
صالح بن بشير ، أبو بشر المرّي البصري... 145
ص: 297
صالح بن حسّان النضري ، ويقال : صالح ابن أبي حسّان ... 145
صالح بن أبي حسّان المدني... 146
صالح بن رستم ، أبو عامر الخزّاز ... 146
صالح بن موسى الطلحي ... 146
صالح بن نبهان ، مولى التّوأمة ... 147
صدقة بن عبد اللّه السمين ، أبو معاوية الدمشقي ... 147
الصلت بن دينار الأزدي البصري ، أبو شعيب المجنون ... 147
حرف الضاد
الضحّاك بن مزاحم ، المفسّر... 149
حرف الطاء
طارق بن عمرو المكّي ، القاضي ... 151
طريف بن شهاب السعدي ، الأشلّ ، أبو سفيان البصري ... 152
طلحة بن زيد القرشي... 152
طلحة بن عمرو الحضرمي ، صاحب عطاء ... 153
طلحة بن مصرّف الهمداني اليامي الكوفي ... 153
طلحة بن نافع ، أبو سفيان الواسطي... 153
طلحة بن يحيى بن النعمان الزرقي... 154
حرف العين
عاصم بن بهدلة ، ابن أبي النجود الكوفي ، أبو بكر... 155
عاصم بن عبيد اللّه بن عاصم بن عمر بن الخطّاب ... 155
عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب ... 156
عامر بن صالح ... 156
عبّاد بن زياد بن أبيه... 157
ص: 298
عبّاد بن كثير الثقفي البصري ، العابد ... 157
عبّاد بن منصور الناجي ، أبو سلمة ، القاضي البصري ... 158
عبد اللّه بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري ... 159
عبد اللّه بن بشر الرقّي ، قاضيها ... 159
عبد اللّه بن جعفر بن نجيح ، والد عليّ بن المديني ... 159
عبد اللّه بن خراش... 160
عبد اللّه بن ذكوان ، المعروف بأبي الزناد ... 160
عبد اللّه بن زيد بن أسلم العدوي ، مولى عمر ... 161
عبد اللّه بن سالم الأشعري الحمصي ... 162
عبد اللّه بن سعيد بن كيسان المقبري ... 165
عبد اللّه بن شقيق العقيلي البصري ... 165
عبد اللّه بن صالح بن محمّد بن مسلم ، أبو صالح المصري... 166
عبد اللّه بن طاووس بن كيسان اليماني ... 168
عبد اللّه بن عبيدة بن نشيط ، أخو موسى ... 169
عبد اللّه بن عصمة الجشمي ... 169
عبد اللّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب... 169
عبد اللّه بن عيسى الخزّاز ، أبو خلف البصري ... 170
عبد اللّه بن لهيعة بن عقبة الحضرمي المصري ... 170
عبد اللّه بن المثنّى ، أبو المثنّى ... 171
عبد اللّه بن المحرّر ، قاضي الجزيرة ... 171
عبد اللّه بن محمّد العدوي ... 172
عبد اللّه بن مسلم بن هرمز المكّي ... 172
عبد الأعلى بن عامر الثعلبي الكوفي ... 172
عبد الجبّار بن عمر الأيلي الأموي ، مولاهم ... 173
عبد الرحمن بن آدم البصري ، المعروف بصاحب السقاية... 173
عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة ... 174
ص: 299
عبد الرحمن بن أبي الزناد ، أبو محمّد المدني ... 174
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، القاضي الإفريقي ... 175
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي ... 175
عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب ... 176
عبد الرحمن بن عثمان ، أبو بحر البكراوي البصري ... 176
عبد الرحمن بن محمّد بن زياد المحاربي ، أبو محمّد الكوفي ... 177
عبد الرحمن بن النعمان بن معبد... 177
عبد الرحمن بن هانئ ، أبو نعيم النخعي ... 177
عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الدمشقي ... 178
عبد الرحمن بن يونس ، أبو مسلم المستملي... 178
عبد الرحيم بن زيد... 179
عبد العزيز بن أبان الأموي ... 179
عبد العزيز بن المختار الدبّاغ البصري ... 180
عبد الكريم بن أبي المخارق ، أبو أميّة ... 180
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي... 181
عبد الملك بن عمير اللخمي ، قاضي الكوفة ... 181
عبد الملك بن نافع الشيباني ... 182
عبد الواحد بن زياد ، أبو بشر العبدي... 182
عبد الوهّاب بن الضحّاك ... 183
عبد الوهّاب بن عطاء الخفّاف ، أبو نصر ... 183
عبد الوهّاب بن مجاهد ... 184
عبيد اللّه بن زحر ... 184
عبيد اللّه بن عبد اللّه بن موهب ، أبو يحيى التيمي ... 184
عبيد اللّه بن الوليد الوصّافي ، أبو إسماعيل الكوفي ... 185
عبيد بن القاسم ... 185
عبيدة بن معتّب الضبّي ، أبو عبد الكريم الكوفي ... 186
ص: 300
عتّاب بن بشير الجزري ... 186
عثمان بن حيّان بن معبد ، أبو المغراء الدمشقي... 186
عثمان بن عاصم بن حصين ، أبو حصين الكوفي... 187
عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص ... 188
عثمان بن عبد الرحمن بن مسلم الحرّاني المؤدّب ... 189
عثمان بن عمير ، أبو اليقظان الأعمى ... 189
عطاء بن عجلان البصري العطّار ... 189
عطاء بن أبي مسلم الخراساني ... 190
عطاء ، أبو الحسن السوائي ... 190
عطاء العامري الطائفي ، والد يعلى ... 191
عكرمة البربري ، مولى ابن عبّاس ... 191
العلاء بن زيد ... 193
العلاء بن مسلمة الروّاسي... 194
عليّ بن ظبيان ، قاضي بغداد ... 194
عليّ بن عاصم بن صهيب الواسطي ... 195
عليّ بن عبد اللّه بن جعفر ، أبو الحسن ، ابن المديني البصري ... 195
عليّ بن عروة ... 196
عليّ بن مجاهد الكابلي ... 196
عليّ بن أبي هاشم عبيد اللّه... 197
عليّ بن يزيد بن أبي هلال الألهاني... 197
عمّار بن سيف الضبّي ، أبو عبد الرحمن ... 197
عمّار بن محمّد الثوري ، أبو اليقظان... 198
عمارة بن جوين ، أبو هارون العبدي البصري ... 198
عمارة بن حديد البجلي ... 201
عمر بن راشد بن شجرة ، أبو حفص اليمامي ... 201
عمر بن عبد اللّه بن يعلى بن مرّة... 201
ص: 301
عمر بن عليّ بن عطاء بن مقدّم المقدّمي البصري ، أبو جعفر ... 202
عمر بن معتّب ، ويقال : ابن أبي معتّب المدني ... 202
عمر بن هارون البلخي ، مولى ثقيف ... 203
عمرو بن بجدان ... 203
عمرو بن خالد الواسطي ... 204
عمرو بن دينار البصري ، أبو يحيى الأعور... 204
عمرو بن سعيد بن العاص الأموي ، المعروف ب : الأشدق ... 205
عمرو بن عبد اللّه بن الأسوار اليماني ... 206
عمرو بن مرزوق ، أبو عثمان الباهلي البصري ... 207
عمرو بن مسلم الجندي اليماني ، صاحب طاووس ... 209
عمرو بن واقد الدمشقي ، مولى بني أميّة ... 210
عمران بن حذيفة... 210
عمران بن حطّان السدوسي... 211
عمران بن خالد ، أبو خالد ... 213
عمير بن هانئ العنسي ، أبو الوليد الدمشقي الداراني ... 213
عنبسة بن خالد بن يزيد الأيلي الأموي... 215
عنبسة بن سعيد بن العاص الأموي ، أخو عمرو الأشدق ... 215
عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ابن العاص الأموي ... 216
عيسى بن عبد الأعلى ... 216
عيسى بن أبي عيسى ميسرة المدني الحنّاط ... 217
عيسى بن ميمون القرشي ... 217
حرف الفاء
فائد بن عبد الرحمن ، أبو الورقاء العطّار الكوفي ... 219
فضيل بن سليمان النميري ، أبو سليمان البصري ... 220
فليح بن سليمان ، أبو يحيى ، واسمه عبد الملك... 220
ص: 302
حرف القاف
القاسم بن عبد اللّه العدوي العمري ... 221
قبيصة بن الهلب ... 221
قتادة بن دعامة ، أبو الخطّاب السدوسي البصري ... 222
قيس بن الربيع ، أبو محمّد الكوفي ... 222
حرف الكاف
كثير بن زاذان النخعي الكوفي ... 223
كثير بن شنظير ، أبو قرّة البصري ... 223
كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف المزني المدني ... 223
حرف اللام
لمازة بن زبّار الأزدي ، أبو لبيد البصري ... 225
الليث بن أبي سليم بن زنيم الكوفي ... 230
حرف الميم
مبارك بن فضالة ، أبو فضالة البصري ... 231
المثنّى بن الصبّاح اليماني ... 231
مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي ... 232
مجاهد بن جبر المقرئ المكّي ... 232
محمّد بن إسحاق بن يسار ، صاحب ( السيرة )... 233
محمّد بن بشّار بن عثمان ، أبو بكر ، بندار البصري الحافظ ... 234
محمّد بن ثابت العبدي البصري ... 234
محمّد بن جابر السحيمي اليمامي الأعمى ... 234
محمّد بن حاتم بن ميمون القطيعي ، المعروف ب : السمين ... 235
محمّد بن الحسن بن أبي يزيد ... 235
محمّد بن حميد بن حيّان ، الحافظ الرازي ... 235
ص: 303
محمّد بن خازم ، أبو معاوية الضرير الكوفي ... 236
محمّد بن خالد الواسطي الطحّان ... 237
محمّد بن داب المديني ... 237
محمّد بن زياد الألهاني ، أبو سفيان الحمصي ... 237
محمّد بن زياد اليشكري الطحّان ... 238
محمّد بن سعيد ، المصلوب الشامي ... 239
محمّد بن طلحة بن مصرّف اليامي الكوفي ... 241
محمّد بن عبد اللّه بن علاثة ، أبو اليسر الحرّاني القاضي ... 241
محمّد بن عبد الرحمن بن البيلماني ... 242
محمّد بن عبيد بن أبي أميّة الطنافسي ، أخو يعلى ... 242
محمّد بن عون الخراساني ... 243
محمّد بن فضاء الأزدي ، أبو بحر البصري ... 243
محمّد بن الفضل بن عطيّة ... 244
محمّد بن القاسم الأسدي ... 244
محمّد بن كثير الصنعاني المصّيصي ... 245
محمّد بن محصن العكّاشي ... 246
محمّد بن مسلم بن تدرس ، أبو الزبير المكّي ... 246
محمّد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي ... 247
محمّد بن يزيد بن محمّد بن كثير ، أبو هشام الرفاعي... 247
محمّد بن يعلى السلمي ، أبو عليّ ، الملقّب ب : زنبور ... 248
مخرمة بن بكير بن عبد اللّه بن الأشجّ ، أبو المسور ... 248
مروان بن سالم الغفاري الشامي الجزري ... 249
مطّرح بن يزيد الأسدي ، أبو المهلّب ... 249
مظاهر بن أسلم ... 250
معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي ، قاضي الأندلس ... 250
معاوية بن يحيى ، أبو روح الصدفي الدمشقي ... 251
ص: 304
معلّى بن منصور ، أبو يعلى ... 251
معلّى بن هلال الطحّان ... 252
المغيرة بن مقسم ، أبو هشام ، الفقيه الكوفي ... 252
مقاتل بن حيّان النبطي ، أبو بسطام ، البلخي الخزّاز ... 253
مكحول الدمشقي الشامي... 253
موسى بن عبيدة الربذي ... 254
موسى بن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ... 254
موسى بن مسعود ، أبو حذيفة ، النهدي البصري ... 254
ميمون بن موسى المرئي... 255
حرف النون
نجيح بن عبد الرحمن السندي ، أبو معشر ... 257
نصر بن حمّاد الورّاق... 257
النعمان بن راشد الجزري ، أبو إسحاق ... 258
نعيم بن حمّاد الخزاعي ، أبو عبد اللّه ... 258
نعيم بن أبي هند الأشجعي الكوفي ... 258
نفيع بن الحارث ، أبو داود الأعمى ... 259
النهّاس بن قهم القيسي ، أبو الخطّاب البصري ... 259
حرف الهاء
هشام بن حجير المكّي... 261
هشام بن حسّان ، أبو عبد اللّه القردوسي البصري ... 261
هشام بن زياد ، أبو المقدام... 262
هشام بن سعد ، أبو عبّاد المدني ... 263
هشام بن عمّار السلمي ، أبو الوليد... 263
هشيم بن بشير السلمي ، أبو معاوية الواسطي ... 264
ص: 305
حرف الواو
واصل بن السائب الرقاشي ، أبو يحيى البصري ... 265
الوليد بن عبد اللّه بن أبي ثور المرهبي... 265
الوليد بن كثير المخزومي ... 266
الوليد بن محمّد الموقّري ، أبو بشر البلقاوي... 266
الوليد بن مسلم ، مولى بني أميّة ، أبو العبّاس الدمشقي... 267
وهب بن جرير بن حازم الأزدي ، أبو العبّاس البصري ... 269
حرف الياء
يحيى بن أبي حيّة ، أبو جناب الكلبي ... 271
يحيى بن أكثم ، القاضي ... 272
يحيى بن أبي أنيسة ... 272
يحيى بن سعيد بن قيس ، أبو سعيد المدني النجّاري ... 272
يحيى بن صالح الوحاظي... 273
يحيى بن عبّاد الضبعي ، أبو عبّاد البصري ... 273
يحيى بن عبد اللّه بن بكير ، أبو زكريّا المصري ... 274
يحيى بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن موهب التيمي المدني ... 274
يحيى بن أبي كثير ، أبو نصر اليمامي ... 275
يحيى بن مسلم البكّاء ... 275
يحيى بن ميمون الضبّي ، أبو المعلّى العطّار ... 275
يحيى بن يمان ، أبو زكريّا العجلي الكوفي ... 276
يزيد بن أبان الرقاشي ، أبو عمرو... 276
يزيد بن زياد القرشي الدمشقي ... 277
يزيد بن سنان ، أبو فروة الرهاوي ... 277
يزيد بن عياض بن جعدبة الليثي ، أبو الحكم ... 277
ص: 306
يعقوب بن الوليد ، أبو يوسف ... 278
يوسف بن خالد ، الفقيه ، البصري ، الليثي ... 278
يونس بن بكير بن واصل الشيباني الجمّال ... 279
تتمّة في الكنى
أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم الغسّاني... 281
أبو بكر بن عيّاش الكوفي الحنّاط... 281
أبو بكر بن أبي موسى الأشعري ... 282
أبو بكر الهذلي ... 282
أبو زيد ، مولى عمرو بن حريث ... 283
أبو سلمة العاملي الشامي الأزدي... 283
أبو سورة ، ابن أخي أبي أيّوب... 284
أبو عاتكة... 284
أبو مالك الواسطي النخعي ... 285
أبو المهزّم التميمي البصري... 285
فهرس المحتويات... 287
ص: 307
المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1423 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-355-1
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الثاني
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
ص: 5
ص: 6
قال المصنّف العلّامة - بعد الحمد والصلاة - (1) :
وبعد ،
فإنّ اللّه تعالى حيث حرّم في كتابه العزيز كتمان بيّناته وآياته ، وحظر إخفاء براهينه ودلالاته ، فقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (2).
وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) (3).
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من علم علما وكتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من النار » (4).
ص: 7
تفضّلا منه على بريّته ، وطلبا لإدراجهم في رحمته ، فيرجع الجاهل عن زلله ، ويستوجب الثواب [ بعلمه ] على عمله.
فحينئذ وجب على كلّ مجتهد وعارف إظهار ما أوجب اللّه تعالى إظهاره من الدين ، وكشف الحقّ ، وإرشاد الضالّين ؛ لئلّا يدخل تحت الملعونين على لسان ربّ العالمين ، وجميع الخلائق أجمعين ، بمقتضى الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية.
وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (1).
ولمّا كان أبناء هذا الزمان ممّن استغواهم الشيطان - إلّا الشاذّ القليل ، الفائز بالتحصيل - حتّى أنكروا كثيرا من الضروريّات ، وأخطأوا في معظم المحسوسات ، وجب بيان خطئهم ؛ لئلّا يقتدي غيرهم بهم ، فتعمّ البليّة جميع الخلق ، ويتركون نهج الصدق.
وقد وضعنا هذا الكتاب الموسوم ب « نهج الحقّ وكشف الصدق » (2) طالبين فيه الاختصار ، وترك الاستكثار ، بل اقتصرنا فيه على مسائل ظاهرة
ص: 8
معدودة ، ومطالب واضحة محدودة.
وأوضحت فيه لطائفة المقلّدين من طوائف المخالفين ، إنكار رؤسائهم ومقلّديهم القضايا البديهية ، والمكابرة في المشاهدات الحسّيّة ، ودخولهم تحت فرق السوفسطائية (1) ، وارتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل ورويّة ؛ لعلمي بأنّ المنصف منهم إذا وقف على مذهب من يقلّده تبرّأ منه ، [ وحاد عنه ، ] وعرف أنّه ارتكب الخطأ والزلل ، وخالف الحقّ في القول والعمل.
فإن اعتمدوا الإنصاف ، وتركوا المعاندة والخلاف ، وراجعوا أذهانهم الصحيحة ، وما تقتضيه جودة القريحة ، ورفضوا تقليد الآباء ، والاعتماد على أقوال الرؤساء ، الّذين طلبوا اللذّة العاجلة ، وأهملوا أحوال الآجلة ، حازوا القسط الأوفى من الإخلاص ، وحصلوا بالنصيب الأسنى من النجاة والخلاص.
وإن أبوا إلّا استمرارا على التقليد ، فالويل لهم من نار الوعيد ، وصدق عليهم قوله تعالى : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) (2).
وإنّما وضعنا هذا الكتاب حسبة لله ، ورجاء لثوابه ، وطلبا للخلاص
ص: 9
من أليم عقابه ، بكتمان الحقّ ، وترك إرشاد الخلق!
وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض ، الباقية دولته إلى يوم النشر والعرض ، سلطان السلاطين ، خاقان الخواقين ، مالك رقاب العباد وحاكمهم ، وحافظ أهل البلاد وراحمهم ، المظفّر على جميع الأعداء ، المنصور من إله السماء ، المؤيّد بالنفس القدسية ، والرئاسة الملكية ، الواصل بفكره العالي ، إلى أسنى مراتب المعالي ، البالغ بحدسه الصائب ، إلى معرفة الشهب الثواقب ، غياث [ الملّة و ] الحقّ والدين : أولجايتو خدابنده محمّد (1) ، خلّد [ اللّه ] ملكه إلى يوم الدين ، وقرن دولته بالبقاء والنصر والتمكين.
وجعلت ثواب هذا الكتاب واصلا إليه ، أعاد اللّه بركاته عليه ، بمحمّد وآله الطاهرين ، صلوات اللّه عليهم أجمعين.
وقد اشتمل هذا الكتاب على مسائل ..
ص: 10
وقال الفضل (1) :
الحمد لله المتعزّز بالكبرياء والرفعة والمناعة ، المتفرّد بإبداع الكون في أكمل نظام وأجمل بداعة ، المتكلّم بكلام أبكم كلّ منطيق من قروم (2) أهل البراعة ، فانخزلوا (3) آخرا في حجر (4) العجز وإن بذلوا الوسع والاستطاعة.
أحمده على ما تفضّل بمنح كرائم الأجور على أهل الطاعة ، وفضّل
ص: 11
على فرق الإسلام الفرقة الناجية من أهل السنّة والجماعة ، حتّى كشف نقاب الارتياب عن وجوه مناقبهم صاحب المقام المحمود والعظمى من الشفاعة ، بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تزال طائفة من أمّتي منصورين ، لا يضرّهم من خذلهم حتّى تقوم الساعة » (1)
صلّى اللّه وسلّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد ، الذي فرض اللّه على كافّة الناس اتّباعه ، وجعل شيعة الحقّ وأئمّة الهدى أشياعه ، وهدى إلى انتقاد « نهج الحقّ » وإيضاح « كشف الصدق » أتباعه.
ثمّ السلام والتحيّة والرضوان على عترته أهل بيته ، وكرام صحبه ، أرباب النجدة والجود والشجاعة ، الّذين جعل اللّه موالاتهم في سوق الآخرة خير بضاعة ، ما دام ذبّ الباطل عن حريم الحقّ أفضل عمل وخير صناعة.
أمّا بعد :
فإنّ اللّه بعث نبيّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم حين تراكم الأهواء الباطلة ، وتصادم الآراء العاطلة ، والناس هائمون في معتكر حندس (2) ليل الضلال ،
ص: 12
يعبدون الأوثان ، ويخرّون للأذقان [ سجّدا ] عندها بالغدوّ والآصال ، لا يعرفون ملّة ، ولا يهتدون إلى نحلة ، ولا سير لهم إلى مراتع الحقّ ولا رحلة.
فأقام اللّه تعالى برسوله الملّة العوجاء ، وهداهم بإيضاح الحقّ إلى السنن الميتاء (1) ، وأوضح للملّة منارها ، وأعلم آثارها ، وأسّس قواعد الدين على رغم الكفرة الماردين ، هم الّذين أبوا إلّا الإقامة على الكفر والبوار ، وإن هداهم إلى سبيل النجاح ، فما أذعنوا للحقّ إلّا بعد ضرب القواضب (2) وطعن الرماح.
فندب صلّى اللّه عليه وسلّم لنصرة الدين ، وإعانة الحقّ ، عصبة من صحبه الصادقين ، فانتدبوا ، ونصروا ، ونصحوا ، وأوذوا في سبيل اللّه ، ثمّ هاجروا واغتربوا.
هم كانوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكرش والعيبة (3) ، حين كذّبه عتبة
ص: 13
وشيبة (1) ..
فأثنى اللّه عليهم في مجيد كتابه ، ورضي عنهم ، وتاب عليهم (2) ، وجعل مناط أمور الدين مرجوعة إليهم.
ثمّ وثب فرقة بعد القرون المتطاولة ، والدول المتداولة ، يلعنونهم ويشتمونهم [ ويسبّونهم ] ، ولكلّ قبيح ينسبونهم ، فويل لهذه الفئة
ص: 14
الباغية ، التي يسخطون العصبة الرضيّة ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، شاهت الوجوه ، ونالت كلّ مكروه.
ثمّ إنّ زماننا قد أبدى من الغرائب ، ما لو رآه محتلم في رؤياه لطار من وكر الجفن نومه ، ولو شاهده يقظان في يومه لاعتكر من ظلام الهموم يومه (1).
وممّا شاع فيه أنّ فئة من أصحاب البدعة استولوا على البلاد ، وأشاعوا الرفض والابتداع بين العباد.
فاضطرّني حوادث الزمان ، إلى المهاجرة عن الأوطان ، وإيثار الاغتراب وتوديع الأحبّة والخلّان ، وأزمعت الشخوص من وطني أصفهان ، حتّى حططت الرحل بقاسان (2).
عازما على أن لا يأخذ جفني القرار (3) ، ولا تضاجعني الأرض بقرار ،
ص: 15
حتّى أستوكر مربعا من مرابع الإسلام ، لم يسمعني فيه الزمان صيت هؤلاء اللئام.
وأستوطن مدينة أتّخذها دار هجرتي ، ومستقرّ رحلتي ، تكون فيها السنّة والجماعة فاشية ، ولم يكن فيها شيء من البدع والإلحاد ناشية.
وأتمسّك بسنّة النبيّ [ صلّى اللّه عليه وسلّم الرصين ] ( وآله وصحبه المرضيّين ) (1) ، وأعبد ربّي حتّى يأتيني اليقين.
فإنّ التمسّك [ بالسنّة ] عند فساد الأمّة طريق رشيد ، وأمر سديد ، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : « من تمسّك بسنّتي عند فساد أمّتي فله أجر مائة شهيد » (2).
فلمّا استقرّ ركابي بمدينة قاسان ، اتّفق لي مطالعة كتاب من مؤلّفات المولى الفاضل ، جمال الدين ابن المطهّر الحلّي ، غفر اللّه ذنوبه ، وقد سمّاه بكتاب « نهج الحقّ وكشف الصدق » ، قد ألّفه في أيّام دولة السلطان غياث الدين أولجايتو محمّد خدابنده ، وذكر أنّه صنّفه بإشارته.
وقد كان ذلك الزمان أوان فشو البدعة ، ونبغ نابغة الفرقة الموسومة ب : « الإمامية » من فرق الشيعة!
فإنّ عامّة الناس يأخذون المذاهب من السلاطين وسلوكهم ، والناس على دين ملوكهم ، إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقليل
ص: 16
ما هم!
وقد ذكر في مفتتح ذلك الكتاب أنّه حاول بتأليفه إظهار الحقّ ، وبيان خطأ الفرقة الناجية من أهل السنّة والجماعة ؛ لئلّا يقلّدهم المسلمون ، ولئلّا يقتدوا بهم ، فإنّ الاقتداء بهم ضلالة.
وذكر أنّه أراد بهذا إقامة مراسم الدين ، وحوز (1) [ أجور ] الآخرة ، واقتناء ثواب الّذين يبغون (2) الحقّ ولا يكتمونه.
ومع ذلك فإنّ جلّ كتابه مشتمل على مطاعن الخلفاء الراشدين ، والأئمّة المرضيّين ، وذكر مثالب العلماء المجتهدين!
فهو في هذا كما ذكر بعض الظرفاء - على ما يضعونه على ألسنة البهائم - أنّ الجمّال سأل جملا : من أين تخرج؟ قال الجمل : من الحمّام ؛ قال : صدقت ، ظاهر من رجلك النظيف ، وخفّك اللطيف.
فنقول : نعم ، ظاهر على ابن المطهّر أنّه من دنس الباطل ودرن التعصّب مطهّر ، وهو خائض في مزابل المطاعن ، وغريق في حشوش (3) الضغائن ، فنعوذ باللّه من تلبيس إبليس ، وتدليس ذلك الخسيس ، كيف سوّل له وأملى له ، وكثّر في إفشاء الباطل - على رغم الحقّ - إملاءه؟!
ص: 17
ومن الغرائب أنّ ذلك الرجل وأمثاله ينسبون مذهبهم إلى الأئمّة الاثني عشر - رضوان اللّه عليهم أجمعين - وهم صدور إيوان (1) الاصطفاء ، وبدور سماء الاجتباء ، ومفاتيح أبواب الكرم ، ومجاديح (2) هواطل النعم ، وليوث غياض (3) البسالة ، وغيوث رياض الإيالة (4) ، وسبّاق مضامير (5) السماحة ، وخزّان نقود الرجاحة ، والأعلام الشوامخ في الإرشاد والهداية ، والجبال الرواسخ في الفهم والدراية ... وهم كما قلت فيهم شعرا :
شمّ المعاطس من أولاد فاطمة *** علوا رواسي طود العزّ والشرف
فاقوا العرانين (6) في نشر الندى كرما *** بسمح كفّ خلا من هجنة السرف
ص: 18
تلقاهم في غداة الروع إذ رجفت *** أكتاف أكفائهم من رهبة التلف
مثل الليوث إلى الأهوال سارعة *** حماسة النفس لا ميلا إلى الصلف
بنو عليّ وصيّ المصطفى حقّا (؟) (1) *** أحلاف (2) صدق نموا من أشرف السلف
وهؤلاء الأئمّة الكرام (3) ، قد كانوا يثنون على الصحابة الكرام ، الخلفاء الراشدين - رضي اللّه عنهم - بما هم أهله من ذكر المناقب والمزايا.
وقد ذكر الشيخ عليّ بن عيسى الإربلي (4) - رحمه اللّه تعالى - في
ص: 19
كتاب « كشف الغمّة في معرفة الأئمّة » - واتّفق جميع الإمامية أنّ عليّ بن عيسى من عظمائهم ، والأوحدي النحرير من جملة علمائهم ، لا يشقّ غباره ، ولا يبتدر آثاره ، وهو المعتمد المأمون في النقل - وما ذكره هو في الكتاب المذكور نقلا عن كتب الشيعة ، لا عن كتب علماء السنّة :
أنّ الإمام أبا جعفر محمّدا الباقر رضي اللّه عنه سئل عن حلية السيف ، هل يجوز؟
فقال : نعم [ يجوز ] ، قد حلّى أبو بكر الصدّيق سيفه [ بالفضّة ].
قال الراوي : فقال السائل : أتقول هكذا؟!
فوثب الإمام من مكانه وقال : نعم ... الصدّيق ، فمن لم يقل له :
« الصدّيق » فلا صدّقه اللّه في الدنيا والآخرة (1).
هذه عبارة « كشف الغمّة » وهو كتاب مشهور معتمد عند الإمامية.
وذكر أيضا في الكتاب المذكور ، أنّ الإمام أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق قال : « ولدني أبو بكر ( الصدّيق ) (2) مرّتين » ؛ وذلك أنّ أمّ الإمام جعفر كانت أمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق ،
ص: 20
وكذا كانت إحدى جدّاته الأخرى من أولاد أبي بكر (1) (2).
وذكر الإمام الحاكم أبو عبد اللّه النيسابوري ، المحدّث الكبير ، والحافظ المتقن ، الفاضل النحرير ، في كتاب « معرفة علوم الحديث » بإسناده عن الإمام [ أبي عبد اللّه ] (3) جعفر بن محمّد الصادق ، أنّه قال : « أبو بكر ( الصدّيق ) (4) جدّي ، وهل يسبّ أحد أجداده (5)؟! لا قدّمني اللّه إن لا أقدّمه » (6). انتهى ..
وقد اشتهر بين المحدّثين والعلماء أنّ الحاكم أبا عبد اللّه - المذكور - كان مائلا إلى التشيّع (7).
فمن عجبي!! كيف يجوز لهم ذكر المطاعن لذلك الإمام الحكيم الرشيد ، وقد ذكر الأئمّة - الّذين يدّعون الاقتداء بهم - في مناقبه (8) أمثال هذه المناقب ، ومع ذلك يزعمون أنّهم لهم مقتدون ، وبآثارهم مهتدون؟!
نسأل اللّه العصمة عن التعصّب ، فإنّه ساء الطريق ، وبئس الرفيق.
ثمّ إنّي لمّا نظرت في ذلك الكتاب الموسوم ب « نهج الحقّ وكشف الصدق » رأيت أنّ صاحبه عدل عن نهج الحقّ ، وبالغ في الإنكار على أهل السنّة ، حتّى ذكر أنّهم كالسوفسطائية ، ينكرون المحسوسات والأوليّات ،
ص: 21
فلا يجوز الاقتداء بهم ، ووضع في هذا مسائل ذكرها من علم أصول الدين ، ومن علم ( مسائل ) (1) أصول الفقه ، ومن المسائل الفقهية ، وطعن على الأئمّة الأربعة بمخالفتهم نصّ الكتاب ، وبالغ في هذا أقصى المبالغة.
ولم يبلغني أنّ أحدا من علماء السنّة ردّ عليه كلامه ومطاعنه في كتاب وضعه لذلك ، وذلك الإعراض يحتمل أن يكون لوجهين :
الأوّل : عدم الاعتناء بكلامه وكلام أمثاله ؛ لأنّ أكثره ظاهر عليه أثر المكابرة والتعصّب ، وقد ذكر ما ذكر في كلام بالغ في الركاكة - على شاكلة كلام المتعرّبة من عوامّ الحلّة وبغداد - ، وشين الرطانة (2) ، وهجنة (3) [ العوراء (4) ] تلوح من مخائله كرطانات جهلة أهل السواد ، كما ستراه واضحا غير خفيّ على أهل الفطانات.
الوجه الثاني : إنّ تتبّع ذلك الكلام وتكراره وإشاعته ممّا ينجرّ (5) إلى اتّساع الخرق ، وتشهير ما حقّه الإعراض عنه ، ولم يكن داعية دينية تدعو إلى ذلك الردّ ، لسلامة الزمان عن آفة البدعة.
ومن عادة أجلّة علماء الدين أنّهم لا يخوضون في التصانيف إلّا
ص: 22
لضرورة الدين ، لا يصبغون بالمداد ثياب الأقلام ، إلّا لقصارة (1) الدنس الواقع على جيوب حلل الإسلام.
ولمّا اطّلعت على مضامين ذلك الكتاب ، وتأمّلت في ما سنح في الزمان من ظهور بدعة الفرقة الإمامية ، وعلوّهم في البلاد ، حتّى قصدوا محو آثار كتب السنّة وغسلها وتحريفها (2) ، بل تمزيقها وتحريقها ...
حدّثتني نفسي بأنّ فساد الزمان ربّما ينجرّ إلى أنّ أئمّة الضلال يبالغون بعدها في تشهير هذا الكتاب ، وربّما يجعلونه مستندا لمذهبهم الفاسد ، ويحصّلون من قدح أهل السنّة - بذلك الكتاب - جلّ المقاصد ، ويظهرون على الناس ما ضمّن ذلك الرجل ذلك الكتاب من ضعف آراء الأئمّة الأشاعرة ، من أهل السنّة والجماعة ، ويصحّحون على العوامّ والجهلة أنّهم كالسوفسطائية ، فلا يصحّ الاقتداء بهم ، وربّما يصير هذا سببا لوهن قواعد السنّة.
فهنالك تحتّم عليّ ، ورأيت المفروض عليّ ، أن أنتقد كلام ذلك الرجل في ذلك الكتاب ، وأقابل في كلّ مسألة من العلوم الثلاثة المذكورة فيه ما يكون تحقيقا لحقيقة تلك المسألة ، وأبيّن فيه حقّيّة مذهب أهل السنّة والجماعة في تلك المسألة ، أو أردّ عليه ما يكون باطلا ، وعن حلية الحقّ الصريح عاطلا ، على وجه التحقيق والإنصاف ، لا على وجه التعصّب والاعتساف.
ص: 23
وقد أردت أوّلا أن أذكر حاصل كلامه في كلّ مسألة ، بعبارة موجزة خالية عن التطويل المملّ الفارغ عن الجدوى ، وليسهل على المطالع أخذه وفهمه ، ولا يذهب إلى أباطيله ذهنه ووهمه.
ثمّ بدا لي أن أذكر كلامه بعينه وبعباراته الركيكة ، لوجهين :
أحدهما : إنّ الفرقة المبتدعة لا يأتمنون علماء السنّة ، وربّما يتمسّك بعض أصحاب التعصّب بأنّ المذكور ليس من كلام ابن المطهّر ، ليدفع بهذا الإلزام عنه.
والثاني : إنّ آثار التعصّب والغرض في تطويلات عباراته ظاهرة ، فأردت نقل كلامه بعينه ليظهر على أرباب الفطنة أنّه كان من المتعصّبين ، لا من قاصدي تحقيق مسائل الدين.
وهذان الوجهان حدأاني إلى ذكر كلامه في ذلك الكتاب بعينه.
واللّه تعالى أسأل أن يجعل سعيي مشكورا ، وعملي لوجهه خالصا مبرورا ، وأنّ يزيد بهذا تحقيقا في ديني ، ورجحانا في يقيني ، ويثقل به يوم القيامة عند الحساب موازيني ، وأن يوفّقني للتجنّب عن التعصّب ، والتأدّب في إظهار الحقّ أحسن التأدّب ، إنّه وليّ التوفيق ، وبيده أزمّة التحقيق.
وها أنا أشرع في المقصود ، متوكّلا على اللّه الودود ، وأريد أن أسمّيه بعد الإتمام - إن شاء اللّه - بكتاب : « إبطال نهج الباطل ، وإهمال كشف العاطل ».
* * *
ص: 24
قد ذكر الفضل هذا في كلامه أنّهم « الفرقة الناجية » ، وهي دعوى يبطلها الكتاب والسنّة والعقل - كما ستعرفها إن شاء اللّه تعالى -.
لكن ينبغي هنا أن نشير إلى بعض الآيات ، وبعض الأخبار ..
قوله عزّ من قائل مخاطبا للصحابة بعد واقعة أحد :
( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) .. الآية (1).
فإنّها دالّة على عروض الانقلاب للصحابة بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..
إذ ليس الاستفهام منه سبحانه على حقيقته ؛ لاستلزامه الجهل .. بل هو للإنكار أو التوبيخ ، وهما يقتضيان الوقوع ، ولذا قال : ( انْقَلَبْتُمْ ) بلفظ الماضي ، تنبيها على تحقّقه ، لعلمه تعالى بعاقبة أمرهم.
ولا يصح أن يراد بالآية خصوص الأعراب ، الّذين زعم أهل السنّة ارتدادهم ، كمالك بن نويرة (2) وقومه ؛ لأنّ الآية متعلّقة بالمنهزمين في
ص: 25
أحد ، وهم المهاجرون والأنصار (1).
فإن قلت : لعلّ المراد الإنكار على ما يعلمه منهم من إرادة الانقلاب في وقعة أحد ، كما روي عن بعضهم من إرادة التنصّر والتهوّد - كما ستعرفه في محلّه - فلا تدلّ على الانقلاب بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
قلت : لو سلّم ، فهو كاف في المقصود ؛ لأنّ القوم أولئك القوم ، ولم يخرج منهم إلّا القليل المتّفق على عدم انقلابهم ، لا الكثير الغالب ، وإلّا لما حسن الإنكار على المنهزمين بوجه العموم ، ولو بالعموم العرفي.
وللكلام في الآية تتمّة تأتي في أوّل مباحث الإمامة إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا الأخبار :
فمنها : أخبار الحوض ، الدالّة على ارتداد الصحابة ، إلّا القليل
ص: 26
النادر ، كالذي رواه البخاري في « كتاب الحوض » عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « بينا أنا قائم فإذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ؛ فقلت : إلى أين؟! قال : إلى النار واللّه ؛ قلت : ما شأنهم؟! قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
ثمّ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ؛ قلت : إلى أين؟! قال : إلى النار واللّه ؛ قلت : ما شأنهم؟! قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم » (1).
ص: 27
فهل ترى هذا الخبر ونحوه يجامع مذهب القوم ، والبناء على سلامة الصحابة المخالفين لأمير المؤمنين علیه السلام ؟!
فكيف يكونون هم الفرقة الناجية؟!
ومنها : ما رواه الحاكم وصحّحه على شرط البخاري ومسلم ، عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ستفترق أمّتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمهم فرقة [ قوم ] يقيسون الأمور برأيهم ، فيحرّمون الحلال ، ويحلّلون الحرام » (1)
وأنت تعلم أنّ أهل القياس عمدة أهل السنّة ، فكيف يكونون الفرقة الناجية؟!
ومنها : ما رواه الذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة زيد بن وهب الجهني - وصحّحه بظاهر كلامه ، واعتبره جدّا - عن حذيفة : « إن خرج الدجّال تبعه من كان يحبّ عثمان » (2)
.... إلى غيرها ممّا لا يحصى من الأخبار ، وسيمرّ عليك الكثير منها إن شاء اللّه تعالى.
وممّا يدلّ على أنّنا نحن الفرقة الناجية : الأحاديث المستفيضة ؛ كحديث السفينة ، وباب حطّة ، وحديث الثقلين - ونحوها ممّا سيمرّ عليك - فإنّا تعلّقنا بسفينة النجاة ، ودخلنا باب حطّة ، وتمسّكنا بعترة
ص: 28
رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وثقله ، الذي من تمسّك به لا يضلّ أبدا (1).
بخلاف أهل السنّة ، فإنّهم بالضرورة لم يتمسّكوا بهم ، ولم يأخذوا منهم علما وعملا ، بل نابذوهم يدا ولسانا.
وأمّا ما رواه الخصم من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا تزال طائفة من أمّتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم » (2).
فهو أدلّ على إنّ الشيعة هم الفرقة الناجية ؛ للتعبير بالطائفة الظاهرة بالقلّة.
والمراد بال « منصورين ... » إلى آخره ، هو : النصرة الدينية القائمة بالأدلّة الجليّة وقوّة البرهان ، وهي مختصّة بمذهب قرناء القرآن المجيد ، والثقل الذي خلّفه النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأمّته.
وليس المراد النصرة الدنيوية كما تخيّله الخصم ، فإنّه ينتقض عليه بأمر عثمان ، وكثير من الأوقات كأيّام البويهيّين ، والحمدانيّين ، والعلويّين ، وأيّام المصنّف ، والسلطان محمّد خدابنده ، وأيّام الصفويّين ، التي هي أيّام الخصم نفسه التي تذمّر منها في خطبته لاستيلاء الشيعة على البلاد.
وأمّا ما وسموا به أنفسهم من أنّهم أهل السنّة والجماعة فخطأ آخر ؛ لما رواه يحيى بن عبد اللّه بن الحسن ، عن أبيه ، قال : « كان عليّ علیه السلام يخطب ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني من أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومن أهل السنّة؟ ومن أهل البدعة؟
ص: 29
فقال : ويحك! أما إذ سألتني فافهم عنّي ، ولا عليك أن [ لا ] تسأل عنها أحدا بعدي.
فأمّا أهل الجماعة : فأنا ومن اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر اللّه وأمر رسوله صلی اللّه علیه و آله .
وأمّا أهل الفرقة : فالمخالفون لي ولمن اتّبعني وإن كثروا.
وأمّا أهل السنّة : فالمتمسّكون بما سنّه اللّه لهم ورسوله صلی اللّه علیه و آله وإن قلّوا [ وإن قلّوا ].
وأمّا أهل البدعة : فالمخالفون لأمر اللّه ، ولكتابه ، ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، العاملون برأيهم وأهوائهم ، وإن كثروا ، وقد مضى منهم الفوج الأوّل ، وبقيت أفواج ، وعلى اللّه قصمها واستئصالها عن حدبة (1) الأرض » (2) .. الحديث
وهو كما ترى لا ينطبق على أهل السنّة إلّا أن يتعلّقوا بالمكابرة ، ويتجنّوا في الدعوى.
إذ كيف يكونون من أهل جماعة أمير المؤمنين علیه السلام ومتّبعيه؟! وهم لا يتّبعونه بكلّ ما يخالف به مشايخهم ، بل بكلّ أمر!
وكيف يكونون من أهل السنّة؟! وهم يعملون بالقياس ، والاستحسان ، ويحلّلون الحرام ، ويحرّمون الحلال بآرائهم ، كما ذمّهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث الحاكم السابق!
ص: 30
نعم ، هم أهل جماعة معاوية وأضرابه ، وهم أهل السنّة ، أي المخالفون لأمير المؤمنين علیه السلام كما عرفت في بعض رجال المقدّمة أنّهم يصفون العثماني العدوّ لأمير المؤمنين علیه السلام بأنّه صاحب سنّة! (1).
فلو لم يستحسنوا طريقة العثماني ، ولم يرتضوها ، لوصفوه بأنّه صاحب بدعة وضلالة ونفاق ، لما استفاض أنّ بغض عليّ علیه السلام علامة النفاق (2).
فيكون أهل السنّة عبارة عن العثمانيّين الأعداء لأمير المؤمنين ، المبغضين له.
ويشهد لعداوتهم له أنّهم إلى الآن لا يأنسون بذكر فضائله ، ولا يحبّون الاستماع إليها ، لا سيّما فضائله العظمى ، ومناقبه الكبرى ، التي يعرفون منها الامتياز على مشايخهم ، حتّى إنّهم يحتالون لإنكارها أو تأويلها بكلّ طريق ، وإن لم يمكن لأحدهم نكران فضله ، وترك ذكر فضائله كلّيّة!
وتراهم إذا ذكروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفردوه بالصلاة عليه ، وهي الصلاة البتراء المنهيّ عنها (3) ، مع إنّه قد استفاض عندهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جعل الصلاة على آله من كيفيّة الصلاة عليه ، كما رواه البخاري ومسلم
ص: 31
وغيرهما (1) ، وستعرفه إن شاء اللّه في الآية الخامسة والعشرين من الآيات التي استدلّ بها المصنّف رحمه اللّه على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام .
نعم ، ربّما يصلّون على آل النبيّ معه في أوائل مصنّفاتهم وأواخرها ، ولكن لا بدّ أن يشركوا معهم الصحابة ، كراهة لتمييز آل محمّد صلی اللّه علیه و آله على غيرهم كما ميّزهم اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وخصّهم بالأمر بالصلاة عليهم معه.
ومع ذلك ، إذا جاء أحدهم إلى تفسير آل الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : المراد بهم مطلق عشيرته وأقاربه! (2) خلافا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيث فسّرهم بعليّ وفاطمة والحسن والحسين كما تواتر في أخبارهم ، التي منها ما استفاض في نزول آية التطهير (3).
فليت شعري كيف يفضّل بمشاركة سيّد النبيّين بالصلاة عليه من لا يشاركه بالفضل والقرب من اللّه سبحانه ، ولا يختصّ معه بالطهارة من الرجس؟!
وأمّا ما أشار فيه إلى مدح الصحابة المرضيّين ، فأكثره حقّ بلا مراء ،
ص: 32
وهم الأحقّون بالمدح والثناء.
كيف لا؟! وهم أركان الدين ، وأنصار سيّد المرسلين صلی اللّه علیه و آله .
ولكنّ الكلام في من انقلبوا بعده ، وارتدّوا على أدبارهم القهقرى.
ثمّ إنّ من المشكل قول الفضل : « وجعل مناط أمور الدين مرجوعة إليهم ».
فإنّه إن أراد بالدين : فروعه ، وبرجوعه إليهم : صحّة اجتهادهم تبعا للدليل ؛ فهذا لا يخصّهم.
وإن أراد صحّة اجتهادهم ، وحكمهم بالاستحسان والهوى ، كما في تحريم المتعتين ، وإمضاء الطلاق ثلاثا ، ونحوها ؛ فباطل.
لأنّ الأحكام بيد اللّه تعالى ، وليس لأحد أن يتحكّم في دينه ، ويشرّع خلاف ما أنزل على رسوله صلی اللّه علیه و آله .
وإنّ أراد بالدين : الإمامة ، وبرجوع أمورها إليهم : جعلهم أئمّة ؛ فهو باطل أيضا على مذهبهم ، لإنكارهم النصّ على إمام.
وما أحسن قوله : « والناس على دين ملوكهم » ، فإنّه من أصدق الكلام!
ولذا ترى الناس اجتنوا من الشجرة الملعونة في القرآن طعام الأثيم ، وهو بغضهم وعداوتهم لمن أمروا بمودّتهم ، وتركوا التمسّك بالشجرة الطيّبة ، وأحد الثقلين اللذين أمروا بالتمسّك بهما ، وأخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّهم سفينة النجاة ، وأنّهم من بيوت أذن اللّه أن ترفع.
فعافوا مذهب هؤلاء الأطيبين ، واتّبعوا مذهب أولئك الظالمين ، وهم يشاهدون أحوالهم في الفسق والجور ، يسهرون لياليهم بالخمر والزنا ، ويقضون أيّامهم بالظلم والخنا ، لا يعرفون لله حرمة ، ولا يرقبون في مؤمن
ص: 33
إلّا (1) ولا ذمّة.
نعم ، ربّما يتّفق أنّ الملوك والناس يتّبعون النبيّين والعلماء والبراهين ، كما اتّفق في زمن الإمام العلّامة المصنّف أعلى اللّه مقامه ، فإنّ سلطان زمانه السديد لمّا رأى الخلل في مذاهب السنّة ، طلب المصنّف رحمه اللّه من الحلّة الفيحاء ، وجمع له الجمّ الغفير من أكابر علمائهم ، وأمرهم بالمناظرة بحضرته ، ليتّضح الحقّ عيانا.
فتناظروا ، وبان الوهن والانقطاع في أولئك العلماء على رؤوس الأشهاد ، وظهر بطلان دينهم في جميع البلاد ، فاستبصر السلطان وكلّ من سلك لمعرفة الحقّ فجاجا ، وجاء نصر اللّه والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا.
ولم يكن لهذا السلطان العظيم الشأن داع للعدول عن مذهبه ، وخلاف ما كان عليه عامّة أهل مملكته ، غير حبّ الحقّ والحقيقة ، إذ ليس سلطانه محتاجا إلى ما فعل ، بل كان منه على خطر ، بخلاف ملوك السنّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ سلطانهم موقوف على ردّ نصّ الغدير ، وجحد الأئمّة الاثني عشر ، الّذين هم أحد الثقلين المستمرّين ، اللذين لا يفترقان حتّى يردا على النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحوض.
* وأمّا ما نقله عن « كشف الغمّة » من حديث « حلية سيف أبي بكر » فهو وإن كان مذكورا في أواخر أحوال إمامنا أبي جعفر الباقر علیه السلام ، إلّا أنّه قد نقله عن أبي الفرج ابن الجوزي في كتاب « صفوة الصفوة » عن عروة
ص: 34
ابن عبد اللّه (1).
فهو عن كتب السنّة وأخبارهم لا الشيعة ، كما هو طريقة « كشف الغمّة » ، فإنّ غالب ما فيه منقول عن كتب الجمهور ، يعرفه كلّ من رأى هذا الكتاب ولحظ طرفا منه.
وقد صرّح مؤلّفه بذلك في خطبة الكتاب ، فقال : « واعتمدت في الغالب النقل من كتب الجمهور ؛ ليكون أدعى لتلقّيه بالقبول ، ووفق رأي الجميع متى رجعوا إلى الأصول ، ولأنّ الحجّة متى قام الخصم بتشييدها ، والفضيلة متى نهض المخالف بإثباتها وتقييدها ، كانت أقوى يدا ... » إلى آخر كلامه (2).
* كما إنّ ما نقله الخصم عن كتاب « كشف الغمّة » من قول إمامنا الصادق علیه السلام : « ولدني أبو بكر مرّتين » إنّما هو من كتب القوم ، على أنّ لفظ « الصدّيق » زيادة من الفضل!
وظاهر أنّه لم ير « كشف الغمّة » ولذا جهل ولادة الصادق علیه السلام الثانية ، فقال : « وكذا كانت إحدى جدّاته [ الأخرى ] من أولاد أبي بكر » مع إنّها مذكورة في الكتاب!
فإنّه - بعد ما نقل في أوّل ترجمة الصادق علیه السلام كلاما طويلا لمحمّد ابن طلحة الشافعي - قال : « وقال الحافظ عبد العزيز الأخضر الجنابذي : أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الصادق ، أمّه أمّ فروة ، واسمها قريبة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق ، وأمّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق ، ولذا قال
ص: 35
جعفر : ولدني أبو بكر مرّتين » (1)
فهذا - مع إنّه عن كتب الجمهور - خال عن وصف الصادق علیه السلام لأبي بكر ب : الصدّيق.
وعليه ، فقد كذب الخصم مرّتين :
الأولى : في دعوى أنّ ما ذكره فى « كشف الغمّة » كان نقلا عن كتب الشيعة.
والثانية : في النقل عن الصادق علیه السلام أنّه وصف أبا بكر ب « الصدّيق » بقوله : ولدني أبو بكر مرّتين.
وهذا ونحوه هو الذي أوجب أن لا نأتمن القوم في نقلهم!
* وأمّا ما حكاه عن الحاكم ، فلو صحّ عنه لم يكن حجّة علينا ؛ لأنّ الحاكم ورجال حديثه من الجمهور ، ومجرّد كونه ممّن يميل إلى التشيّع - أي أنّه ليس ناصب العداوة لأمير المؤمنين - وأنّ له إنصافا في الجملة ، لا يقضي بإلزامنا بما يرويه بإسناد من قومه.
* وأمّا ما ذكره من الوجهين لترك علمائهم الردّ على المصنّف رحمه اللّه ، فالحقّ كما ذكره في الوجه الثاني ، من أنّ تتبّع ذلك الكلام وإشاعته ينجرّ (2) إلى اتّساع الخرق ، إذ به تنكشف الحقيقة وتزول الغفلة عن بعض الغافلين.
ولذا قالوا : إذا جاء ذكر ما وقع بين الصحابة فاسكتوا! (3).
ص: 36
فإنّهم لو بحثوا لما خفي الحقّ ، ولزالت الغشاوة عن أعين الأفئدة ، ولكن قنعوا بالظنّ والتخمين ، ولم ينظروا بعين التدبّر والإنصاف إلى ما أرشدهم إليه علماء الإمامية ، كأنّهم لم يسمعوا ما ذمّ اللّه سبحانه به الأوّلين ، حيث قال تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (1).
فاللازم على كلّ مكلّف أن يبحث عن الحقّ بحثا تامّا ، ويرعى الأدلّة رعاية من يطلب خلاص نفسه يوم العرض ، لا مجرّد الحصول على صورة الردّ والنقض.
وما أعجب نسبة الخصم التعصّب إلى المصنّف رحمه اللّه ! والإنصاف والتأدّب إلى نفسه! مع ما رأيت من كلامه ، من ضروب الشتم ، وتعمّد الكذب.
وأعجب منه نسبة الركاكة وشين الرطانة إلى كلام المصنّف رحمه اللّه ! وهو لم يعرف العلوم العربية ، فضلا عن أن يرقى إلى رتبةالبلاغة ، فإنّ كلامه قد اشتمل على أنواع الغلط!
فوصف السنن ب « الميتاء » ولا يقال - في ما أعلم - : « ميتاء ».
وأعاد ضمير الجمع المذكّر إلى الموصول المفرد المؤنّث ، فقال : « التي يسخطون العصبة الرضية ».
واستعمل في شعره « سارعة » بمقام « مسرعة ».
ص: 37
وجاء بيته الأخير مختلّ الوزن.
وأعاد ضمير المفرد على المثنّى ، فقال : « الوجهان حداني ».
.. إلى غير ذلك ممّا في كلامه من الغلط ، فضلا عن الركاكة!
ونحن وإن لم نرد أن نؤاخذه بمثل ذلك ؛ لأنّ المقصود غيره ، إلّا أنّا أردنا هنا أن نشير إلى أنّه ركض في غير ميدانه ، وأحلّ نفسه بغير مكانه!
ص: 38
ص: 39
ص: 40
المحسوسات أصل الاعتقادات
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
وفيه مباحث :
لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها - على ما يأتي - وبه تعرف الأشياء ، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة ، وجب البدأة به ، فلهذا قدّمناه.
إعلم أنّ اللّه تعالى خلق النفس الإنسانية - في مبدأ الفطرة - خالية عن جميع العلوم بالضرورة ، وقابلة لها [ بالضرورة ] ، وذلك مشاهد في حال الأطفال.
ص: 41
ثمّ إنّ اللّه تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك ، وهي القوى الحاسّة ، فيحسّ الطفل - في أوّل ولادته - بحسّ اللمس ما يدركه من الملموسات.
ويميّز بواسطة الإدراك البصري - على سبيل التدرّج - بين أبويه وغيرهما.
وكذا يتدرّج في الطعوم ، وباقي المحسوسات ، إلى إدراك ما يتعلّق بتلك الآلات.
ثمّ يزداد تفطّنه فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية ، الأمور الكلّيّة ، من المشاركة والمباينة (1) ، ويعقل الأمور الكلّيّة الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية.
ثمّ إذا استكمل الاستدلال (2) ، وتفطّن بمواضع الجدال ، أدرك بواسطة العلوم الضرورية ، العلوم الكسبية.
فقد ظهر من هذا أنّ العلوم الكسبيّة فرع على العلوم الضرورية الكلّيّة ، والعلوم الضرورية الكلّيّة فرع على المحسوسات الجزئية.
فالمحسوسات إذا : هي أصل الاعتقادات ، ولا يصحّ الفرع إلّا بعد
ص: 42
صحّة أصله ، فالطعن في الأصل طعن في الفرع.
وجماعة الأشاعرة - الّذين هم اليوم كلّ الجمهور ، من : الحنفيّة ، والشافعيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة - إلّا اليسير من فقهاء ما وراء النهر (1) ، أنكروا قضايا محسوسة - على ما يأتي بيانه - فلزمهم إنكار المعقولات الكلّيّة - التي هي فرع المحسوسات - ويلزمهم إنكار الكسبيّات ؛ وذلك [ هو ] عين السفسطة.
* * *
ص: 43
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ هذه المباحث - التي صدّر بها كتابه - كلّها ترجع إلى بحث الرؤية ، التي وقع فيها الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية وغيرهم ، وذلك في رؤية اللّه تعالى التي تجوّزها الأشاعرة ، وتنكرها المعتزلة ؛ كما ستراه واضحا إن شاء اللّه تعالى.
فجعل المسألة الأولى في الإدراك مع إرادة الرؤية - التي هي أخصّ من مطلق الإدراك - من باب إطلاق العامّ وإرادة الخاصّ ، بلا إرادة المجاز وقيام القرينة ؛ وهذا أوّل أغلاطه.
والدليل على إنّه أراد بهذا الإدراك - الذي عنون به المسألة - الرؤية :
أنّه قال : « لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها - على ما يأتي - [ وبه تعرف الأشياء ] ، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة ، وجب البدأة به ».
وإنّما ظهرت مقالاتهم العجيبة - على زعمه - في الرؤية ، لا في مطلق الإدراك ؛ كما ستعرف بعد هذا.
فإنّ الأشاعرة لا بحث لهم مع المعتزلة في مطلق الإدراك ، فثبت أنّه أطلق الإدراك وأراد به الرؤية ؛ وهو غلط ، إذ لا دلالة للعامّ على الخاصّ.
ثمّ إنّ قوله : « الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ... وبه تعرف الأشياء » كلام غير محصّل المعنى ؛ لأنّه إن أراد أنّ الرؤية التي أراد من
ص: 44
الإدراك هي أعرف الأشياء في كونها محقّقة ثابتة ، فلا نسلّم الأعرفية ، فإنّ كثيرا من الأجسام والأعراض معروفة محقّقة الوجود مثل الرؤية.
وإن أراد أنّ الإحساس - الذي هو الرؤية - أعرف بالنسبة إلى باقي المحسوسات (1) ، ففيه :
إنّ كلّ حاسّة بالنسبة إلى متعلّقها ، حالها كذلك ، فمن أين حصل هذه الأعرفية للرؤية؟!
وبالجملة : هذا الكلام غير محصّل المعنى.
ثمّ قوله : « إنّ اللّه تعالى خلق النفس الإنسانية - في مبدأ الفطرة - خالية عن جميع العلوم بالضرورة. وقابلة لها [ بالضرورة ] ، وذلك مشاهد في حال الأطفال » ..
كلام باطل ، يعلم منه أنّه لم [ يكن ] يعرف شيئا من العلوم العقليّة ، فإنّ الأطفال لهم علوم ضروريّة كثيرة من المحسوسات البصريّة والسمعيّة والذوقيّة ، وكلّ هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحسّ.
ولمّا لم يكن هذا الرجل من أهل العلوم العقليّة ، حسب أنّ مبدأ الفطرة الذي يذكره الحكماء ويقولون : « إنّ النفس في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم » هو حال الطفوليّة ؛ وذلك باطل عند من يعرف أدنى شيء من الحكمة ، فإنّ الجنين - فضلا عن الطفل - له علوم كثيرة.
بل المراد من مبدأ الفطرة : ان تعلّق النفس بالبدن ، فالنفس في تلك الحال خالية عن جميع العلوم إلّا العلم بذاتها.
وهذا تحقيق ذكر في موضعه من الكتب الحكميّة ، ولا يناسب بسطه
ص: 45
في هذا المقام ، والغرض أنّه لم يكن من أهل المعقولات حتّى يظنّ أنّه شنّع على الأشاعرة من الطرق العقليّة.
ثمّ في قوله : « وأنكروا قضايا محسوسة - على ما يأتي بيانه - فلزمهم إنكار المعقولات الكلّيّة ».
أراد به أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية عند شرائطها ، وعدم امتناع الإدراك عند فقد الشرائط ؛ وأنت ستعلم أنّ كلّ ذلك ليس إنكارا للقضايا المحسوسة.
ثمّ إنّ إنكار القضايا المحسوسة ، أراد به أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة ، لوقوع الغلط في المحسوسات ، فلا يعتمد على حكم الحسّ.
وهذا هو مذهب جماعة من العقلاء ، ذكره الأشاعرة وأبطلوه ، وحكموا بأنّ حكم الحسّ معتبر في المحسوسات ، كما اشتهر هذا في كتبهم ومقالاتهم (1).
ولو فرضنا أنّ هذا مذهبهم ، فليس كلّ من يعتقد بطلان حكم الحسّ يلزمه إنكار كلّ المعقولات ، فإنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ، من جملتها المحسوسات ، فمن أين هذه الملازمة؟!
فعلم أنّ ما أراد - في هذا المبحث - أن يلزم الأشاعرة من السفسطة ، لم يلزمهم ، بل كلامه المشوّش - على ما بيّنّا - عين الغلط والسفسطة.
واللّه العالم.
ص: 46
لا يخفى أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة لا يخصّ الرؤية - وإن كان الكلام فيها أوضح - ، بل يعمّ مطلق الإدراك بالحواسّ الظاهريّة.
فإنّهم كما أجازوا تحقّق الرؤية بدون شرائطها ، وأجازوا رؤية الكيفيّات النفسانيّة - كالعلم ، والإرادة ، ونحوهما - ، ورؤية الكيفيّات الملموسة ، والأصوات ، والطعوم ...
أجازوا سماع المذكورات ، ولمسها ، وشمّها ، وذوقها ؛ لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة القادر المختار ، من دون دخل للأسباب الطبيعيّة ؛ كما سيصرّح به الخصم في المبحث الآتي وغيره.
ولأجل عموم النزاع ، جعل المصنّف رحمه اللّه عنوان المسألة : الإدراك ، وأراد به مطلق الإحساس بالحواسّ الظاهريّة.
ولذا تعرّض في هذا المبحث الأوّل للقوى الظاهريّة ، وتدرّج الطفل فيها ، ثمّ قال : « فالمحسوسات إذا : هي أصول الاعتقادات ، ولا يصحّ الفرع إلّا بعد صحّة أصله ».
وتعرّض في المبحث الثالث والرابع والسادس لما يتعلّق بغير الرؤية.
فحينئذ لا معنى لما زعمه الخصم من أنّ المصنّف أراد بالإدراك خصوص الرؤية.
ولو سلّم ، فلا وجه لإنكار الخصم صحّة إرادة الرؤية من الإدراك ، وقيام القرينة عليها ، فإنّه بعد ما زعم وجود الدليل على إرادتها منه ، فقد أقرّ بثبوت القرينة ، إذ ليست القرينة إلّا ما يدلّ على المراد باللفظ.
ص: 47
ثمّ إنّ قول المصنّف رحمه اللّه : « الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ، وبه تعرف الأشياء » إنّما هو كقولهم : العلم بديهي التصوّر ، وغيره يعرف به ، فلا يحدّ.
فالإدراك حينئذ - أعني الإحساس بالحواسّ الظاهريّة - بمنزلة العلم الذي هو الإدراك بالقوى الباطنية ، في كونهما معا بديهيّين ، مفهوما ، ووجودا ، وشروطا.
وهذا كلام ظاهر المفهوم ، محصّل المعنى ، لمن له تحصيل!
ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه أراد بمبدأ الفطرة : ما قبل الولادة ، وهو زمن تعلّق النفس الحيوانية - أي قوى الحيوان المدركة والمحرّكة - بالبدن ، لقوله :
« فيحسّ الطفل في أوّل ولادته ».
إذ لا يجتمع إثبات الإحساس له مع قوله : « النفس في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم » لو أراد ب « مبدأ الفطرة » ما هو عند الولادة ، فلا بدّ من اختلاف الزمان ، وأنّه أراد ب « مبدأ الفطرة » ما قبل الولادة.
كما أنّه أراد بالأطفال : مطلق الصغار - ولو قبل الولادة - لا خصوص المولودين ، ولذا حكم بخلوّهم عن العلوم في مبدأ الفطرة ، حتّى العلم بذواتهم ، إذ لا دليل على استثنائه - كما فعله الخصم تقليدا لغيره - ، فإنّ الحياة لا تستلزم الشعور والإدراك حتّى للذات.
ولذا ترى من أصابه البنج (1) حيّا لا إدراك له أصلا ، ولا نعرف
ص: 48
أمرا - غير الحياة في مبدأ الفطرة - يقتضي العلم بالذات ، أو سائر الوجدانيّات.
ولو سلّم ، فتعميم الإدراك للجميع أقرب من تخصيصه بالذات.
ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه أراد بقوله : « أنكروا قضايا محسوسة » أنّهم أنكروا أصل ثبوتها ، كإنكارهم كون شرائط الرؤية وسائر الإحساسات الظاهريّة ، شرائط واقعيّة لها ، لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، وقولهم :
« إنّ تلك الشرائط لا دخل لها بالمشروط ، وإنّ الترتّب بينها عاديّ فقط ».
وقد اختلف كلام الخصم هنا.
فمرّة قال : أراد أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية.
ومرّة قال : أراد أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة.
وكلاهما غير مراد للمصنّف ، لكنّه تعرّض لأوّلهما - في المباحث الآتية - من حيث تفرّعه على إنكار أصل القضايا.
ولعلّه توهّم أنّ المصنّف أشار إلى ثانيهما بقوله : « فالطعن في الأصل طعن في الفرع » .. وهو خطأ!
فإنّ المصنّف أراد الطعن في القضايا المحسوسة ، من حيث إنكارها ، لا من حيث وقوع الغلط في المحسوسات ، وعدم صحّة الاعتماد عليها ، مع أنّه لا فرق بينهما في أنّ القول بهما موجب لإنكار المعقولات ؛ لتفرّعها عليها.
ولا يرفع الإشكال ما ذكره من أنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ؛ لرجوع أكثر غير المحسوسات إليها.
وبالجملة : ليس للإنسان من القوى المدركة إلّا قوى الحواسّ
ص: 49
الظاهريّة والباطنيّة والقوّة العاقلة ، ولا شكّ أنّ القوّة العاقلة إنّما تدرك الكلّيّات بواسطة الحواسّ الظاهرية والباطنية ، كما إنّ الباطنيّة إنّما تدرك متعلّقاتها بواسطة الظاهريّة ، فإذا أبطلنا حكم الحسّ الظاهري فقد أبطلنا حكم الحسّ الباطني وحكم العقل ، فلا يعتمد على جميع المعقولات.
ص: 50
قال المصنّف - طيّب اللّه مرقده - (1) :
أطبق العقلاء بأسرهم - عدا الأشاعرة - على إنّ الرؤية مشروطة بأمور ثمانية ، ( لا تحصل بدونها ) (2) :
الأوّل : سلامة الحاسّة.
الثاني : المقابلة أو [ ما في ] (3) حكمها ، ( كما ) (4) في الأعراض ، والصور في المرآة ، فلا تبصر شيئا لا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل.
الثالث : عدم القرب المفرط ، فإنّ الجسم لو التصق بالعين ، لم تمكن رؤيته.
الرابع : عدم البعد المفرط ، فإنّ البعد إذا أفرط لم تمكن رؤيته.
الخامس : عدم الحجاب ، فإنّه مع [ وجود ] الحجاب بين الرائي
ص: 51
والمرئي ، لا تمكن رؤيته.
السادس : عدم الشفّافية ، فإنّ الجسم الشفّاف الذي لا لون له - كالهواء - لا تمكن رؤيته.
السابع : تعمّد الرائي للرؤية.
الثامن : وقوع الضوء عليه ، فإنّ الجسم الملوّن لا يشاهد في الظلمة.
وحكموا بذلك حكما ضروريا لا يرتابون فيه.
وخالفت الأشاعرة في ذلك جميع العقلاء - من المتكلّمين والفلاسفة - ولم يجعلوا للرؤية شرطا من هذه الشرائط! (1).
وهو مكابرة محضة لا يشكّ فيها عاقل!
* * *
ص: 52
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ شرط الشيء ما يكون وجوده موقوفا عليه ، ويكون خارجا عنه ، فمن قال : شرط الرؤية هذه الأمور ؛ ما ذا يريد من هذا؟!
إن أراد أنّ الرؤية لا يمكن أن تتحقّق عقلا إلّا بتحقّق هذه الأمور ، واستحال عقلا تحقّقه بدون هذه الأمور ..
فنقول : لا نسلّم الاستحالة العقليّة ، لأنّا وإن نرى في الأسباب الطبيعيّة وجود الرؤية عند تحقّق هذه الشرائط ، وفقدانها عند فقدان شيء منها ، إلّا أنّه لا يلزم بمجرّد ذلك - من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط - محال ، وكلّما كان كذلك لا يكون محالا عقليّا.
وإن أراد أنّ في العادة جري تحقّق المشروط - الذي هو الرؤية - عند حصول هذه الشرائط ، ومحال عادة أن تتحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط مع جوازه عقلا .. فلا نزاع للأشاعرة في هذا.
بل غرضهم إثبات جواز الرؤية عقلا عند فقدان الشرائط.
ومن ثمّة تراهم يقولون : إنّ الرؤية أمر يخلقه اللّه في الحيّ ، ولا يشترط بضوء ، ولا مقابلة ، ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الفلاسفة (2) ، وغرضهم - من نفي الشرطية - ما ذكرنا ، لا أنّهم يمنعون جريان العادة.
ص: 53
على إنّ تحقّق الرؤية إنّما يكون عند تحقّق هذه الشرائط ، ومن تتبّع قواعدهم علم أنّهم يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار وعموم قدرته ، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة كالفلاسفة ، ومن يلحس فضلاتهم كالمعتزلة ومن تابعهم.
فحاصل كلامهم : إنّ اللّه تعالى قادر على أن يخلق الرؤية في حيّ مع فقدان هذه الشرائط ، وإن كان [ هذا ] خرقا للعادة!
فأين هذا من السفسطة ، وإنكار المحسوسات ، والمكابرة ، التي نسب هذا الرجل إليهم؟!
وسيأتي عليك ( في ) (1) باقي التحقيقات.
ص: 54
لا يخفى أنّ الإمكان والامتناع عقلا ربّما يكونان ضروريّين ، وربّما يكونان كسبيّين ، فإذا كانا ضروريّين استغنى مدّعي ثبوتهما عن الدليل ، ولم تصحّ مقابلته بالردّ والتشكيك.
ولذا لا يحتاج مدّعي امتناع جعل العالم - على سعته - في بيضة على ضيقها ، إلى دليل.
ولا مدّعي امتناع اجتماع الضدّين ، أو النقيضين ، إلى دليل.
ولا ريب أنّ العقلاء يرون وجود الرؤية بدون شرائطها من الممتنعات العقليّة ، كاجتماع الضدّين والنقيضين ، وكرؤية الأعدام.
وكما لا يسوغ عندهم دعوى إمكان هذه الأمور ونحوها ، لا يسوغ مثلها في الرؤية المعروفة الخاصة إذا لم تجتمع شرائطها.
وما ذكره من أنّهم « يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، وعموم قدرته ، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة » خطأ ظاهر ؛ لاستلزامه جواز تحقّق الرؤية بلا راء ؛ لأنّ الرائي جزء السبب كالشروط.
فلو جاز عقلا وجود المسبّبات بلا أسبابها الطبيعيّة ، لجاز وجود الرؤية بلا راء ، والقيام بلا قائم ، والعرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وهو خلاف ضرورة العقلاء.
وأمّا عموم القدرة ، فهو لا يقتضي إلّا تأثيرها في المقدور ، لا في الممتنع ، كجعل الشريك له سبحانه ؛ لأنّ الممتنع ليس متعلّقا للقدرة ،
ص: 55
ولا محلّا لها ؛ وليس هذا نقصا في القدرة ألبتّة.
وبالجملة : تأثير الأسباب الطبيعية في مسبّباتها ، وتوقّفها عليها عقلا ، ضروريّ عند العقلاء ، بلا نقص في قدرة القادر ؛ لأنّ محلّ القدرة هو المسبّب بسببه ، لا بدونه.
لكنّ الأشاعرة أنكروا سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، وتوقّف المسبّبات عليها عقلا ، وادّعوا تأثّر المسبّبات عن القادر بلا توسّط أسبابها الطبيعيّة واقعا ، فخالفوا ضرورة العقلاء ، ولزمهم أن يمكن وجود الأسباب الطبيعيّة بلا مسبّباتها ، وبالعكس!
ويترتّب عليه عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، وعدم صحّة الاستدلال بالمقدّمات على النتائج.
أمّا الأوّل : فلاستلزام تلك الدعوى جواز وجود الجسم بلا حركة ولا سكون ؛ لأنّهما أثران طبيعيان للجسم ، وإذا جاز وجوده بدونهما لم يثبت حدوثه ؛ لأنّ الدليل على حدوثه هو استلزامه عقلا للحركة والسكون الحادثين.
وأمّا الثاني : فلأنّ أجزاء المركّب سبب طبيعي له ، فلو جاز عقلا تحقّق المسبّب بدون سببه الطبيعي ، لجاز وجود المركّب بغير أجزائه ، فلم يناف التركيب وجوب الوجود ، وجاز أن يكون المركّب واجبا ، والواجب مركّبا ، وهو باطل.
اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّ محاليّة وجود المركّب بلا أجزائه ، من حيث منافاته لحقيقة التركيب ، لا من حيث السببية ، حتّى يضرّ في المدّعى.
وفيه : إنّ المنافاة إنّما نشأت واقعا من جهة السببيّة ، إذ لو لاها لم تحصل المنافاة.
ص: 56
وأمّا الثالث : فلأنّ المقدّمات سبب طبيعي للنتيجة ، فلو لم تؤثّر فيها لجاز عقلا تخلّف النتيجة عنها ، ويبطل الاستدلال كما سيذكره المصنّف رحمه اللّه في أوّل مباحث النظر.
هذا كلّه مضافا إلى أنّ دعوى إمكان الرؤية بلا شرائطها تحتاج إلى دليل ، إذ ليس ذلك ضروريا ، فعليهم إثبات الإمكان.
ولا ينافيه قول الرئيس ابن سينا : « ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ، حتّى يذودك عنه واضح البرهان » (1).
فإنّ المراد بالإمكان فيه هو الاحتمال ، لا مقابل الامتناع.
وأمّا قول الخصم : « لا يلزم من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط محال ».
فإن أراد به أنّ تحقّق الرؤية بدون شرائطها ليس بمحال ؛ فهو عين الدعوى.
وإن أراد به أنّه لا يلزم منه محال آخر فلا يكون محالا ..
ففيه : إنّ محالية الشيء لا تتوقّف على أن يلزم منه محال آخر ، وإلّا لم يكن اجتماع الضدّين أو النقيضين - كأكثر المحالات - محالا.
فإن قلت : لعلّهم يريدون بالرؤية - التي ينكرون توقّفها عقلا على الشرائط - غير الرؤية المعروفة الحاصلة بالانطباع ، أو بخروج الشعاع القائمة بالقوّة المودعة بالآلة الخاصّة.
قلت : لو أرادوا غيرها - كالانكشاف العلمي - لكان النزاع لفظيا ، وهو خلاف البديهة ، ولما احتاج الخصم إلى ذكر أنّ قاعدتهم إحالة كلّ
ص: 57
شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، بل كان يكفيه أن يقول : الرؤية التي نجوّزها بلا هذه الشرائط هي غير الرؤية المعروفة المخصوصة.
هذا ، ولا يخفى أنّه لا فرق بين دعوى القوم إمكان الرؤية المعروفة بدون شرائطها ، وبين دعوى امتناعها وجواز إيجاد اللّه تعالى للمحال ، كما زعمه - في بعض المحالات - ابن حزم في « الملل والنحل » فحكم بأنّ اللّه تعالى قادر على أن يجعل المرء قائما قاعدا معا في وقت واحد ، وقاعدا لا قاعدا ، وأن يجعل الشيء موجودا معدوما في وقت واحد ، والجسم الواحد في مكانين ، والجسمين في مكان واحد ، بل جوّز أن يتّخذ اللّه ولدا! (1) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا .. إلى نحوها من الطامّات.
ويظهر من شيخهم الأشعري تجويز مثل تلك الأمور ، فقد نقل السيّد السعيد رحمه اللّه عن « شرح [ جمع ] الجوامع » للفناري (2) الرومي (3) أنّه قال : « أمّا المستحيلات فلعدم قابليّتها للوجود لم تصلح أن تكون محلّا لتعلّق الإرادة » ...
إلى أن قال : « ولم يخالف في ذلك إلّا ابن حزم فقال في ( الملل
ص: 58
والنحل ) : إنّ اللّه عزّ وجلّ قادر على أن يتّخذ ولدا ، إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا »!
ثمّ قال الفناري : « وذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني (1) أنّ أوّل من أخذ منه ذلك : إدريس علیه السلام ، حيث جاءه إبليس في صورة إنسان ، وهو يخيط ويقول في كلّ دخلة وخرجة : سبحان اللّه والحمد لله ؛ فجاءه بقشرة وقال : هل اللّه يقدر أن يجعل الدنيا في هذه القشرة؟ فقال : اللّه قادر أن يجعل الدنيا في سمّ هذه الإبرة ؛ ونخس (2) بالإبرة إحدى عينيه ، فصار أعور.
وهذا وإن لم يرو عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد اشتهر وظهر ظهورا
ص: 59
لا ينكر.
وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس علیه السلام أجوبة في مسائل كثيرة من هذا الجنس » (1).
فهذا - كما ترى - دالّ على تجويز الأشعري جعل الدنيا في قشرة ؛ لأنّ الأخذ منه فرع القول به ، ودالّ على تجويزه ما نقلناه عن ابن حزم ، فإنّه من جنس الجواب الذي افتعلوه على إدريس علیه السلام .
وليت شعري ، إذا كان ذلك ثابتا عن إدريس عند الفناري ، فلم لم يلتزم بجواز خلق المستحيلات؟! ولكنّ الغلط غير ممنوع عندهم على الأنبياء!
هذا ، ولا يخفى أنّ جعل بعض شروط الرؤية المذكورة شرطا ، مبنيّ على إنّ عدم المانع - كالحجاب - شرط ، كما أنّ ذكر حكم المقابلة فضلة ؛ لأنّ المرئيّ حقيقة هو الصورة التي في المرآة ، وهي مقابلة لا ذو الصورة.
واعلم أنّه كما للرؤية شروط ، فلغيرها من الإحساسات الظاهرية شروط ، ولم يعتبرها القوم أيضا بمقتضى إحالتهم كلّ شيء إلى القادر المختار ، وإنّما خصّ المصنّف الكلام هنا بالرؤية ، لأنّها أظهر ما به الكلام ، وأوضح حالا وشروطا من سائر الإحساسات الظاهرية.
ص: 60
قال المصنّف (1) :
أجمع العقلاء كافّة - عدا الأشاعرة - على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.
وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!
وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج (2) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!
ص: 61
وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه! (1).
ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].
* * *
ص: 62
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية (2).
ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ اللّه تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.
ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.
فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب - من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية - أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين (3).
فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع اللّه [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.
ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا
ص: 63
نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط (1).
والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.
فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!
ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة - مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات (2) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية (3) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد - فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.
بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال
ص: 64
شاهقة ونحن لا نراها.
هذا هو الاعتراض.
وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.
فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة (1).
وحاصل كلام الأشاعرة - كما أشرنا إليه سابقا - : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.
ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.
ص: 65
سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.
وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا - مع تمام السبب واجتماع الشرائط - عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف رحمه اللّه .
وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.
بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!
كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق اللّه تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!
وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف رحمه اللّه .
ص: 66
فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.
وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ اللّه تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.
وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.
وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.
فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.
وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.
كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (1) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.
ص: 67
وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.
وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :
إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.
فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.
وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة ..
أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.
أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.
وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع (1).
وكلاهما باطل.
واعلم أنّ قول المصنّف رحمه اللّه : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك - في عنوان المسألة - مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.
ص: 68
وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح - البالغة في الظهور منتهاه - مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.
ص: 69
ص: 70
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.
ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب! (2).
وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.
[ هذا اعتقادهم! وكيف (3) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا
ص: 71
اعتقاده؟! ].
وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم (1) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!
فهل بلغ أحد من السوفسطائية - في إنكار المحسوسات - إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!
مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!
وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!
فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين اللّه تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!
فإن جوّز ذلك لنفسه - بعد تعقّل ذلك وتحصيله - فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ باللّه من مزالّ الأقدام!
وقال بعض الفضلاء (2) - ونعم ما قال - : كلّ عاقل جرّب الأمور
ص: 72
فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.
ومحالّ أن يكون أهل بغداد - على كثرتهم وصحّة حواسّهم - يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!
ومحال أن يرفع أهل الأرض - بأجمعهم - أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!
ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!
ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!
ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!
بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني - التي فيها - أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.
وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.
وأنّه لم (1) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند
ص: 73
فتحها.
مع إنّ اللّه تعالى قادر على ذلك كلّه (1) ، وهو في نفسه ممكن.
وأنّ المولود الرضيع - الذي يولد في الحال - إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة اللّه تعالى.
وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!
ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :
« يجوز أن يخلق اللّه تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه اللّه تعالى في الجسم البارد » (2).
وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!
* * *
ص: 74
وقال الفضل (1) :
حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل - بعد وضع القعقعة - : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.
ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل - مع فضيلته - قد أخذ [ سبل (2) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :
ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.
وهذا هو السفسطة.
ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.
وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها - ممّا ذكره هذا الرجل - فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة
ص: 75
الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.
فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود (1) عند فقدان الأسباب والشرائط.
ولكن جرت عادة اللّه تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.
فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.
وإن كان ذلك الشيء - بالنسبة إلى القدرة - غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.
مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.
كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة اللّه تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.
فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ (2) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة اللّه تعالى ، وإن كان
ص: 76
جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.
هذا حاصل مذهب الأشاعرة.
فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!
وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.
وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.
فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق اللّه تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.
واللّه أعلم بالصواب.
وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».
فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي - كاجتماع الوجود والعدم - ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.
ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.
* * *
ص: 77
ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف رحمه اللّه .
فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.
وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان .. إلى غير ذلك ممّا سبق.
مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش - العادمين لقوّتي البصر والسمع - مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.
وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.
فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.
وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ
ص: 78
ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.
ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية - والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات - لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية - من المحسوسات وغيرها - ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.
وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.
وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا - كما في فرض الرازي - ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.
* * *
ص: 79
ص: 80
قال المصنّف - عطّر اللّه ضريحه - (1) :
خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!
فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية - كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة - ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر - كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة - (2).
ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر (3) ، والحرارة - وغيرها من الكيفيات الملموسة - إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،
ص: 81
والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر ...
[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].
وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.
ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!
وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟! (1).
ص: 82
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية اللّه تعالى (2).
وتقرير الدليل - كما ذكر في « المواقف » وشرحه - : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.
ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.
فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.
وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.
فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.
ص: 83
فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.
وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.
ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ اللّه تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.
ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم - كما ذكره هذا الرجل - ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.
وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من اللّه تعالى بذلك - أي بعدم رؤيتها - فإنّ اللّه تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق اللّه فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.
والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.
ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،
ص: 84
بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات (1).
ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :
إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط - كما حقّق في محلّه - ، بل هي حالة أخرى يخلقها اللّه تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.
وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.
ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة ) (2) وباقي الشروط عادة.
فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.
فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!
ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.
* * *
ص: 85
لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.
فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر » (1).
وقال التفتازاني في « شرح المقاصد » (2) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ » (3).
وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا
ص: 86
لا يمكن دفعها (1).
وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد رحمه اللّه (2).
فحينئذ يكون ذكر الفضل له - بدون إشارة إلى ذلك - تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!
أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.
فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.
وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.
وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه ..
أو ببعضه ..
أو لا يلاقي شيئا منها ..
أو يلاقي بعضا دون بعض.
ص: 87
فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.
والثاني يقتضي التجزئة.
والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.
وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.
وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين قدس سره وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع (1).
ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها - كما صرّح به الدليل - موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.
وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.
وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.
وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!
ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها
ص: 88
إرادة اللّه تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.
إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.
ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.
ويمكن - أيضا - أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.
فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.
ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.
وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.
ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.
ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،
ص: 89
فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!
إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.
فحينئذ إن كانت رؤية اللّه سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.
ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها - كما زعم - شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!
مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.
ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية اللّه تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.
ص: 90
لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا - في خصوص المقام - إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر - في الصدر الأوّل - ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!
* * *
ص: 91
ص: 92
قال المصنّف - طيّب اللّه مثواه - (1) :
والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.
فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.
والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط! (2).
وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك (3) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال
ص: 93
عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.
وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!
وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.
وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!
وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى (1) إنّما تكون بمعنى آخر.
وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!
وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!
ص: 94
وقال الفضل (1) :
الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.
وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.
ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك (2) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » ... استدلال باطل على معنى (3) مخترع له.
فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.
وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.
ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم ..
ص: 95
فقد ذكرنا أنّه إن أراد - بهذه - الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم .. والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.
ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.
فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.
ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين (1) :
وذي سفه يواجهني بجهل *** وأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا
* * *
ص: 96
لا ريب أنّ بحث المصنّف رحمه اللّه هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».
وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » .. وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.
فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!
كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.
وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء - بالوجود ونحوه - إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.
فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد .. إلى غير ذلك.
مع إنّه بمقتضى مذهبهم - من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار - يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما
ص: 97
جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.
فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.
ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ... » إلى آخره ...
دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.
وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.
وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد - بهذه - الاستحالة العقلية ، فممنوع ... » إلى آخره .. لا ربط له بكلامه ، اللّهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!
فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.
وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :
فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل ..
أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية
ص: 98
- كما سبق - وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل - بناء على هذا - هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية - كما هو واضح من كلامه -.
وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.
على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.
وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!
نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!
وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!
* * *
ص: 99
ص: 100
وأمّا المشبّهة والمجسّمة : فإنّهم إنّما جوّزوا رؤيته تعالى ؛ لأنّه [ عندهم ] جسم ، وهو مقابل للرائي (1).
( فلهذا قالوا بإمكان رؤيته تعالى ، ولو كان تعالى مجرّدا عندهم لحكموا بامتناع رؤيته ) (2).
فلهذا خالفت الأشاعرة باقي العقلاء ، وخالفوا الضرورة أيضا ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ ما ليس بجسم ، ولا حالّ في جسم ، ولا في جهة ، ولا مكان ، ولا حيّز ، ولا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل ، فإنّه لا يمكن رؤيته.
ومن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروري ، وكان في ارتكاب هذه المقالة سوفسطائيا.
وخالفوا أيضا آيات الكتاب العزيز الدالّة على امتناع رؤيته تعالى ، فإنّه قال عزّ من قائل : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ... ) (3) تمدّح بذلك ؛ لأنّه ذكره بين مدحين ، فيكون مدحا ، لقبح إدخال ما لا يتعلّق بالمدح بين مدحين ، فإنّه لا يحسن أن يقال : فلان عالم فاضل ، يأكل الخبز ، زاهد ورع.
وإذا تمدّح بنفي الإبصار له ، كان ثبوته له نقصا ، والنقص عليه تعالى محال.
ص: 102
وقال تعالى في حقّ موسى : ( لَنْ تَرانِي ... ) (1) .. و ( لن ) للنفي المؤبّد.
وإذا امتنعت الرؤية في حقّ موسى علیه السلام ففي حقّ غيره أولى.
وقال تعالى : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) (2) .. ولو جازت رؤيته لم يستحقّوا الذمّ ، ولم يوصفوا بالظلم.
وإذا كانت الضرورة قاضية بحكم ، ودلّ محكم القرآن أيضا عليه ، فقد توافق العقل والنقل على هذا الحكم .. و [ الأشاعرة ] (3) قالوا بخلافه ، وأنكروا ما دلّت الضرورة عليه ، وما قاد القرآن إليه.
ومن خالف الضرورة والقرآن ، كيف لا يخالف العلم النظري والأخبار؟!
وكيف يجوز تقليده ، والاعتماد عليه ، والمصير إلى أقواله ، وجعله إماما يقتدون به؟!
وهل يكون أعمى قلبا ممّن يعتقد ذلك؟!
وأيّ ضرورة تقود الإنسان إلى تقليد هؤلاء الّذين لم يصدر عنهم شيء من الكرامات ، ولا ظهر عنهم ملازمة التقوى ، والانقياد إلى ما دلّت الضرورة عليه وقطعت به الآيات القرآنية؟! بل اعتمدوا مخالفة نصّ
ص: 103
الكتاب ، وارتكبوا ضدّ ما دلّت الضرورة عليه!
ولو جاز ترك إرشاد المقلّدين ، ومنعهم من ارتكاب الخطأ الذي ارتكبه مشايخهم إن أنصفوا ، لم نطوّل الكلام بنقل [ مثل ] هذه الطامّات ، بل أوجب اللّه تعالى علينا إهداء العامة ، لقوله تعالى : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) ...
( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) (2).
* * *
ص: 104
وقال الفضل (1) :
ذكر في هذا المبحث خلاف الناس في رؤية اللّه تعالى ، وما اختصّ به الأشاعرة من إثباتها مخالفة للباقين.
وذكر أنّهم خالفوا الضرورة ؛ لأنّه لا يمكن رؤية ما ليس بجسم ..
فقد علمت أنّ الرؤية - بالمعنى الذي ذكرناه - ليست مختصّة بالأجسام ، ولا تشترط بشرط ، لكن جرى في العادة اختصاصها بالجسم المقابل.
وقد علمت أنّ اللّه تعالى ليس جسما ، ولا في جهة ، ويستحيل عليه مقابلة ، ومواجهة ، وتقليب حدقة ، ونحوه ..
ومع ذلك يصحّ أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر - كما ورد في الأحاديث الصحيحة (2) - وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبّر عنها ب : الرؤية.
فمن عبّر عن الرؤية بما ذكرناه ، وجوّز حصوله في حقّه تعالى على الوجه المذكور ، فأين هو من المكابرة ومخالفة الضرورة؟!
ثمّ إنّ ما استدلّ به على عدم جواز الرؤية من قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (3) ، فإنّ الإدراك في لغة العرب هو : الإحاطة ؛ ألا
ص: 105
ترى في قوله تعالى : ( قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (1) .. فلا شكّ أنّه يريد به الإحاطة!
وأمّا الإدراك بالمعنى المرادف للعلم ، فهو من اصطلاحات الحكماء ؛ لا أنّ في كلام العرب يكون الإدراك بمعنى : العلم والإحساس.
ولا شكّ أنّ الإحاطة به [ تعالى ] نقص ، فيكون نفيه مدحا ، والرؤية التي نثبتها ليست إحاطة.
ثمّ الاستدلال بجواب موسى ، وهو قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) (2)لمّا سأل الرؤية ، و ( لن ) للنفي المؤبّد ، فامتنعت الرؤية في حقّ موسى ، ففي حقّ غيره من باب الأولى ...
فقد أجاب عنه الأشاعرة بمنع كونه للنفي المؤبّد (3) [ بل هو للنفي المؤكّد ].
وعندي أنّه للنفي المؤبّد ، وهذا ظاهر على من يعرف كلام العرب.
ولكنّ التأبيد المستفاد منه بحسب مدّة الحياة ؛ مثلا : إذا قال أحد لغيره : لن أكلّمك ؛ فلا شكّ أنّه يقصد التأبيد في زمن حياته ، لا التأبيد الحقيقي الذي يشمل زمان الآخرة ، وهذا معلوم في العرف.
فالمراد ب : ( لَنْ تَرانِي ) نفي الرؤية في مدّة الدنيا ، وهذا لا ينافي رؤية موسى علیه السلام في الآخرة.
ص: 106
وكذا في قوله تعالى : ( لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ... ) (1) فإنّ المراد منه [ تأبيد ] نفي التمنّي مدّة الحياة ، للعلم بأنّ اليهود في الآخرة يتمنّون الموت للتخلّص من عذاب الآخرة.
ثمّ ما ذكره من إعظام اللّه تعالى سؤال الرؤية من اليهود في القرآن ، والذمّ لهم بذلك السؤال ، ولو جاز ذلك لما استحقّوا الذمّ بالسؤال ..
فالجواب : إنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتا وعنادا ، ولهذا نسبهم إلى الظلم.
ولو كان لأجل الامتناع ، لمنعهم موسى عن ذلك كما منعهم حين طلبوا أمرا ممتنعا ، وهو أن يجعل لهم إلها.
فلمّا علمت أنّ العقل لا ينافي صحّة رؤية اللّه تعالى ، والنصوص لا تدلّ على نفيه ، فقد تحقّقت أنّ ما ادّعاه هذا الرجل من دلالة الضرورة والنصّ ، وتوافقهما على نفي الرؤية ، دعوى كاذبة خاطئة.
ولو لا أنّ الكتاب غير موضوع لبسط الدلائل على المدّعيات الصادقة الأشعرية ، بل هو موضوع للردّ على ما ذكر من القدح والطعن عليهم ، لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة الرؤية ، بل وقوعها! ما تحير به ألباب العقلاء ، لرزانتها ومكان رصانتها!
ولكن لا شغل لنا في هذا الكتاب إلّا كسر طامّات (2) ذلك الرجل ومزخرفاته ، وباللّه التوفيق.
ص: 107
ثمّ اعلم أنّه سنح لي - بعد التأمّل في مسألة الرؤية - أنّ المنازعة فيها قريبة بالمنازعات اللفظية ، وهذا شيء ما أظنّ سبقني إليه أحد من علماء السلف.
وذلك أنّ المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، من نفاة الرؤية ، يذكرون في معنى الحديث المشهور ، وهو
قوله صلی اللّه علیه و آله : « سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر » (1)
أنّ المراد الانكشاف التامّ العلمي ، الذي لم يحصل في هذه النشأة الدنيوية ، وسيحصل هذا الانكشاف في النشأة الثانية.
والأشاعرة - المثبتون للرؤية - ذكروا : أنّ المراد بالرؤية حالة يخلقها اللّه في الحيّ ، ولا تشترط بضوء ، ولا مقابلة ، ولا غيرهما من الشرائط (2).
ثمّ ذكر الشيخ الأشعري في إدراكات الحواسّ [ الخمس ] الظاهرة :
أنّها علم بمتعلّقاتها (3).
فالإبصار - الذي هو عبارة عن الإدراك بالباصرة - يكون علما بالمبصرات ، وليست الرؤية إلّا إدراكا بالباصرة.
فعلى هذا تكون الرؤية علما خاصّا وانكشافا تامّا ، غاية الأمر أنّه حاصل من هذه الحاسّة المخصوصة.
فظهر اتّفاق الفريقين على إنّ رؤية اللّه تعالى - التي دلّت عليها الأحاديث - هي : العلم التامّ ، والانكشاف الكامل.
ص: 108
وبقي النزاع في محلّ حصولها ، فكما يجوز أن يكون محلّ حصول هذا الانكشاف قلبا ، فليجوّز المجوّز أن يكون محلّه عضوا آخر ، هو البصر ، فيرتفع النزاع بالكلّيّة.
واللّه أعلم.
* * *
ص: 109
قد سبق أنّ الرؤية - بالمعنى الذي ذكره - ليست محلّ النزاع بوجه (1) ، وقد أحدثوه فرارا ممّا لزمهم من الإشكالات ، وإنّما محلّ النزاع هو الرؤية المعروفة ، كما عرفته من دليل الأشعري.
على إنّهم إذا أقرّوا بامتناع رؤية الباري سبحانه ، فقد امتنع هذا المعنى ؛ لما سبق من أنّ الصورة الحاصلة عند التغميض إنّما تكون بعد الرؤية ، ومن توابعها ، ومحلّها الحسّ المشترك ، أو الخيال ، فلا وجه للقول بإمكانها دون الرؤية.
ولو فرض أنّهم أرادوا معنى ليس هو الرؤية المعروفة ، ولا موقوفا عليها ؛ فنحن لا نعرفه ، ولا أظنّهم يعرفونه!
فكيف يقع النزاع بيننا وبينهم فيه؟!
كما لا نحكم بامتناعه - عقلا أو عادة - قبل المعرفة.
وأمّا ما أورده الفضل على الآية الأولى ؛ من أنّ الإدراك في اللغة :
الإحاطة ، وأنّ النقص من جهتها ، والمدح لنفيها ..
ص: 110
إنّه لا شاهد له في كتب اللغة والآثار العربية ، بل الظاهر خلافه.
فإنّ الجدار محيط بالدار ، والصندوق محيط بما فيه ، ولا يقال : إنّهما مدركان لهما.
وعن الصحاح أنّ معنى أدركته ببصري : رأيته (1).
ولعلّه لأنّه لا يفهم من الإدراك إلّا الرؤية إذا قرن بالبصر - وإن كان بمعنى اللحاق (2) - ، كما لا يفهم منه إلّا السماع إذا قرن بآلة السمع ، وقيل :
أدركته بأذني ، ولا يفهم منه إلّا أثر الحواسّ الأخر إذا قرن بشيء منها.
وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (3) فليس في محلّه ؛ لأنّ الإدراك فيه هو : اللحاق ، فمعنى مدركون : ملحوقون.
وقد أقرّ في « المواقف » وشرحها ، والتفتازاني في « شرح المقاصد » بأنّ الإدراك بمعنى اللحاق (4).
لكن زعموا أنّ اللحاق والوصول يقتضي الإحاطة ، فيكون الإدراك في الآية بمعنى : الرؤية المحيطة (5)!!
ولا أعرف وجها للاقتضاء والاستلزام!
ص: 111
نعم ، استشهد لذلك في « شرح المقاصد » بقوله : « ولذا يصحّ :
رأيت القمر وما أدركه بصري لإحاطة الغيم به ؛ ولا يصحّ : أدركه بصري وما رأيته » (1).
وهو بظاهره غير تامّ ، لأنّه إن حصل الغيم والحاجب عن القمر ، لم يصحّ أيضا « رأيته » كما لا يصحّ « أدركه بصري » ؛ وإن لم يحصل الحاجب صحّ أن يقال : « رأيته وأدركه بصري » معا.
على إنّ أخذ الإحاطة في معنى الإدراك ، بقوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (2) غير متصوّر ، سواء أريد الإحاطة بحقيقة المرئي وماهيّته ، أم بجوانبه وباطنه ، إذ ليس من شأن الأبصار إحدى هاتين الإحاطتين حتّى يتمدّح تعالى بنفي إحاطة الأبصار به هذه الإحاطة.
على إنّ إحاطة الأبصار بجوانب المرئي إنّما تكون مع صفائه ، كالزجاج ، فإذا فرض أنّ اللّه سبحانه نفاها عنه ، وجعلها نقصا في حقّه - وهي أشبه بالكمال - ، فرؤيته بلا إحاطة أولى بالانتفاء ؛ لأنّها لا تكون إلّا مع كثافة المرئي.
هذا ، وقد أورد القوم على الاستدلال بالآية بأمور أخر :
ما عن الفخر الرازي ، وهو : إنّ التمدّح إنّما يحصل بنفي الرؤية إذا
ص: 112
كانت جائزة عليه تعالى ، وكان قادرا على منع الأبصار عن رؤيته تعالى ، كالمدح بنفي الظلم والعبث .. فتدلّ الآية على جواز رؤيته تعالى لا على امتناعها (1).
إنّ اعتبار ذلك إنّما يتمّ في ما يرجع إلى الفعل ؛ لأنّه لا يصحّ المدح فيه إلّا مع إمكانه والقدرة عليه ، لتعلّقه بالقصد.
وأمّا ما يرجع إلى الذات والصفات الذاتية فلا ، كالعلم ، والقدرة ، والوحدانية.
ولذا يصحّ تمدّحه تعالى بأنّه لا شريك له ، ولا ولد له ، مع عدم جواز جعله للشريك والولد ، وعدم تعلّق قدرته بهما.
ويصحّ تمدّحه بأنّه غير عاجز ، مع عدم جواز العجز عليه ، وعدم تعلّق قدرته به.
وكذا الكيفيات النفسانية ونحوها ، ممّا تمتنع رؤيتها عندكم.
إنّه إنّما تمدّح بمجموع الأمرين ، أعني أنّه يدرك الأبصار ولا تدركه ، فإنّ ذلك مختصّ به ، كما تمدّح في آية أخرى بقوله : ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) (1) ، مع إنّ مدحه تعالى بامتناع رؤيته لا يستلزم صحّة مدح غيره به وإن ثبت له ، فإنّه تعالى يمدح بأنّه جبّار متكبّر ، ولا يصحّ مدح غيره به ، على إنّ المطلوب لا يتوقّف على اختصاص المدح به تعالى.
إنّ ( اللام ) في الْأَبْصارُ إن كانت للعموم ، كان النفي في قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (2) موجبا لسلب العموم ، وهو سلب جزئي.
وإن كانت ( اللام ) للجنس ، كان قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة ، وهي في قوّة الجزئية ..
ونحن نقول بموجب الجزئية ؛ لأنّ الكفّار لا يرونه تعالى في الآخرة إجماعا.
بل نقول : تخصيص البعض بالنفي يدلّ على الثبوت للبعض الآخر ،
ص: 114
فتكون الآية حجّة لنا لا علينا (1).
ولو سلّم أنّ مدلول الآية عموم السلب ، فلا نسلّم عمومه في الأحوال والأوقات ، حتّى في يوم القيامة.
إنّ الجمع المحلّى ب ( اللام ) ظاهر في العموم بلا ريب ، فيتعيّن الوجه الأوّل.
كما إنّ النسبة نسبتان : إيجابية ، وسلبية ؛ وخصوصهما وعمومهما تابعان لخصوص متعلّقهما وعمومه ، بلا فرق بينهما ، إلّا أنّ النفي قد يتوجّه إلى نفس العموم لا النسبة ، فيفيد سلب العموم ، لكنّه أجنبيّ عن قوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) ، فلا يراد به إلّا عموم السلب كغيره من الآيات المستفيضة ، كقوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (2) ..
( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (3) ..
( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (4) ..
( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (5) ..
ص: 115
( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) (1) ..
( لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (2).
.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.
وقد أقرّ التفتازاني بذلك ، فقال في « شرح المقاصد » عند الكلام في قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) : كون الجمع المعرّف ب ( اللام ) - في النفي لعموم السلب - هو الشائع في الاستعمال ، حتّى لا يوجد - مع كثرته - في التنزيل إلّا بهذا المعنى ، وهو اللائق بالمقام كما لا يخفى (3).
وقال في « شرح المطوّل » في بحث تعريف المسند إليه ب ( اللام ) ، في شرح قول الماتن : « واستغراق المفرد أشمل » : « وبالجملة : فالقول بأنّ الجمع المحلّى ب ( اللام ) يفيد تعلّق الحكم بكلّ واحد من الأفراد - مثبتا كان أو منفيا - ممّا قرّره الأئمّة ، وشهد به الاستعمال ..
وصرّح به صاحب ( الكشّاف ) في غير موضع » (4).
على إنّ مقابلة قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) بقوله : ( وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) المفيد للعموم ، دالّة على إرادة العموم في الأوّل أيضا ؛ لأنّ المقصود به الامتياز والافتخار على كلّ بصر.
ولو سلّم أنّ ( اللام ) للجنس ، فلا معنى لجعل قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة ؛ لأنّ وقوع الجنس في حيّز النفي
ص: 116
أظهر في إرادة العموم (1) ..
مع إنّ ما زعمه المعترض من أنّ تخصيص البعض بالنفي يفيد الإثبات للبعض الآخر ؛ باطل بالضرورة ، فإنّ قولنا : ما قام ( زيد ؛ لا يدلّ على قيام غيره ) (2).
وأمّا عدم تسليمه لعموم الأحوال والأوقات ، فليس في محلّه ؛ لحكم العقل بأنّ الإطلاق في مورد البيان ، وعدم القرينة على التقييد ، يفيد العموم (3) ، وإلّا لنافي الحكمة ، لا سيّما في مقام المقابلة وإظهار الامتياز على العامّ.
وأمّا ما أورده على الآية الثانية ، من أنّ ( لن ) تفيد التأبيد المقيّد بمدّة الحياة ..
إنّ التقييد بها منتف وضعا بالضرورة ؛ وغير ثابت بالقرينة ، لعدمها ظاهرا ، فينبغي الحكم بالتأبيد بلا قيد ، كما هو الظاهر.
ص: 117
على إنّ النفي إذا تعلّق بالمطلق ، أفاد نفيه مطلقا.
وهذا بخلاف قوله تعالى : ( لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) (1) فإنّ القرينة فيه على التأبيد في الدنيا موجودة ، وهي قوله تعالى : ( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) (2) ، فإنّه دالّ على أنّهم يخافون في الدنيا الموت فيها ، فلا يتمنّونه بها ، لتقديمهم ما يستحقّون به العذاب في الآخرة.
على إنّه يكفي هنا القرينة العقلية ، وهي ما ذكره الخصم من القطع بأنّهم يتمنّون الموت في الآخرة تخلّصا من العقاب.
غاية ما يدلّ عليه قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) (3) هو نفي الرؤية خارجا ، ومدّعاكم امتناعها ذاتا!
إذا ثبت تأبيد النفي ، ثبت بطلان قول الأشاعرة بالرؤية في الآخرة ؛ وهو المطلوب.
على إنّ المراد بالنفي - هنا - : الامتناع ، بقرينة قول موسى علیه السلام بعد الإفاقة : ( سُبْحانَكَ ) (4) فإنّه للتنزيه ، والتنزيه عن الرؤية دليل على أنّها نقص ، فتمتنع ؛ كما ستعرفه إن شاء اللّه.
ص: 118
وأمّا ما أجاب به عن الآية الثالثة ، من أنّ الاستعظام إنّما هو لطلبهم الرؤية تعنّتا وعنادا ...
أوّلا : إنّ الاستعظام إنّما هو - ظاهرا - لعظم المسؤول (1) ، المعبّر عنه في الآية ب : ( أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) .
وثانيا : إنّ استدلال المصنّف بالآية ليس من جهة الاستعظام ، حتّى يقال : إنّه لأجل التعنّت ؛ بل من حيث ذمّهم ونسبتهم إلى الظلم بطلبهم الرؤية ، ولا يكون طلبهم ظلما إلّا بكون الرؤية نقصا ممتنعا عليه تعالى.
ودعوى أنّها لو كانت ممتنعة لمنعهم موسى من طلبها كما منعهم من جعل الآلهة ، باطلة ؛ لجواز علمه بعدم امتناعهم بمنعه في المقام ..
أو أنّه منعهم فلم يمتنعوا ، كما يقرّ به إصرارهم وقولهم : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) (2) ..
ولو كان منعه مؤثّرا فيهم لمنعهم من طلب الرؤية حتّى لو كانت ممكنة ؛ لعلمه بأنّها لا تقع في الدنيا.
وأمّا ما تحمّس به من قوله : « لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة
ص: 119
الرؤية ، بل وقوعها » ..
فإنّه كلام لا يحتمل الصدق ، وفيه إزراء بحقّ أشياخه.
فإنّهم أفنوا أعمارهم ولم يأتوا بما يمكن أن يذكر بصورة الدليل ، إلّا ما حكوه عن الأشعري كما سمعت ، وقد جعلوه - هم وغيرهم - هدفا لسهام النقد!
على إنّهم إنّما يستدلّون به للإمكان ، فكيف يأتي بالأدلّة العقليّة على الوقوع؟!
ومن العجيب أنّه بعد ما تحمّس هذه الحماسة ، مدّ يد المسالمة وحمل قول المتخاصمين على العلم التامّ ، إلّا أنّ محلّه العين!!
فإن أراد بالعلم التامّ باللّه سبحانه ، والانكشاف الكامل له : انكشاف حقيقته تعالى ؛ فنحن لا نقول به ، ولا أظنّ أصحابه يرتضونه.
وإن أراد به : العلم التامّ بوجوده وصفاته ؛ فنحن نقول به ، وكذلك أصحابه.
لكنّ حمل الرؤية عليه بعيد ، بل مقطوع بخلافه ، لا سيّما وهذا العلم لا يختصّ بالمؤمن ، بل يثبت في القيامة للمؤمن والكافر بلا فرق ، فكيف يحمل عليه كلامهم ، وأخبارهم الدالّة على انكشافه سبحانه للمؤمنين خاصّة؟!
وما نسبه إلى الأشعري - من أنّ إدراك الحواسّ الظاهرة علم بمتعلّقاتها - ، فمسامحة ، أو سفسطة!
وأمّا ما نسبه إلى الإمامية - من حملهم لما سمّاه حديثا مشهورا على الانكشاف الكامل التامّ - ، فهو فرية عليهم ، إذ لا يخطر ببال أحد منهم اعتباره حتّى يحتاج إلى التأويل والحمل.
ص: 120
هذا ، وينبغي التعرّض لأدلّة الأشاعرة ، وإبطالها ، تتميما للفائدة ، فنقول :
استدلّوا على مذهبهم بالعقل - وقد تقدّم بما فيه (1) - وبالنقل ، وهو أمران :
ما يدلّ على إمكان الرؤية ، وهو قوله تعالى حكاية عن موسى علیه السلام : ( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (2) ..
والحجّة به من جهتين :
أحسنها : أنّه إنّما سألها على لسان قومه ، ويشهد لصحّته أمور :
الأوّل : الآيات الدالّة على طلبهم لها من موسى علیه السلام .
الثاني : قوله في هذه الآية : ( سُبْحانَكَ ) (1) فإنّه ظاهر في تنزيه اللّه عن الرؤية ، وهو يقتضي كونها نقصا ممتنعا عليه سبحانه ، فإذا كان عالما بكونها نقصا ، لم يجز أن يكون قد سألها من نفسه.
واحتمال عدم علمه بالنقص قبل السؤال - لو تمّ بالنسبة إلى موسى - كان لنا لا علينا ؛ لأنّه لا يصلح حينئذ الاستدلال بسؤاله الرؤية!
على إنّه يكفينا علمه في ثاني الحال بامتناع الرؤية ، ولذا قال : ( سُبْحانَكَ ) .
الثالث : قوله تعالى حكاية عن موسى علیه السلام : ( قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) (2) فإنّ المراد ب : ( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ) هو سؤال الرؤية ، كما عن جماعة من المفسّرين (3).
على هذا كان ينبغي أن يقول : أرهم ينظرون إليك.
ص: 122
إنّما قال : ( أَرِنِي ) لأنّه أثبت لظلمهم ، وأقوى حجّة عليهم ؛ لأنّهم إذا استحقّوا نزول الصاعقة بمجرّد تسبيبهم طلب الرؤية - والحال أنّ سائلها لنفسه موسى ، وهو المقرّب عند اللّه تعالى - فكيف لو طلبها لهم؟! وليس سؤاله تقريرا للباطل ، بل هو نوع من بيان الامتناع بلحاظ ما يتعقّبه من أخذ الصاعقة ، الكاشف عن كون طلب الرؤية ظلما فتمتنع.
إنّه تعالى علّق الرؤية على أمر ممكن في نفسه ، وهو استقرار الجبل ، والمعلّق على الممكن ، ممكن (1).
منع الكبرى إذا كان المقصود مجرّد فرض الطرفين أو أحدهما ، لا الحقيقة.
ولو سلّمناها فيحتمل أن يكون استقرار الجبل ممتنعا بالغير ، وهو كاف في صحّة تعليق الممتنع عليه ، ولذلك صحّ العكس ، وتعليق الممكن بالذات على الممتنع في قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (2).
ص: 123
على إنّه يكفي في صحّة التعليق على الممكن ، إمكان الرؤية في اعتقاد السائلين ، ليترتّب عليه معرفة الامتناع بالعقاب على السؤال ، الذي هو أدلّ من القول ، مضافا إلى قول موسى بعد ذلك : ( سُبْحانَكَ ) الدالّ على الامتناع كما عرفت.
ما دلّ على وقوع الرؤية ، وهو آيات وأخبار عندهم.
أمّا الآيات ، فهي :
قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (1).
وقوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (2) ، حيث حقّر الكفّار وخصّهم بالحجب ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية (3).
وقوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (4) ؛ لأنّ المراد بالزيادة : الرؤية ، كما رواه صهيب عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وذهب إليه كثير من المفسّرين (5).
ص: 124
فروايات كثيرة (1) ، حتّى قال القوشجي : « روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة » (2).
إنّه بعدما قام الدليل العقلي على امتناع رؤيته سبحانه ، يجب التصرّف في الظواهر كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (3) ، لا سيّما وقد أقرّ الخصم وغيره بأنّهم لا يقولون بالرؤية المعهودة القائمة بالشرائط ، التي هي المستفادة من تلك الظواهر ، فيلزم التصرّف فيها عند الفريقين.
ولا معيّن لحملها على المعنى الذي زعموه (4) ، لا سيّما وهو إلى الآن لم يعرف ما هو؟! ولم يحك الاستعمال عليه في مورد!
على إنّ أخبارهم ليست حجّة علينا ، خصوصا وجلّها - أو كلّها - مطعون بأسانيدها عندهم ، ومجرّد الرواية عن صحابي لا تثبت روايته لها ، مع إنّهم إن كانوا أمثال أبي هريرة فباب الطعن أوسع!!
ص: 125
وأمّا الآية الأخيرة : فلا ظهور لها في المدّعى ، والرجوع في تفسيرها إلى رواية صهيب عمل بالرواية ، وقد عرفت ما فيه.
وأمّا الآية الثانية : فظاهرها الحجب عن اللّه تعالى بلحاظ المكان ، وهو غير مراد قطعا ؛ لأنّ اللّه سبحانه لا يحويه مكان ، ولا معيّن لإرادة الحجب عن الرؤية حتّى يلزم عدم حجب المؤمنين عنها ، بل يحتمل - كما هو الأقرب - إرادة الحجب عن رحمته ، ومحلّ القرب المعنوي منه (1).
وأمّا الآية الأولى : فيمكن أن تكون فيها ( ناظِرَةٌ ) بمعنى : منتظرة ، كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين علیه السلام ، ونسب إلى مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحّاك (2).
وقد ورد به الكتاب العزيز وغيره ...
قال تعالى. ( فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (1) .. ( انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) (2) .. ( غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) (3).
وقال الشاعر (4) :
وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمن يأتي بالفلاح
وقال آخر (5) :
كلّ الخلائق ينظرون سجاله (6) *** نظر الحجيج إلى طلوع هلال
فإنّ المراد به الانتظار لمناسبة المقام ، ولو أريد به الرؤية لعدّاه إلى ( سجال ) ب ( إلى ) كما قيل.
والجواب عن الثاني : إنّه لا غمّ في انتظار النعم لمن يتيقّن بحصولها عند إرادته ، وطوع مشيئته ، بل ذلك زيادة في نعيمه.
على إنّه لم يظهر من الآية أنّ النظر في الجنّة ، فلعلّه يوم القيامة ، كما
ص: 127
يناسبه ما بعدها ، وهو قوله تعالى : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) (1).
ولو سلّم أنّ ( ناظِرَةٌ ) ليس بمعنى : منتظرة ، فلا يتّجه استدلالهم بالآية ؛ لأنّ النظر : تأمّل العين للشيء ، لا الرؤية كما في « القاموس » وغيره (2) ..
ولذا يتحقّق بدون الرؤية ، قال تعالى : ( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (3) مع إنّه قال : ( تَراهُمْ يَنْظُرُونَ )
والرؤية لا ترى ، وإنّما يرى تأمّل العين وتقليب الحدقة.
وأيضا : يقال : نظرت إلى الهلال فرأيته ؛ ولو كان النظر بمعنى الرؤية ، لما صحّ تفريعها عليه.
وأيضا : يصحّ وصف النظر بما لا توصف به الرؤية ، كالشزر والخشوع ، ونحوهما ، فلا يكون بمعناها.
فحينئذ لا تدلّ الآية على تعلّق الرؤية به تعالى.
ودعوى : إنّ النظر ، وإن لم يكن بمعنى الرؤية ولا يستلزمها ، إلّا أنّ تأمّل عيونهم ، وتقليب أحداقهم إلى ربّهم ، يدلّ على رجائهم رؤيته تعالى ، فيلزم أن تكون ممكنة ، وإن لم تلزم فعليّتها.
إذ لو كانت نقصا عليه تعالى ، وممتنعة ، لنهوا عن التأمّل إليه ..
باطلة ؛ لأنّ صريح الآية أنّ نظرهم إليه تعالى نعمة وفائدة لهم.
ص: 128
ومن الواضح أنّ التأمّل ليس بنفسه نعمة وفائدة .. فلا بدّ :
إمّا من حمل النظر إليه تعالى على رؤيته ، فيكون مجازا في المفرد ، ويثبت مطلوبهم ...
أو من حذف مضاف ، أي : ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه ، فيكون مجازا في الحذف.
ولا معيّن للأوّل ، بل المتعيّن الثاني ، لتعديته ب ( إلى ) ، إذ لو كان بمعنى الرؤية لتعدّى بنفسه رعاية للمعنى.
فمع هذه الأمور كلّها ، كيف يمكنهم الاستدلال بالآية؟! والحال أنّه يكفينا في منع دلالتها أنّها على تقدير ظهورها في الرؤية ، تكون ظاهرة في الرؤية المعروفة ذات الشرائط الخاصة ، وهم لا يقولون بها كما ذكروا ، فلا بدّ من حمل النظر في الآية على أمر آخر ، ولا معيّن للمعنى الذي يدّعونه.
هذا ، وقد نسب القوشجي إلى أمير المؤمنين علیه السلام أنّ المعنى : ناظرة إلى ثواب ربّها (1).
فمن الغرائب إعراصه عنه بعد النسبة ، وأخذه بغيره!!
فإذا تركوا قول عالم علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وعديل القرآن ، الذي أمروا بالتمسّك به ، فنحن لرواية صهيب وأبي هريرة وأمثالهما أترك!
واعلم أنّ استدلال القوم على الإمكان والوقوع بالظواهر التي لا تفيد اليقين ، ليس في محلّه ما لم يثبت الإمكان بدليل يقيني ، فتكون مؤيّدة له ؛
ص: 129
لأنّ احتمال الامتناع - ما دام باقيا - لا ترفعه الظواهر الظنّية.
والمسألة ممّا يطلب فيها اليقين ، فلا وجه للاستدلال بالظواهر لمن عجز عن إثبات الإمكان بدليل عقلي ، أو ضرورة ، كالرازي والتفتازاني وشارح « المواقف » وغيرهم(1).
ونحن لمّا أثبتنا الامتناع بضرورة العقل ، ساغ لنا الاستدلال بالظواهر تأييدا لحكم العقل.
ص: 130
ص: 131
ص: 132
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
وفيه مباحث :
الضرورة قاضية بأنّ كلّ من عرف أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة.
وهذا الحكم لا يمكن الشكّ فيه ، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السابقتين ، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين : أنّ العالم حادث ، و [ لا ] أنّ النفس جوهر ، [ أ ] وأنّ الحاصل أوّلا أولى من حصول هذين.
وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك (2) ، فلم يوجبوا حصول
ص: 133
العلم عند حصول المقدّمتين ، وجعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل!
ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة » ؛ وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث ، أو أنّ النفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان ، أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة »!
وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الاثنين ، والاثنين نصف الأربعة ، يحصل له علم أنّ العالم محدث؟!
وأنّ من علم أنّ العالم متغيّر ، وأنّ كلّ متغيّر محدث ، يحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، وأنّ زيدا يأكل ، ولا يحصل له العلم بأنّ العالم محدث؟!
وهل هذا إلّا عين السفسطة؟!
* * *
ص: 134
وقال الفضل (1) :
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنّ حصول العلم - الذي هو النتيجة - عقيب النظر الصحيح ، بالعادة.
وإنّما ذهب إلى ذلك بناء على إنّ جميع الممكنات مستندة - عنده - إلى اللّه سبحانه ابتداء ، أي بلا واسطة ، وعلى إنّه قادر مختار ، فلا يجب عنه صدور شيء منها ، ولا يجب عليه ، ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلّا بإجراء العادة ، بخلق بعضها عقيب بعض ، كالإحراق عقيب مماسّة النار ، والريّ بعد شرب الماء ، فليس للمماسّة والشرب مدخل في وجود الإحراق والريّ ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى ، فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وأن يوجد الإحراق بدون المماسّة ، وكذا الحال في سائر الأفعال.
وإذا تكرّر صدور الفعل منه ، وكان دائما أو أكثريّا ، يقال : إنّه فعله بإجراء العادة ؛ وإذا لم يتكرّر ، أو تكرّر قليلا ، فهو خارق العادة أو نادر.
ولا شكّ أنّ العلم بعد النظر ممكن ، حادث ، محتاج إلى مؤثّر ، ولا مؤثّر إلّا اللّه ، فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه ، ولا عليه ، وهو دائم أو أكثريّ ، فيكون عاديّا (2).
هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.
ص: 135
وقد بيّنّا في ما سبق أنّ المراد من العادة ماذا (1).
فالخصم إمّا أن يقول : إنّ استلزام النظر الصحيح للعلم واجب ، وتخلّفه عنه محال عقلا ؛ فهذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط [ عقلا ] ، فلا يكون التخلّف محالا عقلا.
وإن أراد الوجوب عادة - بمعنى استحالة التخلّف عادة وإن جاز عقلا - ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بيّنّا.
وأمّا قوله : إنّ الأشاعرة « جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا » ، فافتراء محض ؛ لأنّ من قال بالاستلزام عادة - على حسب ما ذكرناه من مراده - لم يكن قائلا بكونه اتّفاقيا ، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طامّاته وترّهاته ، وكأنّه لم يفرّق بين اللزوم العادي ، وكون الشيء اتّفاقيا ؛ أو يفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشنيع والتنفير.
واللّه العالم.
* * *
ص: 136
قد عرفت ممّا سبق في المبحث الثاني من المسألة الأولى (1) أنّه لو قلنا باستناد الممكنات كلّها إلى اللّه تعالى بلا واسطة ، وأنكرنا العلاقة والسببية بين الحوادث المتعاقبة خارجا ، أو طبعا ، لزم عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، ولزم جواز وجود العرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وكلّها باطلة ... إلى غير ذلك ممّا مرّ.
ومنه يعلم ما في قوله : « لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى » كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا قوله : « فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وإن يوجد الإحراق بدون المماسّة ».
فإن أراد به أنّ له أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، مع كون النار والمماسّ لها على طبيعتهما ، فممنوع ؛ إذ ليس محلّا للقدرة ، لكونه محالا.
وإن أراد به أنّ له الإيجاد ، مع تغيير الطبيعة ، فمسلّم ؛ ولكنّه خارج عن محلّ الكلام.
كما أنّ إيجاد الإحراق بلا مماسّة إن أراد به الإحراق المطلق ، فمسلّم.
وإن أراد به الإحراق الذي ينشأ بشخصه من النار ، فممنوع.
ولا يخفى أنّ التوقّف على الأسباب لا ينافي القدرة ؛ لأنّ المقدور
ص: 137
بالواسطة مقدور.
كما أنّ وجوب المسبّب بعد اختيار السبب لا ينافي القدرة والاختيار ، فظهر وجوب العلم بالنتيجة عند حصول النظر الصحيح.
وقوله : « هذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط » ..
واضح البطلان ؛ لأنّه إن أراد بالشرائط الأعمّ من شرائط القياس وشرائط العلم - من العقل ، والحياة ، وعدم النوم ، والغفلة - فإمكان عدم التفطّن مع اجتماع الشرائط من أظهر المحالات.
وإن أراد بها خصوص شرائط القياس ، فإمكان عدم التفطّن مسلّم ، لكن اعتبار وجود شرائط العلم مفروغ عنه في كلام كلّ مباحث بمثل المقام.
وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة المصنّف إلى الأشاعرة أنّهم جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، افتراء محض ؛ فغريب!
إذ لم يرد المصنّف بكون الحصول اتّفاقيا الحصول في بعض الأوقات دون بعض ، بل أراد به الحصول بلا لزوم ؛ لأنّه قال : « اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل » فوصف الاتّفاقي بما يمكن حصوله وعدمه ، لا بالحصول في وقت دون آخر ؛ وهو صريح في ما قلنا.
على إنّه لو أراد بالحصول الاتّفاقي الحصول في بعض الأوقات ، لم يبعد عن الصدق ؛ لأنّ الخصم لم يجعل في أوّل كلامه حصول العلم بعد النظر دائميا ، بل قال : هو دائم أو أكثري ، كما هو عين كلام شارح « المواقف ».
ص: 138
فإنّه نقل لفظ « المواقف » وشرحها بعينه ، من قوله : « بناء » إلى قوله : « فيكون عاديّا » (1) ، وحينئذ فأيّ الأمرين أراده المصنّف يكون ما صوّره من الأمثلة واردا عليهم ؛ وهو ظاهر.
ص: 139
ص: 140
قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :
الحقّ أنّ مدرك وجوب النظر عقليّ لا سمعي ، وإن كان السمع قد دلّ عليه أيضا بقوله تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا ) (2).
وقال الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء ، وظهور المعاندين عليهم ، وهم معذورون في تكذيبهم! مع إنّ اللّه تعالى قال : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (3) ...
فقالوا : إنّه واجب بالسمع لا بالعقل ، وليس يجب بالعقل شيء ألبتّة! (4).
فيلزمهم إفحام الأنبياء ، واندحاض حجّتهم ؛ لأنّ النبيّ إذا جاء إلى المكلّف فأمره بتصديقه واتّباعه ، لم يجب ذلك عليه إلّا بعد العلم بصدقه ،
ص: 141
إذ بمجرّد الدعوى لا يثبت صدقه ، بل ولا بمجرّد ظهور المعجزة على يده ما لم ينضمّ إليه مقدّمات ..
منها : إنّ هذه المعجزة من عند اللّه تعالى.
[ ومنها : إنّه تعالى ] فعلها لغرض التصديق.
ومنها : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق ..
لكنّ العلم بصدقه حيث يتوقّف على هذه المقدّمات النظرية ، لم يكن ضروريا ، بل يكون نظريّا.
فللمكلّف أن يقول : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه ، ولم أعرف وجوبه إلّا بقولك ، وقولك ليس بحجّة عليّ قبل العلم بصدقك!
فتنقطع حجّة النبيّ ، ولا يبقى له جواب يخلص به ، فتنتفي فائدة بعثة الرسل ، حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ، ويكون المخالف لهم معذورا.
وهذا هو عين الإلحاد والكفر! نعوذ باللّه منه.
فلينظر العاقل المنصف [ من نفسه ] ، هل يجوز له اتّباع من يؤدّي مذهبه إلى الكفر؟!
وإنّما قلنا بوجوب النظر ؛ لأنّه دافع للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.
* * *
ص: 142
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ النظر في معرفة اللّه واجب بالإجماع ، والاختلاف في طريق ثبوته.
فعند الأشاعرة طريق ثبوته : السمع ، لقوله تعالى : ( انْظُرُوا ) (2) ؛ ولأنّ معرفة اللّه واجبة إجماعا ، وهي لا تتمّ إلّا بالنظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب ، ومدرك هذا الوجوب هو السمع كما سيتحقّق بعد هذا.
وأمّا المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية (3) ، فهم أيضا يقولون بوجوب النظر ، لكن يجعلون مدركه العقل لا السمع (4).
ويعترضون على الأشاعرة بأنّه لو لم يجب النظر إلّا بالشرع لزم إفحام
ص: 143
الأنبياء ، وعجزهم عن إثبات نبوّتهم في مقام المناظرة كما ذكره من الدليل.
والجواب من وجهين :
وهو : إنّ ما ذكرتم من إفحام الأنبياء ، مشترك بين الوجوب الشرعي - الذي هو مذهبنا - ، والوجوب العقلي - الذي هو مذهبكم - ، فما [ هو ] جوابكم فهو جوابنا!
وإنّما كان مشتركا ، إذ لو وجب النظر بالعقل فوجوبه ليس ضروريا ، بل بالنظر فيه ، والاستدلال عليه بمقدّمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أنّ المعرفة واجبة ، وأنّها لا تتمّ إلّا بالنظر ، وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ..
فيقول المكلّف حينئذ : لا أنظر أصلا ما لم يجب ، ولا يجب ما لم أنظر ، فيتوقّف كلّ واحد من وجود النظر مطلقا ، ووجوبه على الآخر.
لا يقال : إنّه يمكن أن يكون وجوب النظر فطريّ القياس ، فيضع النبيّ للمكلّف مقدّمات ينساق ذهنه إليها بلا تكلّف ، ويفيده العلم بذلك - يعني بوجوب النظر ضرورة - ، فيكون الحكم بوجوب النظر ضروريا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه.
لأنّا نقول : كونه فطريّ القياس مع توقّفه على ما ذكرتموه من المقدّمات الدقيقة الأنظار ، باطل.
وعلى تقدير صحّته - بأن يكون هناك دليل آخر - فللمكلّف أن لا يستمع إليه وإلى كلامه الذي أراد تنبيهه به ، ولا يأثم بترك النظر أو الاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا ، فلا يمكن الدعوة وإثبات
ص: 144
النبوّة ، وهو المراد بالإفحام.
وهو أن يقال : [ النبيّ له أن يقول ] - إذا قال المكلّف : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه -:
إنّ الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر ، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب.
فإن قال : الوجوب موقوف على علمي به.
قلنا : لا يتوقّف ؛ إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب.
فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر.
قلنا : ماذا تريد بالوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟!
فإن قال : أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا.
قلنا : فقد أثبتّ الشرع حيث قلت بالثواب ، وإلّا فبطل قولك :
« ووجوبه لا أعرفه إلّا بقولك » ، فاندفع الإفحام.
وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب به قبيحا لا يستحسنه العقلاء ، ويترتّب عليه المفسدة ، فيرجع إلى استحسان العقل.
قلنا : فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء ، وتأمّلت فيه بعقلك ، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النظر في معرفة خالقه - مع بثّ النعم -
ص: 145
قبيح ، وفيه مفسدة ، فبطل قوله : « ولم أنظر ما لم أعرف الوجوب » ، واندفع الإفحام.
لا يقال : هذا الوجه الثاني هو عين [ القول ب ] الحسن والقبح العقليّين ، وليس هذا مذهب الأشاعرة ، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم.
قلنا : لأنّا نقول : ليس هذا من الحسن والقبح اللذين وقع فيهما المنازعة أصلا ؛ لأنّ الحسن والقبح ، بمعنى تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، هو محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعيّ ، وعند المعتزلة عقليّ.
وأمّا الحسن والقبح ، بمعنى ملاءمة الغرض ومنافرته ، وترتّب المصلحة والمفسدة عليهما ، فهما عقليّان بالاتّفاق ؛ وهذا من ذاك الباب ، وسنبيّن لك [ حقيقة ] هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إن شاء اللّه تعالى.
ثمّ اعلم أنّا سلكنا في دفع لزوم الإفحام [ عن الأنبياء ] مسلكا لم يسلكه قبلنا أحد من السلف ، وأكثر ما (1) اطّلعنا عليه من كلامهم لم يفد دفع الإفحام ، كما هو ظاهر على من يراجع كلامهم ، واللّه العالم.
إذا عرفت هذا ، علمت أنّ الإفحام مندفع على تقدير القول بالوجوب الشرعي في هذا المبحث ، فأين الانجرار إلى الكفر والإلحاد؟!
ثمّ إنّ من غرائب طامّات هذا الرجل أنّه أورد شبهة على كلام الأشاعرة ، وهي مندفعة بأدنى تأمّل ، ثمّ رتّب عليه التكفير والتفسيق ، وهذا
ص: 146
غاية الجهل والتعصّب ، وهو رجل يريد ترويج طامّاته ليعتقده القلندرية والأوباش (1) ورعاع الحلّة من الرفضة والمبتدعة.
ص: 147
إنّ الجواب النقضي إنّما يتوجّه إذا كان الدليل العقلي على الوجوب - نظريا أو ضروريا - محتاجا إلى تنبيه.
وأمّا إذا كان ضروريا غنيا عن التنبيه ، فلا ، كالدليل الذي ذكره المصنّف.
فإنّ المقدّمة الأولى منه ، وهي :
« إنّ النظر دافع للخوف » وجدانية ؛ لأنّ النظر إمّا أن يحصل به القطع المؤمّن للقاطع ، أو يوجب الأمان من جهله لو لم يقطع ؛ لأنّ النظر غاية المقدور.
والمقدّمة الثانية ، وهي :
« إنّ دفع الخوف واجب » ضرورية أوّلية ، لا تحتاج إلى التنبيه كالأولى.
فإن قلت :
أين الخوف حتّى يوجب دفعه؟!
قلت :
لا ريب أنّ كلّ عاقل يحتمل بالضرورة أنّ له ربّا لازم العبادة ، وأنّه يعاقبه بجهله فيه ، وترك النظر في معرفته ، والإخلال بعبادته ، فيحصل له الخوف بالضرورة ، فيحتاج إلى النظر ، ويجب عليه عقلا.
ص: 148
ولا يخفى أنّ الخصم أخذ هذا الجواب النقضي بعينه من « المواقف » وشرحها ، من غير تدبّر بعدم انطباقه على المورد ؛ لأنّ المصنّف ذكر لوجوب النظر دليلا ضروريا ، وما ذكره في « المواقف » دليل آخر نظريّ!
فرأى الخصم أنّ صاحب « المواقف » ذكر جوابا سمّاه نقضيا ، فأخذه بلفظه من غير معرفة بعدم انطباقه على الدليل الذي في الكتاب ، وأنّه لا يكون نقضا عليه ، وإنّما يكون نقضا على ما بيّنه في « المواقف ».
ثمّ إنّه قد ذكر في « المواقف » نظير الدليل البديهي المذكور ، وجعله دليلا على وجوب المعرفة عقلا ، لا على وجوب النظر ، فقال : « المعرفة دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، وهو - أي الخوف - ضرر ، ودفع الضرر عن النفس واجب [ عقلا ] » (1).
ولو قال : المعرفة دافعة للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة ؛ لكان أولى.
فيرد عليه أمور :
إنّ قوله : « الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر » كلام غير نافع ، وهو الذي اقتصر عليه علماء الأشاعرة ؛ لأنّ تحقّق وجوب النظر في الواقع وإن لم يتوقّف على العلم ، لكن لا يؤثّر في لزوم إطاعة المكلّف له
ص: 149
ما لم يعلمه ، فإنّ من لا يعرف الوجوب يكون معذورا في مخالفته وترك النظر ، فيلزم الإفحام.
ولو ادّعيت عدم المعذورية عقلا في مخالفة الوجوب الشرعي الواقعي ، بمجرّد احتمال المكلّف له ، رجعت إلى حكم العقل ، وصار المحرّك للمكلّف على النظر هو العقل لا الشرع.
وبالجملة : إنّما يرتفع الإفحام بعلم المكلّف بالوجوب ، لا بمجرّد وجوده في الواقع ، وقول مدّعي النبوّة لا يفيده العلم ، فلا يرتفع الإفحام ، بخلاف الدليل العقلي ، فإنّه يثبت الوجوب ، ويفيد العلم به ، فيرتفع الإفحام.
إنّه لا يلزم من قول المكلّف : « أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا » أن يكون مثبتا للشرع ، مذعنا به ؛ لأنّ استعمال اللفظ في معنى لا يستلزم اعتقاد المستعمل بالمعنى ، بل يكفيه سماعه له مستعملا به عند أهل الشرع ، فإذا أراده صحّ كلامه من غير اعتقاد به ، ولزم الإفحام.
إنّ نتيجة قوله : « وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون الواجب به قبيحا ... » إلى آخره ، أن يكون الوجوب عقليا ، وحينئذ - لو تمّ - لا يكون جوابا حلّيا عن إشكال الإفحام بناء على الوجوب الشرعي.
فظهر أنّ زيادة الخصم على جواب الأشاعرة بقوله : « فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر ... » إلى آخر جوابه ، زيادة لاغية لا تنفع
ص: 150
الأشاعرة ؛ لاشتمالها على مقدّمتين :
أولاهما : لا تدفع الإفحام.
والثانية : تجعل الوجوب عقليا كما عرفته في الأمرين الأخيرين.
واعلم أنّ دليل المصنّف العقلي كما يثبت وجوب النظر لمعرفة اللّه تعالى ، يثبت وجوب النظر لمعرفة النبيّ ، إلّا أنّ وجه الخوف مختلف ، ولا يبعد أنّ المصنّف أراد الأمرين كما هو ظاهر من كلامه.
واللّه العالم.
* * *
ص: 151
ص: 152
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
الحقّ أنّ وجوب معرفة اللّه تعالى مستفاد من العقل ، وإن كان السمع [ قد ] دلّ عليه ؛ لقوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (2) ؛ لأنّ شكر النعمة (3) واجب بالضرورة ، وآثار النعمة علينا ظاهرة ، فيجب علينا أن نشكر فاعلها ، وإنّما يحصل بمعرفته ؛ ولأنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.
وقالت الأشاعرة : إنّ معرفة اللّه واجبة بالسمع لا بالعقل (4) ، فلزمهم ارتكاب الدور ، المعلوم بالضرورة بطلانه ؛ لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجب ، فإنّ من لا نعرفه بشيء من الاعتبارات ألبتّة ، نعلم - بالضرورة - أنّا لا نعرف أنّه أوجب ، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال.
ص: 153
وأيضا : لو كانت المعرفة إنّما تجب بالأمر ، لكان الأمر بها إمّا أن يتوجّه إلى العارف باللّه تعالى ، أو إلى غير العارف ، والقسمان باطلان ، فتعليل الإيجاب بالأمر محال.
أمّا بطلان الأوّل ؛ فلأنّه يلزم منه تحصيل الحاصل ، وهو محال.
وأمّا بطلان الثاني ؛ فلأنّ غير العارف باللّه يستحيل أن يعرف : أنّ اللّه قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.
وإذا استحال أن يعرف أنّ اللّه تعالى قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب ، استحال أمره ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، وسيأتي بطلانه إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 154
وقال الفضل (1) :
لا بدّ في هذا المقام من تحرير محلّ النزاع أوّلا ، فنقول :
وجوب معرفة اللّه تعالى - الذي اختلف فيه - هل إنّه مستفاد من الشرع أو العقل؟
إن أريد به الاستحسان ، وترتّب المصلحة ، فلا يبعد أن يقال : إنّه مستفاد من العقل ؛ لأنّ شكر المنعم موقوف على معرفته ، والشكر واجب - بهذا المعنى - بالعقل ، ولا نزاع للأشاعرة في هذا.
وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع ؛ لأنّ العقل ليس له أن يحكم بما يوجب الثواب عند اللّه.
والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح - بهذا المعنى - مركوزان في العقل ، ولكنّ الشرع كاشف عنهما.
ففي المذهبين لا بدّ وأن يؤخذ (2) من الشرع ، إمّا لكونه حاكما ، أو لكونه كاشفا (3).
فكلّ ما يرد على الأشاعرة في هذا المقام بقولهم : « إنّ الشرع حاكم بالوجوب دون العقل » يرد على المعتزلة بقولهم : « إنّ الشرع كاشف للوجوب » ؛ لأنّ في القولين لا بدّ من الشرع ليحكم أو يكشف.
ص: 155
ثمّ ما ذكر من أنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة ..
فنحن نقول فيه - بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح في الأفعال ، وما يتفرّع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما - : نمنع حصول الخوف المذكور ؛ لعدم الشعور بما جعلتم الشعور به سببا له من الاختلاف وغيره.
ودعوى ضرورة الشعور من العاقل ممنوعة ؛ لعدم الخطور في الأكثر ، فإنّ أكثر الناس لا يخطر ببالهم أنّ هناك اختلافا بين الناس في ما ( ذكروا : أنّ ) (1) لهذه النعم منعما قد طلب منهم الشكر عليها ، بل هم ذاهلون عن ذلك ، فلا يحصل لهم خوف أصلا.
وإن سلّم حصول الخوف ، فلا نسلّم أنّ العرفان - الحاصل بالنظر - يدفعه ، إذ قد يخطئ فلا يقع العرفان على وجه الصواب ؛ لفساد النظر ، فيكون الخوف حينئذ أكثر.
ثمّ ما ذكر من لزوم الدور ، مندفع بأنّ وجوب المعرفة بالشرع في نفس الأمر ، لا يتوقّف على معرفة الإيجاب [ وإن توقّف على الإيجاب ] في نفس الأمر ، فلا يلزم الدور.
ثمّ ما ذكر من أنّ المعرفة لا تجب إلّا بالأمر ، والأمر إمّا أن يتوجّه إلى العارف أو الغافل ؛ وكلاهما باطل ..
فنقول في جوابه : المقدّمة الثانية القائلة : بأنّ تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا ؛ ممنوعة ..
ص: 156
إذ شرط التكليف : فهمه وتصوّره ، لا العلم والتصديق به ؛ لأنّ الغافل من لا يفهم الخطاب ، أو لم يقل له : إنّك مكلّف ؛ فتكليف غير العارف ليس من المحال في شيء ؛ واللّه أعلم.
ص: 157
لا يخفى أنّ معنى الوجوب هو : لزوم الفعل ، وعبّر بعضهم بطلب الفعل مع المنع من الترك ، وهذا ممّا لا يشتبه في نفسه على أحد ، ولا في كونه - هو دون غيره - محلّ النزاع ، فأيّ وجه لتركه؟!
والترديد في معنى الوجوب بين أمرين لا ربط لهما بالمقصود ، اللّهمّ إلّا أن يريد الترديد في سبب الوجوب العقلي ودليله ، لا في معناه ، فهو حسن إذا كان غرضه - من الشقّ الأوّل في الترديد - تسليم الدليل الأوّل الذي استدلّ به المصنّف ، مع إرادة الخصم بالاستحسان هو الاستحسان على وجه اللزوم.
لكنّ دعوى تسليم الأشاعرة لهذا الدليل ، وعدم النزاع لهم في وجوب شكر المنعم ، غير صحيحة ، لا سيّما إذا أريد به إثبات وجوب المعرفة عقلا.
فإنّهم أنكروا وجوب المعرفة عقلا - كما سمعت - ، وأنكروا وجوب شكر المنعم عقلا ، مدعين :
أوّلا : إنّه تصرّف في ملك الغير ، فلا يجوز بدون إذنه.
وثانيا : إنّه لو وجب عقلا ، فإن كان لا لفائدة ، يلزم العبث ؛ وإن كان لفائدة : إمّا في الدنيا ، وأنّه مشقّة ؛ أو في الآخرة ، ولا استقلال للعقل فيها.
ويرد على الأوّل : إنّهم إن أرادوا بملك الغير : الجوارح والقوى المدركة ؛ ففيه : إنّ اللّه سبحانه إنّما خلقها ليتصرّف بها صاحبها ، إلّا أن
ص: 158
يثبت منع الشرع في مورد فيستثنى.
وإن أرادوا به أفعال العبد ؛ فهي عندهم مخلوقة لله تعالى ، فلا تصرّف للعبد فيها ، على إنّ الأصل الإباحة عند الشكّ كما حقّق في أصول الفقه (1).
ويرد على الثاني : إنّا نختار أنّه لفائدة الشاكر ، سواء قلنا : إنّها في الدنيا ؛ لأنّ المشقّة لا يلتفت إليها في جنب الفائدة ، كيف؟! ولا تحصل فائدة غالبا بدون مشقّة ..
أم في الآخرة ؛ لأنّ العقل مستقلّ بها ، وحاكم بالثواب عند اللّه تعالى ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا قوله : « وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع » ..
فهو خارج عن المقام ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في أصل الوجوب العقلي ودليله ، ولا ربط له بمسألة استحقاق الثواب والعقاب على طاعة التكاليف الشرعية ومخالفتها.
كما إنّ قولنا بالاستحقاق لا يتوقّف على كشف الشرع بالضرورة.
وكيف كان ، فإن أقرّ الخصم بوجوب معرفة اللّه تعالى عقلا ، وأنّ العقل ملزم للإنسان بالمعرفة وإن لم يعرف الشرع ، لوجوب شكر المنعم عقلا ، الموقوف على المعرفة ، فهو المطلوب.
ص: 159
ولكنّ أصحابه لا يعترفون به وإن أنكر ذلك تبعا لأصحابه! فما هذه التفاصيل الخارجة عن المقصود ، والأغاليط التي لا يعرف معناها ، ولا نتيجة لها ، إلّا تشويش الكلام وتلبيس الحقّ!
ومن جملة الخبط في كلامه قوله : « والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان في العقل » ..
فإنّ حقّ العبارة أن يقول : « ثابتان بالشرع » ، بدلا عن قوله :
« مركوزان في العقل » ؛ لأنّ الأشاعرة لا يقولون بالثواب والعقاب عقلا (1).
وأمّا ما أجاب به عن الدليل الثاني الذي ذكره المصنّف ، فهو عين لفظ « المواقف » وشرحها ، من قوله : « نحن نقول بعد تسليم » إلى قوله :
« فيكون الخوف حينئذ أكثر » (2) ..
ويرد عليه أوّلا : إنّ منع حصول الخوف بدعوى عدم شعور الناس بسببه وهو « الاختلاف » خطأ ظاهر ، سواء أراد المصنّف بالاختلاف ، الاختلاف في وجود اللّه تعالى ، أم في أنّ لهذه النعم منعما.
وذلك لأنّ الاختلاف في الأمرين أظهر الوجدانيات والمشاهدات ، وأبين محالّ الخلاف في الديانات ، فكيف يمكن أن لا يشعر به الناس؟!
نعم ، ربّما لا يبالي الناس بالجهل ومقتضى الخوف ، وهو أمر آخر.
ويرد عليه ثانيا : إنّ تقييد المنعم بأنّه قد طلب الشكر عليها ، خطأ آخر ؛ لمنافاته لمذهبنا ، وهم يريدون حكاية دليلنا ، فإنّا نقول : إنّ وجوب شكر المنعم عقلي لا شرعي ، وإنّما الشرع مؤكّد (3).
ص: 160
وثالثا : إنّ عدم تسليم كون العرفان الحاصل بالنظر دافعا للخوف ، لاحتمال فساد النظر ، خطأ ثالث ؛ لأنّ كلّ قاطع لا يتصوّر حين قطعه أنّه مخطئ ، ولا يحتمل فساد نظره ، إذ يرى أنّه قد انكشف له الواقع ، وإلّا لم يكن قاطعا (1) ، فكيف لا يرتفع خوفه وإن كان مخطئا في نفس الأمر والواقع؟!
بل عرفت في المبحث السابق (2) أنّ النظر دافع للخوف وإن لم يؤدّ إلى القطع ؛ لأنّه غاية المقدور.
المقصود : إنّ من يريد النظر يحتمل أنّه على تقدير قطعه يكون مخطئا ، فلا يكون الإقدام على النظر مؤمّنا من الخطأ ودافعا للخوف حتّى يجب.
إنّه وإن احتمل ذلك ، إلّا أنّه يعلم بانتفاء الخوف معه ، لعلمه بكون القاطع معذورا وإن أخطأ ، فالإنسان بدون النظر في خوف ، ومع النظر يحصل له الأمان ، لعلمه بأنّه إمّا أن يحصل له القطع ، أو لا.
وعلى التقديرين يكون معذورا آمنا ؛ لأنّ ذلك غاية مقدوره.
وأمّا ما ذكره في دفع الدور ، فلا ربط له بمقدّمتي الدور اللتين
ص: 161
ذكرهما المصنّف ..
لأنّ الأولى قائلة : إنّ معرفة الإيجاب متوقّفة على معرفة الموجب.
والثانية قائلة : إنّ معرفة الموجب متوقّفة على معرفة الإيجاب.
وصريح ما ذكره الفضل منع توقّف وجوب المعرفة على معرفة الإيجاب ، وهو أجنبي عن المقدّمتين.
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى تكليف غير العارف ، فممّا تلقّنه من « المواقف » وشرحها بلفظه ، من دون معرفة بعدم صلوحه للجواب ، فإنّه يرد عليه أمور :
الأوّل : إنّه غير مرتبط بمراد المصنّف ؛ لأنّه أراد بغير العارف من لم يعرف اللّه تعالى ، لا الغافل عن التكليف.
الثاني : إنّه زعم أنّ شرط التكليف فهمه ، وفسّر الغافل بمن لا يفهم الخطاب ، ثمّ حكم بأنّ تكليفه غير محال ؛ وهو تناف ظاهر ؛ لأنّه إذا اشترط في التكليف فهمه ، وكان الغافل لا يفهم الخطاب ، فكيف يجوز تكليفه؟!
الثالث : إنّ كلام المصنّف اشتمل على مقدّمتين لا ربط لجواب الفضل بهما :
الأولى : إنّ غير العارف باللّه - بما هو غير عارف به - يستحيل أن يعرف أنّ اللّه قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.
الثانية : إنّه إذا استحال ذلك استحال أمر اللّه تعالى ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.
ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يصلح أن يكون ردّا لإحدى المقدّمتين لو كان له معنى!
ص: 162
ص: 163
ص: 164
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وفيها مباحث :
الحقّ ذلك ؛ لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، فيكون اللّه تعالى قادرا على جميع المقدورات.
وخالف في ذلك جماعة من الجمهور :
فقال بعضهم : إنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد (2).
ص: 165
وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على غير (1) مقدور العبد (2).
وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على القبيح (3).
وقال آخرون : إنّه لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا يتعلّق بما علمناه مكتسبا (4).
وكلّ ذلك بسبب سوء فهمهم ، وقلّة تحصيلهم!
والأصل في هذا أنّه تعالى واجب الوجود ، وكلّ ما عداه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه إنّما يصدر عنه ، ( أو يصدر عمّا يصدر عنه ) (5).
ولو عرف هؤلاء اللّه تعالى حقّ معرفته لم تتعدّد آراؤهم ، ولا تشعّبوا بحسب ما تشعّبت أهواؤهم.
* * *
ص: 166
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ قدرته تعالى تعمّ سائر المقدورات ، والدليل عليه : إنّ المقتضي للقدرة هو الذات ، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها (2).
هذا مذهبهم ، وقد وافقهم الإمامية في هذا وإن خالفهم المعتزلة.
فقوله : « خالف في ذلك جماعة من الجمهور » إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس ، وإراءة للطالبين أنّ مذهبهم هذا ؛ لأنّ « الجمهور » - في هذا الكتاب - لا يطلقه إلّا على الأشاعرة ، وبالجملة : تعصّبه ظاهر ، وغرضه غير خاف.
وأمّا قول بعضهم : إنّ اللّه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ؛ فهو مذهب أبي القاسم البلخي (3).
ص: 167
وأمّا أنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا ، فهو مذهب جماعة مجهولين ، ولم أعرف من نقله سوى هذا الرجل ، والحقّ ما قدّمناه.
* * *
ص: 168
لا يخفى أنّ المقدّمة الأولى من دليلهم - المذكور - القائلة : « إنّ المقتضي للقدرة هو الذات » مبنية على إنّ صفاته تعالى غير ذاته ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى أنّها عين ذاته.
كما أنّ المقدّمة الثانية القائلة : « المصحّح للمقدورية هو الإمكان » مستلزمة للدور أو التسلسل ؛ لأنّ صفاته سبحانه عندهم ممكنة ، ومنها القدرة ، فيلزم أن تكون القدرة مقدورة ، وهو دور أو تسلسل.
وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة : إنّ نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فمحلّ إشكال ؛ كيف؟! واقتضاء الذات لصفاتها الممكنة عندهم بالإيجاب ، ولباقي الممكنات بالاختيار ؛ فتختلف النسبة.
وعليه : فمن الجائز أن تكون مقدورية بعض الممكنات للذات مشروطة بشرط منتف ، أو أنّ لمقدوريّتها لها مانعا ، فلا يثبت عموم قدرته.
فالأولى الاستدلال عقلا لعموم قدرته تعالى ، بما ذكره المصنّف من أنّ المقتضي - أي العلّة - لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، ضرورة توقّف ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على القدرة.
إنّما يثبت بهذا الدليل عموم مقدورية الممكنات لا عموم قدرته تعالى ، إذ لو أثبت عمومها لأثبت عموم قدرة العبد أيضا ، لجريان الدليل بعينه فيها ، فيجوز أن يكون بعض الممكنات مقدورا لله تعالى ، وبعضها
ص: 169
مقدورا للعبد خاصة لاختلاف الخصوصيات.
الإمكان يستدعي الحاجة إلى المؤثّر والانتهاء إلى الواجب تعالى ، فيصلح هذا الدليل دليلا لعموم قدرته تعالى ، بلحاظ ما يستتبعه الإمكان من حاجة كلّ ممكن إليه عزّ وجلّ ، لا بلحاظ ذات الإمكان فقط حتّى يلزم عموم قدرة العبد أيضا.
الحاجة إنّما تقتضي تأثّر الممكن عن الواجب - ولو بنحو الإيجاب - فلا يلزم عموم قدرته لكلّ ممكن ، لجواز كونه سبحانه موجبا لبعض الممكنات كما يقوله الأشاعرة في صفات الباري سبحانه (1) ، والإيجاب مناف للقدرة على الصحيح ، لاعتبار أن تكون صالحة للفعل والترك.
لا يصحّ فرض كونه تعالى موجبا ، لاستلزامه تعدّد القدماء ، وهو باطل ، كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا قوله : « إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس » ..
ص: 170
إنّه أراد به من قدّموا على أمير المؤمنين علیه السلام غيره ، لتصريحه في المبحث الآتي بأنّ أبا هاشم (1) من الجمهور ، وفي مباحث البقاء ، بأنّ النظّام (2) منهم ، مع إنّهما من المعتزلة ، فلا تلبيس منه.
هذا ، وللقوم أقوال أخر لم يتعرّض لها المصنّف ، ذكر في « المواقف » بعضها (3) ، وذكر ابن حزم في أواخر الجزء الثاني من « الملل والنحل » جملة منها (4).
ص: 171
وحكى نصير الدين الطوسي في كتاب « قواعد العقائد » القول بأنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما يتعلّق بما علمناه مكتسبا (1).
واعلم أنّ قولنا : بأنّه تعالى قادر على القبيح ؛ لا دخل له بالوقوع ، فإنّ القدرة على الشيء بما هو ممكن بالذات لا تنافي امتناعه أو وجوبه بالغير ، وهو ظاهر.
ويدلّ من النقل على عموم قدرته تعالى ، مثل قوله تعالى : ( وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2).
ص: 172
قال المصنّف - طيّب اللّه ضريحه - (1) :
العقل والسمع متطابقان على عدم ما يشبهه تعالى ، فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته.
وذهب أبو هاشم - من الجمهور - وأتباعه إلى أنّه تعالى يخالف ما عداه بصفة الإلهية ، وأنّ ذاته مساوية لغيره من الذوات (2).
وقد كابر الضرورة - ها هنا - الحاكمة بأنّ الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد ، لا يجوز اختلافها فيه.
فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات ، لساواها في اللوازم ، فيكون القدم ، أو الحدوث ، أو التجرّد ، أو المقارنة .. إلى غير ذلك من اللوازم ، مشتركا بينها وبين اللّه ؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
ثمّ إنّهم ذهبوا مذهبا غريبا عجيبا! وهو : إنّ هذه الصفة الموجبة
ص: 173
للمخالفة غير معلومة ، ولا مجهولة ، ولا موجودة ، ولا معدومة! (1).
وهذا الكلام غير معقول ، وفي غاية السفسطة (2).
* * *
ص: 174
وقال الفضل (1) :
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه (2).
وهكذا ذهب إلى أنّ : المخالفة بين كلّ موجودين من الموجودات إنّما هي بالذات ، وليس بين الحقائق اشتراك إلّا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقوّمة (3).
وقال قدماء المتكلّمين : ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة ، وإنّما يمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة : الوجوب ، والحياة ، والعلم التامّ ، والقدرة التامّة (4).
وأمّا عند أبي هاشم : فإنّه يمتاز عمّا عداه من الذوات بحالة خاصة خامسة ، هي الموجبة لهذه الأربعة ، تسمّى ب « الإلهيّة »(5) ، وهذا مذهب أبي هاشم ، وهو من المعتزلة.
ص: 175
هذا كلّه من كلام « المواقف » وشرحها إلى قوله : « تسمّى ب :
الإلهية » (1) ، فكأنّه جاء ناقلا لكلامهما بلا فائدة تتعلّق بالجواب عن أبي هاشم وغيره من مثبتي الأحوال.
وقوله : « هو من المعتزلة » لا ينفعه ؛ لأنّ بعض مثبتي الأحوال من الأشاعرة (2) ، وهم قائلون بمقالة أبي هاشم! على إنّ المصنّف بصدد الردّ على الجمهور مطلقا من دون خصوصية للأشاعرة.
ثمّ إنّ الأشعري يقول : إنّ الاشتراك بالأحكام يستلزم الاشتراك بالذات والذاتيّات (3) ؛ فما معنى حكمه بالمخالفة بين الموجودات في الذات مع اشتراكها في الأحكام؟! اللّهمّ إلّا أن يريد ب « الأحكام » الأمور الاعتبارية لا الحقيقية.
هذا ، واستدلّ - أيضا - أصحابنا وغيرهم على المخالفة ، بأنّه تعالى لو شاركه غيره في الذات والحقيقة لخالفه بالتعيين ، لضرورة التعدّد ، ولا ريب أنّ ما به الافتراق غير ما به الاتّفاق (4) ، فيلزم التركيب في هويّة الواجب تعالى ، وهو باطل.
ص: 176
وبقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (1).
واستدلّ أبو هاشم وأتباعه على المساواة ، بأنّ الذات تنقسم إلى : الواجب والممكن ، ومحلّ القسمة مشترك بين أقسامه (2).
وردّ بأنّ « المشترك » هو مفهوم الذات ، وهو اعتباري ، فلا ينفع الاشتراك فيه في إثبات الاشتراك بالحقيقة والماهيّة.
* * *
ص: 177
ص: 178
قال المصنّف - ضاعف اللّه ثوابه - (1) :
هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ (1)!!
وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها.
والسبب في ذلك قلّة تمييزهم ، وعدم تفطّنهم بالمناقضة التي تلزمهم ، وإنكار الضروريات التي تبطل مقالتهم.
فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ جسم لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وقد ثبت في علم الكلام أنّهما حادثان ، والضرورة قاضية بأنّ ما لا ينفكّ عن المحدث فإنّه يكون محدثا ، فيلزم حدوث اللّه تعالى.
والضرورة [ الثانية ] قاضية بأنّ كلّ محدث فله محدث ، فيكون واجب الوجود مفتقرا إلى مؤثّر ، ويكون ممكنا ، فلا يكون واجبا [ وقد فرض أنّه واجب ] ، وهذا خلف.
وقد تمادى أكثرهم فقال : إنّه تعالى يجوز عليه المصافحة ، وإنّ المخلصين ( في الدنيا ) (2) يعانقونه في الدنيا (3).
وقال داود (4) : أعفوني عن الفرج واللحية ، واسألوني عمّا وراء ذلك!! (5).
ص: 180
وقال : إنّ معبوده جسم ذو لحم ودم وجوارح وأعضاء!! (1).
وإنّه بكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه ؛ وعادته الملائكة لمّا اشتكت عيناه!! (2).
فلينصف العاقل [ المقلّد ] من نفسه ، هل يجوز له تقليد مثل هؤلاء [ في شيء ]؟!
وهل للعقل مجال في تصديقهم في هذه المقالات الرديّة (3) ، والاعتقادات الفاسدة؟!
وهل تثق النفس بإصابة هؤلاء في شيء ألبتّة؟!
* * *
ص: 181
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من مذهب المشبّهة والمجسّمة ، وهم على الباطل ، وليسوا من الأشاعرة وأهل السنّة والجماعة.
وأمّا ما نسبه إلى الحنابلة فهو افتراء عليهم ، فإنّ مذهب الإمام أحمد ابن حنبل في المتشابهات : ترك التأويل ، وتوكيل العلم إلى اللّه تعالى.
ولأهل السنّة والجماعة هاهنا طريقان :
أحدهما : ترك التأويل ؛ وهو ما اختاره أحمد [ ابن حنبل ] ..
وتوكيل العلم إلى اللّه تعالى (2) ، كما قال اللّه تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) (3) ، فهؤلاء يتركون آيات التشبيه على ظواهرها ، مع نفي الكيفية والنقص عن ذاته وصفاته تعالى ، لا أنّهم يقولون بالجسمية المشاركة للأجسام ، كما ذهب إليه المشبّهة.
فلم لا يجوز تقليد هؤلاء؟!
وأيّ فساد يلزم من هذا الطريق؟! مع إنّ نصّ القرآن يوافقهم في توكيل العلم إلى اللّه تعالى!
وما ذكره من الطامّات والترّهات فليس من مذهب أهل الحقّ ؛ والرجل معتاد بالطامّات.
ص: 182
المفهوم من كلامه : إنّ اسم أهل السنّة والجماعة مخصوص بالأشاعرة ، وهو غير مسلّم عند المعتزلة والمجسّمة وغيرهم ، فهم في هذا الاسم سواء.
وكيف يختصّ هذا الاسم بالأشاعرة وهو قد حدث قبل شيخهم الأشعري ، في أيّام معاوية؟! (1).
ونسب الشهرستاني في « الملل والنحل » القول بالجسمية إلى الكرّامية وعدّهم من الصفاتية ، وهم من أهل السنّة (2).
ص: 183
وذكر فيها وفي « الملل والنحل » مثل ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من خرافات المجسّمة وأضعافه (1).
وأمّا ما ذكره من أنّ مذهب أحمد بن حنبل ليس كذلك ..
ففيه ما قاله السيّد السعيد رحمه اللّه أنّه كذلك بشهادة فخر الدين الرازي ، حيث قال في رسالته المعمولة لتفضيل مذهب الشافعي : إنّ أحمد بن حنبل كان في نهاية الإنكار على المتكلّمين في التنزيه ، ولمّا كان في غاية المحبّة للشافعي ، ادّعت المشبّهة أنّه [ كان ] على مذهبهم (2).
ولو سلّم سلامة أحمد من القول بالتشبيه ، فالمصنّف رحمه اللّه إنّما نقل القول بالجسمية عن الحنابلة ، ولا ملازمة بينهم وبينه في المسائل الأصولية ، بل وبعض الفرعية ، كغيره من مذاهبهم مع أتباعه.
ثمّ ما ذكره من أنّ أحمد يترك آيات التشبيه على ظواهرها مع نفي الكيفية والنقص ، تناقض ظاهر ، فإنّ إبقاءها على ظواهرها يقتضي الجسمية ، وإثبات كيفية ما ، وذلك نقص.
على إنّ أقلّ ما يقتضيه ترك التأويل : التوقّف في نفي التشبيه
ص: 185
والجسمية ، ولذا أنكر على أهل التنزيه كما ذكره الرازي ، وذلك كاف في نقص أحمد ، إذ صار من المشكّكين في ما لا يشكّ فيه ذو معرفة.
وأمّا ما ذكره من أنّ نصّ القرآن يوافقهم ..
فحاصله : إنّ الآية الكريمة نصّ في أنّ الراسخين في العلم جاهلون بالمتشابهات ، ويكلون علمها إلى اللّه تعالى ، بدعوى أنّ قوله تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ) (1) جملة مستأنفة ، ولا أظنّ عارفا يرضى به وينكر أن يكون ( الرَّاسِخُونَ ) عطفا على لفظ الجلالة.
كيف؟! وذلك يستلزم - بعد مخالفة الظاهر - أن يكون علم التأويل مختصّا باللّه تعالى ، فيكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرسلا بما يجهله وما يخلو عن الفائدة له ولأمّته! ومخطئا في قوله بحقّ أمير المؤمنين علیه السلام : إنّه عالم علم الكتاب (2).
وظنّي أنّ الداعي لهم إلى مخالفة الظاهر ، والتزام هذه المحاذير ، هو إنكار فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فإنّهم لو أقرّوا بأنّ قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ ) عطف على لفظ الجلالة ، لم يمكنهم إنكار أنّ العترة من الراسخين في العلم ، العالمين بمتشابه القرآن ، بعد أن أخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّهم قرناء
ص: 186
القرآن ، ولا يفارقونه حتّى يردا عليه الحوض (1) ، فإنّه يقتضي علمهم بكلّ ما فيه ، وإلّا لفرّق بينهم وبينه الجهل به.
ص: 187
فالحقّ أنّ الراسخين في العلم ، عالمون بالمتشابه كلّه ، وأنّهم مخصوصون بالعترة ، ولذا خصّهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعدم المفارقة للقرآن ، وأوجب على أمّته التمسّك به وبهم.
* * *
ص: 188
قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :
العقلاء كافّة على ذلك ، خلافا للكرّامية ، حيث قالوا : « إنّه تعالى في جهة الفوق » (2).
ولم يعلموا أنّ الضرورة قضت بأنّ كلّ ما هو في جهة ، فإمّا أن يكون لابثا فيها ، أو متحرّكا عنها ، فهو [ إذا ] لا ينفكّ عن الحوادث ، وكلّ ما لا ينفكّ عن الحوادث فهو حادث ، كما تقدّم.
* * *
ص: 189
وقال الفضل (1) :
هذا القول للكرّامية ؛ لأنّهم من جملة من يقول : إنّه جسم ؛ ولكن قالوا : غرضنا من الجسم أنّه موجود ، لا أنّه متّصف بصفات الجسم.
فعلى هذا ، لا نزاع معهم إلّا في التسمية ، ومأخذها التوقيف ، ولا توقيف ها هنا (2).
وكونه تعالى في جهة الفوق - على وجه الجسمية - باطل بلا خلاف ، لكن جرت العادة في الدعاء بالتوجّه إلى جهة الفوق ؛ وذلك لأنّ البركات الإلهية إنّما تنزل من السماء إلى الأرض.
وقد جاء في الحديث أنّ امرأة بكماء أتي بها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من إلهك؟ فأشارت إلى السماء ، فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إيمانها (3)
وذلك لجريان العادة بالتوجّه إلى السماء عند ذكر الإله ، وهذا يمكن أن يكون مبنيا على إرادة العلوّ والتفوّق ، فيعبّرون عن العلوّ العقلي بالعلوّ
ص: 190
الحسّي.
فإن أراد الكرّامية هذا المعنى فهو صحيح ، وإن أرادوا ما يلزم الأجسام من الكون في الجهة والحيّز ، فهو باطل.
ص: 191
ذكر الشهرستاني في « الملل والنحل » الكرّامية ، وعدّهم من الصفاتية وأهل السنّة ، وقال : هم أصحاب أبي عبد اللّه محمّد بن كرّام ، وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة.
ثمّ قال : نصّ أبو عبد اللّه على إنّ لمعبوده على العرش استقرارا ، وعلى إنّه بجهة فوق ذاتا ، وأطلق عليه اسم « الجوهر » ، فقال في كتابه المسمّى « عذاب القبر » : إنّه أحديّ الذات ، أحديّ الجوهر ، وإنّه مماسّ للعرش من الصفحة العليا ، ويجوز عليه الانتقال والتحوّل والنزول!
ومنهم من قال : إنّه على بعض أجزاء العرش! وقال بعضهم : امتلأ العرش به! وصار المتأخّرون منهم إلى أنّه تعالى بجهة فوق ومحاذ للعرش.
ثمّ اختلفوا ، فقال العابدية منهم : إنّ بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدّر مشغولا بالجواهر لاتّصلت به (1).
... إلى غير ذلك ممّا ذكره من خرافاتهم وضلالاتهم التي صاروا إليها بمجرّد الهوى وعدم المبالاة باللّه سبحانه.
وقال في « المواقف » وشرحها : ذهب أبو عبد اللّه محمّد بن كرّام إلى أنّه تعالى في الجهة ككون الأجسام فيها ، وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنّه هاهنا أو هناك ، وهو مماسّ للصفحة العليا من العرش ، ويجوز عليه
ص: 192
الحركة والانتقال وتبدّل الجهات (1).
فعلى هذا ، كيف يقول الفضل : كونه تعالى في جهة الفوق - على جهة الجسمية - باطل بلا خلاف؟!
ثمّ بعد هذا ناقض نفسه وردّد في مرادهم ، فإنّه لا يناسب الحكم بعدم الخلاف!
ثمّ إنّ اللازم - بمقتضى التصريح بأنّه تعالى جوهر ، وإثباتهم الجهة والحيّز والمماسّة لله تعالى ، وتجويزهم الحركة والانتقال عليه سبحانه - أن يكون مرادهم بالجسم هو الجسم الحقيقي ، لا الموجود.
لكن قال في « المواقف » وشرحها : « الكرّامية - أي بعضهم - قالوا :
هو جسم - أي : موجود - ، وقوم آخرون منهم قالوا : هو جسم - أي : قائم بنفسه - ؛ فلا نزاع معهم على التفسيرين إلّا في التسمية [ أي : إطلاق لفظ الجسم عليه ] ، ومأخذها التوقيف ، ولا توقيف هاهنا » (2).
فلاحظ وتدبّر!
وأمّا حديث « البكماء » ، ففي « المواقف » أنّ السؤال وقع فيه ب : « أين اللّه؟ » لا : « من إلهك؟ (3) » كما ذكره الخصم! وذلك أنسب في مقام الاستشهاد لو صحّ الحديث!
ص: 193
ص: 194
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الضرورة قاضية ببطلان الاتّحاد ، فإنّه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا.
وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور ، فحكموا بأنّه تعالى يتّحد بأبدان العارفين (2) ، حتّى تمادى بعضهم وقال : إنّه تعالى نفس الوجود ، وكلّ موجود هو اللّه تعالى!
وهذا عين الكفر والإلحاد.
الحمد لله الذي فضّلنا باتّباع أهل البيت ، دون اتّباع أهل الأهواء الباطلة.
* * *
ص: 195
وأبي القاسم الجنيد البغدادي (1) ،
والشيخ السهروردي (2) .
فهذا نسبة باطلة ، وافتراء محض ، وحاشاهم عن ذلك!
بل صرّحوا كلّهم في عقائدهم ببطلان الاتّحاد ؛ فإنّه مناف للعقل والشرع.
بل هم أهل محض التوحيد ، وحقيقة الإسلام ناشئة من أقوالهم ، ظاهرة على أعمالهم وعقائدهم ، وهم أهل التوحيد والتمجيد.
وفي الحقيقة : هم الفرقة الناجية ، ولهم في مصطلحاتهم عبارات تقصر عنها أفهام غيرهم ، وفي اصطلاحاتهم البقاء والفناء.
ص: 197
والمراد من « الفناء » : محو العبد صفاته وهويّته التعينية بكثرة الرياضات (1) ، والاصطلام (2) من الوارد الحقّ.
و« البقاء » : هو تجلّي الربوبية على العبد بعد السلوك والمقامات ، فيبقى العبد بربّه (3).
وهذه أحوال لا يطّلع عليها إلّا أربابها ، ومن سمع شيئا من مقالاتهم ولم يفهم إرادتهم من تلك الكلمات ، حمل كلامهم على الاتّحاد والحلول.
عصمنا اللّه من الوقيعة في أوليائه ، فقد ورد في الحديث الصحيح القدسي : « من عادى لي وليّا فقد آذنته بحرب » (4)
وأمّا ما نقل عنهم أنّهم يقولون : إنّه تعالى نفس الوجود ؛ فهذه مسألة دقيقة لا تصل حوم (5) فهمها (6) أذهان مثل هذا الرجل.
وجملتها أنّهم يقولون : إنّه لا موجود إلّا اللّه.
ويريدون به أنّ الوجود الحقيقي لله تعالى ؛ لأنّه من ذاته لا من غيره ، فهو الموجود في الحقيقة ، وكلّ ما كان موجودا غيره فوجوده من اللّه ، وهو
ص: 198
في حدّ ذاته لا موجود ولا معدوم ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّ نسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، فوجوده من اللّه ، فهو موجود بوجود ظلّيّ هو من ظلال الوجود الحقيقي ، فالموجود حقيقة هو اللّه تعالى.
وهذا عين التوحيد ، وكمال التفريد ، فمن نسبهم مع فهمه هذه العقيدة إلى الكفر ، فهو الكافر ؛ لأنّه كفّر مسلما بجهة إسلامه.
ص: 199
لا ريب في قول جماعة من الصوفية بالاتّحاد ، كما يشهد له إنكار الخصم لصحّة النسبة إذا أراد المصنّف محقّقي الصوفية ، فلو أراد غيرهم لم ينكره الخصم.
وقال في « المواقف » : « إنّ المخالف في هذين الأصلين - يعني [ عدم ] الحلول و [ عدم ] الاتّحاد - طوائف ثلاث - إلى أن قال : - الثالثة : بعض الصوفية ، وكلامهم مخبّط بين الحلول والاتّحاد » (1).
ثمّ قال : « ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ، ويقول : لا حلول ولا اتّحاد ، إذ كلّ ذلك يشعر بالغيرية ، ونحن لا نقول بها ، بل نقول : ليس في دار الوجود غيره ديّار ؛ وهذا العذر أشدّ قبحا وبطلانا من ذلك الجرم (2) ، إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل ، ولا مميّز أدنى تمييز » (3).
وقال التفتازاني في « شرح المقاصد » بعد إبطال الحلول والاتّحاد : « والمخالفون : منهم نصارى ... - إلى أن قال : - ومنهم بعض المتصوّفة ، القائلون : بأنّ السالك إذا أمعن في السلوك ، وخاض لجّة الوصول (4) ، فربّما يحلّ اللّه فيه! تعالى [ اللّه ] عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ، كالنار في
ص: 200
الجمر (1) ، بحيث لا تمايز ؛ أو يتّحد به ، بحيث لا اثنينية ولا تغاير ، وصحّ أن يقول : هو أنا ، وأنا هو ، وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ، ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يتصوّر من البشر » (2)!
وقال القوشجي في « شرح التجريد » عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الاتّحاد : « قال بعض الصوفية : إذا انتهى العارف نهاية مراتب العرفان ، انتفى هويّته ، فصار الموجود هو اللّه وحده ، وهذه المرتبة هي الفناء في التوحيد » (3).
وحينئذ فمعنى « الفناء » : هو نفي الشخص هويّته ، وصيرورته هويّة أخرى ، فيصير الموجود هو اللّه وحده ، ويتّحد وجود العبد بوجوده تعالى!
وعليه : فمعنى « البقاء » : هو بقاء العبد بلحاظ ترقّيه إلى الرتبة العالية ، واتّحاده مع ربّه ، فتكون كثرة الرياضات مفنية للعبد من جهة هويّته الناقصة ، مبقية له من جهة كماله واتّحاده مع اللّه سبحانه!
وهذا هو الكفر الصريح ، وعين الإلحاد.
فإذا صدق المصنّف في نقله عن بعض الصوفية ، فما وجه تلك القعقعة التىّ ارتكبها الفضل؟!
وما ذلك الإنكار والوقيعة بوليّ اللّه المصنّف ، الصادق في نقله عن الخارجين عن الدين ، المخالفين لنهج سيّد المرسلين في عبادته وجميع أحواله؟!
وأمّا ما ذكره في تحقيق وحدة الوجود ، من أنّ نسبة الوجود والعدم
ص: 201
إلى الممكن على السواء ؛ فهو لا يقتضي إلّا نفي الرجحان الذاتي للممكن بالنسبة إلى الوجود والعدم ، وأمّا نفي الوجود الحقيقي للممكن كما زعمه ، فلا ؛ اللّهمّ إلّا أن يكون بنحو المسامحة ، وعدّ وجود الممكن ك « لا وجود » بالنسبة إلى وجود الواجب ؛ لأنّه الأصل ، ووجود الممكن فرعه وأثره.
فعبّر عن هذا بتلك الاصطلاحات الفارغة الهائلة ، لكنّه غير ما يريده القائلون بوحدة الوجود من الصوفية وغيرهم ..
فإنّهم يريدون أنّ الوجود المطلق عين الواجب تعالى ، وأنّ الممكنات تعيّنات له ، فيلزم منه نفي الماهية ، وأن يكون وجود الممكنات من معيّنات وجود الباري ومصاديقه.
فيتمّ ما نقله المصنّف عنهم ، من أنّ اللّه تعالى نفس الوجود ، وأنّ كلّ موجود هو اللّه!!(1).
تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
ص: 202
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
من المعلوم القطعي أنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، والضرورة قضت بأنّ كلّ مفتقر إلى الغير ممكن ..
فلو كان اللّه تعالى حالّا في غيره لزم إمكانه ، فلا يكون واجبا ، وهذا خلف.
وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك ، وجوّزوا عليه الحلول في أبدان العارفين (2) ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فانظر إلى هؤلاء المشايخ الّذين يتبرّكون بمشاهدهم ، كيف اعتقادهم في ربّهم ، وتجويزهم عليه : تارة الحلول ، وأخرى الاتّحاد ، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء (3)؟!
ص: 203
وقد عاب اللّه على الجاهلية الكفّار في ذلك ، فقال عزّ من قائل : ( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً ) (1).
وأيّ تغفّل أبلغ من تغفّل من يتبرّك بمن يتعبّد اللّه بما عاب عليه الكفّار؟! ( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (2).
ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين صلوات اللّه عليه ، وقد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم ، كان جالسا لم يصلّ ، ثمّ صلّوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص ، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص ، فقال : وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟!
أ يجوز أن يجعل بينه وبين اللّه حاجبا؟!
فقلت : لا.
فقال : الصلاة حاجب بين العبد والربّ!
فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء! وعقائدهم في اللّه تعالى كما تقدّم ، وعبادتهم ما سبق ، واعتذارهم في ترك الصلاة كما مرّ ، ومع ذلك فإنّهم عندهم الأبدال ، فهؤلاء أجهل الجهّال.
* * *
ص: 204
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : أنّه تعالى لا يجوز أن يحلّ في غيره ؛ وذلك لأنّ الحلول هو الحصول على سبيل التبع ، وأنّه ينفي الوجوب الذاتي.
وأيضا : لو استغنى عن المحلّ لذاته (2) لم يحلّ فيه ، وإلّا لاحتاج إليه لذاته ، ولزم حينئذ قدم المحلّ ، فيلزم محالان معا (3).
وأمّا ما ذكر أنّ الجمهور من الصوفية جوّزوا عليه الحلول ، فقد ذكرنا في الفصل السابق أنّه إن أراد بهذه الصوفية مشايخنا المحقّقين ، فإنّ اعتقاداتهم مشهورة ، ومن أراد الاطّلاع على حقائق عقائدهم فليطالع الكتب التي وضعوها لبيان الاعتقادات ..
كالعقائد المنسوبة إلى سهل بن عبد اللّه التستري (4) ...
وكاعتقادات الشيخ أبي عبد اللّه محمّد بن الخفيف ، المشهور بالشيخ الكبير (5) ..
ص: 205
وكاعتقادات الشيخ حارث بن أسد المحاسبي (1) ..
وك « التعرّف » للكلاباذي (2) ..
و« الرسالة » للقشيري (3) ..
ص: 206
وك « العقائد » للشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي (1) ..
[ وك « عوارف المعارف » للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي (2) ] ..
ليظهر عليه عقائدهم المطابقة للكتاب والسنّة ، وما بالغوا فيه من نفي الحلول والاتّحاد.
وأمّا ما ذكره من أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فو اللّه إنّه أراد أن يفضح فافتضح ، فإذا لم يكن المشايخ الصوفية من أهل العبادات - مع جهدهم في العبادة وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات ، وترك اللذّات ، والإعراض عن المشتهيات - فمن هو قادر على أن يعدّ نفسه من أهل الطاعات بالنسبة إليهم؟!
نعم ، هذا الرجل الطامّاتي الذي يصنّف الكتاب ، ويردّ على أهل
ص: 207
الحقّ ، ويبالغ في إنكار العلماء والأولياء طلبا لرضا السلطان محمّد خدا بنده ليعطيه إدرارا (1) ، ويفيض عليه مدرارا (2) ، فله أن لا يستحسن عبادة المشايخ ، المعرضين عن الدنيا ، الزاهدين عن الشهوات ، القاطعين بادية الرياضات ، كما نقل أنّ أبا يزيد البسطامي ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، حيث دعته نفسه إلى شيء من اللذّات (3).
شاهت وجوه المنكرين ، وكلّت ألسنتهم ، وعميت أبصارهم.
وأمّا ما ذكر أنّ اللّه عاب على أهل الجاهلية بالتصدية ؛ فما أجهله بالتفسير ، وبأسباب نزول القرآن! وقد ذكر أنّ طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمكاء والتصدية عند البيت ليوسوسوا عليه صلاته ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وقد أحلّ اللّه ورسوله اللّهو في مواضع كثيرة ، منها : الختان والعرس والإملاك وأيّام العيد ؛ والسماع الذي يعتاده الصوفية مشروط بشرائط كلّها من الشرع ، ولهم فيها آداب وأحوال لا يعرفها الجاهل فيقع فيها.
ثمّ ما نقل من قول واحد من القلندرية (4) الفسقة ، الّذين يزورون مشهد مولانا الحسين بأيّام الموسم والزيارة ، وجعله مستندا للردّ على كبار المشايخ المحقّقين المشهورين ..
ص: 208
فيا للعجب انسلّ إلى الناس من كلّ حدب من حال هذا الرجل الطامّاتي! أنّه لم ينظر إلى كتاب « عوارف المعارف » و« الرسالة القشيرية » ليعرف اهتمام القوم بمحافظة الصلوات ودقائق الآداب ، الذي لا يشقّ أحد من الفقهاء - من أهل جميع المذاهب - غبارهم في رعاية دقائق الآداب والخشوع والاهتمام بحفظها ومحافظتها ، ليعتقد في كمالاتهم ، ويجعل قول قلندري فاسق [ فسّيق ] سندا في جرحهم وإنكارهم.
وهذا غاية التعصّب والخروج عن قواعد الإسلام ، نعوذ باللّه من عقائده الفاسدة الكاسدة.
* * *
ص: 209
لعلّ الفضل بعدوله عن دليل المصنّف على بطلان الحلول ، إلى الدليلين المذكورين الموجودين بلفظهما في « المواقف » وشرحها (1) ؛ تخيّل أنّ الأشاعرة سلكوا طريقة أخرى في الاستدلال على بطلان الحلول ، ولم يعلم أنّ الأدلّة متكرّرة الذكر في كتب المتكلّمين ، وأنّ المناط - في هذه الأدلّة حتّى الأخير - على استلزام الحلول : الحاجة إلى المحلّ ، والافتقار إليه ؛ إذ لو منعه مانع لما تمّ شيءّ من هذه الأدلّة.
فقد ذكر في « شرح المواقف » وجه قول الماتن في الدليل الأخير :
« لو استغنى عن المحلّ لذاته لم يحلّ فيه » (2) ، بقوله : « إذا لا بدّ في الحلول من حاجة ، ويستحيل أن يعرض للغنيّ بالذات ما يحوجه إلى المحلّ ؛ لأنّ ما بالذات ... لا يزول بالغير » (3).
على إنّ دليل « المواقف » الأوّل هو عين ما ذكره المصنّف ، والاختلاف في التعبير ، فالأولى الاقتصار على ما ذكره المصنّف.
ثمّ إنّه لا ريب في قول جماعة بالحلول ، كما يدلّ عليه كلام « المواقف » و« شرح المقاصد » (4) اللذان ذكرناهما في المبحث السابق (5) ،
ص: 210
وقول القوشجي عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الحلول ؛ قال : « وذهب بعض الصوفية إلى أنّه تعالى يحلّ في العارفين » (1).
ويشهد له ترديد الخصم في مراد المصنّف ، وإن أغفل فيه ذكر القائلين بالحلول تلبيسا للأمر! وليتسنّى له الكلام والطعن على وليّ اللّه وداعي الحقّ : المصنّف أعلى اللّه مقامه!
وأمّا إنكاره على المصنّف في أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فهو إنكار بارد ..
قال في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (2) : « وأمّا ما يعتقده أجهل الناس ، وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا واحدا ، وهم الفرقة المفتعلة من التصوّف (3) ، وما يدينون به من المحبّة والعشق والتغنّي على كراسيّهم - خرّبها اللّه تعالى - وفي مراقصهم - عطّلها اللّه - بأبيات الغزل المقولة في المردان (4) الّذين يسمّونهم : شهداء ، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عند دكّ الطور!! فتعالى اللّه عنه علوّا كبيرا » (5).
ص: 211
وكيف ينكر على المصنّف؟! والحال أنّ ابن الفارض (1) ، وهو من أكبر مشايخهم ، قد كان جلّ فضائله عندهم : الرقص والغناء والصعقة في اللّهو واللعب!
فلو لم يكن ذلك طريقة مألوفة عندهم ، وشرفا كبيرا بينهم ، لما مدحوه بتلك الجهالات.
نقل شارح ديوانه عن ولده ، أنّه قال : رأيت الشيخ نهض ورقص طويلا ، وتواجد وجدا عظيما ، وتحدّر منه عرق كثير ، حتّى سال تحت قدميه ، وخرّ إلى الأرض واضطرب اضطرابا عظيما ..
إلى أن قال : فسألته عن سبب ذلك ، فقال : يا ولدي! فتح اللّه عليّ بمعنى في بيت لم يفتح عليّ مثله ، وهو [ من الكامل ] :
ص: 212
وعلى تفنّن واصفيه بحسنه *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف(1)
وقال ولده : كان الشيخ ماشيا في السوق بالقاهرة ، فمرّ على جماعة من الحرس يضربون بالناقوس ويغنّون بهذين البيتين ، وهما [ من المواليا(2) ] :
مولاي [ سهرنا ] نبتغي منك وصال *** مولاي فلم تسمح فنمنا بخيال
مولاي فلم يطرق فلا شكّ بأن *** ما نحن إذا عندك مولاي ببال
فلمّا سمعهم الشيخ صرخ صرخة عظيمة ، ورقص رقصا كثيرا في
ص: 213
وسط الطريق ، ورقص جماعة كثيرة من المارّين في الطريق ، حتّى صارت جولة وإسماع عظيم [ وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض ] والحرس يكرّرون ذلك ، وخلع الشيخ كلّ ما [ كان ] عليه من الثياب ورمى بها إليهم ، وخلع الناس معه ثيابهم ، وحمل بين الناس إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس ... وأقام في هذه السكرة أيّاما ملقى على ظهره مسجّى كالميّت ..
وفي تتمّة الواقعة أنّهم اتّخذوا ثيابه للتبرّك (1)!
وحكى ولده ، قال : « حجّ الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية - إلى أن قال : - فصرخ الشيخ شهاب الدين ، وخلع كلّ ما كان عليه ، وخلع المشايخ والقوم الحاضرون كلّ ما كان عليهم » (2).
فهذه فضائلهم ، بين تجنّن ، ورقص ، وغناء ، وكشف العورات ، وترك الصلاة أيّاما ، يدّعون بذلك حبّ اللّه وذكره وعبادته [ من الوافر ] :
أقال اللّه : صفّق لي وغنّ *** وقل كفرا ، وسمّ الكفر ذكرا؟! (3)
وأمّا ما وصفهم به من ترك اللذّات والشهوات ، فالظاهر أنّه من قبيل ما انتقاه من ترك شرب الماء سنة ، الذي لا يصدّق به عاقل ، وهو ممّا لم ترد به الشريعة المطهّرة ، بل حرّمته ؛ لأنّه من الإلقاء باليد إلى التهلكة ، وإضرار النفس وتأليمها.
فليت شعري أكان نبيّنا الأطيب ، والأنبياء قبله ، وخواصّهم ، على
ص: 214
تلك الآداب والأحوال السخيفة والعبادات الساخرة؟!
أو كان المشايخ أفضل منهم وأعرف باللّه وأعبد له؟!
أو كانت الأحوال والعبادات ممّا زيّنها الشيطان والهوى ، ودعت إليها النفس الأمّارة ، للسمعة والامتياز على الناس؟!
وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف صنّف هذا الكتاب طلبا لرضا السلطان ، فمن المضحكات ؛ لأنّ ذلك السلطان الرشيد ، إنّما نال سعادة الإيمان بسعي الإمام المصنّف وإرشاده ، وهو أمسّ من السلطان بمذهب الإمامية ، فكيف يطلب رضاه بتصنيف هذا الكتاب؟!
وأعجب من ذلك قوله : « ليعطيه إدرارا » فإنّ هذا ليس من عادة علماء الإمامية ، لا سيّما المصنّف ، الذي طلّق الدنيا بعد أن جاءته ، وهجر الرئاسة بعد أن واتته وعاد إلى بلاده!
وأعجب من الجميع نسبة الجهل بالتفسير إلى المصنّف ، وذكره أحد الوجهين في نزول الآية ؛ ليروّج فيه تأييد طريقة الصوفية ، وإلّا فالمذكور عند أصحابه في نزول الآية وجهان :
أحدهما : ما ذكره (1).
والثاني : ما عن ابن عبّاس : كانت بطون قريش يطوفون بالبيت عراة ، يصفّرون ويصفّقون (2).
ص: 215
ونحوه عن ابن عمر (1).
فهم يقيمون الصفير والتصفيق مقام الصلاة بحسب طريقتهم (2).
وهذا الوجه أنسب بتعبير الآية بالصلاة ، وأرجح عند المفسّرين ، وهو دالّ على إنّ اللّه سبحانه عاب أهل الجاهلية بجعل التصفيق عبادة ، فكيف إذا انضمّ إليه الرقص والغناء والصياح؟!
والمصنّف قد بيّن الإيراد على هذا الوجه الظاهر الراجح ، وإلّا فأيّ وجه لتسمية الآية لذلك العمل بالصلاة؟!
على أنّه لا تنافي بين الوجهين ؛ لجواز أن تكون قريش - بعبادتها السخيفة - أرادت أن توسوس على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في صلاته.
وأمّا قوله : « وقد أحلّ اللّه ورسوله اللّهو في مواضع ».
فلو سلّم ، فلهو الصوفية خارج عن هذه المواضع عادة ، وهو دائم للعبادة في كراسيّهم ومراقصهم ، كما يستفاد من كلام « الكشّاف » السابق (3) ، ولا يتوقّف على وقت وشرط كاستماعهم للغناء.
روى ابن خلّكان في ترجمة الجنيد من « وفيات الأعيان » ، وهو من أكبر مشايخ الصوفية ، أنّه قال : ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها! قيل له : وما هي؟ قال : مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغنّي من
ص: 216
دار ، فأنصتّ لها ، فسمعتها تقول [ من الطويل ] :
إذا قلت : أهدى الهجر لي حلل البلى (1) *** تقولين : لولا الهجر لم يطب الحبّ
وإن قلت : هذا القلب أحرقه الهوى *** تقولي : بنيران الهوى شرف القلب
وإن قلت : ما أذنبت! قلت مجيبة : *** حياتك ذنب لا يقاس به ذنب
فصعقت وصحت (2)!
وليت شعري كيف حسن له الإنصات إلى غناء الأجنبية؟!
وكيف لم ينتفع بكتاب اللّه العظيم ، وكلمات نبيّه الكريم مثل ما انتفع بشعر المغنّية؟!
وظنّي أنّه لو انضمّ إلى غناها رقصها معه لكان أنفع!!
وأمّا ما شاهده المصنّف في حضرة سيّد الشهداء علیه السلام ، فغير عجيب من جهة ترك الصلاة ، فهذا ابن الفارض - المعظّم عندهم - قد أقام أيّاما في سكرته بلا صلاة ، كما عرفت.
وقال شارح ديوانه : « حكى جماعة ممّن يوثق بهم ، ممّن صحبوه وباطنوه ، أنّه لم ينظمها - أي قصيدته التي زعم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله في المنام
ص: 217
سمّاها ب : نظم السلوك - على حدّ نظم الشعراء أشعارهم ، بل كانت تحصل له جذبات يغيب فيها عن حواسّه [ نحو ] الأسبوع والعشرة أيّام ؛ فإذا أفاق أملى ما فتح اللّه عليه منها من الثلاثين والأربعين والخمسين بيتا! ثمّ يدع حتّى يعاوده (1) ذلك الحال » (2).
والظاهر أنّ المراد بغيبوبة حواسّه مجرّد تعطيل حركاته الظاهرية عن فعل الواجبات ونحوها ، وإلّا فكيف يقدر على نظم الشعر ، ولا يمكن دعوى الكرامة - بفتح اللّه عليه - من دون شعوره أصلا؟! فإنّ الكرامة لا تكون مع عدم التوفيق للصلاة التي هي عمود الدين.
وكذا ما شاهده المصنّف غير عجيب من جهة دعوى الوصول إلى اللّه تعالى ، فإنّ عليها جماعة من الصوفية كما صرّح به ابن القيّم الحنبلي في « شرح منازل السائرين » - على ما نقله السيّد السعيد عنه - قال : « ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك ، لا ينجيه منها إلّا بصيرة العلم ... ، منها : [ أنّه ] إذا اقتحم عقبة الفناء ظنّ أنّ صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي ، ... ويقول قائلهم : من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ؛ ويحتجّون بقوله تعالى : ( اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (3) ، ويفسّرون ( اليقين ) بشهود الحكم التكويني (4) ، وهي الحقيقة عندهم ؛ ... وهذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيّهم وإلههم » (5).
ص: 218
وعن الغزّالي في « الإحياء » أنّه أنكر على دعواهم بلوغ العبد بينه وبين اللّه إلى حالة أسقطت عنه الصلاة ، وأحلّت له شرب الخمر ، ولبس الحرير ، وترك الصلاة ، ونحوها ، وحكم بأنّ قائل هذا يجب قتله ، وإن كان في خلوده في النار نظر (1).
وعن اليافعي اليمني الشافعي (2) ، أنّه انتصر لهم في كتابه الموسوم ب : « روض الرياحين » (3) ، وردّ على الغزّالي ، فقال : « ولو أنّ اللّه تعالى أذن
ص: 219
لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا ، وعلم العبد ذلك الإذن يقينا فلبسه ، لم يكن منتهكا (1) للشرع »!
ثمّ قال : « فإن قيل : من أين يحصل له علم اليقين؟!
قلت : من حيث حصل للخضر حيث قتل الغلام ، وهو وليّ لا نبيّ - على القول الصحيح - عند أهل العلم ، كما إنّ الصحيح عند أهل الجمهور [ منهم ] أنّه الآن حيّ ، وبهذا قطع الأولياء ، ورجّحه الفقهاء والأصوليّون وأكثر المحدّثين » (2).
أنّه لو جاز هذا ، لجاز نسخ أحكام الشريعة بلا نبوّة!
ومن سوّغ هذا فقد أعطى منزلة الأنبياء لغيرهم ، وأثبت أنبياء بلا خاصّة نبوّة - من العصمة ، والنصّ من اللّه تعالى ، ونحوهما - ، ونفى الحاجة إلى النبيّ في الأحكام!
وهذا مخالف لضرورة الدين ،
وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حلال محمّد حلال [ أبدا ] إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام [ أبدا ] إلى يوم القيامة » (3).
ص: 220
وأمّا ما صدر عن الخضر - لو سلّم عدم نبوّته - فليس من القطع بالأحكام ، بل في الموضوعات ، وهو خارج عن المقام ، فإنّ قتل مثل الغلام جائز في شريعة موسى علیه السلام لكنّ موسى لم يعلم أنّه من الأشخاص الّذين يجوز قتلهم ؛ ولذا ، بعد العلم ترك الإنكار.
مع إنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ؛ لأنّ الكلام في دعوى أنّ من شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي ، ويكون شرعا كالطفل في عدم التكليف له ، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين ، كنبيّ جاءه شرع جديد!
ولا ريب أنّ الأوّل ، بل الثاني ، مخالف لضرورة الدين ، وقائله كافر واجب القتل ، كما قال الغزّالي.
هذا ، وينقل عن الصوفية ضلال آخر ، وهو القول بالتناسخ (1) ، قاتلهم اللّه تعالى ، وعطّل ديارهم.
* * *
ص: 221
ص: 222
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
وفيه مطالب :
فأمّا ما ذهبوا إليه ، فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى؟!
وهل هذا إلّا جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.
وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم ، على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة ، قائمة بالأجسام الجمادية ، كما كلّم اللّه موسى من الشجرة ، فأوجد فيها الحروف والأصوات.
والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.
وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه - مع إنّه غير متصوّر ألبتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه - معلوم البطلان ؛ ومع ذلك ، فإنّه صادر منّا أو فينا [ عندهم ] ، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته!
* * *
ص: 224
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى متكلّم ؛ والدليل عليه : إجماع الأنبياء علیهم السلام عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ، ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى (2).
ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون : هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته [ تعالى ] (3).
ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلّا المؤلّف من الحروف والأصوات ..
فنقول أوّلا : ليرجع الشخص إلى نفسه ، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر (4) ويرتّب معاني ، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم ، فإنّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ، ويقول في نفسه : سأتكلّم بهذا.
ص: 225
فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة ؛ فهذا هو الكلام النفسي.
ثمّ نقول - على طريقة الدليل - : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها ، لها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النفسي.
فإن قال الخصم : تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.
قلنا : هي غير العلم ؛ لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشيء غير العلم به.
فإن قال : هو الإرادة.
قلنا : هو غير الإرادة ؛ لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ؛ وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه.
واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ؛ إذ لا طلب فيهما أصلا ، كما لا إرادة قطعا.
وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما ؛ لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب ، وهو الطلب.
ثمّ إنّ في الصورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ؛ لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه ، مع عدم الفعل من المأمور ؛ وكلاهما لا بدّ [ من ] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.
قال صاحب « المواقف » هاهنا : « ولو قالت المعتزلة : إنّه - أي المعنى
ص: 226
النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر - هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلّم بما أخبر به ، أو يصير سببا لاعتقاده إرادته - أي إرادة المتكلّم - لما أمر به ، لم يكن بعيدا ؛ لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيّرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة » (1).
هذا كلام صاحب « المواقف ».
وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ؛ هو الكلام النفسي ، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.
وأمّا في الأمر ، وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب ، الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب.
فإذا تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي ، الذي هو الطلب في هذا الأمر ، وهو المطلوب.
ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم ، فنقول : هو الكلام النفساني ؛ فإذا هو متصوّر عند العقل ، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور ، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا ، فهو مبطل.
وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام اللّه تعالى هو أصوات وحروف يخلقها اللّه
ص: 227
تعالى في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرئيل ، أو النبيّ ، وهو حادث (1) ..
فيتّجه عليه : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما إنّ خالق الذوق لا يقال : إنّه ذائق.
وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف ، فضلا عن أهل التحقيق.
نعم ، الأصوات والحروف دالّة على كلام اللّه تعالى ، ويطلق عليها « الكلام » أيضا ، ولكنّ « الكلام » في الحقيقة : هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه.
* * *
ص: 228
لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلّا خمسة أمور :
الأوّل : اللفظ الصادر عنه.
الثاني : معاني مفردات اللفظ ، ومعنى هيئته.
الثالث : تصوّر الألفاظ والمعاني.
الرابع : مطابقة النسبة للواقع ، وعدمها.
الخامس : التصديق ، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقدا بها.
كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيّ لم يكن هناك إلّا أربعة أمور : الثلاثة الأول ، ورابع هو : الإرادة والكراهة ، ومقدّماتهما ؛ كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.
ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.
وكذا للثاني ؛ لأنّ معاني المفردات والهيئة أمور خارجية غالبا غير قديمة ، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!
ومخالف أيضا للرابع ، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.
وللثالث والخامس ؛ لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة بإقرارهم.
فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.
ص: 229
وأمّا ما ذكره من صورة التزوير ، فلا يدلّ على وجود غير المذكورات الخمسة ، فإنّ ترتيب أجزاء الكلام أو معانيه في الذهن لا يقتضي أكثر من تصوّرها قبل النطق.
كما إنّ انتفاء العلم عن المخبر الشاكّ أو العالم بالخلاف لا يقتضي إلّا انتفاء التصديق بالمخبر به ، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.
وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ؛ لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان ، أعني : اللفظ ومعاني مفرداته وهيئته ، وهو ظاهر ...
ولا الثالث ، أعني : تصوّر الألفاظ والمعاني ..
ولا الرابع ، أعني : الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ؛ لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم ، ولا نعقل أمرا غير المذكورات يكون كلاما نفسيا.
وأمّا خلوّ صورتي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة ، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاما نفسيا ، فإنّا لا نجد في الصورتين طلبا في النفس أصلا ، كما لا نجد في غيرهما إلّا طلبا واحدا يعبّر عنه بالطلب مرّة ، وبالإرادة والكراهة أخرى.
وأمّا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين ، بدليل وجوده عند المخاطب ، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصولطلب منه ..
ففيه : إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه ، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع ، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب ، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.
ص: 230
وأمّا صحّة الاعتذار والاختبار ، فلا تتوقّف إلّا على إظهار ثبوت الطلب ، فلا يكون الموجود في الصورتين إلّا صيغة الطلب وصورته لا حقيقته.
فإن قلت : فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعا في الصورتين.
قلت : إن أريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعا وعند المتكلّم ، فنحن نلتزم به ، ولا يضرّ في الدلالة ، كما في الخبر الكاذب.
وإن أريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع ، فهو ممنوع ؛ لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له ، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالم بمعناه ، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.
على إنّه قد يقال : إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتي الاختبار والاعتذار ، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ؛ لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها ، لا حاكية عن أمور نفسية.
غاية الأمر : إنّ الأمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة ... وإذا لم تثبت ، يكون الداعي غيرها ، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.
فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجودا حقيقة ، كغيرهما ، إلّا أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع ، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.
وكيف كان ، فنحن في غنى عمّا ذكره الفضل عن « المواقف » ، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.
ص: 231
وأمّا قوله : « إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم » ..
فقد خالف به الأشاعرة ، حيث قالوا : « المتكلّم من قام به الكلام » كما ذكره القوشجي (1) ، وقد فرّ بذلك عمّا أورد عليهم ، وذكره الشريف الجرجاني - على ما نقل عنه - وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء (2).
فيكون الكلام قائما بالهواء ، والهواء ليس قائما بالمتكلّم حتّى يقال :
ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.
فإذا ، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه ، بل بأن يعيّن حروفه وكلماته ، ويميّز بعضها عن بعض .. فلو كان المتكلّم من قام به الكلام ، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.
فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها ، والمتكلّم بمعنى موجدها.
فيكون التكلّم قائما بذاته تعالى قيام صدور ، بلا حاجة إلى المعنى النفسي ، كما يقوم بالبشر ، ويوصف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنى واحد.
هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.
وأمّا إذا أخذنا بظاهره ، حيث عرّف « المتكلّم » - بحسب النسخ التي وجدناها - بمن قامت به صفة المتكلّم ، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر ،
ص: 232
كانت هذه المقدّمة لاغية ، والمدار على قوله بعدها : « وخالق الكلام لا يقال إنّه متكلّم » ، وهو دعوى مجرّدة يردّها أيضا ما سبق.
فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم ، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم - كما في كلام الإنسان - ، أو بمباشرة شجرة ونحوها - كما في كلام اللّه تعالى - ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس ، فإنّها مختلفة :
إذ قد تكون بنحو الإيجاد ، كما عرفت ، ومثله الخطّاط والصبّاغ ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.
وقد تكون بنحو الحلول ، كالحيّ والميّت.
وقد تكون بنحو الانتزاع ، كما في صفات الباري جلّ وعلا ، بناء على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجا ، منتزعة منها مفهوما.
.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.
فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصا بالحلول ، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناء على تصوّره.
ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسية ، بل تتبع الورود ، فربّ مشتقّ يستعمل مع ملابسة لا يستعمل الآخر معها ، ولا يستعمل هو بدونها.
فلا يرد على دعوى إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى بملابسة الإيجاد ، النقض بالذائق والمتحرّك ، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركة.
ص: 233
على إنّه لو تمّ ما ذكره الفضل من كون « المتكلّم » وضعا هو من قام المبدأ به قيام حلول ، فهو بحث لفظي لا يلتفت إليه مع امتناعه عقلا ، فيلزم أن يراد به معنى الموجد.
مضافا إلى أنّه لم يعلم إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى في الكتاب والسنّة ، وإن أطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكلّم ويكلّم ..
بل إطلاق « المتكلّم » عليه عرفيّ مستفاد من إطلاق تلك الأمور في الكتاب والسنّة عليه تعالى ، فلا ينفع الخصم بوجه سديد ألبتّة.
ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم موجد الكلام ، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة : كالرازق والخالق ، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة : كالحيّ والعالم ، خلافا للأشاعرة.
هذا ، والأعجب من الأشاعرة : الحنابلة ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قدم كلامه ، لكن قالوا : هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ؛ كما نقله عنهم في « المواقف » و« شرح التجريد » للقوشجي (1).
ونقلا عن بعضهم أنّه قال : « الجلد والغلاف قديمان » أيضا (2).
وهذا هو الجهل المفرط!
وسيذكر المصنّف رحمه اللّه دلالة العقل على حدوث الحروف ، فانتظر.
* * *
ص: 234
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
المعقول من الكلام - على ما تقدّم - أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون : خبرا ، أو أمرا ، أو نهيا ، أو استفهاما ، أو تنبيها ؛ وهو الشامل للتمنّي ، والترجّي ، والتعجّب ، والقسم ، والنداء ؛ ولا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.
والّذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [ تعالى ] واحد مغاير لهذه المعاني ؛ وذهب آخرون : إلى تعدّده (2).
والّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء
ص: 235
لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!
ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره ، كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ، ويناط به الأحكام؟!
* * *
ص: 236
وقال الفضل (1) :
الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات ، مثل :
العلم والقدرة ، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء.
وهذا بحسب التعلّق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [ أ ] وعلى وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.
وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده.
فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني ، فإن ثبت ، فهو قديم واحد كسائر الصفات ؛ وإن انحصر الكلام في اللفظي ، فهو حادث متعدّد ؛ وقد أثبتنا الكلام النفسي ... ، فطامّات الرجل ليست إلّا التّرّهات.
* * *
ص: 237
صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّدا دون النفسي؟! وإلّا لخرج عن كونه مدلولا مرتّبا في النفس على حسب ترتيب اللفظي!
على إنّه لا وجه لأن يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.
ثمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!
فإن أراد به إيجاده لها ، فلا نعرف صفة ذاتية بها الإيجاد سوى القدرة.
وإن أراد كونه جنسا لها ، لزم وجود الجنس في القدم بدون الفصل ، وهو باطل.
وإن أراد به عروضه عليها ، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثه ، وهو ممتنع ؛ ولا يمكن وجوده قبلها ؛ لامتناع قيام العرض بلا معروض.
وإن أراد العكس ، وأنّه معروض لها ، فإن كان عروضها في القدم ، نافى فرض حدوثها ، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه .. وإن كان عروضها حال حدوثها ، لزم أن لا يكون في القدم كلاما لعدم العروض حينئذ ؛ ولا نتصوّر وجها لكونه كلاما حقيقيا قبل العروض.
وإن أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم ، فقد
ص: 238
صار علما ؛ وهو كما ترى.
وإن أراد غير ذلك ، فليبيّنه أصحابه حتّى نعرف صحّته من فساده.
وبالجملة : كما لا نعقل معنى للكلام النفسي ، لا نعقل وجها صحيحا لتعلّقه ، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.
* * *
ص: 239
ص: 240
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
العقل والسمع متطابقان على إنّ كلامه تعالى محدث ليس بأزلي ؛ لأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعة واحدة ، فلابدّ أن يكون أحدهما سابقا على الآخر ، والمسبوق حادث بالضرورة ، والسابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة ، وقد قال اللّه تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (2).
وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه ، وأنّه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين! (3).
وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقّه تعالى ، فإنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا وقال : يا سالم قم ، ويا غانم اضرب ،
ص: 241
ويا سعد كل ، ولا أحد عنده من هؤلاء ، عدّه كلّ عاقل سفيها جاهلا عادما للتحصيل ، فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل (1) الدالّ على السفه والجهل والحمق إليه تعالى؟!
وكيف يصحّ منه تعالى أن يقول في الأزل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (2) ولا مخاطب هناك ، ولا ناس عنده؟!
[ ويقول : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) (3) ] (4) ويقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) (5) [ و ] (6) ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (7) و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ) (8) و ( لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ) (9) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (10)!
وأيضا : لو كان كلامه قديما لزم صدور القبيح منه تعالى ؛ لأنّه إن لم يفد بكلامه في الأزل [ شيئا ] كان سفها ، وهو قبيح عليه [ تعالى ] ، وإن أفاد فإمّا لنفسه ، أو لغيره ..
ص: 242
والأوّل باطل ؛ لأنّ المخاطب إنّما يفيد نفسه لو كان يطرب في كلامه ، أو يكرّره ليحفظه ، أو يتعبّد به كما يتعبّد (1) اللّه بقراءة القرآن ؛ وهذه في حقّه محال لتنزّهه عنها.
والثاني باطل ؛ لأنّ إفادة الغير إنّما تصحّ لو خاطب غيره ليفهمه مراده ، أو يأمره بفعل ، أو ينهاه عن فعل.
ولمّا لم يكن في الأزل من يفيده بكلامه شيئا من هذه ، كان كلامه سفها وعبثا!
وأيضا : يلزم الكذب في إخباره تعالى ؛ لأنّه قال في الأزل :
( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (2) [ و ] (3) ( إِنَّا ... أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ ) (4) و ( أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ ) (5) و ( ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ ) (6) ، مع إنّ هذه إخبارات عن الماضي ، والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذب ؛ تعالى اللّه عنه.
وأيضا : قال اللّه تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (7) ، وهو إخبار عن المستقبل ، فيكون حادثا.
* * *
ص: 243
وقال الفضل (1) :
قد سبق الإشارة إلى أنّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية في إثبات الكلام النفساني (2).
فمن قال بثبوته ، فلا شكّ أنّه يقول بقدمه ؛ لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.
ومن قال بأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يقول بحدوثه ، ونحن نوافقه فيه.
فكلّ ما أورده على الأشاعرة ، فهو إيراد على غير محلّ النزاع ؛ لأنّه يقول : إنّ الكلام مركّب من الحروف ، ثمّ يقول بحدوثه ؛ وهذا ممّا لا نزاع فيه.
نعم ، لو قال بإثبات الكلام النفساني ثمّ يثبت حدوثه يكون محلّ النزاع.
وأمّا ما استدلّ به على الحدوث من قوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (3) ، فهو يدلّ على حدوث اللفظ ، ولا نزاع فيه.
وأمّا الاستدلال بأنّ الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع ، فيه سفه - كما ذكره في طامّاته - ..
فالجواب أنّ ذلك السفه الذي ادّعيتموه إنّما هو في اللفظ ، وأمّا كلام
ص: 244
النفس فلاسفه فيه ، ومثاله - على وفق ما ذكر - أنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا ، ورتّب في نفسه أنواع الأوامر لجماعة سيأتون عنده ، ولا يتلفّظ به ، فلا يكون سفها ولا حماقة ، بل السفيه من نسبه إلى السفه.
فالكلام النفسي : هو المعنى القائم بذات اللّه تعالى في الأزل ، ولا تلفّظ بذلك الكلام ، بل هو لجماعة سيحدثون ، ويكون التلفّظ به بعد حدوثهم وحدوث أفعالهم التي تقتضي الأمر والنهي والإخبار والاستفهام ، فلاسفه ولا حماقة كما ادّعاه.
وبهذا الجواب - أيضا - يندفع ما ذكره من لزوم صدور القبيح من اللّه تعالى ؛ لأنّ ذلك في التلفّظ بالكلام النفسي ، ونحن نسلّم أن لا تلفّظ في الأزل ، بل هناك معان قائمة بذات اللّه تعالى ، قديمة.
وأيضا : يندفع ما ذكره من لزوم الكذب ؛ لأنّ الصدق والكذب صنفان للكلام الذي يتلفّظ به ، لا المعاني المزوّرة (1) في النفس ، المقولة بعد هذا لمن سيحدث.
وأمّا الاستدلال على حدوث الكلام بقوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2) لأنّه إخبار عن المستقبلفيكون حادثا ..
فالجواب عنه أنّ لفظ ( كُنْ ) حادث ، ولا نزاع لنا فيه.
إنّما النزاع في المعنى الأزلي النفساني ، ولا يلزم من كون مدلول [ لفظة ] ( كُنْ ) في ذات اللّه تعالى : حدوثه.
ص: 245
غاية المصنّف من الدليل العقلي هو إثبات حدوث ما يتعقّل من كلامه تعالى ، ولا يتعقّل إلّا اللفظي ، ولا محلّ لإثبات حدوث النفسي عقلا ؛ لأنّه فرع المعقولية.
وأمّا الأدلّة السمعية ، فإنّما تذكر لإثبات الانحصار باللفظي ، أو لإثبات حدوث النفسي على فرض المعقولية.
على إنّه قد يقال : إنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي ، فينبغي أن يكون مركّبا في النفس كتركيب اللفظي ، ومرتّبا كترتيبه ، فيلزم تقدّم بعض أجزائه على بعض ، وهو يقتضي الحدوث.
هذا ، وحكى شارح « المواقف » عن الماتن في مقالة مفردة ، أنّه فسّر الكلام النفسي بالأمر القائم بالغير ، الشامل للّفظ والمعنى جميعا ، وزعم أنّه قائم بذات اللّه تعالى ، وأنّه قديم ؛ لأنّ الترتيب إنّما هو في التلفّظ ، بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفّظ حادث دون الملفوظ (1).
وأورد عليه القوشجي بأنّ هذا خارج عن طور العقل ، وما هو إلّا مثل أن يكون حركة مجتمعة الأجزاء في الوجود ، لا يكون لبعضها تقدّم على بعض (2) ؛ وهو حسن.
وأمّا ما أجاب به الخصم عن قوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
ص: 246
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (1).
ففيه : أنّ المراد بالذكر هو القرآن - الذي هو كلام اللّه تعالى - من دون لحاظ أنّه لفظي.
فإذا دلّت الآية على حدوث كلامه من حيث هو كلامه ، ثبت حدوثه حتّى لو كان نفسيا ، أو يثبت الانحصار باللفظي.
ومثل الآية المذكورة قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (2) ، فإنّ المنزّل المحفوظ لا يكون إلّا محدثا ؛ لأنّ تنزيله على التدريج ، ولا تنزيل إلّا للّفظ!
وأمّا ما أجاب به عن السفه ، بأنّه إنّما هو باللفظ ، فمردود بأنّ الطلب مطلقا سفه حتّى لو كان في النفس!
وأمّا مثاله فلا طلب فيه فعلا ، وإنّما الموجود فيه هو العزم على الطلب ، أو تصوير الطلب ، وإلّا كان سفها بالضرورة!
ومنه يعلم ما في جوابه عن لزوم صدور القبيح منه تعالى.
فإن قلت : إنّما يلزم السفه إذا خوطب المعدوم ، وطلب منه إيقاع الفعل في حال عدمه ؛ وأمّا إذا طلب منه على تقدير وجوده ، فلا ، كما في طلب الرجل تعلّم ولده الذي يعلم أنّه سيولد ، وكما في خطاب النبيّ كلّ مكلّف يولد إلى يوم القيامة.
قلت : البديهة حاكمة بسفه من يخاطب معدوما ويطلب منه ، سواء طلب منه في حال عدمه أم على تقدير وجوده ، وسواء خاطبه خاصّة أم في
ص: 247
ضمن جماعة حاضرين ؛ لأنّ أصل التوجّه إليه بالطلب سفه!
وأمّا مثال الولد ، فليس فيه إلّا الميل والعزم على الطلب ..
قال في « شرح المواقف » : « أمّا نفس الطلب ، فلا شكّ في كونه سفها ، بل قيل : هو غير ممكن ؛ لأنّ وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال » (1).
كما إنّ خطاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما هو للحاضرين ، ويثبت لمن عداهم بأدلّة اشتراك الأمّة في التكليف.
وأمّا ما أجاب به عن لزوم الكذب ، فمناقشة لفظيّة ، ليس لها - لو صحّت - أثر في دفع الإشكال ؛ لأنّ المقصود أنّ قوله تعالى في الأزل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) (2) .. ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (3) حكم غير مطابق للواقع ، ينزّه اللّه تعالى عن مثله ، فلا أثر لعدم تسميته كذبا في الاصطلاح.
ومنه يعلم بطلان ما أجيب به ، من أنّ كلامه تعالى في الأزل لا يتّصف بالماضي والحال والاستقبال ؛ لعدم الزمان ، وإنّما يتّصف بذلك بحسب التعلّقات بعد حدوث الأزمنة.
وذلك لأنّ عدم صحّة اتّصافه في الأزل بالماضي لا يجعل قوله تعالى في الأزل : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) حكما صادقا مطابقا للواقع حتّى يرتفع الإشكال.
بل هذا الجواب قد كشف عن إشكال آخر عليهم ، وهو عدم صحّة قولهم : إنّ النفسي مدلول اللفظي ، إذ لا يمكن أن يكون ما ليس له زمان
ص: 248
عين مدلول ما هو مقيّد بالزمان ، اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ مراد المجيب أنّ الكلام النفسي - المدلول للّفظي - هو ما قيّد بالتعلّقات الحادثة ، فلا يرد شيء من ذلك ، ولكنّه لا يتمّ على مذهبهم لقولهم بقدم النفسي.
ثمّ لا يخفى أنّ مثل قوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) لا يصحّ أن يكون الكلام النفسي فيه من قبيل : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) (1) ممّا ليس بماض ونزّل منزلة الماضي ، حتّى يرتفع الكذب.
وذلك لأنّ التنزيل للمعنى يستدعي دلالة اللفظ على المنزّل ، ومن المعلوم أنّ لفظ قوله تعالى : ( أَرْسَلْنا نُوحاً ) دالّ على الماضي حقيقة ، لا الماضي تنزيلا.
وأمّا ما أجاب به عن قوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ) .. الآية (2).
ففيه : إنّ الآية تدلّ على حدوث الأمر التكويني في المستقبل ، بما هو حامل للمعنى - الذي هو الكلام النفسي عندهم - ، إذ ليس المقصود مجرّد حدوث لفظ ( كُنْ ) ؛ لأنّ الأثر في التكوين ليس للّفظ نفسه ، بل لما تحمل من المعنى القائم بالنفس ، وهو الذي يتفرّع عليه كون الشيء وحدوثه في المستقبل ، وتفرّعه عليه هنا ظاهر في حدوثه بعد انقضائه ، ولا ينقضي إلّا الحادث ؛ لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه!
* * *
ص: 249
ص: 250
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
كلّ عاقل يريد من غيره شيئا على سبيل الجزم فإنّه يأمره به ، وإذا كره الفعل فإنّه ينهى عنه.
وإنّ الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة.
وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وقالوا : إنّ اللّه تعالى يأمر دائما بما لا يريده ، بل بما يكرهه ، وإنّه ينهى عمّا لا يكرهه ، بل عمّا يريده (2)!
وكلّ عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
ص: 251
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد له ، وما ليس بكائن ليس بمراد له (2).
ومذهب المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد للمأمور به ، كاره للمعاصي والكفر (3).
ودليل الأشاعرة : إنّه تعالى خالق الأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة (4) ، والصفة المرجّحة لأحد المقدورين هو الإرادة ، ولا بدّ منها.
فإذا ثبت أنّه مريد لجميع الكائنات.
وأمّا المعتزلة ، فإنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم ، وأثبتوا في الوجود تعدّد الخالق ، يلزمهم نفي الإرادة العامّة ، فاللّه تعالى عندهم يريد الطاعات ويكره المعاصي ، فيأمر بالطاعات وينهى عن المعاصي لأنّها ليست من خلقه.
وعند الأشاعرة : إنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها - وهذا ظاهر - ،
ص: 252
ويريد المعاصي وينهى عنها (1).
والأمر غير الإرادة - كما مرّ في الفصل السابق - ، وليس المراد من الإرادة الرضا والاستحسان ..
فقوله : إنّ الأشاعرة يقولون : « إنّ اللّه تعالى يأمر بما لا يريده » أراد به أنّ اللّه تعالى يأمر بإيمان الكافر ولا يريده.
فالمحذور الذي ذكره من مخالفة العقلاء ناشئ من عدم تحقّق معنى الإرادة ..
فإنّ المراد بالإرادة هاهنا هو التقدير والترجيح في الخلق ، لا الرضا والاستحسان كما هو المتبادر ، فذهب إلى اعتبار معنى الإرادة بحسب العرف.
وإذا تحقّقت معنى الإرادة علمت مراد الأشاعرة ، وأنّه لا نسبة للجهل والسفه إلى اللّه ، تعالى عن ذلك كما ذكره.
* * *
ص: 253
لا يخفى أنّ المصنّف رحمه اللّه قد ذكر أمرا ضروريا ، وهو : أنّ أمر العاقل بشيء دليل على رضاه به ، وإرادته له من الغير ؛ وأنّ نهيه عن شيء دليل على عدم رضاه به ، وكراهته له.
وذكر أنّ الأشاعرة خالفوا العقلاء في ذلك فقالوا : إنّ اللّه سبحانه يأمر بما لا يرضى ولا يريد ، وينهى عمّا يرضى ويريد ...
ووجهه : إنّ الأفعال عندهم مخلوقة لله تعالى ، وبالضرورة أنّ الفاعل القادر المختار إنّما يفعل ما يرضى ويريد ، ويترك ما لا يرضى ولا يريد.
فإذا فرض أنّه سبحانه أمر بما ترك ، فلا بدّ أن يكون قد أمر بما لا يرضى ولا يريد ..
وإذا فرض أنّه نهى عمّا فعل ، فلا بدّ أن يكون قد نهى عمّا رضي وأراد.
وهذا يستوجب السفه ، تعالى اللّه عنه وعن كلّ نقص.
وحاصل جواب الفضل - بعدما أطال في فضول الكلام - أنّ معنى الإرادة في كلام الأشاعرة : هو التقدير.
فيكون معنى قولهم : يأمر بما لا يريد ، وينهى عمّا يريد ؛ أنّه يأمر بما لا يقدّر ، وينهى عمّا يقدّر ؛ وهذا لا يستلزم السفه.
وفيه : إنّ تقدير الشيء وإيجاده فرع الرضا به والإرادة له ، وإنّ عدم تقدير الشيء وعدم إيجاده فرع عدم الرضا به وعدم الإرادة له.
ص: 254
فإذا فرض أنّ اللّه سبحانه أمر بما لم يقدّر ونهى عمّا قدّر ، فقد لزم أن يكون آمرا بما لا يرضى ولا يريد ، وناهيا عمّا يرضى ويريد ؛ وهو السفه ، تعالى اللّه عنه وجلّ شأنه.
على إنّ تفسيره للإرادة بالتقدير خطأ ؛ لأنّها صفة ، والتقدير فعل!
ثمّ إنّ قوله : « وعند الأشاعرة أنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها ».
غير متّجه ؛ لأنّه إن قصد كلّ الطاعات فغير صحيح ؛ لأنّه تعالى عندهم إنّما أراد بعضها ، وهو ما أوجده خاصة.
وإن أراد بعضها ، فذكره له فضلة ؛ لأنّ كلام المصنّف رحمه اللّه تعالى ليس في المراد عندهم من الطاعات ، بل في غير المراد الذي لم يتعلّق به الوجود.
وإنّما قيّد المصنّف بالدوام في ما نقله عنهم بقوله : « قالوا : إنّ اللّه تعالى يأمر دائما بما لا يريد » للإشارة إلى استمرار ترك الطاعات باستمرار الأزمنة ، أو إلى أنّ أمره بما لا يريده دائم بدوام ذاته على ما زعموه من الكلام النفسي!
واللّه العالم.
* * *
ص: 255
ص: 256
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
إعلم أنّ الحكم بكون كلام اللّه صادقا لا يجوز عليه الكذب ، إنّما يتمّ على قواعد العدلية (2) ، الّذين أحالوا صدور القبيح عنه تعالى من حيث الحكمة.
ولا يتمشّى على مذهب الأشاعرة لوجهين :
الأوّل : إنّهم أسندوا جميع القبائح إليه تعالى ، وقالوا : لا مؤثّر في الوجود - من القبائح بأسرها ، وغيرها - إلّا اللّه تعالى (3) ، ومن يفعل أنواع
ص: 257
[ الشرك و ] الظلم والجور والعدوان وأنواع المعاصي [ وإلقبائح المنسوبة إلى البشر ] كيف يمتنع أن يكذب في كلامه؟! وكيف يقدر الباحث على إثبات وجوب كونه صادقا؟!
الثاني : إنّ الكلام النفساني عندهم مغاير للحروف والأصوات (1) ، ولا طريق لهم إلى إثبات كونه تعالى صادقا في الحروف والأصوات!
* * *
ص: 258
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى يمتنع عليه الكذب ، ووافقهم المعتزلة في ذلك ..
أمّا عند الأشاعرة : فلأنّه نقص ، والنقص على اللّه تعالى محال ..
وأمّا عند المعتزلة : فلأنّ الكذب قبيح ، وهو سبحانه لا يفعل القبيح (2).
وقال صاحب « المواقف » : إعلم أنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه ، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها ، وإنّما تختلف العبارة (3).
الفرق أنّ النقص هنا يراد به النقص في الصفات ، فإنّه على تقدير جواز الكذب عليه تتّصف ذاته بصفة النقص ، وهم لم يقولوا هاهنا بالنقص في الأفعال ؛ حتّى لا يكون فرقا بينه وبين القبح العقلي كما ذكره صاحب « المواقف ».
فحاصل استدلال الأشاعرة : إنّه تعالى لو كان كاذبا لكان ناقصا في
ص: 259
صفته .. كما إنّهم يقولون : لو كان عاجزا أو جاهلا ، لكان ناقصا في صفته.
ولم يعتبروا ما يلزم ذلك النقص من القبح الذي يقول به المعتزلة.
فتأمّل ، والفرق دقيق!
ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ عدم جواز الكذب عليه لا يتمشّى على قواعد الأشاعرة ، فهذا كلام باطل عار عن التأمّل!
فإنّ القول بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ؛ لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد ، فهو غير مستند إلى الخالق.
ثمّ من خلق القبائح فلا بدّ أن يكذب ، ولا يجوز أن يكون صادقا.
هذا غاية الجهل والعناد والخروج عن قاعدة البحث ، بحيث لو نسب هذا الكلام إلى العوامّ استنكفوا منه.
وأمّا ثاني الاستدلالين على عدم التمشّي ؛ فهو أيضا باطل صريح ، فإنّ من قال : امتنع الكذب عليه للزوم النقص ، فهذا الكذب يتعلّق بالدالّ على المعنى النفساني ، وهو أيضا نقص ، فكيف لا يتمشّى؟!
* * *
ص: 260
إعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا بلزوم النقص من الكذب على صدق كلامه تعالى مطلقا ، نفسيا ولفظيا ، لا خصوص اللفظي ، مع إنّه لو وقع الكذب في كلامه تعالى لكنّا أكمل منه في بعض الأوقات ؛ أعني وقت صدقنا وكذبه سبحانه (1).
فأورد عليهم صاحب « المواقف » في عبارته المذكورة بأنّ هذا الدليل لا يثبت صدقه في الكلام اللفظي ؛ لأنّ اللفظ فعل ، والنقص في الأفعال عين القبح العقلي فيها (2) ، والأشاعرة لا يقولون به فيها ..
فتخيّل الفضل أنّ مقصود صاحب « المواقف » أنّ المراد بالنقص في هذا الدليل هو النقص في الأفعال خاصة ، فأورد عليه بأنّ المراد هوالنقص في الصفة.
ومن العجب أنّه بعد إقراره بأنّ الأشاعرة لم يقولوا بالنقص في الأفعال ، أجاب بحسب ظاهر كلامه عن ثاني إيرادي المصنّف بأنّ الكذب في الكلام اللفظي أيضا نقص ؛ وهو تخليط ظاهر!
هذا ، وأجاب القوشجي عن إيراد صاحب « المواقف » بأنّ « مرجع الصدق والكذب إنّما هو المعنى دون اللفظ » (3).
ولمّا كان الكلام النفسي عندهم عين مدلول الكلام اللفظي ومعناه ،
ص: 261
كان كذب الكلام اللفظي راجعا إلى كذب الكلام النفسي ، ولزم النقص في صفته تعالى.
وهو حسن لو لزم أن يكون لكلّ كلام لفظي مدلول نفسي ، حتّى اللفظي الكاذب ، وهو محلّ نظر ؛ لجواز أن يوجد اللفظ الخبري الكاذب ولا يحكم في نفسه على طبق معناه ، فلا يثبت حكم نفسي حتّى يكذّب ، فإنّ المدار في الكذب على الحكم.
نعم ، يكذّب اللفظي لاشتماله على الحكم الكاذب.
هذا ، ويشكل على الدليل المذكور - حتّى في إثبات صدقه تعالى في الكلام النفسي - أنّ محالية النقص عليه تعالى في صفته إنّما أثبتوها بالإجماع لا بالعقل .. ولذا قال القوشجي - في تقرير هذا الدليل - أنّ الكذب « نقص ، والنقص على اللّه تعالى محال إجماعا » (1).
ولمّا قال صاحب « المواقف » في تقريره النقص على اللّه تعالى محال ، قيّد شارحها الحكم بالمحاليّة بقوله : « إجماعا » (2).
ومن المعلوم أنّ حجّية الإجماع إنّما تستند عندهم إلى قول النبيّ ، الموقوف اعتباره على ثبوت صدقه ، وثبوته يعلم من تصديق اللّه تعالى إيّاه ، الموقوف اعتباره على ثبوت صدق كلام اللّه تعالى ، فيتوقّف ثبوت صدق كلامه تعالى على ثبوته (3) ، وهو دور!
وقد يجاب عنه بما أجابوا به عن نفس الإشكال ، حيث أورد به على دليلهم الآخر لصدق كلام اللّه تعالى ، وهو خبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله به ، بل إجماع
ص: 262
الأنبياء على صدق كلامه تعالى ..
فقالوا في الجواب : إنّ ثبوت صدق النبيّ غير موقوف على تصديق اللّه له بكلامه حتّى يلزم الدور ، بل على تصديق اللّه له بالمعجزة ، وهو تصديق فعلي لا قولي (1).
وفيه : إنّ المعجزة إنّما تدلّ على إنّه مرسل من اللّه تعالى ، وأنّ ما جاء به من عنده ، لا على إنّ كلام النبيّ صدق مطابق للواقع مطلقا ، وإن كان من نفسه.
على إنّ إفادة المعجزة لليقين برسالته محلّ منع على مذهبهم كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى.
وبالجملة : العلم بصدق النبيّ موقوف على تصديق اللّه تعالى إيّاه.
فإن ادّعوا تصديقه له بكلامه تعالى جاء الدور ..
وإن ادّعوا تصديقه بالمعجزة ، فإن كان اقتضاؤها - لصدق النبيّ في خبره بصدق كلام اللّه تعالى - ناشئا من إخبار اللّه بصدق نفسه ، رجع الدور إلى حاله ، وإلّا فلا تدلّ المعجزة على صدق النبيّ في خبره من نفسه.
على إنّ المعجزة ليست بأعظم من التصديق القولي ، وقد فرض الشكّ في صدقه.
ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا بدليل ثالث على امتناع الكذب عليه تعالى ، وهو : إنّه تعالى لو اتّصف بالكذب لكان كذبه قديما ، إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى ، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب ، وإلّا جاز زوال ذلك الكذب ، وهو محال ؛ فإنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.
ص: 263
واللازم : وهو امتناع الصدق عليه ، باطل ؛ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه على ما هو عليه (1).
أوّلا : إنّ المقدّمة الأخيرة مبنية على اعتبار قياس الغائب على الشاهد ، وهو ممنوع ، كما ستعرف.
وثانيا : إنّ امتناع الصدق المقابل للكذب ليس ذاتيا ، بل لقدم هذا الكذب كما ذكر في الدليل ، فيكون امتناعا بالغير ، ولا نسلّم بطلانه ، إذ لا ضرورة تقضي بخلافه ، وإنّما تقضي الضرورة بإمكانه الذاتي ، وهو لا ينافي الامتناع بالغير.
وثالثا : إنّه يرد عليهم النقض بما ذكره القوشجي ، قال : « لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع صدقه تعالى أيضا بأن يقال : إنّ اللّه تعالى لو اتّصف بالصدق لكان صدقه قديما ، فيمتنع عليه الكذب المقابل لذلك الصدق ، ولكنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه لا على ما هو عليه » (2).
ورابعا : إنّه لم تمّ هذا الدليل ، وأعرضنا عمّا يرد عليه ، لم يثبت به إلّا صدق كلامه النفسي ؛ لأنّه هو القديم ، والحال أنّ الأهمّ بيان صدق كلامه اللفظي ، كما بيّن هذا في « المواقف » وشرحها (3).
فقد ظهر أنّه لا دليل للأشاعرة على امتناع الكذب على اللّه تعالى في
ص: 264
كلامه مطلقا ، نفسيا ولفظيا ، فما حال مذهب يعجز أهله - بحسب قواعده - عن إثبات امتناع أقبح الأشياء على اللّه تعالى؟!
والحال أنّ امتناعه من أوّل الضروريّات ، بل بمقتضى إسنادهم جميع القبائح إليه سبحانه ، يكون صدور الكذب منه تعالى مستقربا ، بل هو واقع عندهم ؛ لأنّه الخالق لكذب الناس في الإخبار عنه تعالى!
فكما يكون كذبا منه أن يخلق الكلام الكاذب على لسان ملك أو نبيّ أو شجرة ، يكون كذبا منه أن يخلقه على ألسنة سائر الناس.
وليس كذبه سبحانه في الكلام اللفظي إلّا بهذا النحو ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وأمّا قوله : « إنّ القول بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ؛ لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد » ..
فهو سفسطة عند العقلاء ، إذ كيف يصحّ عند عاقل نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له فيه ألبتّة وعدم نسبته إلى خالقه وموجده؟!
على إنّه يلزم منه أن لا يمتنع الكذب منه تعالى على لسان ملك أو نبيّ ؛ لأنّه بمباشرتهما ، فكيف التزموا بامتناع الكذب منه تعالى في الكلام اللفظي؟!
ولا يخفى أنّ المصنّف لم ينسب إلى القوم أنّه تعالى لا بدّ أن يكذب في كلامه ، فلا معنى لقول الخصم : « ثمّ من خلق القبائح فلا بدّ أن يكذب ».
ولو نسب إليهم وقوع الكذب منه سبحانه لكان حقّا ؛ لخلقه سبحانه - عندهم - للكذب في الإخبار عنه على ألسنة العاصين ، كما عرفت.
* * *
ص: 265
ص: 266
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
العقل والسمع متطابقان على إنّه تعالى مخصوص بالقدم ، وإنّه ليس في الأزل سواه ؛ لأنّ كلّ ما عداه سبحانه [ وتعالى ] ممكن ، وكلّ ممكن حادث (2).
وقال تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (3).
وأثبت الأشاعرة معه معاني قديمة ثمانية ، هي علل في الصفات : كالقدرة والعلم والحياة .. إلى غير ذلك (4).
ص: 267
ولزمهم من ذلك محالات :
منها : إثبات قديم غير اللّه تعالى .. قال فخر الدين الرازي : النصارى كفروا بأنّهم أثبتوا ثلاثة قدماء ، وأصحابنا قد أثبتوا تسعة (1)!
ومنها : إنّه يلزمهم افتقار اللّه تعالى - في كونه عالما - إلى إثبات معنى ، هو : العلم ، ولولاه لم يكن عالما ، وافتقاره في كونه تعالى قادرا إلى القدرة ، ولولاها لم يكن قادرا ؛ وكذلك باقي الصفات.
واللّه تعالى منزّه عن الحاجة والافتقار ؛ لأنّ كلّ مفتقر إلى الغير فهو ممكن.
ومنها : إنّه يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى ، وهو محال.
بيان الملازمة : إنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بما عداه ، فإنّ من شرط العلم : المطابقة ؛ ومحال أن يطابق الشيء الواحد أمورا متغايرة متخالفة في الذات والحقيقة.
لكنّ المعلومات غير متناهية ، فيكون له علوم غير متناهية ، لا مرّة واحدة ، بل مرارا غير متناهية ، باعتبار كلّ علم يفرض في كلّ مرتبة من المراتب الغير المتناهية ؛ لأنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء.
ص: 268
ثمّ العلم بالعلم بالشيء مغاير للعلم بالعلم بالعلم بذلك الشيء ..
وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وفي كلّ واحدة من هذه المراتب علوم غير متناهية.
وهذا عين السفسطة لعدم تعقّله بالمرّة.
ومنها : إنّه تعالى لو كان موصوفا بهذه الصفات ، وكانت قائمة بذاته تعالى ، كانت حقيقة الإلهية مركّبة ، وكلّ مركّب محتاج إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، فيكون اللّه تعالى محتاجا إلى غيره ، فيكون ممكنا.
وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال : « أوّل الدّين معرفته ، وكمال معرفته التّصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه [ سبحانه ] فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (1).
ومنها : إنّهم ارتكبوا هنا ما هو معلوم البطلان ، وهو أنّهم قالوا : إنّ هذه المعاني لا هي نفس الذات ، ولا مغايرة لها (2).
وهذا غير معقول! لأنّ الشيء إذا نسب إلى آخر ، فإمّا أن يكون هو هو ، أو غيره ، ولا يعقل سلبهما معا!
* * *
ص: 269
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى له صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته ، فهو عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، ومريد بإرادة .. وعلى هذا القياس (2).
والدليل عليه : إنّنا نفهم الصفات الإلهية من صفات الشاهد ، وكون علّة (3) الشيء عالما - في الشاهد - هي العلم ؛ فكذا في الغائب.
وحدّ العالم - هاهنا - من قام به العلم ، فكذا حدّه هناك ، وشرط صدق المشتقّ على واحد منّا : ثبوت أصله ؛ فكذا [ شرط ] في ما (4) غاب عنّا ، وكذا القياس في باقي الصفات.
ثمّ نأخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف ، فإنّ العالم لا شكّ أنّه من يقوم به العلم ، ولو قلنا بنفي الصفات لكذّبنا نصوص الكتاب والسنّة ، فإنّ اللّه تعالى في كتابه أثبت الصفات [ لنفسه ، كقوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (5) ..
فإذا ثبت في النصوص إثبات الصفات ] له ، فلا بدّ لنا من الإثبات من غير تأويل ، فإنّ الاضطرار إلى التأويل إنّما يكون بعد العجز عن الإجراء على حسب الواقع ؛ وذلك لدلالة الدلائل العقلية على امتناع إجرائه على
ص: 270
حسب ظاهره ، وها هنا ليس كذلك ، فوجب الإجراء على الظاهر من غير تأويل.
وعندي : إنّ هذا هو العمدة في إثبات الصفات الزائدة ، فإنّ الاستدلالات العقليّة على إثباتها مدخولة ، واللّه أعلم.
ثمّ ما استدلّ به هذا الرجل - على نفي الصفات الزائدة - من الوجوه ، فكلّها مجاب :
الأوّل : استدلاله بأنّ كلّ ما عداه ممكن ، وكلّ ممكن حادث.
فنقول : سلّمنا أنّ كلّ ما عداه ممكن ، ولكن نقول في المقدّمة الثانية :
إنّ كلّ ممكن ممّا عدا صفاته فهو حادث ؛ لأنّ صفاته لا هو ولا غيره ، كما سنبيّن بعد هذا.
الثاني : الاستدلال بلزوم إثبات قديم غير اللّه تعالى ، وإثبات القدماء كفر ، وبه كفرت النصارى.
الجواب : إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة ، لا إثبات ذات وصفات قدماء (1) ، هي ليست غير الذات مباينة كلّية ، مثلا : علم زيد ليس غير زيد بالكلّية ، فلو كان علم زيد قديما فرضا مثل زيد ، فأيّ نقص يعرض من هذا لزيد إذا كان متّصفا بالقدم؟! لأنّ علمه ليس غيره بالكلّية ، بل هو من صفات كماله.
الثالث : الاستدلال بلزوم افتقار اللّه تعالى في كونه عالما إلى إثبات معنى هو العلم ، ولولاه لم يكن عالما ، وكذا في باقي الصفات.
والجواب : إن أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفات الكمال الزائدة
ص: 271
على ذاته لذاته ، فهو جائز عندنا ، وليس فيه نقص ، وهو المتنازع فيه.
وإن أردتم به غيره ، فصوّروه أوّلا حتّى تفهموه (1) ، ثمّ تثبّتوا (2) لزومه لما ادّعينا.
والحاصل : إنّ المحال هو استفادته صفة كمال من غيره ، لا اتّصافه لذاته بصفة كمال هي غيره ؛ واللازم من مذهبنا هو الثاني لا الأوّل (3).
الرابع : الاستدلال بلزوم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القديمة (4) بذاته تعالى ؛ وذلك لأنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بما عداه .. إلى آخر الدليل.
والجواب : إنّ العلم صفة واحدة قائمة بذاته تعالى ، ويتعدّد بحسب التعلّق بالمعلومات الغير المتناهية ، فله بحسب كلّ معلوم تعلّق ، فكما يتصوّر أن تكون المعلومات غير متناهية ، كذلك يجوز أن تكون تعلّقات العلم - الذي هو صفة واحدة - غير متناهية بحسب المعلومات ، وليس يلزم منه محال ، ولا (5) يلزم التسلسل المحال ؛ لفقدان شرط ( الترتّب في ) (6) الوجود (7).
الخامس : الاستدلال بأنّه لو كان موصوفا بهذه الصفات ، لزم كون الحقيقة الإلهية مركّبة ، ويلزم منه الاحتياج.
ص: 272
والجواب : إنّ المراد بالحقيقة الإلهية إن كان الذات ، فلا يلزم من إثبات الصفات الزائدة تركّب في الذات.
وإن كان المراد أنّ هناك ذاتا وصفات متعدّدة قائمة بتلك الذات ، فليس إلّا ملاحظة الموصوف مع الصفات.
ثمّ إنّ احتياج الواجب إلى ما هو غيره يوجب الإمكان كما قدّمنا.
وأمّا ما استدلّ به من كلام أمير المؤمنين علیه السلام ، فالمراد من نفي الصفات يمكن أن يكون صفات تكون هي غير الذات بالكلّية ، وليس ها هنا كذلك.
السادس : الاستدلال بلزوم ارتكاب ما هو معلوم البطلان ها هنا ...
وهو أنّ هذه المعاني لا هي عين الذات ، ولا غيرها ؛ وهذا غير معقول.
والجواب : إنّ المراد بعدم كون الصفات عين الذات ، أنّها مغايرة للذات في الوجود ؛ وكونها غير مغايرة لها ، أنّها صفات للذات ، فليس بينهما مغايرة كلّية بحيث يصحّ إطلاق كونها مغايرة للذات بالكلّية ، كما يقال : إنّ علم زيد ليس عين زيد ؛ لأنّه صفة له ، وليس غيره بالكلّية ؛ لأنّه قائم به ، وهذه الواسطة على هذا المعنى صحيحة ؛ لأنّ سلب العينيّة باعتبار ، وسلب الغيرية باعتبار آخر ، فكلا السلبين يمكن تحقّقهما معا.
* * *
ص: 273
لا ريب ببطلان قياس الغائب على الشاهد ؛ لأنّ القياس لا يصحّ إلّا بإثبات علّة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه ، وإثباتها في المقام باطل ؛ لاختلاف الشاهد والغائب بالحقيقة.
فيمكن أن تكون خصوصية الشاهد شرطا في الحكم ، أو كون خصوصية الغائب مانعة عنه.
على إنّ دعوى أنّ علّة كون الشاهد عالما هي العلم ، فتكون علّة كون الغائب عالما هي العلم ، فيكون علمه زائدا على ذاته ، موقوفة على اتّحاد علم الغائب وعلم الشاهد ، واتّحاد كيفية ثبوتهما ، ليصحّ إثبات العلّيّة لعلم الغائب.
فلو أريد إثبات معرفة حقيقة علم الغائب ، أو كيفية ثبوته له ، من علّيّته ، جاء الدور!
وكيف يصحّ الحكم بالاتّحاد وبصحّة القياس؟! والحال أنّ أهل هذا القياس قائلون باختلاف مقتضى صفات الشاهد والغائب ؛ لأنّهم يزعمون أنّ القدرة في الشاهد لا تؤثّر إيجادا ، والإرادة فيه لا تخصّص أصلا ، بخلافهما في الغائب.
وكذا الحال في بقية الصفات.
هذا ، ومن القبيح على الفضل وأصحابه ذكره لهذا الدليل الواضح البطلان ، مع علمه بإبطالهم له ؛ لأنّه أخذه من « المواقف » وشرحها ، وقد
ص: 274
أبطلاه ببعض ما ذكرناه وغيره (1).
وأقبح من ذلك قوله : « ثمّ نأخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف » ..
إذ كيف يأخذه منهما والمسألة عقليّة؟! إلّا أن يدّعي أنّ أخذه منهما بلحاظ دلالتهما ظنّا على المراد الشرعي المستلزم لحكم العقل! لكنّ الشأن في الدلالة ؛ لما سبق من أنّ المشتقّ إنّما يدلّ وضعا على الملابسة بين المبدأ والذات ، وهي أعمّ من أن تكون بنحو الحلول كما في الحيّ والميّت ، وبنحو الإيجاد كما في الخالق والرازق .. إلى غير ذلك ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.
فمن أين علم أنّ ملابسة الغائب للقدرة ، والعلم ، والحياة ، والإرادة ، ونحوها ، مثل ملابسة الشاهد لها؟! فلعلّها بالانتزاع ، ومجرّد اتّحاد اللفظ لا أثر له ، لا سيّما وقد دلّ النقل على إرادة الانتزاع ..
قال تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (2) ، فإنّه دالّ على إنّه تعالى مخصوص بالقدم ، فلا يمكن أن تكون ملابسته لتلك الصفات بالحلول في القدم.
وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) (3) ، فخطأ ظاهر ؛ إذ لا يقتضي إثبات العلم له تعالى أن يكون العلم أمرا خارجيا زائدا على ذاته ، فإنّه كما تثبت له الأمور الخارجية ، تثبت له الأمور الاعتبارية والانتزاعية ، كالملكية ، والوحدانية ، والقدم ، ووجوب
ص: 275
الوجود ، ونحوها.
فظهر أنّ عمدة الخصم واهية ، ولا سيّما مع النصّ بقوله تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) ، الذي تغافل الخصم عنه مع ذكر المصنّف له!
وأمّا إنكاره لكلّية الكبرى القائلة : « كلّ ممكن حادث » - بحجّة أنّ صفاته ليست عينه ولا غيره - فممّا لا معنى له ؛ لأنّ كون صفاته تعالى لا هو ولا غيره لا يقتضي إمكانها وقدمها ، على إنّه اصطلاح محض لا ينفي المغايرة الواقعية ، ولذا التزموا بزيادة صفاته تعالى وجودا على ذاته!
ثمّ إنّه لو كانت صفاته تعالى ممكنة زائدة على ذاته لاحتاجت إلى تأثيره فيها.
وتأثيره فيها إمّا بالاختيار ، وهو يستلزم الدور ، أو التسلسل ؛ لتوقّف إيجاد كلّ صفة على الحياة والعلم والقدرة والإرادة ، فإن توقّفت على أنفسها دار ، وإلّا تسلسل ، مع استلزام التسلسل لحدوثها.
وإمّا بالإيجاب - كما هو مذهبهم - فيلزم عدم مقدورية صفاته له تعالى مع إمكانها ؛ لأنّ ذاته تعالى واجبة ، فما يجب عنها لنفسها يمتنع أن تتعلّق به القدرة ، ويلزم أن يكون البسيط فاعلا وقابلا ، وهو ممتنع ؛ لتنافي الفعل والقبول مع وحدة النسبة حقيقة - كما في المقام - ، فإنّ نسبة الفعل قائمة بين المنتسبين اللذين وقعت بينهما نسبة القبول ، فالنسبة واحدة بالذات وإن تعدّدت بالاعتبار.
وإنّما قلنا بتنافيهما لتنافي لازميهما ؛ لأنّ نسبة الفعل ضرورية لكون الفاعل موجبا فرضا ، ونسبة القبول ممكنة بالإمكان الخاصّ ، إذ لا يتصوّر استقلال القابل بالقبول حتّى يمكن أن تكون نسبته ضرورية.
ص: 276
وأجيب بأنّ الجهة متعدّدة ، وهي جهة الفاعلية والقابلية ، فلا محذور في اجتماع الضرورة وعدمها ؛ لكونهما من جهتين.
وفيه : إنّ تعدّد الجهات لا يصحّح اجتماع المتنافيين في نسبة واحدة شخصية.
نعم ، إذا استوجب تعدّد الجهة ، تعدّد النسبة حقيقة ، لا اعتبارا فقط ، كان نافعا لهم ، لكنّه خلاف الواقع.
وبالجملة : يلزم من كونه تعالى موجبا أن يكون فاعلا قابلا ، فتكون نسبة الصدور بينه وبين صفاته واجبة وغير واجبة ؛ وهو ممتنع.
وأيضا : يلزم صدور المتعدّد - وهو صفاته - من الموجب الواحد من جميع الجهات - وهو ذاته تعالى - ، وهو باطل ؛ لأنّ كون الشيء موجبا وعلّة لشيء ، ليس إلّا لخصوصية فيه تقتضي الإيجاب والعلّيّة لذلك المعلول ، وإلّا لصحّ أن يكون كلّ شيء موجبا وعلّة لكلّ شيء.
ولا ريب أنّ فرض وحدة الموجب من جميع الجهات يستدعي وحدة خصوصيّته ، وتلك الخصوصية الواحدة لا يمكن أن تقتضي أمرين مختلفين ، لعدم إمكان مناسبتها لهما على اختلافهما ، ولا يتصوّر - بناء على زيادة الصفات - أن تكون في الذات البسيطة من جميع الجهات ، جهات اعتبارية ، بسبب تعدّدها تصدر الصفات المتعدّدة عن الذات ، وفرض تعدّد الجهات بتعدّد السلوب باطل ؛ لأنّ السلوب لا تستلزم تكثّر الواحد الحقيقي ولو اعتبارا.
ولو سلّم ، فليس في السلوب معان وخصوصيات تناسب تأثير الذات في صفاتها حتّى ينفع تعدّدها اعتبارا.
ص: 277
هذا ، ومن العجب التزامهم بكونه تعالى موجبا لصفاته مع قول أكثرهم بأنّ علّة الحاجة إلى التأثير هو الحدوث لا الإمكان!!
إذ بناء على هذا يمكن أن تكون صفاته تعالى موجودة في القدم بلا إيجاده ، بل بالاستقلال!
وأمّا ما أجاب به عن المحال الأوّل ، فباطل ؛ إذ لا أثر لتسمية القدماء ذوات في الكفر ، بل الأثر للقول بتعدّد القدماء ، ضرورة أنّهم يقولون بتعدّد الوجود حقيقة.
نعم ، يفترق الأشاعرة عن النصارى بأنّهم لا يقولون : إنّ القدماء آلهة ، بخلاف النصارى.
ولكن فيه : إنّ مذهب الأشاعرة يقتضي أن تكون حقيقة الإله مركّبة من الذات والصفات (1) ؛ لأنّ الذات المجرّدة خالية عن جهة الإلهية بدون الصفات ، فيقاربون النصارى ، بل لعلّهم متّفقون ، إذ لعلّ النصارى أيضا يجعلون الإله مركّبا ، ولذا يقولون : الثلاثة واحد ؛ فالتعدّد عند الفريقين بالأجزاء لا بالجزئيات ، واللّه أعلم.
وأمّا جوابه عن ثاني المحالات ، فلا ربط له بإشكال المصنّف ؛ لأنّ المصنّف رتّب إمكان الواجب على افتقاره إلى صفاته ، لا نقصه على استكماله بها ؛ لكن لمّا كانت عادته أخذ ما في « المواقف » وشرحها ، أورد لفظهما بعينه جهلا بعدم انطباقه على المورد (2)!
على إنّ إنكار النقص مكابرة ظاهرة! كيف؟! وحقيقة مذهبهم أنّ
ص: 278
ذاته تعالى بنفسها خالية عن جهات الكمال ؛ وإلّا لما احتاجت إلى الاستكمال!
ومجرّد كون المكمّل له : صفات له ، لا يؤثّر في دفع النقص عنه بعد أن كانت غيره في الوجود ، كما لا ترفع النقص الحقيقي عن الحجر لو اتّصف بها ، سواء كان اتّصافه بها من نفسه بالإيجاب أم من غيره ؛ غاية الأمر أنّه إذا كان من غيره يكون بقاء النقص أشدّ.
وأمّا جوابه عن ثالث المحالات ، فيظهر ما فيه بعد بيان مراد المصنّف رحمه اللّه ، فنقول :
قد ذكر في هذا المحال إشكالين :
الأوّل : إنّه بناء على كون العلم صفة زائدة وجودية ، يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى ، لتعدّد العلوم بتعدّد المعلومات ؛ والمعلومات غير متناهية.
أجاب الأشاعرة بأنّ العلم واحد ، والتعدّد في التعلّقات ، والتعلّقات إضافية (1) ، فيجوز لا تناهيها كما ذكره الخصم في المقام.
وهو غير صحيح ؛ لما بيّنه المصنّف من أنّ شرط العلم : المطابقة ؛ ومحال أن يطابق الشيء الواحد مطابقة حقيقية أمورا مختلفة ، فلا بدّ أن يكون المتعدّد هو العلوم لا التعلّقات فقط ، ولمّا لم يدر الخصم ما هذا وما الجواب عنه ، ترك التعرّض له!!
الثاني : إنّه لو كان العلم صفة وجودية زائدة على ذاته تعالى ، لزم أن
ص: 279
يكون علمه بعلمه زائدا على علمه ، وتتسلسل العلوم الموجودة إلى ما لا نهاية له.
وقد جمع المصنّف الإشكالين معا بما حاصله : إنّه يلزمهم إثبات علوم وجودية قائمة بذاته تعالى غير متناهية ، بتسلسلات غير متناهية ، فيثبت في كلّ مرتبة من مراتب التسلسل علوم غير متناهية ، وهو غير معقول.
وقد أحسّ الخصم بإشكال التسلسل ، ولكن لم يعرف وجهه!
فأجاب بأنّه لا يلزم التسلسل المحال ؛ لفقدان شرط الترتّب في الوجود ؛ فإنّه لو فهم كيفية التسلسل لما أنكر الترتّب.
وقد يجاب عن إشكال التسلسل بما يستفاد من « المواقف » وشرحها ، بأنّه تسلسل في الإضافات لا في الأمور الوجودية ؛ لأنّ علمه تعالى واحد ، وله تعلّقات بمعلومات لا تتناهى ، من جملتها علمه الذي يخالفه العلم به بالاعتبار دون الذات (1).
ويرد عليه : إنّه إذا اتّحد علمه تعالى ، وعلمه بعلمه ، واختلفا بالاعتبار ، كان الأولى في الجواب أن يقال : إنّه تسلسل في العلوم الاعتبارية ، إذ لا وجه للعدول عنه والجواب بأنّه تسلسل في الإضافات.
والحال : إنّ الإشكال إنّما هو في تسلسل العلوم ..
وكيف كان ، فكلا الجوابين باطل!
أمّا الجواب بأنّه تسلسل في الإضافات ، فلما عرفت من أنّ شرط العلم المطابقة ، ولا يعقل مطابقة العلم الواحد لمعلومات مختلفة ،
ص: 280
فلا يمكن الالتزام بتسلسل الإضافات والتعلّقات دون العلوم.
وأمّا الجواب بتسلسل العلوم الاعتبارية ، فلأنّه - بعد فرض أنّ علمه تعالى صفة وجودية - لم يدرك العقل فرقا بين علمه تعالى ، و [ بين ] (1) علمه بعلمه ، حتّى يقال : إنّ الأوّل حقيقي وغيره اعتباري ، فإنّ الجميع علمه ، وعلمه صفة وجودية عندهم ، والتحكّمات الباردة لا أثر لها عند ذي المعرفة.
ولا يرد النقض علينا بعلمه تعالى على مذهبنا ؛ لأنّ علمه تعالى عندنا عين ذاته ، وليس هناك إلّا انكشاف المعلومات له ، فلا يتصوّر اعتبار مطابقة ذاته للمعلومات.
نعم ، يمكن فرض مطابقة علمه لها بمجرّد الاعتبار الذي لا تضرّ معه المطابقة ، لأمور غير متناهية ، في مراتب غير متناهية.
وأمّا ما أجاب [ به ] (2) عن المحال الرابع ، فغير منطبق بكلا شقّي الترديد فيه على مراد المصنّف رحمه اللّه ، فإنّه أراد أنّه لو كانت الصفات زائدة على ذاته تعالى لزم التركيب في حقيقة الإله ؛ لأنّ الذات في نفسها - مع قطع النظر عن الحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات - خالية عن مقتضيات الإلهية ، فإذا كان الإله هو المركّب من الذات والصفات ، ولا إله إلّا اللّه ، كان اللّه سبحانه مركّبا ، والتركيب ينفي الوجوب ...
مع إنّ القول بإلهية المركّب - لا الذات - في نفسها كفر بالإجماع والضرورة.
وأمّا تخصيصه لكلام أمير المؤمنين علیه السلام بصفات هي غير الذات
ص: 281
بالكلّيّة ، فتخصيص بلا شاهد ، مع إنّه إنّما ينفع إذا كان القول بأنّ صفاته ليست عين ذاته ولا غيرها رافعا لإشكال التركيب والخروج عن الوجوب ، وهو بالضرورة ليس كذلك ؛ لأنّه اعتذار لفظي فقط لا يغيّر قولهم بزيادة الصفات على الذات الذي جاء الإشكال من قبله.
هذا ، ويمكن أن يشير أمير المؤمنين علیه السلام بكلامه المذكور إلى المحال الثاني ، ويكون حاصله :
من وصف اللّه سبحانه فقد قرنه بغيره ؛ وهو صفاته ..
ومن قرنه بغيره فقد ثنّاه بواجب آخر ؛ لما عرفت من أنّ صفاته تعالى لا يمكن أن تصدر عنه بالاختيار أو الإيجاب ، فتكون واجبة الوجود بنفسها ، أو منتهية إلى واجب آخر صفاته عين ذاته ، فيتعدّد الواجب ..
ومن عدّده وثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد صيّره ممكنا وجهله.
واللّه ووليّه أعلم.
وأمّا ما أجاب به عن المحال الخامس ، فحاصله :
إنّ قولنا : « الصفات ليست عين الذات ، ولا غيرها » اصطلاح لفظي ناشئ من اعتبارين.
وفيه : إنّا رأيناهم يجيبون به عن الإلزامات الحقيقية المبنيّة على مغايرة الذات للصفات حقيقة - كما سمعت بعضها - ، فكيف يكون اصطلاحا واعتبارا مجرّدا؟!
وبالجملة : إن أرادوا به الحقيقة ، فهو غير معقول ، كما بيّنه المصنّف رحمه اللّه .
وإن أرادوا به الاعتبار والاصطلاح ، فلا مشاحّة.
ص: 282
لكن ما بالهم يجيبون به عن الأمور المبنيّة على الحقائق؟! فلا بدّ أنّهم أخطأوا على أحد الوجهين!
* * *
ص: 283
ص: 284
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وفيه مطلبان :
وذهب الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته ، وهو عرض قائم بالباقي ، وأنّ اللّه تعالى باق ببقاء قائم بذاته (2).
ولزمهم من ذلك المحال - الذي تجزم الضرورة ببطلانه - من وجوه :
الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزمهم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال بالضرورة.
بيان الملازمة : إنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود ، كذا
ص: 285
يتحقّق في جانب العدم ؛ لإمكان تقسيم المستمرّ إليهما ، ومورد القسمة مشترك ؛ ولأنّ معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر.
وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار ، فإن احتاج كلّ منهما إلى صاحبه ؛ دار ..
وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر ، أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه ، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ؛ وهو باطل بالضرورة ..
وإن احتاج أحدهما [ إلى صاحبه ] خاصة ، انفكّ الآخر عنه ؛ وهو ضروري البطلان.
الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ؛ لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر ..
فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر - الذي فرض باقيا - كان كلّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه ؛ وهو عين الدور المحال.
وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره ، لزم قيام الصفة بغير الموصوف ؛ وهو غير معقول.
أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، فجاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني ، وهو خطأ ؛ لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا [ مجرّدا ] ، والبقاء لا يعقل إلّا عرضا قائما بغيره.
وأيضا : يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات ، وتكون الذات بالوصفيّة أولى منه ؛ لأنّه مجرّد مستغن عن الذات ، والذات محتاجة إليه ..
والمحتاج أولى بالوصفيّة من المستغني ، والمستغني أولى بالذاتية من
ص: 286
المحتاج ؛ ولأنّه يقتضي بقاء جميع الأشياء ؛ لعدم اختصاصه بذات دون أخرى.
الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا عن هذا البقاء ، كان وجوده في الزمان الثاني كذلك ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء وبعض أفرادها غنيا عنه.
* * *
ص: 287
وقال الفضل (1) :
اتّفق المتكلّمون على إنّه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أو لا؟
فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه ، وجمهور معتزلة بغداد (2) إلى أنّه صفة ثبوتية زائدة على الوجود ، إذ الوجود متحقّق دونه [ أي دون البقاء ] كما في أوّل الحدوث ، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء (3).
ونفى كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة ، كالقاضي أبي بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الرازي (4) ، وجمهور معتزلة
ص: 288
البصرة (1) ، وقالوا : البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني ، لا أمر زائد عليه (2).
ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري ، فنقول : أورد عليه ثلاث إيرادات :
الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ... إلى آخر الدليل.
ص: 289
والجواب : إنّ البقاء عني به استمرار الوجود ، لا الاستمرار المطلق حتّى يلزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ، فاندفع ما قال.
الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ...
ثمّ ذكر أنّ الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ...
وهذا الجواب افتراء عليهم! (1).
بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه ، وما قيل [ من ] أنّ وجوده في الزمان الثاني معلّل به ، ممنوع ؛ غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلّا مع البقاء ، وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه ، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معا على سبيل الاتّفاق (2).
فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور.
الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا ، كان في الثاني كذلك.
والجواب : إنّ جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزمان الثاني ، غنيّ عنه في الزمان الأوّل ، فلا يختلف أفراد الطبيعة في الاحتياج والغنى الذاتيّين ..
وهو حسب أنّ الوجود في الزمان الأوّل فرد ، وفي الزمان الثاني فرد آخر ، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه في شيء من المعقولات!
ص: 290
ما نقله عن الأشعري وأتباعه من أنّ تحقّق الوجود في أوّل الحدوث دون البقاء ، يدلّ على تجدّد صفة ثبوتية زائدة على الوجود هي البقاء ، ضروري البطلان ؛ لجواز أن يكون البقاء عين الوجود المستمرّ لا صفة زائدة متجدّدة.
ولو سلّم ، فلا يدلّ على كونها وجودية ، بل يجوز أن تكون اعتبارية - كما هو الحقّ - كمعيّة الباري سبحانه مع الحوادث المتجدّدة بتجدّد الحوادث.
وذكر شارح « المواقف » الجواب الأخير وعلم به الخصم (1) ، فإنّ ما ذكره من كيفية الخلاف قد أخذه من « المواقف » وشرحها (2) ، فكان الأحرى به تركه.
إنّ حقيقة البقاء هي الاستمرار ، لكن إذا كان البقاء صفة للوجود ، كان عبارة عن استمرار الوجود من باب تعيين المورد ، لا أنّ حقيقة البقاء هي خصوص استمرار الوجود ، فإنّه لا يدّعيه عاقل ، وذلك نظير الوجود ، فإنّه عبارة عن الثبوت ، فإذا كان وصفا لزيد ، كان عبارة عن ثبوته ، ولا يصحّ أن يقال : إنّ معنى الوجود ثبوت زيد ؛ فحينئذ يتمّ كلام المصنّف.
ص: 291
وأمّا ما نقله عن الأشاعرة في الجواب عن الإيراد الثاني ، ففيه : إنّه لو لم تحتج الذات إلى البقاء ، وجاز أن يكون تحقّقهما على سبيل الاتّفاق ، لجاز انفكاك كلّ منهما عن صاحبه ؛ وهو غير معقول ؛ لا من طرف الذات ؛ لاستلزامه جواز أن لا تبقى ، فتكون ممكنة ؛ ولا من طرف البقاء ؛ لأنّ افتقار العرض إلى المعروض ضروري.
وأيضا : لو جاز أن يكون تحقّقهما اتّفاقيا ، لكان البقاء مستغنيا في نفسه عن الذات ، فيكون جوهرا ، وهو غير معقول ؛ ويكون واجبا إن استغنى عن غيرها أيضا ؛ أو ممكنا إن احتاج إليه ؛ ولا بدّ أن ينتهي إلى واجب آخر ، فيكون مع الذات واجب آخر ، ويلزم التركيب ويخرجان عن الوجوب.
وأيضا : لو استغنى البقاء عنها ، لكانت نسبته إلى جميع الأشياء على حدّ سواء ، فيثبت لجميع الأشياء ولا يختصّ بالذات.
فظهر أنّ ما نقله الخصم مشتمل على أكثر المفاسد التي ذكرها المصنّف وزيادة - وإن كان بعض ما زدناه واردا أيضا على ما نقله المصنّف عنهم - فأيّ حاجة للمصنّف في تغيير الجواب؟!
لكنّ الخصم لمّا لم يعرف غير « المواقف » ، يرى أنّ كلّ ما ليس فيها كذب ، على إنّ جواب « المواقف » وشرحها - الذي ذكره - مشتمل على ما نقله المصنّف ؛ لأنّهما إذا أجازا أن يكون اجتماع الذات والبقاء اتّفاقيا ، فقد قالا بعدم حاجة البقاء إلى المحلّ.
وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الثالث ، فأجنبيّ عن الإشكال .. لأنّ صريح كلام المصنّف هو أنّ الوجود المستمرّ لا يصحّ أن يكون في الزمن الأوّل غنيا عن البقاء ، وفي الزمن الثاني محتاجا إليه ..
ص: 292
وقد تخيّل أنّ مراد المصنّف هو اختلاف أفراد الوجود ، فبعضها غني عن البقاء في الزمن الأوّل ، محتاج إليه في الزمن الثاني ، والبعض الآخر ليس كذلك ، فأشكل عليه بعدم اختلاف أفراد الوجود بالغنى والاحتياج.
نعم ، مبنى الإشكال في كلام المصنّف على كون الوجود المستمرّ فردين للوجود : أحدهما : الوجود في الزمن الأوّل ، وثانيهما : الوجود في الزمن الثاني ..
فإنّه حينئذ لا يمكن احتياج ثانيهما إلى البقاء مع غنى أوّلهما عنه ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء ، وبعض أفرادها مستغنيا عنه ، وإنّما بنى الإشكال على كونهما فردين ؛ لأنّ التعدّد مقتضى قول الأشاعرة باختلاف الوجود في الزمانين بالغنى والحاجة إلى صفة البقاء ذاتا (1) ، فيكونان فردين من طبيعة واحدة حسب الفرض.
ولو بنى المصنّف رحمه اللّه الإشكال على القول بأنّ الوجود المستمرّ فرد واحد لا تزايد فيه ولا اشتداد ، لكان بطلان مذهب الأشعري أظهر ، إذ يمتنع أن يكون الفرد الواحد مختلفا بذاته بالاستغناء والحاجة في زمانين.
وقد كان الأولى بالمصنّف أن يذكر بطلان مذهب الأشعري على كلا الوجهين.
* * *
ص: 293
ص: 294
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :
الحقّ ذلك ؛ لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، فلا يكون واجبا ؛ للتنافي الضروري بين الواجب والممكن.
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء (2).
وهو خطأ لما تقدّم (3) ؛ ولأنّ البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثّره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى ، مع إنّ ذاته محتاجة إلى البقاء ، فيدور.
وإن قام بغيره كان وصف الشيء حالّا في غيره ؛ ولأنّ غيره محدث.
وإن قام البقاء بذاته كان مجرّدا.
وأيضا : بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرّق العدم إلى صفاته تعالى ؛ ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ، فيكون له بقاء آخر ، ويتسلسل.
ص: 295
وأيضا : صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.
* * *
ص: 296
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في ما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل ..
قوله : « لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ».
قلنا : الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا.
قوله : « ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ».
قلنا : لا يلزم التكثّر ؛ لأنّ الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلّيّة.
قوله : « احتاج البقاء إلى ذاته ، وذاته محتاجة إلى البقاء ، فيلزم الدور ».
قلنا : مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان معا كما سبق (2) ، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه ، بل هما متحقّقان معا.
قوله : « بقاؤه باق ».
قلنا : مسلّم ، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء ، كاتّصاف الوجود بالوجود.
قوله : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ».
قلنا : ممنوع ؛ لأنّا قائلون بقدمه.
قوله : « يكون له بقاء آخر ، ويتسلسل ».
قلنا : مندفع بما سبق من أنّ بقاء البقاء نفس البقاء.
ص: 297
قوله : « صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى ».
قلنا : قد سبق أنّ الصفات ليست مغايرة للذات بالكلّيّة ، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات ، وتبقى الصفات ببقاء الذات ، فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.
ص: 298
ما أجاب به عن لزوم إمكان الواجب مبنيّ على قولهم : إنّ صفاته ليست غير ذاته بالكلّيّة.
وقد عرفت أنّه لا طائل تحته ، إذ لا يرجع إلّا لإصلاح لفظي ، فإنّهم يقولون بزيادة الصفات في الوجود ، فتغاير الذات بالكلّيّة ، فيلزم إمكان الذات ، لحاجتها في الوجود إلى غيرها ، وهو البقاء ، ويلزم التكثّر.
وأمّا ما أجاب به عن لزوم الدور ، من عدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان على سبيل الاتّفاق ، فقد عرفت في المبحث السابق ما فيه من المفاسد الكثيرة.
وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « بقاؤه باق » ، من أنّ بقاء البقاء عينه ، ففيه :
إنّه لو ساغ ذلك فلم لا يكون بقاء الذات عينها؟! مع إنّه باطل على مذهبهم ؛ لأنّهم زعموا أنّ القول بالعينية راجع إلى النفي المحض (1) ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن يكون تعالى عالما لا علم له ، وقادرا لا قدرة له ، وباقيا لا بقاء له ، وهكذا ...
فإذا قالوا : إنّ بقاء البقاء عينه ، كان البقاء باقيا لا بقاء له ، وهو باطل بزعمهم (2).
ص: 299
وأيضا : دليلهم السابق الذي استدلّوا به على إنّ البقاء صفة ثبوتية زائدة على الذات وارد مثله في بقاء البقاء ..
فيقال : تحقّق البقاء في أوّل حدوثه دون بقاء البقاء ، دليل على تجدّد صفة بقاء البقاء وزيادتها على البقاء ، فيلزمهم أيضا أن يكون بقاء البقاء أيضا صفة ثبوتية متجدّدة زائدة على البقاء ، لا أنّها عينه.
وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث » ..
فهو دالّ على إنّه لم يفهم مراده ، فإنّه لم يدّع أنّ البقاء حادث حتّى يجيب بأنّا قائلون بقدمه ، بل أراد أن يستدلّ على قوله : « بقاؤه باق » بأمرين :
الأوّل : امتناع طرق العدم إلى صفاته.
الثاني : إنّه لو جاز عدم بقاء البقاء ، لكان البقاء حادثا ؛ لأنّ ما يجوز عدمه حادث ، ولو كان البقاء حادثا لكان الواجب محلّا للحوادث ، فلا بدّ أن يكون البقاء باقيا ، وهكذا .. ويتسلسل.
وغرض الخصم في ما أجاب به عن التسلسل أنّه تسلسل في الاعتباريات ، وهو ليس بمحال ؛ لأنّ بقاء البقاء نفس البقاء واقعا وإن خالفه اعتبارا.
وفيه : إنّه مستلزم لكون البقاء أيضا اعتباريا ، فلم قالوا : إنّه صفة وجوديّة؟! (1) وذلك لأنّ التماثل في الأفراد المتسلسلة يستدعي وحدة حقيقتها.
ص: 300
قال في « شرح المواقف » بعد ذكر الماتن لهذا الجواب - أعني أنّ بقاء البقاء نفسه - : « ويرد على هذا الجواب أنّ ما تكرّر نوعه يجب كونه اعتباريا كما مرّ » (1).
ولا يخفى أنّ ما نسبه الخصم إلى قومه من قدم البقاء غير صحيح بمقتضى تعليلهم لزيادة البقاء على الذات ، فإنّهم علّلوه - كما سبق - بأنّ الوجود متحقّق دونه كما في أوّل الحدوث ؛ وهذا يدلّ على اعتبار المسبوقية بالعدم في ذات البقاء ، وهو يقتضي حدوثه.
وأمّا ما أجاب به عن إيراد المصنّف الأخير ، ففيه ما عرفت سابقا من أنّ نفي المغايرة اصطلاح محض ، فإنّهم إذا قالوا بزيادة الصفات على الذات في الوجود كانت المغايرة بينهما كلّيّة ، فيكون بقاء البقاء صفة للبقاء لا للذات ، وقائما به لا بالذات ، فيلزم قيام المعنى بالمعنى.
وهذا من المصنّف إلزامي لهم ، من حيث إنّ البقاء عندهم عرض وجودي ، وزعمهم أنّ العرض لا يقوم بالعرض (2) - كما ستعرفه قريبا إن شاء اللّه تعالى - ، وإلّا فهو لا يمنع من قيام العرض بالعرض - كما ستعرف -.
على إنّ كلّ بقاء عند المصنّف والإمامية أمر اعتباري (3) ، فيجوز أن يفرض قيامه بمثله حتّى لو منعنا قيام العرض بالعرض.
* * *
ص: 301
ص: 302
قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - (1) :
تشتمل على حكمين :
البقاء يصحّ على الأجسام (2) [ بأسرها ]
وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك ، وخالف فيه النظّام من الجمهور ، فذهب إلى امتناع بقاء الأجسام بأسرها ، بل كلّ آن يوجد فيه جسم ما ، يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده ، ولا يمكن أن يبقى جسم من الأجسام - فلكيّها وعنصريّها ، بسيطها ومركّبها ، ناطقها وغيره - آنين (3).
ولا شكّ في بطلان هذا القول ؛ لقضاء الضرورة بأنّ الجسم الذي شاهدته حال فتح العين ، هو الذي شاهدته قبل تغميضها ، والمنكر لذلك
ص: 303
سوفسطائي.
بل السوفسطائي لا يشكّ في أنّ بدنه الذي كان بالأمس هو بدنه الذي كان الآن ، وأنّه لم يتبدّل بدنه من أوّل لحظة إلى آخرها ؛ وهؤلاء جزموا بالتبدّل.
* * *
ص: 304
وقال الفضل (1) :
الجسم عند النظّام مركّب من مجموع أعراض مجتمعة (2) ، والعرض لا يبقى زمانين (3) لما سنذكر بعد هذا ، فالجسم أيضا يكون كذلك عنده.
والحقّ أنّ ضرورية موجودية البقاء ، وعدم جواز قيام العرض بالعرض (4) ، دعانا إلى الحكم بأنّ الأعراض لا تبقى زمانين ، وليست هذه الضرورة حاصلة في الأجسام ؛ لجواز قيام البقاء بالجسم.
وأمّا ما ذهب إليه النظّام أنّ الجسم مجموع الأعراض المجتمعة ، فباطل ؛ فمذهبه في عدم صحّة البقاء على الأجسام يكون باطلا ، كما ذكره.
* * *
ص: 305
قد عرفت أنّ دعوى موجودية البقاء زائدا على الوجود من أوضح الأمور بطلانا ، وأكثرها فسادا ، حتّى عند جملة من الأشاعرة (1) ، فكيف يدّعي ضرورة موجوديّته؟!
وأعجب منها دعوى الضرورة في عدم جواز قيام العرض بالعرض! والحال أنّ قيام البطء والسرعة بالحركة من أوضح الضروريات (2) ؛ وسيظهر لك الحال في المبحث الآتي إن شاء اللّه تعالى.
فمذهب الأشاعرة ، من أنّ العرض لا يبقى زمانين ، مخالف للضرورة.
وأعظم منه مخالفة لها مذهب النظّام ؛ لاشتماله على مذهب الأشاعرة ، وعلى إنّ الجسم مركّب من الأعراض.
* * *
ص: 306
قال المصنّف - عطّر اللّه مثواه - (1) :
ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأعراض غير باقية ، بل كلّ لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون ، وحصول في مكان ، وحياة ، وعلم ، وقدرة ، وتركيب ، وغير ذلك من الأعراض ، فإنّه لا يجوز أن يوجد آنين متّصلين ، بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجوده (2).
وهذه مكابرة للحسّ ، وتكذيب للضرورة الحاكمة بخلافه ، فإنّه لا حكم أجلى عند العقل من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ، وأنّه لم يعدم ولم يتغيّر.
وأيّ حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه؟!
ثمّ إنّه يلزم منه محالات :
ص: 307
الأوّل : أن يكون الإنسان وغيره يعدم في كلّ ان ثمّ يوجد في آن بعده ؛ لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم ، بل لا بدّ في تحقّق كونه إنسانا من أعراض قائمة بتلك الجواهر ، من لون ، وشكل ، ومقدار ، وغيرها من مشخّصاته.
ومعلوم بالضرورة أنّ كلّ عاقل يجد نفسه باقية لا تتغيّر في كلّ آن ، ومن خالف ذلك كان سوفسطائيا.
وهل إنكار السوفسطائيّين للقضايا الحسّية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كلّ أحد بقاء ذاته وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزمان؟!
فلينظر المقلّد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها إمامه الذي قلّده ، ويعرض على عقله حكمه بها ، وهل يقصر حكمه ببقائه ، وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات؟!
ويعلم أنّ إمامه الذي قلّده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة ، فقد قلّد من لا يستحقّ التقليد ، وأنّه قد التجأ إلى ركن غير شديد ، وإن لم يقصر ذهنه فقد غشّه وأخفى عنه مذهبه ...
وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من غشّنا فليس منّا » (1)
الثاني : إنّه يلزم تكذيب الحسّ الدالّ على الوحدة وعدم التغيّر ، كما تقدّم.
الثالث : إنّه لو لم يبق العرض إلّا آنا واحدا لم يدم نوعه (2) ، وكان
ص: 308
السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر ، بل جاز أن يحصل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شيء من الألوان ، إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول ، لكنّ دوامه يدلّ على وجوب بقائه.
الرابع : لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ ، لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ.
وهذا الدليل لا يتمشّى ؛ لانتقاضه بالأعراض عندهم ، فيكون باطلا ، فلا يمكن الحكم ببقاء شيء من الأجسام آنين ، لكن الشكّ في ذلك عين السفسطة.
الخامس : إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي ضروري ، وإلّا لم يبق وثوق بشيء من القضايا البديهية.
وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود ، فيستغني عن المؤثّر فيسدّ باب إثبات الصانع تعالى ، بل ويجوز انقلاب واجب الوجود إلى الامتناع (1) ، وهو ضروري البطلان.
وإذا تقرّر ذلك فنقول :
الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، فتكون كذلك في الآن الثاني ، وإلّا لزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ، وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء.
وقد احتجّوا بوجهين :
ص: 309
الأوّل : البقاء عرض فلا يقوم بالعرض (1).
الثاني : إنّ العرض لو بقي لما عدم ؛ لأنّ عدمه لا يستند إلى ذاته ، وإلّا لكان ممتنعا ، ولا إلى الفاعل ؛ لأنّ أثر الفاعل الإيجاد ، ولا إلى طريان الضدّ ؛ لأنّ طريان الضدّ على المحلّ مشروط بعدم الضدّ الأوّل عنه.
فلو علّل ذلك العدم به دار ، ولا إلى انتفاء شرطه ؛ لأنّ شرطه الجوهر لا غير وهو باق ، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض (2).
والجواب عن الأوّل : المنع من كون البقاء عرضا زائدا على الذات ، سلّمنا ؛ لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله ، فإنّ السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة وهي عرض.
وعن الثاني : إنّه لم لا يعدم لذاته في الزمان الثالث ، كما يعدم عندكم لذاته في الزمان الثاني؟! سلّمنا ؛ لكن جاز أن يكون مشروطا بأعراض لا تبقى ، فإذا انقطع وجودها عدم ، سلّمنا ؛ لكن يستند إلى الفاعل ونمنع انحصار أثره في الإيجاد ، فإنّ العدم ممكن لا بدّ له من سبب ، سلّمنا ؛ لكن يعدم بحصول المانع ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضدّ الأوّل ، بل الأمر بالعكس.
وبالجملة : فالاستدلال على نقيض الضروري باطل ، كما في شبه السوفسطائية ، فإنّها لا تسمع لمّا كانت الاستدلالات في مقابل الضرورات.
* * *
ص: 310
وقال الفضل (1) :
ذهب الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة إلى أنّ العرض لا يبقى زمانين (2).
فالأعراض جملتها غير باقية عندهم ، بل هي على التقضّي والتجدّد ينقضي منها واحد ويتجدّد آخر مثله (3).
وتخصيص كلّ من الآحاد المتقضّية المتجدّدة بوقته الذي وجد فيه ، إنّما هو للقادر المختار ، فإنّه تخصيص بمجرّد إرادته كلّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه ، وإن كان يمكن خلقه قبل ذلك الوقت وبعده.
وإنّما ذهبوا إلى ذلك ؛ لأنّهم قالوا : بأنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث ، فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصانع ، بحيث لو جاز عليه العدم - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - لما ضرّ عدمه في وجوده ، فدفعوا ذلك بأنّ شرط بقاء الجوهر هو العرض.
ولمّا كان هو متجدّدا محتاجا إلى المؤثّر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثّر بواسطة احتياج شرطه إليه ، فلا استغناء أصلا.
واستدلّوا على هذا المدّعى بوجوه :
منها : إنّها لو بقيت لكانت باقية متّصفة ببقاء قائم بها ، والبقاء عرض ،
ص: 311
فيلزم قيام العرض بالعرض ، وهو محال عندهم ؛ هذا هو المدّعى والدليل.
وذهبت الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والإمامية إلى بقاء الأعراض (1).
ودليلهم - كما ذكر هذا الرجل - أنّ القول بخلافه مكابرة للحسّ وتكذيب للضرورة.
والجواب : أن لا دلالة للمشاهدة ، على إنّ المشاهد أمر واحد مستمرّ ؛ لجواز أن يكون أمثالا متواردة بلا فصل ، كالماء الدافق من الأنبوب ، يرى أمرا واحدا مستمرّا بحسب المشاهدة ، وهو في الحقيقة أمثال تتوارد على الاتّصال ، فمن قال : إنّه أمثال متواردة ، كان ينبغي - على ما يزعمه هذا الرجل - أن يكون سوفسطائيا منكرا للمحسوسات.
وكذا جالس السفينة ، إذا حكم بأنّ الشطّ ليس بمتحرّك ، كان ينبغي أن يحكم بأنّه سوفسطائي ؛ لأنّه يحكم بخلاف الحسّ.
وقد صوّرنا قبل هذا مذهب السوفسطائية (2) ، ويا ليت هذا الرجل كان لم يعرف لفظ السوفسطائي ، فإنّه يطلقه في مواضع لا ينبغي أن يطلقه فيه وهو جاهل بمعنى السفسطة.
ثمّ ما قال : « أن لا حكم عند العقل أجلى من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ».
فنقول : حكم العقل ها هنا مستند إلى حكم الحسّ ، ويمكن ورود الغلط للحسّ ؛ لأنّه كان يحسب المثل عين الأوّل ، كما ذكرنا في مثال الماء الدافق من الأنبوب.
ص: 312
وكثير من الأحكام يكون عند العقل جليّا بواسطة غلط الحسّ ، فمن خالف ذلك الحكم كيف يقال : إنّه مكابر للضرورة؟!
ثمّ ذكر خمس محالات ترد على مذهبهم :
الأوّل : « إنّ الإنسان وغيره يعدم في كلّ آن ، ثمّ يوجد في آن بعده ؛ لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد ، بل لا بدّ في إنسانيّته من اللون والشكل ، وكلّ هذه أعراض ، ومعلوم أنّ كلّ أحد يجد من نفسه أنّها باقية لا تتبدّل في كلّ آن ، ومخالفة هذا سفسطة ».
والجواب : إنّ الأشخاص في الوجود الخارجي يتمايزون بهويّاتها لا بمشخّصاتها كما يتبادر إليه الوهم في الهوية الخارجية ، التي بها الإنسان إنسان باق في جميع الأزمنة ، وإن توارد عليه الأمثال من الأعراض.
فهذه المشخّصات ليست داخلة في ذاته وهويّته العينية ، حتّى يلزم من تبدّلها تبدّل الإنسان ، فذات الإنسان وهويّته المشخّصة له باقية في جميع الأحوال ويتوارد عليه الأعراض ، وأيّ سفسطة في هذا؟! والطامات والخرافات التي يريد أن يميل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غير ملتفت إليها!
الثاني : « إنّه يلزم تكذيب الحس ».
وقد عرفت جوابه.
الثالث : « إنّه لو لم يبق العرض إلّا آنا واحدا لم يلزم تأبيد نوعه ، فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر » .. إلى آخر الدليل.
والجواب : إنّ السواد إذا فاض على الجسم أعدّ الجسم لأن يفيض عليه سواد مثله ، والمفيض للسواد هو الفاعل المختار ، لكن جرى عادته بإفاضة المثل بوجود الاستعداد وإن جاز التخلّف ، ولزوم النوع يدلّ على
ص: 313
وجوب إفاضة المثل.
وهذا لا ينافي قاعدة القوم في إسناد الأشياء إلى اختيار الفاعل القادر.
الرابع : « لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ ، لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ ».
والجواب : إنّ الأصل بقاء كلّ موجود مستمرّ ، فالحكم ببقاء الجسم لأنّه على الأصل ، وتخلّف حكم الأصل في الأعراض لدليل خارجي ، فعدم الحكم ببقاء الأعراض لم يكن منافيا للحكم ببقاء الأجسام.
وأمّا ما قال : « إنّ الشكّ في ذلك عين السفسطة ».
فقد مرّ جوابه.
الخامس : « إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري » .. إلى آخر الدليل.
والجواب : إنّ الأعراض كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، وكذلك في الآن الثاني.
قوله : « وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء ».
قلنا : إمكان الوجود غير إمكان البقاء ، فجاز أن يكون العرض ممكن الوجود في الآن الثاني ولا يكون ممكن البقاء ، وليس على هذا التقرير شيء من الانقلاب الذي ذكره ، وهذا استدلال في غاية الضعف كما هو ديدنه في الاستدلالات المزخرفة.
ثمّ إنّ ما ذكر من الدليلين اللذين احتجّ بهما الأشاعرة ، فأوّل الدليلين قد ذكرناه.
ص: 314
وما أورد عليه من منع امتناع قيام العرض بالعرض ، ومنع كون البقاء زائدا وثبوتهما مذهب للشيخ الأشعري ، وقد استدلّ عليهما في محلّه ، فليراجع.
وثاني الدليلين مدخول بما ذكر وبغيره من الأشياء ، وقد ذكره علماء السنّة والأشاعرة ، منهم صاحب « المواقف » وغيره ، فاعتراضاته على ذلك الدليل منقولة من كتب أصحابنا.
* * *
ص: 315
لا يخفى أنّه إنّما ذكر قوله : « إنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث » لزعمه - تبعا لغيره - أنّ ذلك مبرّر لقولهم بعدم بقاء الأعراض ؛ لأنّ دفع لزوم استغناء العالم - بناء على كون سبب الحاجة هو الحدوث - يتوقّف على القول بتجدّد العرض وعدم بقائه.
وفيه - مع فساد المبنى - : منع التوقّف ؛ لأنّ الباقي حادث وإن لم يكن متجدّدا ، فيحتاج إلى المؤثّر.
نعم ، لو أريد بالحدوث الخروج من العدم إلى الوجود ، كان للالتجاء إلى القول بعدم بقاء الأعراض وجه.
وأمّا ما أنكره من اعتبار حكم المشاهدة ، فخطأ ؛ فإنّا لو جوّزنا الغلط على جميع الحواسّ في جميع الأوقات ، بإحساسها لبقاء الأعراض ، ولم نعتبر دلالة المشاهدة ، لم يمكن أن نستفيد حكما عقليا من الحسّ ؛ لأنّ الأحكام العقليّة النظرية والضرورية لا تؤخذ إلّا من الحسّ الظاهري ، أو الحسّ الباطني بواسطة الظاهري - كما عرفته في أوّل الكتاب (1) - ، فلو لم نعتبر مثل تلك المشاهدة العامة لم يصحّ التعويل على حسّ ظاهري.
وأمّا ما استشهد به من غلط الحسّ في الماء الدافق من الأنبوب وجالس السفينة ، فخطأ آخر ؛ لأنّ الحسّ لا يحكم بوحدة الماء الدافق كما يحكم بوحدة السواد في الثوب ، بل يرى مياها متّصلة متدافعة تسمّى في
ص: 316
العرف ماء واحدا باعتبار اتّصالها وصدق اسم الماء على المتّصل ، كماء الشطّ.
ولم سلّم ، فالعقل الضروري يحكم بأنّه من توارد الأمثال ، وأنّ الوحدة خيالية بسبب إدراك البصر أو غيره من الحواسّ للمادّة وتدافعها.
وأمّا جالس السفينة ، فهو وإن رأى أحيانا سكون الماء لاتّفاق السفينة والماء في السير ، لكنّ البصر نفسه يراه متحرّكا في أغلب الأوقات ، بل يراه متحرّكا فعلا عند التدقيق ، فيحكم العقل بأنّ ذلك السكون الاتّفاقي خيالي ؛ فكيف يقاس على ذلك مشاهدة البصر لوحده ، مثل السواد في الثوب ، التي لا يخالفها الحسّ في وقت أو حال؟!
وبالجملة : لا ننكر غلط الحسّ أحيانا ، ولكن ننكر عدم اعتباره في أجلى الأمور وأوضحها عند العقل.
وأمّا ما صوّر به سابقا مذهب السوفسطائية ، فقد عرفت فيه الكلام (1).
وأمّا ما أجاب به عن أوّل المحالات ، من أنّ الأشخاص تتمايز بهويّاتها لا بمشخّصاتها ... ففيه :
إنّ إيراد المصنّف إنّما هو من باب الإلزام لهم ، إذ يقولون بالجواهر الفردة (2) ، فلم يكن لذات الإنسان هويّة واحدة ، وكذلك كلّ جسم ، فلا بدّ أن يكون تمايز الأفراد بالمشخّصات الخارجة.
أمّا إذا التزم بتمايز الأشخاص بتمايز الهويّات ، فلينكر الجواهر
ص: 317
الفردة ، إذ يكون الشخص موجودا واحدا ، لا مركّبا من موجودات متعدّدة ، هي الجواهر الفردة.
وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن ثاني المحالات ، فقد عرفت ما فيه.
وأمّا جوابه عن ثالثها ، ففيه :
إنّ الجسم لذاته مستعدّ لإفاضة كلّ لون عليه ، فلو فرض أنّ اللون لا يبقى به ، كان بعد زواله عنه على استعداده لعروض أي لون عليه ، لا خصوص ما عرض أوّلا ، فدعوى ثبوت العادة على إفاضة خصوص المثل لأجل اختصاص الاستعداد به خطأ.
وأمّا ما أجاب به عن رابع المحالات ، ففيه :
إنّه لا مستند للأصل الذي ادّعاه إلّا ظهور حال المستمرّ في البقاء بمقتضى ما يشاهده الحسّ ، وحينئذ فإن أفاد هذا الظهور اليقين بالبقاء فلا وجه لمخالفته في الأعراض ، وإن لم يفد اليقين فلا يمكن الحكم اليقيني لهم أيضا ببقاء شيء من الأجسام ، والشكّ فيه عين السفسطة.
مضافا إلى أنّه لا دليل لهم على التخلّف عن الأصل في الأعراض سوى ثلاثة أدلّة باطلة - حتّى عندهم - ، واختار المصنّف للذكر أقواها ، وهو : الدليلان اللذان أبطلهما (1).
وأمّا ما أجاب به عن خامسها ، من أنّ إمكان الوجود غير إمكان البقاء ، ففيه :
إنّ البقاء عبارة عن استمرار الوجود - كما ذكره نفسه سابقا -
ص: 318
وبالضرورة أنّه إذا امتنع استمرار الوجود ، امتنع الوجود في الزمن الثاني وإن اختلفا مفهوما ، بل جعل البقاء سابقا من الأمثال المتواردة ، فإذا فرض إمكان الوجود في الزمن الأوّل وامتناع البقاء ، لزمه امتناع الوجود في الزمن الثاني ولزم الانقلاب ، كما ذكره المصنّف.
فلا بدّ أن نقول : الأعراض متى كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، كانت ممكنة البقاء والوجود في الآن الثاني ، وإلّا لزم الانقلاب.
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى دليلي الأشاعرة ، فليس فيه إلّا تسليم بطلان ثانيهما ، والإحالة في ترويج أوّلهما على غيره ، مع علمه بأنّه قد أبطله في « المواقف » وشرحها (1) بما أبطله به المصنّف.
وأمّا ما زعمه من أنّ المصنّف نقل اعتراضاته على الدليل الثاني عن الأشاعرة ، كصاحب « المواقف » وغيره ، فهو جهل ؛ لأنّ « المواقف » وغيرها - ممّا قارنها زمانا أو تأخّر عنها - متأخّرة عن زمان المصنّف (2).
وإنّما حرّر صاحب « المواقف » التي هي أجمع كتاب لهم ، تلك الاعتراضات وغيرها آخذا من المصنّف رحمه اللّه وغيره من علماء الإمامية ، وإلّا فالأشاعرة غالبا مقلّدون لشيخهم الأشعري تقلّيدا أعمى.
* * *
ص: 319
ص: 320
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ذهب بعض الأشاعرة إلى أنّ القدم وصف ثبوتي قائم بذات اللّه تعالى (2).
وذهبت الكرّامية إلى أنّ الحدوث وصف ثبوتي قائم بذات الحادث (3).
وكلا القولين باطل ؛ لأنّ القدم لو كان موجودا مغايرا للذات ، لكان إمّا قديما ، أو حادثا ..
فإن كان قديما كان له قدم آخر ويتسلسل.
وإن كان حادثا كان الشيء موصوفا بنقيضه ، وكان اللّه تعالى محلّا
ص: 321
للحوادث ، وكان اللّه تعالى قبل حدوثه ليس بقديم ...
والكلّ معلوم البطلان.
وأمّا الحدوث ، فإن كان قديما لزم قدم الحادث الذي هو شرطه ، وكان الشيء موصوفا بنقيضه ؛ وإن كان حادثا تسلسل.
والحقّ : إنّ القدم والحدوث من الصفات الاعتباريّة.
* * *
ص: 322
وقال الفضل (1) :
ليس كون القدم وصفا ثبوتيا مذهب الشيخ الأشعري ، وما اطّلعت على قوله فيه.
وأمّا قوله : « لو كان القدم وصفا ثبوتيا ، فإمّا أن يكون قديما فيكون له قدم آخر ويتسلسل ».
فالجواب عنه : إنّا لا نسلّم لزوم التسلسل ، إذ قد يكون قدم القدم بنفسه.
وأيضا : جاز أن يكون قدم القدم أمرا اعتباريا ، فإنّ وجود فرد من أفراد الطبيعة لا يستلزم وجود جميعها.
* * *
ص: 323
من المضحك اختلاف كلامه في سطر واحد ، فإنّه زعم أنّ كون القدم وصفا ثبوتيا ليس مذهب الأشعري ، ثمّ عقّبه بقوله : « ما اطّلعت على قوله فيه »!
ولا يخفى أنّ جوابيه عن التسلسل راجعان إلى جواب واحد ؛ لأنّ إضافة القدم إلى القدم تستدعي التعدّد حقيقة أو اعتبارا ، فإذا انتفى الحقيقي لحكمه بأنّ قدم القدم نفسه ، تعيّن التعدّد الاعتباري ، وأن يكون قدم القدم اعتباريا ، فيكون الجواب الأوّل عين الثاني.
وفيه : إنّ القدم سلبي ؛ لأنّه عبارة عن عدم المسبوقية بالغير أو بالعدم ، فلا يمكن أن يكون ثبوتيا مع إنّه قد سبق أنّ التماثل في الأفراد يستدعي وحدة حقيقتها ، وأنّ ما تكرّر نوعه يجب كونه اعتباريا.
وبالجملة : الماهيّة الحقيقية لا يمكن أن يكون بعض أفرادها خارجيا والآخر ممتنعا ذاتا - كما هو ظاهر - ، فكيف يمكن أن يكون بعض أفراد القدم ثبوتيا والبعض الآخر اعتباريا ممتنع الوجود في الخارج ، للزوم التسلسل؟!
وبهذا يعلم بطلان الجواب عن إشكال التسلسل في الحدوث لو أجيب عنه بنحو ما أجاب الخصم عن إشكال التسلسل بالنسبة إلى قدم القدم.
* * *
ص: 324
قال المصنّف قدس سره (1) :
وفيه مطالب :
إعلم أنّ هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية ، بل الأحكام الدينية مطلقا ، وبدونه لا يتمّ شيء من الأديان ، ولا يمكن أن يعلم صدق نبيّ من الأنبياء على الإطلاق إلّا به ، على ما نقرّره في ما بعد إن شاء اللّه تعالى.
وبئس ما اختاره الإنسان لنفسه مذهبا خرج به عن جميع الأديان ، ولم يمكنه أن يتعبّد اللّه تعالى بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة ، ولم يجزم به على نجاة نبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو مطيع في جميع أفعاله من
ص: 325
أولياء اللّه وخلصائه ، ولا على عذاب أحد من الكفّار والمشركين وأنواع الفسّاق والعاصين.
فلينظر العاقل المقلّد ، هل يجوز له أن يلقى اللّه تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة ، والآراء الباطلة المستندة إلى اتّباع الشهوة والانقياد إلى المطامع؟!
* * *
ص: 326
وقال الفضل (1) :
عقد هذا المبحث لإثبات العدل الذي ينتسبون إليه هم والمعتزلة ..
وحاصله : إنّهم يقولون باختيار العبد في الأفعال ، وإنّه خالق أفعاله ، وإلّا لم يكن تعذيب العبد عدلا عند عدم الاختيار ؛ ويقولون بوجوب جزاء العاصي ، وبالحسن والقبح العقليّين ، وغيرهما ممّا يذكره في هذا الفصل.
ويدّعي أنّ الخروج عن هذا يوجب عدم متابعة نبيّ من الأنبياء.
وهذا دعوى باطلة فاسدة.
ونحن إن شاء اللّه تعالى نذكر في هذا البحث كلّ مقالة من قولي الإمامية والأشاعرة على حدة ، ونذكر حقيقة تلك المسألة قائمين بالإنصاف إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 327
ستعرف ما في دعواه القيام بالإنصاف كما يشهد لذلك قوله هنا :
« يقولون بوجوب جزاء العاصي » .. فإنّه لا يريد به إلّا التهويل ومجانبة الإنصاف ؛ لأنّا نقول : إنّ العقاب حقّ اللّه تعالى ، وله العفو عن حقّه ، كما ستعرف.
نعم ، لو أراد بوجوبه وجوب جعل أصل الجزاء على المعصية بلحاظ الاستحقاق وإن كان له العفو ، كان صدقا ، وهو مذهبنا ، ولكنّه لا يريده كما سيتّضح إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 328
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
قالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة : إنّ الحسن والقبح عقليّان مستندان إلى صفات قائمة بالأفعال ، أو وجوه واعتبارات تقع عليها (2).
وقالت الأشاعرة : إنّ العقل لا يحكم بحسن شيء ألبتّة ولا يقبّحه ، بل كلّ ما يقع في الوجود من أنواع الشرور : كالظلم ، والعدوان ، والقتل ، والشرك ، والإلحاد ، وسبّ اللّه تعالى ، وسبّ ملائكته وأنبيائه وأوليائه ، فإنّه حسن (3).
* * *
ص: 329
وقال الفضل (1) :
الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة :
الأوّل : صفة الكمال والنقص ... يقال : العلم حسن ... والجهل قبيح ... ولا نزاع في أنّ هذا ... ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل ، ولا تعلّق له بالشرع.
الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ... وقد يعبّر عنهما بهذا ... المعنى بالمصلحة والمفسدة ، فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ... ؛ وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل كالمعنى الأوّل ...
الثالث : تعلّق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا ، أو الذمّ والعقاب كذلك ...
فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى : حسنا ..
وما تعلّق به الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى : قبيحا ...
وهذا المعنى ... هو محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها ... ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ، ولا ذمّ فاعله وعقابه ، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها ..
وعند المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : عقلي (2).
ص: 330
وإدراك الحسن والقبح موقوف على حكم الشرع ، والشرع كاشف عنهما في ما لا يستقلّ العقل بإدراكه ، فالعقل حاكم.
فيا معشر العقلاء : بأيّ مذهب يلزم أن يكون الظلم والعدوان والقتل والشرك وسبّ اللّه ورسوله وما ذكره من الترّهات والطامات حسنا؟!
هل الشرع حسّن هذه الأشياء وحكم بحسنه؟!
وعلى تقدير أن يكون حاكما بالحسن ، هل يقول الأشاعرة : إنّ الشرع حكم بحسن هذه الأشياء حتّى يلزم ما يقول؟!
فعلم أنّ الرجل كودن (1) طامّاتي متعصّب ، فتعصّب لنفسه لا لله ورسوله!
والعجب أنّه كان لا يأمل أنّ العقلاء ربّما ينظرون في هذا الكتاب فيفتضح عندهم ، ما أجهله من رجل متعصّب ، نعوذ باللّه من شرّ الشيطان وشركه!
* * *
ص: 331
نسب المصنّف أوّلا إلى الأشاعرة : إنّ العقل لا يحكم بحسن شيء من الأفعال ولا بقبحه ، فعارضه الخصم بأنّهم يقولون بالحسن والقبح بالمعنيين الأوّلين - وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في أوّل المطلب الثاني - أنّ هذا التفصيل ممّا أحدثه المتأخّرون تقليلا للشناعة ، وستعرف ما فيه ، وأنّه لا ينفعهم.
ثمّ نسب إليهم القول بأنّ كلّ فعل يقع في الوجود من أنواع الشرور كالظلم ، والشرك ، وغيرهما ، حسن ، وهو مبنيّ على تعريفهم للفعل القبيح بما نهي عنه شرعا وللفعل الحسن بما لم ينه عنه ، فإنّه على هذا تكون هذه الأفعال حسنة ؛ لأنّها فعل اللّه تعالى ، ولا نهي عن فعله.
ولكنّ المتأخّرين تخلّصوا عنه بالقول بأنّ الفعل الحسن ما أمر به شرعا ، وما يستحقّ فاعله المدح في العاجل ، والثواب في الآجل فلا يشمل فعله تعالى.
ولكن على تقديره فنحن نسألهم عن فعل اللّه تعالى ، فإن أقرّوا بحسنه لزمهم القول بحسن هذه الشرور ، وإن لم يقرّوا بحسنه فقد خرجوا عن الإسلام!
ودعوى أنّ هذه الشرور حسنة بلحاظ انتسابها إلى اللّه تعالى بالخلق ، قبيحة ، بلحاظ انتسابها إلى العبد بالوصفيّة ، وكونه محلّا لها باطلة ، لعدم معقوليّة حسنها من الفاعل ، وقبحها من المحلّ والموصوف بها من دون أن
ص: 332
يكون له أثر فيها أصلا ، وإنّما الأثر لله وحده.
وبالجملة : أصل الفعل ومحلّه وجميع جهاته صادرة من اللّه تعالى ، فكلّها حسنة ، فبأيّ شيء يكون قبيحا؟!
* * *
ص: 333
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
وقالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة : إنّ جميع أفعال اللّه تعالى حكمة وصواب ، وليس فيها ظلم ، ولا جور ، ولا كذب ، ولا عبث ، ولا فاحشة.
والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد ، واللّه تعالى منزّه عنها وبريء منها (2).
وقالت الأشاعرة : ليس جميع أفعاله تعالى حكمة وصوابا ؛ لأنّ الفواحش والقبائح كلّها صادرة عنه تعالى ؛ لأنّه لا مؤثّر غيره (3).
* * *
ص: 334
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب ؛ وذلك من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه ، فلا يتصوّر منه فعل قبيح ولا ترك واجب (2) ، وجميع أفعاله تعالى حكمة وصواب.
والفواحش والقبائح من مباشرة العبد للأفعال ولا يلزم من قولنا :
« لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه » أن تكون الفواحش والقبائح صادرة عنه ، بل هي صادرة من العبد ومن مباشرته وكسبه.
واللّه تعالى خالق للأفعال ، ولا قبيح بالنسبة إليه ، بل قبح الفعل من مباشرة العبد ، كما سيجيء في مبحث خلق الأعمال ..
فما نسبه إليهم هو افتراء محض ناشئ من تعصّب وغرض فاسد!
* * *
ص: 335
من أعجب العجب وأوضح المحال نفي صدورها عن اللّه سبحانه وإثباتها للعبد.
والحال : إنّ الخالق الفاعل لها بزعمهم هو اللّه تعالى ، والعبد محلّ صرف لا أثر له ولا تصرّف بوجه أصلا.
وما أدري كيف يكون كسبها من العبد؟! والكسب بأيّ معنى فسّر إنّما هو من فعل اللّه تعالى.
وكيف يكون قبحها من مباشرة العبد ، والمباشرة أثر لله تعالى؟! إذ لا مؤثّر في الوجود سواه ، وكلّ أثره حسن.
فهل يعقل أن يكون الشيء بجهة حسنه قبيحا ، إذ أيّ جهة تفرض للقبح إنّما هي من فعل اللّه ، وفعله - بما هو فعله - حسن.
لكن بنى القوم أمرهم على المكابرة وناطوا الحقائق بالتمويه.
وأمّا قوله : « ولا واجب عليه » فستعرف ما فيه إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 336
وقال الفضل (1) :
تقول الأشاعرة : نحن نرضى بقضاء اللّه كلّه ، والكفر ، والفواحش ، والمعاصي ، والظلم ؛ وجميع أنواع الفساد ليست هي القضاء ، بل هي المقضيّات (2).
والفرق بين القضاء والمقضي ظاهر ؛ وذلك لأنّه ليس يلزم من وجوب الرضا بالشيء باعتبار صدوره عن فاعله ، وجوب الرضا به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر ؛ إذ لو صحّ ذلك لوجب الرضا بموت الأنبياء ، وهو باطل إجماعا.
والإنكار المتوجّه نحو الكفر إنّما هو بالنظر إلى المحلّيّة ، لا إلى الفاعلية.
وللكفر نسبة إلى اللّه تعالى باعتبار فاعليّته له وإيجاده إيّاه ..
ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محلّيّته له واتّصافه به ، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأولى.
ثمّ إنّهم قائلون بأنّ التمكين على الشرور من اللّه تعالى ، والتمكين بالقبيح قبيح ، فيلزمهم ما يلزمون به الأصحاب (3).
* * *
ص: 338
لا يعقل التفكيك بين القضاء والمقضي في الرضا وعدمه ، ضرورة أنّ من رضي بأمر فقد رضي بصدوره عن فاعله ، ومن سخطه فقد سخط صدوره عن فاعله.
فإذا زعم الأشاعرة أنّ اللّه سبحانه قد قضى بالفواحش وخلقها ، فقد لزمهم من عدم الرضا بها عدم الرضا بقضاء اللّه تعالى.
وأمّا موت الأنبياء فلا نسلّم عدم وجوب الرضا به إذا قضاه اللّه تعالى ، كيف؟! وهو سبحانه لا يقضي إلّا بالحقّ والصواب!
نعم ، لا نحبّ موتهم حبّا لهم وطمعا في مصالحنا بهم.
وما زعمه من توجّه الإنكار إلى الكفر باعتبار المحلّية لا الفاعلية ، فمكابرة خارجة عن حيّز العقل إذا كانت المحلّية قهرية.
وأمّا ما ذكره من أنّ التمكين من القبيح قبيح ، فممنوع إذا اقترن التمكين منه ببيان قبحه والنهي عنه ، فإنّه حينئذ يكون التمكين منه حسنا ؛ إذ بطاعته لنهي مولاه وتركه اختيارا ينال السعادتين.
* * *
ص: 339
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
وقالت الإمامية والمعتزلة : لا يجوز أن يعاقب اللّه الناس على فعله ، ولا يلومهم على صنعه (2) ، ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (3).
وقالت الأشاعرة : لا يعاقب اللّه الناس إلّا على ما لم يفعلوه ، ولا يلومهم إلّا على ما لم يصنعوه ، وإنّما يعاقبهم على فعله فيهم ، يفعل فيهم سبّه وشتمه ، ثمّ يلومهم عليه ويعاقبهم لأجله ..
ويخلق فيهم الإعراض ، ثمّ يقول : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ... ) (4) ..
ويمنعهم من الفعل ويقول : ( ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ... ) (5) (6).
* * *
ص: 340
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه ..
ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، واللّه يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع (3).
* * *
ص: 341
لا يخفى أنّ قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد ...
الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : ( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ... ) (1).
وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.
ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.
الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (2).
وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه (3).
وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم
ص: 342
لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!
مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.
وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.
ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء اللّه.
وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».
ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل اللّه تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!
وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».
ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على اللّه تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.
ص: 343
وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.
ومثله الكلام في قوله تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ... ) (1) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!
* * *
ص: 344
قال المصنّف - عطّر اللّه ثراه - (1) :
وقالت الإمامية : إنّ اللّه تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم (2).
وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل اللّه تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض (3).
بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا (4).
* * *
ص: 345
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال اللّه تعالى ليست معلّلة بالأغراض.
وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض (2) - كما سيجيء بعد هذا - ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.
وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.
* * *
ص: 346
ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.
وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!
وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض (1) ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 347
وقال الفضل (1) :
لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة اللّه تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.
ولو شاء اللّه أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.
* * *
ص: 349
لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب - عقلا - مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن اللّه تعالى.
ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.
وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا صلی اللّه علیه و آله - إذ لعلّه لم يكن نبيّا - وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.
ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا (1) ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا تجويزهم أن يرسل اللّه السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 350
قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :
وقالت الإمامية : إنّ اللّه سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته (2).
وقالت الأشاعرة : لم يكلّف اللّه أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.
وجوّزوا أن يكلّف اللّه مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.
وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد (3).
وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك (4).
* * *
ص: 351
وقال الفضل (1) :
تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على اللّه شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا (2).
والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ اللّه أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر اللّه تعالى ، وهو محال اتّفاقا.
وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.
ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي .. فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (3).
وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.
* * *
ص: 352
لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!
ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى اللّه العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!
قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف اللّه عباده ما لا يطيقون؟!
فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!
قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟! (1).
وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء اللّه تعالى.
وكفاك إنكارهم أن يجب على اللّه شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!
ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى اللّه عن ذلك.
ص: 353
وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ اللّه أخبر بعدم إيمان أبي لهب » ..
فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق ..
والأولى أن يقول : إنّ اللّه سبحانه أخبر نبيّه صلی اللّه علیه و آله ، بقوله : ( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.
والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.
فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.
ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.
وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها .. إلى قوله :
ص: 354
« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.
والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا - كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن - ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.
ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (1) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.
ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه اللّه تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!
* * *
ص: 355
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
وقالت الإمامية : ما أضلّ اللّه أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة (2).
وقالت الأشاعرة : قد أضلّ اللّه كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.
فيكون من سبّ اللّه تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.
ويكون من مدح اللّه تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.
وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا (3).
* * *
ص: 356
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... ) (2) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.
وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.
وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.
* * *
ص: 357
لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي (1) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي (2) دار الصاحب بن عبّاد (3) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! - تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى اللّه تعالى - .. فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء (4).
ص: 358
وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!
فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!
وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».
فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون اللّه سبحانه عنها.
ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1).
ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال علیه السلام : « تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك » (2).
ص: 359
فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً ) (1) وقال تعالى : ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ ... ) (2) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا ..
أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي - كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى - ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : ( ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ) (3) ..
وقال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم (4)
وأمّا النقل : فقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (5) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟! ..
وقوله تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ... )(6).
ص: 360
.. إلى غير ذلك من الكتاب والسنّة.
وأمّا ما ذكره من أنّ المراد بهذا التجويز نفي وجوب شيء عليه ، فلا يرفع الإشكال ؛ لأنّه إذا لم يجب عليه بعدله وحكمته أن يرسل الرسل بالحكمة والموعظة الحسنة ، فقد جاز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس - إلى غير ذلك ممّا بيّنه المصنّف - ، وتجويزهم مثل ذلك على اللّه سبحانه دليل على عدم معرفتهم به ، وأنّهم ما قدروه حقّ قدره.
ولو جوّزت أشباه هذه الأمور على أحد منهم لعدّها من أكبر النقص عليه ، والذنب إليه ، فكيف تجوز في حقّ الملك الجامع لصفات الكمال؟!
* * *
ص: 361
قال المصنّف - قدّس اللّه سرّه - (1) :
وقالت الإمامية : قد أراد اللّه الطاعات وأحبّها ورضيها واختارها ، ولم يكرهها ولم يسخطها ، وأنّه كره المعاصي والفواحش ولم يحبّها ولا رضيها ولا اختارها (2).
وقالت الأشاعرة : قد أراد اللّه من الكافر أن يسبّه ويعصيه ، واختار ذلك ، وكره أن يمدحه (3).
وقال بعضهم : أحبّ وجود الفساد ، ورضي وجود الكفر (4).
* * *
ص: 362
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة - كما سبق - : إنّ اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، فهو يريد الطاعات ويرضى بها للعبد ، ويريد المعاصي بمعنى التقدير ؛ لأنّ اللّه تعالى مريد للكائنات.
فلا بدّ أن يكون كلّ شيء بتقديره وإرادته ، ولكن لا يرضى بالمعاصي ، والإرادة غير الرضا ، وهذا الرجل يحسب أنّ الإرادة هي عين الرضا ، وهذا باطل.
وأمّا قوله : « كره أن يمدحه » فهذا عين الافتراء.
وكذا قوله : « أحبّ الفساد ورضي بوجود الكفر » ولا عجب هذا من الشيعة ، فإنّ الكذب والافتراء طبيعتهم ، وبه خلقت غريزتهم.
* * *
ص: 363
قوله : « يريد الطاعات ويرضى بها » ليس بصحيح على عمومه ، فإنّ الطاعات التي لم تقع ليست مرادة ولا مرضية له ، وإلّا لوقعت.
وقوله : « ويريد المعاصي بمعنى التقدير » ، ليس بصحيح أيضا ، فإنّ الإرادة سبب التقدير لا نفسه.
ولو سلّم ، فلا بدّ من إرادة المعاصي ؛ لأنّ التقدير بدون إرادة غير ممكن ؛ لأنّها هي المخصّصة.
قوله : « ولكن لا يرضى بالمعاصي » باطل ، إذ لو لم يرض بها فما الذي ألزمه بفعلها.
قوله : « والإرادة غير الرضا » مسلّم ، لكنّ إرادة الفعل تتوقّف على الرضا به ، كما إنّ إرادة الترك تتوقّف على كراهة الفعل ومرجوحيّته من جهة.
وعلى هذا يبتني كلام المصنّف ، لا على إنّ الإرادة نفس الرضا ، كما زعمه الخصم.
وبالجملة : الفعل بالاختيار يستلزم الرضا به ، وتركه بالاختيار يستلزم كراهته ، وإلّا لخرج العمل عن كونه عقلائيا ، فيكون اللّه سبحانه - بناء على تقديره وتكوينه لأفعال العباد - راضيا ومحبّا لسبّه والفساد الواقعين ، كارها لمدحه والصلاح المتروكين ؛ وهذا ما قاله المصنّف.
وأمّا ما رمى به الخصم الشيعة من الكذب والافتراء ، فنحن نكله إلى المصنف إذا عرف أحوال رجالنا ورجالهم ، ونظر إلى ما كتبناه في المقدّمة.
ص: 364
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وقالت الإمامية : قد أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الطاعات ما أراد اللّه تعالى ، وكره من المعاصي ما كرهه اللّه تعالى (2).
وقالت الأشاعرة : بل أراد النبيّ كثيرا ممّا كرهه اللّه تعالى ، وكره كثيرا ممّا أراده اللّه تعالى (3).
* * *
ص: 365
وقال الفضل (1) :
غرضه من هذا الكلام - كما سيأتي - أنّ اللّه تعالى يريد كفر الكافر ، والنبيّ يريد إيمانه وطاعته ، فوقعت المخالفة بين الإرادتين ، وإذا لم يكن أحدهما مريدا لشيء يكون كارها له ؛ هكذا زعم.
وقد علمت أنّ معنى الإرادة من اللّه ها هنا هو : التقدير ، ومعنى الإرادة من النبيّ : ميله إلى إيمانهم ورضاه به.
والرضا والميل غير الإرادة بمعنى التقدير ، فاللّه تعالى يريد كفر الكافر بمعنى : يقدّر له في الأزل هكذا ، والنبيّ لا يريد كفره ، بمعنى أنّه لا يرضى به ولا يستحسنه ، فهذا جمع بين إرادة اللّه وعدم إرادة النبيّ ولا محذور فيه.
نعم ، لو رضي اللّه بشيء ، ولم يرض رسوله بذلك الشيء وسخطه ، كان ذلك محذورا ، وليس هذا مذهبا لأحد.
* * *
ص: 366
أيصحّ في العقل أن يقال : إنّ اللّه تعالى يقدّر شيئا ويفعله ، ولا يرضى به النبيّ ولا يستحسنه؟!
مضافا إلى ما عرفت من أنّ تقدير الفعل يستلزم الرضا به ، وتقدير الترك يستلزم الكراهة له.
فيكون اللّه سبحانه بتقديره للكفر والمعصية ، راضيا بهما وقد كرههما النبيّ ..
وبتقديره لترك الإيمان والطاعة ، كارها لهما وقد رضي النبيّ بهما وأرادهما ، فاختلف اللّه ورسوله.
* * *
ص: 367
قال المصنّف - أعزّ اللّه منزلته - (1) :
وقالت الإمامية : قد أراد اللّه من الطاعات ما أراده أنبياؤه ، وكره ما كرهوه ، وأراد ما كره الشياطين من الطاعات ، وكره ما أرادوه من الفواحش (2).
وقالت الأشاعرة : بل قد أراد اللّه ما أرادته الشياطين من الفواحش ، وكره ما كرهوه من كثير من الطاعات ، ولم يرد ما أرادته الأنبياء من كثير من الطاعات ، بل كره ما أرادته منها (3).
* * *
ص: 368
قد عرفت أنّ المختار لا يفعل شيئا إلّا لإرادته له ورضاه به ، ولا يترك أمرا إلّا لكراهته له ، وإلّا لخرج العمل عن كونه عقلائيا.
فإذا فرض أنّ اللّه تعالى هو الفاعل لأفعال البشر ، فلا بدّ أن يكون مريدا لما يقع من الفواحش كما هو مراد للشياطين ، وأن يكون كارها لما يقع من الطاعات كما هو مكروه للشياطين ؛ فتمّ ما ذكره المصنّف.
* * *
ص: 370
وقال الفضل (1) :
قد عرفت ممّا سلف أنّ اللّه تعالى لا يجب عليه شيء ، ولا قبيح بالنسبة إليه ، فله أن يأمر بما شاء وينهى عمّا يشاء (2).
فأخذ المخالفون من هذا أنّه يلزم على هذا التقدير أن يأمر بما يكرهه وينهى عمّا يريده ؛ وقد عرفت جوابه.
وإنّ المراد بهذا : عدم وجوب شيء عليه ، وهذا التجويز لنفي الوجوب وإن لم يقع شيء من الأمور المذكورة في الوجود.
فالأمر بالمكروه والنهي عن المراد جائز ، ولا يكون واقعا ، فهو محال عادة وإن جاز عقلا بالنسبة إليه - كما مرّ غير مرّة - ، وسيجيء تفاصيل هذه الأجوبة عند مقالاته في ما سيأتي.
* * *
ص: 372
لم نأخذ ذلك ممّا ذكره وإن كان صالحا للأخذ منه ، بل أخذناه من قولهم : إنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى (1) ؛ لأنّ خلق الشيء وتقديره يستلزم الإرادة له والرضا به ، وتقدير عدم الشيء يستلزم كراهته - كما سبق - ، فإذا أمر اللّه سبحانه بما قدّر عدمه ، فقد أمر بما لا يريده وكرهه ، وإذا نهى عمّا قدّر وجوده ، فقد نهى عمّا أراده ورضيه - كما ذكره المصنّف - ، وهذا على مذهبهم واقع جار على العادة.
ولو سلّم أنّا أخذناه ممّا ذكره ، فمن أين أحرز عادة اللّه تعالى في عدم وقوع شيء من الأمور المذكورة وهي غيب؟!
على إنّ تجويز ذلك على اللّه سبحانه نقص في حقّه وأيّ نقص!! لأنّه من الجهل أو العجز ، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون.
* * *
ص: 373
قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - (1) :
فهذا خلاصة أقاويل الفريقين في عدل اللّه عزّ وجلّ.
وقول الإمامية في التوحيد يضاهي قولهم في العدل ، فإنّهم يقولون :
إنّ اللّه تعالى واحد لا قديم سواه ، ولا إله غيره ، ولا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يصحّ عليها من التحرّك والسكون ، وإنّه لم يزل ولا يزال حيّا قادرا عالما مدركا ، لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها ، ويقدّر ويحيي ، وإنّه لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم ، ولم يكن آمرا ولا ناهيا قبل خلقه لهم (2).
وقالت المشبّهة : إنّه يشبه خلقه ؛ فوصفوه بالأعضاء والجوارح ، وإنّه لم يزل آمرا وناهيا إلى ما بعد خراب العالم وبعد الحشر والنشر ، دائما بدوام ذاته (3).
وهذه المقالة في الأمر والنهي ودوامهما مقالة الأشعرية أيضا (4).
ص: 374
وقالت الأشاعرة أيضا : إنّه تعالى قادر ، عالم ، حيّ .. إلى غير ذلك من الصفات بذوات قديمة ، ليست هي اللّه ولا غيره ولا بعضه ، ولولاها لم يكن قادرا ، عالما ، حيّا (1).
تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 375
وقال الفضل (1) :
أكثر ما في هذا الفصل قد مرّ جوابه في ما سبق من الفصول على أبلغ الوجوه بحيث لم يبق للمرتاب ريب.
وما لم يذكر جوابه من كلام هذا الفصل - في ما سبق - هو ما قال في الأمر والنهي ، وأنّ الأشاعرة يقولون : بدوامهما.
فالجواب : إنّهم لمّا قالوا بالكلام النفسي ، وإنّه صفة لذات اللّه تعالى ، فيلزم أن تكون هذه الصفة أزلية وأبدية ..
والكلام لمّا اشتمل على الأمر والنهي يكون الأمر في الكلام النفسي أزلا وأبدا ، ولكن لا يلزم أن يكون آمرا وناهيا بالفعل قبل وجود الخطاب والمخاطبين حتّى يلزم السفه - كما سبق - ، بل الكلام بحيث لو تعلّق الخطاب عند التلفّظ به يكون المتكلّم آمرا وناهيا ، وهذا فرع لإثبات الكلام النفساني ، فأيّ غرابة في هذا الكلام؟!
* * *
ص: 376
قد عرفت بطلان أجوبته ، ومنه تعرف بطلان جوابه هنا ، ولا أدري لم التزم بعدم الخطاب في القدم والأزل ، وقد أجازوا خطاب المعدوم (1) وقالوا : لا يقبح منه شيء؟! (2).
نعم ، لمّا علم أنّ خطاب المعدوم سفه بالضرورة ، التزم بعدم الخطاب غفلة عن مذهبه!
ولو التفت لكابر في نفي السفه ، كما كابر في نفي الأمر والنهي الفعليّين ، مع الالتزام بثبوت الأمر والنهي النفسيّين ، والحال أنّ النفسي مدلول الفعلي ، وكابر في ثبوت الأمر والنهي النفسيّين بدون الخطاب ، مع إنّهما لا يحصلان بدونه.
* * *
ص: 377
قال المصنّف قدس سره (1) :
وقالت الإمامية : إنّ أنبياء اللّه وأئمّته منزّهون عن المعاصي ، وعمّا يستخفّ وينفّر (2).
ودانوا بتعظيم أهل البيت الّذين أمر اللّه بمودّتهم وجعلها أجر الرسالة ، فقال تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (3).
وقال أهل السنّة كافّة : إنّه يجوز عليهم الصغائر (4).
وجوّزت الأشاعرة عليهم الكبائر (5).
* * *
ص: 378
وقال الفضل (1) :
أجمع أهل الملل والشرائع كلّها على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة وما يبلّغونه عن اللّه ... وأمّا سائر الذنوب فأجمعت الأمّة على عصمتهم من الكفر (2).
وجوّز الشيعة إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ؛ لأنّ إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة ، وذلك باطل ؛ لأنّه يقضي إلى إخفاء الدعوة بالكلّيّة وترك تبليغ الرسالة ، إذ أولى الأوقات بالتقيّة وقت الدعوة ، للضعف بسبب قلّة الموافق وكثرة المخالفين (3).
وأمّا غير الكفر من الكبائر ، فمنعه الجمهور من الأشاعرة والمحقّقين.
وأمّا الصغائر عمدا ، فجوّزه الجمهور إلّا الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة (4) ، للزوم المخالفة لمنصب النبوّة.
هذا مذهبهم ، فنسبة تجويز الكبائر إلى الأشاعرة افتراء محض.
وأمّا ما ذكر من تعظيم أنبياء اللّه وأهل بيت النبوّة ، فهو شعار أهل السنّة ، والتعظيم ليس عداوة الصحابة ، كما زعمه الشيعة والروافض ، بل
ص: 379
التعظيم أداء حقوق عظم قدرهم في المتابعة ، وذكرهم بالتفخيم ، واعتقاد قربهم من اللّه ورسوله ، وهذه خصلة اتّصف بها أهل السنّة والجماعة.
* * *
ص: 380
لا معنى لعصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في دعوى الرسالة ، فإنّه بعد فرض النبوّة والرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم الأنبياء عنه.
وأمّا بالنظر إلى ما قبل الرسالة ، فلا تقتضي المعجزة اللاحقة عصمتهم عن الكذب قبلها ، ولكن لمّا كانت المعجزة تدلّ على صدقهم في دعوى الرسالة استنتج صاحب « المواقف » عصمتهم عن الكذب في دعواها (1) ، وأخذه منه الخصم بلا تدبّر ليقال : إنّهم ممّن يقول بعصمة الأنبياء في الجملة.
ثمّ إنّ دعوى إفادة المعجزة القطع لا تتمّ على مذهب الأشاعرة ، إذ يجوز عقلا - بناء على قولهم : « لا يقبح منه شيء » (2) - أن يظهرها على يد الكاذب.
ودعوى العادة على عدم ظهورها على يد الكاذب موقوفة على الاطّلاع على كلّ من ظهرت على يده المعجزة ، وأنّه غير كاذب ، وهو غير حاصل ، بل لعلّ كلّ من ظهرت على يده المعجزة كاذب!
على إنّ التخلّف عن العادة ليس قطعي العدم ، لا سيّما في مورد التخلّف عن العادة بصدور المعجزة.
ص: 381
وأمّا ما زعمه من الإجماع على عصمتهم عن الكفر ، فمناف لما سيأتي في بحث النبوّة من أنّ بعض الأشاعرة وغيرهم من السنّة يجوّزون عليهم الكفر ، بل قال بعضهم بوقوعه (1) ..
ومناف أيضا لمام يروونه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر » (2) ، فإنّ العصمة عن الكذب لا تجامع صلاحية عمر للنبوّة وهو كافر أكثر عمره.
فلا بدّ إمّا من منع وجوب العصمة عندهم عن الكفر ، أو الحكم بكذب هذه الرواية وأنّها من مفتعلات القوم.
وأمّا ما نسبه إلى الشيعة تبعا ( للمواقف ) من أنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيّة (3) ، فكذب عليهم ، وإلّا فليسندوه إلى كتاب من كتبهم!
ص: 382
ومجرّد قول الشيعة بالتقيّة لا يستلزم تعميمها في جميع المقامات ، بل ذلك مذهب بعض السنّة - كما ستعرفه في مباحث النبوّة - ، وهو الأنسب بهم ، فإنّهم إذا نسبوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قصّة الغرانيق حيث أظهر الكفر تأليفا لقومه ، فتجويزهم عليه وعلى الأنبياء إظهاره تقيّة أولى (1).
ونسبوا إليه صلی اللّه علیه و آله وإلى إبراهيم الشكّ حيث قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم » (2) كما سيجيء.
ومن المعلوم أنّ الشاكّ ليس بمؤمن ، فإظهار الكفر للتقيّة أولى ؛ لأنّ الشكّ أسوأ.
وأمّا تكذيبه للمصنّف رحمه اللّه في نسبته إلى الأشاعرة تجويز الكبائر على الأنبياء ، فسيأتي ما فيه في محلّه إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا ما ادّعاه من أنّ تعظيم الأنبياء وأهل البيت شعارهم ، فستعرف كذبه من نسبتهم إلى الأنبياء ما لا يليق بشأنهم ، وتأويلهم ما لا يقبل التأويل من النصوص على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وجعلهم أهل البيت من سائر المسلمين ، وفضّلوا الأداني عليهم ، مع إنّ اللّه تعالى ميّزهم بالطهارة من الرجس (3) ، وأوجب على الأمّة التمسّك بهم ، وجعلهم عدل القرآن المجيد
ص: 383
إلى يوم الدين (1).
وأمّا قوله : « والتعظيم ليس عداوة الصحابة » ، ففيه :
إنّا لا نعادي إلّا المنقلبين على أعقابهم ، الّذين ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، و
يقول فيهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سحقا سحقا حتّى لا يخلص من النار إلّا مثل همل النعم » (2) ..
وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (3).
* * *
ص: 384
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
فلينظر العاقل في المقالتين ، ويلمح المذهبين ، وينصف في الترجيح ، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ، ويترك تقليد الآباء ، والمشايخ الآخذين بالأهواء ، وغرّتهم الحياة الدنيا ، بل ينصح نفسه ، ولا يعوّل على غيره ، فلا يقبل عذره يوم القيامة ، أنّي قلّدت شيخي الفلاني ، ووجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة ، فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة ، يوم يتبرّأ المتبوعون من أتباعهم ، ويفرّون من أشياعهم.
وقد نصّ اللّه تعالى على ذلك في كتابه العزيز (2) ، ولكن أين الآذان السامعة والقلوب الواعية؟!
وهل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالتين ، وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل ، وأنّها أشبه بالدين ، وأنّ القائلين بها هم الّذين قال اللّه تعالى فيهم : ( فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (3)؟!
فالإمامية هم الّذين قبلوا هداية اللّه واهتدوا بها ، وهم أولوا الألباب.
ص: 385
ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب شرح أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم ، هل كان الأولى أن يقال له - حتّى يرغب في الإسلام ويتزيّن في قلبه أنّه من ديننا - : إنّ جميع أفعال اللّه تعالى حكمة وصواب ، وإنّا نرضى بقضائه ، وإنّه منزّه عن فعل القبائح والفواحش ، لا تقع منه ، ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيه ، ولا يقدرون على دفعه عنهم ، ولا يتمكّنون من امتثال أمره ..
أو يقال : ليس في أفعاله حكمة وصواب ، وإنّه يفعل السفه والفاحشة ، ولا نرضى بقضاء اللّه تعالى ، وإنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم ، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذّبهم عليها؟!
وهل الأولى أن يقول : من ديننا أنّ اللّه لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون ..
أو نقول : إنّه يكلّف الناس ما لا يطيقون ، ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!
وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبّها ولا يرضاها ..
أو نقول : إنّه يحبّ أن يشتم ويسبّ ويعصى بأنواع المعاصي ، ويكره أن يمدح ويطاع ، ويعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره؟!
وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها ..
ص: 386
أو نقول : إنّه يشبهها؟!
وهل الأولى أن نقول : إنّ اللّه تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته ..
أو نقول : إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلّا بذوات قديمة ، ولولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات؟!
وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم ...
أو نقول : إنّه لم يزل في القدم ، ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، لا يخلّ بذلك أصلا؟!
وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته ..
أو نقول : يرى بالعين ، إمّا من جهة من الجهات له أعضاء وصورة : أو يرى بالعين لا في جهة؟!
وهل الأولى أن نقول : إنّ أنبياءه وأئمّته منزّهون عن كلّ قبيح وسخيف ..
أو نقول : إنّهم اقترفوا المعاصي المنفّرة عنهم ، وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والذلّة ، كسرقة درهم وكذب وفاحشة ، ويداومون على ذلك مع إنّهم محلّ وحيه وحفظة شرعه وإنّ النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعليّة؟!
فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلّا مذهب الإمامية دون قول غيرهم ، عرفت عظم موقعهم في الإسلام!
وتعلم أيضا بزيادة بصيرتهم ؛ لأنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلّا من أمير المؤمنين علیه السلام وأولاده علیهم السلام أخذ ، وكان جميع العلماء
ص: 387
يستندون إليه على ما يأتي.
فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!
فإذا سمعوا شبهة في توحيد اللّه أو في عبث بعض أفعاله ، انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم ، فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئنّ قلوبهم حتّى يتحقّق الجواب عنها.
ومخالفهم إذا سمع دلالة قطعية على إنّ اللّه تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ، ظلّ ليله ونهاره مهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها ، حذرا أن يصحّ عنده أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلّت الشبهة عليه.
فشتّان ما بين الفريقين ، وبعد ما بين المذهبين!
ولنشرع في تفصيل المسائل ، وكشف الحقّ فيها بعون اللّه تعالى ولطفه ...
* * *
ص: 388
وقال الفضل (1) :
حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف ، والرجوع إلى الوجدان ، والدليل في ترجيح مذهب الإمامية ، وأنّ المنصف إذا ترك التقليد ، ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف ، علم أنّ مذهب الإمامية مرجّح.
ومثل هذا في حال من أراد دخول الإسلام وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب ، فلا شكّ أنّ معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول ، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقّي والقبول.
ونحن إن شاء اللّه تعالى في هذا الفصل نحذو حذوه ، ونجاريه فصلا بفصل ، وعقيدة بعقيدة ، على شرط تجنّب التهمة والافتراء ، ومحافظة شريطة الصدق والإنصاف ..
فنقول : لو استجار مشرك في بلاد الإسلام ، وأراد أن يسمع كلام اللّه رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام ، فطلب من العلماء أصول دين الإسلام في العدل والتوحيد ، ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء ..
فيا معشر العقلاء :
هل الأولى أن يقال له - حتّى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه - : إنّ الإله الذي ندعوك إلى طاعته وعبوديّته هو خالق كلّ الأشياء ، وهو الفاعل المختار ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، وهو يحكم ما يريد ، ولا شريك له في الخلق والتصرّف في الكائنات ، ولا تسقط ورقة ولا تتحرّك نملة إلّا
ص: 389
بحكمه وإرادته وقضائه وقدره ، دبّر أمور الكائنات في أزل الآزل ، وقدّر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم ، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ، وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ، ولا يجب عليه شيء ..
وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وهو منزّه عن فعل القبائح ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، ونحن نرضى بقضائه ، والقضاء غير المقتضي ..
هل الأولى هذا؟! أو يقال : الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق ، فأنت تخلق أفعالك والناس يخلقون أفعالهم ، وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار ، بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق.
والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثواب ، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب عليه ثوابها ، وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها ، وليس له أن يتفضّل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب ، بل الواجب واللازم عليه عقابه ، كالنار الواجب عليها الإحراق.
وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق وعلم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق ، وله الشركاء في الخلق ، وهو يخلق والناس يخلقون؟!
وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار ، يكلّف الناس كيفما شاء ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ، فإذا أراد كلّفهم حسب طاقتهم ، وجاز له ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة ، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف الناس فوق الطاقة ولم يقع هذا ..
ص: 390
أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم ، وليس له التصرّف فيهم ، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟!
وهل الأولى أن يقال له : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته ، ولكنّ الخير والطاعة برضاه وحبّه ، والشر والمعصية بغير رضاه ..
أو نقول : إنّه مغلول اليد ، فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ، وله شركاء في الملك والتصرّف؟!
وهل الأولى أن يقال له : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك ، غير إنّ صفات نفسك حادثة وصفاته قديمة ..
أو نقول : إنّه لا صفات له ، ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟!
وهل الأولى أن يقال له : إنّ اللّه تعالى عالم بعلم أزلي ، قادر بقدرة أزلية ، حيّ بحياة سرمدية ، متكلّم بكلام أزلي ..
أو يقال له : إنّ الصفات مسلوبة عنه ، وليس له علم ولا قدرة ، بل ذاته تعلم الأشياء بلا علم ؛ فيتحيّر ذلك المسكين ، أنّ العالم كيف يعلم بلا علم ، وكيف يقدر بلا قدرة؟!
وهل الأولى أن يقال له : إنّ اللّه تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي هو صفة ذاته ، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام ، وأمر الناس ونهاهم ..
أو يقال له : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ، فإنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما ، وإنّه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟!
ص: 391
وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة لعباده ، ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربّه ، رجاء أن ينظر إليه يوم القيامة ، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم ..
أو يقال له : هذا الربّ لا ينظر إليه في الدنيا ولا في الآخرة؟!
وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء اللّه تعالى مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر ، ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر عنهم ، فلا تيأس أنت من عفو اللّه وكرمه ، إن صدر عنك معصية فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب ، فأنت لا تقنط من الرحمة ..
أو يقال له : الأنبياء كالملائكة يستحيل عليهم الذنب ، فإذا سمع بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ ) (1) يتردّد في نبوّة آدم ؛ لأنّه وقع منه المعصية فلا يكون نبيّا؟!
وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ، وأقاموا في خدمته وصحبته طول أعمارهم ، وقاسوا الشدائد والبلايا في إقامة الدين ودفع الكفرة ، وذكرهم اللّه في القرآن وأثنى عليهم بكلّ خير ورضي عنهم ..
ثمّ بعده قاموا بوظائف الخلافة ، ونشروا الدين ، وفتحوا البلاد ، وأظهروا أحكام الشريعة ، وأحكموا قواعد الحدود ، حتّى بقي منهم الدين ، وانحفظت من سعيهم الشريعة إلى يوم الدين ..
أو يقال له : إنّ هؤلاء الأصحاب بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خالفوه ، ورجعوا إلى الكفر ، ولم يهد محمّد صلی اللّه علیه و آله إلّا سبعة عشر نفرا؟!
ص: 392
فيا معشر العقلاء : انظروا إلى المذهبين! وتأمّلوا وأمعنوا في عقائد الفريقين! ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ) (1) .. ( الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2).
وأمّا ما ذكر أنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب شبهة إلّا ومن أمير المؤمنين عليّ ؛ فإنّ هذا لا يختصّون به دوننا ، بل كلّ ما نأخذه من العقائد ، ونتلقّى من الأدلّة ، فإنّها مأخوذة من تلك الحضرة ومن غيره من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين سواء ، وككبار الصحابة الّذين شهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعلمهم واجتهادهم وأمانتهم.
وهم يذكرون الأشياء من الأئمّة ويمزجون كلّ ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب ، ونحن لا نرويه ولا ننقله إلّا بالأسانيد الصحيحة المعتبرة المعتمدة ، والحمد لله على ذلك التوفيق.
* * *
ص: 393
لا يخفى أنّه قد دلّس في مذهب قومه ، وموّه ما شاء ولبّس في مذهب الإمامية ، وافترى من غير حياء - كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى - ، فخالف ما اشترطه من الصدق والإنصاف ، اتّباعا للهوى ، وتعصّبا لدين الأسلاف.
ونحن بعون اللّه تعالى نكشف عن وجه الحقيقة غشاءها ، ونعيد إلى مرآة الحقّ صفاءها.
أمّا ما ذكره أوّلا في تقرير مذهب الأشاعرة بقوله : « خالق كلّ الأشياء » ..
فهو أوّل تمويه ؛ لأنّ مورد النزاع هو أفعال العباد ، وأنّها مفعولة لله سبحانه أو للعبد ، فكان اللازم النصّ عليها ليتّضح حال المذهبين ، ولم يكف ذكر ما ينصرف لغيرها ، فينبغي أن يقال للمشرك المتحيّر : إنّه تعالى خالق كلّ الأشياء ، حتّى الزنا ، واللواط ، والكذب ، والظلم ، والنهب ، والسرقة ، والقتل ، ونحوها.
ولا ريب أنّه حينئذ يستنكره ويستكرهه ويعدّه من منافيات وجدانه لأنّه يجد أنّه فاعل فعله.
ولو ذكر له الشرك الذي هو عليه وقيل : إنّه مخلوق لله تعالى ، لقال هذا دليل رضاه به ؛ لأنّ الفعل بالاختيار لا يصدر بدون رضا الفاعل فلا داعي للعدول عنه.
ولو اجتهدوا في ترغيبه وإقناعه لقال : ما لكم خرجتم عن مذهبكم؟!
ص: 394
فإنّه لا فعل لي بزعمكم ، والخالق لشركي هو اللّه فرغّبوه دوني!
وكذا الكلام في بقية الفقرات التي أراد بها أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وموّه فيها بإظهار ما ينصرف إلى غيرها.
ويزيد إشكالا قوله : « هو الفاعل المختار » ؛ لأنّ اللّه سبحانه عندهم موجب لصفاته فلا يكون مختارا على الإطلاق.
وبالجملة : هذه الفقرات بالنظر إلى ما عدا أفعال العباد مشتركة بين المذهبين ، وبالنظر إلى أفعال العباد قد موّه بها ، فلا معنى لذكرها في مقام التفاضل.
وأمّا قوله : « دبّر أمور الكائنات في أزل الآزال » ..
فإن أراد به أنّه أجراها على موازينها وقام بشؤونها ، فهو ليس في الأزل ، بل حين خلقها وأوجدها ، وإن أراد أنّه تروّى بها ورتّب كيفية خلقها ، فهو باطل ؛ لأنّه غني عن التروّي ، عالم بكلّ شيء في الأزل ، فإذا أراد شيئا قال له : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (1) ، بلا إجالة فكر.
وأمّا قوله : « ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ».
فهو من الفضول في مقام التفاضل ؛ لاشتراك القول به بين الجميع.
وأمّا قوله : « وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ».
فهو ممّا أريد به خلاف ظاهره ، فإنّ ظاهره تنزيه وخير ، ولكنّه تأبّط شرّا ؛ لأنّه لو صرّح للمشرك بأنّ من أفعاله الزنا ، واللواط ، وظلم الناس بعضهم بعضا ، والإفساد في الأرض ، وجميع الفتن ، لجزم بأنّها ليست
ص: 395
حكمة وصوابا.
وكذا قوله : « لا يجب عليه شيء ».
فإنّه لو فهم أنّ المقصود منه أنّه لا يجب عليه الرحمة وجزاء عبده بالطاعة وفعل الجميل ، وأنّه يجوز أن يعذّب المطيع المحسن بلا ذنب ، لأنكر صلاحيّته للربوبية ، وحكم بعدم عدله وحكمته ، ولم ير بالدخول بالإسلام على تقدير أحقّيّته فائدة تقتضي إتعاب النفس في اتّباع أحكامه.
وكذا قوله : « وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، لا يسأل عمّا يفعل ».
فإنّه لو علم أنّ المراد أنّه يجوز عقاب من آمن به وعبده طول عمره ولم يذنب قطّ ، وثواب من كفر به وسبّه مدّة حياته ، وأنّه لا يسأل عن ذلك ، لحكم بأنّ تجويز ذلك تجويز للجور والسفه عليه سبحانه ، وبادر إلى الاعتراض والسؤال عن هذا العمل الوحشي.
ومعنى قوله تعالى : ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (1) على مذهب أهل العدل ، أنّه لمّا علمت حكمته وعدله فلا يسأل عن فعله إذا خفي وجهه ، لا أنّه لا يسأل عن فعله وإن نافى الرحمة والعدل والحكمة (2).
وأمّا قول الخصم : « وهم يسألون ».
فممّا يزيد المتحيّر حيرة ؛ لأنّه بعد ما ذكر له أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لا يتصوّر وجها لمسؤوليّتهم عن شيء لا تأثير لهم فيه أصلا.
ص: 396
وكذا يزيده حيرة قوله : « وهو منزّه عن فعل القبائح ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ».
إذ كيف لا يقبح فعل القبيح في حقّه وهو أحقّ من تنزّه عن القبيح.
وأمّا قوله : « ونحن نرضى بقضائه ».
فهو - لو صحّ - ممّا يشترك به الفريقان ، إلّا إنّه بإضافة قوله :
« والقضاء غير المقضي » يترك السامع متعجّبا من إرادته به وجوب الرضا بالقضاء دون المقضي ، والحال أنّ الرضا بأحدهما لا ينفكّ عن الرضا بالآخر.
وأمّا ما ذكره في تقرير مذهب الإمامية من أنّ : « الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق » ..
فتلبيس ظاهر ؛ لأنّ إسناد أفعال العباد إليهم لا يستلزم الشركة ، كإسناد الملكية والقدرة لهم ، بل ذلك من مظاهر القدرة الربّانية وتوابع العبودية ؛ لأنّه تعالى أعطانا قدرة على أفعالنا ومكّننا من الاختيار ، ولا قدرة لنا من عند أنفسنا ففعلناها بإرادتنا مع احتياجنا في كلّ آن إليه.
وهذا هو الصنع العجيب ، حيث خلق ما يؤثّر الآثار بلا مباشرة منه تعالى للأثر ، ولا حاجة له إلى المؤثّر ، بل لنزاهته عن إتيان فواحش الأعمال وحكمته في جعل القدرة والاختيار للعبد ، ففي هذا إطراء لقدرته تعالى وتنزيه له عن القبيح.
وأمّا قوله : « وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار » ..
فهو من أظهر الكذب ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ مذهب أهل العدل أنّ اللّه تعالى متصرّف بأفعاله من خلق السماوات والأرض والأجسام
ص: 397
والأعراض بإرادته واختياره ، وإنّما الذي يصف اللّه سبحانه بالموجب هو الأشاعرة ؛ لأنّه عندهم موجب لصفاته ؛ ومجرّد قولنا : إنّه تعالى يجب عليه برحمته وعدله إعطاء العوض ؛ لا يقتضي أن يكون موجبا لا مختارا حتّى لو سمّينا العوض دينا عليه ، فإنّ أداء الدين اختياري للعبد ، فكيف لله تعالى؟! وهذا من جهالات الخصم وخرافاته.
وأمّا قوله : « وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها وليس له أن يتفضّل » ..
فأكذب من الأوّل ، كما ستعرف.
قال نصير الدين قدس سره في ( التجريد ) : « والعفو واقع ؛ لأنّه حقّه تعالى ... ولا ضرر عليه في تركه ... ولأنّه إحسان ، وللسمع والإجماع على الشفاعة » (1).
وقال القوشجي في شرحه : « اتّفقت الأمّة على إنّه تعالى يعفو عن الأمّة وعن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، ولا يعفو عن الكفر قطعا ، واختلفوا في جواز العفو عن الكبائر بدون التوبة ، فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنّه جائز عقلا غير جائز سمعا ، وذهب الباقون إلى وقوعه عقلا وسمعا ، واختاره المصنّف » (2).
فأين ما اشترطه الفضل من الصدق والإنصاف؟!
وأمّا قوله : « وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق ولا علم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق » ..
فأكذب من الأوّلين ؛ لأنّا نقول : إنّه تعالى عالم لذاته في الأزل وهو
ص: 398
ظاهر ، وقد قضى - أي حكم - بالأزل بكلّ شيء من الكائنات سوى أفعال عباده كما يظهر من أخبار أهل البيت علیهم السلام .
نعم ، لم يكن بالأزل القضاء ببعض معانيه كالخلق والإعلام والتكليف ، ومجرّد قولنا بعدم زيادة صفاته تعالى على ذاته لا يستلزم عدم علمه في الأزل بالأشياء ، كيف؟! وعلمه عين ذاته!
وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثانيا : « وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار » ..
فهو لا يختصّ بمذهبه ، بل هم يرونه سبحانه موجبا لصفاته.
وأمّا قوله : « يكلّف الناس كيف ما يشاء » إلى تمام ما ذكره في بيان جواز التكليف بما لا يطاق ..
ففيه : إنّه لو سمعه المشرك لقال : على هذا يكون الإله الذي تدعون إليه غير منزّه عن السفه والجهل ، ولا مأمون الجور ، ولا يؤمنه دعوى عدم الوقوع ، ولا ضمان أن لا يقع.
وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية : « أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم » ..
فلا ريب أنّه أنسب بالحكمة والعلم والعدل ، وأقوى في رغبة السامع من القول بأنّه يجوز أن يكلّف بما لا يطاق.
وأمّا قوله : « ليس له التصرّف فيهم » ..
فظاهره كذب صريح ، وقد أراد به أنّه يمتنع عليه أن يكلّف بما لا يطاق ، كما ذكره بعبارته بعدها ، لكن قال فيها : « ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد » .. وهو كذب صريح ؛ لأنّ التكليف بما لا يطاق ليس من مراده ، وهو ممتنع الفعل والإرادة بالغير ، أعني الحكمة والعدل.
ص: 399
وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثالثا : « وهل الأولى أن يقال : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته » ..
ففيه : إنّه لو صرّح بأنّ من جملة ما جرى بتقديره وإرادته أفعال الإنسان ، حسنها وقبيحها ، لعدّه السامع مكابرة لوجدانه ، واستنكر من نسبة القبيح إلى من يريد معرفة ربوبيّته ، وحكم بمناقضة نسبة الأفعال إليه مع الحكم بأنّه لا يرضى بالمعصية ؛ لأنّ فعل المختار يستلزم رضاه ..
على إنّا أولى بأن نقول : الطاعة برضاه والمعصية بغير رضاه ، فلا وجه لتخصيص الأشاعرة به.
وأمّا ما نسبه إلى الإمامية من أنّهم يقولون : إنّه سبحانه مغلول اليد ..
فكذب بجرأة عظيمة على جلال اللّه وقدسه ، فإنّ غلّ اليد إنّما يناسب القصور عن الفعل لا التنزّه عنه ، أو كونه جورا وظلما كعذاب من لا ذنب له والتكليف بما لا يطاق ، فيكون ممتنعا بالغير ، وإن كان سبحانه أقدر كلّ قادر عليه.
فعلى رأي الخصم : إنّه سبحانه لمّا وصف نفسه بأنّه ليس بظلّام للعبيد ، كان معناه أنّه سبحانه مغلول اليد ، ولا موجب لهذا الكذب علينا على الوجه الأشنع إلّا الانتصار لدين الأسلاف.
وأمّا قوله : « فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو فاعله ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ... » إلى آخره ..
فهو من الجهل الفاضح ، لأنّا نقول : إنّا فاعلون لأفعالنا خيرا وشرّا ، فلا وجه للتفصيل.
وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن
ص: 400
له صفات تأخذ معرفتها ... » إلى آخره ..
ففيه : مع إنّ القول بعدم المشابهة مشترك ظاهرا بين الفريقين ، لا يجتمع مع القول بأخذ صفاته من صفات البشر ؛ لأنّ أخذ معرفة صفة من صفة يقتضي المشابهة بينهما ويلزمه أن يكون الموصوفان متشابهين ؛ لأنّ اقتضاء الذاتين للأمرين المتشابهين ، دليل على تشابه الذاتين ، فلا معنى لقوله : « لا يشبه الأشياء ».
وأمّا قوله : « أو نقول : إنّه لا صفات له » ..
فإن أراد به أنّه لا صفات له زائدة على ذاته ، مغايرة له في الوجود ، فهو قولنا ، وهو الحقّ الصريح.
وإن أراد به انتفاء العلم عنه ، أي انكشاف الأشياء له وحضورها عنده ، وانتفاء القدرة وباقي الصفات عنه فهو باطل ، بعد أن تكون ذاته تعالى بنفسها مصدرا لآثار العلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغيرها من الصفات ، بلا حاجة منه إلى الصفات المغايرة له ، فلا يشبه مخلوقاته في الحاجة إلى غيرها في صدور الآثار عنها.
نعم ، لمّا كانت ذاته المقدّسة مصدرا لآثار الصفات ، صحّ أن ينتزع له وصف الحيّ القادر العالم .. إلى غيرها من صفاته ، فهو سبحانه حيّ قادر عالم أزلا وأبدا ، وهذا معنى جليّ لا يحير فيه إلّا من لا إدراك له.
وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ اللّه تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي صفة ذاته » ..
ففيه : إنّ هذا لا يكفي في البيان ، بل ينبغي أن يضاف إليه أنّه صفة مغايرة لسائر الصفات ، فعنده يحير ذلك الطالب للمعرفة في فهم معناه ولا يجده معقولا ، ويرى الطلب في الأزل والأبد حيث لا مطلوب ،
ص: 401
ولا مطلوب منه من السفه.
وأمّا قوله : « أو يقال : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ؛ لأنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما » ..
فغير صحيح ؛ لصحّة انتزاع وصف المتكلّم له تعالى من خلقه للكلام ، لاختلاف أنحاء تلبّس الذات بالمبدأ - كما مرّ - على إنّ ذلك مناقشة لفظية في كلمة لم تثبت في الكتاب ، ولم يلزم الحكم بصحّة إطلاقها عليه تعالى ، إلى غير ذلك ممّا عرفته سابقا (1).
وأمّا قوله : « وإنّه أحدث الأمر والنهي ... بلا تقدير وإرادة سابقة » ..
فكذب ظاهر ؛ لأنّا لا ننكر التقدير والإرادة في السابق ، وقولنا بعدم زيادة صفاته تعالى لا يستدعي عدم الإرادة الأزلية المنتزعة من ذاته تعالى ، كالعلم والقدرة والحياة الأزليّات ، وإنّما يتأخّر المراد لوقته ، كما هو كذلك على قولهم.
وأمّا قوله : « وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة » إلى قوله : « ولكن هذه الرؤية بلا كيفية ، كما سترى وتعلم » ..
ففيه : إنّه يستلزم إنكار السامع من وجهين :
الأوّل : إنّه تعالى لو كان صالحا لتعلّق الرؤية به ، فلم لا يرى في الدنيا ، والرؤية فيها أولى ، ليحصل اليقين به وجدانا ، فيطلبها السامع حينئذ فيقع القائل في الحيرة.
الثاني : إنّه لا يتصوّر معنى معقولا للرؤية بلا كيفية ، فينفر المتحيّر عن الدين المشتمل على ما لا يعقل ، فيقع بدل ما أرادوا من الشغف في
ص: 402
العبادة النفرة عنها وعن أصل الدين ، ويعدّ وعدهم في الرؤية غير المعقولة مسخرة ؛ وكاف في شغفه في العبادة أن يعرف ما يستحقّ بها من الثواب الجزيل والقرب من رحمة ربّه الكريم.
وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء اللّه مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر » ..
ففيه :
أوّلا : إنّه لا معنى للعصمة عن الكذب في دعوى الرسالة كما هو مراده ، وقد سبق.
وثانيا : إنّهم لا ينزّهون الأنبياء عن الكبائر قبل النبوّة ، وبعضهم لا ينزّههم حتّى عن الكفر قبلها! وأمّا بعد النبوّة فلا ينزّهونهم عن الكبائر سهوا ، بل عمدا عند بعضهم ، كما ستسمع إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا قوله : « ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر » ..
ففيه : إنّ هذا موجب للنفرة منهم ؛ لأنّ من جاء لتأسيس شرع أو تقوية شرع سابق ، لا يحسن أن يخالفه ، ولا يكون مع المخالفة محلّا للوثوق والاتّباع.
فكيف يسكن إليه الحائر وقد قرعوا سمعه - قبل الإيمان به - بأنّه يفعل المعاصي ويخالف ما جاء به؟!
ولا يخفى أنّ لفظ « الإمكان » في كلامه فضلة لا محلّ لها!
وأمّا قوله : « فلا تيأس أنت من عفو اللّه وكرمه ، إن صدر منك ذنب » ..
ففيه : إنّ هذا قبل السؤال إغراء بالمعصية ودعوة إليها!
وقوله : « فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب » ..
ص: 403
متناقض المفاد ؛ لأنّ الأسوة هو المتّبع ، ومن يقع منه الذنب يحرم اتّباعه ، مع إنّ العاصي لا يكون أسوة حسنة.
وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية ، أنّ : « الأنبياء كالملائكة ، يستحيل عليهم الذنب » ..
فهو افتراء عليهم ؛ لأنّ العصمة عندهم عن الذنب لا تنافي القدرة عليه ، وإلّا لم يصحّ التكليف ؛ على أنّه منقوض بالعصمة عن الكبائر عندهم ، فإنّهم يقولون بها كما زعم.
وأمّا ما ذكره من أنّه : « إذا سمع المتحيّر بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (1) ، يتردّد في نبوّة آدم » ..
ففيه : إنّه إذا تردّد قيل له : إنّ المراد بالمعصية ترك الأولى (2) ، وإرادة خلاف الظاهر غير عزيزة في كلام العرب ، وإلّا لم يمكن أن يذكر له أنّ اللّه ليس بجسم ؛ لأنّه يتردّد في ربوبيّته إذا سمع قوله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (3) ، ونحوه.
وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّ هذا خارج عمّا نحن بصدده ؛ لأنّ الكلام في ما هو أقرب إلى العقل المتحيّر من الأمور العقليّة ، لا في الأمور التاريخية التي تتبع
ص: 404
واقعها وتحتاج إلى السبر والاطّلاع ، فالذي ينبغي أن يذكر في مسألة الإمامة ، أنّه :
هل الأولى أن يقال له : إنّ أئمّتنا معصومون مطهّرون من الذنوب ، عالمون بكلّ ما جاء به النبيّ من عند اللّه ، حافظون لكلّ حكم أراده اللّه ، منصوص عليهم كأوصياء الأنبياء ، قادرون على سياسة الأمّة على حسب القانون الإلهي ، لا يخطئون ولا يجهلون ..
أو يقال له : إنّ أئمّتنا ممّن يختارهم الأمّة ، ولو واحد ، حتّى إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ترك أمّته سدى ، وأوكل الأمر إلى اختيارهم مع قرب عهدهم بالكفر ، وإن أدّى الحال إلى اختيار مثل : معاوية ، ويزيد ، وعبد الملك ، والوليد ، والمنصور ، والرشيد ، وأشباههم من ملوك الجور والضلال والجهل والفساد ، فهم أئمّتنا ويجب علينا اتّباعهم وتعظيمهم؟!
ولو سلّم أنّ للأمور التاريخية دخلا في ما نحن فيه ، بلحاظ أنّ منها ما يستقرّ به العقل ، ومنها ما يستبعده ، فاللازم أن نذكر في مذهب الإمامية كما ذكر في مذهبه شيئا من التفصيل ..
فنقول :
لمّا بعث اللّه تعالى رسوله صلی اللّه علیه و آله وصدع بأمره ، تبعه الناس اختيارا واضطرارا ، وكان فيمن صحبه أناس أخبرهم الرهبان والكهنة بعلوّ أمره ، وبعد صيته ، فصحبوه طلبا للدنيا ، وصحبه آخرون للخوف ، ولكثير منهم ترات (1) عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله وابن عمّه ووزيره ، فلمّا أراد اللّه تعالى
ص: 405
قبض نبيّه صلی اللّه علیه و آله إليه أوصى ابن عمّه - المعدود أخاه ونفسه بأمر اللّه - كما هي عادة الأنبياء وأهل الولاية.
ولمّا قبضه اللّه إليه وجد أولئك المتصنّعون فرصة الأطماع والثارات ، واغتنم بعضهم مشغولية الوصي بجهاز النبيّ صلی اللّه علیه و آله فبادروا لعقد البيعة لواحد منهم ، وأعانهم أهل المكر والخداع ، واتّبعهم الرعاع!
فكان الأمر كما قال تعالى منكرا عليهم : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ... ) (1) ، وكما أخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّهم يرتدّون على أدبارهم القهقرى (2) ، وأنّه يكون في هذه الأمّة مثل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل (3) ، الذي من جملته مخالفة أخيه وإرادة قتله ، ولم يبق مع وصيّه إلّا من امتحن اللّه قلبه للإيمان ( ... وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (4).
فلمّا تمّ الأمر لأولئك القوم وقد كانوا سمعوا من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقوع الفتح بعده لبلاد كسرى وقيصر ، والنفس أمّارة بالإمارة ، ساروا لفتح تلك البلاد ، ووقع الفتح على أيديهم ، فساسوا البلاد على حسب أهوائهم ، وغيّروا الأحكام بآرائهم ، واستأثر ثالثهم بالفيء حتّى كبت به بطنته ، ولو تركوا الأمر لأهله لعمّ الإسلام والعدل وفتحوا الدنيا بأسرها.
فهل ترى أنّ هذا التاريخ أقرب إلى الاعتبار ، أو التأريخ الذي ذكره الخصم؟!
ص: 406
وأمّا ما زعمه من أنّ الأخذ من أمير المؤمنين علیه السلام لا يختصّ به الإمامية ؛ فالحاكم فيه هو الإنصاف ، كيف؟! وقد خالفه عامّة السنّة بكلّ ما قدروا عليه من أصول الدين وفروعه ، ونبذوه وراء ظهورهم ، ورجعوا إلى من عرفوه بخلافه وانحرافه عنه وعن أبنائه الطاهرين!
وأمّا ما زعمه من أنّهم أخذوا أيضا العقائد من الخلفاء وأكابر الصحابة ؛ فنحن لم نسمع لمن عناهم شيئا من المعارف ، ولم نعلم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله شهد لأحد منهم بالعلم والاجتهاد والأمانة! ولكن روى لهم بعض أوليائهم شيئا من ذلك كذبا على النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ..
وإنّما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » (2)
ص: 407
ولا تؤتى المدينة إلّا من بابها ، فمن أتاها من غيره فهو سارق.
وأمّا ما ادّعاه من أنّا نمزج ما ننقله بألف كذبة ، وأنّهم ينقلون بالأسانيد الصحيحة ؛ فيكفي المنصف في ردّه ما ذكرناه في مقدّمة الكتاب.
والحمد لله الذي جعلنا ممّن يأخذ عن نبيّه وباب مدينة علمه ، وجعلنا ممّن تمسّك بالثقلين ، ونسأله جوارهم في الدارين.
* * *
ص: 408
قال المصنّف قدس سره (1) :
ذهب الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة إلى أنّ من الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ.
فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وإنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
ومنها : ما هو معلوم بالاكتساب أنّه حسن أو قبيح ، كحسن الصدق الضارّ ، وقبح الكذب النافع.
ومنها : ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه ، كالعبادات (2).
ص: 409
وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيّان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء ولا قبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع ، فما حسّنه فهو حسن ، وما قبّحه فهو قبيح (1).
* * *
ص: 410
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة (2) :
الأوّل : صفة الكمال والنقص ، يقال : العلم حسن ، والجهل قبيح ، ولا نزاع في أنّ هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل ، ولا تعلّق له بالشرع.
الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ، وقد يعبّر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة ، وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل ، كالمعنى الأوّل.
الثالث : تعلّق المدح والثواب بالفعل ، عاجلا وآجلا ، والذمّ والعقاب كذلك ، فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى حسنا ، وما تعلّق به الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى قبيحا.
وهذا المعنى الثالث محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها ليس شيء منها بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذمّ فاعله وعقابه ، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها.
وعند المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية عقلي ، كما ذكر هذا الرجل.
ص: 411
هذا هو المذهب ، وكثيرا ما يشتبه على الناس أحد المعاني الثلاثة بالآخر ، ويحصل منه الغلط فتحفظ عليه ، وإنّما كرّرنا هذا المبحث وأعدناه في الموضع ليتحفّظ عليه.
* * *
ص: 412
ضاق على القوم طريق الاعتذار ، واتّسع عليهم سبيل الانتقاد ، فأقرّوا بالحسن والقبح العقليّين في الأفعال بالتزامهم بالمعنى الأوّل على إطلاقه وهم لا يشعرون ؛ لأنّ العلم - ونحوه ممّا جعلوه صفة - هو في الحقيقة من الأفعال ، ولذا يكلّف الإنسان بالعلم ومعرفة الأحكام.
لكن إذا ثبت للإنسان قيل : إنّه صفة له ، وكذا كلّ ما هو من نحوه من الأفعال ؛ كالصدق ، والكذب ، والإحسان ، والإساءة ، والعدل ، والظلم ، ونحوها.
وحينئذ فيكون معنى حسنها : إنّه ممّا ينبغي فعلها ، ويستحقّ فاعلها المدح عند العقلاء ، ومعنى قبحها : إنّها ممّا ينبغي تركها ، ويستحقّ فاعلها الذمّ عند العقلاء.
وأمّا ما ذكروه من المعنى الثاني ، فغير متّجه ؛ لأنّ دعوى أنّ الحسن والقبح عقليّان بهذا المعنى غير صحيحة ، إذ إنّ الملاءمة والمنافرة إنّما يستلزمان الحبّ والبغض ، والتحسين والتقبيح الطبعيّين ، لا الحسن والقبح العقليّين ، كما هو ظاهر.
هذا ، وقد أطلق القوم على ملاءمة الغرض ومنافرته : المصلحة والمفسدة ، والظاهر إرادة المصلحة والمفسدة عند الفاعل باعتبار ميله وعدمه ، ولا يمكن أن يريدوا بهما المصلحة والمفسدة الواقعيّتين ، فإنّه لا يصحّ جعلهما تعبيرا آخر عن الملاءمة والمنافرة.
وأمّا المعنى الثالث ، فإنّ معنى الحسن فيه : إنّه ما يستحقّ فاعله
ص: 413
المدح عند العقلاء ، ومعنى القبيح : ما يستحقّ فاعله الذمّ عند العقلاء ، وهذا هو محلّ النزاع ، فإنّا نثبته ، وهم ينكرونه ، فإدخال كلمة « الثواب والعقاب » في تعريفهما خطأ ظاهر.
فالحقّ أنّ النزاع بيننا وبينهم في أنّ الفعل هل فيه جهة تحسّنه أو تقبّحه عقلا ، أو لا؟ بل يتبع في حسنه وقبحه أمر الشارع ونهيه ، ولا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، فما نهي عنه شرعا قبيح ، وما لم ينه عنه حسن ، كالواجب والمندوب ، وكالمباح عند أكثرهم ، وكفعل اللّه سبحانه ؛ لأنّها جميعا لم ينه عنها شرعا.
وأمّا فعل الصبي فقد قال في « شرح المواقف » : « مختلف فيه » (1).
وأمّا فعل البهائم فقد قال : « قيل : إنّه لا يوصف بحسن ولا قبح باتّفاق الخصوم » (2).
وكيف كان! فقد اختار الأشاعرة الثاني (3).
والحقّ عندنا : الأوّل ؛ ضرورة أنّه - مع قطع النظر عن الشرع - نرى الفرق الواضح بين السجود والتعظيم للملك القهّار ، والسجود والتعظيم لخسيس الأحجار ، وبين الصدق النافع والكذب الضارّ.
وعلى رأي الأشاعرة لا فرق بينهما عقلا ، مع قطع النظر عن الشرع (4) ، وهو حقيق بالعجب.
* * *
ص: 414
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّ حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ ؛ إن أريد بهما صفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة فلا شكّ أنّهما عقليّان ، كما سبق.
وإن أريد بهما تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، فلا نسلّم أنّه ضروري ، بل هو متوقّف على إعلام الشارع.
وكيف يدرك تعلّق الثواب وهو من اللّه ، وبالشرع والإعلام من الشارع؟!
* * *
ص: 416
قد عرفت أنّ الصدق والكذب فعلان في أنفسهما ، وأنّ الحسن والقبح ثابتان لهما عقلا مع قطع النظر عن لحاظ الوصفيّة والملاءمة والمنافرة ؛ فيتمّ المطلوب.
ولا دخل للثواب والعقاب في محلّ النزاع حتّى يقال : لا دخل للعقل في إدراكهما!
* * *
ص: 417
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الثاني : لو خيّر العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولا علم شيئا من الأحكام ، بل نشأ في بادية خاليا من العقائد كلّها ، بين أن يصدق ويعطى دينارا ، وبين أن يكذب ويعطى دينارا ، ولا ضرر عليه فيهما ، فإنّه يتخيّر الصدق على الكذب.
ولو لا حكم العقل بقبح الكذب وحسن الصدق لما فرّق بينهما ولا اختار (2) الصدق دائما.
* * *
ص: 418
قد عرفت ما فيه ممّا سبق (1) ، فلا حاجة إلى الإعادة ، ولا أدري متى كان إيجاب الثواب والعقاب معنى للحسن والقبح العقليّين حتّى يدّعيه الإمامية ، ويكون محلّا للنزاع.
وإنّما نقول في المثال : إنّ الصدق - بما هو فعل صادر من الشخص - حسن عقلا ، والكذب - كذلك - قبيح عقلا ، وهم ينكرونه.
ولا يخفى أنّ جعله لاختيار الصدق فرضيا دليل على تكلّفهم في إثبات الحسن والقبح العقليّين بالمعنيين اللذين زعم عدم النزاع بهما.
* * *
ص: 420
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّ البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء لصفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة ، لا تعلّق الثواب والعقاب.
وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟!
* * *
ص: 422
البراهمة يحكمون بحسن الأفعال وقبحها بما هي أفعال ، كما هو محلّ الكلام على الصحيح ..
وما اختلقه بعض الأشاعرة من تعدّد المعاني والتفصيل فيها فإنّما قصدوا به الفرار لكن في غير الطريق المستقيم ، أو تسليم للحقّ لكن بوجه المعارضة.
* * *
ص: 423
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الرابع : الضرورة قاضية بقبح العبث ، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة ، ويبيع متاعا - أعطي في بلده عشرة دراهم - في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة ، ويعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا.
وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل.
وقبح ذمّ العالم الزاهد على علمه وزهده ، وحسن مدحه ، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه ، وحسن ذمّه عليهما.
ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات ؛ لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال ، والضروريات قد لا تحصل لهم.
* * *
ص: 424
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة ، لا لكونه موجبا لتعلّق الذمّ والعقاب ، وهذا ظاهر.
وقبح مذمّة العاقل ، وحسن مدحة الزاهد ؛ للاشتمال على صفة الكمال والنقص.
فكلّ ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محلّ النزاع ، فإنّ الأشاعرة معترفون بأنّ كلّ ما ذكره من الحسن والقبح عقليّان ، والنزاع في غير هذين المعنيين.
* * *
ص: 425
ليت شعري أكان محلّ الكلام في حسن الأفعال وقبحها عقلا مشروطا بأن لا تكون فيها مصلحة ومفسدة حتّى يقول : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على مفسدة؟!
ومنشأ اشتباهه أنّه رأى أصحابه يعبّرون عن ملاءمة الغرض ومنافرته بالمصلحة والمفسدة (1) ، فتخيّل ذلك ولم يعلم أنّهم إنّما جعلوا الحسن والقبح - اللذين بمعنى الملاءمة والمنافرة ، والمصلحة والمفسدة - خارجين عن محلّ النزاع ؛ لا أنّه يشترط في محلّ النزاع عدم المصلحة والمفسدة في الفعل واقعا.
على إنّ قبح العبث ضروري وإن لم يشتمل على مفسدة ، بل لو اشتمل عليها لم يثبت القبح عندهم بمعنى المنافرة للغرض ، إذ لا غرض للعابث ، فيلزم أن لا يقبح العبث عندهم وقد أقرّوا بقبحه!
وأمّا قوله : « وقبح مذمّة العالم ، وحسن مدحة الزاهد » ..
ففيه : تسليم للحقّ باسم المعارضة ، والوفاق بصورة الخلاف ، فما ضرّهم لو أنصفوا؟!
واعلم أنّ الخصم لم يجب عن قبح تكليف ما لا يطاق عجزا عن الجواب ؛ لأنّ التكليف المذكور ليس عندهم صفة نقص ولا مفسدة ، وإلّا لما أجازوه على اللّه تعالى.
ص: 426
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الخامس : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من اللّه تعالى شيء.
ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة (2).
فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.
* * *
ص: 427
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّه لم يقبح من اللّه شيء.
قوله : « لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكاذبين ».
قلنا : عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه مقبحا عقلا ، بل لعدم جريان عادة اللّه تعالى ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك.
قوله : « تجويز هذا يسدّ باب معرفة النبوّة ».
قلنا : لا يلزم هذا ؛ لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار ، فلا ينسدّ ذلك الباب.
* * *
ص: 428
كيف تصحّ دعوى العادة؟! والحال أنّه لا اطّلاع له على كلّ من ادّعى النبوّة!
ولو فرض الاطّلاع فمن المحتمل كذب كلّ من جاء بمعجزة ، فلا تثبت نبوّة صادقة فضلا عن جريان العادة بها.
على إنّه كيف يقطع بعدم تخلّف العادة في مقام تخلّف العادة بإظهار المعجزة؟!
* * *
ص: 429
قال المصنّف قدس سره (1) :
السادس : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لحسن من اللّه تعالى أن يأمر بالكفر ، وتكذيب الأنبياء ، وتعظيم الأصنام ، والمواظبة على الزنا والسرقة ، والنهي عن العبادة والصدق ؛ لأنّها غير قبيحة في أنفسها ، فإذا أمر اللّه بها صارت حسنة ؛ إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة ، فإنّ شكر المنعم ، وردّ الوديعة ، والصدق ، ليست حسنة في أنفسها ، ولو نهى اللّه عنها كانت قبيحة (2).
لكن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجانا لغير غرض ولا حكمة ، صارت حسنة ، واتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة ، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينها.
ومن أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال ، وأحمق الحمقاء ، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك!
ومن لم يعلم ووقف عليه ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك!
فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلّا يضلّ غيرهم وتستوعب البلية جميع الناس.
* * *
ص: 430
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيّين ، بمعنى أنّ الشرع حاكم بالحسن ، والقبح أن يحسن من اللّه الأمر بالكفر والمعاصي ؛ لأنّ المراد بهذا الحسن : إن كان استحسان هذه الأشياء ، فعدم هذه الملازمة ظاهر ؛ لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم ، وقد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها.
وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ، لكن جرى عادة اللّه على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال ، والنهي عمّا اشتمل على مفسدة من الأفعال.
فالعلم العادي حاكم بأنّ اللّه تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قطّ ، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة ، فحصل الفرق بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة اللّه الذي يجري مجرى المحال العادي ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر هذا الرجل ، فقد زعم أنّه فلق الشعر في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ ، حتّى رتّب عليه التشنيع والتفظيع ، فيا له من رجل ما أجهله!
* * *
ص: 431
قد سبق أنّ القبيح عندهم ما نهي عنه شرعا ، والحسن ما لم ينه عنه كما في « المواقف » (1).
وحينئذ فالأفعال كلّها ليست حسنة أو قبيحة بالنظر إلى ذواتها وقبل تعلّق التكاليف بها ، وإنّما تكون حسنة أو قبيحة بعد تعلّقها بها.
فلو تعلّق أمره تعالى مثلا بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الشياطين كانت حسنة وكان أمره أيضا حسنا ؛ لأنّ أمره من فعله ، وفعله حسن ؛ لأنّه لم ينه عنه فيشمله تعريف الحسن المذكور ، كما صرّح به في « شرح المواقف » (2) وذكرناه سابقا (3) ..
وحينئذ يتمّ ما ذكره المصنّف قدس سره بقوله : « لو كان الحسن والقبح شرعيّين لحسن من اللّه تعالى أن يأمر بالكفر » فإنّ الكفر - مثلا - ليس قبيحا قبل التكليف ، فيصحّ تعلّق الأمر به ، وإذا تعلّق به صار حسنا كما يحسن الأمر به.
وبذلك يعلم أنّه لا محلّ لتفسير الخصم للحسن والقبح الشرعيّين بأنّ الشرع حاكم بهما ، ولا لترديده في مراد المصنّف رحمه اللّه بالحسن بين أمرين لا دخل لهما بمقصود المصنّف ولا بمصطلح الأشاعرة.
على إنّه لو أراد المصنّف الشقّ الأوّل فهو لازم لهم على مذهبهم ؛
ص: 432
لأنّ الأمور التي ذكرها المصنّف ، من الكفر وتكذيب الأنبياء وأشباههما مخلوقة لله تعالى عندهم ومن أفعاله ، فلو كانت مخالفة للمصلحة ولا يستحسنها الحكيم لما فعلها.
ودعوى أنّ فعله لها إنّما يدلّ على استحسانه لها من حيث فاعليّته لها ، لا من حيث كسب العبد إيّاها ومحلّيّته لها ، غير ضارّة في المطلوب لو سلّمت ، إذ لا يهمّنا إلّا إثبات ما أنكره الخصم من استحسانها على مذهبهم من أيّ حيثية كانت.
وقوله : « قد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها ... » ..
خطأ ظاهر ؛ لأنّ الذي ذكره هو حصول المصلحة والمفسدة بمعنى الملاءمة والمنافرة لا الذاتيّين (1).
وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني بقوله : « وإن كان المراد عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ».
ففيه : إنّه بعد ما بيّن في الشقّ الأوّل أنّ الحكيم لا يستحسن ما يكون مخالفا للمصلحة ، كيف لا يمتنع عليه الأمر به؟! فإنّ الحكيم لا يجوز عليه أن يأمر بما يكون مخالفا للمصلحة ولا يستحسنه.
ثمّ ما ذكره من جريان العادة غير مفيد له ، فإنّه لو سلّم العلم بالعادة مع عدم الاطّلاع على أديان جميع الأنبياء ، فالإشكال إنّما هو من جهة جواز أمره تعالى بالكفر ونحوه وحسنه ، لا من جهة الوقوع حتّى يجيب بعدم جريان العادة.
ص: 433
وبالضرورة : إنّ تجويز مثله على الحكيم إخراج له عن الحكمة ، وهو كفر!
فظهر أنّ المصنّف قد فلق الشعر بتدقيقه ، فجزاه اللّه تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين ، وجعلنا من أعوانه على الحقّ ، إنّه أكرم المسؤولين.
* * *
ص: 434
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
السابع : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع ، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ إذا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعوّ أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ، فأنا لا أنظر حتّى أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، وقبله لا يجب عليّ امتثال الأمر ؛ فينقطع النبيّ ولا يبقى له جواب!
* * *
ص: 435
وقال الفضل (1) :
جواب هذا قد مرّ في بحث النظر (2) ..
وحاصله : إنّه لا يلزم الإفحام ؛ لأنّ المدعوّ ليس له أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ؛ بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر.
ووجوب النظر لا يتوقّف على معرفته له ؛ للزوم الدور كما سبق ، فلا يلزم الإفحام.
* * *
ص: 436
قد سبق أنّ ارتفاع الإفحام إنّما يكون بعلم المدعوّ بالوجوب لا بمجرّد ثبوته واقعا ، كما ذكرناه موضّحا فراجع (1).
* * *
ص: 437
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الثامن : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لم تجب المعرفة ؛ لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور
* * *
ص: 438
قال المصنّف قدس سره (1) :
التاسع : الضرورة قاضية بالفرق بين من أحسن إلينا دائما ، ومن أساء إلينا دائما ، وحسن مدح الأوّل وذمّ الثاني ، وقبح ذمّ الأوّل ومدح الثاني ، ومن شكّ في ذلك فقد كابر مقتضى عقله.
* * *
ص: 441
وقال الفضل (1) :
هذا الحسن وهذا القبح ممّا لا نزاع فيه بأنّهما عقليّان ؛ لأنّهما يرجعان إلى الملاءمة والمنافرة ، أو الكمال والنقص.
على إنّه قد يقال : جاز أن يكون هناك عرف عامّ هو مبدأ لذلك الجزم المشترك ، وبالجملة : هو من إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، واللّه تعالى أعلم.
هذه جملة ما أورده من الدلائل على رأيه العاطل ، وقد وفّقنا اللّه لأجوبتها كما يرتضيه أولو الآراء الصائبة.
ولنا في هذا المبحث تحقيق نريد أن نذكره في هذا المقام ، فنقول :
اتّفقت كلمة الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة على إنّ من أفعال العباد ما يشتمل على المصالح والمفاسد ، وما يشتمل على الصفات الكمالية والنقصانية ، وهذا ممّا لا نزاع فيه.
وبقي النزاع في أنّ الأفعال التي تقتضي الثواب أو العقاب ، هل في ذواتها جهة محسّنة ، صارت تلك الجهة سبب المدح والثواب ، أو جهة مقبّحة ، صارت سببا للذمّ والعقاب ، أو لا؟
فمن نفى وجود هاتين الجهتين في الفعل ، ماذا يريد من هذا النفي؟!
إن أراد عدم هاتين الجهتين في ذوات الأفعال ، فيرد عليه أنّك
ص: 442
سلّمت وجود الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة في الأفعال ، وهذا عين التسليم بأنّ الأفعال في ذواتها جهة الحسن والقبح ؛ لأنّ المصلحة والكمال حسن ، والمفسدة والنقص قبح.
وإن أراد نفي كون هاتين الجهتين مقتضيتان للمدح والثواب بلا حكم الشرع بأحدهما ؛ لأنّ تعيين الثواب والعقاب للشارع والمصالح والمفاسد في الأفعال التي تدركهما العقول ، لا يقتضي تعيين الثواب والعقاب بحسب العقل ؛ لأنّ العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد في الأفعال ، ومزج بعضها ببعض ، حتّى يعرف الترجيح ويحكم بأنّ هذا الفعل حسن لاشتماله على المصلحة ، أو قبيح لاشتماله على المفسدة ، فهذا الحكم خارج عن طوق العقل فتعيّن تعيّنه للشرع.
فهذا كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يردّه المعتزلي.
مثلا : شرب الخمر كان مباحا في بعض الشرائع ، فلو كان شرابه حسنا في ذاته بالحسن العقلي ، كيف صار حراما في بعض الشرائع الأخر؟! هل انقلب حسنه الذاتي قبحا؟!
وهذا ممّا لا يجوز ، فبقي أنّه كان مشتملا على مصلحة ومفسدة ، كلّ واحد منهما بوجه ، والعقل كان عاجزا عن إدراك المصالح والمفاسد بالوجوه المختلفة.
فالشرع صار حاكما بترجيح جهة المصلحة في زمان ، وترجيح جهة المفسدة في زمان آخر ، فصار حلالا في بعض الأزمنة حراما في البعض الآخر.
فعلى الأشعري أن يوافق المعتزلي ؛ لاشتمال ذوات الأفعال على جهة المصالح والمفاسد ، وهذا يدركه العقل ولا يحتاج في إدراكه إلى الشرع.
ص: 443
وهذا في الحقيقة هو الجهة المحسّنة والمقبّحة في ذوات الأفعال.
وعلى المعتزلي أن يوافق الأشعري أنّ هاتين الجهتين في العقل لا تقتضي حكم الثواب والعقاب والمدح والذمّ باستقلال العقل ؛ لعجزه عن مزج جهات المصالح والمفاسد في الأفعال.
وقد سلّم المعتزلي هذا في ما لا يستقلّ العقل به ، فليسلّم في جميع الأفعال ، فإنّ العقل في الواقع لا يستقلّ في شيء من الأشياء بإدراك تعلّق الثواب.
فإذا كان النزاع بين الفريقين مرتفعا ، تحفّظ بهذا التحقيق ، وباللّه التوفيق.
* * *
ص: 444
قد عرفت في أوّل المطلب أنّ الملاءمة والمنافرة جهتان تقتضيان الحبّ والبغض ، والرضا والسخط ، لا الحسن والقبح العقليّين ، فلا معنى لعدّهما من معاني الحسن والقبح.
وعرفت أنّ كثيرا من صفات الكمال والنقص ، كالإحسان والإساءة أفعال حقيقية ، والحسن والقبح فيها لا يناطان بلحاظ الوصفية ، فإذا أقرّ الخصم بحسن الإحسان وقبح الإساءة فقد تمّ المطلوب.
على إنّه لا ريب بصحّة مدح المحسن وذمّ المسيء ، فيكون الإحسان حسنا والإساءة قبيحة بالمعنى الثالث الذي فيه النزاع ، فلا معنى لإرجاعه إلى أحد المعنيين الأوّلين.
وأمّا ما ذكره في العلاوة المأخوذة من « شرح المواقف » (1) ..
ففيه : إنّه إذا أريد من العرف العامّ اتّفاق آراء العقلاء على حسن شيء أو قبحه ، فهو الذي تذهب إليه العدلية ، ولكن لا معنى لتسميته بالعرف العامّ ، ولا يتصوّر تحقّق العرف العامّ من دون أن يكون هناك حسن وقبح عقليّان ، فإنّه ليس أمرا اصطلاحيا.
وأمّا ما بيّنه في تحقيقه فهو رجوع إلى قول العدلية بثبوت الحسن والقبح العقليّين ، بسبب جهات محسّنة أو مقبّحة ، ولا نزاع لأهل العدل معهم إلّا بهذا كما سبق.
ص: 445
كما إنّ ظاهره تسليم اقتضائهما للمدح والذمّ عقلا ، لكنّه قال : « إنّ العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد ، وعاجز عن إدراك استحقاق الثواب والعقاب على الأفعال من حيث هي » وهو مسلّم في الجملة عند العدليّين ، فإنّهم لا يقولون : إنّ جميع الأفعال يدرك العقل حسنها أو قبحها ، بل منها ما هو علّة للحكم بالحسن والقبح ، كالعدل والظلم ..
ومنها ما هو مقتض للحكم كالصدق أو الكذب ..
ومنها ما هو يختلف بالوجوه والاعتبارات ، والعقل قد يعجز عن إدراك الوجوه.
وأمّا تمثيله بشرب الخمر ، فغير صحيح عند الإمامية ؛ لما أخبرهم به أهل البيت من أنّ الخمر لم يحلّ في شرع من الشرائع (1) ، وأهل البيت أدرى بما فيه.
* * *
ص: 446
من هم الفرة الناجية
مقدمة العلامة الحلي... 7
مقدمة الفضل بن روزبهان... 11
رد الشيخ المظفر... 25
المحسوسات أصل الاعتقادات
المسألة الأولى : الإدراك
المبحث الأوّل : الإدراك أعرف الأشياء ... 41
ردّ الفضل بن روزبهان... 44
ردّ الشيخ المظفّر... 47
المبحث الثاني : شرائط الرؤية... 51
ردّ الفضل بن روزبهان... 53
ردّ الشيخ المظفّر... 55
المبحث الثالث : وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط... 61
ردّ الفضل بن روزبهان... 63
ردّ الشيخ المظفّر... 66
المبحث الرابع : امتناع الإدراك مع فقد الشرائط... 71
ردّ الفضل بن روزبهان... 75
ردّ الشيخ المظفّر... 78
المبحث الخامس : الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية... 81
ردّ الفضل بن روزبهان... 83
ردّ الشيخ المظفّر... 86
المبحث السادس : هل يحصل الإدراك لمعنىً في المدرك؟... 93
ص: 447
ردّ الفضل بن روزبهان... 95
ردّ الشيخ المظفّر... 97
المبحث السابع : في أنّه تعالى يستحيل أن يرى... 101
ردّ الفضل بن روزبهان... 105
ردّ الشيخ المظفّر... 110
مباحث النظر
المسألة الثانية : النظر... 133
المبحث الأوّل : إنّ النظر الصحيح يستلزم العلم... 133
ردّ الفضل بن روزبهان... 135
ردّ الشيخ المظفّر... 137
المبحث الثاني : أنّ النظر واجب بالعقل... 141
ردّ الفضل بن روزبهان... 143
ردّ الشيخ المظفّر... 148
المبحث الثالث : معرفة اللّه واجبة بالعقل... 153
ردّ الفضل بن روزبهان... 155
ردّ الشيخ المظفّر... 158
مباحث الصفات الإلهيّة
المسألة الثالثة : في صفاته تعالى
المبحث الأوّل : إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور... 165
ردّ الفضل بن روزبهان... 167
ردّ الشيخ المظفّر... 169
المبحث الثاني : في أنّه تعالى مخالف لغيره... 173
ردّ الفضل بن روزبهان... 175
ردّ الشيخ المظفّر... 176
ص: 448
المبحث الثالث : في أنّه تعالى ليس بجسم... 179
ردّ الفضل بن روزبهان... 182
ردّ الشيخ المظفّر... 183
المبحث الرابع : في أنّه تعالى ليس بجهة... 189
ردّ الفضل بن روزبهان... 190
ردّ الشيخ المظفّر... 192
المبحث الخامس : في أنّه تعالى لا يتّحد بغيره... 195
ردّ الفضل بن روزبهان... 196
ردّ الشيخ المظفّر... 200
المبحث السادس : في أنّه تعالى لا يحلّ في غيره... 203
ردّ الفضل بن روزبهان... 205
ردّ الشيخ المظفّر... 210
حقيقة الكلام
المبحث السابع : في أنّه تعالى متكلّم... 223
المطلب الأوّل : في حقيقة الكلام... 223
ردّ الفضل بن روزبهان... 225
ردّ الشيخ المظفّر... 229
كلام اللّه تعالى متعدّد
المطلب الثاني : في أنّ كلامه تعالى متعدّد... 235
ردّ الفضل بن روزبهان... 237
ردّ الشيخ المظفّر... 238
حدوث الكلام
المطلب الثالث : في حدوثه... 241
ص: 449
ردّ الفضل بن روزبهان... 244
ردّ الشيخ المظفّر... 246
استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة
المطلب الرابع : في استلزام الأمر والنهي : الإرادة والكراهة... 251
ردّ الفضل بن روزبهان... 252
ردّ الشيخ المظفّر... 254
كلام اللّه تعالى صدق
المطلب الخامس : في أنّ كلامه تعالى صدق... 257
ردّ الفضل بن روزبهان... 259
ردّ الشيخ المظفّر... 261
صفات اللّه تعالى عين ذاته
المبحث الثامن : في أنّه تعالى لا يشاركه شيء في القدم... 267
ردّ الفضل بن روزبهان... 270
ردّ الشيخ المظفّر... 274
البقاء ليس زائداً على الذات
المبحث التاسع : في البقاء... 285
المطلب الأوّل : البقاء ليس زائدا على الذات... 285
ردّ الفضل بن روزبهان... 288
ردّ الشيخ المظفّر... 291
إنّ اللّه تعالى باقٍ لذاته
المطلب الثاني : أنّه تعالى باق لذاته... 295
ص: 450
ردّ الفضل بن روزبهان... 297
ردّ الشيخ المظفّر... 299
البقاء يصحّ على الأجسام
خاتمة... 303
الحكم الأوّل : البقاء يصحّ على الأجسام... 303
ردّ الفضل بن روزبهان... 305
ردّ الشيخ المظفّر... 306
البقاء يصحّ على الأعراض
الحكم الثاني : في صحّة بقاء الأعراض... 307
ردّ الفضل بن روزبهان... 311
ردّ الشيخ المظفّر... 316
القدم والحدوث اعتباريّان
المبحث العاشر : في أنّ القدم والحدوث اعتباريّان... 321
ردّ الفضل بن روزبهان... 323
ردّ الشيخ المظفّر... 324
نقل الخلاف في مسائل العدل
المبحث الحادي عشر : في العدل... 325
المطلب الأوّل : في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب... 325
ردّ الفضل بن روزبهان... 327
ردّ الشيخ المظفّر... 328
الحسن والقبح عليّان... 329
ردّ الفضل بن روزبهان... 330
ص: 451
ردّ الشيخ المظفّر... 332
جميع أفعال اللّه حكمة وصواب... 334
ردّ الفضل بن روزبهان... 335
ردّ الشيخ المظفّر... 336
الرضا بقضاء اللّه تعالى... 337
ردّ الفضل بن روزبهان... 338
ردّ الشيخ المظفّر... 339
لا يجوز أن يعاقب اللّه الناس على فعله... 340
ردّ الفضل بن روزبهان... 341
ردّ الشيخ المظفّر... 342
إن اللّه تعالى لا يفعل شيئاً عبثاً... 345
ردّ الفضل بن روزبهان... 346
ردّ الشيخ المظفّر... 347
عد إظهار المعجزات على يد الكذّابين... 348
ردّ الفضل بن روزبهان... 349
ردّ الشيخ المظفّر... 350
إن اللّه لا يكلف أحداً فوق طاقته... 351
ردّ الفضل بن روزبهان... 352
ردّ الشيخ المظفّر... 353
إن اللّه لا يضل أحداً عن الدين... 356
ردّ الفضل بن روزبهان... 357
ردّ الشيخ المظفّر... 358
إن اللّه يحب الطاعات ويكره المعاصي... 362
ردّ الفضل بن روزبهان... 363
ردّ الشيخ المظفّر... 364
إن إرادة النبي تبع لإرادة اللّه وكراهته تبع لكراهته تعالى... 365
ص: 452
ردّ الفضل بن روزبهان... 366
ردّ الشيخ المظفّر... 367
إرادة اللّه ما أراده الأنبياء وكراهته لما كرهوه... 368
ردّ الفضل بن روزبهان... 369
ردّ الشيخ المظفّر... 370
أمر اللّه بما أراد ونهيه عمّا كره... 371
ردّ الفضل بن روزبهان... 372
ردّ الشيخ المظفّر... 373
التوحيد... 374
ردّ الفضل بن روزبهان... 376
ردّ الشيخ المظفّر... 377
أنبياء اللّه وأئمّته منزّهون عن المعاصي... 378
ردّ الفضل بن روزبهان... 379
ردّ الشيخ المظفّر... 381
ترجيح أحد المذهبين... 385
ردّ الفضل بن روزبهان... 389
ردّ الشيخ المظفّر... 394
إثبات الحسن والقبح العقليّين
المطلب الثاني : في إثبات الحسن والقبح العقليّين... 409
ردّ الفضل بن روزبهان... 411
ردّ الشيخ المظفّر... 413
بطلان القول بأنّ الحسن والقبح شرعيان... 415
ردّ الفضل بن روزبهان... 416
ص: 453
ردّ الشيخ المظفّر... 417
الوجه الثاني :... 418
ردّ الفضل بن روزبهان... 419
ردّ الشيخ المظفّر... 420
الوجه الثالث... 421
ردّ الفضل بن روزبهان... 422
ردّ الشيخ المظفّر... 423
الوجه الرابع... 424
ردّ الفضل بن روزبهان... 425
ردّ الشيخ المظفّر... 426
الوجه الخامس... 427
ردّ الفضل بن روزبهان... 428
ردّ الشيخ المظفّر... 429
الوجه السادس... 430
ردّ الفضل بن روزبهان... 431
ردّ الشيخ المظفّر... 432
الوجه السابع... 435
ردّ الفضل بن روزبهان... 436
ردّ الشيخ المظفّر... 437
الوجه الثامن :... 438
ردّ الفضل بن روزبهان... 439
ردّ الشيخ المظفّر... 440
الوجه التاسع :... 441
ردّ الفضل بن روزبهان... 442
ردّ الشيخ المظفّر... 445
فهرس المحتويات... 447
ص: 454
المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1423 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-356-x
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الثالث
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1)
ذهبت الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة إلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، بل جميع أفعاله حكمة وصواب ، ليس فيها ظلم ولا جور ولا عدوان ولا كذب ولا فاحشة ؛ لأنّ اللّه تعالى غنيّ عن القبيح ، عالم بقبح القبائح ؛ لأنّه عالم بكلّ المعلومات ، وعالم بغناه عنه ، وكلّ من كان كذلك فإنّه يستحيل عليه صدور القبيح عنه ، والضرورة قاضية بذلك ، ومن فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة استحقّ الذمّ واللوم.
وأيضا : اللّه تعالى قادر ، والقادر إنّما يفعل بواسطة الداعي ، والداعي إمّا داعي الحاجة ، أو داعي الجهل ، أو داعي الحكمة.
أمّا داعي الحاجة ، فقد يكون العالم بقبح القبيح محتاجا إليه ، فيصدر عنه [ دفعا لحاجته ].
وأمّا داعي الجهل ، فبأن يكون القادر عليه جاهلا بقبحه ، فيصحّ صدوره عنه.
ص: 5
وأمّا داعي الحكمة ، فبأن يكون الفعل حسنا ، فيفعله لدعوة الداعي إليه.
والتقدير أنّ الفعل قبيح ، فانتفت هذه الدواعي فيستحيل القبح منه تعالى (1).
وذهبت الأشاعرة كافّة إلى أنّ اللّه تعالى قد فعل القبائح بأسرها ، من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ، ورضي بها وأحبّها (2).
* * *
ص: 6
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ الأمّة أجمعت على أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب.
فالأشاعرة من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه (2).
وأمّا المعتزلة فمن جهة أنّ ما هو قبيح منه يتركه ، وما يجب عليه يفعله (3).
وهذا الخلاف فرع قاعدة التحسين والتقبيح ، إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ، ووجوب الواجب عليه ، إلّا العقل.
فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه.
ونحن قد أبطلنا حكمه وبيّنّا أنّ اللّه تعالى هو الحاكم ، فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ، لا وجوب عليه ، ولا استقباح منه (4) .. هذا مذهب الأشاعرة.
وما نسبه هذا الرجل المفتري إليهم أخذه من قولهم : « إنّ اللّه خالق
ص: 7
كلّ شيء » (1) .. فيلزم أن يكون خالقا للقبائح ..
ولم يعلموا (2) أنّ خلق القبيح ليس فعله ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، بل بالنسبة إلى المحلّ المباشر للفعل كما ذكرناه غير مرّة ، وسنذكر تحقيقه في مسألة خلق الأعمال.
* * *
ص: 8
لا يخفى أنّ الأشاعرة لمّا زعموا أنّ اللّه تعالى خلق الأعمال جميعها ، حسنها وقبيحها ، لزمهم ما ذكره المصنّف من القول : بأنّ اللّه تعالى فاعل للقبائح بأسرها ، وأجاب الفضل عنه بجوابين :
الأوّل : إنّه لا يقبح من اللّه فعل القبيح ، إذ لا قبيح منه ولا استقباح بالنسبة إليه ؛ لأنّ قبح الفعل مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، والأشاعرة لا يقولون بها.
الثاني : إنّ خلق القبيح غير فعله.
وهذان الجوابان - مع تضمّن أوّلهما الإقرار بفعل اللّه سبحانه للقبيح - باطلان.
أمّا الأوّل : فلما عرفت من حكم العقل بالحسن والقبح العقليّين في الأفعال ، وقد أقرّ الخصم به في تحقيقه السابق (1).
وأمّا الثاني : فلأنّ كون الخلق غير الفعل لا يتصوّر أن يكون مبنيا إلّا على اعتبار أن يكون الفعل قائما في الفاعل وحالّا في ذاته ، بخلاف الخلق ، وهو باطل ؛ لأنّ القتل فعل للقاتل وهو حالّ بالمقتول.
ولو سلّمت المغايرة ، فخلق القبيح صفة نقص في الخالق ، وهو من القبح العقلي المسلّم عندهم على ما أسلفه الخصم.
فإن قلت : الخلق من أفعاله تعالى لا صفاته.
ص: 9
قلت : المراد بالصفة مطلق ما يفيد الكمال أو النقص لمن ثبت له واتّصف به ، كما يشهد به إرجاع الفضل لبعض الأمثلة التي ألزمهم بها المصنّف إلى صفة النقص أو الكمال ، وبهذا الاعتبار يوصف اللّه تعالى بالحكمة والغنى والرزق والإحياء ، ونحوها.
ولو سلّم أنّ خلق القبيح ليس صفة نقص في الخالق ، فلا شكّ أنّه مستلزم للنقص في صفاته ؛ لأنّه يعود إلى النقص في القدرة أو العلم أو الحكمة.
ومن المضحك تعليله لكون الخلق غير الفعل ، بأنّه لا قبح بالنسبة إليه ، ضرروة أنّه لا يقتضي المغايرة بينهما ، وإنّما يقتضي أن لا يكون صدور القبيح منه قبيحا ، سواء سمّى صدوره خلقا أم فعلا.
وأمّا قوله : « ولا واجب عليه » ..
فقد عرفت أنّه مناف لمقتضى الحكمة والعدل ، ومخالف لنصّ الكتاب ، حيث قال تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (1) ..
( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (2) .. و ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (3).
كما عرفت بطلان نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له أصلا ، ونفيه عن المؤثّر الموجد ، فإنّه خلاف الضرورة.
* * *
ص: 10
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
فلزمهم من ذلك محالات ..
منها : امتناع الجزم بصدق الأنبياء ؛ لأنّ مسيلمة الكذّاب لا فعل له ، بل القبيح الذي صدر عنه من اللّه تعالى عندهم ، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك.
وإنّما نعلم صدقهم لو علمنا أنّه تعالى لا يصدر عنه القبيح ، فلا نعلم حينئذ نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، ولا نبوّة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ألبتّة.
فأيّ عاقل يرضى لنفسه أن يقلّد من لم يجزم بنبيّ من الأنبياء [ ألبتّة ] ، وأنّه لا فرق عنده بين نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وبين نبوّة مسيلمة الكذّاب؟!
فليحذر العاقل من اتّباع أهل الأهواء والانقياد إلى طاعتهم ، ليبلّغهم مرادهم ويربح هو الخسران بالخلود بالعذاب (2) ، ولا ينفعه عذره غدا يوم الحساب.
* * *
ص: 11
وقال الفضل (1) :
قد مرّ مرارا أنّ صدق الأنبياء مجزوم به جزما مأخوذا من المعجزة وعدم جريان عادة اللّه تعالى على إجراء المعجزة على يد الكذّابين ، وأنّه يجري مجرى المحال العادي (2).
فنحن نجزم أنّ مسيلمة كذّاب ؛ لعدم المعجزة ، ونجزم أنّ اللّه تعالى لم يظهر المعجزة على يد الكاذب ، ويفيدنا هذا الجزم العلم العادي.
فالفرق بينه وبين الأنبياء ظاهر مستند بالعلم العادي ، لا بالقبح العقلي الذي يدّعيه.
وما ذكره من الطامّات والتنفير فهو الجري على عادته في المزخرفات والترّهات.
* * *
ص: 12
لا شكّ أنّ النبوّة ليست من المحسوسات الخارجية حتّى تعلم بالحسّ الظاهري ، ولا علم لنا بالغيب حتّى نعلم عادة اللّه فيها ، وأنّه لا يخلق المعجزة إلّا لصادق ، وهو تعالى عندهم لا يقبح عليه شيء.
فكيف يمكن دعوى العادة بإجراء المعجزة على يد الصادق دون الكاذب ، وأنّ كلّ ذي معجزة صادق دون غيره؟!
بل من الجائز أن يكون كلّ ذي معجزة كاذبا ، ومن لا معجزة له صادقا ، فلا يصحّ الجزم بنبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وغيره من الأنبياء ، ولعلّ مسيلمة هو النبي دون نبيّنا! وعلى الإسلام السلام!
* * *
ص: 13
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم تكذيب اللّه تعالى في قوله :
( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (2) ..
( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (3) ..
( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (4) ..
( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (5) ..
( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (6) ..
( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (7) ..
( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (8) ..
( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (9) ..
ومن يعتقد اعتقادا يلزم منه تكذيب القرآن العزيز فقد اعتقد ما
ص: 14
يوجب الكفر ، وحصل الارتداد والخروج عن ملّة الإسلام.
فليتعوّذ الجاهل والعاقل من هذه المقالة [ الرديئة ] المؤدّية إلى أبلغ أنواع الضلالة.
وليحذر من حضور الموت عنده وهو على هذه العقيدة فلا تقبل توبته.
وليخش من الموت قبل تفطّنه بخطأ نفسه ، فيطلب الرجعة فيقول :
( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (1) ، فيقال له :
( كَلاَّ ) (2)!
* * *
ص: 15
وقال الفضل (1) :
قد مرّ أنّ كلّ ما يقيم من الدلائل هو إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.
فإنّ الأشاعرة مذهبهم المصرّح به في سائر كتبهم : إنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يرضى بالقبائح.
والإرادة غير الرضا ، وما ذكر من الآيات ليس حجّة عليهم ، إنّما هي حجّة على من جوّز الظلم على اللّه والرضا بالكفر.
وهذا الرجل أصمّ أطروش لا يسمع نداء المنادي ، وصوّر عند نفسه مذهبا وافترى أنّه مذهب الأشاعرة ، ويورد عليه الاعتراضات ، وليس أحد من المسلمين قائلا بأنّه تعالى ظالم أو راض بالكفر ، تعالى اللّه عن ذلك.
وما يزعم أنّه يلزم الأشاعرة فهو باطل ؛ لأنّ الخلق غير الفعل.
والعجب أنّه لا يخاف أن يلقى اللّه بهذه العقيدة الباطلة ، التي هي إثبات الشركاء لله تعالى في الخلق ، مثل المجوس.
وذلك المذهب أردأ من مذهب المجوس بوجه ؛ لأنّ المجوس لا يثبتون إلّا شريكا واحدا يسمّونه ( أهرمن ) (2) ، وهؤلاء يثبتون شركاء
ص: 16
لا تحصر ولا تحصى .. ( إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (1).
* * *
ص: 17
قد سبق أنّ خلق الشيء بالاختيار يتوقّف على الرضا به والحبّ له (1) ، فيلزم - بناء على أنّه سبحانه خالق القبائح والفساد والكفر - أن تكذب الآيتان الأوليان.
كما يلزم - بناء عليه - أن تكذب الآيات النافية للظلم منه تعالى ؛ لأنّه إذا خلق ظلم الناس بعضهم لبعض كان هو الظالم للمظلوم حقيقة ، مضافا إلى أنّ خلقه تعالى لسيّئات العباد وتعذيبهم عليها ظلم لهم بالضرورة.
ويلزم - أيضا - أن تكذب الآية الأخيرة ؛ لأنّه إذا خلق الفحشاء لم يصحّ أن يتنزّه عن الأمر بها ، بل خلقه للفحشاء بقوله : « كوني » بمنزلة أمر الفاعل بها.
فإن قلت : لا ظلم منه تعالى ؛ لأنّه المالك المطلق ، وقد تصرّف في ملكه.
قلت : تصرّف المالك بملكه - ذي الحياة والشعور - بالإضرار به بلا سبب ظلم له بالضرورة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (2).
فإنّه صريح بأنّ إهلاك القرى مع إصلاح أهلها ظلم ، والحال أنّه من التصرّف في الملك.
وممّا ذكرنا يعلم أنّ ما زعمه الخصم من أنّهم ينفون الظلم والرضا
ص: 18
بالكفر والقبائح عن اللّه تعالى باطل.
ولا يتوقّف إثبات الرضا له تعالى بالقبائح على أنّ يكون بمعنى الإرادة ، وليس هو من قولنا ولا قول أحد.
وإنّما نقول بتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، وهي موقوفة على الرضا به ، فيتوقّف الفعل على الرضا به.
وما زعمه من أنّ الخلق غير الفعل قد سبق بطلانه (1) ، على أنّ الخلق للشيء يتوقّف على الرضا به بالضرورة ، ويستلزم إثبات الظلم لله تعالى وإن لم يسمّ الخلق فعلا.
ولا لوم على المصنّف في عدم التفاته إلى مثل تلك الأجوبة الفارغة عن المعنى ، المبنية على مجرّد الاصطلاح أو على أمور ضرورية الفساد.
وأمّا ما نسبه إلينا من إثبات الشركاء لله سبحانه في الخلق ، فقد سبق ما فيه (2) ، وأنّ إيجادنا لأفعالنا إنّما هو من آثار قدرته ؛ لأنّ قدرتنا وتأثيرنا من مظاهر قدرته ، ودلائل لطف صنعه وحكمته ، فنحن لم نستغن عنه في حال ، ولم نفعل بقوّة منّا واستقلال.
وأيّ مناسبة لهذا بالشركة في الخلق المنصرف إلى كونه في عرضه تعالى؟! وبقول المجوس بإلهين مستقلّين؟! بل قول الأشاعرة أشبه بقول أكثر المجوس ؛ لأنّهم معا يثبتون القدماء (3).
ويزيد الأشاعرة على بعض المجوس بإثباتهم حاجة اللّه تعالى في
ص: 19
خلقه إلى غيره ، وهو صفاته (1).
والبعض من المجوس - كما قيل - يقرّون باللّه تعالى ، ويجعلونه خالق الخير ، بلا حاجة منه سبحانه إلى غيره (2).
* * *
ص: 20
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده ؛ لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، بل ولا ظنّ به ؛ لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم ، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف ، وهو الحذر من العقاب ، والطمع في الثواب.
ومن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على اللّه تعالى ، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور ، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلّا خروج عن الملّة الإسلامية؟!
فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم ، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم ، نعوذ باللّه منها ومن أمثالها.
ومنها : إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق ، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة ، والعمل بمقتضى العقل ، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأمور الدنيوية ، والإقبال على اللّه تعالى بالكلّيّة ، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه! .. وكلّما ازداد العاصي في عصيانه ، ولجّ في غيّه وطغيانه ، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة ، واستعمال الملاذّ المزجور عنها
ص: 21
بالشرع ، نسب إلى العقل والأخذ بالحزم ..
لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلّا الخسران ، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد ، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!
ومنها : إنّه تعالى كلّف المحال ؛ لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى ، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة ، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد ، وقد كلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.
وجوّزوا بهذا الاعتبار ، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى ، أن يكلّف اللّه تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه ، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما ، وأن يبلع جبل أبي قبيس (1) دفعة ، ويشرب ماء دجلة في جرعة ، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.
فلينظر العاقل في نفسه : هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل ينسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
ومنها : إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياء علیهم السلام ؛ لأنّ دليل
ص: 22
النبوّة هو : أنّ اللّه تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق ، وكلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق ، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.
أمّا الصغرى : فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.
وأمّا الكبرى : فلجواز أن يصدّق المبطل في دعواه.
ومنها : إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [ منه ] ؛ لأنّه حينئذ أضرّ [ على البشر ] من إبليس لعنه اللّه تعالى ، وكان الواجب - على قولهم - أن يقول المتعوّذ : أعوذ بالشيطان الرجيم من اللّه تعالى!
وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!
نعوذ باللّه من اعتقاد المبطلين ، والدخول في زمرة الضالّين ، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.
* * *
ص: 23
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من اللّه تعالى ، وأنّ إجماع الملّيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبيح .. فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، فإنّ المدّعى شيء واحد.
وهم يسندونه بالقبح العقلي.
والأشاعرة يسندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه (2).
ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد - على رأي الأشاعرة - فهذا شيء يلزمهم ؛ لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال ، تكون في الجواهر والذوات .. فالخنزير قبيح ، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح ، وهم متّفقون أنّ اللّه يخلقهم.
فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.
وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مرارا.
* * *
ص: 24
قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّه لا يوجد القبائح ، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه ، كالزنا ، والقيادة ، والكفر ، ونحوها! (1).
وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف ، إذ ليس الإشكال ناشئا من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحا ، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.
فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه ، تقريرا للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.
وأمّا قوله : « وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ... » إلى آخره ..
ففيه ما مرّ من أنّ فعل القبيح وخلقه بمعنى واحد ، وتعدّد الألفاظ لا أثر له ، فإنّ الإشكال ناشئ من قولهم بإيجاد اللّه سبحانه للقبائح ، ولا لتسميته خلقا لا فعلا (2).
على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى ، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين في الأفعال.
وأمّا قوله : « فهذا شيء يلزمهم » ..
ص: 25
فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.
نعم ، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية ، أو لا تلائم الطباع ، سمّيت شرورا وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها ، وإلّا فاللّه أجلّ من أن يخلق القبيح ، تبارك اللّه أحسن الخالقين.
* * *
ص: 26
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
قالت الإمامية : إنّ اللّه تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ، ونفع يصل إليهم (2).
وقالت الأشاعرة : إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض ، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد ، ولا لغاية من الغايات (3).
ولزمهم من ذلك محالات :
منها : أن يكون اللّه تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإنّ العابث ليس إلّا الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّانا ، واللّه تعالى يقول : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ
ص: 27
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (1) .. ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (2).
والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 28
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال اللّه تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة (2).
ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.
وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها (3).
ومن دلائل الأشاعرة : إنّه لو كان فعله تعالى لغرض ، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان هو ناقصا لذاته ، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ؛ لأنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه ؛ وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه ، لا يكون باعثا على الفعل ، وسببا لإقدامه عليه بالضرورة.
فكلّ ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال.
فإذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه (4) ، هذا هو الدليل.
وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات :
منها : أن يكون اللّه تعالى لاعبا عابثا.
ص: 29
والجواب الحقيقي : إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع ، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، راجعة إلى مخلوقاته تعالى ، لكنّها ليست أسبابا باعثة على إقدامه ، وعللا مقتضية لفاعليّته ، فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها ، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتّبة عليها ، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثا خاليا عن الفوائد.
وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى ، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة (1).
* * *
ص: 30
لم ينف الحكماء كلّي الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم (1) ، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.
وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدين رحمه اللّه في التجريد : « ولا يلزم عوده إليه » (2).
يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى اللّه تعالى ، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.
وأشار إليه المصنّف رحمه اللّه بقوله : « إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ».
فقولهم في هذا الدليل : « لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه » ظاهر البطلان ، فإنّ الحكيم المحسن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده ، أو احتياج النظام إليه ، فيكون الغرض كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ؛ لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا.
وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة ، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام
ص: 31
أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا ، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.
وقالوا : إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم (1).
وما قيل : إنّ الغرض علّة لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّيّته إليه ، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.
ففيه : إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء ، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّيّته للكائنات إلى إمكانها ، واحتياجه في كونه رازقا إلى وجود من يرزقه ، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.
على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته ، وإنّه مستكمل بها (2) .. فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!
فإن قلت : نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء ، وإبقاء إبليس ، وتخليد الكفّار بالنار.
قلت : لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا ، وهو غرض راجح لهم ، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر ، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس ، فينال كلّ امرئ استحقاقه ، قال
ص: 32
تعالى : ( الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (1).
كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب اللّه وعقابه ، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطا بعدم التوبة.
وأمّا تخليد أهل النار ، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد ، مشتمل على مصلحة للمؤمنين ، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم ، قال تعالى : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (2).
هذا ، ونقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك ، كما حكاه السيّد السعيد - مع ردّه - عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي (3) ، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام ..
قال : « إعلم أنّه - رضي اللّه عنه - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له ، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث ، مثل : إنّ أفعال اللّه تعالى غير معلّلة بغرض ، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.
ص: 33
وأنت تعلم أنّه لا يشكّ ذو فكرة (1) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية ، وفعله موقوف على صفة ذاتية ، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها ، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات » (2).
والأولى في ردّه أن يقال : إنّه إن أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له ، فهو غير لازم من القول بالغرض.
وإن أراد به أنّ الغرض يكون داعيا له إلى الفعل ، فهو المطلوب ، ولا بأس به أصلا.
ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض ؛ لأنّهم قالوا بحجّية القياس (3) ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، إمّا لكون العلّة في القياس غرضا كما في أكثر المقامات ، أو لاستلزامها للغرض ، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأن يكلّف سبحانه اختيارا تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة ، وإلّا فكيف صارت علّة لفعل اللّه وهو التكليف؟!
على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإن لم تكن علّة غائية ، يستلزم القول بصحّة الأغراض ؛ لأنّ النقص المفروض يأتي أيضا
ص: 34
من تلك العلّة ؛ لأنّها تستدعي حاجته في فعله إليها.
فلا بدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.
وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث ؛ فهو عين ما في « شرح المواقف » (1).
وفيه : إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثا ولعبا وإن اشتمل في نفسه على مصلحة ، ضرورة أنّ من استأجر أجيرا على فعل فيه مصلحة ، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّانا وبلا غاية له ولا لغيره ، عدّ عابثا لاعبا.
على أنّ قوله : « أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح ... » إلى آخره ..
إنّ أراد به أنّ ذلك أمر لازم ، فهو لا يتمّ على قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء »!
وإن أراد أنّه أمر اتّفاقي ، فكيف يتنزّه اللّه سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحة ، ويراه عيبا عليه ، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلق ما لا مصلحة فيه؟!
* * *
ص: 35
قال المصنّف - رحمه اللّه تعالى - (1) :
ومنها : إنّه يلزم أن لا يكون اللّه سبحانه محسنا إلى العباد ، ولا منعما عليهم ، ولا راحما لهم ، ولا كريما في حقّ عباده ، ولا جوادا ، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز ، والمتواتر من الأخبار النبوية ، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم ، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف اللّه تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.
وبيان لزوم ذلك : إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ؛ ولهذا لا يوصف مطعم الدابّة لتسمن حتّى يذبحها بالإحسان في حقّها ، ولا بالإنعام عليها ، ولا بالرحمة ؛ لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.
وإنّما يكون كريما وجوادا لو نفع الغير للإحسان وبقصده ، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريما ولا جوادا ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله ، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟! نعوذ باللّه من مزالّ الأقدام ، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.
* * *
ص: 36
وقال الفضل (1) :
جوابه : منع الملازمة ؛ لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.
فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثا للفاعل على الفعل ، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له ، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.
نعم ، لو كان خاليا من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثا.
وقد بيّنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والغايات والمصالح ، فلا تكون أفعاله عبثا.
وأمّا قوله : « إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه » ..
فإن أراد بالقصد الغرض والعلّة الغائيّة ؛ فممنوع.
وإن أراد الاختيار وإرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين ؛ فذلك في حقّه تعالى ثابت ، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائيّة.
* * *
ص: 37
منع الملازمة مكابرة ظاهرة ، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض ، عبثّ ، والعبث لا يكون إحسانا وإنعاما وكرما ، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحسانا بلا قصد الإحسان ، وإلّا لكان كذلك وإن صدر لغاية أخرى ، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة ؛ وهو خلاف الضرورة.
قال الشاعر :
لا تمدحنّ ابن عبّاد وإن هطلت *** كفّاه بالجود سحّا يخجل الدّيما (1)
فإنّها خطرات من وساوسه *** يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما (2)
فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل ، ليس من الكرم ، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.
وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني ، فهو عين القول بالغرض ؛ لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي ، والداعي هو الغرض.
* * *
ص: 38
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها اللّه تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى ، بل وضعها وخلقها عبثا.
فلا يكون خلق العين للإبصار ، ولا خلق الأذن للسماع ، ولا اللسان للنطق ، ولا اليد للبطش ، ولا الرجل للمشي ، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.
ولا خلق الحرارة في النار للإحراق ، ولا الماء للتبريد ، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة ، ومعرفة الليل والنهار للحساب.
وكلّ هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح ، ويبطل علم الطبّ بالكلّيّة ، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح ، ويبطل علم الهيئة ، وغيرها.
ويلزم العبث في ذلك كلّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 39
وقال الفضل (1) :
إذا قلنا : إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، هي راجعة إلى مخلوقاته ، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى ..
بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح ، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها ، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [ الاختيارية ] ..
فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري ، وليس هو تعالى كذلك ؛ للزوم النقص والاحتياج ..
بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل ، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفاعل (2).
هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة ، لا نفي منافع الأشياء ، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء ..
مثلا : اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة ، وفي إضاءتها منافع للعباد ، فاللّه تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها ، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى
ص: 40
حالة باعثة إلى هذا الخلق ، فلا يلزم أن لا تكون المنافع مقصودة ، بل هي مقصودة ، بمعنى ملاحظة المصلحة والغاية المترتّبة عليها ، لا بمعنى الغرض الموجب لإثبات النقص له.
* * *
ص: 41
قوله : « رتّب عليها المصالح ».
إن أراد به أنّه رتّبها بما هي مصالح لها مقصودة من خلقها ، فهو معنى كونها غرضا منها.
وإن أراد به أنّه رتّبها بما هي مقصودة بأنفسها ، لا بما هي غرض ، لم يخرج فعل الأشياء عن العبث ، ومنه يعلم ما في قوله بآخر كلامه : « بل هي مقصودة بمعنى ملاحظة المصلحة ».
فإنّه إن أراد بقصد المنافع وملاحظتها ، مطلوبيّتها منها ، فهو المطلوب.
وإن أراد به مجرّد ملاحظتها لأنفسها ، فلا تكون مخرجة للأشياء عن العبث.
ولا يخفى أنّ قوله : « قبل خلق الأشياء دبّرها » خطأ ؛ لأنّ التدبير إنّما هو حين الخلق وما دام البقاء ، لا قبل الخلق.
ولا يصحّ أن يريد به التروّي ، فإنّه سبحانه غنيّ عن التروّي إذا أراد شيئا قال له : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (1).
وأمّا قوله : « فإنّا لو فقدنا العلّة الغائية لم نقدر على الفعل الاختياري » ..
ص: 42
فخطأ آخر ؛ لأنّ اللازم من فقدها إنّما هو العبث لا عدم القدرة.
فلو زعم أنّ الترجيح بلا مرجّح محال كالترجّح بلا مرجّح ، فهو جار في حقّ اللّه تعالى ؛ لأنّ المانع العقلي واحد ، على أنّ الامتناع والمحالية بالغير لا ينافي القدرة على نفس الفعل.
ولو اكتفى بالنسبة إلى اللّه سبحانه بمجرّد رجحان الفعل في نفسه لاشتماله على المصلحة ، جاء مثله بالنسبة إلى الإنسان بلا فرق.
ثمّ لا يخفى أنّ قياس الغائب على الشاهد الذي استند إليه سابقا يقتضي العلّة الغائيّة لأفعاله تعالى.
وما ذكره من لزوم نقص الاحتياج قد عرفت وهنه ، وهو أشبه بحديث خرافة (1).
* * *
ص: 43
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم منه الطامّة العظمى والداهية الكبرى [ عليهم ]، وهو : إبطال النبوّات بأسرها ، وعدم الجزم بصدق واحد منهم ، بل يحصل الجزم بكذبهم [ أجمع ] ؛ لأنّ النبوّة إنّما تتمّ بمقدّمتين :
إحداهما : إنّ اللّه تعالى خلق المعجزة على يد مدّعي النبوّة لأجل التصديق.
والثانية : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق.
ومع عدم القول بإحداهما لا يتمّ دليل النبوّة ..
[ المقدّمة الأولى : ] فإنّه تعالى لو خلق المعجزة لا لغرض التصديق ، لم يدلّ على صدق المدّعي ، إذ لا فرق بين النبيّ وغيره.
فإنّ خلق المعجزة لو لم يكن لأجل التصديق ، لكان لكلّ أحد أن يدّعي النبوّة ويقول : إنّ اللّه صدّقني ؛ لأنّه خلق هذه المعجزة ، ويكون نسبة النبيّ وغيره إلى هذه المعجزة على السواء ؛ ولأنّه لو خلقها لا لأجل التصديق لزم الإغراء بالجهل ؛ لأنّها دالّة عليه.
فإنّ في الشاهد لو ادّعى شخص أنّه رسول السلطان ، وقال للسلطان :
إن كنت صادقا في دعوى رسالتك ، فخالف عادتك ، واخلع خاتمك ، ففعل السلطان ذلك ، ثمّ تكرّر هذا القول من مدّعي رسالة السلطان وتكرّر من السلطان هذا الفعل عقيب الدعوى ، فإنّ الحاضرين بأجمعهم يجزمون
ص: 44
بأنّه رسول ذلك السلطان.
كذا هنا ، إذا ادّعى النبيّ الرسالة ، وقال : إنّ اللّه تعالى يصدّقني بأن يفعل فعلا لا يقدر الناس عليه مقارنا لدعواي ، وتكرّر هذا الفعل من اللّه تعالى عقيب تكرّر الدعوى ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بصدقه ، فلو لم يخلقه لأجل التصديق ؛ لكان اللّه تعالى مغريا بالجهل ، وهو قبيح لا يصدر عنه ، وكان مدّعي النبوّة كاذبا حيث قال : إنّ اللّه تعالى خلق المعجزة على يدي لأجل تصديقي ، فإذا استحال عندهم أن يفعل لغرض ، فكيف يجوز للنبيّ هذه الدعوى؟! المقدّمة الثانية ، وهي : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق ؛ ممنوعة عندهم أيضا ؛ لأنّه يخلق الإضلال ، والشرور ، وأنواع الفساد والشرك ، والمعاصي الصادرة من بني آدم علیه السلام ، فكيف يمتنع عليه تصديق الكاذب؟! فتبطل المقدّمة الثانية أيضا.
هذا نصّ مذهبهم وصريح معتقدهم ، نعوذ باللّه من عقيدة أدّت إلى إبطال النبوّات ، وتكذيب الرسل ، والتسوية بينهم وبين مسيلمة حيث كذب في ادّعاء الرسالة.
فلينظر العاقل المنصف ، ويخف ربّه ، ويخش من أليم عقابه ، ويعرض على عقله هل بلغ كفر الكافر إلى هذه المقالات الرديّة والاعتقادات الفاسدة؟! وهل هؤلاء أعذر في مقالاتهم؟ أم اليهود والنصارى الّذين حكموا بنبوّة الأنبياء المتقدّمين علیهم السلام ، وحكم عليهم جميع الناس بالكفر حيث أنكروا نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وهؤلاء قد لزمهم إنكار جميع الأنبياء ، فهم شرّ من أولئك.
ص: 45
ولهذا قال الصادق علیه السلام حيث عدّهم وذكر اليهود والنصارى : « إنّهم شرّ الثلاثة » (1).
ولا يعذر المقلّد نفسه ، فإنّ فساد هذا القول معلوم لكلّ أحد ، وهم معترفون بفساده أيضا.
* * *
ص: 46
وقال الفضل (1) :
حاصل ما ينعقد في هذا الاستدلال من هذا الكلام : أنّ اللّه تعالى لو لم يخلق المعجزة لغرض تصديق الأنبياء لم يثبت النبوّة ، فعلم أنّ بعض أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.
والجواب : إنّه إن أراد بهذا الغرض العلّة الغائيّة الباعثة للفاعل المختار على فعله الاختياري ؛ فهو ممنوع.
وإن أراد أنّ اللّه تعالى يفيض المعجزة بالقصد والاختيار ، وغايته وفائدته تصديق النبيّ من غير أن يكون تصديق النبيّ باعثا على إفاضة المعجزة ، فهذا مسلّم ، ويحصل تصديق الأنبياء من غير إثبات الغرض ، وهذا مذهب الأشاعرة كما قدّمنا.
ثمّ إنّ هذا الرجل يفتري عليهم المدّعيات المخترعة من عند نفسه من غير تفهّم لكلامهم وتأمّل في غرضهم ، فإنّهم يعنون بنفي الغرض نفي الاحتياج من اللّه تعالى ، ووافقهم في ذلك جميع الحكماء الإلهيّين (2).
فإن كان هذا المدّعي صادقا ، فكيف يكفّرهم ويرجّح عليهم اليهود والنصارى؟!
وإن كان باطلا ، فيكون غلطا منهم في عقيدة بعثهم على اختيارها
ص: 47
تنزيه اللّه تعالى من الأغراض والنقص والاحتياج ، فكيف يجوز ترجيح اليهود والنصارى عليهم؟! ومع ذلك افترى على الصادق علیه السلام كذبا في حقّهم ، وإن كان قد قال الصادق هذا الكلام ، فيجب حمله على طائفة أخرى غير الأشاعرة ..
كيف؟! والشيخ الأشعري الذي هو مؤسّس هذه المقالة تولّد بعد سنين كثيرة من أزمان الصادق؟! والأشاعرة كانوا بعده ، فكيف ذكر الصادق فيهم هذه المقالة؟!
فعلم أنّ الرجل مفتر كودن (1) كذّاب ، مثل كوادن حلّة وبغداد ، لا أفلح من رجل سوء!
* * *
ص: 48
حاصل مذهبهم - كما ذكر - : إنّه تعالى يخلق المعجزة لا لغاية ، لكنّها بنفسها تفيد التصديق بالنبوّة.
وفيه : إنّ إفادتها له ليست ذاتية ؛ إذ ليست هي إلّا كسائر خوارق العادة التي ربّما تقع في الكون ، ولا يوجب نفس وجودها تصديق أحد في دعواه ، فمن أين تفيد المعجزة التصديق بالنبوّة وهو لم يكن غرضا منها؟!
ومجرّد مقارنتها لدعوى النبوّة لا يجعل التصديق بها فائدة لها بعد أن كان أصل وجودها ومقارنتها بلا غرض ، كما لو قارنت دعوى أخرى لاخر! وحينئذ ، فلا يكون مدّعي النبوّة أولى بدعواها من غيره وإن ظهرت المعجزة على يده ؛ لأنّ خلقها كان مجّانا وبلا قصد تصديقه ، فكيف تقتضي نبوّته خاصّة؟! ثمّ لو سلّم كون التصديق فائدة للمعجزة ، فهو غير نافع لما ذكره المصنّف رحمه اللّه من لزوم كذب مدّعي النبوّة بقوله : « إنّ اللّه يخلق المعجزة لتصديقي » ، وغير دافع للإغراء بالجهل من حيث إفادة المعجزة أنّ اللّه تعالى خلقها لتصديقه ، وإن لم يكن هناك إغراء بالجهل من حيث أصل دعواه النبوّة ، لفرض كونه نبيّا.
ثمّ إنّه لم يتعرّض للجواب عن إيراد المصنّف رحمه اللّه على المقدّمة الثانية ، إكتفاء بما أسلفه من دعوى العادة التي عرفت أنّه لا معنى لها.
ص: 49
وأمّا قوله : « وإن كان باطلا فيكون غلطا في عقيدة » ..
ففيه : إنّهم لم يستوجبوا ذلك لمجرّد الغلط ، بل للإصرار عليه عنادا للحقّ ، وجرأة على اللّه تعالى ، بعد البيان بصريح الكتاب العزيز والسنّة الواضحة وحكم العقل الضروري ، ولو دعاهم إلى ذلك تنزيه اللّه تعالى عن الحاجة والنقص لما جعلوه محتاجا في كلّ آثاره إلى غيره ، وهو صفاته الزائدة على ذاته بزعمهم! وكيف يكون ذلك تنزيها وقد أوضح لهم الإمامية أنّه ليس من الاحتياج والنقص في شيء؟! بل الغرض كمال للتأثير وشاهد بكمال المؤثّر.
ومن المضحك وعظه في المقام وإنكاره على المصنّف رحمه اللّه في ترجيح اليهود والنصارى على الأشاعرة ، والحال أنّه قد جاء بأكبر منه قريبا ، حيث جعل مذهب العدلية أردأ من مذهب المجوس.
وأمّا ما زعمه من أنّ تأخّر زمن الأشعري والأشاعرة عن الصادق علیه السلام مناف لإرادته لهم ..
ففيه : إنّه إذا جاز لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إرادتهم أو المعتزلة على الخلاف بينهم من قوله صلی اللّه علیه و آله : « القدرية مجوس هذه الأمّة » (1) ، فليجز للصادق علیه السلام إرادتهم ؛ لأنّ علمه من علم جدّه ، واصل إليه من باب مدينة علمه (2) ، وهو أحد أوصيائه الطاهرين.
ص: 50
ويحتمل أن يريد الصادق علیه السلام مطلق الناصبة والمجبّرة ، فيدخل فيهم الأشاعرة ، وإن كانت بدعتهم بعده.
* * *
ص: 51
قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :
ومنها : إنّه يلزم [ منه ] مخالفة الكتاب العزيز ؛ لأنّ اللّه تعالى قد نصّ نصّا صريحا في عدّة مواضع من القرآن أنّه يفعل لغرض وغاية ، لا عبثا ولعبا ..
قال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (2) ..
قال تعالى : ( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (3) ..
وقال تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (4).
وهذا الكلام نصّ صريح في التعليل بالغرض والغاية.
وقال تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (5) ..
وقال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ) (6) ..
وقال تعالى : ( وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) (7).
ص: 52
والآيات الدالّة على الغرض والغاية في أفعال اللّه أكثر من أن تحصى ، فليتّق اللّه المقلّد في نفسه ، ويخش عقاب ربّه ، وينظر في من يقلّده ، هل يستحقّ التقليد أو لا؟!
ولينظر إلى ما قال ، ولا ينظر إلى من قال ، وليستعدّ لجواب ربّ العالمين حيث قال : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) (1) .. فهذا كلام اللّه على لسان النذير ، وهاتيك الأدلّة العقليّة المستندة إلى العقل الذي جعله اللّه حجّة على بريّته.
وليدخل في زمرة الّذين قال اللّه تعالى عنهم : ( فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (2) ..
ولا يدخل نفسه في زمرة الّذين قال اللّه تعالى عنهم : قالوا ( رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) (3).
ولا يعذر بقصر العمر ، فهو طويل على الفكر ؛ لوضوح الأدلّة وظهورها ، ولا بعدم المرشدين ، فالرّسل متواترة ، والأئمّة متتابعة ، والعلماء متضافرة.
* * *
ص: 53
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا في ما سبق أنّ ما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة (2).
فقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (3) ، فالمراد [ منه ] أنّ غاية خلق الجنّ والإنس والحكمة والمصلحة فيه كانت هي العبادة ، لا أنّ العبادة كانت باعثا له على الفعل ، كما في أرباب الإرادة الناقصة الحادثة.
وكذا غيره من نصوص الآيات ، فإنّها محمولة على الغاية والحكمة لا على الغرض.
* * *
ص: 54
لا يخفى أنّ حمل الآيات على مجرّد المنفعة والفائدة من دون أن تكون غرضا وعلّة غائيّة مستبعد جدّا ، بل هو ممتنع في أكثرها ، كالآية الأولى ، فإنّها دالّة على أنّ خلق السماوات والأرض بما فيهما من المنافع والفوائد صالح لأن يقع على نوعين : لعب ، وغير لعب ، ولا وجه له إلّا قصد الغاية وعدم قصدها ، وإلّا فلا يصحّ تنويع ما فيه الفائدة إلى نوعين :
لعب لا فائدة فيه ، وغير لعب فيه الفائدة.
* وكقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) فإنّه لا يمكن حمله على المنفعة والفائدة ؛ لأنّ المعنى حينئذ يكون :
ما خلقت كلّ فرد من الجنّ والإنس إلّا وفائدته ومنفعته العبادة .. وهو كذبّ ، إذ ليس كلّ فرد منهم عابدا ، بخلاف ما إذا قصد الغرض ، فإنّه لا يلزم حصوله.
وليس المقصود جنس الجنّ والإنس حتّى لا يلزم الكذب على تقدير إرادة الفائدة ؛ لأنّه نسب العبادة إلى ضمير الجمع الدالّ على الثبوت لكلّ فرد ؛ على أنّه لو قصد الجنس يكون أكثر الأفراد بلا فائدة ؛ لدلالة الآية على انحصار فائدة خلق الجنس الحاصل في خلق أفراده بالعبادة ، وحينئذ فيعود محذور الكذب.
* وكقوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ) (2) الآية ، فإنّه لا معنى
ص: 55
لجعل ظلمهم وصدّهم عن سبيل اللّه منفعة وحكمة لتحريم الطيّبات ، وإنّما هما سبب وداع للتحريم.
* وكقوله تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) (1) الآية ، فإنّه لا معنى لجعل عصيانهم منفعة وفائدة للعنهم ، وإنّما هو سبب وداع له.
فإن قلت : كما لم يكن الظلم والصدّ والعصيان منافع ، لا تكون أغراضا؟!
قلت : نعم ، ولكنّ التعليل يستلزم الغرض ؛ إذ لا يمكن سببيّة شيء لأن يفعل سبحانه باختياره وهو لا غرض له ؛ كما سبق.
ولو سلّم مسلّم ، فالآيتان لمّا دلّتا على تعليل أفعاله تعالى ، صحّ إثبات الغرض له ، الذي هو أيضا علّة باعثة على الفعل ؛ لأنّ النقص - على زعمهم - يأتي أيضا من قبل التعليل ؛ لأنّه يستدعي حاجته إلى العلّة في فعله ، فإذا اقتضت الآيتان عدم النقص بالتعليل صحّ إثبات الغرض.
ثمّ لو سلّم إمكان حمل الآيات كلّها على مجرّد الفائدة ، فلا داعي له بعد عدم المعارضة بالنقل كما هو ظاهر ، ولا بالعقل ؛ لفساد أدلّته ، مع إنّهم لم يجروها في القياس كما سبق! واعلم أنّ الغرض هو الغاية ، فما معنى نفي الخصم الغرض لأفعاله تعالى وإثبات الغاية لها؟!!
وقد حصل هذا التناقض منه قبل - كما في أوّل هذا المطلب - إذ ذكر أنّ الأشاعرة قالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة (2) ، ثمّ قال في آخر كلامه : « وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل
ص: 56
أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة ، دون الغرض والعلّة » (1).
نعم ، قد يريد بالغاية عند إثباتها مجرّد الفائدة المترتّبة اتّفاقا ، لا العلّة الغائيّة ، وفائدة كلامه تخفيف الشناعة وتلبيس الحقّ.
* * *
ص: 57
قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :
ومنها : إنّه يلزم تجويز تعذيب أعظم المطيعين لله تعالى كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله بأعظم أنواع العذاب ، وإثابة أعظم العاصين كإبليس وفرعون بأعظم مراتب الثواب ؛ لأنّه إذا كان يفعل لا لغرض وغاية ، ولا لكون الفعل حسنا ، ولا يترك الفعل لكونه قبيحا ، بل مجّانا لغير غرض ، لم يكن تفاوت بين سيّد المرسلين وإبليس في الثواب والعقاب ، فإنّه لا يثيب المطيع لطاعته ، ولا يعاقب العاصي لعصيانه.
فإذا تجرّد هذان الوصفان عن الاعتبار في الإثابة والانتقام ، لم يكن لأحدهما أولوية الثواب والعقاب دون الآخر.
فهل يجوز لعاقل يخاف اللّه وعقابه أن يعتقد في اللّه تعالى مثل هذه العقائد الفاسدة؟! مع أنّ الواحد منّا لو نسب إلى أنّه يسيء إلى من أحسن إليه ويحسن إلى من أساء إليه ، قابله بالشتم والسبّ ولم يرض ذلك منه ..
فكيف يليق أن ينسب ربّه إلى شيء يكرهه أدون الناس لنفسه؟!
* * *
ص: 58
وقال الفضل (1) :
هذا الوجه بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى بيان ؛ لأنّ أحدا لم يقل :
بأنّ الفاعل المختار الحكيم لم يلاحظ غايات الأشياء والحكم والمصالح فيها.
فإنّهم يقولون في إثبات صفة العلم : إنّ أفعاله متقنة (2) ، وكلّ من كان أفعاله متقنة فلا بدّ أن يلاحظ الغاية والحكمة ، فملاحظة الغاية والحكمة في الأفعال لا بدّ من إثباته بالنسبة إليه تعالى ، وإذا كان كذلك كيف يجوز التسوية بين العبد المطيع والعبد العاصي؟! وعندي أنّ الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية لم يحرّروا هذا النزاع ولم يبيّنوا محلّه ، فإنّ جلّ أدلّة المعتزلة دلّت على إنّهم فهموا من كلام الأشاعرة نفي الغاية والحكمة والمصلحة ، وإنّهم يقولون : إنّ أفعاله اتّفاقيات كأفعال من لم يلاحظ الغايات (3) ، واعتراضاتهم واردة على هذا.
فنقول : الأفعال الصادرة من الإنسان مثلا مبدؤها دواع مختلفة ، ولا بدّ لهذه الدواعي من ترجيح بعضها على بعض ، والمرجّح هو الإرادة الحادثة (4) .. فذلك الداعي الذي بعث الفاعل على الفعل مقدّم على وجود
ص: 59
الفعل ، ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل ، فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه إلى ذلك الباعث ، وهو العلّة الغائيّة والغرض.
هذا تعريف الغرض في اصطلاح القوم ، فإن عرض هذا على المعتزلي فاعترف بأنّه تعالى في أفعاله صاحب هذا الغرض ، لزمه إثبات الاحتياج لله تعالى في أفعاله ، وهو لا يقول بهذا قطّ ؛ لأنّه ينفي الصفات الزائدة ليدفع الاحتياج ، فكيف يجوّز الغرض المؤدّي إلى الاحتياج؟! فبقي أنّ مراده من إثبات الغرض دفع العبث من أفعاله تعالى ، فهو يقول : إنّ اللّه تعالى مثلا خلق الخلق للمعرفة ، يعني غاية الخلق ، والمصلحة التي لاحظها اللّه تعالى وراء علّتها هي المعرفة ، لا أنّه يفعل الأفعال لا لغرض ومقصود كالعابث واللاعب ، فهذا عين ما يقوله الأشاعرة من إثبات الغاية والمصلحة.
فعلم أنّ النزاع نشأ من عدم تحرير المدّعى.
* * *
ص: 60
إن أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل ، فهو مذهبنا (1) ، ولا يقوله الأشاعرة.
وإن أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل ، فهو مذهب الأشاعرة (2) ، ويلزمه العبث وسائر المحالات ، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب اللّه سبحانه أعظم المطيعين ، ويثيب أعظم العاصين ؛ لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل ، بل يفعل مجّانا بلا غرض ، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة ، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع ، وأمّا في ما لم يقع بعد - كالثواب والعقاب - فمن الجائز أن لا يكون متقنا ؛ لفرض عدم الغرض له تعالى ، ولأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء! ..
فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية! أتراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟! وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائيّة ، وأنّ الإمامية والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأسا ونقصا ، بخلاف الأشاعرة؟! وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية ، فإن أراد بها الغاية الباعثة على الفعل ، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.
ص: 61
وإن أراد بها الأمر المترتّب اتّفاقا ، كقوله تعالى : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (1) ، غاية الأمر : أنّ اللّه تعالى عالم بهذا الأمر المترتّب ، فهو حقيقة مذهبهم ، وعليه ترد الإشكالات ، ولا ينفع معه التسويلات والتنصّلات.
وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة ، فهو وإن قالوا به ظاهرا ، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان ؛ لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب شيء عليه تعالى.
وأمّا قوله : « ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل » ..
فإن أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثا ، فهو صحيح ، واللّه سبحانه أحقّ به.
وإن أراد أنّه لا يفعله لعدم قدرته عليه كما زعمه سابقا ، فهو باطل - كما عرفت - ، ومنه يعلم ما في قوله : « فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ».
وقد بيّنّا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة ، فيكون كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها (2) ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 62
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
هذا هو مذهب الإمامية ، قالوا : إنّ اللّه تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا ، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا ، [ وكره المعاصي سواء وقعت أم لا ] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا (2).
وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود ، سواء كان طاعة أم لا ، وسواء أمر به أم نهى عنه (3) [ وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أو لا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادة لله تعالى ، وأنّه تعالى راض بها!
ص: 63
وبعضهم قال : إنّه محبّ لها ، وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وإنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وإنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى وترك ما كره اللّه تعالى من الإيمان والطاعة منه (1).
وهذا القول يلزم منه محالات ، منها : نسبة القبيح إلى اللّه تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وقد بيّنّا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها (2).
* * *
ص: 64
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه (2).
ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله ، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر (3).
ودليل الأشاعرة : إنّه خالق للأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة (4).
وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة اللّه تعالى للشرك والمعاصي ، فهو من استدلالات المعتزلة.
والجواب : إنّ الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى : إنّه أمر قدّره اللّه تعالى في الأزل للكافر ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس
ص: 65
الرضا بالإرادة.
وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى ..
فإن أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به ، فصحيح ؛ لأنّه لو أراد لوجد ..
وإن أراد عدم الرضا به ، فهو باطل ؛ لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.
وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم ، وهذا لا يعدّ من السفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ؛ لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يعدّ سفها.
وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى اللّه تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ..
فجوابه : إنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.
على أنّ هذا مبنيّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا ، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام ؛ لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، واللّه تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم.
* * *
ص: 66
لا يخفى أنّ الأمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه ؛ لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلّا بمرجّح ، وهو الإرادة ، فيكون العدم على طبع الوجود مقدورا ومستندا إلى الإرادة.
ولذا أسند اللّه تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول :
( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (1) الآية ، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب ، والموت عدم الحياة.
ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أمور :
منها : تصوّر المراد ..
ومنها : الرضا به ، سواء كان وجودا أو عدما ، وسواء كان حكما أم غيره ، فإنّ من يريد شيئا لا بدّ أن يرضى به بالضرورة.
ومنها : الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف ، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارها لنقيضه ، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.
وإذا كلّف بنحو الندب ، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان ، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.
وإذا حكم على وجه الإباحة ، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو
ص: 67
التساوي.
نعم ، إذا كان التكليف امتحانيا لم تتوقّف إرادته إلّا على الرضا بأصل التكليف ، لا بمتعلّقه.
فإذا عرفت هذا فنقول : لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى ، لم تكن له إلّا إرادة تشريعية ، أي إرادة للأحكام ، فلم يكن له تعالى رضا بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي ، ولا كراهة لما يتركونه من الطاعات.
بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه يلزم أن يكون اللّه سبحانه مريدا للمعاصي الواقعة راضيا بها ، ولعدم الطاعات المتروكة كارها لها ؛ لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها ، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل ، كما سبق (1).
ويلزم أن يكون اللّه تعالى آمرا بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به ، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات ، وناهيا عمّا أراده ورضي به ، وهو الذي خلقه من المعاصي ، بل يلزم اجتماع الضدّين : الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه ؛ لأنّ أمره دليل الرضا وتركه دليل الكراهة.
وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله ؛ لأنّ نهيه مستلزم للكراهة ، وفعله مستلزم للرضا.
وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم ، بل هو مبنيّ على توقّف الإرادة على الرضا - كما بيّنّاه - ،
ص: 68
فلا معنى لقوله : « الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى أنّه أمر قدّره اللّه في الأزل ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ».
على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير ، خطأ ؛ لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل ، ولو سلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة (1) ، وهي موقوفة على الرضا.
ومن الفضول قوله في ما سمعت : « وأمر المشرك به » ..
فإنّ المصنّف لم يدّع أنّه يلزم مذهبهم أمر المشرك به حتّى ينفيه ، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.
وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات ، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه ، فخطأ ؛ لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو ، لا بما هو موجود ، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.
وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره ، فمكابرة ظاهرة.
وقوله : « إنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به » ..
باطل ؛ لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن ، لا على العاجز ، فيكون امتحانه سفها آخر ، تعالى اللّه عنه علوّا كبيرا ، وسيأتي قريبا زيادة إشكال عليه فانتظر.
وأمّا قوله : « وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح » ..
ص: 69
فمكابرة أخرى كما مرّ (1) ، إذ لا وجه لعدم قبح القبيح منه سبحانه ، وهو أولى من يتنزّه عن فعل القبيح.
وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام ، فقد عرفت جوابه (2).
* * *
ص: 70
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد اللّه تعالى وفعل وفق مراده.
* * *
ص: 71
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّ المطيع من أطاع الأمر ، والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدّر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال : إنّ الخلق أطاعوه.
نعم ، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.
* * *
ص: 72
غير خفيّ أنّ الطاعة منوطة بموافقة الإرادة ، والعصيان بمخالفتها ، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته ..
ولذا لو علمت إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه ..
ولو علم عدم إرادته مع أمره صورة لم يجب فعله ..
وإنّما قالوا : الطاعة موافقة الأمر ؛ لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالبا ، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعا بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية ، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعا ألبتّة.
قال عزّ من قائل : ( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (1) ..
وقال تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2).
* * *
ص: 73
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : كونه تعالى يأمر بما يكره ؛ لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد .. وينهى عمّا يريد ، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.
وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟!
* * *
ص: 74
وقال الفضل (1) :
قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها (2) ، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ؛ لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.
أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة ؛ فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده.
وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه ؛ فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان ، أطاع أو عصى ، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.
* * *
ص: 75
لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع ، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعا ، كما هو الحاصل في الشرعيّات ، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.
ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صوريا لغرض الامتحان أو غيره ، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.
ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى ، وهو باطل على قولهم : « إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض » (1)!
* * *
ص: 76
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات ، كقوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (2) ..
( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (3) ..
( فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (4) ..
( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (5) ..
إلى غير ذلك من الآيات ..
فترى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!
* * *
ص: 77
وقال الفضل (1) :
قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان ، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (2) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب.
وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح ، أو مبدأ الترجيح ، فلا تقابلها الكراهة ، وهو معنى آخر.
وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.
* * *
ص: 78
لمّا كان من مذهبه : أنّ اللّه سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون ، المريد له (1) ، وكان ذلك خلافا صريحا للآية الأولى ، التجأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا ، وهو لو سلّم لا ينفعه ؛ لتوقّف الإرادة على الرضا ؛ لأنّه من مقدّماتها ، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم - كما زعم - استلزم نفي إرادته له ، وهو خلاف مذهبه.
وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السيّئ عنده مكروها ولا يحبّ الفساد ، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!
وإذا كان يرضى الشكر ، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!
وأمّا قوله : « وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا » ..
فكلام صادر من غير تروّ ، إذ ليس في بقيّة الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ما يشتمل على لفظ الإرادة ، ولا يعوزه الجواب إذا كان مبنيا على المغالطة.
* * *
ص: 79
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : مخالفة المحسوس وهو : استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف ؛ لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.
وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.
وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي ؛ لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.
فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات ، وثبوت الصارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.
* * *
ص: 80
وقال الفضل (1) :
إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصارف لا ينافي سبق إرادة اللّه تعالى لأفعالهم وخلقه لها ؛ لأنّ الإسناد بواسطة الكسب والمباشرة ، فلا يكون مخالفة للمحسوس.
وأمّا ما ذكره من الدليل ، فهو مبنيّ على إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وقد أبطلناهما.
* * *
ص: 81
حاصل مراد المصنّف : إنّ الظاهر عندنا الضروري لدينا ، أنّ الفعل إنّما تتفرّع إرادته وإيجاده عن ثبوت الداعي له وانتفاء الصارف عنه ، وتتفرّع كراهته وتركه عن وجود الصارف عنه وعدم الداعي له.
ولا ريب أنّ الفعل الذي به الطاعة حسن ، والحسن جهة دعاء ، والفعل الذي به المعصية قبيح ، والقبح جهة صرف ، فلا بدّ أن يكون ما به الطاعة مراد اللّه تعالى ؛ لوجود الداعي له وهو حسنه بلا صارف عنه ، وما به المعصية مكروها لله تعالى ؛ لوجود الصارف عنه وهو قبحه بلا داع له ..
لأنّ الداعي : إمّا الحاجة إليه ، أو الجهل بقبحه ، وهما منتفيان في حقّ اللّه تعالى.
أو الحكمة ، وهي منافية لفعل القبيح ، فيلزم أن تثبت إرادة اللّه تعالى للطاعات ، وكراهته للمعاصي ، إرادة وكراهة تشريعيّتين عندنا وتكوينيّتين عند الأشاعرة.
لكنّهم خالفوا المحسوس بقولهم : إنّ اللّه تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود من الأفعال ، سواء كان طاعة أم معصية ، ويكره كلّ ما لم يقع (1).
فإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ مراد المصنّف هو : الداعي والصارف لله تعالى لا للعبد كما تخيّله الخصم ، فأجاب بما لا يرتبط بكلام المصنّف أصلا.
ص: 82
والأولى للخصم الاكتفاء في الجواب بإنكار الحسن والقبح العقليّين في الأفعال.
لكن يرد عليه - مع بطلانه كما سبق (1) - أنّ بعض الأفعال صفة كمال أو نقص عندهم ، كالعدل ، والظلم ، والإصلاح ، والإفساد ، ونحوها ..
وهم يقولون : بالحسن والقبح عقلا فيها كما سبق منه (2) ، وهو كاف في تمام دليل المصنّف رحمة اللّه عليه.
* * *
ص: 83
ص: 84
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
اتّفقت الإمامية والمعتزلة وغيرهم من الأشاعرة وجميع طوائف الإسلام على وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره (2).
ثمّ إنّ الأشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الإجماع والنصوص الدالّة على وجوب الرضا بالقضاء ، وهو : إنّ اللّه تعالى يفعل القبائح بأسرها ولا مؤثّر في الوجود غير اللّه تعالى من الطاعات والقبائح (3) ..
فتكون القبائح من قضاء اللّه تعالى على العبد وقدره ، والرضا بالقبيح
ص: 85
حرام بالإجماع (1) ، فيجب أن لا يرضى بالقبيح ..
ولو كان من قضاء اللّه تعالى لزم إبطال إحدى المقدّمتين ، وهي :
إمّا عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره ..
أو وجوب الرضا بالقبيح ..
وكلاهما خلاف الإجماع.
أمّا على قول الإمامية ، من أنّ اللّه تعالى منزّه من فعل القبائح والفواحش ، وأنّه لا يفعل إلّا ما هو حكمة وعدل وصواب ، ولا شكّ في وجوب الرضا بهذه الأشياء ، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية والمعتزلة واجبا ، ولم يلزم منه خرق الإجماع في ترك الرضا بقضاء اللّه تعالى ولا في الرضا بالقبائح.
* * *
ص: 86
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى مذهب الأشاعرة (2) ، وأمّا لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى فقد عرفت بطلانه في ما سبق (3) ، وأنّه غير لازم ؛ لأنّ خلق القبيح ليس فعله ، ولا قبيح بالنسبة إليه تعالى.
وأمّا قوله : « فتكون القبائح من قضاء اللّه تعالى » ..
فجوابه : إنّ القبائح مقضيّات لا قضاء ، والقضاء فعل اللّه تعالى ، والقبيح هو المخلوق.
ونختار من المقدّمتين وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره ، ولا نرضى بالقبيح ، والقبيح ليس هو القضاء ، بل هو المقضيّ كما عرفته ، ولم يلزم منه خرق الإجماع.
* * *
ص: 87
قد بيّنّا أنّ خلق القبيح فعله (1) ، ولو سلّمت المغايرة فهو في القبح مثله.
وليت شعري لم يمتنع من القول : بأنّ الخلق هو الفعل؟! والحال أنّه يزعم أنّه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى ، فليكن فعله سبحانه للقبيح سائغا ، وتسميته الخلق بالفعل جائزة ، لا سيّما و [ أنّه ] لا حسن ولا قبح عقلا في الأفعال عندهم!
وليس هو بأعظم من حكمه بأنّ اللّه سبحانه يقضي بالقبيح ، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون.
وأمّا ما ذكره من الفرق بين القضاء والمقضيّ ، فقد سبق أنّه لا يغني شيئا ؛ للتلازم بينهما في الرضا وعدمه (2).
على أنّ القبائح المقضيّات لله سبحانه مرضيّات له ؛ لتوقّف فعل الشيء بالاختيار على إرادته والرضا به - كما مرّ (3) - ، فلو سخطها العبد كان سخطا لما رضي اللّه وأراده.
فإن قلت : من مقضيّات اللّه تعالى : جهل العباد وملكاتهم السيّئة كالجبن والبخل ، وهي ممّا اتّفقت الكلمة والأخبار على ذمّها وعدم الرضا بها ، فلا بدّ من القول بعدم التلازم بين القضاء والمقضيّ في الرضا وعدمه.
ص: 88
قلت : ذمّ الجهل وعدم الرضا به ليس من حيث أصل وجوده ، ولذا لا يذمّ جهل الطفل ولا يسخط منه ، بل من حيث البقاء والاستمرار عليه لمن يتمكّن من إزالته ، والبقاء عليه مستند إلى العبد.
كما إنّ ذمّ الجبن والبخل وعدم الرضا بهما ليس من حيث أصل وجودهما الذي قضت به الحكمة الإلهيّة ، بل من حيث آثارهما المستندة إلى العبد التي يقدر على مجانبتها بالنظر إلى قبحها ، وتعويد نفسه على خلافها ، بل يقدر على تبديل الملكتين بخلافهما.
فالجهل والجبن والبخل مرضيّات الوجود ، مسخوطات البقاء أو الآثار ، والمرضيّ مستند إلى اللّه تعالى ، والمسخوط مستند إلى العبد.
* * *
ص: 89
ص: 90
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ اللّه تعالى لا يعذّب العبيد على فعل يفعله فيهم ، ولا يلومهم عليه (2).
وقالت الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى لا يعذّب العبد على فعل العبد ، بل يفعل اللّه تعالى فيه الكفر ، ثمّ يعاقبه عليه ، ويفعل فيه الشتم لله تعالى والسبّ له ولأنبيائه علیهم السلام ويعاقبه عليها ، ويخلق فيهم الإعراض عن الطاعات وعن ذكره وذكر أحوال المعاد .. ثمّ يقول : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (3) (4).
ص: 91
وهذا أشدّ أنواع الظلم ، وأبلغ أصناف الجور ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .. وقد قال تعالى :
( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (1) ..
( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (2) ..
( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (3) ..
( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (4).
وأيّ ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا ويعاقبه عليه؟! بل يخلقه أسود ثمّ يعذّبه على سواده ، ويخلقه طويلا ثمّ يعاقبه على طوله ، ويخلقه أكمه ويعذّبه على ذلك ، ولا يخلق له قدرة على الطيران إلى السماء ثمّ يعذّبه بأنواع العذاب على أنّه لم يطر!
فلينظر العاقل المصنف من نفسه ، التارك للهوى ، هل يجوز له أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى هذه الأفعال؟! مع أنّ الواحد منّا لو قيل له : إنّك تحبس عبدك وتعذّبه على عدم خروجه في حوائجك! لقابل بالتكذيب وتبرّأ من هذا الفعل ، فكيف يجوز أن ينسب ربّه إلى ما يتنزّه هو عنه؟!
* * *
ص: 92
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : أن لا خالق غير اللّه تعالى كما نصّ عليه في كتابه العزيز : ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) وهو يعذّب العبد على فعل العبد ؛ لأنّ العبد هو المباشر والكاسب لفعله وإن كان خلقه من اللّه تعالى ، والخلق غير الفعل والمباشرة.
ثمّ إنّه لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك (3).
وليس هذا من باب الظلم ؛ لأنّ الظلم هو التصرّف في حقّ الغير ، ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم ، فالعباد كلّهم ملك اللّه تعالى ، وله التصرّف فيهم كيف يشاء.
ألا ترى إلى قول عيسى علیه السلام حيث حكى اللّه تعالى عنه : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) (4) جعل العبودية سببا مصحّحا للتعذيب ، والمراد أنّهم ملكك ولك التصرّف فيهم كيف شئت ، فلا ظلم بالنسبة إليه تعالى كيفما يتصرّف في عباده.
هذا هو الحقّ الأبلج وما سواه بدعة وضلالة ، كما ستراه وتعلمه بعد هذا في مبحث خلق الأعمال إن شاء اللّه تعالى.
ص: 93
وما ذكره من خلق الأسود وتعذيبه بالسواد فهذا من باب طامّاته ، وكذا ما ذكره من الأمثلة.
فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب ، والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض ؛ لأنّ العبد في الأفعال كاسب ومباشر ، والثواب والعقاب بواسطة المباشرة كما ستعرف.
* * *
ص: 94
قد سبق في المطلب الأوّل بيان المراد في قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) فراجع تحقيقه (2).
وأمّا قوله : « لأنّ العبد هو المباشر والكاسب » ..
ففيه : إنّ الكسب الذي يزعمونه أيضا خلق اللّه تعالى ؛ لأنّه خالق كلّ شيء ، ولا أثر للعبد في الكسب أصلا.
ما أدري هل المقتضي للعقاب مجرّد الألفاظ وأن يقال : إنّ العبد كسب وفعل؟!
وأمّا قوله : « ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم » ..
فظاهر البطلان ، ضرورة أنّ صحّة تعذيب العبد بأنواع العذاب من دون ذنب ليست من مقتضيات الملكيّة وحقوقها ، بل هذا التصرّف ظلم محض لا يستحقّه المالك بوجه أصلا.
قال تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (3) ، فإنّه سبحانه جعل إهلاكه للمصلح ظلما وإن كان من التصرّف في الملك.
فتعبير الخصم عن الملك بالحقّ على وجه يجوز فيه ذلك التصرّف
ص: 95
خطأ واضح.
وأمّا استدلاله بالآية الحاكية لقول عيسى علیه السلام ففي غير محلّه ؛ لأنّ حقّيّة العقاب متوقّفة على أمرين : الذنب ، وولاية المعذّب على المذنب.
ولمّا كان من اتّخذ عيسى وأمّه إلهين مذنبا - وسابقا ذكر ذنبه في الآية - بيّن عيسى الأمر الثاني ، وهو : ولاية اللّه تعالى عليهم بأنّهم عباده ، فلم تدلّ الآية على صحّة عذاب من لا ذنب له.
وأمّا قوله : « فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب » ..
ففيه : - مع أنّ بعض أمثلة المصنّف كالطيران من الأفعال - إن أراد أنّها لا يتعلّق بها ثواب وعقاب من حيث الوقوع ، فمسلّم ، وليس هو مقصود المصنّف.
وإن أراد أنّه لا يجوز تعلّقهما بها ، فهو مناف لقوله : « لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك ».
.. إلى غير ذلك من كلماته.
والمصنّف لم يقصد إلّا تجويزهم للعقاب في الأمثلة وهو لازم لهم.
وأما قوله : « والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض » ..
ففيه : إنّه لا أثر لهذا الفرق بعد أن كان المصحّح للعذاب عندهم هو الملكيّة ، على أنّ الكسب كالسواد فعل لله تعالى ، فلا فرق إلّا بأمر يعود إلى اللفظ.
* * *
ص: 96
قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :
قالت الإمامية : إنّ اللّه تعالى يستحيل عليه - من حيث الحكمة - أن يكلّف العبد ما لا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه (2).
فلا يجوز له أن يكلّف الزمن الطيران إلى السماء ، ولا الجمع بين الضدّين ، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب ، ولا إحياء الموتى ، ولا إعادة آدم ونوح علیهماالسلام ، ولا إعادة الأمس الماضي ، ولا إدخال جبل قاف (3) في خرم الإبرة ، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة ، ولا إنزال
ص: 97
الشمس والقمر إلى الأرض .. إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة [ لذاتها ].
وذهبت الأشاعرة : إلى أنّ اللّه تعالى لم يكلّف العبد إلّا ما لا يطاق ولا يتمكّن من فعله (1) ، فخالفوا المعقول الدالّ على قبح ذلك ، والمنقول ، وهو المتواتر من الكتاب العزيز ، قال اللّه تعالى :
( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) ..
( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (3) ..
و ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (4) ..
( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (5).
والظلم هو الإضرار بغير المستحقّ ، وأيّ إضرار أعظم من هذا مع إنّه غير مستحقّ؟!
تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 98
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ تكليف ما لا يطاق جائز ، والمراد من هذا الجواز ، الإمكان الذاتي ، وهم متّفقون أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع قطّ في الشريعة بحكم الاستقراء ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) .
والدليل على جوازه : إنّه تعالى لا يجب عليه شيء ، فيجوز له التكليف بأيّ وجه أراد ، وإن كان العلم العادي أفادنا عدم وقوعه.
وأيضا : لا يقبح من اللّه شيء ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.
ومذهب المعتزلة : عدم جواز التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه قبيح عقلا بما ذكره هذا الرجل من أنّ المكلّف للزمن الطيران إلى السماء وأمثاله يعدّ سفها ، وقد مرّ في ما مضى إبطال الحسن والقبح العقليّين (2).
ولا بدّ في المقام من تحرير محلّ النزاع ، فنقول : إنّ ما لا يطاق على مراتب :
أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم اللّه بعدم وقوعه ، أو تعلّق إرادته أو إخباره بعدمه ، فإنّ مثله لا تتعلّق به القدرة الحادثة ؛ لأنّ القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ، ولا تتعلّق بالضدّين ، بل لكلّ واحد منهما قدرة على حدة تتعلّق به حال وجوده عندنا ، ومثل هذا الشيء لمّا لم يتحقّق أصلا
ص: 99
فلا تكون له قدرة حادثة تتعلّق به قطعا ، والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا ، وإلّا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلّفا بالإيمان وترك الكبائر ، بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا ، وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة.
والثاني : أن يمتنع لنفس مفهومه ، كجمع الضدّين وقلب الحقائق وإعدام القديم ، فقالت الأشاعرة في هذا القسم : إنّ جواز التكليف به فرع تصوّره وهو مختلف فيه ، فمنهم من قال : لا يتصوّر الممتنع لذاته ، ومنهم من قال بإمكان تصوّره.
وبالجملة : لا يجوز التكليف به أصلا ؛ لأنّ المراد بهذا الجواز الإمكان الذاتي ، والتكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات ، وهو باطل.
الثالث : أن لا تتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومه - بأن لا يكون من جنس ما يتعلّق به كخلق الأجسام ، فإنّ القدرة الحادثة لا تتعلّق بإيجاد الجواهر أصلا - ، أم لا - بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، لكن يكون من نوع أو صنف لا يتعلّق به كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، وسائر المستحيلات العاديّة - ، فهذا محلّ النزاع ..
فنحن نقول : بجوازه لإمكانه الذاتي ..
والمعتزلة : يمنعونه لقبحه العقلي (1) ..
مع إنّا قائلون : بأنّه لم يقع (2) ، وهذا مثل سائر ما يجوّزه الأشاعرة من الأمور الممكنة ، كالرؤية وغيرها ، والتجويز العقلي لا يستلزم الوقوع.
ص: 100
لا يخفى أنّ تفسيره للجواز بالإمكان الذاتي خطأ ظاهر ، فإنّ المراد بالجواز كما يظهر من دليلهم وكلماتهم هو الصحّة وعدم الامتناع أصلا حتّى بالغير.
فإنّا نقول أيضا بإمكان التكليف بما لا يطاق ذاتا ، وعدم كونه من الممتنعات الذاتية ، لكن نقول : إنّه ممتنع بالغير ، من حيث قبحه وكونه ظلما ومنافيا للحكمة (1) ، وهم لا يقولون بذلك.
وقد عرفت سابقا ما في قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء » ، وما في إنكارهم للحسن والقبح العقليّين (2).
وأمّا قوله : « أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم اللّه بعدم وقوعه » ..
ففيه ما تقدّم أيضا من أنّ العلم وصدق الخبر تابعان للمعلوم ووقوع المخبر به ، لا متبوعان ، فلا يجعلان خلافهما ممتنعا لا يطاق (3).
وأمّا ما زعمه من أنّ القدرة مع الفعل ، فهو أحد السفسطات ، وستعرف ما فيه.
وقوله : « والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا » ..
باطل لأمور :
الأوّل : إنّه عليه يلزم كذب قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ
ص: 101
وُسْعَها ) (1) ؛ لأنّ كلّ ما علم اللّه وأراد عدم وقوعه أو أخبر بعدمه ، ممتنع على ما زعم ، فإذا كان التكليف به جائزا وواقعا كان تكليفا بما لا يطاق ولا يسع المكلّف.
كما إنّ كلّ ما يقع بعلمه أو إخباره أو إرادته واجب حينئذ ، والواجب لا تتعلّق به الطاقة والوسع ، لعدم تيسّر عدمه.
فإذا كلّف اللّه سبحانه به كان أيضا تكليفا بما لا يطاق ، فيكون كلّ ما تعلّق به التكليف عندهم ممّا لا يطاق ، كما ذكره المصنّف ، وتكذب الآية كذبا كلّيّا.
وإن أبيت عن كون الواجب ممّا لا يسع ، فلا ريب أنّ الممتنع ليس ممّا يسع ، فتكذب الآية كذبا جزئيّا.
الثاني : إنّ دعوى الإجماع المذكور إن كانت على وقوع التكليف بما لا يطاق - كما هو ظاهر كلامه - فهي افتراء ؛ لما عرفت أنّ مذهب الإمامية والمعتزلة امتناعه (2) ، وأنّ تعلّق علم اللّه تعالى وإخباره بالشيء لا يجعل نقيضه ممتنعا ، وأنّ إرادته التكوينية لم تتعلّق بأفعال العباد.
وإن كانت دعواه الإجماع على وقوع التكليف بأفعال البشر - بما هي لا تطاق عندهم وتطاق عندنا - كان إظهاره الإجماع على التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى تدليسا.
الثالث : إنّ القول بوقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى مناف لعدم تجويز التكليف بما لا يطاق في المرتبة الثانية ؛ لأنّ المرتبة
ص: 102
الأولى تكون حقيقة من الثانية إذا حصلت المخالفة للتكليف ؛ لأنّ المخالفة لا بدّ أن تكون بنقيض المطلوب ، فيكون التكليف بالمطلوب راجعا إلى التكليف بالجمع بينه وبين نقيضه ، بل قد يرجع إلى التكليف بالجمع بين الضدّين أيضا.
مثلا : إذا كلّف الكافر بالإيمان ، والحال أنّ كفره لازم لتعلّق الإرادة الإلهيّة به ، يكون مكلّفا بأن يجمع الضدّين : الإيمان والكفر ، والنقيضين : الإيمان وعدمه ، وكلاهما ممتنع لنفس مفهومه.
وأمّا قوله : « فهذا محلّ النزاع » ..
ففيه ما لا يخفى ؛ لأنّه في المرتبتين الأوليين - أيضا - محلّ النزاع بيننا وبينهم.
أمّا الأولى : فلما عرفت أنّهم يجوّزونه فيها وقالوا بوقوعه ، ونحن نمنع من جوازه ووقوعه أصلا ؛ لأنّ محلّ التكليف مطاق عندنا في هذه المرتبة.
وأمّا الثانية : فلأنّا نمنع منه في غيرها - فضلا عنها - وهم يجوّزونه فيها ؛ لأنّهم يقولون - كما ذكر الخصم - : إنّ التكليف بهذا القسم الثاني فرع تصوّره ، فمن يقول بتصوّره لا يمنع من التكليف به ، ومن ينكر تصوّره لا يمنع من التكليف به من حيث هو ، وإنّما يمنع منه لعدم إمكان تصوّر الممتنع لذاته لا لعدم جواز التكليف بما لا يطاق.
ولا أدري كيف لا يمكن تصوّره ، فهل يمتنع تصوّره على الباري تعالى أو على عباده؟!
وأمّا تعليله لعدم الجواز في المرتبة الثانية بقوله : « التكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات » ، فممّا لا يرضى به الأشاعرة ؛ لأنّه ليس
ص: 103
مانعا عندهم بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين ، وقولهم : « لا يقبح منه تعالى شيء » (1).
فظهر أنّ تكلّف الخصم - تبعا للمواقف وشرحها (2) - في بيان هذه المراتب ، ودعوى الفرق بينها ، لا يجديهم نفعا سوى تلبيس الحقيقة ، وإضاعة الحقّ .. وما ضرّهم لو سلكوا الصراط السوي ، واتّبعوا الكتاب المجيد؟!
* * *
ص: 104
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يريد ما يريده اللّه تعالى ويكره ما يكرهه ، وأنّه لا يخالفه في الإرادة والكراهة (2).
وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، وأنّ النبيّ يريد ما يكرهه اللّه تعالى ، ويكره ما يريده ؛ لأنّ اللّه تعالى يريد من الكافر الكفر ، ومن العاصي العصيان ، ومن الفاسق الفسوق ، ومن الفاجر الفجور ، والنبيّ أراد منهم الطاعات ، فخالفوا بين مراد اللّه تعالى وبين مراد النبيّ ، وأنّ اللّه كره من الفاسق الطاعة ومن الكافر الإيمان ، والنبيّ أرادهما منهما ، فخالفوا بين كراهة اللّه وكراهة نبيّه (3).
نعوذ باللّه من مذهب يؤدّي إلى القول بأنّ مراد النبيّ يخالف مراد اللّه
ص: 105
تعالى ، وأنّ اللّه تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه ، بل يريد ما أرادته الشياطين من المعاصي وأنواع الفواحش والفساد!
* * *
ص: 106
وقال الفضل (1) :
الإرادة قد تقال ويراد بها : الرضا والاستحسان ، ويقابلها السخط والكراهة ، وقد يراد بها الصفة المرجّحة والتقدير قبل الخلق ، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهة.
فالإرادة إذا أريد بها الرضا والاستحسان ، فلا شكّ أنّ مذهب الأشاعرة أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله ، وكلّ ما هو مكروه عند اللّه مكروه عند رسوله.
وأمّا قوله : « ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، فإنّ النبيّ يريد ما يكرهه اللّه ويكره ما يريده ؛ لأنّ اللّه يريد من الكافر الكفر ، ومن المعاصي العصيان ... والنبيّ أراد منهم الطاعات » ..
فإن أراد بهذه الإرادة والكراهة الرضا والسخط ، فقد بيّنّا أنّه لم يقع بين إرادة اللّه وإرادة رسوله مخالفة قطّ.
وإن أراد أنّ اللّه يقدّر الكفر للكافر والنبيّ يريد منه الطاعة ، بمعنى الرضا والاستحسان ، فهذا صحيح ؛ لأنّ اللّه أيضا يستحسن منهم الطاعة ويريدها ، بمعنى يقدّرها.
والحاصل : إنّه يخلط بين المعنيين ويعترض ، وكثيرا ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا ، واللّه يعلم المصلح من المفسد.
* * *
ص: 107
لا أعرف معنى للتقدير قبل الخلق - أي في الأزل - كما عبّر به سابقا ، إذ لا أزلي إلّا اللّه عندنا (1) ، وإلّا هو وصفاته عندهم (2).
ولعلّه يريد به الصفة المرجّحة على أنّ يكون عطفه عليها للتفسير ، كما يشهد له جعلهما في كلامه معنى واحدا ، لكنّ التعبير عن الصفة الذاتية بالتقدير - الذي هو فعل - غير مناسب.
وكيف كان فقوله : « لا شكّ أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله » باطل ؛ لأنّ اللّه سبحانه لمّا كان عندهم مريدا لأفعال العباد ، خالقا لها ، لزم أن يكون راضيا بالموجود منها كارها للمعدوم ؛ لتوقّف إرادة الفعل بمعنى الصفة المرجّحة على الرضا به ، وتوقّف إرادة العدم على كراهة الفعل ، إذ بالإرادة يحصل الترجيح ..
والترجيح فرع الرضا بالراجح والكراهة للمرجوح ..
فيكون اللّه سبحانه راضيا بالكفر والمعاصي الموجودة ، كارها للإيمان والطاعات المفقودة ، والنبيّ بخلاف ذلك ، فيختلفان بالرضا والكراهة.
وحينئذ فعلى تقدير أن يريد المصنّف بالإرادة الرضا ، يكون كلامه
ص: 108
تامّا وما نسبه إلى الأشاعرة صحيحا.
وأمّا قوله : « وإن أراد أنّ اللّه تعالى يقدّر الكفر » ..
ففيه : إنّه لو فرض إرادة المصنّف له ، فهو يستلزم الرضا بالموجود والكراهة للمعدوم ، سواء أريد بالتقدير الصفة المرجّحة أم الفعل ؛ لتوقّف الصفة على الرضا والكراهة كما عرفت ، وتوقّف الفعل على الصفة ، وحينئذ يلزم المخالفة بين اللّه ورسوله بالرضا والكراهة ، كما عرفت.
* * *
ص: 109
ص: 110
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
اتّفقت الإمامية والمعتزلة على : « إنّا فاعلون » وادّعوا الضرورة في ذلك (2).
فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وإنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين.
فإنّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فإنّه يذمّ الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذمّ الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم.
ص: 111
قال أبو الهذيل : « حمار بشر أعقل من بشر (1) ؛ لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه » (2).
وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى (3) ، فلزمهم من ذلك محالات.
* * *
ص: 112
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل اللّه سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد.
والمراد بكسبه إيّاه : مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (2) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد ..
فالعبد فاعل وكاسب ، واللّه خالق ومبدع .. هذا حقيقة مذهبهم.
ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أو لا ، كما صدّر الفصل بقوله : « إنّا فاعلون » واعترض الاعتراضات عليه.
فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه اللّه فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا ، وهذا شيء لا يستبعده العقل.
ص: 113
فإنّ الأسود هو الموصوف بالسواد ، والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله تعالى؟!
ودليل الأشاعرة : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ؛ لشمول قدرته - كما ثبت في محلّه - ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ؛ لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ؛ لما هو ثابت في محلّه.
وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن ، إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة.
والمعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء ، وهو إثبات تعدّد الخالقين غير اللّه تعالى في الوجود ، وهذا خطأ عظيم واستجراء كبير ، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع ، كما سنبيّن لك إن شاء اللّه تعالى في أثناء هذه المباحث.
ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق ..
منها : ما اختاره أبو الحسين (1) من مشايخهم وذكره هذا الرجل ،
ص: 114
وهو : ادّعاء الضرورة في إيجاد العبد فعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى الاستدلال (1).
وبيان ذلك : إنّ كلّ فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وإنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره ، وإنّه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء ، بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه.
وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة (2) كما اشتملت عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث.
والجواب : إنّ الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى وعدمها في الثانية ، لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدم تأثيرها في غيرها (3).
والحاصل : إنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة ، والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النزاع ، فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا.
ص: 115
ثمّ إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطل صريح ؛ لأنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين مثبتين له بالدليل.
فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه ، لا التفرقة بالحسّ بين الفعلين ، فإنّه لا مدخل له في إثبات المدّعى ؛ لأنّه مسلّم بين الطرفين ، فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه؟!
وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشيء لا تتوقّف على إرادته لتلك الإرادة ، وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل ، ويلزم منها : إنّه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها ، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل ، فكيف يدّعي الضرورة في خلافه (1)؟!
فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه.
* * *
ص: 116
قوله : « نحن أيضا نقول : إنّا فاعلون » ..
مغالطة ظاهرة ؛ لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده ، وهم لا يقولون به ، وإنّما يقولون : إنّا محلّ لفعل اللّه سبحانه (1) ، والمحلّ ليس بفاعل ، فإنّ من بنى في محلّ بناء لا يقال : إنّ المحلّ بان ، وفاعل ؛ نعم ، يقال : مات وحيي ونحوهما ، وهو قليل.
وقوله : « وهذا شيء لا يستبعده العقل » ..
مكابرة واضحة ؛ لأنّ المشاهد لنا صدور الأفعال منّا لا مجرّد كوننا محلّا ، كما تشهد به أعمال الأشاعرة أنفسهم .. فإنّهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كلّ الاجتهاد ، ولا يكلونها إلى إرادة اللّه تعالى ، وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية إلى الطرفين ، ويجعلون الأدلّة والردود من آثار الخصمين ، ويتأثّرون كلّ التأثّر من خصومهم ، وينالونهم بما يدلّ على إنّ الأثر في المخاصمة لهم ..
فكيف يجتمع هذا مع زعمهم أنّا محلّ صرف؟!
وأمّا قياس ما نحن فيه على الأسود فليس في محلّه ، إذ ليس السواد متعلّقا لقدرة العبد حتّى يحسن الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه!
وأمّا ما ذكره من دليل الأشاعرة ، فإن كان المراد بالمقدّمة القائلة : « كلّ ممكن مقدور لله تعالى » ، هو : أنّ كلّ ممكن مصدر قدرته تعالى حتّى أفعال
ص: 117
العباد ، فهو مصادرة ، ولا يلزم من إمكانها المبيّن في المقدّمة الأولى إلّا احتياجها إلى المؤثّر ، وجواز تأثير قدرة اللّه تعالى فيها ، لا تأثيرها فعلا بها.
وبهذا بطلت المقدّمة الثالثة ؛ لأنّه لم يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين ، فإنّ التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله ، وإنّما قدرة اللّه تعالى صالحة للتأثير فيه ، وأن تتغلّب على قدرة العبد.
ولسخافة هذا الدليل لم يشر إليه نصير الدين رحمه اللّه في « التجريد » ، ولا تعرّض له القوشجي الشارح الجديد.
وأمّا ما ذكره من أنّ المعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء وهو : إثبات تعدّد الخالقين غير اللّه تعالى ، فهو منجرّ إلى الانتقاد على اللّه سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (1).
وقد مرّ أنّ الرديء هو إثبات تعدّد الخالقين المستقلّين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم.
أمّا إثبات فاعل غير اللّه تعالى ، أصل وجوده وقدرته من اللّه تعالى ، وتمكّنه وفعله من مظاهر قدرة اللّه سبحانه وتوابع مخلوقيّته له ، فمن أحسن الأمور وأتّمها اعترافا بقدرة اللّه تعالى ، وأشدّها تنزيها له.
أترى أنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئا بمدد السلطان يقال : إنّهم سلاطين مثله ، ويكون ذلك عيبا في سلطانه ، مع أنّ مددهم منه ليس كمدد العباد من اللّه تعالى ، فإنّ السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا شيئا من
ص: 118
صفاتهم ، فكيف يكون القول : بأنّا فاعلون لأفعالنا رديّا منافيا لعظمة اللّه تعالى؟! واعلم أنّ الخلق لغة : الفعل والاختراع ، قال تعالى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (1) .. ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (2).
نعم ، المنصرف منه عند الإطلاق فعل اللّه تعالى ، فتخيّل الخصم أنّه قد أمكنت الفرصة ، وهو من جهالاته! ولو كان مجرّد صحّة إطلاق الخالقين على العباد عيبا في مذهبنا لكان عيبا في قوله تعالى : ( تَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (3).
وكان إطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم أولى بالعيب في مذهبهم ؛ لأنّ القدرة والعلم والإرادة صفات ذاتية لله تعالى ، زائدة على ذاته بزعمهم (4) كزيادتها على ذوات العباد.
فكيف يشركون فيها معه البشر ، ويثبتون القادرين المريدين العالمين غير اللّه؟!
نعم ، لا ريب عند كلّ عاقل برداءة القول بقدماء شركاء لله في القدم ، محتاج إليهم في حياته وبقائه وأفعاله وعلمه حتّى بذاته ، كما هو مذهب الأشاعرة.
وما بالهم لا يستنكرون من إثبات الملك لأنفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون : اللّه مالك ونحن مالكون؟!
ص: 119
وأمّا ما ذكره من الجواب عن دعوى الضرورة ، فممّا تكرّر ذكره في كتبهم ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية ، تحكم بتأثير القدرة فيها ، وأنّا فاعلون لها ، ولذا يذمّ الطفل الرامي لعلمه الضروري بأنّه مؤثّر ، كما بيّنه المصنّف رحمه اللّه .
على أنّه لو لم يكن للقدرة تأثير لم يعلم وجودها ، إذ لا دليل عليها غيره ، ومجرّد الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بخصوص الاختيار وعدمه.
فإن قلت : الاختيار هو الإرادة ، وهي : عبارة عن الصفة المرجّحة لأحد المقدورين ، فيكون وجود الاختيار مستلزما لوجود القدرة.
قلت : المراد أنّها مرجّحة في مورد حصول القدرة لا مطلقا حتّى يلزم وجودها ، على أنّه يمكن أن تكون مرجّحة لأحد مقدوري اللّه تعالى ، بأن يكون قد أجرى عادته على أنّ تكون إرادة العبد مخصّصة لأحد مقدوريه تعالى ، بأن يخلق الفعل عند خلقها.
هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات القدرة بلا تأثير ليس إلّا كإثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصمّ بلا إسماع! وكما إنّ القول بهذا مخالف للضرورة ، فالقول بوجود القدرة بلا تأثير كذلك.
وهل خلق القدرة - وكذا الاختيار - بلا تأثير إلّا من العبث؟! تعالى اللّه عنه.
نعم ، قد يرد على العدلية أنّ تأثير قدرة العبد في الأفعال الاختيارية ، وإن كان ضروريا ، إلّا إنّه أعمّ من أن يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة
ص: 120
اللّه تعالى ، كما عن أبي إسحاق الإسفراييني (1) ، أو بنحو الاستقلال والإيجاب كما عن الفلاسفة (2) ، أو بنحو الاستقلال والاختيار كما هو مذهب العدلية (3) ، فمن أين يتعيّن الأخير؟!
وفيه : بعد كون المطلوب في المقام هو إبطال مذهب الأشاعرة ، وما ذكر كاف في إبطاله : إنّ مذهب الفلاسفة مثله في مخالفة الضرورة ؛ لأنّ وجود الاختيار وتأثيره من أوضح الضروريات.
على أنّ الإيجاب ينافي فرض وجود القدرة لاعتبار تسلّطها على الطرفين في القول الأحقّ ، ويمكن أن يحمل كلامهم على الإيجاب بالاختيار فيكون صحيحا.
وأمّا مذهب أبي إسحاق ، فظاهر البطلان أيضا ؛ لأنّ اللّه سبحانه منزّه عن الاشتراك في فعل الفواحش كنزاهته عن فعلها بالاستقلال ، ولأنّه يقبح بأقوى الشريكين أن يعذّب الشريك الضعيف على الفعل المشترك ، كما بيّنه إمامنا وسيّدنا الكاظم علیه السلام وهو صبي لأبي حنيفة (4).
ص: 121
وأمّا ما زعمه من إبطال دعوى الضرورة بقوله : « لأنّ علماء السلف كانوا منكرين ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّ علماء السلف من العدلية إنّما ذكروا الأدلّة على المدّعى الضروري ، للتنبيه عليه لا لحاجته إليه ، ولذا ما زالوا يصرّحون بضروريّته ، مضافا إلى أنّ عادة الأشاعرة لمّا كانت على إنكار الضروريات ، احتاج منازعهم إلى صورة الدليل مجاراة لهم.
وأمّا قوله : « وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل ... » إلى آخره ..
فتوضيحه : إنّ سليم العقل يعلم أنّ إرادته لا تتوقّف على إرادة أخرى ، فلا بدّ أن تكون إرادته من اللّه تعالى ، إذ لو كانت منه لتوقّفت على إرادة أخرى ؛ لتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، فيلزم التسلسل في الإرادات ، وهو باطل.
فإذا كانت إرادته من اللّه تعالى وغير اختيارية للعبد ، لم يكن الفعل من آثار العبد وقدرته ، بل من آثار اللّه تعالى ، لوجوب حصول الفعل عقيب الإرادة المتعلّقة به ، الجازمة الجامعة للشرائط ، المخلوقة لله تعالى ، فلم تكن إرادة العبد ولا حصول الفعل عقيبها من آثار العبد ، بل من اللّه تعالى.
وفيه : إنّ عدم احتياج الإرادة إلى إرادة أخرى ، لا يدّل على عدم كونها من أفعال العبد المستندة إلى قدرته ، فإنّ تأثير قدرته في الفعل لا يتوقّف ذاتا على الإرادة ، ولذا كان الغافل يفعل بقدرته وهو لا إرادة له ، وكذا النائم.
وإنّما سمّي الفعل المقدور اختياريا لاحتياجه غالبا إلى الإرادة والاختيار ، فتوهّم من ذلك اشتراط سبق الإرادة في كلّ فعل مقدور ، وهو
ص: 122
خطأ.
وبالجملة : فعل العبد المقدور نوعان : خارجي ، كالقيام والقعود ونحوهما ؛ وذهني ، وهو أفعال القوى الباطنة ، كالإرادة والعلم والرضا والكراهة ونحوها.
والأوّل مسبوق بالإرادة إلّا نادرا كفعل الغافل والنائم ، والثاني بالعكس ، والجميع مقدور ومفعول للعبد ، ولذا كلّف الإنسان عقلا وشرعا بالمعرفة ، ووجب عليه الرضا بالقضاء ، وورد العفو عن النيّة ..
وقال تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (1) ..
وقال سبحانه : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (2) ..
وقال تعالى : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) (3) ..
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما لكلّ امرئ ما نوى » (4) ..
وقال : « نيّة المرء خير من عمله » (5).
ص: 123
ويشهد لكون الإرادة من الأفعال المستندة إلى قدرة العبد ؛ أنّ الإنسان قد يتطلّب معرفة صلاح الفعل ليحدث له إرادة به ، وقد يتعرّف فساده بعد وجودها فيزيلها بمعرفة فساده ، وإن كانت جازمة فإنّها قد تكون فعلية والمراد استقباليا ، فالقدرة في المقامين على الإرادة حاصلة من القدرة على أسبابها كسائر أفعال القلب ، فكلّ فعل باطني مقدور للإنسان حدوثا وبقاء وزوالا.
فثبت أنّ الإرادة ومقدّماتها - أعني : تصوّر المراد والتصديق بمصالحه والرضا به من الجهة الداعية إليه - مقدورة للعبد ، ومن أفعاله المستندة إليه.
نعم ، ربّما يكون بعض مقدّمات الإرادة من اللّه تعالى ، وبذلك تحصل الإعانة من اللّه تعالى لعبده ، كما تحصل بتهيئة غيرها من مقدّمات الفعل ، وعليه يحمل
قول إمامنا الصادق علیه السلام : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين » (1).
فإنّه لا يبعد أنّ المراد بالأمر بين الأمرين دخل اللّه سبحانه في أفعال العباد ، بإيجاد بعض مقدّماتها ، كما هو واقع في أكثر المقدّمات الخارجية ، التي منها تهيئة المقتضيات ورفع الموانع.
فحينئذ لا يكون العبد مجبورا على الفعل ولا مفوّضا إليه بمقدّماته ، وبذلك يصحّ نسبة الأفعال إلى اللّه تعالى.
فإنّ فاعل المقدّمات ، لا سيّما الكثيرة القريبة إلى الفعل قد يسمّى
ص: 124
فاعلا له ، وعليه يحمل ما ظاهره إسناد أفعال العباد إلى اللّه تعالى ، كبعض آيات الكتاب العزيز (1).
واللّه وأولياؤه أعلم.
* * *
ص: 125
قال المصنّف - زاد اللّه فضله عليه - (1) :
منها : مكابرة الضرورة ، فإنّ العاقل يفرّق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا ، وبين الحركة الاضطرارية ؛ كالوقوع من شاهق ، وحركة المرتعش ، وحركة النبض ، ويفرّق بين حركات الحيوان الاختيارية وحركات الجماد.
ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي ، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه.
* * *
ص: 126
مراد المصنّف رحمه اللّه سابقا هو : بيان مدّعى العدلية من كون العباد فاعلين بالضرورة (1).
ومراده هنا : بيان ما يلزم الأشاعرة من مكابرة الضرورة ، غاية الأمر أنّه بيّن سابقا وجه الضرورة بيانا للمدّعى ، وهو ليس من التكرار.
وأمّا تطويله ، فهو لإيضاح الحجّة للعوامّ عسى أن يرتدع من له قلب.
وأمّا ما أشار إليه من الجواب بمجرّد وجود القدرة وعدمها من دون تأثير لوجودها ، فقد عرفت أيضا أنّه مخالف للضرورة ، فإنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة تحكم بتأثيرها ، ولو لم يكن لها تأثير لم نعلم بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بمجرّد وجود الاختيار وعدمه (2).
* * *
ص: 128
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنكار الحكم الضروري من حسن مدح المحسن وقبح ذمّه ، وحسن ذمّ المسيء وقبح مدحه.
فإنّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما ولا يفعل شيئا من المعاصي ، ويبالغ بالإحسان إلى الناس ، ويبذل الخير لكلّ أحد ، ويعين الملهوف ، ويساعد الضعيف .. وإنّه يقبح ذمّه ، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه العقلاء سفيها ، ولامه كلّ أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدّي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قلّ ، وإنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيها ولامه كلّ عاقل.
ونعلم ضرورة قبح المدح والذّم على كونه طويلا وقصيرا ، أو كون السماء فوقه والأرض تحته ، وإنّما يحسن هذا المدح والذمّ لو كان الفعلان صادرين عن العبد ، فإنّه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجّه المدح والذمّ إليه.
والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ ، فلم يحكموا بحسن مدح اللّه تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه ، ولا الشكر له ، ولا بحسن ذمّ إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين
ص: 129
في استحقاق المدح والذمّ (1).
فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ، ويتّبع ما يقوده عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ويعتقد ضدّ الصواب ، فإنّه لا يقبل منه غدا يوم الحساب ..
وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الّذين قال اللّه تعالى عنهم : ( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ) (2).
* * *
ص: 130
وقال الفضل (1) :
حاصل ما ذكره في هذا الفصل : أنّ المدح والذمّ يتوجّهان إلى الأمور الاختيارية ، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمّه ، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمّه ، ولو لا أنّ تلك الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة والسيّئة ، ولا يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذمّ ، فعلم أنّ الأفعال اختيارية ، وإلّا يلزم التساوي المذكور ، وهو باطل.
والجواب : إنّ ترتّب المدح والذمّ على الأفعال ، باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل وكسبه ومباشرته للفعل ؛ أمّا أنّه لتأثير قدرته في الفعل ، فذلك غير ثابت ، وهو المتنازع فيه ، ولا يتوقّف ترتّب المدح والذمّ على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتّب المذكور.
ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار ، فباطل مخالف للعرف واللغة ، فإنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها بخلاف الحمد ، واختلف في الحمد أيضا.
وأمّا قوله : « والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح » ..
إن أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي للمدح والذمّ المذكورين ، فذلك كذلك ؛ لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا.
وإن أراد نفي الحكم بحسن مدح اللّه تعالى وثنائه مطلقا ، فهذا من
ص: 131
مفترياته ، فإنّهم يحكمون بحسن مدح اللّه وثنائه ؛ لأنّ الشرع أمر به ، لا لأنّ العقل حكم به ، كما مرّ مرارا (1).
* * *
ص: 132
لا ريب أنّ المدح والذمّ يتبعان حسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح في الأفعال إنّما يكونان من حيث صدورها من فاعلها وتأثيره فيها بقدرته واختياره ، لا لذواتها ، ولذا لو صدر من النائم أو المكره فعل لم يمدح ولا يذمّ عليه.
وحينئذ فلا يصحّ تعلّق المدح والذمّ بالعبد بمجرّد جعل اللّه تعالى له محلّا لفعله من دون قدرة له على الامتناع ولا تأثير له في الفعل ، فلا وجه لجعل الكسب موجبا لترتّب مدح العبد وذمّه على الفعل ، فإنّه بأيّ معنى فسّر لم يصدر كأصل الفعل بقدرة العبد واختياره ، وما لم يصدر من العبد شيء لا يحسن مدحه أو ذمّه عليه.
وأمّا ما حكاه عن أهل اللغة من أنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها (1) ..
ففيه : إنّ مرادهم بالغير هو الصفات كصفاء اللؤلؤ ، لا ما يعمّ الأفعال التي تقع بلا قدرة واختيار ، فإنّه خلاف الضرورة.
ولكن على هذا يشكل ذكر المصنّف للطول والقصر ، وكون السماء فوقنا والأرض تحتنا ، فإنّها ليست من الأفعال حتّى يكون عدم المدح والذمّ عليها شاهدا للمدّعى.
ص: 133
ويمكن الجواب عنه : بأنّ مراده أنّهم إذا لم يجعلوا لجهة الصدور مدخلا في حسن المدح والذمّ وقبحهما ، كان اللازم عدم قبح المدح والذمّ على المثالين ونحوهما ممّا لم يصدر عن الإنسان ، وهو خلاف الضرورة.
وأمّا ما ردّد به في بيان مراد المصنّف بقوله : « الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ » ..
فخطأ ، إذ ليس شيء ممّا ذكره مرادا له ، وإنّما مراده أنّهم لمّا لم يجعلوا الأفعال صادرة من العبد - والحال كما عرفت أنّ لجهة الصدور في الأفعال مدخلا تامّا في استحقاق المدح والذمّ ، وفي حسنهما وقبحهما - لزمهم إنكار حسن مدح اللّه على إنعامه ، وذمّ إبليس والكافرين والظالمين ؛ لأنّ المدح والذمّ غير صادرين من العبد ، وهذا الإنكار خلاف الضرورة.
على أنّه لو أراد المصنّف ما ذكره الخصم أوّلا كان جديرا بالذكر والعجب ..
إذ كيف يدّعي عاقل أنّه - مع قطع النظر عن التكليف الشرعي - لا يحسن مدح اللّه على نعمائه وشكره على آلائه ، ولا يقبح مدح إبليس والكافرين ، وأنّه لا فرق عقلا بين هذين المدحين ، كما لا فرق أيضا بين مدح اللّه على نعمه وذمّه عليها ، ومدح الظالم على ظلمه وذمّه عليه؟!
فمن ادّعى ذلك كان حقيقا بأن يلحق في المجانين!
* * *
ص: 134
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ؛ لأنّا غير قادرين على ممانعة القديم ..
فإذا كان فاعل فينا للمعصية هو اللّه تعالى لم نقدر على الطاعة ؛ لأنّ اللّه تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول .. وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول. ولو لم يكن العبد متمكّنا من الفعل والترك ، كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات ، وكما إنّ البديهة حاكمة بأنّه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمّه ، وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد.
ولأنّه تعالى يريد منّا فعل المعصية ويخلقها فينا ، فكيف نقدر على ممانعته؟!
ولأنّه إذا طلب منّا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنّا ، بل إنّما يفعله هو ، كان عابثا في الطلب ، مكلّفا لما لا يطاق ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 135
وقال الفضل (1) :
هذه الشبهة اضطرّت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب ، وإلّا لم يجترئ أحد من المسلمين على إثبات تعدّد الخالقين في الوجود.
والجواب : إنّ تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلّيّة لا باعتبار الفاعليّة ، ولأنّ العبد لمّا كانت قدرته واختياره مقارنة للفعل ، صار كاسبا للفعل ، وهو متمكّن من الفعل والترك ، باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة ، وهذا يكفي في صحّة التكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيّته للفعل ، وهو محلّ النزاع (2).
وأمّا الثواب والعقاب المترتّبان على الأفعال الاختيارية ، فكسائر العاديّات المترتّبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي والتجاء سؤال.
وكما لا يصحّ عندنا أن يقال : لم خلق اللّه الإحراق عقيب مسيس النار؟ ولم لا يصحّ ابتداء؟ فكذا ها هنا لا يصحّ أن يقال : لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة ، وعاقب عقيب أفعال أخرى ، ولم لا يفعلها ابتداء ولم يعكس فيهما؟
وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة ، فإنّها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره ، فيخلق اللّه الفعل عقيبها عادة ، وباعتبار ذلك يصير
ص: 136
الفعل طاعة ومعصية ، ويصير علامة للثواب والعقاب (1).
ثمّ ما ذكره أنّه يلزم إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو اللّه تعالى أنّا لا نقدر على الطاعة ، لأنّه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول ، وإلّا كان ممتنع الحصول ..
فنقول : هذا يلزمكم في العلم لزوما غير منفكّ عنكم ؛ لأنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد .. وما علم اللّه وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد .. وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع.
فيبطل حينئذ التكليف ؛ لا بتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما زعم.
فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم اللّه تعالى بالأشياء.
* * *
ص: 137
من رأى تعبيره عن هذا الدليل بالشبهة يحسب أنّه يأتي في جوابه بالكلام الجزل والقول الفصل ، وإذا جاء إلى جوابه رآه بالخرافات أشبه! فإنّ كلّ ما ذكره لا يجعل متعلّق التكليف من آثار العبد ، فإنّ كلّ ما في الوجود بزعمهم مخلوق لله تعالى ، حتّى الكسب والمحلّيّة.
فمن أين يكون العبد مؤثّرا وموجدا حتّى يصحّ تكليفه؟!
وبالجملة : إن كان للعبد إيجاد وتأثير في متعلّق التكليف ، تمّ مطلوبنا ، وإلّا فالإشكال بحاله ، فيلزمهم تكليف العباد بما لا يطاق ، وما لا أثر لهم فيه أصلا وحصول العبث في الطلب.
وأمّا ما زعمه من أنّ الثواب والعقاب من العاديّات ..
ففيه - مع ما عرفت من إشكال حصول العلم بالعادة الغيبية - : إنّه لا يمكن أن يكون من عاديّات العادل الرحمن أن يعذّب عبده الضعيف على فعل هو خلقه فيه ، ولا أثر للعبد به بوجه ، فلا يقاس بخلق الإحراق عقيب مسيس النار.
وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن العبث في الطلب بقوله : « وأمّا التكليف والتأديب والبعثة » ..
فخروج عن مذهبه ظاهرا ، إذ كيف يدعو التكليف والتأديب والبعثة العبد إلى الفعل والاختيار ، وهما من اللّه سبحانه ، ولا أثر للعبد فيهما أصلا عندهم؟!
وأمّا ما زعمه من الإلزام لنا بالعلم ، فممّا لا يرضى به عارف من
ص: 138
قومه فضلا عن غيرهم ؛ لما سبق من أنّ العلم تابع للمعلوم لا متبوع (1) ، وإلّا لما كان اللّه قادرا مختارا ؛ لأنّ ما علم وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، على نحو ما ذكره في كلامه ، ومن الوهن بالإنسان أن يتعرّض للجواب عن مثل هذه الكلمات التي يعلم فيها مقصد صاحبها.
* * *
ص: 139
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه يلزم أن يكون اللّه سبحانه أظلم الظالمين ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّه إذا خلق فينا المعصية ولم يكن لنا فيها أثر ألبتّة ، ثمّ عذّبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا ، كان ذلك نهاية الجور والعدوان ، نعوذ باللّه من مذهب يؤدّي إلى وصف اللّه تعالى بالظلم والعدوان.
فأيّ عادل يبقى بعد اللّه تعالى ، وأيّ منصف سواه ، وأيّ راحم للعبد غيره ، وأيّ مجمع للكرم والرحمة والإنصاف عداه ، مع أنّه يعذّبنا على فعل صدر عنه ، ومعصية لم تصدر منّا بل منه؟!!
* * *
ص: 140
وقال الفضل (1) :
نعوذ باللّه من نسبة الظلم والعدوان إلى اللّه المنّان ، وخلق المعصية في العاصي لم يستوجب الظلم ، والظلم تصرّف في حقّ الغير ، واللّه تعالى لا يظلم الناس في كلّ تصرّف يفعل فيهم.
وقد روي أنّ عمرو بن العاص سأل أبا موسى ، فقال : يخلق فيّ المعصية ثمّ يعاديني بها؟! فقال أبو موسى : لأنّه لا يظلمك (2).
وتوضيح هذا المبحث : إنّ النظام الكلّي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه عاص ومطيع ، كالبيت الذي يبنيه حكيم مهندس ، فإنّه يقتضي أن يكون فيه بيت الراحة ومحلّ الصلاة ، وإن لم يكن مشتملا على المستراح كان ناقصا ، وكذلك إن لم يكن في الوجود عاص لم يكمل النظام الكلّي ، ولم يملأ النار من العصاة ..
وكما إنّه لا يحسن أن يعترض على المهندس : إنّك لم عملت المستراح ولم تجعل البيت كلّه محلّ العبادة ومجلس الأنس؟! .. كذلك لم يحسن أن يقال لخالق النظام الكلّي : لم خلقت العصيان؟! ولم لم تجعل العباد كلّهم مطيعين؟! .. لأنّ النظام الكلّي كان يقتضي وجود الفريقين ، فإنّ التصرّف الذي يفعله صاحب البيت في جعل بعضه مسجدا وبعضه مستراحا هل يقال : هو ظلم؟! فكذلك تصرّف الحقّ سبحانه في الموجود
ص: 141
بأيّ وجه يتّفق لا يقال : إنّه ظلم.
ولكنّ المعتزلي الأعمى يحسب أنّ الخلق منحصر فيه ، وهو مالك لنفسه واللّه ملك عليه ، لا يعلم أنّه مالك مطلق!!
ألا ترى أنّ الرجل الذي يعمل عملا ، ويستأجر على العمل رجالا ، ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقّاء ، فإذا تمّ العمل أعطى الأجراء أجرتهم ، ولم يعط العبيد شيئا ، هل يقال : إنّه ظلم العبيد؟! لا شكّ أنّه لا يقول عاقل : إنّه ظلم العبيد ؛ وذلك لأنّه تصرّف في حقّه بما شاء.
ثمّ إنّ هذا الرجل لو حمّل العبد فوق طاقته أو قطع عنه القوت واللباس يقال : إنّه ظالم ؛ وذلك لأنّه تجاوز عن حدّ ما يملكه من العبد ، وهو التصرّف حسبما أذن اللّه تعالى فيه ، فإذا تجاوز من ذلك الحدّ فقد ظلم .. وذلك لأنّه ليس بالمالك المطلق ، ولو كان هو المالك المطلق ، وكان له التصرّف حيثما شاء وكيفما أراد ، لكان كلّ تصرّفاته عدلا ، لا جورا ولا ظلما.
وكذلك الحقّ سبحانه هو المالك المطلق ، وله التصرّف كيفما شاء وحيثما أراد ، فلا يتصوّر منه ظلم بأيّ وجه تصرّف.
هذا هو التحقيق ولا تعد عن هذا!
* * *
ص: 142
من المضحك استدلاله بما عن أبي موسى عن دعوى عدم الظلم ، ردّا على ما يدركه كلّ ذي وجدان ، من أنّ خلق المعصية والمعاداة عليها سفه وظلم ، فكأنّه لم يرض أن يختصّ شيخهم الأشعري بهذه الخرافة حتّى أشرك معه جدّه ، ولا يخفى أنّ تنظيره بالبيت مخالف لما نحن فيه من وجهين :
الأوّل : إنّ حسن وجود المستراح في البيت ومدخليّته فيه ظاهر لكلّ أحد ، إذ لولاه لتلوّث البيت وتكدّرت حياة أهله ، بخلاف محلّ النزاع من أفعال العباد ، كالجور والنميمة والقتل والسرقة وقطع السبيل ونحوها ، فإنّها شرور في العالم توجب الفساد فيه والنقصان في نظامه لا الكمال.
الثاني : إنّ جعل المستراح محلّا للقذر لا ظلم فيه له لعدم شعوره ، بخلاف جعل العاصي محلّا للأفعال الذميمة ثمّ عقابه عليها.
ومن أغرب الغريب قوله : « ولم يملأ النار من العصاة » ..
فإنّه كلام من يرى أنّ لله سبحانه حاجة وفائدة في أن يملأها من عباده.
على أنّه إذا كان له التصرّف كيفما شاء لم يحتج إلى خلق المعصية ، بل له أن يملأها منهم ابتداء.
وليت شعري أمن الرحمة بعدما كمّل بهم نظامه ووسمهم بالسوء أن يعاقبهم؟! بل هم أولى بالثواب.
ص: 143
ثمّ إنّ التمثيل بالبيت إنّما يناسب القول بالأصلح الذي لا يراه الأشاعرة ، وقد ذكره بعض المحقّقين (1) لتقريبه ، فأخذه الخصم من غير تدبّر ، ووضعه في غير موضعه ، على غير موافقة لمذهبه!
وما أدري ما فائدة ذكر استعمال العبيد بلا أجرة وهو لا يقرّب مطلوبه ولا يخالف قولنا؟!
وأمّا ما ذكره من حمل العبد فوق طاقته ، وقطع القوت واللباس عنه ، وأنّه ظلم وجور ، فهو أقرب إلى مطلوبنا ؛ لأنّ الظلم إنّما يكون فيه من حيث هو ، لا من حيث عدم إذن الشارع فيه ، بل لو أذن فيه عدّ آذنا في الجور ، وعدّ إذنه جورا آخر ، وأعظم منه في ظلم خلق الفعل في العبد وتعذيبه عليه بأنواع العذاب.
ودعوى أنّ لله سبحانه ذلك ، لأنّه المالك المطلق ، ممنوعة ؛ لأنّ الملك المطلق : عبارة عن سلطنة مطلقة غير مقيّدة بوجه ، ولا نسلّم أنّ من أحكامها وآثارها جواز الإضرار بالعبد بلا منفعة له ولا ذنب منه ، بل أحكامها وشؤونها رعاية العبد ورحمته وإنصافه ، وأيّ عاقل لا يعدّ ذلك الإضرار من التصرّف القبيح والظلم الصريح؟!
* * *
ص: 144
قال المصنّف - زاد اللّه في علوّ درجاته - (1) :
ومنها : إنّه يلزم منه تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته ..
بيانه : إنّا نعلم بالضرورة أنّ أفعالنا إنّما تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي وثبوت الصوارف ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّا متى أردنا الفعل ، وخلص الداعي إلى إيجاده ، وانتفى الصارف ، فإنّه يقع ، ومتى كرهناه لم يقع.
فإنّ الإنسان متى اشتدّ به الجوع وكان تناول الطعام ممكنا ، فإنّه يصدر منه تناول الطعام ، ومتى اعتقد أنّ في الطعام سمّا انصرف عنه ، وكذا يعلم من حال غيره ذلك ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ شخصا لو اشتدّ به العطش ولا مانع له من شرب الماء ، فإنّه يشربه بالضرورة ، ومتى علم مضرّة دخول النار لم يدخلها.
ولو كانت الأفعال صادرة من اللّه تعالى ، جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الداعي إليه ، ويمتنع صدوره عنّا وإن أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله اللّه تعالى ، وذلك معلوم البطلان.
فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة ثبوته؟!
* * *
ص: 145
وقال الفضل (1) :
قد سبق في تحرير المذهب : إنّ الأفعال تقع بقدرة اللّه تعالى عقيب إرادة العبد على سبيل العادة ، فإذا حصلت الدواعي وانتفت الصوارف يقع فعل العبد ، وإن جاز عدم الوقوع عقلا ، كما في سائر العاديّات التي يجوز عدم وقوعها عقلا ويستحيل عادة (2).
فكذا كلّ ما ذكره من تناول الطعام وشرب الماء ، فإنّه يجوز أن لا يقع عقيب إرادة الطعام ، ولكن العادة جرت بوقوعها.
وأمّا قوله : « ولو كانت الأفعال صادرة من اللّه تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه » ..
فهذا أمر صحيح ؛ فإنّ كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها ، وهذا الجواز ممّا لا ريب فيه ، وليس في إنكار هذا الجواز نفي ما علم بالضرورة.
* * *
ص: 146
نتيجة كلامه الإصرار على مكابرة الضرورة فلا يلتفت إليه.
وأعجب منه قوله : « فإنّ كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها » ..
إذ أيّ عاقل يفعل ما يكره مع انتفاء الدواعي أو وجود الصوارف كما هو مفروض الكلام؟!
نعم ، ربّما نفعل ما نكره لداع أقوى من الصارف ، وهو أمر آخر ، بل لا تبقى الكراهة الحقيقية حينئذ.
* * *
ص: 147
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : تجويز ما قضت الضرورة بنفيه ؛ وذلك لأنّ أفعالنا إنّما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده ، ولا تقع منّا على الوجه الذي نكره.
فإنّا نعلم بالضرورة أنّا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة ، ولو أردنا الحركة يسرة لم تقع يمنة ، والحكم بذلك ضروري.
فلو كانت الأفعال صادرة من اللّه تعالى جاز أن تقع الحركة يمنة ونحن نريد الحركة يسرة ، وبالعكس ، وذلك ضروريّ البطلان.
* * *
ص: 148
وقال الفضل (1) :
جواب هذا ما سبق في الفصل السابق : « إنّ هذه الأفعال إنّما تقع عقيب إرادة العبد عادة من اللّه تعالى ، وإنّ اللّه تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد ، وهو يخلق الإرادة ، والضرورة إنّما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة ، لا أنّها تقضي بأنّ هذه الإرادة مؤثّرة خالقة للفعل » (2).
والعجب أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين هذين المعنيين!
ثمّ من العجب كلّ العجب أنّهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأمّلون أنّ هذه الإرادة من يخلقها؟!! أهم يخلقونها أم اللّه تعالى يخلقها؟!
فالذي خلق الإرادة وإن لم يرد العبد تلك الإرادة ، وهو مضطرّ في صيرورته محلّا لتلك الإرادة ، خالق الفعل.
فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ، ونسبوا إلى أنفسهم الأفعال ، وفيه خطر الشرك.
* * *
ص: 149
سبق في أوّل المبحث أنّ القول بعدم تأثير قدرة العبد واختياره خلاف الضرورة ، وأنّ من أنكر تأثير قدرته ليس له طريق إلى إثبات وجودها (1).
كما سبق هناك أنّ الإرادة ومقدّماتها ، من تصوّر المراد ، والتصديق بمصلحته ، والرضا به ، أفعال للعباد وآثار لقدرتهم ، وأنّه ربّما تقع المقدّمات من اللّه تعالى ، وقد أوضحناه فراجع (2) ، فلا محلّ لعجبه كلّ العجب.
ومن خلوّ وطاب (3) الأشاعرة من النقد على مذهب العدليّة التجأوا إلى التهويل بالألفاظ ، فعبّروا عن فعل العبد بالخلق والشرك ، اللذين ينصرف أوّلهما إلى فعل كامل القدرة ، وثانيهما : إلى الشرك في الإلهيّة ..
وهم أحقّ بالشرك ؛ لإثباتهم الصفات الزائدة المغايرة لله تعالى في وجوده ، ولا تقوم الإلهيّة إلّا بها ، مع أنّهم - أيضا - أثبتوا هذه الصفات لأنفسهم (4)!
ص: 150
ولا ريب أنّ دعوى المشاركة في الصفات الذاتية أعظم خطرا من دعوى المشاركة في الأفعال ، لا سيّما مع كونها بأقدار اللّه تعالى.
* * *
ص: 151
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : إنّه يلزمهم مخالفة الكتاب العزيز ، ونصوصه ، والآيات المتضافرة فيه ، الدالّة على إسناد الأفعال إلينا.
وقد بيّنت في كتاب « الإيضاح » مخالفة أهل السنّة لنصّ الكتاب والسنّة (2) ، بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز ، حتّى إنّه لا تمضي آية من الآيات إلّا وقد خالفوا فيها من عدّة أوجه ، فبعضها يزيد على العشرين ، ولا ينقص شيء منها عن أربعة.
ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة دالّة على أنّهم خالفوا صريح القرآن ، ذكرها أفضل متأخّريهم ، وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي (3) ، وهي عشرة :
الأوّل : الآيات الدالّة على إضافة الفعل إلى العبد :
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (4) ..
ص: 152
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (1) ..
( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ ) (2) ..
( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (3) ..
( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (4) ..
( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) (5) ..
( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) (6) ..
( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) (7) ..
( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (8) (9).
* * *
ص: 153
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود (2) ، فكلّ ما كان كذلك من كتاب اللّه وخالفه المكلّف عالما به يكون كافرا ، نعوذ باللّه من هذا ، وكلّ ما يحتمل الوجوه ، ولا يكون بحيث لا يحتمل خلاف المقصود ، فالمخالفة له لا تكون كفرا ، بل هو محتمل للاجتهاد والترجيح لما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب.
والعجب من هذا الرجل أنّه جمع الآيات التي أوردها الإمام الرازي ليدفع عنها احتمال ما يخالف مذهب أهل السنّة ، ثمّ أتى على الآيات كلّها ، ووافق مذهب السنّة لها ، ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب المعتزلة .. وهذا الرجل ذكر الآيات كلّها ، وجعلها نصوصا مؤيّدة لمذهبه ، ولم يذكر ما ذكر الإمام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب أهل السنّة والجماعة.
وهذا يدلّ على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصّبه وعدم فهمه ، أما كان يستحي من ناظر في كتابه؟!
ومثله في هذا العمل كمثل من جمع السهام في وقعة حرب ، وكانت تلك السهام قتلت طائفة من أهل عسكره ، فأخذ السهام من بطون أصحابه ومن صدورهم وأفخاذهم ، ثمّ يفتخر أنّ لنا سهاما قاتلة للرجال ، ولم يعلم
ص: 154
أنّ هذه السهام قتلت أحبّاءه وأعوانه ، نعوذ باللّه من الجهل والتعصّب.
ثمّ جعل هذه الآيات دليلا على مذهبه الباطل ، من باب إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.
فإنّا لا ننكر أنّ للفعل نسبة إلى الفاعل ، ونسبة وإضافة إلى الخالق ، كالسواد ، فإنّ له إضافة إلى الأسود ، لأنّه محلّه ، وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتّى صار به أسود.
فقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) فيه إضافة الكفر إلى العبد ، ولا شكّ أنّه كذلك ، وليس لنا فيه نزاع أصلا ، والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة.
وقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (2) لا شكّ أنّ الكتابة تصدر من يد الكاتب ، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير ، فنقول : الكتابة كسب العبد وخلق الحقّ.
ألم يقرأ هذا الرجل آخر هذه الآية : ( ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (3) صرّح بالكسب وأنّ كتابتهم كسب لهم ، لا أنّه خلق لهم؟!
وقس عليه باقي الآيات المذكورة.
* * *
ص: 155
النصّ كما ذكره ، هو ما لا يحتمل الخلاف ، لكن لا بحسب الاحتمالات السفسطائية والأوهام ، وإلّا لم يكن نصّ أصلا ، بل بحسب طريقة الاستعمال وأفهام أهل اللسان كما هو ثابت في هذه الآيات الكريمة ؛ لأنّ نسبة الفعل الاختياري إلى فاعله إنّما يفهم منها تأثير الفاعل في الفعل وإحداثه إيّاه.
ولا يتصوّر عاقل أنّ نسبة الفعل الاختياري إلى الفاعل ذي القدرة والاختيار عبارة عن كون الفاعل محلّا فقط ، فلا يقاس ما نحن فيه بالأسود ، فإنّ السواد ليس باختياري لمن لا قدرة ولا اختيار له فيه.
ولكنّ الأشاعرة اصطلحوا وأثبتوا للفعل الاختياري نسبة إلى الفاعل بمعنى المحلّيّة ، لا يعرفها العرب ، وسمّوها الكسب ، ونسبة إلى الخالق ، وحملوا الكتاب العزيز على اصطلاحهم المتأخّر (1).
ولأجل ما ذكرنا لم يتعرّض المصنّف لتأويل الرازي لو وقع منه ؛ لأنّ أجوبتهم تدور مدار الكسب الخرافي ، ولو كان له جواب ذو بال لما تركه الخصم وتعرّض للكسب!
فالحقّ أنّ تأويل الآيات بمثل ذلك يعدّ من تحريف الكلم عن مواضعه ، ويوجب إسقاط الكتاب العزيز عن الحجّيّة ، إذ لا نصّ في
ص: 156
الكتاب إلّا ويمكن فيه مثل ذلك التأويل.
وأمّا استشهاده بتتمّة الآية فمن العجائب ؛ لأنّ المراد بالكسب فيها هو طلبهم لذلك الثمن القليل ، ولذا جعل تعالى الويل على كلّ من الكتابة والكسب منفردا.
ومن الجهالات المثل الذي ضربه ، مشيرا به إلى أنّ الآيات من أدلّة الأشاعرة ، وكانت سهاما لهم على خصومهم!
ولم ينكر ذو فهم أنّها من أدلّة العدليّة ، وغاية ما عند الأشاعرة تأويلها بالكسب الساقط.
ف- ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (1).
* * *
ص: 157
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :
الثاني : ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه ، وذمّ الكافر على كفره ، ووعده بالثواب على الطاعة ، وتوعّده بالعقاب على المعصية ..
كقوله تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (2) ..
( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) ..
( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (4) ..
( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (5) ..
( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (6) ..
( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) (7) ..
( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (8) ..
( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (9) ..
ص: 158
( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) (1) ..
( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا ) (2) ..
و ( الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ) (3) (4).
* * *
ص: 159
وقال الفضل (1) :
مدح المؤمن وذمّ الكافر بكونهما محلّا للكفر والإيمان ، كما يمدح الرجل بحسنه وجماله ، وتمدح اللؤلؤة بصفائها.
والوعد والوعيد لكونهما محلّا للأعمال الحسنة والسيّئة ، كما يؤثر ويختار المسك ، ويحرق الحطب والحشيش.
والآيات المذكورة إنّما تدلّ على المدح للمؤمن ، والذمّ للكافر ، وبيان ترتّب الجزاء ، وليس النزاع في هذا ؛ لأنّ هذا مسلّم.
والكلام في أنّ الأفعال المجزية ، هل هي مخلوقة لله تعالى أو للعبد؟
وأمّا المباشرة للعمل والكسب الذي يترتّب عليه الوعد والوعيد والجزاء ، فلا كلام في أنّهما من العبد.
ولهذا يترتّب عليهما الجزاء ، فعلم أنّ ما في الآيات ليس دليلا لمذهبه.
* * *
ص: 160
لا ريب أنّ المدح والذمّ تابعان لحسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح قد لا يعتبر فيهما القصد والاختيار ؛ لعدم كون متعلّقهما من الأفعال الاختيارية ، بل من الصفات الذاتية ، كصفاء اللؤلؤ وكدرته ، وجمال الوجه وحسنه.
وقد يعتبر فيهما القصد والاختيار ؛ لتعلّقهما بالفعل الاختياري ، فإنّ الفعل الاختياري لو وقع بلا قصد لم يوصف بالحسن والقبح ، ولا يحمد عليه الفاعل ولا يذمّ ، كفعل النائم ، فإنّ النائم إذا صدرت منه كلمة الإيمان والكفر لم توصف بحسن ولا قبح منه ، ولا يحمد عليها ولا يذمّ.
وكذا لا يذمّ الشخص على الفعل إذا أكره عليه ، كما وقعت كلمة الكفر من عمّار بإكراه قريش فلم يذمّ عليها ، ونزل قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (1).
ولو انتفى أصل الصدور من الشخص ، كان الفعل أولى بعدم اتّصافه بالحسن والقبح منه ، وكان الشخص أولى بأن لا يحمد أو يذمّ عليه ، سواء لم يرتبط به الفعل أصلا أم ارتبط به بنحو المحلّيّة أو الآليّة بلا اختيار ولا تأثير.
فإنّ الحجارة لا تحمد ولا تذمّ على الإيلام ، ولا يحسن منها ولا يقبح ، وإنّما يحمد الرامي أو يذمّ على الإيلام لحسنه منه أو قبحه
ص: 161
بحسب الوجوه والاعتبار ، كضرب اليتيم تأديبا أو عدوانا.
وكذا الحال في الإنسان بناء على صدور فعله من اللّه تعالى ، فإنّه لا يحسن من الإنسان ولا يقبح ، ولا يحمد عليه ولا يذمّ ؛ لعدم تأثيره في الفعل أصلا ، ومجرّد كونه محلّا لفعله تعالى ، وصيرورته آلة ، وتسميته في الاصطلاح اللفظي كاسبا .. لا يقتضي حسن الفعل منه أو قبحه ، ولا حمده عليه أو ذمّه ، ما دام غير مؤثّر فيه بوجه ، إذ ليس هو إلّا كالحجارة.
فحينئذ يكون تعلّق المدح والذمّ في القرآن بالمؤمن والكافر ، دليلا على الصدور منهما والتأثير لهما.
وأمّا الوعد والوعيد فلا معنى لتعلّقهما بالشخص ؛ لكونه محلّا للأفعال ، إذ لم يستند إليه شيء حتّى يجزى به .. والتشبيه بإيثار المسك واختياره وإحراق الحطب والحشيش ، خطأ ؛ لأنّ الكلام في صحّة الوعد والوعيد .. وبالضرورة : لا يصحّ وعد المسك ، وإبعاد الحشيش ..
على أنّ حرق الحطب ليس ظلما له ، إذ لا شعور له ، بخلاف تعذيب الإنسان ، فلا معنى لقياس المؤمن والكافر على المسك والحطب.
وأمّا ما ذكره من أنّ المباشرة والكسب لا كلام في أنّهما من العبد ، فإنّ أراد به أنّهما منه حقيقة ، كان خروجا عن مذهبه وشركا بمعتقده ؛ لأنّ كلّ ما في الوجود من اللّه تعالى ..
وإن أراد أنّهما منه اصطلاحا ، وبمجرّد التسمية اللفظية لم يحصل به الجواب.
* * *
ص: 162
قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :
الثالث : الآيات الدالّة على أنّ أفعال اللّه تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين في التفاوت والاختلاف والظلم.
قال اللّه تعالى : ( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) (2) ..
( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (3) ..
( ثُمَّ هَدى ) (4) ..
والكفر والظلم ليس بحسن.
وقال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (5) ..
والكفر ليس بحقّ.
وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (6) ..
( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (7) ..
( وَما ظَلَمْناهُمْ ) (8) ..
ص: 163
وقال الفضل (1) :
مذهب جميع الملّيّين أنّ أفعال اللّه تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين ، فإنّ أفعال المخلوقين مشتملة على التفاوت [ والاختلاف ] والظلم ، وأفعال اللّه تعالى منزّهة عن هذه الأشياء.
فالآيات الدالّة على هذا المعنى دليل جميع الملّيّين ، ولا يلزم الأشاعرة شيء منها ؛ لأنّهم لا يقولون : إنّ أفعال العباد أفعال اللّه تعالى حتّى يلزم المحذور ، بل إنّهم يقولون : أفعال العباد مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد.
وهذا التفاوت والاختلاف والظلم بواسطة الكسب والمباشرة ، فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء ، كالإنسان وغيره من المخلوقات ، فإنّ الاختلاف والتفاوت واقعان فيها لا محالة.
فهذا التفاوت والاختلاف في تلك الأشياء ؛ بماذا ينسب؟ وبأيّ شيء ينسب؟ فينسب إليه تعالى اختلاف أفعال العباد!
وأمّا الاستدلال بقوله : ( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (2) على أنّ الكفر ليس خلقه ، فباطل ؛ لأنّ الكفر مخلوق لا خلق ، ولو كان كلّ مخلوق حسنا لوجب أن لا يكون في الوجود قبيح ، وهو باطل ؛ لكثرة المؤذيات والقبائح المتحقّقة بخلق اللّه تعالى على ما سيجيء.
ص: 165
وأمّا الاستدلال بقوله : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (1) على أنّ الكفر ليس مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ليس بحقّ ، فباطل ؛ لأنّ معنى الآية : إنّا ما خلقنا السماوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ والصدق والجدّ ، لا بالهزل والعبث ، كما قال : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (2) ..
ولو كان المعنى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلّا بكون كلّ مخلوق حقّا ، لأفاد أنّ الكفر حقّ ، وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام؟!
نعم ، ربّما فهم ذلك الأعرابي الجاف ، الحلّي الوطن ، ذلك المعنى من كلام اللّه تعالى!
* * *
ص: 166
من العجب أنّ الخصم وأصحابه يطلقون أفعال اللّه تعالى على مخلوقاته ، فإذا جاءوا إلى أفعال العباد - التي هي مخلوقة لله بزعمهم - سمّوها أفعال المخلوقين .. أيزعمون أنّ الخروج عن عهدة الإشكال بمجرّد الاصطلاح والتسمية؟!
على أنّ صريح الآية الأولى عدم التفاوت في خلق اللّه ، ومنه أفعال العباد عندهم ، فلا يضرّنا عدم تسميتها أفعالا لله تعالى.
وأمّا ما زعمه من التفاوت بواسطة الكسب والمباشرة ..
ففيه : إنّهم يزعمون أنّ اللّه تعالى خالق الأشياء كلّها ، فكلّ شيء جعلوا فيه التفاوت ، سواء كان هو الكسب أم غيره ، فهو من خلق اللّه تعالى ، فيكون التفاوت في خلقه ، وقد نفته الآية ، فلا ينفعهم الفرار إلى الكسب والمباشرة.
ومن المضحك أنّه بعدما زعم أنّ مذهب جميع الملّيّين تنزيه أفعال اللّه عن التفاوت ، كذّب نفسه بإثبات التفاوت في سائر الأشياء - كالإنسان وغيره من المخلوقات - ، ونسبه - مع التفاوت في أفعال العباد - إلى اللّه تعالى!
وهو أيضا تكذيب لله تعالى في قوله : ( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) (1) .. ومنشأه الجهل بمعنى الآية ، إذ ليس المراد بالتفاوت في
ص: 167
الآية الاختلاف بالصورة والمادّة ، أو الحسن والأحسنية ، أو نحو ذلك ، حتّى تكذّب الآية ، بل المراد به الاختلاف بالحسن والقبح ووقوع الخلل وعدم الإتقان في بعضها ، ولكنّ الخصم لا يرضى بهذا ؛ لأنّه يزعم أنّ خلق اللّه متفاوت بالحسن والقبح.
فإن قلت : لعلّه فهم من لفظ الخلق المعنى المصدري ، فلا يكون قوله بالتفاوت في المخلوقات تكذيبا للآية.
قلت : مع أنّه لا إشعار لكلامه به ؛ لو كان كذلك لما احتاج إلى دعوى كون التفاوت بواسطة الكسب ، على أنّ تعليق الرؤية المنفية بالخلق يدلّ على إرادة المخلوق منه ، مع أنّ القول بوقوع التفاوت في المخلوقات يستوجب نفي الإتقان وثبوت النقص في اللّه سبحانه بالعجز أو الجهل ، وهو كفر!
وأمّا ما أجاب به عن قوله تعالى : ( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (1) ..
حيث قال : إنّ الكفر مخلوق لا خلق ، فغلط واضح ، بناء على قراءة الأكثر بفتح ( لام ) خَلَقَهُ ، ليكون فعلا ، فإنّ الآية حينئذ تكون صريحة في أنّه تعالى أحسن كلّ شيء مخلوق له.
وكذا بناء على قراءته بتسكين ( اللام ) ، ليكون مصدرا وبدل اشتمال من كُلَّ شَيْءٍ ؛ وذلك لأنّ إحسان الخلق إنّما هو باعتبار إحسان المخلوق ، أو يستلزمه ، كما تشهد له القراءة الأولى.
وكيف يمكن أن يقال : إنّ اللّه سبحانه لم يحسن مخلوقاته ، وهو ينفي الإتقان ويثبت العجز أو الجهل له سبحانه؟!
ص: 168
وما زعمه من كثرة القبائح المؤذية في مخلوقات اللّه تعالى ، يرد عليه - مع منافاته لقوله سابقا بعدم صدور القبيح منه تعالى - : إنّ المؤذيات ليست قبائح ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، وإن تخيّلها قبائح من لا يعرف أنّ اللّه أحسن الخالقين ، وأنّ أفعاله متقنة منزّهة عن القبيح.
وأمّا جوابه عن الآية الثالثة ، بأنّ معناها : إنّا ما خلقنا السماوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ ..
ففيه : إنّ هذا هو مراد المصنّف ، وهو بالضرورة يقتضي أن تكون مخلوقاته تعالى كلّها حقّا ، وإلّا فكيف يكون متلبّسا بالحقّ ومخلوقاته ومصنوعاته من الباطل؟!
كما إنّه لا يكون منزّها عن اللعب والعبث إذا كان بعض مخلوقاته لعبا وعبثا!
* * *
ص: 169
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الرابع : الآيات الدالّة على ذمّ العباد على الكفر والمعاصي ، كقوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ ) (2) ، والإنكار والتوبيخ مع العجز عنه محال ، ومن مذهبهم أنّ اللّه خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره ، فكيف يوبّخه عليه؟!
وقال تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) (3) ، وهو إنكار بلفظ الاستفهام.
ومن المعلوم أنّ رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثمّ يقول : ما منعك من التصرّف في حوائجي؟! قبح منه ذلك.
وكذا قوله تعالى : ( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ) (4) ..
( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) (5) ..
وقوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ) (6) ..
( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (7) ..
ص: 170
( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (1) ..
( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (2) ..
( لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ ) (3) ..
وكيف يجوز أن يقول : لم تفعل ، مع أنّه ما فعله.!
وقوله : ( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (4) ..
( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (5) ..
قال الصاحب بن عبّاد (6) : كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ، وينهى عن المنكر وقد أراده ، ويعاقب على الباطل وقدّره؟! (7).
وكيف يصرفه عن الإيمان ويقول : ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (8)؟! ..
ويخلق فيهم الكفر ثمّ يقول : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ ) (9)؟! ..
ويخلق فيهم لبس الباطل ثمّ يقول : ( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (10)؟! ..
وصدّهم عن سواء السبيل ، ثمّ يقول : ( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
ص: 171
اللّهِ ) (1)؟! ..
وحال بينهم وبين الإيمان ، ثمّ قال : ( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ ) (2)؟! ..
وذهب بهم عن الرشد ، ثمّ قال : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (3)؟! ..
وأضلّهم عن الدين حتّى أعرضوا ، ثمّ قال : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (4)؟! (5).
* * *
ص: 172
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ ذمّ العباد على الكفر ؛ لكونهم محلّ الكفر والكاسبين المباشرين له.
والإنكار والتوبيخ في قوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ ) (2) ؛ لكسبهم الكفر ، وهم غير عاجزين عن الكسب ؛ لوجود القدرة على الكسب ، وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم بحسب الإيجاد والخلق.
والأوّل كاف في ترتّب التوبيخ على فعلهم.
وأمّا ما ذكر من أنّ مذهبهم أنّ اللّه تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره ، فكيف يوبّخه عليه؟!
فقد ذكرنا جوابه في ما سبق أنّ التوبيخ باعتبار الكسب والمحلّيّة ، لا باعتبار التأثير والخالقيّة (3).
وقد ذكرنا في ما سبق أنّ هذا يلزمهم في العلم بعينه (4).
وكذا حكم باقي ما ذكر من الآيات المشتملة على توبيخ اللّه تعالى عباده بالشرك والمعاصي ، فإنّ كلّ هذه التوبيخات متوجّهة إلى العباد باعتبار المحلّيّة والكسب ، لا باعتبار الخلق.
ص: 173
وأمّا ما ذكره من كلمات الصاحب ، فهو كان وزيرا متشدّقا في الإنشاء ، معتزليا ، ذكر الكلمات على وتيرة أرباب الترسّلات والمراسلات ، وليس فيه دليل ، وما أحسن ما قيل في أمثال كلامه :
كلامك يا هذا كبندق فارغ *** خليّ عن المعنى ولكن يقرقر
* * *
ص: 174
بعد قولهم : « إنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء » يكون الكسب أيضا من مخلوقاته كما سبق (1) ، ويكون العبد عاجزا عنه كأصل الفعل ، فلا يصحّ توبيخ العبد عليه أيضا.
وما زعمه من وجود القدرة على الكسب ، إن أراد بها القدرة المؤثّرة فيه ، فقد خرج عن مذهبه حيث يقول : لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى وكلّ شيء مخلوق له ..
وإن أراد بها غير المؤثّر ، فهي لا تصحّح التوبيخ ، مع أنّ مثلها عندهم متعلّق بأصل الفعل ، فلا داعي للفرار إلى الكسب.
وأمّا ما زعمه من أنّ هذا يلزمنا في العلم ، فقد مرّ مرارا ما فيه (2).
وأمّا كون الصاحب رحمه اللّه وزيرا متشدّقا في الإنشاء ، فلا ينافي علوّ مكانته في العلم ، كما هو معلوم لكلّ أحد ، وتشهد به رصانة معاني كلامه المذكور ..
وما زعمه أنّه كان معتزليا ، فهو كما زعمه الذهبي أنّ السيّد المرتضى رحمه اللّه كان معتزليا (3) ..
ص: 175
ومن نظر أحوال الصاحب عرف أنّه شريف الحسب ، إماميّ المذهب ، عريق الولاء لأهل البيت (1) ، لا يتحكّم على الحقّ بلعلّ وليت.
ولينظر المنصف أنّ الخالي عن المعنى هو كلام الصاحب أو كلام الخصم!!
* * *
ص: 176
قال المصنّف - رفع اللّه في الخلد أعلامه - (1) :
الخامس : الآيات التي ذكر اللّه تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم وتعلّقها بمشيئتهم :
قال تعالى : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (2) ..
( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (3) ..
( فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ) (4) ..
( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (5) ..
( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (6) ..
( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (7) ..
( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) (8).
وقد أنكر اللّه تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى اللّه
ص: 177
تعالى بقوله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا ) (1) ..
( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (2) (3).
* * *
ص: 178
وقال الفضل (1) :
هذه الآيات تدلّ على أنّ للعبد مشيئة ، وهذا شيء لا ريب فيه ولا خلاف لنا فيه ، بل النزاع في أنّ هذه المشيئة التي للعبد ، هل هي مؤثّرة في الفعل موجدة إيّاه؟ أو هي موجبة للمباشرة والكسب؟
فإقامة الدليل على وجود المشيئة في العبد غير نافعة له.
وأمّا قوله : « قد أنكر اللّه تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى اللّه تعالى بقوله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا ) (2).
فنقول : هذا الإنكار بواسطة إحالة الذنب على مشيئة اللّه تعالى عنادا وتعنّتا ، فأنكر اللّه عليهم عنادهم وجعل المشيئة الإلهيّة علّة للذنب ، وهذا باطل.
ألا ترى إلى قوله : ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (3) كيف نسب عدم الإشراك إلى المشيئة؟! ولو لا أنّ الإنكار في الآية الأولى لجعل المشيئة علّة للذنب ، وفي الثانية لتعميم حكم المشيئة الموجبة للخلق ، لم يكن فرق بين الأولى والثانية ، والحال أنّ الأولى واردة للإنكار على ذلك الكلام ، وهو منقول عنهم ، والثانية من اللّه تعالى من غير إنكار ، فليتأمّل المتأمّل ليظهر عليه الحقّ.
ص: 179
صريح الآيات إرجاع الإيمان والكفر ونحوهما إلى مشيئة العبد ، ولا معنى للإرجاع إليها بدون تأثيرها.
ثمّ إنّ إيجاب المشيئة للكسب - كما زعم - إن كان بمعنى تأثيرها فيه ، فهو خلاف مذهبهم ، وإلّا فلا يصحّ الإرجاع إليها.
وأمّا ما ذكره من أنّ هذا الإنكار بواسطة إحالة الذنب إلى مشيئة اللّه تعالى ... إلى آخره ..
ففيه : إنّ صريح الآية إحالتهم أصل الشرك إلى مشيئة اللّه تعالى ، ولا يفهم من الآية أنّهم يعدّون الشرك ذنبا ، فضلا عن إحالتهم جهة الذنب إلى مشيئة اللّه تعالى.
وأمّا ما زعمه من أنّه لولا الجمع الذي ذكره لم يكن فرق بين الأولى والثانية ..
ففيه : إنّ الفرق واضح ؛ لأنّ الأولى في مقام الإنكار على من نفى المشيئة المؤثّرة فعلا عن نفسه وأضافها إلى اللّه تعالى ، والثانية في مقام فرض مشيئته تعالى ، وأنّه لو فرض تعلّقها بعدم الشرك لما أشركوا.
* * *
ص: 180
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
السادس : الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال والمسارعة إليها قبل فواتها.
كقوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ..
( أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ وَآمِنُوا بِهِ ) (3) ..
( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) (4) ..
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) (5) ..
( فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) (6) ..
( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) (7) ..
( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) (8).
وكيف يصحّ الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور ممنوعا عاجزا عن الإتيان؟!
ص: 181
وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزمن : قم ، ولمن يرمى من شاهق جبل : احفظ نفسك (1) .. فكذا ها هنا.
* * *
ص: 182
وقال الفضل (1) :
أمر العباد بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف ، وقد سبق فائدة التكليف (2) .. وأنّه ربّما يصير داعيا إلى إقبال العبد إلى اللّه تعالى.
وخلق الثواب والعقاب عقيب التكليف والبعثة وعمل العباد ، كخلق الإحراق عقيب النار.
فكما لا يحسن أن يقال : لم خلق اللّه الإحراق عقيب النار؟
كذلك لا يحسن أن يقال : لم خلق الثواب والعقاب عقيب الطاعة والمعصية؟ فإنّه تعالى مالك على الإطلاق ، ويحكم ما يريد.
وأمّا قوله : كيف يصحّ الأمر بالطاعة والمأمور عاجز؟! ..
فالجواب : ما سبق أنّه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ؛ والكلام في الخلق والتأثير لا في الكسب والمباشرة (3)!
* * *
ص: 183
قد عرفت أنّ هذا كلّه من الهذيان أو التمويه (1) ، فلا يحسن بنا إضاعة القرطاس لأجله مرّة أخرى!
* * *
ص: 184
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
السابع : الآيات التي حثّ اللّه تعالى فيها على الاستعانة به.
قوله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (2) ..
( فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) (3) ..
( اسْتَعِينُوا بِاللّهِ ) (4).
فإذا كان اللّه تعالى خلق الكفر والمعاصي ، كيف يستعان ويستعاذ به؟!
وأيضا : يلزم بطلان الألطاف والدواعي ؛ لأنّه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد ، فأيّ نفع يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله اللّه تعالى؟!
ولكنّ الألطاف حاصلة .. كقوله تعالى : ( أَ وَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) (5) ..
( وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (6) ..
( وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (7) ..
ص: 185
( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) (1) ..
( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) (3).
* * *
ص: 186
وقال الفضل (1) :
خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق ولا يستعاذ به ، فإنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة ، ولو كان الأمر كما ذكروا لانسدّ باب الدعاء والطلب من اللّه تعالى ؛ لأنّه خالق الأشياء.
وهذا من الترّهات التي لا يتفوّه بها عاقل فضلا عن فاضل.
* * *
ص: 187
الاستعانة : طلب إعانة المعين على فعل المستعين ، فإذا كان الفعل والأثر لله وحده ، كيف يحصل معنى الاستعانة؟!
كما إنّ الاستعاذة به تعالى من الشيطان إنّما تكون إذا كان الشيطان أثر ، فإذا كان الأثر لله وحده ، كيف يستعاذ به من غير المؤثّر؟!
هذا هو مراد المصنّف لا ما فهمه الخصم!
ودعوى أنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق موجبهما دعوى شبيهة بالكسب في عدم ظهور معناها ، مع إنّها لا تنافي وجه الاستدلال الذي ذكرناه!
فنحن ندعوه سبحانه بأن يعيننا على فعل الخير ، ويعيذنا من فعل الشيطان وشرّه ، وباب دعائه تعالى مفتوح للسائلين.
وقد تغافل الخصم عمّا ذكره المصنّف من لزوم بطلان الألطاف والدواعي ؛ لعجزه عن الجواب! ولعلّه عن غفلة ؛ لأنّ من كانت بضاعته دعوى الكسب ونحوه لا يعجز عن الجواب.
* * *
ص: 188
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الثامن : الآيات الدالّة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم.
كقوله تعالى حكاية عن آدم علیه السلام : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (2) ..
وعن يونس علیه السلام : ( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (3) ..
وعن موسى علیه السلام : ( إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) (4) ..
وقال يعقوب لأولاده : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (5) ..
وقال يوسف علیه السلام : ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) (6) ..
وقال نوح علیه السلام : ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (7).
فهذه الآيات تدلّ على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم (8).
* * *
ص: 189
وقال الفضل (1) :
اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدلّ على اعتقادهم بكونهم خالقين ، والمدّعى هو هذا ، وفيه التنازع ، فإنّ كلّ إنسان يعلم أنّه فاعل للفعل ، ولكن الكلام في الخلق والإيجاد ، فليس فيه دلالة لمدّعاه!
* * *
ص: 190
سبق أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح الدلالة على إيجاده إيّاه ، وأنّ الكسب بالمعنى الذي فسّره به ، إنّما هو عبارة عن نسبة محلّيّة لا فاعليّة (1) ، فتكون الآيات دليلا واضحا على المطلوب.
وقوله : إنّ « الكلام في الخلق والإيجاد » ..
مسلّم ؛ والآيات دالّة عليه ، فإنّ الخلق لغة هو الفعل ، وإن كان ينصرف في الاستعمال إلى فعل اللّه تعالى خاصّة ، ولذا يتقصّده الخصم ، ليستبشع السامع من دعوى الأنبياء في أنفسهم الخلق ، ولم يعلم أنّ اللّه تعالى نسبه إلى عيسى فقال : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (2) ..
ونسبه إلى غيره فقال : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (3) ..
وقال سبحانه : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (4).
* * *
ص: 191
قال المصنّف - طاب مثواه - (1) :
التاسع : الآيات الدالّة على اعتراف الكفّار والعصاة بأنّ كفرهم ومعاصيهم كانت منهم.
كقوله تعالى : ( وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ )
- إلى قوله تعالى : - ( أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) (2) ..
وقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) (3) ..
( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) - إلى قوله تعالى : - فَكَذَّبْنا (4) ..
وقوله تعالى : ( أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ) (5) .. ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (6) (7).
* * *
ص: 192
وقال الفضل (1) :
اعتراف الكفّار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة ، وهو أنّ الكسب من العبد ، والخلق من اللّه تعالى.
ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة : ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (2) أي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السيّئة.
وكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة ويجزى به ، ولا يدلّ على ما هو محلّ النزاع ، وهو كونه خالقا لفعله وموجدا إيّاه ، فليس فيها دلالة على المقصود.
* * *
ص: 193
التعلّل بالكسب عليل ؛ لأنّه معنى حادث اخترعه الأشاعرة ، فكيف تحمل عليه الآية؟! والحال أنّ معناه اللغوي : العمل.
وهل يفهم عربي أنّ معنى الآية ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما ... )
أنّكم محلّ لفعل أنا خلقته؟!
وهل يصحّ من العدل أن يذيقهم العذاب لأجل جعله لهم محلّا لفعله؟!
وكذا الآيات الأخر صريحة في المطلوب لما عرفت من أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح في إيجاده إيّاه (1).
* * *
ص: 194
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
العاشر : الآيات التي ذكر اللّه تعالى فيها ما يحصل منهم من التحسّر في الآخرة على الكفر ، وطلب الرجعة.
قال تعالى : ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا ) (2) ..
( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) (3) ..
( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) (4) ..
( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (5) (6).
* * *
ص: 195
وقال الفضل (1) :
التحسّر وطلب الرجعة لاكتساب الأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة التي من جملتها اعتقاد الشركاء لله تعالى ، كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من الملّيّين كالمعتزلة وتابعيهم ، وليس في هذه الآيات دليل على مدّعاهم.
* * *
ص: 196
سبق أنّ الكسب كأصل الفعل لا أثر للعبد فيه (1) ، فكيف يتحسّر لوقوعه منه والمؤثّر غيره؟!
وكيف يطلب الرجعة للعمل وهو عود على بدء؟! لأنّ العمل لغيره ولا قدرة له على الدفع!
وما الفائدة بالرجعة والمحسن مثل المسيء عند الأشاعرة في تجويز العذاب؟! ولعلّه يكون الأمر فيها أسوأ!
ونتيجة مقالتهم أنّ اللّه سبحانه خلق في العبد الكفر والمعصية ، وجعله محلّا لها بإرادته من دون أثر للعبد أصلا ، ويعاقبه عليهما بأشدّ العقاب!
ويخلق فيه التحسّر وطلب الرجعة ولا يجيبه إليها ، ويخلق فيه الاعتراف بالظلم ، وهو خلق الظلم فيه ، ويخيّره في أفعاله ولا خيار له!
ومع ذلك لا جور ولا سفه في فعله ، بل كلّه عدل ورحمة وصواب ، ما هذا إلّا شيء عجاب!!
* * *
ص: 197
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
فما عذر فضلائهم؟! وهل يمكنهم الجواب عند هذا السؤال : كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريّا؟! إلّا بأنّا طلبنا الحياة الدنيا وآثرناها على الآخرة!
وما عذر عوامّهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم واتّباعهم في عقائدهم؟!
وهل يمكنهم الجواب عند السؤال : كيف تركتم هذه الآيات وقد جاءكم بها النذير ، وعمّرناكم ما يتذكّر فيه من تذكّر؟! إلّا بأنّا قلّدنا آباءنا وعلماءنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر ، مع كثرة الخلاف وبلوغ الحجّة إلينا!
فهل يقبل عذر هذين القبيلين ، وهل يسمع كلام الفريقين؟!
* * *
ص: 198
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في ما مضى أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود (2) ، وقد علمت في كلّ الفصول من استدلالاته بالآيات أنّها دالّة على خلاف مقصوده ، فهي نصوص مخالفة لمدّعاه.
والعجب أنّه يفتخر ويباهي بإتيانها ثمّ يقول : ما عذر علمائهم وعوامّهم؟!
فنقول : أمّا عذر علمائهم فإنّهم يقولون يوم القيامة : إلهنا كنّا نعلم أنّه لا خالق في الوجود سواك ، وأنت خلقت كلّ شيء ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة ، فإن تعذّبنا فنحن عبادك ، وإن تغفر لنا فبفضلك وكرمك ، ولك التصرّف كيف شئت.
وأمّا عذر عوامّهم فإنّهم يقولون : إلهنا! إنّ نبيّك محمّدا صلی اللّه علیه و آله أمرنا أن نكون ملازمين للسواد الأعظم ، فقال : عليكم بالسواد الأعظم (3) ؛ ورأينا في أمّته السواد الأعظم كان أهل السنّة ، فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم ، ورأينا المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود ، يخفون مذهبهم ويسمّونه التقية ، ويهربون من كلّ شاهق إلى شاهق ، ولو نسب إليهم أنّهم معتزليّون أو شيعة يستنكفون عن هذه النسبة ، فعلمنا أنّ الحقّ مع السواد الأعظم.
ص: 199
قد سبق أنّ النصّ ما لا يحتمل الخلاف بحسب فهم أهل اللسان (1) ، وأنّ الآيات الكريمة كذلك ، ونحن نكل إلى السامع قوله : « دالّة على خلاف مقصودة » (2).
وأمّا ما ذكره في عذر علمائهم فهو لا يسمع عند من يعلم الحقائق والصادق من الكاذب ، ويعلم أنّهم ما قالوا ذلك في الدنيا إلّا لإغواء العوامّ المساكين وتلبيس الحقّ المبين! فيقول لهم : كيف تقولون لا خالق في الوجود سواك ، وأنتم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم؟! فإنّا نشاهد أعمالكم تشهد عليكم بخلاف أقوالكم ، إذ تحتالون للدنيا ومقاصدكم بكلّ حيلة ، وتتنازعون عليها بما ترون لكم من كلّ حول وقوّة.
وكيف تقولون ذلك وهذه آيات الكتاب المجيد تتلى عليكم بنسبة الأفعال إلى العباد؟! وقد صرّح بعضها بلفظ الخلق ، قال تعالى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (3) .. ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (4) ..
فما غايتكم بهذا المقال إلّا الإضلال ، ونفي فعل القبيح عن أنفسكم ، وإثباته للمنزّه عن كلّ عيب ونقص!
ص: 200
وأيّ فائدة لقولكم : « إنّا كسبنا المعصية » وأنتم تريدون به أنّكم محلّ بالاضطرار؟! فيكون أرحم الراحمين - بزعمكم - قد خلق المعصية مع كسبها فيكم بلا جرم ، فصيّر تموه أظلم الظالمين كما هو مرادكم بقولكم : إنّ « لك التصرّف » فينا ، فإنّ اللّه سبحانه يتنزّه عن التصرّف المطوي على الظلم والجور.
وأمّا ما ذكره في عذر عوامّهم بأن نبيّنا قال : « عليكم بالسواد الأعظم » فعذر بارد ..
لأنّه يقال لهم أوّلا : كيف أخذتم دينكم من هذا الحديث ، وهو لو صحّ سندا وتمّ دلالة لا يفيد إلّا الظنّ ، وقد سمعتم قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (1) .. وقوله : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (2)؟!
ويقال لهم ثانيا : كيف أخذتم بهذا الحديث وتركتم قول اللّه تعالى : ( أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (3) الدالّ على انقلاب السواد الأعظم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! ..
وما رواه معتمدكم البخاري في « كتاب الحوض » من صحيحه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخبر أنّ الصحابة إذا وردوا عليه الحوض يحال بينه وبينهم ، ويقال له : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ويؤخذ بهم إلى النار ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم (4).
ص: 201
وما رواه أهل صحاحكم وغيرهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : يكون في هذه الأمّة مثل ما كان في بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل (1) ، وقد ارتدّ السواد الأعظم من بني إسرائيل ، وخالفوا خليفة موسى أخاه هارون ..
مع أنّ أكثر الناس في عامّة الأزمنة على الضلالة ، كما يصرّح به الكتاب العزيز في كثير من الآيات (2).
ويقال لهم ثالثا : كيف علمتم أنّ المراد بالحديث لزوم اتّباع السواد الأعظم حتّى في الدين؟! والحال أنّه مطلق صالح للتقييد بألف قيد ، كما قيّدتموه أنتم بغير المعصية والظلم ونحوهما (3) ، فكان يلزمكم الفحص والنظر في الأدلّة العقلية والنقلية.
وقد كان يكفيكم من العقل أنّ الجبر مستوجب لنسبة الظلم إلى اللّه
ص: 202
سبحانه .. ومن النقل الآيات السابقة ؛ بل وجدان كلّ شخص أنّه يحرم عليه اتّباع السواد الأعظم في هذه المسألة ؛ لأنّه يجد من نفسه أنّه المؤثّر في فعله ، وعليه رأيه في كلّ عمله.
على أنّ السواد الأعظم هو العوامّ ، فما معنى اتّباعه لنفسه وكلّه جاهل؟!
.. إلى غير ذلك من المفاسد المانعة من الاعتذار بهذا الحديث!
وأمّا ما أشار إليه من أمر التقيّة ، فلو ذكره المعتذر كان الأمر عليه أشدّ وأخزى ..
إذ يقال له أوّلا : ما أنكرتم من التقيّة وقد شرّعها اللّه تعالى في كتابه العزيز ، فقال : ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1) .. وقال تعالى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (2)؟!
وثانيا : إنّ تقيّة الشيعة ليست إلّا منكم ؛ لأنّكم أخفتموهم وقتلتموهم لتمسّكهم بمن أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمّته بالتمسّك بهم! وأنتم اتّبعتم الظالمين في معاداة أهل بيت الرحمة وشيعتهم المؤمنين ، وآمنتم المشركين والمنافقين والفاسقين!
وقولكم : « يستنكفون من هذه النسبة » ..
حاشا وكلّا ، رأينا علانيتهم تشهد لضمائرهم بالافتخار بموالاة آل محمّد الطاهرين ومعاداة أعدائهم ، كما قال شاعرهم الكميت رحمه اللّه
ص: 203
قال المصنّف - بلّغه اللّه مناه - (1) :
ومنها : مخالفة الحكم الضروري الحاصل لكلّ أحد ، عندما يطلب من غيره أن يفعل فعلا ، فإنّه يعلم بالضرورة أنّ ذلك الفعل يصدر عنه.
ولهذا يتلطّف في استدعاء الفعل منه بكلّ لطيفة ، ويعظه ويزجره عن تركه ، ويحتال عليه بكلّ حيلة ، ويعده ويتوعّده على تركه ، وينهاه عن فعل ما يكرهه ويعنّفه على فعله ، ويتعجّب من فعله ذلك ويستطرفه ، ويتعجّب العقلاء من فعله.
وهذا كلّه دليل على فعله ، ويعلم بالضرورة الفرق بين أمره بالقيام وبين أمره بإيجاد السماوات والكواكب ، ولو لا أنّ العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا لما صحّ ذلك.
* * *
ص: 205
وقال الفضل (1) :
الطلب من الغير للفعل ونهيه عن الفعل ، للحكم الضروري بأنّه فاعل الفعل ، وهذا لا ينكره إلّا من ينكر الضروريّات.
وقد مرّ مرارا أنّ هذا ليس محلّ النزاع (2) ، فإنّ صدور الفعل عن أحدنا محسوس ، ولهذا نطلب منه ونتلطّف ، ونزجر ونعد ونوعد.
وكلّ هذه الأمور واقعة ، وليس النزاع إلّا في أنّ هذا الفعل هل هو مخلوق لنا ، أو نحن نباشره؟
فالنزاع راجع إلى الفرق بين المباشرة والخلق ، وأنّهما متّحدان أو متغايران؟ وهذا ليس بضروري ، ومن ادّعى ضرورية هذا فهو مكابرة لمقتضى العقل ، فمخالفة الضرورة في ما ذكر ليس في محلّ النزاع ، فليس له فيه دليل.
* * *
ص: 206
ما ذكره المصنّف من التلطّف في الاستدعاء ونحوه دليل ضروريّ على كون العبد موجدا لفعله ومؤثّرا فيه ، كما هو مذهبنا ، ومجرّد محلّيّته لفعل فاعل آخر مع عدم الأثر له أيضا في المحلّيّة - كما هو مذهبهم - لا يصحّح التلطّف ونحوه ، وهذا من أوّليّات الضروريّات.
ولكنّ الخصم يستعمل المغالطة والتمويه ، فادّعى أنّهم يقولون بمباشرة العبد للفعل ، وأنّها غير الإيجاد.
فإن أراد أنّها فعل آخر للعبد من آثاره فهو مخالف لمذهبه ..
وإن أراد أنّها عبارة عن محلّيّة العبد لفعل اللّه بلا أثر للعبد فيها أصلا ، لم يرتفع الإشكال بمخالفتهم للحكم الضروري كما أوضحه المصنّف.
وليت شعري إذا استعمل الإنسان التمويه في دينه اليوم ، فهل يراه منجيه غدا يوم تكشف الحقائق ويظهر الكاذب من الصادق؟!
فليحذر العاقل! وليعتبر من يريد خلاص نفسه يوم حلوله في رمسه!
* * *
ص: 207
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : مخالفة إجماع الأنبياء والرسل ، فإنّه لا خلاف في أنّ الأنبياء أجمعوا على أنّ اللّه تعالى أمر عباده ببعض الأفعال كالصلاة والصوم ، ونهى عن بعضها كالظلم والجور ، ولا يصحّ ذلك إذا لم يكن العبد موجدا.
إذ كيف يصحّ أن يقال له : ائت بفعل الإيمان والصلاة ، ولا تأت بالكفر والزنا ، مع أنّ الفاعل لهذه الأفعال والتارك لها هو غيره؟!
فإنّ الأمر بالفعل يتضمّن الإخبار عن كون المأمور قادرا عليه ، حتّى لو لم يكن المأمور قادرا على المأمور به لمرض أو سبب آخر ثمّ أمره ، فإنّ العقلاء يتعجّبون منه وينسبونه إلى الحمق والجهل والجنون ، ويقولون : إنّك لتعلم أنّه لا يقدر على ذلك ، ثمّ تأمره به؟!
ولو صحّ هذا لصحّ أن يبعث اللّه رسولا إلى الجمادات مع الكتاب ، فيبلّغ إليها ما ذكرناه ، ثمّ إنّه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات ويعاقبها لأجل أنّها لم تمتثل أمر الرسول ، وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل.
* * *
ص: 208
وقال الفضل (1) :
أمر الأنبياء عباد اللّه بالأشياء ونهيهم عن الأشياء لا يتوقّف على كون العبد موجدا للفعل.
نعم ، يتوقّف على كون العبد فاعلا مستقلّا في الكسب والمباشرة ومختارا ، وهذا مذهب الأشاعرة (2) ، وما ذكره لا يلزم من يقول بهذا ، بلى يلزم أهل مذهب الجبر.
وقد علمت أنّ الأشاعرة يثبتون اختيار العبد في كسب الفعل ، ويمنعون كون قدرته مؤثّرة في الفعل ، ومبدعة موجدة إيّاه ، وشتّانبين الأمرين.
فكلّ ما ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وليس في مذهبهم مخالفة لإجماع الأنبياء.
* * *
ص: 209
لم يرد الخصم بقوله : « فاعلا مستقلّا في الكسب » تأثير قدرته فيه ، فإنّه مناف لقولهم : لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه تعالى.
بل أراد مجرّد محلّيّته للفعل بلا تأثير له في الفعل والمحلّيّة ، غاية الأمر أنّه يقترن بالفعل قدرة له واختيار ، وهما لا يصحّحان أمره ونهيه ما لم يكن لهما تأثير ألبتّة.
فيرد عليهم ما ذكره المصنّف رحمه اللّه ، فليس أمر العباد ونهيهم إلّا بمنزلة أمر الجمادات ونهيها!
* * *
ص: 210
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه يلزم منه سدّ باب الاستدلال على وجود الصانع ، والاستدلال على كونه تعالى صادقا ، والاستدلال على صحّة النبوّة ، والاستدلال على صحّة الشريعة ، ويفضي إلى القول بخرق إجماع الأمّة ؛ لأنّه لا يمكن إثبات الصانع إلّا بأن يقال : العالم حادث ، فيكون محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمع منع حكم الأصل في القياس ، وهو كون العبد موجدا ، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة ، فينسدّ عليه باب إثبات الصانع.
وأيضا : إذا كان اللّه تعالى خالقا للجميع من القبائح وغيرها ، لم يمتنع منه إظهار المعجز على يد الكاذب ، ومتى لم يقطع بامتناع ذلك انسدّ علينا باب إثبات الفرق بين النبيّ والمتنبّي.
وأيضا : إذا جاز أن يخلق اللّه تعالى القبائح ، جاز أن يكذب في إخباره ، فلا يوثق بوعده ووعيده وإخباره عن أحكام الآخرة والأحوال الماضية والقرون الخالية.
وأيضا : يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها وأن يبعث عليها ، ويحثّ ويرغّب فيها ، ولو جاز ذلك جاز أن يكون ما رغّب اللّه تعالى فيه من القبائح ، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها.
وأيضا : لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والإضلال ،
ص: 211
ويزيّنه له ويصدّه عن الحقّ ، ويستدرجه بذلك إلى عقابه ، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو الكفر والضلال ، مع أنّه تعالى زيّنه في قلوبنا ، وأن يكون بعض الملل المخالفة للإسلام هو الحقّ ، ولكنّ اللّه تعالى صدّنا عنه وزيّن خلافه في أعيننا ..
فإذا جوّزوا ذلك لزمهم تجويز ما هم عليه هو الضلالة والكفر ، وكون ما خصومهم عليه هو الحقّ ، وإذا لم يمكنهم القطع بأنّ ما هم عليه هو الحقّ ، وما خصومهم عليه هو الباطل ، لم يكونوا مستحقّين للجواب!
* * *
ص: 212
وقال الفضل (1) :
في هذا الفصل استدلّ بأشياء عجيبة ينبغي أن يتّخذه الظرفاء ضحكة لهم.
منها : إنّه استدلّ بلزوم انسداد باب إثبات الصانع وكونه صادقا والاستدلال بصحّة النبوّة على كون العبد موجد أفعاله.
وذكر في وجه الملازمة شيئا غريبا عجيبا ، وهو أنّا نستدلّ على حدوث العالم بكونه محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمن منع حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا ، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة ، وإثبات هذه الملازمة من المضاحك ..
أمّا أوّلا : فلأنّه حصر حادثات العالم في أفعال الإنسان ، ولو لم يخلق الإنسان وأفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان وسائر الأشياء الحادثة بوجوب وجود المحدث ، وكأنّ هذا الرجل لم يمارس قطّ شيئا من المعقولات!
والحقّ أنّه ليس أهلا لأن يباحث لدناءة رتبته في العلم ، ولكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت.
وأمّا ثانيا : فلأنّه استدلّ بلزوم عدم كونه صادقا على كون العبد موجد فعله ، ولم يذكر هذه الملازمة ؛ لأنّ النسبة بينه وبين هذه الملازمة بعيدة جدّا.
ص: 213
وأمّا ثالثا : فلأنّه استدلّ بلزوم انسداد باب صحّة النبوّة ، وصحّة الشريعة على كون العبد موجد فعله ؛ ومن أين يفهم هذه الملازمة؟!
ثمّ ادّعى الإفضاء إلى خرق الإجماع ..
وكلّ هذه الاستدلالات خرافات وهذيانات لا يتفوّه بها إلّا أمثاله في العلم والمعرفة.
ثمّ استدلّ على بطلان كونه خالقا للقبائح بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب ، وقد استدلّ قبل هذا بهذا مرارا وأجبناه في محالّه (1).
وجواب هذا وما ذكر بعده من ترتّب الأمور المنكرة على خلق القبائح ، مثل : ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها : إنّا نجزم بالعلم العادي وبما جرى من عادة اللّه تعالى أنّه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب ، فهو محال عادة كسائر المحالات العادية ، وإن كان ممكنا بالذات ؛ لأنّه لا يجب على اللّه تعالى شيء على قاعدتنا.
فكلّ ما ذكره من لزوم جواز تزيين الكفر في القلوب عوض الإسلام ، وأنّ ما عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقّيّة يمكن أن يكون كفرا وباطلا فلا يستحقّون الجواب ..
فجوابه : إنّ جميع هؤلاء لا يقع عادة كسائر العاديّات ، ونحن نجزم بعدم وقوعه ، وإن جاز عقلا ، حيث لا يجب عليه شيء ، ولا قبيح بالنسبة إليه.
* * *
ص: 214
ينبغي بيان مقصود المصنّف وتوضيح بعض كلامه ؛ ليعرف منه خبط الخصم ، فنقول : ذكر المصنّف أنّه يلزم من القول بأنّ العباد غير فاعلين لأفعالهم لوازم أربعة :
[ اللازم ] الأوّل : سدّ باب الاستدلال على وجود الصانع ، واستدلّ عليه بقوله : « لأنّه لا يمكن إثبات الصانع إلّا بأن يقال ... » إلى آخره.
وتوضيحه : إنّهم اختلفوا في أنّ المحوج إلى الصانع ؛ هل هو الإمكان ، أو الحدوث ، أو المركّب منهما ، أو الإمكان بشرط الحدوث؟
واختار الأشاعرة الثاني كما ذكره الخصم سابقا (1).
وعلى مختارهم يتوقّف إثبات الصانع على قولنا : العالم حادث ، وكلّ حادث محتاج إلى محدث (2) ، ولا دليل على الكبرى إلّا احتياج أفعالنا إلينا ، وقياس سائر الحوادث عليها في الحاجة إلى محدث.
فإذا منع الأشاعرة الأصل - وهو احتياج أفعالنا إلينا لعدم كوننا موجدين لها ، ولم يكن في سواها من الحوادث دلالة على الحاجة إلى المحدث - انسدّ عليهم باب إثبات الصانع.
فالمصنّف قد حصر الدليل على الكبرى بحاجة أفعالنا إلينا ، لا أنّه حصر الحادثات في أفعال الإنسان كما فهمه الخصم.
ص: 215
فإن قلت : نفس حدوث الحوادث يدلّ على وجود المحدث بلا حاجة إلى القياس على أفعالنا.
قلت : لا نسلّم ذلك ما لم يرجع إلى التعليل بالإمكان ، بلحاظ أنّ ما تساوى طرفاه يمتنع ترجّح أحدهما بلا مرجّح ، وهو خلاف قولهم بأنّ العلّة المحوجة هي الحدوث لا الإمكان (1).
فنفس الحدوث - مع قطع النظر عن الإمكان - لا يقتضي الحاجة إلى صانع ؛ لجواز الصدفة ، فلا بدّ لهم من القول بأنّا فاعلون لأفعالنا ، وأنّها محتاجة إلينا ، ليقاس عليها سائر الحوادث وتتمّ كلّية الكبرى.
اللازم الثاني : سدّ باب الاستدلال على كونه تعالى صادقا ، واستدلّ عليه المصنّف بقوله : « وأيضا لو جاز أن يخلق اللّه تعالى القبائح ، جاز أن يكذب في إخباره ».
وتوضيحه : إنّه إذا جاز أن يخلق تعالى الكذب الواقع من الناس وسائر القبائح ، فقد جاز أن يكذب في كلامه اللفظي ، إذ لا فرق بين أن يخلق الكذب في الناس ، وبين أن يخلقه في شجرة أو على لسان جبرائيل أو ألسنة الأنبياء ؛ لأنّ جميع الكذب والقبائح إنّما هي خلقه ، فلا يوثق بوعده ووعيده وسائر أخباره ، كما سبق موضّحا (2).
[ اللازم ] الثالث : سدّ باب الاستدلال على صحّة النبوّة ، واستدلّ عليه المصنّف بقوله : « وأيضا إذا كان اللّه تعالى خالقا للجميع من القبائح وغيرها » ..
وهو غنيّ عن البيان ، والملازمة فيه ظاهرة.
ص: 216
[ اللازم ] الرابع : سدّ باب الاستدلال على صحّة الشريعة ، واستدلّ عليه المصنّف بأمرين :
الأوّل : قوله : « وأيضا يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها ».
وتوضيحه : إنّ خلق الشيء يتوقّف على إرادته ، وهي تتوقّف على الرضا به - كما سبق (1) - ..
فإذا كان تعالى خالقا للقبائح ، كان مريدا لها وراضيا بها ..
وإذا أرادها ورضي بها ، جاز أن يدعو إليها ، ويبعث الرسل لأجل العمل بها ويرغّب فيها.
وإذا جاز ذلك ، جاز أن يكون ما رغّب فيه وبعث به الرسل من القبائح ، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها ؛ لجواز أن يكون ما تدعو إليه قبيحا.
الثاني : قوله : « وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والإضلال » ..
وهو لا يحتاج إلى البيان.
ولا ريب أنّ سدّ باب الاستدلال على تلك الأمور خرق لإجماع الأمّة.
فظهر أنّ المصنّف ذكر اللوازم الأربعة ووجه لزومها لهم ، لكن على طريق اللف والنشر المشوّش ؛ لأنّه قدّم دليل اللازم الثالث على دليل الثاني ، فلم يتّضح للخصم كلام المصنّف رحمه اللّه مع غاية وضوحه!
وقد تشبّث للجواب عن بعض الأدلّة بأنّه محال عادة أن يخالف اللّه
ص: 217
تعالى عادته ، حيث جرى في عادته أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب ، وأن لا يكذب في إخباره ، وأن لا يبعث إلى القبائح ولا يحثّ عليها ، ولا يزيّن الكفر في القلوب ، إلى نحو ذلك ممّا رتّب المصنّف جوازه على جواز خلق اللّه سبحانه للقبائح.
وفيه - كما مرّ كثيرا - أنّا نطالبه بمستند العادة ، وهذه الأمور غيبية.
ثمّ ما معنى العادة في أنّ شريعة الإسلام وما عليه الأشاعرة دون غيرهما حقّ ، وقد أوكلنا جملة ممّا خبط به الخصم إلى فهم الناظر ؛ لئلّا يحصل الملل من البيان.
* * *
ص: 218
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
ومنها : تجويز أن يكون اللّه تعالى ظالما عابثاً ؛ لأنّه لو كان اللّه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ومنها القبائح كالظلم والعبث ، لجاز أن يخلقها لا غير ، حتّى تكون كلّها ظلما وعبثا ، فيكون اللّه تعالى ظالما عابثا لاعبا ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 219
وقال الفضل (1) :
نعوذ باللّه من التفوّه بهذه الترّهات ، وأنّى يلزم هذا من هذه العقيدة ، والظلم والعبث من أفعال العباد ، ولا قبيح بالنسبة إليه ، وخالق الشيء غير فاعله؟!
وهذا الرجل لا يفرّق بين خالق الصفة والمتّصف بتلك الصفة ، وكلّ محذوراته ناش من عدم هذا الفرق ، ألا يرى أنّ اللّه خالق السواد ، فهل يجوز أن يقال : هو الأسود؟!
كذلك لو كان خالق الظلم والعبث ، هل يجوز أن يقال : إنّه ظالم عابث؟! نعوذ باللّه من التعصّب المؤدّي إلى الهلاك.
ثمّ إنّ هذا الرجل يحصر القبيح في أفعال الإنسان ، ويدّعي أن لا قبيح ولا شرّ في الوجود إلّا أفعال الإنسان ، وذلك باطل ، فإنّ القبائح - غير أفعال الإنسان - في الوجود كثيرة ، كالخنزير والحشرات المؤذية.
وهل يصحّ له أن يقول : إنّ هذه الأشياء غير مخلوقة لله تعالى؟!
فإذا قال : إنّها مخلوقة لله تعالى ، فهل يمنع قباحتها وشرّها؟! وذلك مخالف الضرورة والحسّ! فإذا يلزم ما ألزم الأشاعرة من القول بخلق الأفعال القبيحة.
* * *
ص: 220
لا تنفعهم الاصطلاحات الصرفة ، وأنّ الخلق غير الفعل - كما سبق (1) -.
ولو سلّم ، فالمصنّف يلزمهم بأنّه إذا كان اللّه تعالى خالقا للقبائح كالظلم والعبث ، فقد جاز أن تكون مخلوقاته كلّها منها ، فلا يكون في الكون إلّا ما هو من جنس العبث والظلم واللواط والزنا والقيادة والفساد في الأرض ونحوها ، فإذا جاز ذلك عندهم ، فقد جوّزوا أن يكون اللّه سبحانه عابثا ظالما ، إذ لا شكّ لكلّ عاقل أنّ من تكون مخلوقاته هكذا لا غير ، يكون عابثا ظالما ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله : « لا قبيح بالنسبة إليه » ؛ قد عرفت أنّه باللغو أشبه (2).
وأمّا ما زعمه من أنّ خالق الصفة غير المتّصف بها ..
ففيه : إنّه عليه لا يصحّ وصف اللّه تعالى بالصفات الفعلية ، فلا يقال له : هاد ورحمن ورازق ؛ لأنّ الهداية والرحمة والرزق مخلوقة له ، ولا محيي ولا مميت ولا معزّ ولا مذلّ .. إلى غير ذلك.
فالحقّ أنّ الصفات منها ما يكون التلبّس بمبدئها باعتبار إيجاده ، كالظالم والعابث والأبيض والهادي والمحيي والضارب ، ونحوها.
ومنها : ما يكون التلبّس به باعتبار قيامه وحلوله بالموصوف ،
ص: 221
كالحيّ والميّت والأبيض والأسود ، ونحوها.
ومنها : غير ذلك كما سبق بيانه (1).
فحينئذ لا وجه لنقض الخصم بالأسود في محلّ الكلام ، من نحو الظالم والعابث واللاعب ، كما لا ريب في صدق هذه المشتقّات على من أوجد مبادئها ، وهي الظلم والعبث واللعب ، لا سيّما إذا اختصّت مصنوعاته بهذه المبادئ.
وأمّا ما أورده من النقض بخلق الخنزير ونحوه ، بدعوى أنّها قبائح ، فقد مرّ أنّها لم تخلق إلّا لحكم ومصالح فيها ، فلا توصف بالقبح واقعا وإن وصفت به تسامحا وببعض الجهات (2) ..
على أنّ القبح المتنازع فيه هو القبح في الأفعال ، وهو المعنى الثالث الذي ذكره (3) ، والقبح في الأعيان لا يكون إلّا بالمعنى الثاني ، وهو معنى الملاءمة والمنافرة الذي ليس هو محلّا للنزاع باعترافهم.
* * *
ص: 222
قال المصنّف - عطّر اللّه ضريحه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم إلحاق اللّه تعالى بالسفهاء والجهّال ، تعالى اللّه عن ذلك ؛ لأنّ من جملة أفعال العباد الشرك باللّه تعالى ، ووصفه بالأضداد والأنداد والأولاد ، وشتمه وسبّه.
فلو كان اللّه تعالى فاعلا لأفعال العباد ، لكان فاعلا للأفعال كلّها ولكلّ هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته ؛ لأنّ الحكيم لا يشتم نفسه ، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء ، نعوذ باللّه من هذه المقالات الرديّة.
* * *
ص: 223
وقال الفضل (1) :
ونحن نقول : نعوذ باللّه من هذه المقالة المزخرفة الباطلة ، وهذا شيء نشأ له لعدم الفرق بين الخالق والفاعل ، فإنّ اللّه يخلق الأشياء ، فالسبّ والشتم له - وإن كانا مخلوقين لله تعالى - فبما فعل العبد ، والمذمّة للفعل لا للخلق ، فلا يلزم كونه شاتما لنفسه.
وخلق هذه الأفعال ليس سفها حتّى يلزم إلحاقه تعالى بالسفهاء ، نعوذ باللّه من هذا ؛ لأنّ اللّه تعالى قدّر في الأزل شقاوة الشاتم له ، والسابّ له ، وأراد إدخاله النار ، فيخلق فيه هذه الأفعال ، لتحصل الغاية التي هي دخول الشاتم النار ، فأيّ سفه في هذا؟!
* * *
ص: 224
لو سلّم أنّ الخالق غير الفاعل فلا يرتفع السفه ؛ لأنّه إنّما ينشأ من إيجاد الشخص سبّ نفسه وما ينقصه ، سواء سمّي خلقا أم فعلا ، فإنّ مجرّد الاصطلاح لا يدفع المحذور.
ولكنّ هذا ليس بأعظم من قوله بإرادة اللّه سبحانه إدخال عبده النار ، فيتسبّب إليه بجعله محلّا لسبّه وسائر القبائح ، مع عجزه عن الدفع لتحصل الغاية ، وهي تعذيب عبده الضعيف الأسير بأشدّ العذاب!
والحال أنّه لا حاجة إلى هذا التسبّب المستهجن ؛ لأنّه يصحّ عندهم أن يعذّب عبده ابتداء وبلا سبب ، فما أعجب أقوال هؤلاء وما أقبحها وما أجرأهم على اللّه العظيم!
* * *
ص: 225
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم مخالفة الضرورة ؛ لأنّه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه.
ولو جاز ذلك لجوّزنا أن يكون في ما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلّا للدعوة إلى السرقة ، والزنا ، واللواط ، وكلّ القبائح ، ومدح الشيطان وعبادته ، والاستخفاف باللّه تعالى ، والشتم له ، وسبّ رسوله ، وعقوق الوالدين ، وذمّ المحسن ، ومدح المسيء.
* * *
ص: 226
وقال الفضل (1) :
لو أراد من نفي جواز بعثه الرسول بهذه الأشياء الوجوب على اللّه تعالى ، فنحن نمنعه ؛ لأنّه لا يجب على اللّه شيء.
وإن أراد بنفي هذا الجواز الامتناع عقلا ، فهو لا يمتنع عقلا.
وإن أراد الوقوع ، فنحن نمنع هذا ؛ لأنّ العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا ، فهو محال عادة ، والتجويز العقلي لا يوجب وقوع هذه الأشياء كما عرفته مرارا (2).
ثمّ إنّه صدّر كلامه بلزوم مخالفة الضرورة ، وأيّ مخالفة للضرورة في هذا المبحث؟!
* * *
ص: 227
يمكن اختيار الشقّ الأوّل ؛ لأنّ اللّه سبحانه أوجب على نفسه الهدى وقصد السبيل حيث قال : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (1) .. ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (2).
ولا ريب أنّ إرسال الرسول بتلك الفواحش والقبائح وقطع السبيل ، مناف للهدى وقصد السبيل.
ويمكن اختيار الشقّ الثاني ؛ لحكم العقل (3) بامتناع أن يبعث اللّه تعالى رسولا بهذا الدين ؛ لأنّه من أظهر منافيات الحكمة وأعظم النقص بالملك العدل ، فهو ممتنع عقلا بالغير ، بل مثله نقص في حقّ أقلّ العقلاء.
ويمكن اختيار الشقّ الثالث ، أعني الوقوع احتمالا ؛ لأنّه إذا جاز أن يخلق اللّه سبحانه تلك القبائح ، احتملنا أن يكون قد بعث بها رسولا.
ودعوى العلم العادي بالعدم ممنوعة ، إذ لم يطّلع أحدنا على جميع الأنبياء وشرائعهم ، ولم نعرف منهم إلّا النادر ، فلعلّ هناك نبيّ أو أنبياء هذه شريعتهم لم يتّبعهم أحد ، أو اندرست أممهم.
ولا عجب من الخصم إذ أنكر على دعوى الضرورة ، فإنّ أمرهم مبنيّ على إنكار الضروريات!
ص: 228
قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :
ومنها : إنّه يلزم أن يكون اللّه سبحانه أشدّ ضررا من الشيطان ؛ لأنّ اللّه لو خلق الكفر في العبد ثمّ يعذّبه عليه لكان أضرّ من الشيطان ؛ لأنّ الشيطان لا يمكن أن يلجئه إلى القبائح ، بل يدعوهم إليها كما قال اللّه تعالى : ( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (2).
ولأنّ دعاء الشيطان هو أيضا من فعل اللّه تعالى ، وأمّا اللّه سبحانه فإنّه يضطرّهم إلى القبائح!
ولو كان كذلك لحسن من الكافر أن يمدح الشيطان وأن يذمّ اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
* * *
ص: 229
وقال الفضل (1) :
نعوذ باللّه من التفوّه بهذه المقالة ، والاستجراء على تصوير أمثال هذه الترّهات ، فإنّ اللّه تعالى يخلق كلّ شيء ، والتعذيب مرتّب على المباشرة والكسب ، وخلق الكفر ليس بقبيح ؛ لأنّ غايته دخول الشقي النار ، كما يقتضيه نظام عالم الوجود.
والتصرّف في العبد بما شاء ليس بظلم ؛ لأنّه تصرّف في ملكه ، وقد عرفت أنّ تصرّف المالك في الملك بما شاء ليس بظلم (2) ، واللّه تعالى وإن خلق الكفر في العبد ، ولكنّ العبد هو يباشره ويكسبه.
واللّه تعالى بعث الأنبياء ، وخلق أيضا قوّة النظر ، وبثّ دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس.
فهذه كلّها ألطاف من اللّه تعالى ، والشيطان يضرّ بالإغواء والوسوسة ، فأين نسبة اللطيف الهادي - وهو اللّه تعالى - بالشيطان الضارّ المضلّ؟! ومن أين لزم هذا؟!
* * *
ص: 230
قد خرج بكلامه عن المقصود ، وتشبّث بالتمويهات الصرفة ، فإن كانت غايته من كلامه جعل أثر للعبد والشيطان في الفعل أو الكسب ، فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا لم يكن له مناص عن إلزام المصنّف لهم.
وقد عرفت تفصيل ما في هذه الكلمات الفارغة عن التحصيل (1).
وأمّا الاجتراء على اللّه سبحانه فهو ممّن قال بما يستلزم هذا الكفر ، لا ممّن صوّره للردع عنه.
وما باله إذا كان يتعوّذ من التفوّه بهذه الكلمات يعتقد بحقيقتها ، ويعلم أنّ جوابه عنها يشتمل على الإقرار بها ، لكن بشيء من التمويه!
* * *
ص: 231
قال المصنّف - ضاعف اللّه ثوابه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم مخالفة العقل والنقل ؛ لأنّ العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله لم يستحقّ ثوابا ولا عقابا ، بل يكون اللّه تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق منهم.
ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء علیهم السلام ، وإثابة الفراعنة والأبالسة ، فيكون اللّه تعالى أسفه السفهاء ، وقد نزّه اللّه تعالى نفسه عن ذلك فقال : ( أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) .. ( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (3).
* * *
ص: 232
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّ استحقاق العبد للثواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب ، وهو يستحقّ الثواب والعقاب بالمباشرة ، لا أنّه يجب على اللّه إثابته.
فاللّه متعال عن أن يكون إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجبا عليه ، بل جرى عادة اللّه تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، والتعذيب عقيب الكفر والعصيان.
وجواز تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة المراد به نفي الوجوب على اللّه تعالى ، وهو لا يستلزم الوقوع ، بل وقوعه محال عادة - كما ذكرناه مرارا (2) - فلا يلزم المحذور.
* * *
ص: 233
الكسب والمباشرة أثر صادر عن اللّه تعالى وحده بزعمهم ، كأصل الفعل ، لأنّه خالق كلّ شيء ، فكيف يستحقّ العبد الثواب والعقاب على الكسب؟!
وكيف يتّجه تخصيص الاستحقاق عليه دون أصل الفعل ، وكلاهما من اللّه وحده ، والعبد محلّ بالاضطرار؟!
ثمّ إنّه إذا كان العبد مستحقّا للثواب بواسطة الكسب ، كان حكمه بعدم وجوب إثابته مناقضا له ، إذ كيف يكون حقّا له على اللّه تعالى ولا يجب عليه أداؤه له ، وهو العدل؟!
نعم ، لمّا كان العقاب حقّا لله تعالى ، كان له العفو عنه ، كما سبق (1) ويأتي إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا دعوى العادة ، فباطلة ؛ لأنّ الثواب والعقاب غيب ومتأخّران ، فما وجه العادة والعلم بها؟! إلّا أن يدّعي العلم العادي بأخبار اللّه تعالى في كتابه المجيد ، وهو مع توقّفه على ثبوت صدق كلامه تعالى على مذهبهم غير تامّ ؛ لأنّه تعالى أيضا أخبر بأنّه يمحو ما يشاء ويثبت (2).
وأمّا قوله : « وهو لا يستلزم الوقوع » .. فمسلّم ؛ لكن لا يستلزم أيضا عدم الوقوع ، ويكفينا الاحتمال ، إذ لا يجوز على غير السفيه تعذيب
ص: 234
الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة ؛ تعالى اللّه عن ذلك.
وقد أنكر عليه سبحانه هذا الحكم فقال : ( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).
* * *
ص: 235
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : يلزم مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر ؛ لأنّه تعالى إذا خلق الكفر في الكافر لزم أن يكون قد خلقه للعذاب في نار جهنّم.
ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا ، فإنّ نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعدّ نعمة ، كمن جعل لغيره سمّا في حلواء وأطعمه ، فإنّه لا تعدّ اللذّة الحاصلة من تناوله نعمة.
والقرآن قد دلّ على أنّه تعالى منعم على الكفّار ، قال اللّه تعالى :
( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) (2) .. ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) (3).
وأيضا : قد علم بالضرورة من دين محمّد صلی اللّه علیه و آله أنّه ما من عبد إلّا ولله عليه نعمة ، كافرا كان أو مسلما.
* * *
ص: 236
وقال الفضل (1) :
هذا أيضا من غرائب الاستدلالات ، فإنّ نعمة اللّه تعالى على الكافر محسوسة ، والهداية أعظم النعم.
وإرسال الرسل وبثّ الدلائل العقليّة كلّها نعم عظام ، والكافر استحقّ دخول النار بالمباشرة والكسب ، والخلق من اللّه تعالى ليس بقبيح.
ثمّ ما ذكره من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه ، يلزمه أيضا بإدخاله النار ، فإنّ اللّه تعالى يدخل الكافر النار ألبتّة ، فيلزم أن لا يكون عليه نعمة.
فإن قال : إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره.
قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك ، وإدخاله لكونه باشر الكفر ، وكسبه ، وعمل به.
ولو كان الواجب على اللّه تعالى أن ينعم على الكافر - وهو المفهوم من ضرورة الدين - لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار ، بأيّ وصف كان الكافر ؛ لأنّه يلزم أن لا يكون منعما عليه ، وهو خلاف ضرورة الدين.
وأمثال هذه الاستدلالات ترّهات ومزخرفات.
* * *
ص: 237
لا ينكر أنّ الهداية والرسل والدلائل نعم عظام على العباد ، لكن إذا خلق اللّه سبحانه الكفر في الكافر وأعجزه عن اتّباع الرسل والدلائل لم تكن في حقّه نعمة بالضرورة ، وإنّما تكون نعمة عليه إذا مكّنه من اتّباعها ، وأهّله لتحصيل الثواب بعمله الميسور له ، وإن فوّت على نفسه بكفره الاختياري نعمة الثواب.
وهذا هو الجواب عن نقض الخصم على المصنّف رحمه اللّه بأنّه إذا أدخل اللّه الكافر النار لم تكن له نعمة عليه ، لا ما ذكره بقوله : « فإن قال : إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره » فإنّ هذا إنّما يكون مصحّحا لعقابه ، لا لإثبات كونه منعما عليه كما هو محلّ الكلام ، وقد بيّنّا ثبوته على مذهبنا فيكون هو الجواب.
ولعلّ الخصم إنّما أجاب بهذا ليتمكّن بزعمه من الجواب بمثله! ويقول : « قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك ، وإدخاله لكونه باشر الكفر ... » إلى آخره.
وفيه : مع ما ظهر لك من أنّ مثل هذا لا يصلح أن يكون جوابا عن إشكال عدم النعمة على الكافر ، ليس صحيحا في نفسه ؛ لما سبق مرارا من أنّ الكسب ليس ممّا للعبد فيه أثر - على قولهم (1) - فلا يكون مصحّحا للعقاب.
ص: 238
وأمّا قوله : « ولو كان الواجب على اللّه تعالى أن ينعم على الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار ».
ففيه : إنّ المصنّف إنّما قال : « قد علم بالضرورة من دين محمّد صلی اللّه علیه و آله أنّه ما من عبد إلّا ولله تعالى عليه نعمة ، كافرا أو مسلما » وهذا لا يدلّ على أصل وجوب الإنعام على الكافر ، فضلا عن أن يجب على اللّه تعالى أن يجعل الكافر محلّا لكلّ نعمة ، وأن لا يدخله النار.
* * *
ص: 239
قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - (1) :
ومنها : صحّة وصف اللّه تعالى بأنّه ظالم وجائر ؛ لأنّه لا معنى للظالم إلّا فاعل الظلم ، ولا الجائر إلّا فاعل الجور ، ولا المفسد إلّا فاعل الفساد ؛ ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر (2).
ولأنّه لمّا فعل العدل سمّي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم سمّي ظالما.
ويلزم أن لا يسمّى العبد ظالما ولا سفيها ؛ لأنّه لم يصدر عنه شيء من هذه.
* * *
ص: 240
وقال الفضل (1) :
قد عرفت أنّ خالق الشيء غير فاعله ومباشره (2) ، فالفعل تارة يطلق ويراد به : الخلق ، كما يقال : اللّه تعالى فاعل كلّ شيء ، وقد يطلق ويراد به :
المباشرة والاعتمال.
وعلى التقديرين فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء الذي خلقه ، وإن كان المخلوق من جملة الصفات كما قدّمنا (3).
فمن خلق الظلم لا يقال : إنّه ظالم.
وقد ذكرنا أنّه لم يفرّق بين هذين المعنيين (4) ، ولو فرّق لم يستدلّ بأمثال هذا.
* * *
ص: 241
إذا أقرّ بإطلاق الفعل على الخلق ، وأنّه يقال : فاعل كلّ شيء ، ويراد خالقه ، فقد صارا مترادفين ، وبطل قوله : إنّ خالق الشيء غير فاعله.
ولو سلّم فلا يرتفع الإشكال بمجرّد هذا الاصطلاح ، إذ يكفينا أن نقول : إنّ من أوجد الظلم والفساد يسمّى ظالما مفسدا لغة وعرفا ، فيلزمهم الإشكال.
وأمّا قوله : « وعلى التقديرين ، فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء » ..
فغلط ظاهر ، ضرورة أنّ أكثر صفات اللّه سبحانه من أفعاله ، كالعادل والرحمن والهادي والمحيي والمميت ونحوها ، بل صفات الذات أيضا من مخلوقاته بزعمهم ؛ لأنّها مغايرة له وصادرة عنه بالإيجاب.
ثمّ إنّ مراد المصنّف رحمه اللّه ب « الآخر » في قوله : « ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر » هو الآخر الضدّ ، لا مطلقا.
وحينئذ فلو ثبت الظلم لأحد لم يصحّ إثبات العدل له في مورد ثبوت الظلم له ، فلا يصحّ وصف اللّه سبحانه بالعادل حال خلقه للظلم وثبوته له ، وهو كفر آخر.
* * *
ص: 242
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم منه المحال ؛ لأنّه لو كان هو الخالق للأفعال ، فإمّا أن يتوقّف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا ، أو لا ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل : فلأنّه يلزم منه عجزه سبحانه عمّا يقدر عليه العبد ، ولأنّه يستلزم خلاف المذهب ، وهو وقوع الفعل منه والداعي من العبد ، إذ لو كان من اللّه تعالى لكان الجميع من عنده ، ولأنّه القدرة والداعي إن أثّرا فهو المطلوب ، وإلّا كان وجودهما كوجود لون الإنسان وطوله وقصره.
ومن المعلوم بالضرورة أنّه لا مدخل للّون والطول والقصر في الأفعال ، وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منّا.
وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم منه أن يكون اللّه تعالى أوجد - أي خلق - تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم ، حتّى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممّن لا يكون عالما بهما ، ووقوع الكتابة ممّن لا يد له ولا قلم ، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية ، الريّان في الغاية ، مع تمكّنه من الأكل.
ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال ، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوّة على رفع تبنة ، وأن يجوز من الممنوع المقيّد العدو ، وأن يعجز القادر
ص: 243
الصحيح عن تحريك الأنملة (1).
وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف ، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزّمن والصحيح.
* * *
ص: 244
وقال الفضل (1) :
نختار القسم الثاني ، وهو أنّ خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقّف على دواعينا وقدرتنا ، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية ، فهي استبعادات ، والاستبعاد لا يقدح في الجواز العقلي.
نعم ، عادة اللّه جرت على إحداث الكتابة عند حصول اليد والقلم ، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم ، ولكن هو من المحالات العادية كما مرّ غير مرّة (2).
وما ذكر أنّه يلزم أن تكون القدرة والداعي إذا لم يكونا مؤثّرين في الفعل ، كاللون والطول والقصر بالنسبة إلى الأفعال ، فهو ممنوع ..
للفرق بأنّ الفعل يقع عقيب وجود القدرة ، كالإحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة ، ولا يقال لا فرق بالنسبة إلى الإحراق بين النار وغيرها ، إذ لا تجري العادة بحدوث الإحراق عقيب مساس الماء.
فكذلك لم تجر عادة اللّه تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود اللون ، بل عقيب حصول القدرة والداعي مع أنّهما غير مؤثّرين.
* * *
ص: 245
لا يخفى أنّ مقصود المصنّف هو : إنّه يلزم انتفاء الفرق في صحّة نسبة الكتابة إلى ذي اليد أو مقطوعها ؛ لأنّ المفروض عدم دخل القدرة وآلاتها في وجود الأفعال ، وذلك باطل بالضرورة.
وكذا الكلام في تأثير الداعي ، وليس المقصود امتناع حصول الكتابة مثلا بدون الآلات ، فإنّه لا ينكر إمكانه ، بل وقوعه في اللوح وغيره.
وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة والداعي ، وبين اللون والطول والقصر بجريان العادة ، فليس في محلّه ؛ لأنّ المصنّف رحمه اللّه أراد لزوم عدم الفرق في عدم المدخلية والتأثير ، لا لزوم عدم الفرق أصلا ، وإلّا فالفروق كثيرة.
ولا ريب أنّ عدم الفرق بعدم المدخلية والتأثير خلاف الضرورة ، فإنّ كلّ عاقل يدرك مدخلية القدرة والداعي في الفعل وتأثيرهما فيه ، دون اللون والطول والقصر.
* * *
ص: 246
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : تجويز أن يكون اللّه تعالى جاهلا أو محتاجا ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّ في الشاهد فاعل القبيح إمّا جاهل ، أو محتاج ، مع إنّه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة ، فلأن يكون كذلك في الغائب - الذي هو الفاعل في الحقيقة - أولى.
* * *
ص: 247
ضرورة العقلاء قاضية بأنّ خلق القبيح وإيجاده أولى بالقبح من كسبه ، بمعنى محلّيّة المحلّ له بلا تأثير ، بل لا معنى لنسبة قبح الفعل الاختياري إلى غير المؤثّر.
فلا محالة يلزم من خلق القبيح أحد الأمرين : الجهل ، والاحتياج ، ولا عبرة بالسفسطات.
* * *
ص: 249
قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :
ومنها : إنّه يلزم منه الظلم ؛ لأنّ الفعل إمّا أن يقع من العبد لا غير ..
أو من اللّه تعالى ..
أو منهما بالشركة ، بحيث لا يمكن تفرّد كلّ منهما بالفعل ، أو لا من واحد منهما ..
والأوّل : هو المطلوب.
والثاني : يلزم منه الظلم ، حيث فعل الكفر وعذّب من لا أثر له فيه ألبتّة ، ولا قدرة موجدة له ، ولا مدخل له في الإيجاد ، وهو أبلغ أنواع الظلم.
والثالث : يلزم منه الظلم ؛ لأنّه شريك في الفعل ، وكيف يعذّب شريكه على فعل فعله هو وإيّاه؟!
وكيف يبرّئ نفسه من المؤاخذة مع قدرته وسلطنته ، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعل هو مثله؟!
وأيضا : يلزم منه تعجيز اللّه تعالى ، إذ لا يتمكّن من الفعل بتمامه ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.
وأيضا : يلزم المطلوب ، وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل ، وإذا جاز استناد أثر ما إليه ، جاز استناد الجميع إليه.
ص: 250
فأيّ ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات؟!
فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص التي نزّه اللّه تعالى نفسه عنها وتبرّأ منها!
* * *
ص: 251
وقال الفضل (1) :
نختار أنّ الفعل - بمعنى الخلق - يصدر من اللّه تعالى ، والعبد كاسب للفعل ، مباشر له ، ولا تأثير لقدرته في الفعل.
قوله : « يلزم منه الظلم ».
قلنا : قد سبق أنّ الظلم لا يلزم أصلا ؛ لأنّه يتصرّف في ما هو ملك له ، والتصرّف في الملك كيف شاء المالك لا يسمّى ظلما ، ثمّ إنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلّا للفعل الموجب للعذاب (2).
وأمّا قوله : « فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص ».
فنقول : أنا أخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق باللّه تعالى ، وهو الهرب والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممّن يدّعون أنّ العبد خالق مثل الربّ ، وهذا فيه خطر الشرك ، وهم يهربون من الشرك!
* * *
ص: 252
لا يمكن أن يكون مجرّد الملك مصحّحا لعذاب من لا ذنب له ؛ لما سبق من أنّه ليس من أحكام الملكيّة جواز إضرار المالك بملكه الحسّاس ، بلا جرم منه ، ولا فائدة له ، بل هو مناف لمقتضى الملكيّة من رعاية المملوك وحمايته عمّا يضرّه (1).
وأمّا ما أخبر به من الأمر الداعي لأصحابه ، فلو صدق فيه ، فلم أثبتوا لأنفسهم قدرة وإرادة وغيرهما من الصفات الزائدة بزعمهم على الذات ، وأثبتوا لأنفسهم أيضا ملكيّة؟!
وادّعوا مشاركة اللّه سبحانه في الكلّ! والحال أنّ المشاركة فيها أعظم من المشاركة في الفعل ، بل لو كان الشرك مطلقا باطلا لم تصحّ مشاركة اللّه تعالى في الوجود والشيئية ، وفي ثبوت الهوية.
فالحقّ - كما سبق - أنّ المشاركة في ما لا نقص به على اللّه سبحانه من الأمور التي لا توجب الإلهية ، ولا المعارضة ، أو المماثلة له ، جائزة وواقعة ، كما في محلّ النزاع.
وكيف يكون فيها نقص؟! وهي من مظاهر القدرة الربّانيّة ، ودلائل النزاهة ، حيث جعل قدرة العبيد الفعّالة دليلا على قدرته العظمى ، وطريقا إلى نزاهته عن أفعالهم القبيحة!
نعم ، أنا أخبره أنّ الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك وسلوك أسوأ
ص: 253
المسالك ، هو التعصّب للأسلاف ، والاقتداء بآثار الآباء.
ومن المضحك أنّه في مقام إنكار تأثير العبيد يثبت التأثير لهم فيقول :
« أنا أخبره بالذي دعاهم » فأشرك بمذهبه ، وأساء باعتقاده إلى ربّه!
وما زال يعاقب المصنّف عقاب الفاعلين للفاعلين المؤثّرين!
أعاذنا اللّه من مخالفة العمل للقول ، والتعرّض لسخطه ، إنّه أرحم الراحمين.
* * *
ص: 254
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه يلزم مخالفة القرآن العظيم والسنّة المتواترة والإجماع وأدلّة العقل.
* أمّا الكتاب فإنّه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد ، وقد تقدّم بعضها (2).
وكيف يقول اللّه تعالى : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (3) ولا خالق سواه؟!
ويقول : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (4) ولا تحقّق لهذا الشخص ألبتّة؟!
ويقول : ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) (5) ..
( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (6) ..
( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (7) ..
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
ص: 255
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (1) ..
( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (2) ولا وجود لهؤلاء؟!
ثمّ كيف يأمر وينهى ولا فاعل؟! وهل هو إلّا كأمر الجماد ونهيه؟!
* وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إعملوا ، فكلّ ميسّر لما خلق له » (3) ..
« نيّة المؤمن (4) خير من عمله » (5) ..
« إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (6) ..
* والإجماع دلّ على وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى ، فلو كان الكفر بقضاء اللّه تعالى لوجب الرضا به ، والرضا بالكفر حرام بالإجماع.
فعلمنا أنّ الكفر ليس من فعله تعالى ، فلا يكون من خلقه.
* * *
ص: 256
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في ما سبق أجوبة كلّ ما استدلّ به من آيات الكتاب العزيز (2).
ثمّ إنّ كلّ تلك الآيات معارضة بالآيات الدالّة على أنّ جميع الأفعال بقضاء اللّه وقدره وإيجاده وخلقه ، نحو :
( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (3) أي عملكم ..
و ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (4) وعمل العبد شيء ..
( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (5) وهو يريد الإيمان إجماعا ، فيكون فعّالا له ، وكذا الكفر ، إذ لا قائل بالفصل.
وأيضا : تلك الآيات معارضة بالآيات المصرّحة بالهداية والضلال والختم ، نحو :
( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) (6) ..
و ( خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) (7) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها.
ص: 257
وأنت تعلم أنّ الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ، خصوصا في المسائل العقلية ، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية.
وقد ذكرنا في ما سلف من الكلام ما يغني في إثبات المقصد.
وأمّا ما استدلّ به على تعدّد الخالقين من قوله تعالى : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (1) ، فالمراد بالخالقين هناك : ما يدّعي الكافرون من الأصنام.
فكأنّه يقول : تبارك اللّه الذي هو أحسن من أصنامكم الّذين تجعلونهم الخالقين المقدّرين بزعمكم ، فإنّهم لا يقدرون على شيء ، واللّه يخلق مثل هذا الخلق البديع المعجب.
أو المراد من الخالقين : المقدّرين للخلق ، كالمصوّرين ، لا أنّه تعالى أثبت لنفسه شركاء في الخلق.
ولكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال اللّه تعالى : ( وَإِذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (2).
* * *
ص: 258
قد ظهر ممّا سبق أنّ أجوبته لا تصلح أن توسم باسم الجواب (1) ، ودعواه هنا المعارضة بالآيات الأخر باطلة.
أمّا قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، فقد عرفت في أوّل المطلب الأوّل أنّ المراد به السماوات والأرض ، وما فيهما من الأجسام والأعراض والأجرام ، لا ما يشمل أفعال العباد ، فراجع (3).
وأمّا قوله تعالى : ( أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (4) فالمراد فيه ب ( ما يعملون ) هو : ما ينحتونه من الأصنام لا عملهم (5) ، إذ لا معنى للإنكار على عبادتهم لما ينحتون بحجّة أنّه خلقهم وأعمالهم التي منها عبادتهم التي أنكر عليها!
وأمّا قوله تعالى : ( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) ، فالظاهر أنّ معناه أنّه تعالى فعّال لما يريد فعله وتكوينه.
ومن أوّل الدعوى أنّه يريد تكوين الإيمان ، وإنّما يريده تكليفا وتشريعا.
وأمّا المعارضة بالآيات الواردة في الهداية والإضلال والختم ، فمبنيّة
ص: 259
على أنّ المراد بالهداية والإضلال : خلق الهدى والضلال ، وهو ممنوع ؛ بل المراد بالهداية أحد أمور :
الأوّل : الدلالة والإرشاد ، كما في قوله تعالى : إنّا ( هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (1) .. ( إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (2).
وقوله تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (3) ..
وقوله تعالى : ( إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (4).
.. إلى غيرها من الآيات الكثيرة.
الثاني : الإثابة والإنعام ، كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) (5).
فإنّ المراد هنا بالهداية : الإثابة ؛ لوقوعها بعد القتل والموت ، كما إنّ المراد هنا بالإضلال : إبطال أعمالهم.
ومثلها في إرادة الإثابة قوله تعالى : ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (6).
الثالث : التوفيق وزيادة الألطاف ، كما في قوله تعالى : ( مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) (7) ، ونقيضه الإضلال بأن يكلهم إلى أنفسهم ، ويمنعهم زيادة
ص: 260
الألطاف.
ويحتمل أن يراد هذا المعنى من الآية التي ذكرها الخصم.
الرابع : التيسير والتسهيل ، وبالإضلال تشديد الامتحان ، ولعلّ منه هذه الآية ، فإنّه سبحانه يضرب الأمثال المذكورة في الآية امتحانا ، فتسهل عند قوم ، وتشتدّ عند آخرين ، هذا كلّه في الهداية والإضلال.
وأمّا الختم المذكور في قوله تعالى : ( خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (1).
فالمراد به : التشبيه ، ضرورة عدم الختم حقيقة على سمعهم ، وعدم الغشاوة على أبصارهم ، فكذا على قلوبهم.
والمعنى : إنّ الكفر تمكّن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها ، وصاروا كمن لا يعقل ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، كما قال تعالى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2).
ويحتمل (3) أن يكون الختم كناية عن ضيق قلوبهم عن النظر إلى الدلائل ، وعدم انشراح صدورهم للإسلام ، وإنّما نسبه إلى اللّه تعالى على الوجهين لخذلانه سبحانه لهم ، وعدم رعايته لهم بمزيد الألطاف ، لكثرة ذنوبهم ، وتتابع مناوأتهم للحقّ ، ولكن لا تزول به القدرة والاختيار ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى : ( بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (4).
ص: 261
فاستثنى القليل وأثبت لهم الإيمان بعدما طبع على قلوبهم ؛ لأنّ لهم أفعالا حسنة تجرّهم إلى الإيمان والسعادة.
ويحتمل أن يريد : ( فَلا يُؤْمِنُونَ ) إلّا إيمانا قليلا لعدم تصديقهم بكلّ ما يلزم التصديق به.
وأمّا تأويله لقوله تعالى : ( أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (1) فتأويل بعيد ؛ لأنّ ظاهرها أنّه أحسن الخالقين الفاعلين حقيقة ، كعيسى المذكور بقوله تعالى :
( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (2) لا الخالقين بالزعم والتقدير ، بل لا يصحّ أوّل التأويلين ؛ لأنّ عبدة الأصنام لا يزعمون أنّها خالقة ، بل يرونها مقرّبة إلى اللّه تعالى.
وأمّا الآية التي ادّعى مناسبتها لحال العدليّة ، فخطأ ؛ لأنّ مذهبهم لا يناسب الإشراك كما عرفت (3) ، وإنّما يناسبه مذهب من يدّعي تعدّد القدماء وتركّب الإلهية ، ويرون أنفسهم شركاء لله تعالى في صفاته الذاتية ؛ لأنّ صفاتهم كصفاته زائدة على الذات (4)!
* * *
ص: 262
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
إعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ، يلزم منهما الخروج عن العقيدة!
ونحن نذكر ما قالوا ، ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّ صلی اللّه علیه و آله :
الأوّل : قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار ، فإمّا أن يتمكّن من تركه أو لا ..
والثاني : يلزم منه الجبر ؛ لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله موجب لا مختار ، كما يصدر عن النار الإحراق ولا تتمكّن من تركه.
والأوّل إمّا أن يترجّح الفعل حالة الإيجاد ، أو لا .. والثاني ؛ يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجّح ؛ لأنّهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وبالنسبة إلى القادر الموجد ، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجّح ، وإن ترجّح ،
ص: 263
فإن لم ينته إلى حدّ الوجوب ، أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرجحان ، وهو محال.
أمّا أوّلا ؛ فلامتناع وقوعه حالة التساوي ، فحالة المرجوحية أولى.
وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح ، فلنفرضه واقعا في وقت ، والراجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بدّ له من مرجّح غير المرجّح الأوّل ، وإلّا لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح ، فينتهي إلى حدّ الوجوب ، وإلّا تسلسل.
وإذا امتنع وقوع الأثر إلّا مع الوجوب - والواجب غير مقدور ، ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا - فيلزم الجبر والإيجاب ، فلا يكون العبد مختارا (1).
الثاني : إنّ كلّ ما يقع فإنّ اللّه تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكلّ ما لم يقع فإنّ اللّه قد علم في الأزل عدم وقوعه.
وما علم اللّه وقوعه فهو واجب الوقوع ، وإلّا لزم انقلاب علم اللّه تعالى جهلا ، وهو محال.
وما علم عدم وقوعه فهو ممتنع ، إذ لو وقع انقلب علم اللّه تعالى جهلا ، وهو محال أيضا ، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر (2).
* * *
ص: 264
وقال الفضل (1) :
أوّل ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب ، وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته كما ستراه واضحا إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا الثاني ممّا ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي على سبيل النقض (2) ، وليس هو من دلائل الأئمّة الأشاعرة ، وقد ذكر الإمام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير.
ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف ، إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في أفعاله ، فهو لازم لهم أيضا لوجوه :
الأوّل : إنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا.
وما علم اللّه وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.
ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ، لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.
فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم اللّه
ص: 265
تعالى بالأشياء.
قال الإمام الرازي : « ولو اجتمع جميع العقلاء لم يقدروا أن يوردوا على هذا الوجه حرفا » (1).
وقد أجابه شارح « المواقف » كما سيرد عليك (2).
* * *
ص: 266
ما نقله عن الرازي من النقض به لا ينافي الاستدلال به ، فإنّه إن تمّ دلّ على أنّ أفعال العباد جبرية ليست من آثار قدرتهم.
وقد صرّح القوشجي بأنّ الأشاعرة استدلّوا به ، كما ذكره في بحث العلم من الأعراض (1) ، عند قول نصير الدين قدس سره في « التجريد » : « وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق » (2).
والظاهر أنّ الخصم إنّما فرّ من تسميته دليلا ليكون فساده أهون على نفسه!
* * *
ص: 267
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة ..
أمّا النقض ، ففي الأوّل من وجوه :
الأوّل - وهو الحقّ - : إنّ الوجوب من حيث الداعي والإرادة ، لا ينافي الإمكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الإيجاب وخروج القادر عن قدرته وعدم وقوع الفعل بها.
فإنّا نقول : الفعل مقدور للعبد ، يمكن وجوده منه ، ويمكن عدمه ، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده ، وحصلت الشرائط ، وارتفعت الموانع ، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة ألبتّة ، وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل.
ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.
* * *
ص: 268
وقال الفضل (1) :
هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا.
وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر ، سواء كان منشأ عدم تمكّنه عدم الإمكان الذاتي لفعله ، أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع ، فما ذكره ليس بصحيح.
* * *
ص: 269
لمّا زعم الأشاعرة في أوّل الدليلين أنّ العبد إمّا أن يتمكّن من ترك ما فعله أو لا ، فإن لم يتمكّن كان موجبا لا مختارا ، ويلزم الجبر ، أجاب المصنّف رحمه اللّه : « إنّا نختار أنّه لا يتمكّن ».
قولكم : « كان موجبا لا مختارا ».
قلنا : ممنوع ؛ لأنّ عدم التمكّن من الترك إنّما هو بسبب اختيار الفعل وتمام علّته ، فلا ينفي كونه مختارا ، ولا ينافي إمكان الفعل في نفسه وتأثير قدرة العبد فيه.
وهذا معنى ما يقال : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ».
وأورد عليه الخصم بأنّ هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، وهو كلام لا محصّل له.
ولعلّه يريد أنّا ندّعي أنّ الفعل اضطراري غير اختياري ، لعدم التمكّن من تركه بعد الاختيار والإرادة المؤثّرة ، وإن لم يصر فاعله بذلك موجبا.
وفيه - مع أنّ دليل الأشاعرة صريح في لزوم كون الفاعل موجبا - يشكل بأنّ عدم التمكّن من الترك بعد الإرادة المؤثّرة لا ينفي حدوثه بالاختيار ، ولا ينافي كونه مقدورا بالذات ، وغاية ما يثبت أنّ الفعل بعد الإرادة التامّة يصير واجبا بالغير ، لا واجبا بالذات ، ولا صادرا بالجبر.
وأمّا ما زعمه من أنّ من لم يتمكّن من الفعل لعدم حصول شرائطه غير قادر عليه ، فهو ممّا لا دخل له بمطلوب الأشاعرة من أنّ الفعل الواقع
ص: 270
من العبد مجبور عليه!
على أنّ انتفاء شرائط الفعل لا ينفي القدرة عليه ما دامت الشرائط ممكنة.
ولست أعرف كيف بنى الخصم أنّه أجاب عن كلام المصنّف ، مع إنّه سيذكر معنى كلام المصنّف بلفظ شرح « المواقف » ويبني عليه ، ولعلّ الفرق أنّه وجده في الشرح فاعتبره من غير تمييز!
* * *
ص: 271
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الثاني : يجوز أن يترجّح الفعل ، فيوجده المؤثّر ، أو العدم فيعدمه ، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين (2) ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجّح.
قوله : « مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض ، فليفرض واقعا في وقت ، فترجيح الفعل وقت وجوده يفتقر إلى مرجّح آخر ».
قلنا : ممنوع ؛ بل الرجحان الأوّل كاف ، فلا يفتقر إلى رجحان آخر.
* * *
ص: 272
وقال الفضل (1) :
لا يصحّ أن يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل ، ولا بدّ أن يكون هذا المرجّح غير المرجّح الأوّل ؛ لأنّ هذا المرجّح موجود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه ، ولهذا ترجّح الفعل.
فلو كان هذا المرجّح موجودا عند عدم الفعل ، ولم يترجّح به الفعل ، فلا يكون مرجّحا ، وإذا ترجّح به الفعل فيكون حكم الوقتين مساويا.
ويلزم خلاف المفروض ؛ لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجد في وقت ويعدم في الآخر ، ولا بدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب ، وإلّا يتسلسل فيتمّ الدليل بلا ورود نقض.
* * *
ص: 273
لا يخفى أنّ عندنا مسألتين :
الأولى : إنّه هل يمكن ترجّح أحد طرفي الممكن على الآخر برجحان ناش عن ذات الممكن ، غير منته إلى حدّ الوجوب ، بحيث يجوز أنيوجد ممكن بذلك الرجحان من غير احتياج إلى فاعل ، فينسدّ باب إثبات الصانع أو لا يمكن؟
لا ريب أنّه لا يمكن ؛ لأنّ فرض إمكان الشيء يقتضي جواز وقوع الطرفين بالنظر إلى ذاته.
وفرض مرجوحية أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ، يقتضي امتناع وقوع المرجوح ؛ لامتناع ترجّح المرجوح بالضرورة.
ولذا قال نصير الدين قدس سره في « التجريد » : « ولا يتصوّر الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته » (1).
الثانية : إنّه هل يمكن ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بمرجّح لا ينتهي إلى حدّ الوجوب - كما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين (2) ونقله المصنّف عنهم - أو لا يمكن؟
ودليل الأشاعرة من فروع هذه المسألة ، ومبنيّ على عدم إمكان الترجيح بذلك المرجّح ، وهو ممنوع ؛ لأنّ إمكان وقوع الفعل لأجله وكفايته
ص: 274
في الإقدام على الفعل ، لا يستلزم خروجه عن المرجوحية ، مع فرض عدم الفعل.
هذا إذا أريد بالمرجّح الأمر الداعي إلى الاختيار.
وأمّا لو أريد به المركّب منهما ومن سائر أجزاء العلّة ، كما هو المقصود في مقام ترجيح أحد طرفي الممكن ، فلا محالة يكون المرجّح موجبا ؛ ولأجله جعل المصنّف الحقّ هو الجواب الأوّل السابق.
* * *
ص: 275
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الثالث : لم لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير مرجّح.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلّمين (2) ، وتمثّلوا في ذلك بصورة وجدانية ، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ، فإنّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ، ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح ، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه ، والهارب من السبع إذا عنّ (3) له طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر حصول المرجّح.
وإذا كان هذا الحكم وجدانيا ، كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟!
الرابع : إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين (4) ، فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة ؛ لعدم التمكّن من الترك.
وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين ، لزمهم وجود الضدّين دفعة
ص: 276
واحدة ؛ لأنّ القدرة لا تتقدّم على المقدور عندهم (1).
وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم ، إمّا اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل.
فانظر إلى هؤلاء القوم الّذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها!
* * *
ص: 277
وقال الفضل (1) :
اتّفق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، والحكم بعد تصوّر الطرفين ، أي تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن ، وتصوّر المحمول - الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب - ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك يجزم به الصبيان الّذين لهم أدنى تمييز ..
ألا ترى إلى كفّتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما ، وقال قائل : ترجّحت إحداهما على الأخرى بلا مرجّح من خارج ، لم يقبله صبي مميّز ، وعلم بطلانه بديهة.
فالحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر إلّا بمرجّح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب ، بل الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تراها تنفر من صوت الخشب (2).
وما ذكر من الأمثلة ، كالجائع في اختيار أحد الرغيفين وغيره ، فإنّه لمّا خالف الحكم البديهي ، يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع ، والعلم بوجود المرجّح من القادر غير لازم ، بل اللازم وجود المرجّح.
وأمّا دعوى كونه وجدانيا مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهي ، دعوى باطلة كسائر دعاويه ؛ واللّه أعلم.
ص: 278
وأمّا قوله في الوجه الرابع : « إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ... » إلى آخره.
فنقول في جوابه : عدم صلاحية القدرة للضدّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة ، فإنّ المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد ، وإثبات أنّ الفعل واجب الصدور عنه ، وليس له التمكّن من الترك ، وذلك يوجب نفي الاختيار.
فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ، وبلغ الفعل حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على الترك ، فيكون موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب ..
فكيف يقول : إنّ كون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة؟!
فعلم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها!
ثمّ ما ذكر أنّهم [ إن ] (1) خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدين ، لزمهم إمّا اجتماع الضدّين ، أو تقدّم القدرة على الفعل ؛ فهذا شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا.
والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا : إنّ القدرة لا تصلح للضدّين (2) ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل (3) ، فيجب أن لا يكون صالحا
ص: 279
للضدّين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين!
أنظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي ، الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات ، حسب أنّ هذا الكلام حطب يسرق! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان ، وأظهر جهله وتعصّبه على أهل الإيمان.
* * *
ص: 280
ما ذكره من اتّفاق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، خطأ ظاهر ، فإنّ قومه - وهم الأشاعرة - لا يوافقون عليه ، ويزعمون أنّ بقاء الممكن الموجود ، وعدم الممكنات الأزلي ، لا يحتاجان إلى مرجّح وسبب.
ولذا قالوا : إنّ المحوج إلى السبب هو الحدوث ، أي خروج الممكن من العدم إلى الوجود ، لا الإمكان (1).
ولكن غرّ الخصم أنّه رأى في أوّل مباحث الممكن من « المواقف » وشرحها دعوى ضرورية حاجة الممكن إلى السبب بالتقرير الذي ذكره الخصم ، ولم يلتفت إلى أنّهما ذكرا ذلك عن الحكماء القائلين بأنّ المحوج إلى السبب هو الإمكان (2) ، خلافا للأشاعرة.
ولذا بعدما ذكرا عن الحكماء أنّ الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تنفر من صوت الخشب ، أوردا عليه بقولهما : « قلنا ذلك ، أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه ، فإنّه لمّا حدث الصوت بعد عدمه ، تخيّلت البهائم أن لا بدّ له من محدث ، لا أنّها تخيّلت تساوي طرفي الصوت ، وأن لا بدّ هناك من مرجّح » (3).
ولو سلّم الاتّفاق على حاجة الممكن إلى السبب ، وعلى أنّه يمتنع
ص: 281
ترجّح أحد طرفيه بدون مرجّح فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلام المصنّف في إمكان ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بلا مرجّح كما هو مذهب جماعة ومنهم الأشاعرة.
ولذا قال في « المواقف » في البحث عن أفعال العباد ، بعدما ذكر الدليل المذكور الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة : « واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يصلح إلزاما للمعتزلة ، القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياري ؛ وإلّا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار بأحد طرفي المقدور ، فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجّح كونه اتّفاقيا » (1).
بل يستفاد من هذا - لا سيّما قوله : « يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار » - جواز ترجيح المرجوح على الراجح فضلا عن المساوي ، كما يدلّ عليه أيضا تجويزهم تقديم المفضول على الفاضل في مسألة الإمامة (2) ، وتجويزهم عقلا أن يعذّب اللّه الأنبياء ويثيب الفراعنة والأبالسة (3) ، وقولهم : لا يجب على اللّه شيء ولا يقبح منه شيء (4) ، وحينئذ فما أجاب به الخصم عن مثال الرغيفين ونحوه غير صحيح عند أصحابه.
وأمّا ما أجاب به عن الوجه الرابع ، فمن الجهل أيضا ؛ لأنّ المصنّف
ص: 282
لم ينكر أنّ القول بكون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم القدرة على الترك بعد فرض تعلّقها بالفعل ، وإنّما يقول : إنّ القول بهذا القول مناف للاستدلال بذلك الدليل ؛ لأنّ الاستدلال به مبنيّ على جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، وهم لا يقولون بتعلّقها بهما.
وأمّا ما ذكره من أنّ قول المصنّف : « إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين لزمهم ... شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا » ..
ففيه : إنّ هذا القول من المصنّف جواب عن سؤال مقدّر ، وهو : إنّ ما ذكرته من منافاة الدليل لمذهبهم مبنيّ على التزامهم هنا بقولهم بعدم جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، فلعلّهم خالفوا هنا ذلك وأجازوا تعلّقها بهما.
فقال : وإن خالفوا ذلك لزمهم محذور آخر ، وهو اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل ، وكلاهما مخالف لمذهبهم.
وهذا ليس من باب اختراع النسبة إليهم ، كما توهّمه الخصم وأبان به وبما قبله عن جهله بمقاصد المصنّف وبمذهبهم ، وعن سرقته لكلام « المواقف » وشرحها من دون معرفة بمخالفته لمذهبهم ، وبعدم انطباقه على المورد!!
* * *
ص: 283
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وفي الثاني من وجهين :
الأوّل : العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا يؤثّر فيه ، فإنّ التابع إنّما يتبع متبوعه ويتأخّر عنه بالذات ، والمؤثّر متقدّم.
الثاني : إنّ الوجوب اللاحق لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فرض موجودا ، فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمه ، لامتناع اجتماع النقيضين ، وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.
والعلم حكاية عن المعلوم ومطابق له ، إذ لا بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان ، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فإنّه لولاه لم يكن علما به.
ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه ، بما هو حكاية عنه ، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم.
وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به.
وكما إنّ ذلك الوجوب لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، كذا هذا الوجوب ، ولا يلزم من تعلّق علم اللّه تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم.
* * *
ص: 284
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا أنّ هذه الحجّة أوردها الإمام الرازي على سبيل الفرض الإجمالي ، في « مبحث التكليف والبعثة » (2) ، وهذا صورة تقريره :
« ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا .. وما علم اللّه وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.
ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ؛ لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.
فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم اللّه تعالى بالأشياء ».
قال الإمام الرازي : ولو اجتمع جملة العقلاء ، لم يقدروا أن يوردوا على هذا حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام ، وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها » (3).
وقال شارح « المواقف » : « واعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم ، على معنى أنّهما يتطابقان ، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ، ألا يرى إلى صورة الفرس مثلا على الجدار ، إنّما كانت على الهيئة المخصوصة ؛ لأنّ
ص: 285
الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما.
فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا ، إنّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه ، دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه ، وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما » (1) ، انتهى كلام شارح « المواقف ».
وظهر أنّ الرجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم.
وجواب الأوّل من الوجهين : إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل - كما ذكرنا - حتّى يلزم من تأخّره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا (2) ، والتابعيّة لا تدفع هذا المحذور ؛ لما ستعلم.
وجواب الثاني من الوجهين : إنّا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات ، واجب بالغير.
والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا ، وهو حاصل ، سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير.
وأمّا جواب شارح « المواقف » فنقول : لا نسلّم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم ، بل العلم الانفعالي الذي يتحقّق بعد وقوع المعلوم هو تابع للمعلوم.
وإن أراد بالتابعيّة التطابق ، فلا نسلّم أنّ الأصل في المطابقة هو
ص: 286
المعلوم في العلم الفعلي ، بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فإنّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت ، هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّر المهندس في علمه الفعلي ، لزم انقلاب العلم جهلا.
وأنت تعلم أنّ علم اللّه تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعليّ ، كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ثمّ يطابقه البيت.
كذلك علم اللّه تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ، ويتبعه وجود الممكنات ، فإن وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل ، لزم انقلاب العلم جهلا ، وهذا هو التحقيق!
* * *
ص: 287
تقدّم أنّ إيراد الرازي له على سبيل النقض لا ينافي اتّخاذ الأشاعرة له دليلا ، كما نقله عنهم من هو منهم ، وهو القوشجي كما مرّ (1).
وأمّا ما ادّعاه من ظهور سرقة المصنّف للجوابين بسبب ما نقله عن شارح « المواقف » ، فمن المضحكات ؛ لأنّ تصنيف « شرح المواقف » متأخّر عن تصنيف المصنّف لهذا الكتاب بنحو من مائة سنة ، فإنّ السلطان محمّد خدابنده تشيّع سنة سبع بعد السبعمائة ، وصنّف له هذا الكتاب (2) ، وكان تصنيف « شرح المواقف » سنة سبع بعد الثمانمائة ، كما ذكره الشارح في آخر شرحه (3).
على أنّ الجواب الثاني من خواصّ هذا الكتاب ، إذ لم يذكر في « شرح المواقف » ولا غيره.
ولو كان واحد من الجوابين من كلام الأشاعرة لما خفي على صاحب « المواقف » ، فإنّ عادته جمع كلامهم وكلام غيرهم ، سوى كثير من كلمات أهل الحقّ! فلمّا لم يطلع عليهما علم أنّهما من خواصّ خصومهم ، كما هي
ص: 288
عادتهم في ترك النظر بكلمات الإمامية ، رغبة عن الحقّ ، وتعصّبا لما هم عليه.
لكن لمّا كان لشارح « المواقف » حاشية على « شرح التجريد القديم » (1) ، اطّلع على الجواب الأوّل ، فذكره في « شرح المواقف » (2) ؛ لأنّ شيخ المتكلّمين نصير الدين قدس سره قد ذكره في « التجريد » (3) ، فكان هذا الجواب من خواصّ نصير الدين ، والجواب الثاني منخواصّ المصنّف.
ثمّ إنّ ما أجاب به الخصم عن الأوّل بقوله : « بل ندّعي انقلاب العلم جهلا » غير نافع له ؛ لأنّ لزوم الانقلاب ما لم يكن العلم مؤثّرا لا يوجب سلب تأثير قدرة العبد كما هو مدّعاهم ، وإنّما يوجب أن يقع ما علم اللّه تعالى على الوجه الذي علمه من الاختيار أو الاضطرار ، كما إنّ صدق الصدق في الأخبار إنّما يقتضي ذلك.
وأمّا ما أجاب به عن الثاني ..
ففيه : إنّ الوجوب بالغير ، الحاصل من فرض وقوع الممكن
ص: 289
بالاختيار - كما بيّنه المصنّف - لا يجعل الفعل اضطراريا ، وإلّا كان خلفا ، بل كثير من الوجوب أو الامتناع بالغير لا يسلب القدرة والاختيار ، كالظلم وفعل القبيح ، فإنّهما ممتنعان على اللّه تعالى لقبحهما ، وهو قادر مختار في تركهما.
وبالجملة : المدار في القدرة والاختيار على كون الفعل منوطا بإشاءة الفاعل وأفعال العباد كذلك ، غاية الأمر أنّ اللّه تعالى علم أنّهم يفعلون أفعالا ويتركون أفعالا بإشاءتهم للأمرين ، كما يعلم ذلك في حقّه تعالى ، وهو لا يوجب الخروج عن القدرة والاختيار.
وأمّا ما أورد به على الجواب الذي نقله شارح « المواقف » ..
ففيه : إنّه إن أراد بقوله : « إنّ علم اللّه تعالى بالموجودات فعليّ » أنّه سبب حقيقي مؤثّر فيها ، ومنها أفعالنا ، فهو باطل ألبتّة حتّى لو قلنا : إنّه تعالى فاعل لأفعالنا ؛ لأنّ المؤثّر فيها قدرته لا علمه.
وإن أراد به أنّ علمه شرط لها ، فلا يضرّنا تسليمه ، إذ لا يستدعي خروج أفعالنا عن قدرتنا ؛ لأنّ الأثر للفاعل ، لا للشرط.
والقوم يعنون بكون العلم الفعلي سببا لوجود المعلوم في الخارج ، أنّه دخيل في السببية من حيث كونه شرطا ، كعلم المهندس ، بخلاف العلم الانفعالي ، فإنّه ليس بشرط للمعلوم ، بل هو مسبّب ، أي : فرع عن وجود المعلوم ، كعلمنا بما وقع.
وبخلاف الفعلي والانفعالي أيضا الذي يعرّفونه بما ليس سببا لوجود المعلوم في الخارج ، ولا مسبّبا عنه ، كعلم اللّه سبحانه بذاته ، فإنّه بالاتّفاق عين ذاته ، ويختلفان بالاعتبار.
على أنّ الحقّ أنّ العلم الفعلي ليس شرطا لوجود المعلوم ، ضرورة
ص: 290
أنّ العلم تابع للمعلوم ؛ لأنّه انكشاف الشيء وحضوره لدى العالم به ، فيكون وجود المعلوم واقعا متقدّما رتبة على العلم ؛ لكونه شرطا له أو بحكمه.
فلو كان العلم الفعلي شرطا أيضا لوجود المعلوم جاء الدور (1) ، فلا بدّ أن يكون العلم الفعلي كغيره ، ليس شرطا في وجود المعلوم.
نعم ، تصوّر الشيء شرط لإقدام العاقل الملتفت على إيجاد الشيء ، وهو أمر آخر ، ومنه تصوّر المهندس ، وهو غير العلم الفعلي المصطلح عليه بالعلم الحضوري ..
فإذا عرفت هذا ، عرفت ما في كلام الخصم من الخطأ ، فتدبّر!
* * *
ص: 291
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وأمّا المعارضة في الوجهين ، فإنّهما آتيان في حقّ واجب الوجود تعالى.
فإنّا نقول في الأوّل : لو كان اللّه تعالى قادرا مختارا فإمّا أن يتمكّن من الترك أو لا ، فإن لم يتمكّن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل ، لا قادرا مختارا.
وإن تمكّن ، فإمّا أن يترجّح أحد الطرفين على الآخر أو لا ، فإن لم يترجّح لزم وجود الممكن المساوي من غير مرجّح ، فإن كان محالا في حقّ العبد ، كان محالا في حقّ اللّه تعالى ، لعدم الفرق.
وإن ترجّح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر ، وإلّا تسلسل أو وقع المتساوي من غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حقّ العبد.
* * *
ص: 292
وقال الفضل (1) :
ذكر صاحب « المواقف » هذا الدليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون اللّه تعالى قادرا مختارا ، لإمكان إقامة الدليل بعينه ، فيقال : لو كان اللّه موجدا لفعله بالقدرة استقلالا ، فلا بدّ أن يتمكّن من فعله وتركه ، وأن يتوقّف فعله على مرجّح ، إلى آخر ما مرّ تقريره.
وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة ، أي الفعل يتوقّف على مرجّح هو الإرادة الجازمة ، لكن إرادة العبد محدثة ، فافتقرت إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها اللّه تعالى فيه ، بلا إرادة واختيار منه ، دفعا للتسلسل في الإرادات التي تفرض صدورها عنه ، وإرادة اللّه تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى (2) ..
فظهر الفرق واندفع النقض.
* * *
ص: 293
هذا الجواب للرازي في « الأربعين » كما نقل عنه (1).
وأورد عليه المحقّق الطوسي رحمه اللّه في « التجريد » بما مضمونه : إنّ التقسيم إلى الإرادتين ، والفرق بينهما بالحدوث والقدم ؛ لا يدفع الإشكال ؛ لأنّ الترك إن لم يمكن مع الإرادة القديمة كان اللّه تعالى موجبا لا قادرا مختارا.
وإن أمكن ، فإن لم يتوقّف فعله تعالى على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح.
وإن توقّف كان الفعل معه موجبا ، فيكون اضطراريا (2).
وسيأتي للكلام تتمّة عند القول في المعارضة الآتية.
* * *
ص: 294
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
ونقول في الثاني : إنّ ما علمه تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب ، لزم في حقّ اللّه تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال.
فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ اللّه تعالى ، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادرا ، ويكون موجبا.
وهذا هو الكفر الصريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة.
والحاصل : إنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر ، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما.
* * *
ص: 295
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في كلام شارح « المواقف » أنّه ذكر هذا النقض ، وليس هو من خواصّه حتّى يتبختر به ويأخذ في الإرعاد والإبراق والطامّات.
والجواب :
أمّا عمّا يرد على الدليل الأوّل فهو : إنّ فعل الباري محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين.
وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون اللّه تعالى مستقلّا في الفعل.
ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجّح القديم كان موجبا لا مختارا.
قلنا : إنّ الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافيه بل يحقّقه.
فإن قلت : نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافي كونه قادرا مختارا.
قلت : لا شكّ أنّ اختياره حادث ، وليس صادرا عنه باختياره ، وإلّا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار ، وتسلسل ، بل عن غيره ، فلا يكون مستقلّا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري ، فإنّها مستندة إلى ذاته ، فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه (2).
ص: 296
وأمّا عمّا يرد على الدليل الثاني فهو : إنّ علم اللّه تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه ، تعلّق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات.
وكلّ واحد من الصفات الثلاث يتعلّق بمتعلّقه من الأشياء ، وعلى كلّ ما تقتضيه ، فمقتضى العلم التعلّق من حيث الانكشاف ، ومقتضى الإرادة الترجيح ، ومقتضى القدرة صحّة وقوع الفعل والترك فلا يلزم الوجوب ؛ لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة ، لأنّهما قديمتان حاصلتان معا ، بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمه ، ومقتضى العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة بخلاف الصفات القديمة ، فليس ثمّة إيجاب.
تأمّل ، فإنّ هذا الجواب دقيق ، وبالتأمّل فيه حقيق.
وأمّا ما ذكره من لزوم الكفر ، فمن باب طامّاته وترّهاته ، وهذه مسائل علمية عملية يباحث الناس فيها ، فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصّبه ينزله على الكفر والتفسيق ، نعوذ باللّه من جهل ذلك الفسّيق.
* * *
ص: 297
قد بيّنّا أنّ تصنيف المصنّف لهذا الكتاب قبل تصنيف « شرح المواقف » بنحو مائة سنة ، فلا ينافي كون هذا النقض من خواصّ المصنّف ، بل صنّف المصنّف هذا الكتاب سنة سبع بعد السبعمائة أو بعدها بقليل (1) ، والقاضي العضد حينئذ صبي ؛ لأنّه ولد بعد السبعمائة (2) ، فيكون هذا الكتاب أسبق من « المواقف » فضلا عن شرحها بكثير.
وأمّا التبختر ، فالمصنّف أجلّ منه قدرا ، وإن حقّ له ؛ لأنّه أكثر الناس علما وتصنيفا.
ولا يبعد أنّه صنّف هذا الكتاب بنحو عشرة أيّام ، بحسب ما ذكر العلماء من كثرة تصانيفه وسرعته في تأليفها ، أجزل اللّه رحمته عليه وضاعف أجره.
وأمّا الإرعاد ، فلا يتوقّف على كون ذلك من خواصّه ، وإن كان قريبا ، بل يكفي فيه أن يكون من إفادات شيخه نصير الملّة والدين ، أو غيره من أصحابنا.
وأمّا ما أجاب به الخصم عن معارضة الدليل الأوّل ..
ففيه أوّلا : إنّ دعوى عدم صدور اختيار العبد منه بل من اللّه تعالى باطلة ؛ لما سبق تحقيقه (3) من أنّ بعض آثار قدرة العبد صادرة عنه
ص: 298
بلا سبق إرادة ، كأكثر أفعال القوى الباطنة ، ومنها : الإرادة ، وبعض أفعال القوى الظاهرة ، كفعل الغافل والنائم ، فلا يتوقّف صدور الإرادة عن العبد بقدرته على إرادة أخرى حتّى يلزم التسلسل.
وثانيا : إنّ كون إرادة اللّه سبحانه مستندة إلى ذاته لا ينفي الجبر عن فعله على مذهبهم ؛ لأنّها من صفاته ، وصفاته بزعمهم صادرة عنه بالإيجاب ، فيكون فعله المترتّب عليها صادرا عنه بالإيجاب والجبر لا بالقدرة ، كما أشار إليه شارح « المواقف » بعد بيان ما ذكره الخصم في جواب معارضة الدليل الأوّل ، قال :
« لكن يتّجه أن يقال : استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة ، فإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا له ، تطرّق إليه شائبة الإيجاب » (1).
وقد ترك الخصم ذكر هذا مع أنّ كلامه مأخوذ من « شرح المواقف » بعين لفظه ليروّج منه الباطل! فاللّه حسيبه.
وأمّا ما أجاب به عن معارضة الدليل الثاني ..
ففيه : مع أنّ مجرّد القدم لا يرفع دعوى التصادم لو صحّت ، أنّ الذي أوجب عندهم الجبر هو أنّ ما علم اللّه تعالى وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهذا جار في أفعال اللّه تعالى وأفعال العبد بلا فرق ، ولا دخل لحديث التصادم في رفعه أصلا.
هذا كلّه إذا قلنا بقدم إرادة اللّه تعالى المخالفة للعلم بالمصلحة كما يدّعيه الأشاعرة ..
ص: 299
وأمّا إذا قلنا بحدوثها كما اختاره جماعة (1) ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى : ( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (2) .. وقوله تعالى :
( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .. ونحوهما ، فإنّه حينئذ لا يبقى محلّ لجواب المعارضتين معا كما لا يخفى.
وأمّا ما ذكره من أنّ لزوم الكفر من باب طامّاته ..
ففيه : إنّه كيف لا يلزمهم الكفر وهي - كما قال الخصم - مسائل علمية عملية ، فإنّهم إذا التزموا بصحّة الدليلين ، وعملوا واعتقدوا بمقتضاهما ، كان اللّه تعالى عندهم موجبا لا قادرا مختارا ، وهو عين الكفر ، نعوذ باللّه.
* * *
ص: 300
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!
وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟! ..
( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (2)؟!
هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة اللّه سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!
وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف .. وفّقهم اللّه لإصابة الصواب.
* * *
ص: 301
وقال الفضل (1) :
قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.
ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.
فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ باللّه من الضلال ، واللّه الهادي.
* * *
ص: 302
قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.
فإذا كان اللّه تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من اللّه تعالى لا من المصنّف ، وليحارب اللّه تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.
ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من اللّه سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!
وهل يحسن من اللّه تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى اللّه عمّا يصفون.
* * *
ص: 303
ص: 304
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات .. ( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (2) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه (3) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :
اللّه تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له (4) ، فإذا طولب بتحقيق
ص: 305
الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه ..
فقال بعضهم : معنى الكسب خلق اللّه تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق اللّه الفعل عند اختيار العبد (1).
وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ اللّه تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من اللّه تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد (2).
وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد (3).
* * *
ص: 306
وقال الفضل (1) :
قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له .. هذا مذهب الشيخ (2).
ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه اللّه تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.
ونحن إن شاء اللّه تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :
يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.
وتحقيقه : إنّ اللّه تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.
ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.
وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،
ص: 307
فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد اللّه بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.
والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.
فلمّا أوجد اللّه تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :
نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.
ونسبة إلى اللّه تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.
وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.
ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال - باعتبار كون الفعل صفة له - : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.
والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.
وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ
ص: 308
ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!
إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل اللّه تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!
والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!
فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.
ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول (1) في مهمّة (2) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :
ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي *** طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي (3)
فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، واللّه تعالى يجازيه!
* * *
ص: 309
ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.
وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :
أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد اللّه بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد اللّه سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.
نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة اللّه على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي (1) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت ... » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».
ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.
وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،
ص: 310
ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.
وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » .. إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل (1).
وأيّ دلالة في ذكر الكسب - عند إرادة ترتّب الجزاء - على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!
وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن - عند إرادة ترتّب الجزاء - سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :
إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.
وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال اللّه تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.
ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال اللّه تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.
ص: 311
وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.
فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!
* * *
ص: 312
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
وهذه الأجوبة فاسدة ..
أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.
وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى اللّه تعالى ، وأن ينسب اللّه تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.
وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن اللّه تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.
وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو اللّه تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من اللّه تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.
وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق اللّه تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق اللّه تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر (2).
ص: 313
وقال الفضل (1) :
قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ (2) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب ..
أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها اللّه تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل (3).
فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه اللّه تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.
وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه اللّه تعالى عقيب الاختيار؟!
فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها اللّه تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب
ص: 314
عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن اللّه تعالى.
وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ... » إلى آخر الدليل.
فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن اللّه تعالى لا عن العبد.
وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.
قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».
قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح (1).
وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق اللّه الفعل عقيبه ».
فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.
* * *
ص: 315
ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة اللّه وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :
« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى اللّه تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.
قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة اللّه تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة اللّه تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب :
الكسب (1).
وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة اللّه تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.
وقيل : الفعل الذي يخلقه اللّه تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.
ص: 316
وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.
و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.
فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب - من حيث هو كسب - اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.
وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة اللّه تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.
إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة اللّه تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له (1) » (2).
وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا
ص: 317
الخصم.
ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب - بأيّ معنى فسّر - إن كان من فعل اللّه تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.
ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :
أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ اللّه تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها (1) ..
فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».
على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ... إلى آخره.
وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها اللّه تعالى في العبد » ..
فإن أراد أنّها ربّما يخلقها اللّه تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،
ص: 318
قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!
وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه اللّه تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن اللّه تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به - لو سلّم - لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.
على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى (1) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.
ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه ... » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.
وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري (2) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال اللّه تعالى ، كما عرفت.
ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.
وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.
ص: 319
وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».
وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار » ..
ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن اللّه لا عن العبد ».
وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل ..
ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار - كما زعم - إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.
واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل اللّه تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.
وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.
وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب
ص: 320
خلق الفعل عقيب الاختيار ، فأجاب بما سمعته.
وكيف يدّعيه المصنّف وكلّ أحد يعلم أنّ ما جعلوه مخلصا هو وجود الاختيار لا وجوب خلق اللّه الفعل عقيبه؟!
وبهذا تعرف مقدار تدبّر هذا الخصم!
* * *
ص: 321
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وأمّا الثاني : فلأنّ كون الفعل طاعة أو معصية ، إمّا أن يكون نفس الفعل في الخارج ، أو أمرا زائدا عليه.
فإن كان الأوّل ، كان أيضا من اللّه تعالى ، فلا يصدر عن العبد شيء ، فيبطل العذر.
وإن كان الثاني ، كان العبد مستقلّا بفعل هذا الزائد.
وإذا جاز إسناد هذا الفعل ، فليجز إسناد أصل الفعل!
وأيّ ضرورة للتمحّل بمثل هذه المحاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار؟!
وأيّ فارق بين الفعلين؟! ولم كان أحدهما صادرا عن اللّه تعالى والآخر صادرا عن العبد؟!
وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف ، فإن كان حقّا عندهم امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.
وأيضا كون الفعل طاعة ، هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل ، إن طابق الأمر كان طاعة ، وإلّا فلا.
وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد ، لا في ذاته ، ولا في شيء من صفاته ، فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأوّل.
ص: 322
وأيضا الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ، ولهذا ذمّ اللّه تعالى إبليس وفرعون على مخالفتهما أمر اللّه.
وكلّ فعل يفعله اللّه تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من اللّه.
فلو كان أصل الفعل صادرا من اللّه امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن.
فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من اللّه امتنع وصفها بالقبح ، فلا تكون معصية ، فلا يستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب ، فلا يحسن من اللّه تعالى ذمّ إبليس وأبي لهب وغيرهما ، حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية ، فلا تتحقّق معصية من العبد ألبتّة!
وأيضا المعصية قد نهى اللّه تعالى عنها إجماعا ، والقرآن مملوء من المناهي والتوعّد عليها.
وكلّ ما نهى اللّه عنه فهو قبيح ، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلّا ما نهى اللّه عنه ، مع إنّها قد صدرت عن إبليس وفرعون وغيرهما من البشر.
وكلّ ما صدر من العبد فهو مستند إلى اللّه تعالى ، والفاعل له هو اللّه لا غير عندهم ، فيكون حسنا وقد فرضناه قبيحا ، وهذا خلف.
وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ، وكفاهم من الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون.
وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات ، والدخول في هذه الظلمات ، والإعراض عن الحقّ الواضح ، والدليل اللائح ، والمصير إلى ما لا يفهمه القائل ولا السامع؟!
ص: 323
ولا يدري هل يدفع عنهم ما التزموا به أو لا؟! فإنّ هذا الدفع وصف من صفاته ، والوصف إنّما يعلم بعد علم الذات ، فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به؟!
فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه ، ولا يبقى للقول مجال ، ولا يمكن الاعتذار بهذا المحال!
* * *
ص: 324
وقال الفضل (1) :
القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلّاني من الأشاعرة ..
ومذهبه : إنّ الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين ، على أنّ تتعلّق قدرة اللّه تعالى بأصل الفعل ، وقدرة العبد بصفته ، أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى ، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء ، فإنّ ذات اللطم واقعة بقدرة اللّه تعالى وتأثيره ، وكونه طاعة على الأوّل ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره (2).
هذا مذهب القاضي ، وهو غير مقبول عند عامّة الأصحاب ؛ لشمول الأدلّة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق.
وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة (3) فليس من خواصّه.
ص: 325
وأمّا باقي ما أورده على معنى الكسب حسب ما هو مذهب القاضي فغير وارد عليه ، ونحن نبطله حرفا بحرف ، فنقول :
أمّا قوله : « كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل ... » إلى آخر الدليل.
فجوابه : إنّا لا نسلّم أنّ كونه موافقا لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات الفعل ، فإنّ المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنّه ليس صفة الفعل ، بل هو ذات الفعل ، فبطلانه ظاهر.
وإن كان المراد أنّه راجع إلى الذات ، بمعنى أنّه وصف للذات فمسلّم ، لكن لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ، وهذا أوّل الكلام.
ثمّ إنّ ما ذكر أنّ : « الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ... وكلّ فعل يفعله اللّه تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم ... سوى صدوره من اللّه ، فلو كان أصل الفعل صادرا من اللّه امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن ... » إلى آخره.
فجوابه : إنّ الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ، ولكنّ مدرك هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل ، فكلّ فعل يفعله اللّه تعالى فهو حسن بالنسبه إليه ، وربّما يكون قبيحا بالنسبة إلى المحلّ كالعاصي.
قوله : « فلو كان أصل الفعل صادرا من اللّه تعالى امتنع وصفه بالقبح ».
قلنا : المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، وكلّ ما كان صادرا
ص: 326
من اللّه تعالى كالخلق ، امتنع وصفه بالقبح.
والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها بالقبح ، فلا يلزم شيء ممّا ذكره بتفاصيله.
وأمّا قوله : « وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ».
فنقول : هذا القول إن صدر من الأشاعرة ، يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد ، ولا بدّ من إثبات شيء لئلّا يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب ، ولكنّه غير معلوم الحقيقة ، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام.
* * *
ص: 327
لا يخفى أنّ نسبة القول الثاني إلى القاضي الباقلّاني منافية لقوله سابقا : « هذه الأقوال ما رأيناها في كتب الأصحاب »!! (1).
والظاهر : إنّ المصنّف مختصّ بإبطال مذهب القاضي بالوجوه المذكورة ؛ لأنّ ما تخيّل الخصم مشاركة المصنّف للأشاعرة فيه هو قوله :
« وأيضا : دليلهم آت في هذا الوصف » ، وهو - كما ترى - توطئة للإيراد لا نفسه ؛ لأنّ المنظور إليه في الإيراد هو قوله بعده : « فإن كان - أي دليلهم - حقّا امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به ».
وبهذا تعلم أنّ الخصم لم يجب عن هذا الوجه ، كما أنّه لم يتعرّض للجواب عمّا قبله الذي هو أوّل الوجوه.
واعلم أنّ المصنّف أبطل قول القاضي بخمسة وجوه :
الأوّلان منها راجعان إلى إبطال تفرقة القاضي بين الفعل وصفته.
وثالثها : إلى إبطال قوله بإسناد الوصف إلى العبد.
وأخيراها : إلى إبطال قوله بأنّ أصل الفعل من اللّه تعالى.
وقد عرفت أنّ الخصم أغفل جواب الأوّل ، ولم يفهم الثاني ، كما أنّه أغفل جواب الأخير ، وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « وأيضا المعصية قد نهى اللّه تعالى عنها ... » إلى آخره.
وحاصله : إنّ المعصية - يعني أصل الفعل - كالزنا منهيّ عنه ، وكلّ
ص: 328
ما نهى اللّه تعالى عنه قبيح ، فإذا زعم القاضي وقومه أنّ الزنا مثلا فعل اللّه تعالى كان حسنا ، وهذا خلف.
وأمّا الثالث ، وهو الذي ذكره بقوله : « وأيضا : كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة » ..
فقد أجاب عنه الخصم بقوله : « فجوابه : إنّا لا نسلّم ... » إلى آخره.
وردّد فيه بمراده بالرجوع بين أمرين لم يردهما قطعا ، فإنّ مراده بالرجوع في قوله : « وكونه موافقا لأمر الشريعة يرجع إلى ذات الفعل » هو استناد الموافقة إلى ذات الفعل ، لا أنّها ذاته أو وصفه كما تخيّله الخصم.
وحاصل مقصود المصنّف - كما هو صريح كلامه - : إنّ معنى كون الفعل طاعة هو كونه موافقا للأمر ، وكونه موافقا له مستند إلى ذات الفعل ، لا إلى العبد ، فكيف يقول القاضي باستناد الطاعة إلى العبد؟! ومنه يعلم ما في قول الخصم : « لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ».
وأمّا ما أجاب به عن الرابع بقوله : « ثمّ إنّ ما ذكر أنّ الطاعة حسنة ... » إلى آخره ..
فخطأ ظاهر ؛ لأنّ حاصل مراد المصنّف بهذا الوجه أنّه لو كان أصل الفعل صادرا عن اللّه تعالى - كما يزعمه القاضي وقومه - لكان حسنا وامتنع قبحه ، فلا يكون معصية ؛ لأنّها قبيحة فلا تتحقّق من العبد معصية ألبتّة ، ولا يحسن ذمّه وعقابه!
والحال : إنّا علمنا أنّ اللّه سبحانه ذمّ إبليس وأبا لهب وغيرهما ، وهذا وارد على القاضي وقومه ، سواء كان الحسن والقبح عقليّين أم شرعيّين ، لامتناع كون فعل اللّه تعالى قبيحا بقبح عقلي أو شرعي.
ص: 329
ولا نعقل ما ذكره الخصم وأصحابه أنّ الفعل الواحد الشخصي يكون حسنا بالنسبة إلى فاعله المؤثّر فيه ، قبيحا بالنسبة إلى محلّه الذي لا أثر فيه أصلا.
كما إنّه لا معنى لجعل المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه أشبه باللغو ، إذ كيف يمكن إثبات صدورها ممّن لم يوجدها ونفي صدورها عن خالقها وموجدها؟! وهل معنى للخلق إلّا الصدور والإيجاد؟!
هذا ، ويمكن أن يريد المصنّف بهذا الوجه الإشكال على دعوى القاضي صدور وصف المعصية من العبد ، لا الإشكال على دعواه صدور أصل الفعل من اللّه تعالى كما بيّنّا.
فيكون معنى كلامه : إنّ أصل الفعل إذا كان صادرا عن اللّه سبحانه كما زعمه القاضي ، بطل قوله بصدور وصف المعصية عن العبد ؛ لأنّ فعل اللّه تعالى لا يوصف بالقبيح ، فلا يوصف بالمعصية ، ويلزمه انتفاء المعصية عن العبد ، كما يلزمه أن لا يحسن من اللّه سبحانه ذمّ إبليس وسائر العصاة ، والحال أنّ اللّه تعالى قد ذمّهم.
وأمّا قوله : « يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّه إذا لم يطّلع على كلمات القائل ومحلّه من العلم ، فكيف حكم بأنّ هذا مراده؟!
على أنّ الشيء المجهول الذي أثبته إن كان للعبد تأثير فيه ، بطل مذهبهم ، وإلّا بطل التكليف والبعثة والعقاب!
* * *
ص: 330
قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :
ذهبت الإمامية والمعتزلة كافّة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعل (2).
وقالت الأشاعرة هنا قولا غريبا عجيبا ، وهو : إنّ القدرة لا توجد قبل الفعل ، بل مع الفعل ، غير متقدّمة عليه لا بزمان ولا بآن (3).
فلزمهم من ذلك محالات ، منها : تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ الكافر مكلّف بالإيمان إجماعا منّا ومنهم.
فإن كان قادرا عليه حال كفره ، ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه.
ص: 331
وإن لم يكن قادرا عليه ، لزمهم تكليف ما لا يطاق.
وقد نصّ اللّه تعالى على امتناعه فقال : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (1).
والعقل دلّ عليه ، وقد تقدّم (2).
وإن قالوا : إنّه غير مكلّف حال كفره ، لزم خرق الإجماع ؛ لأنّ اللّه تعالى أمره بالإيمان ، بل عندهم أنّه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلّفا؟!
* * *
ص: 332
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة حادثة مع الفعل ، وإنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به ، إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه ...
وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن ، فلنفرض وجوده فيه .. فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك ، بل هي حال الفعل ، هذا خلف محال ..
لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارنا يستلزم اجتماع النقيضين ، أعني كونه متقدّما وغير متقدّم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال ، فلا يكون ممكنا ، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات.
وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله لم يكن مقدورا قبله ، فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر ..
فتعيّن أن تكون موجودة معه ، وهو المطلوب (2).
هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى.
وأمّا ما ذكر من لزوم المحالات أنّ الكافر مكلّف بالإيمان بالإجماع ، فإن كان قادرا على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم ..
وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق.
ص: 333
فجوابه : إنّا نختار أنّه غير قادر على الإيمان حال الكفر ، ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ شرط صحّة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلّف به متعلّقا للقدرة ، أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل في الإيمان ، فإنّه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه ، لكنّ تركه بالتلبّس بضدّه - الذي هو الكفر - مقدور له حال كونه كافرا (1).
* * *
ص: 334
ما ذكره من دليل الأشاعرة هو عين ما في « المواقف » وشرحها بألفاظه (1) ، وقد أشكلا فيه بما أغفله الخصم إضاعة للحقّ.
وحاصله : إنّه إن كان المراد بوجود الفعل قبل وجوده هو وجوده بشرط كونه قبل الوجود ، فهو مسلّم المحاليّة ، ولا كلام فيه.
وإن كان المراد به وجوده في زمان عدم الفعل بدلا عن العدم ، فهو ليس بمحال.
وأمّا ما أجاب به عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، فهو مبنيّ على ما ذهبوا إليه من تعلّق القدرة بطرف دون آخر (2) ، وهو باطل.
ولو سلّم فقدرة الكافر إنّما تعلّقت بترك الإيمان ، والمطلوب تعلّقها بالإيمان ، ليكون ممّا يسع المكلّف الذي نفت الآية التكليف بغيره.
وبالضرورة : إنّ مجرّد تعلّق القدرة بالكفر وبترك الإيمان لا يجعل الإيمان ممّا يسع المكلّف ومصداقا له.
وأجيب عن أصل الإشكال بأنّ الكافر مكلّف في الحال بالإيمان في ثاني الحال.
وفيه : مع أنّه مناف لما يزعمونه - كما ستعرف - من أنّ التكليف مع
ص: 335
الفعل : أنّ المفروض تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره ، لا في ثاني الحال ؛ ولو سلّم ، فإن كان ثاني الحال حال كفر أيضا ، بقي الإشكال ، وإن كان حال إيمان ، فالإيمان واجب حينئذ لا مقدور ؛ لأنّ الشيء إذا وجد وجب.
ومنه يعلم وجه تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ؛ لأنّ المكلّف به ليس بمقدور قبل وجوده وواجب حينه (1).
وقد صحّح القوشجي تشنيعهم بتقرير أنّه قبل الإتيان غير مقدور ، وحينه يحصل الامتثال ، وحينئذ فهو أيضا وارد بالنسبة إلى التكليف بالإيمان (2).
* * *
ص: 336
قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - (1) :
ومنها : الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الحاجة إلى القدرة إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، وهذا إنّما يتحقّق حال العدم ؛ لأنّ حال الوجود هي حال الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة به إلى القدرة.
على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة ألبتّة ؛ لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو اللّه تعالى (2).
فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول ؛ لأنّه خلاف مذهبهم.
* * *
ص: 337
وقال الفضل (1) :
الحاجة إلى القدرة اتّصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار ، حتّى يصحّ كونه محلّا للثواب والعقاب ، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل ، لا يتحقّق له صورة الاختيار ، واللّه حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى.
ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولا.
* * *
ص: 338
إذا لم تكن القدرة مؤثّرة ، فكيف يعلم وجودها؟! وكيف يخرج عن الاضطرار؟! ومن أين تكون مصحّحة للثواب والعقاب؟! على أنّ الثواب عندهم تفضّل محض ، والعقاب تصرّف في الملك بلا حاجة إلى القدرة (1).
وأمّا ما زعمه من أنّه لو لم تكن القدرة حادثة لا تتحقّق له صورة الاختيار ، فخطأ ؛ إذ لا يتوقّف إيجاد صورة الاختيار على وجود القدرة إذا لم يكن لهما أثر أصلا كما زعموا ، على أنّه لا فائدة في صورة الاختيار بلا تأثير ، كما لا نتصوّر حكمة في خلق القدرة غير التأثير.
ولو سلّم فالبحث عنها - بلحاظ جهة التأثير - فضول.
* * *
ص: 339
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إلزام حدوث قدرة اللّه تعالى أو قدم العالم ؛ لأنّ القدرة مقارنة للفعل ، وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال ..
لأنّ قدرة اللّه تعالى يستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما.
ولأنّ القدم مناف للقدرة ؛ لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر.
ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد والكلام في أحكامها ، مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل ألبتّة ، وإنّه لا مؤثّر غير اللّه تعالى ، فأيّ فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل ، إذا كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة للتأثير؟!
وقال أبو عليّ ابن سينا رادّا عليهم : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود » (2).
* * *
ص: 340
وقال الفضل (1) :
حاصل هذا الاعتراض : إنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة اللّه تعالى أو قدم مقدوره ، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته ، أو من قدم قدرته قدم مقدوره ، وكلاهما باطل ؛ بل قدرته أزلية إجماعا ، متعلّقة في الأزل بمقدوراته.
فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا (2).
وأجاب شارح « المواقف » عن هذا الاعتراض بأنّ « القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهيّة للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا ، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم الحادثة عليه.
ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقا معنويا لا يترتّب عليه وجود الفعل ، ولها تعلّق آخر به حال حدوثه ، تعلّقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من قدمها مع تعلّقها المعنوي قدم آثارها ، فاندفع الإشكال بحذافيره » (3).
وأمّا ما ذكره من التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل ، فبالحريّ أن يتعجّب من تعجّبه ؛ لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد ، وهي من صفات الكمال.
ص: 341
فالبحث عنها لكونها من الأعراض والكيفيات النفسانية وعدم كونها مؤثّرة في الفعل ، من جملة أحوالها المحمولة عليها ، فلم لا يبحث عنها؟!
وأمّا قوله : ( أن لا فرق بينها وبين اللون ) ؛ فقد أبطلنا هذا القول في ما سبق مرارا ، بأنّ اللون لا نسبة له إلى الفعل ، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار ، ويخرج بها العبد من الجبر المطلق ، ويترتّب على فعله الثواب والعقاب والتكليف ؛ واللّه أعلم.
قال الإمام الرازي : القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة (1) الحيوانية ، وهي القوّة العضلية التي هي بحيث متى انضمّ إليها إرادة أحد الضدّين ، حصل ذلك الضدّ ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر ، حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء ، وهي قبل الفعل.
والقدرة أيضا تطلق على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معا وإلّا اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ؛ وذلك لاختلاف الشرائط ... وهذه القدرة مع الفعل ؛ لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثّر التامّ (2).
ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولذلك حكم بأنّها مع الفعل ، وأنّها لا تتعلّق بالضدّين.
والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد القوّة العضلية ، فلذلك قالوا بوجودها
ص: 342
قبل الفعل وتعلّقها بالأمور المتضادّة ، فهذا وجه الجمع بين المذهبين (1).
وبهذا يخرج جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود » فإنّه غير قادر ، بمعنى أنّه لم يحصل له بعد القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضلية.
* * *
ص: 343
لا أثر لمخالفة القدرة القديمة للحادثة في الماهيّة ؛ لأنّ دليل الأشاعرة السابق المانع من تقدّم القدرة الحادثة آت في القديمة أيضا ، كدليلهم الآخر الآتي في كلام القوشجي.
على أنّ المخالفة ممنوعة بمقتضى مذهبهم ؛ لأنّ القدرتين من الأعراض واقعا في مذهبهم ، والعرض لا يبقى زمانين عندهم.
قال القوشجي : « احتجّت الأشاعرة على أنّ القدرة مع الفعل لا قبله بوجهين :
أحدهما : إنّها عرض ، والعرض لا يبقى زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لا نعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلّة ، وهو محال.
وأجيب عنه : أمّا أوّلا : فبالنقض بقدرة اللّه تعالى ، وما يقال من أنّ العرض لا يطلق على صفاته تعالى ، وأنّ صفاته ليست مغايرة لذاته ، فممّا لا يجدي نفعا ، ولأنّ الكلام في المعاني لا في إطلاق الألفاظ » (1).
وأمّا قول شارح « المواقف » : « ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل ... » إلى آخره (2).
ففيه : إنّه إذا جاز ذلك في القديمة فليجز مثله في الحادثة ، بأن تكون
ص: 344
نفسها وتعلّقها المعنوي متقدّمين على الفعل كما هو المطلوب ، إذ لا ندّعي تقدّمها على الفعل بتعلّقها الموجب لوجوده.
وأمّا ما أجاب به الخصم عن تعجّب المصنّف ، فقد مرّ ما فيه ، من أنّ البحث عن تقدّمها أو مقارنتها ، إنّما هو فرع تأثيرها ومبنيّ عليه ، فإذا زعموا أنّها غير مؤثّرة ، كان بحثهم عن جهة التقدّم والمقارنة فضولا ، وإن كان البحث عنها من جهة أخرى صحيحا.
وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة واللون ..
ففيه : إنّ المطلوب هو الفرق بالنسبة إلى الدخل بالفعل ، لا الفرق بأيّ وجه كان ، وما ذكره من صورة الاختيار ، قد عرفت أنّه لا فائدة فيه مع عدم تأثير القدرة.
على أنّه لا يتوقّف خلق صورة الاختيار على خلق القدرة بعد فرض عدم الأثر لهما.
كما إنّ القدرة بلا تأثير لا تصحّح العقاب والثواب ، ولا تخرج العبد عن الجبر الحقيقي.
وأمّا كلام الرازي ، فهو في الحقيقة تسليم منه لخصومهم ؛ لأنّ محلّ النزاع هو المعنى الأوّل ، الذي لا يخالف المعنى الثاني بذات القدرة ، وإنّما يخالفه بعدم اجتماع شرائط تأثيرها.
كما إنّ احتمال الرازي لإرادة الأشعري للمعنى الثاني خطأ ، كما ذكره شارح « المواقف » ؛ لأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثّرة عند الأشعري ، فكيف يقال : إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير؟!
وأمّا ما ذكره من أنّه يخرج بهذا جواب ابن سينا ..
ففيه : ما حكاه السيّد السعيد عن ابن سينا في كلام له متّصل بهذا
ص: 345
الجواب ، فإنّه صرّح به بأنّ : القدرة ليست إلّا القوّة التي يكون لها التأثير بالقوّة ، وردّ على من فسّرها بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير.
ونقل السيّد رحمه اللّه أيضا عن ابن سينا أنّه أبطل القول بأنّ القدرة مع الفعل ، حيث إنّه في فصل القوّة والفعل والقدرة والعجز ، من « إلهيّات الشفاء » قال : « وقد قال بعض الأوائل - وغاريقون منهم - : إنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم.
وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير.
فالقائل بهذا القول كأنّه يقول : إنّ القاعد ليس يقوى على القيام ، أي :
لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم؟! وإنّ الخشب ليس بجبلّته أن ينحت بابا ، فكيف ينحت؟!
وهذا القائل لا محالة غير قوي على أنّ يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى » (1).
* * *
ص: 346
قال المصنّف - عطّر اللّه مرقده - (1) :
ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فإنّهم قالوا : القدرة غير صالحة للضدّين (2) ، وهذا مناف لمفهوم القدرة ، فإنّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك.
فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير ، لم يكن الآخر مقدورا ، فلم يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك.
* * *
ص: 347
وقال الفضل (1) :
مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين ، بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله.
بل قالوا : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورين مطلقا ، سواء كانا متضادّين أو متماثلين أو مختلفين ، لا معا ولا على سبيل البدل ، بل القدرة الواحدة لا تتعلّق إلّا بمقدور واحد ، وذلك لأنّها مع المقدور (2).
ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر.
ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة (3).
وأنا أقول : ولعلّ النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي ، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلّقا بمقدور واحد ، وهو الكائن عند حدوث الفعل ، فكلّ فرد له متعلّق.
والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلّقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا تعلّق واحد.
والمعتزلي لا يقول : إنّ الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث
ص: 348
وحصل منه الفعل ، فعين ذلك الفرد يتعلّق بضده ، بل يقول : إنّ القدرة الحادثة مطلقا تتعلّق بالضدّين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ، فالنزاع لفظي ؛ تأمّل.
وأمّا ما ذكره من : « أنّه يوجب عدم كون القادر قادرا ؛ لأنّه إذا لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون مضطرّا لا قادرا ».
فالجواب عن ذلك : إنّه إن أريد بكونه مضطرّا أنّ فعله غير مقدور له ، فهو ممنوع ، وإن أريد به أنّ مقدوره ومتعلّق قدرته متعيّن ، وأنّه لا مقدور له بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه ..
ولا منازعة لنا في تسميته مضطرّا ، فإنّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا يرى أنّ من أحاط به بناء من جميع جوانبه ، بحيث يعجز عن التقلّب من جهة إلى أخرى ، فإنّه قادر على الكون في مكانه بإجماع منّا ومنهم ، مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره (1).
* * *
ص: 349
لا يخفى أنّ تعلّق القدرة بالشيء قد يكون بمعنى أنّه إن شاء فعله فعله ، وإن شاء تركه تركه ، وهو معنى صحّة الطرفين وصلاحيّتهما.
وقد يكون بمعنى تأثيرها في متعلّقها ، وهذا بالضرورة لا يقع بالطرفين ؛ لأنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، لعدم إمكان اجتماعهما.
ولا ريب أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في المعنى الأوّل ، إذ لو كان مقصود الأشاعرة هو المعنى الثاني ، لاستدلوا بما هو ضروري ، من أنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، ولم يحتاجوا إلى كلفة بنائه على مقارنة القدرة للمقدور التي تمحّلوا للاستدلال عليها.
وحينئذ فلا وجه لما زعمه الخصم من كون النزاع لفظيا ؛ لأنّه إذا كان محلّ النزاع هو التعلّق بالمعنى الأوّل كما عرفت ، فلا بدّ أن يكون المراد هو القدرة المطلقة ؛ لأنّها هي التي تصلح للنقيضين ، لا فرد القدرة الخاصّ الجامع لشرائط التأثير ؛ لأنّه إنّما يكون فردا خاصّا عند التأثير بأحد الطرفين ، فلا يمكن أن يصلح في هذا الحين للتأثير بالطرف الآخر.
ولا يخفى أنّ هذا الذي جمع به الخصم وأظهر التفرّد به راجع إلى ما جمع به الرازي ؛ لأنّ القدرة المطلقة هي القوّة العضلية ، وفردها هو القوّة
ص: 350
المستجمعة لشرائط التأثير (1).
وأمّا ما أجاب به عن إلزام المصنّف ، فمناف لما توهّمه من كون النزاع لفظيا ، إذ لو سلّموا تعلّق القدرة المطلقة بالطرفين ، كما هو محلّ دعوى المصنّف ، لقال : نحن لا نمنع هذا حتّى ينافي مفهوم القدرة ، وإنّما نمنع تعلّق فردها بالطرفين وهو لا ينافي مذهبكم.
ولكن قد يعذر الخصم على إتيان هذه المنافاة ؛ لأنّه لا يعرف من الاستدلال والردّ إلّا ما في « المواقف » وشرحها ، كما هو دأبه في هذا الكتاب ، وقد وجد هذا الكلام في « شرح المواقف » فأورده بلفظه جهلا بأنّه ينفي ما توهّمه (2).
ثمّ إنّه واضح البطلان ؛ لأنّا نختار منه الشقّ الأوّل من ترديده ، ونحكم بسفسطة مانعه ، إذ لو كان الفعل الذي لا يتمكّن فاعله من تركه مقدورا له ، لكان كلّ فعل تلبّس به الشخص ولم يقدر على تركه مقدورا له ، وكذا كلّ ترك تلبّس به ولم يقدر على نقيضه ..
فيكون من سقط من شاهق قادرا على هذا السقوط في حين السقوط ، وكان تارك الطيران إلى السماء قادرا على الترك ، وهو عين السفسطة.
ومن هذا القبيل مثال البناء الذي ذكره ، فإنّ دعوى قدرة من أحاط به البناء وعجز عن التقلّب شبيهة بدعوى القدرة في هذه الأمثلة.
نعم ، هو قادر على الكون في البناء المذكور ، وعلى السقوط في
ص: 351
المثال السابق ، قبل الكون وقبل السقوط ، وأمّا حينهما فهما غير مقدورين له في هذا الحين ..
وضرورة العقلاء حاكمة بذلك ، ودعوى الإجماع منّا ومنهم مع وضوح الكذب علينا غير غريبة!
* * *
ص: 352
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله ، بل كلّ قادر فإنّه مريد ؛ لأنّها صفة تقتضي التخصيص ، وأنّها نفس الداعي (2).
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فأثبتوا صفة زائدة عليه (3).
وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها ؛ لأنّ الفعل إذا كان صادرا عن اللّه تعالى ومستندا إليه ، وكان لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى ، فأيّ دليل حينئذ يدلّ على ثبوت الإرادة؟! وكيف يمكن ثبوتها لنا؟!
ص: 353
لأنّ طريق الإثبات هو أنّ القادر كما يقدر على الفعل ، كذا يقدر على الترك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والترك ، وإنّما يتخصّص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التابع.
فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة.
فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز له اتّباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات؟!
وهل يشكّ عاقل في أنّه قادر مريد ، وأنّه فرق بين حركاته الإرادية وحركة الجماد؟!
وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربّه؟!
وهل تتمّ له المحاجّة عند اللّه تعالى بأنّي اتّبعت هؤلاء ، ولا يسأل يومئذ كيف قلّدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله؟!
وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز مطلقا؟!
فكيف لأمثال هؤلاء؟!
فما يكون جوابه غدا لربّه؟!
وما علينا إلّا البلاغ المبين!
وقد طوّلنا في هذا الكتاب ليرجع الضالّ عن زلله ، ويستمرّ المستقيم على معتقده.
* * *
ص: 354
وقال الفضل (1) :
هذا المطلب لا يتحصّل مقصوده من عباراته الركيكة ، والظاهر أنّه أراد أنّ الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة ؛ لأنّ إسناد الفعل إلى اللّه تعالى ، وأنّه لا مؤثّر إلّا هو ، يوجب عدم إثبات صفة الإرادة.
وقد علمت في ما سلف بطلان هذا ، فإنّ وجود القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة ، وكونهما غير مؤثّرتين في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد - كما مرّ مرارا - واللّه أعلم.
وما ذكره من الطامّات قد كرّره مرّات ، ومن كثرة التطويل الذي كلّه حشو حصل له الخجل ، وما أحسن ما قلت في تطويلاته شعرا :
لقد طوّلت والتطويل حشو *** وفي ما قلته نفع قليل
وقالوا الحشو لا التطويل لكن *** كلامك كلّه حشو طويل
* * *
ص: 355
لم يخف على المصنّف أنّ وجود القدرة والإرادة في العبد ضروري ، كيف وقد صرّح به هنا ، وصرّح في ما سبق بأنّهما مؤثّران بالضرورة؟!
ولكن لمّا علم من حالهم أنّهم يكابرون الضرورة ، ويطالبون بإقامة الأدلّة على الأمور البديهية ، كما كابروا في أمر تأثيرهما وفي غيره من الأمور السابقة ، جرى على منوالهم في المقام ، وألزمهم بعدم وجود الدليل على وجود القدرة والإرادة ، بناء على مذهبهم من كون المؤثّر هو اللّه تعالى وحده ، بل يلزمهم الحكم بعدم وجود الإرادة ، إذ لا يتصوّر وجه حاجة إليها غير تخصيص أحد الطرفين المقدورين.
فإذا منعوا صلاحية القدرة للطرفين وقالوا : إنّها هي المخصّصة لأحدهما ، لم يكن معنى لتخصيص الإرادة ، فيلزمهم نفي وجود ما علم وجوده بالضرورة ، وينسدّ طريق ثبوته ، لا سيّما واللّه سبحانه لا يفعل العبث.
ودعوى الأشاعرة ترتّب التكليف والثواب والعقاب على وجودها المجرّد عن التأثير ، قد عرفت بطلانها.
وأمّا ما نسبه إلى المصنّف من الطامّات ، وإيراد الحشو في العبارات ، فهو موكول إلى المنصف.
وكفاك في معرفة تضلّعه في البيان وسموّ مداركه ، ما سمّاه شعرا واستحسنه من هذين البيتين ونحوهما!!
* * *
ص: 356
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
من طبع المحلّ (1).
وقال بعض المعتزلة (2) : لا فعل للعبد إلّا الفكر (3).
وقال النظّام : لا فعل للعبد إلّا ما يوجد في محلّ قدرته ، وما يجاورها فهو واقع بطبع المحلّ (4).
وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد من فعل اللّه تعالى (5).
وقد خالف الكلّ ما هو معلوم بالضرورة عند كلّ عاقل ..
فإنّا نستحسن المدح والذمّ على المتولّد كالمباشر ، كالكتابة والبناء والقتل ، وغيرها.
وحسن المدح والذمّ فرع على العلم بالصدور عنّا ، ومن كابر في حسن مدح الكاتب والبنّاء المجيدين في صنعتهما ، البارعين فيها ، فقد كابر مقتضى عقله (6).
* * *
ص: 358
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ، ورأوا فيها ترتّبا ، قالوا بالتوليد ، وهو أن يوجد فعل لفاعله فعلا آخر ، نحو حركة اليد وحركة المفتاح.
والمعتمد في إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد جميع الكائنات إلى اللّه تعالى ابتداء.
وأمّا ترتّب المدح والذمّ للعبد ؛ فلأنّه محلّ للفعل ومباشر وكاسب له.
وكذا ما يترتّب على فعله (2) وإن أحدثه اللّه تعالى بقدرته ، فلا يلزم مخالفة الضرورة كما مرّ مرارا.
* * *
ص: 359
فيه ما عرفت أنّه لا يصحّ إسناد جميع أفعال العباد إلى اللّه سبحانه ، وأنّ الكسب لا يغني في دفع شيء من الإشكالات السابقة ، إذ لا أثر للعبد فيه كأصل الفعل ، لاستناد جميع الكائنات عندهم إلى اللّه سبحانه.
وحينئذ فلا محلّ لمدح العبد وذمّه على المتولّد بطريق أولى ؛ لأنّه فعل اللّه تعالى بلا أثر للعبد فيه أصلا عندهم.
* * *
ص: 360
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
قد عرفت بطلان اللزوم (1) فيلزمه بطلان اللازم ، على أنّ اللزوم ممنوع ؛ لأنّ توقّف صحّة التكليف على القدرة لا يستدعي إلّا تحقّق القدرة على الفعل في وقته لا في وقت التكليف ، فلا يتمّ القول بأنّ التكليف مع الفعل.
* * *
ص: 363
قال المصنّف - قدّس اللّه سرّه - (1) :
الأوّل : أن يكون التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ الفعل حال وقوعه يكون واجبا ، والواجب غير مقدور.
* * *
ص: 364
وقال الفضل (1) :
لا نسلّم أنّ الواجب غير مقدور مطلقا ، بل ما أوجبته القدرة الحادثة مقدور لتلك القدرة التي أوجبته.
وكذلك فعل العبد بعد الحصول ، فيكون مقدورا ، وإذا صار مقدورا تعلّق به التكليف ولا محذور فيه.
* * *
ص: 365
لا ريب أنّ المقدور لا يبقى على المقدوريّة حين عروض الوجوب عليه وإن كان وجوبه بالقدرة ، إذ لو بقي مقدورا لم يصر واجبا ، فإذا فرض تعلّق التكليف بالفعل حين وقوعه ، فقد تعلّق به وهو واجب غير مقدور ، وهو محال ، ومجرّد مقدوريّته بالذات لا تسوّغ التكليف به وهو في حال الوجوب.
ولو سلّم بقاؤه على المقدوريّة ، فلا ريب أنّ التكليف بالشيء محركّ وباعث عليه ، والموجود لا يتصوّر التحريك نحوه ، وكما لا يجوز التكليف بالشيء بعد وقوعه وإن كان مقدورا في نفسه ، لا يجوز التكليف به حين وقوعه.
* * *
ص: 366
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثاني : يلزم أن لا يكون أحد عاصيا ألبتّة ؛ لأنّ العصيان مخالفة الأمر ، فإذا لم يكن الأمر ثابتا إلّا حالة الفعل ، وحال العصيان هو حال عدم الفعل ، فلا يكون مكلّفا حينئذ وإلّا لزم تقدّم التكليف على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم.
لكن العصيان ثابت بالإجماع ونصّ القرآن ..
قال اللّه تعالى : ( أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (2) ..
( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ) (3) ..
( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (4) ..
ويلزم انتفاء الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة أيضا.
فلينظر العاقل من نفسه ، هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء الّذين طعنوا في الضروريات؟!
فإنّ كلّ عاقل يسلّم بالضرورة من دين محمّد صلی اللّه علیه و آله أنّ الكافر عاص ، وكذا الفاسق .. ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (5).
فأيّ سداد في هذا القول المخالف لنصوص القرآن؟!
ص: 367
وقال الفضل (1) :
الأمر عندنا أزلي ، فكيف ينسب إلينا أنّ الأمر عندنا لم يكن ثابتا إلّا حالة الفعل؟!
وأمّا قوله : « حال العصيان حال عدم الفعل » ..
فنقول : ممنوع ؛ لأنّ الأمر إذا توجّه إلى المكلّف وتعلّق به ، فهو إمّا أن يفعل المأمور به ، أو لا يفعل ، فإن فعل المأمور به فهو مطيع ، وإن فعل غيره فهو عاص.
فالطاعة والعصيان يكونان مع الفعل ، والتكليف حاصل معه ، فكيف يصحّ أن يقال : إنّ العصيان حال عدم الفعل ، والعصيان صفة الفعل ، وحاصل معه؟!
والحاصل : إنّ عصيان الأمر مخالفته ، وإذا صدر الفعل عن المكلّف ، فإن وافق الأمر فهو طاعة ، وإن خالفه فهو عصيان.
فالعصيان حاصل حال الفعل ، ولا يلزم أصلا من هذا الكلام أن لا يكون العصيان ثابتا.
وأمّا قوله : « والعصيان ثابت » ، وإقامة الدليل على هذا المدّعى ، فهو من باب طامّاته ، وإقامته الأدلّة الكثيرة على مدّعى ضروري في الشرع متّفق عليه.
ص: 368
نعم ، لمّا كان الأمر عندهم أزليا وجب أن يكون الأمر سابقا على الفعل ، فينا في قولهم بأنّ الأمر مع الفعل ، وليس علينا أن ندفع هذه المنافاة.
ودعوى أنّ الأمر أزلي وتعلّقه حادث لو صحّت لا تدفع المنافاة ، ما دام الأمر بنفسه ثابتا في الأزل كما زعموه.
ولا يمكن إنكار قولهم بأنّ الأمر مع الفعل ، بدليل ما تكلّفوه من الأجوبة عن المحالات التي ذكرها المصنّف ، فإنّهم لو ذهبوا إلى أنّ التكليف قبل الفعل لما لزمهم شيء من المحالات ، وما احتاجوا إلى تكلّف تلك الأجوبة الواهية ، التي منها ما أجاب به عن قول المصنّف رحمه اللّه : « حال العصيان حال عدم الفعل ».
وحاصله : إنّ المكلّف فاعل حال عصيانه فعلا آخر مقارنا لترك المأمور به ، فيكون العصيان حال الفعل ، وهذا مبنيّ على أنّ مرادهم بالفعل في قولهم : « التكليف مع الفعل » هو الأعمّ من فعل المأمور به وفعل ضدّه ، لزعمهم أنّ القدرة المعتبرة في التكليف هي القدرة على الشيء أو ضدّه.
وفيه : إنّهم لو أرادوا الأعمّ لا خصوص الفعل المأمور به ، لما احتاجوا إلى كلفة الجواب عن المحالات الأخر ؛ لأنّ المأمور متلبّس قبل فعل المأمور به بفعل ضدّه ، فيكون التكليف مع الفعل - أي : فعل الضدّ - وقبل فعل المأمور به ، فلا يكون تكليفا بالواجب ، ولا طلبا لتحصيل الحاصل.
فتكلّفهم بالجواب عن هذين المحالين دليل على أنّ مرادهم بالفعل
ص: 369
هو خصوص فعل المأمور به ، فيبطل ما أجاب به الخصم.
هذا ، واعلم أنّ كلام المصنّف إنّما هو في عصيان الأمر كما هو صريح كلام الخصم.
وإنّما خصّ المصنّف الإشكال به دون عصيان النهي ؛ لأنّه في مقام الردّ على قولهم : « التكليف مع الفعل ».
ومن المقرّر أنّ التكليف في النهي إنّما هو بالترك ؛ لأنّه طلب الترك ، فيكون التكليف معه لا مع الفعل ، لاعتبار القدرة على المكلّف به ، وزعمهم أنّ القدرة على الشيء معه.
وحينئذ فتقرير الإشكال على كون التكليف مع الترك هكذا : إنّ عصيان النهي مخالفته ، فإذا لم يكن النهي ثابتا إلّا حالة الترك ، وحال العصيان هي حال فعل المنهيّ عنه ، لم يكن مكلّفا حينئذ ، وإلّا لزم ثبوت النهي لا مع الترك ، وإذا لم يكن منهيّا حين فعل المنهي عنه ، لم يكن عاصيا ..
ويمكن أن يدّعي أنّ النهي متعلّق بالفعل بنحو الزجر عنه ، فيكون التكليف مطلقا على زعمهم مع الفعل ، ويكون تخصيص المصنّف للإشكال بعصيان الأمر ؛ لاختصاصه به.
وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف في إقامته الأدلّة على ثبوت العصيان قد أقامها على مدّعى ضروريّ ، فصحيح ، لكنّه أراد بها التشنيع عليهم باستلزام مذهبهم لمخالفة الضروري الثابت بالإجماع ونصّ الكتاب!
* * *
ص: 370
قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :
الثالث : لو كان التكليف حالة الفعل خاصّة لا قبله ، لزم : إمّا تحصيل الحاصل ، أو : مخالفة التقدير ، والتالي باطل بقسميه بالضرورة ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : إنّ التكليف إمّا أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف ، أو بغيره.
والأوّل : يستلزم تحصيل الحاصل.
والثاني : يستلزم تقدّم التكليف على الفعل.
وهو خلاف الفرض ، وأيضا هو المطلوب ، وأيضا يستلزم التكرار.
* * *
ص: 371
وقال الفضل (1) :
نختار أنّ التكليف بالفعل الثابت حالة التكليف.
قوله : « يستلزم تحصيل الحاصل ».
قلنا : تحصيل الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال ، وها هنا كذلك ؛ لأنّ التكليف وجد مع القدرة والفعل ، فهو حاصل بهذا التحصيل فلا محذور.
* * *
ص: 372
قد تكرّر هذا الجواب في كلماتهم ، وهو من الغرائب ؛ لأنّ الحصول المطلوب لا بدّ أن ينبعث عن الطلب.
فلو كان الحصول مقارنا للطلب ومطلوبا به ، لزم إعادة نفس الحصول ليتصوّر الانبعاث عن الطلب ، فيلزم تحصيل الحاصل وإعادته بعينه ، وهو محال.
* * *
ص: 373
ص: 374
قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :
ذهبت الإماميّة إلى أنّ شرائط التكليف ستّة :
الأوّل : وجود المكلّف ؛ لامتناع تكليف المعدوم ، فإنّ الضرورة قاضية بقبح أمر الجماد ، وهو إلى الإنسان أقرب من المعدوم (2).
وقبح أمر الرجل عبيدا يريد أن يشتريهم وهو في منزله وحده ، ويقول : يا سالم قم ، ويا غانم كل ، ويعدّه كلّ عاقل سفيها ، وهو إلى الإنسان الموجود أقرب.
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا تكليف المعدوم ومخاطبته والإخبار عنه (3) ، فيقول اللّه في الأزل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
ص: 375
رَبَّكُمُ ) (1) ، ولا شخص هناك ..
ويقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (2) ، ولا نوح هناك.
وهذه مكابرة في الضرورة.
* * *
ص: 376
وقال الفضل (1) :
قد عرفت جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني ، وأنّ الخطاب موجود في الأزل قبل وجود المخاطبين بحسب الكلام النفساني (2) ، ويحدث التعلّق عند وجودهم.
ولا قبح في هذا ، فإنّ من زوّر في نفسه كلاما ليخاطب به العبيد الّذين يريد أن يشتريهم بأن يخاطبهم بعد الشراء لا يعدّ سفيها.
ثمّ ما ذكر أنّ الأشاعرة جوّزوا تكليف المعدوم ، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق أنّهم يقولون : إنّ التكليف مع الفعل ، وليس قبله تكليف.
فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع الفعل ، فهل يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم؟!
* * *
ص: 377
تقدّم في ذلك المبحث أنّ خطاب المعدوم وتكليفه سفه بالضرورة ، إذ لا يصحّان من دون مخاطب ومكلّف ، ولا أثر لحدوث التعلّق لو عقلنا التعلّق (1).
والقياس على من زوّر في نفسه كلاما ، خطأ ظاهر ؛ لأنّ المزوّر ليس بمخاطب ، وإنّما هو متصوّر ومقدّر لخطاب في المستقبل ، فلا يقاس عليه الكلام النفسي الذي هو خطاب وتكليف في الأزل.
وأمّا ما ذكره من المنافاة ، فقد عرفت أنّه ليس على المصنّف رفع التنافي عن أقوالهم ، وكيف يمكن إنكارهم لتكليف المعدوم وقد قالوا : إنّه مأمور ومنهي في الأزل؟!
* * *
ص: 378
قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :
الثاني : كون المكلّف عاقلا ؛ فلا يصحّ تكليف الرضيع ، ولا المجنون المطبق (2).
وخالفت الأشاعرة في ذلك وجوّزوا تكليف هؤلاء (3).
فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن يؤاخذ المولود حال ولادته بالصلاة وتركها ، وترك الصوم والحجّ والزكاة ، وهل يصحّ مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك؟!
* * *
ص: 379
ما نسبه المصنّف إليهم هو تجويز تكليف غير العاقل ، وما نقله الخصم هو عدم الوقوع ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يمكن إنكار تجويزهم ذلك ؛ لأنّهم يجوّزون تكليف ما لا يطاق ؛ وهذا نوع منه.
ويقولون : إنّ اللّه يحكم ما يريد ، ولا يقبح منه شيء (1) ، فيجوز أن يكلّف من لا عقل له ، ويعاقبه على المخالفة.
على أنّه قد نقل عنهم السيّد السعيد ما يدلّ على أنّهم يقولون بالوقوع (2).
ولا يهمّنا أمره بعد كون ما نسبه المصنّف إليهم هو التجويز.
* * *
ص: 381
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الثالث : فهم المكلّف ؛ فلا يصحّ تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمه (2).
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فلزمهم التكليف بالمهمل وإلزام المكلّف معرفته ومعرفة المراد منه ، مع أنّه لم يوضع لشيء ألبتّة ، ولا يراد منه شيء أصلا (3).
فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه المصير إلى هذه الأقاويل؟!
* * *
ص: 382
كيف لا تصحّ نسبة المصنّف إليهم صحّة تكليف من لا يفهم الخطاب ، وقد زعموا أنّ اللّه يحكم ما يريد ولا يقبح منه شيء (1)؟!
وأمّا ما نقله الخصم ، فالظاهر أنّه في الوقوع لا الجواز ، كما يرشد إليه تفصيلهم.
وتمثيل المجوّز للثاني بما زعم وقوعه ، وهو المقطّعات كما نقله الخصم ، وإلّا فبالنظر إلى الجواز العقلي وعدمه لا وجه للتفصيل.
* * *
ص: 384
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابع : إمكان الفعل إلى المكلّف ؛ فلا يصحّ التكليف بالمحال (2).
وخالفت الأشاعرة فيه ، فجوّزوا تكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتكليف العاجز خلق مثل اللّه تعالى وضدّه وشريكه وولد له ، وأن يعاقبه على ذلك ، وتكليفه الصعود على السطح العالي بأن يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح (3).
وكفى من ذهب إلى هذا نقصا في عقله ، وقلّة في دينه ، وجرما عند اللّه تعالى ، حيث نسبه إلى إيجاد ذلك ، بل مذهبهم أنّه تعالى لم يكلّف أحدا إلّا بما لا يطاق.
أو ترى ما يكون جواب هذا القائل إذا وقف بين يدي اللّه تعالى وسأله : كيف ذهبت إلى هذا القول وكذّبت القرآن العزيز ، وإنّ فيه : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (4).
* * *
ص: 385
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في الفصل الذي ذكر فيه « تكليف ما لا يطاق » ، أنّ ما لا يطاق على ثلاث مراتب ، ولا يجوز التكليف بالوسطى دون الثالث.
والأوّل واقع بالاتّفاق ، كتكليف أبي لهب بالإيمان وهذا بحسب التجويز العقلي ، والاستقراء يحكم بأنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) ، وهذا مذهب الأشاعرة (3).
والعجب من هذا الرجل أنّه يفتري الكذب ثمّ يعترض عليه ، فكأنّه لم يتّفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة ، وسمع عقائدهم من مشايخه من الشيعة وتقرّر بينهم أنّ هذه عقائد الأشاعرة.
ثمّ لم يستح من اللّه تعالى ومن الناظر في كتابه ، وأتى بهذه الترّهات والمزخرفات.
* * *
ص: 386
سبق هناك بيان ما في دعوى الاتّفاق على وقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى.
وحقّقنا أنّا لا نجوّزه بالمراتب كلّها ، وأنّهم يجوّزونه فيها جميعا.
وأوضحنا المقام في تكليف أبي لهب بالإيمان.
وذكرنا أنّ اللّه سبحانه لم يكلّف عندهم إلّا بما لا يطاق ؛ لأنّ أفعال العباد مخلوقة له ولا أثر للعبد فيها ، فكلّها لا تطاق للعبد ولا ممّا يسعه (1) ، ومع ذلك قد كلّفه اللّه سبحانه بها ، فيكون قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) كاذبا على مذهبهم ، كما ذكره المصنّف ولم يجهله الخصم ، ولكنّه قصد بتكذيب المصنّف وإساءة الأدب معه والتجاهل بمذهبه ، التمويه وتلبيس الحقيقة.
* * *
ص: 387
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
الخامس : أن يكون الفعل ما يستحقّ به الثواب (2) ، وإلّا لزم العبث والظلم على اللّه تعالى.
وخالفت الأشاعرة فيه ، فلم يجعلوا الثواب مستحقّا على شيء من الأفعال ، بل جوّزوا التكليف بما يستحقّ عليه العقاب (3) ، وأن يرسل رسولا يكلّف الخلق فعل جميع القبائح وترك جميع الطاعات.
فيلزمهم من هذا أن يكون المطيع المبالغ في الطاعة من أسفه الناس وأجهل الجهلاء ، من حيث يتعب بماله وبدنه في فعله شيئا ربّما يكون هلاكه فيه.
وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل العقلاء حيث يتعجّل اللذّة ، وربّما يكون تركها سبب الهلاك وفعلها سبب النجاة.
فكان وضع المدارس والرّبط (4) والمساجد من نقص التدبيرات البشرية ، حيث تخسر الأموال في ما لا نفع فيه ولا فائدة عاجلة ولا آجلة.
ص: 388
وقال الفضل (1) :
شرط الفعل الذي يقع به التكليف أن يكون ممّا يترتّب عليه الثواب في عادة اللّه تعالى ، لا أنّه يجب على اللّه تعالى إثابة المكلّف المطيع ؛ لأنّه لا يجب عليه شيء ، بل جرى عادة اللّه تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، وليس للمكلّفين على اللّه تعالى دين يجب عليه قضاؤه.
ولو كان إلّا كذلك ، للزم أن يكون العباد متاجرين مع اللّه تعالى ، كالأجراء الّذين يأخذون أجرتهم عند الفراغ من العمل ، ولو لم يعط المؤجّر أجرتهم لكان ظالما وجائرا.
وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه من يعرف نعم اللّه تعالى على عباده ، ويعرف علوّ الشأن الإلهي ، وأنّ الناس كلّهم عبيد اللّه ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لهم عليه حقّ ولا استحقاق ، بل الثواب بفضله وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز.
وهل يحسن أن يقال : إنّه إذا لم يجب على اللّه تعالى إعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، تموت الناس من الجوع؟!
كذلك لا يحسن أن يقال : لو لم يجب على اللّه تعالى إثابة المطيع وجزاء العاصي ، لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، ولكان فعل الخيرات وإثارة المبرّات ضائعا عبثا؟!
ص: 389
لأنّا نقول : جرت عادة اللّه تعالى التي لا تتخلّف إلّا بسبيل خرق العادة على إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شيء.
فلم يرتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، فهل يكون من أكل الخبز فشبع ، كمن ترك أكل الخبز فجاع؟!
* * *
ص: 390
قد سبق أنّ الثواب غيبي ، فلا تصحّ دعوى العلم بالعادة فيه ..
وأمّا إحرازها بإخبار اللّه تعالى ، فغير تامّ ؛ لابتنائه على صدق كلامه تعالى ، وهو غير محقّق على مذهبهم!
مع أنّه قال تعالى : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (1) ، ولعلّ ما أخبر به من الثواب ممّا يمحوه.
فأين العادة في الثواب وإحرازها؟! لا سيّما وقد أجاز الخصم خرقها كما هو واقع في عادات الدنيا.
وأمّا ما ذكره من نفي كون الثواب دينا على اللّه تعالى ، فنحن نمنعه ونقول : إنّه دين ، أي إنّه حقّ عليه اقتضاه عدله.
وأمّا كون العباد متاجرين مع اللّه تعالى ، فهو ممّا نطق به الكتاب العزيز ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) (2) ..
وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )
إلى قوله تعالى : ( فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ) (3) ..
ص: 391
وقال تعالى : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ... ) (1) الآية ..
( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) (2) ..
( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) (3) ..
( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) (4) ..
( إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ ) (5) ..
( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) (6).
إلى غير ذلك من الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة.
وأمّا قوله : « لو لم يعط المؤجّر أجرتهم كان ظالما وجائرا » ..
فهو من مقالة أهل الحقّ التي صرّح بها الكتاب المجيد ، قال تعالى :
( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (7).
وقال تعالى : ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (8).
وقال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ
ص: 392
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (1).
وقال تعالى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (2).
وقال تعالى : ( وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (3).
وقال تعالى : ( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (4).
وقال تعالى : ( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (5).
إلى غير ذلك من الآيات المستفيضة.
وأمّا قوله : « لا يذهب إليه من يعرف نعم اللّه على عباده » ..
فإن أراد به أنّ من يعرف نعمه لا يرى أنّه مستحقّ للأجر ، فظاهر البطلان ؛ لأنّ وجوب شكر المنعم لا ينافي استحقاق الأجر على ما كلّفه به المنعم ، وإن حسن من العبد أو وجب عليه عدم المطالبة بالأجر شكرا للنعمة.
وإن أراد أنّ حصول الإنعام من اللّه تعالى كاف في صحّة التكليف منه بلا إعطاء أجر ، ليكون التكليف ناشئا من طلب المنعم جزاء نعمه بالشكر عليها ، كما عن أبي القاسم البلخي (6) ، فهو أظهر بطلانا ؛ إذ يقبح من
ص: 393
الكريم طلب جزاء نعمته من دون أن يعطيه ثوابا على ما كلّفه به ، بل يكون تكليفه بلا أجر عبثا وظلما!
ولو كان الثواب تفضّلا محضا ، لصحّ منع الثواب عن سيّد النبيّين أو مساواته فيه لسائر المؤمنين ، بل للأطفال والمجانين ، ولجاز خلق النار دون الجنّة.
وأمّا ما ذكره من مثال الموت من الجوع ؛ فإنّما لا يحسن السؤال فيه إذا ترتّب عليه فائدة للعبد ، أو كان جزاء عمله السيّئ ، وإلّا فيقبح إيلام العبد بلا فائدة له ولا ذنب منه ، ويصحّ السؤال عنه.
كما يصحّ السؤال عن ترك إثابة المطيع وجعله بمنزلة العاصي ، لكن مثل هذه الأمور ليست من فعله ولا تصدر عنه ، فلا يسأل عنها ؛ لانتفاء الموضوع.
* * *
ص: 394
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السادس : أن لا يكون حراما ؛ لامتناع كون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ؛ لاستحالة التكليف بما لا يطاق (2).
وأيضا : يكون مرادا ومكروها في وقت واحد من جهة واحدة ، وهذا مستحيل عقلا.
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا أن يكون الشيء الواحد مأمورا به منهيّا عنه ؛ لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم (3).
* * *
ص: 395
وقال الفضل (1) :
لا خلاف في أنّ المأمور به لا بدّ أن لا يكون حراما ؛ لأنّ الحرام ما نهى اللّه عنه ..
ولا يكون الشيء الواحد مأمورا به ، منهيّا عنه ، في وقت واحد ، من جهة واحدة ، ولكن إن اختلف الوقت والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض ، يجوز أن يتعلّق به الأمر في وقت من جهة ، والنهي في وقت آخر من جهة أخرى ؛ فهذا مذهب أهل السنّة.
وأمّا إمكان التكليف بما لا يطاق ، فقد سمعته غير مرّة ، وأنّه لا يقع ولم يقع.
* * *
ص: 396
قد نصدّقه في ما يتعلّق بالوقوع ، بأن لم يقولوا بوقوع الأمر بالحرام.
ولكنّ كلام المصنّف في التجويز كما لا ينكره الخصم ، وكفاهم نقصا في تجويز مثله على اللّه سبحانه ، وهو ممّا لا يجوز على أقلّ العقلاء.
* * *
ص: 397
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومن العجب أنّهم حرّموا الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا : إنّها صحيحة (2).
مع أنّ الصحيح هو المعتبر في نظر الشارع ، وإنّما يطلق على المطلوب شرعا ، والحرام غير معتبر في نظر الشارع ، مطلوب الترك شرعا.
وهل هذا إلّا محض التناقض؟!
* * *
ص: 398
وقال الفضل (1) :
الصلاة الصحيحة ما استجمعت شرائط الصحّة التي اعتبرت في الشرع ، فالصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ؛ لأنّها مستجمعة لشرائط الصحّة التي اعتبرت في الصلاة في الشرع ، وليس وقوعها في مكان مملوك غير مغصوب من شرائط صحّة الصلاة .. نعم ، من شرائطها أن تقع في مكان طاهر من النجاسات.
ولو كان من شرائط الصحّة وقوعها في مكان غير مغصوب ، لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدة ، وكان يجب قضاؤها ؛ لكونها غير معتبرة في نظر الشرع ؛ لعدم استجماعها الشرائط المعتبرة فيها.
وأمّا كونها حراما ، فلأجل أنّها تتضمّن الاستيلاء على حقّ الغير عدوانا ، فهي بهذا الاعتبار حرام ، فالحرمة باعتبار ، والصحّة باعتبار آخر ، فأين التناقض؟!
والعجب أنّه مشتهر بالدراية في المعقولات ، ولا يعلم شرائط حصول التناقض!
* * *
ص: 399
إذا أقرّوا بحرمة الصلاة في الدار المغصوبة ، لزمهم الحكم بعدم اعتبارها شرعا ، لعدم مطلوبيّتها ، فلا تصحّ ؛ لأنّ العبادة الصحيحة هي المطلوبة للشارع ، المعتبرة في نظره.
وهذه عبارة أخرى عن كون إباحة المكان شرطا في صحّة الصلاة ، فإذا حكموا بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة ثبت التناقض ؛ لأنّه يكون هذا الوجود الشخصي للصلاة في الدار المغصوبة معتبرا وغير معتبر ، صحيحا وغير صحيح ، وهو تناقض ظاهر.
* * *
ص: 400
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ذهبت الإمامية إلى أنّ الألم الذي يفعله اللّه تعالى بالعبد ، إمّا أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة ، وهو المستحقّ ؛ لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) ..
وقوله تعالى : ( أَ وَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (3) ، ولا عوض فيه.
وإمّا أن يكون على وجه الابتداء ، وإنّما يحسن فعله من اللّه تعالى بشرطين :
أحدهما : أن يشتمل على مصلحة مّا للمتألّم أو لغيره ، وهو نوع من اللطف ؛ لأنّه لو لا ذلك لكان عبثا ، واللّه تعالى منزّه عنه.
ص: 401
الثاني : أن يكون في مقابلته عوض للمتألّم يزيد على الألم ، بحيث لو عرض على المتألّم الألم والعوض اختار الألم ، وإلّا لزم الظلم والجور من اللّه سبحانه على عبيده ؛ لأنّ إيلام الحيوان وتعذيبه على غير ذنب ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور ، وهو على اللّه تعالى محال (1).
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا أن يؤلم اللّه عبده بأنواع الألم من غير جرم ولا ذنب لا لغرض وغاية ولا يوصل إليه العوض ، ويعذّب الأطفال والأنبياء والأولياء من غير فائدة ولا يعوّضهم على ذلك بشيء ألبتّة (2) ، مع أنّ العلم الضروري حاصل لنا بأنّ من فعل من البشر مثل هذا عدّه العقلاء ظالما جائرا سفيها.
فكيف يجوز للإنسان نسبة اللّه تعالى إلى مثل هذه النقائص ولا يخشى ربّه؟!
وكيف لا يخجل منه غدا يوم القيامة إذا سألته الملائكة يوم الحساب :
هل كنت تعذّب أحدا من غير استحقاق ولا تعوّضه عن ألمه عوضا يرضى به؟!
فيقول : كلّا ، ما كنت أفعل ذلك.
فيقال له : كيف نسبت ربّك إلى هذا الفعل الذي لم ترضه لنفسك؟!
* * *
ص: 402
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ الإعواض مذهب المعتزلة (2) ، ولهم على هذا الأصل اختلافات ركيكة تدلّ على فساد الأصل مذكورة في كتب القوم.
وأمّا الأشاعرة ، فذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى لا يجب عليه شيء ، لا عوض على الألم ولا غيره ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ما يشاء ، والعوض إنّما يجب على من يتصرّف في غير ملكه (3).
نعم ، جرت عادة اللّه على أنّ المتألّم بالآلام إمّا أن يكفّر عنه سيّئاته ، أو يرفع له درجاته إن لم يكن له سيّئات ، ولكن لا على طريق الوجوب عليه.
وأمّا حديث العوض في أفعال اللّه تعالى ، فقد مرّ بطلانه في ما سبق.
وأمّا تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء ، ففيه فوائد ترجع إليهم ، من رفع الدرجات وحطّ السيّئات ، كما أشير إليه في الأحاديث الصحاح ، ولكن على سبيل جري العادة لا على سبيل الوجوب ، فلا يلزم منه جور ولا ظلم.
ثمّ ما ادّعى من العلم الضروري بأنّ البشر لو عذّب حيوانا بلا عوض لكان ظالما ، فهذا قياس فاسد ؛ لأنّ البشر يتصرّف في الحيوان بما ليس له ،
ص: 403
واللّه تعالى مالك مطلق يتصرّف كيف يشاء.
ونحن لا نمنع وقوع الجزاء والمنافع ، ولكن نمنع وجوب هذا.
ونحن نقول : من يعتقد أنّ اللّه تعالى يجب عليه الإعواض عن الآلام ، إذا حضر يوم القيامة عند ربّه ، ورأى الجلال الإلهي ، والعظمة الربّانية ، والتصرّف المطلق الذي حاصل له في الملك والملكوت ، سيّما في موقف القيامة التي يقال فيها : ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (1) ، أما يكون مستحييا من اللّه تعالى أن يعتقد في الدنيا أنّه مع اللّه تعالى كالتاجر العامل ، أعطى الأعمال والآن يريد جزاء الواجب على اللّه تعالى؟! فيدّعي على اللّه في ذلك المشهد : إنّك عذّبتني وآلمتني في الدنيا ، فالآن لا أخلّيك حتّى آخذ منك العوض ؛ لأنّه واجب عليك أن تعوّضني.
فيقول اللّه تعالى : يا عبد السوء! أنا خلقتك وأنعمت عليك كيت وكيت ، أتحسبني كنت متاجرا معك ، معاملا لك ، حتّى توجب عليّ العوض؟! أدخلوا العبد السوء النار.
فيقول : هكذا علّمني ابن المطهّر الحلّي ، وهو كان إمامي ، وأنا الآن بريء منه.
فيقول اللّه تعالى : أدخلوا جميعا النار! ( كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (2).
واللّه أعلم ، وهو أصدق القائلين.
* * *
ص: 404
كم للمعتزلة من أصل خالفوا فيه العقل والنقل! كقولهم : إنّ الإمامة بالاختيار(1).
وكم لهم من أصل دلّ عليه العقل والنقل كالأصل الذي نحن فيه! وذلك لأنّ لهم ميلا إلى طريقة أمير المؤمنين ، وهوى بموالاة أعدائه.
ولذا أصابوا الحقّ في أصل هذا الأصل ، وأخطأوا في كيفيّاته ، ولو فسد الأصل بالاختلاف في جهاته لفسد الإسلام باختلاف أهله.
والأشاعرة لما جانبوا باب مدينة العلم وخالفوه بتمام جهدهم ، لم يجتمعوا مع شيعة الحقّ في كلّ الأصول المهمّة ، ولم يأخذوا بما أمروا به من التمسّك بأهل بيت العصمة.
وممّا خالفوا فيه صريح الحقّ وحكم العقل والنقل ، هذا الأصل ، بحجّة أنّ المالك المطلق يجوز له التصرّف كيف شاء بلا حدّ ولا نهاية ، ولا يلزمه بتصرّفه شيء من الأشياء.
فإن أرادوا أنّ جواز تصرّفه كذلك نفس معنى الملكية المطلقة ، فهو ظاهر البطلان ؛ لأنّ الملكية سلطنة وأمر نسبي اعتباري.
وإن أرادوا به أنّه من أحكامها وآثارها ، فهو عين المدّعى ، ومحلّ الكلام.
وكيف يكون من أحكامها جواز تعذيب العبد بلا ذنب ، وإيلامه
ص: 405
بلا عوض ، وهما منافيان لحقّ الرعاية وإنصاف المملوك؟!
فلا بدّ عقلا من ثبوت عوض عن الألم يرضى به العبد.
ولقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (1) ، ومن الرحمة إعطاء العوض على الآلام ، فيكون ممّا كتبه وأوجبه على نفسه تعالى.
وممّا يشهد بضرورة حكم العقل بوجوب العوض ، تفريع الخصم خلافا لمذهبه قوله : « فلا يلزم منه جور ولا ظلم » على ما أثبته من الفوائد في تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء ، فإنّ تفريع ذلك على هذا يستدعي لزوم الجور والظلم بدون الفوائد ، وإلّا لم يكن محلّ للتفريع.
وأمّا ما ذكره من العادة التي هي غيب ، فقد عرفت ما فيه مرارا.
وأمّا قوله : « وأمّا حديث العوض في أفعال اللّه تعالى ، فقد مرّ بطلانه » ..
ففيه : إنّه لم يتقدّم ذكر العوض على أفعال اللّه تعالى - وهي الآلام - الذي عرّفه المتكلّمون بالنفع المستحقّ ، لا على وجه التعظيم والإجلال.
وإنّما تقدّم في الشرط الخامس للتكليف ذكر الثواب على أفعال العبد المكلّف بها ، الذي عرّفوه بالنفع المستحقّ على وجه التعظيم والإجلال (2) ، فكيف يزعم أنّ حديث العوض في أفعال اللّه تعالى - الذي وقع به كلام المصنّف هنا - قد مرّ بطلانه؟!
ولكنّه اشتبه عليه الأمر وخلط من حيث لا يعلم ، وعلى هذا الخلط جرى في قوله : « كالتاجر والعامل ، أعطى الأعمال والآن يريد جزاء الواجب
ص: 406
على اللّه تعالى ، فيدّعي على اللّه في ذلك المشهد أنّك عذّبتني وآلمتني في الدنيا » ..
إذ لا ربط للآلام التي هي أفعال اللّه تعالى ، بأعمال العبد التي عملها ، ولا دخل لجزاء أحدهما بجزاء الآخر.
وأمّا قوله : « أما يكون مستحييا من اللّه تعالى أن يعتقد » ..
ففيه : إنّه لا حياء في اعتقاد الحقّ الذي دلّ عليه العقل وصرّح به الكتاب العزيز في موردي الثواب والعوض ، حيث كتب على نفسه الرحمة المستدعية لإعطائهما.
نعم ، ينبغي حياء العبد من ادّعائه بالحقّ لو كانت له حاجة إلى الدعوى ، ولكن يستحيل أن يحوج اللّه تعالى عبده المسكين إلى الدعوى ، فإنّه أسرع الحاسبين وأرحم الراحمين.
ثمّ إنّ هذا الاعتقاد والتعليم إنّما هما من فعل اللّه وحده عندهم ، فما بال ابن المطهّر يلام على التعليم وهو من اللّه تعالى ، ولا يلام عليه الخالق المؤثّر؟!!
ما هذا إلّا عجب!!
* * *
ص: 407
ص: 408
المطلب الثالث : في أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب... 5
رد الفضل بن روزبهان... 7
ردّ الشيخ المظفر... 9
المحالات التي تترتب على القول بأنّ اللّه يفعل القبيح ويخلّ بالواجب :
منها : امتناع الجزم بصدق الأنبياء... 11
رد الفضل بن روزبهان... 12
رد الشيخ المظفر... 13
ومنها :تكذيب اللّه تعالى في بعض أقواله... 14
رد الفضل بن روزبهان... 16
رد الشيخ المظفر... 18
ومنها : يلزم عدم الوثوق بوعد اللّه ووعيده... 21
رد الفضل بن روزبهان... 24
رد الشيخ المظفر... 25
إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة
المطلب الرابع : في أنّ اللّه تعالى يفعل لغرض وحكمة... 27
رد الفضل بن روزبهان... 29
رد الشيخ المظفر... 31
المحالات التي تترتب على القول بأنه لا يجوز أن يفعل اللّه شيئاً لغرض ولا لمصلحة :
ص: 409
منها : أن لا يكون اللّه محسناً إلى العباد... 36
رد الفضل بن روزبهان... 37
رد الشيخ المظفر... 38
ومنها : أن يكون خلق اللّه لجميع المنافع عبثاً... 39
رد الفضل بن روزبهان... 40
رد الشيخ المظفر... 42
ومنها : إبطال النبوّات ، وعدم الجزم بصدق الأنبياء... 44
رد الفضل بن روزبهان... 47
رد الشيخ المظفر... 49
ومنها : مخالفة الكتاب العزيز... 52
رد الفضل بن روزبهان... 54
رد الشيخ المظفر... 55
ومنها : جواز تعذيب المطيعين لله ، وإثابة العاصين له... 58
رد الفضل بن روزبهان... 59
رد الشيخ المظفر ... 61
إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي
المطلب الخامس : في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي... 63
رد الفضل بن روزبهان... 65
رد الشيخ المظفر... 67
المحالات التي تترتب على القول بأن أنواع الشرور مرادة لله تعالى وأنه راض بها 71
منها : كون العاصي مطيعاً بعصيانه... 71
رد الفضل بن روزبهان... 72
رد الشيخ المظفر... 73
ومنها : كون اللّه يأمر بما يكره... 74
ص: 410
رد الفضل بن روزبهان... 75
رد الشيخ المظفر... 76
ومنها : مخالفة النصوص القرآنية... 77
رد الفضل بن روزبهان... 78
رد الشيخ المظفر... 79
منها : عد انتفاء ثبوب الداعي إلى الطاعات... 80
رد الفضل بن روزبهان... 81
رد الشيخ المظفر... 82
وجوب الرضا بالقضاء اللّه تعالى
المطلب السادس : في وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى... 85
رد الفضل بن روزبهان... 87
رد الشيخ المظفر... 88
اللّه تعالى لا يعاقب على فعله
المطلب السابع : في أنّ اللّه تعالى لا يعاقب الغير على فعله... 91
رد الفضل بن روزبهان... 93
رد الشيخ المظفر... 95
امتناع تكليف ما لا يطاق
المطلب الثامن : في امتناع تكليف ما لا يطاق... 97
رد الفضل بن روزبهان... 99
رد الشيخ المظفر... 101
إرادة النبيّ موافقة لإرادة اللّه
المطلب التاسع : في أنّ إرادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله موافقة لإرادة اللّه تعالى... 105
ص: 411
رد الفضل بن روزبهان... 107
رد الشيخ المظفر... 108
إنّا فاعلون
المطلب العاشر : في إنّا فاعلون... 111
رد الفضل بن روزبهان... 113
رد الشيخ المظفر... 117
المحالات التي تترتب على القول بأن لا مؤثر إلا اللّه تعالى:
منها : مكابرة الضرورة... 126
رد الفضل بن روزبهان... 127
رد الشيخ المظفر... 128
ومنها : إنكار حسن مدح المحسن وقبح ذمّه ، وحسن ذمّ المسيء... 129
رد الفضل بن روزبهان... 131
رد الشيخ المظفر... 133
ومنها : إنه يقبح من اللّه تعلى تكليفنا فعل الطاعات وآجتناب المعاصي... 135
رد الفضل بن روزبهان... 136
رد الشيخ المظفر... 138
ومنها : أن يكون اللّه سبحانه أظلم الظالمين... 140
رد الفضل بن روزبهان... 141
رد الشيخ المظفر... 143
ومنها : تجويز النتفاء ما علم بالضرورة ثبوته... 145
رد الفضل بن روزبهان... 146
رد الشيخ المظفر... 147
ومنها : تجويز ما قضت الضرورة بنفيه... 148
رد الفضل بن روزبهان... 149
رد الشيخ المظفر... 150
ص: 412
ومنها : مخالفة النصوص القرآنية... 152
الأوّل : الآيات الدالّة على إضافة الفعل إلى العبد... 152
رد الفضل بن روزبهان... 154
رد الشيخ المظفر... 156
الثاني : ما ورد في القرآن من مدح المؤمن ، وذم الكافر... 158
رد الفضل بن روزبهان... 160
رد الشيخ المظفر... 161
الثالث : الآيات الدالة على أن أفعال اللّه ليست مثل أفعال المخلوقين... 163
رد الفضل بن روزبهان... 165
رد الشيخ المظفر... 167
الرابع : الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي... 170
رد الفضل بن روزبهان... 173
رد الشيخ المظفر... 175
الخامس : الآيات الدالة على تخيير العباد في أفعالهم وتعلقها بمشيئتهم... 177
رد الفضل بن روزبهان... 179
رد الشيخ المظفر... 180
السادس : الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال والمسارعة إليها... 181
رد الفضل بن روزبهان... 183
رد الشيخ المظفر... 184
السابع : الآيات التي حثّ اللّه فيها على الاستعانة به... 185
رد الفضل بن روزبهان... 187
رد الشيخ المظفر... 188
الثامن : آيات اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم... 189
رد الفضل بن روزبهان... 190
ردالشيخ المظفر... 191
التاسع : آيات اعتراف الكفار والعصاة بأن كفرهم ومعاصيهم كانت منهم... 192
ص: 413
رد الفضل بن روزبهان... 193
رد الشيخ المظفر... 194
العاشر : الآيات الدالة على تحسر الكفار في الآخرة... 195
رد الفضل بن روزبهان... 196
رد الشيخ المظفر... 197
ما هو جواب من ترك هذه الآيات القرآنية؟... 198
رد الفضل بن روزبهان... 199
رد الشيخ المظفر... 200
المحالات التي تترتب على القول بأنّ لا مؤثر إلا اللّه تعالى:
ومنها : مخالفة الحكم الضروي الحاصل لكل أحد... 205
رد الفضل بن روزبهان... 206
رد الشيخ المظفر... 207
ومنها : مخالفة إجماع الأنبياء والرسل... 208
رد الفضل بن روزبهان... 209
رد الشيخ المظفر... 210
ومنها : سد باب الاستدلال على وجود الصانع... 211
رد الفضل بن روزبهان... 213
رد الشيخ المظفر... 215
ومنها : تجويز أن يكون اللّه ظالماً عابثاً... 219
رد الفضل بن روزبهان... 220
رد الشيخ المظفر... 221
ومنها : يلزم إلحاق اللّه بالسفهاء والجهال... 223
رد الفضل بن روزبهان... 224
رد الشيخ المظفر... 225
ومنها : مخالفة الضرورة... 226
رد الفضل بن روزبهان... 227
ص: 414
رد الشيخ المظفر... 228
ومنها : أن يكون اللّه اشدّ ضرراً على العبد من الشيطان... 229
رد الفضل بن روزبهان... 230
رد الشيخ المظفر... 231
ومنها : مخالفة العقل والنقل... 232
رد الفضل بن روزبهان... 233
رد الشيخ المظفر... 234
ومنها : مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر... 236
رد الفضل بن روزبهان... 237
رد الشيخ المظفر... 238
ومنها : صحة وصل اللّه بأنه ظالم جائر ... 240
رد الفضل بن روزبهان... 241
رد الشيخ المظفر... 242
ومنها : يلزم منه المحال... 243
رد الفضل بن روزبهان... 245
رد الشيخ المظفر... 246
ومنها : تجويز أن يكون اللّه جاهلاً أو محتاجاً... 247
رد الفضل بن روزبهان... 248
رد الشيخ المظفر... 249
ومنها : يلزم من اللّه الظلم... 250
رد الفضل بن روزبهان... 252
رد الشيخ المظفر... 253
ومنها : مخالفة القرآن والسنة والإجماعو الأدلة العقلية... 255
رد الفضل بن روزبهان... 257
رد الشيخ المظفر... 259
ص: 415
الجواب عن شبه المجبّرة
المطلب الحادي عشر : في نسخ شبههم... 263
رد الفضل بن روزبهان... 265
رد الشيخ المظفر... 267
نقض الشبه الأولى - الوجه الأول... 268
رد الفضل بن روزبهان... 269
رد الشيخ المظفر... 270
الوجه الثاني... 272
رد الفضل بن روزبهان... 273
رد الشيخ المظفر... 274
الوجهان الثالث والرابع... 276
رد الفضل بن روزبهان... 278
رد الشيخ المظفر... 281
نقض الشبة الثانية - الوجهان الأول والثاني... 284
رد الفضل بن روزبهان... 285
رد الشيخ المظفر... 288
معارضة الشبهة الأولى... 292
رد الفضل بن روزبهان... 293
رد الشيخ المظفر... 294
معارضة الشبهة الثانية... 295
رد الفضل بن روزبهان... 296
رد الشيخ المظفر... 298
ما هو جواب من تمسك بهذه الشبهات... 301
رد الفضل بن روزبهان... 302
رد الشيخ المظفر... 303
ص: 416
إبطال الكسب
المطلب الثاني عشر : في إبطال الكسب... 305
رد الفضل بن روزبهان... 307
رد الشيخ المظفر... 310
الرد الأول على القائلين بالكسب... 313
رد الفضل بن روزبهان... 314
رد الشيخ المظفر... 316
الردان الثاني والثالث... 322
رد الفضل بن روزبهان... 325
رد الشيخ المظفر... 328
القدرة متقدّمة على الفعل
المطلب الثالث عشر : في أنّ القدرة متقدّمة على الفعل... 331
رد الفضل بن روزبهان... 333
رد الشيخ المظفر... 335
المحالات التي تترتب على القول بأن القدرة تكون مع الفعل :... 337
ومنها : الاستغناء عن القدرة... 337
رد الفضل بن روزبهان... 338
رد الشيخ المظفر... 339
ومنها : حدوث قدرة اللّه ، أو قدم العالم... 340
رد الفضل بن روزبهان... 341
رد الشيخ المظفر... 344
القدرة صالحة للضدّين
المطلب الرابع عشر : في أن القردة صالحة للضدين... 347
ص: 417
رد الفضل بن روزبهان... 348
رد الشيخ المظفر... 350
الإنسان مريد لأفعاله
المطلب الخامس عشر : في الإرادة... 353
رد الفضل بن روزبهان... 355
رد الشيخ المظفر... 356
المتولّد من الفعل من جملة أفعالنا
المطلب السادس عشر : في المتولّد... 357
رد الفضل بن روزبهان... 359
رد الشيخ المظفر... 360
التكليف سابق على الفعل
المطلب السابع عشر : في التكليف... 361
رد الفضل بن روزبهان... 362
رد الشيخ المظفر... 363
المحالات التي تترتب على القول بأن التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله
منها : التكليف بغر المقدور... 364
رد الفضل بن روزبهان... 365
رد الشيخ المظفر... 366
ومنها : أن لا يكون أحد معاصياً... 367
رد الفضل بن روزبهان... 368
رد الشيخ المظفر... 369
ومنها : مخالفة التقدير... 371
رد الفضل بن روزبهان... 372
ص: 418
رد الشيخ المظفر... 373
شرائط التكليف
المطلب الثامن عشر : في شرائط التكليف... 375
الشرط الأوّل : وجود المكلف... 375
رد الفضل بن روزبهان... 377
رد الشيخ المظفر... 378
الشرط الثاني : كون المكلف عاقلاً... 379
رد الفضل بن روزبهان... 380
رد الشيخ المظفر... 381
الشرط الثالث : فهم المكلف... 382
رد الفضل بن روزبهان... 383
رد الشيخ المظفر... 384
الشرط الرابع : إمكان الفعل إلى المكلف... 385
رد الفضل بن روزبهان... 386
رد الشيخ المظفر... 387
الشرط الخامس : أن لا يكون الفعل حراماً... 388
رد الفضل بن روزبهان... 389
رد الشيخ المظفر... 391
الشرط السادس : أن لا يكون الفعل حراماً... 395
رد الفضل بن روزبهان... 396
رد الشيخ المظفر... 397
حرمة الصلاة في الدار مغصوبة... 398
رد الفضل بن روزبهان... 399
رد الشيخ المظفر... 400
ص: 419
الإعواض على الآلام
المطلب التاسع عشر : في الإعواض... 401
رد الفضل بن روزبهان... 403
رد الشيخ المظفر... 405
فهرس المحتويات... 409
ص: 420
المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1423 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-357-8
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الرابع
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
ص: 5
ص: 6
قال المصنّف - طيّب اللّه مرقده - (1) :
وفيها مباحث :
إعلم أنّ هذا أصل عظيم في الدين ، وبه يقع الفرق بين المسلم والكافر ، فيجب الاعتناء به ، وإقامة البرهان عليه ، ولا طريق في إثبات النبوّة على العموم وعلى الخصوص إلّا بمقدّمتين :
إحداهما : إنّ النبيّ ادّعى رسالة ربّ العالمين له إلى الخلق ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له.
ص: 7
والثانية : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق (1).
وهاتان المقدّمتان لا يقول بهما الأشاعرة.
أمّا الأولى : فلأنّه يمتنع أن يفعل اللّه لغرض من الأغراض ، أو لغاية من الغايات ، فلا يجوز أن يقال : إنّه تعالى فعل المعجزة على يد مدّعي الرسالة لغرض تصديقه ، ولا لأجل تصحيح دعواه ، بل فعلها مجّانا.
ومثل هذا لا يمكن أن يكون حجّة للنبيّ ؛ لأنّا لو شككنا في أنّ اللّه فعله لغرض التصديق أو لغيره ، لم يمكن الاستدلال على صدق مدّعي النبوّة مع هذا الشكّ ، فكيف يحصل الجزم بصدقه مع الجزم بأنّه لم يفعله لغرض التصديق؟!
وأمّا الثانية : فلأنّها لا تتمّ على مذهبهم ؛ لأنّهم يسندون القبائح كلّها إلى اللّه تعالى ، ويقولون : كلّ من ادّعى النبوّة - سواء كان محقّا أم مبطلا - فإنّ دعواه من فعل اللّه وأثره ، وجميع أنواع الشرك والمعاصي والضلال في العالم من عند اللّه تعالى ، فكيف يصحّ مع هذا أن يعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه؟! فجاز أن يكذب في دعواه ، ويكون هذا الإضلال من اللّه سبحانه كغيره من الأضاليل التي فعلها! (2).
فلينظر العاقل : هل يجوز له أن يصير إلى مذهب لا يمكن إثبات نبوّة نبيّ من الأنبياء به ألبتّة ، ولا يمكن الجزم بشريعة من الشرائع؟! واللّه تعالى قد قطع أعذار المكلّفين بإرسال الرسل ، فقال : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
ص: 8
عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (1).
وأيّ حجّة أعظم من هذه الحجّة عليه تعالى؟! وأيّ عذر أعظم من أن يقول العبد لربّه : إنّك أضللت العالم ، وخلقت فيهم الشرور والقبائح ، وظهر جماعة خلقت فيهم كذب ادّعاء النبوّة ، وآخرون ادّعوا النبوّة ، ولم تجعل لنا طريقا إلى العلم بصدقهم ، ولا سبيل لنا إلى معرفة صحّة الشرائع التي أتوا بها ؛ فيلزم انقطاع حجّة اللّه تعالى؟!
وهل يجوز لمسلم يخشى اللّه وعقابه ، أو يطلب الخلاص من العذاب ، المصير إلى هذا القول؟!
نعوذ باللّه من الدخول في الشبهات.
* * *
ص: 9
وقال الفضل (1) :
هذا الكلام المموّه الخارج عن طريق المعقول قد ذكره قبل هذا بعينه في مسألة خلق الأعمال (2) ، وقد أجبناه هناك (3) ، ولمّا أعاده في هذا المقام لزمنا مؤنة الإعادة في الجواب ، فنقول :
أمّا المقدّمة الأولى من المقدّمتين اللتين ادّعى توقّف ثبوت النبوّة عليهما ، وهي : « إنّ النبيّ ادّعى الرسالة ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له » ..
فقد بيّنّا قبل هذا أنّ غاية إظهار المعجزة والحكمة والمصلحة فيه :
تصديق اللّه تعالى النبيّ في ما ادّعاه.
وهذا يتوقّف على كون إظهار اللّه ( المعجزة مشتملا ) (4) على الحكمة والمصلحة والغاية (5) ، لا على إثبات الغرض والعلّة الغائية الموجبة للنقص والاحتياج ، فثبت المقدّمة الأولى على رأي الأشاعرة وبطل ما أورده عليهم.
وأمّا المقدّمة الثانية ، وهي : « إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو
ص: 10
صادق » ..
فهذا شيء تثبته الأشاعرة ويستدلّون عليه بالدلائل الحقّة الصريحة ، ولا يلزم من خلق اللّه القبائح - التي ليست بقبيحة بالنسبة إليه - أن يكون كلّ مدّع للنبوّة - سواء كان محقّا أو مبطلا - دعواه من اللّه.
وماذا يريد من أنّ دعوى المحقّ والمبطل من اللّه؟!
إن أراد أنّه من خلق اللّه ، فلا كلام في هذا ؛ لأنّ كلّ فعل يخلقه اللّه.
وإن أراد أنّه مرضيّ من اللّه ، واللّه يرسل المحقّ والمبطل ، فهذا باطل صريح ، فإنّ اللّه لا يرضى لعباده الكفر والضلال وإن كان بخلقه وتقديره كما سمعت مرارا.
وكلّ من يدّعي النبوّة ، وهو مبعوث من اللّه ، فقد جرت عادة اللّه على إظهار المعجزة بيده لتصديقه ، ولم تتخلّف عادة اللّه عن هذا ، وجرت عادته - التي خلافها جار مجرى المحال العادي - بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب.
والحاصل : إنّ الأشاعرة يقولون بعدم وجوب شيء على اللّه ؛ لأنّه المالك المطلق ولا يجب عليه شيء (1).
وما ذكره من أنّه كيف يعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه؟
فنقول : بتصديق المعجزة يعرف هذا.
قوله : « يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب ».
قلنا : ماذا تريدون من هذا الجواز؟! الإمكان العقليّ ، فنقول : يمكن
ص: 11
هذا عقلا ؛ أم تريدون أنّه يجوّزه العقل بحسب العادة ، فنقول : هذا ممتنع عادة ، ويفيدنا العلم العادي بأنّ هذا لا يجري في عادة اللّه ، كالجزم بأنّ الجبل الفلاني لم يصر الآن ذهبا ، فلا يلزم ما ذكر.
وأمّا ما أطال من الطامّات والترّهات ، فنعمل بقوله تعالى : ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (1).
* * *
ص: 12
يرد على ما أجاب به عن المقدّمة الأولى : إنّه لا يلزم على مذهبهم ثبوت المصلحة والفائدة للمعجزة ، إذ لا يجب عليه تعالى شيء ، ولا يقبح منه شيء ، فيجوز أن يفعل اللّه سبحانه المعجزة بلا فائدة أصلا!
على أنّ الفائدة والحكمة في خلق المعجزة على يد الكاذب يمكن أن تكون من جنس الحكمة والفائدة في خلق الكفر وسبّه تعالى وسبّ رسله ، بأن يكون خلق المعجزة على يد الكاذب دخيلا في النظام الكلّي ، كخلق الكفر وسبّه تعالى بزعمهم ، فلا يلزم أن تكون المصلحة في خلق المعجزة تصديق النبيّ في ما ادّعاه.
وبالجملة : الالتزام بأنّ التصديق هو مصلحة المعجزة ، موقوف على إثبات الغرض لله تعالى ، أو وجوب مثل هذه المصلحة عليه ، فإذا أنكروهما لم يمكن الالتزام بأنّ التصديق هو المصلحة.
على أنّا لا نعرف من كون المصلحة مرعيّة لله تعالى إلّا أنّها غرض وغاية له.
وما أشار إليه من أنّ العلّة الغائية توجب النقص والحاجة ، قد عرفت بطلانه ، وأنّ المصلحة تعود إلى العبد ، فلا يلزم النقص في حقّه سبحانه ، ولا الحاجة له ، كما سبق موضّحا في المطلب الرابع (1).
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى المقدّمة الثانية ، من أنّ هذا يثبته الأشاعرة
ص: 13
ويستدلّون عليه بالدلائل الحقّة ...
ففيه : إنّا لا ننكر إثباتهم له ، لكنّا نقول : إنّه ليس لازما على مذهبهم ؛ لقولهم : بأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، وأنّه خلق جميع أضاليل الكون.
وليته ذكر لنا بعض تلك الدلائل الحقّة لهم ، فإنّا لا نعرف دليلا لهم غير دعوى العادة التي ستعرف ما فيها.
وما ذكره من الترديد في مراد المصنّف : نختار منه الشقّ الأوّل ، وهو : إنّ اللّه تعالى خلق دعوى المحقّ والمبطل.
ونقول : إذا كان اللّه خالقا لدعواهما ولم يقبح عليه ، فما المانع من أن يخلق لكلّ منهما معجزة ، ويضلّ الناس بمعجزة الكاذب ، كما خلق سائر الأضاليل وكفرهم به وبالأنبياء الصادقين؟!
ويمكن أن نختار الشقّ الثاني ونقول : قد حقّقنا أنّ خالق الشيء وموجده لا بدّ أن يكون مريدا له ، راضيا به ، فيلزم من خلق اللّه تعالى لدعوى المبطل رضاه بها ، وإلّا فما الذي ألجأه إلى خلقها؟!
كما يلزم من خلقه للكفر رضاه به ، وعليه يكون قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ ... لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (1) كاذبا على مذهبهم.
وأمّا ما ذكره من حديث العادة ، فباطل ؛ لجواز كذب كلّ ذي معجزة فضلا عن بعضهم ، ولا علم لنا بعادة اللّه في الأنبياء ، فإنّها غيب ، ولا طريق غيرها بزعمهم إلى العلم بصدق ذي المعجزة.
ولو سلّم تحقّق العادة ، فإنّما هو عند من يعرف الشرائع ، وأمّا من
ص: 14
لا يعرفها ولم يقرّ بنبيّ قطّ ، فلا معنى لتحقّق العادة عندهم ، وحينئذ فكيف تثبت عندهم على رأي الأشاعرة نبوّة ذي المعجزة؟!
على أنّ خرق العادة جائز وواقع كما في ذات المعجزة ، ففي حين تخلّف (1) العادة بالمعجزة ، كيف يقطع بعدم تخلّفها في النبوّة؟!
وبالجملة : إذا كان تعالى لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ، وجوّزنا عقلا إظهار المعجزة على يد الكاذب ، لم يمكن إحراز العادة والعلم بصدق واحد من الأنبياء - فضلا عن الجميع - ولا سيّما مع زعم الأشاعرة صدور جميع الأضاليل عن اللّه سبحانه!
فظهر لك أيّ الكلامين هو المموّه الخارج عن طريق المعقول!
* * *
ص: 15
ص: 16
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر ، منزّهون عن المعاصي ، قبل النبوّة وبعدها ، على سبيل العمد والنسيان ، وعن كلّ رذيلة ومنقصة ، وما يدلّ على الخسّة والضعة (2).
وخالفت أهل السنّة كافّة في ذلك ، وجوّزوا عليهم المعاصي (3)..
وبعضهم : جوّزوا الكفر عليهم قبل النبوّة وبعدها (4) ..
وجوّزوا عليهم السهو والغلط (5) ..
ص: 17
ونسبوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى السهو في القرآن بما يوجب الكفر .. فقالوا : إنّه صلّى يوما وقرأ في سورة النجم عند قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (1) « تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » (2).
وهذا اعتراف منه صلی اللّه علیه و آله بأنّ تلك الأصنام ترتجى الشفاعة منها.
نعوذ باللّه من هذه المقالة التي نسب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إليها ، وهي توجب الشرك.
فما عذرهم عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد قتل جماعة كثيرة من أهله وأقاربه على عبادة الأصنام ، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم ، وينسب إليه هذا القول الموجب للكفر والشرك وهو في مقام إرشاد العالم؟!
وهل هذا إلّا أبلغ أنواع الضلال؟!
وكيف يجامع هذا قوله تعالى : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (3)؟!
وهل أبلغ من هذه الحجّة ، وهي أن يقول العبد : إنّك أرسلت رسولا
ص: 18
يدعو إلى الشرك والكفر ، وتعظيم الأصنام وعبادتها؟!
ولا ريب أنّ القائلين بهذه المقالة صدق عليهم قوله تعالى : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (1).
* * *
ص: 19
وقال الفضل (1) :
إنّ أهل الملل والشرائع بأجمعهم أجمعوا على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة في ما يبلّغونه عن اللّه تعالى إلى الخلائق ، إذ لو جاز عليهم التقوّل والافتراء في ذلك عقلا لأدّى إلى إبطال دلالة المعجزة ، وهو محال.
وفي جواز صدور الكذب عنهم في ما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف ، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق (2) وكثير من الأئمّة الأعلام ، لدلالة المعجزة على صدقهم في الأحكام ، فلو جاز الخلف في ذلك لكان نقضا ؛ لدلالة المعجزة ، وهو ممتنع.
وأمّا سائر الذنوب فهي إمّا كفر أو غيره ..
أمّا الكفر فأجمعت الأمّة على عصمتهم منه قبل النبوّة وبعدها ، ولا خلاف لأحد منهم في ذلك.
وجوّز الشيعة للأنبياء إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ، وذلك باطل قطعا ؛ لأنّه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلّية وترك تبليغ الرسالة ، إذ أولى الأوقات بالتقيّة وقت الدعوة ؛ للضعف وكثرة المخالفين (3).
انظر إلى هؤلاء المتصلّفين يجوّزون إظهار الكفر على الأنبياء للتقيّة ،
ص: 20
وحفظ أرواحهم ، وترك حقوق اللّه ، ثمّ يشنّعون على أهل السنّة أنّهم يجوّزون السهو على الأنبياء!
وأمّا الصغائر والكبائر ، كلّ منهما إمّا أن يصدر عمدا ، وإمّا أن يصدر سهوا ..
أمّا الكبائر ، فمنعه الجمهور من المحقّقين ، والأكثر على أنّه ممتنع سمعا.
قال القاضي والمحقّقون من الأشاعرة : إنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ، إذ لا دلالة للمعجزة عليه ، فامتناع الكبائر منهم عمدا مستفاد من السمع وإجماع الأمّة قبل ظهور المخالفين في ذلك.
وأمّا صدورها سهوا ، أو على سبيل الخطأ في التأويل ، فالمختار عدم جوازه.
وأمّا الصغائر عمدا ، فجوّزه الجمهور.
وأمّا سهوا ، فهو جائز اتّفاقا بين أصحابنا وأكثر المعتزلة ، إلّا الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة ، ممّا ينسب فاعله إلى الدناءة والخسّة والرذالة.
وقالت الشيعة : لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة ، لا عمدا ولا سهوا ، ولا خطأ في التأويل ، وهم مبرّأون عنها قبل الوحي ، فكيف بعد الوحي؟! (1).
ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهوا وعمدا من وجوه ، ونحن نذكر بعض الأدلّة ، لا للاحتجاج بها على الخصم ؛ لأنّه
ص: 21
موافق في هذه المسألة ، بل لرفع افترائه على الأشاعرة في تجويز الكبائر على الأنبياء :
الأوّل : لو صدر عنهم ذنب لحرم اتّباعهم في ما صدر عنهم ، ضرورة أنّه يحرم ارتكاب الذنب ، واتّباعهم واجب ؛ للإجماع ، ولقوله تعالى : ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (1).
وهذا الدليل يوجب وجوب عصمتهم عن الصغائر والكبائر ، ذكره الأشاعرة ، وفيه موافقة للشيعة.
فعلم أنّ الأشاعرة يوافقون في وجوب عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر ، لكن في الصغائر تجويز عقلي ؛ لدليل آخر ، كما سيأتي في تحقيق العصمة.
الثاني : لو أذنبوا لردّت شهادتهم ، إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، واللازم باطل بالإجماع ؛ لأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم إلى يوم القيامة؟!
وهذا الدليل يدلّ على وجوب عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر ؛ لأنّها توجب الردّ ، لا نفس صدور الصغيرة.
الثالث : إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم ، لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... وإيذاؤهم حرام إجماعا (2).
وأيضا : لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (3) ...
ص: 22
وتحت قوله تعالى : ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (1) ..
وتحت قوله تعالى لوما ومذمّة : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (2) ..
وقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (3).
فيلزم كونهم موعدين بعذاب جهنّم وملعونين ومذمومين ، وكلّ ذلك باطل إجماعا.
وهذا الدليل - أيضا - يدلّ على عصمتهم من كلّ الذنوب ، وغيرها من الدلائل التي ذكرها الإمام الرازي (4).
والغرض : إنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء ، من لزوم إبطال حجّة اللّه ، فمذهب الأشاعرة بريء عنه ، وهم ذكروا هذه الدلائل.
وأمّا تجويز الصغائر التي لا تدلّ على الخسّة ؛ فلأنّ الصغيرة النادرة عمدا معفوّة عن مجتنب الكبائر (5) ، والنبيّ بشر ، ولا يبعد من البشر وقوع هذا.
ثمّ اعلم أنّ تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحقيق معنى العصمة ،
ص: 23
وهو عند الأشاعرة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق اللّه فيهم ذنبا (1).
فعلى هذا يكون الأنبياء معصومين من الكفر والكبائر والصغائر الدالّة على الخسّة والرذالة ، وأمّا غيرها من الصغائر فإنّهم يقولون : لا يجب عصمتهم عنها ؛ لأنّها معفوّ عنها - بنصّ الكتاب - من تارك الكبيرة أنّ : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) (2).
دلّت الآية على أنّ مجتنب الكبيرة والفاحشة معفوّ عنه ما صدر من الصغائر عنه ، وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض ونشأ منها فلا يخلو عن الكدورات الترابية التي تقتضي الذنب والغفلة ، فكانت بعض الذنوب تصدر عنهم بحسب مقتضى الطبع ، ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به.
وأمّا العصمة عند الحكماء ، فهي ملكة تمنع عن الفجور ، وتحصل هذه ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات ، وتتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي ، والنواهي الزاجرة عمّا لا ينبغي ، ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند من يجوّز تعمّدها ، ومن ترك الأولى والأفضل فإنّها لا تمنع العصمة التي هي الملكة ، فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا ثمّ
ص: 24
تصير ملكات بالتدريج (1).
ثمّ إنّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ، مثابون به ، ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك ، إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه.
وأيضا : فقوله : ( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ ) (2) ، يدلّ على مماثلتهم لسائر الناس في ما يرجع إلى البشرية ، والامتياز بالوحي لا غير ، فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر (3).
هذا حقيقة مذهب الأشاعرة ، ومن تأمّل فيه علم أنّه الحقّ الصريح المطابق للعقل والنقل ، وكلّ ما ذكره هذا الرجل على سبيل التشنيع فلا يأتي عليهم ، كما علمته مجملا ، وستعلمه مفصّلا عند أقواله.
وما ذكره من قصّة سورة النجم وقراءة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما لم يكن من القرآن ، فهذا أمر لم يذكر في الصحاح ، بل هو مذكور في بعض التفاسير ..
وذكروا : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا اشتدّ عليه إعراض قومه عن دينه ، تمنّى أن يأتيه من اللّه ما يقرّبه إليهم ويستميل قلوبهم ، فأنزل اللّه عليه سورة النجم ، ولمّا اشتغل بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (4) « تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » ، فلمّا سمعه قريش فرحوا به وقالوا : قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر ؛ فأتاه جبرئيل بعد ما أمسى وقال له : تلوت ما لم أتله عليك! فحزن النبيّ
ص: 25
لذلك حزنا شديدا ، وخاف من اللّه خوفا عظيما ، فنزل لتسليته : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ... ) الآية (1) (2).
هذا ما ذكره بعض المفسّرين ، واستدلّ به من جوّز الكبائر على الأنبياء.
والأشاعرة أجابوا عن هذا بأنّه - على تقدير حمل التمنّي على القراءة - هو من إلقاء الشيطان ، يعني أنّ الشيطان قرأ هذه الآية المنقولة ، وخلط صوته بصوت النبيّ حتّى ظنّ أنّه قرأها.
قالت الأشاعرة : وإن لم يكن من إلقاء الشيطان ، بل كان النبيّ قارئا لها ، كان ذلك كفرا صادرا عنه ، وليس بجائز إجماعا.
وأيضا : ربّما كان ما ذكر من العبارة قرآنا ، ويكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة ، فنسخ تلاوته للإيهام (3).
ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها علم أنّ هذه الكلمات لا يلتئم وقوعها بعد ذكر الأصنام ولا في أثنائها ، ولا يمكن ( للبليغ أن ) (4) يتفوّه به في مدح الأصنام عند ذكر مذمّتها.
نعم ، يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة ، وهو قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) (5).
ص: 26
فها هنا يناسب أن يقرأ : « تلك الغرانيق العلى * وإنّ شفاعتهنّ لترتجى » ، فعلم أنّه لو صحّ هذا لكان في وصف الملائكة ، ثمّ نسخ للإيهام أو لغيره ، واللّه أعلم.
هذه أجوبة الأشاعرة ، فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته.
وأمّا المغاربة (1) فهم يمنعون صحّة هذا عن أصله.
وذكر الشيخ الإمام القاضي أبو الفضل موسى بن عياض اليحصبي المغربي في كتاب « الشفا بتعريف حقوق المصطفى » أنّ هذا من مفتريات الملاحدة ، ولا أصل له ، وبالغ في هذا كلّ المبالغة (2).
* * *
ص: 27
إعلم أنّ ما ذكره في نقل الإجماع والأقوال إنّما هو من كلام « المواقف » وشرحها (1) ، وقد ذكره بلفظه ، سوى إنّه حذف بعض ما يضرّه كما سننبّه عليه إن شاء اللّه تعالى.
فبحثنا حقيقة مع صاحب « المواقف » وشارحها ، فنقول : يرد عليهما أمور :
[ الأمر ] الأوّل : إنّ ما زعماه من إجماع أهل الملل على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذّب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة ... إلى آخره ، خطأ ظاهر ؛ لجهات :
[ الجهة ] الأولى : إنّ الإجماع المذكور ممنوع لما حكاه ابن حزم عن بعض الكرّامية : إنّهم يجوّزون على الأنبياء الكذب في التبليغ (2) كما ستعرفه في كلامه الآتي إن شاء اللّه تعالى.
الجهة الثانية : إنّ ما ذكراه من الكذب في دعوى الرسالة ، إن أرادا به الكذب في دعواها حين الرسالة ، فهو غير معقول ؛ لأنّه بعد فرض الرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم عنه.
وإن أرادا به الكذب في دعوى الرسالة قبل الرسالة ، فغير صحيح ؛ لأنّ المعجزة اللاحقة لا تدلّ على عصمتهم عنه حينئذ ، إذ لا يلزم من وقوع الكذب - في ذلك منهم قبل الرسالة - إبطال دلالة المعجزة على ثبوت
ص: 28
الرسالة في وقتها ، اللّهمّ إلّا أن يريدا العصمة حين الرسالة عن الكذب في دعوى عدمها ، فله وجه لكنّه خلاف ظاهر كلامهما.
الجهة الثالثة : إنّ دعوى أنّ المعجزة تدلّ عقلا على عصمتهم عن الكذب في ما يبلّغونه عن اللّه تعالى ممنوعة على مذهبهم ، إذ يجوز عقلا بناء على قولهم : « لا يجب على اللّه شيء ، ولا يقبح منه شيء » (1) ، أن يرسل رسولا بالافتراء عليه ، مضافا إلى أنّه يمكن عقلا أن يظهر اللّه المعجزة على يد الكاذب في دعوى الرسالة ، فلا محالية عقلا في إبطال دلالة المعجزة على الرسالة.
ودعوى القطع العادي (2) بعدم ظهورها على يد الكاذب ، وبعدم إرسال رسول بالافتراء على اللّه تعالى ، غير نافعة ؛ لأنّ الكلام في تجويز العقل!
على أنّك عرفت أنّ هذه العادة غيب لا يمكن العلم بها ، إذ لعلّ كلّ من أظهر المعجزة كاذب في دعوى الرسالة ، أو أنّه مرسل بالافتراء ، فما لم نقل بأنّ ذلك قبيح على اللّه تعالى لم يمكن القطع بنبوّة صاحب المعجزة وبعدم كونه مرسلا بالافتراء.
واعلم أنّه قد وقع الخلاف بين الأشاعرة في جواز الكذب سهوا على الأنبياء في دعوى الرسالة والتبليغ.
فجوّزه القاضي أبو بكر ، الذي هو من أعاظم الأشاعرة (3) ، كما
ص: 29
صرّح بنسبته إليه في « المواقف » (1) ، لكنّ الخصم أسقط ذكره سترا على قومه!!
الأمر الثاني : إنّ ما زعماه من إجماع الأمّة على عصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوّة وبعدها خطأ ، لما ذكراه بأنفسهما من أنّ الأزارقة (2) أجازوا على الأنبياء الذنب ، وكلّ ذنب عندهم كفر (3).
وقال الشارح : ويحكى عنهم أنّهم قالوا بجواز بعثة نبيّ علم اللّه أنّه يكفر بعد نبوّته (4)!
ولو فرض أنّ مرادهما بالكفر الذي ادّعيا الإجماع على العصمة عنه هو الشرك ونحوه ، لا ما يعمّ كلّ ذنب على قول من يجعله كفرا ، فكثير من أهل السنّة قالوا بعدم عصمة الأنبياء عن هذا الكفر الخاصّ ..
منهم : الغزّالي ، في بحث أفعال الرسول من كتابه الموسوم ب-
ص: 30
« المنخول في الأصول » (1) ، على ما نقله عنه السيّد السعيد (2).
قال الغزّالي : « والمختار ما ذكره القاضي ، وهو : إنّه لا يجب عقلا عصمتهم ، إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظره ، وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة ، فإنّ مدلولها صدق اللّهجة في ما يخبر عن اللّه تعالى [ فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب في ما يخبر به عن الربّ تعالى ] (3) لا عمدا ولا سهوا ، ومعنى التنفير باطل ، فإنّا نجوّز أن ينبّئ اللّه تعالى كافرا ويؤيّده بالمعجزة » (4).
ومنهم : ابن تيميّة ، كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى في الآية الثامنة من الآيات التي استدلّ بها المصنّف على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام (5).
ومنهم : قوم من الحشوية (6) ، والكرّامية (7) ، وابن فورك (8) ،
ص: 31
والباقلّاني ، وبرغوث (1) ، والسدّي (2) ..
قال ابن حزم في أوّل الجزء الرابع من الملل والنحل : « اختلف الناس هل تعصي الأنبياء أم لا؟
فذهب طائفة إلى أنّ رسل اللّه يعصون اللّه في جميع الكبائر والصغائر [ عمدا ] ، حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وهذا قول الكرّامية من المرجئة ،
ص: 32
وقول ابن (1) الطيّب الباقلّاني من الأشعرية ومن اتّبعه ، وهو قول اليهود والنصارى.
وسمعت من يحكي عن بعض الكرّامية أنّهم يجوّزون على الرسل الكذب في التبليغ أيضا.
وأمّا هذا الباقلّاني ، فإنّا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السّمناني قاضي الموصل (2) ، أنّه كان يقول : إنّ كلّ ذنب ، دقّ أو جلّ ، فإنّه جائز على الرسل ، حاشا الكذب في التبليغ فقط!
قال : وجائز عليهم أن يكفروا!
قال : وإذا نهى النبيّ عن شيء ثمّ فعله ، فليس دليلا على أنّ ذلك النهي قد نسخ ؛ لأنّه قد يفعله عاصيا لله تعالى! .. قال : وليس لأصحابه أن ينكروا عليه!
وجوّز أن يكون في أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله من هو أفضل من محمّد صلی اللّه علیه و آله مذ بعث إلى أن مات » (3).
ص: 33
وقال ابن أبي الحديد (1) : « وقال قوم من الخوارج : يجوز أن يبعث اللّه تعالى من كان كافرا قبل الرسالة ، وهو قول ابن فورك من الأشاعرة ، لكنّه زعم أنّ هذا الجائز لم يقع.
وقال قوم من الحشوية : قد كان محمّد صلی اللّه علیه و آله كافرا قبل البعثة ، واحتجّوا بقوله تعالى : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) (2).
وقال برغوث المتكلّم - وهو أحد النجّارية (3) - : لم يكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مؤمنا باللّه تعالى قبل أن يبعثه ؛ لأنّه تعالى قال له : ( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ ) (4).
وروي عن السدّي في قوله تعالى : ( وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) (5) ، قال وزره : الشرك ، فإنّه كان على دين قومه أربعين سنة.
وقال بعض الكرّامية في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : ( قالَ
ص: 34
أَسْلَمْتُ ) (1) ، أنّه أسلم يومئذ ولم يكن قبل ذلك مسلما.
ومثل ذلك قال اليمان بن رباب (2) متكلّم الخوارج » (3).
والظاهر أنّ كلّ من قال بعدم عصمتهم عن الكبائر عقلا فقط ، أو عقلا وسمعا ، قائل بعدم عصمتهم عن الكفر ، فإنّه من الكبائر وأظهرها ، ويشهد لهذا أمران :
الأوّل : تعبير القائل بعدم عصمتهم عن الكبائر عقلا بأنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ، كما نقله نفس صاحب « المواقف » وشارحها ، في كلامهما المذكور عن القاضي ومحقّقي الأشاعرة (4).
الثاني : استدلال من قال بعدم عصمتهم عن الكبائر بما يوجب كفر الأنبياء ، كرواية الغرانيق ..
وقصّة يونس حيث ظنّ أن لن يقدر عليه اللّه ، والشكّ في قدرة اللّه كفر (5) ..
وقول إبراهيم : ( هذا رَبِّي ) (6) لمّا رأى الشمس والقمر بازغين ..
وقوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) (7) حيث شكّ في قدرة
ص: 35
اللّه تعالى (1).
بل يلزم جميع الجمهور القول بعدم عصمة الأنبياء عن الكفر ؛ لما رووه في صحاحهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر » (2) ، فإنّ مقتضى هذا الخبر صلوح عمر للنبوّة وقد كان كافرا في أكثر عمره!
وفي رواية أخرى لهم : « لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر » (3).
ومن الغريب أنّ صاحب « المواقف » وشارحها ، مع قولهما بعصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوّة وبعدها أجابا عن الاستدلال بقول إبراهيم : ( هذا رَبِّي ) (4) ، بقولهما : « إنّه صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة اللّه تعالى ، وكم بينه وبين النبوّة ، فلا إشكال إذ يختار أنّه لم يعتقده فيكون كذبا صادرا قبل البعثة » (5)!!
فإنّ هذا الكلام يقتضي أنّه كان شاكّا في ربّه ؛ لأنّه قال : ( هذا رَبِّي ) قبل تمام النظر ، ومن المعلوم أنّ الشكّ في اللّه كفر.
وليت شعري مع هذا كيف يقولان بعصمة الأنبياء عن الكفر قبل
ص: 36
النبوّة؟!
وكيف يدّعيان الإجماع على هذه العصمة حتّى غرّا الخصم بدعوى الإجماع عليها ، إذ جاء بكلامهما بعينه؟!
وهذا كلّه ممّا يدلّ على أنّ كلامهم لم يصدر عن يقين في النقل ، ولا اعتقاد للحقّ ؛ ولذا ناقضا نفسيهما في عصمة الأنبياء عن الكبائر بعد النبوّة ، فإنّهما قالا بها أوّلا ، ثمّ بعد ذلك في مقام نفي أهليّة أبي بكر للخلافة ؛ لأنّه منع فاطمة إرثها وقد ادّعته ، وهي معصومة
لقول النبيّ : « فاطمة بضعة منّي » (1)، قالا : « وأيضا عصمة النبيّ قد تقدّم ما فيها » (2).
الأمر الثالث : إنّ ما نسباه إلى الشيعة من جواز إظهار الكفر تقية (3) ، كذب صريح ، فإنّا لم نسمع ذاهبا منهم إلى ذلك ، وهذه كتبهم بين أيدينا فليروه أصحابهم عن أحدها ، ولعلّهما أخذاه من قول الشيعة بجواز التقية لأتباع الأنبياء ، فقاسوا عليه جوازها في إظهار الكفر من الأنبياء ؛ وهو باطل.
ص: 37
نعم ، هو مذهب بعض أهل السنّة كما هو صريح ابن حزم (1) عند كلامه على الآيات المنافية لعصمة إبراهيم علیه السلام ، قال : « وأبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية » (2).
ولا ريب أنّ من يروي خبر الغرانيق حقيق بهذا الاعتقاد ؛ لأنّ إظهار الكفر للتقية أهون من إظهاره لهوى قومه.
وكذا من يروي سائر الروايات المكفّرة ويحمل الآيات على الكفر أحقّ بهذا الاعتقاد.
واعلم أنّ ما ذكراه بالنسبة إلى صدور الكبائر عن الأنبياء عمدا - حيث قالا : « فمنعه الجمهور من المحقّقين » (3) - إنّما هو مخصوص بحال النبوّة ؛ ولذا قالا بعد ذلك : « هذا كلّه بعد الوحي والاتّصاف بالنبوّة ، وأمّا قبله فقال الجمهور : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة » (4) ، فاللازم على الخصم التقييد!
كما إنّهما بالنسبة إلى صدورها سهوا قالا : « وأمّا صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوّزه الأكثرون » (5) ..
وقال الشارح : « والمختار خلافه » (6) ..
فترك الخصم نسبة التجويز إلى الأكثر ليخفي كذبه بقوله : « ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهوا وعمدا » ، وليروّج
ص: 38
كذبه بدعوى الموافقة لنا في قوله : « لا للاحتجاج على الخصم ؛ لأنّه موافق ».
ثمّ اعلم أنّ قولهما : « فمنعه الجمهور من المحقّقين » وقول الشارح :
« قبل ظهور المخالفين » (1) دليل على وجود القائل منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر عمدا حال النبوّة.
كما صرّح الشارح بنسبة الخلاف إلى الحشوية ..
وصرّح ابن حزم في كلامه السابق بنسبته إلى الكرّامية والباقلّاني وأتباعه (2) ..
واختاره الغزّالي في كلامه المتقدّم تبعا للقاضي (3) ..
فعلم أنّ كثيرا من أهل السنّة قائلون بعدم عصمة الأنبياء حال النبوّة عن الكبائر عمدا ، فضلا عن السهو وعمّا قبل النبوّة ، فلا معنى لنسبة الخصم الأدلّة التي ذكرها إلى الأشاعرة على الإطلاق مع دعوى أنّهم استدلّوا بها على وجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر سهوا وعمدا ، ولا سيّما وقد ذكرها في « المواقف » وشرحها إلى تمام تسعة أدلّة ، نسبها الشارح إلى الرازي (4).
ثمّ أوردا عليها بقولهما : « وأنت تعلم أنّ دلالتها في محلّ النزاع ، وهي عصمة الأنبياء عن الكبيرة سهوا ، وعن الصغيرة عمدا ، ليست
ص: 39
بالقويّة » (1).
فظهر أنّه لا وفاق بيننا وبين الأشاعرة في عصمة الأنبياء ؛ لأنّا نقول بعصمتهم عن الذنوب مطلقا ، صغيرة وكبيرة ، عمدا وسهوا ، قبل النبوّة وبعدها ؛ وجمهورهم لا يثبتون لهم عصمة عن الذنوب مطلقا قبل النبوّة ، وعن الصغائر مطلقا والكبائر سهوا بعد النبوّة ، وبعضهم لا يثبت لهم عصمة عن الكبائر عمدا بعد النبوّة!
بل عرفت أنّ بعضهم أجاز عليهم الكفر حتّى بعد النبوّة (2) ، فكيف يكون بيننا وبينهم وفاق ، لا سيّما والقائل منهم بعصمة الأنبياء في الجملة إنّما يقول بها سمعا لا عقلا ، كما عرفته في الكلام الذي أخذه الخصم من « المواقف » وشرحها (3).
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق هذه الأدلّة وغيرها عند ذكر المصنّف لها.
وقد أقرّ الخصم باقتضاء ما عدا الدليل الثاني لعصمتهم عن كلّ الذنوب حتّى الصغائر ، لكنّه أراد مطابقة مذهبه فزعم وجود دليل آخر على عدم عصمتهم عن الصغائر ، وهو كما يستفاد من كلامه أمور :
الأوّل : العفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر.
الثاني : إنّ الأنبياء بشر ، والبشر بمقتضى طباعهم عدم خلوّهم من الذنوب.
الثالث : إنّ الصغائر لا تخالف ملكة العصمة ، فلا مؤاخذة فيها.
ص: 40
ويردّ على الأوّلين : إنّه لا شيء منهما يستوجب تخصيص تلك الأدلّة الموجبة لعصمتهم عن جميع الذنوب ..
أمّا الأوّل : فلأنّ العفو عن الصغيرة لا يخرجها عن كونها ذنبا يحرّم الاتّباع فيه ويجب النهي عنه ، ولا يمنع العفو عنها أيضا من دخول النبيّ لو فعلها تحت اللوم والمذمّة بنحو قوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (1)!
وأمّا الثاني : فالأمر فيه أظهر ؛ لأنّ البشرية لا تستوجب الوقوع في الذنب حتّى يلزم تخصيص أدلّة العصمة (2) ، وإلّا لما تمّت عصمتهم عن الكبائر أيضا!
وقوله : « وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض ... » إلى آخره ...
إن أراد به أنّ خلق الإنسان من الأرض علّة تامّة لصدور الذنب عنهم (3) ، فهو باطل ، إذ لم يقل أحد بوجوب عدم العصمة حتّى عن الصغائر (4) ، على أنّه يلزم عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة!
وإن أراد به أنّه مقتض ، ففيه : إنّه لو سلّمت الإشارة في الآية إليه لم يصلح لتخصيص الأدلّة الموجبة لعصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وإلّا انتفت عصمتهم حتّى عن الكبائر.
وأمّا الثالث : ففساده أظهر من الأوّلين ، ضرورة أنّ دعوى عدم
ص: 41
مخالفة الصغيرة لملكة العصمة إن كانت ناشئة من جهة صغر المعصية ، فهي خالية عن دليل ، فلا بدّ من الأخذ بعموم الأدلّة المانعة من صدور كلّ ذنب عنهم حتّى الصغائر!
وإن كانت ناشئة من وقوعها نادرا ، فالكبيرة مساوية لها لو ندرت ، فلا تلزم عصمتهم عن الكبيرة النادرة أيضا ولا خصوصية للصغيرة!
هذا ، وقد خلط الخصم هنا بأمور :
منها : قوله : « والغرض أنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء من إبطال حجّة اللّه تعالى ... » إلى آخره.
فإنّ المصنّف لم يرتّب إبطال حجّة اللّه سبحانه على ذنوب الأنبياء ، بل على رواية الغرانيق المستلزمة للشرك والدعوة إلى عبادة الأصنام ، اللّهمّ إلّا أن يريد الخصم بذنوب الأنبياء ما يعمّ ذلك.
ومنها : إنّه في ذيل كلامه في معنى العصمة عندهم قال : « ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به » ..
فإنّ هذا لا ربط له بتفسير هم للعصمة بأن لا يخلق اللّه فيهم ذنبا ؛ لأنّ هذا التفسير مقابل للقول بالملكة.
ومنها : قوله : « فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا » ..
فإنّه ظاهر في إرادة أنّ صدور الصغائر عن الأنبياء إنّما هو حين كون الصفة حالا لا ملكة ، وهو خارج عن محلّ كلامه في صدور الذنب عنهم حين الملكة ، على أنّ فرض كون صفات الأنبياء في أوّل حصولها أحوالا لا يجامع القول بثبوت ملكة العصمة من أوّل النبوّة ، ولكنّ المؤاخذ بهذا الخلط هو صاحب « المواقف » وشارحها ؛ لأنّ الخصم أخذ منهما قوله :
ص: 42
« وأمّا العصمة عند الحكماء ... - إلى قوله : - فإنّ الصفات النفسانية » (1).
كما إنّه أخذ منهما قوله : « إنّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ... - إلى قوله : - فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر » (2).
وقد ذكرا هذا الكلام ردّا على من زعم أنّ العصمة خاصّية في نفس الشخص أو في بدنه ، يمتنع بسببها صدور الذنب عنهم ، لكنّ الخصم سرق هذا الكلام ووضعه في غير محلّه ؛ لأنّا لا ندّعي امتناع صدور الذنب عن الأنبياء ، بل ندّعي أنّهم لا يذنبون أصلا مع وجود القدرة لهم على الذنب.
وأمّا ما ذكره من أنّ قصّة سورة النجم لم تذكر في الصحاح ، فلا يبعد صدقه فيه ، لكنّهم صحّحوا طريقين أو ثلاثة لها (3) ، واستفاضت طرقهم لها ، وذكرها عامّة مفسّريهم ومؤرّخيهم ، واعتبرها الكثير من علمائهم (4) ..
قال السيوطي في « لباب النقول » عند قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) الآية من سورة الحجّ (5) :
« أخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير ، قال : قرأ النبيّ بمكّة النجم ، فلمّا بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (6) ألقى الشيطان على
ص: 43
لسانه : « تلك الغرانيق العلى * وإنّ شفاعتهنّ لترتجى » ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فنزلت : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) الآية.
وأخرجه البزّار وابن مردويه من وجه آخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس في ما أحسبه.
وقال البزّار : لا يروى متّصلا إلّا بهذا الإسناد.
وتفرّد بوصله أميّة بن خالد (1) ، وهو ثقة مشهور.
وأخرجه البخاري عن ابن عبّاس بسند فيه الواقدي (2) ..
وابن مردويه من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس ..
وأورده ابن إسحاق في « السيرة » عن محمّد بن كعب وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب (3) ..
وابن جرير ، عن محمّد بن كعب ، ومحمّد بن قيس ، وابن أبي حاتم ، عن السدّي.
كلّهم بمعنى واحد ، وكلّها [ إمّا ] ضعيفة أو منقطعة ، سوى طريق سعيد بن جبير الأولى.
قال الحافظ ابن حجر (4) : لكن كثرة الطرق تدلّ على أنّ للقصّة
ص: 44
أصلا ، مع أنّ لها طريقين صحيحين مرسلين أخرجهما ابن جرير :
أحدهما : من طريق الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ..
والآخر : من طريق داود بن [ أبي ] (1) هند ، عن أبي العالية ..
ولا عبرة بقول ابن العربي وعياض : إنّ هذه الروايات باطلة لا أصل لها » (2).
ونقل السيّد السعيد نحوه (3) عن شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني ، في كتابه الموسوم ب « المواهب اللدنّيّة » ، وقال في آخر كلامه :
« إنّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أنّ لها أصلا ، وقد ذكرنا أنّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح مراسيل ، يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالمرسل ، وكذا من لا يحتجّ به ؛ لاعتضاد بعضها ببعض » (4).
وأمّا ما نسبه إلى الأشاعرة من الجواب بأنّه من إلقاء الشيطان ، أو أنّه قرآن منسوخ ، والإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة ، فمن أوّله إلى قوله :
ص: 45
« ومن قرأ سورة النجم » من لفظ « المواقف » وشرحها (1).
ويرد على الأوّل : إنّه لا يجامع قول جبرئيل : « تلوت ما لم أتله عليك » ، ولا حزن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وخوفه العظيم ، إلّا أن يكون الشيطان قد خلط صوته بصوت النبيّ صلی اللّه علیه و آله على وجه لم يشعر به هو ولا جبرئيل ولا من أرسله إلى النبيّ بهذا اللوم.
فتأمّل ، فإنّ شأن القوم عجيب!
على أنّه لو أمكن إلقاء الشيطان وخلط صوته بصوت النبيّ صلی اللّه علیه و آله لفسدت الشرائع ، وما صحّ لهم أيضا أن يحتجّوا بما رووه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في فضل أوليائهم ؛ لجواز كونه من إلقاء الشيطان.
ويرد على الثاني : إنّه - أيضا - لا يجامع قول جبرئيل : « تلوت ما لم أتله عليك » ، ولا حزن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه بحسب الفرض لم يتل إلّا قرآنا تلاه جبرئيل عليه.
وأمّا قول الخصم : « ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها ، علم أنّ هذه الكلمات .. » ..
فمتّجه ؛ ولكنّه دليل على كذب الواقعة ، وأنّ رواتها الكذبة أناس لا يعقلون.
وأمّا قوله : « نعم ، يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة ، وهو قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) (2) ... » إلى آخره ..
فخطأ ؛ لأنّ قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) إنّما هو بمعنى الكثير ، فيكون مذكّرا ؛ ولذا قال : ( لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ) (3) ، فلا يلائم البلاغة أن
ص: 46
يشير إليه بما يشار به إلى المؤنّث ، وهو لفظ « تلك » ، لا سيّما بعد أن أعاد عليه ضمير المذكّر ، فقد فرّ عمّا لا يلائم البلاغة إلى ما لا يلائمها!!
ولو سلّم حسن هذه الإشارة للتعبير عن ذلك الكثير بالغرانيق - وهو مؤنّث - فلا معنى لحكمه بالنسخ للإيهام ، إذ لو وقع بعد قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) لم يحتمل رجوعه إلى مدح الأصنام ؛ للفصل الكثير ، ولعدم المناسبة التي ذكرها ، فمن أين يحصل الإيهام الموجب للنسخ؟!
على أنّ المرويّ عندهم هو أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وحاشاه - قرأ تلك العبارة بعد قوله : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) ومدار الكلام على ذلك ، فكيف يسوغ فرض وقوعها بعد قوله : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ... ) الآية؟!
ومن الظريف قوله : « فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته »!!
إذ كيف يكون مفتريا عليهم وهم قد رووا هذه الرواية المشؤومة ، واعتبرها الغالب منهم ، واستدلّ بها من قال منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر؟!
ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه لم يزد على أنّ نقل عنهم سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القرآن بما يوجب الكفر ، وظاهر الرواية التي ذكرها الخصم تعمّد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لذلك ؛ لأنّه قرأه بعد ما تمنّى إنزال ما يقرّبه إلى قومه الذي هو من نوع مدح الأصنام ألبتّة ، فيكون متمنّيا للكفر وفاعلا له ، وهذا أسوأ حالا ، فقبّح اللّه ما جنوه على سيّد النبيّين.
ص: 47
وأمّا ما نسبه إلى القاضي عياض في كتاب « الشفا » فافتراء عليه (1) ؛ لأنّه إنّما قال : « صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي (2) حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلّق بذلك الملحدون » (3).
ولو سلّم أنّ ذلك من مفتريات الملاحدة لا أهل السنّة ، فكفاهم نقصا أن يتّبعوا في أخبارهم الملاحدة ويعتبرها علماؤهم.
هذا ، ومن العجب أنّهم يروون ذلك عن النبيّ الذي طهّره اللّه من الرجس ، ويروون في فضل عمر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : « والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك » (4) ..
ص: 48
وقال : « إنّ الشيطان يفرّ من حسّ عمر » (1) ..
وقال : « إنّ الشيطان يفرق من عمر » (2) ..
وقال كما في « الصواعق » : « إنّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلّا خرّ لوجهه » (3) ..
.. إلى غير ذلك.
فليت شعري هلّا كان عندهم بعض هذه المنزلة لسيّد النبيّين وخيرة اللّه من خلقه أجمعين؟!
* * *
ص: 49
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ورووا عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه صلّى الظهر ركعتين ، ( فقال أصحابه : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول اللّه؟! فقال : كيف ذلك؟! فقالوا : إنّك صلّيت ركعتين ؛ فاستشهد على ذلك رجلين ، فلمّا شهدا بذلك قام فأتمّ الصلاة ) (2) (3).
ورووا في الصحيحين أنّه صلّى بالناس صلاة العصر ركعتين ودخل حجرته ، ثمّ خرج لبعض حوائجه فذكّره بعض أصحابه فأتمّها (4).
وأيّ نسبة أنقص من هذا وأبلغ في الدناءة؟! فإنّها تدلّ على إعراض النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن عبادة ربّه ، وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها ، والتكلّم في الصلاة ، وعدم تدارك السهو من نفسه لو كان ، نعوذ باللّه من هذه الآراء الفاسدة.
ص: 50
وقال الفضل (1) :
ما رووا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الصلاة (2) حتّى قال له ذو اليدين :
أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللّه؟! فلمّا علم وقوع السهو منه تدارك (3).
وأيّ نقص ودناءة في السهو وقد قال تعالى في القرآن : ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ ) (4)؟! وهذا تصريح بجواز السهو والنسيان ، والحكمة فيه أن يصير هذا تشريعا للسهو في الصلاة.
وإنّ الكلام القليل الذي يتعلّق بأمر الصلاة لا يضرّ ، وكذا الحركة المتعلّقة بالصلاة ، فيمكن أنّ اللّه تعالى أوقع عليه هذا السهو وأنساه الصلاة لتشريع هذه الأمور التي ذكرناها ، ولا يقدح السهو الذي ذكرنا فوائده في العصمة.
وأيّ دناءة ونقص في هذا؟! فإنّ اللّه تعالى أنساه لوقوع التشريع وقد قال تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (5) ، فإنّ الإنساء في أحد المعنيين هو إيقاع النسيان عليه.
وقد قال تعالى في حقّ يوسف وهو من الأنبياء المرسلين : ( فَأَنْساهُ
ص: 51
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (1).
وكما إنّه يجب أن يقدّر اللّه حقّ قدره لقوله : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) (2) ، كذلك يجب أن يقدّر الأنبياء حقّ قدرهم ، ويعلم ما يجوز عليهم وما لا يجوز ، وقد قال تعالى : ( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (3).
وقد عاب اللّه الكفّار بالمبالغة في تنزيه الأنبياء عن أوصاف البشر بقوله : ( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) (4) ..
وقال تعالى : ( سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (5).
* * *
ص: 52
لا ريب في عصمة الأنبياء عن السهو في العبادة لأمور :
* الأوّل : قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) (1) ، فإنّه سبحانه جعل السهو صفة نقص ودخيلا في استحقاق الويل ، بلا فرق بين ما يوجب ترك أصل الصلاة أو أجزائها ؛ لأنّهما معا ناشئان من السهو عنها ، فكيف يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الساهين؟! بل لو سها كان أولى الناس بالويل ، اللّهمّ إلّا أن تخصّ الآية بالسهو عن أصل الصلاة ، ولكنّهم رووا أيضا سهوه عن أصلها كما ستعرف!
* الثاني : إنّه لو سها دخل باللوم في قوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (2) ، وقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (3) .. فإنّه صلی اللّه علیه و آله هو القائل : « ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلب ساه » (4) ..
وهو القائل : « من توضّأ فأسبغ الوضوء ، ثمّ قام يصلّي صلاة يعلم ما يقول فيها حتّى يفرغ من صلاته ، كان كهيئة يوم ولدته أمّه » (5) ..
ص: 53
والقائل : « لا صلاة لمن لا يتخشّع في صلاته » (1) ..
والقائل : « إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع » (2) (3) ..
وهو القائل : « إيّاكم وأن يتلعّب بكم الشيطان » (4) لمّا قال له رجل : يا رسول اللّه! إنّي صلّيت فلم أدر أشفعت أم أوترت؟ ..
.. إلى نحو ذلك ممّا روي عنه صلی اللّه علیه و آله .
فكيف والحال هذه أن يصلّي جماعة ساهيا حتّى ينقص من أربع ركعات ركعتين؟!
* الثالث : إنّه استفاض أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله تنام عيناه ولا ينام قلبه ، حتّى عقد له البخاري بابا في كتاب « بدء الخلق » وروى فيه ثلاثة أحاديث ، وفي أحدها : « وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم » (5).
فكيف من لا ينام قلبه حال النوم ينام قلبه حال اليقظة عن عبادة ربّه التي روحها الإقبال على اللّه تعالى؟!
ص: 54
* الرابع : إنّ وقوع السهو من الأنبياء في العبادة مناف لحكمة البعثة ، فإنّ الحكمة فيها إرشاد الخلق وتقريبهم إلى ما هو الأحبّ إلى اللّه تعالى والأصلح لهم.
ومن المعلوم أنّ الإقبال على عبادة اللّه تعالى أحبّ الأمور إلى اللّه تعالى وأصلحها للعبد ، وأنّ السهو مناف للإقبال ، فإذا لم يقبل النبيّ على عبادة ربّه وصدر منه السهو كانت الأمّة أولى بذلك وأحقّ بالمسامحة في العبادة!
وهذا من أكبر المنافيات لمنصب الدعوة إلى اللّه تعالى والقرب منه.
وأمّا ما احتمله الخصم من الإسهاء ، فخلاف ظاهر أخبارهم التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه وغيرها ، بل خلاف صريح بعضها ..
فقد ذكر في « كنز العمّال » (1) حديثين من أخبار المقام ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيهما : « إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون » ، أحدهما : عن البيهقي وسنن النسائي وأبي داود وابن ماجة (2) ..
والآخر : عن سنن ابن ماجة ومسند أحمد (3).
وذكر في « الكنز » (4) أيضا حديثا آخر عن سنن أبي داود ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه : « إن نسّاني [ الشيطان ] شيئا من صلاتي فليسبّح القوم
ص: 55
ولتصفّق النساء » (1) ..
.. إلى غير ذلك ممّا رووه ..
فكيف مع هذا يحتمل الخصم الإسهاء؟!
على أنّ الإسهاء بما ظاهره السهو محال ؛ لأنّه يجعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله عرضة للدخول تحت قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ... ) الآية (2) ، وللّوم والمذمّة بأنّه يقول ما لا يفعل ، ويأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه ، وعرضة لتكذيبه بدعوى أنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه ، كما أنّه مناف لحكمة البعثة وللطف اللّه بعباده ، حيث أسهى نبيّه صلی اللّه علیه و آله وأبعد الناس عن قربه بسبب إسهاء مقتداهم.
وتلك مفاسد لا تتلافى بحكمة التشريع الذي يمكن فيه البيان اللفظي ، بل لمّا استفاض البيان اللفظي من النبيّ لم يبق موضوع لحكمة التشريع.
ثمّ إنّا نسأل من يزعم الإسهاء عن الأمر الذي يشرّع بالإسهاء ، هل هو جواز السهو أو هو ما يترتّب على السهو من سجود السهو ونحوه؟!
فإن كان هو الثاني كان وقوع الإسهاء لغوا ؛ لأنّ بيان سجدتي السهو والركعات المنسية لا يتوقّف على الإسهاء.
وإن كان هو الأوّل كان الأمر أشنع ؛ لأنّ الإسهاء غير اختياري للعبد فلا حكم له ، فكيف يشرّع به جواز السهو الذي هو اختياري له لإمكان تحفّظه عنه؟!
ولو سلّم أنّه غير اختياري أيضا فهو لا حكم له أيضا ، ولا معنى
ص: 56
لتشريع ما لا حكم له بما لا حكم له!
على أنّ الإسهاء فعل اللّه تعالى ، والسهو فعل المكلّف ، فكيف يشرّع حكم أحدهما بوقوع الآخر؟!
وأيضا : يكفي في تشريع السهو وقوعه مرّة أو مرّتين ، فما بالهم أسندوه إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرارا كثيرة حتّى عقد البخاري أبوابا عديدة متّصلة ذكر فيها سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1)؟!
فمرّة نسبوا إليه أنّه سها عن الجلوس (2) ..
ومرّة صلّى الظهر خمسا (3) ..
وأخرى صلّى إحدى الظهرين اثنتين (4) ..
وتارة صلّى المغرب اثنتين (5) ..
.. إلى غير ذلك ممّا نقّصوا به عظيم مقامه!!
ص: 57
وكيف يشكّ عاقل في أنّه نقص ، لا سيّما وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض ما رواه البخاري : « لم أنس ولم أقصّر » (1) ..
وفي رواية مسلم : « كذلك لم يكن » (2)
فكان منه صلی اللّه علیه و آله على فرض الوقوع سهوا في سهو ، وكذبا في غلط ، فتضاعف النقص ، وهو لا يناسب منصب النبوّة والدعوة!
وسيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالى في ما زعمه الخصم من تشريع الكلام والحركة المتعلّقة بالصلاة.
وأمّا ما استدلّ به ممّا يدلّ على وقوع السهو من الأنبياء ، فلا ربط له بما نحن فيه من السهو في العبادة ، على أنّ قوله تعالى : ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3) يمكن أن يكون من قبيل : مهما نسيت شيئا فلا تقعد مع زيد ناسيا ، فحذف من جزاء الآية لفظ ناسيا ، والمعنى - واللّه أعلم - : مهما نسيت شيئا فلا تنس عدم القعود معهم بعد ما ذكرت لك حرمته وبيّنتها لك.
ومثل هذا يقال لبيان أهمّية الجزاء بلا نظر إلى وقوع الطرفين أو جوازه ، فلا تكون الآية دليلا على وقوع النسيان من النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى في غير الصلاة.
وأمّا قوله تعالى : ( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (4) فيعلم المراد منه بعد سماع الآية ..
ص: 58
قال تعالى : ( وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) .
ولا شكّ أنّه بمقتضى ظاهر الآية يراد بضمير فَأَنْساهُ : مظنون النجاة لا يوسف علیه السلام ، وبالربّ في المقامين : الصاحب الخاصّ ، فلا ربط لها بالمدّعى.
وأمّا قوله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (1) فليس المقصود به إنساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كيف؟! وقد قال تعالى : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (2).
هذا إذا أريد بالآية آية القرآن.
وأمّا إذا أريد بها سائر المعجزات ودلائل النبوّة ، فالمراد - واللّه أعلم - : إنّا إذا أعرضنا عن إحدى دلائل النبوّة أو أنسيناها جئنا بخير منها وأعظم دليلا على النبوّة ، وهذا بالضرورة إنّما يتعلّق بأمم الأنبياء.
وأمّا ما زعمه من مساواة الأنبياء للناس بالبشرية مستدلّا عليه بالكتاب العزيز ..
ففيه : إنّ المساواة بالبشرية لا تقتضي المساواة في كلّ شيء ، وإلّا لجاز أن تقع منهم كلّ المعاصي ، حتّى الكفر ، والخصم لا يقول به ، وليس زائدا على قدرهم منع الرذائل والنقائص عنهم ، كالسهو في العبادة وصدور المعاصي عنهم.
هذا ، وممّا يشهد بكذب نسبة السهو إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في العبادة أنّ
ص: 59
أبا هريرة الراوي لواقعة ذي اليدين ، قد أسلم عام خيبر (1) ، وأنّ ذا اليدين وهو ذو الشمالين عمير بن عبد عمرو قتل يوم بدر قبل إسلام أبي هريرة بسنين.
قال في « الاستيعاب » بترجمة ذي الشمالين : « اسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سليم ...
وقال ابن إسحاق : هو خزاعي ، يكنّى أبا محمّد ، حليف لبني زهرة ، كان أبوه عبد عمرو (2) بن نضلة قدم فحالف عبد الحارث بن زهرة ، وزوّجه ابنته نعمى ، فولدت له عميرا ذا الشمالين ، كان يعمل بيديه جميعا ، شهد بدرا ، وقتل يوم بدر شهيدا ، قتله أسامة الجهمي (3) » (4).
وإنّما قلنا : إنّ ذا اليدين هو ذو الشمالين لما روي عن إمامنا الصادق علیه السلام أنّه هو (5) ..
ولأخبار القوم أنفسهم ..
ففي مسند أحمد (6) ، بسند رجاله من رجال الصحيحين ، قال : « حدّثنا عبد الرزّاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، عن أبي هريرة ، قال :
ص: 60
صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الظهر أو العصر فسلّم في ركعتين ، فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو - وكان حليفا لبني زهرة - : أخفّفت الصلاة أم نسيت؟!
فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما يقول ذو اليدين؟!
قالوا : صدق يا نبيّ اللّه ؛ فأتمّ بهم الركعتين اللتين نقص ».
فهذه الرواية الصحيحة عندهم قد جمعت بين اللقبين ، وصرّحت بأنّه ابن عبد عمرو ، وأنّه حليف بني زهرة ، وما هو إلّا قتيل بدر.
وفي « كنز العمّال » (1) عن عبد الرزّاق مثلها ، سوى إنّه لم يذكر حلفه لبني زهرة (2).
وقد جمعت رواية أخرى لأحمد (3) بين اللقبين أيضا (4).
وكذا رواية أخرى لعبد الرزّاق وابن أبي شيبة (5) ، نقلها في « كنز العمّال » (6).
وروى مالك في موطّئه (7) رواية اشتملت على وصفه بذي الشمالين فقط ، ذكرها تحت عنوان ما يفعل من سلّم من ركعتين ساهيا.
ص: 61
وهي كغيرها في الدلالة على وحدة ذي اليدين وذي الشمالين.
وأمّا رواية عمران بن حصين ، الدالّة على أنّ ذا اليدين هو ( الخرباق ) (1) ، فلا تدلّ على التعدّد لجواز كون ( الخرباق ) لقبا لعمير بن عبد عمرو ، ويقرّبه أنّهم لم يعرفوا للخرباق أبا ، وإنّما يقول علماء رجالهم ( الخرباق السلمي ) (2).
وقد عرفت أنّ عميرا أيضا منسوب إلى سليم ؛ لأنّه أحد أجداده ، كما سبق في كلام « الاستيعاب » (3).
وبالجملة : لا تصلح هذه الرواية لإثبات التعدّد في مقابلة تلك الروايات ، فظهر أنّ الصحيح وحدتهما وفاقا للزهري ..
قال في « الاستيعاب » بترجمة ذي اليدين : « وقد كان الزهري مع علمه بالمغازي يقول : إنّه ذو الشمالين المقتول ببدر ، وإنّ قصّة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر ثمّ أحكمت الأمور بعد » (4).
ثمّ قال في « الاستيعاب » : « وذلك وهم عند أكثر العلماء » (5).
ووجه الوهم - كما يظهر من أوّل كلامه - أنّه صحّ عن أبي هريرة أنّ ذا اليدين راجع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أمر الصلاة ، فلا بدّ أن يكون ذو اليدين
ص: 62
غير ذي الشمالين ؛ لأنّ أبا هريرة أسلم عام خيبر ، وذا الشمالين قتل ببدر.
وفيه : إنّه بعد ما عرفت من صراحة الروايات بالاتّحاد لم يبق وجه للحكم بالتعدّد ، غاية الأمر أنّه يلزم من الاتّحاد كذب رواية أبي هريرة ، وهو غير مستغرب!
فإن قلت : لم يدّع أبو هريرة حضور الواقعة حتّى يكون كاذبا في الحكاية ، فلعلّه روى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو عمّن حضر من الصحابة؟!
قلت : قد صرّح أبو هريرة بحضوره بنفسه في بعض هذه الأخبار التي حكى فيها الواقعة ..
فقد روى البخاري عنه في الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو أنّه قال : « صلّى بنا النبيّ صلی اللّه علیه و آله الظهر أو العصر .. » (1) الحديث.
ونحوه في « صحيح مسلم » في باب السهو في الصلاة والسجود له (2).
وروى مسلم في هذا الباب ما هو أصرح في ذلك ، قال : « بينا أنا أصلّي مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلاة الظهر سلّم في الركعتين .. » (3) وساق الحديث.
* * *
ص: 63
قال المصنّف - رفع اللّه في الجنّة مقامه - (1) :
ونسبوا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله كثيرا من النقص ..
روى الحميدي في « الجمع بين الصحيحين » عن عائشة ، قالت :
كنت ألعب بالبنات عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكانت لي صواحب يلعبن معي ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا دخل تقمّعن (2) منه ، فيشير إليهنّ فيلعبن معي (3).
وفي حديث الحميدي أيضا : كنت ألعب بالبنات في بيته - وهي اللعب - (4).
مع أنّهم رووا عنه صلی اللّه علیه و آله في صحاح الأحاديث أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور مجسّمة أو تماثيل ، وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصور والتماثيل (5) ..
ص: 64
فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإلى زوجته ، من عمل الصور في بيته الذي أسّس للعبادة ، وهو محلّ هبوط الملائكة والروح الأمين في كلّ وقت؟!
ولمّا رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله الصور في الكعبة لم يدخلها حتّى محيت (1) ، مع أنّ الكعبة بيت اللّه تعالى ، فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلوّ مرتبته ، فكيف يتّخذ في بيته - وهو أدون من الكعبة - صورا ، ويجعله محلّا له؟!
* * *
ص: 65
وقال الفضل (1) :
قد صحّ أنّ عائشة كانت تلعب باللعب ، وكان هذا لكونها صغيرة غير مكلّفة .. فقد صحّ أنّه دخل عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي بنت تسع سنين ، وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان ، بل كانت على صورة الفرس ، لما روي أنّه صلی اللّه علیه و آله رأى عند عائشة أفراسا لها أجنحة .. فقال : الفرس يكون له جناحان؟! قالت عائشة : أما سمعت أنّ خيل سليمان كانت لها أجنحة؟! فتبسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2)
وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ؛ لأنّ الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة ، وإنّما يكون مشابها للصورة ، ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل ، بل هذا في الإنسان ، وقيل : في ما عبد من الحيوانات والملائكة والإنسان.
وأيضا : يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور ، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح على ما ثبت (3) ، ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة (4).
ص: 66
وللصور شرائط إنّما تحرم عند وجودها ، وربّما لم يكن شرط من الشرائط موجودا ، ولمّا صحّ الأخبار وجب التأويل والجمع.
وليس أخبار الصحاح الستّة مثل أخبار الروافض ، فقد وقع إجماع الأئمّة على صحّتها.
* * *
ص: 67
من الغريب استدلاله على صغرها وعدم تكليفها حين اللعب بدخول النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليها وهي بنت تسع ، فإنّ بناءه بها وهي بهذا السنّ - كما يزعمون (1) - لا يقتضي أن يكون لعبها في أوّل زمن الدخول ، بل أخبارهم تدلّ على لعبها في أواخر أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ففي مصابيح البغوي من الحسان ، في باب عشرة النساء ، من كتاب النكاح ، عن عائشة قالت : « قدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غزوة تبوك أو حنين ، وفي بهوتها (2) ستر ، فهبّت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب بها.
فقال : ما هذه يا عائشة؟!
قالت : بناتي.
ص: 68
ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع ، فقال : وما هذا الذي أرى وسطهنّ؟!
قالت : فرس.
قال : وما هذا الذي عليه؟!
قالت : جناحان.
قال : الفرس يكون له جناحان؟!
قالت : أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة؟!
قالت : فضحك حتّى رأيت نواجذه » (1) ..
فإنّها صريحة في لعبها بعد إحدى الغزاتين ، وهما كانتا بعد فتح مكّة ، ومنه يعلم ما في قوله أخيرا : « ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة ».
ولو سلّم أنّ لعبها كان في أوّل بناء النبيّ صلی اللّه علیه و آله بها ، وأنّها بنت تسع ، فبنت التسع التي تصلح للتزويج ولأحكامه مكلّفة على الأحقّ.
ولو سلّم أنّها غير مكلّفة ، فإشكال المصنّف رحمه اللّه ليس في لعبها حتّى يجاب بأنّها غير مكلّفة ، بل في إبقاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله الصور في بيته وهو محلّ هبوط الملائكة التي لا تدخل بيتا فيه صور ، وفي عدم إنكاره على عمل الصور ، وقد تواتر عنه النهي عنه.
وأمّا قوله : « وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان » ..
فمناف لما تضافرت به أخبارهم من لعبها بالبنات ، التي هي عبارة
ص: 69
عمّا كان بصورة البنات من الناس ، وقد جمعت رواية البغوي السابقة بين ذكر البنات والفرس ، وهي التي ذكرها الخصم على الظاهر ، لكنّه تصرّف فيها بإسقاط لفظ البنات ليروّج مطلبه في الجملة!
وأمّا قوله : « وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ؛ لأنّ الأطفال ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّ الصورة هي : الشكل ، كما في القاموس (1) ، فتكون الهيئة منها ، وتعليله لا وجه له ؛ لأنّ عائشة لم تكن صغيرة حين اللعب بالأفراس ، بل كانت بنت سبع عشرة تقريبا على رأيهم ، لما سبق من تصريح رواية البغوي بلعبها بها بعد إحدى الغزاتين.
ولو سلّم أنّها كانت - حينئذ - صغيرة ، فمن الإزراء بحقّها أن ينسب إليها العجز عن تصوير الصورة ؛ لما زعموا أنّها في غاية الذكاء ، ومن تقدر في كبرها على قيادة الحرب العظيمة لا تعجز في صغرها عن تصوير الصورة!!
ولو سلّم عجزها ، فهو لا يقتضي عدم كمال هيئة الفرس ، بحيث لا تسمّى صورة ؛ لجواز أن يكون غيرها قد صنعها لها.
ولا تخفى ظرافة تسميته لها طفلا وقد تزوّجت وبلغت سنّ النساء!
وأمّا قوله : « ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل » ..
فباطل ؛ لإطلاق أخبارهم المستفيضة (2) في حرمة تصوير ذوات
ص: 70
الأرواح (1) ..
وقد رواها البخاري في مقامات لا تحصى ، منها في آخر صحيحه ، ومنها في أواخر كتاب البيع ..
وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعضها : « من صوّر صورة فإنّ اللّه معذّبه بها حتّى ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ فيها أبدا » (2) ..
وقال صلی اللّه علیه و آله في بعضها : « إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة ، ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم » (3).
وروى مسلم طرفا منها في كتاب « اللباس والزينة » من صحيحه ، في باب : « لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة » (4) ، وبعضها صريح في صور الخيل ذوات الأجنحة ..
فقد أخرج عن عائشة ، قالت : « قدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من سفر وقد سترت على بابي درنوكا (5) فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني
ص: 71
فنزعته » (1)
ويا هل ترى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يرضى بصورة الخيل على الدرنوك ويرضى بصورها المجسّمة ويبقيها في بيته؟!
وأمّا قوله : « وأيضا يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور ، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح - على ما ثبت - ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة » ..
ففيه : إنّ رواية البغوي السابقة (2) صريحة في لعبها بعد الفتح ، فلا يصحّ هذا الاحتمال ، ولا أعلم من أين ثبت عنده أنّ التحريم عام الفتح؟! والظاهر أنّه مستند إلى الهوى ونصرة المذهب!
وأمّا قوله : « وللصور شرائط إنّما تحرّم عند وجودها » ..
ففيه : إنّه إن أراد أنّ لتحريم الصور شرائط ، فباطل ؛ إذ لا يعتبر فيه أكثر من صدق تصوير الحيوان كما تدلّ عليه الأخبار السابقة وغيرها.
وإن أراد أنّ لتحريم اللعب بالصور شرائط ، فممنوع حتّى بمذهبه ..
فقد نقل هو في آخر الكتاب - في القضاء وتوابعه - عن الشافعي أنّ عدم حرمة اللعب بالشطرنج مشروط بأربعة شروط ، رابعها : أن لا تكون أسبابه مصوّرة بصورة الحيوانات (3) ؛ ولم يقيّد هناك الصور بقيد ، ولم يعتبر فيها شروطا.
ص: 72
وذكر الخصم ثمّة أنّ أمير المؤمنين علیه السلام مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) (1) (2) ، ورواه المصنّف هناك عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3)
وهو دالّ على أنّ اللعب بصور الخيل كالعكوف على الأصنام فيحرم ، فكيف تلعب بها عائشة ولم يمنعها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو لم تظهر منه الكراهة حتّى يرتدع الغير؟!
ولا يخفى أنّ أجوبة الخصم كلّها لا تصلح جوابا عمّا ذكره المصنّف من إشكال إبقاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله للصور في بيته ، والحال أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور ، إلّا ما زعمه من عجز الأطفال عن تصوير الصور ، فإنّه يمكن جعله جوابا ولكن قد عرفت ما فيه.
وأمّا قوله : « وليس أخبار الصحاح الستّة مثل أخبار الروافض » ..
فقد صدق فيه ؛ لأنّ من يرفض الباطل لا يروي مثل تلك الخرافات ، ولا يعتمد على روايات من عرفت بعض أحوالهم في المقدّمة وأشباههم! (4).
* * *
ص: 73
قال المصنّف - أسبغ اللّه عليه رحمته - (1) :
وروى الحميدي في « الجمع بين الصحيحين » : قالت عائشة : « رأيت النبيّ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر » (2).
وروى الحميدي ، عن عائشة ، قالت : « دخل عليّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث (3) ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأقبل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : دعها ؛ فلمّا غفل غمزتهما ، فخرجتا » (4).
وكيف يجوز للنبيّ صلی اللّه علیه و آله الصبر على هذا مع أنّه صلی اللّه علیه و آله نصّ على تحريم اللعب واللّهو (5) ، والقرآن مملوء منه (6) وبالخصوص مع زوجته؟!
ص: 74
وهلّا دخلته الحميّة والغيرة مع أنّه صلی اللّه علیه و آله أغير الناس؟!
وكيف أنكر أبو بكر وعمر ومنعهما؟! فهل كانا أفضل منه؟!
وقد رووا عنه علیه السلام ، أنّه لمّا قدم المدينة من سفر خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدفّ فرحا بقدومه ، وهو يرقّص بأكمامه! (1).
هل يصدر [ مثل ] هذا عن رئيس أو من له أدنى وقار؟!
نعوذ باللّه من هذه السقطات ..
مع أنّه لو نسب أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسبّ والشتم وتبرّأ منه ، فكيف يجوز نسبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرّأ منها؟!
* * *
ص: 75
وقال الفضل (1) :
ضرب الدفّ ليس بحرام مطلقا ، وكذا اللّهو كما ذكر في موضعه ..
وما ذكر من ضرب الجاريتين بالدفّ عند عائشة كان يوم عيد ، واتّفق العلماء على جواز اللّهو وضرب الدفّ في أوقات السرور ، كالأعياد والختان والإملاك.
وأمّا منع أبي بكر عنه ، فإنّه كان لا يعلم جوازه في أيّام العيد.
وتتمّة الحديث أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لأبي بكر : « دعهما ، فإنّها أيّام عيد » ، فلذلك منعه أبو بكر ، فعلّمه رسول اللّه أنّ ضرب الدفّ والغناء ليس بحرام في أيّام العيد.
وما ذكر أنّ نساء المدينة خرجن إليه من عوده من السفر ، فذلك كان من خصال نساء المدينة ، ولم يمنعهنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّها كانت قبل نزول الحجاب ، ولأنّهنّ كنّ يظهرنّ السرور بمقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو عبادة ..
وإنّ ترك المروءة في أمثال هذه الأمور - التي توجب الألفة ، والموافقة ، وتطييب الخاطر ، وتشريع المسائل - جائز ..
ولكنّه نعم ما قيل شعرا :
ص: 76
ما استدلّوا به لإباحة اللّهو غير صالح له ؛ لأمور :
الأوّل : إنّ كثيرا منها أدلّ على الحرمة ، كرواية الغزّالي التي سينقلها المصنّف (1) ، ورواية أحمد التي سنذكرها بعدها إن شاء اللّه تعالى (2) ، فإنّهما أطلقتا الباطل على اللعب والغناء.
وكرواية الترمذي في مناقب عمر ، عن عائشة ، قالت : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالسا في المسجد ، فسمعنا لغطا وصوت صبيان ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإذا حبشيّة تزفن (3) والصبيان حولها.
فقال : يا عائشة! تعالي وانظري.
فجئت فوضعت لحييّ على منكب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه ..
فقال : أما شبعت؟! [ أما شبعت؟! ].
فجعلت أقول : لا ؛ لأنظر منزلتي عنده ، إذ طلع عمر ، فارفضّ (4) الناس عنها ..
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا
ص: 78
من عمر بن الخطّاب » (1).
فإنّ تعبير النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالشياطين دليل على حرمة عملها وعملهم ، وإنّ ذلك اللّهو مجمع للشياطين فيحرم.
وكرواية الترمذي أيضا عن بريدة ، وصحّحها - كالرواية الأولى - هو والبغوي في ( مصابيحه ) ..
قال بريدة : « خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض مغازيه ، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء ، فقالت : يا رسول اللّه! إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه صالحا أن أضرب بين يديك بالدفّ وأتغنّى.
فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن كنت نذرت فاضربي ، وإلّا فلا.
فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت إستها ، ثمّ قعدت عليه.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إنّي كنت جالسا وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، فلمّا دخلت أنت [ يا عمر ] ألقت الدفّ » (2).
فإنّ تعبير النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنها بالشيطان دليل على حرمة فعلها ، إذ لو
ص: 79
كان طاعة أو مباحا لم يصحّ ذمّها وتهجين عملها ، لا سيّما وقد كان وفاء للنذر.
كما إنّه لو كان مباحا لم يصحّ نهيها عنه بلا قرينة على إرادة الإباحة من النهي ، لو فرض أنّها لم تكن قد نذرت ؛ لظهور النهي في الحرمة وهي في وقت الحاجة والعمل.
الثاني : إنّ أخبار حلّيّة اللّهو قد اشتملت جملة منها على إرادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله من عائشة أن تنظر إلى اللعب وأهله ، وعلى أنّه يسترها وهي تنظر إلى الحبشة ، وهذا كذب صريح ؛ لأنّه مناف لسنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ..
روى البغوي في ( مصابيحه ) ، من الحسان ، في باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات ، من كتاب النكاح ، عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها : « أنّها كانت عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وميمونة ، إذ أقبل ابن أمّ مكتوم فدخل عليه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : احتجبا عنه!
فقلت : يا رسول اللّه! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟!
فقال صلی اللّه علیه و آله : أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟! » (1)
ونحوه في الجزء السادس من مسند أحمد ، ص 296 (2).
فإذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يأبى من نظر أزواجه إلى الأعمى ، فكيف يرضى لعائشة أن تنظر إلى أهل اللّهو حال اللعب والخلاعة؟!
الثالث : إنّها منافية للغيرة والحياء ، بل بعضها مشتمل على التهتّك
ص: 80
الذي لا يصدر إلّا من الأنذال وأسافل الناس وأدناهم حياء وغيرة! ..
كرواية البخاري في الباب الثاني من كتاب العيدين (1) ..
وفي باب الدرق ، من كتاب الجهاد والسير ، عن عائشة ، قالت : « كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب ، فإمّا سألت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإمّا قال : تشتهين تنظرين؟
فقلت : نعم!
فأقامني وراءه ، خدّي على خدّه ، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة (2).
حتّى إذا مللت قال : حسبك؟
قلت : نعم.
قال : فاذهبي » (3).
فليت شعري كيف حال من يجعل نفسه وزوجته منظرا لأهل الفساد واللّهو ، وهو يحثّهم على اللعب ، ويحرّكهم إلى النظر إليهما ملتصقي الخدّين ، وخدّها على خدّه؟!
فهل ترى فوق هذا خلاعة؟!
لعمر اللّه ما من أحد يؤمن باللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله يرضى بهذه النسبة إلى سيّد المرسلين ، الذي كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها (4) ، وقال :
ص: 81
« الحياء من الإيمان » (1) ..
وكان أشدّ الخلق غيرة ومروءة ، وقال : « من لا مروءة له لا إيمان له » (2) ..
وكان أعظم الناس وقارا ، حتّى إنّ ضحكه التبسّم (3) ..
فكيف ينقاد إلى هوى عائشة هذا الانقياد ولا يلتفت إلى ما فيه من النقص والهوان؟!
ويا عجبا! كيف يجتمع هذا التهتّك من عائشة مع ما رواه أحمد (4) عنها؟! ..
ص: 82
قالت : « كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأبي ، فأضع ثوبي فأقول : إنّما هو زوجي وأبي ، فلمّا دفن عمر معهم فو اللّه ما دخلت إلّا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر ».
ولا أدري أين ذهب هذا الحياء من الأموات عنها يوم الجمل ، وهي تلفّ الألوف بالألوف من الأحياء؟!
الرابع : إنّ اللّهو والصياح منافيان لحرمة المساجد ووضعها ، فكيف يرضى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بهما ، ويمكّن منهما فيها أهل اللّهو والطرب؟! قال اللّه تعالى : ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (1).
فهل كان من عمرانها اللعب والغناء؟!
وروى القوم في صحاحهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل : لا ردّها اللّه عليك ؛ فإنّ المساجد لم تبن لهذا » (2) ..
وإنّه صلی اللّه علیه و آله نهى عن تناشد الأشعار في المسجد (3) ، وأن تقام فيه الحدود (4) ، وأن ترفع فيه الأصوات ، فكيف يرضى بإعلان اللّهو والغناء في
ص: 83
المسجد الأعظم؟!
والعجب أنّهم يروون أنّه يحثّ على اللّهو في مسجده!! ..
ويروي البخاري في باب رفع الصوت في المساجد ، من كتاب الصلاة ، عن السائب ، قال : « كنت قائما في المسجد فحصبني رجل ، فإذا عمر بن الخطّاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين ؛ فجئته بهما.
قال : من أنتما؟ - أو : من أين أنتما؟ -.
قالا : من أهل الطائف.
قال : لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! » (1).
ولكن لا عجب ، فإنّهم ينسبون تلك الخلاعة القبيحة إلى صفوة اللّه من خلقه ، ويزعمون أنّ عمر في منتهى الغيرة ، حتّى إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يدخل في المنام قصر عمر في الجنّة رعاية منه لغيرة عمر (2)!
وذلك كلّه ممّا يكشف عن حال رجالهم وأخبارهم .. فانظر وتبصّر!
الخامس : إنّ راوي تلك الأخبار - التي زعموا دلالتها على إباحة اللّهو - هو : عائشة ، إلّا ما قلّ عن غيرها ، ومن الواضح أنّها متّهمة بإرادة
ص: 84
الافتخار وإظهار حبّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لها ، وبيان فضل أبيها وخليله ، كما هو ظاهر على صفحات تلك الروايات!
وما اكتفت بذلك حتّى جعلت تحرّض الناس على إعطاء بناتهم زمام اللّهو واللعب ، وما خصّته بوقت ، فقالت - كما في كثير من روايات البخاري وغيره - : « فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، الحريصة على اللّهو » (1).
ولعلّ هذه التتمّة تشهد بأنّ تلك الأخبار من وضع الكذّابين الّذين يريدون التقرّب إلى ملوك الجهل والفساد ، من الأمويّين والعبّاسيّين وأمرائهم!
فإذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك أنّه لا يستبيح ذو عقل وذو دين الاستدلال بتلك الأخبار على إباحة اللّهو في شيء من الأوقات ، لا سيّما والكتاب العزيز ناطق بحرمته (2).
وأيّ عاقل يشكّ بكذب تلك الأخبار التي تحطّ من قدر النبيّ والنبوّة؟!
وبذلك يظهر لك حال من نسب إليهم الخصم الاتّفاق على جواز اللّهو استنادا إليها!
وأمّا ما ذكره من تتمّة الحديث ، فمن إضافاته ، على أنّها لا تنفعه بالنظر إلى تلك الأمور السابقة ..
ومن أحبّ الاطّلاع على كذبه في هذه الإضافة - أعني قوله صلی اللّه علیه و آله :
ص: 85
« فإنّها أيّام عيد » تعليلا لقوله لأبي بكر : « دعها » - فليراجع الباب الثاني من كتاب العيدين من صحيح البخاري (1) ، وآخر كتاب العيدين من صحيح مسلم (2) (3).
وأمّا ما ذكره من أنّ ذلك من خصال نساء المدينة ، فمحلّ تأمّل ؛ لأنّه مستفاد من روايات عائشة ، وفيها ما سبق.
وأمّا ما ذكره من إظهار هنّ السرور ، وأنّه عبادة ؛ ففيه : إنّ إظهار السرور وإن كان عبادة ، لكن إذا لم يكن باللّهو ، فإنّه يحرّم حينئذ كما لو أظهر بشرب الخمر ونحوه.
وأمّا ما أجاب به عن رقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأكمامه - وحاشاه - ، فمن قول الهجر ؛ لأنّ الرقص سفه ظاهر وخلاعة بيّنة ، ومن أكبر النقص بالرئيس ، وأعظم منافيات الحياء والمروءة في تلك الأوقات ، وأشدّ المباينات للرسالة لإرشاد الخلق بتهذيبهم عن السفه والنقائص وتذكيرهم بمقرّبات الآخرة ، لا سيّما بالملأ العامّ مع حضور النقّاد والأضداد ، فلا يمكن أن يلتزم بتسويغه لطلب الألفة وتطييب الخواطر ؛ لأنّ حفظ شرف الرسالة وفخامتها ودفع نقد النقّاد والمشكّكين أهمّ ، بل لا يحسن
ص: 86
لذلك أقلّ منافيات المروءة فضلا عن مثل الرقص مع النساء!
وأمّا التشريع ، فلا يصلح أن يكون داعيا لفعل المنافي مع إمكان البيان اللفظي ، كما لا يصلح أن يكون داعيا له إرادة إيمان الناس ؛ لأنّ فعل المنافي مبعّد عنه لا مقرّب له ، حتّى لو أوجب الألفة ، فإنّ الألفة لا توجب الاعتقاد ، ولو سلّم إيجابها له في الجملة فخطر المنافي للمروءة أعظم.
وأمّا استشهاده بالبيت ، ففي محلّه ؛ لأنّا سخطنا على أخبارهم لكذب رواتها واشتمالها على المناكير والأضاليل فأبدينا بعض مساويها ، وأمّا هم فرضوا بها على علّاتها ، فعميت عيون قلوبهم عن معايبها وإن أوهنت مقام النبوّة ، بل ومقام الربوبية! كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
* * *
ص: 87
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وفي الصحيحين : إنّ ملك الموت لمّا جاء لقبض روح موسى لطمه موسى ففقأ عينه (2).
فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى - مع عظمته ، وشرف منزلته ، وطلب قربه من اللّه تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس - إلى هذه الكراهة؟!
وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت ذلك ، وهو مأمور من قبل اللّه تعالى؟!
* * *
ص: 88
وقال الفضل (1) :
الموت بالطبع مكروه للإنسان ، وكان موسى رجلا حادّا كما جاء في الأخبار والآثار ، فلمّا صحّ الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت ، وبعثته الحدّة على أن لطم ملك الموت ، كما أنّه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وهذا الاعتراض وارد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه اللّه إيّاها هدى ورحمة ، ويمكن أن يقال : كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح ، وطرح كتاب اللّه ، وكسر لوحه ، إهانة لكتاب اللّه؟! وكيف يجوز له أن يضرب هارون وهو نبيّ مرسل؟!
وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر من صفات البشرية ، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء.
وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء ..
ولو لم يكن القرآن متواترا ، ونقل لابن المطهّر الحلّي أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه الاعتراضات ، فلو أنّه أنصف من نفسه يعلم ما نقوله في تعصّبه حقّ.
* * *
ص: 89
كان موسى علیه السلام شديد الغضب لله تعالى ، ولم يكن حادّا تخرجه الحدّة إلى غضب اللّه عليه.
وقوله : « فلمّا صحّ الحديث ... » إلى آخره ، باطل ..
إذ كيف يصحّ حديث يرويه الكذبة عن أبي هريرة الخرافي الكذوب ، وهو يشتمل على ما يحيله العقل؟! فإنّ الأنبياء علیهم السلام معصومون عن الذنوب ، لا سيّما الكبائر بإقرار الخصم ، ولا سيّما مثل هذه الجناية الكبرى على أحد عظماء الملائكة ، ورسول اللّه العامل بأمره ، إن صحّ عقلا أن يقع مثلها على الملائكة الروحانيّين.
ولو سلّم جواز وقوع مثل هذه الكبيرة منهم ، فأيّ عاقل يجوّز على موسى - مع عظم شأنه - أن يكره الانتقال إلى عالم الكرامة والرحمة ، وهو الهادي والداعي إليه ، والعالم بما أعدّ اللّه فيه لأوليائه؟!
ولو سلّم خوفه من الموت وكراهته له ، فأيّ عاقل يجوّز قلع عين ملك الموت مع روحانيّته وشفافيّته بلطمة بشر؟!
ولو سلّم أنّه تصوّر له بصورة شخص تؤثّر فيه اللطمة ، فكيف يقدر موسى عليه وهو على شفا جرف الموت ، وملك الموت بقوّته العظمى مؤيّدا بالقدرة الربّانية التي يتسلّط بها على نفوس العالمين بلا كلفة ومقاومة؟!
ويا للعجب! كيف ضيّع اللّه حقّ الملك المرسل بأمره ولم يقاصّه من
ص: 90
موسى ، والقصاص حقّ ثابت في القرآن والتوراة ، بل لم يعاقبه أصلا ، وأكرمه حيث خيّره بين الموت والحياة؟! فهل عند اللّه هوادة ، أو يختلف حكمه في بريّته؟!
هذا ، وقد حمل بعضهم الحديث على المدافعة عن نفسه ، بدعوى أنّ الملك تصوّر له بصورة إنسان معتد عليه يريد إهلاكه ، فلا معصية منه! (1) ..
وفيه : إنّه لا يلائم ما في تمام الحديث : فقال : « أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني » (2) ، فإنّه يدلّ على شكايته منه والتعريض بذمّه بعدم إرادته للموت ، وهو لا يصحّ إذا كان مدافعا عن نفسه ؛ لوجوب المدافعة وإن أحبّ الموت.
على أنّه لا وجه لتصوّر ملك الموت بصورة معتد ، فإنّه من الحمق والجهل.
ودعوى الامتحان لا وجه لها (3) ؛ لأنّه إن أريد الامتحان في حبّه للموت فهو لا يناسب تصوّره بصورة من تجب مدافعته ، وإن أريد الامتحان في مخالفة الواجب من المدافعة فهو لا يجامع القول بعصمته ، بل لا معنى لهذا الامتحان ؛ لأنّ كلّ إنسان يدافع بمقتضى طبعه عن نفسه حيث يمكن ، وإن لم تجب عليه المدافعة ، على أنّه لا يلائم التعبير بكراهة الموت إلى تمام الحديث ..
ويدلّ على معرفة موسى بملك الموت ، فلا يصحّ الحمل المذكور ،
ص: 91
ما رواه مسلم بإحدى روايتيه عن أبي هريرة ، قال :
« جاء ملك الموت إلى موسى علیه السلام فقال : أجب ربّك.
فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها!
قال : فرجع الملك إلى اللّه عزّ وجلّ ، فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني.
قال : فردّ اللّه إليه عينه وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟
فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما توارت يدك من شعره فإنّك تعيش بها سنة.
قال : ثمّ مه؟
قال : ثمّ الموت.
قال : فالآن يا ربّ من قريب » (1).
فإنّ قوله : « أجب ربّك » دالّ على معرفة موسى بملك الموت ، وإنّه ليس من المعتدين.
وأصرح من هذه الرواية ما رواه أحمد عن أبي هريرة (2) ، قال :
« كان ملك الموت يأتي الناس عيانا ، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه ، فأتى ربّه فقال : يا ربّ! عبدك موسى فقأ عيني ، ولو لا كرامته عليك
ص: 92
لعنفت به (1) » .. الحديث.
ثمّ إنّهم ذكروا في توجيه الحديث أمورا أخر تشبه الخرافة ..
منها : إنّ موسى أراد إظهار وجاهته عند الملائكة ؛ فإنّ فعل الحرام مناف لدعوى الوجاهة عند اللّه تعالى ، وهذه الإرادة بهذا الفعل الخاسر أولى أن تقع من الحمقاء السافلين ، لا من الأنبياء والمرسلين!
ومنها : إنّه وقع من غير اختياره ؛ لأنّ للموت سكرات ؛ وكأنّ هذا التوجيه مأخوذ من قول عمر : « إنّ النبيّ ليهجر » (2)!
ص: 93
وكيف يناسب ذلك تمام الحديث وشكاية ملك الموت منه؟!
وهل هذا الموجّه أعرف بحال موسى من ملك الموت؟!
ومنها : إنّ المراد صكّه بالحجّة وفقأ عين حجّته (1) ؛ ولا أعلم أيّ مباحثة وقعت بينهما ضلّ فيها ملك الموت؟!
وكيف يجتمع هذا مع قوله : « فردّ اللّه عليه عينه » (2) ... إلى آخر الفقرات؟!
وأمّا ما ذكره من النقض بقصّة الألواح ؛ فهو وارد عليه أيضا ؛ لأنّ إلقاءها وكسرها إهانة لكتاب اللّه [ و ] كفر لا يقوله الخصم ، بل لو لم يقصد به الإهانة كان كبيرة كضرب النبيّ ، وهو يقول بعصمتهم عن الكبائر!
وأمّا ما حمله عليه ؛ فإن أراد به ما يعرض البشر من دون شعور ، فهو من أعظم النقص ، وتجويزه على الأنبياء رافع للثقة بهم ، وهل هذا إلّا كما ذمّ اللّه عليه الكافرين إذ قالوا : ( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (3)؟! فإنّ سلب الشعور إن لم يكن جنونا فهو بمنزلته ، ولو جاز ، لجاز الجنون عليهم ؛ لأنّه ممّا يعرض البشر أيضا!
وإن أراد به ما لا يسلب معه الشعور ، فتلك الأفعال كبيرة ، والأنبياء معصومون عنها ، بل إذا كان الإلقاء بقصد الإهانة يكون كفرا!
ومن الغريب أنّ الخصم بظاهر كلامه خصّ الحمل عند أصحابه بذلك ، مع أنّه في كلّ ما سبق من المباحث عيال على « المواقف » وشرحها ، وهما لم يذكرا هذا! وإنّما ذكرا وجوها أخر :
ص: 94
منها : ما اختاره صاحب « المواقف » ، وهو أنّ فعل موسى بأخيه لم يكن على سبيل الإيذاء ، بل أراد أن يدنيه لنفسه ليتفحّص منه عن حقيقة الحال ، فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه (1) ، فقال : ( تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ... ) (2) .. الآية.
وهذا الحمل منقول عن السيّد المرتضى (3) وأنّ الرازي استحسنه (4).
ومنها : إنّ موسى لمّا رأى جزع أخيه واضطرابه من قومه أخذه ليسكّن من قلقه(5).
ومنها : إنّ موسى لمّا غلب عليه الهمّ [ واستيلاء الفكر ] أخذ برأس أخيه لا على طريق الإيذاء ، بل كما يفعل الإنسان بنفسه من عضّ يده وشفته وقبض لحيته ، إلّا أنّه نزّل أخاه منزلة نفسه ، لأنّه شريكه في ما يناله من خير أو شرّ (6).
ثمّ قال الشارح : « قال الآمدي : لا يخفى بعد هذه التأويلات وخروجها عن مذاق العقل » (7).
ولم يذكر الشارح لنفسه شيئا وكأنّه على مذاق الآمدي ، وهو في محلّه لبعد هذه الوجوه جدّا ، مع أنّها لا ترفع إشكال إلقاء الألواح ..
ص: 95
والأولى في الجواب أنّ بني إسرائيل لمّا كفروا واتّخذوا العجل ، أراد موسى علیه السلام أن يبيّن لهم عظيم جرمهم وشديد سخطه عليهم ، فألقى الألواح الكريمة إظهارا للضجر من فعلهم ، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه مع علمه ببراءة ساحته ، تفظيعا لعملهم ، وتنبيها لهم على سوء ما أتوا به ، وعلى مساءته منهم من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة (1) ، كما هو في القرآن كثير ، قال تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (2) ، مع علمه سبحانه بأنّه معصوم عن الشرك .. وقال تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ... ) (3) الآية ..
فيكون فعل موسى لمصلحة انزجارهم عن الكفر حتّى أظهر لأخيه أنّه ينبغي مفارقتهم واتّباعه له لعظيم ما جاءوا به ، فيكون فعله راجحا لا حراما ، بخلاف فقء عين ملك الموت ، فإنّه لا مصلحة فيه البتّة!
واعلم أنّه ليس في الآية الكريمة أنّ موسى كسر الألواح وضرب أخاه كما ادّعاه الخصم ، ولكن حمله على ذلك هضم الحقّ والتهويل على الغافلين.
وأمّا قوله : « وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء » ..
ففيه : إنّ الطاهر ابن المطهّر لا ينكر إلّا ما هو صريح بالذنب والجهل ، كرواية فقء عين ملك الموت ، لا على ما يقرّب فيه التوجيه ويتّضح فيه الحمل كالآية الشريفة ، فتدبّر واستقم!
ص: 96
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال في صفة الخلق يوم القيامة : « وإنّهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم ، فيأتون نوحا فيعتذر إليهم ، فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم! أنت نبيّ اللّه وخليله ، اشفع لنا إلى ربّك ، أما ترى ما نحن فيه؟! فيقول لهم : إنّ ربّي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولم يغضب بعده مثله ، وإنّي قد كذبت ثلاث كذبات ، نفسي .. نفسي ، إذهبوا إلى غيري » (2).
وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لم يكذب إبراهيم النبيّ إلّا ثلاث كذبات » (3).
كيف يحلّ لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء؟!
وكيف الوثوق بشرائعهم مع الاعتراف بتعمّد كذبهم؟!
ص: 97
وقال الفضل (1) :
قد عرفت في ما مضى أنّ الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب(2).
وأمّا الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لما صحّ الحديث ، فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته ، كما قال : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (3) ..
وكان مراده إلزامهم ونسبة الفعل إلى كبيرهم ؛ لأنّ الفأس الذي كسّر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام ، فالكذب المؤوّل ليس كذبا في الحقيقة ، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهرا ، وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة.
* * *
ص: 98
سبق أنّ أكثرهم أجازوا صدور الكبائر عن الأنبياء سهوا قبل النبوّة وبعدها ، وعمدا قبلها ، وأنّ بعضهم أجاز صدورها عمدا بعدها ، ومنها الكذب في غير التبليغ ، بل أجاز بعضهم صدور الكفر عنهم لله (1) ..
وقد نقل الخصم هناك بعض ذلك (2) ، فكيف يزعم هنا الإجماع على عصمتهم عن الكذب؟!
وأمّا ما زعمه من أنّ المراد صورة الكذب ، فلا يلائم الحديث ، ولنذكره لتتّضح الحال ..
روى البخاري في كتاب تفسير القرآن ، في سورة بني إسرائيل ، عن أبي هريرة ما ملخّصه :
إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا سيّد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذلك؟! يجمع اللّه الناس الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ، فيقول الناس : ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع إلى ربّكم؟!
فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ؛ فيأتونه ، فيعتذر بأنّ اللّه سبحانه نهاه عن الشجرة فعصاه ..
ويأتون نوحا بأمر آدم ، فيعتذر بأنّ له دعوة على قومه ..
ص: 99
ويأتون إبراهيم بأمر نوح ، فيعتذر بأنّه كذب ثلاث كذبات ..
ويأتون موسى بأمر إبراهيم ، فيعتذر بأنّه قتل نفسا لم يؤمر بقتلها ..
ويأتون عيسى بأمر موسى ، فيعتذر ..
ثمّ قال : ولم يذكر ذنبا » (1).
وهذا صريح بأنّ تلك الأمور الواقعة من الأنبياء الأوّل ذنوب ، وبعضها من الكبائر ، كالكذب وقتل النفس.
ومن المعلوم أنّ صورة الكذب ليست ذنبا إذا أدّت إليها الضرورة الدينية ، بل هي طاعة عظمى.
وقد صرّح أيضا بأنّ إبراهيم صاحب خطيئة حديث آخر رواه البخاري عن أنس في أواخر « كتاب الرقاق » ، وحديث رواه عنه أيضا في « كتاب التوحيد » في باب قول اللّه تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (2) .. قال فيهما ما حاصله :
« يجمع اللّه الناس يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا إلى ربّنا؟ ..
فيأتون آدم ، ثمّ نوحا ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، فيقول كلّ منهم : لست هناك ؛ ويذكر خطيئته » (3).
ص: 100
وما أدري كيف تتصوّر الخطيئة من نوح في دعائه ، وهو إنّما دعا على الكافرين الّذين لا يلدون إلّا فاجرا كفّارا؟!
ودعوى أنّ خطيئته لنسبته ذلك إليهم كذبا ، باطلة ، إذ لو سلّم عدم إضلالهم وأنّهم يلدون مؤمنا ، فنسبة ذلك إن صدرت منه خطأ فلا خطيئة له ، وإن صدرت عمدا كانت له خطيئتان : الكذب والدعوة على من لا يستحقّ ، لا خطيئة واحدة كما يظهر من الأخبار هذه!
وممّا ينكره العقل على هذه الأحاديث :
أوّلا : إعراض المسلمين عن طلب الشفاعة من نبيّهم وهم يعتقدون أنّه سيّد الأنبياء ، وعدول من عدا عيسى من هؤلاء الأنبياء عن نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وهم يعلمون أنّه أولى بالشفاعة.
كما ينكر العقل عليها ثانيا : مخاطبة الناس بعضهم بعضا ، وطلبهم الرأي وهم في حال الشدّة وقد دنت الشمس منهم ، واللّه سبحانه يقول : ( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللّهِ شَدِيدٌ ) (1).
وأيضا فقد نسب في حديثي أنس إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله رؤية اللّه (2) ، وقد عرفت امتناعها (3).
ونسب إليه في حديث أنس بكتاب التوحيد ، أنّه قال : « فأستأذن
ص: 101
على ربّي في داره » (1) فأثبت له المكان ، وهو يوجب الإمكان.
واعلم أنّا نعتقد أنّ إبراهيم علیه السلام لم يكذب قطّ حتّى بقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (2) ..
إمّا لكونه ليس من باب الإخبار الحقيقي ، بل من باب التبكيت والإلزام لهم بالحجّة على بطلان مذهبهم وعبادتهم لما لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرّا ، كما يشهد له قوله : ( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (3).
وإمّا للاشتراط بقوله : ( إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) ؛ لدلالته على أنّ إخباره مقيّد به بناء على كونه شرطا لقوله : ( فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) .
ولكنّ الكلام في أحاديث القوم الدالّة على الكذب الحقيقي من إبراهيم علیه السلام ، وأنّ خطيئته تمنعه من الشفاعة.
نعم ، للبخاري في « كتاب بدء الخلق » ، ولمسلم في « باب فضائل إبراهيم » ، رواية تدلّ على أنّ كذبتين من الثلاث حقيقيّتان ، إلّا أنّهما في ذات اللّه! والثالثة بصورة الكذب لمصلحة شرعية (4)! ..
وهذه الرواية لا توجب صرف روايات الشفاعة عن ظاهرها من الخطيئة ، بل تنافيها وتضادّها ، وإلّا فما معنى اعتذار إبراهيم عن الشفاعة بالكذب والخطيئة إذا كان كذبه في ذات اللّه ، أو صوريّا لمصلحة شرعية؟!
ص: 102
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (2) ، ويرحم اللّه لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » (3).
كيف يجوز لهؤلاء الاجتراء على النبيّ بالشكّ في العقيدة؟!
* * *
ص: 103
وقال الفضل (1) :
كان من عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله التواضع مع الأنبياء كما قال : « لا تفضّلوني على يونس بن متّى » (2) ..
وقال : « لا تفضّلوني على موسى » (3).
وقد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء ، فذكر ثبات إبراهيم في الإيمان ، والمراد بالحديث أنّ إبراهيم مع ثباته في الإيمان وكمال استقامته في إثبات الصانع ، كان يريد الاطمئنان ويقول : ( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (4) ، فغيره أحقّ بهذا التردّد الذي يوجب الاطمئنان.
وأمّا الترحّم على لوط فهو أمر واقع ، فإنّ لوطا كان يأوي إلى ركن شديد كما قال : ( آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (5) ، فترحّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله له لكونه كان ضعيفا ، وليس فيه الدلالة على أنّه صلی اللّه علیه و آله عاب لوطا في إيوائه إلى ركن شديد.
وأمّا قوله : « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » ..
ففيه : وصف يوسف بالصبر والتثبّت في الأمور ، وأنّه صبر مع طول
ص: 104
السجن حتّى تبيّن أمره.
فانظروا معاشر الناظرين : هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى الأنبياء ، مع أنّ الحديث صحّ وهو يطعن في قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
نعوذ باللّه من رأيه الفاسد.
* * *
ص: 105
لا ريب بتواضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع المؤمنين فضلا عن النبيّين ، لكن لا وجه للتواضع المدّعى مع إبراهيم ويوسف ، إذ لا يصحّ تواضع الشخص بإثباته لنفسه أمرا قبيحا ، كقول الشخص : أنا فاسق ، أو نحوه.
وقول النبيّ : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم » فإنّ الشكّ في الصانع والحشر أعظم الأمور نقصا ومباينة لمن هو في محلّ الدعوة إلى الإقرار بالصانع والحشر.
وقريب منه قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » ، فإنّه دالّ على قلّة صبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وحكمته بالنسبة إلى يوسف ، وهو لا يلائم دعوته إلى مكارم الأخلاق والصبر الكامل والتسليم ..
فإنّه صلی اللّه علیه و آله إذا جعل نفسه أدنى صبرا من يوسف الذي توسّل غفلة إلى خلاصه من السجن بمخلوق ، فقال : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) (1) ، لما ناسب طلبه من الناس الصبر الأعلى ، والتسليم لأمر اللّه في كلّ شيء ، والاستعانة باللّه لا بغيره في كلّ أمر.
كما إنّ تواضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي ذكره الخصم مع موسى ويونس كاذب ، وإلّا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله متناقض القول ؛ لأنّه يقول في مقامات أخر :
ص: 106
« أنا سيّد ولد آدم » (1)
ويقول : « إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين ، وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر » (2) ..
ويقول : « أنا سيّد الناس يوم القيامة » (3).
وكذا في الحديث السابق الذي ذكر فيه اعتذار أعاظم الأنبياء عن الشفاعة.
وهذا الذي زعم الخصم تواضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه مع موسى قد رواه القوم بقصّة ظاهرة الكذب ؛ لأنّهم زعموا فيها أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنكر على من فضّله على موسى ، وأنّه أظهر بمحضر اليهودي الشكّ في فضله على موسى ، مستندا إلى أنّه ينفخ في الصور وأنّه أوّل من يبعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا يدري النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحوسب موسى بصعقته في الطور ، أم بعث قبله؟!
ص: 107
وهذا إغراء لليهودي بالجهل! حيث ادّعى أنّ اللّه اصطفى موسى على البشر ، فلا يمكن أن يصدر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله !
روى ذلك مسلم في باب فضائل موسى ، والبخاري في أوّل أبواب الخصومات بعد كتاب المساقاة ، وفي تفسير سورة الأعراف ، وفي كتاب بدء الخلق (1).
وأمّا قوله : « وقد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء » ..
ففيه : إنّا لا نعرف فضيلة ذكرت فيه لإبراهيم ولوط ..
أمّا لإبراهيم ؛ فلأنّه لم يشتمل بالنسبة إليه إلّا على إثبات الشكّ له في الحشر ، ولا أقلّ من دلالته على أنّه ضعيف اليقين ، وذلك مباين للنبوّة ، ومناف لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) (2) .. وقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (3).
والحقّ أنّ إبراهيم علیه السلام لم يطلب الاطمئنان بالحشر ، بل بغيره (4) ، أو
ص: 108
طلب الاطمئنان بالحشر لقومه بأن يكون خطابه مع اللّه مجاراة لهم لطلبهم له كقول موسى : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) (1) (2).
وأمّا عدم اشتماله على فضيلة للوط ؛ فلأنّ قول النبيّ : « ويرحم اللّه لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » (3) ، ظاهر في التعريض بلوط ، حيث قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (4).
فإنّ قول لوط يدلّ على أنّه لم يأو إلى ركن شديد لمكان « لو » ، فعرّض به النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّه كاذب ، لأنّه آوى ، أو بأنّه ضعيف القلب لا يرى الركن الشديد ركنا شديدا ، وكلاهما ذمّ لا فضيلة!
ومن المضحك أنّ الخصم استدلّ على إيوائه إلى ركن شديد بقوله في الآية : ( آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) ، مع أنّ معناها : « لو آوي »!
وأيّ عيب يريد الخصم أن يشتمل عليه الحديث أكثر من الضعف الذي زعمه ، وهو مناف للإمامة فضلا عن النبوّة؟! حتّى إنّ الخصم بنفسه حكم في مبحث الإمامة بأنّه يشترط في الإمام أن يكون شجاعا قويّ القلب ، فكيف يجوز إثبات الضعف للنبيّ؟! وكيف يصحّ الحديث الدالّ على ذلك؟!
ص: 109
والحقّ أنّ ذلك القول من لوط علیه السلام لم يكن عن ضعف منه ، وإنّما قاله لأنّ نظر الناس إلى القوّة التي يشاهدونها لا إلى اللّه تعالى ، فخاطبهم على حسب عقولهم ، أو لأنّه قال ذلك استفزازا لعشيرته واستنصارا بهم على الحقّ.
* * *
ص: 110
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
وفي الصحيحين ، قال : « بينما الحبشة يلعبون عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحرابهم ، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء ، فحصبهم بها ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعهم يا عمر » (2).
وروى الغزّالي في « إحياء علوم الدين » : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان جالسا وعنده جوار يغنّين ويلعبن ، فجاء عمر فاستأذن ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله للجوار [ ي ] : اسكتن! فسكتن ، فدخل عمر وقضى حاجته ، ثمّ خرج ..
فقال لهنّ : عدن ؛ فعدن إلى الغناء.
فقلن : يا رسول اللّه! من هذا الذي كلّما دخل قلت : اسكتن ؛ وكلّما خرج قلت : عدن إلى الغناء؟!
قال : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل » (3).
كيف يحلّ لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
أيرى عمر أشرف من النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يؤثره؟!!
ص: 111
وقال الفضل (1) :
أمّا لعب الحبشة بالحراب فإنّه كان يوم عيد ، وقد ذكرنا أنّه يجوز اللّهو يوم العيد بالاتّفاق (2).
ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللعب بالحراب ؛ لأنّه ينفع في الحرب ، وفيه المهارة من طعن الحربة وكيفية تعليمه وإلقائه في الحرب ، وكلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به.
ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه فعلّمه النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وأمّا ما روي عن الغزّالي ، فإن صحّ يمكن حمله على جواز اللعب مطلقا ، أو في أيّام الأعياد ، وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يسمعه لضرورة التشريع حتّى يعلم أنّ اللّهو ليس بحرام ، وربّما كان عمر يمتنع منه ومكّنه على عدم السماع ، ليعلم أنّ الأولى تركه ، وسمع هو - كما ذكرنا - لضرورة التشريع ، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعمر من أمّته وممّن يتعلّم منه الشريعة؟!
* * *
ص: 112
دعواه أنّ ذلك اللعب كان يوم عيد ، رجم بالغيب ، ومجرّد ورود بعض أخبارهم في وقوع لعب يوم عيد لا يقتضي أن يكون هذا اللعب كذلك.
ومن نظر إلى أخبارهم الكثيرة في وقوع اللعب عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع عدم تعيين وقت (1) ، علم أنّه لم يختصّ بوقت ، على أنّك عرفت حال ما استدلّوا به لحلّيّة اللّهو في العيد (2).
وأمّا تعليله لحلّيّة اللعب في الحراب بنفعه في الحرب ، وأنّ كلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به ، فدعوى مجرّدة عن دليل.
وأمّا عذره بأنّ عمر لا يعلم ، فمستلزم لأن يكون عمر - بحصبه للحبشة بمحضر النبيّ صلی اللّه علیه و آله - مقدّما بين يدي اللّه ورسوله ، وهو ممّا نهى اللّه عنه في كتابه العزيز (3).
ومن أظرف الأمور أنّه كلّما وردت رواية تتضمّن مثل ذلك يكون محلّها عند الخصم جهل عمر وتعليم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إيّاه ، فهلّا علم جواز
ص: 113
اللّهو في العيد من أوّل مرّة؟!
وأمّا جوابه عن رواية الغزّالي بأنّه يمكن حملها على جواز اللعب مطلقا ..
ففيه : إنّه لا يصحّ معارضة السنّة للكتاب المجيد بنحو المباينة (1) ، فكيف يحلّل اللّهو بها مطلقا وقد حرّمه الكتاب كذلك؟!
وأمّا دعوى السماع لضرورة التشريع ، فقد عرفت ما فيها من منع الضرورة ؛ لعدم انحصار طريق التشريع بالسماع (2) ، وكيف يسمعه النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأولى ترك السماع بإقرار الخصم؟!
أيحتمل أن يمتنع عمر منه ويمكّنه النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الامتناع ، ولا يمتنع عنه بنفسه الطاهرة وله عنه مندوحة بالتشريع القولي؟!
ولو توقّف تشريع جواز المكروهات على فعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لها ، للزم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يأتي بكلّ مكروه ، كما يلزم أن يأتي بكلّ محرّم أبيح للضرورة ، كشرب الخمر ، فيضطرّه اللّه سبحانه إليه فيشربه تشريعا له ؛ ولم يقل به مسلم!
ولو سلّم حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى السماع للتشريع كفى سماعه أوّل مرّة ، فما باله يقول : « عدن » إذا خرج عمر؟! وما باله تكرّرت منه الوقائع الكثيرة كما تفيده أخبارهم؟!
ثمّ إنّ تعبير النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن اللّهو ب « الباطل » دليل على أنّه حرام لا مكروه ، فإنّ المكروه لا يسمّى باطلا ، فيلزم أن يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله عند
ص: 114
القوم مرتكبا للحرام والباطل دون عمر ، وكذا عند عمر نفسه ، فيكون أفضل من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلى الإسلام السلام!!
وقريب من رواية الغزّالي ما رواه أحمد ، عن الأسود بن سريع (1) ، قال : « أتيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقلت : يا رسول اللّه! إنّي قد حمدت ربّي بمحامد ومدح وإيّاك.
قال : هات ما حمدت به ربّك.
قال : فجعلت أنشده ، فجاء رجل أدلم (2) فاستأذن ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : بين بين.
قال : فتكلّم ساعة ثمّ خرج ، فجعلت أنشده ، ثمّ جاء فاستأذن ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : بين بين ؛ ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثا.
فقلت : يا رسول اللّه! من هذا الذي استنصتّني له؟!
قال : عمر بن الخطّاب ، هذا رجل لا يحبّ الباطل ».
* * *
ص: 115
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وفي « الجمع بين الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : « أقيمت الصلاة وعدّلت الصفوف قياما قبل أن يخرج إلينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج إلينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلمّا قام في مصلّاه ذكر أنّه جنب ، فقال لنا : مكانكم! فلبثنا على هيئتنا قياما ، فاغتسل ثمّ خرج إلينا ورأسه يقطر ، فكبّر وصلّينا » (2).
فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنّه يحضر الصلاة ويقوم في الصفّ وهو جنب؟!
وهل هذا إلّا من التقصير في عبادة ربّه وعدم المسارعة إليها؟! وقد قال تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (3) .. ( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (4) ..
فأيّ مكلّف أجدر بقبول هذا الأمر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
وفي « الجمع بين الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إحدى صلاتي العشيّ - وأكثر ظنّي أنّها العصر - ركعتين ،
ص: 116
ثمّ سلّم ، ثمّ قام إلى خشبة في مقدّمة المسجد فوضع يده عليها ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يكلّماه.
وخرج سرعان الناس فضجّ الناس وقالوا : أقصرت الصلاة؟! ورجل يدعى ذو اليدين قال : يا نبيّ اللّه! أنسيت أم قصرت الصلاة؟!
فقال : لم أنس ولم تقصر.
قال : بلى نسيت.
قال : صدق ذو اليدين.
فقام فصلّى ركعتين ، ثمّ سلّم » (1).
فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!
وكيف يجوز منه أن يقول : « ما نسيت »؟! فإنّ هذا سهو في سهو!
ومن يعلم أنّ أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع أنّهما لم يذكرا ذلك للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
* * *
ص: 117
وقال الفضل (1) :
قد مرّ في ما سبق جواز السهو والنسيان على الأنبياء ؛ لأنّهم بشر ، سيّما إذا كان السهو موجبا للتشريع (2) ، فإنّ التشريع في الأعمالالفعلية آكد وأثبت من الأقوال ، فما ذكر من حديث تذكّر الجنابة فمن باب النسيان ، وفيه تشريع العمل بعد النسيان إذا تذكّر.
ولهذا ترجم البخاري الباب الذي ذكر فيه هذا الحديث بقوله : « باب من تذكّر أنّه جنب رجع فاغتسل » (3) ، ولا يلزم من هذا نقص.
وما ذكر من سهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الصلاة ، فهو سهو يتضمّن التشريع ؛ لأنّه شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة ، وكذا الكلام القليل.
والعجب أنّه قال : « كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر ما نسي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! » ..
وأيّ عجب في هذا؟! فإنّ الإمام كثيرا ما يسهو ، والمأمومون لا يسهون ، فلا يلزم من هذا تفضيل المأموم على الإمام ، وهل هذه الكلمات إلّا ترّهات ومزخرفات؟!
* * *
ص: 118
بيّنّا في ما سبق امتناع وقوع السهو من النبيّ في العبادة ، وبطلان التشريع بالأفعال الموجبة لنقصه كما في المقام (1) ، فإنّ سهوه عن الغسل حتّى يشارف على الدخول في الصلاة أو يدخل فيها نقص ظاهر ، إذ هو خلاف المحافظة على العبادة والسبق إلى الخير ، ومناف لما حثّ به على كثرة تلاوة القرآن التي تكره من الجنب ، بل تحرّم إذا كان من العزائم (2).
على أنّه معرّض لنزول الملائكة عليه ، والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب كما استفاض في أخبارهم (3) ، فكيف يؤخّر غسله هذا التأخير حتّى ينسى؟!
وأيضا : قد تضافرت الأخبار - كما سبق - بأنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه (4) ، فكيف ينام عن عبادة ربّه وهو يقظان؟!
ولا يمكن أن يسهيه اللّه طلبا للتشريع ؛ فإنّ نبيّه أشرف عنده من أن يجعله عرضة للنقص ومحلّا للانتقاد بأمر عنه مندوحة ، وهي التشريع بالقول.
ص: 119
ودعوى أنّ التشريع بالأعمال الفعلية آكد لا نعرف وجهها ، بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ الفعل يحتمل خصوصية النبيّ بخلاف القول العامّ.
ولو تنزّلنا عن هذا كلّه ، فلا نتصوّر حاجة للتشريع في أمر الغسل ؛ لأنّ الواجب المؤقّت الذي لم يفت وقته ، أو غير المؤقّت ، لا يحتاج إلى التشريع بعد النسيان ، لكفاية الأمر الأوّل في لزوم الإتيان به.
هذا ، ولا يخفى أنّ حديث الجنابة الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه لم يصرّح بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر الجنابة بعد الدخول في الصلاة ، ولكنّ حديث أحمد (1) عن أبي هريرة صرّح به ، قال : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله خرج إلى الصلاة ، فلمّا كبّر انصرف ، وأومأ إليهم - أي : كما أنتم - ، ثمّ خرج فاغتسل ، ثمّ جاء ورأسه يقطر فصلّى بهم ، فلمّا صلّى قال : إنّي كنت جنبا فنسيت أن أغتسل ».
وكذا حديث أحمد عن عليّ علیه السلام (2) ، قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوما ، فانصرف ثمّ جاء ورأسه يقطر ماء ، فصلّى بنا ، ثمّ قال : إنّي صلّيت بكم آنفا وأنا جنب ، فمن أصابه مثل الذي أصابني ، أو وجد رزّا (3) في بطنه ، فليصنع مثل ما صنعت ».
ومثله في كنز العمّال ، عن الطبراني (4).
ص: 120
ونقل في ( الكنز ) أيضا في صفحة قبل الصفحة المذكورة ، عن ابن عساكر ، عن أبي بكرة : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كبّر في صلاة الفجر ، ثمّ أومأ إليهم ، ثمّ انطلق فاغتسل ، فجاء ورأسه يقطر فصلّى بهم » (1).
ونحوه في موطّأ مالك ، تحت عنوان : إعادة الجنب الصلاة وغسله إذا صلّى ولم يذكر (2).
.. إلى غير ذلك من أخبارهم (3) ..
وهي بظاهرها باطلة ؛ لإفادتها أنّهم لم ينقضوا صلاتهم ، وأتمّوها مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد ما اغتسل وصلّى ، وهذا ضروريّ البطلان ؛ للفصل الطويل الواقع في أثناء صلاتهم ؛ ولأنّ الجماعة لا تنعقد مع سبق المأمومين بتكبيرة الافتتاح ، فتزيد أحاديث نسيان النبيّ صلی اللّه علیه و آله للجنابة إشكالا فوق إشكال ، فاتّضح أنّها كاذبة على سيّد المرسلين!
كما كذبت بمثله على سيّد الوصيّين ..
روي في ( الكنز ) (4) : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام صلّى بالناس جنبا فأمرهم بالإعادة ».
وكيف لا يكذّب هذا الخبر ومن المعلوم من مذهب أهل البيت علیهم السلام عدم إعادة المأمومين إذا كان الإمام جنبا؟! (5).
ص: 121
ولعلّ الداعي إلى كذب القوم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ووصيّه علیه السلام هو المحافظة على شؤون أشياخهم.
فقد روي في ( الكنز ) قبل الحديث الأخير بقليل : « إنّ عمر صلّى بالناس الصبح جنبا ، وأنّه صلّى بهم ركعتين بغير طهارة » (1).
وروى أيضا : « إنّ عثمان صلّى بالناس جنبا » (2) ، لكن زعم عثمان أنّه لم يعلم بالجنابة!
ثمّ إنّه بما ذكرنا هنا وفي ما سبق تعلم النظر في ما أجاب به الخصم عن حديث سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الصلاة ، وعن السهو في السهو ، وليس الداعي لهم - أيضا - إلى هذا الكذب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا دفع النقص عن أوليائهم حيث تكرّر منهم ذلك! ..
حتّى روي في ( الكنز ) (3) : « إنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا حتّى سلّم ، فلمّا فرغ قيل له : [ إنّك لم تقرأ شيئا؟! ] فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها ؛ [ فأعاد عمر وأعادوا ] ».
فليت شعري أيّ عبادة هذه؟! وأيّ إقبال على اللّه تعالى مع هذه
ص: 122
التمنّيات والوساوس الشيطانية؟!
وروي في ( الكنز ) أيضا بعد الحديث المذكور : « إنّ عمر صلّى بالناس العشاء الآخرة ، فلم يقرأ بها ... فاعتذر بأنّي سهوت ، جهّزت عيرا من الشام حتّى قدمت المدينة ، فأمر المؤذّن فأقام الصلاة ، ثمّ عاد وصلّى بالناس العشاء » (1).
وهذا من الجهل ؛ لأنّ نسيان القراءة لا يوجب الإعادة! ..
.. إلى غير ذلك ممّا رووه عن أشياخهم ، من السهو والإعراض عن الصلاة ، حتّى روى البخاري في : « باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة » ، عن عمر أنّه قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة » (2).
وأمّا قوله : « شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة » ..
ففيه : إنّ المشي إلى الخشبة ليس ممّا يتعلّق بها ، وكذا الدخول إلى الحجرة والخروج منها كما في حديث مسلم (3) ، بل الدخول والخروج مستلزمان للانحراف عن القبلة ، ولو إلى المغرب والمشرق ؛ لأنّ بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله في يسار المسجد ، ومثل هذا الانحراف مبطل للصلاة وإن وقع سهوا ..
على أنّ تلك الأفعال كثيرة عرفا ، والكثير مبطل للصلاة عند
ص: 123
جمهورهم كما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن كتاب « الينابيع » (1) وشرحها ، ونقل عنهما : إنّ الخطوات الثلاث المتوالية من الكثير (2).
هذا ، مضافا إلى أنّ عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله المكث بعد الصلاة إلى أن تنصرف النساء ويدخلن بيوتهنّ ، كما رواه البخاري في أواخر كتاب الأذان ، في باب مكث الإمام في مصلّاه بعد الصلاة (3) ، وهذا موجب للفصل الطويل بين أجزاء الصلاة مضافا إلى الفصل الحاصل من الكلام والدخول والخروج وغيرها ، فتتغيّر هيئة الصلاة ، فتبطل.
وأمّا ما زعمه من تشريع النبيّ صلی اللّه علیه و آله للكلام القليل في أثناء الصلاة ..
ففيه : إنّ السلام الواقع على الركعتين مع الكلام المتكرّر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الكثير عرفا ، فيبطل الصلاة وإن وقع سهوا عنها.
على أنّ بعض ما رووه من كلامه صلی اللّه علیه و آله كان من الكلام العمدي ، فيبطل الصلاة وإن قلّ!
ص: 124
روى الحاكم (1) : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سها في المغرب فسلّم في ركعتين ، فأمر بلالا فأقام الصلاة ، ثمّ أتمّ تلك الركعة ».
ونحوه في كنز العمّال (2) ، عن ابن أبي شيبة.
فإنّ أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله لبلال بالإقامة بعد ما تبيّن له السهو ، كلام عمدي.
وروي في ( الكنز ) قبل الحديث المذكور بقليل ، عن الدارقطني وعبد الرزّاق : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد ما قال : أصدق ذو اليدين؟! وقال الناس : نعم ؛ قال : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، ثمّ صلّى بهم ... » (3).
فإنّ إقامة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد انكشاف السهو له ، كلام عمدي ، وهو مبطل للصلاة بالسنّة والإجماع.
كما إنّه بمقتضى أخبارهم أنّ الناس أيضا سلّموا على ركعتين ، وصدرت منهم الأفعال والأقوال الكثيرة عمدا ، فكان اللازم عليهم إعادة الصلاة لمجرّد السلام فضلا عن غيره!
وكان اللازم أيضا على النبيّ صلی اللّه علیه و آله البيان ، ولم ينقل شيء من ذلك ، بل نقلوا في بعض أخبارهم أنّه صلی اللّه علیه و آله أتمّ بهم الناقص فقط ، حتّى إنّهم لم ينقلوا أنّه أمرهم بسجود السهو مثله ، أو أنّ أحدا منهم سجد ، وهذا من شواهد الكذب ..
ص: 125
وإنّ قصد الرواة مجرّد نسبة السهو إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله دفعا للطعن عن أنفسهم وأوليائهم ، وإرضاء لأئمّة جماعاتهم ، كما يعرفه من سبر أحوالهم.
وأمّا قوله : « والعجب أنّه قال : كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر » ..
ففيه : إنّ المصنّف لم ينكر على حفظهما ، بل على من روى حفظهما وأثبته لهما ، والحال أنّهما لم يذكرا ذلك للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .
فإنّ قول الراوي : « فهاباه أن يكلّماه » دالّ على أنّهما حافظان لما نسيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومنعتهما هيبته عن بيان سهوه له ، وهذا أمر تشهد الضرورة بكذبه ، إذ كيف يترك عمر بيانه له - لو كان حافظا - وهو خلاف ما يروونه من أحواله معه وجرأته عليه؟!
وكفاك ما رووه من حصبه للحبشة بحضرته (1) ..
ومعارضته له في الصلاة على ابن أبيّ (2) ..
وجرأته عليه يوم الحديبية (3) ..
وقوله في وجهه المبارك : « إنّ النبيّ ليهجر » (4) ..
فإنّ من يواجهه بالهجر لا يهاب من مواجهته بالسهو!
ص: 126
وكذلك أبو بكر ، فإنّه قد مارى عمر في تأمير الأقرع بن حابس حتّى ارتفعت أصواتهما بحضرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ..
وقد زعموا أنّه أخذ بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقال له : حسبك! فقد ألححت على ربّك! لمّا ناشد النبيّ ربّه عهده يوم بدر (2).
ولعمري لو كان لقصّة سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله أصل ، لكان أبو بكر وعمر أوّل من يلاقيه بها كما هو ظاهر لكلّ منصف.
* * *
ص: 127
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وفي الصحيحين ، عن عبد اللّه بن عمر أنّه كان يحدّث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنّه دعا زيد بن عمرو بن نفيل (2) ، وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقدّم إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل ما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه » (3).
فلينظر العاقل ، هل يجوز له أن ينسب نبيّه إلى عبادة الأصنام والذبح على الأنصاب ويأكل منه ، وأنّ زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف باللّه منه ، وأتمّ حفظا ورعاية لجانب اللّه تعالى؟!
نعوذ باللّه من هذه الاعتقادات الفاسدة!
* * *
ص: 128
وقال الفضل (1) :
من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل ، وعدم الاعتماد والوثوق على نقله ، رواية هذا الحديث ..
فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه ، وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه!
وتمام الحديث : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام ، قال : وأنا أيضا لا آكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر اسم اللّه عليه ، فأكلا معا » (2).
وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية ، نسأل اللّه العصمة من التعصّب ، فإنّه بئس الضجيع.
* * *
ص: 129
قد راجعنا صحيح البخاري فوجدنا الحديث إثر أبواب المناقب ، وفي باب ما ذبح على النصب والأصنام من كتاب الذبائح ، وما رأينا لهذه التتمّة أثرا! (1).
وقد رواه أحمد في مسنده (2) ، ولم يذكر ما أضافه الخصم!
وليست هذه أوّل كلمة وضعها ، بل سبق له مثلها قريبا في روايات اللّهو (3) ، وسيأتي له أمثالها!
ولا عجب فإنّها سنّة لهم في غالب أخبارهم ، ومنها أصل هذا الحديث ، ولكنّي أعجب من إرعاده وإبراقه وسؤاله العصمة عن التعصّب ونسبته إلى المصنّف عدم الأمانة! وكأنّه يريد بذلك أن يدعو قومه إلى إضافة هذه التتمّة!!
* * *
ص: 130
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
وفي الصحيحين ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : « كنت مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ، فتنحّيت ، فقال : ادنه ؛ فدنوت حتّى قمت عند عقبيه ، فتوضّأ ومسح على خفّيه » (2).
فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله البول قائما ، مع أنّ أرذل الناس لو نسب هذا إليه تبرّأ منه؟!
ثمّ المسح على الخفّين واللّه تعالى يقول : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) (3)؟!
فانظروا إلى هؤلاء القوم كيف جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء ، وأنّ النبيّ يجوز أن يسرق درهما (4) ، ويكذب في أخسّ الأشياء وأحقرها (5)!
ص: 131
وقال الفضل (1) :
اختلف في جواز البول قائما ، فالذي يجوّزه يستدلّ بهذا الحديث ، وعن الأطبّاء : إنّ البول قائما ينفع الكلية والمخصر ؛ فالنبيّ صلی اللّه علیه و آله عمل هكذا ليشرّع جواز البول قائما.
وأيّ منقصة يتصوّر من البول قائما ، سيّما إذا كان متضمّنا للتشريع؟!
وطلب الدنوّ من حذيفة ربّما يكون لتشريع جواز البول قائما بقرب من الناس ، بخلاف الغائط ، لغلظته ، ولهذا كان يبعد من الناس في الغائط دون البول.
وأمّا المسح على الخفّ ، فهو جائز بالإجماع من أهل السنّة ، كما سيأتي في مباحث الفقه ، واللّه أعلم.
ثمّ ما ذكر أنّهم جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء ، والنبيّ يجوز أن يسرق درهما ، فقد ذكرنا أنّ هذا افتراء محض ، ووجب تنزيه الأنبياء من الصغيرة الدالّة على الخسّة (2).
* * *
ص: 132
يدلّ على كذب الحديث أمور :
الأوّل : ما رواه أحمد في مسنده ، عن عائشة (1) ، قالت : « من حدّثك أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بال قائما فلا تصدّقه ، ما بال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائما منذ أنزل عليه القرآن ».
ونحوه في كتاب الطهارة من مستدرك الحاكم (2) ، وصحّحه هو والذهبي في ( التلخيص ) على شرط البخاري ومسلم
الثاني : ما نقله البغوي في باب أدب الخلاء ، من ( مصابيحه ) ، من الحسان ، عن عمر ، قال : « رآني النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبول قائما ، فقال : يا عمر! لا تبل قائما » (3)
الثالث : إنّ البول قائما يستلزم بحسب العادة وصوله إلى البائل ، ولا سيّما عند قرب انقطاعه ، ولا ريب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أولى بتجنّب موارد احتمال الإصابة ، فضلا عن موارد القطع العادي ..
ص: 133
كيف؟! وقد روى مسلم في آخر كتاب الطهارة : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرّ بقبرين ، فقال : أما إنّهما يعذّبان وما يعذّبان في كبير ، أمّا أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وكان الآخر لا يستنزه عن البول » (1)
ونحوه في موارد كثيرة من صحيح البخاري (2).
ونقل البغوي في باب أدب الخلاء من الحسان : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أراد أن يبول ، فأتى دمثا (3) في أصل جدار فبال ، ثمّ قال : إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله » (4)
فمع هذه الأخبار ، وأضعافها من أخبارنا (5) ، كيف نصدّقهم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه بال قائما؟! ولا سيّما مع دعوى طلب دنوّ حذيفة منه ، وهو مناف للحياء وسنّته ، فإنّه كان يبعد المذهب ، ولم ير على بول أو غائط.
ودعوى التشريع واضحة البطلان ، إذ ليس لإباحة البول قائما بقرب الناس من الأهمّية ما يحتاج إلى التشريع بالفعل ، وقد كان التشريع بالقول ممكنا ، وأظهر بيانا!
ص: 134
وليس البول قائما في الجواز إلّا كالتغوّط قائما ، وإرسال الريح جالسا بين الناس ، فهل ترى يحسن فعلهما للتشريع؟!
وأمّا قوله : « وأيّ منقصة تتصوّر من البول قائما؟! » ..
فمن مكابرة الضرورة ، ولكن يحقّ له نفي المنقصة ، فقد كان إمامهم عمر يفعل ذلك كما عرفت ، وكذلك ابنه عبد اللّه!
روى مالك في موطّئه تحت عنوان : « ما جاء في البول قائما » ، عن عبد اللّه بن دينار ، قال : « رأيت عبد اللّه بن عمر يبول قائما » (1).
وعن النووي : « إنّ عمر كان يقول : البول قائما أحصن للدبر » (2).
ولعلّه لهذه الحكمة كان يفعله ويفعله أصحابه!
وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة تجويز الخطأ والغلط افتراء عليهم ؛ فمكابرة ظاهرة ؛ لأنّه بنفسه في ما سبق ذكر الخلاف بينهم في عصمة الأنبياء عن الكذب سهوا في ما يبلّغونه عن اللّه تعالى (3) ، فإذا جاز الخطأ في التبليغ ، ففي العمل أولى ..
ولذا أجازوا سهو النبيّ في الصلاة ، فكما يجوز أن يصلّي الظهر ركعتين سهوا وخطأ ، فليجز أن يخطأ في مسح الخفّ والمطلوب المسح على الرجل.
وأمّا إنكاره لتجويز سرقة الدرهم على الأنبياء ؛ فمبنيّ على أنّها من
ص: 135
الصغائر الدالّة على الخسّة ، وهو من محدثات بعض المتأخّرين منهم ، كصاحب « المواقف » (1) ، وقد ذهبوا إليه - مع مخالفته لقواعدهم - فرارا من بعض الشناعات!
* * *
ص: 136
تشتمل على أخبار لهم معتبرة عندهم ، نسبوا فيها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى ما لا يليق! ..
فمنها : ما رواه البخاري في أوّل صحيحه ، ومسلم في باب بدء الوحي من كتاب الإيمان ، عن عائشة ، قالت في أثناء حديثها :
« حتّى فاجأه الوحي وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : إقرأ!
قال : ما أنا بقارئ.
قال : فأخذني فغطّني (1) حتّى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : إقرأ!
فقلت : ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : إقرأ!
فقلت : ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطّني الثالثة ، ثمّ أرسلني فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) (2).
ص: 137
فرجع بها رسول اللّه يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة ، فقال : زمّلوني زمّلوني (1) ، فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة : كلّا! ما يخزيك اللّه أبدا ، إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ.
فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ، ابن عمّ خديجة ، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، وكان شيخا كبيرا قد عمي.
فقالت له خديجة : يا بن عمّ! اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة : يا بن أخي! ماذا ترى؟
فأخبره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر ما رأى.
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزّل اللّه على موسى » (2) .. الحديث.
ورواه البخاري أيضا في باب التعبير بعد أبواب كتاب الحيل ، وزاد فيه قوله :
« وفتر الوحي فترة حتّى حزن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - في ما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلّما أوفى بذروة جبل
ص: 138
لكي يلقي منه نفسه تبدّى له جبرئيل فقال : يا محمّد! إنّك رسول اللّه حقّا ؛ فيسكن لذلك جأشه ، وتقرّ نفسه.
فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرئيل فقال له مثل ذلك » (1).
ورواه أحمد في ( مسنده ) في مقامات عديدة ، وفي بعضها أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لخديجة : « خشيت أن يكون بي جنن » (2).
وروى ابن الأثير في ( كامله ) نحو ما سبق (3) ، وزاد فيه :
« وقالت خديجة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيما تثبّته في ما أكرمه اللّه به من نبوّته : يا بن عمّ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟
قال : نعم.
فجاءه جبرئيل ، فأعلمها ، فقالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى.
فقام فجلس عليها ، فقالت : هل تراه؟
قال : نعم.
قالت : فتحوّل فاقعد على فخذي اليمنى.
فجلس عليها ، فقالت : هل تراه؟
قال : نعم.
فتحسّرت ، فألقت خمارها ورسول اللّه في حجرها ، ثمّ قالت : هل تراه؟
ص: 139
قال : لا.
قالت : يا بن عمّ! اثبت وأبشر ، فو اللّه إنّه ملك وما هو بشيطان ».
ورواه الطبري أيضا في تاريخه مع هذر كثير (1).
ورواه في « الاستيعاب » بترجمة خديجة (2).
وهذا الحديث أحقّ بأن يجعل مسخرة للناظرين لا رواية للراوين! وذلك لأمور :
الأوّل : إنّه كيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرارا : « ما أنا بقارئ » ويتحمّل المشاقّ ، ولم يسأل جبرئيل عمّا يراد قراءته؟! وهل هو من كتاب أو غيره؟! فلعلّ له بأحد الوجوه علما أو عذرا!
ثمّ كيف يجوز لجبرئيل إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله وترويعه وهو يراه عاجزا عن إتيان ما أمره به ، فهل جاء معنّفا أو معلّما؟!
وليت شعري ما لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يستسلم بين يديه مرارا ويرجف فؤاده؟! ألم تكن له عند القوم شجاعة موسى فيلطم جبرئيل كما لطم موسى ملك الموت؟!
الثاني : إنّه لا يمكن أن يجهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه رسول اللّه وقد علم برسالته قبل وقتها الكهّان والرهبان ، ولو جهل بها لكان غيره أولى بالجهل بها في تلك الحال ، فيلغو فيها إرساله.
أيجوز أن يبعث اللّه من لا يدري برسالة نفسه ولا يعلم ما هو؟! وهو سبحانه قد بعث عيسى وهو في المهد وعرّفه أنّه نبيّه وأنطقه برسالته!
ص: 140
ولا أدري أيّ نبوّة لمن يخشى على نفسه من رسول اللّه إليه؟! ..
وأيّ رسالة لمن يحقّقها بقول نصراني ، ويتعرّفها بقول امرأة ، حتّى تثبّته عليها بذلك الطريق الوحشي؟!
ولعمري إنّ امرأة تثبّت نبيّا نبوّته وتعلّمه بها لأحقّ منه بالنبوّة! وعلى ذلك يكون ورقة وخديجة أوّل الناس إسلاما والسابقين فيه حتّى على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهذا بالخرافات والكفر أشبه!
الثالث : إنّه كيف يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلقاء نفسه من شواهق الجبال وهو فعل من لا عقل له ، وقد حرّمه الشرع كتابا وسنّة! حتّى روى أحمد (1) ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يردى في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها ».
فيا حسرة لسيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله ! ويا أسفا على شأنه من شانئيه! مرّة ينسبونه إلى الهجر في القول ، ومرّة إلى الهجر في العمل ، لعمر اللّه لقد فضحنا هؤلاء المتّسمون بالمسلمين عند الملل الخارجة!
فيا هل ترى إذا جاء الرجل منهم وفتح أصحّ كتاب بعد كتاب اللّه بزعم جمهور من يدّعي الإسلام ، ونظر إلى أوّل صفحة منه ، ورأى فيها هذه الخرافة والشناعة ، كيف يقع في ذهنه الإسلام؟! وفي أيّ محلّ يجعل النبيّ الأطيب من الصدق والمعرفة والعقل؟!
وممّا يكذّب هذا الحديث ما رواه البخاري في تفسير سورة المدّثّر ، عن أبي سلمة ، قال : سألت جابر بن عبد اللّه : أيّ القرآن أنزل أوّل؟
فقال : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (2).
ص: 141
فقلت : أنبئت أنّه : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (1).
فقال : لا أخبرك إلّا بما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ..
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كنت في حراء ، فلمّا قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ، فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ، وأنزل [ عليّ ] : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (2) (3).
فإنّه صريح في تكذيب الحديث السابق المبنيّ على أنّ أوّل آية نزلت قوله تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) وقد يقال : إنّ الحديثين متكاذبان فيلغيان ، وهما باللغو متشابهان!
فقال : ما هذه الأصوات؟!
قالوا : النخل يؤبّرونه (1).
فقال : لو لم يفعلوا لصلح - وفي رواية : كان خيرا -!
فلم يؤبّروا عامئذ ، فصار شيصا (2) ، فذكروا ذلك للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال : إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به ، وإذا كان شيئا من أمر دينكم فإليّ ».
فليت شعري كيف لا يعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ النخل لا يصلح بغير تأبير وهو في محلّ النخل فعلا ، وفي قربه سابقا ، وقد قارب عمره الستّين أو تجاوز؟!.
ولو فرض أنّه لا يعلم ، كيف يقول : « لو لم يؤبّروا لصلح - أو : كان خيرا - »؟! فيكذب - حاشاه - من غير رويّة ، ويرسل من غير سدد!
وهل يوثق به بعد هذا أو يسترشد برأيه في الأمور العامة ومصادر الزعامة؟!
ولو نسب هذا إلى أحد لكان مسخرة لمن سمع ، وأعجوبة لمن عقل ، فكيف ينسب إلى سيّد النبيّين ، العالم بأسرار الأشياء ، المعلّم من ربّ الأرض والسماء ، الذي لا ينطق إلّا عن وحي ، ولم يعط مثله أحد جوامع الكلم؟!
ص: 143
ومنها : ما رواه البخاري في كتاب الدعوات ، في باب قول اللّه تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ... ) (1) ، عن عائشة ، قالت : « سمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجلا يقرأ في المسجد ، فقال : رحمه اللّه! لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها في سورة كذا وكذا » (2).
ورواه مسلم بهذا اللفظ ، وبلفظ « أنسيتها » بدل « أسقطتها » في باب الأمر بتعهّد القرآن ، من أبواب فضائل القرآن (3).
ورواه أبو داود ، في أوّل كتاب الحروف والقراءة ، من سننه ، عن عائشة أيضا ، بلفظ : « كأيّن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها » (4).
وهذا من أكذب الأحاديث ؛ لقوله سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (5) ، ولأنّه أبلغ الأمور نقصا بالنبيّ ؛ لأنّ من ينسى ما أرسل به ، وما هو معجزة له ، لم يكن محلّ الوثوق والاعتماد في التبليغ ، فلا يصلح للرسالة.
ص: 144
وروى مسلم في الباب المذكور ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : بئسما لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت ؛ وقال : بئسما للرجل أن يقول :
نسيت سورة كيت وكيت ، وأنسيت آية كيت وكيت (1).
فكيف يذمّ غيره على ذلك وهو يتّصف به؟!
ومنها : ما رواه مسلم في باب قضاء الصلاة ، آخر كتاب المساجد ، من الأخبار الكثيرة المتضمّنة لنوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح حتّى أيقظه وأصحابه حرّ الشمس ، وفي بعضها كان أبو بكر أوّل من استيقظ ، ثمّ استيقظ عمر ، فقام عند نبيّ اللّه فجعل يكبّر ويرفع صوته بالتكبير حتّى استيقظ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2)!
وروى البخاري نحو ذلك في كتاب التيمّم ، في باب الصعيد الطيّب وضوء المسلم ، وفي كتاب الصلاة ، في باب الأذان بعد ذهاب الوقت (3).
فما أدري أأصدّق نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن عبادة ربّه الواجبة ، وقد كان
ص: 145
تنام عيناه ولا ينام قلبه؟! أم أصدّق ثقل نومه حتّى يحتاج إلى أن يرفع عمر صوته بالتكبير عنده؟! أم أصدّق نوم الجيش كلّه بلا حارس ، وهو ممّا لم يتّفق؟!!
وروى البخاري في أثناء أبواب التقصير ، في باب إذا نام ولم يصلّ بال الشيطان في أذنه ، وفي كتاب بدء الخلق ، في باب صفة إبليس وجنوده ، أنّه ذكر عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجل نام ليله حتّى أصبح ، فقال : « ذلك رجل بال الشيطان في أذنه » (1).
ورواه مسلم في باب الحثّ على صلاة الوقت ، من كتاب صلاة المسافرين (2).
فهل يجوز عند القوم أن يفعل الشيطان ذلك بنبيّهم؟! قبّح اللّه آراءهم!
ومنها : ما رواه البخاري في بابين من أواخر كتاب المواقيت ، وفي باب قول الرجل : ما صلّينا ، من كتاب الأذان ، وفي أواخر كتاب الجمعة :
« إنّ عمر بن الخطّاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسبّ كفّار قريش ، قال : يا رسول اللّه! ما كدت أصلّي العصر حتّى كادت الشمس تغرب.
ص: 146
قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما صلّيتها!
فقمنا إلى ضجنان (1) فتوضّأ للصلاة وتوضّأنا لها ، فصلّى العصر بعد ما غربت ، ثمّ صلّى بعدها المغرب » (2).
ورواه مسلم في باب الدليل لمن قال : الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، من كتاب المساجد (3).
وهذا الحديث أسوأ من الحديث الذي قبله ؛ لأنّ ترك الصلاة في اليقظة أعظم من تركها للنوم!
فلو فرض صدق هذا الخبر كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله مصداقا لقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) (4)! ..
وكذلك المسلمون جميعا سوى عمر! وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله مخالفا لأمر اللّه بالسبق إلى الخيرات والمسارعة إلى المغفرة ، ولما حثّ عليه هو بنفسه من الصلاة في أوّل وقتها!
ص: 147
وليت شعري كيف نسيها يوم الخندق ولا حرب ، وهو لم ينسها في سائر المشاهد عند تقابل الصفوف وتلاقي السيوف؟!
ولا أدري كيف عمّ النسيان المسلمين جميعا غير عمر؟!
فلا ريب أنّ استثناء عمر هو الداعي لوضع هذا الحديث وتوهين مقام الرسالة .. كما أنّ ذكره وذكر صاحبه بطرف فضيلة هو الداعي لوضع الحديث الذي قبله.
ومنها : ما رواه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، في باب من لعنه النبيّ أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ إنّما أنا بشر ، فأيّما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته ، فاجعلها له زكاة ورحمة » (1).
وفي رواية : « اللّهمّ إنّما محمّد بشر يغضب كما يغضب البشر » (2).
وروى نحو ذلك عن عائشة وغيرها (3).
وكذا رواه البخاري في باب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من آذيته فاجعل ذلك له قربة إليك » ، من كتاب الدعوات (4).
ص: 148
وأخرجه أحمد (1).
وهو كذب صريح ، ونقص في النبيّ صلی اللّه علیه و آله كبير ؛ لأنّه مستلزم - وحاشا النبيّ - لفسقه ، لما رواه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (2)
وكيف يلعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مسلما وهو يقول : « لعن المؤمن كقتله » كما رواه مسلم في باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ، من كتاب الإيمان (3)
ويقول : « لا يكون اللعّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة » ..
ويقول : « لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّانا » ..
كما رواهما مسلم ، في باب النهي عن لعن الدوابّ ، من كتاب البرّ والصلة (4)
ص: 149
وروى مسلم في هذا الباب ، عن أبي هريرة : « أنّه قيل : يا رسول اللّه! ادع على المشركين؟ قال : إنّي لم أبعث لعّانا ، وإنّما بعثت رحمة » (1)
وروى فيه أيضا : « أنّه سمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض أسفاره امرأة لعنت ناقتها ، فقال : خذوا ما عليها ودعوها ، فإنّها ملعونة (2).
وفي رواية : « لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة » (3)
مع أنّ ذلك ليس من أخلاقه صلی اللّه علیه و آله ، فقد كان كما وصفه اللّه تعالى : ( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (4) ، فكيف يكون سيّئ الخلق لعّانا؟!
وروى البخاري في كتاب الآداب ، في باب لم يكن النبيّ فاحشا ولا متفحّشا ، عن أنس ، قال : « لم يكن [ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ] سبّابا ، ولا فحّاشا ، ولا لعّانا ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة ما له ترب جبينه » (5)
وروى في الباب عن عائشة : « أنّ يهودا أتوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقالوا : السام عليكم.
ص: 150
فقالت عائشة : عليكم ، ولعنة اللّه وغضب اللّه عليكم.
قال : مهلا يا عائشة! عليك بالرفق ، وإيّاك والعنف والفحش » (1) .. الحديث
فكيف يكون سبّابا للمؤمنين كأقلّ البشر؟!
أو كيف يجلد أحدا جورا وهو يقول : « المسلم من سلم الناس من يده ولسانه » كما في أوائل صحيح البخاري (2)؟!
نعم ، ربّما يلعن بعض المنافقين وفراعنة الأمّة ، الّذين ينزون على منبره نزو القردة (3) ؛ لكشف حقائقهم ، إذ يعلم بابتلاء الأمّة بهم ، كبني أميّة ، الشجرة الملعونة في القرآن (4) ، لكنّ أتباعهم
ص: 151
وضعوا الحديث الذي صيّروا فيه اللعنة زكاة ليعمّوا على الناس أمرهم ، ويجعلوا لعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهم لغوا ، ودعاءه على معاوية بأن « لا يشبع اللّه بطنه » (1)باطلا ، فجزاهم اللّه تعالى عن نبيّهم ما يحقّ بشأنهم!
ومنها : ما رواه أحمد (2) ، عن عائشة ، أنّ يهودية قالت لها : « وقاك اللّه عذاب القبر.
قالت : فدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ ، فقلت : هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟
قال : لا ، وعمّ ذلك؟!
قالت : هذه يهودية قالت : وقاك اللّه عذاب القبر.
قال : كذبت يهود ، وهم على اللّه أكذب ، لا عذاب دون يوم القيامة.
ثمّ مكث بعد ذلك ما شاء اللّه أن يمكث ، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه ، محمرّة عيناه ، وهو ينادي بأعلى صوته : أيّها الناس! ستعيذوا باللّه من عذاب القبر ، فإنّ عذاب القبر حقّ ».
وروى أيضا عن عائشة (3) ، قالت : « سألتها امرأة يهودية فأعطتها ، فقالت لها : أعاذك اللّه من عذاب القبر ؛ فأنكرت عائشة ذلك ، فلمّا رأت النبيّ صلی اللّه علیه و آله قالت له ، فقال : لا.
ص: 152
قالت عائشة : ثمّ قال لنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك : إنّه أوحي إليّ أنّكم تفتنون في قبوركم ».
فهذا الحديث لو صدق لا قتضى أن يكون نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعذاب القبر كذبا وقولا بغير علم! بل تقوّلا على اللّه تعالى ؛ لأنّه يخبر بما هو نبيّ ، واللّه سبحانه يقول : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1).
واقتضى أن يكون قوله : « كذبت يهود » ظلما لهم وحيفا عليهم ، حمله عليه الهوى ، واللّه سبحانه يقول : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (2).
فكيف جاز لهؤلاء القوم أن ينسبوا ذلك إلى سيّد النبيّين؟!
ومنها : ما رواه أحمد (3) ، عن عائشة ، قالت : « أرسلت أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة [ بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ] فاستأذنت والنبيّ مع عائشة في مرطها (4) ، فأذن لها ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول اللّه! إنّ أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة.
فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : أي بنيّة! ألست تحبّين ما أحبّ؟!
ص: 153
فقالت : بلى.
فقال : أحبّي هذه لعائشة.
فقامت فاطمة وخرجت ، فجاءت أزواج النبيّ فحدّثتهنّ بما قالت وبما قال لها ..
فقلن لها : ما أغنيت عنّا من شيء ، فارجعي إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
فقالت فاطمة : واللّه لا أكلّمه فيها أبدا.
فأرسل أزواج النبيّ زينب بنت جحش ، فاستأذنت ، فأذن لها ، فدخلت فقالت : يا رسول اللّه! أرسلنني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة.
قالت [ عائشة ] : ثمّ وقعت بي زينب » .. الحديث.
وروى أيضا نحوه (1).
ورواه مسلم في باب فضل عائشة (2).
وهو دالّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يعدل بين أزواجه ، وكان يقدّم عائشة عليهنّ حبّا لها ، وهو خلاف ما أمر اللّه تعالى به ، مع أنّه
قد روى أحمد (3) ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى ، جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط ».
ومثله في مسند أحمد (4).
ونحوه في سنن أبي داود ، في باب القسم بين النساء ، من كتاب
ص: 154
النكاح (1)
وروى البغوي في باب القسم ، من كتاب النكاح ، من ( مصابيحه ) ، من الحسان : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما ، جاء يوم القيامة وشقّه ساقط » (2)
وليت شعري إذا عجز عدل رسول اللّه عن المساواة بين أزواجه اتّباعا لهواه في عائشة ، فكيف يعدل بين الناس والدواعي لخلاف العدل فيهم أكثر وأعظم؟!
وما باله لم يتّبع أمر اللّه تعالى - حاشاه - إذ يقول : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) (3) ، فلا يتزوّج غير عائشة ، أو يطلّق من عداها ويقيم معها في مرطها؟!
ولست أعجب من عائشة في رواية مثل ذلك ، وهي لا تبالي بنقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله لإظهار حبّه لها! ولكنّ العجب ممّن يروي عنها ذلك ونحوه ولا يرعى حرمة سيّد الرسل!!
فكم رووا عنها من خرافات كثيرة متشدّقين بها ، مثل ما رواه أحمد (4) ، عن عائشة ، قالت : « كانت عندنا أمّ سلمة ، فجاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله
ص: 155
عند جنح الليل ، قالت : فذكرت شيئا صنعه بيده ، وجعل لا يفطن لأمّ سلمة ، وجعلت أومئ إليه حتّى فطن ..
قالت أمّ سلمة : أهكذا [ الآن ]؟! أما كانت واحدة منّا عندك إلّا في خلابة (1) كما أرى ، - وسبّت عائشة -!
وجعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ينهاها فتأبى ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : سبّيها! فسببتها [ حتّى غلبتها ].
فانطلقت أمّ سلمة إلى عليّ وفاطمة ، فقالت : إنّ عائشة سبّتها ، وقالت لكم وقالت لكم.
فقال عليّ لفاطمة : إذهبي فقولي : إنّ عائشة قالت لنا وقالت لنا.
[ فأتته ] فذكرت ذلك له ، فقال لها النبيّ صلی اللّه علیه و آله : إنّها حبّة (2) أبيك وربّ الكعبة.
فرجعت إلى عليّ فذكرت له الذي قال لها.
فقال : أما كفاك إلّا أن قالت لنا عائشة وقالت لنا حتّى أتتك فاطمة فقلت لها : إنّها حبّة أبيك وربّ الكعبة ».
فأنت ترى أنّ عائشة قد رمت أمّ سلمة الطاهرة بأنّها سبّتها ظلما ، ولم تنته بنهي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولم تراع حرمته ، وأنّها أرادت الفتنة بينها وبين أمير المؤمنين والزهراء علیهماالسلام ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يجب بضعته إلّا بأنّ عائشة حبّته!
ص: 156
فإن كانت أمّ سلمة صادقة في ما نسبته إلى عائشة بالنسبة إلى أمير المؤمنين والزهراء ، فلم لم ينتصف من عائشة لأخيه وبضعته؟!
وإن كانت كاذبة ، فلم لم يطيّب قلبيهما بتكذيب أمّ سلمة؟!
فهل أغفله عشقه لعائشة عن ذلك كما أغفله عن العدل بين نسائه وطاعة اللّه تعالى ، وعن فعل ما لا يليق بشرفه وشأنه؟!
وليس هذا الخبر إلّا من وضع القصّاصين المخنّثين .. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وروى البخاري في باب قبول الهدية ، من كتاب الهبة ، عن عائشة :
« إنّ الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (1).
ورواه مسلم عن عائشة ، في باب فضلها (2).
وهو أشبه بالخرافات ، إذ كيف يجمل برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك الإنصاف بين أزواجه - تبعا لهواه - حتّى أظهره للناس وعرّفه العامّة فطلبوا مرضاته في مراعاة جانب عائشة؟! فأشبه العشّاق الوالهين لا رسل اللّه ربّ العالمين!!
فاللّه حسيب من ينسب إليه هذه الأباطيل الكاذبة!
وروى أحمد (3) ، عن عائشة : « قالت : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا كنّا بالحرّ انصرفنا وأنا على جمل ، وكان آخر العهد منهم وأنا أسمع صوت
ص: 157
النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو بين ظهري ذلك السمر وهو يقول : وا عروساه! » .. الحديث.
وروى عنها أيضا (1) ، قالت : « خرجت مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن ، فقال للناس : تقدّموا! فتقدّموا.
ثمّ قال لي : تعالي حتّى أسابقك ؛ فسابقته ، فسبقته.
فسكت عنّي حتّى إذا حملت اللحم وبدنت ، ونسيت ، خرجت معه في بعض أسفاره ، فقال للناس : تقدّموا! فتقدّموا.
ثمّ قال : تعالي أسابقك ؛ فسابقته ، فسبقني.
فجعل يضحك وهو يقول : هذه بتلك ».
فيا عجبا كيف يصنع رسول اللّه ذلك وهو الوقور الذي ضحكه التبسّم ، وهو الحييّ الذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها؟!
فهلّا غلبه الحياء أو خاف أن يستخفّه الناس إذ يأمرهم بالتقدّم وهو أميرهم ، وينفرد بزوجته ، ثمّ يسابقها ولا يخشى من ناظر ينظر؟!
وأعظم من ذلك ما رواه أحمد عنها (2) ، قالت في حديث تزويجها بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ثمّ دخلت بي [ أمّي ] (3) فإذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس على
ص: 158
سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار ، فأجلستني في حجره ... فوثب الرجال والنساء [ فخرجوا ] وبنى بي » .. الحديث.
وهذا من أعجب الأحاديث وأفظعها! إذ كيف لا يستنكر النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا الفعل الخاسر الوحشي ولا تحمله الغيرة على إباء هذا الفعل الشنيع؟!
لعمر سيّد المرسلين لو كان له عند القوم حرمة وشأن لما استمعوا إلى عائشة في نقل هذه الأمور وتناقلتها أفواههم وأقلامهم!
ولا يسع المقام استيفاء هذه الكذبات والشناعات ، وربّما تسمع بعضها في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
ومن أخبارهم التي ذكرت في الأنبياء ما لا يليق ، ما رواه البخاري في باب من اغتسل عريانا وحده ، من كتاب الغسل ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر (1).
فذهب مرّة يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فخرج موسى في أثره يقول : ثوبي يا حجر! ثوبي يا حجر! حتّى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ، فقالوا : واللّه ما بموسى من بأس.
وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضربا!
ص: 159
فقال أبو هريرة : واللّه إنّه لندب بالحجر ستّة أو سبعة ضرب بالحجر » (1).
وروى نحوه أيضا في كتاب بدء الخلق ، بعد حديث الخضر مع موسى (2).
وروى نحوه مسلم ، في فضائل موسى ، وفي باب تحريم النظر إلى العورات ، وقال فيه : « حتّى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى » (3).
ولا أدري من أيّ شيء أعجب؟! ..
أمن هتك اللّه نبيّه المقرّب وإيذائه إيّاه لمجرّد دفع وهم الجاهلين في ما لا يضرّ؟!
أم من انحصار طرق التبرئة على اللّه بإخراجه إلى الملأ عاريا عاديا؟!
أم من خروج موسى لقومه بادي العورة وارتكابه الحرام؟!
أم من تأديبه لما لا يعقل؟!
أم من عدم تصوّر موسى علیه السلام أنّ عدو الحجر إنّما هو من أمر اللّه وفعله فلا يستحقّ الضرب؟!
انظر وتبصّر! ولا أعدّ هذه الخرافة من مختصّات أبي هريرة ، بل
ص: 160
يشاركه فيها كلّ راو لها ومصدّق بها!
ومنها : ما رواه البخاري في باب طلب الولد للجهاد ، من كتاب الجهاد والسير ، عن أبي هريرة ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « قال سليمان ابن داود : لأطوفنّ الليلة على مئة امرأة أو تسع وتسعين ، كلّهنّ يأتي بفارس مجاهد في سبيل اللّه.
فقال له صاحبه : قل إن شاء اللّه.
فلم يقل ( إن شاء اللّه ) ، فلم يحمل منهنّ إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل » (1) .. الحديث.
وروى أيضا نحوه في آخر ورقة من كتاب النكاح (2).
وفي كتاب بدء الخلق ، في باب قول اللّه : ( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (3) (4).
وفي كتاب الأيمان والنذور ، في باب الاستثناء في الأيمان (5).
وروى نحوه مسلم أيضا ، في باب الاستثناء ، من كتاب النذور (6).
ص: 161
وأحمد في مسنده (1).
وهو من أسخف الحكايات! فإنّ من يقول هذا القول ينبغي أن يكون قد اغترّ بكثرة الأولاد ، وأنّه ولد له قبل ذلك آلاف من البنين ، وهو غير واقع.
وكيف يحلف نبيّ اللّه على فعل اللّه وحده ، أو يتهاون بقول « إن شاء اللّه » ، لا سيّما بعد تنبيه صاحبه له ، المعبّر عنه بالملك في بعض هذه الأحاديث ، وهو من أعظم الدعاة إلى اللّه ، الموصوف في الكتاب العزيز : ب : ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ؟!
وكيف يستطيع بشر أن يواقع في ليلة واحدة مائة امرأة ، أو تسعا وتسعين ، أو تسعين ، أو سبعين ، على اختلاف أقوال أبي هريرة أو أشباهه من الرواة عنه؟!
ومنها : ما رواه البخاري في أواخر كتاب الجهاد ، عن أبي هريرة ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : قرصت نملة نبيّا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى اللّه إليه : أفي (2) إن قرصتك نملة أحرقت
ص: 162
أمّة من الأمم تسبّح اللّه؟! » (1).
ورواه ونحوه مسلم ، في باب النهي عن قتل النمل ، من كتاب قتل الحيّات (2).
ليت شعري كيف يصحّ أن ينسب مثل ذلك إلى نبيّ من الأنبياء؟!
.. إلى غير ذلك من أخبارهم المعتبرة عندهم التي نسبت الأنبياء إلى ما لا يليق!
وليتهم اكتفوا بها ولم يمسّوا قدس جلال اللّه تعالى بخرافاتهم ..
فمنها : ما رواه البخاري في تفسير سورة « ق » ، عن أبي هريرة :
« يقال لجهنّم : هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد ، فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط » (3).
وفي رواية أخرى : « فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع رجله ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا » (4).
ص: 163
وروى نحو ذلك ، عن أنس ، في كتاب التوحيد ، في باب قول اللّه تعالى ، وهو العزيز الحكيم : ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (1) ، قال : حتّى يضع فيها ربّ العالمين قدمه ، فيزوى بعضها إلى بعض ، ثمّ تقول : قد قد بعزّتك وكرمك » (2).
وكذا عن أبي هريرة ، في باب ما جاء في قول اللّه تعالى : ( إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (3) من الكتاب المذكور ، قال : « فتقول :
هل من مزيد ؛ ثلاثا ، حتّى يضع فيها قدمه فتمتلئ ، ويردّ بعضها إلى بعض وتقول : قط قط قط » (4).
وروى أيضا نحو ذلك عن أنس ، في باب الحلف بعزّة اللّه وصفاته ، من كتاب الأيمان والنذور ، وقال : « لا تزال تقول : هل من مزيد ، حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فتقول : قط قط وعزّتك » (5).
وروى مسلم أخبارا كثيرة من هذا النحو ، في باب النار يدخلها الجبّارون والجنّة يدخلها الضعفاء ، من كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها (6).
ص: 164
وهي كما ترى كفر صريح ؛ لاقتضائها الجسمية والحلول بالمكان ، وفيها تكذيب لله سبحانه حيث يقول في سورة الأعراف : ( اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) (1).
وقال تعالى في سورة ص : ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ ) (2).
وقال تعالى في سورة ألم السجدة : ( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (3).
فإنّ هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّها تمتلئ بإبليس وأتباعه ، فكيف يقال : لا تمتلئ حتّى يضع قدمه؟!
ولعلّ الذي أوهم أبا هريرة وأنسا ، أو الرواة عنهما ، هو قوله تعالى :
( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (4) ، حيث تخيّلوا منه أنّها لا تزال تقول : « هل من مزيد » ولم تمتلئ بالعصاة أصلا ، لا في حين سؤال اللّه تعالى لها عن امتلائها!
وغفلوا عن بقية الآيات المذكورة ، فأحدثوا رواية خيالية ، وكذبوا على حسب ما تقتضيه عقولهم ، وأخذ عنهم الخرافيّون والقصصيّون من دون معرفة أيضا.
ولا يخفى أن قول أبي هريرة : « ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا » (5) دالّ على أنّه سبحانه لو ألقى فيها أحد غير من فيها كان ظالما له ، وهو خلاف
ص: 165
مذهب الأشاعرة (1)!
كما لا يخفى سخافة هذا ؛ لأنّ معناه أنّ اللّه سبحانه يعذّب نفسه إجابة لطلب النار ولا يظلم من خلقه أحدا!
ولا أدري أتحترق رجل ربّهم المدّعى فتطلب من اللّه المزيد ، أم تبقى تحت آلام النار بالتخليد؟!!
وروى فيه (1) ، عن أبي هريرة أيضا ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ، ولا يقل : قبّح اللّه وجهك ، ووجه من أشبه وجهك ، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته ».
فهذه الأخبار قد أثبتت لله صورة مثل صورة الإنسان ، وشبّهته بخلقه ، وهو تجسيم وكفر ولا يمكن تأويلها ، فقبّح اللّه وجه من زوّرها! وكم لهم مثلها!
روى البخاري في تفسير سورة ( ن * وَالْقَلَمِ ) ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « يكشف ربّنا عن ساقه ، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة » (2).
وروى أيضا في تفسير سورة الزمر : « إنّ حبرا جاء إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمّد! إنّا نجد أنّ اللّه يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر [ على إصبع ] ، والماء [ والثرى ] على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع ، فيقول : أنا الملك.
فضحك النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (3) » (4).
ص: 167
وروى نحوه في آخر صحيحه ، في كتاب التوحيد ، في باب قوله : ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (1) (2).
وفي باب كلام الربّ يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (3).
وروى مسلم نحو ذلك في باب صفة القيامة والجنّة والنار ، من كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4).
وروى فيه أيضا : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله [ قال : ] يأخذ اللّه سماواته وأرضيه بيده فيقول : أنا اللّه ؛ ويقبض أصابعه ويبسطها ويقول : أنا الملك » (5).
وروى البخاري ، في باب قول اللّه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (6) ، من كتاب التوحيد ، في حديث طويل عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال فيه : « وتبقى هذه الأمّة ... ، فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم.
فيقولون : أنت ربّنا ؛ فيتبعونه - إلى أن قال : - ثمّ يفرغ اللّه من القضاء
ص: 168
بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ، هو آخر أهل النار دخولا إلى الجنّة ، فيقول : أي ربّ! اصرف وجهي عن النار؟ فيدعو بما يشاء أن يدعوه ، ثمّ يقول اللّه : هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره.
فيقول : لا وعزّتك ، لا أسألك غيره ؛ ويعطي ربّه من عهود ومواثيق ما شاء ، فيصرف اللّه وجهه عن النار ».
ثمّ ذكر ما حاصله : « إنّه يسأل أيضا القرب من الجنّة ، فيقول اللّه : ما أغدرك! فيدعو اللّه ويعطيه المواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقدّمه إلى باب الجنّة ، ثمّ يقول : أي ربّ! أدخلني الجنّة؟
فيقول اللّه : ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت. ويقول : يابن آدم! ما أغدرك!
فلا يزال يدعو حتّى يضحك اللّه منه ، فإذا ضحك منه قال له : ادخل الجنّة » (1).
وروى مسلم نحوه في باب رؤية المؤمنين في الآخرة لربّهم ، من كتاب الإيمان ، وقال فيه : « فيأتيهم اللّه في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربّكم.
فيقولون : نعوذ باللّه منك ، هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا ، فإذا جاء ربّنا عرفناه ؛ فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون » (2).
ص: 169
.. إلى غير ذلك من خرافاتهم التي ينكر القلم نشرها لولا إرادة التنبيه على سقطاتهم ، ولولا نسبتها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله لما ضرّنا روايتهم لها ، وإنّا لنعلم أنّ الخرافيّين والقصّاصين منهم ، كأبي هريرة وأضرابه ، إنّما أخذوا رواية خلق آدم على صورته - ونحوها من الهزليّات - عن اليهود والنصارى (1) ، فلولا نسبتها إلى النبيّ لهان أمرها!
* * *
ص: 170
قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - (1) :
فيلزمهم من ذلك محالات :
منها : جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها ، فإنّ المبلّغ إذا جوّزوا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا ، أو يترك شيئا ممّا أوحي إليه ، أو يأمر من عنده ، فكيف يبقى اعتماد على أقواله؟!
* * *
ص: 171
لا وجه لإنكار تجويزهم الكذب على الأنبياء سهوا ، فإنّ الخصم نفسه قد نقل سابقا عنهم الخلاف في تجويز الكذب في التبليغ سهوا (1).
ونحن نقلنا عن « المواقف » أنّ أكثرهم أجازوا صدور الكبائر عنهم سهوا ومنها الكذب في غير التبليغ (2).
ومعلوم أنّه يكفي في لزوم المحال تجويزهم الكذب سهوا في التبليغ وغيره فضلا عن العمد ، فيجوز أن يكذب النبيّ ويأمر من عنده سهوا ، بل يترك للسهو شيئا ممّا أوحي إليه ، إذ ليس هو من موارد العصمة ولا يقتضيها مذهبهم ، ولذا رووا - كما سبق - أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله نسي بعض آيات الكتاب العزيز (3) ، بل عرفت أنّ كثيرا منهم قالوا بعدم عصمتهم عن الكبائر عمدا (4) ، فيجوز أن يترك ما أوحي إليه عمدا ، ويكذب في غير التبليغ عمدا وقصدا ، بل وفي التبليغ كما تقتضيه رواية الغرانيق (5) ، بل مقتضى هذه الرواية وقوع الكفر عنهم عمدا كما تساعد عليه رواية شكّ إبراهيم علیه السلام ونحوها (6).
ومن نظر إلى الأدلّة التي استدلّ بها بعضهم على ذنوب الأنبياء كما في
ص: 173
« المواقف » (1) ، عرف أنّهم أجازوا عليهم كلّ ذنب ، وهو الذي تقتضيه الروايات التي ذكرها المصنّف وغيرها ، فمع هذا كيف يعتمد على الأنبياء ، إذ لا أقلّ من احتمال السهو فيهم والنسيان؟!
وأمّا ما ذكره من التشريع فقد عرفت ما فيه (2).
* * *
ص: 174
قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :
ومنها : إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه فيها ، فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه واجتمع الضدّان ، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة.
* * *
ص: 175
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا هذا الدليل في ما مضى من قبل الأشاعرة (2) ، وهو حجّة على من يجوّز المعاصي على الأنبياء ، وهذا ليس مذهب الأشاعرة ، والصغائر التي يجوّزونها ما يقع على سبيل الندرة ، ولا يقدح هذا في ملكة العصمة كما قدّمنا (3) ، ويجب أن يكون في محلّ يعلم أنّها واقعة منهم على سبيل الندرة ، والنبيّ يبيّن أنّ هذا ليس محلّ المتابعة.
وبالجملة : قد قدّمنا أنّ تجويز المعصية على الأنبياء مطلقا محلّ تأمّل (4) ؛ لهذا البرهان ، واللّه أعلم.
* * *
ص: 176
هذا الدليل جار في الصغائر والكبائر بلا فرق ، فالتفصيل بينهما لا وجه له وإن وقعت الصغيرة على وجه الندرة ، كما لا فرق في جريانه بين العمد والسهو ، لكنّ الأشاعرة أجازوا الكبائر عليهم سهوا وأجازها بعضهم عمدا كما سبق (1).
وأيضا : لم يقيّدوا وقوع الصغيرة بالندرة ، وبيان أنّها ليست محلّ الاتّباع كما زعمه الخصم لضيق الخناق ، على أنّه لا نفع فيه ، إذ لو بيّن النبيّ أنّ ذلك ليس محلّ الاتّباع لم يعتمد عليه ، لأنّه في محلّ المعصية والإقرار بها فتنتفي فائدة البعثة ، ولعلّه في هذا البيان كان ساهيا أو موهما وليس ذلك بمحال عندهم!
ولو سلّم ، فهو مصحّح أيضا لوقوع الكبيرة ، والخصم لا يقول به.
وأجاب القوشجي عن الدليل بأنّه لا يجب الاتّباع إلّا في ما يتعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، لا في ما يصدر عن بذلة وطبع (2).
وفيه : إنّ فعل النبيّ كلّه ممّا يتعلّق بالشريعة ، ولذا عدّوا فعله من
ص: 177
السنّة كقوله وتقريره ، ولو لم يجب اتّباع فعله لما صحّ الاستدلال بالأخبار الناقلة له ، وهو خلاف الضرورة ، وكلّ عاقل إذا رأى المشرّع فاعلا لشيء يستدلّ به على جوازه.
فظهر أنّ ذكرهم لهذا الدليل قول بلا عمل ، بل بلا قول في الكبائر سهوا والصغائر مطلقا ، وهو إنّما ذكره بعضهم تبعا للإمامية ، ولذا لم يلتزموا بلوازمه.
* * *
ص: 178
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبرّي منه ؛ لأنّه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن اللّه تعالى قد نصّ على تحريم إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).
* * *
ص: 179
أدلّة النهي عن المنكر عامّة للكبائر والصغائر بلا فرق ، ومجرّد العفو عن الصغيرة مع اجتناب الكبائر لا يخرجها عن كونها منكرا يجب النهي عنه ، ولا يجعلها بحكم المباح ، كما يجب نهي فاعل الكبيرة وإن علمنا أنّه يتوب بالأثر.
فإن قلت : النبيّ لا يتأذّى بشيء يعود إلى النهي عن المنكر.
قلت : كيف لا يتأذّى وقد منع عمّا رغب فيه ولا سيّما بالقسر ، وإن كان ربّما يرتفع الأذى في ما بعد لكنّه لا يجدي بعد أن كان الناهي فاعلا للإيذاء.
ثمّ إنّهم أجازوا على الأنبياء فعل الكبائر سهوا ، وهذا الدليل يبطله ، إذ إنّ المنكرات لا يراد وقوعها حتّى سهوا ، غاية الأمر أنّ الساهي غير معاقب في الآخرة ، وهو أمر آخر ، مع أنّه لا يعلم السهو غالبا إلّا بعد أن يعتذر الساهي به.
* * *
ص: 181
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : سقوط محلّه ورتبته عند العوامّ فلا ينقادون إلى طاعته ، فتنتفي فائدة البعثة.
ومنها : إنّه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمّة ؛ لأنّ درجات الأنبياء في غاية الشرف ، وكلّ من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ، كما قال تعالى : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) (2) ، والمحصن يرجم وغيره يحدّ ، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ.
والأصل فيه أنّ علمهم باللّه أكثر وأتمّ ، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته ، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب ، لكنّ الإجماع دلّ على أنّ النبيّ لا يجوز أن يكون أقلّ حالا من آحاد الأمّة.
ومنها : إنّه يلزم أن يكون مردود الشهادة ؛ لقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (3) ، فكيف تقبل شهادته في الوحي؟!
ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمّة ، وهو باطل بالإجماع!
ومنها : إنّه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به ؛ لقوله تعالى :
ص: 182
( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (1) .. ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) .. ( فَاتَّبِعُونِي ) (3) ، والتالي باطل بالإجماع ، وإلّا اجتمع الوجوب والحرمة.
* * *
ص: 183
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ هذه الدلائل حجّة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم ، والإكثار من الصغائر حتّى يصير سببا لحطّ منزلتهم عند الناس ، وموجبا للإيذاء والتعنيف ، وترجيح الأمّة عليه (2).
وأمّا صدور الصغائر التي عفا اللّه عنها إذا كان على سبيل الندرة فغير ممتنع ، ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ، وكلّ هذه الدلائل قد ذكرناها في ما سلف (3) ، وأنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال على من يقول بجواز الكبائر ، وقد قدّمنا أنّ بعض تلك الأدلّة يدلّ على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء مطلقا ؛ واللّه أعلم.
* * *
ص: 184
لا ريب أنّ الدليل الأوّل يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر ، حال النبوّة وقبلها ، عمدا وسهوا ؛ لأنّ الذنب وإن قلّ وصغر يسقط محلّ المذنب ولو في الجملة ، ويمنع من الوثوق التامّ به والانقياد الكامل إليه حتّى مع العلم بسهوه ؛ لأنّ السهو يقع غالبا من التساهل ويجهل الناس سببه فتنتفي فائدة البعثة.
وبالجملة : النبيّ منار الدعوة إلى اللّه تعالى ، وباب طاعته ، فيجب أن يكون بريئا من كلّ عيب يمسّ مقام الدعوة ، ونقيّا من كلّ حزونة (1) لا تسهّل سبيل الطاعة ، فلا يجوز أن يصدر عنه ذنب أصلا.
وأمّا الدليل الثاني : فهو أيضا يثبت عصمتهم عن الذنوب مطلقا حتّى قبل النبوّة ؛ لأنّ معصية الكبير أكبر ، فلو عصوا كانوا أدون حالا من أداني الأمم ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى المكلّفين أكبر الكبائر من أدناهم حتّى مع السهو ؛ لأنّ التمييز بالمعرفة يستدعي المحافظة التامّة ، وبدونها يكون أدنى من الأداني ولو في الجملة ، وهو خلاف ضرورة العقل والملّيّين.
وأمّا الدليل الثالث : فهو يثبت عصمتهم عمّا ينافي العدالة حال النبوّة وقبلها عمدا وسهوا ، مع عدم العلم بسهوه ؛ لأنّ صدورها حينئذ
ص: 185
يثبت فسقه ، والفاسق مردود الشهادة ، فكيف تقبل شهادته (1) بالوحي؟! ويلزم أن يكون أدون حالا من عدول الأمم إذا صدرت عمدا.
وأمّا الدليل الرابع : فهو يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر عمدا وسهوا ، لكن حال النبوّة ، وإنّما جعل المصنّف هذا الدليل مستقلّا مع أنّه أحد شقّي الترديد في الدليل الذي ذكره سابقا بقوله : « ومنها : إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه » ؛ لأنّ الكتاب العزيز يقتضي تعيينه ، فذكره هنا معيّنا لذلك ، وذكره سابقا بنحو الترديد ؛ لأنّ المراد هناك بيان وجوه الاحتمال.
فثبتت من الأدلّة المذكورة عصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وفي جميع الأحوال حتّى قبل النبوّة وإن اختصّ بعض تلك الأدلّة ببعض الذنوب ، وحينئذ فيبطل ما زعمه القوم جميعا من أنّه يجوز عقلا صدور الصغائر والكبائر عنهم عمدا وسهوا ، حال النبوّة وقبلها سوى الكذب في دعوى النبوّة وفي التبليغ كما سبق.
غاية الأمر أنّ أكثر الأشاعرة - على ما ادّعاه في « المواقف » - قالوا بعدم جواز تعمّدهم الكبائر للدليل السمعي في حال النبوّة خاصّة وإن جاز وقوعها عقلا (2).
هذا ، ولا نحتاج في مطلوبنا بعد هذه الأدلّة إلى دلالة المعجزة حتّى يقول الخصم : « ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ».
وأمّا قوله : « إنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال » ..
ص: 186
فمسلّم ؛ لذكر بعضهم لها تبعا لغيرهم ، لكن ما بالهم لم يتّبعوا دلالتها على وجوب العصمة عن الذنوب مطلقا كما عرفت؟!
والظاهر أنّ منشأه عدم التدبّر من وجه ؛ لأنّهم إنّما ذكروها تبعا ، والتعصّب لمذهب الأسلاف من وجه آخر ، كما يشهد له إقرار الخصم بدلالة بعضها على العصمة عن الذنوب مطلقا ومخالفته له في باقي كلماته.
ثمّ إنّه يدلّ على المطلوب أمور أخر ، يغني عن تطويل الكلام فيها ما عرفت ، وسيأتي بعضها في عصمة الإمام إن شاء اللّه تعالى ، كقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) ، وقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2).
* * *
ص: 187
ص: 188
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات ، بريئا من الرذائل والأفعال الدالّة على الخسّة ، كالاستهزاء به والسخرية والضحك عليه (2) ؛ لأنّ ذلك يسقط محلّه من القلوب ، وينفّر الناس عن الانقياد إليه ، فإنّه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشكّ والارتياب.
وخالفت السنّة فيه ..
أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح (3) ، فلزمهم أن يذهبوا إلى
ص: 189
جواز بعثة ولد الزنا المعلوم لكلّ أحد ..
وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك ، وهو ممّن يسخر به ويضحك عليه ويصفع في الأسواق ويستهزأ به ، ويكون قد ليط به دائما لأبنة فيه ، قوّادا.
وتكون أمّه في غاية الزنا والقيادة والافتضاح بذلك ، لا تردّ يد لامس ..
ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة ممّن قد ليط به طول عمره ، حال النبوّة وقبلها ، ويصفع في الأسواق ، ويعتمد المناكير ، ويكون قوّادا بصّاصا (1).
فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليّين ، وأنّ ذلك ممكن ، فيجوز من اللّه وقوعه ، وليس هذا بأبلغ من تعذيب اللّه من لا يستحقّ العذاب ، بل يستحقّ الثواب طول الأبد (2)!
* * *
ص: 190
وقال الفضل (1) :
نعوذ باللّه من هذه الخرافات والهذيانات وذكر الفواحش عند ذكر الأنبياء ، والدخول في زمرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).
وكفى به إساءة الأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء أمثال هذه الترّهات ، ثمّ يفتري على مشايخ السنّة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه.
وقد علمت أنّ الحسن والقبح يكون بمعان ثلاثة :
أحدها : وصف النقص والكمال.
والثاني : الملاءمة والمنافرة.
وهذان المعنيان عقليّان لا شكّ فيه ، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنّهما عقليّان ، فأيّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحّاش ، وكأنّه حسب أنّ الأنبياء أمثاله من رعاع الحلّة ، الّذين يفسدون على شاطئ الفرات بكلّ ما ذكره!
نعوذ باللّه من التعصّب ، فإنّه أورده النار!
* * *
ص: 191
لا يخفى أنّ كون المعنى الأوّل عقليّا عندهم لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الكلام في جواز بعث اللّه سبحانه لصاحب الصفات المذكورة ، والبعث من أفعال اللّه تعالى لا صفاته حتّى يكون وصف نقص أو كمال ، وكون تلك الأمور نقصا في صاحب الدعوة مسلّم ، إلّا أنّ الكلام في جواز بعث اللّه للناقص ، الذي هو من أفعال اللّه تعالى التي لا تتّصف عندهم بالقبح أصلا كخلقه لسائر القبائح والفواحش.
وأمّا المعنى الثاني ، فهو وإن ثبت في الأفعال إلّا أنّ أفعال اللّه تعالى عندهم لا تعلّل بالأغراض ، فلا ملاءمة ولا منافرة فيها مع ما عرفت من الكلام في كونه عقليّا ، فراجع (1).
وبالجملة : لو سلّم قولهم بالحسن والقبح العقليّين بهذين المعنيين لم يلزم عدم جواز بعث اللّه تعالى صاحب الأوصاف المذكورة ، بل يجوز عندهم بعث مثله ، إذ لا يقبح عندهم من اللّه سبحانه شيء وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقد سبق أنّهم جوّزوا بعض المعاصي على الأنبياء ، بحجّة عدم دلالة المعجزة على امتناعه (2) ، وهو آت في المنفّرات المذكورة.
ويدلّ على تجويزهم إرسال صاحب هذه الأوصاف أنّ صاحب
ص: 192
« المواقف » وشارحها قالا : « ولا يشترط في الإرسال شرط من الأغراض (1) والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدة في الخلوات والانقطاعات ، ولا استعداد ذاتي ، من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء ، بل اللّه يختصّ برحمته من يشاء من عباده ، فالنبوّة رحمة وموهبة متعلّقة بمشيئته فقط » (2) ..
فإنّ قولهما : « بل اللّه يختصّ ... » إلى آخره ، دالّ على جواز بعث أيّ شخص كان ، فيجوز أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف إذا تعلّقت بإرساله المشيئة.
ومن العجب استدلال صاحب « المواقف » على عدم اشتراط الإرسال بشرط بقوله تعالى : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) (3) ، فإنّ الآية ظاهرة الدلالة أو صريحتها في أنّ صاحب الدعوة أهل في نفسه فيبعثه اللّه تعالى ؛ لعلمه بأهليّته وأنّه مستعدّ الذات.
ولذا أورد عليه الشارح بقوله : « وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء » (4).
ويدلّ أيضا على تجويزهم إرسال صاحب النقائص المذكورة قول صاحب « المواقف » ، وشارحها أيضا ، في مقام عصمة الأنبياء ، قال :
« وأمّا قبله - أي قبل الوحي - فقال الجمهور - أي أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة - : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة ، إذ لا دلالة للمعجزة
ص: 193
عليه ، ولا حكم للعقل بامتناعها ، ولا دلالة سمعية عليه أيضا.
وقال أكثر المعتزلة : تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها ؛ لأنّه - أي صدور الكبيرة - يوجب النفرة ، وهي تمنع عن اتّباعه فتفوت مصلحة البعثة ، ومنهم من منع عمّا ينفّر مطلقا ، أي سواء لم يكن ذنبا [ لهم ، أو كان ] (1) كعهر الأمهات والفجور في الآباء ودناءتهم واسترذالهم » (2).
فإنّ هذا الكلام دالّ على اختصاص بعض المعتزلة بمنع المنفّرات المذكورة ، فيكون الأشاعرة وبعض المعتزلة مجوّزين لها.
فتحقّق أنّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ وصدق ، وأنّ القوم أولى بحبّ إشاعة الفاحشة في الّذين آمنوا ؛ لأنّهم أجازوا أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف رحمه اللّه تعالى ، بل نسبوا إليهم فواحش الأعمال وأشاعوها في كتبهم على ممرّ الأيام ، كرقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأكمامه ، وحضوره مجالس المغنّين والمغنّيات ، وضرب الدفوف (3) ، وقوله في مدح الأصنام : تلك الغرانيق العلا (4) .. إلى غير ذلك من المخزيات.
وأمّا المصنّف قدس سره فلم يقصد بذكر تلك الأوصاف الشنيعة إلّا الإنكار على القوم واستفظاع آرائهم ، ليرتدع من له قلب ، وناقل الكفر ليس بكافر ، فإساءة الأدب مع الأنبياء إنّما هي ممّن يجوّز فيهم أن يكونوا على تلك الفضائح ، لا ممّن يريد الردع عنه والإنكار عليه!
لكن الخصم لعجزه وحيرته يلوذ بهذه التهمة للمصنّف ، ويشهد
ص: 194
لتحلّيه في هذا التنزّه المصطنع في إجلال مقام الأنبياء قوله سابقا في حقّ اللّه سبحانه ما هو أعظم وأشنع ، وهو أنّه مغلول اليد (1) ، معبّرا به عن تنزيه الإمامية لله تعالى عن فعل القبائح وعقاب من لا ذنب له وإن كان قادرا عليهما.
* * *
ص: 195
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
وأمّا المعتزلة ، فلأنّهم حيث جوّزوا صدور الذنب عنهم (2) ، لزمهم القول بجواز ذلك أيضا ، واتّفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصّة إخوة يوسف (3).
فلينظر العاقل بعين الإنصاف ، هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء الرديئة؟!
وهل يبقى مكلّف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوّته ، وأنّه يصفع ويستهزأ به حال النبوّة؟!
وهل يثبت بقول هذا حجّة على الخلق؟!
واعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط ، وأنّهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول ؛ لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلّف على أنّه لم يفعل ما أمره اللّه تعالى به من غير أن يعلم ما أمر به ، ولا أرسل إليه رسولا ألبتّة ، بل وعلى امتثال ما أمره به ..
وأنّ جميع القبائح من عنده تعالى ، وأنّ كلّ ما وقع في الوجود فإنّه فعله تعالى وهو حسن ؛ لأنّ الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع.
ص: 196
فهذه الصفات الخسيسة في النبيّ وأبويه تكون حسنة ؛ لوقوعها من اللّه تعالى ، فأيّ مانع من البعثة باعتبارها؟!
فكيف يمكن الأشاعرة منع كفر النبيّ وهو من اللّه تعالى ، وكلّ ما يفعله فهو حسن؟! وكذا أنواع المعاصي!
وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟!
نعوذ باللّه من مذهب يؤدّي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرذائل والسقطات!
وقد عرفت من هذا أنّ الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريات.
* * *
ص: 197
وقال الفضل (1) :
استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف استدلال قويّ ؛ لأنّ الإجماع واقع على أنّ إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف في الجبّ ، وغيره من الذنوب التي لا شكّ أنّها كبائر.
وهذا الرجل ما تعرّض بجوابه إلّا بالفحش والخز عبلية (2) واللّوذعية (3) كالرعاع والأجلاف السوقية ، والمعتزلة يثبتون الوقوع (4) ، وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز ، وهذا من غرائب أطواره في البحث.
ثمّ ما ذكر أنّ البحث مع الأشاعرة ساقط لأنّهم يجوّزون تعذيب الكفّار (5) وغيره من الطامّات .. قد عرفت في ما سبق جواب كلّ ما ذكر ، وأنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنى ، وعقليّان بمعنيين (6) ..
وعلمت أنّ كلّ ما ذكره ليس من مذهبهم ولا يرد عليهم شيء ، وأنّهم لا يخالفون ضرورة العقل.
ص: 198
لمّا كان الاستدلال على صدور الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف ساقط جدّا ، اكتفى المصنّف رحمه اللّه في الجواب عنه بإثبات المحاليّة ، ولم يتعرّض لكلمة القائلين بنبوّتهم ودليلهم ، إذ لم يقل بها إلّا من لا عبرة به وبرأيه.
لكنّ الخصم على عادته وعادة أصحابه في التسامح بدعاوي الإجماعات ، قال : الإجماع على نبوّتهم واقع.
ويشهد لعدم الإجماع ما ذكره ابن حزم (1) إذ قال : « إنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قطّ في أنّهم أنبياء نصّ ، لا من قرآن ولا من سنّة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة ».
وقال القاضي عياض في « الشفاء » : « وأمّا قصّة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تعقّب ، وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم » (2).
ونقل ابن أبي الحديد (3) عن المعتزلة : « إنّهم قالوا : يجب أن ينزّه النبيّ قبل البعثة عن الكفر والفسق ».
ثمّ نقل عن أبي محمّد بن متّويه (4) أنّه قال : في كتاب « الكفاية » :
ص: 199
« إنّ أهل العدل كلّهم منعوا من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوّة » (1).
ثمّ قال : « وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث :
إنّ ذلك جائز واقع ، واستدلّوا بأحوال إخوة يوسف ، ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوّة إخوة يوسف » (2).
ويشهد لذلك أيضا كلام صاحب « المواقف » المتقدّم في المبحث السابق ؛ لنقله فيه عن أكثر المعتزلة المنع من صدور الكبيرة على الأنبياء قبل الوحي (3).
ونقله القوشجي عن كثير منهم ، وهو يستلزم القول بعدم نبوّة إخوة يوسف (4).
فأين الإجماع الذي ادّعاه الخصم؟!
على أنّ سادة الأمّة وأئمّتها الّذين أمرنا بالتمسّك بهم قد أنكروا نبوّة إخوة يوسف علیه السلام (5) ، وكذلك شيعتهم.
وأعلم أنّ ظاهر كلام « المواقف » السابق أنّ بعض المعتزلة قائلون بجواز عهر أمهات الأنبياء ، وفجور آبائهم ودناءتهم واسترذالهم ، فيكون شاهدا لما قاله المصنّف رحمه اللّه من تجويز المعتزلة لذلك.
ص: 200
هذا ، وقد استدلّ بعضهم على نبوّة إخوة يوسف علیه السلام بقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ... ) (1) الآية.
قال الرازي في تفسيرها : « اختلفوا في الاجتباء ، فقال الحسن : يجتبيك ربّك بالنبوّة ، وقال آخرون : المراد به إعلاء الدرجة وتعظيم الرتبة ».
.. إلى أنّ قال : « واعلم أنّا لمّا فسّرنا الآية بالنبوّة لزم الحكم بأنّ أولاد يعقوب كلّهم كانوا أنبياء ؛ وذلك لأنّه قال : ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ) ، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، فلمّا كان المراد من تمام النعمة النبوّة لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حقّ من عدا أبنائه ، فوجب أن يبقى معمولا به في حقّ أولاده » (2) ..
وفيه نظر ظاهر ؛ حتّى إذا أريد بالاجتباء الاصطفاء للنبوّة ، كما هو الأقرب ؛ لأنّ عطف إتمام النعمة على الاجتباء دليل على المغايرة بينهما ، ولهذا خصّ يوسف علیه السلام بالاجتباء ، وعمّه وغيره من آل يعقوب بإتمام النعمة.
على أنّه لو أريد بإتمام النعمة النبوّة ، فلا بدّ أن يكون إتمامها عليهم بلحاظ ثبوتها لبعضهم لا لمطلق آل يعقوب ، وإلّا لزم خروج الأكثر ، وهو غير صحيح في العربية ، فكيف يثبت بالآية نبوّة إخوة يوسف علیه السلام ؟!
هذا ، وأمّا ما أشار إليه الخصم من أجوبته السابقة ، فقد عرفت أنّها
ص: 201
لا تستحقّ أن توسم بالجواب.
وقد عرفت أنّ كلّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ بلا ارتياب ..
وأنّ القول بالحسن والقبح العقليّين بالمعنيين المذكورين لا ينفع في منع بعثة من يوصف بتلك القبائح (1) ، فلاحظ واستقم!
* * *
واللّه هو الموفّق ،
وله الحمد حمدا دائما ،
ونسأله العصمة عن الخلل في القول والعمل ،
إنّه أكرم المسؤولين ، وأجود المعطين.
والصلاة والسلام على محمّد وآله المعصومين.
تمّ بقلم مصنّفه محمّد حسن بن الشيخ محمّد مظفّر قدس سره .
* * *
ص: 202
ص: 203
ص: 204
بسم اللّه الرّحمن الرحيم
الحمد ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على سيّد النبيّين وآله المعصومين ، الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
وفيها مباحث :
ذهبت الإمامية إلى أنّ الأئمّة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت ، عمدا وسهوا.
لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم في ذلك كحال النبيّ ، ولأنّ الحاجة إلى الإمام إنّما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم ، ورفع الفساد ،
ص: 205
وحسم مادّة الفتن ، وأنّ الإمام لطف يمنع القاهر من التعدّي ، ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات ، ويقيم الحدود والفرائض ، ويؤاخذ الفسّاق ، ويعزّر من يستحقّ التعزير ، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه ، انتفت هذه الفوائد وافتقر إلى إمام آخر ، وتسلسل (1).
وخالفت السنّة في ذلك ، وذهبوا إلى جواز إمامة الفسّاق والعصاة والسرّاق (2) ، كما قال الزمخشري - وهو من أفضل علمائهم _ :
« لا كالدوانيقي المتلصّص » (3)! يشير به إلى المنصور (4).
فأيّ عاقل يرضى لنفسه الانقياد الديني والتقرّب إلى اللّه تعالى بامتثال أوامر من كان يفسق طول وقته وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش ، ويعرض عن المطيعين المبالغين في الزهد والعبادة؟! وقد أنكر اللّه تعالى بقوله : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ
ص: 206
أُولُوا الْأَلْبابِ ) (1).
فالأشاعرة لا يتمشّى هذا على قواعدهم ، حيث جوّزوا صدور القبائح عنه تعالى ومن جملتها الكذب ، فجاز الكذب في هذا القول ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وأمّا الباقون فإنّهم جوّزوا تقديم المفضول على الفاضل (2) ، فلا يتمشّى هذا الإنكار على قولهم أيضا ..
فقد ظهر أنّ الفريقين خالفوا الكتاب العزيز!
* * *
ص: 207
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليست من أصول الديانات والعقائد ، بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين (2).
والإمامة عند الأشاعرة : هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة ، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة (3).
وشروط الإمام الذي هو أهل للإمامة ومستحقّها أن يكون :
مجتهدا في الأصول والفروع ؛ ليقوم بأمر الدين ..
ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش ..
شجاعا قويّ القلب ؛ ليقوى على الذبّ عن الحوزة ..
عدلا ؛ لئلّا يجور ، فإنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصرّ على الصغائر ..
عاقلا ؛ ليصلح للتصرّفات الشرعية ..
بالغا ؛ لقصور عقل الصبي ..
ذكرا ؛ إذ النساء ناقصات العقل والدين ..
حرّا ..
قرشيّا.
ص: 208
فمن جمع هذه الصفات فهو أهل للإمامة والزعامة الكبرى (1).
وأمّا العصمة فقد شرطها الشيعة الإمامية والإسماعيلية ، واستدلّ عليها هذا الرجل بأنّ الحاجة إلى الإمام بالأمور المذكورة ، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه ، انتفت هذه الفوائد.
ونقول : ماذا يريد من العصمة؟! إن أراد وجوب الاجتناب في جميع أحواله عن الصغائر والكبائر ، فلا نسلّم لزوم ذلك ؛ لأنّ صدور بعض الصغائر المعفوّ عنها لاجتنابه عن الكبائر لا يوجب أن لا يكون منتصفا من الظالم للمظلوم وباقي الأمور المذكورة.
وإن أراد وجود ملكة مانعة من الفجور ، فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ؛ لأنّا شرطنا أن يكون عدلا ، والعدل من له ملكة العصمة المانعة من الفجور ..
وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة ؛ لأنّ الملكة كيفية راسخة في النفس ، متى يراد صدور الفعل عنهصدر بلا مشقّة ورويّة وكلفة ، وصدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة لعوارض لا يخلو الإنسان عنها ، كصاحب الملكة الخلقيّة من العفّة والشجاعة قد يعرض له ما يعرّضه إلى إصدار خلاف الملكة ومع ذلك لا تزول عنه الملكة.
فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصرّ في تركها وإن صدر عنه نادرا بعض الصغائر ، فاندفع الإشكال ، ولم يلزم التسلسل ، كما ذكره.
ص: 209
وأمّا ما قال : « إنّ أهل السنّة خالفوا ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة السرّاق والفسّاق » ..
فأنت تعلم أنّ هذا من مفترياته ؛ لأنّ كتب أهل السنّة مشحونة بالقول بوجوب عدالة الأئمّة ، فالفاسق كيف يجوز أن يكون عندهم إماما؟! والحال أنّه ضدّ العدل ، فعلم أنّه مفتر كذّاب ، ونعم ما قلت فيه شعرا [ من المتقارب ] :
إذا ما رأى طيّبا في الكلام *** بقاذورة الكذب قد دنّسه
يخلّط بالطهر أنجاسه *** فابن المطهّر ما أنجسه
* * *
ص: 210
لا يخفى أنّ أصل الشيء أساسه وما يبتنى عليه ، فأصول الدين هي التي يبتنى عليها الدين ، وبالضرورة أنّ الشهادتين كذلك ، إذ لا يكون الشخص مسلما إلّا بهما ، وكذلك الاعتراف بالإمام ؛ للكتاب والسنّة ..
* أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1) ..
فإنّ الاستفهام فيه ليس على حقيقته ؛ لاستلزامه الجهل ، فلا بدّ أن يراد به الإنكار أو التوبيخ ، وكلّ منهما لا يكون إلّا على أمر محقّق بالضرورة ، فيكون انقلابهم بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله محقّقا ، ولذا قال : ( انْقَلَبْتُمْ ) بصيغة الماضي تنبيها على تحقّقه.
ومن المعلوم أنّ الصحابة بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يعدلوا عن الشهادتين ، فيتعيّن أن يراد به أمر آخر ، وما هو إلّا إنكار إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، إذ لم يصدر منهم ما يكون وجها لا نقلابهم عموما غيره بالإجماع.
فإذا كان إنكار إمامته علیه السلام انقلابا عن الدين ، كانت الإمامة أصلا من أصوله ..
ولا ينافيه أنّ الآية نزلت يوم أحد ، حيث أراد بعض المسلمين الارتداد ، فإنّ سببية نزولها في ذلك لا تمنع صراحتها في وقوع الانقلاب
ص: 211
بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما يقتضيه الترديد في الآية بين الموت والقتل ، فإنّ ما وقع يوم أحد إنّما هو لزعم القتل.
وقد فهم ذلك أمير المؤمنين علیه السلام في ما رواه الحاكم (1) ، عن ابن عبّاس ، قال :
« كان عليّ علیه السلام يقول في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه تعالى يقول :
( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) واللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه ، واللّه لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت ، واللّه إنّي لأخوه ، ووليّه ، وابن عمّه ، ووارث علمه ؛ فمن أحقّ به منّي؟! »
* وأمّا السنّة ، فنحن لا نذكر منها إلّا أخبار القوم كعادتنا ؛ لتكون حجّة عليهم.
فمنها : ما هو كالآية الشريفة في الدلالة على ارتداد الأمّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كروايات الحوض ، ولنذكر منها ما هو صريح بارتداد الأمّة إلّا النادر ،
كرواية البخاري في ( كتاب الحوض ) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال :
« بينما أنا قائم ، فإذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ!
فقلت : أين؟!
قال : إلى النار واللّه!
ص: 212
قلت : وما شأنهم؟!
قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
ثمّ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال :
هلمّ!
فقلت : أين؟!
قال : إلى النار واللّه!
قلت : ما شأنهم؟!
قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم » (1)
فهذه الرواية قد دلّت على ارتداد الصحابة إلّا القليل الذي هو في القلّة كالنعم المهملة المتروكة سدى (2).
وقد عرفت أنّ الصحابة لم يرتكبوا ما يمكن أن يكون سببا للارتداد غير إنكار إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فلا بدّ أن تكون الإمامة أصلا من أصول الدين.
ومنها : الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ من مات بلا إمام مات ميتة جاهليّة ، ونحو ذلك ، فتكون أصلا للدين ألبتّة ، كرواية مسلم في باب : ( الأمر بلزوم الجماعة ، من كتاب الإمارة ) ، عن ابن عمر ، قال :
ص: 213
وسمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة » (1)
وكرواية مسلم أيضا في الباب المذكور ، والبخاري في ثاني أبواب ( كتاب الفتن ) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنّه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهليّة » (2)
وكرواية أحمد (3) ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة ».
.. إلى نحو ذلك ممّا لا يحصى (4).
ومنها : الأخبار الكثيرة التي ناطت الإيمان بحبّ آل محمّد صلی اللّه علیه و آله
ص: 214
والكفر ببغضهم ، فإنّها كناية عن الاعتراف بإمامتهم وإنكارها ؛ للملازمة عادة بين حبّهم الحقيقي والاعتراف بفضلهم وبغضهم وإنكاره ، ولا يراد الحبّ والبغض بنفسيهما ، إذ لا دخل لهما بماهيّة الإيمان والكفر ، فلا بدّ أن يكونا كناية عن ذلك ، فلا بدّ أن تكون أصلا.
فمن هذه الأخبار ما رواه في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حديث طويل قال فيه :
« ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا ، ... ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ... ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا » (2).
ومثله عن تفسير الثعلبي (3).
وروى في « كنز العمّال » (4) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « أساس الإسلام : حبّي وحبّ أهل بيتي »
وروى أيضا (5) ، عن ابن عبّاس : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ يوم
ص: 215
المؤاخاة : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس بعدي نبيّ؟! ألا من أحبّك حقّ (1) بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة جاهليّة ».
وروى أيضا (2) عن الطبراني والحاكم في « المستدرك » (3) وأبي نعيم ، عن زيد بن أرقم ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة »
وروى بعده نحوه عن جماعة ، إلّا أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « فليتولّ عليّا وذرّيّته من بعده ، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (4)
ويحتمل أن يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه بتولّي عليّ الالتزام بولايته ، أي : إمامته ، فيكون دالّا على المطلوب بالصراحة ، ومثله تولّي أولاده في الحديث الأخير.
.. إلى غير ذلك من الأحاديث المستفيضة.
ص: 216
ويشهد لكون الإمامة من أصول الدين ، أنّ منزلة الإمام كالنبيّ في حفظ الشرع ، ووجوب اتّباعه ، والحاجة إليه ، ورئاسته العامّة ، بلا فرق.
وقد وافقنا على أنّها أصل من أصول الدين جماعة من مخالفينا ، كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار (1) ، وجمع من شارحي كلامه ، كما حكاه عنهم السيّد السعيد رحمه اللّه (2).
واعلم أنّ العصمة ملكة تقتضي عدم مخالفة التكاليف اللزومية عمدا وخطأ مع القدرة على الخلاف ، وهي واجبة الثبوت للإمام لأمور :
* الأوّل : ما أشار إليه المصنّف بقوله : « لأنّهم حفظة الشرع ... » إلى آخره ..
وحاصله : إنّ الإمام حافظ للشرع كالنبيّ ؛ لأنّ حفظه من أظهر فوائد إمامته ، فتجب عصمته لذلك ؛ لأنّ المراد حفظه علما وعملا ، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلّا معصوم ، إذ لا أقلّ من خطأ غيره ، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع ، وهو خلاف الضرورة ، فإنّ النبيّ قد جاء لتعليم الأحكام كلّها وعمل الناس بها على مرور الأيّام ، وهذا الأمر لم يتعرّض الخصم لجوابه.
* الثاني : ما ذكره المصنّف بقوله : « إنّ الحاجة ... » إلى آخره ..
وتوضيحه : إنّ الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد توجب عصمته ، وإلّا لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل ؛ لأنّ غير المعصوم إمّا فاسق أو عادل ، وبالضرورة أنّ الفاسق لا تحصل منه تلك الفوائد ولو بالنسبة إلى نفسه ،
ص: 217
فيحتاج إلى غيره ، والعادل كذلك ؛ لأنّ الصغائر قد تحصل منه لأنّها لا تنافي العدالة ، والكبائر ربّما تقع منه أيضا ، ولو لا أنّه قد يفسق فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عن الصغائر والكبائر لو وقعت ، أو يحترز به عن وقوعها.
كما إنّ الخطأ غير مأمون عليه ، فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عمّا يخطأ به وإن كان معذورا ، فإنّ معذوريّته لا تصحّح تفويت تلك الفوائد ، وإلّا لما كانت موجبة للحاجة إلى الإمام.
فإن قلت : الصغائر مع ترك الكبائر معفوّ عنها ، فلا يلزم المنع عنها ، والكبائر لا تقع من العادل عمدا حتّى يجب منعه ، ولو فرض وقوعها عمدا وجب عزله ونصب غيره ، وأمّا وقوعها خطأ ، فهو وإن لم يكن مأمونا منه لكن ربّما لا يوجد فلا يلزم نصب آخر ، ولو وقعت نبّهه من يرفع خطأه وإن لم يكن إماما.
قلت : العفو عن الصغائر لا يرفع حرمتها ، وإلّا لما احتاجت إلى العفو ، كما إنّ السهو عن الكبائر إنّما يرفع العقاب ، فلا بدّ من الحاجة إلى من يردّ فاعلهما.
وأمّا الكبائر مع العمد ، فلا يمتنع وقوعها من العادل ، إذ ربّما تعرض له الكبيرة نادرا من دون أن تزول ملكته ، كما إنّه قد يفسق ، وهو كثير ، والالتزام بوجوب عزله حينئذ غير متّجه ؛ للأخبار الكثيرة الآتية ، ولإمكان أن لا يثبت فسقه عند كلّ أهل الحلّ والعقد ، أو يثبت ولكنّهم مثله في الفسق ، أو لا يمكنهم عزله ، أو يحصل من عزله ضرر أعظم ، فتبتلي الأمّة بإمام فاسق لا يحصل منه محلّ الحاجة إلى الإمام ، وهو ناشئ من عدم اعتبار العصمة والاكتفاء بالعدالة ، ولا سيّما مع كون العدالة الواقعية عسرة الإحراز ، وإنّما تثبت ظاهرا ، إذ ربّما كان العادل في الظاهر فاسقا في الواقع ، فتبتلي
ص: 218
الأمّة من أوّل الأمر بإمام فاسق ، فلا يحصل محلّ الحاجة إلى الإمام ولو بالنسبة إلى نفسه ، فيجب نصب إمام آخر على جميع الوجوه ، لئلّا تفوت الفوائد المطلوبة ويتسلسل.
وأمّا دعوى أنّ الخطأ ربّما لا يقع ، فخلاف المقطوع به عادة ، ولا ينكر المخالفون خطأ أئمّتهم الثلاثة الأول ، فضلا عن غيرهم ، ولو سلّم عدم القطع به ، فمع فرض إمكانه عادة يجب نصب إمام آخر يحترز به عن الخطأ المتوقّع ، لئلّا تفوت تلك الفوائد التي لا تتدارك مع الخطأ ، ولو تسامحنا فيها لما وجب نصب الإمام لأجلها.
قولكم : ولو وقع نبّهه من يرفع خطأه.
قلنا : إذا فات محلّ التدارك لم يبق محلّ للتنبيه ، وكذا لو لم يحضر من يصلح للتنبيه أو لم يصوّب الإمام رأيه ، فلا بدّ من إمام آخر ويتسلسل.
* الثالث : إنّ الإمام لو عصى لوجب الإنكار عليه والإيذاء له من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مفوّت للغرض من نصبه ، ومضادّ لوجوب طاعته وتعظيمه على الإطلاق المستفاد من قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) كما ستعرف.
* الرابع : إنّه لو صدرت المعصية منه لسقط محلّه من القلوب ، فلا تنقاد لطاعته ، فتنتفي فائدة النصب.
* الخامس : إنّه لو عصى لكان أدون حالا من أقلّ آحاد الأمّة ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى الأمّة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي ، أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الأمّة.
ص: 219
* السادس : قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) ، فإنّه دالّ على كون الإمامة من عهد اللّه تعالى ، وعلى اعتبار عصمة الإمام حين الإمامة وقبلها ؛ لأنّ كلّ عاص ظالم ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).
وروى السيوطي في « الدرّ المنثور » بتفسير هذه الآية ، عن ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عبّاس ، قال :
« معناها : إنّه كائن لا ينال عهده من هو في رتبة ظالم ، ولا ينبغي أن يولّيه شيئا من أمره » (3).
وروى أيضا ، عن وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد ، قال : « المعنى : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به » (4).
فإن قلت : إنّما تدلّ الآية على العصمة حين تولّي العهد ، وأمّا قبله - كما ادّعيتموه أيضا - فلا ؛ لأنّ الظالم مشتقّ ، والمشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ بالحال.
قلت : المراد بالحال حال ثبوت مبدأ المشتقّ للذات وتلبّسها به ، والمبدأ هو الظلم لا نيل العهد ، فيكون الظالم عبارة عن الذات في حين الظلم وإن كان زمانه ماضيا ، وهذا لا دخل له بحال ثبوت العهد.
* السابع : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
ص: 220
مِنْكُمْ ) (1) ، فإنّه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على الإطلاق كطاعته وطاعة الرسول ، وهو لا يتمّ إلّا بعصمة أولي الأمر ، فإنّ غير المعصوم قد يأمر بمعصية وتحرم طاعته فيها ، فلو وجبت أيضا اجتمع الضدّان ، وجوب طاعته وحرمتها.
ولا يصحّ حمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات ، إذ - مع منافاته لإطلاقها - لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر بمساواتهم لله تعالى في وجوب الطاعة ، إذ يقبح تعظيم العاصي ، ولا سيّما المنغمس بأنواع الفواحش.
على أنّ وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خوّاص الرسول وأولي الأمر ، بل تجب طاعة كلّ آمر بالمعروف ، فلا بدّ أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأولي الأمر ، وأنّهم لا يأمرون ولا ينهون إلّا بحقّ.
وقد أقرّ الرازي في تفسيره بدلالة الآية على عصمة أولي الأمر ، لكنّه زعم أنّ المراد بهم أهل الإجماع (2)!
وفيه - مع أنّ المنصرف من أولي الأمر من له الزعامة - : إنّ ظاهر الآية إفادة عصمة كلّ واحد منهم لا مجموعهم ؛ لأنّ ظاهرها إيجاب طاعة كلّ واحد منهم ، على أنّ العمل بمقتضى الإجماع ليس من باب الطاعة لهم ؛ لأنّ الإجماع من قبيل الخبر الحاكي.
وأشكل الرازي على إرادة أئمّتنا الأطهار من أولي الأمر بأمور :
* [ الأمر ] الأوّل : إنّ طاعة الأئمّة المعصومين مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو وجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا
ص: 221
تكليف ما لا يطاق ، ولو وجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) يقتضي الإطلاق (1).
وفيه أوّلا : النقض بطاعة اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وطاعة أهل الإجماع ، بناء على أنّهم المراد من أولي الأمر.
وثانيا : الحلّ بأن نقول : إنّ وجوب طاعة الأئمّة ليس مشروطا بمعرفتهم ، وقدرة الوصول إليهم ، بل مطلقا كطاعة اللّه ورسوله ، فيجب تحصيل معرفتهم ومذهبهم ، مقدّمة لطاعتهم ، فلا يلزم ما ذكره من تكليف ما لا يطاق ولا صيرورة الإيجاب مشروطا.
ومعرفة الأئمّة ممكنة لوجود الأدلّة على إمامتهم ، كما يمكن أخذ الأحكام عنهم كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لوجود الرواة عنهم وإن لم يصل المكلّف إلى شخص الإمام والنبيّ صلی اللّه علیه و آله .
* الأمر الثاني : إنّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلّا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر (2).
وفيه : إنّ المراد هو الجمع ولكن بلحاظ التوزيع في الأزمنة ، ولا منافاة فيه للظاهر.
* [ الأمر ] الثالث : إنّه تعالى قال : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (3) ، ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم ، لوجب
ص: 222
أن يقال : فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام (1).
وفيه : إنّ الردّ إلى أولي الأمر أيضا مأمور به ، لكن اكتفى عن ذكرهم في آخر الآية بما ذكره في أوّلها من مساواة طاعتهم لطاعة اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .
فإذا عرفت معنى العصمة وأدلّة وجوبها ، عرفت أنّ الفضل قد خلط في معناها ، وأخطأ في تجويز الصغائر على الإمام حتّى بلحاظ خصوص الدليل الثاني الذي اختصّ كلامه فيه ، إذ من جملة فوائد الإمام وجهات الحاجة إليه منع المحرّمات ، فلو فعلها هو احتاج إلى إمام آخر يمنعه ويتسلسل وإن فرض حصول الفوائد الأخر منه ، من الانتصاف للمظلوم ونحوه.
على أنّ خلاف الانتصاف ربّما يكون من الصغائر ، فلا تحصل هذه الفائدة ، وكذا جملة من غيرها من الفوائد.
ودعوى أنّ ترك الصغائر ليس من محلّ الحاجة إلى الإمام ، باطلة ، ضرورة أنّ تركها مطلوب للشارع ، ومن نظامه الشرعي المطلوب تنفيذه كما عرفت.
بقي الكلام في ما ذكره الخصم من شروط الإمام ، فنقول :
إشترطها جماعة منهم وخالف آخرون ، كما يدلّ عليه ما ذكره صاحب « المواقف » وشارحها ، فإنّهما بعد ما ذكرا اشتراط الاجتهاد في الأصول والفروع ، والشجاعة ، والبصارة بتدبير الحرب والسلم ، قالا :
« وقيل : لا يشترط هذه [ الصفات ] الثلاثة ؛ لأنّها لا توجد الآن
ص: 223
مجتمعة ، وإذا لم توجد كذلك ، فإمّا أن يجب نصب فاقدها ، فيكون اشتراطها عبثا ، أو يجب نصب واجدها ، فيكون تكليفا بما لا يطاق ، أو لا يجب هذا ولا ذاك ، فيكون اشتراطها مستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها » (1) انتهى ملخّصا.
وبمقتضى سكوت صاحب « المواقف » عن الردّ على هذا الكلام يستفاد موافقته عليه ، وأنّه ممّن لا يشترط هذه الثلاثة.
نعم ، أجاب عنه الشارح ب : « أنّا نختار عدم الوجوب مطلقا ، لكن للأمّة أن ينصبوا فاقدها دفعا للمفاسد » (2).
وفيه : إنّهم إذا نصبوه فإمّا أن يجب ترتيب آثار الإمامة عليه ، فحينئذ لم يكن وجه لا شتراطها ، وإن لم يجب فلا فائدة فيه.
هذا ، ويمكن إجراء نحو هذا الكلام في جميع الشروط فتنتفي شرطيّتها جميعا.
ونقل السيّد السعيد رحمه اللّه عن الإسفراييني الشافعي ، في كتاب « الجنايات » ، أنّه قال : « وتنعقد الإمامة بيعة أهل الحلّ والعقد - إلى أن قال : - وبالقهر والاستيلاء ولو كان فاسقا أو جاهلا أو أعجميا » (3).
ونقل أيضا عن صاحب « الوقاية في فقه الحنفية » (4) ، أنّه قال :
ص: 224
« لا يحدّ الإمام حدّ الشرب ؛ لأنّه نائب من اللّه تعالى » (1).
ونقل عن شارح « العقائد النسفية » ، أنّه قال : « لا ينعزل الإمام بالفسق والجور ؛ لأنّه قد ظهر الفسق والجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء والسلف ، وكانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم » (2).
فظهر من هذه الكلمات ونحوها أنّه لا يشترط عند كثير منهم تلك الشروط ، بل يظهر من كلام شارح « العقائد النسفية » دعوى الإجماع على عدم اعتبار العدالة في الإمام دواما (3).
والظاهر أنّه لا خصوصيّة للعدالة ولا للدوام ، بل كلّ الشرائط كذلك ابتداء ودواما ؛ لأنّهم ينقادون لمن فقد أيّ شرط كان ، ويخاطبونه بإمرة المؤمنين ، ويحرّمون الخروج عليه ، ويقتلون النفوس بأمره ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنه ، فلا بدّ أن تكون الشروط التي اشترطوها شروطا صناعية جدلية لا عملية.
ص: 225
فما نسبه المصنّف إليهم من جواز إمامة السرّاق والفسّاق صحيح ألبتّة ، ولا سيّما انعقاد البيعة ، وهو الذي يقتضيه إنكار الحسن والقبح العقليّين ، كما اقتضى أيضا نفي وجوب أن يكون الإمام أفضل من رعيّته ، كما ستعرف.
ويصدّق ذلك - بحيث لا يبقى به ريب أصلا - أخبارهم الصحيحة عندهم ، التي عليها المعوّل بينهم ، الآمرة بالسماع والطاعة لسلاطين الجور والضلالة ، وقد سبق بعضها في صدر المبحث (1) ..
التي منها : ما رواه مسلم ، عن ابن عمر ، أنّه قال بعد حادثة الحرّة ، وفعل يزيد فيها الأفعال الشنيعة :
سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة » (2).
ومنها : ما رواه البخاري ، في الباب الثاني من ( كتاب الفتن ) ، ومسلم ، في باب وجوب طاعة الأمراء من ( كتاب الإمارة ) ، عن عبادة بن الصامت ، قال : « دعانا النبيّ صلی اللّه علیه و آله فبايعناه ، فكان في ما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة ، ولا ننازع الأمر أهله ، إلّا أن تروا كفرا بواحا عندكم من اللّه فيه برهان » (3).
ص: 226
ومنها : ما رواه مسلم ، في باب الأمر بلزوم الجماعة من ( كتاب الإمارة ) ، عن حذيفة ، من حديث قال فيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله :
« يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس ».
قال : قلت : كيف أصنع يا رسول اللّه [ إن أدركت ذلك ]؟
قال : « تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وبطنك (1) وأخذ مالك » (2)
ومنها : ما رواه مسلم ، في باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء ، الأوّل فالأوّل ، من ( كتاب الإمارة ) ، عن عبد الرحمن ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، من حديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال فيه :
« من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »
.. إلى أن قال عبد الرحمن : فقلت له : هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا ، واللّه تعالى يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
ص: 227
تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (1)؟!
قال : فسكت ساعة ، ثمّ قال : أطعه في طاعة اللّه واعصه في معصية اللّه » (2).
.. إلى غير ذلك من أخبارهم المستفيضة المصرّحة بأنّ من الأئمّة أئمّة جور ، وتجب طاعتهم وإقرارهم على إمرتهم ، ومن خرج عن طاعتهم شبرا مات ميتة جاهليّة.
وما ألطف ما شهد به عبد الرحمن ، وأقرّ به عبد اللّه ، في حقّ معاوية ، وهو خيرة أئمّتهم بعد الثلاثة ، فيا بشراهم به وبابنه يزيد!!
فمع هذه الأخبار ونحوها من الأخبار المعتبرة المعمول بها عندهم ، كيف تصحّ دعوى أنّهم يشترطون واقعا تلك الشروط في الإمام؟!
فالظاهر أنّ من يشترطها إنّما يريد بها دفع الاستبشاع والمحافظة على الخلفاء الثلاثة ، ببيان أنّهم ممّن جمع هذه الشروط ، وإلّا فما فائدة شروط لا يتّبعونها في سلاطينهم ، ولا تنطبق عندهم على خليفة سوى الثلاثة ، إلّا النزر الأندر؟!
ولذا عجزوا عن تطبيق حديث الاثني عشر خليفة على سلاطينهم (3).
ص: 228
ورووا أنّ ما بعد الثلاثين سنة ملك عضوض لا خلافة (1).
ولو سلّم أنّهم يشترطونها واقعا ، فأكثرها لاغ ، إمّا لعدم اعتباره ، أو لعدم كفايته في الإمام.
فمن الأوّل : البلوغ ، فإنّ الحقّ عدم اعتباره ، إذ ليست الإمامة بأعظم من النبوّة ، وقد أرسل اللّه عيسى ونبّأ يحيى طفلين ، لكن لمّا جعلوا الإمامة بالاختيار كان لاشتراطهم البلوغ وجه.
ومن الثاني : العدالة ، لما عرفت من عدم كفايتها عن العصمة ، وكذا الشجاعة ، والعقل ، والبصارة في تدبير الحرب والسلم ، لما سيأتي في المبحث الآتي من اعتبار أفضليّة الإمام في جميع صفات الكمال ، فلا بدّ أن يكون أشجع الناس وأعقلهم وأبصرهم في الأمور ، ولا يكفي ثبوت أصل الشجاعة والعقل والبصارة فقط.
وكذا الاجتهاد ، ضرورة أنّه لا يكفي في النيابة عن الرسول ، بل لا بدّ أن يكون عالما بجميع أحكام الشريعة علما يقينيّا ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد بلّغ نبيّه صلی اللّه علیه و آله أحكاما أتمّها وأجراها على أمّته إلى يوم الدين ، ولا شكّ أنّ الاجتهاد لا يوصل إليها دائما ، لوقوع الخطأ فيه ..
فلا يمكن أن لا يجعل اللّه لنا إماما عالما بجميع الأحكام ويحيلنا على من لا طريق له إلّا الظنّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.
ص: 229
على أنّه إذا أخطأ الإمام في حكم أو موضوع ، فإمّا أن يلزم الناس السكوت عن خطئه ، فيلزم الإغضاء على القبيح ، وربّما يجتهد في تحليل الحرام وما يوجب الضرر والفساد ، فلا تحصل به الفائدة المطلوبة في الإمام .. وإمّا أن يلزم ردّه ، وهو ربّما يوقع في الشقاق.
نعم ، بقيّة الشروط التي ذكرها صحيحة..
أمّا الحرّية ؛ فلأنّ المملوكية نقص في الشأن والتصرّف.
وأمّا القرشية ؛ فلأنّها وإن لم يحكم بها العقل إلّا أنّه لمّا اتّفق أنّ الأئمّة من قريش ومن آل رسول اللّه ، صحّ جعلها شرطا بهذا الاعتبار ، كما أخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّه لا يزال هذا الأمر في قريش ، وأنّ الأئمّة اثنا عشر (1) ، وأوجب التمسّك بعترته كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
وقد خالف عمر هذا الشرط وقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ قال : « لو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى » (2) ..
ونحوه في حقّ معاذ ، كما سيأتي في مطاعن الصحابة.
وأمّا الذكورة ؛ فلأنّ النفوس لا تنقاد غالبا إلى المرأة فلا يحصل منها
ص: 230
الغرض من الإمامة ، لكنّ بعض القوم - كابن حزم (1) - اختار نبوّة أمّ موسى ومريم وأمّ إسحاق! فيلزمه عدم اشتراط الذكورية في الإمام للأولوية.
وتعليل الفضل بأنّ النساء ناقصات العقل والدين ، باطل ؛ إذ كم امرأة أعقل من أكثر الرجال ، بل بعضهنّ بالغات مرتبة العصمة والكمال كما ورد في أخبارنا في حقّ الزهراء وخديجة ومريم وآسية (2).
وروى مسلم في فضائل خديجة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون » (3)
والظاهر أنّه قد سقط ذكر خديجة من الحديث ، وإلّا فلا معنى لروايته في فضائلها ، ولا بدّ أن تكون الزهراء أكمل من هذه الثلاث ؛ لما رواه البخاري وغيره أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة (4) كما ستعرف ، بل لا يبعد سقوط ذكر الزهراء كخديجة من الحديث (5).
ص: 231
وإنّما جعلت شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد جريا على الغالب من نقصان عقل المرأة.
وأمّا ما ذكره من أنّهنّ ناقصات الدين ، فلا ينافي إمامتهنّ ؛ لأنّه مفسّر في الأخبار بقعودهنّ عن الصلاة والصوم أيّام المحيض والنفاس ، كما رواه البخاري في ( كتاب الحيض ) ، في باب ترك الحائض الصوم (1).
فقد ظهر أنّ جملة من كلمات القوم وصحاح أخبارهم تقتضي جواز إمامة الفسّاق والسرّاق كما ذكره المصنّف رحمه اللّه .
ص: 232
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
مرتبة الفاضل ، والقرآن نصّ على إنكار ذلك فقال تعالى :
( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ..
وقال تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (2).
وكيف ينقاد الأعلم الأزهد ، الأشرف حسبا ونسبا ، للأدون في ذلك كلّه؟!
* * *
ص: 234
وقال الفضل (1) :
المراد من كون الإمام أفضل من الرعيّة : إن كان كونه أحسب ، وأنسب ، وأشرف ، وأعرف ، وأعفّ ، وأشجع ، وأعلم ؛ فلا يلزم وجوبه عقلا - كما ادّعاه - على تقدير القول بالوجوب العقلي ؛ لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة والعلم بالرئاسة وطريق التعيّش مع الرعيّة ، بحيث لا يكون فظّا غليظا منفّرا ، ولا سهلا ضعيفا يستولي عليه الرعيّة ، ويكون حامي الذمار ..
ويكفيه من العلم ما يشترط القوم من الاجتهاد ، وكذا الشجاعة والقرشية في الحسب والنسب ..
وإن وجد في رعيّته من كان في هذه الخصال أتمّ ولا يكون مثله في حفظ الحوزة ، فالذي يكون أعلم بتدبير حفظ الحوزة ، فالعقل يحكم بأنّه هو الأولى بالإمامة.
وكثير من المفضولين يكونون أصلح للإمامة من الفاضلين ، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر والقيام به معرفة مصالحه ومفاسده وقوّة القيام بلوازمه ، وربّ مفضول في علمه وعمله وهو بالزعامة والرئاسة أعرف ، وبشرائطها أقوم ، وعلى تحمّل أعبائها أقدر.
وإن أراد بالأفضل أن يكون أكثر ثوابا عند اللّه تعالى ، فهذا أمر يحصل له الشرف والسعادة ، ولا تعلّق له بالزعامة والرئاسة.
ص: 235
وإن أراد بالأفضل الأصلح للإمامة ؛ لكونه أعلم بحفظ الحوزة وتدبير المملكة ، فلا شكّ أنّه أولى ، ولا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون ، بل الأولى والأنسب تقديم هذا إذا لم يسبق عقد بيعة ، فإن سبق وكان في تغييره مظنّة فتنة فلا يجوز التغيير.
هذا جواب ما استدلّ به على هذا المطلب من لزوم القبح العقلي ، مع إنّا غير قائلين به.
وأمّا ما استدّل به من الآية ، فهو يدلّ على عدم استواء العالم والجاهل ، وعدم استواء الهادي والمضلّ والمهتدي والضالّ ، وهذا أمر مسلّم ، فذاك الفاضل الذي لم يصر إماما وصار المفضول إماما يترجّح على المفضول بالعلم والشرف ، ولكن المفضول إذا كان أحفظ لمصالح الحوزة وأصلح للإمامة فهو أحقّ بالإمامة ، والفاضل على فضله وشرفه ، ولا محذور في هذا.
ومن الأشاعرة من فصّل في هذه المسألة وقال : نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب ، كما إذا فرض أنّ العسكر والرعايا لا ينقادون للفاضل بل للمفضول ، وإلّا وجب (1).
* * *
ص: 236
لا يخفى أنّ رئاسة الإمام رئاسة دينية ، وزعامة إلهيّة ، ونيابة عن الرسول في أداء وظائفه ، فلا تكون الغاية منها مجرّد حفظ الحوزة وتحصيل الأمن في الرعية ، وإلّا لجاز أن يكون الإمام كافرا ، أو منافقا ، أو أفسق الفاسقين إذا حصلت به هذه الغاية.
بل لا بدّ أن تكون الغاية منها تحصيل ما به سعادة الدارين كالغاية من رسالة الرسول ، وهي لا تتمّ إلّا أن يكون الإمام كالنبيّ معصوما ، وأحرص الناس على الهداية ، وأقربهم للاتّباع والانتفاع به في أمور الشريعة والآخرة ، وأحفظهم للحوزة وحقوق الرعية وسياستها على النهج الشرعي.
فلا بدّ أن يكون فاضلا في صفات الكمال كلّها ، من الفهم ، والرأي ، والعلم ، والحزم ، والكرم ، والشجاعة ، وحسن الخلق ، والعفّة ، والزهد ، والعدل ، والتقوى ، والسياسة الشرعية ، ونحوها ؛ ليكون أقرب للاتّباع ، وتسليم النفوس له ، والاقتفاء لآثاره ، فيحصل لهم - مع حفظ الحوزة - السعادة بكمال الإيمان وشرف الفضائل ، وخير الدارين ، وهي الغاية من رسالة الرسول.
فاتّضح أنّه يجب أن يكون الإمام أفضل من الرعية في جميع المحامد كما هو مراد المصنّف رحمه اللّه ولعلّه مراد الفضل بالوجه الأوّل ، وحينئذ فلا يصحّ ردّه على المصنّف بقوله : « لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة ... » إلى آخره.
ص: 237
فإنّ هذا وحده لا يكفي في نيابة الرسول ، ولا سيّما إذا رأى الأمير ارتفاع ملكه ونفوذ أمره بسحق الدين وقتل المؤمنين وإخافتهم وتقريب الطالحين ، كما وقع في العصر الأوّل ، وعلى نحوه توالت العصور.
ومنه يعلم أنّ فرض كون المفضول في العلم والعمل أحفظ للحوزة خطأ ؛ لأنّ المطلوب هو الأحفظية على الوجه الشرعي ، وهي فرع الأعلمية والأعملية بوجوه الحفظ الشرعية.
هذا ، والأولى أن لا يذكر الفضل شرط أن لا يكون فظّا غليظا ، ولا شرط أن لا يكون سهلا ضعيفا يستولي عليه الرعية ، فإنّ الأوّل مضرّ بإمامة عمر (1) ، والثاني بإمامة عثمان (2).
وبما ذكرنا من وجوب كون الإمام فاضلا في جميع صفات الكمال ، يعلم أنّه لا يصحّ فرض كونه فاضلا في صفة دون أخرى حتّى تتصوّر المعارضة ويقال بتقديم صاحب الصفة التي هي أمسّ بالإمامة ، كما فعل الفضل.
ص: 238
وأعلم أنّ الإمام إذا كان فاضلا في صفات الكمال ، يلزم أن يكون أطوع لله وأكثر عملا بالبرّ والخير ، فلا بدّ أن يكون أكثر ثوابا.
فحينئذ لو أريد بالأفضل الأكثر ثوابا من حيث لزومه للأفضل في صفات الكمال ، كان متّجها.
ولم يرد عليه ما ذكره الفضل ، على أنّه غير مراد المصنّف.
كما لا يريد ما احتمله الفضل ثالثا ؛ لما عرفت من أنّ الصلوح للإمامة عند المصنّف إنّما يكون بالعصمة والفضل بسائر الصفات الحميدة ، لا بالأعلمية بحفظ الحوزة فقط.
على أنّ قوله : « لا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون » ..
ظاهر البطلان ؛ لأنّ العقل يقبّح تقديم المفضول بالصلوح للإمامة على الأفضل فيه ، فلا يصحّ حينئذ سبق العقد للمفضول حتّى يكون في تغييره مظنّة فتنة.
لكنّ القوم أنكروا الحسن والقبح العقليّين ، وعليه : فما معنى اشتراطهم اجتهاد الإمام ، وعدالته ، إلى غيرهما من الشروط المتقدّمة سوى القرشية التي قالوا بورود الشرع بها.
وأمّا ما أجاب به عن الآيتين .. فخطأ ظاهر ؛ إذ لا يراد بهما مجرّد نفي المساواة بين العالم والجاهل ، أو بين الهادي وغيره ، كما تخيّله الفضل ، فإنّ نفي المساواة بينها ضروري غير محتاج إلى البيان ، ولا يمكن أن يقول عاقل بالمساواة حتّى ينكر عليه ، بل المراد هو الإنكار على عدم ترتيب أثر الفرق بينها وعدم اتّباع الأفضل كما هو صريح الآية الأولى ، إذ أنكرت على من لا يقول بأنّ الهادي أحقّ بالاتّباع ممّن لا يهتدي إلّا أن يهدى.
ص: 239
ولا يخفى أنّ القوم لم يوجبوا تقديم الأعلم مع المساواة في الحفظ ، وكفاهم فيه مخالفة للكتاب العزيز!
هذا ، ولا يعتبر أن يكون الإمام أشرف الناس في الجهات الدنيوية ، من الجاه والمال والسلطان وإن كانت مقرّبة للأتباع ؛ لأنّ المطلوب هو الاتّباع والإيمان الحقيقي ، لا مجرّد الطاعة الظاهرية.
كما لا يعتبر أن لا يساويه أحد في صحّة النسب ، وإنّما يعتبر أن لا يفضله فيه أحد ؛ إذ لا تنافي المساواة فيه حسن التبعة إذا كان أشرف حسبا ، ولذا جاز أن يكون للإمام إخوة من أمّه وأبيه!
فتدبّر! وعلى اللّه التوفيق.
* * *
ص: 240
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الطريق إلى تعيين الإمام أمران :
الأوّل : النصّ من اللّه تعالى ، أو نبيّه ، أو إمام ثبتت إمامته بالنصّ عليه ..
أو (2) : ظهور المعجزة على يده ؛ لأنّ شرط الإمامة العصمة ، وهي من الأمور الخفيّة الباطنة التي لا يعلمها إلّا اللّه تعالى (3).
وخالفت السنّة في ذلك ، وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع الخلق في شرق الأرض وغربها ، باعتبار مبايعة عمر بن الخطّاب له برضا أربعة : أبي عبيدة بن الجرّاح (4) ، وسالم مولى أبي
ص: 241
حذيفة (1) ، وبشير بن سعد (2) ، وأسيد بن حضير (3) ، لا غير (4).
فكيف [ يحلّ ] لمن يؤمن باللّه واليوم الآخر إيجاب اتّباع من لم ينصّ اللّه عليه ولا رسوله ، ولا اجتمعت الأمّة عليه ، على جميع الخلق لأجل مبايعة أربعة نفر؟!
بل ذهب الجويني ، وكان من أكثرهم علما وأشدّهم عنادا لأهل
ص: 242
البيت علیهم السلام إلى أنّ البيعة تنعقد لشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير (1).
فهل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب ، وأن يجب على نفسه الانقياد وبذل الطاعة لمن لا يعرف عدالته ، ولا يدري حاله من الإيمان وعدمه ، ولا عاشره ليعرف جيّده من رديّه ، وحقّه من باطله ، لأجل أنّ شخصا لا يعرف عدالته بايعه؟!
وهل هذا إلّا محض الجهل والحمق والضلال عن سبيل الرشاد؟!
نعوذ باللّه من اتّباع الهوى وغلبة حبّ الدنيا.
ومن أغرب الأشياء وأعجبها : بحث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها وعن الفقه وتفاصيله ، مع تجويز أن يكون جميع الخلق على الخطأ والزلل ، وأن يكون اللّه تعالى قد قصد إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان ، فإنّهم غير جازمين بصدقها ولا ظانّين.
فإنّه مع غلبة الضلال والكفر وأنواع العصيان الصادرة منه تعالى ، كيف يظنّ العاقل أو يشكّ في صحّة الشرائع؟! بل يظنّ بطلانها عندهم حملا على الغالب ، إذ الصلاح في العالم أقلّ القليل.
ثمّ مع تجويزهم أن يحرّم اللّه علينا التنفّس في الهواء مع الضرورة والحاجة إليه وعدم الغناء عنه من كلّ وجه ، ويحرّم علينا شرب الماء السائغ مع شدّة العطش والانتفاع بذلك الماء وعدم التضرّر به وانتفاء المفاسد كلّها .. كيف يحصل الجزم بأنّه يفعل اللطف بالعبد والمصلحة في إيجاب اتّباع هذا الإمام؟!
ص: 243
وقال الفضل (1) :
إعلم أنّ الشخص بمجرّد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما ، بل لا بدّ مع ذلك من أمر آخر ، وإنّما تثبت بالنصّ من الرسول ، ومن الإمام السابق بالإجماع.
وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد عند أهل السنّة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية (2) ، خلافا للإمامية من الشيعة ، فإنّهم قالوا : لا طريق إلّا النصّ (3).
لنا : ثبوت إمامة أبي بكر ببيعة أهل الحلّ والعقد ، كما سيأتي بعد هذا مفصّلا في محالّه.
وأمّا ما ذكر : أنّ خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة ..
فهذا أمر باطل ، يكذّبه النقول المتواترة وإجماع الأمّة ، فإنّ خلافة أبي بكر انعقدت يوم السقيفة بمحضر من أرباب الحلّ والعقد ، وهم كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار سيّما (4) الخزرج ؛ لأنّ المراد من أهل الحلّ والعقد أمراء العساكر ومن لم يتمّ أمر الإمارة والخلافة بغير رضاهم ، وكانوا في ذلك الوقت جماعة الأنصار أهل الحلّ والعقد بهذا المعنى.
ص: 244
وهل اختلف رجل واحد من زمان الصحابة إلى اليوم من أرباب التواريخ أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار ، إلّا سعد بن عبادة (1) ، وهو كان مريضا ، ومات بعد سبعة أيّام (2)؟! فكيف يقول : إنّ خلافته انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة من الصحابة؟!
وهل هذا إلّا افتراء باطل يكذّبه جميع التواريخ المثبّتة في الإسلام؟!
نعم ، البادئ بالبيعة كان عمر بن الخطّاب ، وتتابع الأنصار وبايعوه بعد تلجلج وتردّد ومباحثة.
ولو كان الأنصار سمعوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله النصّ على خلافة عليّ ، فلم لم يجعلوه حجّة على أبي بكر ، ولم لم يدفعوا خلافته بهذه الحجّة؟!
أكانوا يخافون من أبي بكر وعمر وهم كانوا في عقر دارهم وقد اجتمعوا لنصب الإمام من قومهم وكانوا زهاء ألف أو زيادة؟! ..
ص: 245
وقالوا بعد المباحثة : « منّا أمير ومنكم أمير » فلم لم يقولوا : يا أبا بكر! يا عمر! إنّ العهد لم يطل ، وإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غدير خمّ نصّ بخلافة عليّ ، فلم تبطلون قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! ولم لا تنقادون بقوله؟!
وكان أقلّ فائدة هذه المباحثة دفع البيعة عن أنفسهم؟!
ولم يجترئ أحد من الإمامية أن يدّعي أنّ الأنصار قالوا يوم السقيفة هذا القول (1).
فيا معشر العقلاء! هل يمكن وجود النصّ في محضر جميع الناس ولم يحضر الأنصار؟!
وهل يمكن أنّ الأنصار ، الّذين نصروا اللّه ورسوله وتبوّأوا الدار والإيمان ، وارتكبوا عداوة العرب وقتل الأشراف في نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كانوا ساكتين في وقت المعارضة ولم يذكروا النصّ أصلا ، مع أنّ عمر وأبا عبيدة ألزموهم بقوله : « الأئمّة من قريش » (2)؟!
فلم لم يقولوا : الإمامة لعليّ بنصّ من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خمّ؟!
ص: 246
والعاقل المسلم المنصف لو تأمّل في ما قلنا من سكوت الأنصار ، وعدم الاستدلال في دفع بيعة أبي بكر بالنصّ على عليّ ، لجزم بعدم النصّ من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أحد ، ويعلم أنّ خلافة أبي بكر ثبتت ببيعة أرباب الحلّ والعقد.
ثمّ ما ذكر هذا الرجل من أنّ الأشاعرة لا يقدرون على هذا المبحث ، وتعجّب من بحثهم في الإمامة لقولهم : « بأنّ اللّه خالق كلّ شيء » (1) ، فهذا شيء ذكره مرارا ، وهو لا يعرف غير هذا وتصوير المحالات على رأيه الباطل الفاسد.
وقد بيّنّا لك أنّ شيئا ممّا ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وكثرة التكرار من شأن الكوزيّين (2) وأمثاله.
* * *
ص: 247
ينبغي هنا بسط المقال لتتّضح الحال ، فنقول : استمرّ النزاع في أنّ تعيين الإمام من اللّه تعالى أو باختيار الناس؟ ذهبت الإمامية إلى الأوّل ، وأهل السنّة إلى الثاني ، والحقّ هو الأوّل ؛ لأمور :
الأوّل : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ... ) (1).
الثاني : إنّ الرجوع إلى الاختيار مفسد للإمامة والأمّة والدين ، ولا سيّما إذا اكتفينا باختيار الواحد كما هو مذهب القوم (2) ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى ؛ لأنّ الاختيار ربّما يؤدّي إلى اختيار فاسق فعلا أو استقبالا فتفسد الإمامة ، وتفسد الأمّة والدين بفساد الإمام ، ولو من أجل أنّ الناس على دين ملوكهم وتبع لأهوائهم كما هو المشاهد.
الثالث : إنّ الأمّة قد تختلف باختيار الإمام ولو لزعم كلّ طائفة أنّ إمامة صاحبهم متعيّنة لاختلال شروطها في الغير ، أو لعدم معرفتهم به ولو لبعد الأماكن وكثرة المسلمين ، فيؤدّي إلى إمامة إمامين أو أكثر ، وإلى الحرب وفساد البلاد وضعف الإسلام.
ودعوى تعيّن المتقدّم كما زعمه في « المواقف » (3) ، باطلة إذا فرض قول كلّ طائفة بعدم صلوح غير صاحبهم للإمامة ، مع أنّه قد يقع الاختلاف
ص: 248
في المتقدّم.
كما إنّ دعوى وجوب الانتظار إلى الاتّفاق باطلة أيضا ؛ لأنّ الانتظار يوجب إهمال أمر الأمّة زمانا أو أزمنة طويلة أو دائما.
على أنّ إيجاب الانتظار مناف لاختيار عمر وأصحابه لأبي بكر ، وبيعتهم له قبل اتّفاق من في السقيفة فضلا عن غيرهم ، بل مع تصريح الكثير أو الأكثر من أهل السقيفة بالخلاف (1).
الرابع : إنّ تعيين الإمام باختيار واحد - إماما كان أو غيره - ، أو باختيار جماعة - وإن كانوا جميع أهل الحلّ والعقد - ، حيف بحقوق بقيّة المسلمين بلا سلطان جعله اللّه لأولئك عليهم.
ودعوى الإجماع ساقطة ؛ لأنّها ناشئة من فعل عمر ومن وافقه ، وهم - مع عدم تحقّق الإجماع بهم - محلّ الكلام.
وكيف يمكن دعوى الإجماع على اعتبار اختيار الناس وقد خالف أمير المؤمنين ، الذي يدور معه الحقّ حيث دار (2) ، وجماعة من الصحابة في بيعة أبي بكر ، وما حفلوا باختيار من اختاره إلى أن بايعوا بعد مدّة طويلة بالاضطرار ، وبقي بعضهم على المخالفة حتّى لحق بالملك القهّار؟!
ص: 249
الخامس : إنّه يمتنع أن يترك اللّه سبحانه اختياره للإمام ويأمر الناس بأن يختاروه وهو أنظر لهم وأخبر ، إذ يقبح بالحكيم أن يترك أسهل الطريقين وأوصلهما إلى المطلوب ، ويأمر بسلوك الطريق الصعب الذي لا يوصل إلى المطلوب أحيانا أو غالبا.
السادس : إنّ التكليف بالاختيار ، إن تعلّق بالناس جميعا على نحو الاتّفاق منهم فهو تكليف بما لا يطاق.
وإن تعلّق بهم على نحو يكفي البعض ، ويجب على الباقي القبول بشرط العلم بجامعيّة الإمام للشرائط ، فهو ظاهر البطلان ، إذ يمتنع عادة معرفة الناس جميعا بجامعيّته حتّى من حيث شهادة المختار أو المختارين له بها ؛ لأنّهم إن لم يكونوا فسّاقا فالعادة تقضي بالجهل في عدالتهم عند الناس إلّا النادر ، فيبقى الناس في هرج بلا إمام أزمانا طويلة ، أو إلى أن يموت ذلك الإمام ..
وربّما تكون شهادتهم معارضة بشهادة آخرين بعدم جامعيّته ، فيزيد الهرج ، وكذا إن كان المختار له واحدا.
وأمّا لو أوجبنا القبول مطلقا ، فالأمر أظهر بطلانا ، إذ يلزم تديّن الشخص بإمامة إمام لا يعرف جامعيّته بمجرّد اختيار واحد أو جماعة لا يعرف عدالتهم ، أو يعرف فسقهم ، وهذا لا يقوله من يؤمن باللّه وحكمته.
السابع : إنّ الإمام لا بدّ أن يكون معصوما وأفضل الأمّة وأكملهم صفات - كما سبق - ، ولا يعلمه الناس إلّا بطريق النصّ من اللّه تعالى بلسان نبيّه ، أو إمام آخر معصوم حاك عن اللّه ورسوله ، أو بإظهار المعجزة على
ص: 250
يده (1).
ولو لم يكن الإمام السابق معصوما حاكيا عن اللّه تعالى لم ينفع نصّه ؛ لاحتمال خطئه أو عمده إلى من لم يكن أهلا للإمامة اتّباعا للهوى أو حبّا للرحم.
ففي الحقيقة لم يوافقنا السنّة على ثبوت الإمامة بنصّ الإمام السابق ؛ لأنّا نريد بالسابق إماما خاصّا وهم يريدون غيره.
الثامن : إنّ نصب الإمام واجب على اللّه تعالى ، فلا بدّ أن يكون الاختيار والتعيين منه تعالى ، ويدلّ على وجوبه عليه الكتاب والعقل ..
* أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (2) ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام رحمة.
وقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (3) ، ولا ريب أنّ نصب الإمام من الهدى ، أو مقدّمته ، فيجب.
وقوله تعالى : ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (4) ، ومن الواضح أنّ نصب الإمام من قصد السبيل.
* وأمّا العقل ، فأمران :
الأوّل : إنّه لا إشكال بأنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالم بكلّ ما كلّف اللّه تعالى به عباده وجاء به الرسول من عنده ، من حلال أو حرام ، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة (5).
ص: 251
ولا يعلم بهذا العالم إلّا اللّه تعالى ، فلا بدّ من نصبه له ، ولا يغني الاجتهاد عن العلم الواقعي ؛ لوقوع الخطأ فيه.
وكذلك هم محتاجون إلى عالم بكلّ حجّة ودليل يثبت به الإسلام ليحتجّ به على كلّ بحسب فهمه وحاله.
ولو احتاج الثبوت إلى معجزة لزم أن يكون الإمام محلّا لإظهار اللّه لها على يده ، وإلّا لا نقطعت حجج اللّه وبيّناته ، لعدم كفاية معجزات النبيّ في الحجّيّة بالنسبة إلى أكثر الناس المتأخّرين ؛ لجهلهم بها أو بإعجازها.
فيجب على اللّه تعالى نصب الإمام ، العالم ببيّناته ، القادر على إثبات دينه ولو بالمعجزة ، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام : « اللّهمّ بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لك بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ، لئلّا تبطل حججك وبيّناتك » (1)
فلولا نصب هذا الإمام لكان لأكثر الكافرين والضالّين الحجّة على اللّه تعالى ؛ إذ يصحّ عذرهم بالجهل والغفلة الآتية بسبب عدم نصب الحجّة عليهم ، فيقولون : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (2).
ولا يضرّ في حجّيّته استتاره ؛ لأنّه بسببهم ، حيث أخافوه ، ففوّتوا الخير عن أنفسهم كمن يخيفون الأنبياء ويشرّدونهم ، فلا تبطل حجج اللّه بذلك.
وأمّا قوله سبحانه : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
ص: 252
الرُّسُلِ ) (1) ، فلا يدلّ على عدم الحاجة إلى الإمام ؛ لأنّ المراد البعديّة بلحاظ ما جاؤوا به ، وممّا جاؤوا به نصب الإمام.
الثاني : إنّ نصب الإمام لطف ، واللطف واجب على اللّه عزّ وجلّ.
أمّا الصغرى ؛ فلأنّ اللطف هو ما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ولو بالإعداد ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام كذلك ، لما به من تنفيذ الأحكام ورفع الظلم والفساد ونحوها.
ولا ينافي اللطف في نصبه سلب العباد سلطانه أو غيبته ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد لطف بهم بنصب المعدّ لهم ، وهم فوّتوا أثر اللطف عن أنفسهم.
وعورض هذا اللطف بلطف آخر حاصل بعدم الإمام ، فإنّ فاعل الواجب وتارك الحرام مع عدم الإمام أقرب إلى الإخلاص ؛ لانتفاء الخوف منه ، فيكون أكثر ثوابا ، ويكون عدم الإمام لطفا.
بل قيل : إنّ تفويت هذا الثواب مفسدة مانعة من وجوب نصب الإمام.
وفيه : إنّ هذا اللطف لا يصلح للمعارضة ؛ لأنّه لطف خاصّ بقليل من الناس ، ونصب الإمام لطف عامّ.
على أنّا نمنع كونه لطفا ؛ لعدم إحاطة غير الإمام بجهات الإخلاص ، فلا يحصل الإخلاص التامّ بدون الإمام ، للحاجة إلى تعليمه وإرشاده.
مع أنّ من لا يخالف الأوامر والنواهي مع عدم الإمام ، لا يتفاوت حاله
ص: 253
في الإخلاص بين وجود الإمام وعدمه ، ضرورة أنّه يوافق التكاليف بالطبع والطوع ، لا بالخوف ألبتّة ، بلا فرق بين حالتي وجود الإمام وعدمه ، بل هو مع الإمام أقرب إلى الإخلاص اقتداء به وسلوكا لنهجه.
وأمّا كون فوات المصلحة مفسدة ، فظاهر البطلان لو سلّم فواتها ، على أنّ مقتضاه عدم جواز نصب الإمام ، لا عدم وجوبه فقط ، لما في نصبه من المفسدة فرضا.
وأمّا الكبرى ؛ فلأنّ ترك هذا اللطف من المولى إخلال بغرضه ومطلوبه ، وهو طاعة العباد له وترك معصيته ، فيجب نصب الإمام على المولى لئلّا يخلّ بمطلوبه ؛ لأنّ الناس غير معصومين ، والمفاسد بنصب المعدّ للطاعة منتفية بالضرورة ، وإلّا لما جاز نصبه ، وهو خلاف الإجماع والضرورة.
على أنّه سبحانه أخبر بأنّه لطيف ، فيلزمه نصب الإمام تصديقا لإخباره.
وهو - سبحانه - لم يخلق جوارح الإنسان إلّا وجعل لها إماما يهديها إلى أفعالها ، وأميرا يحكم في مشتبهاتها ، وهو القلب ، كما أقرّ به عمرو بن عبيد لمّا سأله هشام بن الحكم رحمه اللّه (1) ، فكيف يترك الناس في حيرة
ص: 254
الضلالة بلا إمام يهديهم سواء السبيل ، ويرفع مشتبهاتهم وخلافهم ، مع انتشارهم في أطراف الأرض ، واختلافهم بالطباع والأهواء ، وتباينهم بالمقاصد والآراء؟!
ويمكن إرجاع الدليلين العقليّين (1) إلى دليل واحد ، وهو كون الإمامة لطفا من جهتين :
جهة العلم ؛ وهي الأمر الأوّل ..
وجهة السياسة ؛ وهو الأمر الثاني ..
واللطف واجب.
فإذا عرفت أنّه لا يجوز الرجوع إلى اختيار الناس في تعيين الإمام ، وأنّه يجب على اللّه سبحانه نصبه ، ظهر لك بطلان القول بثبوت الإمامة
ص: 255
ببيعة أهل الحلّ والعقد ، وبطلان القول بوجوب النصب شرعا على الأمّة.
ومن طريف ما قيل في بطلان دعوى أنّ الإمامة بالاختيار ، قول الشاعر العبدي (1) [ من الطويل ] :
وقالوا : رسول اللّه ما اختار بعده *** إماما ، ولكنّا لأنفسنا اخترنا
أقمنا إماما إن أقام على الهدى *** أطعنا وإن ضلّ الهداية قوّمنا
فقلنا : إذن أنتم إمام إمامكم *** بحمد من الرحمن تهتم وما تهنا
ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا *** لنا يوم خمّ ما اعتدينا ولا حلنا
سيجمعنا يوم القيامة ربّنا *** فتجزون ما قلتم ونجزى الذي قلنا
ونحن على نور من اللّه واضح *** فيا ربّ زدنا منك نورا وثبّتنا (2)
واستدلّ الأشاعرة على وجوب النصب على الأمر شرعا بثلاثة وجوه ، ذكر صاحب « المواقف » وشارحها منها اثنين ، قالا :
« الأوّل : إنّه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأوّل بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله على امتناع خلوّ الوقت من خليفة وإمام ، حتّى قال أبو بكر في خطبته المشهورة حين وفاته صلی اللّه علیه و آله : ألا إنّ محمّدا قد مات ، ولا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به.
ص: 256
فبادر الكلّ إلى قبول قوله ، ولم يقل أحد : لا حاجة إلى ذلك ؛ بل اتّفقوا عليه ، وقالوا : ننظر في هذا الأمر ؛ وبكّروا إلى سقيفة بني ساعدة ، وتركوا أهمّ الأشياء ، وهو دفن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك [ الاتّفاق ] - ولم يزل الناس [ بعدهم ] على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متّبع » (1) انتهى.
وفيه - مع ما عرفت من وجوب النصب على اللّه تعالى ، فلا محلّ لوجوبه على الأمّة شرعا - : إنّ دعوى امتناع خلوّ الوقت عن إمام ، أعمّ من وجوبه على اللّه سبحانه ، وعلى الأمّة ، شرعا أو عقلا.
نعم ، لو صحّ ما نقلاه عن أبي بكر وقبول الصحابة له ، وقولهم :
« ننظر في هذا الأمر » ، كان ظاهرا في وجوبه على الأمّة ، لكنّه - مع كونه أعمّ من الوجوب شرعا وعقلا - كذب صريح ؛ إذ لم يقل أبو بكر : « لا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به » في خطبته التي رأيناها في كتبهم ، كتاريخي الطبري وابن الأثير وصحيح البخاري ، عند ذكر مناقب أبي بكر (2) ، ومستدرك الحاكم ، حيث ذكر خطبة أبي بكر (3) ، وغيرها من كتبهم (4).
وما قال أحد بعد خطبة أبي بكر : « ننظر في هذا الأمر » ، ولا راحوا إلى السقيفة وفاء بالوعد وقياما بواجب النصب شرعا ..
ص: 257
فإنّ رواياتهم متضافرة في أنّ الأنصار اجتمعوا في السقيفة لبيعة سعد ساعة موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فعلم أبو بكر وأصحابه ، فذهبوا ينافسونهم في الإمرة ، كما يدلّ عليه خطبة عمر التي بيّن فيها أنّ بيعة أبي بكر فلتة ، ورواها القوم ، منهم البخاري في « باب رجم الحبلى إذا أحصنت » من كتاب المحاربين (1).
وكيف يمكن أن تكون مبادرتهم إلى السقيفة أداء للوظيفة الشرعية؟! والحال أنّ تجهيز النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومراعاة حرمته أهمّ الواجبات ، وتأخير دفنه تلك المدّة أكبر الوهن به وبالإسلام! ولا يضرّ تقديم تجهيزه بأمر الإمامة ، ولا سيّما بناء على حسن ظنّ القوم بالصحابة وحكمهم بعدالتهم أجمع ، وصلابتهم في الدين كما تسمع!
فلا ريب أنّهم لم يؤخّروا دفن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مبادرة لواجب البيعة ، وإنّما أخّروه منافسة في الدنيا ، وانتهازا لفرصة مشغولية أمير المؤمنين علیه السلام بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلمهم بأنّه لا يترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا دفن ويأتي لمزاحمتهم!
ولو كانوا بذلك الاهتمام في أداء واجب البيعة فما بال عمر أباح تأخير البيعة في الشورى ثلاثة أيّام ، والنفر الّذين اختارهم للشورى ستّة ، ويمكنهم بتّ الأمر في يوم واحد أو ساعة واحدة ، ولا سيّما مع علمهم بالحال قبل موته؟!
ولو كانوا بذلك الاهتمام في أمر الإمامة الإلهيّة فلم لم يسألوا
ص: 258
النبيّ صلی اللّه علیه و آله نصب إمام لمّا أخبرهم بموته مرارا عديدة تصريحا وتلويحا فيريحهم عن تكلّف ذلك المهمّ؟!
ولم نسبوه إلى الهجر ومنعوه من كتابة ما لا يضلّون بعده؟! (1) ألم يحتملوا أنّه يريد نصب إمام فيريحهم عن ذلك الاهتمام؟!
ولم لم يعطها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعض اهتمامهم وينصب لهم خليفة أو يشرّع جواز ترك الاستخلاف بالقول ويحفظ حرمته وحرمة الإسلام؟!
ولم لم يكن عند أمير المؤمنين ذلك الاهتمام فيشاركهم في أداء الواجب فيحصل لدفن النبيّ صلی اللّه علیه و آله تعجيل؟!
وأمّا قولهما : « ولم يزل الناس على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا .. »
إلى آخره (2) ..
فغريب ؛ لأنّا لم نر ولم نسمع أنّهم اهتمّوا لنصب إمام قياما بالواجب ، ولذا لم يطلبوا إماما جامعا للشرائط التي ذكراها ، من العدالة والاجتهاد والقرشية ونحوها ، وإنّما رأينا وسمعنا قيامهم برئاسة من انتفت عنه الشرائط ، طلبا لأن ينالوا به شيئا من الدنيا الدنيّة!
الدليل الثاني الذي ذكراه لمختار الأشاعرة : إنّ في نصب الإمام دفع ضرر مظنون ، ودفعه واجب إجماعا (3).
وفيه : إنّ الدفع به إنّما يجب على الناس إذا لم يجب على اللّه تعالى ، أو أهمل أمر الأمّة ، وكلاهما باطل ..
ولو سلّمنا ، فلا مخرج للنبيّ صلی اللّه علیه و آله عن وجوب دفع الضرر
ص: 259
بالنصب ، فلا بدّ أن يكون قد نصب وإلّا أخلّ بالواجب.
على أنّ نصبهم للإمام وإن دفع ضررا ، إلّا أنّ نصب غير المعصوم يوجب ضررا آخر ناشئا من عمده أو خطئه ، فيضرّ بالدين والأمّة ، فيحرم ، فلا مناص من نصب اللّه سبحانه لمن يعلم عصمته.
وقد ذكر القوشجي دليلا ثالثا ، وهو : إنّ الشارع أمر بإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وسدّ الثغور ونحوها ممّا لا يتمّ إلّا بإمام ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب » (1).
وفيه - مع توقّفه على عدم الوجوب على اللّه سبحانه ، وتركه لنصب الإمام ، وكلاهما باطل - : إنّ تلك الواجبات إنّما تجب بشرط وجود الإمام ، ومقدّمة الواجب المشروط غير واجبة ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، ولا سيّما أنّ الأوّل - وهو إقامة الحدود - إنّما يجب على الإمام ، بل وكذا الأخيران ، فكيف تجب مقدّمتها ، وهي نصب الإمام على غيره؟! اللّهمّ إلّا إذا خيف على بيضة الإسلام ، فإنّه يجب الأخيران على الناس أيضا ، فيجب عليهم النصب هنا خاصّة.
ولو سلّم وجوب تلك الأمور على الناس ، وأنّ النصب مقدّمة وجود لها ، فكثير من الجمهور لا يقولون بوجوب مقدّمة الواجب كما سيذكره المصنّف رحمه اللّه في مسألة أصول الفقه.
فاتّضح بما بيّنّا بطلان الرجوع إلى اختيار الأمّة ، كلّا أو بعضا ، وبطلان إيجاب النصب عليهم.
لكنّ القوم مع اختيارهم لذلك ، اكتفوا ببيعة الواحد والاثنين في عقد
ص: 260
الإمامة وإيجاب اتّباعه على الأمّة (1)! قال في « المواقف » وشرحها - وهما عنوان مذهبهم _ :
« وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة ، فاعلم أنّ ذلك [ الحصول ] لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحلّ والعقد ، إذ لم يتمّ عليه [ أي : على هذا الافتقار ] دليل من العقل والسمع ، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف في ثبوت الإمامة ، ووجوب اتّباع الإمام على أهل الإسلام ؛ وذلك لعلمنا أنّ الصحابة - مع صلابتهم في الدين وشدّة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقّها - اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين ، كعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان.
ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من بالمدينة من أهل الحلّ والعقد ، فضلا عن إجماع الأمّة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها ، هذا [ كما مضى ] ولم ينكر عليه أحد.
وعليه - أي : على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة - انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا » (2).
وأنت إذا نظرت بعين الإنصاف ، وسمعت بأذن واعية ، وتدبّرت في ما ذكرنا ، عرفت بطلان هذا الكلام.
ومن العجب دعواهما اكتفاء الصحابة في عقد الإمامة ببيعة الواحد والاثنين! ..
ألم يعلما امتناع أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وجماعة من الصحابة
ص: 261
عن بيعة أبي بكر ، وتخلّفهم عنها زمنا طويلا ، ولم يكتفوا ببيعة من بايعه من أهل السقيفة فضلا عن عمر وحده؟!
ألم يسمعا تخلّف سعد وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمّد بن مسلمة وأبي مسعود الأنصاري وغيرهم عن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام مع مشاهدتهم بيعة أهل الحلّ والعقد له (1)؟!
ألم يدريا أنّ بيعة الأوس لأبي بكر كانت حسدا للخزرج ، لا للاكتفاء المذكور ، كما تشهد به مراجعة تأريخي الطبري وابن الأثير (2) في كيفية بيعة السقيفة ؛ وكذا بيعة المهاجرين ، إنّما كانت حسدا وعداوة لأمير المؤمنين علیه السلام ؟! كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
وأعجب من ذلك دعواهما انطواء الأعصار على ذلك ، فإنّا لم نسمع أنّه اتّفق في زمان اكتفاء الناس ببيعة الواحد والاثنين ، وأنّ التكليف دعاهم إلى التسليم!
نعم ، سمعنا عهد الملوك الخونة لأبنائهم الجهلة الفسقة ، ولكنّه من نصّ الإمام عندهم لا من محلّ الكلام!
ومن المضحك أنّهم يصفون الصحابة بالصلابة في الدين في مثل المقام ، ممّا يحتاجون فيه إلى إثبات صلابتهم ومحافظتهم على أمور الشرع ، ويدّعون في مقام آخر أنّ مبادرتهم إلى البيعة وإعراضهم عن دفن سيّد المرسلين ، خوفا من الفتنة وزوال أمر الإسلام ، فإنّهم إذا كانوا بتلك
ص: 262
الصلابة ، فأيّ خوف يخشى على الإسلام إذا بادروا لدفن نبيّهم صلی اللّه علیه و آله وأخّروا البيعة ساعة ، وتذاكروا في أثناء هذا الوقت بتعيين الأولى؟!
وإذا كانوا بتلك الصلابة ، فكيف خاف عمر من وجوه الصحابة أن يفسدوا إذا خرجوا في الجهاد وإمرة البلاد؟! .. روى الحاكم في « المستدرك » في مناقب أمير المؤمنين علیه السلام ، من كتاب معرفة الصحابة (1) ، وصحّحه الذهبي في « تلخيصه » ، عن قيس بن أبي حازم ، قال :
جاء الزبير إلى عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : اجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : فردّد ذلك عليه ، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليها : اقعد في بيتك! فو اللّه إنّي لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا عليّ أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله .
فقد ظهر من كلام « المواقف » وشرحها أنّ إمامة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ، فوجب اتّباعه على أهل الإسلام قاطبة.
فكان ما نسبه المصنّف إليهم صدقا ، وإنّما الفضل جاهل بمذهبه وبمراد المصنّف.
فالمصنّف لم يرد إنكار بيعة الأنصار يوم السقيفة ، بل أراد نفي كون إمامة أبي بكر عن مشورة أهل الحلّ والعقد واجتماع رأيهم ، وإنّما كان أصل انعقادها ببيعة عمر ورضا أربعة ، ولذا كانت فلتة كما قاله عمر (2) ،
ص: 263
ومع ذلك أوجبوا طاعته على جميع الخلق! وهذا لا يستحلّ القول به من يؤمن باللّه وعدله وحكمته.
على أنّ ما ادّعاه الفضل من اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار إلّا سعدا ، كذب صريح ..
قال ابن الأثير (1) : « لمّا توفّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجرّاح ، فقال : ما هذا؟!
فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير.
فقال أبو بكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء.
ثمّ قال أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمّة.
فقال عمر : أيّكم يطيب نفسا أن يخلّف قدمين قدّمهما النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟
فبايعه عمر وبايعه الناس.
فقالت الأنصار - أو : بعض الأنصار - : لا نبايع إلّا عليّا » ؛ انتهى.
ونحوه في « تاريخ الطبري » (2).
وقال ابن عبد البرّ في « الاستيعاب » بترجمة أبي بكر : « بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سقيفة بني ساعدة ، ثمّ بويع له البيعة العامّة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم ، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش » (3).
ص: 264
وأمّا ما زعمه من أنّ أهل الحلّ والعقد كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار ، فازدراء بحقّ المهاجرين على كثرتهم وكثرة العلماء والأمراء منهم.
ومن طريف الكذب ما قاله من موت سعد بعد سبعة أيّام ، فإنّه لا يجامع اتّفاق العلماء والمؤرّخين على أنّه مات بحوران (1) ، وقال أكثرهم :
مات في إمارة عمر (2).
وقال ابن حجر في « الإصابة » ، في ترجمة سعد : « وقصّته في تخلّفه عن بيعة أبي بكر مشهورة ، وخرج إلى الشام فمات بحوران سنة 15 وقيل :
سنة 16 » (3).
وقال الحاكم (4) : إنّه توفّي بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر وذلك سنة 15 ، وروى أيضا أنّه مات بحوران سنة 16.
وقال الطبري في « تاريخه » (5) : كان سعد لا يصلّي بصلاتهم ، ولا يجمّع معهم ، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم ، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر.
ص: 265
وقال في « الاستيعاب » ، بترجمة سعد : « وتخلّف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ، وخرج من المدينة ، ولم ينصرف إليها إلى أن مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة عمر ، وذلك سنة 15 ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : بل مات بخلافة أبي بكر سنة 11 » (1).
وقال ابن الأثير في « كامله » في تاريخ سنة 14 : « وفيها مات سعد بن عبادة ، وقيل : سنة 11 ، وقيل : سنة 15 » (2).
وقد ذكر ابن أبي الحديد نحو ذلك في عدّة مواطن من « شرح النهج » (3).
وذكره جماعة كثيرون لا يسع المقام استقصاءهم (4) ..
وذكر ابن أبي الحديد (5) : إنّ أبا بكر - وقال بعضهم : عمر - كتب إلى خالد بن الوليد بالشام أن يقتل سعدا ، فكمن له هو وآخر معه - وقيل : هو محمّد بن مسلمة (6) - ليلا ، فرمياه فقتلاه وألقياه في بئر هناك فيها ماء ،
ص: 266
فهتف صاحب خالد في ظلام الليل ببيتين [ من مجزوء الرمل ] :
نحن قتلنا سيّد الخزر *** ج سعد بن عباده
ورميناه بسهمين *** فلم نخطئ فؤاده
يريهم أنّ ذلك من شعر الجنّ!
وأمّا قوله : « ولو كان الأنصار سمعوا من رسول اللّه النصّ على خلافة عليّ ، فلم لم يجعلوه حجّة على أبي بكر » ..
ففيه : إنّهم إنّما لم يجعلوه حجّة عليه ؛ لأنّه حجّة عليهم ، فإنّهم مثله كانوا يطلبون الإمرة ، وقد اجتمعوا لنصب إمام منهم كما ذكره الفضل ، وهم أوّل من أبطل قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونصّه يوم الغدير ، لكن بعد ما علموا أنّ قريشا تمالأت على أمير المؤمنين وغصب حقّه ، لما صدر منهم من الصحيفة الجائرة بمكّة ، التي جعلوا أبا عبيدة أمينها ، فسمّوه أمينا لذلك (1) ، ولما وقع منهم من القول البذيء في بعض خيامهم يوم الغدير (2) ، ومن الفعل الفظيع ليلة الدباب في العقبة إذ همّوا بقتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3) ، ولنسبتهم الهجر إليه (4) فمنعوه من تأكيد النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام ، مضافا إلى تصريح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّ عليّا لا يزال مظلوما
ص: 267
مقهورا ، وأنّ الأمّة تغدر به (1) ..
فخاف الأنصار من ولاية أعداء أمير المؤمنين ، فأرادوا الاستقلال أو المشاركة.
ولا يبعد أنّ كثيرا من الأنصار احتجّوا على أبي بكر بالنصّ على عليّ علیه السلام ، فلم يبال أبو بكر وأعوانه به ، كما يشهد له ما سبق عن الطبري وابن الأثير أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا : « لا نبايع إلّا عليّا! » (2).
وأمّا قوله : « وهل يمكن أنّ الأنصار الّذين نصروا اللّه ورسوله ... » إلى آخره ..
فلو سلّم أنّهم سكتوا ولم يذكروا النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام ، فهو غير عجيب ؛ لانقلابهم كغيرهم بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما دلّت عليه الآية (3) ، وأخبار الحوض (4) ..
وما رواه البخاري وغيره ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لتتّبعنّ سنن (5) من
ص: 268
كان قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم.
قلنا : يا رسول اللّه! اليهود والنصارى؟
قال : فمن؟! » (1)
ونحوه كثير جدّا (2).
قال الأزري رحمه اللّه [ من الطويل ] :
أتعجب من أصحاب أحمد إذ رضوا *** بتأخير ذي فضل وتقديم ذي جهل
فأصحاب موسى في زمان حياته *** رضوا بدلا عن بارئ الخلق بالعجل
وأمّا قوله : « مع أنّ عمر وأبا عبيدة ألزموهم بقوله صلی اللّه علیه و آله : الأئمّة من قريش » ..
ففيه : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وإن قاله ، لكن لم يلزموهم به كراهيّة للتعرّض حينئذ لما فيه نصّ في الجملة ، وإنّما ألزموهم بقولهم : « لن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا » ،
ص: 269
كما ذكره عمر في خطبته التي رواها البخاري في باب رجم الحبلى ، من كتاب المحاربين (1) ، أو نحو هذا القول.
ولم أعرف أحدا روى أنّهم ألزموهم بقوله صلی اللّه علیه و آله : « الأئمّة من قريش ».
وقد أنكره السيّد المرتضى - قدّس اللّه روحه - غاية الإنكار ، كما نقله عنه ابن أبي الحديد (2).
نعم ، ورد في بعض روايات القوم أنّ عكرمة بن أبي جهل وابن العاص روياه بعد السقيفة وانقضاء البيعة وندم بعض الأنصار ، كما ذكره ابن أبي الحديد في أوائل المجلّد الثاني ، في منازعة جرت بين المهاجرين والأنصار (3).
وأمّا ما أحال الفضل عليه من الجواب عن تعجّب المصنّف من بحث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها ، فهو كإحالة الظمآن على السراب ، كما أوضحناه في ما مرّ.
* * *
ص: 270
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
فهي الأدلّة الدالّة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من حيث العقل ، وهي من وجوه :
الأوّل : الإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير عليّ لم يكن معصوما بالإجماع ، فتعيّن أن يكون هو الإمام.
الثاني : شرط الإمام أن لا يسبق منه معصية ، على ما تقدّم ، والمشايخ قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام ، فلا يكونون أئمّة ، فتعيّن عليّ علیه السلام للعدم الفارق.
الثالث : يجب أن يكون منصوصا عليه ، وغير عليّ من الثلاثة ليس منصوصا عليه ، فلا يكون إماما.
الرابع : الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته ، وغير عليّ لم يكن كذلك ، فتعيّن علیه السلام .
الخامس : الإمامة رئاسة عامّة ، وإنّما تستحقّ بالزهد والعلم والعبادة والشجاعة والإيمان ، وسيأتي أنّ عليّا علیه السلام هو الجامع لهذه الصفات على الوجه الأكمل الذي لم يلحقه غيره ، فيكون هو الإمام.
* * *
ص: 272
وقال الفضل (1) :
مذهب أهل السنّة والجماعة أنّ الإمام بالحقّ بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبو بكر الصدّيق ، وعند الشيعة : عليّ المرتضى.
ودليل أهل السنّة وجهان :
الأوّل : إنّ طريق ثبوت الإمامة إمّا النصّ ، أو الإجماع بالبيعة ..
أمّا النصّ فلم يوجد ؛ لما ذكرنا (2) ولما سنذكر ونفصّل بعد هذا.
وأمّا الإجماع فلم يوجد في غير أبي بكر اتّفاقا من الأمّة.
الوجه الثاني : إنّ الإجماع منعقد على حقّيّة أحد الثلاثة : أبي بكر وعليّ والعبّاس ، ثمّ إنّهما لم ينازعا أبا بكر ، ولو لم يكن على الحقّ لنازعاه كما نازع عليّ معاوية ؛ لأنّ العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك ، ولأنّ ترك المنازعة مع الإمكان مخلّ بالعصمة ؛ لأنّه هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة ، وأنتم توجبونها في الإمامة وتجعلونها شرطا لصحّة الإمامة.
فإن قيل : لا نسلّم الإمكان - أي إمكان منازعتهما أبا بكر -.
قلنا : قد ذهبتم وسلّمتم أنّ عليّا كان أشجع من أبي بكر ، وأصلب في الدين ، وأكثر منه قبيلة وأعوانا ، وأشرف منه نسبا ، وأتمّ منه حسبا ..
والنصّ الذي تدّعونه لا شكّ أنّه بمرأى من الناس وبمسمع منهم ،
ص: 273
والأنصار لم يكونوا يرجّحون أبا بكر على عليّ ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر في آخر عمره على المنبر ، وقال : « إنّ الأنصار كرشي وعيبتي » (1) ، وهم كانوا الجند الغالب والعسكر.
وكان ينبغي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أوصى الأنصار بإمداد عليّ في أمر الخلافة ، وأن يحاربوا من يخالف نصّه في خلافة عليّ.
ثمّ إنّ فاطمة - مع علوّ منصبها - زوجته ، والحسن والحسين - مع كونهما سبطي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - ولداه ..
والعبّاس - مع علوّ منصبه - معه ، فإنّه روي أنّه قال لعليّ : أمدد يدك أبايعك حتّى يقول الناس : بايع عمّ رسول اللّه ابن عمّه ، فلا يختلف فيك اثنان (2).
والزبير - مع شجاعته - كان معه ، قيل : إنّه سلّ السيف وقال : لا أرضى بخلافة أبي بكر (3).
وقال أبو سفيان : أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيميّ؟! واللّه لأملأنّ الوادي خيلا ورجلا (4)!
وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر ، فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ؛ كما
ص: 274
ذكرنا (1).
ولو كان على إمامة عليّ نصّ جليّ ، لأظهروه قطعا ، ولأمكنهم المنازعة جزما.
كيف لا؟! وأبو بكر شيخ ضعيف جبان ، لا مال له ولا رجال ولا شوكة ، فأنّى يتصوّر امتناع المنازعة معه؟!
وكلّ هذه الأمور تدلّ على أنّ الإجماع وقع على خلافة أبي بكر ، ولم يكن نصّ على خلافة غيره.
وبايعه عليّ حيث رآه أهلا للخلافة ، عاقلا ، صبورا ، مداريا ، شيخا للإسلام.
ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة ، بل غرضهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة ليدخل الناس كافّة في دين الإسلام.
وقد كان هذا يحصل من خلافة أبي بكر ، فسلّموا إليه الأمر ، وكانوا أعوانا له في إقامة الحقّ.
هذا هو المذهب الصحيح ، والحقّ الصريح ، الذي عليه السواد الأعظم من الأمّة ،
وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليكم بالسواد الأعظم » (2).
ص: 275
وأمّا ما استدلّ به من الوجوه العقلية على خلافة عليّ :
فالأوّل : وجوب كون الإمام معصوما ، وقد قدّمنا عدم وجوبه ، لا عقلا ولا شرعا (1).
وجواب الثاني : عدم اشتراط أن لا تسبق منه معصية كما قدّمنا (2).
وجواب الثالث : عدم وجوب النصّ ؛ لأنّ الإجماع في هذا كالنصّ.
وجواب الرابع : عدم وجوب كون الإمام أفضل من الرعيّة - كما ذكر - إذا ثبت أفضليّة عليّ كرّم اللّه وجهه.
وجواب الخامس : إنّ أوصاف الزهد والعلم والشجاعة والإيمان كانت موجودة في المشايخ الثلاثة ، وأمّا الأكمليّة في هذه الأوصاف ، فهي غير لازمة إذا كانوا أحفظ للحوزة.
* * *
ص: 276
يرد على دليلهم الأوّل : إنّ النصّ على خلافة عليّ واقع كما ستعرف ..
وإنّ الإجماع على بيعة أبي بكر لم يقع ؛ كيف؟! ولم يبايعه زعيم الخزرج وسيّدهم سعد بن عبادة ولا ذووه ، إلى أن مات أبو بكر ..
ولم يبايعه سيّد المسلمين ومولاهم ومن يدور معه الحقّ حيث دار (1) إلّا بعد ما هجموا عليه داره وهمّوا بإحراق بيته (2) ، كما ستعرفه في مطاعن أبي بكر.
وكذلك الزبير ، لم يبايع إلّا بعد أن كسروا سيفه وأخذوه قهرا (3).
ولا المقداد ، إلّا بعد ما دفعوا في صدره وضربوه (4).
وكذلك جملة من خيار المسلمين ، لم يبايعوا إلّا بعد الغلبة والقهر ، كسلمان وأبي ذرّ وعمّار وحذيفة وبريدة وأشباههم ، وكذا كثير من سائر
ص: 277
المسلمين (1).
ففي شرح النهج (2) ، عن البراء بن عازب ، قال :
« لم أزل محبّا لبني هاشم ، فلمّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج الأمر عنهم ...
إلى أن قال : فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه وقدّموه ، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى » .. الحديث.
.. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ بيعة أبي بكر لم تتمّ إلّا بالقهر والغلبة ؛ ولذا أخّروا دفن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثة أيّام (3)!
فهل ترى مع هذا يصحّ لمسلم دعوى الإجماع ، ويجزم بوقوعه ، ولا يعتريه الريب فيه ، حتّى يجعله مستندا لدينه الذي يلقى اللّه عزّ وجلّ به؟!
هذا ، وقد يوجّه الاستدلال بالإجماع بأمرين :
الأوّل : عدم الاعتداد بخلاف البعض إذا حصل اتّفاق الغالب ..
وفيه : إنّ اتّفاق الغالب ليس بإجماع حقيقة ، ولا حجّة أصلا ؛ لعدم الدليل ، وإلّا لزمهم القول بانعزال عثمان لاتّفاق أكثر أهل الحلّ والعقد على عزله ، فقتل لا متناعه.
ص: 278
الثاني : ما ذكره ابن أبي الحديد (1) ، قال : « احتجّ أصحابنا بالإجماع ، فاعتراض حجّتهم بخلاف سعد وولده وأهله اعتراض جيّد .. وليس يقول أصحابنا : هؤلاء شذّاذ ، فلا نحفل بخلافهم ؛ وإنّما المعتبر الكثرة التي بإزائهم ، وكيف يقولون هذا وحجّتهم الإجماع ، ولا إجماع؟!
ولكنّهم يجيبون عن ذلك بأنّ سعدا مات في خلافة عمر ، فلم يبق من يخالف في خلافته ، فانعقد الإجماع عليها وبايع ولد سعد وأهله من قبل.
وإذا صحّت خلافة عمر صحّت خلافة أبي بكر ؛ لأنّها فرع عنها ، ومحال أن يصحّ الفرع ويكون الأصل فاسدا ».
وفيه : إنّه لو سلّم الإجماع على خلافة عمر ورضى جميع الأمّة ، فإمامته إنّما تصحّ حين تحقّق الإجماع لا قبله ، فتكون أصلا برأسها لا فرعا.
كيف؟! ودعوى الفرعيّة منافية لاستناد صحّة إمامة عمر إلى الإجماع الحادث عليها!
نعم ، كانت فرعا عنها حيث كان الأصل والفرع فاسدين.
وأمّا دليلهم الثاني ؛ ففيه : إنّهم إن أرادوا ثبوت الإجماع على حقّيّة أحد الثلاثة بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقبل بيعة أبي بكر ، فهو ممنوع ؛ لأنّ المسلمين ، أو أهل الحلّ والعقد منهم ، لم يجتمعوا حتّى تعرف آراؤهم ، ومن اجتمع منهم في السقيفة كان بعضهم يرى أنّ سعدا حقيق بها ، فكيف يدّعى الإجماع حينئذ على حقّيّة أحد الثلاثة بالخصوص؟!
على أنّا لم نسمع أنّ أحدا ذكر العبّاس حينئذ!
ص: 279
وأيضا : فمذهب القوم أنّ كلّ من جمع العدالة والاجتهاد وغيرهما من الصفات السابقة حقيق بالخلافة ، فما معنى الاختصاص بالثلاثة حتّى يجمع عليه الصحابة؟!
ومجرّد الترجيح لهم ، لا يقتضي الاختصاص بهم وعدم صلوح غيرهم للخلافة.
وإن أرادوا ثبوت الإجماع بعد بيعة أبي بكر ، فهو ينافي ما زعموه من الإجماع على أبي بكر خاصّة إن اتّفق زمن الإجماعين ، وإلّا بطل الإجماع على حقّيّة أحد الثلاثة ، سواء تقدّم أم تأخّر ؛ لأنّ الإجماع على تعيين واحد هو الذي يجب اتّباعه ، فيكون الحقّ مختصّا بأبي بكر ، ولم يصحّ جعل الإجماع على حقّيّة أحد الثلاثة دليلا ثانيا.
ويحتمل بطلان الإجماع المتقدّم وصحّة المتأخّر مطلقا ؛ وهو الأقرب.
وأمّا ما زعمه من إمكان منازعة أمير المؤمنين علیه السلام ، فممنوع ؛ إذ لا ناصر له إلّا أقلّ القليل ، ولذا قال علیه السلام في خطبته الشقشقية :
« فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء » (1).
.. إلى غير ذلك من متواتر كلامه (2).
ص: 280
فإنّ قريشا أجمعت على إخراج الأمر من يده عداوة وحسدا له وطلبا بالتّرات (1).
ألا ترى أنّه لم يكن معه في صفّين من قريش إلّا خمسة أو نحوهم ، ومع معاوية ثلاث عشرة قبيلة (2) ، مع علمهم ببغي معاوية وعدم مشاهدتهم لما فعله أمير المؤمنين علیه السلام بأسلافهم ، إلّا القليل ، فكيف بمن شاهدوا؟!
ولا يستبعد من قريش بغضه وعداوته ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع طهارته وعصمته وقداسة نفسه ، لم يطق رؤية وحشيّ قاتل حمزة علیه السلام ، وقد أسلم ، حتّى قال له : « ما تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي؟! » كما في « الاستيعاب » (3) و « المسند » (4) ..
فكيف بمن أفنوا أعمارهم بالكفر ، وربّوا على عادات الجاهلية ، أن يروا صاحب تراتهم أميرا عليهم ، وحاكما مطاعا فيهم وفي غيرهم ، ولهم طريق إلى صرف الأمر عنه؟!
مضافا إلى أنّ كلّ دم أراقه أخوه وابن عمّه إنّما يعصبونه به على قواعد العرب ، وكلّ أمر صنعه بهم إنّما يطلبونه منه ؛ لأنّه أقرب الناس إليه وأخصّهم به ، وأشدّهم مؤازرة له ، وأعظمهم اجتهادا في نصرته من يوم
ص: 281
مبعثه إلى يوم وفاته.
مضافا إلى حسدهم ؛ لعلوّ مقامه وظهور فضله ، وتعظيم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إيّاه ، وتقريبه إليه بالأخوّة والمصاهرة على بضعته سيّدة النساء ، وتخصيصه له بالمنازل العظمى ، كالمباهلة به وبآله ، وجعله مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
.. إلى غير ذلك ممّا يظهر به مكانته السامية وشرفه الباهر عند اللّه وعند رسوله والناس.
هذا ، مع رجاء كثير منهم للإمرة بعد أبي بكر ، فإنّه إذا وليها أبو بكر وهو أدناهم شرفا ، كانوا إليها أقرب ، وبها أطمع ، بخلاف ما لو وليها أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّها تستقرّ في بيته ، كما يشهد له قول المغيرة لأبي بكر وعمر عند موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « وسّعوها في قريش تتّسع! .. فقاما إلى السقيفة » ، حكاه في ( شرح النهج ) (1) ، عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري.
وما في كتاب « الإمامة والسياسة » في باب إمامة أبي بكر وإباء عليّ علیه السلام من بيعته ، من حديث قال فيه عليّ لعمر : « احلب حلبا لك شطره ، [ و ] اشدد له اليوم أمره ليردّه عليك غدا » (2).
ومثله في ( شرح النهج ) نقلا عن الجوهري (3).
هذا حال قريش ..
وأمّا الخزرج ، فقد كانوا أوّل الحال يطلبونها لأنفسهم ، وبعد أن
ص: 282
صرفت عنهم وكبا (1) جدّهم (2) ونبا (3) حدّهم ، لم تبق لهم قوّة وهمّة على العدول إلى أمير المؤمنين ، لا سيّما مع صيرورتهم محلّ التهمة.
وأمّا الأوس ، فقد كان همّهم صرف الأمر عن الخزرج ، مع أنّ كثيرا منهم ومن الخزرج مبغضون لأمير المؤمنين علیه السلام ، كأسيد بن حضير (4) ، وبشير بن سعد (5).
وفوق ذلك كلّه قد سمعت إعلام اللّه سبحانه انقلاب الأمّة على أعقابها (6) ، وإخبار النبيّ بأنّهم يتّبعون سنن بني إسرائيل حذو النعل بالنعل (7) ..
وبأنّهم يرتدّون على أدبارهم القهقرى ، ويصيرون إلى النار ،
ص: 283
ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم (1) ..
وبأنّ الأمّة ستغدر بأمير المؤمنين (2) ..
.. إلى غير ذلك.
فكيف مع هذا كلّه يمكن لأمير المؤمنين علیه السلام منازعة القوم ، وإن كان أحسب وأنسب وأكثر قبيلة وقائم الدين؟! إذ ليس هو بأعظم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا ترك الحرب بمكّة وفي أوائل الهجرة ويوم صلح الحديبية ، وقد كان أكثر ناصرا من أمير المؤمنين علیه السلام !
على أنّ أمير المؤمنين قد نازعهم لكن بغير الحرب ، فقد امتنع مدّة من بيعتهم حتّى قهروه وأرادوا حرق بيته ، وجمع أعوانا في داره حتّى تهدّدهم عمر (3).
وحمل الزهراء والحسنين ليلا مستنصرا بوجوه المسلمين فلم ينصروه ، كما رواه ابن قتيبة (4).
ص: 284
ونقله ابن أبي الحديد عن الجوهري (1).
وذكره معاوية في كتابه المشهور إلى أمير المؤمنين ، قال :
« وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يد ابنيك الحسن والحسين ، يوم بويع أبو بكر الصدّيق ، فلم تدع من أهل بدر والسوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ... فلم يجبك منهم إلّا أربعة أو خمسة » (2).
وما زال أمير المؤمنين علیه السلام يقول : « لو وجدت أربعين رجلا ذوي عزم منهم لناهضت القوم » ، كما ذكره معاوية في كتابه المذكور ، قال : « ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لنا هضت القوم » (3).
وروى ابن أبي الحديد نحوه عن نصر (4) ، قال نصر ما حاصله :
« لمّا استولى معاوية على الماء يوم صفّين ، قال له ابن العاص : خلّ بينهم وبين الماء ، فإنّ عليّا لم يكن ليظمأ وأنت ريّان ، وفي يده أعنّة الخيل ... وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ... وقد سمعته مرارا وهو يقول : ( لو استمكنت من أربعين ) يعني في الأمر الأوّل ».
وممّا بيّنّا من أحوال قريش والأنصار يعلم ما في قول الفضل : « ثمّ إنّ فاطمة - مع علوّ منصبها - زوجته ».
ومن العجب أنّه يرجو أن يكون وجود الزهراء والحسنين علیهم السلام
ص: 285
مؤثّرا في قوّة أمير المؤمنين علیه السلام وتمكّنه من أخذ الزعامة العظمى والإمامة الكبرى ، وهي سلام اللّه عليها لم تقدر على أخذ فدك وهي مال يسير ، مع شأنها العظيم ، ومكانتها الرفيعة ، وحججها الرصينة ، وخطبها البليغة ، واستنصارها بمن يدّعون الإسلام!!
ولو كانت فدك لهم ، وحقّا من حقوقهم ، لكان حقّا عليهم أن يعطوها إيّاها بمجرّد إرادتها ، حفظا لنبيّهم في بضعته التي لم يخلّف فيهم غيرها مع قرب وفاته.
فكيف يمكن أن يكون وجودها بنفسه سببا لقدرة أمير المؤمنين على إعادة الزعامة العظمى؟!
وأمّا اتّفاق العبّاس والزبير معه ، فلا يغني عنه شيئا في مقابلة جمهور قريش ، كيف؟! وقد كسروا سيف الزبير لمّا همّ بهم فلم يدفع عن نفسه ضيما (1)!!
وكذلك اتّفاق أبي سفيان معه ، لا سيّما وهو منافق لم يرد إلّا الفتنة ..
روى الطبري (2) وابن الأثير (3) : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام زجر أبا سفيان وقال : واللّه ما أردت إلّا الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّا ؛ لا حاجة لنا في نصيحتك ».
ويدلّ على نفاقه أنّه لمّا رشوه صار تابعا لهم (4).
روى الطبري (5) : « أنّه لمّا استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا
ص: 286
ولأبي فصيل (1)؟! إنّما هي بنو عبد مناف!
فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك.
قال : وصلته رحم ».
ونقل ابن أبي الحديد (2) ، عن الجوهري : « أنّ النبيّ [ قد ] بعث أبا سفيان ساعيا ، فرجع من سعايته وقد مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول اللّه.
فقال : من ولّي بعده؟
قيل : أبو بكر.
قال : أبو فصيل؟!
قالوا : نعم.
.. إلى أن قال : فكلّم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدم وإنّا لا نأمن شرّه ؛ فدفع له ما في يده ، فتركه فرضي ».
وأمّا قوله : « وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر ، فقالوا : منّا أمير ... » إلى آخره ..
فصحيح بالنسبة إلى أكثر الخزرج ، لكن كراهتهم لخلافته ؛ لأنّهم يريدونها لأنفسهم لا نصرة لأمير المؤمنين ؛ ولذا قالوا : « منّا أمير ومنكم أمير ».
ص: 287
ومنه يعلم ما في قوله : « ولو كان على إمامته نصّ لأظهروه » ..
فإنّ إظهارهم مناف لطلبهم الإمرة كما سبق (1) ، ولم يبق بعد هذا الطلب مجال لإظهار النصّ ؛ لتسرّع عمر إلى بيعة أبي بكر ، حتّى وصفها عمر بأنّها فلتة (2).
على أنّه لا يبعد أنّ كثيرا من الأنصار أظهروه وأخفاه رواة القوم ، كما يرشد إليه ما نقلناه سابقا عن الطبري وابن الأثير من أنّهما رويا أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا : « لا نبايع إلّا عليّا ».
مع أنّ النصّ لمّا كان بمرأى من الناس ومسمع لا يحتاج إلى الإظهار ؛ لقرب عهد الغدير ونزول قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (3) .. الآية ، لكنّ الناس خالفوه على عمد ، انقلابا منهم عن الدين ، وغدرا بوليّهم ومولاهم ، واقتفاء لسنّة بني إسرائيل.
فقد اتّضح ممّا بيّنّا أنّ ما لفّقه الفضل تبعا للمواقف لإثبات إمكان المنازعة ، إنّما هو أمور خيالية وأوهام كاذبة صوّرها الهوى والتعصّب ، وإلّا فالوجدان والأحاديث شاهدان بخلافه ، حتّى
روى أحمد في مسنده (4) ، عن أمّ الفضل ، قالت :
« أتيت النبيّ في مرضه فجعلت أبكي ، فرفع رأسه فقال : ما يبكيك؟!
قلت : خفنا عليك ، وما ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول اللّه!
ص: 288
قال : أنتم المستضعفون بعدي »
انظر إلى هذه الحرّة كيف أدركت من الناس الشحناء والبغضاء لهم ، وطلب الترات منهم ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله حيّ بينهم حتّى بكت ، وقال لها النبيّ : « أنتم المستضعفون بعدي »
وأهل السنّة رأوا ما رأوا من اتّفاق الكلمة على أهل البيت علیهم السلام ، وهجوم من هجم على دارهم وإرادتهم إحراقها عليهم ، وغصب بضعة الرسول حقّها حتّى ماتت غضبى (1) .. ومع ذلك يزعمون أنّ أمير المؤمنين قويّ الجانب بالمسلمين ، وكان يمكنه منازعة أبي بكر ، وما بايعه إلّا طوعا!
ولا ينافي ما قلنا جبن أبي بكر وضعفه وذلّته في نفسه وبيته ، حتّى عبّر عنه أبو سفيان بأبي فصيل وقال : « إنّه من أرذل بيت في قريش » كما في « الاستيعاب » وغيره (2) ..
فإنّه إنّما قوي على أمير المؤمنين بقريش وبعض الأنصار ، وما مكّنهم اللّه سبحانه من ذلك إلّا فتنة لهم ولغيرهم كما قال سبحانه : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (3).
ص: 289
ثمّ إنّ أكثر هذه الأمور التي قرّب بها وقوع الإجماع على أبي بكر بالاختيار أدلّ على خلافه ، كعدم ترجيح الأنصار لأبي بكر على عليّ علیه السلام ، وكون العبّاس معه ، وسلّ الزبير سيفه في نصرته ، وتظاهر أبي سفيان بخلاف أبي بكر وذمّه له ..
فإنّ هذه الأمور ونحوها مقرّبة لكون بيعة أبي بكر لم تكن عن رغبة ، بل لأمور تسخط اللّه ورسوله.
وممّا ذكرنا يعلم ما في قوله : « وبايعه حيث رآه أهلا للخلافة » ، وقد أشرنا إلى كيفية البيعة مجملا (1) وستعرفها مفصّلا.
وكيف يقال : إنّه بايعه طوعا حيث رآه أهلا للخلافة ، وآثار العداوة ظاهرة بينهما وبين أتباعهما إلى يومنا هذا؟!
وهو علیه السلام لم يزل يتظلّم منهم إلى حين وفاته ، حتّى قال في بعض كلامه :
« اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، ثم قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تتركه » (2).
قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام (3) : « إعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه علیه السلام بنحو من هذا القول ، نحو قوله : وما زلت مظلوما منذ قبض اللّه رسوله صلی اللّه علیه و آله حتّى يوم الناس هذا.
ص: 290
وقوله : اللّهمّ اجز (1) قريشا ، فإنّها منعتني حقّي ، وغصبتني أمري.
وقوله : فجزى قريشا عنّي الجوازي ، فإنّهم ظلموني حقّي ، واغتصبوني سلطان ابن أمّي.
وقوله - وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم! - فقال : هلمّ فلنصرخ معا ، فإنّي ما زلت مظلوما.
وقوله : وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى.
وقوله : أرى تراثي نهبا.
وقوله : أصغيا بإنائنا (2) ، وحملا الناس على رقابنا.
وقوله : إنّ لنا حقّا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.
وقوله : ما زلت مستأثرا عليّ مدفوعا عمّا أستحقّه وأستوجبه » (3).
وأمّا قوله : « ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة ، بل عزمهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة » ..
فبعيد عن الصواب ؛ لأنّ من يقصد إقامة الحقّ وتقويم الشريعة لا يصدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن كتابة ما لا يضلّون بعده أبدا ، حتّى نسبه إلى
ص: 291
الهجر ، فقابل إحسانه بأعظم إساءة ، ونصيحته بأكبر غشّ ، وهدايته بأضلّ ضلالة!
وكيف يريدون إقامة الحقّ وتقويم الشريعة ، ووليّهم بنصّ الكتاب المجيد ، ومولاهم ، وأخو نبيّهم ، وباب علمه ، ووارثه بين أظهرهم (1) ، لا يلتفتون إليه بوجه ، بل ينتهزون فرصة اشتغاله بتجهيز النبيّ ويتنازعون الإمرة بينهم في السقيفة ، ويستعملون في نيلها الحيل والتزويرات؟!
وكيف يقصدون إقامة الحقّ وقد انتهكوا حرّمة نبيّهم صلی اللّه علیه و آله بترك دفنه وغصب بضعته ولمّا يطل العهد حتّى ماتت مقهورة غضبى؟!
وكيف يقال في حقّهم ذلك وقد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، وكلّهم إلى النار ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم؟!
وقد روى الطبري (2) ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر قال : أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟!
فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أدر فأمير المؤمنين يدريني.
فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجّحوا على قومكم بجحا بجحا (3) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.
فقلت : يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب تكلّمت.
فقال : تكلّم [ يا بن عبّاس ]!
ص: 292
فقلت : أمّا قولك : « اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت » ، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار اللّه عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.
وأمّا قولك : « إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة » ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ وصف قوما بالكراهيّة فقال : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) (1).
فقال عمر : هيهات! واللّه يا بن عبّاس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّك (2) عنها فتزيل منزلتك منّي.
فقلت : وما هي؟! فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
فقال عمر : بلغني أنّك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسدا وظلما.
فقلت : أمّا قولك : « ظلما » فقد تبيّن للجاهل والحليم ؛ وأمّا قولك :
« حسدا » فإنّ إبليس حسد آدم ، فنحن ولده المحسودون.
فقال عمر : هيهات! أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسدا ما يحول ، وضغنا وغشّا ما يزول.
فقلت : مهلا! لا تصف قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغشّ ، فإنّ قلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قلوب بني هاشم.
فقال عمر : إليك عنّي .. الحديث.
ومثله في ( كامل ) ابن الأثير (3).
ص: 293
ونحوه في ( شرح النهج ) (1).
وأمّا قوله : « وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليكم بالسواد الأعظم » ..
فلا يعرف معناه حتّى يعرف المقام الذي ورد فيه ، فإنّه قد يرد في مقام محاربة الجمع الكثير ، فيفيد الأمر بقتالهم ، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في بعض أيّام صفّين : « عليكم بهذا السواد الأعظم [ والرواق المطنّب ] فاضربوا ثبجه (2) » (3).
وقد يرد في مقام ترجيح الاجتماع والسكنى في البلاد الكبيرة لا ستحبابه شرعا ؛ لأنّها أجمع للمعارف ما لم تكن بلاد كفر.
ولو سلّم أنّ المراد به الأمر باتّباع السواد الأعظم في الدين ، فليس المراد فيه بالسواد : الجمهور ، فإنّ أكثر الناس غير مؤمنين ، بل المراد به جماعة المؤمنين الخلّص وإن قلّوا ، فإنّهم السواد الأعظم ، أي محلّ النظر والالتفات والعناية.
قال الزمخشري والرازي في تفسير قوله تعالى : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (4) :
« فإن قيل : لم قال : ( أُذُنٌ واعِيَةٌ ) على التوحيد والتنكير؟!
قلنا : للإيذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة ، وتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم ، والدلالة على أنّ الأذن الواعية (5) إذا وعت فهي السواد الأعظم ، وأنّ
ص: 294
ما سواها لا يلتفت إليه وإن امتلأ العالم منهم » (1).
وأمّا ما أجاب به عن أدلّة المصنّف العقلية ، فقد تبيّن لك ما فيه ممّا سبق (2) ، ودعوى العلم والزهد الحقيقي والشجاعة للمشايخ الثلاثة محلّ نظر.
هذا ، ويمكن أن يستدلّ على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام بوجه آخر عقلي ، وهو :
إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يفارق المدينة قطّ إلّا وخلّف فيها من يخلفه ، ولا أرسل جيشا إلّا وأمّر عليهم كما تقتضيه الرئاسة والسياسة ، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضا للفتن ، وغرضا لسهام الخلاف ، على قرب عهدهم بالكفر ، وتوقّع الانقلاب منهم ، ووجود من مردوا على النفاق ، وتربّص الكفرة بهم الدوائر ، كما نطقت به آيات الكتاب العزيز؟!
وكيف يمكن أن لا يطالبه المسلمون - على كثرتهم - بنصب إمام لهم ، مع طول مرضه وإعلامه مرارا لهم بموته؟!
فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام ، علم أنّه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب ، وليس هو إلّا نصّ الغدير ونحوه ، فيكون أمير المؤمنين علیه السلام هو الإمام.
ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سببا لترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله للنصّ كما زعموا ؛ لأنّ فائدة التشريع اتّباع الناس له في فعله.
وبالضرورة أنّه لم يتّفق ترك ملك أو خليفة للنصّ على من بعده عملا بالسنّة.
ص: 295
ويمكن أن يستدلّ على إمامته بوجه سابع عقلي ، وهو :
إنّه لا ريب بأنّ من يعرف طرفا من التاريخ رأى أنّ بين أمير المؤمنين علیه السلام والمشايخ الثلاثة مباينة بعيدة ، ومناوأة شديدة ، حتّى لم يشهد التاريخ بحرب له في نصرتهم ، مع أنّه أبو الحرب وابن بجدتها (1) وما قام الإسلام إلّا بسيفه ، وما تخلّف عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في موقف (2) سوى تبوك ، وقام بأعباء الحروب الثقيلة في أيّام تولّيه الخلافة.
وقد امتلأت كتب التاريخ بما وقع بينه وبينهم ، لا سيّما الثالث (3).
وذلك لا يجتمع مع البناء على أنّهم جميعا أركان الدين ، وأقطاب الحقّ ، وإخوة الصدق ، وهمّهم نصر الإسلام لا الزعامة الدنيوية ، فلا بدّ من وقوع خلل هناك ، إمّا لكونهم جميعا على باطل - ولا يقوله مسلم - ، أو لكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل ، وهو المتعيّن ، ولا قائل من أهل الإسلام بأنّ عليّا علیه السلام إذ ذاك : مبطل ، حتّى الخوارج ..
فيتعيّن أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام هو المحقّ ، وغيره المبطل ، فلا بدّ أن يكون هو الإمام.
* * *
ص: 296
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
وأمّا المنقول : فالقرآن ، والسنّة المتواترة ..
أمّا القرآن ، فآيات :
الأولى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2).
أجمعوا على نزولها في عليّ علیه السلام (3) ، وهو مذكور في [ الجمع بين ] (4)
ص: 297
الصحاح الستّة ، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة (1).
والوليّ : هو المتصرّف (2).
وقد أثبت اللّه تعالى الولاية لذاته وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين.
وولاية اللّه عامّة ، فكذا النبيّ والوليّ.
* * *
ص: 298
وقال الفضل (1) :
جوابه : إنّ المراد من الوليّ : الناصر ، فإنّ الوليّ لفظ مشترك ، يقال للمتصرّف ، والناصر ، والمحبّ ، والأولى بالتصرّف ، كوليّ الصبيّ والمرأة.
والمشترك إذا تردّد بين معانيه ، يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب منه ، وهاهنا كذلك ، فلا يكون هذا نصّا على إمامة عليّ ، فبطل الاستدلال به.
وأمّا القرائن على أنّ المراد بالوليّ : الناصر - في الآية - لا الأولى والأحقّ بالتصرّف ؛ لأنّه لو حمل على هذا لكان غير مناسب لما قبلها ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (2) ، فإنّ الأولياء هاهنا : الأنصار ، لا بمعنى الأحقّين بالتصرّف ..
وغير مناسب لما بعدها ، وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (3) ، فإنّ التولّي هاهنا بمعنى المحبّة والنصرة.
فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضا ؛ ليتلاءم أجزاء الكلام.
* * *
ص: 299
لا يبعد أنّ الوليّ مشترك معنى ، موضوع للقائم بالأمر ، أي الذي له سلطان على المولّى عليه - ولو في الجملة - ، فيكون مشتقّا من الولاية ، بمعنى السلطان.
ومنه : وليّ المرأة والصبي والرعيّة ، أي القائم بأمورهم وله سلطان عليهم في الجملة.
ومنه أيضا : الوليّ : بمعنى الصديق والمحبّ ، فإنّ للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على صديقه وقياما بأموره.
وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار بالنسبة إلى جاره .. إلى غير ذلك (1).
فيحنئذ يكون معنى الآية : إنّما القائم بأموركم هو اللّه ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شكّ أنّ ولاية اللّه تعالى عامّة في ذاتها ، مع أنّ الآية مطلقة فتفيد العموم بقرينة الحكمة (2) ، فكذا ولاية النبيّ والوصيّ ..
فيكون عليّ علیه السلام هو القائم بأمور المؤمنين ، والسلطان عليهم ، والإمام
ص: 300
لهم.
ولو سلّم تعدّد المعاني واشتراك الوليّ بينها لفظا ، فلا ريب أنّ المناسب لإنزال اللّه الآية في مقام التصدّق أن يكون المراد بالوليّ : هو القائم بالأمور ، لا الناصر.
إذ أيّ عاقل يتصوّر أنّ إسراع اللّه سبحانه بذكر فضيلة التصدّق واهتمامه في بيانها بهذا البيان العجيب لا يفيد إلّا مجرّد بيان أمر ضروري ، وهو نصرة عليّ علیه السلام للمؤمنين؟!
ولو سلّم أنّ المراد : الناصر ، فحصر ( الناصر ) باللّه ورسوله وعليّ ، لا يصحّ إلّا بلحاظ إحدى جهتين :
الأولى : إنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرّف بأمورهم ، وحينئذ يرجع إلى المعنى المطلوب.
الثانية : أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين ، ك لا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتمّ المطلوب أيضا ، إذ من أظهر لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين ، ولا سيّما قد حكم اللّه عزّ وجلّ بأنّها في قرن نصرته ونصرة رسوله.
وبالجملة : قد دلّت الآية الكريمة على انحصار الولاية - بأيّ معنى فسّرت - باللّه ورسوله وأمير المؤمنين ، وأنّ ولايتهم من سنخ واحد.
فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام ممتازا على الناس جميعا ، بما لا يحيط به وصف الواصفين ، فلا يليق إلّا أن يكون إماما لهم ، ونائبا من اللّه تعالى عليهم جميعا.
ويشهد لإرادة الإمامة من هذه الآية : الآية التي قبلها ، الداخلة معها في
ص: 301
خطاب واحد ، وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (1) الآية ..
فإنّها ظاهرة في أنّ من يأتي بهم اللّه تعالى ، من أهل الولاية على الناس والقيام بأمورهم ؛ لأنّ معناها : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ ) مخصوصين معه بالمحبّة بينه وبينهم ، ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) أي : متواضعين لهم تواضع ولاة عليهم ، للتعبير ب « على » التي تفيد العلوّ والارتفاع ، ( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) أي : ظاهري العزّة عليهم والعظمة عندهم ، ومن شأنهم الجهاد فيسبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم.
ومن المعلوم أنّ هذه الأوصاف إنّما تناسب ذا الولاية والحكم والإمامة ، فيكون تعقّبها بقوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ... ) الآية ، دليلا على أنّ المراد بوليّ المؤمنين إمامهم القائم بأمورهم ؛ للارتباط بين الآيتين.
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ إرادة الأولى بالتصرّف لا تناسب ما قبل الآية ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ) (2) الآية ؛ لأنّ المراد بالأولياء : الأنصار لا الأحقّين بالتصرّف ..
فخطأ ؛ لأنّ هذه الآية مفصولة عن آية المقام بآيات عديدة أجنبية
ص: 302
عن آية المقام ، ولذا صدّر آية المقام مع الآية التي قبلها المتّصلة بها بخطاب مستقلّ ، فلا تصلح تلك الآية المفصولة بآيات عديدة للقرينية.
ولنتل عليك الآيات لتتّضح الحال :
قال تعالى بعد الآية التي ذكرها الفضل : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... ) (1) الآية.
ثمّ قال بعدها : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) (2) الآية.
فأنت ترى أنّه انتقل في قوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ... ) إلى تمام الآيتين ، إلى مطلب آخر مستقلّ بخطاب ، فكيف تكون إرادة الأنصار من الأولياء في الآية الأولى البعيدة ، موجبة لعدم إرادة الأولى بالتصرّف من الوليّ في الآية الأخيرة؟!
ولو سلّم أنّ الآيات كلّها مرتبطة بعضها ببعض فلا ينافي المطلوب ؛ لأنّ المراد أيضا بالأولياء في الآية الأولى هو : القائمون بالأمور في الجملة ، ولو بالنسبة إلى النصرة والمحافظة ؛ لما بيّنّاه في معنى ( الوليّ ) ، وأنّه مشترك معنى.
فيتمّ المطلوب من كلّ وجه ، ولا سيّما بضميمة قوله تعالى : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) الآية ؛ لاشتمالها كما عرفت على الأوصاف
ص: 303
المناسبة للقائم بالأمور.
وأمّا قوله : « وغير مناسب لما بعدها وهو قوله : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (1) » ..
فظاهر البطلان ؛ لأنّ المراد بتولّي اللّه ورسوله والّذين آمنوا هو اتّخاذهم أولياء ، وتسليم الولاية لهم بالمعنى الذي أريد من ( الوليّ ) في قوله تعالى قبله : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) الآية .. فكيف لا تحصل المناسبة؟!
هذا ، وقد اعترض القوم على الاستدلال بالآية بأمور أخر :
الأوّل : إنّ الحصر إنّما ينفي ما فيه تردّد ، ولا نزاع ولا خفاء في أنّه لا نزاع في إمامة الثلاثة عند نزول الآية (2).
وفيه - مع النقض بالنسبة إلى اللّه ورسوله ، فإنّه لا نزاع للمخاطبين في ولاية ما يضادّهما - : إنّه لو سلّم اعتبار التردّد والنزاع فإنّما هو في القصر الإضافي لا الحقيقي.
ولو سلّم ، كفى النزاع في علم اللّه تعالى ، فإنّه سبحانه عالم بوقوع النزاع في إمامة الثلاثة في المستقبل.
الثاني : إنّ ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل ، ولا شبهة في أنّ إمامة عليّ علیه السلام إنّما كانت بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وصرف الآية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حقّ اللّه ورسوله (3).
وفيه : إنّ ولاية كلّ منهم بحسبه ، فولاية الوصيّ في طول ولاية النبيّ وبعدها ، فإذا دلّت الآية على ولاية أمير المؤمنين علیه السلام وإمامته ،
ص: 304
فقد دلّت على أنّها بعد رسول اللّه.
على أنّ الحقّ ثبوت الولاية لأمير المؤمنين علیه السلام في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله برتبة ثانية ، فتجب طاعته وتمضي تصرّفاته ، لكنّه ساكت غالبا كما هو شأن الإمام في حياة الإمام الذي قبله ، كالحسن علیه السلام في زمن أبيه ، والحسين في زمن أخيه علیه السلام .
ويدلّ على ذلك حديث المنزلة (1) ، فإنّه دالّ على أنّ منزلة أمير
ص: 305
المؤمنين علیه السلام من النبيّ صلی اللّه علیه و آله كمنزلة هارون من موسى.
ومن المعلوم ثبوت الولاية لهارون مع موسى ؛ لأنّه شريكه ، فكذا أمير المؤمنين له الولاية الفعلية أيضا وإن سكت ؛ إذ لم يستثن إلّا النبوّة.
ويدلّ - أيضا - على ذلك حديث الغدير ، ولذا قال له عمر :
« أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » كما رواه أحمد في مسنده ، عن البراء بن عازب (1).
ومثله عن الثعلبي في تفسيره (2).
ورواه الرازي في تفسير قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... ) (3) الآية ، ولكن بلفظ : « أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (4).
ورواه ابن حجر في أوائل « الصواعق » ، في الشبهة الحادية عشر [ ة ] ، عن الطبراني ، عن عمر وأبي بكر ، بلفط : « أمسيت [ يا بن أبي طالب ] مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (5).
ص: 306
ويدلّ على ذلك أيضا ما رواه الترمذي في فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ، المصرّح بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام أصاب جارية من سبيّ ، فتعاقد عليه أربعة فوشوا به عند النبيّ ، فغضب وقال :
« ما تريدون من عليّ؟! ما تريدون من عليّ؟! [ ما تريدون من عليّ؟! ] إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي » (1).
فإنّه دالّ على مضيّ فعل عليّ في ذلك الوقت ، وأنّ له الاصطفاء من الغنيمة كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لولايته مثله ؛ لأنّه منه - أي أنّه كنفسه - ، ففعله كفعله.
وعليه : فالبعديّة في هذه الرواية بلحاظ الرتبة لا الزمان ، كما يقرّبه خلوّ الحديث في بعض الروايات عن لفظ « بعدي » كما رواه الحاكم في « المستدرك » بفضائل أمير المؤمنين علیه السلام (2).
وقد جاء أيضا في أحاديث كثيرة أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من كنت
ص: 307
وليّه فعليّ وليّه » ، كما في مسند أحمد ، عن بريدة (1)
الأمر الثالث : إنّ ( الَّذِينَ آمَنُوا ) صيغة جمع فلا تصرف إلى الواحد إلّا بدليل ، وقول المفسّرين : « نزلت في عليّ » لا يقتضي الاختصاص ، ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنية على جعل ( وَهُمْ راكِعُونَ ) حالا من ضمير ( يُؤْتُونَ ) وليس بلازم ، بل يحتمل العطف ، بمعنى أنّهم يركعون في صلاتهم ، لا كصلاة اليهود خالية من الركوع ، أو بمعنى أنّهم خاضعون (2).
وفيه : إنّ الحاليّة متعيّنة لوجهين :
[ الوجه ] الأوّل : بعد الاحتمالين المذكورين ؛ لا ستلزام أوّلهما التأكيد المخالف للأصل ؛ لأنّ لفظ ( الصلاة ) مغن عن بيان أنّهم يركعون في صلاتهم ، لتبادر ذات الركوع منها ، كما يتبادر من الركوع ما هو المعروف ، فيبطل الاحتمال الثاني أيضا.
الوجه الثاني : إنّ روايات النزول صريحة بالحاليّة وإرادة الركوع المعروف ..
فمنها : ما في « الدرّ المنثور » للسيوطي ، عن ابن مردويه ، من حديث طويل قال في آخره :
ص: 308
« وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أعطاك أحد شيئا؟
قال : نعم.
قال : من؟
قال : ذلك الرجل القائم.
قال : على أيّ حال أعطاكه؟
قال : وهو راكع.
قال : وذلك عليّ بن أبي طالب.
فكبّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ذلك وهو يقول : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (1) (2).
ومثله في « أسباب النزول » للواحدي (3).
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، عن الخطيب في « المتّفق » ، عن ابن عبّاس ، قال : تصدّق عليّ بخاتمه وهو راكع ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : من أعطاك هذا الخاتم؟
قال : ذاك الراكع.
فأنزل اللّه : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) (4) .. الآية (5).
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، عن الطبراني وابن مردويه ، عن عمّار بن ياسر ، قال : وقف بعليّ سائل وهو راكع في صلاة تطوّع ،
ص: 309
فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول اللّه فأعلمه ذلك ، فنزلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله [ هذه الآية ] : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) الآية (1).
ونحوه في التقييد بقوله : « وهو راكع » ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، عن ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن عساكر ، عن سلمة بن كهيل (2).
ونحوه أيضا فيه ، عن ابن جرير ، عن السدّي وعتبة بن [ أبي ] (3) حكيم (4).
ومنها : ما عن الثعلبي ؛ وفي تفسير الرازي ، عن أبي ذرّ رحمه اللّه ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهاتين وإلّا صمّتا ، ورأيته بهاتين وإلّا عميتا ، يقول : عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله.
أمّا إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد شيئا ، وكان عليّ راكعا ، فأومأ بخنصره إليه وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، فتضرّع النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى اللّه عزّ وجلّ فقال :
اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : اللّهمّ ( اشْرَحْ لِي صَدْرِي *
ص: 310
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ) (2).
اللّهمّ وأنا محمّد عبدك ونبيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا اشدد به ظهري.
قال أبو ذرّ رحمه اللّه : فو اللّه ما استتمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكلمة حتّى هبط جبرئيل بهذه الآية » (3).
ومنها : ما في تفسير الرازي ، عن عبد اللّه بن سلّام ، قال : « لمّا نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول اللّه! أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه [ على محتاج ] وهو راكع ، فنحن نتولّاه » (4).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى ، الصريحة في الحاليّة ، وإرادة الركوع المعروف ، الدالّة على أنّ المراد تعيين أمير المؤمنين علیه السلام بهذه الأوصاف (5).
كما لا ريب بإرادة المفسّرين اختصاص الآية بأمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ تفسيرهم مأخوذ من هذه الروايات ونحوها (6).
ص: 311
ولعمري لو فتحنا باب تلك التأويلات السوفسطائية ، لا سيّما مع مخالفتها للأخبار ، لما كانت آية حجّة على أمر ألبتّة ، بل لم يثبت بكلمة الشهادة إسلام أحد!
وذلك غير خفيّ على القوم ، ولكنّ البغض والعداوة داء لا دواء له!
فيا هل ترى لو نزلت هذه الآية في حقّ أبي بكر أو عمر أكانوا يجرون فيها هذه التأويلات ، أو يجعلونها أدلّ النصوص على الإمامة؟!
وأنت تعلم أنّهم يزعمون أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر أبا بكر بالصلاة في الناس (1) ، ومن مذهبهم جواز إمامة الفاسق في الصلاة (2) ، ومع ذلك قالوا إنّه دليل على إمامته!! فيا بعد ما بين المقامين ، ولا أمر كأمر أبي بكر وأبي حسن وحسين!!
ثمّ إنّ الفائدة في التعبير عن أمير المؤمنين علیه السلام - وهو فرد - بصيغة الجمع ، هي تعظيمه (3) ، والإشارة إلى أنّه بمنزلة جميع المؤمنين المصلّين المزكّين ؛ لأنّه عميدهم ، ومن أقوى الأسباب في إيمانهم ومبرّاتهم ، كما أشار إلى ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله يوم الخندق : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » (4).
ص: 312
وجعل الزمخشري الفائدة فيه ترغيب الناس في مثل فعله ، لينبّه [ على ] أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان (1) (2).
* * *
ص: 313
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الثانية : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... ) (2).
نقل الجمهور أنّها نزلت في بيان فضل عليّ علیه السلام يوم الغدير ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيد عليّ علیه السلام وقال : « أيّها الناس! ألست أولى منكم بأنفسكم ».
قالوا : بلى يا رسول اللّه.
قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه كيفما دار » (3).
المولى يراد به : الأولى بالتصرّف ؛ لتقدّم « ألست أولى » ، ولعدم صلاحيّة غيره هاهنا.
ص: 314
وقال الفضل (1) :
أمّا ما ذكره من إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ ، فهو باطل ؛ فإنّ المفسّرين لم يجمعوا على هذا.
وأمّا ما روي من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكره يوم غدير خمّ حين أخذ بيد عليّ وقال : « ألست أولى ... » ، فقد ثبت هذا في الصحاح (2).
وقد ذكرنا سرّ هذا في ترجمة كتاب « كشف الغمّة في معرفة الأئمّة » (3) ..
ومجمله : إنّ واقعة غدير خمّ كانت في مرجع رسول اللّه عام حجّة الوداع ، وغدير خمّ : محلّ افتراق قبائل العرب ، وكان رسول اللّه يعلم أنّه آخر عمره ، وأنّه لا يجتمع العرب بعد هذا عنده مثل هذا الاجتماع ، فأراد أن يوصي العرب بحفظ محبّة أهل بيته وقبيلته ..
ولا شكّ أنّ عليّا كان بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيّد بني هاشم وأكبر أهل البيت ، فذكر فضائله ، وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرة والمحبّة معه ، ليتّخذه العرب سيّدا ويعرفوا فضله وكماله.
ص: 315
ولينصف المنصف من نفسه ، لو كان يوم غدير خمّ صرّح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخلافة عليّ نصّا جليّا لا يحتمل خلاف المقصود ، ألا ترى العرب مع جلافتهم وكفرهم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وجعلهم الأنبياء فيهم مثل مسيلمة الكذّاب (1) ، وسجاح (2) ، وطليحة (3) ، كانوا يسكتون على خلافة أبي بكر ، وكانوا لا يتكلّمون بنباس (4) في أمر خلافة عليّ ، مع أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نصّ على المنبر بمحضر جميع قبائل العرب؟!
إن أنصف المتأمّل العاقل ، علم أن لا نصّ هناك!
* * *
ص: 316
لم يذكر المصنّف رحمه اللّه المفسّرين في كلامه هنا ، فضلا عن أنّه ادّعى إجماعهم ، وإنّما نقل رواية الجمهور لنزول الآية في فضل عليّ علیه السلام ، وهو حقّ ، فإنّه قد رواه الكثير منهم.
فقد نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » بتفسير الآية ، عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر بأسانيدهم ، عن أبي سعيد ، قال : « نزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خمّ في عليّ » (1)
ونقل أيضا عن ابن مردويه ، بإسناده عن ابن مسعود ، قال : « كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (2) أنّ عليّا مولى المؤمنين ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (3) (4).
وروى الواحدي في « أسباب النزول » ، عن أبي سعيد ، قال : « نزلت يوم غدير خمّ في عليّ » (5).
ونقل المصنّف رحمه اللّه نحو هذا في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن عطيّة (6).
ص: 317
ونقل أيضا نحو ما ذكره هنا عن الثعلبي (1).
وقال الرازي في أحد وجوه نزولها : « ولمّا نزلت أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه.
فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وهو قول ابن عبّاس ، والبراء بن عازب ، ومحمّد بن علي ».
ثمّ قال : « وأعلم أنّ هذه الروايات وإن كثرت ، إلّا أنّ الأولى حمله على أنه آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ؛ وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية [ بكثير ] وما بعدها بكثير ، لمّا كان كلاما مع اليهود والنصارى ، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها » (2).
وفيه : مع أنّه هذا اجتهاد في مقابلة النصّ ، وهو غير مقبول : إنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن ، كما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، ورواه غيره أيضا (4) ، وكان نزولها بحجّة الوداع.
ومن المعلوم أنّه حينئذ لم تكن لليهود والنصارى شوكة يخشى منها النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يبلّغ ما أنزل إليه ، فالمناسب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله خاف منافقي قومه.
ص: 318
ومن الواضح أنّه لا يخشاهم من تبليغ شيء جاء به إلّا نصب عليّ علیه السلام إماما ، عداوة وحسدا له.
وقد ورد عندنا أنّ جبرئيل علیه السلام نزل على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حجّة الوداع بأن ينصب عليّا خليفة له ، فضاق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، وقال لجبرئيل : إنّ قومي لم يقرّوا لي بالنبوّة إلّا بعد أن جاهدت ، فكيف يقرّون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة؟! وعزم على نصبه بالمدينة.
فلمّا وصل إلى غدير خمّ نزل عليه قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ) (1) الآية (2).
ولمّا سار بعد نصبه ووصل العقبة دحرجوا له الدّباب (3) لينفّروا ناقته ويقتلوه فينقضوا فعله ، فعصمه اللّه سبحانه منهم (4).
ثمّ أراد أن يؤكّد عليه النصّ في كتاب لا يضلّون بعده ، فنسبوه إلى الهجر! (5) ؛ وأراد تسييرهم بجيش أسامة ، فعصوه! (6).
ص: 319
وأمّا توسّط هذه الآية بين الآيات المتعلّقة باليهود والنصارى ، فللإشارة إلى أنّ المنافقين بمنزلتهم ، ومن سنخهم في الضلال والكفر ؛ ولذا حكم بارتدادهم في أخبار الحوض (1).
ولو كان المقصود هو : العصمة عن اليهود والنصارى ، لكان الأولى هو الإضمار لا التعبير عنهم بالناس.
ثمّ إنّه لا بدّ من تحقيق حديث الغدير (2) في الجملة سندا ودلالة ،
ص: 320
فهنا مطلبان :
وهي لا ريب فيها لأحد إلّا لبعض النصّاب كما ستعرف.
قال ابن حجر : « إنّه حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، وطرقه كثيرة جدّا ، ومن ثمّ رواه ستّة عشر صحابيا ..
ص: 321
وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ لمّا نوزع أيّام خلافته ، كما مرّ وسيأتي » (1).
وهذا صريح في دلالة الحديث على الخلافة ، ثمّ في « الصواعق » :
« وكثير من أسانيده صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحّته ، ولا لمن ردّه بأنّ عليّا كان باليمن ؛ لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحجّ مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..
وقول بعضهم : إنّ زيادة : ( اللّهمّ وال من والاه ... ) إلى آخره موضوعة ، مردود ، فقد ورد ذلك من طرق ، صحّح الذهبيّ كثيرا منها » (2).
والدعاء الذي أشار إليه هنا قد ذكره قبل هذا الكلام بلفظ : اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأنصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار (3).
بل الحقّ أنّ هذا الحديث من المتواترات حتّى عند القوم ، فقد نقل السيّد السعيد رحمه اللّه عن الجزري الشافعي ، أنّه أثبت في رسالته « أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب » تواتره من طرق كثيرة ، ونسب منكره إلى الجهل والعصبيّة (4).
ص: 322
واعترف الحافظ السيوطي - كما نقل عنه - بتواتره (1) ..
وكيف لا يكون متواترا ، وقد زادت طرقه على مائة عندهم ، ورواه سبعون صحابيا أو أكثر؟!
نقل جماعة عن الطبري ، صاحب التاريخ المشهور ، أنّه أخرج هذا الحديث من خمسة وسبعين طريقا ، وأفرد له كتابا سمّاه « الولاية » (2).
ونقلوا عن ابن عقدة أنّه أخرجه من مائة وخمسة طرق ، وأفرد له كتابا سمّاه « الموالاة » (3).
وأشار إلى الكتابين ابن حجر العسقلاني في « تهذيب التهذيب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، قال : « صحّ حديث الموالاة ، واعتنى بجمع طرقه أبو العبّاس ابن عقدة فأخرجه من حديث سبعين صحابيا أو أكثر ، وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلّف »(4).
ص: 323
وقال ابن حجر في « الإصابة » بترجمة أبي قدامة الأنصاري : « ذكره أبو العبّاس ابن عقدة في كتاب ( الموالاة ) ، الذي جمع فيه طرق حديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فأخرج فيه من طريق محمّد بن كثير ، عن فطر ، عن أبي الطفيل ، قال : كنّا عند عليّ علیه السلام فقال : أنشدكم اللّه من شهد يوم غدير خمّ؟ فقام سبعة عشر رجلا ، منهم أبو قدامة الأنصاري ، فشهدوا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال ذلك » (1) (2)
ولنذكر بعض ما عثرنا عليه من أخبار القوم الذي ينفعنا في الدلالة على المطلوب ؛ لاشتماله على قرائن وخصوصيات لا تناسب غير الاهتمام بالإمامة ، وإن لم يرووا من الحقيقة إلّا أقلّها!
فمن ذلك البعض الذي أردناه ما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن زيد بن أرقم ، وقال : « صحيح على شرط الشيخين » ولم يتعقّبه الذهبي
ص: 324
في تلخيصه ..
« قال زيد : لمّا رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حجّة الوداع ونزل غدير خمّ أمر بدوحات فقممن فقال : كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه ، وعترتي ؛ فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.
ثمّ قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ مولاي ، وأنا مولى كلّ مؤمن ، ثمّ أخذ بيد عليّ ، فقال : من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ».
ومثله في « كنز العمّال » (1) نقلا عن ابن جرير في « تهذيب الآثار » ، بسنده عن أبي الطفيل ، وفي آخره : « فقلت لزيد أنت سمعته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!
فقال : ما كان في الدوحات أحد إلّا قد رآه بعينيه وسمعه بأذنيه ».
ثمّ قال في ( الكنز ) أيضا : ابن جرير ، عن عطيّة العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، مثل ذلك (2).
ومن ذلك البعض أيضا ما رواه الحاكم بعد الحديث المذكور ، عن زيد بن أرقم ، وصحّحه على شرط الشيخين : « قال زيد : نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين مكّة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام ، فكنس الناس ما تحت الشجرات ، ثمّ راح رسول اللّه عشيّة فصلّى ، ثمّ قام خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وذكّر ووعظ فقال ما شاء اللّه أن يقول ..
ص: 325
ثمّ قال : أيّها الناس! إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما ، وهما : كتاب اللّه ، وأهل بيتي عترتي.
ثمّ قال : أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم - ثلاث مرّات -؟!
قالوا : نعم.
فقال رسول اللّه : من كنت مولاه فعليّ مولاه » (1)
ومنه أيضا : ما رواه أحمد في مسنده ، عن البراء بن عازب (2) ، من طريقين رجالهما رجال صحيح مسلم ، وأكثرهم أيضا من رجال صحيح البخاري ..
قال : « كنّا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سفر فنزلنا بغدير خمّ ، فنودي فينا : الصلاة جامعة ، وكسح لرسول اللّه تحت شجرتين فصلّى الظهر ، وأخذ بيد عليّ ، فقال : ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
قالوا : بلى.
قال : ألستم تعلمون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟!
قالوا : بلى.
قال : فأخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه.
قال : فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال له : هنيئا يا بن أبي طالب! أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ».
ص: 326
ومنه أيضا : ما رواه أحمد (1) ، عن زيد بن أرقم ، قال : « نزلنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بواد يقال له : وادي خمّ ، فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير.
قال : فخطبنا وظلّل لرسول اللّه بثوب على شجرة سمرة ، من الشمس ..
فقال : ألستم تعلمون - أو : ألستم تشهدون - أنّي أولى بكلّ مؤمن ومؤمنة من نفسه؟!
قالوا : بلى.
قال : فمن كنت مولاه فإنّ عليّا مولاه ، اللّهمّ عاد من عاداه ، ووال من والاه »
وروى نحوه بعده بقليل (2).
ومنه أيضا : ما رواه أحمد أيضا (3) ، عن حسين بن محمّد وأبي نعيم ، قالا : حدّثنا فطر ، عن أبي الطفيل ، قال : جمع عليّ الناس في الرحبة ، ثمّ قال لهم :
أنشد اللّه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه يقول يوم غدير خمّ ما سمع لمّا قام ؛ فقام ثلاثون من الناس.
وقال أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس :
أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
قالوا : نعم يا رسول اللّه.
قال : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من
ص: 327
عاداه.
قال : فخرجت وكأنّ في نفسي شيئا ، فلقيت زيد بن أرقم ، فقلت له : إنّي سمعت عليّا يقول كذا وكذا.
قال : فما تنكر؟! قد سمعت رسول اللّه يقول ذلك له »
وروى أحمد في مسند عليّ علیه السلام حديث المناشدة من عدّة طرق ،
اثنان منها (1) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال في أحدهما : « فقام اثنا عشر بدريّا ».
وفي الآخر : « فقام اثنا عشر رجلا ... فقام إلّا ثلاثة لم يقوموا ...
فأصابتهم دعوته » (2)
ونقل في « كنز العمّال » نحو الأخير (3) ، عن الخطيب في الأفراد ، عن عبد الرحمن ، قال فيه : « فقام بضعة عشر رجلا فشهدوا ، وكتم قوم ، فما فنوا من الدنيا إلّا عموا وبرصوا »
ونقل أيضا في ( الكنز ) حديث المناشدة (4) ، عن ابن أبي عاصم ،
ص: 328
وابن جرير ، والخطيب ، وسعيد بن منصور ، وأبي يعلى ، وغيرهم.
ونقله أيضا قبل ذلك (1) ، عن الطبراني ، عن عمير [ ة ] (2) بن سعد بروايتين.
وعن البزّار ، وأبن جرير ، والخلعي [ في « الخلعيات » ] ، عن عمرو ذي مرّ (3) ، وسعيد بن وهب ، وزيد بن يثيع (4) ، قالوا :
« سمعنا عليّا يقول : نشدت اللّه رجلا سمع رسول اللّه يقول يوم غدير خمّ ما قال لمّا قام؟
فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
قالوا : بلى يا رسول اللّه.
فأخذ بيد عليّ ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من
ص: 329
والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأنصر من نصره ، وأخذل من خذله » (1)
ثمّ قال في ( الكنز ) : « قال الهيثمي (2) : رجال سنده ثقات ، قال ابن حجر : ولكنّهم شيعة! » (3).
أقول :
هل مع توثيقهم ، وشهرة حديث المناشدة تلك الشهرة ، وثبوت صحته وصحّة أصل حديث الغدير ، محلّ لتهمة الرواة لتشيّعهم ، لو صح كونهم شيعة؟!
ولكنّ ابن حجر وأشباهه أبوا أن يسمعوا فضيلة لإمام المتّقين إلّا أن يقولوا فيها شيئا ؛ ليكونوا محلّا
لدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله : « وأخذل من خذله »
ومنه : ما رواه النسائي في « الخصائص » ، بسنده عن سعد ، قال : « كنّا مع رسول اللّه بطريق مكّة [ وهو متوجّه إليها ] ، فلمّا بلغ غدير خمّ وقّف الناسّ ، ثمّ ردّ من سبقه (4) ، ولحقه من تخلّف ، فلمّا اجتمع الناس إليه قال : [ أيّها الناس! ] من وليّكم؟!
قالوا : اللّه ورسوله - ثلاثا -.
[ ثمّ أخذ بيد عليّ ] ثمّ قال : من كان اللّه ورسوله وليّه فهذا
ص: 330
وليّه » (1).
وأخرجه أيضا بطريق آخر عن سعد ، وقال في أوّله : « ألم تعلموا أنّي أولى بكم من أنفسكم؟! » (2)
ومنه : ما ذكره ابن حجر في « الصواعق » ، في المقام السابق ، قال : « ولفظه عند الطبراني وغيره بسند صحيح ، أنّه صلی اللّه علیه و آله خطب بغدير خمّ تحت شجرات فقال :
أيّها الناس! إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلّا نصف عمر النبيّ الذي يليه من قبله ، وإنّي لأظنّ أنّي يوشك أن أدعى فأجيب ، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون؟!
قالوا : نشهد أنّك [ قد ] بلّغت وجهدت ونصحت ، فجزاك اللّه خيرا.
فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلّا اللّه ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور؟!
قالوا : بلى نشهد بذلك.
قال : اللّهمّ اشهد!
ثمّ قال : أيّها الناس! إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه - يعني عليّا - ،
ص: 331
اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه.
ثمّ قال : أيّها الناس! إنّي فرطكم ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، حوض أعرض ممّا بين بصرى إلى صنعاء ، فيه عدد النجوم قد حان من فضّة ، وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟!
الثقل الأكبر : كتاب اللّه عزّ وجلّ ، سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا.
وعترتي أهل بيتي ، فإنّه [ قد ] نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا (1) حتّى يردا عليّ الحوض » (2).
ومنه : ما رواه صاحب « المواقف » وشارحها ، والقوشجي في « شرح التجريد » : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحضر القوم [ بعد رجوعه من حجّة الوداع بغدير خمّ [ وهو موضع بين مكّة والمدينة ، بالجحفة ] ، وأمر بجمع الرحال ، فصعد عليها وقال لهم :
ألست أولى بكم من أنفسكم؟!
قالوا : بلى.
قال : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (3).
ولنكتف بهذا القدر ، فإنّ فيه الكفاية لمن طلب الحقّ.
ص: 332
فنقول : ذكروا للمولى معاني عديدة ، منها : المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، والابن ، والعمّ ، وابن العمّ ، والمحبّ ، والناصر ، والمالك للأمر الذي هو عبارة أخرى عن الأولى بالتصرّف (1).
ولا شكّ أنّه لا يصحّ في المقام إلّا المعنى الأخير ؛ لأمرين :
الأوّل : عدم صلاحية إرادة تلك المعاني الباقية ، إمّا في أنفسها ، ك : المعتق ، والعمّ ، والابن ، ونحوها ..
أو لكونها من توضيح الواضحات ، الغنيّة عن الاهتمام ببيانها ، ك : المحبّ ، والناصر.
الثاني : وجود القرائن المعيّنة لإرادة المعنى الأخير ، فمنها :
سبق أمر اللّه سبحانه نبيّه بهذا التبليغ وقوله : ( إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (2).
فإنّه لا يصحّ حمله على الأمر بتبليغ أنّ عليّا محبّ ، أو ناصر لمن أحبّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو نصره.
فإنّ الذي يليق بهذا التهديد هو أن يكون المبلّغ به أمرا دينيا يلزم الأمّة الأخذ به ، كالإمامة ، لا مثل الحبّ والنصرة من عليّ علیه السلام لهم ، التي لا دخل لها بتكليفهم.
ص: 333
فهل ترى أنّ اللّه ورسوله يريدان تسجيل الأمر على عليّ علیه السلام والإشهاد عليه ، لئلّا يفعل ما ينافي الحبّ والنصرة ، أو يريدان توضيح الواضحات والإخبار بالبديهيّات؟!
على أنّ نصرة عليّ علیه السلام لكلّ مؤمن ومؤمنة موقوفة على إمامته وزعامته العامّة ، إذ لا تتمّ منه وهو رعيّة ومحكوم لغيره في جلّ أيّامه.
ولذا لم يقدر على نصر أخصّ الناس به ، وهو : سيّدة النساء ، مع علمه بأنّها محقّة في دعواها (1).
فلا بدّ إمّا أن يكون كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقوله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » كذبا ، وحاشاه.
أو بيانا لإمامة عليّ ، وهو المطلوب.
ومنها : تقرير النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهم بأنّه أولى بهم من أنفسهم ، فإنّه دالّ على أنّه مقدّمة لإثبات أمر عليهم يحتاج إلى مثل هذا التقرير ..
فإذا قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » علم أنّ الغرض إثبات تلك المنزلة لعليّ علیه السلام عليهم ، وإيجاب إمامته عليهم ، لا الإخبار بأنّه محبّ لمن أحبّه ، أو ناصر لمن نصره.
ومنها : إنّه صلی اللّه علیه و آله بيّن قرب موته ، كما في رواية الحاكم الأولى ورواية الصواعق (2) وغيرهما (3) ، وهو مقتض للعهد بالخلافة ومناسب له.
فلا بدّ من حمل قوله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » على العهد
ص: 334
لأمير المؤمنين بالخلافة ، لا على بيان الحبّ والنصرة ، ولا سيّما مع قوله في رواية الحاكم : « إنّي [ قد ] تركت ... » إلى آخره ، الدالّ على الحاجة إلى عترته وكفايتهم مع الكتاب في ما تحتاج إليه الأمّة.
وقوله في رواية « الصواعق » : « إنّي سائلكم عنهما » وقوله : « لن يفترقا » بعد أمره بالتمسّك بالكتاب ، فإنّ هذا يقتضي وجوب التمسّك بهم واتّباعهم ، فيسأل عنهم ، وذلك لا يناسب إلّا الإمامة.
ومنها : إنّه صلی اللّه علیه و آله دعا لعليّ بما يناسب الدعاء لولاة العهد بعد نصبهم للزعامة العامة ، فقال :
« اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار » أو نحو ذلك.
فكيف يصحّ حمل المولى على المحبّ أو الناصر؟!
ومنها : قرائن الحال الدالّة على أنّ ما أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيانه هو أهمّ الأمور وأعظمها ، كأمره بالصلاة جامعة في السفر بالمنزل الوعر بحرّ الحجاز وقت الظهيرة ، مع إقامة منبر من الأحداج (1) له ، وقيامه خطيبا بين جماهير المسلمين ، الّذين يبلغ عددهم مائة ألف أو يزيدون.
فلا بدّ مع هذا كلّه أن يكون مراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيان إمامة أمير المؤمنين علیه السلام التي يلزم إيضاح حالها ، والاهتمام بشأنها ، وإعلام كلّ مسلم بها ، لا مجرّد بيان أنّ عليّا محبّ لمن أحببته ، وناصر لمن نصرته ، وهو لا أمر ولا إمرة له!
ص: 335
وعلى هذا : فبالنظر إلى خصوص كلّ واحدة من تلك القرائن الحاليّة والمقاليّة ، فضلا عن مجموعها ، لا ينبغي أن يشكّ ذو إدراك في إرادة النصّ على عليّ علیه السلام بالإمامة ، وإلّا فكيف تستفاد المعاني من الألفاظ؟!
وكيف يدلّ الكتاب العزيز أو غيره على معنى من المعاني؟!
وهل يمكن أن لا تراد الإمامة وقد طلب أمير المؤمنين علیه السلام من الصحابة بمجمع الناس بيان الحديث ، ودعا على من كتمه؟!
إذ لو أريد به مجرّد الحبّ والنصرة لما كان محلّا لهذا الاهتمام ، ولا كان مقتض لأن يبقى في نفس أبي الطفيل منه شيء ، وهو أمر ظاهر ، ليس به عظيم فضل ، حتّى قال له زيد بن أرقم : « ما تنكر؟! قد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول ذلك له » كما سبق (1) ..
ولا كان مستوجبا لتهنئة أبي بكر وعمر لأمير المؤمنين علیه السلام بقولهما :
« أصبحت [ وامسيت ] مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (2) ، فإنّ التهنئة لأمير المؤمنين ، الذي لم يزل محلّا لذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالفضائل العظيمة ، والخصائص الجليلة ، والمحامد الجسيمة ، إنّما تصحّ على أمر حادث ، تقصر عنه سائر الفضائل ، وتتقاصر له نفوس الأفاضل ، وتتشوّق إليه القلوب ، وتتشوّف له العيون.
فهل يمكن أن يكون هو غير الإمامة ، من النصرة ونحوها ، ممّا هو أيسر فضائله وأظهرها وأقدمها؟!
ولكن كما قال الغزّالي في « سرّ العالمين » : « ثمّ بعد ذلك غلب الهوى
ص: 336
وحبّ الرئاسة ، [ وحمل عمود الخلافة ] وعقود النبوّة (1) ، وخفقان [ الهوى في قعقعة ] الرايات ، و [ اشتباك ] ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار ، والأمر والنهي ، فحملهم على الخلاف ، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا » (2) .. فبئس ما يشترون!
وقد ذكر جماعة من القوم أنّ « سرّ العالمين » للغزّالي (3) ، كالذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة الحسن بن الصباح الإسماعيلي (4).
هذا ، ويشهد لإرادة الإمامة من الحديث : فهم الناس لها منه ، كما سبق في الرواية التي نقلناها في أوّل المطلب الأوّل ، عن ابن حجر في « الصواعق » ، عن أحمد ، حيث قال :
« وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ علیه السلام لمّا نوزع في أيّام خلافته » (5).
فإنّ قوله : « لمّا نوزع » دالّ على أنّ استشهاد أمير المؤمنين إنّما كان للاستدلال على خلافته وصحّتها ، وأنّها من النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
فهو علیه السلام وشهوده وراوي ذلك قد فهموا من الحديث الإمامة.
وعن تفسير الثعلبي ، أنّه لمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بغدير خمّ نادى
ص: 337
الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ؛ فشاع ذلك وطار بالبلاد ، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى نحو النبيّ صلی اللّه علیه و آله على ناقته إلى الأبطح ، فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها ، ثمّ أتى النبيّ في ملأ من أصحابه فقال : يا محمّد! أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه ففعلناه ، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه ، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه ، وأمرتنا أن نحجّ البيت فقبلناه ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك وفضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ؛ أهذا شيء منك أم من اللّه؟!
فقال النبيّ : واللّه الذي لا إله إلّا هو إنّه من اللّه.
فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم!
فما وصل إليها حتّى رماه اللّه بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ، وأنزل اللّه تعالى : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) (1) (2)
وروى نحوه في « مجمع البيان » عن إمامنا الصادق علیه السلام ، وقال فيه : « لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام » (3)؛ وهو بمعنى قوله في حديث الثعلبي : « وفضّلته علينا » ، فيكون دالّا على فهم الفهري من قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « فعليّ مولاه » نصب عليّ للزعامة العامّة.
ص: 338
ويشهد أيضا لإرادتها منه ، إكثار الشعراء وأهتمامهم في ذكر هذا الحديث وفهمهم منه الإمامة.
قال سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » : أكثرت الشعراء في يوم غدير خمّ ، فقال حسّان بن ثابت [ من الطويل ] :
يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ فأسمع بالرسول مناديا
وقال : فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا - ولم يبدوا هناك التعاميا _ :
إلهك مولانا وأنت وليّنا *** وما لك منّا في الولاية عاصيا
فقال له : قم يا عليّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا : اللّهمّ وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّا معاديا (1)
قال : وروي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا سمعه ينشد هذه الأبيات قال له :
يا حسّان لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا - أو : نافحت عنّا - بلسانك (2).
وقال قيس بن سعد بن عبادة (3) - وأنشدها بين يدي عليّ بصفّين _
ص: 339
[ من الخفيف ] :
قلت لمّا بغى العدوّ علينا : *** حسبنا ربّنا ونعم الوكيل
وعليّ إمامنا وإمام *** لسوانا به أتى التنزيل
يوم قال النبيّ : من كنت مولا *** ه فهذا مولاه ، خطب جليل
إنّ ما قاله النبيّ على الأ *** مّة نصّ (1) ما فيه قال وقيل (2)
ثمّ ذكر السبط أبياتا للكميت (3) ، منها [ من الوافر ] :
ص: 340
ويوم الدوح دوح غدير خمّ *** أبان له الولاية لو أطيعا
ولكنّ الرجال تبايعوها (1) *** فلم أر مثله خطرا (2) مبيعا (3)
قال السبط : ولهذه الأبيات قصّة عجيبة حدّثنا بها شيخنا عمرو بن صافي الموصلي ، قال : أنشد بعضهم هذه الأبيات فبات مفكّرا ، فرأى عليّا علیه السلام في المنام فقال له : أعد عليّ أبيات الكميت.
فأنشده إيّاها حتّى بلغ قوله : « خطرا مبيعا » فأنشده عليّ علیه السلام بيتا آخر من قوله زيادة فيها :
فلم أر مثل ذلك اليوم يوما *** ولم أر مثله حقّا أضيعا (4)
ثمّ ذكر السبط أبياتا من نحو هذا (5) للسيّد الحميري (6) وبديع الزمان
ص: 341
الهمداني (1).
ولا يمكن استيفاء ما قاله الشعراء ، فإنّه ممّا يمتنع حصره.
هذا ، وقد أورد القوم على الحديث بأمور حقيقة بالإعراض عنها لو لا إرادتنا استيفاء ما عندهم ..
ص: 343
أقول :
إن أريد بمنع صحّته ، أنّه لم يرو بسند صحيح ، كذّبهم تصحيح الحاكم (1) وغيره له ، حتّى إنّ الذهبي على نصبه ، وابن حجر على تعصّبه ، اعترفا بصحّة كثير من طرقه كما سبق (2).
وإن أريد عدم إفادته اليقين بالصدور ، لعدم كونه متواترا عندهم ، فمتّجه في الجملة من حيث حصول الشبهة في الإمامة عندهم.
ولكن الحقّ أنّه لا محلّ لمنع تواتره ، لاستفاضة طرقه بينهم - فضلا عنّا - استفاضة توجب أعلى مراتب التواتر عند من أنصف.
وقد اعترف السيوطي - كما عرفت - بتواتره ، وكذلك ابن الجزري ، حتّى نسب منكر تواتره إلى الجهل والتعصّب (3).
وأمّا عدم ذكر البخاري ومسلم له فغير عجيب ؛ إذ كم أهملا أخبارا صحيحة عندهم واستدركها أصحابهما.
ولست ألومهما على إهمالهما لهذا الحديث الصحيح المتواتر ، لا لمجرّد عدم موافقته لمذهبهما ، بل لرعاية ملوك زمانهما وهوى قومهما ، والناس على دين ملوكهم!
وبهذا تعلم عذر السجستاني وأبي حاتم!
ص: 344
قال سنّيّ لشيعيّ : ما لكم تنوحون على الحسين في كلّ وقت وقد مضت على قتله السنون؟!
فقال : نخاف أن تنكروا قتله ومظلوميّته كما أنكرتم بيعة الغدير!
الثاني : إنّ عليّا لم يكن يوم الغدير مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه كان باليمن.
ويرد عليه : إنّ رجوعه من اليمن وحضوره الحجّ مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ممّا تضافرت به الأخبار ، كما ستعرف بعضها في تحريم عمر للمتعتين ، وقد عرفت إقرار ابن حجر بثبوت ذلك (1).
الثالث : إنّ أكثر رواته لم يرووا مقدّمة الحديث ، وهي : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟! ».
وفيه : إنّه لو سلّم عدم ذكر الأكثر لها ، كفانا وجودها في الصحاح الكثيرة والأخبار المتضافرة ، وقد نصّ ابن حجر والذهبي والحاكم وغيرهم على صحّتها كما سبق (2).
الرابع : إنّ « مفعل » بمعنى « أفعل » لم يذكره أحد من أئمّة العربية ، مع أنّ الاستعمال على خلافه ؛ لجواز أن يقال : هو أولى من كذا ، دون : مولى من كذا ؛ ولو سلّم ، فأين الدليل على أنّ المراد : الأولى بالتصرّف والتدبير؟!
بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال تعالى : ( إِنَّ
ص: 345
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ... ) (1) (2) ، وأراد الأولويّة في الاتّباع والاختصاص به والقرب منه ، لا في التصرّف به.
ولصحّة الاستفسار ؛ إذ يجوز أن يقال : في أي شيء هو أولى؟ أفي نصرته أو محبّته أو التصرّف فيه؟
ولصحّة التقسيم ؛ بأن يقال : كونه أولى به ، إمّا في نصرته ، وإمّا في ضبط أمواله ، وإمّا في تدبيره والتصرّف فيه.
وحينئذ لا يدلّ الحديث على إمامته.
هذا ما ذكره في « المواقف » وشرحها (3).
وفيه أوّلا : إنّ أبا عبيدة فسّر « المولى » في قوله تعالى : ( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) (4) بالأولى بكم ، كما حكاه عنه في « شرح التجريد » للقوشجي (5).
وثانيا : إنّ من يفسّر « المولى » في الحديث ب « الأولى بالتصرّف » لم
ص: 346
يرد أنّه اسم تفضيل مثله ، حتّى يرد عليه أنّه يقال : هو أولى من كذا ، ولا يقال : مولى من كذا.
بل أراد التفسير بحاصل المعنى ، بقرينة مقدّمة الحديث ، وهي قوله : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! ».
فإنّ هذه المقدّمة تدلّ على أنّ المراد بمولاهم : الأولى بهم من أنفسهم ، وهو عبارة أخرى عن الأولى بالتصرّف.
وإن شئت أن تفسّر المولى بمالك الأمر ، كما هو معناه الحقيقي ، كان أحسن ، فيكون معنى الحديث : من كنت مالك أمره لكوني أولى به من نفسه ، فعليّ مثلي مالك أمره ، كقوله : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها » (1) أي مالك أمرها.
وكيف كان ، فالنتيجة واحدة ، وهي أنّ عليّا علیه السلام مالك أمر الأمّة ، وإمامها ، وأولى بها من أنفسها في التصرّف ، كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وأمّا ما زعماه من جواز أن يراد الأولى في أمر من الأمور غير التصرّف ، وما زعماه من صحّة الاستفسار والتقسيم ، فخطأ ظاهر ؛ لابتناء ذلك على إجمال الحديث.
وقد عرفت أنّ مقدّمته وغيرها من القرائن تدلّ على أنّ المراد
ص: 347
بالمولى : الأولى بهم من أنفسهم في التصرّف ، ومالك أمرهم ، وإمامهم.
كيف؟! ولو كان الحديث مجملا مع تلك القرائن ، حتّى يدخله الاحتمال المذكور ، ويجوز فيه الاستفسار والتقسيم ، لكانت كلمة الشهادة أولى بالإجمال ؛ لإمكان الاستفسار فيها بأنّ المراد هل هو : لا إله إلّا اللّه في السماء أو في الأرض ، أو : لا إله إلّا اللّه في آسيا أو أوربّا أو غيرهما .. إلى غير ذلك ؛ ولإمكان التقسيم أيضا بنحو ذلك ، وهذا لا يقوله ذو معرفة.
الخامس : إنّه لو سلّم دلالة الحديث على إمامة عليّ علیه السلام فلا نسلّم دلالته على كونها بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا فصل ، حتّى تنتفي إمامة الثلاثة.
وفيه : إنّ هذا مكابرة ظاهرة ، إذ كيف يترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله - في حال نصب إمام للمسلمين لحضور أجله - ذكر ثلاثة وينصّ على من بعدهم ، الذي يكون إماما بعد خمس وعشرين سنة من وفاته؟!
ولو جاز ذلك ، لكان جميع ولاة العهد محلّ كلام ، إذ لا يقول السلطان : هذا وليّ عهدي بلا فصل ؛ بل على احتمالات القوم لو قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليّ مولاه بعدي ؛ لقالوا : لا منافاة بين البعديّة والفصل بغيره ، كما صنع القوشجي في
قوله صلی اللّه علیه و آله : أنت وصيّي وخليفتي من بعدي (1).
بل لو قال : فعليّ مولاه بعدي بلا فصل ؛ لقالوا : يحتمل أن يكون المعنى بلا فصل من غير الثلاثة.
ولا عجب ممّن نشأ على التعصّب وحبّ العاجلة ، وقال : إنّا وجدنا آباءنا على ملّة!
ص: 348
بقي شيء : وهو ما ذكره الفضل في تأويل الحديث ..
فنقول : يظهر منه أنّ المراد ب « المولى » في الحديث : المحبوب والمنصور ؛ لأنّه قال : « أراد أن يوصي العرب بحفظ محبّة أهل بيته وقبيلته » إلى أن قال : « وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرّة والمحبّة معه ؛ ليتّخذه العرب سيّدا ... » إلى آخره.
فإنّ هذا يقتضي أن يكون معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، من كنت محبوبه أو منصورا له ، فعليّ كذلك.
وفيه - مع أنّ « المولى » لم يستعمل بمعنى المحبوب والمنصور _ :
إنّك عرفت أنّ القرائن الحالية والمقالية تقتضي إرادة مالك الأمر كما هو واضح ، حتّى ظهر الحقّ على لسان قلمه من حيث يريد إخفاءه ، فإنّ مساواة عليّ بنفس النبيّ في وجوب محبّته ونصرته على الإطلاق ، لا تتمّ إلّا بثبوت منزلته له من الرئاسة العامّة والعصمة.
ولذا كانت النتيجة كما ذكرها الفضل أن يتّخذه العرب سيّدا.
وأمّا ما عرّض به من الإنصاف ، فيا حبّذا لو سلك سبيله ، فإنّه إذا أقرّ بجلافة أولئك العرب وكفرهم بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأتّخاذهم الأنبياء فيهم كمسيلمة وسجاح ، فقد كان الأنسب بهم مخالفة النصّ الصريح وأتّخاذ خليفة غير الخليفة الحقّ ، ولا سيّما أنّ أبا بكر كان مستعينا بظاهر الصحبة وتمويه الأقران.
وما أدري من أين فهم الفضل إرادة النبيّ الوصيّة بحفظ محبّة مطلق قبيلته ، لو لا عدم الإنصاف وكراهة تخصيص أمير المؤمنين علیه السلام بالفضل والنصّ؟!
ص: 349
ولو رأيت ما ذكره ابن حجر في « الصواعق » بالنسبة إلى الجواب عن الحديث ، من الخرافات والآراء السخيفة وأخبارهم الكاذبة ، لعرفت إلى أين يبلغ عنادهم للحقّ وتعصّبهم للهوى! (1).
* * *
ص: 350
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الثالثة : قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).
أجمع المفسّرون (3) ، وروى الجمهور ، كأحمد بن حنبل وغيره ، أنّها نزلت في [ رسول اللّه و ] عليّ وفاطمة والحسن والحسين (4).
ص: 351
وروى أبو عبد اللّه محمّد بن عمران المرزباني ، عن أبي الحمراء ، قال : خدمت النبيّ صلی اللّه علیه و آله تسعة أشهر أو عشرة ، وكان عند كلّ فجر لا يخرج من بيته حتّى يأخذ بعضادتي باب عليّ فيقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
فيقول علي وفاطمة والحسن والحسين : عليك السلام يا نبيّ اللّه ورحمه اللّه وبركاته.
ثمّ يقول : الصلاة رحمكم اللّه ، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا ؛ ثمّ ينصرف إلى مصلّاه (1).
ص: 352
والكذب من الرجس ، ولا خلاف في أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ادّعى الخلافة لنفسه ، فيكون صادقا.
* * *
ص: 353
وقال الفضل (1) :
أمّا إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فخلاف الواقع ، ولم يجمعوا على ذلك ، بل أكثر المفسّرين على أنّ الآية نزلت في شأن الأزواج ، وهو المناسب لنظم القرآن ..
قوله تعالى : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).
هذا نصّ القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه مذكور في قرن حكاياتهنّ والمخاطبة معهنّ.
ولكن لمّا عدل عن صيغة خطاب الإناث إلى خطاب الذكور ، فلا يبعد أن تكون نازلة في شأن كلّ أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الرجال والنساء ، فشملت عليّا وفاطمة والحسن والحسين وأزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وعلى هذا فليس الرجس هاهنا محمولا على الطهارة من كلّ الذنوب ، بل المراد من الرجس : الشرك وكبائر الفواحش كالزنا ، كما يدلّ عليه سابق الآية ، وهو قوله تعالى : ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (3).
ص: 354
ولو سلّمنا هذا فلا نسلّم أنّ عليّا ادّعى الإمامة لنفسه ، ولو كان يدّعيها لما كان يدّعيها بالعجز والخفية ؛ لوجود القوّة والشجاعة والأعوان ، وكثرة القبائل والعشائر وشرف القوم وغيرها من الفضائل.
ثمّ لو كان الرجس محمولا على الذنب لما كانت عائشة مؤاخذة بذنبها في وقعة الجمل ؛ لأنّ الآية نزلت فيها وفي أزواج النبيّ غيرها على قول أكثر المفسّرين ، فلا يتمّ له الاستدلال بهذه الآية.
* * *
ص: 355
لم يبعد أن يكون مراد المصنّف بإجماع المفسّرين على ذلك هو اجتماع الشيعة والسنّة على القول به ، أي أنّه من مقول الطرفين معا وإن لم يجمع عليه السنّة.
أو يكون مراده إجماع من يعتدّ بقوله في مثل ذلك ، فإنّ المخالف هو عكرمة ومقاتل (1) وأشباههما ، ممّن لا يجوز حتّى للقوم الاعتداد بقوله في مقام النزول وشبهه ؛ لأنّ قول المفسّر إنّما يؤخذ به في ذلك إذا كان رواية عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو من يعتبر قوله من الصحابة ؛ لأنّه من باب الإخبار.
وعكرمة كذّاب خارجيّ كما سبق بعض ترجمته في مقدّمة الكتاب (2) ، فلا يعتدّ بخبره في ذلك ، فضلا عن رأيه ، ولا سيّما أنّه متعلّق بفضل آل محمّد.
وكذا مقاتل ، كان كذّابا ، حتّى قال النسائي : الكذّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أربعة ؛ وعدّه منهم (3).
ص: 356
وكان يأخذ علم القرآن من اليهود والنصارى ، وكان دجّالا جسورا أسند ظهره إلى القبلة وقال : سلوني عمّا دون العرش ؛ فسئل عن النملة أين أمعاؤها ، في مقدّمها أو مؤخّرها؟ فلم يحر جوابا!
وسئل عن آدم حين حجّ من حلق رأسه؟ فبقي ضالّا!
راجع « ميزان الاعتدال » و « تهذيب التهذيب » و « وفيات الأعيان » ، تجد ما ذكرناه من بعض أحواله الخبيثة (1).
وقس على هذين الكذّابين ، اللذين هما من رؤوس مفسّريهم ، غيرهما!
وأمّا قول الفضل : « أكثر المفسّرين على أنّ الآية نزلت في شأن الأزواج » ..
فغير صحيح ؛ لأنّ ابن حجر أكثر منه اطّلاعا ، قال في « الصواعق » عند ذكر الآية في فضائل أهل البيت علیهم السلام : « أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين » (2).
بل الحقّ أنّ القائلين بنزولها في شأن الأزواج خاصّة أقلّ القليل بالنسبة إلى غيرهم ؛ لأنّ جميع مفسّري الشيعة وأكثر مفسّري السنّة قالوا - كما عرفت - : بنزولها في عليّ وفاطمة والحسنين ، لكن مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله عندنا (3).
ص: 357
وقال بعض مفسّريهم بنزولها في بني هاشم (1).
وقال جملة منهم بنزولها في آل النبيّ الأربعة المذكورين والأزواج (2).
فلم يبق من المفسّرين من يقول بنزولها في الأزواج خاصّة إلّا القليل (3).
وكيف كان ، فلا عبرة بهم حتّى لو كانوا الأكثر ؛ لامتناع إرادة الأزواج ولو منضمّات ؛ لأنّهنّ غير مطهّرات من الرجس ، حتّى لو أريد به الشرك وكبائر الذنوب ؛ لتقدّم الشرك منهنّ ، وحدوث الكبائر من بعضهنّ ، كعائشة ، حيث خرجت على إمام زمانها الذي قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حربك حربي » (4)، وقتلت الآلاف العديدة ، وخالفت
ص: 358
أمر اللّه سبحانه في نصّ كتابه بقرارها في بيتها (1) ..
كما تظاهرت مع صاحبتها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكذبتا عليه ، فأنزل اللّه تعالى به قرآنا مبينا ، لعظيم مكرهما وفعلهما (2) ، وضرب لأجلهما المثل بامرأتي نوح ولوط (3).
مع أنّ إرادة الأزواج مخالفة للأخبار المتواترة المشتملة على الصحيح
ص: 359
الكثير عندهم ، الدالّة على نزول الآية في خصوص أمير المؤمنين وفاطمة وأبنيهما علیهم السلام ، وبعضها نصّ بخروج الأزواج ..
فمنها : ما رواه مسلم ، في باب فضائل أهل البيت علیهم السلام ، عن عائشة ، قالت : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غداة ، وعليه مرط مرجّل (1) من شعر أسود ، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ، ثمّ قال : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) (3).
ونقله السيوطي في « الدّر المنثور » أيضا عن أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم (4).
ورواه الحاكم (5) بسند آخر عن عائشة ، وصحّحه على شرط
ص: 360
الشيخين.
ومنها : ما رواه الحاكم أيضا قبل الحديث المذكور ، عن أمّ سلمة ، قالت : « في بيتي نزلت : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، فأرسل رسول اللّه إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ».
ثمّ قال الحاكم : هذا صحيح على شرط البخاري (1).
ورواه أيضا في تفسير سورة الأحزاب (2) ، بسند آخر عن أمّ سلمة ، وصحّحه على شرط البخاري ، وزاد فيه :
« قالت أمّ سلمة : يا رسول اللّه! ما أنا من أهل البيت؟
قال : إنّك على خير ، وهؤلاء أهل بيتي ، اللّهمّ أهلي أحقّ »
ومنها : ما رواه الحاكم أيضا ، عن واثلة ، قال : أتيت عليّا فلم أجده ، فقالت لي فاطمة : انطلق إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدعوه ، فجاء مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فدخلا ودخلت معهما ..
فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحسن والحسين ، فأقعد كلّ واحد منهما على فخذيه ، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ، ثمّ لفّ عليهم ثوبا ، وقال : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )
ثمّ قال : هؤلاء أهل بيتي ، اللّهمّ أهل بيتي أحقّ
ثمّ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (3).
وروى مثله في تفسير سورة الأحزاب ، بسند آخر عن واثلة ،
ص: 361
وصحّحه على شرط مسلم (1).
وروى نحوه أحمد في مسنده ، عن واثلة أيضا (2).
ونقل السيوطي في « الدرّ المنثور » نحوه عن ابن أبي شيبة ، وأبن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي ؛ كلّهم عن واثلة (3).
ومنها : ما رواه الحاكم بعد الحديث الأوّل ، عن أبي سعيد (4) ، قال : « نزل على رسول اللّه الوحي فأدخل عليّا وفاطمة وأبنيهما تحت ثوبه ، ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهلي وأهل بيتي » (5)
وناقش الذهبي في سنده ، حيث إنّ فيه بكير بن مسمار وعليّ بن ثابت ، فقال : « عليّ وبكير تكلّم فيهما » (6).
وفيه : إنّ بكيرا من رجال صحيح مسلم (7) ، وعليّا لم يضعّفه سوى الأزدي (8).
ص: 362
ونقل السيوطي في « الدرّ المنثور » نحو هذا الحديث ، عن ابن مردويه ، وأبن جرير ، وسعد (1).
ومنها : ما رواه الحاكم أيضا وصحّحه ، عن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، قال : « لمّا نظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الرحمة هابطة ، قال : ادعو لي! ادعو لي!
فقالت صفيّة : من يا رسول اللّه؟
قال : أهل بيتي ، عليّا وفاطمة والحسن والحسين.
فجيء بهم ، فألقى عليهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله كساءه ، ثمّ رفع يديه ، ثمّ قال :
اللّهمّ هؤلاء آلي ، فصلّ على محمّد وآل محمّد.
وأنزل اللّه : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) » (2)
ومنها : ما رواه الترمذي في مناقب أهل البيت ، عن عمر بن أبي سلمة : « نزلت هذه الآية على النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) في بيت أمّ سلمة ، فدعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء ، وعليّ خلف ظهره ، فجلّله بكساء ، ثمّ قال :
اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
قالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا نبيّ اللّه؟
ص: 363
قال : أنت على مكانك ، وأنت إلى خير » (1)
ثمّ قال : وفي الباب عن أمّ سلمة ، ومعقل بن يسار ، وأبي الحمراء ، وأنس بن مالك (2).
ورواه الترمذي أيضا في تفسير سورة الأحزاب ، وروى معه عن أنس وحسّنه ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت! ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3).
ومثله في مسند أحمد ، عن أنس (4).
وكذا في مستدرك الحاكم (5) ، وصحّحه على شرط مسلم ، ولم يتعقّبه الذهبي.
ونقله في « الدرّ المنثور » عن ابن جرير ، وأبن أبي شيبة ، وأبن المنذر ، والطبراني ، وأبن مردويه ، كلّهم عن أنس (6).
ونقل نحوه أيضا عن الطبراني ، عن أبي الحمراء (7).
ونقل أيضا عن ابن جرير وأبن مردويه ، عن أبي الحمراء ، قال : « حفظت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرّة يخرج
ص: 364
إلى صلاة الغداة إلّا أتى إلى باب عليّ ، فوضع يده على جنبتي الباب ، ثمّ قال : الصلاة الصلاة! ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ... ) الآية (1).
ونقل أيضا عن ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : « شهدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تسعة أشهر ، يأتي كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب عند وقت كلّ صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت ، ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ) .. الآية ، الصلاة رحمكم اللّه ؛ كلّ يوم خمس مرّات » (2).
ومنها : ما رواه الترمذي ، في باب ما جاء في فضل فاطمة علیهاالسلام ، عن أمّ سلمة : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جلّل على الحسن والحسين وعليّ وفاطمة كساء ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامّتي (3) ، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
فقالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول اللّه؟
قال : إنّك إلى خير.
ثمّ قال الترمذي : هذا حديث حسن ( صحيح ) (4) ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.
وفي الباب : عن أنس ، وعمر بن أبي سلمة ، وأبي الحمراء » (5).
ص: 365
ومنها : ما رواه أحمد في مسنده (1) ، عن أمّ سلمة بثلاثة طرق : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة (2) فيها حريرة (3) ، فدخلت بها عليه ، فقال لها : ادعي زوجك وأبنيك.
قالت : فجاء عليّ والحسن والحسين ، فدخلوا عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة ، وهو على منامة له على دكّان (4) تحته كساء له خيبريّ.
قالت : وأنا أصلّي في الحجرة ، فأنزل اللّه هذه الآية : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )
قالت : فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثمّ قال :
اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وخاصّتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا .. [ اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وخاصّتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ].
ص: 366
قالت : فأدخلت رأسي البيت (1) ، فقلت : وأنا معكم يا رسول اللّه؟
قال : إنّك إلى خير ، إنّك إلى خير ».
ونحوه في « أسباب النزول » للواحدي (2).
وفي « الدرّ المنثور » عن ابن جرير ، وأبن المنذر ، وأبن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن أمّ سلمة أيضا (3)
ومنها : ما رواه أحمد أيضا (4) عن أمّ سلمة : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جلّل على عليّ وحسن وحسين وفاطمة كساء ، ثمّ قال :
اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وخاصّتي ، اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
فقالت أمّ سلمة : أنا منهم؟
قال : إنّك إلى خير ».
ومنها : ما نقله السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، عن أمّ سلمة ، قالت : نزلت هذه الآية في بيتي : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وفي البيت سبعة : جبرئيل ، وميكائيل ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وأنا على باب البيت.
قلت : يا رسول اللّه! ألست من أهل البيت؟
قال : إنّك إلى خير ، إنّك من أزواج النبيّ » (5).
ص: 367
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ؛ والخطيب ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : « كان يوم أمّ سلمة أمّ المؤمنين ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذه الآية : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .
قال : فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحسن وحسين وفاطمة وعليّ ، فضمّهم إليه ، ونشر عليهم الثوب ، والحجاب على أمّ سلمة مضروب ، ثمّ قال :
اللّهمّ أهل بيتي ، اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
قالت : فأنا معهم يا نبي اللّه؟
قال : إنّك على مكانك ، وإنّك على خير » (1).
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » عن الترمذي ، قال : وصحّحه ، وعن ابن جرير ، وأبن المنذر ، وأبن مردويه ، والبيهقي ، من طرق عن أمّ سلمة ، قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ... ) الآية ، وفي البيت فاطمة وعليّ والحسن والحسين ، فجلّلهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكساء كان عليه ، ثمّ قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا » (2).
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » ، عن ابن جرير ، وأبن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي عليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين :
ص: 368
( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... ) الآية (1).
ومثله في « الصواعق » ، عن أحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد (2).
وفي « أسباب النزول » للواحدي ، عن أبي سعيد (3).
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » قال : أخرج الحكيم الترمذي ، والطبراني ، وأبن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه قسم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسما ..
إلى أن قال : ثمّ جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا ، فذلك قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب (4).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى ، الدالّة على نزول الآية الكريمة في الخمسة الأطهار أو في الأربعة (5) ، فلا تشمل الأزواج قطعا.
بل يستفاد من تلك الأخبار أنّ المراد بأهل البيت عند الإطلاق هو خصوص الخمسة أو الأربعة ، فضلا عن نزول الآية بهم ، فلا تدخل الأزواج فيهم بكلّ مقام ، إلّا أن يراد لقرينة بيت السكنى فيدخلن مع الإماء.
ص: 369
ويدلّ (1) على عدم كونهنّ من أهل البيت ، ما رواه مسلم في باب فضائل عليّ علیه السلام ، أنّه قيل لزيد بن أرقم بعد ما روى حديث الثقلين : من أهل بيته؟ نساؤه؟
قال : لا وأيم اللّه! إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الّذين حرموا الصدقة بعده (2).
وفي رواية أخرى لمسلم : « فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟
أليس نساؤه من أهل بيته؟!
قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده » (3).
فإنّه أراد بقوله : « نساؤه من أهل بيته » الإنكار على من تخيّل دخولهنّ في أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولذا استدرك وقال : « ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده ».
ولا تنافي هاتان الروايتان تلك الأخبار السابقة الدالّة على نزول آية التطهير في الخمسة أو الأربعة ؛ لأنّ هاتين الروايتين إنّما تدلّان على دخول غير الأربعة من عشيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مسمّى أهل بيته ، فلا تنافيان ما يدلّ على اختصاص نزول الآية بالأربعة.
ص: 370
على أنّا لا نسلّم لزيد اجتهاده في شمول أهل البيت لغير الأربعة ؛ لأنّ غيرهم بالضرورة ليس من الثقل الذي هو قرين القرآن وعديله في لزوم التمسّك به ، وأنّ من تمسّك به لا يضلّ أبدا ؛ لاشتمالهم على الجهلة والعصاة والفسّاق ، فكيف يدخلون في حديث الثقلين؟! وكذا في آية التطهير بالضرورة؟!
ويدلّ أيضا على خروج الأزواج عن مسمّى أهل البيت ، فضلا عن الآية ، ما رواه أحمد (1) ، عن أمّ سلمة ، قالت : « بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيتي يوما إذ قالت الخادم : إنّ عليّا وفاطمة بالسدّة (2) ، فقال لي : قومي فتنحّي عن أهل بيتي.
قالت : فقمت فتنحّيت في البيت قريبا ، فدخل عليّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين ، وهما صبيّان صغيران ، فأخذ الصبيّين فوضعهما في حجره فقبّلهما ، وأعتنق عليّا بإحدى يديه ، وفاطمة باليد الأخرى ، فقبّل فاطمة ، وقبّل عليّا ، فأغدق عليهم خميصة (3) سوداء ، فقال : اللّهمّ إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي.
قالت : فقلت : وأنا يا رسول اللّه؟
فقال : وأنت ».
ص: 371
ومثله في محلّ آخر عن أمّ سلمة (1).
وأراد صلی اللّه علیه و آله بقوله : « وأنت » إنّك أيضا إلى اللّه لا إلى النار ، لا أنّها من أهل بيته ، لقوله : « تنحّي عن أهل بيتي ».
ويدلّ أيضا على خروج الأزواج عن مسمّى أهل البيت ما رواه أحمد (2) ، عن أمّ سلمة أيضا : « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة : ائتيني بزوجك وأبنيك.
فجاءت بهم ، فألقى عليهم كساء فدكيا ، ثمّ وضع يده عليهم ، ثمّ قال : اللّهمّ إنّ هؤلاء آل محمّد ، فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وآل محمّد ، إنّك حميد مجيد ».
قالت أمّ سلمة : « فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي وقال : إنّك على خير ».
ومثله في « الدرّ المنثور » ، عن الطبراني (3).
وإنّما لم نجعل هذه الأحاديث في طيّ الأخبار السابقة ؛ لأنّها لم تتعرّض لنزول الآية ، وإنّما دلّت على خروج الأزواج من أهل البيت ، وإن كان الظاهر تعلّقها في قصّة نزول الآية بقرينة الأخبار السابقة.
وبالجملة : لا ريب بأنّ الآية الكريمة مختصّة بالخمسة الأطهار ، ولا تشمل الأزواج ، ولا بقيّة أقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لاختصاص أخبار النزول بالخمسة الأطهار ، ولكون غيرهم غير مطهّرين من الرجس.
ولا يعارض تلك الأخبار ما رواه ابن حجر في « الصواعق » ، من أنّ
ص: 372
النبيّ صلی اللّه علیه و آله اشتمل على العبّاس وبنيه بملاءة ، ثمّ قال : « يا ربّ هذا عمّي ، وصنو أبي ، وهؤلاء أهل بيتي ، فاسترهم من النار كستري إيّاهم » ؛ فأمّنت أسكفّة (1) الباب وحوائط البيت ، فقال : « آمين » وهي ثلاثا (2).
وذلك لأنّ هذا الحديث لا يدلّ على نزول الآية بالعبّاس وبنيه ، وإنّما يدلّ على صدق أهل البيت عليهم فقط.
على أنّه ضعيف السند ، واضح الكذب ، ظاهر التصنّع ، رعاية لملوك العبّاسيّين! وإلّا فما هذا الاهتمام بالعبّاس وبنيه حتّى تؤمّن أسكفّة الباب وحيطان البيت ثلاثا مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
هذا ، وقد استدلّ من زعم نزول الآية بالأزواج بمناسبة نظم القرآن كما بيّنه الفضل ، وفيه :
أوّلا : إنّ مناسبة النظم لا تعارض ما تواتر بنزولها في الخمسة الطاهرين ، أو الأربعة خاصّة.
وثانيا : إنّا نمنع المناسبة ؛ لتذكير الضمير بعد التأنيث ، ولتعدّد الخطاب والمخاطب.
وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهنّ للتنبيه على أنّه سبحانه إنّما أمرهنّ ونهاهنّ وأدّبهنّ إكراما لأهل البيت ، وتنزيها لهم عن أن تنالهم بسببهنّ وصمة ، وصونا لهم عن أن يلحقهم من أجلهنّ عيب ، ورفعا لهم عن أن يتّصل بهم أهل المعاصي ، ولذا استهلّ سبحانه
ص: 373
الآيات بقوله : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ) (1).
ضرورة أنّ هذا التمييز إنّما هو للاتّصال بالنبيّ وآله ، لا لذواتهنّ ، فهنّ في محلّ ، وأهل البيت في محلّ آخر.
فليست الآية الكريمة إلّا كقول القائل : يا زوجة فلان! لست كأزواج سائر الناس ، فتعفّفي ، وتستّري ، وأطيعي اللّه تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الأدناس ، وصونهم عن النقائص.
وقد يستدلّ أيضا للقائل بنزولها في الأزواج بما رواه الواحدي في « أسباب النزول » ، عن ابن عبّاس ، قال : « أنزلت هذه الآية في نساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (2).
وفيه - مع ضعفه بجماعة متروكين ، منهم صالح بن موسى ، الذي سبق بعض ترجمته في مقدّمة الكتاب (3) _ :
إنّه معارض بما مرّ عن ابن عبّاس نفسه ، من أنّ المراد بأهل البيت :
البيت من القبيلة (4) ، وبالأخبار السابقة الصحيحة المستفيضة الدالّة على نزولها في الخمسة أو الأربعة خاصّة.
وقد روى القوم أيضا نزولها فيهنّ ، عن ابن عبّاس ، من طريق عكرمة ؛ وقد عرفت حاله ، وأنّه كذّاب خارجي (5).
ص: 374
ورووه أيضا عن عروة بن الزبير ؛ وهو معلوم العداوة لآل محمّد (1) ، ومتّهم بإرادة جلب الفضل لخالته في أمر لم تدّعه هي لنفسها لو صحّ السند إليه (2).
على أنّ رأي عروة وغيره لا يزاحم تلك الأخبار المتواترة ، الحاكية لفعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقوله المأخوذ عن جبرئيل عن اللّه تعالى.
واستدلّ من زعم نزول الآية بالأزواج وعشيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بما رواه ابن حجر في « الصواعق » ، من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضمّ إلى الأربعة الأطهار بقيّة بناته وأقاربه وأزواجه (3).
وأثر الوضع على هذه الرواية ظاهر ، فإنّا لم نعهد وجود كساء يسع مقدار بني هاشم وأزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، الّذين يبلغ عددهم في ذلك الوقت
ص: 375
تقريبا مئة نفس صغيرا وكبيرا! ولو وجد فما حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى اقتناء مثله؟!
ولو كان من الخمسة الأطهار غيرهم لاشتهر وذاع وافتخر به مفتخرهم ؛ لأنّه يتنافس به المتنافسون!
أترى أنّ حفصة تترك ذكره ، وعائشة ترويه للخمسة وتدع نفسها؟!
وهل يغفل حسّاد أمير المؤمنين علیه السلام عنه؟!
هذا كلّه مع الإعراض عمّا في سند الحديث ، ومعارضته بتلك الأخبار المتواترة.
واستدلّوا أيضا بما رواه بعضهم عن واثلة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا جمع الأربعة الطيّبين وتلا الآية ، قال واثلة : « وأنا من أهلك؟ قال : وأنت من أهلي » (1).
فإنّه إذا كان واثلة من أهل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأقاربه وأزواجه أولى.
وفيه : إنّه لو صحّ السند ، فدخول واثلة مبنيّ على ضرب من التجوّز ، فلا تلزم الأولويّة (2).
على أنّ هذه الرواية معارضة بالرواية السابقة عن واثلة ، الدالّة على خروجه ، وهي أشهر وأصحّ ، مع اعتضادها بالأخبار المتواترة (3).
ص: 376
وقد يستدلّ لهم بما رواه أحمد في مسنده (1) ، عن أمّ سلمة ، من حديث ذكرت فيه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله اجتبذ من تحتها كساء خيبريا ، فلفّه عليه وعلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وأخذ بشماله طرفي الكساء ، وألوى بيده اليمنى إلى ربّه عزّ وجلّ ، ودعا لهم بالتطهير ثلاثا.
قالت : قلت : يا رسول اللّه! ألست من أهلك؟!
قال : بلى ، فادخلي في الكساء.
قالت : فدخلت في الكساء بعد ما قضى دعاءه لابن عمّه وابنيه وابنته فاطمة
وفيه - مع ضعف سنده بجماعة ، منهم : شهر بن حوشب ، الذي سبق بعض ترجمته في المقدّمة (2) _ :
إنّ المراد : أنّها من أهله دون أن تشملها آية التطهير ، ولذا جذب الكساء من تحتها وخصّهم بدعائه ، فهي من أهله بوجه التجوّز ؛ لأنّها من المطيعات لله تعالى ، وله ، أو من أهل بيت سكناه.
فاتّضح أنّ الآية الكريمة مختصّة بالخمسة الطاهرين ، أو الأربعة ، وقد كان هذا معروفا في الصدر الأوّل.
وإنّما حدث الخلاف من عكرمة الكذّاب الخارجي (3) وأشباهه ، كما يشهد له ما في « الدرّ المنثور » ، عن ابن جرير وابن مردويه ، عن عكرمة ، - في الآية - ، قال : ليس بالذي تذهبون إليه ، إنّما هو نساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله (4).
ص: 377
فإنّ قوله : « ليس بالذي تذهبون إليه » دالّ على معروفية نزولها في عليّ وفاطمة والحسن والحسين بين أهل الصدر الأوّل ، ولذا احتاج عكرمة إلى أن ينادي في الأسواق بنزولها في الأزواج ، كما في « الصواعق » (1).
واحتاج إلى أن يقول : « من شاء باهلته أنّها في أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله » كما في « الدرّ المنثور » (2).
وقد اجتهد في إطفاء أنوار آل محمّد صلی اللّه علیه و آله .. ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (3).
ثمّ إنّه لا ريب بدلالة الآية الكريمة على عصمتهم عن جميع الذنوب مطلقا ؛ لإطلاق الرجس فيها مع معونة بعض الأخبار السابقة ، حيث
قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه : « فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب » (4) ..
فإنّ الذنوب جمع محلّى باللام ، وهو يفيد العموم ، ولأنّ الآية الشريفة دالّة على مدحهم والعناية العظمى بشأنهم ، ولا يحسن مثله ، - بحيث أنزل اللّه تعالى به قرآنا يتلى إلى آخر الدهر - إلّا بعصمتهم وطهارتهم عن كلّ ذنب ، لا عن خصوص الشرك وكبائر الفواحش كما زعمه الفضل ، ولا سيّما وهو ممّا يشاركهم فيه كثير من المؤمنين! ..
فكيف يخصّهم بالثناء ويأتي بما يفيد الحصر؟!
وأمّا ما استند إليه الفضل من سبق قوله تعالى : ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي
ص: 378
قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (1) ، فباطل ؛ لأنّه لو كان سبق مثله قرينة على إرادة الطهارة عنه ، لكان اللازم أيضا القول بالطهارة عن مخالفة كلّ ما سبق في الآية ، من الأمر بقولهنّ المعروف ، وبالقرار في بيوتهنّ ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة اللّه ورسوله ؛ وذلك في معنى العصمة عن كلّ الذنوب ..
والفضل لا يقول بها ، ولا يمكن أن يدّعيها للأزواج ؛ لما يعلمه هو وغيره من أنّ عائشة لم تقرّ في بيتها ، وعصت اللّه ورسوله بحرب إمام زمانها ، وشقّت عصا المسلمين وشتّتت أمرهم ، وتظاهرت هي وحفصة على النبيّ ، وعصتا ربّهما ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (2) .. إلى غير ذلك ممّا ستعرفه في المطاعن.
فإذا ثبت نزول الآية في الخمسة الأطهار ، ودلّت على عصمتهم من الذنوب ، ثبتت إمامة أمير المؤمنين علیه السلام دون من تقدّمة في الخلافة ؛ لما سبق من أنّ العصمة شرط الإمامة (3) ، وغير عليّ ليس معصوما بالإجماع والضرورة ..
ولأنّ أمير المؤمنين علیه السلام ادّعى الإمامة لنفسه ، وأنّها حقّه - وإن لم يتمكّن من حرب من تقدّم عليه كما سبق (4) - ، فيكون صادقا ؛ لأنّ الكذب - ولا سيّما في مثل دعوى الإمامة - من أعظم الرجس.
وقوله : « لا نسلّم أنّ عليّا ادّعى الإمامة لنفسه » (5) ، مكابرة ظاهرة كما
ص: 379
مرّ توضيحه (1).
وإلّا فما الموجب لتأخّره عن بيعتهم إلى أن قهروه عليها ، وبقي يتظلّم منهم مدّة حياته ، وجرّد الزبير سيفه لأجله .. إلى غير ذلك ممّا سبق (2)؟!
* * *
ص: 380
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الرابعة : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2).
روى الجمهور في الصحيحين ، وأحمد بن حنبل في مسنده ،
والثعلبي في تفسيره ، عن ابن عبّاس ، قال :
لمّا نزل : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )
قالوا : يا رسول اللّه! من قرابتك الّذين وجبت علينا مودّتهم؟
قال : عليّ وفاطمة وأبناهما (3)
ووجوب المودّة يستلزم وجوب الطاعة.
* * *
ص: 381
وقال الفضل (1) :
اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : الاستثناء منقطع (2) ، والمعنى :
لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ، لكن المودّة في القربى حاصلة بيني وبينكم ، فلهذا أسعى وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم (3).
وقال بعضهم : الاستثناء متّصل (4) ، والمعنى : لا أسألكم عليه أجرا من الأجور إلّا مودّتكم في قرابتي (5).
وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ ، ولو خصّصناه بمن ذكر لا يدلّ على خلافة عليّ ، بل يدلّ على وجوب مودّته.
ونحن نقول : إنّ مودّته واجبة على كلّ المسلمين ، والمودّة تكون مع الطاعة ، ولا كلّ مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى.
والعجب من هذا الرجل أنّه يستدلّ على المطلوب ، وكلامه في غاية البعد عنه وهو لا يفهم هذا.
* * *
ص: 382
ينبغي قبل الكلام في الآية ذكر بعض الأخبار التي رواها القوم ، الدالّة على أنّ المراد بالقربى آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ..
فمنها : الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه ، وقد رواه الزمخشري في تفسير الآية ، واستدلّ لصحّته بأخبار كثيرة تستلزم معناه (1).
ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه (2).
ونقله في « ينابيع المودّة » عند ذكر الآية ، عن أحمد ، والثعلبي ، والحاكم في « المناقب » ، والواحدي في « الوسيط » ، وأبي نعيم في « الحلية » ، والحمويني في « فرائد السمطين » (3).
ونقله في « الصواعق » في الآية الرابعة عشرة من الآيات الواردة في أهل البيت ، عن أحمد ، والطبراني ، وابن أبي حاتم ، والحاكم (4).
ومنها : ما نقله الحاكم في « المستدرك » ، في تفسير حم عسق ، من كتاب التفسير (5) ، عن البخاري ومسلم ، قال : [ هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه ، إنّما ] اتّفقا في تفسير هذه الآية - أي آية المودّة _
ص: 383
على حديث عبد الملك بن ميسرة الزرّاد ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس ، أنّه في قربى آل محمّد صلی اللّه علیه و آله .
ولعلّ هذا هو الذي أراده المصنّف بما عن البخاري ومسلم.
ومنها : ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، قال : أخرج ابن جرير ، عن أبي الديلم : « لمّا جيء بعليّ بن الحسين علیه السلام فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم.
فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام : أقرأت القرآن؟!
قال : نعم.
قال : أما قرأت : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ؟!
قال : فإنّكم لأنتم هم؟!
قال : نعم » (1).
ونحوه في « الصواعق » ، عن الطبراني (2).
ومنها : ما في « الصواعق » ، قال : « روى أبو الشيخ وغيره ، عن عليّ علیه السلام : فينا ال- ( حم ) (3) آية ، لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن.
ثمّ قرأ : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (4).
ص: 384
ومنها : ما في « الصواعق » أيضا ، قال : « أخرج البزّار والطبراني ، عن الحسن علیه السلام ، من طرق بعضها حسان ، أنّه خطب خطبة من جملتها :
من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد.
ثمّ تلا : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ ... ) (1) الآية.
ثمّ قال : أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير.
ثمّ قال : وأنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه عزّ وجلّ مودّتهم وموالاتهم ، فقال في ما أنزل على محمّد صلی اللّه علیه و آله : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .
قال : وفي رواية : الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم ، وأنزل فيهم : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) (2) ، واقتراف الحسنات مودّتنا أهل البيت » (3).
وروى الحاكم هذه الخطبة في فضائل الحسن علیه السلام من « المستدرك » (4) ، قال الحسن علیه السلام في آخرها :
« وأنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه صلی اللّه علیه و آله : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ
ص: 385
فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) ، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت ».
ومنها : ما في « الصواعق » أيضا ، عن الثعلبي والبغوي ، عن ابن عبّاس ، أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلّا أن يحثّنا على قرابته من بعده ، فأخبر جبرئيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّهم اتّهموه ، فأنزل : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) (1) الآية.
فقال القوم : يا رسول اللّه! إنّك لصادق ..
فأنزل اللّه : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) (2) (3).
.. إلى غير ذلك من الأخبار.
ويؤيّدها الأخبار المستفيضة الدالّة على وجوب حبّ أهل البيت ، وأنّه مسؤول عنه يوم القيامة (4).
وذكر في « الكشّاف » أخبارا أخر جعلها دليلا لإرادة عليّ وفاطمة والحسنين من القربى (5).
وكذا يؤيّدها الأخبار المفسّرة للحسنة في تتمّة الآية بحبّ أهل
ص: 386
البيت ، كما سمعته في بعض الروايات المذكورة (1).
وقال ابن حجر عند كلامه في الآية : أخرج أحمد ، عن ابن عبّاس : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) ، قال : المودّة لآل محمّد (2).
ومثله في « الدرّ المنثور » ، عن ابن أبي حاتم ، عن ابن عبّاس (3).
وقال في « الكشّاف » : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) ، عن السدّي أنّها المودّة في آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (4).
ولكن يا للأسف! ما هان على القوم رواية تلك الأخبار حتّى رووا عن ابن عبّاس ما ينافي رواياته السابقة ، فنسبوا إليه مخالفة النبيّ والوحي!! ..
روى البخاري في كتاب « التفسير » من صحيحه ، في تفسير الآية :
« أنّه سئل ابن عبّاس عنها ، فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمّد.
فقال ابن عبّاس : عجلت ؛ لم يكن بطن في قريش إلّا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة » (5).
والمعنى على حسب ظاهر هذا التفسير : لا أسألكم على التبليغ أجرا إلّا صلتكم لي لما بيني وبينكم من القرابة ، حيث إنّ له قرابة في بطون قريش كلّها.
ص: 387
وفيه : مع مخالفته لقول من أنزل عليه القرآن ، ولظاهر اللفظ ، إنّه لا معنى لسؤال الأجر على التبليغ ممّن لم يعترف له بالرسالة ؛ لأنّ المقصود على هذا التفسير هو السؤال من الكافرين ، ولذا قال في « الكشّاف » في بيانه : « والمعنى : إن أبيتم تصديقي فاحفظوا حقّ قرابتي ولا تؤذوني » (1).
أقول : وفي جعل معنى ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) : « إن أبيتم تصديقي » نظر ظاهر.
ومثل هذا المحكيّ عن ابن عبّاس في البطلان ، ما ذكره الفضل من المعنى على الاستثناء المنقطع ، فإنّ المنقطع عبارة عن إخراج ما لو لا إخراجه لتوهّم دخوله في حكم المستثنى منه نظير الاستدراك.
وأنت تعلم أنّ المستثنى الذي ذكره الفضل أجنبيّ عمّا قبله بكلّ وجه ، فلا يتوهّم دخوله في حكمه حتّى يستثنى منه.
وأعظم من هذين التفسيرين في البطلان ، ما رواه بعض القوم عن ابن عبّاس ، من أنّ المعنى : « لا أسألكم أجرا على التبليغ إلّا مودّة اللّه بالتقرّب إليه » (2) ، فإنّ القربى لم تأت بمعنى التقرّب ، مع أنّه مناف للأخبار السابقة المعتبرة عن ابن عبّاس (3).
والحقّ أنّ هذه التفاسير من تحريف الكلم عن مواضعه ، الذي يدعو إليه العناد والتعصّب ، فلا ريب لكلّ منصف في أنّ المراد بالقربى : القرابة ، وأنّ المقصود : عليّ وفاطمة والحسنان ، كما نطقت به الأخبار.
وقول الفضل : « وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات
ص: 388
النبيّ صلی اللّه علیه و آله » ، باطل ؛ لمنافاته للقرينة اللفظية - وهي الأخبار السابقة وغيرها - .. وللقرينة الحاليّة ؛ لأنّ المعلوم من حال النبيّ صلی اللّه علیه و آله الاعتناء بعليّ وفاطمة والحسنين ، لا من ناوأه من أقربائه ولم يسلموا إلّا بحدود السيوف والغلبة .. وللقرينة العقليّة ؛ إذ لا يتصوّر أن يكون ودّ من لم يوادّ اللّه ورسوله أجرا للتبليغ والرسالة.
فلا بدّ أن يكون المراد مودّة من يكمل الإيمان بمودّته ، وتحصل السعادة الأبديّة بموالاته ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى : ( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (1).
بل بلحاظ شأن النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما يعدّ قرابة له من هو منه ، لا من بان عنه معنى ومنزلة ، ولذا قال تعالى لنوح : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) (2).
وقال الرازي في تفسير آية المودّة التي نحن فيها : « آل محمّد صلی اللّه علیه و آله هم الّذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ من كان مآل أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل.
ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول اللّه أشدّ التعلّقات.
وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل » (3).
أقول : ونحو هذا آت في لفظ « القربى » ، فيتعيّن أن يكون المراد بالآية الأربعة الأطهار.
ص: 389
وهي تدلّ على أفضليّتهم ، وعصمتهم ، وأنّهم صفوة اللّه سبحانه ؛ إذ لو لم يكونوا كذلك لم تجب مودّتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودّتهم بتلك المنزلة التي ما مثلها منزلة ؛ لكونها أجرا للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حقّ يشبهه ..
ولذا لم يجعل اللّه المودّة لأقارب نوح وهود أجرا لتبليغهما ، بل قال لنوح : ( وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ) (1).
وقال لهود : ( يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (2) ..
فتنحصر الإمامة بقربى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ إذ لا تصحّ إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لا سيّما بهذا الفضل الباهر ..
مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من أنّ وجوب المودّة مطلقا يستلزم وجوب الطاعة مطلقا ؛ ضرورة أنّ العصيان ينافي الودّ المطلق ..
ووجوب الطاعة مطلقا يستلزم العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم بالإجماع ، فتنحصر الإمامة بهم ، ولا سيّما مع وجوب طاعتهم على جميع الأمّة.
وقد فهم دلالة الآية على الإمامة الصحابة ، ولذا اتّهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعضهم فقالوا : « ما يريد إلّا أن يحثّنا على قرابته بعده » ، كما سمعته في بعض الروايات السابقة (3).
وكلّ ذي فهم يعرفها من الآية الشريفة ، إلّا أنّ القوم أبوا أن يقرّوا
ص: 390
بالحقّ ويؤدّوا أجر الرسالة ، فإذا صدرت من أحدهم كلمة طيّبة لم تدعه العصبيّة حتّى يناقضها! ..
ولذا لمّا نطق الرازي بما حكيناه عنه سابقا عقّبه بقوله :
« المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) فيه منصب عظيم للصحابة ؛ لأنّه تعالى قال : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ، فكلّ من أطاع اللّه كان مقرّبا عند اللّه ، فدخل تحت قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .
والحاصل : إنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول اللّه وحبّ أصحابه » (2).
فانظر إلى هذه الكلمات الهزلية ، بل لا يتصوّر لكلامه معنى إلّا أن يراد بالقربى المقرّبون ، وهو ليس من معاني القربى.
ولو سلّم ، فاللازم وجوب ودّ كلّ من أطاع اللّه بلا خصوصيّة للصحابة ، فكيف تدلّ الآية على عظيم منصب للصحابة؟!
ثمّ إنّ بعض القوم أورد على نزول الآية بعليّ وفاطمة والحسنين علیهم السلام بأنّ سورة الشورى مكّيّة وعليّ حينئذ لم يتزوّج بفاطمة ، فضلا عن ولادة الحسنين علیهماالسلام (3).
وفيه : إنّ أخبار نزول الآية الشريفة بالأربعة الطاهرين حجّة قطعيّة وكثيرة معتبرة ، فلا يعتنى بدعوى كون السورة مكّية .. على أنّه جاء في
ص: 391
بعض أخبارهم أنّها مدنيّة.
ولو سلّم ، فكون السورة مكيّة إنّما هو بلحاظ أكثرها ، فلا ينافي نزول آية منها بالمدينة (1).
* * *
ص: 392
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الخامسة : قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ) (2).
قال الثعلبي : ورواه ابن عبّاس : أنّها نزلت في عليّ علیه السلام لمّا هرب النبيّ صلی اللّه علیه و آله من المشركين إلى الغار ، خلّفه لقضاء دينه وردّ ودائعه ، فبات على فراشه ، وأحاط المشركون بالدار ..
فأوحى اللّه إلى جبرئيل وميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟
فاختار كلّ منهما الحياة ، فأوحى اللّه إليهما : ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب؟! آخيت بينه وبين محمّد ، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه!
فنزلا ، فكان جبرئيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، فقال جبرئيل : بخ بخ! من مثلك يابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة (3)؟!
ص: 393
ص: 394
وقال الفضل (1) :
اختلف المفسّرون أنّ الآية نزلت في من؟ ..
قال كثير منهم : نزلت في صهيب الرومي ، وأنّه كان غريبا بمكّة ، فلمّا هاجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قصد الهجرة ، فمنعه قريش من الهجرة ، فقال : يا معشر قريش! إنّكم تعلمون أنّي كثير المال ، وإنّي تركت لكم أموالي ، فدعوني أهاجر في سبيل اللّه ولكم مالي.
فلمّا هاجر ، وترك الأموال ، أنزل اللّه هذه الآية.
فلمّا دخل صهيب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قرأ عليه الآية وقال له : ربح البيع (2).
وأكثر المفسّرين على أنّها نزلت في الزبير بن العوّام ، ومقداد بن الأسود لمّا بعثهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لينزلوا خبيب بن عديّ من خشبته التي صلب عليها ، فكان صلب بمكّة ، وحوله أربعون من المشركين ، ففديا أنفسهما حتّى أنزلاه ، فأنزل اللّه الآية (3).
ولو كان نازلا في شأن أمير المؤمنين عليّ ، فهو يدلّ على فضله واجتهاده في طاعة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبذل الروح له.
وكلّ هذه مسلّمة لا كلام لأحد فيه ، ولكن ليس هو بنصّ في إمامته كما لا يخفى.
ص: 395
إنّ استدلالنا بشيء لا يتوقّف على انحصار أقوالهم وأخبارهم فيه ، بل يكفينا وجوده في رواياتهم لنتّخذه حجّة عليهم ، من دون أن يعارضه ما يخالفه من أقوالهم ورواياتهم ؛ لأنّها ليست حجّة علينا ، وحينئذ يكفينا روايتهم نزول الآية في أمير المؤمنين علیه السلام ، كما نقله المصنّف رحمه اللّه عن الثعلبي ..
ونقله في « ينابيع المودّة » أيضا ، عنه ، وعن ابن عقبة في ملحمته ، وأبي السعادات في « فضائل العترة الطاهرة » ، والغزّالي في « الإحياء » عن ابن عبّاس ، وأبي رافع ، وهند بن أبي هالة ربيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
ورواه الرازي في تفسيره بمثل ما عن الثعلبي (2).
وروى الحاكم ما يدلّ على ذلك في « المستدرك » (3) ، وصحّحه هو والذهبي ، عن ابن عبّاس ، من حديث قال فيه : « شرى عليّ نفسه ، ولبس ثوب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ نام مكانه ».
ومثله في مسند أحمد (4).
وروى الحاكم بعد الحديث المذكور عن عليّ بن الحسين ، قال :
ص: 396
« أوّل من شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه عليّ بن أبي طالب .. وذكر شعرا لأمير المؤمنين في مبيته على فراش النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (1).
ونقل في « ينابيع المودّة » نزولها في أمير المؤمنين علیه السلام ، عن أبي نعيم بسنده عن ابن عبّاس .. إلى غير ذلك ممّا في « الينابيع » وغيرها (2).
ولو ضممت إليه أخبارنا كان متواترا (3) ..
فكيف يعتنى برواية الفضل في نزولها بصهيب (4)؟!
وأمّا ما ذكره من قول أكثر المفسّرين بنزولها في الزبير والمقداد ، فكذب صريح ..
كيف؟! ولم يذكره الرازي في تفسيره ، وهو قد جمع فيه جميع أقوالهم! ..
ولا ذكره الزمخشري أيضا ، ولا تعرّض السيوطي في « الدرّ المنثور » لرواية تتعلّق به ، مع أنّه قد جمع فيه عامّة أخبارهم ، ولا سيّما إذا كانت في فضل مثل الزبير (5)!
ص: 397
وذكر في « الاستيعاب » بترجمة خبيب ، أنّ الذي أرسله النبيّ صلی اللّه علیه و آله لإنزاله هو عمرو بن أميّة الضمري ، وما ذكر الزبير ، ولا المقداد (1)!
هذا في نزول الآية ..
وأمّا دلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فلأنّ نزولها فيه كاشف عن أفضليّته وامتيازه بالمعرفة والإخلاص ؛ لأنّ كثيرا من المسلمين غيره قد بذلوا أنفسهم في الجهاد ، وحفظ الرسول صلی اللّه علیه و آله ونشر الدعوة ولم ينالوا ما ناله أمير المؤمنين علیه السلام من شهادة اللّه له ، بأنّه شرى نفسه ابتغاء مرضاته حتّى باهى به سادة ملائكته ، وذكره بالأخوّة لسيّد أنبيائه ، وقال له جبرئيل : « من مثلك؟! » (2) الدالّ على عدم المماثل له .. والأفضل هو الإمام!
* * *
ص: 398
فجعله اللّه نفس محمّد صلی اللّه علیه و آله ، والمراد المساواة ، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف ، أكمل وأولى بالتصرّف.
وهذه الآية أدلّ دليل على علوّ مرتبة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّه تعالى حكم بالمساواة لنفس الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وأنّه تعالى عيّنه في استعانة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الدعاء.
وأيّ فضيلة أعظم من أن يأمر اللّه نبيّه بأن يستعين به على الدعاء إليه ، والتوسّل به؟!
ولمن حصلت هذه المرتبة؟!
* * *
ص: 400
وقال الفضل (1) :
كان عادة أرباب المباهلة أن يجمعوا : أهل بيتهم وقراباتهم ؛ ليشمل البهلة (2) سائر أصحابهم ، فجمع رسول اللّه أولاده ، ونساءه.
والمراد بالأنفس ها هنا : الرجال ، كأنّه أمر بأن يجمع نساءه وأولاده ورجال أهل بيته.
فكان النساء : فاطمة ، والأولاد : الحسن والحسين ، والرجال : رسول اللّه وعليّ.
وأمّا دعوى المساواة التي ذكرها ، فهي باطلة قطعا ، وبطلانها من ضروريات الدين ؛ لأنّ غير النبيّ من الأمّة لا يساوي النبيّ أصلا ، ومن ادّعى هذا فهو خارج عن الدين.
وكيف يمكن المساواة ، والنبيّ نبيّ مرسل خاتم الأنبياء ، وأفضل أولي العزم ، وهذه الصفات كلّها مفقودة في عليّ؟!
نعم ، لأمير المؤمنين عليّ في هذه الآية فضيلة عظيمة ، وهي مسلّمة ، ولكن لا تصير دالّة على النصّ بإمامته.
* * *
ص: 401
دعوى العادة كاذبة! ولا أدري متى اعتيد أصل المباهلة حتّى يعتاد فيها جمع الأهل والأقارب؟!
ولو كانت هناك عادة بذلك لاعترض النصارى على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمخالفتها ، حيث لم يجمع من أهله وأقاربه إلّا القليل!
ولو سلّم ، فمخالفة النبيّ صلی اللّه علیه و آله للعادة دليل على أنّ محلّ العناية الإلهيّة ، والكرامة النبويّة ، هو من جمعهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأمر اللّه سبحانه ، دون بقيّة أقاربه كالعبّاس وبنيه ، وسائر بني هاشم وبناتهم ، وبنات الزهراء علیهاالسلام ، ودون زوجاته ، مع أنّهنّ من نسائه ، ومن أهل بيت سكناه.
وقد عرف أنّهم محلّ عناية اللّه والشرف عنده ، ومحلّ الخطر والعظمة لديه ، أسقف نجران حيث قال - كما عن ابن إسحاق ، ورواه في « الكشّاف » - : « إنّي لأرى وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » (1).
وفي تفسيري الرازي والبيضاوي : « لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » (2).
ثمّ قال الرازي : « واعلم أنّ هذه الرواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث » (3).
ص: 402
فيا عجبا قد عرف ذلك لهم النصارى وأنكره من يدّعي الإسلام ، كالفضل وأمثاله! حتّى جعلوا جمعهم من العاديّات ، لا لكرامتهم وفضلهم عند اللّه تعالى وعزّتهم على الرسول صلی اللّه علیه و آله .
وما اكتفى الفضل بمشاركة سائر أقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونسائه لهم حتّى أضاف إليهم أصحابه ، فقال : « لتشمل البهلة سائر أصحابهم » ، وهو ضروري البطلان ؛ لأنّ شمولها لهم إن كان باعتبار التبعيّة ، فلا حاجة إلى إحضار الأربعة الأطيبين ؛ لأنّ الكلّ أتباعه ..
وإن كان لأجل المباشرة ، فالأصحاب كبقيّة الأقارب غير مباشرين.
ولو شملت البهلة غير الأربعة لأحضر النبيّ صلی اللّه علیه و آله من غيرهم ، ولو واحدا من أفاضل الأقارب والأصحاب!
فلا بدّ أن يكون تخصيص اللّه والرسول للأربعة الطاهرين ؛ لعناية اللّه بهم ، وبيانه لفضلهم وكرامتهم عند النبيّ ، وعزّتهم عليه ، واستعانته بدعائهم ، كما قال سبحانه : ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) .. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا دعوت فأمّنوا » ، كما رواه الزمخشري والرازي والبيضاوي وغيرهم (1) ..
إذ كلّما كثر محلّ العناية ومنجع (2) الاستجابة ، كان أدخل بالإجابة ؛ لأنّ الاستكثار منهم أظهر في إعظام اللّه والرغبة إليه ، ولذا يستحبّ في الأدعية كثرة تعظيم اللّه بأسمائه المقدّسة ، وشدّة إظهار الخضوع لجلاله.
ص: 403
وبذلك يعلم أفضليّة الحسن والحسين ، فضلا عن أمير المؤمنين علیه السلام والزهراء علیهاالسلام ، على جميع الصحابة وأقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
فإنّ استعانة سيّد النبيّين بهما في الدعاء بأمر اللّه سبحانه مع صغرهما ، ووجود ذوي السنّ من أقاربه ، وأصحابه ، لأعظم دليل على امتيازهما بالشرف عند اللّه ، وتميّزهما مع صغرهما بالمعرفة والفضل ، ولذا قال : ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) ، فجعل الحسنين ممّن تشمله اللعنة لو كانا من الكاذبين ، وأشركهما في تحقيق دعوة الإسلام ، وتأييد دين اللّه ..
فكانا شريكي رسول اللّه ، وأمير المؤمنين ، والزهراء في ذلك ، ممتازين على الأمّة كما امتاز عيسى وهو صبيّ على غيره.
فظهر دلالة الآية الكريمة على أفضلية الأربعة الأطهار ، ولا سيّما أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّها جعلته نفس النبيّ ، وعبّرت عنه بالأنفس بصيغة الجمع ، كما عبّرت عن فاطمة بالنساء للإعلام من وجه آخر بعظمهم.
وقول الفضل : « والمراد بالأنفس هاهنا الرجال » ، باطل لوجهين :
الأوّل : إنّ أمر الشخص نفسه ودعوته لها مستهجن ومخالف لما ذكره الأصوليّون من أنّ المتكلّم لا يشمله خطابه ، فإذا قال : يا أيّها الناس اتّقوا اللّه ؛ لا يكون من المخاطبين ، وإذا دعا الجماعة لا يكون من المدعوّين (1).
الثاني : ما نقله ابن حجر في ( صواعقه ) عند ذكر الآية ، وهي الآية التاسعة من الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام ، عن الدارقطني : « إنّ عليّا
ص: 404
يوم الشورى احتجّ على أهلها فقال لهم : أنشدكم باللّه هل فيكم أحد أقرب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الرحم منّي ، ومن جعله نفسه ، وأبناءه أبناءه ، ونساءه نساءه ، غيري؟!
قالوا : اللّهمّ لا » (1).
ونقل الواحدي وغيره ، عن الشعبي ، أنّه قال : ( أَبْناءَنا ) الحسن والحسين ، ( ونِساءَنا ) فاطمة ، ( وأَنْفُسَنا ) عليّ بن أبي طالب (2).
وأمّا ما ذكره الفضل من أنّ دعوى المساواة خروج عن الدين ، فخروج عن سنن الحقّ المبين ؛ لأنّ مقصود المصنّف رحمه اللّه هو المساواة في الخصائص والكمال الذاتي ، عدا خاصّة أوجبت نبوّته وميّزته عنه ، وهو مفاد ما حكاه في « كنز العمّال » في فضائل عليّ علیه السلام (3) ، عن ابن أبي عاصم ، وابن جرير ، قال : وصحّحه ، وعن الطبراني في « الأوسط » ، وابن شاهين في « السنّة » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « ما سألت اللّه لي شيئا إلّا سألت لك مثله ، ولا سألت اللّه شيئا إلّا أعطانيه ، غير أنّه قيل لي : إنّه لا نبيّ بعدك » (4).
ص: 405
ويدلّ عليه ما روي مستفيضا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ عليّا منّي وأنا منه » (1).
فتدلّ الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ مساواته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في خصائصه عدا مزية النبوّة تستوجب أن يكون مثله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأفضل من غيره بكلّ الجهات ، وأن يمتنع صيرورته رعيّتة ومأمورا لغيره ، كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله .
بل يكفي في الدلالة على إمامته مجرّد دلالتها على أفضليّته من جميع الأمّة (2).
ص: 406
ويستفاد من الرازي في تفسير الآية تسليم دلالتها على أفضليّته من الصحابة ؛ لأنّه نقل عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي (1) أنّه استدلّ بجعل عليّ علیه السلام نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله على كونه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ النبيّ أفضل منهم وعليّ نفسه.
ونقل عن الشيعة قديما وحديثا الاستدلال بذلك على فضل عليّ على جميع الصحابة.
وما أجاب الرازي إلّا عن الأوّل ، بدعوى الإجماع على أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم قبل ظهور الشيخ محمود (2).
وفيه : إنّ الإجماع إنّما هو على فضل صنف الأنبياء على غيره من الأصناف ، وفضل كلّ نبيّ على جميع أمّته ، لا فضل كلّ شخص من الأنبياء على كلّ من عداهم حتّى لو كان من أمم غيرهم.
فذلك نظير تفضيل صنف الرجال على صنف النساء ، حيث إنّه لم يناف فضل بعض النساء على كثير من الرجال.
ولم يختصّ تفضيل أمير المؤمنين على من عدا محمّد من الأنبياء
ص: 407
بالشيخ محمود ، حتّى ينافي ما ادّعاه الرازي من الإجماع (1) ..
بل قال به الشيعة قبل وجود الشيخ محمود وبعده ، مستدلّين بالآية الكريمة ، وغيرها من الآيات والأخبار المتضافرة ، التي ليس المقام محلّ ذكرها ، وستعرف بعضها (2).
ص: 408
وكيف كان ، فقد استفاضت الأخبار بنزول الآية بأهل الكساء ، حتّى روى مسلم والترمذي - كلاهما في باب فضائل عليّ علیه السلام - عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : « لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ) دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللّهمّ هؤلاء أهلي » (1).
ونقله السيوطي أيضا عن ابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه (2).
ولا يخفى ما في قوله صلی اللّه علیه و آله : « هؤلاء أهلي » من اختصاص أهل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الأربعة الأطهار ، كما يدلّ عليه أيضا حديث الكساء ، وغيره.
ونقل السيوطي أيضا ، عن البيهقي في « الدلائل » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتب إلى أهل نجران .. وذكر خبرا طويلا قال في آخره :
« فلمّا أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أقبل مشتملا على الحسن والحسين ،
ص: 409
وفاطمة تمشي خلف ظهره ، للملاعنة ، وله يومئذ عدّة نسوة ... » (1)الحديث
وقد أشار بقوله : « وله عدّة نسوة » إلى أنّ أزواجه لسن من أهل المباهلة ، ولا من محلّ العناية!
.. إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة ، أو المتواترة ، التي تقدّمت الإشارة إلى بعضها في كلام الرازي وغيره.
* * *
ص: 410
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
السابعة : قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : سئل رسول اللّه عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قال : سأله بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ؛ فتاب عليه (3).
* * *
ص: 411
وقال الفضل (1) :
اختلف المفسّرون في هذه الكلمات ..
فقال بعضهم : هو التسبيح والتهليل والتحميد (2).
وقال بعضهم : هي مناسك الحجّ ، فيها غفر ذنوب آدم (3).
وقال بعضهم : هي الخصال العشرة (4) التي سمّيت خصال الفطرة ، وقد أمر آدم بالعمل بها ليتوب اللّه عليه (5).
ولو صحّ ما رواه عن الجمهور - ولا نعرف هذا الجمهور - لدلّ على فضيلة كاملة لعليّ ، ونحن نقول بها ، ونعلم أنّ التوسّل بأصحاب العباء من أعظم الوسائل وأقرب الذرائع ، ولكن لا يدلّ على نصّ الإمامة ، فخرج الرجل من مدّعاه ؛ ويقيم الدلائل على فضائل عليّ من نصّ القرآن! وكلّ هذه الفضائل مسلّمة.
ص: 412
لا مناسبة بين مناسك الحجّ ونحوها - ممّا هو من قسم الأفعال - وبين الكلمات التي هي من الأقوال ، فكيف يحسن أن تفسّر بها؟!
ولا يهمّنا اختلافهم بعد ما صرّحت أخبارهم بالمدّعى ..
ففي « الدرّ المنثور » ، عن ابن النجّار ، بسنده إلى ابن عبّاس ، قال : سألت رسول اللّه عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه.
قال : سأله بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ؛ فتاب عليه (1).
ومثله في « ينابيع المودّة » (2).
وفي « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عن ابن المغازلي ، بسنده إلى ابن عبّاس ، إلّا أنّه قال : « سئل النبيّ صلی اللّه علیه و آله » بالبناء للمجهول ، كما ذكره المصنّف رحمه اللّه هنا (3).
ونقله ابن الجوزي ، عن الدارقطني ، بلفظ : « سألت النبيّ صلی اللّه علیه و آله » ، قال الدارقطني : حدّثنا أبو ذرّ أحمد بن محمّد بن أبي بكر الواسطي ، حدّثنا محمّد بن علي بن خلف العطّار ، حدّثنا حسين الأشقر ، حدّثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس : « سألت
ص: 413
النبيّ ... » (1) الحديث.
وزعم ابن الجوزي في ( الأحاديث الموضوعة ) أنّه موضوع ، قال : « تفرّد به عمرو ، عن أبيه أبي المقدام ؛ وتفرّد به حسين ، عنه ..
وعمرو : قال يحيى [ بن معين ] : لا (2) ثقة ، ولا مأمون.
وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الأثبات » (3).
وفيه : إنّ التفرّد لو تمّ لا يقتضي الوضع ، ولا سيّما في فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله الّذين يخشى من يروي لهم فضيلة أسنّة الضلال ، وألسنة الضلّال ، بل روايته في فضائلهم بتلك العصور تشهد بوثاقته ، كما سبق في المقدّمة (4).
وأمّا ما حكاه عن يحيى ، فلو اعتبرناه فهو معارض بما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال » أنّه قال : لا يكذب في حديثه (5).
على أنّ ضعف الراوي لا يقتضي وضع روايته!
وأمّا ابن حبّان ، فمع عدم اعتبار قوله - كما عرفته في مقدّمة الكتاب (6) - ، لا يقتضي كلامه وضع هذا الحديث بعينه ، مع أنّه قد شهد لعمرو ، أبو داود بالصدق في الحديث ، قال : ليس في حديثه نكارة.
وقال : هو رافضي خبيث ، وكان رجل سوء ، ولكنّه صدوقا في الحديث.
ص: 414
وقال أيضا : رافضي خبيث ، ولكن ليس يشبه حديثه أحاديث الشيعة - يعني أنّه مستقيم [ الحديث ] -.
كما ذكر ذلك كلّه ابن حجر في « تهذيب التهذيب » ، وذكر بعضه في « ميزان الاعتدال » (1).
وبالجملة : إنّ الرجل صدوق كما قاله أبو داود ، فلا يصحّ نسبة الوضع إليه ، وإنّما طعن به القوم لتشيّعه.
ويعضد هذا الحديث ما نقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن الديلمي في « مسند الفردوس » ، بسند أخرجه عن عليّ ، قال : سألت النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن قول اللّه تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) (2).
فقال : إنّ اللّه أهبط آدم بالهند ... إلى أن قال : حتّى بعث اللّه إليه جبرئيل ، قال : قل :
اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد ، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي ، فاغفر لي ، إنّك أنت الغفور الرحيم.
اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد ، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي ، فتب عليّ ، إنّك أنت التوّاب الرحيم.
فهذه الكلمات التي تلقّى آدم » (3).
ص: 415
وأمّا دلالة هذه الآية مع تفسيرها بهذه الأخبار على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فأوضح من أن تحتاج إلى بيان ؛ لأنّ توسّل شيخ النبيّين بمحمّد وآله - بتعليم اللّه سبحانه - وهم في آخر الزمان ، والإعراض عن أعاظم المرسلين وهم أقرب إليه زمانا ، لأدلّ دليل على فضلهم على جميع العالمين ، وعلى عصمتهم من كلّ زلل وإن كان مكروها.
فإنّ آدم إنّما عصى بارتكاب المكروه ، فلا يصحّ التوسّل بهم في التوبة عمّا ارتكب إلّا لأنّهم لم يرتكبوا معصية ومكروها ، فلا بدّ أن تنحصر خلافة الرسول بآله ؛ لفضلهم على الأنبياء ، وعصمتهم دون سائر أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله .
وكيف يكون المعصوم من كلّ زلّة الفاضل حتّى على أعاظم الأنبياء رعيّة ومأموما لسائر الناس ، ولا سيّما من أفنى أكثر عمره بالشرك ، وعبادة الأوثان ، وقضى باقيه بالفرار من الزحف ، والعصيان؟!
* * *
ص: 416
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :
الثامنة : قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انتهت الدعوة إليّ ، وإلى عليّ ، لم يسجد أحدنا لصنم قطّ ، فاتّخذني [ اللّه ] نبيّا ، واتّخذ عليّا وصيّا »(3).
* * *
ص: 417
وقال الفضل (1) :
هذه الرواية ليست في كتب أهل السنّة والجماعة ، ولا أحد من المفسّرين ذكر هذا.
وإن صحّ ، دلّ على أنّ عليّا وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والمراد بالوصاية : ميراث العلم والحكمة ، وليست هي نصّا في الإمامة كما ادّعاه.
* * *
ص: 418
قد نقل المصنّف رحمه اللّه هذه الرواية في « منهاج الكرامة » عن ابن المغازلي ، ولم ينكرها ابن تيميّة ، ولكنّه طالب بصحّتها (1).
وفيه : إنّه لا ريب بصحّتها ؛ لأنّ كلّ من يروي في ذلك الزمان فضيلة لآل محمّد فقد أوقع نفسه في خطري : الموت ، وسقوط الشأن ، ولا موجب له إلّا الوثاقة وحبّ الصدق بتلك الرواية ، كما عرفته في مقدّمة الكتاب (2).
على أنّ سند الحديث ليس بأيدينا فعلا ، ولعلّه صحيح عندهم.
وأمّا دلالة الآية بضميمة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فلأنّ الحديث قد دلّ على استجابة دعوة إبراهيم في بعض ذرّيّته ، وصيرورتهم أئمّة للناس لكونهم أنبياء أو أوصياء ..
ودلّ على أنّ الدعوة انتهت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، فكانت إمامة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باتّخاذ اللّه له نبيّا ، وإمامة عليّ باتّخاذه وصيّا ، فوصايته لا بدّ أن تكون بإمامته للناس ومن أنواعها.
ولو سلّم أنّ المراد بالوصاية وراثة العلم والحكمة ، فهي من خواصّ الأئمّة ؛ لقوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ
ص: 419
لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).
ثمّ إنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « لم يسجد أحدنا لصنم قطّ » إشارة إلى انتفاء مانع النبوّة والإمامة عنهما ، أعني : المعصية والظلم المذكور في تلك الآية بقوله سبحانه : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2).
فيكون معنى كلامه صلی اللّه علیه و آله : انتهت إليّ وإلى عليّ دعوة إبراهيم لذرّيّته ؛ لا نتفاء الظلم عنّا الذي جعله اللّه مانعا عن نيل الإمامة ، فاتّخذني نبيّا وعليّا وصيّا.
وإنّما خصّ السجود للصنم بالذكر دون سائر الظلم والمعصية ؛ لأنّه الفرد الأهمّ في الانتفاء ، وابتلاء عامّة قومه به.
فالمقصود إنّما هو بيان انتفاء المانع المذكور في الآية عنهما ، لا بيان أنّ عدم السجود للصنم علّة تامّة لانتهاء الدعوة إليهما ، حتّى تلزم إمامة كلّ من لم يسجد لصنم ، وإن كان جاهلا عاصيا ..
ولا بيان كون عدم السجود للصنم فضيلة مختصّة بهما في دائم الدهر ، حتّى يقال بمشاركة كلّ من ولد على الإسلام لهما.
ولا بيان أنّ عدم السجود للصنم سبب تامّ للأفضلية ، حتّى يقال : إنّ بعض من تاب عن الكفر أفضل ممّن ولد على الإسلام.
ثمّ إنّ المراد بانتهاء الدعوة إليهما : وصولها إليهما ، لا انقطاعها عندهما ؛ لتعديته ب « إلى » ، فلا ينفي إمامة الحسن والحسين ، والتسعة من بعدهما ، وقد ظهر بذلك بطلان ما لفّقه ابن تيميّة في المقام (3) ، ويظهر منه
ص: 420
تجويز نبوّة من كان كافرا ، بل وقوعها ، فإنّه لمّا أنكر كون عدم السجود للصنم موجبا للفضل على من كان كافرا ثمّ تاب ، استدلّ عليه بأنّ لوطا آمن لإبراهيم ثمّ بعثه اللّه نبيّا ، وأنّ شعيبا قال : ( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْها ) (1) ، وأنّ اللّه سبحانه قال : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) (2).
وإذا كان هؤلاء أنبياء ، فمن المعلوم أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم ، فلا يكون عدم السجود للأصنام موجبا للأفضليّة (3).
وفيه : إنّ إيمان لوط لإبراهيم لا يستدعي سبق الكفر منه - وحاشاه - ؛ لاحتمال ولادته بعد نبوّة إبراهيم ، أو أنّه كان متديّنا بشريعة سابقة ، وآمن به في أوّل نبوّته.
وأمّا إطلاق العود في الآيتين الأخيرتين ، فمن باب التغليب بلحاظ أتباعهم.
ثمّ إنّ مقتضى استدلال ابن تيميّة بالآية الأخيرة ؛ كون الرسل كلّهم أو أكثرهم - بزعمه - كانوا كفّارا ، وهو خلاف ضرورة الإسلام والمسلمين!
وما الداعي له إلى هذا الضلال إلّا إنكار فضل أمير المؤمنين على أقوام أفنوا أكثر أعمارهم في الكفر ، ولمزيد نصبه أنكر عدم سجود أخ النبيّ صلی اللّه علیه و آله للأصنام قبل إسلامه (4) ، خلافا لإجماع المسلمين! حتّى إنّ
ص: 421
قومه السنّيّين إذا ذكروا عليّا علیه السلام قالوا : « كرّم اللّه وجهه » إشارة إلى عدم سجوده للأصنام أصلا.
ولم يزل يتمحّل لإنكار فضل وليّ المؤمنين تلك التمحّلات ، ويتقلّب بهاتيك الجهالات ، فاللّه حسيبه ، والنبيّ شاهده ، وعليّ خصمه.
* * *
ص: 422
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
التاسعة : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في أمير المؤمنين عليّ علیه السلام ؛ قال : الودّ : المحبّة في قلوب المؤمنين (3).
* * *
ص: 423
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج الطبراني وابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) ، قال : محبّة في قلوب المؤمنين (1).
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه والديلمي ، عن البراء ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : قل : اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي عندك ودّا ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة.
فأنزل اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) ، قال : نزلت في عليّ » (2).
وروي مثل الأخير في « الكشّاف » (3).
ونقله سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » عن « تفسير الثعلبي » (4).
وكذا نقله عنه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » مع الحديث الأوّل عن أبي نعيم (5).
ص: 425
وقال في « الصواعق » ، في المقصد الثاني من المقاصد المتعلّقة بالآية الرابعة عشرة من الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام : « أخرج الحافظ السلفي ، عن محمّد بن الحنفية ، أنّه قال في تفسير هذه الآية : لا يبقى مؤمن إلّا وفي قلبه ودّ لعليّ وأهل بيته » (1).
والظاهر أنّ ما رواه في « الكشّاف » مذكور في « تفسير الرازي » ، كما نقله السيّد السعيد عنه (2) ، فإنّ عمدة ما ذكره الرازي هنا مأخوذ من « الكشّاف » ، لكنّ نسخة « تفسير الرازي » التي رأيتها خالية عن تلك الرواية ، فلا يبعد أنّ فيها سقطا.
وأمّا دلالة الآية على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام دون غيره ، فمحتاجة إلى بيان معناها أوّلا ..
قال في « الكشّاف » : « المعنى : سيحدث لهم في القلوب مودّة ، ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ، ولا تعرّض للأسباب التي توجب الودّ ويكتسب بها الناس مودّات القلوب ، من قرابة ، أو صداقة ، أو اصطناع بمبرّة ، أو غير ذلك .. وإنّما هو اختراع منه ابتداء ، اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصّة ، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب [ والهيبة ] إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم » (3).
ومثله في « تفسير الرازي » (4).
ولا يخفى أنّ هذه العناية الإلهية ، والبشارة الربّانية التي استحقّت
ص: 426
الذكر في الكتاب المجيد ، ناشئة من أهليّة من به العناية ، وامتيازه بالقرب إلى اللّه تعالى ، وارتقائه على كلّ المؤمنين بالفضل والطاعة ، وهي مختصّة بأمير المؤمنين ؛ ولذا نزلت الآية به دون غيره من الصحابة.
فيكون أفضل الأمّة وإمامها بشهادة تعظيم اللّه سبحانه له ، حيث عبّر عنه : ب ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) ، كناية عن أنّه بمنزلتهم جميعا في الإيمان والعمل الصالح ، لكونه إمامهم ، وسبب إيمانهم وعملهم الصالحات ؛ ولذا قال رسول اللّه في حقّه يوم الخندق : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » (1) .. وقال : « ضربة عليّ تعدل عبادة الثقلين » (2).
ثمّ إنّه بمقتضى رواية « الصواعق » (3) تكون العناية ثابتة أيضا لأبناء أمير المؤمنين الطاهرين ، فتثبت لهم الإمامة أيضا.
وأمّا ما ذكر الفضل من دلالة الآية على وجوب محبّته علیه السلام ، فخلاف الظاهر ؛ لأنّ المراد بالجعل فيها على الأظهر هو التكوين لا التكليف كما عرفته من كلام « الكشّاف » (4).
ولو سلّم ، فهو أيضا دالّ على الإمامة ؛ لأنّ إيجاب المودّة على الإطلاق مستلزم لوجوب الطاعة مطلقا ، المستلزم للإمامة وللعصمة التي هي شرط الإمامة ، فإذا فقد هذا الشرط عن غيره بالإجماع والضرورة تعيّنت إمامته علیه السلام .
ص: 427
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
العاشرة : قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (2).
نقل الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا المنذر ، وعليّ الهادي ، وبك يا عليّ يهتدي المهتدون [ من بعدي ] » (3).
* * *
ص: 428
نقل الحديث المذكور بعينه في « كنز العمّال » بفضائل عليّ علیه السلام (1) ، عن الديلمي في كتاب « الفردوس » (2).
ونقله عنه أيضا المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » (3).
وذكر السيوطي في « الدرّ المنثور » أخبارا أربعة في نزولها بعليّ علیه السلام (4) :
الأوّل : ما أخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في « المعرفة » ، والديلمي ، وابن عساكر ، وابن النجّار ، عن ابن عبّاس ، قال : « لمّا نزلت : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، وضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده على صدره فقال : « أنا المنذر » ، وأومأ بيده إلى عليّ علیه السلام فقال : « أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدي المهتدون من بعدي » (5).
ولعلّه هو حديث الديلمي السابق.
الثاني : ما أخرجه ابن مردويه ، عن أبي برزة الأسلمي : « سمعت رسول اللّه يقول : « إنّما أنت منذر » ووضع يده على صدره ، ثمّ وضعها
ص: 430
على صدر عليّ وهو يقول : ( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (1).
الثالث : ما أخرجه ابن مردويه ، والضياء في « المختارة » ، عن ابن عبّاس ، قال : « رسول اللّه المنذر ، وعليّ بن أبي طالب الهادي » (2).
الرابع : ما أخرجه عبد اللّه بن أحمد في « زوائد المسند » ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في « الأوسط » ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، في قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، قال : « رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنذر ، وأنا الهادي » (3).
قال السيوطي : وفي لفظ : « والهادي رجل من بني هاشم » ، يعني نفسه (4).
وقد ذكر الحاكم هذا الحديث في « المستدرك » (5) ، وقال : « صحيح الإسناد » ؛ وما تعقّبه الذهبي إلّا ببهت النصب وتحكّم الضلالة ، فقال : « بل كذب ، قبّح اللّه واضعه ».
وقد نقل جماعة هذا الحديث باللفظ الثاني عن الثعلبي مع أوّل الأحاديث التي ذكرها السيوطي ، منهم صاحب « ينابيع المودّة » ، وهو أيضا نقل الحديث الأخير باللفظ الثاني عن الحمويني ، قال : « أخرجه بسنده عن أبي هريرة » (6).
ونقل أيضا خبرا آخر عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني ، بسنده عن
ص: 431
بريدة الأسلمي ، قال : دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بماء للطهور ، فأخذ بيد عليّ - بعد ما تطهّر - فألصق يده بصدره ، فقال : « أنا المنذر » ، ثمّ ردّ يده إلى صدر عليّ ، فقال : أنت ( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) .
ثمّ قال له : « أنت منادي (1) الأنام ، وغاية الهدى ، وأمير الغرّ المحجّلين ، أشهد لك إنّك كذلك » (2).
ثمّ قال في « الينابيع » : « المالكي أيضا أخرجه عن ابن عبّاس » (3).
ويعني بالمالكي : علي بن أحمد ، صاحب « الفصول المهمّة » ، ونقل أيضا أخبارا كثيرة من هذا النحو (4).
ونقل الرازي في تفسيره الخبر الأوّل من أخبار السيوطي ، وذكر في الآية أقوالا ثلاثة ، ثالثها ما دلّ عليه هذا الخبر (5).
ولا ريب أنّه المتّبع ؛ لأنّه تفسير بالرواية عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والقولان الأوّلان تفسير بالرأي ، ولو فرض ورود رواية بهما فلا تكون حجّة علينا ، ولا تعارض تلك الروايات ؛ لاتّفاق الفريقين عليها ، فقول الفضل : « ليس هذا في تفاسير السنّة » كما ترى!
وقد ذكر السيّد السعيد رحمه اللّه ، أنّ ابن عقدة صنّف كتابا في هذه الآية وروايات نزولها في شأن أمير المؤمنين علیه السلام (6).
ص: 432
وأمّا دلالتها على إمامته دون غيره فأوضح من أن تحتاج إلى بيان ؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى جعله في قرن النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّ له الإنذار ولعليّ الهداية ، أي إراءة الطريق ، وعمّم هدايته لكلّ قوم ، وذلك من آثار الإمامة ، لا سيّما وقد قال له رسول اللّه : « وبك يهتدي المهتدون من بعدي » (1)
فإنّه بمقتضى تقديم الجار والمجرور دالّ على حصر الهداية به بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، مع أنّه قد أثنى عليه في رواية الحسكاني بما يناسب الإمامة (2).
وممّا بيّنّا يعلم ما في قول الفضل : « دلّ على أنّ عليّا هاد » ، مريدا به عدم دلالة الآية والرواية على اختصاص الهداية به.
وأمّا ما رواه من حديث « أصحابي كالنجوم » ، فهو باطل متنا وسندا (3) ..
أمّا الأوّل : فلأنّ عمومه لكلّ أصحابه مخالف للضرورة ؛ لأنّ أكثرهم من الجاهلين ..
وكثيرا منهم من المرتدّين بعده كما دلّت عليه أخبار الحوض ، بل بعضها دالّ على ارتداد الكلّ إلّا مثل همل النعم (4) ..
ص: 433
كما أنّ بعضهم من المنافقين في وقته ، قال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (1) ..
وبعضهم من القاسطين والناكثين والمارقين (2) ..
وبعضهم من الزنّائين ، والفاسقين ، كالمغيرة والوليد وأشباههما (3).
فكيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « بأيّهم اقتديتم اهتديتم »؟! وهو يقتضي العصمة ، ولا أقلّ من العدالة ، ويقتضي العلم والإحاطة بما جاء به الرسول وأكثرهم من الجاهلين!
فلا بدّ أن يكون المراد بالأصحاب في الحديث - على فرض صحّته - ثقل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسفينة النجاة ، وهم آله كما فسّر بهم علیهم السلام (4).
وأمّا الثاني : فلما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن شارح « الشفاء » للقاضي عياض ، أنّه قال : « اعلم أنّ حديث : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ) أخرجه الدارقطني في ( الفضائل ) وابن عبد البرّ في ( العلم ) ، من طريق من حديث جابر ، وهذا إسناد لا يقوم به حجّة ؛ لأنّ الحارث بن
ص: 434
غضين : مجهول.
ورواه عبد بن حميد في مسنده ، من رواية عبد الرحيم بن زيد ، عن أبيه ، عن [ ابن ] المسيّب ، عن [ ابن ] عمر ؛ قال البزّار : منكر لا يصحّ.
ورواه ابن عديّ في ( الكامل ) ، من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي ، عن نافع عن [ ابن ] عمر بلفظ : ( بأيّهم أخذتم بقوله ) بدل ( اقتديتم ) ، وإسناده ضعيف لأجل حمزة ؛ لأنّه متّهم بالكذب.
ورواه البيهقي في ( المدخل ) ، من حديث ابن عبّاس ، وقال : متنه مشهور ، وأسانيده ضعيفة لم يثبت منها في هذا الباب إسناد.
وقال ابن حزم : مكذوب موضوع باطل ».
انتهى كلام شارح « الشفاء » (1).
* * *
ص: 435
ص: 436
مباحث النبوة
نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله
المسألة الرابعة : في النّبوّة... 7
المبحث الأوّل : في نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ... 7
ردّ الفضل بن روزبهان:... 10
ردّ الشيخ المظفّر... 13
عصمة الأنبياء
المبحث الثاني : في أنّ الأنبياء معصومون... 17
ردّ الفضل بن روزبهان:... 20
ردّ الشيخ المظفّر... 28
كلام العلامة الحلي في نسبتهم السهو إلى النبي 6 في الصلاة... 50
ردّ الفضل بن روزبهان :... 51
ردّ الشيخ المظفّر... 53
كلام العلامة الحلي في نسبتهم كثيراً من النقص إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 64
ردّ الفضل بن روزبهان:... 66
ردّ الشيخ المظفّر... 68
كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من تجويز الغناء إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 74
ردّ الفضل بن روزبهان:... 76
ردّ الشيخ المظفّر... 78
ص: 437
كلام العلامة الحلي في ما قالوه موسى علیه السلام فقأ عين ملك الموت... 88
ردّ الفضل بن روزبهان :... 89
ردّ الشيخ المظفّر... 90
كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من الكذب إلى إبراهيم علیه السلام ... 97
ردّ الفضل بن روزبهان :... 98
ردّ الشيخ المظفّر... 99
كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من الشك إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 103
ردّ الفضل بن روزبهان :... 104
ردّ الشيخ المظفّر... 106
كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من استماع اللّهو إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 111
ردّ الفضل بن روزبهان :... 112
ردّ الشيخ المظفّر... 113
كلام العلامة الحلي في نسبتهم السهو والنسيان إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 116
ردّ الفضل بن روزبهان :... 118
ردّ الشيخ المظفّر... 119
كلام العلامة الحلي في أكل النبي صلی اللّه علیه و آله مما لم يذكر اسم اللّه عليه... 128
ردّ الفضل بن روزبهان :... 129
ردّ الشيخ المظفّر... 130
كلام العلامة الحي في نسبتهم البول قائماً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 131
ردّ الفضل بن روزبهان :... 132
ردّ الشيخ المظفّر... 133
من الأحاديث الموضوعة
في توهين الأنبياء والخالق
1 - حديث بدء الوحي... 137
2 - حديث تأبير النخل... 142
ص: 438
3 - حديث إسقاط النبيّ صلی اللّه علیه و آله آيات من القرآن ... 144
4 - حديث نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح ... 145
5 - حديث ترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة العصر... 146
6 - حديث إذا لعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحدا فهو له زكاة... 148
7 - حديث نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله عذاب القبر... 152
8 - حديث حبّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعائشة... 153
9 - حديث فرار الحجر من النبيّ موسى علیه السلام ... 159
10 - حديث طواف النبيّ سليمان علیه السلام بمئة امرأة في ليلة واحدة... 161
11 - حديث حرق نبيّ قرية للنمل قرية للنمل... 162
12 - حديث وضع الربّ رجله في جهنّم... 163
13 - حديث خلق اللّه آدم على صورته... 166
لزوم المحالات
من إنكار عصمة الأنبياء علیه السلام
منها : جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها... 171
ردّ الفضل بن روزبهان :... 172
ردّ الشيخ المظفّر... 173
منها : وجوب متابعة العاصي وأنتفاء فائدة البعثة... 175
ردّ الفضل بن روزبهان :... 176
ردّ الشيخ المظفّر... 177
منها : إنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبري منه... 179
ردّ الفضل بن روزبهان :... 180
ردّ الشيخ المظفّر... 181
منها : سقوط محله ورتبته عند العوامّ... 182
ردّ الفضل بن روزبهان :... 184
ردّ الشيخ المظفّر... 185
ص: 439
نزاهة النبيّ
عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات
المبحث الثالث : وجوب كون النبي منزَّهاً عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات 189
قول الإمامية والأشاعرة... 189
ردّ الفضل بن روزبهان :... 191
ردّ الشيخ المظفّر... 192
قول المعتزلة... 196
ردّ الفضل بن روزبهان :... 198
ردّ الشيخ المظفّر... 199
مباحث الإمامة
المسألة الخامسة : في الإمامة... 205
وجوب عصمة الإمام
المبحث الأوّل : وجوب عصمة الإمام... 205
ردّ الفضل بن روزبهان :... 208
ردّ الشيخ المظفّر... 211
الإمام أفضل من رعيّته
المبحث الثاني : في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته... 233
ردّ الفضل بن روزبهان :... 235
ردّ الشيخ المظفّر... 237
طريق تعيين الإمام
المبحث الثالث : في طريق تعيين الإمام... 241
ص: 440
ردّ الفضل بن روزبهان :... 244
ردّ الشيخ المظفّر... 248
تعيين إمامة عليّ علیه السلام بدليل العقل
المبحث الرابع : في تعيين الإمام... 271
ردّ الفضل بن روزبهان :... 273
ردّ الشيخ المظفّر... 277
تعيين إمامة عليّ علیه السلام بالقرآن... 297
1 - آية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... )... 297
ردّ الفضل بن روزبهان :... 299
ردّ الشيخ المظفّر... 300
2 - آية : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... )... 314
ردّ الفضل بن روزبهان :... 315
ردّ الشيخ المظفّر... 317
3 - آية التطهير... 351
ردّ الفضل بن روزبهان :... 354
ردّ الشيخ المظفّر... 356
4 - آية المودّة في القربى... 381
ردّ الفضل بن روزبهان :... 382
ردّ الشيخ المظفّر... 383
5 - آية : ( مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ... )... 393
ردّ الفضل بن روزبهان :... 395
ردّ الشيخ المظفّر... 396
6 - آية المباهلة... 399
ردّ الفضل بن روزبهان :... 401
ص: 441
ردّ الشيخ المظفّر... 402
7 - آية : ( فَتَلَقَّى آدَمُ ... )... 411
ردّ الفضل بن روزبهان :... 412
ردّ الشيخ المظفّر... 413
8 - آية : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )... 417
ردّ الفضل بن روزبهان :... 418
ردّ الشيخ المظفّر... 419
9 - آية : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا )... 423
ردّ الفضل بن روزبهان :... 424
ردّ الشيخ المظفّر... 425
10 - آية : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ )... 428
ردّ الفضل بن روزبهان :... 429
ردّ الشيخ المظفّر... 430
فهرس المحتويات... 437
* * *
ص: 442
المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1425 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-358-6
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الخامس
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من رواية أهل السنّة ، ولو صحّ دلّ على أنّه من أولياء اللّه تعالى ، فالوليّ : هو المحبّ المطيع ، وليس هو بنصّ في الإمامة.
* * *
ص: 6
قال ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الرابعة من الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام : « أخرج الديلمي ، عن أبي سعيد ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ؛ عن ولاية عليّ.
وكأنّ هذا مراد الواحدي بقوله : روي في قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) أي عن ولاية عليّ وأهل البيت علیهم السلام » (1).
ونقل المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » حديث الديلمي ، وحديثا آخر مثله عن أبي نعيم بسنده عن ابن عبّاس (2).
ونقلهما معا في « ينابيع المودّة » (3).
ونقل أيضا في « الينابيع » ، عن « المناقب » ، عن ثمامة بن عبد اللّه بن أنس ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنّم ، لم يجز عليه إلّا من كان معه جواز فيه ولاية عليّ بن أبي طالب ، وذلك قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) عن ولاية عليّ » (4).
وفي « الينابيع » أيضا ، عن الحمويني ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « إذا نصب الصراط على جهنّم ، لم يجز عنه أحد إلّا
ص: 7
من كانت معه براءة بولاية عليّ بن أبي طالب » (1) ..
وفيها نحوه أيضا ، عن موفّق بن أحمد ، عن ابن مسعود ، من طريقين ، وعن ابن عبّاس من طريق ..
وأيضا عن ابن المغازلي ، عن ابن عبّاس ، من طريقين ..
وعن أبي سعيد ، من طريق ..
وعن أنس ، من طريق (2).
ويؤيّد هذه الأخبار ما في « ميزان الاعتدال » بترجمة إبراهيم بن عبد اللّه الصاعدي ، قال : « روى عن ذي النون ، عن مالك ، خبرا باطلا ومتنه : إذا نصب الصراط لم يجز أحد إلّا من كانت معه براءة بولاية عليّ ».
ثمّ قال : « ذكره ابن الجوزي في ( الموضوعات ) ، وقال : إبراهيم متروك الحديث » (3).
ولا سبب للحكم بوضعه وبطلانه ، إلّا التعصّب والاستبعاد ، وكيف يستبعد ذلك في حقّ أخ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، وثقله في أمّته؟!
وذكر السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » هذا الحديث نقلا عن الحاكم بسنده عن عليّ علیه السلام ، وذكر كلام ابن الجوزي والذهبي ، وتعقّبهما بأنّ للحديث طريقا آخر ذكره أبو عليّ الحدّاد (4)
ص: 8
الطريق (1).
وحينئذ فلا بدّ للمنصف من الحكم بصدق مضمون الحديث ، بل تواتره ، ولا سيّما بضميمة أخبارنا (2) واقتضاء فضل أمير المؤمنين علیه السلام لمثله.
وكيف كان ؛ فهذه الآية - على ذلك المعنى - دالّة على إمامة عليّ علیه السلام ؛ لأنّ الإمامة أوّل ما يسأل عنه بعد الوحدانية والرسالة ، وأحقّ ما يحتاج إلى معرفته في الجواز على الصراط ؛ لأنّ من لا يعرف إمامة إمامه مات ميتة جاهلية ، كما سبق (3) ، بخلاف سائر الواجبات ، فإنّ من لا يقوم بها لا يخرج عن الدين ، إذ ليست من أصوله ، ولذلك جاءت الآية الكريمة في أثناء ذكر الكافرين.
وممّا بيّنّا يعلم ما في قول الفضل : « ولو صحّ دلّ على أنّه من أولياء اللّه تعالى ».
ص: 9
وأيّ عاقل يفهم هذا المعنى من تلك الرواية؟!
ولو سلّم ، فالسؤال عن ولايته علیه السلام بهذا المعنى دون سائر الأولياء دليل على تميّزه عليهم بالفضل ، والقرب إلى اللّه عزّ وجلّ ، وهو يستدعي الإمامة.
ويبعد أيضا أن يراد بالولاية في الأخبار : الحبّ ، وإن كان حبّه واجبا وأجرا للرسالة ، اللّهمّ إلّا بلحاظ الملازمة بين الحبّ الخالص له والإقرار بإمامته ، إذ لا ينكرها بعد وضوح أمرها إلّا من يميل عنه.
مع أنّ السؤال عن حبّه ، وتوقّف الجواز على الصراط على ودّه ، دليل على أنّ له - دون سائر الصحابة - منزلة عظمى ومرتبة توجب ذلك ؛ لفضله عليهم ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
وقد نقل في « الينابيع » القول بإرادة الحبّ من الولاية ، عن الحاكم ، والأعمش ، ومحمّد بن إسحاق صاحب كتاب « المغازي » (1).
ويشهد لهم الأخبار الكثيرة الدالّة على السؤال عن حبّ أهل البيت علیهم السلام (2).
منها : ما في « الينابيع » عن الثعلبي وابن المغازلي ، بسنديهما عن ابن عبّاس (3) ..
ص: 10
وعن الترمذي (1) وموفّق بن أحمد (2) ، بسنديهما عن أبي برزة الأسلمي ..
وعن موفّق أيضا ، بسنده عن أبي هريرة (3) ..
وعن الحاكم ، بسنده عن أبي سعيد (4) ..
وعن الحمويني ، بسنده عن عليّ أمير المؤمنين علیه السلام (5) ..
وعن « المناقب » ، بسنده عن الباقر علیه السلام (6) ..
قالوا : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : لا تزول قدم عبد عن قدم حتّى يسأل عن عمره ، فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ - وفي رواية : « وعن شبابه » بدل « جسده » - ، وعن ماله ممّا اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وعن حبّنا أهل البيت ».
وكلّ الروايات بهذا اللفظ أو بهذا المضمون ، إلى كثير من الأخبار التي يطول ذكرها ، وسبق بعضها في آية القربى (7).
ص: 11
وليت شعري أكان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان أئمّة لأمير المؤمنين وهم لا يجوزون الصراط إلّا ويسألون عن ولايته ، ولا يمرّون عليه إلّا ببراءة منه وسند منه؟!
ما هذا إلّا عجب!!
* * *
ص: 12
وقال الفضل (1) :
ليس في تفسير أهل السنّة ، وإن صحّ دلّ على فضيلته لا نصّ على إمامته.
* * *
ص: 14
ذكره السيوطي في تفسيره « الدرّ المنثور » ، ونقله عن ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد (1).
ونقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن أبي سعيد أيضا (2).
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، قال : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلّا ببغضهم عليّ بن أبي طالب (3).
أقول :
وروى الترمذي في فضائل عليّ علیه السلام ، عن أبي سعيد ، قال : « إنّا كنّا لنعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار - ببغضهم عليّ بن أبي طالب » (4).
وروى أيضا ، عن أمّ سلمة ، قالت : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « لا يحبّ عليّا منافق ، ولا يبغضه مؤمن » (5).
ص: 15
وروى مسلم ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، [ إنّه ] لعهد النبيّ الأمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق » (1).
ونحوه في « سنن النسائي » ، في علامة الإيمان من كتاب الإيمان (2).
ورواه بسند آخر في علامة النفاق (3).
وأيضا نحوه في « سنن الترمذي » ، في فضائل عليّ علیه السلام (4).
وكذا في « كنز العمّال » في فضائل عليّ (5) ، عن الحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، والعدني ، وابن ماجة ، وابن حبّان ، وأبي نعيم في « الحلية » ، وابن أبي عاصم في « السنّة » (6).
ص: 16
وروى الحاكم في « المستدرك » ، في مناقب أمير المؤمنين علیه السلام (1) ، عن أبي ذرّ ، قال : « ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه ورسوله ، والتخلّف عن الصلوات ، والبغض لعليّ بن أبي طالب ».
ثمّ قال : « هذا حديث صحيح على شرط مسلم ».
ونقله في « كنز العمّال » في فضائل عليّ ، عن الخطيب في « المتّفق » (2).
ونقل ابن حجر في « الصواعق » ، في المقصد الثالث من المقاصد المتعلّقة بآية القربى ، عن أحمد والترمذي ، عن جابر : « ما كنّا نعرف المنافقين إلّا ببغضهم عليّا »(3).
والحصر في هذا الحديث ونحوه بلحاظ أنّ المنافق يتستّر بجميع علائم النفاق إلّا ببغض عليّ علیه السلام ؛ لكثرة مبغضيه ، حتّى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يعرفه منهم بلحن القول ، مع علمهم بحبّه له وشدّة اختصاصه به ، ولذا لمّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجدوا الفرصة ، فاتّفق عليه أكثر قريش وكثير من الأنصار.
وهذه الأحاديث وإن لم تذكر نزول الآية ، لكنّها تؤيّد رواية أبي سعيد التي أشار إليها المصنّف (4) ، ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ظاهرة ؛
ص: 17
لأنّ من كان حبّه إيمانا ، وبغضه نفاقا وكفرا ، لا بدّ أن يكون متّصفا بأصل من أصول الدين الذي يشترط في الإيمان الإقرار به ، إذ ليس المدار في الإيمان والنفاق على ذات الحبّ والبغض ، بل على ما يلزمهما عادة من الإقرار بخلافته المنصوصة وإنكارها ، فإنّ من أبغضه أنكر إمامته عادة ، فيكون بإظهار الإيمان منافقا ، ومن أحبّه قال بإمامته ، إذ لا داعي له لإنكارها بعد اتّضاح ثبوتها بالكتاب والسنّة.
ولا ينافي المدّعى ما رواه القوم من أنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق (1) ، فإنّه لو صحّ كان مفاده أنّ حبّهم وبغضهم إيمان ونفاق لنصرتهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ الأنصار وصف ، وتعليق الحكم بالوصف مشعر بالحيثية ..
وهذا بخلاف تعليق الحكم بعليّ علیه السلام ، فإنّه ليس لوصف النصرة ، بل لذاته الشريفة ، ويلزمه أنّ المنشأ هو الإمامة لا النصرة ، وإلّا لعاد الأمر إلى الإيمان بالنبيّ وعدمه ، ولم يكن لعليّ دخل ، وهو خلاف ظاهر الحديث.
* * *
ص: 18
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث جاء في رواية أهل السنّة ، ولكن بهذه العبارة : « سبّاق الأمم ثلاثة : مؤمن آل فرعون ، وحبيب ( بن ) (2) النجّار ، وعليّ بن أبي طالب » (3).
ولا شكّ في أنّ عليّا سابق في الإسلام ، وصاحب السابقة والفضائل التي لا تخفى ، ولكن لا تدلّ الآية على نصّ إمامته وذلك المدّعى.
* * *
ص: 20
إذا كان أمير المؤمنين علیه السلام سابق هذه الأمّة ، كان خيرهم وأفضلهم ؛ لأنّ السبق إلى الإسلام أمارة الأعرفية والأفضلية كما يشهد له قوله تعالى : ( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ؛ لإفادته الحصر وأنّه المقرّب دون غيره من الصحابة ، لجعل قرب غيره كلا قرب بالنسبة إليه ، فيكون بينه وبينهم في المعرفة والفضل والتقوى بون (1) شاسع.
ولا ريب أنّ من كان كذلك فهو الإمام ، لا سيّما وهو أفضل السابقين الثلاثة ، كما يدلّ عليه ما ذكره السيوطي في تفسير الآية ..
قال : أخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ، قال : « نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النّجار - الذي ذكر في ( يس ) (2) - ، وعليّ بن أبي طالب ، وكلّ رجل منهم سابق أمّته ، وعليّ أفضلهم سبقا » (3).
وفي رواية أخرى عبّر عنهم بالصدّيقين ، وذكر عليّا وقال : « وهو أفضلهم » ، نقلها السيوطي في تفسير سورة ( يس ) ، عن أبي داود وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر (4) ، كما ستسمعها في الآية الثالثة والعشرين إن
ص: 21
شاء اللّه تعالى.
ولا ينافي ما ذكرنا أنّ حزقيل سابق أمّة موسى ولم يكن إمامهم ؛ وذلك لأنّه مات في حياة موسى ، ولو بقي بعده لكان هو الإمام لا يوشع ، على أنّ الموجود في بعض الأخبار « يوشع » بدل « حزقيل » ، ولعلّه الأصوب ، فيرتفع الإشكال ..
روى السيوطي في المقام ، عن ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، أنّهما أخرجا عن ابن عبّاس في قوله : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ، قال : « يوشع ابن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول اللّه » (1).
وروى السيوطي في تفسير سورة ( يس ) ، عن الطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : « السّبّق ثلاثة ، فالسابق إلى موسى يوشع ابن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمّد عليّ بن أبي طالب » (2).
ص: 22
وحكى المصنّف في « منهاج الكرامة » ، عن ابن المغازلي ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ، قال : « سبق يوشع بن نون إلى موسى وهارون ، وسبق صاحب يس إلى عيسى ، وسبق عليّ إلى محمّد صلی اللّه علیه و آله » (1).
ويحتمل أن يكون يوشع وحزقيل سابقين معا إلى موسى ، وكلّ قسم من الأخبار خصّ واحدا بالذكر لخصوصية ، والإمام هو يوشع لأفضليّته بجهات أخر.
ثمّ إنّ الرواية التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه هنا قد نقلها بعبارتها في « منهاج الكرامة » عن أبي نعيم (2).
هذا ، وروى الزمخشري في تفسير سورة ( يس ) عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين : عليّ ابن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون » (3).
وهي دالّة على فضل آخر لأمير المؤمنين علیه السلام على غيره من الصحابة ، وهو أنّه لم يكفر باللّه طرفة عين ، مع صغر سنّه ونشأته بين عبدة الأصنام ، فيكون أحقّ بالإمامة ممّن عبدها في كثير من عمره لقصور عقله ووفور جهله!
* * *
ص: 23
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابعة عشرة : قوله تعالى : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ )
إلى قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2).
روى الجمهور في « الجمع بين الصحاح الستّة » (3) ، أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب لمّا افتخر طلحة بن شيبة (4) والعبّاس ، فقال طلحة : أنا أولى بالبيت ؛ لأنّ المفتاح بيدي.
وقال العبّاس : أنا أولى ، أنا صاحب السقاية ، والقائم عليها.
فقال عليّ : أنا أوّل الناس إيمانا ، وأكثرهم جهادا (5).
ص: 24
فأنزل اللّه هذه الآية لبيان أفضليّته.
* * *
ص: 25
وقال الفضل (1) :
هذا صحيح من رواية الجمهور من أهل السنّة ، وقد عدّها العلماء في فضائل أمير المؤمنين ، وفضائله أكثر من أن تحصى ، وليس هذا محلّ الخلاف كما مرّ حتّى يقيم عليه الدلائل ، بل الكلام في النصّ على إمامته ، وهذا لا يدلّ عليه.
* * *
ص: 26
دلالة الآية على المطلوب تتمّ بضميمة الرواية ؛ لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام فضّل نفسه عليهما بما يقتضي الفضل على جميع الأمّة ، حيث قال : أنا أوّل الناس إيمانا ، وأكثرهم جهادا (1)
وأقرّه اللّه سبحانه على دعوى الفضل بذلك ، وأنكر على من لا يرى له الفضل به ، فيكون أفضل الأمّة وأولاها بالإمامة.
على أنّ الآيات متضمّنة للبشارة له بالرحمة والرضوان من اللّه تعالى ، والخلود بالجنّة.
وستعرف إن شاء اللّه في الآية الثانية والثلاثين اقتضاء البشارة لشخص بعينه ، وإعلامه بالجنّة ، كونه معصوما أو قريبا منه ، فيكون أولى من الخلفاء الثلاثة بالإمامة.
ثمّ إنّ الرواية المذكورة قد نقلها السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، وعبد الرزّاق ، وابن عساكر ، وأبي نعيم ، وابن جرير ، وأبي الشيخ ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وابن أبي شيبة ، عن ابن عبّاس ، وأنس ، والشعبي ، والحسن ، وابن كعب (2).
ونقله في « ينابيع المودّة » عن النسائي في سننه ، عن محمّد بن
ص: 27
كعب ، ونقله أيضا عن جماعة آخرين (1).
وقال الواحدي في « أسباب النزول » : « قال الحسن والشعبي والقرظي (2) : نزلت الآية في عليّ والعبّاس وطلحة بن شيبة ، وذلك أنّهم افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، بيدي مفتاحه ، وإليّ ثياب بيته.
وقال العبّاس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها.
وقال عليّ : ما أدري ما تقولان؟! لقد صلّيت ستّة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد.
فأنزل اللّه هذه الآية » (3).
ولا إشكال بأنّ نزولها في عليّ والعبّاس وطلحة بقصّة الافتخار بينهم من المشهورات ، فلا حاجة إلى الإطالة.
زاد اللّه فضل سيّد الوصيّين علیه السلام ، فقد أعلن الكتاب المجيد بتفضيله بشتّى الوجوه ، فأين القلوب الواعية؟!
* * *
ص: 28
وقال الفضل (1) :
هذا من روايات أهل السنّة ، وإنّ آية النجوى لم يعمل بها إلّا عليّ ، ولا كلام في أنّ هذا من فضائله التي عجزت الألسن عن الإحاطة بها ، ولكن لا يدلّ على النصّ على إمامته.
* * *
ص: 30
ينبغي أوّلا ذكر بعض الأخبار الواردة من طرق القوم في نزول هذه الآية الكريمة ، تيمّنا بذكر فضله علیه السلام .
روى الحاكم في « المستدرك » (1) ، في تفسير سورة المجادلة ، عن أمير المؤمنين علیه السلام ، قال : إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد ( قبلي ) (2) ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النجوى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ... ) (3) الآية.
قال : كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكنت كلّما ناجيت النبيّ قدّمت بين يدي نجواي درهما ، ثمّ نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... ) (4) الآية
ثمّ قال الحاكم : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرّجاه ».
ولم يتعقّبه الذهبي بشيء.
ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » عن الحاكم أيضا ، وعن سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ،
ص: 31
وابن أبي حاتم ، وابن مردويه (1).
ومثل هذا الحديث باختصار في تفسيري الزمخشري والرازي ، وفي « أسباب النزول » للواحدي ، وعن معالم البغوي ، وتفسير الثعلبي ، والطبري (2).
وقال السيوطي : « أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال : نهوا عن مناجاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى يقدّموا صدقة ، فلم يناجه إلّا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه قد قدّم دينارا فتصدّق به ، ثمّ ناجى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فسأله عن عشر خصال ، ثمّ نزلت الرخصة » (3).
وقال السيوطي (4) أيضا : « قال الكلبي : تصدّق به في عشر كلمات سألهنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (5).
ثمّ نقل عن ابن عمر ما نقله المصنّف رحمه اللّه (6).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى من طرقهم فضلا عن
ص: 32
طرقنا (1).
حتّى إنّ ابن تيميّة مع شدّة نصبه قال في ردّ « منهاج الكرامة » : « ثبت أنّ عليّا تصدّق وناجى ، ثمّ نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره » (2) (3).
ص: 33
ولا يعارض ذلك ما حكاه السيوطي ، عن الطبراني ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : « نزلت ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) ، فقدّمت شعيرة! فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّك لزهيد » ، فنزلت الآية الأخرى : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... ) » (1).
فإنّ خبر سعد إنّما يدلّ على شحّه ، وعدم قيامه بالصدقة المطلوبة ، لا على مناجاته ، لذا نزلت الآية الأخرى بعد قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله له : « إنّك لزهيد » ، فكان ممّن أشفق وتعلّق به اللوم والإنكار.
هذا ، ولا ريب بدلالة الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام دون غيره ممّن يقدر على الصدقة من الصحابة ، كالخلفاء الثلاثة ؛ وذلك لدلالتها على فضله عليهم ، وعلى معصيتهم بما يقتضي عدم صلوحهم للإمامة ، حتّى لو لم نعتبر العصمة في الإمام.
أمّا دلالتها على فضله ، فلمسارعته للطاعة وعدم تساهله في طلب العلم ، بخلاف غيره.
وأمّا على معصية من يقدر على الصدقة ، فلقوله تعالى : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) ، فإنّه إنكار ولوم ، وهو يقتضي المعصية .. وقوله تعالى : ( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ... ) ، فإنّ التوبة تستدعي المعصية .. وقوله تعالى : ( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
ص: 34
صَدَقَةً ) ، فإنّ الأمر بتقديم الصدقة ظاهر في وجوبها ، فتجب المناجاة أيضا ، وإلّا لم يحصل عصيان بترك الصدقة ؛ لأنّ وجوب الصدقة مشروط بالمناجاة ، فإذا تركا معا لم يثبت عصيان ، وهو خلاف ما يقتضيه الإنكار والتوبة ، فلا بدّ من الالتزام بوجوبهما معا وبالعصيان بتركهما.
ومن الواضح أنّ المعصية بترك الصدقة اليسيرة ، ذات المصلحة الكبيرة ، الحاصلة بمناجاة الرسول صلی اللّه علیه و آله لأكبر دليل على البخل والشحّ ، ولذا عبّر سبحانه بالإشفاق ؛ ، والبخيل لا يصلح للإمامة ، لا سيّما بهذا البخل.
وممّا صرّح ببخلهم ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس ، قال : « إنّ اللّه حرّم كلام رسول اللّه إلّا بتقديم الصدقة ، وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه ، وتصدّق عليّ ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره » (1).
وأجيب عن إشكال معصيتهم ، بضيق الوقت ..
وفيه : إنّه لو ضاق ، لم يكن معنىّ للنسخ ، ولا للتوبة والإنكار بالإشفاق ، على أنّ الوقت متّسع ، وهو عشر ليال أو نحوها ، بل الوقت الذي يتّسع لمناجاة أمير المؤمنين - ولو مرّة - وتقديم صدقته ، متّسع لمناجاة غيره معه وتقديم صدقته!
ومن ذلك يظهر كذب ما رووه من بذل أبي بكر لماله الكثير في سبيل اللّه ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « ما نفعني مال مثل ماله » (2).
ص: 35
فإنّ من يشفق أن يتصدّق بالقليل في الفائدة الكثيرة ، لحريّ أن لا يبذل المال الكثير.
وكذا يظهر أنّ عثمان لم يبذل ما بذل في جيش العسرة - كما زعموه - إلّا للسمعة التي لم يكن يحسب أنّها تحصل في صدقة النجوى.
هذا ، وقد ذكر الرازي هنا ما يفيد العجب! قال :
« أقول : على تقدير أنّ أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك ، فهذا لم يجرّ إليهم طعنا ؛ لأنّ ذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير ، فإنّه لا يقدر على فعله (1) [ فيضيق قلبه ] ، ويوحش قلب الغنيّ ، فإنّه لمّا لم يفعل الغنيّ ذلك وفعله غيره ، صار [ ذلك الفعل ] سببا للطعن في من لم يفعل ، فهذا الفعل لمّا كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير (2) مضرّة ؛ لأنّ الذي يكون سببا للألفة أولى ممّا يكون سببا للوحشة » (3).
وفيه :
أوّلا : إنّ هذا يستلزم تخطئة اللّه سبحانه في الإيجاب أو الندب ، وهو كفر.
ص: 36
وثانيا : إنّه يرفع فضل أبي بكر في بذل ماله ، وفضل عثمان في تجهيز جيش العسرة ، وهو خلاف رأي أصحابه.
وثالثا : إنّه يستلزم عذر الغني في ترك الحجّ والزكاة وجميع المطلوبات المالية ؛ لأنّ فعلها يضيق قلب الفقير ويوحش الغني.
ورابعا : إنّه لا ضيق على قلب الفقير ؛ لعلمه بأنّه معذور عند اللّه وعند الناس ، مع دخول فائدة عليه بالصدقة.
وخامسا : إنّ قوله : « لم يكن في تركه كبير مضرّة » إقرار بثبوت أصلها ، وهو مناف لباقي كلامه ، على أنّ إثبات أصلها إثبات للطعن!
ثمّ قال الرازي : « وأيضا : فهذه المناجاة ليست من الواجبات ، ولا من الطاعات المندوبة ، بل قد بيّنّا أنّهم إنّما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ، ولمّا كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن » (1).
وعليه : فالطعن على أمير المؤمنين علیه السلام بفعل المناجاة ؛ لأنّه خلاف الأولى.
وهذا لعمر اللّه هو النصب ، والجور ، والاستهزاء بآيات اللّه ، والتلاعب بكتابه وأحكامه!!
وأيّ مسلم ينكر رجحان المناجاة بعد الصدقة؟! ولم يدّع أحد أنّ الداعي لوجوب الصدقة ترك المناجاة بالكلّيّة!!
على أنّك عرفت دلالة الآية على وجوب المناجاة فضلا عن استحبابها.
ص: 37
وما كنت أحسب أن يبلغ هنا العناد بالرازي حتّى يجعل الفضيلة التي تمنّاها ابن عمر منقصة!
ثمّ قال الرازي : « وأمّا قوله : ( وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ) ، فليس في الآية أنّه تاب عليكم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنّكم إذا كنتم تائبين ، راجعين إلى اللّه سبحانه وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، فقد كفاكم هذا التكليف » (1).
وكأنّه يرى أنّ اللّه تعالى قد أوكل إليه معاني الكتاب العزيز ، وأن يحدث له معاني لا تنطبق على ألفاظه ، فإنّ الجملة الشرطية التي احتملها لا أثر لها في الآية أصلا ، ولا تدلّ عليها بإحدى الدلالات.
وظاهر الآية أو صريحها هو التوبة عليهم من عدم فعلهم للصدقة.
وإنّ المعنى : فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب اللّه عليكم فلا تخلّوا بالواجبات الأخر ، وهي : إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة اللّه ورسوله.
ومن تأمّل في الحقيقة ، وتدبّر في إيجاب عالم الغيب للصدقة على من يعلم أنّهم لم يعملوا مع نسخه عنهم قريبا بعد فعل أمير المؤمنين علیه السلام ، حتّى أنزل بذلك قرآنا يتلى على مرور الأيّام ، وأنكر على المسلمين إشفاقهم وبخلهم ، علم أنّ المقصود كشف أحوال المسلمين وبيان فضل أميرهم عليهم.
* * *
ص: 38
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السادسة عشرة : روى ابن عبد البرّ ، وغيره من السنّة ، في قوله تعالى : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) (2) ، قال :
إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلة أسري به جمع اللّه بينه وبين الأنبياء ، ثمّ قال له : سلهم يا محمّد! على ماذا بعثتم؟
قالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلّا اللّه ، وعلى الإقرار بنبوّتك ، والولاية لعليّ بن أبي طالب (3).
* * *
ص: 39
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من رواية أهل السنّة ، وظاهر الآية آب (2) عن هذا ؛ لأنّ تمام الآية : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ... ) (3).
والمراد : إنّ إجماع الأنبياء واقع على وجوب التوحيد ونفي الشرك.
هذا مفهوم الآية ، وهذا النقل من المناكير ، وإن صحّ فلا يثبت به النصّ الذي هو المدّعى ؛ لما علمت أنّ الولاية تطلق على معان كثيرة.
* * *
ص: 40
نقل المصنّف في « منهاج الكرامة » هذا الحديث عن ابن عبد البرّ ، وعن أبي نعيم (1).
ونقل جماعة نحوه عن الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتاني ملك ، فقال : يا محمّد! واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بعثوا؟
قلت : على ما بعثوا؟
قال : على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب » (2).
وفي « ينابيع المودّة » ، في الباب الخامس عشر (3) ، عن أبي نعيم ، والحمويني ، وموفّق بن أحمد ، بأسانيدهم عن ابن مسعود ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لمّا عرج بي إلى السماء انتهى بي السير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة ، فرأيت بيتا من ياقوت أحمر ، فقال جبرئيل : هذا البيت المعمور ؛ قم يا محمّد فصلّ إليه.
قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : جمع اللّه النبيّين ، فصفّوا ورائي صفّا ، فصلّيت بهم ، فلمّا سلّمت أتاني آت من عند ربّي ، فقال : يا محمّد! ربّك
ص: 41
يقرئك السلام ويقول لك : سل الرسل على ما أرسلتهم من قبلك.
فقلت : معاشر الرسل! على ماذا بعثكم ربّكم قبلي؟
فقالت الرسل : على نبوّتك وولاية عليّ بن أبي طالب ..
وهو قوله : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ... ) (1)الآية.
ثمّ قال في « الينابيع » : رواه أيضا الديلمي ، عن ابن عبّاس (2).
ثمّ قال : عن طلحة بن زيد ، عن جعفر الصادق ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليّ ، قال : « قال رسول اللّه : ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره اللّه تعالى أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته ، وأمرني أن أوص إلى ابن عمّك عليّ ، أثبتّه في الكتب السالفة وكتبت فيها أنّه وصيّك ، وعلى ذلك أخذت مواثيق الخلائق ، وميثاق أنبيائي ورسلي ، وأخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة ، ولك يا محمّد بالنبوّة ، ولعليّ بالولاية والوصيّة » (3).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام واضحة ؛ فإنّ بعث الرسل وأخذ الميثاق عليهم في القديم بولاية عليّ علیه السلام ، وجعلها محلّ الاهتمام العظيم في قرن أصلي الدين : الربوبية ، والنبوّة ، لا يمكن أن يراد بها إلّا إمامة من له الفضل عليهم كفضل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولا سيّما مع عطف الوصية عليها في رواية طلحة ، فلا يضرّ حينئذ إطلاق الولاية على معان
ص: 42
كثيرة بعد هذه القرينة الصريحة في إرادة الإمامة.
فإن قلت : لم تذكر الآية الكريمة النبوّة والإمامة ، بل ولا الإرسال بشهادة أن لا إله إلّا اللّه ، فإنّها قالت : ( أَجَعَلْنا ) ، ولم تقل : أ أرسلناهم بالشهادة.
قلت : السؤال والاستفهام في الآية للتقرير ؛ بمعنى تقرير الرسل عن أمر استقرّ عندهم نفيه ، وهو جعل آلهة من دون الرحمن يعبدون.
لكن لمّا كان المناسب لتقرير الرسل - بما هم رسل - ، هو تقريرهم عمّا أرسلوا به ، كان الظاهر إرادة تقريرهم عن ذلك - بما هم رسل - بنفيه ، وهو راجع إلى الإرسال بالشهادة بالوحدانية ، فصحّ ما أفادته الروايات من أنّ المراد بالآية السؤال عمّا بعث به الرسل من الشهادة بالوحدانية.
ولمّا كان بعثهم بهذا معلوما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ألبتّة ، لم يحسن أن يراد أن يقرّرهم به خاصّة ، بل ينبغي أن يراد تقريرهم به بضميمة ما لا يعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إقرارهم به ؛ لعدم علمه بإرسالهم عليه ، وهو الذي ذكرته الروايات ؛ أعني إرسالهم على نبوّته وإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وإنّما لم تذكره الآية الشريفة ؛ للاكتفاء بذكر الأصل ؛ وهو البعث على الشهادة بالوحدانية.
كما إنّ بعض الروايات المذكورة اكتفت بذكر نبوّة نبيّنا وإمامة وليّنا ؛ لأنّهما الداعي إلى السؤال والتقرير ، مع وضوح بعثهم على الشهادة بالوحدانية ؛ لكونه الأصل ، ولذكر الآية له.
فما أعظم قدر نبيّنا الأطيب ، وأخيه الأطهر ، عند اللّه تبارك وتعالى! حتّى ميّزهما على جميع عباده ، وأكرمهما ببعث الرسل الأكرمين على الإقرار بفضلهما ، ورسالة محمّد ، وإمامة عليّ ، وأخذ الميثاق عليهم بهما
ص: 43
مع الشهادة بالوحدانية ، فحقّ لذرّيّتهما أن يفتخروا بما افتخر الشريف الرضي به ، وهو قول الفرزدق [ من الطويل ] :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع(1)
* * *
ص: 44
لم يدلّ على علمه وفضيلته فقط ، بل على أعلميّته وأفضليّته ؛ لدلالته على أنّ أذن عليّ علیه السلام هي الواعية دون غيرها.
نعم ، للمسلمين التذكرة فقط ، قال تعالى : ( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (1) ، فيكون هو الأحقّ بالإمامة.
وفي بعض الأخبار الآتية : « وحقّ على اللّه أن تعي » ، وهو دالّ على وجوب أن يكون عليّ واعيا ، إشارة إلى وجوب نصب الإمام الواعي على اللّه تعالى ؛ ولذا أمر اللّه سبحانه نبيّه بتعليمه - كما في الأخبار الآتية - فيكون عليّ هو الإمام وغيره مأموما.
وكيف يكون من لا يعي واليا لأمور المسلمين ، وحاكما في أمور الدين ، وواجب الطاعة ، على من له الأذن الواعية؟!
( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2).
ويقرّب إرادة خصوص عليّ من الآية إفراد الأذن وتنكيرها ، فإنّه دالّ على الوحدة.
كما صرّحت بإرادة عليّ علیه السلام الأخبار الكثيرة ، فقد حكى السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن
ص: 47
عساكر ، وابن النجّار ، بأسانيدهم عن بريدة ، قال :
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « إنّ اللّه أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك وتعي ، وحقّ لك أن تعي » (1) ، فنزلت الآية.
ومثله في « أسباب النزول » للواحدي ، إلّا أنّه قال : « وحقّ على اللّه أن تعي » (2).
وعن الثعلبي : « وحقّ على اللّه أن تسمع وتعي » (3).
وفي « كنز العمّال » (4) ، عن ابن عساكر : « وإنّ حقّا على اللّه أن تعي » ونزلت : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) ، قال : أذن عقلت عن اللّه (5).
وحكى السيوطي أيضا ، عن أبي نعيم في « الحلية » ، عن عليّ علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « [ يا عليّ! ] إنّ اللّه أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي » ، فأنزلت هذه الآية : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) ، فأنت أذن واعية لعلمي » (6).
ومثله في « كنز العمّال » (7) ، عن أبي نعيم أيضاً.
ولا ينافي كون المراد بالأذن الواعية ، هي أذن عليّ علیه السلام ، أنّ أذن الحسن والحسين أيضا واعية ؛ وذلك لأنّهما منه وهو منهما ، أو لأنّهما أذن
ص: 48
واعية في رتبة الأخذ من أبيهما ، وهو أذن واعية في رتبة الأخذ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
* * *
ص: 49
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الثامنة عشرة : سورة ( هَلْ أَتى ... ) (2).
روى الجمهور أنّ الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعامّة العرب ، فنذر عليّ صوم ثلاثة أيّام - وكذا أمّهما فاطمة ، وخادمتهم فضّة - لئن برئا.
فبرئا وليس عند آل محمّد قليل ولا كثير ، فاستقرض أمير المؤمنين علیه السلام ثلاثة أصوع (3) من شعير ، وطحنت فاطمة منها صاعا ، فخبزته خمسة أقراص ، لكلّ واحد قرص.
وصلّى عليّ المغرب ، ثمّ أتى المنزل ، فوضع الطعام بين يديه للإفطار ، فأتاهم مسكين وسألهم ، فأعطاه كلّ منهم قوته ، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا.
ثمّ صاموا اليوم الثاني ، فخبزت فاطمة صاعا آخر ، فلمّا قدّمته بين أيديهم للإفطار ، أتاهم يتيم وسألهم القوت ، فتصدّق كلّ منهم بقوته.
فلمّا كان اليوم الثالث من صومهم وقدّم الطعام للإفطار ، أتاهم أسير
ص: 50
وسألهم القوت ، فأعطاه كلّ منهم قوته ، ولم يذوقوا في الأيّام الثلاثة سوى الماء.
فرآهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله في اليوم الرابع ، وهم يرتعشون من الجوع ، وفاطمة علیهاالسلام قد التصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع وغارت عيناها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : وا غوثاه! يا اللّه! أهل محمّد يموتون جوعا!
فهبط جبرئيل فقال : خذ ما هنّأك اللّه في أهل بيتك.
فقال : وما آخذ يا جبرئيل؟
* * *
ص: 51
وقال الفضل (1) :
ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول السورة ما ذكره ، ولكن أنكر على هذه الرواية كثير من المحدّثين وأهل التفسير ، وتكلّموا في أنّه هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ ، ويجوّع نفسه وأهله حتّى يشرف على الهلاك (2) ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (3)؟!
والعفو : ما كان فاضلا من نفقة العيال (4) ، وقال رسول اللّه : « خير الصدقة ما كان صنوا عفوا » (5) ..
وإن صحّ ، الرواية لا تدلّ على النصّ كما علمته.
* * *
ص: 52
روى جماعة من القوم ما ذكره المصنّف رحمه اللّه ، كالزمخشري في « الكشّاف » ، والبيضاوي ، وعن الواحدي في كتاب « البسيط » ، والبغوي في « معالم التنزيل » ، والثعلبي ، وأبي السعادات العمادي ، وغيرهم (1).
وروى الواحدي نحوه في « أسباب النزول » ، إلّا أنّه إنّما ذكر نزول قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ ... ) (2) الآية ، فيهم ، ولم يذكر النذر (3).
وحكى السيوطي في « الدرّ المنثور » عن بعض أصحابه نزول هذه الآية فيهم (4).
وذكر نظام الدين الحسن بن محمّد بن الحسين النيشابوري في تفسيره « غرائب القرآن ورغائب الفرقان » القصّة التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ونزول السورة فيهم ، ثمّ قال : « ويروى أنّ السائل لهم في الليالي الثلاث جبرئيل ، أراد بذلك ابتلاءهم بإذن اللّه سبحانه » (5).
ونقل الرازي في تفسيره عن الزمخشري والواحدي في « البسيط »
ص: 53
القصّة ونزول السورة بهم ، ثمّ أشكل عليه بأمرين :
الأوّل : إنّ السورة مشتملة على أمور أخر خارجة عن القصّة وغير متعلّقة بمدحهم ، كبيان خلق الإنسان وابتلائه ، وأنّه تعالى هداه السبيل ، وأنّه إمّا شاكر وإمّا كفور ، وكوعيد الكفّار .. إلى غير ذلك ممّا اشتملت عليه السورة (1).
وفيه : إنّ المقصود كونهم سببا لنزول السورة ، فلا يضرّ اشتمالها على أمور أخر ، على أنّ هذه الأمور المذكورة دخيلة في مدحهم ؛ لدلالتها عند بيان قصّتهم وإخلاصهم على فضلهم وامتيازهم على غيرهم.
الثاني : إنّ الممدوحين في الآيات ذكروا بصيغة الجمع ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... ) (2) و ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ ... * وَيُطْعِمُونَ ... ) (3) إلى آخر الآيات ، فتخصيصه بجمع معيّنين خلاف الظاهر ، ويدخل فيهم أتقياء الصحابة والتابعين ، ولا يبقى للتخصيص معنى ألبتّة ، اللّهمّ إلّا أنّ يقال : السورة إنّما نزلت عند صدور طاعة مخصوصة منهم (4).
ولكنّه قد ثبت في أصول الفقه أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (5).
وفيه : إنّ التخصيص وإن كان خلاف الظاهر ، لكن لا بدّ من
ص: 54
الالتزام به إذا وردت به الرواية ، وإلّا لم تصحّ دعوى نزول شيء من القرآن في مدح أحد.
وأمّا قوله : « العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب » ، فإنّما يسلّم في مقام التكليف والمدح والذمّ المطلقين ، لا المدح الناشئ من سبب خاصّ لم يتّفق صدوره من غيرهم ، لا سيّما في خصوصياته من الحبّ والحاجة لما أنفقوا ، ووقوعه على وجه الإخلاص التامّ لله تعالى والخوف منه ، حتّى وقاهم اللّه تعالى بسببه شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسرورا.
ولا أدري متى كان للصحابة في هذا الميدان أثر ، ولا سيّما الّذين عناهم الرازي؟!
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي(1)
وأمّا ما ذكره الفضل من إنكار كثير من المحدّثين وأهل التفسير على هذه الرواية ، وتكلّمهم في جواز مبالغة الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ ، فلم أجده في كلامهم ، ولو كان له أصل لذكره شيخ المشكّكين الرازي ، ولا سيّما في ما يتعلّق بفضائل أمير المؤمنين علیه السلام .
على أنّه سبحانه قد مدح أولياءه بأنّهم : ( يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ )(2) ، فما لأهل البيت لا يجوز لهم ذلك؟!
وأمّا قوله تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ )(3) ، فمعنى
ص: 55
العفو : أجلّ المال وأطيبه (1) ، لا الفضل ، كما زعمه الفضل ؛ لقوله تعالى : ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (2) (3).
كما إنّ المراد بالصنو في الحديث : الصدقة المكرّرة الموصولة بصدقة قبلها (4) ، وهي أجلّ المال وأطيبه ؛ لانتهاء التكرير إليه عادة ؛ ولذا وصف الصنو وبيّنه في الحديث بالعفو ، أي الأجلّ الأطيب.
ويحتمل أن يكون العفو في الحديث قيدا آخر ، فيكون المعنى : أنّ خير الصدقة ما جمع وصفين : أن تكون لا حقة لصدقة قبلها ، وأن تكون من أجلّ المال وأطيبه ، فلا تنافي هذه الآية والرواية ما فعله أمير المؤمنين علیه السلام .
ثمّ إنّه ليس المنفق لكلّ الطعام في تلك القصّة هو أمير المؤمنين وحده ، حتّى يكون أجاع أهله - كما زعم الفضل - ، بل كلّ منهم أنفق قوته كما صرّحت به الرواية.
وأمّا قوله : « وإن صحّ ، الرواية لا تدلّ على النصّ » ..
ص: 56
ففيه : إنّ القصّة دالّة على فضل الحسنين وبلوغهما في المعرفة إلى منتهى الغايات ؛ لصدورها عنهما حال صغرهما بنحو استحقّا من اللّه سبحانه الثناء عليهما في كتابه المجيد ، وشهد لهما فيه بأنّهما أطعما لوجهه ، وكانا يخافان منه.
ولا ريب في أنّ الصغير الذي يصدر منه ذلك أكبر من الكبير الذي لم يعرف اللّه تعالى أكثر عمره ، وعصاه في عظام الأمور ، كالفرار من الزحف (1) ، فيكون الحسنان أفضل من شيوخ الصحابة.
ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين أفضل من الحسنين ، بالنصّ والإجماع ، فيكون أفضل من الصحابة جميعا ، فيكون هو الإمام.
هذا ، والعجب من تمالؤ هؤلاء القوم على محو فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله بالأوهام الكاسدة والخيالات الفاسدة ، دون ما يروونه في فضائل غيرهم ، وإن كان ظاهر الكذب والبهتان ، فقد رأيت الفضل كيف استشكل من جواز تلك الصدقة ، وهو قد ذكر في مبحث الحلول أنّ أبا يزيد البسطامي (2) ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، وعدّه منقبة له (3).
ص: 57
فليت شعري ، لم لا يجوز التصدّق لأهل البيت بعد السؤال منهم رغبة في الثواب ، بالإيثار على أنفسهم ، وجاز لأبي يزيد ترك شرب الماء سنة - وهو من المحالات - بلا سؤال أحد منه ولا إيثار ، ولا هو من أفعال سيّد المرسلين والأنبياء الأوّلين ، ولا ورد بنحوه الكتاب والسنّة؟!
وقال الغزّالي في « إحياء العلوم » ، في كسر شهوة البطن (1) : الوظيفة الثانية : في وقت الأكل ومقدار تأخيره ، وفيه [ أيضا ] أربع درجات :
الدرجة العليا : أن يطوي ثلاثة أيّام فما فوقها ، وفي المريدين من ردّ الرياضة إلى الطيّ لا إلى المقدار ، حتّى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوما وأربعين يوما ، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم ، منهم : محمّد ابن عمرو القرني ... وذكر جماعة ، ثمّ قال :
وقد كان أبو بكر الصدّيق يطوي ستّة أيّام ، وكان عبد اللّه بن الزبير يطوي سبعة أيّام ، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عبّاس يطوي سبعا ، وروي أنّ الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثا ثلاثا ، كلّ ذلك [ كانوا ] يستعينون بالجوع على طريق الآخرة ... ثمّ نقل عن متصوّف أنّه طوى ستّين يوما (2).
فانظر إلى هذه الحكايات التي ما جاء بها الشرع ، وما كانت من فعل سيّد المرسلين ، يروونها في كتبهم ويصدّقون استمرار أوليائهم عليها ، ويكذّبون أن يتصدّق أهل البيت اتّفاقا بطعامهم ثلاثة أيّام لسؤال من سأل إيثارا على أنفسهم!
فهل الفرق إلّا اتّباع الهوى والجفاء لمن طهّرهم اللّه تعالى من الرجس
ص: 58
تطهيرا وأوجب على الأمّة التمسّك بهم؟!
ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه قد ذكر هذه القصّة في « منهاج الكرامة » نقلا عن الثعلبي (1) ، وردّه ابن تيميّة بكلّ ما تبلغه همّة النصب ، وذكر أمورا أشبه باللغو (2) ..
كالمطالبة بصحّة الحديث ؛ وقد مرّ مرارا جوابه ، ولا سيّما أنّ شهرته كافية في اعتباره ..
وكز عم أنّ الحسنين صغيران لا يشرع إبقاؤهما ثلاثة أيّام جياعا ، وقد عرفت أنّهما بنفسيهما آثرا بطعامهما ؛ لمعرفتهما وكمالهما ..
وكز عم عدم حاجة أيتام المسلمين وأسراهم إلى الصدقة والسؤال ؛ لأنّ اليتيم مكفيّ بالنبيّ ، والأسير بآسره ؛ وهو كما ترى تكذيب للآية الكريمة ..
وكز عم أنّه لم يكن في العقبة قتال ، فكيف يقول اليتيم - كما في حديث الثعلبي - : « استشهد والدي يوم العقبة » (3)؟!
وفيه : إنّ العقبات كثيرة ، والعقبة : هي المرقى الصعب من الجبال (4) ، كمرقى أحد ، لا خصوص عقبة مكّة التي بايع النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيها الأنصار قبل الهجرة.
وكز عم أنّ السورة مكّية بالاتّفاق ؛ والحال أنّ مجاهدا وقتادة قالا :
ص: 59
إنّها مدنيّة (1) ..
وكز عم أنّ النذر منهيّ عنه ؛ والحال أنّ الآية الكريمة نزلت في الثناء على الناذرين ، فيكون تخطئة للكتاب المجيد (2) ..
وكز عم أنّه ليس للزهراء علیهماالسلام جارية تسمّى فضّة (3) ..
وأنّ إنفاق أبي بكر أفضل من إنفاقهم (4) ..
ص: 60
حكى السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أبي هريرة : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ( وَصَدَّقَ بِهِ ) عليّ بن أبي طالب علیه السلام (1).
ونحوه في « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عن مجاهد ، من طريق ابن المغازلي (2).
وفيه أيضا عن مجاهد ، من طريق أبي نعيم ، مثل ما هنا (3)
فيكون الجميع متّحدا في المراد ، وأنّ المقصود بثاني الوصفين أمير المؤمنين علیه السلام ، لا أنّه مقصود بهما معا كما يتوهّم ممّا نقله أبو نعيم ، كما أنّه ليس المقصود بالوصفين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحده ؛ لقوله تعالى في تتمّة الآية بصيغة الجمع : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (4).
فإذا أريد بمن صدّق به أمير المؤمنين ، دلّ على إمامته ؛ لأنّ ذكره خاصّة بالتصديق مع كثرة المصدّقين يدلّ على أنّه الكامل في التصديق ، وأنّه الصدّيق الأكبر.
ولا ريب أنّ الكامل فيه دون غيره هو الأفضل ، والأفضل أحقّ بالإمامة ، ولا سيّما أنّ كامل التصديق أرعى لما صدّق به ، وأمسّ في حفظ
ص: 64
الدين والحوزة.
على أنّ اللّه سبحانه قد شهد لمن جاء بالصدق ، ولمن صدّق به ، بالتقوى على الإطلاق ، فقال في تتمّة الآية : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ، وهو يقتضي العصمة ، ولا معصوم مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله غير عليّ علیه السلام بالإجماع ، فيكون هو الإمام ؛ لما سبق من اشتراط العصمة بالإمام (1).
ولا ينافي دلالته على العصمة قوله تعالى بعد هذه الآية : ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَالَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) (2) ؛ إذ ليس المراد ب ( أَسْوَأَالَّذِي عَمِلُوا ) هو المحرّمات ؛ لعصمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله جزما ، بل المراد أسوأه عند قومهم ، فإنّ اللّه سبحانه يكفّره (3) ؛ أي يغطّيه عنهم بنصرهم على الكافرين ، وإحسانهم إليهم ، وإظهار شرفهم وفضلهم ؛ ولذا قال تعالى في الآية التي بعدها : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... ) (4).
وأمّا ما نسبه الفضل إلى الجماهير ، فكذب عليهم ؛ ولذا لم يذكره الزمخشري في « الكشّاف » ، وهو حقيق بذكره لو كان قولا لجماهيرهم ، لا سيّما وهو في فضل أبي بكر ، ولم يذكره أيضا غيره ممّن اطّلعنا على تفسيره.
ص: 65
نعم ، نسبه الرازي إلى جماعة (1) ، وهو غير معنى الجماهير ، ولو سلّم فأيّ عبرة بقول جماهيرهم الناشئ من الهوى ، فإنّه كما ورد عندهم نزولها في أبي بكر ، ورد عندهم نزولها في أمير المؤمنين علیه السلام ، فلم اختار الجماهير أو الجماعة نزولها في أبي بكر ، مع عدم صحّة الرواية الدالّة عليه كما اطّلعنا على سندها؟!
فإنّ الطبري رواها في تفسيره « جامع البيان » ، عن عمر بن إبراهيم بن خالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان (2).
وقد نقل الذهبي في « ميزان الاعتدال » عن الدارقطني ، أنّ عمر بن إبراهيم كذّاب ؛ وعن الخطيب ، أنّه غير ثقة ؛ ثمّ ذكر بترجمة عمر أنّ أسيدا مجهول (3).
ونقل بترجمة عبدالملك ، عن أحمد ، أنّه ضعّف عبد الملك جدّا ، وقال أيضا : ضعيف يغلط ، وقال ابن معين : مخلّط (4).
مضافا إلى أنّ لفظ الرواية ، كما صرّح به السيوطي في « الدرّ المنثور » ( الذي جاء بالحقّ ) محمّد ، ( وصدّق به ) أبو بكر (5) ، وهو غير لفظ الآية ؛ لأنّ لفظها : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) .
هذا ، ومن المضحك ما ذكره الرازي في المقام ، قال : « أجمعوا على أنّ الأسبق الأفضل ؛ إمّا أبو بكر ، وإمّا عليّ ، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر
ص: 66
أولى ؛ لأنّ عليّا علیه السلام كان وقت البعثة صغيرا ، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ، ومعلوم أنّ إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوّة وشوكة.
أمّا أبو بكر فإنّه كان رجلا كبيرا في السنّ ، كبيرا في المنصب ، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوّة وشوكة في الإسلام ، فكان حمل اللفظ على أبي بكر أولى » (1).
فإنّ مزيد الشوكة لا ربط له بالأولوية المذكورة ؛ لأنّ التصديق فرع المعرفة والتقى لا الشوكة ؛ ولذا مدح اللّه سبحانه من جاء بالصدق وصدّق به : بالتقوى (2) ، فقال : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3).
ومن المعلوم أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أقرب إلى المعرفة والتقوى من أبي بكر ، فإنّه لم يعبد صنما قطّ ، خلافا لقومه ، وعبدها أبو بكر مدّة من عمره ؛ وطهّره اللّه سبحانه من الرجس ، ولم يطهّر أبا بكر ؛ وصلّى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبع سنين قبل أبي بكر وغيره (4).
ولا منافاة بين الصغر وبين المعرفة والكمال ؛ ولذا دعاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الإسلام وهو صبيّ ، فكان أخصّ الناس به وأطوعهم له ، وجعله خليفته ووزيره عند ما جمع عشيرته الأقربين في أوّل البعثة ودعاهم إلى الإسلام (5) ، كما سيجيء.
ص: 67
كما جعل اللّه يحيى نبيّا وآتاه الحكم صبيّا ، وكذلك عيسى ويوسف وسليمان ، وقد مدح اللّه الحسنين وهما طفلان بقوله سبحانه : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... * ... وَيَخافُونَ يَوْماً ... * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ... * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ... ) (1) الآيات.
ولو سلّم دخل الشوكة والقوّة والمنصب بأولوية الوصف بالتصديق ، فأيّ قوّة وشوكة لأبي بكر ، وهو من أرذل بيت في قريش ، كما قاله أبو سفيان (2)؟!
وأيّ منصب له ، وهو كان خيّاطا ومعلّما للصبيان (3)؟!
فأين هو من أسد اللّه ورسوله ، وابن سيّد البطحاء ، الذي إن لم يزد الإسلام بنفسه قوّة فباتّصاله بأبيه وتعلّقه به؟!
بل قد عرفت أنّ شهادة اللّه سبحانه بالتقوى لمن صدّق بالصدق تدلّ على عصمته ، ولا معصوم غير عليّ بالإجماع ، فتتعيّن إرادته بالآية.
* * *
ص: 68
وقال الفضل (1) :
جاء في روايات أهل السنّة - ولا شكّ - أنّ عليّا من أفاضل المؤمنين ، ومن خلفائهم وأئمّتهم.
ولمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤيّدا بالمؤمنين ، كان تأييده بعليّ من باب الأولى ، ولكن لا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 70
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن عساكر ، عن أبي هريرة : « مكتوب على العرش : لا إله إلّا أنا وحدي ، لا شريك لي ، محمّد عبدي ورسولي ، أيّدته بعليّ » (1).
ونقل في « كنز العمّال » نحوه ، عن ابن عساكر عن أبي الحمراء ، وعن الطبراني عن أبي الحمراء ، وعن العقيلي عن جابر (2).
ونقل المصنّف الحديث في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ، ثمّ قال أبو هريرة : وذلك قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) يعني بعليّ (3).
ونقل في « ينابيع المودّة » عن أبي نعيم ، بأسانيده عن أبي هريرة وابن عبّاس وإمامنا الصادق علیه السلام ، أنّهم قالوا : نزلت هذه الآية في عليّ علیه السلام ، وأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « رأيت مكتوبا على العرش .... » (4) الحديث بعينه.
وذكر في « الينابيع » أيضا ، أنّ أبا نعيم روى نحوه عن أنس بن
ص: 71
مالك(1).
فإذا كان أمير المؤمنين علیه السلام هو المراد ب ( بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الآية ، دلّ على أنّه بمنزلة جميع المؤمنين في الإيمان والتأييد للنبيّ ؛ للتعبير عنه بصيغة الجمع العامّة ، فيكون أفضلهم وإمامهم ، خصوصا مع كتابة اسمه الشريف وتأييده على العرش ..
فقول الفضل : « لا شكّ أنّ عليّا من أفاضل المؤمنين ... » إلى آخره ، ظلم لأمير المؤمنين بجعله من الأفاضل ، والآية والرواية تدلّان على الأفضلية.
كما إنّ قوله : « ولمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤيّدا بالمؤمنين ... » إلى آخره ، خلاف مقصود الآية والرواية ، من كونه بمنزلة جميع المؤمنين في التأييد ؛ لأنّه العمدة والمتّبع ؛ ولذا قرنه اللّه سبحانه بنصره ، وزيّن به عرشه.
ولا ينافي إرادة أمير المؤمنين من ( بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الآية ، قوله تعالى بعدها : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... )(2) الآية ؛ وذلك لأنّ الاستخدام(3)
ص: 72
باب واسع.
* * *
ص: 73
وقال الفضل (1) :
ظاهر الآية أنّها في كافّة المؤمنين ، ولو صحّ نزوله في عليّ يكون من فضائله ، ولا دلالة لها على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 75
- مع أنّ الدليل مفسّر للمراد فيقدّم على الظهور - إنّا نمنع ظهورها بما ذكره ، بل ظاهرها الخصوص ؛ إذ ليس كلّ مؤمن متّبعا على الإطلاق ، فتكون « من » للتبعيض لا للبيان.
وحينئذ ، فينبغي إرادة أمير المؤمنين علیه السلام خاصّة ، حتّى لو لم ترد الرواية بإرادته ؛ إذ لا اتّباع على الإطلاق من غيره.
وحينئذ ، فتدلّ الآية على إمامته ؛ لأنّ الاتّباع المطلق يقتضي العصمة ، وهي شرط الإمامة ، ولا عصمة لغيره بالإجماع.
على أنّ اللّه سبحانه لمّا قرنه بنفسه المقدّسة ، وأخبر عنه - لا غيره من المسلمين - بأنّه حسبه ، دلّنا على فضله وامتيازه على كلّ أحد ، فيكون هو الإمام.
والمراد : حسبك اللّه ناصرا (1) ، وعليّ متّبعا ، فلا تذهب نفسك حسرات على من لم يتّبعك.
ويحتمل - كما هو الأقرب - أن يكون المراد : إنّهما حسبه في النصرة ، ولا يلزم الشرك كما زعم ابن تيميّة (2) ؛ لأنّه كقوله تعالى : ( فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ... ) (3) (4).
ص: 76
وليست نصرة غير اللّه عزّ وجلّ إلّا بإقداره ، وكون عليّ حسب النبيّ في النصرة ، لا ينافي حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى غيره ، ولا حاجة عليّ علیه السلام إلى الناصر بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، إذ هو ككون اللّه حسبه ، أريد به عدم الاعتداد بنصرة غيره ؛ لضعفها ، أو لعدم الخلوص التامّ بها ؛ ولذا فرّ المسلمون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في عدّة مواطن (1) ، فلا يرد ما أشكله ابن تيميّة ، وقد أساء القول وجاهر بنصبه.
ثمّ إنّ الرواية التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه هنا قد نقلها هو في « منهاج الكرامة » عن أبي نعيم (2) ، ونقلها غيره ، كصاحب « كشف الغمّة » (3) ، عن عزّ الدين عبد الرزّاق المحدّث الحنبلي (4).
ص: 77
وقال الفضل (1) :
ذهب المفسّرون إلى أنّها نزلت في أهل اليمن (2).
وقيل : لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن هذا القوم ، فضرب بيده على ظهر سلمان فقال : « هذا وقومه » (3).
والظاهر أنّها كانت نازلة لقوم لم يؤمنوا بعد ؛ لدلالة : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ) على هذا ، وعليّ كان ممّن آتاه اللّه من أوّل الإسلام ، فكيف يصحّ نزوله فيه؟!
وإن سلّمنا ، فهو من فضائله ، ولا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 79
ينبغي هنا بيان أمرين :
الأوّل : معنى الارتداد ؛ والظاهر أنّ له معنيين :
حقيقيا : وهو الانقلاب عن الدين بمخالفة بعض أصوله ؛ كالشهادتين عند الجميع ، والإمامة عند الإماميّة.
ومجازيا : وهو مخالفة بعض أحكام الدين المهمّة.
ويحتمل أن يراد بالآية : الأوّل ؛ لأنّه الأصل في الاستعمال .. والثاني ؛ بدعوى القرينة ، بأن يراد بالارتداد تولّي الكافرين والتقاعد عن الجهاد ، بقرينة حكم الآية التي قبلها بأنّ من تولّاهم منهم.
الثاني : مورد نزولها ؛ وقد اختصّت أخبارنا في نزولها بأمير المؤمنين علیه السلام ، أو المهديّ عجّل اللّه فرجه (1) ، ولا يبعد إرادتهما معا.
وأمّا روايات القوم ، فقد جاءت بنزولها بعليّ ، كما نقله المصنّف رحمه اللّه عن الثعلبي (2) ، وبنزولها في أهل اليمن (3) ، ونزولها في الفرس (4) ، وقيل
ص: 80
بنزولها في الأنصار (1) ، وقيل بأبي بكر (2).
ولم يرو أحدّ التفسير بهذين القولين الأخيرين عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، واختار أوّلهما السّدّي ، كما ذكره الرازي ، بحجّة أنّ الأنصار هم الّذين نصروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).
وفيه : إنّ المراد بالآية : النصرة في المستقبل ، وهي لم تختصّ بالأنصار ، بل لم تختصّ بهم في أوّل الأمر ؛ لمشاركة المهاجرين لهم في النصرة.
وأمّا من زعم نزولها بأبي بكر ، فبحجّة أنّه حارب المرتدّين ؛ وستعرف ما فيه ..
والحقّ أنّها نازلة بأمير المؤمنين (4) ؛ لأمور :
الأوّل : ورود رواية الفريقين به ؛ فقد عرفت رواية الثعلبي له ، ولكنّ ابن تيميّة أنكرها (5) ، ولم يحضرني « تفسير الثعلبي » حتّى أظهر بطلان إنكاره ، إذ لا شكّ أنّ المصنّف رحمه اللّه لا يتعمّد الكذب بخلاف ابن تيميّة ؛ فإنّا سبرنا أحوالهما ، وعرفنا صحّة نقل المصنّف دونه ، كما ستعرف.
ويؤيّد صحّة رواية الثعلبي ما ورد عن أمير المؤمنين ، أنّه قال يوم
ص: 81
البصرة : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » ، ثمّ تلاها (1).
ومثله عن عمّار وابن عبّاس (2) ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
الثاني : انطباق أوصاف من يأتي به اللّه - المذكورة في الآية - على أمير المؤمنين علیه السلام دون غيره.
أمّا عدم انطباقها على أبي بكر ، فظاهر ؛ ولو لقوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (3) ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال يوم خيبر بعد ما رجع أبو بكر وعمر منهزمين : « لأعطينّ الراية غدا إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، كرّار غير فرّار » (4)، وهو ظاهر ، بل صريح في التعريض بمن
ص: 82
فرّ ، وأنّه ليس على هذه الأوصاف.
وأمّا عدم انطباقها على الأنصار وأهل اليمن والفرس ، فلظهور الآية في أنّ من يأتي به اللّه ؛ إمام شجاع ، ذو حزم وتقوىّ وتواضع ؛ لأنّ قوله
ص: 83
تعالى : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (1) بمعنى أنّه متواضع للمؤمنين تواضع وال عليهم وإمام لهم ، إذ لا معنى لتعدية الأذلّة ب « على » المفيدة للعلوّ لو لا تضمّن الأذلّة معنى الولاية.
وهو أيضا عزيز على الكافرين ، أيّ ظاهر العزّة عليهم والعظمة في أعينهم ؛ لكونه ذا سلطان.
وهو أيضا يجاهد في سبيل اللّه ؛ لكونه مقداما شجاعا تقيّا.
ولا يخاف لومة لائم ؛ لحزمه ومقدرته.
وإذا ضممنا إلى ذلك قوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) ، تعيّنت إرادة أمير المؤمنين.
ولا ينافي إرادته التعبير بالقوم وصيغ الجمع ؛ إمّا لصحّة القصد إلى تعظيمه بذلك ، كما هو في القرآن وغيره كثير ، كما تشهد له آية المباهلة ، أو للإشارة إلى أنّه ذو أتباع.
كما لا ينافيها التعبير ب « سوف » ، خلافا للفضل ؛ لما عرفت من دلالة الآية على أنّه سبحانه يأتي بذي ولاية وسلطان ، وعليّ علیه السلام إنّما صار كذلك في المستقبل ، فجاهد حينئذ.
وبنحوه أجاب الرازي عن إشكال إرادة أبي بكر من الآية ؛ لأنّ جهاده متأخّر (2).
الثالث : إنّ الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ
ص: 84
وَرَسُولُهُ ) (1) الآية ، نازلة بأمير المؤمنين علیه السلام (2) ، فينبغي أن تكون هذه الآية كذلك لترتبط الآيتان ، ولدخولهما في خطاب واحد منفرد عمّا قبله وبعده ، وهو : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) (3) الآيتان.
الرابع : الأخبار المقتضية لنزولها بعليّ علیه السلام ..
فمنها : المصرّحة بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
قال أبو بكر وعمر : أنا هو؟
قال : « لا ، ولكنّه خاصف النعل » ؛ يعني عليّا.
أخرجه أحمد في « مسنده » ، عن أبي سعيد من طريقين (4).
وأخرجه الحاكم عنه أيضا من طريقين في « المستدرك » (5) ، وصحّحه على شرط الشيخين.
ونقله في « كنز العمّال » (6) ، عن أبي يعلى في « مسنده » ، وابن أبي شيبة ، وأبي نعيم في « الحلية » ، وابن حبّان في « صحيحه » ، والضياء في
ص: 85
« المختارة » ، كلّهم عن أبي سعيد (1).
ورواه النسائي في خصائصه (2).
وهو يستلزم أن يكون من يأتي به اللّه لحرب المرتدّين هو عليّ لا أبو بكر ؛ لأنّ حرب أمير المؤمنين على التأويل دون أبي بكر ، فلا بدّ أن يكون المنذر في الكتاب العزيز بحربه هو عليّ علیه السلام .
ومنها : الأخبار الكثيرة التي أنذر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيها الناس بعليّ خاصّة ، وقال : « لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه رجلا ... » ، يعني به عليّا ، فالأنسب أن يكون هو المنذر به في الآية.
نقل في « كنز العمّال » (3) ، عن أحمد وابن جرير ، قال : وصحّحه ، وعن سعيد بن منصور في « سننه » ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « جاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله أناس من قريش ، فقالوا : يا محمّد! إنّا جيرانك وحلفاؤك ، وإنّ ناسا من عبيدنا قد أتوك ، ليس بهم رغبة في الدين ، ولا رغبة في الفقه ، إنّما فرّوا من ضياعنا ، وأموالنا ، فارددهم إلينا.
فقال لأبي بكر : ما تقول؟
قال : صدقوا ، إنّهم لجيرانك وحلفاؤك.
فتغيّر وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ثمّ قال لعمر : ما تقول؟
قال : صدقوا ، إنّهم لجيرانك وحلفاؤك.
ص: 86
فتغيّر وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
فقال : يا معشر قريش! واللّه ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا قد امتحن اللّه قلبه بالإيمان فيضربكم على الدين ، أو يضرب بعضكم.
فقال أبو بكر : أنا يا رسول اللّه؟
قال : لا.
قال عمر : أنا يا رسول اللّه؟
قال : لا ، ولكنّه الذي يخصف النعل ؛ وكان أعطى عليّا نعلا يخصفها (1).
ومثله في خصائص النسائي (2).
ونقل في « الكنز » نحوه ، عن الخطيب (3) ..
وعن الترمذي ، قال : وقال : حسن صحيح (4) ..
وعن ابن جرير ، قال : وصحّحه (5) ..
وعن الضياء في « المختارة » (6) ..
وعن ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والحاكم في « المستدرك » ،
ص: 87
وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعضها : « يا معشر قريش! لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن اللّه قلبه على الإيمان » ..
وفي بعضها : « لن تنتهوا يا معشر قريش حتّى يبعث اللّه عليكم رجلا امتحن اللّه قلبه بالإيمان ، يضرب أعناقكم وأنتم مجفلون عنه إجفال النعم » (3).
وروي في « الاستيعاب » ، بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن المطّلب بن عبد اللّه بن حنطب ، قال :
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لوفد ثقيف حين جاءه : « لتسلمنّ أو لأبعثنّ رجلا منّي - أو قال : مثل نفسي - فليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم ».
قال عمر : فو اللّه ما تمنّيت الإمارة إلّا يومئذ ، وجعلت أنصب صدري له رجاء أن يقول : هو هذا.
ص: 88
[ قال : ] فالتفت إلى عليّ ، فأخذ بيده ، ثمّ قال : « هو هذا ، [ هو هذا ] » (1).
وفي « الصواعق » ، بعد الحديث الأربعين من أحاديث فضل عليّ ، عن ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : لمّا فتح رسول اللّه مكّة انصرف إلى الطائف ... - إلى أن قال : - ثمّ قام خطيبا وقال : « والذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ إليكم رجلا منّي - أو : كنفسي - يضرب أعناقكم ».
ثمّ أخذ بيد عليّ علیه السلام ، ثمّ قال : « هو هذا » (2).
وعن « مسند أحمد » وغيره ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « لتنتهنّ يا بني وليعة (3) أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي ، يقتل المقاتلة ، ويسبي الذّرّيّة ».
فالتفت إلى عليّ فأخذ بيده ، وقال : « هو هذا » (4).
ص: 89
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي تفيد أنّ عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله الإنذار بعليّ (1) ، فتحمل عليه الآية ؛ لأنّ إنذاره من إنذار اللّه تعالى ، وما كان ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحيّ يوحى (2) ..
ولو كان أبو بكر صالحا لذلك لما ردّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، مع أنّه يعلم من قول أبي بكر : « صدقوا ... إنّهم جيرانك وحلفاؤك » أنّه ليس ممّن لا يخاف لومة لائم ؛ فلا يكون مرادا بالآية هو وأشباهه.
كما إنّه يعلم من ردّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله له ، بعد وصفه لمن يبعثه بأنّه امتحن اللّه قلبه بالإيمان ، أنّه ليس على هذا الوصف ، وإلّا لما ردّه ، فلا يكون ممّن يحبّ اللّه ويحبّه اللّه ؛ إذ لا يكون كذلك إلّا صاحب الإيمان الكامل الممتحن قلبه به ؛ وحينئذ فلا يكون مرادا بالآية.
وأيضا : فقد جعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض هذه الأحاديث وغيرها عليّا منه أو كنفسه ، فيكون هو الأحقّ بالأوصاف المذكورة في الآية وبإرادته منها.
هذا ، وممّا يستوقف الفكر ويستثير العجب قول عمر : « صدقوا » بعد ما تغيّر وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قول أبي بكر!!
ولكنّه ليس بأعجب من قوله : « إنّ الرجل ليهجر » (3)! إلى كثير من أقواله وأفعاله معه.
ص: 90
وما أدري كيف استباح هو وصاحبه أن يجعلا للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ويردّا من آمنوا باللّه ورسوله ، ملكا وخدما لمن كفر بهما؟!
وكيف مع هذا يكونان إمامين للناس ، ويؤمنان على الأمّة ونفوسها وأموالها؟!!
ثمّ إنّ حجّتهم على إرادة أبي بكر من الآية بحربه للمرتدّين ممنوعة ؛ لأنّ من حاربهم إمّا كافر بالأصل ، كأصحاب مسيلمة وسجاح ؛ أو مؤمن حقّا ، كبني حنيفة ، فإنّه حاربهم لامتناعهم من أداء الزكاة إليه إنكارا لخلافته ، وتمسّكا ببيعة أمير المؤمنين علیه السلام يوم الغدير ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
هذا ، وقد ناقش الرازي بإرادة أمير المؤمنين علیه السلام من الآية ، بل زعم دلالتها على فساد مذهب الشيعة!! ..
قال ما حاصله : إنّه لو كان المقصود بالآية عليّا - وكان هو الإمام - ، ومن لم يقل بإمامته ليس بمؤمن - كما يزعم الشيعة - ، لحارب أبا بكر ؛ لقوله تعالى : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ... ) (1) الآية.
فإنّ كلمة ( مَنْ ) في معرض الشرط ، فتفيد العموم ، فيقتضي أنّ كلّ من ارتدّ يأتي اللّه بقوم يردّونهم عن كفرهم ويبطلون شوكتهم ، ولم نجد الأمر كذلك ، فإنّ أبا بكر وأصحابه على شوكتهم ، بل وجدنا الأمر على الضدّ ، فإنّ الشيعة هم المقهورون(2).
ص: 91
وفيه : إنّ الإنذار إنّما هو بذي الولاية والسلطان - كما عرفت - ، فلا تلزم محاربة أمير المؤمنين علیه السلام لأبي بكر ، وأجاب به الرازي بنفسه عن إشكال إرادة أبي بكر من الآية ، حيث إنّه لم يحارب المرتدّين حين نزول الآية إلى أن تولّى الخلافة (1).
فالمراد : إتيان ذي سلطان لحرب كلّ من ارتدّ عن دينه في وقت سلطانه ؛ ولذا صحّ عندهم إرادة أبي بكر مع أنّه لم يحارب كلّ مرتدّ ، كالأسود العنسي (2) ؛ لأنّه قتل زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ وكغسّان (3) ، فإنّ عمر حاربهم في وقته كما قيل (4) ..
مضافا إلى إمكان أن يكون معنى الآية مجرّد تحذير من يرتدّ ، وإنذاره بالحرب أعمّ من أن يقع أو لا يقع.
واللّه العالم.
* * *
ص: 92
وقال الفضل (1) :
لا شكّ أنّ عليّا من الصدّيقين والشهداء ، والظاهر أنّ الآية نزلت في جماعة من الصدّيقين والشهداء ، ويمكن أن تكون نازلة في الخلفاء ؛ وإن صحّ نزولها في عليّ ، فهي من فضائله ، وليس دليلا على مدّعى النصّ.
* * *
ص: 94
لا شكّ أن ليس كلّ مؤمن صدّيقا ؛ لأنّ الصدّيق كثير التصديق وكامله ؛ ولا شهيدا ، وهو ظاهر ؛ فلا بدّ أن يراد الخصوص.
وقد علمنا من الأخبار أنّه ليس في هذه الأمّة صدّيق غير عليّ علیه السلام ، فلا بدّ أن يكون هو المراد بخصوصه من الآية ، أو الأعمّ منه ومن صدّيقي الأمم الثلاثة.
فقد نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » ، بتفسير سورة « يس » ، عن أبي داود ، وأبي نعيم ، وابن عساكر ، والديلمي ، بأسانيدهم عن أبي ليلى ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :
« الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل يس ، الذي قال : ( يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) (1).
وحزقيل مؤمن آل فرعون ، الذي قال : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ ) (2).
وعليّ بن أبي طالب ، وهو أفضلهم » (3).
ص: 95
ورواه الرازي باختصار في تفسير سورة « المؤمن » عند قوله تعالى : ( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ) (1) (2).
وحكى السيوطي أيضا في تفسير سورة « يس » ، عن البخاري في تاريخه ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الصدّيقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار صاحب آل يس ، وعليّ بن أبي طالب » (3).
وحكاه في « كنز العمّال » (4) ، عن ابن النجّار ، عن ابن عبّاس.
ونقل المصنّف رحمه اللّه حديث أبي ليلى في « منهاج الكرامة » ، عن أحمد في مسنده ، والديلمي ، وابن المغازلي (5).
وأنكر ابن تيميّة كونه من أصل « المسند » ، وزعم أنّه من زيادات القطيعي ، أخرجه من طريقين ثمّ ناقش في سندهما (6).
وقد عرفت أنّ المناقشة في سند الأخبار الواردة في فضل أمير المؤمنين علیه السلام غير صحيحة ؛ لما أوضحناه في المقدّمة من أنّ الاعتبار يشهد بوثاقة رجالها في تلك الأخبار ؛ على أنّ الرواية إذا كثرت طرقها حكم
ص: 96
باعتبارها ، وإن لم تصحّ أسانيدها ، فقد سمعت من تعرّض لها (1).
ومرّ في الآية الثالثة عشرة ما هو بمعناها ، وهو كثير من الأخبار القائلة : إنّ سبّاق الأمم ثلاثة (2) ، فلا وجه للتشكيك بها.
ويشير إلى هذه الروايات الأخبار المصرّحة بأنّ الصدّيق الأكبر هو أمير المؤمنين علیه السلام ؛ كرواية الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « إنّي عبد اللّه ، وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلّا كاذب ... » الحديث.
ثمّ قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.
وتعقّبه الذهبي بقوله : « [ كذا قال ] ، ليس هو على شرط واحد منهما ، بل ولا [ هو ] بصحيح ، بل حديث باطل ، فتدبّره. وعبّاد ، قال ابن المديني : ضعيف ».
وفيه : إنّه لا اعتبار بتضعيف ابن المديني له مع توثيق غيره له ، كالحاكم (4) ، ولو التفتنا إلى هذه التضعيفات لم يصحّ لهم حديث ، ولا أدري ما الذي أنكره الذهبي من الحديث حتّى حكم ببطلانه مع شواهد صحّته الكثيرة؟!
ص: 97
وقد نقل في « كنز العمّال » هذا الحديث (1) ، عن ابن أبي شيبة ، والنسائي في « الخصائص » ، وابن أبي عاصم في « السنّة » ، والعقيلي ، وأبي نعيم في « المعرفة ».
ونقل أيضا (2) ، عن العقيلي ، ومحمّد بن أيّوب الرازي ، أنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال على منبر البصرة : « أنا الصدّيق الأكبر ».
ونقل في « الكنز » أيضا (3) ، عن الطبراني ، عن سلمان وأبي ذرّ معا ، وعن البيهقي وابن عديّ ، عن حذيفة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال في حقّ عليّ علیه السلام : « إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين ».
ونحوه ب « إصابة » ابن حجر ، بترجمة أبي ليلى الغفاري ، وزاد في أوّله : « ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان كذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه أوّل من آمن بي ... » .. الحديث (4).
ص: 98
فإذا ثبت أنّ عليّا علیه السلام هو أكمل الأمّة تصديقا ، وجب أن يكون أفضلهم ، ولا سيّما هو أفضل صدّيقي أمم الأنبياء ، والأفضل هو الإمام ، ولكنّ القوم سرقوا هذا الاسم ونحلوه إلى أبي بكر ، فسمّوه صدّيقا!
ولمّا علم اللّه سبحانه ذلك منهم ، أثبت دليلا واضحا على كذبهم ، وهو ما ألحقه بهذا الوصف من وصف الشهداء.
وهذه السرقة ليست بغريبة منهم ، فإنّهم سرقوا أيضا وصف الفاروق من أمير المؤمنين علیه السلام إلى عمر ، فقد صرّح بأنّ عليّا هو الفاروق ... الحديث المتقدّم وغيره ، كالذي نقله في « كنز العمّال » (1) ، عن أبي نعيم ، عن أبي ليلى ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل ».
وقال الطبري في « المنتخب من كتاب ذيل المذيّل » ، المطبوع في ذيل تاريخه ، ص 9 : « قال ابن سعد : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، قال : قال ابن شهاب : بلغنا أنّ أهل الكتاب كانوا أوّل من قال لعمر : الفاروق ؛ وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم ، وما بلغنا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكر من ذلك شيئا » (2).
* * *
ص: 99
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) (2).
روى الجمهور ، أنّها نزلت في عليّ علیه السلام ، كانت معه أربعة دراهم ، أنفق في الليل درهما ، وبالنهار درهما ، وفي السرّ درهما ، وفي العلانية درهما (3).
* * *
ص: 100
وقال الفضل (1) :
ذكر المفسّرون من أهل السنّة أنّ الآية نزلت في عليّ ، وهو من فضائله ، ولا يثبت به مدّعى النصّ.
* * *
ص: 101
روى الواحدي في « أسباب النزول » ذلك عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والكلبي (1).
ونسب السيوطي في « الدرّ المنثور » روايته إلى ابن جرير ، وعبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر (2).
ونسبه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » إلى الثعلبي ، وأبي نعيم (3).
ورواه أيضا الزمخشري ، والرازي ، وغيرهم (4).
لكنّ ابن تيميّة - كعادته - زعم كذب الحديث ؛ بحجّة أنّ الإنفاق في السرّ والعلانية لا يخرج عن الإنفاق بالليل والنهار ، فكيف يكون مقابلا له (5)؟! وأظهر التبجّح بكلامه كعادته.
وفيه : إنّ المراد هو الإنفاق بالليل سرّا وعلانية ، وبالنهار كذلك ، أو أنّ المراد أنّه أنفق درهمين بالليل والنهار ، ثمّ أنفق درهمين سرّا وعلانية ، فلحظ أوّلا : خصوصيّة الوقت ، ولحظ ثانيا : خصوصيّة الوصف.
ص: 102
ووجه الدلالة على المطلوب ؛ أنّ ذكر اللّه سبحانه لهذه الصدقة الخاصّة ، وبشارته لأجلها - مع قلّتها وكثرة المتصدّقين بنحوها وأضعافها - ، أقوى دليل على فضله على غيره بالمعرفة والإخلاص ؛ فيكون أتقى الناس ، وأفضلهم ، وأولادهم بالإمامة.
هذا ، ونقل الزمخشري عن بعضهم ، أنّها نزلت في أبي بكر ، حيث تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السرّ ، وعشرة في العلانية (1)!
ولا أدري ، أ أعجب من تخيّل القائل أنّ مدار الفضل على الكثرة دون الإخلاص ، حتّى نسب لأبي بكر الصدقة بهذا المقدار ، ليعارض صدقة أمير المؤمنين علیه السلام ويفوقها؟!
أم أعجب من إرادته إثبات منقبة هي بالمنقصة أشبه ؛ إذ لا يجتمع هذا المال مع ضعف المسلمين إلّا من نهاية الإمساك؟!
أم أعجب من دعوى وجود هذا المال عند أبي بكر ، البالغ أربعمئة ألف درهم ، وهو كان معلّما للصبيان في الجاهلية ، وخيّاطا في الإسلام (2) ، ولم يكن قسمه من الغنائم إلّا كواحد من المسلمين ، وقد كان ماله عند الهجرة خمسة آلاف درهم أو ستّة آلاف ، كما رواه الحاكم عن ابنته أسماء (3) ، ورواه أحمد عنها في مسنده (4) ، فمن أين اجتمع له ذلك
ص: 103
المال؟!
أم أعجب من خفاء الصدقة بهذا المال على عامّة الناس حتّى أظهرها هذا الراوي ، وهي ممّا ينبغي أن تغني أكثر أهل المدينة في ذلك اليوم؟!
أم أعجب من سماحة نفسه بهذا المال ، وهو قد ضنّ (1) على أهله بالقليل؟!
فقد ذكرت أسماء في تتمّة الحديث المذكور ، أنّ أبا بكر انطلق بذلك المال لمّا هاجر ، ولم يترك لهم شيئا (2)!
ولو كان من أهل الصدقة بمثل ذلك المقدار ، فلم أشفق من تقديم الصدقة اليسيرة في النجوى (3)؟!
ولم أخذ من رسول اللّه حين الهجرة والضيق قيمة البعير الذي ابتاعه منه (4) ، وهم قد زعموا أنّه واسى النبيّ بماله؟!
فانظر واعتبر!!
* * *
ص: 104
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2).
في صحيح مسلم : قلت : يا رسول اللّه! أمّا السلام عليك فقد عرفناه ، وأمّا الصلاة عليك فكيف هي؟
فقال : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم (3).
ص: 105
وقال الفضل (1) :
كأنّه نسي المدّعى ، وهو إثبات النصّ ، وأخذ يذكر فضائل عليّ ، وهذا أمر مسلّم ، واتّفق العلماء على أنّه نزلت فيهم آيات كثيرة ، ومن يظنّ أنّه ينكر فضل محمّد وآله؟! فما ينكره إلّا من ينكر ضوء الشمس والقمر!!
* * *
ص: 106
جهل المعترض أو تجاهل في مقصود المصنّف رحمه اللّه ؛ فإنّه يستدلّ بالآيات والروايات على إمامة أمير المؤمنين ؛ إمّا لدلالتها عليها بالمطابقة ، أو بالالتزام ؛ لدلالتها على أفضليّته المستلزمة للإمامة (1).
وأنت تعلم دلالة هذه الآية على أفضليّة آل محمّد ؛ لأنّها أوجبت الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأرادت بها الصلاة عليه وعلى آله معا ، مشيرة بالاكتفاء بذكره إلى أنّه وإيّاهم كنفس واحدة ، وأنّه منهم وهم منه ، فلا بدّ أن يكونوا أفضل من سائر الأمّة.
على أنّ مجرّد وجوب الصلاة عليهم كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله دليل على أنّ لهم فضلا ومنزلة يستحقّون بها الصلاة وإيجابها على الأمّة كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكفى بذلك فضلا باذخا.
والمراد بآل محمّد : « عليّ وفاطمة والحسن والحسين » كما نطقت به الأخبار المتواترة ك « حديث الكساء » وغيره (2) ، ولا شكّ أنّ عليّا أفضلهم ، فيكون هو الإمام.
ص: 107
وإنّما قلنا : إنّ الآية أرادت الصلاة عليه وعلى آله معا ؛ لتصريح الأخبار المفسّرة لكيفية الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك ؛ كالرواية التي نقلها المصنّف رحمه اللّه عن مسلم ، فإنّه رواها من طرق في باب الصلاة على النبيّ بعد التشهّد ، من كتاب الصلاة (1).
ونحوها في « صحيح البخاري » ، في تفسير سورة الأحزاب (2).
ولا يبعد عن الصواب من ادّعى تواترها (3).
وأمّا قوله : « ومن يظنّ أنّه ينكر فضل محمّد وآله ... » إلى آخره.
ففيه : إنّه ليس الكلام في فضلهم ، بل أفضليّتهم وإمامتهم ، والقوم - كما ترى - قد اجتهدوا في إنكارهما مراغمة (4) للأدلّة الواضحة ، بل اجتهدوا في درس فضائلهم بكلّ ما تناله أوهامهم ، وجدّوا في الإزراء بهم والغضّ من شأنهم.
كما يشهد له أنّهم مع وجود هذه الآية الشريفة وتلك الأخبار المستفيضة - وهي بمرأى منهم ومسمع - تراهم إذا ذكروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفردوه عن آله بالصلاة ، وإذا ذكروا واحدا من آله الطاهرين لم يصلّوا أو لم يسلّموا عليه كما أمر اللّه ورسوله ، بل يترضّون عليه كسائر المسلمين ، مع أنّه قد ورد عندهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، نهى عن الصلاة البتراء ، فقيل له : وما الصلاة البتراء؟
ص: 108
قال : « تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد » ، كما ذكره ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الثانية من الآيات الواردة في أهل البيت (1).
نعم ، ربّما يصلّون على آله معه في أوائل مصنّفاتهم أو أواخرها ، ولكن يضيفون إليه صحبه ، كراهة لإفرادهم وتمييزهم على صحبه بالاقتران مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كما ميّزهم اللّه ورسوله.
ويشهد له أيضا ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية ، فإنّه بعد ما ذكر الخلاف في وجوبها ، كلّما يذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو في كلّ مجلس مرّة ، أو في العمر مرّة ، قال :
« القياس جواز الصلاة على سائر المؤمنين ؛ لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) (2) وقوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (3) وقوله صلی اللّه علیه و آله : اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى.
ولكنّ للعلماء تفصيلا في ذلك ، وهو : إنّها إن كانت على سبيل التّبع كقولك : صلّى اللّه على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها.
وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه ؛ لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقفنّ
ص: 109
مواقف التهم » (1)
ويرد عليه :
أوّلا : إنّه إذا لم يكن لهم كلام في الصلاة عليهم على سبيل التبع ، فلم التزموا بتركها إذا ذكروه صلی اللّه علیه و آله - كما سبق -؟! فهل المنشأ غير الانحراف عن آل محمّد؟!
ثانيا : لا تصحّ كراهتها عند انفرادهم بالذكر ، وما ذكره من صيرورتها شعارا لذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو لا يوجب الكراهة ؛ لأنّهم منه وهو منهم ، وتعظيمهم تعظيمه ، وما بالهم جعلوها شعارا لذكره صلی اللّه علیه و آله دونهم ، وهم شركاؤه في أمر اللّه بالصلاة عليهم؟!
وأمّا الاتّهام بالرفض ؛ فهو لو اقتضى كراهة الصلاة على آل محمّد ، وتغيير حكم اللّه تعالى ، لأدّى إلى كراهة حبّهم ، ولعلّه لهذا تظهر منهم آثار العداوة لآل محمّد.
على أنّ الاتّهام إنّما يقتضي الكراهة في مقام التهمة ، فما بالهم تركوا الصلاة على آل محمّد في كلّ مقام؟!
وأمّا الحديث ؛ فلو صحّ لم يمكن أن يفهم منه مسلم إرادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله النهي عن تعظيم آله الطاهرين ، الذي هو من علائم الإيمان ، ومأمور به في الكتاب العزيز.
* * *
ص: 110
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
السادسة والعشرون : قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) (2).
روى الجمهور ، قال ابن عبّاس : عليّ وفاطمة ، و ( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) (3) : النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (4) : الحسن والحسين (5).
ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة.
* * *
ص: 111
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ، ثمّ ما ذكره من أنّ النبيّ برزخ بين فاطمة وعليّ ، فلا وجه له ، وإن صحّ التفسير دلّ على فضيلته ، لا على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 112
ذكره السيوطي في تفسيره « الدرّ المنثور » ، نقلا عن ابن مردويه عن ابن عبّاس وأنس بن مالك ، إلّا أنّ أنسا لم يذكر تفسير البرزخ بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
ونقله في « ينابيع المودّة » ، عن الثعلبي ، وأبي نعيم ؛ والمالكي عن أبي سعيد ، وابن عبّاس ، وأنس (2).
ثمّ نقله عن الصادق علیه السلام ، عن أبي ذرّ (3).
ونقله عن سفيان الثوري (4).
ونقله أيضا ابن تيميّة عن الثعلبي ، عن سفيان الثوري (5) ، وناقش في سنده بما سبق جوابه في مقدّمة الكتاب وغيرها (6) ، وأورد عليه بما شاء الجهل والنصب ؛ وفي نقله وردّه ضياع المداد والقرطاس!
وأمّا دلالته على المطلوب ، فظاهرة ؛ لأنّ اللّه سبحانه شبّه عليّا علیه السلام بالبحر لغزارة علمه ، ولا مبالغة في قول اللّه سبحانه وشهادته لعبده ، فيكون
ص: 113
أمير المؤمنين ظاهر الامتياز على من لم يعرف الأبّ والكلالة (1) ، ومن كانت المخدّرات أفقه منه (2) ؛ فيكون هو الإمام.
وأمّا تشبيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالبرزخ بينهما ؛ فلأنّه الهادي لهما ، ولا بدّ أن يتّبعاه ؛ لعصمتهما ، فلا يبغي أحدهما على الآخر.
ويقرّب إرادة عليّ وفاطمة علیهماالسلام من ( الْبَحْرَيْنِ ) ، أنّه لو أريد ظاهرهما ، احتاج الحكم بخروج اللؤلؤ والمرجان منهما إلى توسّع ؛ لأنّهما إنّما يخرجان من أحدهما كما قيل.
ص: 114
نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » عن الثعلبي (1).
ونقل فيه أيضا مثله عن أبي نعيم ، عن ابن الحنفيّة (2).
ونقله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي ، وأبي نعيم ، عن ابن الحنفيّة (3).
ونقل أيضا عن الثعلبي ، وابن المغازلي ، عن عبد اللّه بن عطاء ، قال : « كنت مع محمّد الباقر في المسجد فرأيت ابن عبد اللّه بن سلّام ...
فقلت : هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟
قال : إنّما ذلك عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (4).
ثمّ ذكر في « الينابيع » أنّه روي أيضا عن أبي سعيد الخدري ، والإمام موسى بن جعفر علیه السلام ، وزيد بن عليّ ، وإسماعيل السّدّي ، أنّهم قالوا : هو عليّ بن أبي طالب (5).
.. إلى غير ذلك ممّا في « الينابيع » (6).
ص: 117
ويؤيّده الأخبار الكثيرة الآتية في الآية التاسعة والثلاثين ، الواردة في تفسير الشاهد بقوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (1) ؛ إذ فسّرته بعليّ (2) ، فإنّها تؤيّد أن يكون الذي عنده علم الكتاب ، المجعول شهيدا مع اللّه تعالى في قوله عزّ وجلّ : ( كَفى بِاللّهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (3) ، هو أمير المؤمنين.
ويشهد لإرادة عليّ علیه السلام في الآية ، التعبير عنه ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ، الدالّ على إحاطة علمه بما في الكتاب - أعني القرآن - كما هو المنصرف ؛ إذ لا يحيط به علما غير قرينه الذي أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالتمسّك به معه.
كما يشهد لعدم إرادة ابن سلّام ، ما في « الدرّ المنثور » ، عن سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم ، أنّهم أخرجوا عن سعيد بن جبير ، أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) أهو عبد اللّه ابن سلّام؟
قال : وكيف؟! وهذه السورة مكّيّة!! (4).
وفي « الدرّ المنثور » أيضا : عن ابن المنذر ، أنّه أخرج عن الشعبي ، قال : ما نزل في عبد اللّه بن سلّام شيء من القرآن (5).
ص: 118
وأمّا ما حكاه من قول بعضهم : إنّ المراد به هو اللّه سبحانه (1) ، فغير متّجه ؛ لأنّ ظاهر العطف التعدّد ، مع أنّه يبعد التعبير عن اللّه سبحانه ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ، ولا سيّما مع عطفه على لفظ الجلالة ، فإنّه لا يحسن أو لا يصحّ عطف الصفة على الموصوف.
ولا إشكال بدلالة الآية الكريمة على إمامة أمير المؤمنين ؛ لاقتضائها فضله الظاهر على غيره ، وعصمته ؛ لجعل اللّه سبحانه شهادته كافية في ثبوت نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، من حيث ظهور فضله ومعرفته وفهمه وكماله وعصمته ، واجتنابه الكذب والنقائص ، حتّى عدّت شهادته بقرن (2) شهادة اللّه تعالى ، فلا بدّ أن يكون هو الإمام ، ولا سيّما أنّ عنده علم الكتاب.
ص: 119
قال المصنّف في « منهاج الكرامة » : روى أبو نعيم مرفوعا إلى ابن عبّاس ، قال : أوّل من يكسى من حلل الجنّة إبراهيم بخلّته ، ومحمّد ؛ لأنّه صفوة اللّه ، ثمّ عليّ ، يزفّ بينهما إلى الجنان.
ثمّ قرأ ابن عبّاس : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قال : عليّ وأصحابه (1).
وحكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه عن ابن عبّاس ، وحكى أيضا عن العزّ الحنبلي نزول الآية بعليّ وأصحابه (2).
فالمراد ب ( الَّذِينَ آمَنُوا ) فيها : عليّ وأصحابه ؛ والمراد بأصحابه : أتباعه - كما هو المنصرف - ؛ ولذا ذكر باسمه الشريف ، وهم بالصحبة ، فلا يدخل فيهم الخلفاء الثلاثة ؛ لأنّهم - على ما يزعم القوم - أئمّة لعليّ ، ومتبوعون له ، فلا تشملهم الآية!
فيتعيّن عليّ للفضل والإمامة ؛ إذ لا أقلّ من دلالة الرواية على أنّه رأس المؤمنين ورئيسهم.
وأمّا قوله : « ظاهر الآية يدلّ على أنّها في جماعة ... » إلى آخره ..
فصحيح ؛ وهو صريح الرواية ، فتشمل الآية النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّا علیه السلام وأصحابه ؛ وهم شيعته من خواصّ الصحابة وغيرهم.
ص: 122
ولا ينافي صحّة رواية أبي نعيم تصريحها بزفاف عليّ بين الرسولين الكريمين ، فإنّه لا يقتضي فضله على نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، بل هو لخصوصية ، كتقديم إبراهيم والنبيّ صلی اللّه علیه و آله معا بالكسوة ، لخصوصية الخلّة ، لا للمساواة بينهما.
ويعرف ذلك من جعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الحديث صفوة اللّه ، فإنّه ينفي احتمال مساواته لإبراهيم ، وفضل عليّ علیه السلام على النبيّ (1).
* * *
ص: 123
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « هم أنت يا عليّ وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيّين ، ويأتي أعداؤك غضابا مقمحين (3) » (4).
ص: 124
نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » نحو الحديث المذكور ، عن ابن عديّ ، عن ابن عبّاس (1).
ونقل مثله أيضا ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الحادية عشرة ، وهي الآية المذكورة عن الحافظ جمال الدين الزرندي ، عن ابن عبّاس أيضا (2).
كما نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس (3).
ونقل السيوطي أيضا ، عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن عليّ علیه السلام ، قال : « قال لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، أنت وشيعتك موعدي وموعدكم الحوض ، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين » (4).
ونقل السيوطي أيضا ، عن ابن عساكر ، أنّه أخرج عن جابر بن عبد اللّه ، قال : « كنّا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأقبل عليّ علیه السلام ، فقال النبيّ : « والذي نفسي بيده! إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » ، ونزلت : ( إِنَّ
ص: 126
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا أقبل عليّ علیه السلام قالوا : جاء خير البريّة » (1).
ونقل أيضا ، عن ابن عديّ ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد مرفوعا : « عليّ خير البريّة » (2).
.. إلى غير ذلك من الأخبار المعتبرة ، ولو لاعتضاد بعضها ببعض ، مع موافقتها لأخبارنا الدالّة على نزول الآية بعليّ وشيعته خاصّة (3).
فقول الفضل : « بل الظاهر العموم » .. لا وجه له ، ولا سيّما أنّ غير عليّ وشيعته هم مخالفوه وأعداؤه ، وهم شرّ البريّة ؛ لما استفاض من أنّ من عاداه عادى اللّه ورسوله.
ومن الغريب دعوى ابن حجر : « أنّ السنّة شيعته » (4)! فإنّها - مع مخالفتها لما يتبادر من لفظ الشيعة - مكابرة ؛ لما أكنّته ضمائرهم من الميل عنه.
وكيف يكونون من شيعته ، وهم لا يروون نصّا في إمامته ولا منقبة توجب أفضليّته ، إلّا واحتالوا لردّها بكلّ حيلة وتشكيك ، وإن خالفوا العدل والإنصاف؟!
ص: 127
واستشهد لدعوى أنّهم شيعته بأخبارهم ، وهو كما ترى!
على أنّه لا ريب أنّ المراد بشيعة عليّ علیه السلام : أتباعه ..
فإن كان الخلفاء الثلاثة أتباعه ، تمّ مطلوبنا.
وإن لم يكونوا أتباعه ، بل أئمّته - كما يزعم القوم - ، فلا يكونون شيعته ، ومن خير البريّة!
فلا يعقل أن يكونوا أئمّته! فالآية الشريفة تدلّ على إمامته أحسن دلالة!
هذا ، وقد أعرب ابن تيميّة هنا عمّا في ضميره ، وسوّد وجه صحيفتين (1) ، يغني في ردّ ما قد يحتاج منهما إلى الردّ ما ذكرناه ، ويكفي في فساد الباقي مجرّد النظر فيه!
* * *
ص: 128
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ؛ وإن صحّ دلّ على فضيلته ، وهي مسلّمة ، ولا تثبت النصّ.
* * *
ص: 130
نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » عن الثعلبي (1).
ونقله غيره عن ابن مردويه (2).
وقال في « ينابيع المودّة » : أبو نعيم الحافظ ، وابن المغازلي ، أخرجا بسنديهما عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : « نزلت هذه الآية في الخمسة أهل العبا »
ثمّ قال - أي ابن عبّاس - : « المراد من الماء : نور النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي كان قبل خلق الخلق ، ثمّ أودعه في صلب آدم ، ثمّ نقله من صلب إلى صلب إلى أن وصل إلى صلب عبد المطّلب ، فصار جزءين : جزء إلى صلب عبد اللّه ، فولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وجزء إلى صلب أبي طالب ، فولد عليّا ، ثمّ ألّف (3) النكاح ، فزوّج عليّا بفاطمة ، فولد حسنا وحسينا ».
أيضا : الثعلبي ، وموفّق بن أحمد الخوارزمي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس.
أيضا : ابن مسعود ، وجابر ، والبراء ، وأنس ، وأمّ سلمة ، قالوا : « نزلت في الخمسة أهل العبا ».
انتهى ما في « الينابيع » (4).
ص: 131
ويؤيّد هذه الأخبار ما سيأتي في أوّل الأخبار من السنّة ، من أنّ نور محمّد وعليّ خلق قبل خلق آدم ، ثمّ أودع في صلبه (1).
وعلى ذلك : فحاصل معنى الآية الكريمة ، أنّه سبحانه خلق بشرا من الماء ، أي ما صار ماء ، وكان نورا مودعا في صلب آدم ، فجعل البشر نسبا ، وهو : محمّد ؛ لأنّه نسب لفاطمة والحسنين ، وجعله صهرا ، وهو : عليّ.
وحينئذ ، فدلالة الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين ظاهرة ؛ لأنّ اتّحاد نورهما الذي سبق آدم دليل على امتياز عليّ بالفضل حتّى على الأنبياء ، ومن كان كذلك يتعيّن للإمامة ، لا سيّما وفي بعض أخبار النور الآتية أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « فأخرجني نبيّا ، وأخرج عليّا وصيّا » (2).
وفي بعضها : « ففيّ النبوّة ، وفي عليّ الإمامة » (3).
ولو سلّم أنّ المراد بالماء في الآية غير النور ، فلا ريب أنّ جعل الآية الشريفة محمّدا وعليّا خاصّة بشرا واحدا ، بأيّ جهة من جهات الوحدة ، منقسما في الخارج إلى نسب وصهر ، دليل على فضل عليّ ، وأنّه نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونظيره ، فيكون أفضل الخلق وأحقّهم بالإمامة (4).
ص: 132
وقال الفضل (1) :
نزلت (2) قوله تعالى : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) في الثلاثة الّذين تخلّفوا في غزوة تبوك (3) ، وأنّهم صدقوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأنجاهم اللّه ، وكذب المنافقون فهلكوا ، فأنزل اللّه تعالى : ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، وخاطب المؤمنين حتّى لا يهلكوا بالكذب كالمنافقين ؛ وإن صحّ دلّ على الفضيلة لا على النصّ ، كسائر أخواته.
* * *
ص: 134
حكى المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ما ذكره هنا في شأن نزول الآيتين ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس (1).
ونقل السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، قال : مع عليّ بن أبي طالب (2).
ونقل مثله عن ابن عساكر ، بسنده إلى أبي جعفر الباقر علیه السلام (3)
والمراد بالكون معه ؛ ليس هو الحضور الخارجي بالضرورة ؛ بل المراد اتّباعه في كلّ ما يراد به الاتّباع والعمل شرعا ؛ لاقتضاء الإطلاق له ، لا سيّما مع عطفه على الأمر بالتقوى ، قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .
فتدلّ الآية على عصمة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لوصفها له بالصدق - أي في الأعمال والأقوال - كما يقتضيه الإطلاق ، ولقبح الأمر باتّباع من لا تؤمن عليه مخالفة أحكام اللّه عمدا أو خطأ ، وللزوم اجتماع الضدّين : وجوب الاتّباع (4) وحرمته لو فعل المعصية (5).
ص: 135
فإذا أفادت الآية عصمة أمير المؤمنين علیه السلام ، ثبتت إمامته ؛ لأنّ العصمة شرط الإمامة - كما سبق (1) - ، ولا عصمة لغيره من الصحابة بالإجماع ، مع أنّ الأمر باتّباع الأمّة لشخص على الإطلاق ، ظاهر في إمامته لهم.
وممّا ذكرنا يعلم بطلان حمل ( الصَّادِقِينَ ) على مطلق المهاجرين والأنصار ، أو خصوص الثلاثة الّذين تخلّفوا في غزوة تبوك ، كما ذهب إلى كلّ منهما بعض المفسّرين (2) ؛ وذلك لعدم عصمة هؤلاء.
هذا ، والظاهر أنّ المخاطب بالاتّباع في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (3) ، هو جميع المؤمنين بكلّ زمان ، لا خصوص الصحابة ؛ فيدلّ على وجود معصوم واجب الاتّباع بكلّ وقت ، فكان هو محمّدا صلی اللّه علیه و آله في وقته ، وعليّا في وقته ، والأئمّة الطاهرين من آلهما بعدهما ، كما يقتضيه - أيضا - كون ( الصَّادِقِينَ ) صيغة جمع.
وإنّما خصّت الروايات السابقة عليّا علیه السلام ؛ للفراغ عن وجوب اتّباع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولأنّ عليّا علیه السلام أوّل الأئمّة وأصلهم ، فوجوب اتّباعهم فرع وجوب اتّباعه.
ويشهد لذلك ما في « ينابيع المودّة » ، عن موفّق بن أحمد بسنده ، عن ابن عبّاس ، قال : « الصادقون [ في هذه الآية ] : محمّد وأهل بيته » (4).
وفيها نحوه ، عن أبي نعيم ، عن الصادق علیه السلام (5).
ص: 136
وفيها ، عن أبي نعيم وصاحب « المناقب » ، عن الباقر والرضا علیهماالسلام ، قالا : « الصادقون هم الأئمّة من أهل البيت علیهم السلام » (1)
وقد تنبّه الرازي لدلالة الآية الكريمة على وجود المعصوم بكلّ وقت ، إلّا أنّه زعم أنّ المعصوم هو مجموع الأمّة (2) - أي مجموع علمائها وأهل الحلّ والعقد - ، فتدلّ الآية على حجّيّة الإجماع.
وفيه - مع عدم تيسّر تحصيل الإجماع في كلّ وقت ، أو امتناعه فلا يوجد حتّى يأمر باتّباعه - :
إن المجموع بما هو مجموع لا يوصف بالصادق ؛ ولو سلّم ، فالمجموع من حيث هو مجموع ليس ممّن يعقل ، فلا يجمع وصفه جمع المذكّر السالم ؛ ولو سلّم جوازه - ولو مسامحة ، بلحاظ أنّ أجزاء المجموع ، وهي الأفراد ، ممّن يعقل - فلا ريب أنّ إرادة المجموعات خلاف الظاهر ؛ فإنّ المنصرف من ( الصَّادِقِينَ ) هو الأفراد لا المجموعات ، فتدلّ الآية على وجوب الكون مع الأفراد الصادقين المعصومين واتّباعهم في كلّ وقت ، وهو المطلوب.
ونحن متّبعون لإمام زماننا ، بالإقرار بإمامته ، والأخذ بأحكامه ، وإن لم نجتمع معه ونسعد بطلعته.
وقد أشكل الرازي على إرادة أئمّتنا من ( الصَّادِقِينَ ) بقوله : « إنّه تعالى أوجب على كلّ واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين ، وإنّما يمكنه ذلك لو كان عالما بأنّ ذلك الصادق من هو ، لا الجاهل بأنّه من هو ، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وأنّه لا يجوز ؛
ص: 137
لأنّا (1) لا نعلم إنسانا معيّنا موصوفا بوصف العصمة » (2).
وفيه : إنّه يمكن معرفته ، فيجب البحث عنه مقدّمة لاتّباعه ، وقد أوضح اللّه سبحانه السبيل إلى معرفته بقيام الأدلّة الكثيرة الواضحة ، ولم يجهلها إلّا معاند ، كما عرفت (3) ويأتي.
ثمّ إنّ ابن تيميّة قد سرد هنا من الخرافات والأغاليط ما يقبح بكلّ أحد نقله والتعرّض لردّه ، ولا أدري كيف يفوه بها وهو قد صوّر نفسه بصورة الفضلاء ، وقرن نفسه بالعلماء (4)؟!
واعلم أنّ الفضل لم يتعرّض للجواب عن قوله تعالى : ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (5) ، ولا يبعد أنّه اكتفى عنه بما ذكره في أخواته من أنّه إن صحّ لا يدلّ على النصّ ..
وفيه : إنّ الآية لمّا ساوت بين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ في الأمر باتّباعهما ، فقد دلّت على أنّ عليّا بمنزلة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في وجوب اتّباعه ، فيكون أفضل من غيره ، ويكون هو الإمام.
على أنّ الآية لمّا عبّرت عن وجوب اتّباعهما بإيجاب الركوع مع الراكعين ، فقد دلّت على أنّهما أسبق من غيرهما في العبادة لله تعالى ، كما تقتضيه التبعيّة ، وصرّحت به الرواية ..
فإنّها - كما ذكرها المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » - هكذا من طريق أبي نعيم ، عن ابن عبّاس : « أنّها نزلت في رسول اللّه وعليّ خاصّة ، وهما
ص: 138
أوّل من صلّى وركع » (1).
ومن المعلوم أنّ السبق إلى العبادة والطاعة فرع الفضل ، والفضل يستدعي الإمامة.
* * *
ص: 139
وقال الفضل (1) :
صحّ الرواية عندنا أنّ أمير المؤمنين علیه السلام بعد وقعة الجمل كان يقول : وأنا أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير كما يقول اللّه تعالى : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2) (3).
هكذا صحّ ، وإن صحّ ما رواه فهو من الفضائل المسلّمة ، ولا دليل به على النصّ.
* * *
ص: 141
ما صحّ عندهم سقيم عندنا وعند كلّ عاقل ، وإلّا لكان التكليف لغوا والدين لعبا!
أترى أنّ أحدا يخرج على إمام زمانه الذي يقول فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حربه حربي » (1)، وينهب بيت مال المسلمين ، ويلفّ الألوف بالألوف ، ويقتل ما لا يحصى منهم ، ثمّ يقتل في ميدان الحرب أو خارجه على عناده ، من دون إصلاح لما أفسد (2) ، ومع هذا يكون عند اللّه تعالى قرينا لذلك الإمام المصلح الأعظم؟! ما أظنّ عاقلا يرتضيه!
ثمّ إنّ الحديث الذي ذكره المصنّف هنا ، قد نقله في « منهاج الكرامة » مفصّلا(3).
ونقله سبط ابن الجوزي ، عن أحمد في « الفضائل » (4).
وكذا صاحب « كنز العمّال » (5).
ص: 142
ولنذكر منه ما تتمّ به الفائدة :
قال المصنّف رحمه اللّه : من مسند أحمد ، بإسناده إلى زيد بن [ أبي ] أوفى ، قال : دخلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مسجده - وذكر قصّة مؤاخاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... إلى أن قال : - فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :
« والذي بعثني بالحقّ! ما أخّرتك إلّا لنفسي ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي ... وأنت معي في قصري في الجنّة ، ومع ابنتي فاطمة ، فأنت أخي ورفيقي ؛ ثمّ تلا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) »(1).
وزعم ابن تيميّة أنّه من زيادات القطيعي لا من نفس المسند ، وذكر أنّ للحديث تتمّة ، وهي : أنّ عليّا علیه السلام قال عند قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « وأنت أخي ووارثي » : وما أرث منك يا رسول اللّه؟
قال : ما ورّث الأنبياء من قبلي.
قال : وما ورّث الأنبياء من قبلك؟
قال : كتاب اللّه وسنّة نبيّهم (2).
وذكر السبط هذه التتمّة أيضا (3).
وكذا صاحب « كنز العمّال » (4).
وقد أطال ابن تيميّة القول هنا كعادته ، وذكر ما لا يحتجّ به عاقل
ص: 143
على خصمه ، وأدّى به النصب إلى إنكار مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام (1) ، مع أنّها من أصحّ الأخبار ، كما ستعرف ..
ولا يستحقّ أن يذكر من كلامه شيء إلّا إنكار صحّة الحديث لضعف سنده ، وقد عرفت جوابه مرارا في المقدّمة وبعدها (2).
على أنّ السبط قد وثّق رجال ما رواه أحمد في « الفضائل » ، وقال :
« هو من غير رواية عبد المؤمن ، والضعيف ما رواه عبد المؤمن » (3).
وسيأتي إنّ شاء اللّه تعالى في الآية الخامسة والسبعين ما يؤيّد هذا الحديث (4) ، وهو دالّ على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجوه ، والآية تدلّ عليها من بعضها :
الأوّل : مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله له ؛ فإنّها تدلّ على فضله على سائر الصحابة بمناسبته للنبيّ دونهم ؛ والأفضل هو الإمام.
الثاني : قوله صلی اللّه علیه و آله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه
ص: 144
لا نبيّ بعدي » ؛ فإنّه أوضح دليل على إمامته ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
الثالث : إنّه ورث منه ميراث الأنبياء لخلفائهم وأوصيائهم من الكتاب والسنّة.
الرابع : إنّه صلی اللّه علیه و آله أخبر أنّهما بقصر واحد ؛ وهو دليل الفضل والامتياز على الأمّة.
الخامس : إنّه صلی اللّه علیه و آله أخبر بأنّه من أهل الجنّة ، وبيّن نزول الآية فيهم.
ومن الواضح أنّه لا يصحّ إخبار شخص بعينه بأنّه من أهل الجنّة إلّا مع العلم بعصمته ، أو أنّ له ملكة تحجزه عن الذنوب إعظاما لله تعالى ، حتّى مع أمانه من ناره ، وإن أذنب نادرا - خطأ أو عمدا - مع التوبة ، وإلّا كان إخباره بأنّه من أهل الجنّة نقضا للغرض ، وهو تجنّب المحرّمات ، وكان تشجيعا له على الحرام ؛ لأنّه إذا كسب الأمان من العقاب لم يحجزه عن المعصية حاجز.
وبهذا يعلم كذب حديث تبشير العشرة بالجنّة الذي رواه القوم (1) ؛ لامتناع أن يبشّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجنّة من لا ملكة له تردعه عن الخروج على إمام زمانه ، وقتل النفوس المحترمة ، وغصب الأموال المحرّمة.
على أنّ راوي حديث تبشير العشرة هو منهم ، وهو موضع التهمة
ص: 145
عندنا ، وفوق ذلك ضعف رواته ، ولذا لم يروه البخاري ومسلم.
وقال البخاري : لم يصحّ ؛ كما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد اللّه بن ظالم (1).
وقال العقيلي أيضا : لم يصحّ ؛ كما حكاه عنه ابن حجر في « تهذيب التهذيب » بترجمة عبد اللّه أيضا (2).
مضافا إلى القرائن الدالّة على كذبه ، كتحريض بعض العشرة على عثمان يوم الدار حتّى قتل (3) ، فإنّه لا يجتمع مع كون الجميع من أهل
ص: 146
الجنّة ، مستحقّين للبشارة بها على لسان الرسول صلی اللّه علیه و آله ..
وكاتّفاق جلّ المهاجرين والأنصار على خلع عثمان ، والحكم بأنّه أتى من المحرّمات ما يستحقّ به العزل ، فإنّه يمتنع مع ما زعمه أهل السنّة من عدالة الصحابة جميعا أن يفعلوا ذلك بمن بشّره النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجنّة ..
وكعدم احتجاج عثمان به يوم الدار ..
.. إلى غير ذلك من القرائن على كذبه.
وكيف كان! فإذا كانت بشارة الآية والرواية لأمير المؤمنين علیه السلام دليلا على عصمته أو ثبوت تلك الملكة له ، كان هو الأفضل والإمام ؛ لأنّ أوّل الخلفاء الثلاثة - وهو أعظمهم - لم يكن كذلك ، فضلا عن صاحبيه ؛ لأنّه كما قال في خطبته عن نفسه : « أطيعوني ما أطعت اللّه ورسوله ، فإذا عصيت اللّه ورسوله فلا طاعة لي عليكم ، ألا وإنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم » (1).
ولا أدري كيف يبشّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجنّة من كان كذلك ، ويؤمنه من النار حتّى يكون ذلك سببا لأن تهون عليه المعصية وظلم الأمّة؟!
والكلام في عمر وعثمان أعظم!
* * *
ص: 147
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثالثة والثلاثون : قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (2).
روى الجمهور ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو يعلم الناس متى سمّي عليّ ( أمير المؤمنين ) ما أنكروا فضله! سمّي ( أمير المؤمنين ) وآدم بين الروح والجسد ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) .
قالت الملائكة : بلى.
فقال تعالى : أنا ربّكم ، ومحمّد نبيّكم ، وعليّ أميركم » (3).
* * *
ص: 148
وقال الفضل (1) :
هذا من تفاسير الشيعة ، وليس من تفاسير المفسّرين ، والعجب أنّه لم يتابع المعتزلة في هذه المسألة ؛ فإنّهم ينكرون إخراج الذرّ من ظهر آدم ، ويقولون : هذا تمثيل وتخييل لا حقيقة له (2) ؛ لأنّه ينافي قواعدهم في نفي القضاء والقدر السابق.
وإن صحّ النقل ، فيدلّ على أنّ عليّا أمير المؤمنين ، وهذا مسلّم ؛ لأنّه كان من الخلفاء ، ولم يلزم منه نصّ على أنّه أمير المؤمنين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى يثبت به مطلوبه.
* * *
ص: 149
إنّما نسبه المصنّف رحمه اللّه إلى رواية الجمهور ، لا إلى تفسيرهم حتّى ينفيه المعترض.
وقد ذكر المصنّف راويه في « منهاج الكرامة » ، وهو الديلمي في الفردوس (1) ، وهو ممّن أقرّ له ابن تيميّة بالعلم والدين ، ولم ينكر وجود الحديث في كتابه ، وإنّما ناقش بأمور أخر ، منها المطالبة بصحّة الحديث (2) ، وقد مرّ جوابه مرارا (3).
ومنها ما ستعرف جوابه في طيّ الكلام الآتي.
وينبغي قبل بيان المطلوب التعرّض للخلاف في أمر الذرّ ، فنقول :
ذهب الأشاعرة إلى وجوده وإخراجه من ظهر آدم علیه السلام وأخذ الميثاق عليه (4).
وأنكره الإماميّة والمعتزلة (5).
واستدلّ الأشاعرة برواية مسلم [ بن يسار الجهني ] ، أنّ عمر سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سئل عنها ، فقال : « إنّ اللّه
ص: 150
سبحانه خلق آدم ، ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذرّيّة ، فقال : خلقت هؤلاء للجنّة ، وبعمل أهل الجنّة يعملون ؛ ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذرّيّة ، فقال : خلق هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون » (1).
وبما عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمّا خلق اللّه آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كلّ نسمة من ذرّيّته إلى يوم القيامة » (2).
وبما عن مقاتل : إنّ اللّه تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ، فخرج منه ذرّيّة بيضاء كهيئة الذرّ فتحرّك (3) ، ثمّ مسح صفحة ظهره اليسرى ، فخرج منه ذرّية سوداء كهيئة الذرّ ، فقال : يا آدم! هذه ذرّيّتك ؛ ثمّ قال : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) .
إلى أن قال : وقال تعالى في من نقض العهد الأوّل : ( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) (4) (5).
واستدلّ الإماميّة والمعتزلة على بطلانه بمخالفته للآية ؛ لأنّه تعالى يقول : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (6) ،
ص: 151
ولم يقل : أخذ من آدم من ظهره ذرّيّته (1) ..
وبمخالفته لظواهر آيات أخر ..
كقوله تعالى : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) (2) (3) ؛ فإنّه لو صحّ أخذ الميثاق على الذرّ لكانت الموتات ثلاثا ؛ لأنّ أخذ الميثاق عليه يتوقّف على حياته ، ولا ريب بموته بعد ذلك ؛ إذ لا يمكن القول باستمرار حياته إلى هذا العالم الحاضر ؛ لشهادة الوجدان بعدم الحياة للنطفة والعلقة والمضغة ، فهذه موتة ..
والثانية : موتة الدنيا ، وقبلها حياة ..
والثالثة : موتة القبر ، وبعدها حياة.
وكقوله تعالى : ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) (4) ؛ فإنّه ظاهر في خلق بني آدم من الماء الحادث ، وإنّه أصلهم ، لا الذرّ (5) ، كما إنّ أصل آدم هو الطين ، الذي هو مبدأ خلق الإنسان (6).
واستدلّوا أيضا بمخالفته للعقل من وجوه :
منها : إنّ أخذ الميثاق إنّما يصحّ من العاقل ، ولو كان الذرّ ممّن يعقل لما نسيه الناس كلّهم ، وبهذا يبطل القول بالتناسخ ..
ص: 152
ودعوى الفرق - بأنّ التناسخ مبنيّ على دعوى نسيان ما مارسته كثيرا ، وبقيت فيه دهرا طويلا ، وهو محال جزما ، بخلاف أخذ الميثاق ، فإنّه لم يطل وقته ، ولا يمتنع عادة في مثله أن يتعلّق النسيان - باطلة ؛ لأنّ نسيان الناس كلّهم ما وقع منهم ، وإنّ لم يطل وقته أيضا محال عادة (1).
ومنها : إنّ أخذ الميثاق على الذرّ إن كان ليصير حجّة عليهم في ذلك الوقت ، فباطل ؛ لأنّه ليس وقت تكليف بالإجماع ، وإن كان ليصير عليهم حجّة بعد البلوغ ، أو يوم القيامة ، فالمفروض عدم تذكّر أحد له (2).
وأجاب الرازي : بأنّه يمكن أن يكون أخذ الميثاق ليميّز الملائكة في ذلك الوقت السعيد من الشقي (3).
ويردّه : إنّ الآية قالت : ( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (4) ، وهو يدلّ على أنّ الفائدة في أخذ الميثاق عليهم ، هو كونه حجّة عليهم ، لا تمييز الملائكة بين السعيد والشقي.
على أنّ التمييز إن كان بنقض العهد وحفظه ، فهما في هذه الحياة الفعلية لا حين أخذ الميثاق ، وإن كان بالبياض والسواد ، كان أخذ الميثاق لغوا ، فيبطل جعل التمييز فائدة لأخذ الميثاق.
اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّ اللّه سبحانه كما أرى الملائكة أخذ الميثاق على الناس في عالم الذرّ ، يمكن أن يكون أراهم أيضا كيف ينقضون العهد أو يحفظونه في الحياة الدنيوية ، فيكون التمييز فائدة لأخذ الميثاق بما يقترن
ص: 153
به من إراءة نقض العهد وحفظه ، ولكن يشكل بإغناء البياض والسواد عنه في التمييز مع دلالة الآية ، كما عرفت.
على أنّ الفائدة في أخذ الميثاق كونه حجّة عليهم لا تمييز الملائكة ، فلا بدّ أن يكون معنى الآية : إنّ اللّه عزّ وجلّ أخرج ذرّيّة بني آدم من ظهورهم ؛ لكونهم نطفة في أصلابهم ، وأشهدهم على أنفسهم ، فقال لهم - بما أراهم من عجائب الصنع في أنفسهم - : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟ فقالوا : ( بَلى شَهِدْنا ) ، بلسان حالهم وحاجتهم إلى مدبّر لهم يخرج النطفة ، ثمّ يجعلها علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ بشرا سويّا (1).
ولهذا نظائر في الكتاب العزيز وغيره ..
قال تعالى : ( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (2) ؛ فإنّ قولهما : ( أَتَيْنا طائِعِينَ ) إنّما هو بلسان الحال.
وقال الشاعر [ من الرجز ] :
امتلأ الحوض وقال : قطني (3) *** مهلا رويدا قد ملأت بطني (4)
فإذا عرفت هذا ، فنقول :
استدلال المصنّف رحمه اللّه - بما ذكره - إمّا مبنيّ على إلزام الأشاعرة
ص: 154
بمقتضى مذهبهم ، من صحّة أخذ الميثاق على الذرّ ووقوعه ، فإذا دلّت رواية « الفردوس » (1) على أخذ الميثاق بإمرة عليّ علیه السلام ، كان لازما لهم وإن لم تذكره الآية الشريفة ؛ لجواز الاكتفاء عن ذكره بذكر أخذ الميثاق بالربوبيّة ؛ لأنّ الإمامة من توابع الربوبيّة ولوازمها لتكون بالإمام لله الحجّة على الناس.
لكن يبقى عليه سؤال ؛ إنّ الرواية تقول : « وآدم بين الروح والجسد » (2) ، وفي هذه الحال لا وجود للذرّ ، ولا يقول الأشاعرة بأخذ الميثاق فيه ، فإنّهم إنّما يقولون به بعد تعلّق الروح بآدم.
وقد يجاب عنه بأنّه مجاز في النسبة ، للمبالغة في تقدّم أخذ الميثاق.
وإمّا مبنيّ على ما يقوله الإماميّة من الإشهاد بلسان حال إبداء الصنع العجيب ، والشهادة بلسان حال الحاجة ، فإنّ البشر كما يحتاج إلى خالق ، يحتاج إلى حجّة من رسول أو إمام (3).
لكن يبقى عليه أيضا سؤال ؛ إنّ هذا إنّما يقتضي وجود حجّة بلا تعيين ، فمن أين يتعيّن محمّد وعليّ كما ذكرته الرواية؟!
وقد يجاب عنه بأنّ التعيين إنّما هو للتنصيص من اللّه تعالى الذي أظهره للملائكة.
وإنّما أضاف النبوّة والإمرة إلى ضمير خطاب الملائكة ، فقال :
ص: 155
« نبيّكم » و« أميركم » ؛ لأنّه يجب عليهم الإقرار بنبوّة محمّد وإمرة عليّ ، فأضاف إليهم بهذا اللحاظ ؛ أو لأنّ المراد بالضمير الأعمّ من الملائكة ، أمّة محمّد ، فغلبت الملائكة بجهة الخطاب ، والأمّة بجهة أنّ النبوّة والإمرة لهم.
ويبقى أيضا سؤال ؛ إنّ الرواية تريد تطبيق ما ذكرته على الآية ، وهو غير منطبق ؛ لأنّ الآية - بناء على تفسير الإمامية - إنّما ذكرت شهادة الذرّيّة بلسان الحال المتأخّر ، والرواية ذكرت شهادة الملائكة في القدم.
وقد يجاب عنه بجواز وقوع الشهادة منهما ، فالذرّيّة بلسان الحال المتأخّر ، والملائكة بلسان المقال المتقدّم ، فإنّهم يعلمون بإخراج ذرّيّة بني آدم من ظهورهم ، وصيرورتهم أناسيّ ، الدالّين على حاجتهم إلى الخالق ، فشهدوا بالربوبية في القدم.
وكيف كان! فالرواية قاضية بإمرة عليّ علیه السلام حتّى على الخلفاء الثلاثة ؛ لأنّهم ممّن أخذ عليه الميثاق ؛ ولأنّ أخذ الميثاق بإمرته مع نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله دليل على أنّه خليفته بلا فصل ، وإلّا فلا وجه لترك السابقين عليه!
* * *
ص: 156
وقال الفضل (1) :
هذه الآية في سورة التحريم ، وهي نازلة في شأن عائشة وحفصة ، واتّفق المفسّرون أنّ المراد من ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر ؛ لأنّ صدر الآية هكذا : ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
يعني : إن تظاهر عائشة وحفصة على جنب (3) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من نسائه ، فإنّ ( اللّهِ ) مولاه ، وجِبْرِيلُ ، بأن يخبره عن صنيعهما ، و ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، المراد به : أبواهما (4) ؛ فإنّهما كانا ينصحانهما بترك الأفعال التي تكون للضرّات.
وإن صحّ نزوله في أمير المؤمنين ، فلا شكّ أنّه ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ولكن لا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 158
أراد المصنّف رحمه اللّه بإجماع المفسّرين ، عدم اختصاص مفسّري الشيعة به ، وإن كان الموافق لهم بعض خصومهم ، فقد نقل القول به عن مجاهد (1).
وقال ابن تيميّة : « وقيل : هو - أي ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) - عليّ ، حكاه الماوردي » (2).
وقد استفاضت به رواية القوم ، فقد نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن عليّ علیه السلام ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أنّ ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : عليّ (3).
ونقله أيضا ، عن ابن مردويه ، وابن عساكر ، بسنديهما عن ابن عبّاس (4).
ونقله أيضا ، عن ابن مردويه ، بسنده عن أسماء بنت عميس ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (5).
ونقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن
ص: 159
أسماء (1).
وحكاه محمّد بن طلحة الشافعي (2) في كتابه « مطالب السؤول » ، عن الثعلبي ، عن أسماء ، قالت : لمّا نزل قوله تعالى : ( وَإِنْ تَظاهَرا ... ) (3) الآية ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : ( صالح المؤمنين ) : عليّ علیه السلام (4).
وحكاه في « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم والثعلبي ، عن أسماء أيضا (5).
ونقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن السّدّي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وابن عبّاس (6).
ص: 160
... إلى غير ذلك من أخبارهم (1) ، وهي حجّة عليهم ؛ لكثرتها واعتضاد بعضها ببعض.
ولا يعارضها روايتهم عن ابن عبّاس أنّ ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر ؛ لأنّ الراوي لها هو عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه ، كما بيّنه في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد الوهّاب (2) ، وقد سبق في المقدّمة بيان حاله وحال أبيه ، فراجع (3) ؛ ولا يمكن أن تعارض هذه الرواية البالغة منتهى الضعف تلك الروايات المستفيضة!
مع أنّ المنصرف من ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) هو الأوحد في الصلاح ، كما يعرف من نظائره ، يقال : شاعر القوم ، وعالمهم ، وشجاعهم ؛ ويراد به أوحدهم في الوصف ، ولا شكّ أن أمير المؤمنين علیه السلام هو الأحقّ بهذا الوصف ؛ لآية التطهير (4) وغيرها.
ولأنّ اللّه سبحانه جعل نصرة ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في قرن نصرته ونصرة جبرئيل.
وبالضرورة أنّ أظهر المؤمنين في نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو أمير المؤمنين علیه السلام .
على أنّ استعمال ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) في الاثنين خلاف الظاهر ؛ فإنّ « فاعلا » ليس ك « فعيل » في استعماله في الواحد والأكثر (5).
ص: 161
وبهذا يضعّف ما حكاه السيوطي عن ابن عساكر ، عن مقاتل بن سليمان ، أنّ ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر وعليّ (1).
وقد يستدلّ بقول مقاتل على أنّ المراد ب ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) هو عليّ خاصّة ؛ لما سبق من أنّ مقاتلا من أعداء أمير المؤمنين علیه السلام (2) ، فلا يكون ذكره له - وهو من أعدائه - إلّا لمعلوميّة إرادته ، وليروّج منه إدخال الشيخين ، فإنّه أدفع للتهمة!
فإذا عرفت أنّ المراد ب ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) أوحدهم صلاحا ، وأنّه عليّ علیه السلام ، عرفت أنّه الأحقّ بالإمامة ؛ لأنّها منزلة دينية لا يليق لها إلّا الأصلح الأقوى في النصرة.
وأمّا ما زعمه الفضل من اتّفاق مفسّريهم على أنّ المراد ب ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر ، فلا يعارض أخبارهم السابقة ، التي هي حجّة عليهم ، وأيّ عبرة بالقول الناشئ عن الهوى ، المتفرّع عن تلك الرواية الضعيفة ، لا سيّما وهو مخالف للّغة؟!
على أنّ دعوى اتّفاقهم كاذبة ؛ لاختلاف مفسّريهم في المراد به ، أهو الصحابة ، أو خيار المؤمنين ، أو الأنبياء ، أو الخلفاء ... إلى غير ذلك من أقوالهم ، كما ذكره الزمخشري والرازي وغيرهما (3)؟!
ص: 162
وأمّا ما احتجّ به الفضل لإرادتهما ، بأنّهما كانا يناصحانهما ، فغير نافع ؛ لأنّ اللّه سبحانه أراد بالآية تهديد المرأتين ، فأيّ دخل للمناصحة به؟!
كما أنّ حمله لنصرة جبرئيل على مجرّد الإخبار ، باطل ؛ فإنّ المراد بها ما فوق الإخبار ؛ لقوله تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) (1)!
فيا لله ما أشدّ إيذائهما لسيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله ، وأعظم مكرهما ، حتّى يحتاج ردعهما إلى التهديد بنصرة اللّه تعالى ، وجبرئيل ، وأمير المؤمنين ، الذي لا تأخذه في نصرة رسول اللّه لومة لائم!! فلو اتّكلتا على حلمهم فكلّ الملائكة بعد ذلك ظهير!
والإنسان لا يأمن عقوبة هذا الجمّ الغفير!
وما أكبر خيانتهما لنبيّه صلی اللّه علیه و آله حتّى ضرب لهما مثلا بامرأتي نوح ولوط (2)!!
فتدبّر واعجب!!
* * *
ص: 163
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الخامسة والثلاثون : قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (2) .. الآية.
روى الجمهور ، عن أبي سعيد الخدري ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا الناس إلى عليّ علیه السلام في يوم غدير خمّ ، وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمّ (3) ، فدعا عليّا فأخذ بضبعيه (4) ، فرفعهما حتّى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .
فقال رسول اللّه : « اللّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ بن أبي طالب من بعدي ».
ص: 164
ثمّ قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (1).
* * *
ص: 165
وقال الفضل (1) :
في صحيح البخاري ومسلم : إنّ هذه الآية نزلت في حجّة الوداع ، ليلة عرفة ، حين قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الموقف (2) ؛ ولا خلاف في هذا ، والذي ذكره من مفتريات الشيعة.
وإن صحّ ، فقد ذكرنا قبل هذا أنّ وصيّة غدير خمّ لم تكن نصّا ، بل توصية لأهله وأقاربه ، وتعريف عليّ بين العرب ، وليتّخذوه سيّد بني هاشم (3).
* * *
ص: 166
حكاه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم (1).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : « أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : لمّا نصب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا يوم الغدير فنادى له بالولاية ، هبط جبرئيل بهذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (2).
وقال أيضا : « أخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر ، عن أبي هريرة ، قال : لمّا كان يوم غدير خمّ ، وهو يوم ثماني عشر ذي الحجّة ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فأنزل اللّه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (3).
ونقل السيّد السعيد رحمه اللّه مثل ذلك عن ابن جرير الطبري ، وابن عقدة ، في ما جمعاه من طرق حديث الغدير (4).
وعن الثعلبي ، وابن المغازلي ، والحافظ محمّد الجزري الشافعي في رسالته المسمّاة ب « أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب » (5).
فظهر أنّ الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه من روايات القوم ، وهي كثيرة
ص: 167
متعاضدة ، فهي حجّة عليهم.
وأمّا ما نقله الفضل عن الصحيحين ، فهو من رواية عمر ، الذي هو أساس نقض عهد الغدير ، فكيف تعتبر روايته؟!
على أنّ رواية الفضل لا تقوم حجّة على خصمه ، فكيف يحتجّ علينا بهذه الرواية ، التي نعتقد أنّها من موضوعات عمر أو أوليائه؟!
ثمّ إنّ قوله تعالى : ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (1) ، أدلّ دليل على نصب إمام ؛ حيث إنّه أعظم النعم على الأمّة ، وبدونه لن تتمّ النعمة.
وكذا إكمال الدين ؛ فإنّه إنّما يحصل بنصب الإمام ، بناء على أنّ الإمامة من أصول الدين ، كما نقوله ، وسبق دليله (2).
وبالضرورة والإجماع إن كان ثمّة إمام منصوب ، فهو أمير المؤمنين علیه السلام .
وأمّا قوله : « فقد ذكرنا قبل هذا ... » إلى آخره ، فقد عرفت ما فيه (3).
ومن المضحك قوله : « وتعريف عليّ بين العرب » ، فإنّ عليّا علیه السلام أغنى الناس عن التعريف ، شخصا وشأنا ، فإن كان هناك تعريف فليس هو إلّا بالإمامة.
ولا أعرف وجها للتخصيص ببني هاشم في قوله : « وليتّخذوه سيّد بني هاشم » ، إلّا دفع سيادة أمير المؤمنين لخلفائهم ، خلافا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ يقول : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ».
ص: 168
فإنّ « المولى » هو : السيّد الأولى بالتصرّف بالمولّى عليه من نفسه ، كما يشهد له فهم الفضل لسيادته من الحديث ، وإن خصّها ببني هاشم.
والعجب منه حيث لم يقرّ بما أقرّ به إمامه عمر ؛ إذ قال لعليّ علیه السلام :
« بخ بخ! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (1).
وفي رواية قال له الشيخان ذلك ، كما سبق (2).
ثمّ لا أدري أيّ عاقل يتصوّر أن تكون غاية النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ما فعله بغدير خمّ مجرّد جعل عليّ علیه السلام سيّدا لبني هاشم؟!
وما الفائدة في اتّخاذ العرب له سيّدا لبني هاشم؟!
فانظر إلى هؤلاء كيف خالفوا الضرورة لجحد فضل سيّد المسلمين!!
* * *
ص: 169
قال المصنّف - طاب مرقده - (1) :
السادسة والثلاثون : قوله تعالى : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : « كنت جالسا مع فئة (3) من بني هاشم عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ انقضّ كوكب ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصيّ من بعدي ».
فقام فئة (4) من بني هاشم فنظروا ، فإذا الكوكب قد انقضّ في منزل عليّ بن أبي طالب ، فقالوا : يا رسول اللّه! لقد غويت في حبّ عليّ.
فأنزل اللّه : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (5) (6).
* * *
ص: 170
وقال الفضل (1) :
آثار الوضع والافتراء على هذا النقل ظاهر لا خفاء به ، فإنّ هذه السورة نزلت في أوائل بعثة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وابن عبّاس لم يولد ، فكيف روى هذا الحديث؟!
ثمّ نسبته الغواية إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حبّ عليّ ، وربط الآية بها ، في غاية الركاكة ، ولا يخفى هذا.
ولو صحّ ، دلّ على وصايته ، والوصاية غير الخلافة.
* * *
ص: 171
نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن ابن المغازلي الشافعي ، عن ابن عبّاس (1).
ونقله السيّد السعيد رحمه اللّه ، عن أبي حامد الشافعي (2) (3).
وذكر ابن تيميّة روايتين أيضا ، إحداهما عن ابن عبّاس ، والأخرى عن أنس (4) ، زعم أبو الفرج أنّهما من الموضوعات ؛ لضعف سنديهما ، وكون الأولى مرويّة عن ابن عبّاس ، وهي مصرّحة بانقضاض النجم بأثر المعراج ، وابن عبّاس حينئذ ابن سنتين ، فكيف يشهد تلك الحالة - أي حالة الانقضاض - ويرويها؟!
ص: 172
وكون الثانية عن أنس ، وهو إنّما خدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمدينة ، والمعراج قبل الهجرة بسنة (1).
وفيه - مع ما عرفت مرارا من أنّ ضعف سند الرواية عندهم في فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، ولا سيّما المتعلّقة بخلافته ، غير ضائر في صحّتها (2) - :
إنّ الرواية إذا تعدّدت أسانيدها قوي اعتبارها ، ولا سيّما مع موافقتها للأخبار الكثيرة المصرّحة بخلافة عليّ علیه السلام ووصايته.
وأمّا قوله : « إنّ ابن عبّاس كان حين المعراج ابن سنتين » ، فغير مسلّم ..
ذكر في « الاستيعاب » بترجمة ابن عبّاس ، من طريق عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، بسنده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : « توفّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنا ابن خمس عشرة سنة » ..
قال عبد اللّه : قال أبي : وهذا هو الصواب » (3).
فيكون ابن عبّاس حين الهجرة ابن خمس سنين ، كما قال ابن تيميّة : « له نحو خمس سنين » (4) ، وقال به كثير منهم (5).
وحينئذ : فله عند المعراج أربع سنين ، ولا شكّ أنّ مثله في معرفته وذكائه يلتفت إلى مثل ذلك.
ص: 173
وكيف لا؟! وقد روى الروايات الكثيرة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله المتعلّقة بالأمور الخفيّة وهو صبيّ!
فكيف لا يحسن أن يروي وهو ابن أربع سنين ما شاهده من الأمر الغريب ، الذي يلتفت إليه سائر الصبيان؟!
وأمّا أنس ، فيمكن أن يكون جاء بصحبة أحد إلى مكّة قبل الهجرة بسنة فشاهد ما شاهد.
وأمّا ما زعمه الفضل وابن تيميّة ، من أنّ سورة النجم نزلت في أوائل البعثة (1) ، فممنوع ..
نعم ، قيل : إنّها مكّيّة (2) ، وهو لا يقتضي ما زعماه.
وقد ذكر ابن تيميّة هنا ما لا يستحقّ الجواب (3) ، وإن تكلّفنا بردّ بعضه في طيّ الكلام الآتي.
وأمّا ما زعمه الفضل من الركاكة في نسبة الغواية إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وربط الآية بها ..
ففيه : إنّ الكافرين والمنافقين إذا لم ينسبوا الغواية له في حبّ عليّ ، فمن ينسبها إليه؟! وليست هي بأعظم من نسبة الهجر له.
كما إنّ تلك النسبة ليست بغريبة من بني هاشم ، فإنّهم ليسوا بأعظم من أولاد يعقوب الّذين صاروا بزعم القوم أنبياء ، وقد نسبوا إلى أبيهم الضلال في حبّ يوسف علیه السلام .
ص: 174
وأمّا ربط الآية بنسبة الغواية إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هوى عليّ علیه السلام وبيان وصيّته ، فأوضح حالا من تجاهل الفضل.
وأمّا قوله : « إنّ الوصاية غير الخلافة » ، فباطل ؛ لأنّ غير الخلافة لا يحتاج إلى هذا البرهان العظيم ، ولا يوجب نسبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الغواية.
مع أنّ روايتي ابن تيميّة مصرّحتان بالخلافة ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال في إحداهما : « في دار من وقع هذا النجم فهو خليفتي من بعدي » (1) ، وفي الأخرى : « من انقضّ في داره فهو الخليفة بعدي » (2).
ثمّ إنّ النجم الذي هوى يحتمل أن يكون من نجوم السماء ، أنزله اللّه تعالى بجرم صغير في دار عليّ علیه السلام معجزة ؛ ليجعله آية ظاهرة لإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، كما شقّ القمر وأنزله بجرم صغير إلى الأرض معجزة لرسالة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ويحتمل أن يكون من غيرها ، فإنّ الآيات الإلهيّة لا يستبعد فيها شيء ممكن ، كما لا يستبعد بيان خلافة أمير المؤمنين علیه السلام بمكّة ، لتتضافر الحجج عليهم ، فإنّه يعلم عاقبة قريش مع عليّ علیه السلام ، كما لا يمنع من بيانها صغر سنّه ؛ ولذا نصّ له بالخلافة في أوّل رسالته عند ما أنزل اللّه سبحانه : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (3) ، وجمع بني هاشم ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
ثمّ إنّه لا ينافي وجه النزول - الذي ذكرته تلك الروايات - ما حكاه
ص: 175
السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أبي الحمراء ، وحبّة العرني ، قالا :
« أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تسدّ الأبواب التي في المسجد ، فشقّ عليهم ... إلى أن قالا : فقال رجل : ما يألو يرفع ابن عمّه ، [ قال : ] فعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قد شقّ عليهم ، فدعا بالصلاة جامعة ، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر ، فلم يسمع لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطبة قطّ كان أبلغ منها تمجيدا وتوحيدا.
فلمّا فرغ قال : « أيّها الناس! ما أنا سددتها ، ولا أنا فتحتها ، ولا أنا أخرجتكم وأسكنته » ، ثمّ قرأ : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلأَوَحْيٌ يُوحى ) (1) » (2).
وإنّما قلنا : إنّه لا ينافيه ؛ لأنّ هذه الرواية لا تقتضي إلّا استشهاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالآيات ، إذ لم يهو نجم حينئذ ، فلا تنافي نزولها سابقا في أمر خلافة أمير المؤمنين علیه السلام .
* * *
ص: 176
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السابعة والثلاثون : أقسم اللّه تعالى بخيل جهاده في « غزوة السلسلة » (2) لمّا جاء جماعة من العرب واجتمعوا على وادي الرملة ليبيّتوا (3) النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمدينة ، فقال النبيّ لأصحابه : من لهؤلاء؟
فقام جماعة من أهل الصفّة (4) ، فقالوا : نحن ؛ فولّ علينا من شئت!
فأقرع بينهم ، فخرجت القرعة على ثمانين رجلا منهم ومن غيرهم.
ص: 177
فأمر أبا بكر بأخذ اللواء والمضيّ إلى بني سليم (1) ، وهم ببطن الوادي ، فهزموهم وقتلوا جمعا من المسلمين ، وانهزم أبو بكر.
وعقد لعمر وبعثه ، فهزموه ، فساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول اللّه! فأنفذه ، فهزموه وقتلوا جماعة من أصحابه.
وبقي النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيّاما يدعو عليهم.
ثمّ طلب أمير المؤمنين علیه السلام وبعثه إليهم ، ودعا له وشيّعه إلى مسجد الأحزاب ، وأنفذ معه جماعة ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وعمرو بن العاص.
فسار الليل وكمن النهار حتّى استقبل الوادي من فمه ، فلم يشكّ عمرو بن العاص أنّه يأخذهم ، فقال لأبي بكر : هذه أرض سباع وذئاب وهي أشدّ علينا من بني سليم ، والمصلحة أن نعلو الوادي ؛ وأراد إفساد الحال وقال : قل ذلك لأمير المؤمنين ؛ فقال له أبو بكر ، فلم يلتفت إليه.
ثمّ قال لعمر ، فلم يجبه أمير المؤمنين علیه السلام .
وكبس على القوم الفجر ، فأخذهم ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ... ) (2) السورة.
واستقبله النبيّ صلی اللّه علیه و آله فنزل أمير المؤمنين ، وقال له النبيّ :
ص: 178
« لو لا أن أشفق أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملأ منهم إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك ، اركب فإنّ اللّه ورسوله عنك راضيان » (1).
* * *
ص: 179
وقال الفضل (1) :
قصّة غزوة ذات السلاسل منقولة في الصحاح ، وأنّها تصدّاها عمرو ابن العاص بتأمير رسول اللّه إيّاه ، وكان الفتح بيده (2).
وأمّا ما ذكره ، فليس بمنقول في الصحاح ، بل اشتمل على المناكير ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كيف يجوز أن يدّعي ألوهيّة عليّ؟!
والمفهوم من هذا الخبر أنّ النبيّ كان يريد أن يقول بألوهيّة عليّ ، ولكنّه خاف أن يعبده الناس.
وهذا كلام غلاة الرافضة ، ولا ينبغي نقل هذا لمسلم فضلا عن فاضل (3).
ص: 180
لم يذكر البخاري ولا غيره ممّن اطّلعت على ذكره لهذه الغزوة كالطبري ، وابن الأثير ، أنّ الفتح على يد عمرو (1) ، فلا يبعد أنّه من وضع الفضل.
وأمّا نفيه لوجود ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في صحاحهم ، فلا يدلّ على عدم صحّته ؛ إذ ليس كلّ ما لم يكن فيها غير صحيح عندهم.
وأمّا قوله : « والمفهوم من هذا الخبر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يريد ... » إلى آخره ..
فمنشأه اعوجاج فهمه ، أو تغيير الكلم عن مواضعه ؛ فإنّ صريح الخبر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أشفق من قولهم بإلهيّة عليّ علیه السلام ، التي لا يقولها إلّا مبطل ، كإلهيّة المسيح ..
وهو حقّ ؛ فإنّه صلی اللّه علیه و آله لو ذكر فضله الواقعي ، وأنّ اللّه أقدره على خوارق العادات ، حيث إنّه أظهر مصاديق قوله تعالى في الحديث القدسي : « عبدي أطعني تكن مثلي ، تقول للشيء : كن ، فيكون » (2) ، أو بيّن فضائله الفاضلة ، التي يفوق بها الأنبياء السابقين ، ويمتاز بها عن الأمّة أجمعين ، لخاف صلی اللّه علیه و آله من طوائف من أمّته أن يقولوا بربوبيّته ، كما وقع لكثير منهم لمّا رأوا منه بعض خوارق العادة.
ص: 181
وقد ورد مضمون هذا الخبر في جملة من أخبار القوم فضلا عن أخبارنا (1) ، فقد حكاه في « ينابيع المودّة » عن أحمد في مسنده من طريقين (2) ، وكذا عن موفّق بن أحمد (3).
وقال الشافعي في ما نسب إليه [ من الوافر ] :
لو أنّ المرتضى أبدى محلّه *** لصار الخلق طرّا سجّدا له
كفى في فضل مولانا عليّ *** وقوع الشكّ فيه أنّه اللّه (4)
* * *
ص: 182
وقال الفضل(1) :
جاء هذا في تفاسير أهل السنّة ، والآية نازلة في عليّ ، وهو من فضائله التي لا تحصر.
ص: 184
المراد بالفاسق في الآية : الكافر ، ولو في وقت سابق ، بقرينة المقابلة مع المؤمن.
وإنّما قلنا : ولو في وقت سابق ؛ لأنّ الوليد كان حين نزول الآية مسلما ، فإذا دلّت الآية على عدم استواء الكافر ولو في وقت ما مع المؤمن في جميع أوقاته ، على وجه تفيد قاعدة كلّيّة ، كما هو ظاهرها ، وإن نزلت في مورد خاصّ ، فقد دلّت على عدم استواء الخلفاء الثلاثة مع أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لثبوت الكفر في وقت ، فيتعيّن للإمامة.
فإن قلت : لعلّ المراد بالفاسق ، هو المسلم الذي لم يدخل الإيمان في قلبه ، بقرينة المقابلة مع المؤمن ، وهو الذي دخل الإيمان في قلبه ، قال تعالى : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (1) ، وحينئذ فلا يقتضي عدم خلافة الثلاثة ؛ لأنّهم ليسوا كالوليد.
قلت : لو سلّم جميع ذلك ، أو قلنا : إنّ الوليد من المنافقين ، يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، كما تدلّ على كفره الآيات اللاحقة لهذه الآية ، حيث أثبتت له التكذيب بعذاب النار ، كما ستسمعها ، فقد لزم عدم صحّة خلافة عثمان ؛ لأنّه قد ولّى هذا الفاسق على المسلمين ، وكان يعظّمه كثيرا - بعد ما خالف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ردّه - ، حتّى كان لا يجلس معه على سريره غيره
ص: 185
وغير العبّاس وأبي سفيان والحكم (1) ، كما رواه القوم (2) ، وستعرفه إنّ شاء اللّه تعالى.
اللّهمّ إلّا أن يدّعى علمه بإيمان الوليد بعد فسقه ، وهو باطل ؛ فإنّ اللّه سبحانه لا يفضح على طول الدهر من يعلم بحسن عاقبته.
بل الآيات صريحة بأنّ الوليد مستمرّ على تكذيبه ، وأنّه من أهل النار ..
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : « نزلت بالمدينة في عليّ ، والوليد بن عقبة ، كان بين الوليد وبين عليّ كلام ..
فقال الوليد : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأردّ منك للكتيبة.
فقال عليّ : أسكت! فإنّك فاسق ؛ فأنزل تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (3) (4) .. الآيات كلّها ويعني بالآيات قوله تعالى :
ص: 186
( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (1).
وإذا بطلت إمامة عثمان ، بطلت إمامة صاحبيه ؛ لأنّها من باب واحد ، واختصّت بعليّ علیه السلام ، لا سيّما وقد بشّر بجنّة المأوى.
وقد سبق في الآية الثانية والثلاثين أنّ بشارة شخص بالجنّة وإعلامه بأنّه من أهلها يستدعي تفضيله وإمامته (2).
* * *
ص: 187
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
التاسعة والثلاثون : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (2).
روى الجمهور ، أنّ ( فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والشاهد : عليّ علیه السلام (3).
* * *
ص: 188
قال الرازي : ذكروا في تفسير « الشاهد » وجوها - إلى أن قال - :
« ثالثها : إنّ المراد : عليّ بن أبي طالب ، والمعنى : أنّه يتلو تلك البيّنة.
وقوله : ( مِنْهُ ) ، أي هذا الشاهد من محمّد وبعض منه ، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنّه بعض من محمّد صلی اللّه علیه و آله » (1).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : « أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في ( المعرفة ) ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : ما من رجل من قريش إلّا نزل فيه طائفة من القرآن.
فقال له رجل : ما نزل فيك؟
قال : أما تقرأ سورة هود : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (2)؟! رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وأنا : ( شاهِدٌ مِنْهُ ) » (3)
ونحوه في تفسير الطبري (4).
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن عليّ ، قال : « رسول اللّه : ( عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وأنا : ( شاهِدٌ مِنْهُ ) » (5).
ص: 190
وقال أيضا : أخرج ابن مردويه من وجه آخر ، عن عليّ ، قال : « قال رسول اللّه : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) ، قال : عليّ » (1).
.. إلى غير ذلك ممّا حكي عن الثعلبي وجماعة (2).
وحينئذ ، فالآية دالّة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجوه :
الأوّل : إنّها جعلت عليّا علیه السلام شاهدا ، والمراد به : الشاهد على الأمّة ، بقرينة جعله تاليا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو يعطي الولاية على أمورهم ، كما قال تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (3) ..
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) (4).
الثاني : إنّها جعلت عليّا بعضا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كما قال صلی اللّه علیه و آله : « عليّ منّي ، وأنا من عليّ » (5) ..
وهو دليل المشاركة في العصمة ، والفضل ، وسائر الصفات الحميدة ، فيكون الأحقّ بخلافته.
الثالث : إنّها جعلت عليّا تاليا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ فإنّ ضمير المفعول في ( يَتْلُوهُ ) مذكّر ، وهو على الظاهر عائد إلى ( فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
ص: 191
رَبِّهِ ) ، لا إلى « البيّنة » ، وإن احتمل بعيدا رجوعه إليها باعتبار أنّها بمعنى البرهان.
والمراد من تلوّه له : تعقّبه إيّاه ، إمّا في القيام مقامه بصيرورته خليفة له ..
أو في كونه مثله على بيّنة من ربّه ..
أو في كونه ظهيرا له على دعوته ، كما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه دعا ربّه أن يشدّ أزره بعليّ ، ويشركه في أمره ، فكان منه بمنزلة هارون من موسى (1).
وعلى جميع الاحتمالات ، فالآية تدلّ على المطلوب ..
أمّا على الأوّل ؛ فظاهر ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ المراد بكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله على بيّنة من ربّه :
إمّا كونه ذا برهان على ما يدّعيه ؛ لثبوت المعجزة له من اللّه تعالى ..
أو كونه عالما بأنّ منزلته بجعل من اللّه تعالى.
وعلى الوجهين : فالتالي له - أي المماثل له في ذلك - لا بدّ أن يكون هو الإمام من عند اللّه تعالى ؛ لأنّ من يحتاج إلى البيّنة والإعجازهو النبيّ أو الإمام من اللّه تعالى ، ومن يعلم بأنّ منزلته من اللّه سبحانه لا بدّ أن يكون منصوصا عليه.
وأمّا على الثالث ؛ فلأنّ عليّا إذا كان هو الظهير لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في نشر دعوته كهارون من موسى ، كان أولى الناس بخلافته.
ص: 192
ثمّ إنّه على تقدير رجوع ضمير المفعول في ( يَتْلُوهُ ) إلى البيّنة ، بلحاظ معناها - وهو البرهان - ، فالدلالة على إمامة الشاهد - وهو عليّ أيضا - واضحة ؛ لأنّ تلوّه للبرهان بالشهادة للنبيّ بالنبوّة ظاهر في أنّه معتبر الشهادة بها ، كالمعجزات ، فهو من علائم النبوّة وشواهدها ، وكفاه بذلك فضلا على الأمّة ؛ فيكون إمامها.
فالآية - على هذا - نظير قوله تعالى : ( كَفى بِاللّهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (1).
وقد أوضحنا دلالته على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، في ما سبق (2).
* * *
ص: 193
وقال الفضل (1) :
جاء في التفسير ، أنّ هذه نزلت في الخلفاء الأربع : ( كَزَرْعٍ ) : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) : أبو بكر ، ( فَآزَرَهُ ) : عمر ، ( فَاسْتَغْلَظَ ) : عثمان ، ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) : عليّ (2).
وهو من فضائله الكبيرة ، ولا يدلّ على النصّ.
* * *
ص: 195
نعم ، قاله بعض مفسّريهم برأيه ، وذكر بعضهم قريبا منه (1).
ولعلّه أيضا مذكور في ما حكاه المصنّف رحمه اللّه عن الحسن ، وإن خلا عنه ما نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه عن الحسن (2).
لكن لعلم المصنّف رحمه اللّه بخطئه في حقّ الخلفاء الثلاثة ترك ذكره ، لا سيّما مع عدم مناسبته للترتيب والعطف بالفاء بالآية ؛ لأنّ الإسلام لم يكن استغلاظه بأيّام عثمان ، بل قبله ، خصوصا في أيّام عمر ، فلو قال : فاستغلظ : في أيّام عمر ، فآزره : عثمان ؛ كان له وجه ، لكنّه لا يناسب ترتيب الآية والعطف بالفاء.
كما أنّ الإسلام قد استوى بسيف عليّ في أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكذا الاستغلاظ وغيره.
وبالجملة : ما ذكره الحسن وغيره ، من استواء الإسلام بسيف عليّ علیه السلام ، حجّة عليهم بإقرارهم ، كما هو ضروريّ ، وهو دالّ على كبير جهاد أمير المؤمنين دون غيره.
ومن كثر جهاده ، وفاق غيره ، حتّى استوى الإسلام بسيفه ، كان
ص: 196
الأفضل عند اللّه تعالى ، والأحقّ بالإمامة ؛ لفضله ، ولكونه لمّا استوى الإسلام بسيفه أوّلا ، كان أولى بنصره أخيرا ، وأرعى له فروعا وأصولا.
* * *
ص: 197
وقال الفضل (1) :
قوله : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ) نزل في بيان أنّ الفواكه تختلف طعومها ، مع أنّها تسقى بماء واحد ، هذا من غرائب صنع اللّه ، وما ذكره من الحديث لا ربط له بالآية.
والعجب أنّ كلام هذا الرجل في غاية التشويش ، وكأنّه يزعم أنّ أحدا لا ينظر في كتابه ، أو كان ضعيف الرأي لا يعرف ربط الدليل بالمدّعى.
* * *
ص: 199
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن جابر : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يا عليّ! الناس من شجر شتّى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة » ، ثمّ قرأ النبيّ : ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ) (1) (2).
وفي « كنز العمّال » (3) ، عن الديلمي ، عن جابر ، نحوه.
والآية وإن استفيد من ظاهرها بيان قدرة اللّه تعالى حيث أخرج من الأرض بماء واحد أشجارا وزروعا مختلفة ، وفضّل بعضها على بعض في الأكل ، لكن لا ينافي أنّ اللّه سبحانه ضرب بها مثلا لفضل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين علیه السلام على الناس ، مع اتّفاقهم بأصل واحد.
أو أنّ للآية باطنا ، كما ورد أنّ للكتاب الشريف ظهرا وبطنا (4) ؛ ولذا كان فيه بيان كلّ شيء لا يعلمه إلّا اللّه والراسخون في العلم.
وكيف كان ، فالمراد أنّ النبيّ وعليّا مخلوقان من نور واحد ، متّفقان بالصفات الفاضلة والمنافع ، ومخالفان للناس ، كما أنّ الناس مختلفون في ما بينهم ، فهما صنوان ، أي كنخلتين أو نخيل على أصل واحد ، ومن
ص: 200
عداهم غير صنوان.
وليت شعري! إذا لم يرض الفضل بهذا ، بحجّة عدم ارتباطه بظاهر الآية ، فما باله رضي بتفسير الآية السابقة بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله والخلفاء ، مع أنّه مثله في مخالفة الظاهر؟!
بل يفترقان بأنّ تفسير الآية السابقة ، تفسير بالرأي من ذوي الأهواء ، وتفسير هذه الآية من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهو أعلم بمعناها!
نعم ، هذا مختصّ بفضل أمير المؤمنين ، فاستحقّ جحد الفضل ؛ وذاك يعمّ غيره ، فاستوجب القبول!
وأمّا ربط هذا الدليل بالمدّعى ، فغير خفيّ على عارف ؛ لأنّه إذا دلّ على مشاركة عليّ علیه السلام للنبيّ في الفضل ، والامتياز على الناس ، فقد صار الأفضل ، وأحقّ الناس بخلافته ومنصبه ، وأولاهم بالإمامة بعده ، كما هو المدّعى.
* * *
ص: 201
قال ابن حجر في « الصواعق » ، في الفصل الأخير من الباب التاسع : سئل أمير المؤمنين علیه السلام - وهو على المنبر بالكوفة - عن قوله تعالى : ( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (1).
قال : « اللّهمّ غفرا! هذه الآية نزلت فيّ ، وفي عمّي حمزة ، وفي ابن عمّي عبيدة بن الحارث (2) ، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيدا يوم بدر ، وحمزة قضى نحبه شهيدا يوم أحد ، وأمّا أنا فأنتظر أشقاها ، يخضّب هذه من هذا ؛ وأشار بيده إلى لحيته ورأسه » (3).
ونحوه في « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس وإمامنا
ص: 204
الصادق علیه السلام ، عن أمير المؤمنين علیه السلام (1).
وهو دالّ على إمامته ؛ لأنّ مقتضى مفهوم وصف الرجال بأنّهم صدقوا ، أنّ غيرهم لم يعاهد اللّه سبحانه أو لم يصدق العهد ؛ فهم خواصّ المؤمنين وخيرتهم ؛ لانفرادهم بهذه الفضيلة الكاشفة عن زيادة المعرفة والتفاني في ذات اللّه تعالى.
ولا شكّ أنّ عليّا علیه السلام خاصّة الخاصّة ، فيكون أحقّ الناس بالإمامة ؛ لأفضليّته ، ولا سيّما أنّ صدق العهد في وقته بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله مختصّ به ، فلا يصلح للإمامة سواه.
وأمّا ما زعمه من نزول الآية في قتلى أحد ، فيبطله أنّه سبحانه قسّم صادقي العهد إلى من قضى نحبه ومن ينتظر ، فلا يختصّ بالقتلى.
اللّهمّ إلّا أنّ يريد نزولها في بعض قتلى أحد وبعض الأحياء ، فهو مسلّم ، وهو الذي نقوله ، وبيّنته الرواية السابقة ، وقال به صاحب « الكشّاف » ، لكنّه عدّ جماعة زعم أنّهم من صادقي العهد ، حمله على ذكرهم حسن الظنّ بهم (2) ؛ ونحن لا نعترف لهم بذلك.
* * *
ص: 205
وقال الفضل (1) :
عليّ من جملة ورثة الكتاب ؛ لأنّه عالم بحقائق الكتاب ، فهذا يدلّ على علمه ووفور توغّله في معرفة الكتاب ، ولا يدلّ على النصّ.
* * *
ص: 207
سبق في الآية السابعة والعشرين ، أنّ المراد ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (1) هو : عليّ علیه السلام (2) ؛ فيتعيّن أن يكون هو المراد بمن أورثه اللّه الكتاب ، واصطفاه ، فإنّ الكتاب فيهما واحد ، وهو : القرآن ، كما هو المنصرف.
ويدلّ عليه الآية التي قبل الآية التي نحن فيها ، وهي قوله تعالى : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) (3) ؛ فإنّ إعادة المعرّف ب ( اللام ) تفيد الوحدة.
ويشهد أيضا لإرادة عليّ بمن أورثه الكتاب واصطفاه ، الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ عليّا مع القرآن والقرآن معه (4) ، فإنّ المعيّة تستدعي أن يكون علم القرآن عنده ، وإنّه وارثه.
فإذا أفادت الرواية التي أشار إليها المصنّف رحمه اللّه ، وحكاها السيّد السعيد رحمه اللّه عن ابن مردويه ، أنّ المراد بمن أورثه الكتاب هو عليّ علیه السلام (5) ،
ص: 208
كانت مؤكّدة لغيرها.
وحينئذ ، فلا معنى لقول الفضل : « عليّ من جملة ورثة الكتاب » ، ولا سيّما أنّه قد أراد أن يشرك معه من لا يعرف الأبّ والكلالة ومن كانت المخدّرات أفقه منه (1).
هذا كلّه مضافا إلى أنّ اصطفاء الشخص لميراث الكتاب يدلّ على أنّه حافظ له ، غير مضيّع لما فيه عمدا وسهوا ، فيكون معصوما ، وغير عليّ من الصحابة غير معصوم بالإجماع ، فيتعيّن أن يكون هو المراد بالآية وحده ، أو معه أبناؤه المعصومون بشهادة حديث الثقلين ، وإنّما تركت الرواية ذكرهم ؛ لأنّهم غير موجودين في وقته ، أو لأنّ ذكره أهمّ ، وهو الأصل وهم فرعه ، فإذا ثبت ثبتوا جميعا.
فإن قلت : لا يمكن أن يراد وحده أو مع الأئمّة خاصّة ؛ لأنّهم معصومون عندكم ، والآية قسّمت من أورثه اللّه الكتاب واصطفاه إلى الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، فيتعيّن أن يراد بالآية مطلق المؤمنين.
قلت : التقسيم راجع إلى العباد ، والضمير في قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) (2) عائد إلى قوله تعالى : ( عِبادِنا ) ، لا لمن أورثه الكتاب واصطفاه منهم ؛ إذ لا يصحّ تقسيم من اصطفاه إلى الظالم وغيره ، ولا شمول من أورثه الكتاب لكلّ مؤمن عالم وجاهل ، فهي نظير قوله تعالى في سورة الحديد : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
ص: 209
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) (1).
وأمّا قول آدم علیه السلام : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (2) ، مع أنّه من المصطفين ، فمتأوّل بإرادة فعل المكروه ؛ للأدلّة العقليّة والنقليّة بخلاف ذلك (3).
نعم ، يمكن أن يكون التقسيم راجعا إلى من أورثه الكتاب واصطفاه ، على أن تكون الوراثة والاصطفاء بلحاظ اشتماله على البعض الوارث المصطفى ، فيصحّ تقسيم الجنس إلى هذه الأقسام الثلاثة ، لكنّ المراد بالبعض الوارث المصطفى هو : عليّ وحده في وقته ، أو مع أبنائه بلحاظ جميع الأوقات ؛ للأدلّة السابقة ونحوها ، كما وردت بذلك الرواية عندنا (4) ؛ وحينئذ ، فتدلّ الآية على إمامته ؛ لدلالتها على العصمة ، التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيره من الصحابة بالضرورة والإجماع ..
ولأنّ وراثة الكتاب بالاصطفاء شأن خلفاء الأنبياء ؛ فيكون هو الخليفة والإمام.
ص: 210
وقال الفضل (1) :
إن أراد أنّه ما اتّبع النبيّ صلی اللّه علیه و آله غير عليّ ، فهو باطل كما لا يخفى.
وإن أراد أنّه من جملة التابعين ، فهو ظاهر لا يحتاج إلى دليل ، ولا نسبة له بالمدّعى.
* * *
ص: 212
أراد الأوّل ؛ على معنى أنّه لم يتّبع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الاتّباع الصحيح ، الكامل تسليما وعملا ، إلّا عليّ علیه السلام .
ولذا كان خلفاؤهم يخالفون النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الرأي والعمل ، كما في التخلّف عن جيش أسامة (1) ، والفرار في مقام الخوف عليه وعلى الدين (2).
وفي منع كتابه الهادي ، الذي سبّب منعه ضلال الأمّة إلى يوم الدين ، وقول عمر : « حسبنا كتاب اللّه » (3) ، مفيّلا (4) لرأي النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، وسيرد عليك بعضه (5) إن شاء اللّه
ص: 213
تعالى.
وكيف يكون هؤلاء وأشباههم أهل بصيرة حتّى يرادوا بقوله تعالى : ( أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (1) ، وهم لم يزالوا مخالفين له في آرائهم وأعمالهم؟!
ويدلّ على اختصاص أمير المؤمنين بهذه الآية ، ما سبق من نزول الآية الحادية والعشرين فيه (2) ، وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ
ص: 214
اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1).
وأنت تعلم أنّ الدعوة على بصيرة ، وكمال الاتّباع للنبيّ في أقواله وأفعاله ، موجبان لانتشار الدعوة إلى الدين كما يريده اللّه تعالى ، فيكون كامل الاتّباع ، الداعي على بصيرة ، أحقّ بمنصب النبيّ ، وأولى بخلافته.
ولا سيّما أنّ الاتّباع المطلق يقتضي ثبوت العصمة والاتّصاف بالأوصاف الحميدة ؛ كالعلم ، والحلم ، ونحوهما ممّا يراد في الإمام.
فيكون أمير المؤمنين هو الإمام.
* * *
ص: 215
وقال الفضل (1) :
هذا من تفاسير الشيعة ، لا من تفاسير أهل السنّة ، وإن صحّ يدلّ على علمه بحقيقة الكتاب ، لا على التنصيص بإمامته ، وهو المدّعى.
* * *
ص: 217
لم يحضرني من كتب القوم إلّا اليسير ، ولا ريب أنّ ما ذكره المصنّف رحمه اللّه موجود في بعضها ، ولا قيمة لإنكار الفضل ؛ لما عرّفناك من وجود ما أنكره سابقا (1) ، على قلّة اطّلاعي على كتبهم.
ويؤيّد إرادة أمير المؤمنين علیه السلام في الآية نزول أشباهها ، أو لازم معناها فيه ، كالآيات السابقة الدالّة على أنّه المصدّق بالصدق (2) ، ومن عنده علم الكتاب (3) ، ووارث الكتاب (4) ، ومن اصطفاه اللّه (5) .. إلى نحوها من الآيات.
فإذا كان هو المراد بالآية ، فلا بدّ أن يراد بعلمه - بأنّ ما أنزل إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله حقّ - هو العلم الذي لا تختلجه الشكوك ولا تخالطه الأوهام ؛ لأنّه هو الذي يصحّ أن يمتاز به ، ويصلح أن يمدح عليه.
ولا شكّ أنّ أشدّ الناس يقينا بحقّية شريعة النبيّ ، أولاهم بإمرتها وحفظها ، كما أنّ من ليس بمنزلته في اليقين أدنى منه عقلا وفضلا ؛ ولذا عدّه تعالى أعمى ، فقال سبحانه في هذه الآية : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
ص: 218
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (1).
وقد سبق أنّ الإمامة لا تصلح للمفضول مع وجود الفاضل ، بل لا يصحّ أن يكون الأعمى إماما بوجه (2).
والمراد بالأعمى : الأعمّ من عديم اليقين وناقصه ؛ فإنّ الناقص أعمى في الجملة.
* * *
ص: 219
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
السادسة والأربعون : قوله تعالى : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (2).
قال عليّ : يا رسول اللّه! ما هذه الفتنة؟
قال : يا عليّ بك ، وأنت مخاصم ، فاعتد (3) للخصومة (4).
ص: 220
وقال الفضل (1) :
أجمع المفسّرون على أنّ الآية نزلت في رجل وامرأة أسلما ، وكان لهما ولد يحبّانه حبّا شديدا ، فمات فافتتنا ، وكادا يرجعان عن الإسلام ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وأمّا ما ذكره من الخبر ، فالظاهر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يجعل عليّا فتنة للمسلمين.
وهذه من القوادح لا من الفضائل على ما ذكره.
* * *
ص: 221
نقل الزمخشري والرازي في نزول الآية أقوالا ، ولم يذكرا ما ذكره الفضل ، فضلا عن أن يكون مجمعا عليه (1).
وأمّا « الفتنة » في الآية ، فالمراد بها : الامتحان ، كما في « الكشّاف » (2) ، أو الابتلاء ، كما في « تفسير الرازي » (3) ، والمقصود بهما واحد.
لكن ادّعى الزمخشري أنّ الممتحن به هو شدائد التكليف ، والفقر والقحط ، وأنواع المصائب بالنفس والأموال ، ومصابرة الكفّار على أذاهم وكيدهم (4).
وخصّ الرازي الابتلاء بالفرائض البدنيّة والماليّة (5).
وكيف كان! فلم يدّع أحد قدحا في ما به الفتنة ، كما زعم الفضل.
وبالجملة : الرواية دالّة على أنّ المقصود بالآية أنّ عليّا علیه السلام محنة للمؤمنين ، يميّز به ثابت الإيمان من غيره ، وصادقه من كاذبه.
فمن ثبت على الإيمان بإمامته كان مؤمنا حقّا ، ومن زال عنه كان
ص: 222
مستعار الإيمان كاذبه.
ويشهد لذلك قوله صلی اللّه علیه و آله في هذه الرواية : « أنت مخاصم فاعتد للخصومة » ..
فإنّ الخصومة الواقعة بينه وبين قومه إنّما هي في إمامته.
ويؤيّد هذا الحديث ، ويرشد إلى إرادة الامتحان في إمامته ، ما نقله السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن عمر ، قال :
« كفّوا عن عليّ! فلقد سمعت من رسول اللّه فيه خصالا لأن تكون واحدة منهنّ في آل الخطّاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ؛ كنت أنا [ وأبو بكر ] وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانتهينا إلى باب أمّ سلمة ، وعليّ قائم على الباب ، فقلنا :
أردنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ فقال : يخرج إليكم ؛ فخرج ، فثرنا (1) إليه ، فاتّكأ على عليّ بن أبي طالب ، ثمّ ضرب بيده على منكبه ، ثمّ قال :
« أنت مخاصم تخصم ، أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأعلمهم بأيّام اللّه ، وأوفاهم بعهده ، وأقسمهم بالسويّة ، وأرفقهم بالرعيّة ، وأعظمهم مزيّة ، وأنت عاضدي ، وغاسلي ، ودافني ، والمتقدّم إلى كلّ كريهة وشديدة ، ولن ترجع بعدي كافرا ، وأنت تتقدّمني بلواء الحمد تذود عن حوضي » (2).
فإنّ هذه الصفات إنّما تكون بأفضل الأمّة وإمامها ، ولكن قال ابن الجوزي : « باطل ، عمله الأبزاري » (3) ، ويعني به الحسن بن عبيد اللّه
ص: 223
الأبزاري ، المذكور في سند هذا الحديث.
وسمّاه في « ميزان الاعتدال » : الحسين أيضا ، وقال : « قال أحمد بن كامل : كان كذّابا » (1).
والظاهر : إنّ سبب تكذيبه له أنّ له روايات في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ذكر في « الميزان » بعضها.
والحقّ أنّ هذا الحديث من أصدق الحديث ؛ لأنّ مضامينه بين ضروريّ ومستفيض الرواية به ، مع أنّه روي بطريق آخر .. قال في « اللآلئ المصنوعة » نقلا عن ابن الجوزي : « وقد رواه أبو بكر ابن مردويه ، عن أبي بكر بن كامل ، عن عليّ بن المبارك الربيعي ، عن إبراهيم بن سعيد » (2) ، ثمّ قال : « ولعلّ ابن المبارك أخذه من الأبزاري » (3).
فيا عجبا! أيجوز تكذيب الحديث الضروري بالاحتمالات والخيالات ، مع أنّ ابن المبارك لم ينقل في « الميزان » عن أحد فيه قدحا.
نعم ، له عذر ظاهر في إبطال الحديث ، وهو أنّ راويه عمر!
ولكن ، ألم يعلم أنّ هذا من إلزام اللّه لهم بالحجّة؟!
* * *
ص: 224
وقال الفضل (1) :
هذا من رواياته ، وأثر النكر عليه ظاهر ، ولا دلالة له أصلا على ثبوت النصّ المدّعى.
* * *
ص: 226
رواه ابن مردويه على ما في « كشف الغمّة » (1).
ودعوى الفضل ظهور أثر النكر عليه لا منشأ لها إلّا صراحة الرواية ببطلان مذهبه ؛ إذ لا يفهم من أمر عليّ علیه السلام إلّا خلافته ، فإنّها أظهر أمر يعود إليه وقعت به المشاقّة في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبعده ..
فمرّة نسبوا إليه فيه : الغواية (2) ..
وأخرى : الهجر (3) ..
وثالثة : قول الحارث بن النعمان الفهري : اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء (4) ..
ورابعة : بيعة السقيفة (5) ..
ص: 227
وخامسة : قهره على البيعة (1) ..
.. إلى ما لا يحصى من المشاقّة في أمره للرسول في حياته وبعده.
ويؤيّد هذا الحديث ما سبق في الآية السابقة (2) ، وما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عليّ علیه السلام - وصحّحه - ، قال : « إنّ ممّا عهد إليّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ الأمّة ستغدر بي بعده ».
.. إلى نحوه من الأخبار (4).
* * *
ص: 228
وقال الفضل (1) :
إن صحّ نزوله فيه فهو دالّ على فضله المتّفق عليه ، ولا دلالة له على النصّ.
* * *
ص: 230
رواه ابن مردويه على ما في « كشف الغمّة » (1).
ومراد الآية الشريفة إمّا بيان أنّ اللّه تعالى أنعم على الناس بإيتائهم الفضل والمعرفة ، وفضّل بعضهم على بعض ..
وإمّا بيان أنّه يؤتي كلّ ذي فضل جزاء فضله - أي جزاءه - بحسب ما يترتّب عليه من العمل ، كثرة وقلّة وإخلاصا (2).
وحينئذ : فمعنى نزولها في عليّ علیه السلام ، هو الإعلام بأنّه الفاضل ذاتا أو جزاء ، والفاضل في كلّ منهما أحقّ بالإمامة.
أمّا على الأوّل ، فظاهر ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ زيادة الجزاء فرع كثرة العمل وقوّة الإخلاص الناشئين من الفضل الذاتي ، كما أشرنا إليه.
* * *
ص: 231
هذا أيضا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
والمراد من ردّ قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عليّ علیه السلام : ردّه في إمامته ؛ لأنّها هي التي ردّها من أعظم الظلم ، وفي عرض الكذب على اللّه عزّ وجلّ ، فإنّ الردّ لسائر فضله ليس كذلك ، على أنّه لو أريد فهو دليل أفضليّته ؛ إذ ليس مثله أحد من الأمّة يكون الردّ لفضائله كذلك.
والأفضل - لا سيّما بهذا الفضل المكشوف عنه بمثل ذلك - أعظم الأمّة ، وأحقّها بالإمامة.
* * *
ص: 234
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الخمسون : قوله تعالى : ( وَقالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (2).
قال أبو رافع (3) : وجّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّا [ في نفر معه ] في طلب أبي سفيان ، فلقيهم أعرابي من خزاعة ، فقال : إنّ القوم قد جمعوا لكم فاخشوهم.
فقالوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل (4).
* * *
ص: 235
وقال الفضل (1) :
الآية نزلت في بدر الصغرى (2) ؛ وذلك لأنّ أبا سفيان لمّا انقضى الحرب يوم أحد ، قال : « الموعد بيننا في بدر » ، فلمّا كان في وقت الموسم ، لم يستطع أبو سفيان أن يخرج ؛ لجدب السنة ، فأرسل نعيم بن مسعود (3) ليثبّط رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من القتال ، فجاء نعيم بن مسعود وخوّف رسول اللّه وأصحابه ، فقالوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل (4).
وتتمّة الآية يدلّ على ما ذكرنا ، فإنّه يقول : ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) (5) وهو نعيم بن مسعود ، ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) أي :
ص: 236
أبو سفيان وقريش ، فقال المؤمنون : ( حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .
هذا رواية أهل السنّة ، وإن صحّ ما رواه فلا يدلّ على المقصود ، كما علمت.
* * *
ص: 237
هذا أيضا ممّا نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
ونقله عنه أيضا السيوطي في « لباب النقول في أسباب النزول » ، قال : أخرج ابن مردويه ، عن أبي رافع ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله وجّه عليّا علیه السلام في نفر معه [ في طلب أبي سفيان ] ، فلقيهم أعرابي من خزاعة ... وذكر تمام الحديث (2).
وهو كما ترى دالّ على شدّة توكّل أمير المؤمنين علیه السلام ومن معه على اللّه تعالى ، وحسن بصائرهم ، وأنّ التخويف لم يزدهم إلّا إيمانا ؛ ولذا مدحهم اللّه سبحانه في كتابه العزيز.
ومن المعلوم أنّ أفضلهم في ذلك عليّ علیه السلام ، بل هو المراد فيه ، وأصله ؛ لأنّه رئيسهم ، وقائدهم ، والمنظور إليه فيهم.
وأمّا تتمّة الآية الكريمة ، فلا أعرف كيف تدلّ على ما ذكره الفضل دون إرادة عليّ علیه السلام ومن معه ، والحديث الذي نقله ليس حجّة علينا حتّى يعارض خبر ابن مردويه.
ص: 238
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من القراءات المتواترة ، والشيعة يعدّونها من الشواذّ ، وإن صحّ ، دلّ على فضيلته لا على إمامته بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
* * *
ص: 240
هذا وإن لم يكن من المتواترات ، إلّا أنّه ليس من الشواذّ - أعني قراءة التابعين - ، بل من الآحاد ، وهي القراءات الثلاث ، وقراءة الصحابي ، كما حكى هذا الاصطلاح السيّد السعيد رحمه اللّه عن « إتقان » السيوطي ، عن القاضي جلال الدين البلقيني (1).
ولا مستند للفضل في النقل عن الشيعة ، إلّا كونها ليست من القراءات السبع المدّعى تواترها ، وهو كما ترى.
وقد ذكر هذه القراءة السيوطي في « الدرّ المنثور » ، قال : أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن ابن مسعود ، أنّه كان يقرأ هذا الحرف : ( وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) بعليّ بن أبي طالب (2).
ويشهد لهذه القراءة ما رواه الحاكم (3) ، عن يحيى بن آدم ، قال : « ما شبّهت قتل عليّ عمرا إلّا بقول اللّه عزّ وجلّ : ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ ) (4).
ص: 241
وكيف كان! فلتفرض قراءة ابن مسعود رواية له ، بأن يكون قد روى أنّ اللّه سبحانه أنزل هذه الآية لبيان هذه الفضيلة لعليّ علیه السلام ، وأنّ اللّه تعالى كفى به المؤمنين القتال يوم الأحزاب ، حيث قتل عمرو بن عبدودّ ، وردّ الأحزاب خاسرين ، فيكون جهاده أفضل من جهاد المسلمين جميعا ؛ لأنّ به الفتح مع حفظ نفوسهم ، فمنه حياة الإسلام والمسلمين.
ولو لا أن يكفيهم اللّه تعالى القتال بعليّ لاندرست معالم الإسلام ؛ لضعف المسلمين ذلك اليوم وظهور الوهن عليهم ؛ ولذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لضربة عليّ خير - أو : أفضل - من عبادة الثقلين » ، كما رواه في « المواقف » وغيرها (1)
وفي رواية الحاكم في « المستدرك » (2) : « لمبارزة عليّ لعمرو [ بن ودّ يوم الخندق ] أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة ».
فلا محالة يكون أفضلهم وأولاهم بالإمامة ؛ لكشف ذلك عن زيادة علمه ومعرفته وتمام بصيرته ، حتّى استحقّ مدح اللّه تعالى له في كتابه المجيد ، وأنّى لغيره مثل ذلك؟!
ص: 242
وقال الفضل (1) :
مفهوم الآية : إنّ إبراهيم سأل من اللّه تعالى أن يجعل له ذكر جميل بعد وفاته ، وهو المراد من « لسان الصدق » ، وحمل « لسان الصدق » على عليّ بعيد بحسب المعنى.
والشيعة لا يبالون من مثل ذلك ، ويذكرون كلّ ما يسمعون ، ولا دليل لهم في ما يفترون.
* * *
ص: 244
إطلاق « لسان الصدق » على الذكر الجميل إنّما هو من باب الكناية أو المجاز ، فلا يبعد صدقه من هذه الباب على الولد الصالح الذي به الفخر والذكر الخالد ، ولا مرجّح للأوّل.
وقد حكى الرازي في أحد تأويلات « لسان الصدق » ، أنّ المراد به بعثة محمّد صلی اللّه علیه و آله (1) ، فليس هذا النحو من التفسير من خواصّ الشيعة ، بل زعم القوم ما هو أبعد منه ، كما نقله الفضل في الآية الأربعين (2).
وأمّا دلالتها - بناء على ذلك المعنى - على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام فمن وجهين:
الأوّل : إنّها صرّحت بعرض ولايته على إبراهيم علیه السلام ، وليس هو إلّا لكون ولايته مطلوبة لله سبحانه ، قديما وحديثا ، وهو أعظم دليل على فضله وإمامته.
ويعضده ما سبق في الآية السادسة عشرة ، وهي قوله تعالى : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ... ) (3) الآية ، من أنّ الأنبياء علیهم السلام بعثوا على الشهادتين وولاية عليّ علیه السلام (4) ..
وفي الآية الثالثة والثلاثين ، وهي قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
ص: 245
بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (1) الآية (2).
الثاني : دعاء إبراهيم علیه السلام أن يجعله اللّه من ذرّيّته ، فإنّه أظهر شيء في فضله وشدّة إيمانه وعظمته عند اللّه عزّ وجلّ ، حتّى كان فخرا وشرفا لإبراهيم علیه السلام ؛ ومن كان كذلك فلا بدّ أن يكون سيّد أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وإمامهم.
وهذه الرواية المفسّرة « لسان الصدق » بأمير المؤمنين علیه السلام نقلها في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه ، ورويت عن إمامنا الصادق علیه السلام (3).
* * *
ص: 246
وقال الفضل (1) :
هذا تفسير لا يصحّ أصلا ؛ لأنّ الإنسان إذا أريد به أبو جهل ، يكون الاستثناء منقطعا (2) ، ولم يقل به أحد ..
وإن كان الاستثناء متّصلا (3) ، لا يصحّ أن يراد بالإنسان أبو جهل ، فالمراد منه أفراد الإنسان على سبيل الاستغراق.
وعلى هذا : لا يصحّ تخصيص المؤمنين بعليّ وسلمان ؛ فإنّ غيرهم من المؤمنين ليسوا في خسر.
وهذا الرجل يعلف كلّ نبت ، ولا يفرّق بين السّمّ والحشيش!
* * *
ص: 248
وقال مقاتل : نزلت في أبي لهب ، وفي خبر مرفوع : إنّه أبو جهل » (1)
وحينئذ : يكون الاستثناء منقطعا بالضرورة ، كما صرّح به النيشابوري (2) ، فإنكار الفضل للقول به كما ترى.
وأمّا قوله : « لا يصحّ تخصيص المؤمنين بعليّ وسلمان ؛ فإنّ غيرهم من المؤمنين ليسوا في خسر » ، فمن قلّة التأمّل ..
قال الرازي : « ها هنا احتمالان :
الأوّل : في قوله تعالى : ( لَفِي خُسْرٍ ) (3) أي : في طريق الخسر ، وهذا كقوله في آكل أموال اليتامى : ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) (4) لمّا كانت عاقبته النار.
الاحتمال الثاني : إنّ الإنسان لا ينفكّ عن خسر ؛ لأنّ الخسر هو تضييع رأس المال ، ورأس ماله هو عمره ، وهو قلّما ينفكّ عن تضييع عمره ؛ وذلك لأنّ كلّ ساعة تمرّ بالإنسان ، فإن كانت مصروفة إلى المعصية
ص: 250
فلا شكّ في الخسران ..
وإن كانت مشغولة في المباحات ، فالخسران أيضا حاصل ؛ لأنّه كما ذهب لم يبق منه أثر ، مع أنّه كان متمكّنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما ..
وإن كانت مشغولة في الطاعات ، فلا طاعة إلّا ويمكن الإتيان بها أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك ؛ لأنّ مراتب الخضوع والخشوع غير متناهية ، فإنّ مراتب جلال اللّه وقهره غير متناهية ، وكلّما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر ، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتمّ وأكمل ، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران » (1).
وحينئذ : فعلى الاحتمالين يكون استثناء عليّ وسلمان دليلا على فضلهما على من سواهما ، وعصمتهما دون غيرهما من الأمّة ، ولا ريب أنّ عليّا علیه السلام أفضل من سلمان ، فيتعيّن للإمامة.
* * *
ص: 251
وقال الفضل (1) :
أنت خبير بأنّ الصبر صفة من الصفات ، وليس هو من الأسامي حتّى يراد شخص ، وهذا قريب من السابق.
* * *
ص: 253
مراد ابن عبّاس : إنّ من تواصوا بالصبر عليّ علیه السلام ، لا أنّ نفس الصبر عليّ ، كما هو واضح.
وعبّر سبحانه عن عليّ بصيغة الجمع ، إعظاما له ، وبيانا لكمال صبره ، وأنّ صبره بمنزلة صبر جميع المؤمنين المتواصين به ؛ لشدّة ما يلزم نفسه به ، فلا يقع منه خلاف الصبر الذي هو صبران ؛ صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ؛ فيكون أفضل الأمّة ، ومعصومها ، وإمامها.
* * *
ص: 254
هذا أيضا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
ثمّ إنّه لا مانع من اختيار الشقّ الأوّل ؛ فإنّ سلمان كان مؤمنا باللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ، متطلّبا لمعرفة مبعث النبيّ قبل رؤياه كما هو مذكور في خبر إسلامه (2).
وقال ابن حجر في « الإصابة » بترجمة سلمان : « كان قد سمع بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سيبعث ، فخرج في طلب ذلك فأسر ، وبيع بالمدينة ، فاشتغل بالرقّ » (3).
وقال السيوطي في « لباب النقول » ، عند قوله تعالى من سورة الزمر : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ) (4) : « أخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم ، أنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهليّة يقولون : « لا إله إلّا اللّه » ؛ زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي » (5).
ص: 257
روى الواحدي نحوه ، عن ابن زيد في سبب نزول الآية (1).
.. إلى غير ذلك ممّا هو مستفيض الرواية ، الدالّ على سبق إسلام سلمان ، أو إقراره بالوحدانية (2).
ولا ينافيه ما يروى أنّ إسلامه عند ما جاء إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بصدقة فلم يقبلها ، ثمّ أتاه بهديّة فقبلها ، ثمّ رأى خاتم النبوّة فأسلم ؛ لأنّ هذا إنّما هو لتعيين النبيّ صلی اللّه علیه و آله بشخصه ، لا لأنّه لم يؤمن به إلّا حينئذ ، فيكون من السابقين الأوّلين.
لكنّ أمير المؤمنين أفضل منه سبقا ، وأشدّ منه يقينا ، وأقدم منه في الصلاة ، كما هو معلوم بالضرورة ، ولما تقدّم من أنّ عليّا علیه السلام سابق هذه الأمّة وصدّيقها ؛ فيكون أفضلها ، وأولاها بالإمامة (3).
ولا مانع أيضا من اختيار الشقّ الثاني ؛ فإنّ سلمان من المعصومين السابقين في الأعمال الصالحة ، كما تدلّ عليه الآية الثالثة والخمسون (4).
ويؤيّده ما رواه القوم عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « إنّ الجنّة اشتاقت إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وسلمان » .. رواه الترمذي وحسّنه ، والحاكم وصحّحه (5).
ص: 258
ويؤيّده أيضا ما رواه الترمذي وحسّنه ، وابن عبد البرّ في « الاستيعاب » ، وغيرهما ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال - كما في لفظ الترمذي - : « إنّ اللّه أمرني بحبّ أربعة ، وأخبرني أنّه يحبّهم.
قيل : يا رسول اللّه! سمّهم لنا.
قال : عليّ منهم - يقول ذلك ثلاثا - ، وأبو ذرّ ، والمقداد ، وسلمان » (1)
فإذا كان عليّ وسلمان سابقي الأمّة في صالح الأعمال ومعصوميها ، ولا شكّ أنّ عليّا أعظم من سلمان في الوصفين ، فقد تعيّن للإمامة ، وتعيّنت له (2).
ص: 259
بل يدلّ عليه ؛ لأنّ البشارة بكرامة الآخرة لشخص معيّن لا تصحّ إلّا مع عصمته أو نحوها ، وليس الخلفاء الثلاثة كذلك ، كما سبق في الآية الثانية والثلاثين ، وبيّنّا فيها لزوم إمامته علیه السلام دون الثلاثة ، بل ودون غيرهم ؛ لأنّه أفضل المخبتين (1).
* * *
ص: 262
تمام الآية وما بعدها : ( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (1).
وتعرف دلالتها ممّا أشرنا إليه في الآية السابقة (2) ..
وأوضحناه في الآية الثانية والثلاثين من أنّ بشارة شخص معيّن بنيل الموعود ، والأمن من الوعيد ، تقتضي - مع علمه بالبشارة - عصمته ، أو قريبا منها ، وأوضحنا أنّ المشايخ الثلاثة وأشباههم ليسوا كذلك ، فيكون أمير المؤمنين علیه السلام هو المعصوم ، أو الفاضل على غيره ، ويكون هو الإمام (3).
وما رواه بعض القوم (4) من تفسير من سبقت لهم الحسنى بما يشمل غير أمير المؤمنين علیه السلام ، غير صحيح ، ولا حجّة لهم علينا في ما يروونه بحقّ غيره.
أترى أنّ اللّه سبحانه يبشّر مثلهم بالجنّة ، ويؤمّنهم من النار ، ليهون عليهم تغيير الأحكام ، وغصب حقوق الأطهار ، وسفك دماء المسلمين ،
ص: 265
والاستئثار ببيت المال ، والخروج على إمام الزمان ، ومحاربة اللّه ورسوله ، بحربه؟!
* * *
ص: 266
وقال الفضل (1) :
لا شكّ أنّ حبّ أهل بيت محمّد من الحسنات ، ولكن لا يثبت النصّ.
* * *
ص: 268
نقل في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه ما ذكره المصنّف رحمه اللّه بلفظه كلّه مرّة ، وإلى قوله : « والسيّئة بغضنا » مرّة أخرى ، وذلك في تفسير آيتين :
الأولى : قوله تعالى في أواخر سورة الأنعام : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلأَمِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (1).
الثانية : قوله تعالى في أواخر سورة النمل : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلأَما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (2) (3).
ونقل في « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم والثعلبي والحمويني ، في تفسير الثانية ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « الحسنة حبّنا ، والسيّئة بغضنا » (4).
ويشهد لصحّة هذه الروايات ، ما عرفته من الأخبار في الآية الرابعة ، والآية الثانية عشرة ، كما عرفت هناك أيضا وجه الدلالة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فراجع (5).
ص: 269
ويؤيّد دلالتها عليها ما رواه الحاكم في « المستدرك » (1) وصحّحه ، عن عمّار [ بن ياسر رضی اللّه عنه ] ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ : « طوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك » ؛ لأنّ المراد - ظاهرا - هو التصديق والتكذيب بإمامته ، أو فضله الموجب لها.
وما نقله في « كنز العمّال » (2) ، عن الطبراني ، عن ابن عبّاس ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ علیه السلام : « ألا من أحبّك حفّ بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة الجاهلية ».
ونقل بعده بقليل عن الطبراني ، عن ابن عمر ، مثل ذلك (3).
فإنّ الإيمان إنّما يتمّ بالإقرار بالإمام الحقّ المستلزم لحبّه ؛ لما سبق من أنّ الإمامة أصل من أصول الدين (4) ، كما أنّ ميتة الجاهلية إنّما هي بالإخلال بهذا الأصل الناشئ من البغض عادة.
ويؤيّد المطلوب أيضا ما دلّ على الملازمة بين حبّ عليّ وحبّ اللّه ورسوله ، والتلازم بين بغضه وبغضهم ؛ كالذي نقله في « الكنز » أيضا عن الطبراني وابن عساكر ، عن عمّار ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من أحبّه - يعني عليّا - فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه تعالى ، ومن
ص: 270
أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه تعالى » (1).
وكيف لا يراد بذلك بيان إمامة عليّ علیه السلام وقد اهتمّ الكتاب العزيز ببيان وجوب حبّه وحرمة بغضه ، حتّى نزل فيه مكرّرا ، وعبّر عن حبّه بالحسنة ، وعن بغضه بالسيّئة ، وكذلك استفاضت وتواترت بهما السنّة النبويّة؟!
* * *
ص: 271
وقال الفضل (1) :
هذا لم يثبت في الصحاح والتفاسير ، وإن صحّ لا يدلّ على النصّ.
* * *
ص: 273
نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
وقال في « ينابيع المودّة » : أخرج الحاكم الحسكاني ، عن محمّد بن الحنفيّة ، عن أبيه عليّ ، قال : « أنا ذلك المؤذّن » (2).
وقال أيضا : أخرج الحاكم ، عن ابن عبّاس ، قال عليّ : « في كتاب اللّه أسماء لي لا يعرفها الناس ، منها : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) يقول : ألا ( لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) ، أي : الّذين كذّبوا بولايتي ، واستخفّوا بحقّي » (4).
ونقل أيضا نحوه ، عن « المناقب » ، عن الباقر علیه السلام (5).
وهذه الآية ظاهرة الدلالة على المطلوب ؛ لأنّ المراد بالظالمين :
إمّا مطلق العصاة ، فحينئذ لا بدّ أن يكون المؤذّن معصوما ؛ إذ لا يصحّ أن يكون عاصيا وهو ينادي بلعنة العصاة ؛ وإذا كان معصوما ولا معصوم غيره ، كان هو الإمام ؛ لأنّ العصمة شرط الإمامة - كما
ص: 274
سبق - (1) ؛ ولكن يبعد النداء بلعن كلّ عاص.
وإمّا أن يراد بالظالمين : العصاة بالكبائر ، لا سيّما الكفر والنفاق ، الذي منه بغض عليّ علیه السلام ، كما مرّ (2).
ولا شكّ أنّ من يستحقّ الناس اللعنة لبغضه ، مع النداء بها على رؤوس الخلائق يوم الحساب ، هو الإمام الحقّ ، بل كونه هو المنادي دليل على فضله على الأمّة ؛ والأفضل هو الإمام.
ويشهد لدلالة الآية على الإمامة ، الخبر الأخير ، فإنّ المراد فيه بالولاية : الإمامة ؛ لأنّ التكذيب إنّما يتعلّق بها لا بالحبّ.
وبمقتضى إطلاق الولاية في الحديث ، لا يفترق الحال بين من كذّب بإمامته مطلقا أو في وقت خاصّ.
* * *
ص: 275
نقله أيضا في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
والمراد فيه بالولاية : إمّا الإمامة ، كما هو المنصرف في مثل المقام ؛ أو الحبّ ؛ وعلى الاحتمالين يتمّ المدّعى.
أمّا على الأوّل ، فغنيّ عن البيان ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ دعوة اللّه ورسوله إلى محبّة عليّ بخصوصه ، وجعلها حياة للناس ، دليل على أنّ له منزلة فوق منازل الناس ، وهي إمّا الإمامة ، وهي عين المطلوب ، أو الأفضليّة ، وهي تستلزمها.
* * *
ص: 278
لم يتعرّض الفضل للجواب عن هذه الآية الكريمة ؛ لسقوطها عن نسخته ، وقال : « لم يذكر هنا الأوّل ، وكأنّه في الحساب أيضا غالطا » (1).
والأولى بالغلط من ينصب خبر « كأنّ » ، ويطلق الأوّل ، ويريد : « الحادي » بلا نكتة تقتضيه.
ووجه الدلالة في ذلك على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، أنّه سبحانه عبّر عنه بصيغة الجمع فقال : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (2) ، فدلّ على أنّه علیه السلام بمنزلة جميع المتّقين ؛ لأنّه قوام التقوى وأساسها ، فهو أعظم الأمّة وأفضلها ؛ فيكون هو الإمام.
وأيضا : فقد بشّرت الآية عليّا علیه السلام بشخصه بالجنّة ، وهو عالم بذلك ؛ لأنّ عنده علم الكتاب ، وقد سبق أن هذا يقتضي عصمته أو أفضليّته على غيره ؛ فيكون هو الإمام (3).
وقد نقل في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه خبرا آخر ، رواه عن جابر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال في آخره : « أبشر يا عليّ! ما من عبد ينتحل مودّتنا إلّا بعثه اللّه معنا يوم القيامة » ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (4).
ص: 280
ونقل أيضا عن موفّق بن أحمد الخوارزمي ، عن جابر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ! من أحبّك وتولّاك أسكنه اللّه معنا ».
ثمّ تلا رسول اللّه : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (1)
ويستفاد من أوّل هذين الحديثين ، أنّ مودّتي النبيّ وعليّ عليهما الصلاة والسلام متلازمتان ؛ ومن الحديثين ، أنّ مودّة عليّ توجب دخول الجنّة.
وذلك دليل الفضل على سائر الأمّة ، فيكون عليّ علیه السلام إمامها ، لا سيّما مع إعلامه بأنّه من أهل الجنّة ، وأنّه السبب في دخولها.
* * *
ص: 281
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثانية والستّون : قوله تعالى : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) (2).
قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « إنّ فيك مثلا من عيسى ، أحبّه قوم فهلكوا فيه ، وأبغضه قوم فهلكوا فيه ».
فقال المنافقون : أما يرى له مثلا إلّا عيسى؟! فنزلت الآية (3).
* * *
ص: 282
وقال الفضل (1) :
نزلت في عبد اللّه بن الزّبعرى (2) ، حين نزل : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (3) ، فقال ابن الزبعرى : عيسى عبد ، فهو يدخل جهنّم!
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما أجهلك بلغة قومك!
فإنّ « ما » لا يراد به ذوو العقول ، وعيسى من ذوي العقول.
فأنزل اللّه تعالى : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) (4).
وإن صحّ ، فهو في حكم أخواتها.
* * *
ص: 283
هذا ممّا رواه ابن مردويه كما في « كشف الغمّة » (1) ، ورواه أئمّتنا الأطهار عن أمير المؤمنين (2).
ونقل نحوه في « ينابيع المودّة » ، في الباب الرابع والأربعين ، عن « المناقب » (3).
وقد استفاض ضرب المثل لعليّ بعيسى في أخبارهم حتّى روي في « مسند أحمد » من طريقين (4) ، ورواه النسائي في « خصائصه » (5) ، والحاكم في « المستدرك » وصحّحه (6).
ونقله في « الصواعق » ، في الحديث العشرين من الأحاديث الواردة في فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، عن البزّار وأبي يعلى (7).
ونقله في « كنز العمّال » (8) ، عن أبي نعيم وغيره.
ص: 284
ولا ريب في صحّة ذلك - حتّى لو لم ترد به رواية - ؛ لشهادة الوجدان به ، فإنّ الغلاة بأمير المؤمنين علیه السلام كثيرون ، وكذلك النصّاب له الّذين هلكوا ببغضه ، كالخوارج وبني أمّية وأشياعهم ، وأشباه الفضل ، ممّن ألزموا أنفسهم من دون برهان بتأخيره رتبة وفضلا عمّن لا يقاس به علما وعملا.
ولا يمكن أن تكون الإماميّة ممّن هلك بحبّه ؛ لأنّ الروايات المشار إليها جعلت الهالكين بحبّه من نحو الهالكين بحبّ عيسى ، ومن المعلوم أنّ من هلك بحبّ عيسى إنّما هو من قال بإلهيّته ، فكذا من هلك بحبّ عليّ.
وأمّا ما ذكره الفضل من قصّة ابن الزبعرى ؛ فلا مناسبة لها بجعل عيسى مثلا ؛ لأنّ ابن الزبعرى صيّر عيسى نقضا للآية لا مثلا.
على أنّ المفهوم من الآية أنّ الضارب للمثل بعيسى هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا قومه ، وإنّما هم صادّون عنه.
وممّا ذكر يعلم وجه الدلالة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فإنّ ضرب المثل له بعيسى دالّ على أنّه مثله في الفضل عند اللّه تعالى ، بحيث كان بغضه هلاكا ؛ فهو شبيه عيسى بالعظمة ، وفوق الأمّة ، وإمامها ؛ ولذا قال المنافقون : « لا يرى له مثلا إلّا عيسى » ..
مضافا إلى أنّ الداعي للغلوّ فيه كالداعي للغلوّ بعيسى ، وهو ما صدر عنه من المعجزات والكرامات الباهرة ، ولا شكّ أنّ صدورها من شخص دون غيره دليل على كرامته عند اللّه وفضله على قومه ، والأفضل محلّ الإمامة ، ودليل على أنّ إمامته من اللّه تعالى ؛ لاقتران معجزته بدعوى الإمامة.
ص: 285
ويكفيك من معجزاته إخباره بالمغيّبات (1) ، وردّ الشمس له في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبعده (2) ، ومخاطبة الثعبان له (3) ، وغيرها من كراماته الباهرة.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في الحديث الخامس عشر وجه آخر لبيان إمامته من الآية وهذا الحديث.
ص: 286
وقال الفضل (1) :
هذا من رواياته ومدّعياته ، واللّه أعلم ، وليس فيه دليل على المدّعى.
* * *
ص: 288
لا يخفى أنّه ورد في كثير من أخبار القوم أنّ المراد بالأمّة في الآية : أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله (1) ، وليس المراد : هو الأمّة بإطلاقها ؛ لما في تفسير الرازي ، قال : قرأ النبيّ صلی اللّه علیه و آله الآية ، وقال : « إنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم » (2) ..
ولما استفاض في الأخبار من أنّ أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، وما سواها هالكة في النار (3).
فلا يمكن أن تكون كلّها هادية بالحقّ ، بل بعضها ، وهي الفرقة الناجية ، وقد فسّرتها الرواية - التي أشار إليها المصنّف - بعليّ وشيعته ، كما يشهد لها حديث الثقلين (4) ، وغيره (5).
ص: 289
قال عليّ علیه السلام في هذه الرواية - كما في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه - :
« تفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنّة ، وهم الّذين قال اللّه تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (1) ، وهم أنا وشيعتي (2).
ومثله في الباب الخامس والثلاثين ، من « ينابيع المودّة » ، عن موفّق ابن أحمد ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، إلّا أنّه قال : « وهم أنا ومحبّيّ وأتباعي » (3).
فإذا كان عليّ علیه السلام وشيعته هم الفرقة الناجية ، الّذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون ، كان هو الإمام ألبتّة ؛ إذ لا يمكن أن يكون مأموما وتابعا لبعض شيعته ؛ لأنّ الشيعة هم الأتباع لا المتبوعون ..
ولذا لا يدخل في شيعته - على مذهب القوم - المشايخ الثلاثة ؛ لأنّهم - بزعم القوم - أئمّة عليّ علیه السلام ، ومتبوعون له لا تابعون.
كما لا يدخل في شيعته محاربوه وأعداؤه ، كالزبير وطلحة وأصحابهما من الناكثين ، ومعاوية وأتباعه من القاسطين.
وكذا لا يدخل فيهم جميع السنّة ، ضرورة أنّهم شيعة لأعدائه لا له!
* * *
ص: 290
هذا ممّا نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
والمراد في نزول الآية بعليّ : نزولها بتمامها به مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كما هو الأظهر ؛ لأنّ الآية هكذا :
( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ... ) (2) الآية.
وظاهرها : أنّ ( أَشِدَّاءُ ) وما بعده خبر ل- ( مُحَمَّدٌ ) وما عطف عليه ، لا للمعطوف فقط ، أعني ( الَّذِينَ مَعَهُ ) ، فيكون الركّع السجود محمّدا وعليّا.
وحينئذ : فتدلّ الآية على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لتعبيرها عنه بصيغة الجمع ، وهي : ( الَّذِينَ مَعَهُ ) ، مشيرا بها إلى أنّه بمنزلة جميع من مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، من حيث إنّه قوامهم.
فيثبت فضله عليهم بالجهاد والتقوى وجميع صفات الكمال ، لا سيّما بضميمة ما أخبر به عن محمّد والّذين معه من الأوصاف الجليلة ، التي لا تثبت بمجموعها لأكثر الصحابة ، بل ولا لبعضهم على وجه الكمال ، وإنّما تثبت كاملة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، فهو نظيره ونفسه.
ص: 293
ويؤيّد الرواية التي أشار إليها المصنّف نزول أبعاض الآية الأخر في عليّ علیه السلام أيضا ، كما عرفته في قوله تعالى : ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) (1) ، وما سيأتي في قوله تعالى : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) (2).
* * *
ص: 294
وقال الفضل (1) :
ظاهر الآية العموم ، وإن خصّ فلا دلالة له على النصّ المقصود.
* * *
ص: 296
هذا أيضا ممّا نقله في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه ، عن مقاتل (1).
ونقله عنه الواحدي في « أسباب النزول » ، إلّا أنّه قال : « يسمعونه » بدل « يكذبون عليه » (2).
وأشار إليه الزمخشري بقوله : « وقيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليّا ويسمعونه (3) » (4).
ووجه الدلالة على المطلوب : إنّ قوله تعالى : ( بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) (5) شهادة ببراءة عليّ علیه السلام ممّا يقولون ، وإنّ قولهم بهتان ، كما قال سبحانه في تمام الآية : ( فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (6).
ومن المعلوم أنّ اهتمام الآية ببراءة عليّ علیه السلام ، وبيان أنّ من آذاه احتمل إثما مبينا - مع كثرة ما يصدر من الناس من قول البهتان والإيذاء للمؤمنين - ، دليل على عظمته عند اللّه تعالى وفضله على غيره ، ولا سيّما مع التعبير عنه بصيغة الجمع ، وذكر إيذائه مع إيذاء اللّه ورسوله ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
ص: 297
ثمّ إنّه لا منافاة بين ذكر المؤمنات في الآية وبين نزولها في عليّ علیه السلام ومن يؤذيه ؛ إذ لا مانع من التعرّض لهنّ بالتّبع ، ولا سيّما أنّ المنصرف من المؤمنات عند إرادة عليّ بالمؤمنين هو فاطمة المظلومة ، فتزيد فائدة الآية في المطلوب.
* * *
ص: 298
وقال الفضل (1) :
ظاهر الآية العموم ، ولم يذكر المفسّرون تخصيصا بأحد ، ولو خصّ فلا دلالة له على النصّ ، والاستدلال بأنّه مؤمن مهاجر ذو رحم لا يوجب التخصيص ؛ لشمول الأوصاف المذكورة لغيره.
* * *
ص: 300
لا نسلّم شمول الأوصاف المذكورة لغيره ؛ فإنّ العبّاس ليس من المهاجرين ؛ إذ لا هجرة بعد الفتح ، فلا يستحقّ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ميراثا ؛ لأنّه تعالى قيّد في الآية أولي الأرحام بكونهم من المؤمنين والمهاجرين.
ولو سلّم أنّ ( مِنْ ) في هذه الآية ليست بيانيّة ، بل هي الداخلة على المفضّل عليه ، كفى في الدلالة - على اعتبار الهجرة في الأولوية - قوله تعالى في آخر سورة الأنفال : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) (1) الآية.
بل يظهر من هذه الآية اعتبار الجهاد حين الهجرة أيضا في الأولوية ، ولا جهاد للعبّاس حينئذ ، كما لا هجرة له.
ولو تنازلنا عن ذلك ، فعليّ علیه السلام أقرب رحما من العبّاس ، وإن كان ابن عمّ للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ ابن العمّ للأبوين أقرب عندنا رحما وأولى بميراث ابن عمّه من العمّ للأب فقط (2).
ولو أعرضنا عن هذا وأخذنا بإطلاق ( أُولُوا الْأَرْحامِ ) في الآية ،
ص: 301
فغاية الأمر أن يستوي عليّ والعبّاس بميراث الإمامة ، بلحاظ إطلاق الآية ، إلّا أنّه لا بدّ من تقديم عليّ علیه السلام ؛ لأفضليّته ، وتسليم العبّاس لإمامته ، ولذا طلب مبايعته عند وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
وممّا بيّنّا يعلم ما في قول الرازي والمنصور الدوانيقي في جواب محمّد بن عبد اللّه (2) ..
قال الرازي بتفسيره : « المسألة الثانية : تمسّك محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية ، في أنّ الإمام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو عليّ بن أبي طالب.
فقال : قوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (3) يدلّ على ثبوت الأولوية (4).
وليس في الآية شيء معيّن في ثبوت هذه الأولوية ، فوجب حمله على الكلّ ، إلّا ما خصّه الدليل ، وحينئذ يندرج فيه الإمامة.
ولا يجوز أن يقال : إنّ أبا بكر كان من أولي الأرحام ؛ لما نقل أنّه عليه الصلاة والسلام أعطاه سورة براءة ليبلّغها إلى القوم ، ثمّ بعث عليّا خلفه ، وأمر بأن يكون المبلّغ هو عليّ ، وقال : « لا يؤدّيها إلّا رجل منّي ».
ص: 302
وذلك يدلّ على أنّ أبا بكر ما كان منه ؛ فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية.
والجواب : إن صحّت هذه الدلالة كان العبّاس أولى بالإمامة ؛ لأنّه كان أقرب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عليّ ؛ وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه » (1).
وإنّما قلنا : إنّه يعلم الجواب عن هذا ممّا ذكر ؛ لما عرفت من أنّ العبّاس ليس من المهاجرين ، فلا ولاية بينه وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ ولو سلّم ، فعليّ أقرب منه رحما.
ولو تمسّكنا بإطلاق ( أُولُوا الْأَرْحامِ ) فعليّ أفضل ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
ولعلّه لهذه الأمور طلب العبّاس مبايعة أمير المؤمنين علیه السلام ، لكن الحقّ أنّ المنشأ في الطلب علمه ببيعة الغدير وغيرها.
ثمّ إنّ الأمر المهمّ هو أولويّة أمير المؤمنين علیه السلام من أبي بكر بميراث النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهي حاصلة ؛ لعدم الرحميّة لأبي بكر ، كما يدلّ عليه حديث عزله عن أداء سورة براءة (2) ؛ فتكون خلافته باطلة ، وأنّ الحقّ لعليّ علیه السلام .
ص: 303
وقول الرازي : « إن صحّت هذه الدلالة » ، إن أراد به منع دلالة آية أولي الأرحام على أولويّة أرحام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالإمامة ، فظاهر البطلان ؛ لأنّ الآية أطلقت الأولوية ، والمطلق حجّة في الإطلاق بالإجماع.
وإن أراد به منع دلالة حديث عزل أبي بكر على أنّه ليس بذي رحم ، فالأمر أشنع!
ولو كان أبو بكر رحما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لكانت قريش كلّها أرحاما ، بل الناس كلّهم كذلك ؛ لاجتماعهم في آدم ونوح علیهماالسلام .
ولو سلّم ، فعليّ أقرب منه رحما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فيحجبه عن الميراث اتّفاقا ، وتكون الخلافة لعليّ علیه السلام .
* * *
ص: 304
حكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
وعليه : فدلالة الآية على إمامة أمير المؤمنين واضحة ؛ لأنّ من تثبت قدم الصدق للمؤمنين بولايته ، ويبشّر اللّه تعالى بثبوتها في كتابه العزيز ، لا بدّ أن يكون أفضلهم وخيرهم جميعا ، فيكون إمامهم.
ولو أريد بالولاية في الحديث الإمامة ، كانت الآية نصّا فيها.
* * *
ص: 307
وقال الفضل (1) :
هذا يشمل سائر الخلفاء ، فإنّ كلّهم كانوا أولي الأمر ، ولا دليل على مدّعاه.
* * *
ص: 309
لا يمكن أن يشمل سائر الخلفاء ، سواء أراد بهم خصوص الأربعة ، أم الأعمّ منهم ، ومن معاوية ويزيد والوليد وأشباههم ؛ لدلالة الآية على عصمة أولي الأمر ، وهؤلاء ليسوا كذلك - كما سبق موضّحا في أوّل مباحث الإمامة - (1).
فيتعيّن أن يراد بأولي الأمر : عليّ وأبناؤه الأطهار ؛ لانتفاء العصمة عن غيرهم بالضرورة والإجماع.
* * *
ص: 310
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
التاسعة والستّون : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (2).
في مسند أحمد : هو عليّ ، حين أذّن بالآيات من سورة « براءة » ، حين أنفذها النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أبي بكر ، وأتبعه بعليّ علیه السلام فردّه ، ومضى عليّ.
وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « قد أمرت أن لا يبلّغها إلّا أنا أو واحد منّي » (3).
* * *
ص: 311
وقال الفضل (1) :
سيرد عليك : إنّ إنفاذ عليّ بعد أبي بكر كان لأجل أنّ العرب في العهود لا يعتبرون إلّا قول صاحب العهد ، أو واحد من قومه ، ولأجل هذا أنفذ عليّا.
* * *
ص: 312
لو كان العرب على ما ذكره لما خفي على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في أوّل الأمر ، فلا بدّ أن يكون إرسال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأبي بكر ليس مخالفا لقاعدة العرب ، بل هو مع عزله بعليّ للتنبيه من اللّه ورسوله على فضل عليّ ، وأنّه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دون سائر الناس ؛ وعلى أنّ أبا بكر ليس أهلا للقيام مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ذلك ، فكيف يقوم مقامه في الزعامة العظمى؟! ولو أرسل عليّا علیه السلام أوّلا لم يحصل هذا التنبيه!
ثمّ إنّ الضمير في قوله في الحديث : « هو عليّ » راجع إلى الأذان ، أو المؤذّن المستفاد من الكلام.
ويشهد للأوّل ما في « الدرّ المنثور » ، عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن حكيم بن حميد ، قال : « قال لي عليّ بن الحسين علیه السلام : إنّ لعليّ علیه السلام في كتاب اللّه اسما ، ولكن لا يعرفونه.
قلت : ما هو؟
قال : ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) ؟! هو واللّه الأذان » (1)
أقول :
وأنت تعلم أنّ تسميته علیه السلام في كتاب اللّه تعالى بالأذان المنسوب إلى
ص: 313
اللّه عزّ وجلّ ، دليل على شرف محلّه ، وخطر مقامه ، فلا يقاس به من لم يصلح لتأدية الرسالة.
* * *
ص: 314
وقال الفضل (1) :
في الروايات المشهورة أنّها في بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا يبعد أنّ بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله والوليّ يكون متّحدا.
ولا بأس بهذه الرواية ، فإنّ كلّ هذه تدلّ على الفضائل المتّفق عليها ، ولا دلالة فيها على النصّ ، وهو المدّعى.
* * *
ص: 316
حكاه في « الدرّ المنثور » ، عن ابن أبي حاتم ، عن ابن سيرين (1).
وما ذكره الفضل أنّها في دار النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرويّ أيضا ، ومقتضى الجمع أنّ دارهما واحدة ، كما ورد من طرقنا تصريح النبيّ صلی اللّه علیه و آله به بعد أن قال مرّة : « إنّ طوبى شجرة في الجنّة ، أصلها في داري وفروعها في دور أهل الجنّة ».
وقال مرّة : « أصلها في دار عليّ علیه السلام » (2).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجهين :
الأوّل : إنّها أبانت أنّ عليّا علیه السلام من أهل الجنّة ؛ وقد سبق مرارا أنّ إعلامه بشخصه بأنّه من أهل الجنّة يستدعي عصمته ، أو فضله على غيره.
الثاني : إنّ اتّحاد دار النبيّ صلی اللّه علیه و آله والوليّ دليل على أنّهما كنفس واحدة ، وبمنزلة متّحدة ، فيكون عليّ علیه السلام أفضل الناس وخيرهم حتّى الأنبياء ، فيكون إمام الأمّة ألبتّة.
* * *
ص: 317
وقال الفضل (1) :
لا يظهر ربطه بعليّ ؛ إذ المراد من الّذين ينتقم منهم : هم الكفّار ، وعليّ لم يحارب الكفّار بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وإن أراد البغاة ، فالآية ليست نازلة في شأنهم ، كما يدلّ السابق واللاحق من الآية على أنّها نزلت في شأن الكفّار ؛ وإن صحّ فلا يدلّ على المدّعى.
* * *
ص: 319
هذا ممّا نقله في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه ، عن ابن عبّاس (1).
ونقله أيضا في « ينابيع المودّة » ، في الباب السادس والعشرين ، عن أبي نعيم ، عن حذيفة بن اليمان (2).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن مردويه ، عن جابر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هذه الآية : « نزلت في عليّ بن أبي طالب ، أنّه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي » (3)
فهذه الرواية صريحة في نزول الآية بانتقام عليّ علیه السلام من البغاة ، كما هو مقتضى الأخبار الأخر.
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ المراد من الّذين ينتقم منهم : هم الكفّار ، بدعوى دلالة ما سبق على الآية وما لحقها على ذلك ، فممنوع ؛ لشمول هذه الآيات للكافرين والمنافقين ، قال تعالى في سورة « الزخرف » : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ
ص: 320
فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) (1).
فإذا كان لفظ الآيات شاملا للكافرين والمنافقين ، وكان صالحا لتخصيصه بالمنافقين لدليل خاصّ كسائر العمومات ، فقد صحّ لتلك الأخبار أن يراد بالآيات الخصوص ، وأن يكون المراد بضمير الغيبة في قوله تعالى : ( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) هو : المنافقون ، لا سيّما مع التصريح - في رواية جابر المذكورة - بالانتقام من الناكثين والقاسطين ، فإنّهم وسائر البغاة على عليّ علیه السلام أعداء مبغضون له ، وقد استفاضت الأخبار كما مرّ مرارا أنّ بغضه علامة النفاق (2).
فإذا كان عليّ علیه السلام هو الذي وعد اللّه سبحانه بالانتقام به بعد النبيّ بمقتضى تلك الأخبار ، كان هو الإمام ؛ لأنّ قيامه مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ما هو أنسب بعمل الخلفاء والأئمّة ظاهر في إمامته بعده.
ولو سلّم أنّ الآيات نازلة بالكافرين ، فالبغاة على أمير المؤمنين علیه السلام منهم ؛ لإنكارهم لإمامته ، والإمامة من أصول الدين كما هو الحقّ ..
ولقوله صلی اللّه علیه و آله : « حربك حربي » (3) ..
وقوله سبحانه : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) (4) الآية ، فإنّها نازلة بعليّ علیه السلام ومن حاربه ، كما
ص: 321
وقال الفضل (1) :
لا شكّ أنّ عليّا كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، لكن لا يدلّ هذا على النصّ على إمامته.
* * *
ص: 324
هذا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه (1).
وأوّل الآية : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (2).
وهذا المثل - كما تدلّ عليه الآيات السابقة على هذه الآية - قد ضربه اللّه سبحانه لنفسه وللأصنام ، فمثّلها بالأبكم العاجز ، ومثّل نفسه المقدّسة بعليّ علیه السلام ، وقال سبحانه : ( لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ) (3).
فيكون عليّ علیه السلام أعلى وأفضل من سائر الأمّة وإمامها ..
وأيضا : قد دلّ على أنّه على الصراط المستقيم ، فيكون معصوما ..
وعلى أنّه يأمر بالعدل أيضا ، فيكون أفضل وأولى بالإمامة ممّن قال :
« أما واللّه ما أنا بخيركم ، أفتظنّون أنّي أعمل فيكم بسنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا لا أقوم بها ، إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعصم بالوحي ، وكان معه ملك ، وإنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني ، أن لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم » (4).
ص: 325
73 - آية : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ )
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الثالثة والسبعون : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) (2).
عن ابن عبّاس : آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (3).
* * *
ص: 326
وقال الفضل (1) :
صحّ هذا ، وآل يس آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وعليّ منهم ، والسلام عليهم.
ولكن أين هو دليل المدّعى؟!
* * *
ص: 327
فضّل اللّه سبحانه في هذه السورة ، أي سورة الصافّات ، جماعة مخصوصة من الأنبياء ، فقال تعالى : ( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) (1) ..
وقال تعالى : ( سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ) (2) ..
وقال سبحانه : ( سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ) (3).
ثمّ ختم السورة بالتعميم لجميع المرسلين.
وخصّ أيضا في أثناء ذلك آل محمّد بالسلام ، فقال : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) (4) ، وهو دليل على شرف منزلتهم ، وأنّهم في قرن الأنبياء والمرسلين ؛ فيكون دليلا على فضلهم وإمامتهم للأمّة.
قال الرازي في ما حكاه عنه ابن حجر في « الصواعق » (5) : « إنّ أهل بيته صلی اللّه علیه و آله يساوونه في خمسة أشياء :
في السلام ، قال : السلام عليك أيّها النبيّ ، وقال : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) ..
وفي الصلاة عليه وعليهم في التشهّد ..
ص: 328
وفي الطهارة ، قال تعالى : ( طه ) (1) أي : يا طاهر ، وقال : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) ..
وفي تحريم الصدقة ..
وفي المحبّة ، قال تعالى : ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (3) ، وقال : ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلأَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (4) » (5).
وأقول :
لقد ترك عمدة ما يساوونه فيه ، وهو أنّهم حجج اللّه مثله (6) ؛ لكونهم خلفاءه الاثني عشر من قريش ، ونسي المباهلة بهم معه وعصمتهم ، وكثيرا من الفضائل التي يشاركونه بها دون الأمّة ، كالعلم بما في الكتاب ونحوه.
* * *
ص: 329
قد علمت ممّا سبق كذب دعوى نزولها في ابن سلّام ، وأنّ الحقّ نزولها في عديل القرآن وقرينه ، وباب مدينة علم سيّد المرسلين ، وأوضحنا دلالتها على إمامته هناك في الآية السابعة والعشرين (1).
وأمّا الآية الثانية ، فتعرف دلالتها على إمامته علیه السلام ممّا سبق في الآية الثانية والثلاثين (2) وغيرها ؛ لبشارتها له وإعلامها له بأنّهيؤتى كتابه بيمينه ، وأنّه في عيشة راضية في جنّة عالية.
وإنّما أعاد المصنّف رحمه اللّه ذكر الآية الأولى من هاتين الآيتين ؛ لأنّه إنّما رواها سابقا من طريق الثعلبي عن عبد اللّه بن سلّام ، ومن طريق أبي نعيم ، عن محمّد بن الحنفيّة (3).
وأمّا روايتها هنا فمن طريق ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، فإنّه روى نزول الآيتين معا في رواية واحدة ، كما في « كشف الغمّة » ، فحسن لذلك إعادتها بتبع أختها (4).
* * *
ص: 332
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الخامسة والسبعون : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2).
عن أبي هريرة ، قال : « قال عليّ بن أبي طالب : يا رسول اللّه! أيّما أحبّ إليك ، أنا أم فاطمة؟
قال : فاطمة أحبّ إليّ منك ، وأنت أعزّ عليّ منها ، وكأنّي بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس ، وأنّ عليه الأباريق مثل عدد نجوم السماء ، [ وإنّي ] وأنت والحسن والحسين وفاطمة وعقيل وجعفر في الجنّة إخوانا على سرر متقابلين ، أنت معي وشيعتك في الجنّة.
ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) ، لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه » (3).
* * *
ص: 333
وقال الفضل (1) :
إن صحّ هذا فهو من فضائله وذكر درجاته العلى في الجنّة ، ولا ريب لمؤمن في هذا ؛ والبحث في وجود النصّ ، فأيّ نفع لذاكر هذه الفضائل في ذكرها؟!
* * *
ص: 334
سبق ذكر هذه الآية ، وهي الآية الثانية والثلاثون ، وإنّما أعادها المصنّف رحمه اللّه ؛ لأنّه نقلها سابقا ، عن « مسند أحمد » ، وذكرنا هناك تمام حديثه وبيّنّا وجوه دلالته(1).
وأمّا ذكرها هنا ؛ فلأنّ الحديث المذكور في المقام من أحاديث ابن مردويه (2) ، وهو مشتمل على خصوصيّات أخر تقتضي الإمامة أيضا ..
منها : إنّ عليّا علیه السلام هو الساقي على حوض النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، يذود عنه الناس ، وهو بظاهره يقتضي الامتياز والفضل على جميع الناس ، ولا أقلّ من دلالته على الفضل على هذه الأمّة ، فيكون إمامها.
ومنها : إنّ شيعته في الجنّة ، فيكون ما يعتقدونه من إمامته دون غيره حقّ.
ومنها : بشارته بشخصه بالجنّة ، وهو كما سبق (3) دليل على عصمته ، أو فضله على مثل المشايخ الثلاثة ممّن لا يصحّ تبشيره بهذه البشارة ، فيتعيّن دونهم للإمامة.
فإن قلت : على هذا يكون عقيل مساويا لعليّ علیه السلام بالعصمة أو الفضل على غيره ؛ لبشارته بشخصه أيضا في الجنّة ، فيلزم جواز إمامته وأنتم لا تقولونه!
ص: 335
قلت : قد اعتبرنا في الدلالة على العصمة أو الفضل علم الشخص بدخوله الجنّة ، وليس في الحديث ما يدلّ على علم عقيل ، وليس هو - أيضا - كعليّ علیه السلام عنده علم الكتاب ، والعلم بكلّ آية في من نزلت ، فلا يلزم علوّ رتبته كعليّ علیه السلام .
على أنّ عقيلا ليس بمعصوم ، فلا تجوز إمامته ، وإن فرض جواز بشارته وإعلامه بدخول الجنّة.
هذا ، ونقل نحو هذا الحديث في الباب الرابع والأربعين من « ينابيع المودّة » عن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « أنت يا عليّ على حوضي ، تذود عنه المنافقين ، وأنّ أباريقه عدد نجوم السماء ، وأنت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنّة ، إخوانا على سرر متقابلين ، وأنت وأتباعك معي » ، ثمّ قرأ : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (1).
* * *
ص: 336
هذا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه (1).
ويؤيّده ما ورد من نزول أبعاض أخر من الآية في أمير المؤمنين علیه السلام ، كما عرفته في الآية الأربعين ، والرابعة والستّين (2).
والظاهر نزولها جميعا في النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين ؛ لتصريح صدرها بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وورود نزول جملة من أبعاضها في عليّ علیه السلام .
قال تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) - يعني : عليّا - ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (3).
ثمّ بيّن سبحانه مثل النبيّ وعليّ لمؤازرته له في دعوته بالزرع الذي ( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) أي : فراخه وصغاره (4) ، وذلك بلحاظ ابتداء دعوة النبيّ ، ( فَآزَرَهُ ) من حيث مؤازرة عليّ علیه السلام له صلی اللّه علیه و آله ، ( فَاسْتَغْلَظَ ) بهما ، ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) باستمرار دعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسيف عليّ علیه السلام ، ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) أي : بالنبيّ وعليّ.
ولا ريب أنّ من امتاز بكونه غيظا للكافرين ، لا بدّ أن يكون أقوى
ص: 339
المسلمين عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، وأعلاهم حجّة وأثرا ، وأفضلهم فهما وعلما ، وليس ذلك إلّا النبيّ والإمام.
* * *
ص: 340
77 - آية : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ )
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه -(1) :
السابعة والسبعون : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ )(2).
قال الباقر علیه السلام : نحن الناس(3).
* * *
ص: 341
قال ابن حجر في « الصواعق » (1) : أخرج أبو الحسن المغازلي ، عن الباقر علیه السلام ، أنّه قال في هذه الآية : « نحن الناس واللّه » (2).
ونحوه في « ينابيع المودّة » (3).
وزاد رواية أخرى عن ابن المغازلي ، عن ابن عبّاس ، قال : « هذه الآية في النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفي عليّ علیه السلام » (4).
ووجه الدلالة على المطلوب ظاهر ؛ فإنّ المراد ب : ( ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) هو العلم والهدى والفهم والحكمة ، ونحوها من الصفات والفضائل التي هي شأن محمّد صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، لا أمور الدنيا الدنيّة.
ومن المعلوم : أنّ إيتاء هذا الفضل لعليّ علیه السلام الذي حسده الناس عليه يستدعي الأفضليّة والإمامة ، وإلّا لما حسدوه عليه.
كما أنّ مشاركته علیه السلام للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في الفضل - على الرواية الثانية - ، دليل على أنّ فضله من نوع فضل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فيكون الأفضل والأحقّ بخلافته.
ص: 343
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الثامنة والسبعون : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) (2).
عن الحسن البصري ، قال : « المشكاة : فاطمة ، والمصباح : الحسن والحسين.
و ( الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ ) ، قال : كانت فاطمة كوكبا درّيّا بين نساء العالمين.
( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) ، قال : الشجرة المباركة : إبراهيم.
( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ، لا يهوديّة ولا نصرانيّة.
( يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ) ، قال : يكاد العلم ينطف (3) منها.
( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ ) ، قال فيها : إمام بعد إمام.
( يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) (4) ، قال : يهدي اللّه لولائهم (5) من يشاء » (6).
ص: 344
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ، وإن صحّ فدلّ على فضائل أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو متّفق عليه ، ولو ذكر أضعاف هذا فلا ينازع منازع.
* * *
ص: 345
هذا من روايات ابن المغازلي على ما حكاه السيّد السعيد عنه (1).
ويشهد لصحّته ما نقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، في تفسير ما بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) (2) ، عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أنس بن مالك وبريدة ، قال :
قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الآية : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) .
فقام إليه رجل ، فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه؟
قال : بيوت الأنبياء.
فقام إليه أبو بكر ، فقال : يا رسول اللّه! هذا البيت منها؟ - لبيت عليّ وفاطمة -.
قال : نعم ، من أفاضلها » (3).
ونقل المصنّف رحمه اللّه نحوه في « منهاج الكرامة » ، عن الثعلبي ، عن أنس وبريدة (4)
فإنّ قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ ) مرتبط بقوله : ( كَمِشْكاةٍ ) كما هو
ص: 346
الظاهر ، ووافق عليه الأكثر (1).
ومن المعلوم أنّ تقييد « المشكاة » بكونها في بيوت الأنبياء ، لا دخل له بظاهر الآية من إرادة تعظيم المشكاة بزيادة النور الظاهري ، فينبغي أن يراد بالمشكاة : فاطمة ، كما في رواية ابن المغازلي ؛ ليكون التقييد بكونها في بيوت الأنبياء مفيدا ، لزيادة تعظيمها ونورها المعنوي.
فيكون حاصل المعنى : أنّ مثل نوره تعالى كفاطمة العالمة ، المنيرة بمصباح نور الحسن والحسين ، المتضاعف نورها بأنوار الأئمّة من ولدها.
وهذا أدلّ دليل على إمامة عليّ وولده الأطهار ؛ فإنّه ذكر أنّ من فاطمة علیهاالسلام الأئمّة ، إماما بعد إمام.
ولا ريب - على القول بإمامتهم - أنّ إمامتهم فرع إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فتثبت إمامته ، كما هو المطلوب.
مضافا إلى أنّ اللّه سبحانه أظهر لفاطمة وولدها - بضرب المثل بهم لنوره - فضلا لا يوازى ، وفخرا لا يماثل.
ولا شكّ أنّ فضلهم من فضل عليّ علیه السلام ودونه ، فيكون أفضل الأمّة ، والأفضل هو الإمام.
هذا ، وقد روي عندنا ، عن إمامنا أبي جعفر الباقر علیه السلام ما هو أظهر في المطلوب ، وأقرب إلى معنى الآية ..
قال علیه السلام ما حاصله : إنّ ( كَمِشْكاةٍ ) : صدر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..
و ( الْمِصْباحُ ) : نور علمه ..
و ( الزُّجاجَةُ ) : صدر أمير المؤمنين علیه السلام ..
ص: 347
( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) ، أي : من نور علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ علمه صار إلى عليّ علیه السلام ..
( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) : لا يهودية ولا نصرانية ..
( يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) ، قال : يكاد العالم من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله يتكلّم قبل أن يسأل ..
( نُورٌ عَلى نُورٍ ) ، أي : إمام مؤيّد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (1).
* * *
ص: 348
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ؛ وترك قتال أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله هل يحتاج إلى الاستدلال بالنصّ ، وهو على إقامة الدليل على إثبات نصّ الإمامة ، ويستدلّ بالقرآن على عدم جواز قتلهم؟!
وهذا من غرائب أطواره في البحث!
* * *
ص: 350
النظر في الاستدلال إنّما هو إلى جعل قتل الناس لهم كقتل الناس لأنفسهم ؛ لأنّ حسم مادّة الفتن وحفظ الأنفس على الوجه الشرعي موقوف على أئمّة معصومين ، فتكون الآية دليلا على إمامتهم وعصمتهم.
ويعضدها قوله تعالى في الآية الستّين : ( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) (1) ، أي : دعاكم إلى ولاية عليّ علیه السلام .
فالمراد بالأنفس في الآية معناها الحقيقي ، ولكن كنّى بالنهي عن قتلها عن النهي عن قتل أهل البيت علیهم السلام ؛ لتوقّف حفظ النفوس عليهم.
ويحتمل أن يكون تجوّزا في نسبة القتل إلى الأنفس عن نسبته إلى أهل البيت علیهم السلام .
كما يحتمل أن يراد التجوّز في المفرد ، بأن يكون قد أطلق الأنفس على أهل البيت مجازا ؛ إشارة إلى أنّهم بمنزلة الأنفس في وجوب حفظها ورعايتها على الناس كلّهم ؛ لأنّ حياتهم حياة الأنفس من كلّ وجه ..
أمّا في الآخرة ؛ فلأنّهم الهداة ، وبهم النجاة .. وأمّا في الدنيا ؛ فلحفظ النفوس بهم ، وبهم السعادة والبركات ؛ ولذا قال سلمان الفارسي رضی اللّه عنه : « لو أطعتم عليّا لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أرجلكم » (2).
ويحتمل أن يكون تجوّزا في المفرد ، على أن يراد بالأنفس : أهل
ص: 351
البيت علیهم السلام ، وبقتلهم : غصب خلافتهم ؛ لأنّه آيل إلى قتلهم ، كما شهد به الوجدان.
* * *
ص: 352
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثمانون : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (2).
عن ابن عبّاس ، قال : « سأل قوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله : في من نزلت هذه الآية؟
قال : إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أبيض ، ونادى مناد : ليقم سيّد المؤمنين ومعه الّذين آمنوا ببعث محمّد صلی اللّه علیه و آله .
فيقوم عليّ بن أبي طالب ، فيعطى اللواء من النور الأبيض ، وتحته جميع السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار لا يخالطهم غيرهم ، حتّى يجلس على منبر من نور ربّ العزّة ، ويعرض الجميع عليه رجلا رجلا ، فيعطى أجره ونوره.
فإذا أتى على آخرهم قيل لهم : قد عرفتم صفتكم ومنازلكم في الجنّة إنّ ربّكم يقول لكم : إنّ لكم عندي مغفرة وأجرا عظيما - يعني : الجنّة -.
فيقوم عليّ - والقوم تحت لوائه - معهم حتّى يدخل بهم الجنّة ، ثمّ يرجع إلى منبره ، فلا يزال حتّى يعرض عليه جميع المؤمنين فيأخذ نصيبه
ص: 353
منهم إلى الجنّة ويترك أقواما على النار ، وذلك قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (1) ، يعني : السابقين الأوّلين وأهل الولاية.
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) (2) ، يعني : بالولاية بحقّ عليّ ، وحقّ عليّ الواجب على العالمين » (3).
[ ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) ، وهم الّذين قاسم عليّ عليهم النار فاستحقّوا الجحيم ].
* * *
ص: 354
وأقول :
نقله السيّد السعيد عن « شواهد التنزيل » للحاكم أبي القاسم الحسكاني(1).
ويؤيّده ما دلّ على أنّ عليّا قسيم الجنّة والنار(2) ، وأنّه سيّد المسلمين(3) ، وأنّه لا يدخل الجنّة إلّا من بيده براءة منه وسند
ص: 356
بولايته (1).
ودلالتها على إمامته من وجوه :
كونه سيّد المسلمين ..
وأنّهم يدخلون الجنّة بزمرته وتحت لوائه ..
وأنّهم يعرضون عليه جميعا ؛ فإنّها تقتضي إمامته ، ولو لدلالتها على فضله ، والأفضل هو الإمام ، ولا سيّما مع التصريح في آخر الحديث بأنّ حقّه واجب على العالمين ، وتصريحه بأنّ أهل الولاية له هم الّذين آمنوا باللّه ورسله ، وأنّ المكذّبين بولايته في زمرة الكافرين.
بل هذا كما يدلّ على إمامته ، يدلّ على أنّها من أصول الدين ؛ إذ لا يكفر من كذّب بغير أصوله!
* * *
ص: 357
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الحادية والثمانون : ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2).
نزلت في عليّ علیه السلام لمّا وصل إليه قتل حمزة رضی اللّه عنه ، فقال : « ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) » ؛ فنزلت هذه الآية (3).
* * *
ص: 358
وقال الفضل (1) :
هذا ليس من تفاسير أهل السنّة ، وإن صحّ فهو كسائر أخواته في عدم دلالته على النصّ.
* * *
ص: 359
هذا أيضا نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن تفسيري الثعلبي والنقّاش (1).
والاستدلال به على المطلوب من وجهين :
الأوّل : إنزال اللّه سبحانه القرآن في صبر عليّ علیه السلام وتسليمه لأمر اللّه تعالى ، وجعل الصلوات العديدة والرحمة عليه.
ومن الواضح أنّ ذكره علیه السلام بذلك - مع كثرة الصابرين القائلين : « ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) » - دليل على تميّزه بالصبر والتسليم الكاشفين عن كماله الذاتي وفضله على غيره ، فيكون هو الإمام.
الثاني : تعبير الكتاب العزيز عنه بصيغ الجموع مع حصر الاهتداء به بقوله : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) ، الدالّ على أنّ اهتداء غيره بالنسبة إليه كلا اهتداء.
فإنّ ذلك من أعظم الدلائل على عظمته عند اللّه سبحانه ، وارتفاع شأنه لديه ، وكونه أهدى الأمّة وأفضلها ، فيكون هو الإمام (3).
* * *
ص: 360
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الثانية والثمانون : في مسند أحمد بن حنبل : قال ابن عبّاس : « ما في القرآن آية [ يا ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ] إلّا وعليّ رأسها وقائدها وشريفها وأميرها ، ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله في القرآن ، وما ذكر عليّا إلّا بخير » (2).
وعنه : « ما نزل في أحد من كتاب اللّه ما نزل في عليّ » (3).
وعن مجاهد : « نزل في عليّ سبعون آية » (4).
ص: 361
وعن ابن عبّاس : « ما أنزل اللّه آية وفيها : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وعليّ رأسها وأميرها » (1).
* * *
ص: 362
وقال الفضل (1) :
هذه أخبار لو صحّت دلّت على فضائل عليّ ، وكلّ ما ينقله من مسند أحمد بن حنبل ، فهو يدلّ على أنّ أهل السنّة لا يألون جهدا في ذكر فضائل أمير المؤمنين.
ولو كان النصّ موجودا في إمامته ، لكانوا يروونه وينقلونه ولا يكتمونه ، فعلم أن لا نصّ هناك!
* * *
ص: 363
نقل المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » حديث أحمد (1) ، فأنكر ابن تيميّة أن يكون من أصل « المسند » ، وزعم أنّه من زيادات القطيعي ، ثمّ ناقش في سنده (2).
ونحن لا يهمّنا إثبات كونه من أصل « المسند » ، فإنّ القطيعي أيضا معتبر النقل عندهم (3).
وأمّا ضعف سنده ب ( زكريّا بن يحيى الكسائي ) ، فقد سبق جوابه في المقدّمة ، لا سيّما ولا داعي لهم إلى الطعن ب ( زكريّا ) إلّا روايته فضائل أهل البيت ومثالب أعدائهم ، وهو كما سبق في المقدّمة دليل وثاقته (4).
على أنّ الحديث ونحوه مستفيض عن ابن عبّاس (5) ، وروي عن غيره (6) ..
ص: 364
فقد نقل في « كنز العمّال » (1) ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس ، قال : « ما أنزل اللّه آية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وعليّ رأسها وأميرها ».
ونقل فيه (2) ، عن أبي نعيم أيضا ، عن ابن عبّاس ، قال : « ما أنزل اللّه سورة في القرآن إلّا وكان عليّ أميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله وما قال لعليّ إلّا خيرا ».
ونقل ابن حجر في « الصواعق » (3) ، عن الطبراني ، وابن أبي حاتم (4) ، عن ابن عبّاس ، قال : « ما أنزل اللّه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وعليّ أميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله في غير مكان وما ذكر عليّا إلّا بخير ».
ونقل في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه نحو ذلك من عدّة طرق ، عن ابن عبّاس وحذيفة (5).
وهو دالّ على إمامة أمير المؤمنين ؛ لأنّ المراد بكون عليّ علیه السلام رأسها
ص: 365
وأميرها : هو كونه رأس من خوطب بها ، وهم المؤمنون ، وأنّه أميرهم وإن لم يكن داخلا معهم في الخطاب في بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (1) ..
وقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) (2) ..
.. إلى غير ذلك ممّا عاتب اللّه به المؤمنين (3).
ولو سلّم أنّ مراد ابن عبّاس : دخول أمير المؤمنين معهم في الخطاب بجميع تلك الآيات ، فلا بدّ من تخصيصه بغير هذا النحو من الآيات ؛ لقوله : « وما ذكر عليّا إلّا بخير ».
هذا ، وقد استنهضت ابن تيميّة حميّة النصب لمعارضة هذه الأخبار ، فمخض زبد الباطل ، وروى ما افتراه بعض أسلافه من النواصب ، من أنّ اللّه تعالى أنزل في عليّ علیه السلام : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (4) ، بدعوى أنّه صلّى وهو سكران ، فقرأ وخلط (5)!
وكيف يصدّق حديث يكذّب خبر اللّه سبحانه بطهارة عليّ علیه السلام
ص: 366
وإذهاب الرجس عنه (1)؟! والخمر رجس كما صرّح به الكتاب العزيز (2) ، لكنّ القوم لم يبالوا بتكذيب اللّه ورسوله إذا صدّقوا هواهم (3)!!
وقد اجترأ هذا الناصب على إمام الحقّ وسيّد الخلق بما هو أعظم من ذلك (4) ، ضاعف اللّه تعالى له جزاء ما عمل ، إنّه خير الحاكمين.
وما أكثر ما لغا في المقام بنقل أخبار قومه التي لا تقوم حجّة على خصمه ، وبذكر الأمور الواهية التي لا يليق بنا نقلها وردّها.
ثمّ إنّ من جملة ما نقله المصنّف رحمه اللّه قول ابن عبّاس : « ما نزل في أحد من كتاب اللّه ما نزل في عليّ علیه السلام » ، وهو ممّا نقله ابن حجر في « الصواعق » (5) عن ابن عساكر (6).
ويشهد لصحّته وصحّة قول مجاهد - الذي ذكره المصنّف (7) - الأخبار المستفيضة الدالّة على نزول ما سبق من الآيات وغيرها فيه.
بل حكى ابن حجر أيضا ، عن ابن عساكر ، عن ابن عبّاس ، أنّه
ص: 367
قال : « نزل في عليّ ثلاثمئة آية » (1)
بل في « ينابيع المودّة » عن الطبراني ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : « نزل في عليّ أكثر من ثلاثمئة آية في مدحه » (2)
وأنت تعلم أنّ كثرة نزول الكتاب بمدح شخص - ولو لأدنى مناسبة - دليل على فضله على غيره ، وعظمته عند اللّه سبحانه ، والأفضل هو الإمام ، لا سيّما وقد كانت الآيات مختلفة البيان ، فبعضها يفيد تفضيله ، وبعضها يفيد عصمته ، وبعضها وجوب اتّباعه ، وبعضها أنّه المسؤول عن ولايته ، إلى غير ذلك ممّا سبق.
وأمّا قول الفضل : « إنّ ما ينقله المصنّف رحمه اللّه عن مسند أحمد يدلّ على أنّ أهل السنّة لا يألون جهدا في ذكر فضائل أمير المؤمنين ، وأنّه لو كان نصّ في إمامته لنقلوه » ..
فباطل ؛ إذ كيف يروون ما يرونه نصّا مع ما عرفت في المقدّمة من أحوال ملوكهم وعلمائهم وعوامّهم مع من يروي له فضيلة (3)؟!
فكيف بمن يروي ما يرونه نصّا عليه؟!
وقد عرفت أيضا في الآية الخامسة والعشرين ، أنّ الزمخشري حكم بكراهة الصلاة على آل محمّد صلی اللّه علیه و آله إذا أفردوا بالذكر ؛ لأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض ، مع اعترافه برجحان الصلاة عليهم بالكتاب والسنّة (4).
ص: 368
فكيف يروي أحدهم النصّ الصريح على إمامة عليّ علیه السلام ؟!
بل كيف يروون النصّ عليه وهو خلاف مذهبهم؟! كما يشهد له ما في « مسند أحمد » (1) ، حيث أخرج عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : يهلك أمّتي هذا الحيّ من قريش.
قالوا : فما تأمرنا يا رسول اللّه؟
قال : لو أنّ الناس اعتزلوهم.
قال عبد اللّه بن أحمد : قال أبي في مرضه : « إضرب على هذا الحديث ، فإنّه خلاف الأحاديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله » يعني قوله : « اسمعوا وأطيعوا واصبروا » (2).
فأنت ترى أنّ أحمد أمر بالضرب على هذا الحديث مع صحّة سنده عندهم ؛ لمخالفته للأحاديث الدالّة على السمع والطاعة لأئمّة الجور والضلالة ، فكيف يروي هو أو غيره ما يعتقدونه نصّا على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام وخلافته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، المستلزم لظلم الأوّلين له وبطلان خلافتهم؟!
وما روى أكثر الخصوم فضائل أهل البيت إلّا لتوهينها ، أو دفع وصمة النصب الخبيثة عنهم ، أو للفخر بالاطّلاع ، أو غير ذلك من الغايات الفاسدة.
ومع ذلك ترى جملة ممّن رواها ساقطا عندهم إذا توهّموا فيه حبّ أهل البيت علیهم السلام ، وإن كان من أعلامهم!
ص: 369
فكان من إتمام اللّه تعالى الحجّة عليهم أن أجراها على ألسنة أقلامهم ؛ لئلّا يقولوا يوم القيامة : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (1).
ولا يضرّها الطعن بالسند ؛ لصحّة الكثير منها عندهم ، واستفاضة أكثرها - مع ما بيّنّاه في المقدّمة (2) -.
كما لا يضرّها توهين الدلالة ، فإنّ الكثير منها صريح الدلالة ، وما آفتها إلّا عناد المخاصمين ، كما عرفته في جملة ممّا سبق ، وتعرفه في حديث المنزلة والثقلين ونحوهما.
ولو نقلوا أحاديث فضائل أمير المؤمنين علیه السلام على وجهها ، لظهر لك كيف دلالتها على إمامته! حتّى إنّهم لم ينقلوا من نصّ الغدير إلّا اليسير ، وأخفوا أكثر ما فيه الصراحة الذي يقطع كلّ غافل بوجوده ؛ إذ لا يمكن أن يجمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله نحو مئة ألف من المسلمين ويقوم فيهم بحرّ الحجاز وقت الظهيرة على منبر يقام له من الأحداج (3) ، ويخطبهم لداعي حضور أجله وهو لا يقول إلّا : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » (4)، أو بزيادة قليلة عليه ، ومع ذلك لا يريد إلّا بيان أنّ عليّا ناصر لمن كنت ناصره أو نحوه ، ما أظنّ أنّ عاقلا يرتضيه!!
ص: 370
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
الثالثة والثمانون : روى الحافظ محمّد بن موسى الشيرازي (2) من علماء الجمهور ، واستخرجه من التفاسير الاثني عشر ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (3) ، قال : « هم : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، هم أهل الذكر والعلم والعقل والبيان ، وهم أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ؛ واللّه ما سمّي المؤمن مؤمنا إلّا كرامة لأمير المؤمنين (4).
ورواه سفيان الثوري ، عن السّدّي ، عن الحارث (5).
* * *
ص: 371
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من روايات أهل السنّة ، وهي أشياء تدلّ على فضيلة آل العباء ، وهذا أمر لا ريب فيه ، ولا ينكره إلّا المنافق ، ولا يعتقده إلّا المؤمن الخالص ، ولكن لا يثبت به النصّ.
* * *
ص: 372
الحافظ المذكور هو من علماء القوم ، والتفاسير الاثنا عشر من أشهر تفاسير قدمائهم كما سيذكرها المصنّف رحمه اللّه في « مطاعن الصحابة ».
فإنكار الفضل لكونه من روايات تفاسيرهم إنكار بارد ، وظنّي أنّه لم ير كتاب الحافظ المذكور ، وأنكر رجما بالغيب.
ويعضد هذه الرواية ما نقله في « ينابيع المودّة » (1) ، عن تفسير الثعلبي (2) ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : قال عليّ علیه السلام : نحن أهل الذكر.
و« الذكر » في القرآن قد أطلق على معنيين مناسبين للمقام ، نبّه عليهما إمامنا الصادق علیه السلام وقال : « نحن أهل الذكر » (3) بكلا المعنيين :
أحدهما : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى في سورة الطلاق : ( قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّهِ ) (4) (5).
وثانيهما : القرآن ، وهو في الكتاب العزيز كثير ، كقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (6) وقوله تعالى :
ص: 373
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (1) (2).
ومن الواضح أنّ أهل البيت : أهل الذكر ، بكلا المعنيين ، كما سبق عن إمامنا علیه السلام (3) ؛ لأنّهم أهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأهل القرآن ؛ لأنّ علم القرآن عندهم ، وهما الثقلان اللذان لا يفترقان.
والأظهر إرادة المعنى الثاني في قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) ، ولا ينافي إرادة الأوّل دخول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أهل الذكر على الرواية التي نقلها المصنّف رحمه اللّه ؛ لصحّة إطلاق أهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ما يشمله تغليبا (4).
وعلى كلا المعنيين ، فأمر اللّه سبحانه بسؤالهم ، دليل على أنّ لهم العلم الوافر ، والامتياز والفضل على الناس ، فتكون الإمامة فيهم ، مع أنّ قوله في الحديث : « واللّه ، ما سمّي المؤمن مؤمنا إلّا كرامة لأمير المؤمنين » ، قد تضمّن من بيان الفضل على غيره ما لا يوازيه بيان.
وقريب منه قوله : « هم أهل الذكر ، والعلم ، والعقل ، والبيان ... » إلى آخره.
* * *
ص: 374
قال المصنّف - قدس سره - (1) :
الرابعة والثمانون : وعن الحافظ في قوله تعالى : ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) (2) ، بإسناده إلى السّدّي ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ ولاية عليّ يتساءلون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميّت في شرق ولا غرب ، ولا في برّ ولا بحر ، إلّا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين علیه السلام بعد الموت ، يقولون للميّت : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ ومن إمامك؟ (3)
وعنه : عن ابن مسعود ، قال : « وقعت الخلافة من اللّه تعالى لثلاثة نفر :
آدم ، في قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (4).
وداود : ( إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) (5).
وأمير المؤمنين : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
ص: 375
مِنْ قَبْلِهِمْ ) (1) ، داود وسليمان (2) ..
( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ) (3) ، يعني : الإسلام ..
( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ ) ، يعني : من أهل مكّة ..
( أَمْناً ) ، يعني : في المدينة ..
( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ، يعني : يوحّدونني ..
( وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ ) ، بولاية عليّ ..
( فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (4) ، يعني : العاصين لله ولرسوله ».
وهذا كلّه نقله الجمهور واشتهر عنهم وتواتر (5).
* * *
ص: 376
وقال الفضل (1) :
ما ذكر أنّ المراد ب ( عَمَ ) : عليّ ، فلا يصحّ بحسب المعنى والتركيب ، ويكون هكذا : « عليّ يتساءلون ، عن النبأ العظيم » ، وأنت تعلم أن هذا تركيب فاسد.
وأمّا ما ذكر من السؤال في القبر عن ولاية عليّ ، فلم يثبت هذا في الكتاب ولا السنّة ، ولو كان من المسؤولات في القبر ، لكان ينبغي أن يعلمنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتواتر واشتهر كما اشتهر باقي أركان الإسلام.
وأمّا ما نقل عن ابن مسعود ، أنّه وقعت الخلافة من اللّه لثلاثة : آدم ، وداود ، وعليّ ؛ فآدم وداود قد صرّح باسمهما في الخلافة فيالقرآن.
وأمّا أن يكون المراد من قوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) عليّ فحسب ، فغير ظاهر ، ولا خبر صحيح يدلّ على هذا ، بل الظاهر يشمل الخلفاء الأربع وملوك العرب في الإسلام ..
فإنّ ظاهر الآية : أنّ اللّه وعد المؤمنين بأن يجعلهم خلفاء الأرض ، وينزع الملك من كسرى وقيصر ويؤتيه المؤمنين ، وهذا مضمون الآية ، وما فسّره في الآية فكلّه من باب التفسير بالرأي.
وما ذكر أنّ كلّ الأشياء التي ذكرها نقله الجمهور ، واشتهر عنهم ،
ص: 377
وتواتر ؛ فهذا كذب أظهر وأبين من كذب مسيلمة الكذّاب ؛ لأنّ مراده من الجمهور : أهل السنّة والجماعة ، وليس كلّ ما ذكر متواتر عند أهل السنّة ، وكأنّه لا يعلم معنى التواتر.
* * *
ص: 378
وأقول :
ما ذكره في صدر كلامه دليل الغفلة أو المغالطة ؛ إذ لا يتصوّر أحد أنّ الرواية ، أو ذكر المصنّف رحمه اللّه نزول الآية في عليّ علیه السلام يقتضي كون مجموع الجار والمجرور عليّا ، ضرورة أنّ صريح الرواية أنّ المراد بالمجرور ، وهو « ما » الاستفهامية : ولاية عليّ علیه السلام ، التي هي النبأ العظيم.
ويحتمل أن يكون النبأ العظيم عليّا نفسه ، وأنّه المسؤول عنه ، لكن لمّا كان السؤال عنه لأجل التقرير بولايته ، عبّرت الرواية بالسؤال عن ولايته ، وأشار الشاعر إلى أنّه المراد بالنبأ العظيم بقوله [ من الوافر ] :
هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب اللّه وانقطع الخطاب (1)
وأمّا ما زعمه من عدم ثبوت السؤال عن ولاية عليّ في القبر ، فيكفي في ثبوته هذه الرواية المؤيّدة بالأخبار السابقة في الآية الحادية عشرة(2) ، وهي قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )(3).
وأمّا قوله : « ولو كان من المسؤولات [ في القبر ] ، لكان ينبغي أن يعلمنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتواتر ... » ..
ص: 379
فيرد عليه : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعلمهم به ، كما في هذه الرواية ونحوها ، وقد تواتر عندنا ، وإنّما لم يتواتر عندهم ؛ لأنّه على خلاف رأي ملوكهم.
وكيف لا يسأل عن ولاية عليّ وإمامته ، والإمامة كالنبوّة من أركان الإيمان وأصول الدين كما سبق (1)؟!
فإذا كان عليّ علیه السلام هو المسؤول عن إمامته ، فيقال للميّت : من إمامك؟ ، كان هو الإمام لا من قبله ، وإلّا لوقع السؤال عنه بالأولويّة.
وأمّا ما رواه المصنّف رحمه اللّه عن ابن مسعود ، فيؤيّده أنّ الاستخلاف المذكور في قوله تعالى : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) مسند إلى اللّه تعالى ، وهو مطابق بظاهره لمذهبنا في الإمامة ، لا لمذهب القوم فيها ؛ فإنّها عندهم إنّما تثبت بالاختيار لا باستخلاف اللّه سبحانه ، مع أنّ الآية صريحة بتمكين الخليفة من دين اللّه الذي ارتضاه ، وهو فرع العلم بالدين كلّه ، والخلفاء الثلاثة ليسوا كذلك.
وأظهر منهم بعدم الإرادة ، بقيّة ملوك العرب ، كمعاوية ويزيد والوليد وأشباههم ، بل الظاهر دخولهم في قوله تعالى بعد هذا القول : ( وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (2) كما بيّنه الزمخشري بقوله في تفسير الآية : « أنجز اللّه وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب ، ومزّقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا ، ثمّ خرج الّذين على خلاف سيرتهم ، فكفروا بتلك النعم ، وفسقوا ، وذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ يملّك اللّه من يشاء ،
ص: 380
فتصير ملكا ، ثمّ تصير بزّيزى (1) قطع سبيل ، وسفك دماء ، وأخذ أموال بغير حقّها » (2).
فإنّ كلامه كما ترى دالّ على ما قلناه من كفر بقيّة ملوك العرب ، وإن أخطأ في دعوى إرادة الاستخلاف للخلفاء الأربعة جميعا ؛ لما عرفت من عدم تمكين الثلاثة من الدين الذي ارتضاه ؛ ولأنّ الاستخلاف من اللّه تعالى إنّما هو لعليّ ، وأمّا غيره فإمامته بالاختيار.
ولنذكر كلام الرازي هنا ؛ لأنّ به وبردّه تمام المطلوب ، قال :
« المسألة الثامنة : دلّت الآية على إمامة الأئمّة الأربعة ؛ وذلك لأنّه تعالى وعد الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وهو المراد بقوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (3) ، وأن يمكّن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا.
ومعلوم أنّ المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ؛ لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلّا بعده ..
ومعلوم أنّه لا نبيّ بعده ؛ لأنّه خاتم النبيّين ..
فإذا المراد بهذا الاستخلاف : طريقة الإمامة.
ومعلوم أنّ بعد الرسول الاستخلاف الذي هذا وصفه إنّما كان في أيّام أبي بكر وعمر وعثمان ؛ لأنّ في أيّامهم كانت الفتوح العظيمة ، وحصل
ص: 381
التمكين ، وظهور الدين ، والأمن ، ولم يحصل في أيّام عليّ ؛ لأنّه لم يتفرّغ للجهاد ؛ لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة.
فثبت بهذا دلالة الآية على صحّة خلافة هؤلاء.
فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ؛ لأنّها تقتضي حصول الخلافة لكلّ من آمن وعمل صالحا ، ولم يكن الأمر كذلك.
نزلنا عنه ؛ لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) : هو أنّه تعالى يسكنهم في الأرض ويمكّنهم من التصرّف ، لا أنّ المراد منه : خلافة اللّه تعالى؟!
وممّا يدلّ عليه قوله : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ، واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الإمامة ، فوجب أن يكون الأمر في حقّهم أيضا كذلك.
نزلنا عنه ؛ لكن هاهنا ما يدلّ على أنّه لا يجوز حمله على خلافة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ [ من ] مذهبكم أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يستخلف أحدا ، وروي عن عليّ أنّه قال : « أترككم كما ترككم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ».
نزلنا عنه ؛ لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه عليّا ، والواحد قد يعبّر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، كقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (1) ، وقال تعالى في حقّ عليّ : ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2)؟!
نزلنا عنه ؛ ولكن نحمله على الأئمّة الاثني عشر.
ص: 382
والجواب عن الأوّل : إنّ كلمة « من » للتبعيض ، فقوله : ( مِنْكُمْ ) ، يدلّ على أنّ المراد بهذا الخطاب : بعضهم.
وعن الثاني : إنّ الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، فالمذكور هنا في معرض البشارة لا بدّ أن يكون مغايرا له.
وأمّا قوله : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ، فالّذين كانوا قبلهم خلفاء تارة بسبب النبوّة ، وتارة بسبب الإمامة ، والخلافة حاصلة بالصورتين.
وعن الثالث : إنّه وإن كان من مذهبنا أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يستخلف أحدا بالتعيين ، ولكنّه قد استخلف بذكر الوصف والأمر بالاختيار ، فلا يمتنع في هؤلاء الأئمّة الأربعة أنّه تعالى يستخلفهم ، وأنّ الرسول استخلفهم.
وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر : يا خليفة رسول اللّه!
فالذي قيل : إنّه علیه السلام لم يستخلف ؛ أريد به على وجه التعيين ؛ وإذا قيل : استخلف ؛ فالمراد على طريقة الوصف والأمر.
وعن الرابع : إنّ حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز ، وهو خلاف الأصل.
وعن الخامس : إنّه باطل لوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : ( مِنْكُمْ ) يدلّ على أنّ هذا الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمّة ما كانوا حاضرين.
الثاني : إنّه تعالى وعدهم القوّة والشوكة والنفاذ في العالم ، ولم يوجد ذلك فيهم.
فثبت بهذا صحّة إمامة الأئمّة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين
ص: 383
على أبي بكر وعمر وعثمان ، وبطلان قول الخوارج الطاعنين على عثمان وعليّ ».
انتهى كلام الرازي (1).
وأقول :
الكلام معه في هذه الآية الكريمة إنّما هو بالنظر إلى ما يستفاد من ظاهرها ، بلا نظر إلى ما ورد في تفسيرها ، فإنّها - عليه - نازلة في أمير المؤمنين علیه السلام كما عرفته في رواياتهم ، أو في الحجّة المنتظر ، كما ورد في أخبارنا (2) ، ويمكن الجمع بين الأخبار بإرادة الاستخلاف لهما معا.
وعليه : فبالنظر إلى ظاهرها يرد على كلامه أمور :
الأوّل : إنّ قوله : « إنّ المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ؛ لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلّا بعده ... » إلى آخره ..
غير متّجه ؛ لأنّ المراد بقوله تعالى : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) بحسب ظاهره هو الاستخلاف عمّن قبلهم من الأمم لا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فيمكن أن يراد استخلاف المؤمنين ، وتمكينهم من الدين وتبديل خوفهم أمنا في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ولو سلّم أنّ المراد الاستخلاف عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا يتّجه حمله على الاستخلاف في أيّام الثلاثة ؛ إذ لم يحصل لهم التمكين من الدين الذي ارتضاه اللّه تعالى وأكمله ؛ لجهلهم بكثير منه.
ص: 384
بل قد يقال : إنّ ظاهر الآية لا يلائم الحمل على الاستخلاف في أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفي أيّام الثلاثة وأيّام أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لظهور الآية في وقوع الاستخلاف في الأرض كلّها ، أو أكثرها ، فينبغي حمله على الاستخلاف أيّام الحجّة المنتظر عجّل اللّه فرجه.
الثاني : إنّ قوله : « ولم يحصل ذلك في أيّام عليّ ... » إلى آخره ..
مناف لما زعمه في صدر كلامه من دلالة الآية على خلافة الأربعة جميعا!
على أنّ تعليله له بقوله : « لأنّه لم يتفرّغ لجهاد الكفّار » عليل ؛ إذ لم تشترط الآية في حصول الاستخلاف أن يكون بجهاد المستخلف نفسه للكفّار.
ولعلّه أشار بقوله : « لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة » إلى الطعن في حرب أمير المؤمنين بأنّه حارب المصلّين ، أو إلى تفضيل حرب من سبقه على حربه ؛ لأنّهم حاربوا الكفّار وهو حارب أهل الصلاة ، وكأنّه لم يعلم بما رواه أصحابه من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
فقام إليه أبو بكر ، ثمّ عمر ، وقال كلّ منهما : أنا هو؟
فقال صلی اللّه علیه و آله : « لا ، ولكنّه خاصف النعل - يعني عليّا - » (1)
فإنّه دالّ على أنّ حرب عليّ علیه السلام - كحربه صلی اللّه علیه و آله - مأمور به من اللّه سبحانه دون حرب الرجلين ، فلم يحارب أمير المؤمنين علیه السلام إلّا مهدور
ص: 385
الدم ، ومن لا تقبل صلاته ، ولم يحارب الرجلان حربا مشروعا واقعا على تنزيل القرآن أو تأويله ، فإنّهما عزلا من له المنصب والحرب الإلهيّة ، وحاربا بلا أمر منه ، فكانا كمن عزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحارب باستقلاله.
الثالث : إنّ جوابه عن الإشكال الثالث بدعوى ثبوت الاستخلاف بالوصف والأمر ، غير صحيح ؛ لأنّا لو لم نقل بالنصّ على أمير المؤمنين علیه السلام فلا دليل على الاستخلاف أصلا ، لا بالتعيين ولا بالوصف ، كما هو ظاهر ..
ولا بالأمر بالاختيار ؛ إذ غاية ما استدلّوا به على الأمر بالاختيار هو الإجماع ، وقد أوضحنا لك كذبه في أوائل مباحث الإمامة (1).
وقوله : « وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر : يا خليفة رسول اللّه »!! تخمين محض ، وفرية (2) أخرى ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في أوّل مآخذ أبي بكر.
الرابع : إنّ دعواه - في الجواب عن الرابع - مجازية حمل الجمع على الفرد مسلّمة ، لكن لا بدّ من المصير إلى هذا المجاز ؛ لقيام القرينة عليه ، كالرواية التي سمعتها ، الدالّة على النزول بأمير المؤمنين ، وكنسبة الاستخلاف إلى اللّه لا إلى الناس ، وكالقرينة العقليّة المانعة من النزول في الثلاثة ، كعدم تمكينهم من الدين ونحوه.
الخامس : إنّ ما ذكره من الوجهين لإبطال الخامس ليس في محلّه ..
أمّا الوجه الأوّل ؛ فلصحّة خطاب الجمع بحضور البعض ، تغليبا
ص: 386
للحاضرين على الغائبين ، فلا يكون عدم حضور أئمّتنا الاثني عشر مانعا من الوعد لهم ، لا سيّما وقد حضر عظماؤهم ، وهم أمير المؤمنين والحسنان علیهم السلام .
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الوعد للأئمّة بالقوّة (1) لا يتوقّف على ثبوتها لكلّ فرد منهم ، بل يكفي ثبوتها لبعضهم ، كأمير المؤمنين والإمام المنتظر ؛ لأنّ قوّة البعض قوّة للجميع ، على أنّ القوّة حاصلة لكلّ منهم في الرجعة كما جاءت به أخبارنا (2).
واعلم ، أنّ الآية التي نحن فيها وما قبلها وما بعدها من الآيات مرتبطة ظاهرا بعموم المسلمين الحاضرين حال الخطاب ، ولكنّه تعالى خصّ الوعد ببعضهم ، وهم الّذين وصفهم اللّه سبحانه بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فينبغي أن يكون غير هذا البعض غير موصوفين بهذا الوصف ؛ إمّا لعدم عملهم بالصالحات ، أو لكونهم غير مؤمنين ، أي غير كاملي الإيمان ، أو غير ثابتي الإيمان ، لا أنّهم غير مسلمين ولا مؤمنين أصلا ؛
ص: 387
لفرض تعلّق الآيات بالمسلمين.
فالبعض الموعود بالاستخلاف ممتاز ، إمّا بعمل الصالحات ، أو كمال الإيمان ، أو ثباته ، وما هو إلّا أمير المؤمنين وأبناؤه الأطهار المعصومون ؛ لأنّ الخلفاء الثلاثة - فضلا عن غيرهم - ليسوا كذلك ؛ ولو لفرارهم من الزحف (1) ، وتخلّفهم عن جيش أسامة (2) ، وشكّ عمر يوم الحديبية (3) ، إلى كثير ممّا صدر عنهم ، ممّا ينافي كمال الإيمان وعمل الصالحات.
هذا ، وأمّا قول الفضل : « وليس كلّ ما ذكر متواترا عند أهل السنّة » ..
فمسلّم إذا أراد التواتر لفظا ، وأمّا معنى - بلحاظ الإمامة - ، فممنوع ؛ لأنّ كلّ واحد ممّا ذكر مفيد لإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فإمامته متواترة معنى كما تواترت شجاعته.
بل قد يدّعى تواتر بعض ما ذكر بخصوصه ، معنى أو لفظا ، ولا سيّما مع ضمّ أخبارنا إلى أخبارهم!
* * *
ص: 388
قد عثرنا في أثناء الكلام في الآيات على آيات أخر ذكرها القوم مضافا إلى ما سبق من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه .
فمنها : ما سبق في بيان الآية الثانية ؛ وهو قوله تعالى : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) (1).
ومنها : ما سبق في الآية الرابعة ؛ وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) (2).
ومنها : ما سبق في أثناء بيان الآية الثامنة والخمسين ؛ وهو قوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) (3).
ومنها : ما تقدّم في الآية الثامنة والسبعين ؛ وهو قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) (4).
وقد أحببت أن أذكر أيضا ممّا عثرت عليه ما به تمام مئة ، وهو اثنتا عشرة آية :
ص: 389
( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (1).
قال ابن حجر في « الصواعق » عند كلامه في هذه الآية ؛ وهي الآية الخامسة من الآيات النازلة في أهل البيت :
أخرج الثعلبي في تفسيرها عن جعفر الصادق ، أنّه قال : « نحن حبل اللّه الذي قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) » (2).
ومثله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي (3) ، وزاد عن « المناقب » : عن ابن عبّاس ، قال : « كنّا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ جاء أعرابيّ فقال : يا رسول اللّه! سمعتك تقول : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ ) ، فما حبل اللّه الذي نعتصم به؟
فضرب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يده في يد عليّ علیه السلام وقال : تمسّكوا بهذا ، هو حبل اللّه المتين » (4).
والمراد بحبل اللّه : السبب الواصل بين اللّه سبحانه وعباده ، وبالاعتصام به : اتّباعه والتمسّك به ، وبعدم التفرّق عنه : عدم مخالفة أحد له ؛ وهذا معنى اتّخاذ الأمّة له إماما.
ويؤيّده حديث الثقلين (5) ..
ص: 390
وما رواه الحاكم وصحّحه (1) ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (2).
والظاهر : أنّ المراد بكونهم أمانا من الاختلاف ؛ أنّهم بالنصّ عليهم يرتفع الخلاف في الإمامة ؛ لتعيين الإمام من اللّه تعالى ، وعدم إرجاع أمر الإمامة إلى اختيار الناس حتّى يحصل بسببه الاختلاف.
* * *
ص: 391
( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (1).
ففي « الصواعق » عند الكلام في هذه الآية ، وهي الآية الثامنة من الآيات النازلة في أهل البيت ، قال :
قال ثابت البناني : اهتدى إلى ولاية أهل بيت نبيّه ، وجاء ذلك عن أبي جعفر الباقر (2).
وفي « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، قال في هذه الآية : اهتدى إلى ولايتنا (3).
ثمّ نقل في « الينابيع » نحو هذا كثيرا (4).
والمراد بالولاية : الإمامة ؛ لأنّها هي التي تعتبر في الغفران ، ويناسب تعلّق الهداية بها ، ولو سلّم أنّ المراد بالولاية : المحبّة ، فهو دليل على فضلهم على الأمّة ؛ إذ لا تعتبر محبّة غيرهم في الغفران ، والأفضلية تقتضي الإمامة.
ص: 392
وإنّما عطف سبحانه الهداية ب ( ثمّ ) ، مع أنّه قد عطف ما قبلها بالواو ، للنظر إليها بعين الاستقلال الدالّ على تميّزها والاهتمام بها ، لا لانحطاط رتبتها عمّا قبلها ، ضرورة أنّ الاهتداء إلى الإمامة أو محبّتهم خير الأعمال الصالحة ، ومن لم يوالهم فهو منافق.
* * *
ص: 393
( أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (1).
قال الواحدي في « أسباب النزول » : « نزلت في حمزة وعليّ وأبي لهب وولده ؛ فعليّ وحمزة ممّن شرح اللّه صدره للإسلام ، وأبو لهب وأولاده الّذين قست قلوبهم عن ذكر اللّه » (2).
فقد شهد اللّه سبحانه بأنّه قد شرح صدر عليّ وحمزة للإسلام ، وأنّهما على نور من ربّهما.
ولا شكّ أنّ من هو كذلك يلتزم بكلّ أحكام الإسلام أصولا وفروعا ، فيكون معصوما أو بحكمه ، وأفضل الأمّة.
ولا ريب أنّ عليّا علیه السلام أكمل في ذلك من حمزة ، فيكون إمام الأمّة.
* * *
ص: 394
( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ) (1)
إلى قوله تعالى : 23 [ و 24 ] :
( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) (2).
روى الحاكم في تفسير سورة الحجّ من « المستدرك » (3) ، عن قيس ابن عبّاد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم لنزلت هذه الآية في هؤلاء الرهط
ص: 395
الستّة في يوم بدر : عليّ ، وحمزة ، وعبيدة ، وعتبة ، وشيبة ، والوليد ، ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ، إلى قوله تعالى : ( نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (1).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج عبد بن حميد ، عن لاحق ابن حميد ، قال : نزلت هذه الآية يوم بدر : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ... ) في عتبة وشيبة والوليد.
ونزلت : ( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى قوله : ( وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) في عليّ وحمزة وعبيدة (2).
وقال السيوطي أيضا : أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في « الدلائل » ، عن أبي ذرّ ، أنّه كان يقسم قسما أنّ هذه الآية : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) إلى قوله : ( إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) (3) نزلت في الثلاثة الّذين تبارزوا يوم بدر ، وهم : حمزة ، وعبيدة ، وعليّ ، وعتبة ، وشيبة ، والوليد.
قال عليّ : أنا أوّل من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي اللّه يوم القيامة (4).
ص: 396
أقول :
جعله لنهاية هذه الآيات قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) خطأ ، بل هو نهاية لآية أخرى قبل الآيات المذكورة ، وهي قوله : ( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) (1).
فلعلّ بعض من نقل عنهم السيوطي قد ذكر نزول هذه الآية أيضا في عليّ وحمزة وعبيدة ، فغفل عن البيان.
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن جرير والبيهقي ، من طريق قيس بن عبّاد ، عن عليّ علیه السلام ، قال : أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة.
قال قيس : فيهم نزلت : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال : هم الّذين بارزوا يوم بدر : عليّ ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد (2).
ص: 397
ودلالة الآيات على المطلوب ظاهرة ، لبشارتها لعليّ بالجنّة مع علمه بذلك ؛ لأنّ عنده علم الكتاب (1) ، وهو قرين له.
وقد مرّ مرارا دلالة مثل ذلك على إمامته علیه السلام ، كما أوضحناه في الآية الثانية والثلاثين (2).
* * *
ص: 398
( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) (1).
روى الواحدي في « أسباب النزول » ، عن مجاهد ، قال : نزلت في عليّ وحمزة علیهماالسلام وأبي جهل لعنه اللّه (2).
وهي كالآية التي قبلها في الدلالة على المدّعى ، وكذا الآية الآتية.
* * *
ص: 399
( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) (1).
قال في « الكشّاف » : نزلت في عليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر (2).
ولا يلزم من الدلالة المذكورة في هذه الآية والتي قبلها إمامة حمزة وعبيدة ؛ لعدم علمهما بالنزول فيهم بخلاف أمير المؤمنين علیه السلام ، مع أنّهما مفضولان له ، ولا تجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
مضافا إلى موتهما قبل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا مورد لإمامتهما حتّى لو قلنا بإمكانها.
* * *
ص: 400
( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) (1).
قال في « الصواعق » عند الكلام في هذه الآية ، وهي الثالثة عشرة من الآيات الواردة في أهل البيت : أخرج الثعلبي في تفسيرها عن ابن عبّاس ، قال : الأعراف : موضع عال من الصراط ، عليه العبّاس وحمزة وعليّ وجعفر ، يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ، ومبغضيهم بسواد الوجوه (2).
ومثله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي ، بزيادة روايات أخر عن غيره (3).
ونقل في « كشف الغمّة » في الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : ( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ ) (4) ، عن ابن مردويه ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، قال : نحن أصحاب الأعراف ، من عرفناه بسيماه أدخلناه الجنّة (5).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين واضحة ، كما أشرنا إليها في الآيات الثلاث التي قبلها ، وأوضحناها في الآية الثانية والثلاثين وغيرها (6).
ص: 401
ولا ينافيها عدم صلوح العبّاس للإمامة - عندنا - مع بقائه بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ووضوح دلالة هذه الرواية على كونه من أهل الجنّة ؛ وذلك لعدم علمه بأنّه من أصحاب الأعراف.
ولو فرض علمه به ، فمفضوليّته مانعة من إمامته ، فضلا عن وضوح عدم عصمته.
* * *
ص: 402
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (1).
قال الرازي في تفسيره : قال الكلبي : « نزلت في عليّ وحمزة وعبيدة ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد » (2).
وقال سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » : قال السدّي ، عن ابن عبّاس : نزلت في عليّ يوم بدر (3).
دلّت الآية على عدم المساواة بين المطيع والعاصي ، ولا ريب أنّ غيره قد اجترح السيّئات ؛ إذ لا أقلّ من الفرار من الزحف (4) ، فلا يساوون عليّا علیه السلام ، فهو أحقّ منهم بالإمامة.
* * *
ص: 403
( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) (1).
قال في « الصواعق » عند الكلام في هذه الآية ، وهي العاشرة من الآيات الواردة بأهل البيت علیهم السلام : نقل القرطبي ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : رضى محمّد صلی اللّه علیه و آله أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار ؛ وقاله السّدّي (2).
ثمّ استشهد ابن حجر له بأخبار كثيرة (3).
وأقول :
هو غنيّ عن الاستشهاد له بالنسبة إلى عليّ علیه السلام ؛ ضرورة أنّ من رضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخول عليّ الجنّة وعدم دخوله النار ، وهو من أوضح ما تقتضيه الآية ويعلمه عليّ علیه السلام منها ، فيكون ممّا أعلمه اللّه به وبشّره ، فتثبت إمامته ، كما عرفت وجهه في الآيات السابقة وغيرها (4).
* * *
ص: 404
( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) (1).
ذكر الرازي في تفسيره ، أنّه جاء عليّ علیه السلام في نفر من المسلمين ، فسخر منه المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم ، فقالوا :
رأينا اليوم الأصلع ؛ فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ علیه السلام إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).
ومثله في « الكشّاف » (3).
ودلالتها على المطلوب باعتبار تمام الآيات ، وهي قوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ) (4).
فإنّها دالّة على بشارة عليّ علیه السلام بالجنّة ، القاضية بإمامته ، كما سبق (5).
ولا ريب أنّ اهتمام الكتاب العزيز في ما يتعلّق بعليّ علیه السلام - حتّى نزل في مثل هذا الأمر اليسير في الظاهر - لأكبر دليل على عظمته عند اللّه عزّ وجلّ وفضله على الأمّة كلّها.
ص: 405
( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... ) (1)
الآيات من سورة الشمس.
حكى السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الخطيب في « السابق واللاحق » ، بسنده عن ابن عبّاس ، مرفوعا : « اسمي في القرآن : ( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ) ، واسم عليّ : ( وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ) ، واسم الحسن والحسين : ( وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها ) ، واسم بني أميّة : ( وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) (2) ، إنّ اللّه بعثني رسولا إلى خلقه - إلى أن قال صلی اللّه علیه و آله : - فلواء اللّه فينا إلى يوم القيامة ، ولواء إبليس في بني أميّة إلى أن تقوم الساعة ، وهم أعداء لنا ، وشيعتهم أعداء لشيعتنا ».
ثمّ قال السيوطي : « قال الخطيب : منكر جدّا ، بل موضوع ، والحوضي وموسى وأبوه مجهولان (3) » (4).
أقول :
لا عبرة باستنكارهم ؛ فإنّهم لمّا جحدوا الحقّ استنكروه ، واشتمال
ص: 406
سنده على المجاهيل عندهم لا يقتضي الوضع ، وإلّا لزم الحكم بوضع الكثير من أخبار الصحاح الستّة ، فقد بيّنّا في المقدّمة جملة من المجاهيل الّذين رووا عنها في هذه الصحاح (1) ، كما حقّقنا فيها وثاقة من يروي فضيلة لآل محمّد صلی اللّه علیه و آله أو رذيلة لأعدائهم (2).
ومنه يعلم ما في تكذيب الذهبيّ للحديث ؛ لاشتمال سنده على مجاهيل ، حيث أشار إلى الحديث بترجمة محمّد بن عمرو الحوضي من « ميزان الاعتدال » (3).
ودلالتها على المطلوب من وجهين :
الأوّل : إنّها سمّت عليّا علیه السلام قمرا ، وهو أنور النيّرات بعد الشمس ، فيكون إشارة إلى فضله على الأمّة وعظم نفعه لهم ، والأفضل هو الإمام ، ولا سيّما قد قال تعالى : ( إِذا تَلاها ) مشيرا إلى أنّه تال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خلافته له وفضله وفائدته للأمّة ، وإلّا لخلا هذا الشرط عن كثير فائدة.
الثاني : إنّها عبّرت عن بني أميّة بالليل ، مشيرة إلى ظلمة أمرهم ، ومنهم عثمان.
* * *
ص: 407
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... ) (1) الآيات.
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإزاء ثبير وهو يقول : أشرق ثبير! أشرق ثبير! اللّهمّ إنّي أسالك بما سألك أخي موسى ، أن تشرح لي صدري ، وأن تيسّر لي أمري ، وأن تحلّ عقدة من لساني ، ( يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) (2) ، عليّا (3) أخي ، ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) (4) (5).
وقال السيوطي أيضا : وأخرج السّلفي في « الطيوريّات » بسند رواه (6) عن أبي جعفر محمّد بن عليّ علیه السلام ، قال : « لمّا نزلت : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (7) كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على جبل ، ثمّ دعا ربّه وقال : اللّهمّ أشدد أزري
ص: 408
بأخي عليّ! فأجابه إلى ذلك (1).
ونقل المصنّف رحمه اللّه نحوه في ما سيجيء عن أحمد في مسنده (2).
ونقل أيضا نحوه صاحب « ينابيع المودّة » في الباب السابع عشر ، عن أحمد في مسنده (3) ..
وفي الباب السادس والخمسين ، عن « ذخائر العقبى » للطبري ، عن أحمد في « الفضائل » (4).
وكذا نقله سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » عن أحمد في « الفضائل » (5).
وحكى المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » (6) ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس ، قال : « أخذ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيد عليّ وبيدي ونحن بمكّة ، وصلّى أربع ركعات ، ورفع يده إلى السماء فقال : اللّهمّ! موسى بن عمران سألك ، وأنا محمّد نبيّك أسألك ، أن تشرح لي صدري ، وتحلّ عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّ بن أبي
ص: 409
طالب أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري.
قال ابن عبّاس : سمعت مناديا ينادي : يا أحمد! قد أوتيت ما سألت » (1).
وقد سبق في أثناء كلامنا على الآية الأولى من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا بمثل هذا الدعاء فنزل قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (2) الآية ، وقد نقلناه عن الثعلبي والرازي ؛ فراجع (3) ، وهو مؤيّد لهذه الأخبار.
كما يؤيّدها حديث المنزلة ، الذي كاد أن يكون متواترا ، أو هو متواتر (4).
وأمّا دلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فلإفادتها ثبوت خصائص هارون له ، فيكون مثله في تحمّل العلوم ، ووجوب طاعة الأمّة له ، ورئاسته عليهم ؛ لأنّ هارون شريك موسى في أمره.
فعليّ علیه السلام مثله بالنسبة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، سوى أنّ عليّا ليس بنبيّ ، كما استثنى النبوّة حديث المنزلة ، ودلّ الكتاب العزيز على أنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيّين ..
فتحمل تلك الأخبار المذكورة على إرادة المشاركة في ما عدا النبوّة ، فتثبت لعليّ علیه السلام الإمامة والرئاسة العامّة على الأمّة ، حتّى في أيّام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لكنّه ساكت في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا في ما قلّ ، كما
ص: 410
سبق بيانه في الآية الأولى (1).
وممّا ذكرنا يعلم ما في مطالبة ابن تيميّة بصحّة حديث ابن عبّاس ، وإشكاله عليه بلزوم نبوّة عليّ علیه السلام ، وأشكل عليه أيضا بصغر سنّ ابن عبّاس قبل الهجرة (2).
وفيه - مع أنّ صغر مثله غير ضائر - : إنّه يحتمل قريبا صدور ما رواه ابن عبّاس حين الفتح ، أو في حجّة الوداع.
وأشكل عليه أيضا بما حاصله : إنّكم قلتم : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا بهذا الدعاء عند تصدّق عليّ بخاتمه ، فنزل قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) الآية ، وذلك بالمدينة ، فإذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا به قبل ذلك بمكّة ، وقد استجيب له ، فأيّ حاجة إلى الدعاء به ثانيا بالمدينة؟! (3).
وفيه : إنّ تكرّر الدعاء إنّما وقع لإظهار فضل عليّ علیه السلام وبيان إمامته مكرّرا ؛ تأكيدا للحجّة.
على أنّ كلامه يقتضي أن لا يتكرّر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعاء بالغفران والرحمة والهداية ونحوها ، فلا يتكرّر منه في الصلوات قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (4) ، بل لا يقع منه الدعاء بمثل تلك الأمور أصلا ؛ لعلمه بتحقّقها.
ولو لا طلب الإحاطة في الجملة ، لقبح بنا التعرّض لكلام هذا ومثله.
واعلم ، أنّ هذه الآية الشريفة وإن لم يكن لنزولها دخل بأمير
ص: 411
المؤمنين علیه السلام ، لكن لمّا أمكن أخذ الدليل لإمامته منها بضميمة الأحاديث الحاكية لدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله له علیه السلام بمضمونها ، صحّ لنا ذكرها في طيّ الأدلّة القرآنية على إمامته.
وإن شئت استبدالها بآية أخرى لإكمال المئة ، فعليك بمراجعة آيات تعرّض لأكثرها في « ينابيع المودّة » (1) ، ولبعضها في « كشف الغمّة » ، كقوله تعالى في سورة الفاتحة : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .
فقد حكى في « كشف الغمّة » ، عن العزّ الحنبلي ، عن بريدة : « هو صراط محمّد وآله » (2) ..
وكقوله تعالى من سورة المؤمنين : ( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) (3) ، فقد نقل في « كشف الغمّة » ، عن العزّ الحنبلي ، أنّ المراد : صراط محمّد وآله (4) ..
ونقل في « ينابيع المودّة » ، عن الحمويني ، و« المناقب » ، عن أمير المؤمنين علیه السلام ، قال : « الصراط ولايتنا أهل البيت » (5) ..
وكقوله سبحانه من سورة المؤمنين أيضا : ( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (6) (7) ..
ص: 412
وكقوله تعالى من سورة الأنعام : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (1) (2) ..
وقوله تعالى من سورة البقرة : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (3) (4) ..
وقوله عزّ وجلّ من سورة الملك : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) (5) (6) ..
وقوله سبحانه من سورة الصفّ : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ) (7) (8) ..
وقوله تعالى في سورة لقمان : ( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) (9) (10) ..
وقوله تعالى في سورة الزخرف : ( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (11) (12) ..
ص: 413
وقوله تعالى من سورة البقرة : ( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ ... ) (1) (2) الآية ..
وقوله تعالى منها : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) (3) (4) ..
وقوله تعالى من سورة النساء : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ... ) (5) الآية.
ونزولها محكيّ عن تفسير ابن الحجّام (6) من غير « الينابيع » و« كشف الغمّة » ..
فعن التفسير المذكور ، أنّ عليّا قال : يا رسول اللّه! هل نقدر أن نزورك في الجنّة كلّما أردنا؟ فنزلت ...
ص: 414
فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا علیه السلام فقال : إنّ اللّه قد أنزل بيان ما سألت ، فجعلك رفيقي ؛ لأنّك أوّل من أسلم ، وأنت الصدّيق الأكبر (1).
.. إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.
ولو ذكرنا لك ما روته كتب الإمامية في نزول آيات أخر في أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين ، لأمكن بلوغ الآيات النازلة بهم ثلاثمئة أو تزيد ؛ فراجع وتدبّر تصب طريق الرشاد!
* * *
ص: 415
ص: 416
11 - آية : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )... 5
ردّ الفضل بن روزبهان... 6
ردّ الشيخ المظفّر... 7
12 - آية : ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )... 13
ردّ الفضل بن روزبهان... 14
ردّ الشيخ المظفّر... 15
13 - آية : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ )... 19
ردّ الفضل بن روزبهان... 20
ردّ الشيخ المظفّر... 21
14 - آية : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ )... 24
ردّ الفضل بن روزبهان... 26
ردّ الشيخ المظفّر... 27
15 - آية المناجاة... 29
ردّ الفضل بن روزبهان... 30
ردّ الشيخ المظفّر... 31
16 - آية : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا ... )... 39
ردّ الفضل بن روزبهان... 40
ردّ الشيخ المظفّر... 41
17 - آية : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ )... 45
ص: 417
ردّ الفضل بن روزبهان... 46
ردّ الشيخ المظفّر... 47
18 - سورة ( هَلْ أَتى ... )... 50
ردّ الفضل بن روزبهان... 52
ردّ الشيخ المظفّر... 53
19 - آية : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ... )... 62
ردّ الفضل بن روزبهان... 63
ردّ الشيخ المظفّر... 64
20 - آية : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ )... 69
ردّ الفضل بن روزبهان... 70
ردّ الشيخ المظفّر... 71
21 - آية : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ )... 74
ردّ الفضل بن روزبهان... 75
ردّ الشيخ المظفّر... 76
22 - آية : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ )... 78
ردّ الفضل بن روزبهان... 79
ردّ الشيخ المظفّر... 80
23 - آية : ( أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ )... 93
ردّ الفضل بن روزبهان... 94
ردّ الشيخ المظفّر... 95
24 - آية : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ... )... 100
ردّ الفضل بن روزبهان... 101
ردّ الشيخ المظفّر... 102
25 - آية الصلاة على النبيّ... 105
ردّ الفضل بن روزبهان... 106
ردّ الشيخ المظفّر... 107
ص: 418
26 - آية : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ )... 111
ردّ الفضل بن روزبهان... 112
ردّ الشيخ المظفّر... 113
27 - آية : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ )... 115
ردّ الفضل بن روزبهان... 116
ردّ الشيخ المظفّر... 117
28 - آية : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ ... )... 120
ردّ الفضل بن روزبهان... 121
ردّ الشيخ المظفّر... 122
29 - آية : ( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )... 124
ردّ الفضل بن روزبهان... 125
ردّ الشيخ المظفّر... 126
30 - آية : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً )... 129
ردّ الفضل بن روزبهان... 130
ردّ الشيخ المظفّر... 131
31 - آية : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )... 133
ردّ الفضل بن روزبهان... 134
ردّ الشيخ المظفّر... 135
32 - آية : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ )... 140
ردّ الفضل بن روزبهان... 141
ردّ الشيخ المظفّر... 142
33 - آية : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ )... 148
ردّ الفضل بن روزبهان... 149
ردّ الشيخ المظفّر... 150
34 - آية : ( وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ )... 157
ردّ الفضل بن روزبهان... 158
ص: 419
ردّ الشيخ المظفّر... 159
35 - آية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )... 164
ردّ الفضل بن روزبهان... 166
ردّ الشيخ المظفّر... 167
36 - سورة النجم... 170
ردّ الفضل بن روزبهان... 171
ردّ الشيخ المظفّر... 172
37 - سورة العاديات... 177
ردّ الفضل بن روزبهان... 180
ردّ الشيخ المظفّر... 181
38 - آية : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً )... 183
ردّ الفضل بن روزبهان... 184
ردّ الشيخ المظفّر... 185
39 - آية : ( وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ )... 188
ردّ الفضل بن روزبهان... 189
ردّ الشيخ المظفّر... 190
40 - آية : ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ )... 194
ردّ الفضل بن روزبهان... 195
ردّ الشيخ المظفّر... 196
41 - آية : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ )... 198
ردّ الفضل بن روزبهان... 199
ردّ الشيخ المظفّر... 200
42 - آية : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا )... 202
ردّ الفضل بن روزبهان... 203
ردّ الشيخ المظفّر... 204
43 - آية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ )... 206
ص: 420
ردّ الفضل بن روزبهان... 207
ردّ الشيخ المظفّر... 208
44 - آية : ( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )... 211
ردّ الفضل بن روزبهان... 212
ردّ الشيخ المظفّر... 213
45 - آية : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... )... 216
ردّ الفضل بن روزبهان... 217
ردّ الشيخ المظفّر... 218
46 - آية : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا )... 220
ردّ الفضل بن روزبهان... 221
ردّ الشيخ المظفّر... 222
47 - آية : ( وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ... )... 225
ردّ الفضل بن روزبهان... 226
ردّ الشيخ المظفّر... 227
48 - آية : ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ )... 229
ردّ الفضل بن روزبهان... 230
ردّ الشيخ المظفّر... 231
49 - آية : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللّهِ )... 232
ردّ الفضل بن روزبهان... 233
ردّ الشيخ المظفّر... 234
50 - آية : ( وَقالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )... 235
ردّ الفضل بن روزبهان... 236
ردّ الشيخ المظفّر... 238
51 - آية : ( وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ )... 239
ردّ الفضل بن روزبهان... 240
ردّ الشيخ المظفّر... 241
ص: 421
52 - آية : ( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ )... 243
ردّ الفضل بن روزبهان... 244
ردّ الشيخ المظفّر... 245
53 - سورة العصر... 247
ردّ الفضل بن روزبهان... 248
ردّ الشيخ المظفّر... 249
54 - آية : ( وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ )... 252
ردّ الفضل بن روزبهان... 253
ردّ الشيخ المظفّر... 254
55 - آية : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ )... 255
ردّ الفضل بن روزبهان... 256
ردّ الشيخ المظفّر... 257
56 - آية : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ )... 260
ردّ الفضل بن روزبهان... 261
ردّ الشيخ المظفّر... 262
57 - آية : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى )... 263
ردّ الفضل بن روزبهان... 264
ردّ الشيخ المظفّر... 265
58 - آية : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ )... 267
ردّ الفضل بن روزبهان... 268
ردّ الشيخ المظفّر... 269
59 - آية : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ )... 272
ردّ الفضل بن روزبهان... 273
ردّ الشيخ المظفّر... 274
60 - آية : ( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ )... 276
ردّ الفضل بن روزبهان... 277
ص: 422
ردّ الشيخ المظفّر... 278
61 - آية : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ )... 279
كلام الشيخ المظفّر... 280
62 - آية : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً )... 282
ردّ الفضل بن روزبهان... 283
ردّ الشيخ المظفّر... 284
63 - آية : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ )... 287
ردّ الفضل بن روزبهان... 288
ردّ الشيخ المظفّر... 289
64 - آية : ( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً )... 291
ردّ الفضل بن روزبهان... 292
ردّ الشيخ المظفّر... 293
65 - آية : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ )... 295
ردّ الفضل بن روزبهان... 296
ردّ الشيخ المظفّر... 297
66 - آية : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ )... 299
ردّ الفضل بن روزبهان... 300
ردّ الشيخ المظفّر... 301
67 - آية : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا )... 305
ردّ الفضل بن روزبهان... 306
ردّ الشيخ المظفّر... 307
68 - آية : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )... 308
ردّ الفضل بن روزبهان... 309
ردّ الشيخ المظفّر... 310
69 - آية : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ )... 311
ردّ الفضل بن روزبهان... 312
ص: 423
ردّ الشيخ المظفّر... 313
70 - آية : ( طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ )... 315
ردّ الفضل بن روزبهان... 316
ردّ الشيخ المظفّر... 317
71 - آية : ( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )... 318
ردّ الفضل بن روزبهان... 319
ردّ الشيخ المظفّر... 320
72 - آية : ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ )... 323
ردّ الفضل بن روزبهان... 324
ردّ الشيخ المظفّر... 325
73 - آية : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ )... 326
ردّ الفضل بن روزبهان... 327
ردّ الشيخ المظفّر... 328
74 - آية : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ )... 330
ردّ الفضل بن روزبهان... 331
ردّ الشيخ المظفّر... 332
75 - آية : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ )... 333
ردّ الفضل بن روزبهان... 334
ردّ الشيخ المظفّر... 335
76 - آية : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ )... 337
ردّ الفضل بن روزبهان... 338
ردّ الشيخ المظفّر... 339
77 - آية : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ )... 341
ردّ الفضل بن روزبهان... 342
ردّ الشيخ المظفّر... 343
78 - آية : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ )... 344
ص: 424
ردّ الفضل بن روزبهان... 345
ردّ الشيخ المظفّر... 346
79 - آية : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ )... 349
ردّ الفضل بن روزبهان... 350
ردّ الشيخ المظفّر... 351
80 - آية : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا )... 353
ردّ الفضل بن روزبهان... 355
ردّ الشيخ المظفّر... 356
81 - آية : ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ )... 358
ردّ الفضل بن روزبهان... 359
ردّ الشيخ المظفّر... 360
82 - ما في القرآن آية [( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )] إلّا وعليّ رأسها... 361
ردّ الفضل بن روزبهان... 363
ردّ الشيخ المظفّر... 364
83 - آية : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ )... 371
ردّ الفضل بن روزبهان... 372
ردّ الشيخ المظفّر... 373
84 - آية : ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ )... 375
ردّ الفضل بن روزبهان... 377
ردّ الشيخ المظفّر... 379
الخاتمة ، وفيها :... 389
1 - آية : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )... 390
2 - آية : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) ... 392
3 - آية : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... ) ... 394
4 - آية : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ... ) ... 395
5 - آية : ( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ... ) ... 399
ص: 425
6 - آية : ( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ ... ) ... 400
7 - آية : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ ...) ... 401
8 - آية : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ... ) ... 403
9 - آية : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) ... 404
10 - الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... ) ... 405
11 - آية : ( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... ) ... 406
12 - آية : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... )... 408
فهرس المحتويات... 417
* * *
ص: 426
المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1426 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-359-4
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الخامس
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :
وأمّا السنّة : فالأخبار المتواترة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، الدالّة على إمامته ، وهي أكثر من أن تحصى ، وقد صنّف الجمهور وأصحابنا في ذلك وأكثروا ، ولنقتصر هاهنا على القليل ، فإنّ الكثير غير متناه ؛ وهي أخبار :
الأوّل : ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده : قال صلی اللّه علیه و آله : « كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نورا بين يدي اللّه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق اللّه آدم قسّم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا ، وجزء عليّ » (2).
ص: 5
وفي حديث آخر رواه ابن المغازلي الشافعي : « فلمّا خلق اللّه آدم ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم يزل في شيء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطّلب ، ففيّ النبوّة ، وفي عليّ الخلافة » (1)
وفي خبر آخر رواه ابن المغازلي ، عن جابر ، في آخره : « حتّى قسمه جزءين ، فجعل جزءا في صلب عبد اللّه ، وجزءا في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا ، وأخرج عليّا وصيّا (2) » (3).
* * *
ص: 6
وقال الفضل (1) :
ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في كتاب « الموضوعات » في طريقين ، وقال : هذا حديث موضوع على رسول اللّه ، والمتّهم به في الطريق الأوّل محمّد بن خلف المروزي ؛ قال يحيى بن معين : كذّاب ، وقال الدارقطني : متروك.
وفي الطريق الثاني : المتّهم به جعفر بن أحمد ، وكان رافضيّا (2).
وقال أبو سعيد بن يونس : كان رافضيّا كذّابا ، يضع الحديث في سبّ أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).
والنسبة إلى مسند أحمد باطل وزور.
وأمّا ما ذكر من أنّ الأخبار متواترة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله على إمامة عليّ علیه السلام ، فنسأله أوّلا عن معنى التواتر؟ فإن قال : أن يبلغ عدد الرواة حدّا لا يمكن للعقل أن يحكم بتواطئهم على الكذب.
فنقول : اتّفق جميع المحدّثين أنّه ليس لنا حديث متواتر إلّا قوله صلی اللّه علیه و آله : من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (4).
ص: 7
فهذا الحديث في كلّ عصر رواه جماعة يحكم العقل على امتناع تواطئهم على الكذب ، وبعضهم ألحق حديث : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بالمتواتر (1).
فكيف هذا الرجل الجاهل بالحديث والأخبار ، بل بكلّ شيء - حتّى إنّي ندمت من معارضة كتابه وخرافاته بالجواب ؛ لسقوطه عن مرتبة المعارضة ؛ لانحطاط درجته في سائر العلوم ، معقولها ومنقولها ، أصولها وفروعها (2) ، ولكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت - يحكم بأنّ المنقول من « مسند أحمد » متواتر ، وأحمد بن حنبل قد جمع في مسنده الضعيف والمنكر ؛ لأنّه مسند لا صحيح ، وهو لا يعرف المسند إلّا الصحيح ، ولا يفرّق بين الغثّ والسمين؟!
والمغازلي رجل مجهول لا يعرفه أحد من العلماء من جملة المصنّفين والمحدّثين.
والعجب أنّ هذا الرجل لا ينقل حديثا إلّا من جماعة أهل السنّة ؛ لأنّ الشيعة ليس لهم كتاب ، ولا رواة ، ولا علماء مجتهدون مستخرجون للأخبار ، فهو في إثبات ما يدّعيه عيال على كتب أهل السنّة ؛ فإذا صار كذلك ، فلم لا يروي عن كتب الصحاح؟! فهو يترك المنقولات في الصحاح ، بل يطعن فيها ويذكر المناكير والضعفاء والمجهولات ، من جماعة مجهولة منكرة ، ويجعله سندا لمذهبه الباطل الفاسد ، وهذا عين التعصّب.
ص: 8
ثمّ ما ذكر من المتواتر ، فإن ادّعى أنّه متواتر عند أهل السنّة والجماعة ، فقد بيّنّا بطلانه ، وأنّه ليس حديث متواتر عندنا إلّا ما ذكرناه (1).
* * *
ص: 9
وإن ادّعى التواتر عند الشيعة والروافض ، فكلّ الناس يعلمون أنّ عدد الشيعة والروافض في كلّ عصر ، من العصر الأوّل إلى هذا العصر ، ما يبلغ حدّ الكثرة والاستفاضة ، فضلا عن حدّ التواتر ، فلا يمكن لهم دعوى التواتر في أيّ مدّعى كان.
وما ذكره من الأخبار في هذا الباب أكثرها ضعيف وموضوع ،
ص: 10
فلا يصحّ الاستدلال به ، ولكن نذكره على دأبنا ، ونتكلّم على كلّ خبر بما هو الحقّ فيه.
* * *
ص: 11
ذكر السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » - التي هي مختصر كتاب ابن الجوزي - حديثين آخرين حكاهما عن الخطيب ، لا عن أحمد وابن المغازلي ، وأوّلهما لا ربط له بما حكاه المصنّف رحمه اللّه هنا ، وثانيهما مخالف له لفظا وفي بعض الخصوصيات.
قال السيوطي نقلا عن ابن الجوزي : الخطيب ، أخبرني أبو القاسم عليّ بن الحسن بن محمّد بن أبي عثمان الدقّاق ، حدّثنا محمّد بن خلف المروزي ، حدّثنا موسى بن إبراهيم المروزي ، حدّثنا موسى بن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه مرفوعا : « خلقت أنا وهارون بن عمران ، ويحيى بن زكريّا ، وعليّ بن أبي طالب من طينة واحدة » ، موضوع ، آفته محمّد بن خلف.
جعفر بن أحمد بن عليّ بن بيان ، حدّثنا عمر الطائي ، حدّثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، عن نمير الحضرمي ، عن أبي ذرّ مرفوعا : « خلقت أنا وعليّ من نور ، وكنّا عن يمين العرش قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام ، ثمّ خلق اللّه آدم فانقلبنا في أصلاب الرجال ، ثمّ جعلنا في صلب عبد المطّلب ، ثمّ شقّ أسماءنا من اسمه ، فاللّه محمود وأنا محمّد ، واللّه الأعلى وعليّ عليّ » ؛ وضعه جعفر ، وكان رافضيّا وضّاعا (1). انتهى.
ص: 12
فأنت ترى أنّ هذين الحديثين غير ما حكاه المصنّف رحمه اللّه ، وراويهما - وهو الخطيب - غير راوي أخبار المصنّف رحمه اللّه ؛ فخان الفضل في النقل عن ابن الجوزي!
ولو كان محمّد بن خلف هو الراوي لحديث النور وطعن فيه ابن الجوزي ، لذكره السيوطي مع حديثه الأوّل ؛ لاتّحاد وجه الطعن ، وهو رواية ابن خلف له.
ويشهد لذلك أنّ الذهبي في « ميزان الاعتدال » ذكر بترجمة محمّد بن خلف الحديث الأوّل مع طعن ابن الجوزي فيه (1).
ولو كان ابن خلف راويا لحديث النور ، وكان ابن الجوزي قائلا بوضعه ، لكان ذكر الذهبي له أولى ؛ لأنّه أدّل على فضل أمير المؤمنين وإمامته ، والذهبي أشدّ اهتماما بإنكار مثله.
ولو سلّم رواية محمّد بن خلف لحديث النور ، وطعن ابن الجوزي فيه ، فهو لا يستلزم كذب جميع رواة حديث النور ، بل يكون تعدّد طرقه دليلا على صدقه.
على أنّ ابن الجوزي أيضا طرف النزاع ، فكيف يعتبر قوله بوضع حديث النور ، مع أنّا نرى القوم أنفسهم لا يعتبرون كلامه؟!
قال السيوطي في ديباجة « اللآلئ المصنوعة » : « جمع الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي كتابا فأكثر فيه من إخراج الضعيف الذي لم ينحطّ إلى رتبة الوضع ، بل ومن الحسن ، ومن الصحيح ، كما نبّه على ذلك الأئمّة الحفّاظ ، ومنهم : ابن الصلاح في ( علوم الحديث ) ، وأتباعه » (2).
ص: 13
وأمّا ما قيل : إنّ جعفر بن أحمد كان رافضيا ؛ فلا منشأ له إلّا روايته ما يسمعه من فضائل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ومساوئ أعدائهم.
وهذه عادتهم في من روى فضيلة لأهل البيت أو رذيلة لأعدائهم ، يريدون بذلك إخفاء الحقّ وترويج الباطل ، كما عرفته في مقدّمة الكتاب (1) ؛ فلذا خفي جلّ فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله وأكثر مساوئ مخالفيهم ، كما لا منشأ لنسبة الوضع إلى جعفر إلّا إظهاره للحقّ!
وأمّا تكذيب الفضل نسبة الحديث إلى « مسند أحمد » ؛ فالظاهر أنّ سببه عدم نقل ابن الجوزي للحديث إلّا عن الخطيب ، وإلّا فهو أقصر باعا عن الاطّلاع على جميع « مسند أحمد » ، كما يشهد له إنكاره للحديث الآتي مع ثبوته في « المسند ».
وقد نقل ابن أبي الحديد (2) هذا الحديث بعينه ، عن أحمد في مسنده ، وفي « الفضائل » ، ثمّ قال : وذكره صاحب كتاب « الفردوس » وزاد فيه : « ثمّ انتقلنا حتّى صرنا في عبد المطّلب ، فكان لي النبوّة ، ولعليّ الوصيّة ».انتهى.
ولكنّي قد طلبت الحديث في « المسند » فلم أعثر عليه ، وجلّ ظنّي أنّه غير موجود في النسخة المطبوعة منه التي هي بأيدينا الآن ؛ لأنّهم إذا رأوا مثل هذه الفضيلة السنيّة حذفوها مهما أمكن ، كما سننبّهك على بعض ما عثرنا عليه ممّا نقله علماؤهم عن « المسند » ، ومع ذلك لم يوجد
ص: 14
فيه الآن.
ثمّ إنّ أوّل ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن ابن المغازلي ، نقله أيضا في « ينابيع المودّة » (1) عن ابن المغازلي ، بسنده عن سلمان الفارسي.
ونقل عنه أيضا بسنده عن أبي ذرّ حديثا آخر مثل حديث أحمد (2).
كما إنّه نقل عن صاحب « الفردوس » بسنده عن سلمان ، ما نقله ابن أبي الحديد عنه (3).
وزاد حديثا آخر نحو حديث أحمد ، عن الحمويني ، وموفّق بن أحمد ، بسنديهما عن أمير المؤمنين علیه السلام (4).
ثمّ نقل عن الحمويني ، بسنده عن ابن عبّاس ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ : « خلقت أنا وأنت من نور اللّه عزّ وجلّ » (5).
فهذه الأخبار - كما ترى - معتبرة ، ولو لأجل اعتضاد أسانيدها بعضها ببعض ، وهي أدلّ دليل على فضل أمير المؤمنين على غيره ؛ فيكون هو الإمام ، مع تصريح بعضها بخلافته ووصايته.
وأمّا ما زعمه الفضل من انحصار المتواتر في خبر أو خبرين ، فمن
ص: 15
عدم معرفته بالاصطلاح ، فإنّ هذا إنّما هو في المتواتر لفظا لا معنى فقط.
كيف؟! والأخبار المتواترة معنىّ أكثر من أن تحصى ، وقد ادّعى نفسه في هذا الكتاب تواتر بعض الأخبار!
فمراد المصنّف رحمه اللّه : إنّ مجموع الأخبار متواترة معنىّ بإمامة أمير المؤمنين علیه السلام وإن لم يتواتر كلّ منها لفظا ولا معنى ، فلا يلزم أن يكون خصوص حديث النور متواترا ، وإن كان لو ادّعى أحد تواتره معنى بلحاظ أخبار الفريقين لم يبعد عن الصواب ، كحديث الغدير(1).
ومن الطريف نسبة الفضل للمصنّف رحمه اللّه دعوى تواتر المنقول من « مسند أحمد » ، فإنّ غاية ما يمكن أن يسند إلى المصنّف رحمه اللّه دعوى تواتر حديث « النور » معنى ؛ بسبب تعدّد رواته ومخرّجيه ، ومنهم أحمد ، فلا يلزم منه القول بصحّة ما في « مسند أحمد » ، فضلا عن تواتره.
وأطرف منه نقصه للمصنّف العلّامة رحمه اللّه وزعمه الندم من معارضته ، وأنّه ابتلي فصبر ، وهو كما تراه لا يعرف حتّى العبارات الواضحة ، فما أصدق المعرّي في أبياته المشهورة ، وكأنّه ينظر فيها إلى هذا المقام(2).
ص: 16
ويكفي المصنّف رحمه اللّه فضلا عجز علماء القوم في عصره عن معارضته ، حينما جمعهم السلطان السعيد محمّد خدا بنده حتّى تشيّع السلطان في الحال وجمع كثير ممّن شاهد الحال أو سمعها ، وتشيّعت إيران ببركة علم المصنّف ونيّر برهانه (1).
وأمّا ما زعمه من أنّ أحمد جمع الضعيف والمنكر ؛ معلّلا بأنّه « مسند » لا « صحيح » ، فمن عدم معرفته للمسمّيات إلّا بأسمائها ، فإنّ « مسند أحمد » كصحاحهم قد جمع أخبارا مسندة صحيحة عنده ، وإن سمّي ب « المسند ».
قال ابن تيميّة في ردّه ل « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عند الكلام على « البرهان السابع » على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو آية « المودّة » : « شرط أحمد في المسند ، مثل أبي داود في سننه » (2).
وقال عند الكلام على « البرهان السادس (3) والعشرين » وهو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (4) : « وهي - أي أحاديث مسند أحمد - أجود من أحاديث سنن أبي داود » (5).
ص: 17
وقال المترجم لأحمد بمقدّمة مسنده ، المطبوع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 : « قال السبكي - أي في : الطبقات الكبرى - : قال الحافظ أبو موسى محمّد بن أبي بكر المديني (1) : هذا الكتاب - يعني : مسند أحمد - أصل كبير ، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث ... جعل إماما ومعتمدا ، وعند التنازع ملجأ ومسندا.
ثمّ روى عن حنبل بن إسحاق ، قال : جمعنا عمّي - يعني أحمد بن حنبل - لي ولصالح ولعبد اللّه ... وقال لنا : إنّ هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته (2) من أكثر من سبعمئة وخمسين ألفا ؛ فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فارجعوا إليه ، فإن كان [ فيه ] ، وإلّا فليس بحجّة.
ثمّ نقل عن عبد اللّه بن أحمد ، عن أبيه ، قال : عملت هذا الكتاب إماما ، إذا اختلف الناس في سنّة [ عن ] رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجع إليه.
ثمّ قال أبو موسى المديني : لم يخرّج - أي أحمد - إلّا عمّن ثبت
ص: 18
عنده صدقه وديانته ، دون من طعن في أمانته.
ثمّ روى عن عبد اللّه بن أحمد ، قال : سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان؟ قال : لم أخرّج عنه في ( المسند ) شيئا ، لمّا حدّث بحديث المواقيت تركته » (1).
وقد ذكر في ترجمة أحمد كثيرا من نحو هذا ما يدلّ على كون أحمد لم يرو في مسنده إلّا ما صحّ عنده ؛ فراجع!
ومجرّد جمع أحمد فيه الضعيف والمنكر عند غيره ، لا يقضي بعدم صحّته عنده ؛ إذ ليس مسنده بأحسن من صحاحهم وقد جمعت الضعيف والمنكر وما فيه الكفر ، كما سبق في مقدّمة الكتاب ومسألة النبوّة (2).
وأمّا قوله : « والمغازلي رجل مجهول ، لا يعرفه أحد من العلماء » ؛ فيكذّبه رواية ابن حجر في « الصواعق » عنه ، وكنّاه بأبي الحسن ، كما سبق في الآية السابعة والسبعين (3).
وكنّاه به أيضا في « ينابيع المودّة » في الباب الأوّل منها ، وسمّاه بعليّ بن محمّد (4) ، كما سمّاه به أيضا في أوّل الكتاب عند ذكر من
ص: 19
روى عنهم ، ووصفه بالفقيه الشافعي (1).
وغاية طعن ابن تيميّة فيه أن قال : ليس الحديث من صنعته ولا يعرف الحديث (2).
ولا منشأ للتجاهل به والطعن في معرفته ، إلّا لأنّه يروي ما ليس من هوى ابن تيميّة ، وأنّه ألّف في فضل أمير المؤمنين ؛ وهذا كما مرّ في المقدّمة أولى بالدلالة على اطّلاعه وحسن إنصافه (3) ، ولو ألّف في فضل الشيخين من مفتعلاتهم لحلّ عندهم بالمحلّ الأرفع والمنزل الأسنى!!
وأمّا قوله : « والعجب أنّ هذا الرجل لا ينقل حديثا إلّا من جماعة أهل السنّة ... » إلى آخره ..
فمن عدم تفرقته بين البحث الإلزامي وغيره ؛ فإنّ المصنّف رحمه اللّه إنّما
ص: 20
ينقل عن كتبهم ؛ لإلزامهم ، لا لحاجة به إليها ؛ لغناه عنها بالأدلّة القطعيّة ؛ العقليّة والنقليّة ، التي اشتملت عليها كتب أصحابه.
وقد تجاهل في معرفتها ومعرفة علماء الإمامية ورواتهم ظنّا منه أن يخدع الجهّال بذلك ، وهيهات أن تخفى الشمس على ذي عين!
نعم ، ما زالوا - وإلى الآن - يتغافلون عن كتب الشيعة ، ويتعامون عن النظر إليها ، كراهة لاتّضاح الحقّ ، ورغبة في ملّة الآباء!
وأمّا قوله : « فهو يترك المنقولات في الصحاح » ..
فكذب ظاهر ؛ لأنّ المصنّف رحمه اللّه ينقل عنها وعن غيرها ، كما ستعرف ، وكلّها عنده بمنزلة واحدة في الوهن ، لكنّه يروي عن الجميع ما يحتجّ به عليهم.
ولا يمكن أن نصحّح شيئا منها سوى ما يتعلّق بفضائل أهل البيت ونقائص أعدائهم ، كما سبق وجهه في المقدّمة ، وبيّنا فيها حال صحاحهم ، وأنّها بالسقم أحرى (1).
ومن الطرائف إنكاره بلوغ عدد الشيعة إلى عصره حدّ الكثرة ، فلو صدق فما باله فرّ من بلاده إلى ما وراء النهر ، ثمّ استغاث في آخر هذا الكتاب من استيلائهم على ما هنالك؟!
وإن جهل كثرتهم ، فليسأل عنهم أئمّته بني أميّة يوم الدار وصفّين ، ويوم استولى عليهم بنو العبّاس ، وليسأل عنهم بني العبّاس أيّام البويهيّين والحمدانيّين والفاطميّين!
وقد ذكر المؤرّخون أنّ بليّة معاوية على الكوفة أشدّ ؛ لكثرة من
ص: 21
فيها من الشيعة (1).
نعم ، ما زال أعداء آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومخالفوهم أكثر ، كما قال عزّ اسمه : ( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (2).
* * *
ص: 22
قال المصنّف - قدس سره - (1) :
الثاني : من « مسند أحمد » : « لمّا نزل : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) جمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله من أهل بيته ثلاثين ، فأكلوا وشربوا ثلاثا ، ثمّ قال لهم : من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون خليفتي ، ويكون معي في الجنّة؟
فقال عليّ : أنا.
فقال : أنت » (3).
ورواه الثعلبي في تفسيره بعد ثلاث مرّات ، في كلّ مرّة سكت القوم غير عليّ علیه السلام (4).
ص: 23
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في « الموضوعات » في قصّة طويلة ، وليس فيه : « ويكون خليفتي » ، وهذا من وضعه ، أو من وضع مشايخه من شيوخ الرفض وأهل التهمة والافتراء (2).
وفي مسند أحمد بن حنبل : « ويكون خليفتي » غير موجود ، بل هو من إلحاقات الرفضة.
وهذان الكتابان اليوم موجودان ، وهم لا يبالون من خجلة الكذب والافتراء ، بل الرواية : « ويكون معي في الجنّة » (3).
ص: 24
وهو من فضائل أمير المؤمنين علیه السلام حيث أقبل إذ الناس أدبر ، وأقدم إذ الناس أحجم (1) ، وفضائله أكثر من أن تحصى ، عليه سلام اللّه يترى ، مرّة بعد أخرى.
* * *
ص: 25
من أعجب العجب أن يكذب هذا الرجل ، وينسب الكذب إلى آية اللّه المصنّف رحمه اللّه ، وشدّد النكير عليه وعلى علمائنا أهل الصدق والأمانة.
وإذا أردت أن تعرف كذبه ، فراجع « المسند » ، ص 111 من الجزء الأوّل ، تجد الحديث مشتملا على لفظ « خليفتي ».
وهكذا نقله في « كنز العمّال » (1) ، عن « المسند » ، وعن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الطحاوي ، والضياء في « المختارة » ، التي حكى في أوّل « الكنز » (2) صحّة جميع ما فيها عن السيوطي في ديباجة « جمع الجوامع ».
ونقل في « الكنز » أيضا (3) هذا الحديث بقصّة طويلة ، عن ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في آخره : « قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا؟
ص: 26
قال عليّ علیه السلام : فقلت : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتي ، فقال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا!
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ ».
ونقل هذا الحديث الطبري في « تاريخه » (1) ، وابن الأثير في « الكامل » (2).
وحكى في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن جرير حديثا آخر ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه مثل قوله الأوّل : « هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».
وحكى ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (4) ، عن أبي جعفر الإسكافي ، أنّه قال : وروي في الخبر الصحيح أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كلّف عليّا علیه السلام في مبدأ الدعوة أن يصنع طعاما ويدعو له بني عبد المطّلب ، فصنع له طعاما ودعاهم له ..
ثمّ ضمن لمن يؤازره ، وينصره على قوله ، أن يجعله أخاه في الدين ، ووصيّه بعد موته ، وخليفته من بعده ؛ فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده ، فقال لهم : هذا أخي ووصيّي ، وخليفتي من بعدي.
ص: 27
فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب : أطع ابنك! فقد أمّره عليك » ؛ انتهى ملخّصا.
وهذه الأخبار كلّها اشتملت على لفظ « الخليفة ».
ونقل في « الكنز » (1) ، عن ابن مردويه خبرا آخر ، اشتمل على لفظ « الولاية » ، قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومدّ يده : « من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي؟ ».
فمددت يدي ، وقلت : أنا أبايعك! فبايعني على ذلك.
وأنت تعلم أنّ المراد بالولاية - هنا - هو المراد بالخلافة ، بقرينة ما سبق ، وقوله : « من بعدي » ، فإنّ النصرة والحبّ لا يختصّان بما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإنّما تختصّ به الخلافة.
وأعجب من الفضل ابن تيمية! حيث أنكر وجود أصل الحديث في الصحاح والمسانيد (2) عند ذكر المصنّف رحمه اللّه له في « منهاج الكرامة » (3) ، مع ما عرفت من رواية أحمد بن حنبل له في « المسند » وغير أحمد ممّن عرفت (4).
نعم ، أقرّ بوجوده في تفسير ابن جرير والبغوي والثعلبي وابن أبي حاتم ، لكنّه ناقش في إسناد كلّ منهم (5) بما مرّ جوابه إجمالا في
ص: 28
مقدّمة الكتاب (1).
مع أنّه قد استفاضت الطرق وقوّى بعضها بعضا ، وحكموا بصحّة بعضها كما سمعت ، فلا محلّ للمناقشة.
على أنّ مناقشته في سند رواية الثعلبي إجماليّة مردودة عليه ، إلّا مع البيان.
ومناقشته في سند رواية ابن أبي حاتم (2) ، إنّما هي باشتماله على عبد اللّه بن عبد القدّوس ، وهو قد ضعّفه الدارقطني (3).
وقال النسائي : ليس بثقة (4).
وقال ابن معين : ليس بشيء ، رافضي خبيث (5).
وفيه :
إنّ تضعيف هؤلاء معارض بما في « تقريب » ابن حجر : إنّه صدوق (6).
ص: 29
وقال في « تهذيب التهذيب » : قال محمّد بن عيسى : ثقة (1).
وذكره ابن حبّان في « الثقات » (2).
وقال البخاري : وهو في الأصل صدوق ، إلّا أنّه يروي عن أقوام ضعاف (3).
مع أنّه أيضا من رجال « سنن الترمذي » (4).
ولا ريب أنّ مدح هؤلاء مقدّم على قدح أولئك ؛ لعدم العبرة بقدح أحد المتخالفين في الدين بالآخر من غير حجّة ، بخلاف مدحه له ؛ فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء.
وعبد اللّه هذا قد زعموه من الشيعة ، وإن كنّا لا نعرف الرجل في الشيعة! ولعلّه لمّا روى في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله نسبوه إلى الرفض والخبث!!
وغمزه ابن عديّ بقوله : عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت (5).
وليت شعري ، أبهذا صار ضعيفا واستحقّ أن يوصف بالخبث؟!
ص: 30
كما لا يعتبر - أيضا - طعنهم في أبي مريم عبد الغفّار بن القاسم ، راوي حديث ابن جرير والبغوي ، على ما ذكره ابن تيميّة (1) ؛ لأنّه - كما في « ميزان الاعتدال » - من الشيعة ، ولا سيّما قد شهد بحقّه الذهبيّ أنّه كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال (2).
وأمّا ما نسبه الفضل إلى ابن الجوزي ، فلا يبعد أنّه من كذباته ، وإلّا لنسبه إليه في « كنز العمّال » بالنسبة إلى بعض الأحاديث التي نقلناها عنه ، فإنّ عادته أن يروي عن كتاب « الموضوعات » (3).
وأيضا لم يذكره السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » المأخوذة من كتاب « الموضوعات ».
ولو صحّت النسبة إلى ابن الجوزي ، فلا عبرة بكلامه ؛ لأنّه أيضا
ص: 31
طرف النزاع.
وأمّا ثناؤه على أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد تأبّط به شرّا ؛ لأنّ قصده به أن يروّج كذبه وإنكاره لما رواه المصنّف رحمه اللّه ، وترتفع عنه تهمة النصب ؛ وهيهات أن يخفى حاله وقد أنكر الواضحات!
أتراه يفعل ذلك لو كانت الرواية في ما يؤيّد طريقته؟!
ثمّ إنّ من جملة الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جمع بني عبد المطّلب وهم أربعون رجلا (1) ، فجعل ابن تيمية ذلك طريقا للطعن في الحديث ، بدعوى عدم بلوغهم في ذلك الوقت إلى هذا القدر (2).
وفيه : إنّه لو سلّم فلا يبعد أن المراد ببني عبد المطّلب : ما يشمل بني المطّلب ؛ لاختصاصهم بهم حتّى كأنّهم منهم ؛ ولذا كانوا معهم في حصار الشعب.
ويشهد له ما في « كامل » ابن الأثير ، حيث إنّه لمّا نقل الحديث قال : حضروا ومعهم نفر من بني المطّلب (3).
ولو سلّم أنّ المراد خصوص بني عبد المطّلب ، فغاية ما يلزم منه خطأ الراوي أو مبالغته في عددهم ، وهو لا ينافي صحّة أصل الواقعة المرويّة بطرق مستفيضة ، ولا تكاد تسلم واقعة مروية بطرق عن الخطأ في الخصوصيات.
ومنه أيضا يعلم ما في طعن ابن تيميّة في الحديث ، من حيث
ص: 32
اشتماله على أنّ الرجل منهم كان يأكل الجذعة (1) ، ويشرب الفرق (2) ، مدّعيا أنّهم لم يكونوا معروفين بمثل هذه الكثرة من الأكل والشرب (3) ؛ وذلك لأنّ غاية ما يلزم منه مبالغة الراوي ، أو الخطأ في ذلك ، وهو غير ضارّ في صحّة أصل الواقعة (4).
على أنّ عدم معروفيّتهم به لا تدلّ على العدم ، لا سيّما وقد كان الكثير من قريش كذلك ، كما تشهد به كتب التاريخ (5).
وقد أورد ابن تيميّة على الحديث بأنّه كيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله للجماعة : من يؤازرني على أمري يكن وصيّي وخليفتي من بعدي؟ والحال أنّ مجرّد الإجابة إلى مثل ذلك لا يوجب الخلافة ؛ فإنّ جميع
ص: 33
المسلمين وازروه ولم يكن منهم أحد خليفة ، ومن الجائز أيضا أن يجيبه جماعة منهم ، وحينئذ فمن الخليفة منهم؟! (1).
وفيه : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقل إنّ هذا علّة تامّة للخلافة بعده ، حتّى تلزم خلافة كلّ من فعل ذلك وإن لم يكن من عشيرته ، بل أراد بأمر اللّه إنذار عشيرته وترغيبهم ؛ لأنّهم أولى به وبنصرته ، فلم يجعل هذه المنزلة إلّا لهم ..
وليعلم من أوّل الأمر أنّ هذه المنزلة لعليّ علیه السلام خاصّة ؛ فإنّ اللّه سبحانه ورسوله صلی اللّه علیه و آله يعلمان أنّه لا يجيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويؤازره تماما إلّا عليّ علیه السلام ، فكان ذلك من باب تثبيت إمامته ، وإلقاء الحجّة على قومه.
وحينئذ ، فلا يصحّ فرض تعدّد المجيبين للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ ولو صحّ ووقع ، لعيّن النبيّ صلی اللّه علیه و آله الأولى والأحقّ.
هذا ، وقد صرّحت بالخلافة لعليّ علیه السلام أخبار أخر ..
منها : ما سبق في الآية السادسة والثلاثين في سبب نزول سورة النجم (2).
ومنها : ما سيأتي في بعض أحاديث الثّقلين.
ومنها : ما في المواقف » ، في مبحث الإمامة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال لعليّ : « أنت أخي ووصيّي ، وخليفتي من بعدي ، وقاضي ديني » (3) ، بكسر الدال (4).
ص: 34
وأجاب عنه هو والشارح بأمرين :
الأوّل : إنّه معارض بالنصوص الدالّة على إمامة أبي بكر (1).
وفيه : إنّه لو سلّم وجودها ودلالتها فليست حجّة علينا ؛ لأنّها من أخبارهم الخاصّة بهم (2) ، بل هي من الكذب المسلّم ؛ لإقرارهم بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يخلّفه (3).
الثاني : منع صحّة الحديث ؛ للدليل القاطع على عدم النصّ الجليّ ؛ لأنّه لو وجد لتواتر ، ولعارض عليّ أبا بكر في الإمامة ، ولصلابة الأصحاب في الدين ؛ فكيف لا يتّبعون النصّ المبين؟! (4).
ويرد على الأوّل : إنّ حصول التواتر مشروط بعدم الشبهة ، وهي ثابتة لهم ، بل الثابت أعظم منها ، وهو التعصّب ، الذي هو قذى البصائر.
وهل تبقى شبهة مع نصّ الكتاب العزيز بانحصار الولاية باللّه ورسوله وأمير المؤمنين ، ونصّ حديث الغدير والمنزلة والثقلين ، وغيرها ، فإنّها متواترة ، ونصّ في إمامته - ولو بمجموعها - لو أنصفوا؟!
ص: 35
ولو سلّم أنّها ليست نصّا جليّا ، ولا متواترة معنى بإمامته علیه السلام ، فالمطالبة بتواتر ما هو أجلى منها ليست في محلّها ؛ للصوارف عنه ، فإنّ عامّة قريش وكثيرا من الأنصار في الصدر الأوّل أعداء أمير المؤمنين ، فمنهم غاصب له ، ومنهم معين على غصبه ، ومنهم راض به ، والباقي رعاع وسوقة إلّا القليل ، والقليل لا يقدر على بيان النصّ الجليّ ، خوفا من الأمراء ، بل حتّى الكثير يخاف منهم!
ولذا خفي أمر الغدير ، فاحتاج أمير المؤمنين بعد زمن قريب إلى الاستشهاد بمن بقي من الصحابة ، مع أنّه لم يشهد له بعضهم ، عداوة له فأصابته دعوته ، كما سبق (1).
ولو فرض إمكان بيان النصّ الكامل في الصدر الأوّل ، فلا ريب بعدم إمكانه أيّام معاوية والشجرة الملعونة ؛ لأنّهم أوجبوا سبّ إمام المتّقين ، وتتبعوا بالقتل والحبس من روى له فضيلة ، أو رأى له فضلا (2)!
ص: 36
فكيف يمكن حينئذ أن تتواتر رواية النصّ الجليّ ، وكذا في الأيّام المتأخّرة ، كأيّام كثير من بني العبّاس ، الّذين هم مثل بني أميّة في تتبّع الشيعة وجحد حقّ أمير المؤمنين علیه السلام ؟!
ولا أعجب من طلب حصول التواتر بالنصّ الجليّ عند قوم يخالف مذهبهم ، مع اهتمام علمائهم لدنياهم في نقصه وإثبات مفضوليّته ، وأنّ تمام مناصب سلاطينهم وأمرائهم بإنكار النصّ عليه وعلى الأئمّة من ولده!
ويرد على دعوى معارضته لأبي بكر : إنّها ممنوعة وظاهرة المكابرة ؛ إذ أيّ معارضة تطلب في مقام الخوف على الإسلام أكبر من الامتناع عن بيعته وإظهار أنّه ظالم غاصب ، ولم يبايعه إلّا قهرا بعد ستّة أشهر أو أكثر (1).
ص: 37
.. إلى غير ذلك ممّا صدر من أمير المؤمنين علیه السلام ، كما عرفت بعضه في المبحث الرابع من مباحث الإمامة (1).
ويرد على دعوى صلابة الأصحاب في الدين : إنّها محلّ تأمّل ، ولا سيّما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولنسأل عنها قوله تعالى : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (2) ..
وسورة براءة ، المسمّاة بالفاضحة ؛ لأنّها فضحت أكثر الصحابة (3) ..
وقوله تعالى : ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ... ) (4) ، حيث تركوا الواجب ولم يبالوا بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وانفضّوا للهو والتجارة ، ولم يبق معه إلّا النادر (5) ..
.. إلى كثير من الآيات الكريمة (6).
ولنسأل أحاديث الحوض ، التي حكم بعضها بارتداد جلّ الصحابة ،
ص: 38
وأنّهم إلى النار ، ولم يسلم منهم إلّا مثل همل النّعم (1) ..
.. إلى غيرها من الأخبار التي لا تحصى ، وسيمرّ عليك بعضها إن شاء اللّه تعالى.
وقد أجاب القوشجي في « شرح التجريد » عن الخبر الذي حكيناه عن « المواقف » بعد ذكر نصير الدين رحمه اللّه له (2) ، فقال :
« وأجيب بأنّه خبر واحد في مقابلة الإجماع ، ولو صحّ لما خفي على الصحابة والتابعين ، والمهرة المتقنين من المحدّثين ، سيّما عليّ وأولاده الطاهرين ؛ ولو سلّم ، فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين » (3).
ويشكل بمنع الإجماع ، كما مرّ في المبحث الرابع ، وبيّنّا أنّه لم يخف على الصحابة (4) ، ولكن أخفوه عن عمد ، كحديث الغدير (5).
وكذا أخفاه من علم به من غير الصحابة ، عداوة لعليّ علیه السلام ، أو خوفا من معاوية وأشباهه (6).
وأمّا دعوى خفائه على أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين ؛ فمخالفة لما تواتر عنهم من حصول النصّ عليه بالخلافة ، ولما ظهر من أحوالهم في تضليل الأوّلين ، فكم صرّحوا ولوّحوا بالنصّ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله فما زاد مخالفيهم إلّا عداوة وإعراضا عن الحقّ!
ص: 39
وأمّا إنكار دلالته على نفي خلافة الآخرين ؛ فمكابرة للضرورة ؛ إذ أيّ دليل أصرح في نفيها من قوله صلی اللّه علیه و آله : « خليفتي من بعدي »؟!
ولو كان التقليد بقوله : « من بعدي » غير دالّ على ذلك ، لم تثبت خلافة أحد بلا فصل بالنصّ!
وليت شعري! ما بال وصيّة أبي بكر لعمر كانت نصّا في خلافته له بلا فصل دون وصيّة النبيّ لأمير المؤمنين ، وهي ليست بأصرح منها في الدلالة على عدم الفصل ، وكذا وصايا سائر السلاطين لولاة عهدهم ، كما سبق في الآية الثانية من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه (1)؟!
ومن جملة الأخبار المصرّحة بخلافة أمير المؤمنين علیه السلام ، ما في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد اللّه بن داهر ، حيث ذكر أنّه روى بسنده عن ابن عبّاس : « ستكون فتنة ، فمن أدركها فعليه بالقرآن وعليّ بن أبي طالب.
قال : فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ وهو آخذ بيد عليّ ] يقول : هذا أوّل من آمن بي ، وأوّل من يصافحني ، وهو فاروق هذه الأمّة ، ويعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظلمة ، وهو الصدّيق الأكبر ، وهو خليفتي من بعدي » (2).
قال في « الميزان » : قال ابن عديّ : عامّة ما يرويه في فضائل عليّ ،
ص: 40
وهو متّهم في ذلك (1).
وقال في « الميزان » أيضا : قال العقيلي : رافضي خبيث.
وقال أحمد ويحيى : ليس بشيء (2).
وأقول :
إذا كان جفاؤهم وقولهم في راوي ما ورد في أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، فكيف يطلبون أن يتواتر النصّ عليه بما هو أجلى من ذلك؟!
وليت شعري! لم كان عندهم من روى له فضيلة رافضيّا خبيثا متّهما ، ومن روى فضيلة لمشايخهم ثقة صادقا معتمدا في صحاحهم ، وصاحب سنّة ، وإن كفّره سيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله ، كالخوارج والنصّاب؟! وقال سبحانه : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... ) (3).
ص: 41
ومن جملة الأخبار المصرّحة بخلافته أيضا ، ما في « اللآلئ المصنوعة » ، عن ابن حبّان ، بسنده عن أنس مرفوعا : « إنّ أخي ووزيري وخليفتي من بعدي في أهلي ، وخير من أترك بعدي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، عليّ علیه السلام » (1)
وما في « اللآلئ » أيضا ، عن الخطيب في « المتّفق والمفترق » ، عن الجوزقاني ، بسندهما عن سلمان ، قال : سألت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من وصيّه؟
فقال : « وصيّي ، وموضع سرّي ، وخليفتي في أهلي ، وخير من أخلف بعدي ، عليّ » (2).
وقد نقل في « اللآلئ » عن ابن الجوزي ، أنّه قال : « إنّ الحديث الأوّل موضوع ، آفته مطر بن ميمون الإسكافي ؛ وإنّ الحديث الثاني أكثر رواته مجهولون وضعفاء ، وإسماعيل بن زياد - وهو أحد رواته - متروك » (3).
وفيه : إنّه لو سلّم ذلك كلّه ، فهو إنّما يرفع الاعتماد ، لا أنّه يقتضي
ص: 42
الوضع ، على أنّ الأخبار الناطقة بخلافة أمير المؤمنين علیه السلام كثيرة ، فتعتبر لاعتضاد بعضها ببعض وإن ضعفت أسانيدها ، فكيف وقد صحّ بعضها عندهم كما عرفت (1)؟!
بل عرفت في مقدّمة الكتاب أنّ رواة فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ثقات في تلك الرواية (2) ، خصوصا مثل مطر الذي لم يضعّفوه إلّا لروايته كثيرا في فضل عليّ علیه السلام ، ولعلّه لذا لم يعتن ابن ماجة بتضعيفهم فأخرج له في صحيحه (3).
هذا ، وليس قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض تلك الأخبار : « فيكم » أو « في أهلي » مقصودا به تقييد الخلافة ؛ للإجماع على عدم الفرق بين عشيرته وغيرهم ، وللزوم اجتماع خليفتين : عامّ وخاصّ ، ولا يقوله أحد.
ولا يصحّ أن يراد بخلافته في أهله - في الحديثين الأخيرين - قيامه بأمور دنياهم ؛ لعدم قيام عليّ علیه السلام بأرحام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونسائه ، وعدم خلافته عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القيام بفاطمة والحسنين ، بل هم عياله الّذين تجب نفقتهم عليه أصالة لا بالخلافة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
فالمقصود في هذه الأخبار هو : الخلافة العامّة والزعامة العظمى ، كما يشهد له ذكر الوصية مع الخلافة في الخبر الأخير ، وقوله : « خير من أخلف » أو « أترك بعدي » في الأخيرين ، مضافا إلى إطلاق الخلافة في بعض الأخبار السابقة (4).
ص: 43
والظاهر : أنّ تخصيص المخاطبين - وهم العشيرة - في أحاديث نزول قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (1) إنّما هو لكون الخطاب معهم ، أو أهمّيّتهم ، أو لأنّه لا أمّة له حينئذ.
كما لا يبعد أن يكون قيد « في أهلي » بالخبرين الأخيرين من زيادة بعض الرواة عمدا أو وهما.
واعلم ، أنّه قد ورد عند السنّة أيضا ما هو بمنزلة التعبير بالخلافة ، كالذي في ترجمة حكيم بن جبير من « ميزان الاعتدال » ، عن محمّد بن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن ابن سفيان ، عن عبد العزيز بن مروان ، عن أبي هريرة ، عن سلمان : قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا بيّن له من يلي بعده ، فهل بيّن لك؟
قال : نعم ، عليّ بن أبي طالب » (2)
قال في « الميزان » : « هذا حديث موضوع .. ثمّ كيف يروي مثل هذا عبد العزيز بن مروان وفيه انحراف عن عليّ؟! رواه ابن الجوزي في ( الموضوعات ) من طريق العقيلي ، عن أحمد بن الحسين ، عن ابن حميد ؛ وليس بثقة » (3).
وفيه - مع ما عرفت من وثاقة رواة فضائل أمير المؤمنين علیه السلام في ما يروونه في فضله - : إنّ حكيم بن جبير من رجال السنن الأربع (4) ،
ص: 44
فلا يصحّ لهم الحكم بوضعه لهذا الحديث ، وإلّا جاء الطعن إلى أخبار صحاحهم!
وكذا الحال في محمّد بن حميد ؛ لأنّه من رجال سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة ، مع أنّه قد ذكر في « الميزان » بترجمة ابن حميد ، أنّه حدّث عنه أبو بكر الصنعاني ، فقيل له : أتحدّث عنه؟
فقال : وما لي لا أحدّث عنه؟! وقد حدّث عنه أحمد بن حنبل ، وابن معين!
وقال أبو زرعة : من فاته محمّد بن حميد يحتاج أن يترك عشرة آلاف حديث.
ومن آخر أصحاب ابن حميد : أبو القاسم البغوي ، وابن جرير الطبري (1).
وحينئذ ، فلا يصحّ الحكم بوضع ابن جبير أو ابن حميد للحديث ، ولا سيّما على لسان عبد العزيز المنحرف عن أمير المؤمنين علیه السلام .
ولا يمنع انحرافه عند روايته لهذا الحديث ؛ لأنّ اللّه سبحانه إذا أراد إظهار الحقّ ألقى في نفوس القوم رواية ما علموه في حقّ أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لتلزمهم وغيرهم الحجّة ، ولذا رووا حديث الغدير ونحوه!
على أنّه قد قيل لعمر بن عبد العزيز : كيف خالفت من قبلك في منع السبّ عن عليّ؟!
فقال : عرفته من أبي ؛ لأنّه إذا خطب وجاء إلى سبّه تلجلج ، فسألته عن ذلك ، فقال : لو عرف الناس ما أعرفه من فضل هذا الرجل ما تبعنا
ص: 45
منهم أحد » (1).
فظهر أنّه لا عبرة بما زعمه الناصبان ، الذهبيّ وابن الجوزيّ ، من وضع هذا الحديث ، ولا سيّما مع كونهما طرف النزاع ، وإن كان لا لوم عليهما بعد مخالفته لمذهبهما ، لكنّ الكلام في الدليل من حيث هو!
* * *
ص: 46
وقال الفضل (1) :
الوصيّ ، قد يقال ويراد به : من أوصي له بالعلم ، والهداية ، وحفظ قوانين الشريعة ، وتبليغ العلم والمعرفة.
فإن أريد هذا من الوصي ، فمسلّم أنّه كان وصيّا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا خلاف في هذا.
وإن أريد الوصيّة بالخلافة ، فقد ذكرنا بالدلائل العقليّة والنقليّة عدم النصّ في خلافة عليّ.
ولو كان نصّا جليّا لم يخالفه الصحابة ، وإن خالفوا لم يطعهم العساكر وعامّة العرب ، سيّما الأنصار.
* * *
ص: 48
إنّ معنى الوصيّة : العهد ، يقال : أوصى إلى فلان ، بمعنى : عهد إليه (1) ..
فإن أطلق متعلّق الوصيّة حكم بشموله لجميع ما يصلح تعلّقها به ..
وإن قيّد ، كما لو قيل : أوصى إليه بأيتامه ، أو ثلث ماله ، أو نحوهما ، اختصّ به.
ومن الواضح أنّ الرواية من قبيل الأوّل ، فتشمل الوصيّة بالخلافة ، بل هي أظهر ما تشمله وتنصرف إليه ، بل معنى وصيّ النبيّ : خليفته.
كما يشهد له أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضرب لسلمان مثلا بوصيّ موسى ، وهو : « يوشع » الخليفة لموسى ..
وما رواه أحمد في مسنده (2) ، عن طلحة بن مصرف ، قال : « قال أبو الهذيل (3) [ بن شرحبيل ] : أبو بكر [ كان ] يتأمّر على وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ودّ أبو بكر أنّه وجد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهدا فخزم أنفه بخزام ».
ص: 49
فإنّه صريح في أنّ معنى وصيّ رسول اللّه : خليفته ، مضافا إلى أنّه عطف في ذلك الحديث الوارث على الوصيّ.
والمراد بالوارث : إمّا وارث المنزلة ، وهو المطلوب ؛ أو وارث العلم ، وهو يستدعي الخلافة ؛ لأنّ علم الأنبياء ميراث لمن هو أحقّ بالاتّباع والرئاسة ؛ لقوله سبحانه : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى ... ) (1) الآية.
ومنه يعلم تمام المطلوب لو أريد بالوصيّ من أوصي له بالعلم والهداية وحفظ قوانين الشريعة وتبليغ العلم ، ولا سيّما أنّ حفظ قوانين الشريعة يتوقّف على الخلافة ؛ لأنّ السوقة لا تقدر على حفظها تماما ؛ لاحتياجه إلى بسط اليد.
وقد اشتملت أخبار الوصيّة على قرائن أخر ، تقتضي إرادة الخليفة من الوصيّ ،
كقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعضها في وصف عليّ علیه السلام ، بأنّه « خير من أخلّف - أو : أترك - بعدي » ؛ كالخبرين السابقين عند الكلام في الحديث الثاني (2) ، وكالذي حكاه في « كنز العمّال » (3) ، عن الطبراني ، بسنده عن سلمان ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وأمّا قوله : « فقد ذكرنا بالدلائل العقليّة والنقليّة عدم النصّ » ..
فحوالة على العدم ..
ولعلّه يريد بالدليل ما أعاده هنا بقوله : « ولو كان نصّا جليّا ... »
ص: 50
إلى آخره ..
وفيه : ما عرفت في المبحث الثالث وغيره ممّا سبق (1).
ثمّ لا معنى لقوله : « لم يخالفه الصحابة ، ولو خالفوا لم يطعهم العساكر ... » إلى آخره ؛ لأنّ معناه : وإن خالف الصحابة ، لم تطعهم الصحابة ، إلّا أن يريد بالصحابة خصوص الشيخين وأنصارهما ، فيصحّ الكلام ، ولكن يكون الحكم بعدم مخالفتهم من أوّل المصادرات!
ثمّ إنّ أحاديث الوصيّة مستفيضة ، بل متواترة عند القوم ، فضلا عنّا.
وقد ذكر في « ينابيع المودّة » (2) أحاديث منها كثيرة.
وفيها ما حكاه المصنّف رحمه اللّه عن « مسند أحمد » (3).
وسطّر ابن أبي الحديد ثلاث صفحات ، أوائل الجزء الأوّل ، من الشعر المقول في صدر الإسلام لكثير من وجوههم ، تتضمّن بيان وصيّة عليّ علیه السلام (4).
ثمّ قال بعد انتهائها : « والأشعار التي تتضمّن هذه اللفظة كثيرة جدّا ، ولكنّا ذكرنا منها هاهنا [ بعض ] ما قيل في هذين الحربين - يعني حرب الجمل وصفّين - ، فأمّا ما عداهما فإنّه يجلّ عن الحصر ، ويعظم عن الإحصاء والعدّ ، ولو لا خوف الملالة [ والإضجار ] ، لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة » (5).
ص: 51
وقد ذكر هذا في شرح قوله علیه السلام من خطبة له : « لا يقاس بآل محمّد صلی اللّه علیه و آله من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ، ونقل إلى منتقله » (1).
ولا يخفى لطف قوله علیه السلام : « رجع الحقّ إلى أهله » وما فيه من الدلالة على غصب الأوّلين له.
* * *
ص: 52
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الرابع : من كتاب « المناقب » لأبي بكر أحمد بن مردويه - وهو حجّة عند المذاهب الأربعة - ، رواه بإسناده إلى أبي ذرّ ، قال : دخلنا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلنا : من أحبّ أصحابك إليك؟ وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا من دونه!
قال : « هذا عليّ أقدمكم سلما وإسلاما » (2).
* * *
ص: 53
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث إن صحّ يدلّ على فضيلة أمير المؤمنين ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحبّه حبّا شديدا ، ولا يدلّ على النصّ بإمارته.
ولو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ناصّا على خلافته ، لكان هذا محلّ إظهاره ، وهو ظاهر ؛ فإنّه لمّا لم يقل : إنّه الأمير بعدي ؛ علم عدم النصّ ، فكيف يصحّ الاستدلال به؟!
* * *
ص: 54
المراد بسؤالهم المذكور : طلب تعيين الإمام بعده صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ أحبّ أصحاب الرئيس إليه هو الذي يرجى بعده للرئاسة وينبغي أن يقيمه مقامه ؛ ولذا قالوا : « وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا دونه » ، فإنّ معناه : إن كان أمر اتّبعناه ، وإن كانت نائبة نصرناه وفديناه ، كما هو شأن الأتباع والأمير.
وقد فهم الفضل هذا المعنى ثمّ جحده ، فإنّ قوله : « لكان هذا محلّ إظهاره ... » إلى آخره ، دالّ على أنّ معنى السؤال طلب معرفة الإمام ، كما ذكرناه ، وإلّا فكيف كان المقام محلّ إظهار النصّ ، وكان عدم إظهاره موجبا للعلم بعدم النصّ؟!
فإذا كان المراد : هو السؤال عن الإمام والخليفة بعده ، كان قوله صلی اللّه علیه و آله : « هذا عليّ » كافيا في الجواب ، غنيّا عن أن يضيف قوله : الأمير بعدي.
نعم ، يحسن الإشارة إلى علّة تعيينه للأحبّيّة والإمامة فأشار إليها بقوله : « أقدمكم سلما وإسلاما » ، فإنّه موجب لأحبّيّته ، وكاشف عن زيادة معرفته على غيره ، وإنّه أسبقهم إلى الخير ، وأفضلهم عملا ؛ والأفضل علما وعملا أحقّ بالإمامة.
ثمّ إنّ كلام الفضل يدلّ على أنّه صلی اللّه علیه و آله لو قال : « عليّ خليفتي من بعدي ، ووليّكم بعدي » ، كان نصّا في خلافته ، مثبتا لمدّعانا عنده وعند أصحابه ، وهو كذب ؛ فإنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « هو خليفتي من بعدي ، ووليّكم
ص: 55
بعدي » ، وقالوا : لا يدلّ على عدم الفصل بينهما حتّى تنتفي خلافة غيره ، كما صنعه القوشجي في ما حكيناه عنه في الخبر الثاني (1).
وليس هذا الذي أقرّ الفضل بأنّه نصّ بأعظم نصوصيّة من قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (2) الآية ، ولا من حديث الغدير (3) ، والمنزلة (4) ، والثّقلين (5) ، وأشباهها ، ومع ذلك كابروا الضرورة ، وعاندوا الحقيقة ؛ فليتدبّر من يريد لنفسه السلامة ، والقيام بالعذر والحجّة يوم القيامة.
* * *
ص: 56
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا معنى الوصاية وأنّه غير الخلافة ، فقد يقال : هذا وصيّ فلان على الصبي ، ويراد به أنّه القائم بعده بأمر الصبيّ ، وهو قريب من الوارث ، ولهذا قرنه في هذا الحديث بالوارث ؛ وليس هذا بنصّ في الخلافة إن صحّ الرواية.
* * *
ص: 58
رواه الذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة شريك بن عبد اللّه ، من طريق عن بريدة (1).
وحكاه السيوطي في « اللآلئ » عن العقيلي والحاكم ، كلّ منهما بطريق آخر ، عن بريدة.
وطعنوا في أسانيدها جميعا (2) ؛ وقد مرّ مرارا ما فيه.
وحكاه في « ينابيع المودّة » ، في الباب الخامس عشر ، عن أخطب خوارزم ، عن بريدة ؛ ونحوه عن أمّ سلمة (3).
وحكاه في الباب السادس والخمسين ، عن « كنوز الدقائق » ، عن الديلمي (4).
فلا ريب باعتباره ؛ لكثرة طرقه ، واعتضادها ببقيّة أخبار الوصيّة المستفيضة (5).
كما لا ريب بدلالته على إمامة أمير المؤمنين ؛ لما سبق في الحديث
ص: 59
الثالث (1) ، مضافا إلى ظهوره بلزوم الوصيّ لكلّ نبيّ ، واللازم هو : الخليفة ؛ إذ لا بدّ للناس من إمام.
وأمّا قوله : « فقد يقال : هذا وصيّ فلان على الصبيّ ، ويراد به أنّه القائم بأمر الصبيّ » ..
فهو مثبت للمطلوب ، لا ناف له ؛ لأنّ وصيّ النبيّ هو خليفته القائم بأمر أمّته.
وأمّا قوله : « وهو قريب من الوارث ؛ ولهذا قرنه بالوارث » ..
فصحيح ؛ ولذا أفاد اللفظان الخلافة ؛ فإنّ المراد بالوارث : هو وارث العلم والمنزلة في الأمّة لا المال ، فيكون هو الإمام.
* * *
ص: 60
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
السادس : في « مسند أحمد » وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ما معناه ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث « براءة » مع أبي بكر إلى أهل مكّة ، فلمّا بلغ ذا الحليفة (2) بعث إليه عليّا فردّه ، فرجع أبو بكر إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : يا رسول اللّه! أنزل فيّ شيء؟!
قال : لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك (3).
ص: 61
وقال الفضل (1) :
حقيقة هذا الخبر ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الثامنة من الهجرة بعث أبا بكر الصدّيق أميرا للحاجّ ، وأمره أن يقرأ أوائل سورة « براءة » على المشركين في الموسم (2) ، وكان بين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقبائل العرب عهود ، فأمر أبا بكر بأن ينبذ إليهم عهدهم إلى مدّة أربعة أشهر ، كما جاء في صدر سورة « براءة » عند قوله تعالى : ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (3).
وأمر أيضا أبا بكر بأن ينادي في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يحجّ بعد العام مشرك.
فلمّا خرج أبو بكر إلى الحجّ بدا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمر تبليغ
ص: 62
سورة براءة ؛ لأنّها كانت مشتملة على نبذ العهود وإرجاعها إلى أربعة أشهر ، وأنّ العرب كانوا لا يعتبرون نبذ العهد وعقده إلّا من صاحب العهد ومن أحد من قومه ، وأبو بكر كان من بني تيم ، فخاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن لا يعتبر العرب نبذ العهد وعقده إلى أربعة أشهر من أبي بكر ؛ لأنّه لم يكن من بني هاشم ، فبعث عليّا لقراءة سورة « براءة » ونبذ عهود المشركين ، وأبو بكر على أمره من إمارة الحجّ والنداء في الناس بأن لا يطوف في البيت عريان ، ولا يحجّ بعد العام مشرك.
فلمّا وصل عليّ إلى أبي بكر قال له أبو بكر : أمير؟
قال : لا ، بل مبلّغ لنبذ العهود.
فذهبا جميعا إلى أمرهم ، فلمّا حجّوا ورجعوا قال أبو بكر لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فداك أبي وأمّي يا رسول اللّه! أنزل فيّ شيء؟
قال : لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي
هذا حقيقة الخبر ، وليس فيه دلالة على نصّ ولا قدح في أبي بكر.
وأمّا ما ذكر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا ، ولكنّ جبرئيل أتاني » ، فهذا من ملحقاته ، وليس في أصل الحديث هذا الكلام.
* * *
ص: 63
آثار الوضع في ما زعمه حقيقة الخبر ظاهرة ، والأدلّة على وضعه كثيرة ..
أوّلها : إنّه لو كان العرب لا يعتبرون عقد العهد ونبذه إلّا بمباشرة من له الأمر أو أحد أقاربه ، لما خالف النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذه القاعدة!
فهل خالفها عمدا تساهلا بتنفيذ أمر اللّه تعالى ، أو جهلا بما يعرفه الناس؟!
وكلّ ذلك لا يصحّ!
ثانيها : إنّ أبا بكر أشفق من عزله حتّى خاف أن يكون نزل به شيء كما ستسمع ، ولو كان عزله بعليّ علیه السلام على مقتضى القاعدة لما أشفق ، ولا سيّما أنّه قد بقي بزعمهم على إمرة الحجّ والنداء بأن لا يطوف في البيت عريان ، وأن لا يحجّ بعد العام مشرك ، وخصوصا قد صار عليّ علیه السلام تحت إمرته في الحجّ كما زعموا!
فهل مع هذا كلّه محلّ لإشفاقه وبكائه لمجرّد العزل عن نبذ العهد إذا قضت به القاعدة؟!
ثالثها : إنّه لا وجه لهذه القاعدة المزعومة ؛ فإنّ العهد ونبذه إنّما يحتاجان إلى اليقين بحصولهما ممّن له الأمر ، فأيّ وجه لتخصيص قرابته دون خاصّته؟! لا سيّما والعهد المنبوذ في المقام هو الذي لم يف المشركون بشروطه ، فيكون منحلّا بنفسه ، وإنّما أجلهم اللّه ورسوله مع من لم يكن لهم عهد إلى أربعة اشهر إحسانا وتفضّلا.
ص: 64
فلا بدّ بعد توقّف أداء هذا الأمر على النبيّ أو من هو منه - كما نطقت به الأخبار - أن يكون هناك خصوصيّة خارجة عن العادات!
رابعها : الأخبار المصرّحة بأنّ ذلك من خواصّ (1) عليّ علیه السلام دون سائر أقاربه ، كما في « مسند أحمد » (2) ، عن يحيى بن آدم السلولي ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليّ منّي وأنا منه ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ » (3).
وفيه أيضا عن حبشي بن جنادة مثل ذلك ، من ثلاثة طرق (4).
ومثله أيضا في « سنن الترمذي » بفضائل عليّ علیه السلام ، وقال : حسن صحيح (5).
ص: 65
وفي « كنز العمّال » ، عن النسائي ، وابن ماجة (1).
ونحوه في بعض الأخبار الآتية.
خامسها : الأخبار الدالّة على رجوع أبي بكر عند وصول عليّ علیه السلام إليه ..
منها : ما رواه أحمد في مسنده (2) ، عن أبي بكر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعثه ب « براءة » لأهل مكّة : لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة ، من كان بينه وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مدّة فأجله إلى مدّته ، واللّه بريء من المشركين ورسوله.
قال : فسار بها ثلاثا ، ثمّ قال لعليّ : إلحقه! فردّ عليّ أبا بكر ، وبلّغها أنت! ففعل.
فلمّا قدم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبو بكر بكى ، قال : يا رسول اللّه! حدث فيّ شيء؟!
قال : ما حدث فيك إلّا خير ، ولكن أمرت أن لا يبلّغه إلّا أنا أو رجل منّي.
وحكاه في « كنز العمّال » بتفسير سورة التوبة (3) ، عن ابن خزيمة ، وأبي عوانة ، والدارقطني في « الأفراد ».
ومنها : ما رواه أحمد أيضا (4) ، عن عليّ علیه السلام ، قال : لمّا نزلت عشر
ص: 66
آيات من براءة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر فبعثه بها ، ثمّ دعاني النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال لي : أدرك أبا بكر! فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه ، فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم.
فلحقته بالجحفة (1) ، فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا رسول اللّه! نزل فيّ شيء؟!
قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك.
ونقله في « كنز العمّال » ، عن أبي الشيخ ، وابن مردويه (2).
ونحوه في « الكشّاف » أيضا (3).
وهذا مصدّق لما نقله المصنّف رحمه اللّه من قول جبرئيل.
ومنها : ما رواه أحمد في مسنده (4) ، عن أنس ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث ب « براءة » مع أبي بكر إلى أهل مكّة ، قال : ثمّ دعاه فبعث بها عليّا.
ونحوه في « سنن الترمذي » في تفسير سورة « التوبة » ، وقال : هذا حديث حسن (5).
ص: 67
وفي « كنز العمّال » ، نقلا عن ابن أبي شيبة (1).
ومنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك » ، في كتاب المغازي (2) ، عن ابن عمر ، من حديث قال فيه : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر وعمر ب « براءة » إلى أهل مكّة فانطلقا ، فإذا هما براكب ، فقالا : من هذا؟!
قال : أنا عليّ يا أبا بكر! هات الكتاب الذي معك!
فأخذ عليّ الكتاب فذهب به ، ورجع أبو بكر وعمر إلى المدينة ، فقالا : ما لنا يا رسول اللّه؟!
قال : ما لكما إلّا خير ، ولكن قيل لي : [ إنّه ] لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك
سادسها : الأخبار المصرّحة بأنّ عليّا بعث أيضا بأن لا يحجّ بعد العام مشرك ، وأن لا يطوف بالبيت عريان ؛ كالذي رواه الترمذي في سورة التوبة وصحّحه (3) ، عن زيد بن تبيع (4) ، قال : « سألنا عليّا بأيّ شيء بعثت
ص: 68
في الحجّة؟
قال : بعثت بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ؛ ومن كان بينه وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله عهد فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ؛ ولا يدخل الجنّة إلّا نفس مؤمنة ؛ ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا » (1).
ونقله في « كنز العمّال » (2) ، عن الحميدي ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، والعدني ، وأبي داود ، وابن مردويه ، والدارقطني ، وجماعة (3).
وكالذي رواه الحاكم في « المستدرك » (4) ، وصحّحه ، عن أبي هريرة ، قال : « كنت في البعث الّذين بعثهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع عليّ ببراءة إلى مكّة ؛ فقال له ابنه أو رجل آخر : فبم كنتم تنادون؟
قال : كنّا نقول : لا يدخل الجنّة إلّا مؤمن ، ولا يحجّ بعد العام
ص: 69
مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهد فإنّ أجله أربعة أشهر ؛ فناديت حتّى صحل (1) صوتي ».
وروى الطبري في تفسيره نحو هذين الحديثين ، عن عليّ ، وابن عبّاس ، وأبي هريرة ، من عدّة طرق (2).
فثبت بما ذكرنا كذب ما زعمه الفضل حقيقة الخبر ، وظهر أنّ أبا بكر رجع قبل الحجّ معزولا ، لا لقضاء قواعد العرب بإرسال عليّ علیه السلام ، بل لتوقّف مثل هذا العمل عند اللّه سبحانه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو عليّ علیه السلام ؛ لأنّه منه ونفسه ..
فلا بدّ أن يكون نصب أبي بكر ، ثمّ عزله بعليّ علیه السلام في أثناء الطريق بعد اشتهار نصبه ، إنّما هو للتنبيه من اللّه تعالى ونبيّه صلی اللّه علیه و آله على أنّ أبا بكر غير صالح للقيام مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ذلك ، فلا يصلح - بالأولويّة - للزعامة العظمى بعده!
وللتنبيه أيضا على أنّ مثل هذا العمل إذا لم يصلح إلّا لمن هو من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، فالإمامة أولى! ..
ففيه إرشاد إلى فضل عليّ ، وأنّه هو المتعيّن للقيام مقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الإمامة والزعامة العامّة دون سائر الناس ، ولو أرسل النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علیه السلام من أوّل الأمر لم يحصل ذلك التنبيه والإرشاد (3).
ص: 70
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السابع : في الجمع بين الصحاح الستّة ، وتفسير الثعلبي ، ورواية ابن المغازلي الشافعي آية المناجاة ، واختصاص أمير المؤمنين علیه السلام بها ، « تصدّق بدينار حال المناجاة ، ولم يتصدّق أحد قبله ولا بعده ».
ثمّ قال عليّ علیه السلام : إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، وهي : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... ) (2) الآية.
وبي خفّف اللّه تعالى عن هذه الأمّة ، فلم تنزل في أحد بعدي (3).
ص: 71
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا أنّ هذا من فضائل أمير المؤمنين ، ولم يشاركه أحد في هذه الفضيلة ، وهي مذكورة في الصحاح ، ولكن لا تدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 72
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
الثامن : آية المباهلة : في « الجمع بين الصحيحين » ، أنّه لمّا أراد المباهلة لنصارى نجران احتضن الحسين ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعليّ يمشي خلفها ، وهو يقول لهم : ذا دعوت فأمّنوا (2).
فأيّ فضل أعظم من هذا ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يستسعد (3) بدعائه ، ويجعله واسطة بينه وبين ربّه تعالى؟!
* * *
ص: 74
وقال الفضل (1) :
قصّة المباهلة مشهورة ، وهي فضيلة عظيمة كما ذكرنا ، وليس فيه دلالة على النصّ.
وأمّا ما ذكره من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يستسعد بدعائه ، فهذا لا يدلّ على احتياج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى دعاء أهل بيته وتأمينهم ، ولكن عادة المباهلة كما ذكر اللّه في القرآن أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده ؛ ليكون أهيب في أعين المباهلين ، ويشمل البهلة إيّاه وقومه وأتباعه ، وهذا سرّ طلب التأمين منهم ، لا أنّه استعان بهم وجعلهم واسطة بينه وبين ربّه ليلزم أنّهم كانوا أقرب إلى اللّه منه.
هذا يفهم من كلامه ومن معتقده الميشوم الباطل!
نعوذ باللّه من أن يعتقد أنّ في أمّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كان أقرب إلى اللّه منه.
* * *
ص: 75
لا ريب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكلّ صالح مقرّب ، لا يرى لنفسه استحقاقا في استجابة دعائه ، ولا يجعل الاعتماد على نفسه ، بل يتوسّل إلى الإجابة بأنواع الوسائل التي يقتضيها المقام ، كتعظيم اللّه سبحانه ، وتمجيده بأسمائه الحسنى ، والتملّق له بحمده وشكر نعمائه وإظهار المذلّة والخضوع لجنابه الأرفع قولا وفعلا ؛ بأن يجلس على الأرض ويعفّر وجهه بالتراب مثلا.
وربّما تقتضي أهمّيّة المطلوب أن يجمع معه المقرّبين ؛ لاحتمال أنّ للاجتماع مدخليّة في حصول الإجابة ، أو مبادرتها ، أو كونها تخصّ أحدهم لخصوصيّة هناك.
فحينئذ لا مانع من استسعاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بدعاء أهل بيته علیهم السلام ، واستعانته بهم في التأمين على دعائه ، وجعلهم واسطة بينه وبين ربّه ، وإن كان هو أقرب منهم إلى اللّه تعالى ، ولا سيّما إذا كان المراد - مع ذلك - إظهار فضلهم على سائر الأمّة من الأقارب والأباعد والأكابر والأصاغر.
فلا معنى لما زعمه الفضل من لزوم أنّهم أقرب إلى اللّه منه ، وليس هو معتقدا للمصنّف رحمه اللّه ، ولا يجوّزه أحد منّا ، ولكن يجوّزه بعض القوم كما عرفت (1) ، أنّ ابن حزم نقله عن الباقلّاني الأشعري ، وهو لازم مذهب الأشاعرة من نفي الحسن والقبح العقليّين.
ص: 76
وبالجملة : المباهلة إنّما تقع بين الخصمين ، ومن المعلوم أنّ خصم أهل نجران هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله خاصّة ، لكن لمّا كان إدخال عليّ وفاطمة والحسنين معه في المباهلة يشتمل على فوائد ، أدخلهم معه ..
الأولى : إظهار اعتماده على أنّه المحقّ ؛ فإنّ إدخال أعزّ الناس في محلّ الخطر دليل على ذلك ، وعلى اعتقاده بالنجاح والسلامة.
الثانية : الاستسعاد بهم والاستعانة بدعائهم ؛ ولذا أمرهم بالتأمين على دعائه ، ولا وجه لما قاله الفضل من أنّ سرّ طلب التأمين شمول البهلة لهم لا الاستعانة بدعائهم ؛ فإنّ خروجهم معه كاف في شمول البهلة لهم بلا حاجة إلى تأمينهم.
ولو كان التأمين هو السرّ في شمول البهلة لهم ، فمن أين علم شمولها لقوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأتباعه ، ولم يأخذهم معه ، وما أراد تأمينهم؟!
الثالثة : بيان فضلهم على الأمّة بإشراكهم معه كما أمر اللّه تعالى ، دون أقاربه وخاصّته ، في إثبات دعوى النبوّة بالمقام الشهير المشهود ؛ فإنّه منزلة عظمى ، لا سيّما لعليّ علیه السلام الذي عبّر اللّه سبحانه عنه بنفس النبيّ.
ودعوى أنّ عادة المباهلة أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده ، كاذبة - كما سبق في الآية السادسة (1) ، وإلّا لما خالفها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولاعترض عليه النصارى في المخالفة - ؛ كدعوى شمول البهلة للأتباع ، وإلّا لأدخل النبيّ صلی اللّه علیه و آله معه ولو واحدا منهم!
وكون وجوده هو الأصل والمدار فيستغني عن وجودهم ، وارد في المرأة والطفلين بالأولويّة ، فلم لا استغنى عنهم؟!
ص: 77
ومن المضحك قوله : « ليكون أهيب في عيون المباهلين » ، فإنّه لو كان الداعي لوجودهم هو الهيبة ، فلم خصّ شابّا وامرأة وطفلين ، وترك المشايخ الكبار ، والحفدة (1) ، والأنصار؟!
وقد مرّ في الآية السادسة ما يزيدك تحقيقا وبيانا للمطلوب (2).
ثمّ إنّ غاية ما قلنا هو استسعاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله واستعانته في الدعاء على المبطلين بمن طهّرهم اللّه عن الرجس تطهيرا ، وقد زعم القوم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بالدعاء لنفسه الشريفة بعمر بن الخطّاب ، وهو أعظم من الاستسعاد في الأوّل ، ولم يستنكره القوم ؛ لأنّه متعلّق بأوليائهم! ..
روى ابن حجر في « الصوّاعق » ، في فضائل عمر ، أنّ رسول اللّه قال له : « لا تنسنا يا أخي من دعائك ». (3)
وفي رواية أخرى قال له : « يا أخي أشركنا في صالح دعائك ، ولا تنسنا » (4).
بل رووا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بأبي بكر وعمر وعثمان في حفظ نفسه المقدّسة ، وجعلهم واسطة لسلامته! ..
ص: 78
روى البخاري وغيره ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله صعد إلى أحد ومعه هؤلاء القوم ، فرجف بهم ، فضربه برجله وقال : « أثبت! فما عليك إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد » (1) ، فإنّه دالّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بهم ، وجعلهم واسطة لحفظ نفسه وأنفسهم كما استسعد بنفسه لذلك ؛ وهو بالضرورة أعظم من جعل آل محمّد واسطة إلى لعن أهل نجران ؛ فتدبّر!
* * *
ص: 79
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
التاسع : في مسند أحمد من عدّة طرق ، وفي صحيح البخاري ومسلم من عدّة طرق ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا خرج إلى تبوك (2) استخلف عليّا في المدينة وعلى أهله ، فقال عليّ : ما كنت أوثر أن تخرج في وجه إلّا وأنا معك.
فقال : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟! (3).
ص: 80
ص: 81
وقال الفضل (1) :
هذا من روايات الصحاح ، وهذا لا يدلّ على النصّ كما ذكره العلماء (2).
ووجه الاستدلال به أنّه نفى النبوّة من عليّ ، وأثبت له كلّ شيء سواه ، ومن جملته الخلافة.
والجواب : إنّ هارون لم يكن خليفة موسى ؛ لأنّه مات قبل موسى ، بل المراد : استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك ، كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور ؛ لقوله تعالى : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (3).
وأيضا : يثبت به لأمير المؤمنين فضيلة الأخوّة والمؤازرة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تبليغ الرسالة وغيرها من الفضائل ، وهي مثبّتة يقينا لا شكّ فيه.
* * *
ص: 82
وأقول :
لا ريب أنّ الاستثناء دليل العموم (1) ، فتثبت لعليّ علیه السلام جميع منازل هارون الثابتة له في الآية سوى النبوّة.
ومن منازل هارون : الإمامة ؛ لأنّ المراد بالأمر في قوله تعالى : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (2) هو الأعمّ من النبوّة - التي هي التبليغ عن اللّه تعالى - ، ومن الإمامة - التي هي الرئاسة العامّة - ، فإنّهما أمران مختلفان ..
ولذا جعل اللّه سبحانه إبراهيم نبيّا وإماما بجعلين مستقلّين ، وكان كثير من الأنبياء غير أئمّة ، كمن كانوا بزمن إبراهيم وموسى ، فإنّهم أتباع لهما ، وخاضعون لسلطانهما.
ويشهد للحاظ الإمامة وإرادتها من الأمر في الآية ، الأخبار السابقة المتعلّقة بآخر الآيات التي ذكرناها في الخاتمة (3) ، المصرّحة - تلك - بأنّ
ص: 83
النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا فقال :
« اللّهمّ إنّي أسألك بما سألك أخي موسى ، أن تشرح لي صدري ، وأن تيسّر لي أمري ، وتحلّ عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري » (1).
فإنّ المراد هنا ب ( الإشراك في أمره ) هو : الإشراك بالإمامة ، لا الإشراك بالنبوّة ، كما هو ظاهر ، ولا المعاونة على تنفيذ ما بعث فيه ؛ لأنّه قد دعا له أوّلا بأن يكون وزيرا له.
وبالجملة : معنى الآية الكريمة : أشركه في أمانتي الشاملة لجهتي النبوّة والإمامة.
ولذا نقول : إن خلافة هارون لموسى لمّا ذهب إلى الطور ليست كخلافة سائر الناس ممّن لا حكم ولا رئاسة له ذاتا ، بل هي خلافة شريك لشريك أقوى ، ولذا لا يتصرّف بحضوره.
فكذا عليّ علیه السلام بحكم الحديث ؛ لدلالته على أنّ له جميع منازل هارون التي منها شركته لموسى في أمره سوى النبوّة ، فيكون عليّ إماما مع النبيّ في حياته ، كما أوضحناه عند الكلام على الأولى من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه (2) ، فلا بدّ أن تستمرّ إمامته إلى ما بعد وفاته ، ولا سيّما أنّ النظر في الحديث إلى ما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا ؛ ولذا قال :
ص: 84
« إلّا أنّه لا نبيّ بعدي »
ولو تنزّلنا عن ذلك فلا إشكال بأنّ من منازل هارون أن يكون خليفة لموسى لو بقي بعده ؛ لأنّ الشريك أولى الناس بخلافة شريكه ، فكذا يكون عليّ علیه السلام ، مع أنّ الآية الكريمة قاضية بفضل هارون على سائر قوم موسى ، فكذا عليّ بالنسبة إلى المسلمين ، فيكون إمامهم.
وقد علم على جميع الوجوه أنّه لا ينافي الاستدلال بالحديث على المدّعى موت هارون قبل موسى ، كما علم بطلان أن يكون المراد مجرّد استخلاف أمير المؤمنين في المدينة خاصّة ، فإنّ خصوص المورد لا يخصّص العموم الوارد ، ولا سيّما أنّ الاستخلاف بالمدينة ليس مختصّا بأمير المؤمنين علیه السلام ؛ لاستخلاف النبيّ صلی اللّه علیه و آله غيره بها في باقي الغزوات.
ومقتضى الحديث أنّ الاستخلاف منزلة خاصّة به ، كمنزلة هارون من موسى التي لم يستثن منها إلّا النبوّة ، فلا بدّ أن يكون المراد بالحديث إثبات تلك المنزلة العامّة له إلى ما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
واستدلّ الفضل على إرادة الاستخلاف بالمدينة خاصّة حين ذهاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك بقوله تعالى : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (1) ، وهو خطأ ظاهر ؛ لأنّ مجرّد وقوع الاستخلاف الخاصّ من موسى لا يدلّ على اختصاص خلافة هارون في ذلك المورد دون غيره ، فكذا استخلاف النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام ، بل العبرة بعموم الحديث ، مع اقتضاء شركة هارون لموسى في أمره ثبوت الخلافة العامّة ، فكذا عليّ علیه السلام .
ص: 85
ويدلّ على عدم إرادة ذلك الاستخلاف الخاصّ بخصوصه ، ورود الحديث في موارد لا دخل له بها ..
فمنها : ما سيجيء إن شاء اللّه تعالى من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله علّل تحليل المسجد لعليّ جنبا بأنّه منه بمنزلة هارون من موسى (1).
ومنها : ما رواه في « كنز العمّال » (2) ، عن أمّ سليم (3) ، أنّ
ص: 86
النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لها : « يا أمّ سليم! إنّ عليّا لحمه من لحمي ، ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى »
ومنها : ما رواه في « الكنز » أيضا (1) ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر قال : « كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول في عليّ ثلاث خصال ، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ؛ كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة ونفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والنبيّ متّكئ على عليّ حتّى ضرب على منكبه ، ثمّ
ص: 87
قال : أنت يا عليّ أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما.
ثمّ قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب [ عليّ ] من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ».
ومنها : ما في « الكنز » أيضا (1) ، عن زيد بن أبي أوفى ، في قصّة المؤاخاة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « والذي بعثني بالحقّ! ما أخّرتك إلّا لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنّه لا نبيّ بعدي ... » الحديث.
ومنها : ما رواه النسائي في « الخصائص » ، بالنسبة إلى ما يتعلّق ببنت حمزة ، حيث اختصم بتربيتها عليّ وجعفر وزيد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ! أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ... » (2) الحديث.
.. إلى غيرها من الموارد الكثيرة.
ويشهد أيضا لعموم المنزلة ما ورد أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سمّى الحسنين بالحسنين ، اقتفاء لهارون في تسمية ولديه بشبّر وشبير ، كما في « مسند أحمد » بموارد عديدة (3).
فإنّ ذلك ونحوه شاهد بأنّ عليّا علیه السلام شبيه بهارون بجميع المزايا ، وأنّ له خصائصه كلّها ، وأظهرها الإمامة ، بل يستفاد من حديث التسمية إمامة الحسنين أيضا ، كولدي هارون علیه السلام (4).
ص: 88
10 - حديث : إنّي دافع الراية غدا
قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :
العاشر : في مسند أحمد - من عدّة طرق - ، وصحيحي مسلم والبخاري - من طرق متعدّدة - ، وفي الجمع بين الصحاح الستّة أيضا ، عن عبد اللّه بن بريدة ، قال : سمعت أبي يقول : حاصرنا خيبر ، وأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ، ثمّ أخذه عمر من الغد فرجع ولم يفتح له ، وأصاب الناس يومئذ شدّة وجهد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي دافع الراية غدا إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتّى يفتح اللّه له ».
فبات الناس يتداولون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كلّهم يرجو أن يعطاها.
فقال : أين عليّ بن أبي طالب؟
فقالوا : إنّه أرمد العين!
ص: 89
فأرسل إليه ، فأتى ، فبصق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عينيه ، ودعا له فبرئ ، فأعطاه الراية ، ومضى عليّ ، فلم يرجع حتّى فتح اللّه على يديه (1).
ص: 90
وقال الفضل (1) :
حديث خيبر صحيح ، وهذا من الفضائل العليّة لأمير المؤمنين ، لا يكاد يشاركه فيها أحد ، وكم له من فضائل مثل هذا!
العجب أنّ كلّ هذه الفضائل يرويه من كتب أصحابنا ، ويعلم أنّهم في غاية الاهتمام بنشر مناقب أمير المؤمنين وفضائله ، وما هم كالروافض والشيعة في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة.
فلو كان هناك نصّ كانوا مهتمّين لنقله ونشره كاهتمامهم في نشر فضائله ومناقبه ؛ لخلوّهم عن الأغراض والإعراض عن الحقّ.
* * *
ص: 91
إذا حكم بصحّة الحديث لزم أن يحكم بأنّه منقصة للشيخين ، كما هو كمال وفضيلة لأمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ مدحه بهذا المدح - بعد انصرافهما باللواء - صريح بالتعريض بهما ، وأنهما ليسا على ذلك الوصف ، فهما لا يحبّان اللّه ورسوله ، ولا يحبّهما اللّه ورسوله ، وهما فرّاران غير كرّارين ، كما لا يخفى على من لحظ النظائر ، فإنّ من أرسل رسولا بمهمّة له ولم يقض المهمّة فقال : لأبعثنّ رسولا حازما يقضي المهمّ ، أحبّه ويحبّني ؛ دلّ على أنّ الرسول الأوّل ليس على هذا الوصف.
على أنّ وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمن يدفع إليه اللواء بأنّه يحبّ اللّه ورسوله ويحبّانه ، غير مرتبط في المقام إلّا من حيث بيان أنّ من يحبّ اللّه ورسوله لا بدّ أن يبذل نفسه في سبيلهما ولا يجبن عند الجهاد ، وأنّ من يحبّه اللّه ورسوله لا يعصيهما بالفرار من الزحف ، الذي هو من أكبر الذنوب وأسوأ المعاصي ، فينبغي أن لا يكون الرجلان بهذا الوصف الجميل.
وحينئذ : فإذا اختصّ عليّ علیه السلام دونهما بحبّه لله ورسوله ، وحبّهما له ، تعيّن للإمامة ؛ إذ كيف يكون إمام الأمّة وزعيم الدين من لا يحبّ اللّه ورسوله ، ولا يحبّانه ، فرّارا جبانا؟!
واعلم أنّ أخذ الشيخين للّواء وانصرافهما به غير موجود في الروايات التي رواها البخاري في غزوة خيبر ، ورواها مسلم في باب فضائل
ص: 92
عليّ علیه السلام (1).
فلعلّ نسبة المصنّف رحمه اللّه الحديث إليهما وإلى غيرهما باعتبار مجموعه ، وإن لم يرويا إلّا محاربة عليّ علیه السلام وقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه.
ويمكن أن يكون تمام الحديث مرويّا في مقامات أخر من الصحيحين لم أطّلع عليها ، أو يكون ما يتعلّق بالشيخين مسقطا من الحديث حفظا لشأنهما!
وممّا وجدته من الأحاديث المشتملة عليه ، ما رواه أحمد في مسنده (2) ، عن بريدة ، قال : « حاصرنا خيبر ، فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ، ثمّ أخذه عمر من الغد فخرج فرجع ولم يفتح له ، وأصاب الناس يومئذ شدّة وجهد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي دافع الراية غدا إلى رجل يحبّه اللّه ورسوله ، ويحبّ اللّه ورسوله ، لا يرجع حتّى يفتح له.
فبتنا طيّبة أنفسنا أنّ الفتح غدا ، فلمّا أن أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى الغداة ، ثمّ قام قائما فدعا باللواء والناس على مصافّهم ، فدعا عليّا وهو أرمد ، فتفل في عينه ودفع إليه اللواء وفتح له ».
ومنها : ما رواه أحمد أيضا (3) ، قال : « لمّا نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحصن أهل خيبر أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء عمر بن الخطّاب ، ونهض معه من نهض من المسلمين ، فلقوا أهل خيبر.
فقال رسول اللّه : لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ،
ص: 93
ويحبّه اللّه ورسوله.
فلمّا كان الغد دعا عليّا وهو أرمد ، فتفل في عينه وأعطاه اللواء ، ونهض الناس معه فلقي مرحب - إلى أن قال : - فضربه على هامته حتّى عضّ السيف منها بأضراسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته.
قال : وما تتامّ آخر الناس مع عليّ حتّى فتح له ».
ومنها : ما رواه الحاكم في كتاب المغازي من « المستدرك » (1) ، عن أبي ليلى ، عن عليّ علیه السلام ، أنّه قال : « يا أبا ليلى! أما كنت معنا بخيبر؟!
قال : بلى واللّه ، كنت معكم.
قال : فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر إلى خيبر فسار بالناس وانهزم حتّى رجع »
وروى الحاكم أيضا ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « سار النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر ، فلمّا أتاها بعث عمر وبعث معه الناس ... فقاتلوهم ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ، فجاؤوا يجبّنونه ويجبّنهم ... » (2) الحديث.
وروى الحاكم أيضا عن جابر نحو هذا (3) ، وصحّح الأحاديث كلّها ، وما تعقّب الذهبيّ إلّا الحديث الأخير بالمناقشة في سنده ، وهو غير ضائر كما مرّ مرارا ، لا سيّما مع ثبوت مضمونه بالصحاح الأخر.
ثمّ روى الحاكم ، عن جابر ، قال : لمّا كان يوم خيبر بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلا فجبن ، فجاء محمّد بن مسلمة فقال : يا رسول اللّه! لم أر كاليوم قطّ!!
ص: 94
إلى أن قال : ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأبعثنّ غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّانه ، لا يولّي الدبر ، يفتح اللّه على يديه.
فتشوّف (1) لها الناس ، وعليّ يومئذ أرمد ..
فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : سر.
فقال : يا رسول اللّه! ما أبصر موضعا!
فتفل في عينيه ، وعقد له ودفع إليه الراية - إلى أن قال : - فلقيهم ففتح اللّه عليه (2).
أقول : المراد بالرجل الذي جبن هو أبو بكر ، أو عمر ، بدلالة الأخبار الأخر ، على أنّ الفارّ هو أحدهما لا غيرهما!
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » (3) في فضائل عليّ علیه السلام ، عن ابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة ، والبزّار ، وابن جرير ، قال : وصحّحه ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي ، والضياء المقدسي في « المختارة » ، بأسانيدهم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال :
ص: 95
« كان عليّ يخرج في الشتاء في إزار ورداء ، ثوبين خفيفين ، وفي الصيف في القباء المحشوّ والثوب الثقيل ، فقال الناس : لو قلت لأبيك فإنّه يسمر معه ، فسألت أبي - إلى أن قال : - فسمر معه (1) ، فقال : يا أمير المؤمنين! إنّ الناس قد تفقّدوا منك شيئا - إلى أن قال : - قال : أوما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟!
قال : بلى واللّه ، كنت معكم.
قال : فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر فسار بالناس ، فانهزم حتّى رجع عليه (2) ، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، يفتح اللّه له ، ليس بفرّار.
فأرسل إليّ فدعاني فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئا ، فتفل في عيني وقال : اللّهمّ اكفه الحرّ والبرد ؛ فما آذاني بعده حرّ ولا برد ».
ونحوه في « خصائص » النسائي (3).
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » (4) في غزوة خيبر ، عن ابن أبي شيبة والبزّار - قال : وسنده حسن - ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « سار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر ، فلمّا أتاها بعث عمر ومعه الناس إلى مدينتهم [ والى قصرهم ] فقاتلوهم ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ، فجاء يجبّنهم ويجبّنونه ،
ص: 96
فساء ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : لأبعثنّ عليهم رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، يقاتلهم حتّى يفتح اللّه له ، ليس بفرّار .. » .. الحديث.
ونقل أيضا في المقام المذكور عن ابن جرير ، عن بريدة ، قال : « لمّا كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر فرجع ولم يفتح له ، فلمّا كان من الغد أخذ عمر اللواء ولم يفتح له ، وقتل ابن مسلمة ، ورجع الناس ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأدفعنّ لوائي هذا إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، لن يرجع حتّى يفتح عليه ... » (1) .. الحديث.
ونحوه في « خصائص » النسائي أيضا (2).
ونقل في « الكنز » أيضا ، عن ابن أبي شيبة ، عن بريدة ، قال : « لمّا نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحصن (3) خيبر فزع أهل خيبر ... فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمر بن الخطّاب بالناس ، فلقي أهل خيبر ، فردّوه وكشفوه هو وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأعطينّ اللواء غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله.
فلمّا كان الغد تصادر (4) لها أبو بكر وعمر ، فدعا عليّا وهو يومئذ
ص: 97
أرمد ، فتفل في عينه وأعطاه اللواء ، فانطلق بالناس فلقي أهل خيبر ولقي مرحبا - إلى أن قال : - فضربه عليّ ضربة على هامته بالسيف عضّ السيف منها بالأضراس ، وسمع صوت ضربته أهل العسكر ، فما تتام آخر الناس حتّى فتح لأوّلهم » (1).
ونحوه في « تاريخ الطبري » (2).
ومنها : ما أخرجه الطبري بعد الحديث المذكور ، عن بريدة ، قال : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ربّما أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، وإنّ أبا بكر أخذ راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ نهض فقاتل قتالا شديدا ، ثمّ رجع ؛ فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشدّ من القتال الأوّل ، ثمّ رجع.
فأخبر بذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أما واللّه لأعطينّها رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، يأخذها عنوة ».
... إلى أن قال : « وخرج مرحب ... فبدره عليّ فضربه ، فقدّ الحجر والمغفر ورأسه حتّى وقع في الأضراس ، وأخذ المدينة » (3).
ومثله في « كامل ابن الأثير » (4) ، إلّا أنّه قال في آخره : « فضربه فقدّ
ص: 98
الجحفة والمغفر ورأسه حتّى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة ».
.... إلى غير ذلك من الأخبار التي يطول ذكرها (1).
وليت شعري ما هذا القتال الشديد من الشيخين الذي لم يصب فيه أحد بكلم ، ولم يهرق فيه دم؟!
وأمّا ما ذكره الفضل من أنّ المصنّف رحمه اللّه يروي هذه الفضائل من كتبهم ، فمسلّم ؛ لأنّ المطلوب إلزامهم بما هو حجّة عليهم.
وليس ذكرهم لهذه الفضائل دليلا على اهتمامهم بنقل ما يروونه نصّا لو اطّلعوا عليه ، كما سبق بيانه في الآية الثانية والثمانين (2) ، وما رووا تلك الفضائل إلّا لزعمهم عدم دلالتها على إمامته ، لا لخلوّهم عن الأغراض!
ولذا لمّا نبّههم الشيعة على دلالتها على إمامته حذف المتأخّرون منهم ما يمكن حذفه من كتب المتقدّمين ، كحديث النور ونحوه من مسند أحمد (3) ، وأوّلوا كثيرا منها بما هو أشبه يشبه السوفساطائية ، وناقشوا في أسانيد الكثير منها مع تعدّد طرقها الكافي في اعتبارها ، على أنّهم قلّ ما يروون فضائله على وجهها ، ويوافون بالحقائق على حالها.
وأمّا قوله : « وما هم كالروافض والشيعة ، في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة ».
فلعمري لقد أراد أن يفضح فافتضح ؛ لأنّه يطلب منّا أن نكذّب مثلهم
ص: 99
ونحدّث بما لا أصل له ، ممّا أحدثه حبّ الدنيا ، وحدا إليه الرجاء والخوف في أيّام معاوية وأشباهه ، كما سبق في المقدّمة (1) ..
ويطلب منّا أن نروي ما يخالف العقل والدين ، كالأخبار القائلة : « إنّ أبا بكر وعمر لا يحبّان الباطل » ؛ الدالّة على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحبّه ، حيث غنّى له المغنّون والمغنّيات كما يروون (2) ..
وكالأخبار القائلة : « لو لم أبعث لبعث عمر » و « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر » (3) ، المستلزمة لجواز بعثة من سبق منه الكفر ..
وكروايات تبشير العشرة بالجنّة ، التي عرفت حالها في الآية الثانية والثلاثين (4) ..
وكرواية أنّ أبا بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة (5) ؛ مع أنّه لا كهول فيها (6) ..
وكرواية دعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمعاوية أن يجعله اللّه هاديا مهديّا (7) ،
ص: 100
مع ظهور الضلال على صفحات أفعاله وأقواله ، من قتله النفوس البريئة ، وحربه لمن حربه حرب لله ورسوله ، وسبّه لمن سبّه سبّهما ، وإلحاقه العهار بالنسب مراغمة للشريعة الأحمدية ... إلى نحو ذلك من أخبار فضائلهم.
* * *
ص: 101
وقال الفضل (1) :
إنّه صحّ هذا أيضا في الخبر ، وهذا أيضا من مناقبه وفضائله التي لا ينكرها إلّا سقيم الرأي ، ضعيف الإيمان ، ولكنّ الكلام على النصّ ، وهذا لا يثبته.
* * *
ص: 103
لمّا جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا كلّ الإيمان ، دلّ على أنّه قوامه ، وأنّه أفضل إيمانا وأثرا من جميع المؤمنين ؛ إذ لم يقم لهم إيمان لولاه ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
ويشهد لفضله عليهم في الأثر ما جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لضربة عليّ أفضل من عبادة الثقلين ، أو : لمبارزة عليّ لعمرو أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة ، كما سبق في الآية الحادية والخمسين (1).
وهذا ممّا يؤيّده قوله صلی اللّه علیه و آله : الساعي بالخير كفاعله (2)، ويقضي به العقل ؛ إذ بقتل أمير المؤمنين علیه السلام لعمرو خمدت جمرة الكفر ، وانكسرت عزيمة الشرك ، فكان هو السبب في بقاء الإيمان واستمراره ، وهو السبب في تمكين المؤمنين من عبادتهم إلى يوم الدين.
لكن هذا ببركة النبيّ الحميد ودعوته وجهاده في الدين ، فإنّ عليّا حسنة من حسناته ، فلا أفضل من سيّد الوصيّين إلّا سيّد المرسلين ، زاد اللّه في شرفهما ، وصلّى عليهما وعلى آلهما الطاهرين.
* * *
ص: 104
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الثاني عشر : في مسند أحمد من عدّة طرق ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ ، فتكلّم الناس ، فخطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أمّا بعد ، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ ، فقال فيه قائلكم ، [ وانّي ] واللّه ما سددت شيئا ولا فتحته ، وإنّما أمرت بشيء فاتّبعته (2).
* * *
ص: 105
وقال الفضل (1) :
كان المسجد في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله متّصلا ببيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان عليّ ساكن بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لمكان ابنته ، وكان الناس من أبوابهم في المسجد يتردّدون ويزاحمون المصلّين ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ.
وقد صحّ في الصحيحين أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بسدّ كلّ خوخة في المسجد إلّا خوخة أبي بكر (2) ، والخوخة : الباب الصغير (3) ، فهذا فضيلة وقرب حصل لأبي بكر وعليّ.
* * *
ص: 106
لا يخفى أنّ حقيقة الفضل في هذه الفضيلة ليس لمجرّد الاختصاص بعدم سدّ الباب ، بل لما يكشف عنه من طهارة عليّ علیه السلام ، وأنّه يحلّ له أن يجنب في المسجد ويمكث فيه جنبا ، ولا يكره له النوم فيه كما كان ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ فإنّ عمدة الغرض من سدّ الأبواب تنزيه المسجد عن الأدناس ، وتبعيده عن المكروهات والأمور البيتية.
وكان عليّ علیه السلام كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لا تؤثّر فيه الجنابة والنوم دنسا معنويا ، وكان بيت اللّه كبيته ؛ لكونه حبيبه القريب منه ، فاستثني كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لذلك ، كما ستعرفه.
وأمّا قوله : « كان عليّ ساكن بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... » إلى آخره.
فالظاهر أنّ غرضه به إنكار فضل أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ المستثنى حينئذ هو باب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ البيت له ؛ إذ لا يتعلّق في المقام بهذه المقدّمة فائدة سوى هذا الغرض السوء ، وإن ناقض نفسه بجعل الاستثناء فضيلة لعليّ علیه السلام يشارك بها أبا بكر ، فكان يلزمه أن يخصّ الفضيلة بأبي بكر وحده!
وفي كلا مقصديه ، من إنكار فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، وإثبات فضل أبي بكر نظر ..
أمّا الأوّل ؛ فلأنّ كون البيت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يمنع من اختصاص عليّ بباب منفرد ؛ كيف؟! وقد صرّحت الأخبار بأنّ الباب لعليّ ، حتّى تكلّم الناس في استثناء بابه ، ولو كان الباب للنبيّ صلی اللّه علیه و آله لما كان محلّ
ص: 107
لكلامهم فيه ، ولا لحسدهم لعليّ علیه السلام .
بل هذا ممّا يقرّب أنّ البيت - كالباب - مختصّ بعليّ علیه السلام ، إمّا ملكا كما هو الظاهر ، أو بالسكنى فقط والملكية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ وعليه ينبغي أن يقبضه أبو بكر كما قبض فدك ، فيتركهم بلا دار ولا عقار!
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الخوخة إذا كانت هي الباب الصغير ، كما يشهد له رواية البخاري للحديث في مناقب أبي بكر ، بلفظ : « الباب » بدل « الخوخة » (1) ، لزم كذب خبر استثناء باب أبي بكر ؛ لأنّه إذا أقرّ باستثناء باب عليّ علیه السلام وهو متقدّم زمانا - كما ستعرف - ، فلا بدّ من العمل بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا يبقى باب مفتوح سوى باب عليّ علیه السلام ، وحينئذ لم يكن محلّ للأمر بسدّ الأبواب واستثناء باب أبي بكر.
مضافا إلى اشتمال خبر استثناء باب أبي بكر على أمور تشهد بكذبه ، كما ستعرفها إن شاء اللّه تعالى عند ذكر الفضل له في مقدّمة مآخذ أبي بكر.
فإن قلت : ما الدليل على تقدّم استثناء باب عليّ علیه السلام ؟ فلم لم يكونا في وقت واحد ، أو في وقتين متقاربين ، بحيث يكون الاستثناء الأخير قبل سدّ جميع الأبواب ، وحينئذ فلا يلزم التعارض والكذب؟
قلت : استثناء باب أبي بكر كان في وقت قرب موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله على ما زعموا (2) ، واستثناء باب عليّ علیه السلام في أيّام حمزة كما صرح به بعض أخبارهم (3) ، ودلّ باقي الأخبار الآتية وغيرها على تقدّم زمانه.
ص: 108
مع أنّه لو كان زمانهما واحدا لقال : « سدّوا الأبواب إلّا باب عليّ وأبي بكر » ، ولاعتذر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن فتح باب أبي بكر كما اعتذر عن فتح باب عليّ علیه السلام !
ويشهد لكون الاستثناء من خواصّ عليّ علیه السلام ما رواه أحمد في مسنده (1) ، عن ابن عمر ، وصحّحه ابن حجر في « الصواعق » (2) ، قال :
« كنّا نقول في زمن النبيّ : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خير الناس ، ثمّ أبو بكر ، ثمّ عمر ؛ ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال ، لأنّ تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم : زوّجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنته وولدت له ، وسدّ الأبواب إلّا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر ».
فإنّه صريح بأنّ الاستثناء أحد خواصّه الثلاثة ، ولا سيّما بعد ذكر أبي بكر المتخيّر بينهم.
وقد تمنّى قبل ابن عمر أبوه إحدى هذه الخصال ، كما رواه الحاكم في « المستدرك » وصحّحه (3).
ونقله ابن حجر في « الصواعق » (4) ، عن أبي يعلى ، عن أبي هريرة ، عن عمر.
ص: 109
ونقله في « كنز العمّال » (1) ، عن ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر ، عن أبيه ، [ و ] (2) عن ابن أبي شيبة ، عن عليّ ، عن عمر ؛ قال فيه على الرواية الأخيرة : « وسكناه المسجد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، يحلّ له فيه ما يحلّ له » كما في لفظ رواية الحاكم أيضا (3) ، وقال في رواية أبي يعلى : « وسكناه المسجد ، لا يحلّ لي فيه ما يحلّ له » (4).
فلا ريب أنّ هذا من خواصّ أمير المؤمنين علیه السلام ؛ إذ لا يتصوّر أن يظهر من عمر وابنه اختصاص عليّ علیه السلام بهذا الأمر لو شاركه فيه أبو بكر ، الذي هو أساس شرفهم ، ومستند أمرهم ، والمتخيّر بينهم.
وقد تكلّف ابن عمر في تخيّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الناس ، حتّى على أبيه وصاحبه!
هذا ، مضافا إلى ضعف خبر استثناء خوخة أبي بكر ، لضعف سنده بجماعة ، منهم : فليح بن سليمان ، عدوّ آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الذي سبقت ترجمته في مقدّمة الكتاب (5).
ونزيدك هنا بيانا لحاله بذكر ما في « ميزان الاعتدال » و « تهذيب التهذيب » مضافا إلى ما تقدّم في المقدّمة ..
قالا : قال ابن معين مرّة : لا يحتجّ به.
ومرّة : ضعيف ، ما أقربه من أبي أويس.
ص: 110
وقال مرّة ، والنسائي وأبو حاتم : ليس بالقويّ.
وفي « التهذيب » أيضا : قال النسائي مرّة : ضعيف.
وقال ابن المديني : فليح وأخوه عبد الحميد ضعيفان (1).
وقد روى البخاري هذا الحديث أيضا في أواخر الجزء الثاني ، في باب هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه إلى المدينة (2) ، وفي سنده إسماعيل بن عبد اللّه ، الكذّاب الوضّاع ، كما عرفت بعض ترجمته في المقدّمة (3).
فإذا كان خبر استثناء باب أبي بكر بهذا الحال من الضعف ، لم يصلح للاحتجاج به على استثنائه ، فضلا عن أن يعارض به أخبار استثناء باب أمير المؤمنين المستفيضة أو المتواترة.
وأعجب من القول بمعارضته لها دعوى ابن الجوزي وضعها لأجله ، لكنّه ذكر منها ثمانية ، كما ستعرف (4).
وذكر السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ما يزيد على ثلاثين حديثا منها هذه الثمانية (5).
ولنذكر منها ما يدلّ على أنّ استثناء باب عليّ علیه السلام ؛ لطهارته وجواز أن يجنب في المسجد أو يمرّ فيه جنبا ، ولكونه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمنزلة
ص: 111
هارون من موسى ؛ لتعرف عدم صحّة استثناء باب أبي بكر.
فمنها : ما حكاه عن ابن حجر في « القول المسدّد » ، عن أحمد والنسائي ، بسنديهما عن ابن عبّاس ، قال في حديث سدّ الأبواب إلّا باب عليّ : « فكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق آخر ».
ثمّ قال ابن حجر : وأخرجه الكلاباذي في « معاني الأخبار » ، ثمّ ذكر له طريقا آخر.
وأخرجه ابن الجوزي في « الموضوعات » ، من طريق أبي نعيم ، ثمّ ذكر له طريقا آخر أيضا (1).
ومنها : ما حكاه عن ابن حجر أيضا ، عن الطبراني في « الكبير » ، بسنده عن جابر بن سمرة ، قال : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدّ الأبواب كلّها غير باب عليّ ، فقال العبّاس : يا رسول اللّه! قدر ما أدخل وحدي [ واخرج ]؟!
قال : ما أمرت بشيء من ذلك ؛ فسدّها [ كلّها ] غير باب عليّ.
قال : وربّما مرّ وهو جنب (2).
ومنها : ما حكاه عن أبي نعيم في « فضائل الصحابة » ، بسنده عن بريدة الأسلمي ، قال : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدّ الأبواب ، فشقّ ذلك على أصحابه ، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا الصلاة جامعة ، حتّى إذا
ص: 112
اجتمعوا صعد المنبر ، ولم نسمع لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحميدا وتعظيما في خطبة مثل يومئذ ، فقال :
أيّها الناس! ... ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها بل اللّه فتحها وسدّها.
ثمّ قرأ : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلأَوَحْيٌ يُوحى ) (1).
فقال رجل : دع لي كوّة تكون في المسجد؟
فأبى ، وترك باب عليّ مفتوحا ، فكان يدخل ويخرج منه وهو جنب (2).
ومنها : ما حكاه أيضا عن أبي نعيم في « الفضائل » ، بسنده عن ابن مسعود ، قال : « انتهى إلينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات ليلة ونحن في المسجد جماعة من الصحابة ، فينا أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وحمزة ، وطلحة ، والزبير ، وجماعة من الصحابة بعدما صلّيت العشاء ، فقال : ما هذه الجماعة؟!
قالوا : يا رسول اللّه قعدنا نتحدّث ، منّا من يريد الصلاة ، ومنّا من ينام.
فقال : إنّ مسجدي لا ينام فيه ، انصرفوا إلى منازلكم ، ومن أراد الصلاة فليصلّ في منزله راشدا ، ومن لم يستطع فلينم ، فإنّ صلاة السرّ تضعف على صلاة العلانية.
ص: 113
فقمنا فتفرّقنا وفينا عليّ بن أبي طالب ، فقام معنا ، فأخذ بيد عليّ وقال : أمّا أنت فإنّه يحلّ لك في مسجدي ما يحلّ لي ، ويحرم عليك ما يحرم عليّ.
فقال له حمزة بن عبد المطّلب : يا رسول اللّه! أنا عمّك ، وأنا أقرب إليك من عليّ.
قال : صدقت يا عمّ ، إنّه واللّه ما هو عنّي ، إنّما هو عن اللّه عزّ وجلّ » (1).
ومنها : ما حكاه عن ابن الجوزي في « الموضوعات » ، عن أبي نعيم (2) ، بسنده عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : إنّ موسى سأل ربّه أن يطهّر مسجده لهارون وذرّيّته ، وإنّي سألت اللّه أن يطهّر مسجدي لك ولذرّيّتك من بعدك.
ثمّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك ، فاسترجع ... وقال : سمعا وطاعة ؛ فسدّ بابه.
ثمّ [ أرسل ] إلى عمر ... كذلك.
ثمّ صعد المنبر فقال : ما أنا سددت أبوابكم ، ولا فتحت باب عليّ ، ولكنّ اللّه سدّ أبوابكم وفتح باب عليّ (3).
ص: 114
ومنها : ما حكاه أيضا عن ابن الجوزي ، عن ابن مردويه ، بسنده عن أبي سعيد ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : لا يحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك (1).
ثمّ حكاه السيوطي ، عن الترمذي ، وعن البيهقي في « سننه » من طريقين (2).
قال البيهقي (3) : وقد ورد من طرق.
ثمّ حكاه السيوطي ، عن البزّار ، بسنده عن سعد (4).
أقول : وقد وجدت الحديث في فضائل عليّ علیه السلام من سنن الترمذي وحسّنه (5).
ومنها : ما حكاه عن ابن منيع في « مسنده » ، عن جابر ، قال : جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونحن مضطجعون في المسجد ، فضربنا بعسيب (6) كان بيده رطبا وقال : ترقدون في المسجد؟! إنّه لا يرقد فيه!
ص: 115
فانجفلنا (1) وانجفل معنا عليّ ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا عليّ! إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي (2).
ومنها : ما حكاه عن ابن أبي شيبة ، بسنده عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها ، قالت : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ألا إنّ مسجدي حرام على كلّ حائض من النساء ، وكلّ جنب من الرجال ، إلّا على محمّد وأهل بيته : عليّ وفاطمة والحسن والحسين (3).
ويعضد هذه الأخبار ويفيد مفادها أخبار عديدة ، منها : حديث عمر السابق المروي بطرق كثيرة ، كما سمعت (4).
فظهر حلّيّة المسجد لعليّ علیه السلام جنابة ونوما ؛ وليس هو إلّا لطهارة نفسه القدسيّة طهارة لا يدنّسها ما يدنّس غيره ؛ فكيف يستثنى باب أبي بكر ، وهو من سائر الناس؟!
بل في بعض الأخبار أنّ عليّا علیه السلام مطهّر للمسجد ؛ ففي « كنز العمّال » (5) ، عن البزّار ، عن عليّ علیه السلام ، قال : أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدي فقال : إنّ موسى سأل ربّه أن يطهّر مسجده بهارون ، وإنّي سألت ربّي أن يطهّر مسجدي بك وبذريّتك.
ص: 116
ثمّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك ، فاسترجع ثمّ قال : سمعا وطاعة ؛ فسدّ بابه ، ثمّ أرسل إلى عمر ، ثمّ أرسل إلى العبّاس ، بمثل ذلك ، ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ، ولكنّ اللّه فتح باب عليّ وسدّ أبوابكم.
وبالجملة ، لا وجه لاستثناء باب أبي بكر ، وهو ليس ممّن طهّرهم اللّه من الرجس حتّى يحسن دخوله المسجد جنبا ، ولا هو من النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمنزلة هارون من موسى حتّى يجمل إلحاقه به.
فيكون ما دلّ على استثناء بابه باطلا ، ولا سيّما مع ضعفه سندا ، ومعارضته بالأخبار المصرّحة بسدّ بابه وباب من هو أولى منه بالرعاية والكرامة ، وهو حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ، والعبّاس عمّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، حتّى إنّ العبّاس طلب فتح بابه قدر ما يدخل وحده فمنعه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومنع حتّى الكوّة (1).
وبذلك علم فضل أمير المؤمنين علیه السلام على جميع الصحابة ، فيكون أولاها بالإمامة.
واعلم أنّه قد تضمّن كلام السيوطي في « اللآلئ » الجواب عن دعوى ابن الجوزي وضع الأحاديث الدالّة على استثناء باب عليّ علیه السلام ، وذكر في الأثناء ردّ ابن حجر لابن الجوزي ، فلنذكر ما بيّنه السيوطي ملخّصا ..
فإنّه نقل فيها عن ابن الجوزي في « الموضوعات » ثمانية أحاديث :
ص: 117
حديثان منها لأحمد في مسنده ، أحدهما عن سعد بن أبي وقّاص ، والآخر عن ابن عمر (1) ..
وحديثان للنسائي ، أحدهما عن سعد ، والآخر عن زيد بن أرقم (2) ..
وحديثان لأبي نعيم ، كلاهما عن ابن عبّاس (3) ..
وحديث للخطيب ، عن جابر بن عبد اللّه (4) ..
وحديث لابن مردويه ، عن أبي سعيد (5).
وقد زعم ابن الجوزي أنّ هذه الأحاديث جميعا باطلة موضوعة ، قال : « هي من وضع الرافضة ، قابلوا بها حديث أبي بكر في الصحيح » (6).
ثمّ نقل السيوطي عن ابن حجر في « القول المسدّد في الذبّ عن مسند أحمد » أنّه قال : « قول ابن الجوزي في الحديث إنّه باطل [ وانّه ] موضوع ، دعوى لم يستدل عليها إلّا بمخالفة الحديث الذي في الصحيحين ، وهذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجرّد التوهّم ».
ثمّ قال : « وهذا الحديث مشهور ، له طرق متعدّدة ، كلّ طريق منها
ص: 118
على انفراده لا يقصر عن رتبة الحسن ، ومجموعها ممّا يقطع بصحّته على طريقة كثير من أهل الحديث » (1).
ثمّ نقل ابن حجر عن البزّار أنّ الروايات فيه جاءت من وجوه بأسانيد حسان (2).
ثمّ ذكر ابن حجر جملة أخرى من طرق الحديث ، تزيد على الطرق التي ذكرها ابن الجوزي ، وقد صحّح هو بعضها (3) ، وصحّح الحاكم بعضها (4) ، وروى أحمد بعضها (5) ، والضياء في « المختارة » (6) ، وغيرهم من عظماء علمائهم (7).
وفي أثناء ذلك تعرّض للجواب عن طعن ابن الجوزي في أسانيد الأخبار التي ذكرها وخطّأه في ما أعلّها به ، وذكر أنّ بعضا من رجال هذه الأسانيد قد صحّح له الترمذي ، ووثقه غير واحد ، وبعضهم من رجال مسلم (8).
ثمّ قال : « فهذه الطرق المتضافرة بروايات الثقات تدلّ على أنّ
ص: 119
الحديث صحيح » (1).
إلى أن قال : « ولو فتح هذا الباب لردّ الأحاديث لأدّعى (2) في كثير من الأحاديث الصحيحة البطلان ، ولكن يأبى اللّه ذلك والمؤمنون » (3).
ثمّ ذكر السيوطي بعد انتهاء هذا الكلام من ابن حجر سبعة طرق أخر للحديث ، ثمّ نقل بعدها حديث ابن مردويه الذي ذكره ابن الجوزي في « الموضوعات » (4) الذي أشرنا إليه (5).
ثمّ أورد له ثمانية طرق أخر ، فكان جميع طرق الحديث في « اللآلئ المصنوعة » ما يناهز الأربعين طريقا ، مسندة إلى جماعة من الصحابة ، منهم : أمير المؤمنين علیه السلام ، وابن عبّاس ، وسعد بن أبي وقّاص ، وزيد بن أرقم ، وجابر بن عبد اللّه ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو سعيد ، وأنس ابن مالك ، وبريدة الأسلمي ، وجابر بن سمرة ، وأمّ سلمة ، وعائشة (6) ...
مضافا إلى البراء بن عازب ، وحذيفة بن أسيد ، على ما في حديث ابن المغازلي ، المشتمل سنده عليهما وعلى جماعة آخرين ممّن عرفت ، وقد ذكره في الباب السابع عشر من « ينابيع المودّة » مع عدّة أخبار ، ومضافا إلى عمر ، كما سمعته في رواية الحاكم وغيره من طرق مرويّة عنه (7).
ص: 120
ولنعيّن لك صفحات روايات أحمد في مسنده ؛ لترجع إليها عند الحاجة ، فإنّه روى :
حديث سعد ، صفحة 175 من الجزء الأوّل ..
وحديث ابن عبّاس ، صفحة 331 من الجزء الأوّل أيضا ...
وحديث ابن عمر ، صفحة 26 من الجزء الثاني ..
وحديث زيد بن أرقم ، صفحة 369 من الجزء الرابع ..
ولعلّه لأحمد أحاديث أخر.
فأنت ترى أنّ طرق الحديث مستفيضة أو متواترة ، ولا سيّما بضميمة أخبارنا ، وقد صحّح القوم جملة من أحاديثهم كما عرفت ، حتّى صحّح الحاكم في « المستدرك » طريقين منها (1) ، وأقرّه الذهبي - مع ما تعلمه من حاله - على صحّة حديث زيد بن أرقم ، الذي رواه مع حديث عمر ، صفحة 125 من الجزء الثالث (2).
فمع هذا كلّه ، كيف يجوز لابن الجوزي دعوى الوضع لمجرّد رواية الصحيحين لحديث استثناء باب أبي بكر ، وهو أقرب إلى الوضع ؛ لأنّه من حديث المتّهمين والنصّاب ، مع ضعف رجال سنده كما عرفت (3) ، وعدم تعدّد طرقه؟! ولكن لا حيلة مع التعصّب ومجانبة الإنصاف!!
* * *
ص: 121
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الثالث عشر : في مسند أحمد بن حنبل ، من عدّة طرق ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله آخى بين الناس وترك عليّا حتّى بقي آخرهم لا يرى له أخا ، فقال : يا رسول اللّه! آخيت بين أصحابك وتركتني؟!
فقال : « إنّما تركتك لنفسي ، أنت أخي وأنا أخوك ، فإن ذكرك أحد فقل : أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يدّعيها بعدك إلّا كذّاب.
والذي بعثني بالحقّ ، ما أخّرتك إلّا لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ، ووارثي » (2).
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « مكتوب على باب الجنّة : محمّد رسول اللّه ، عليّ أخو رسول اللّه ،
ص: 122
وقال الفضل (1) :
حديث المؤاخاة مشهور معتبر معوّل عليه ، ولا شكّ أنّ عليّا أخ (2) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومحبّه وحبيبه ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شديد الحبّ له ، وهذا كلّه يؤخذ من صحاحنا ومن مذهبنا ، ولكن لا يدلّ على النصّ ؛ لأنّ أبا بكر كان خليل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ووزيره وقرينه ، وله أيضا من الفضائل ما لا يعدّ ولا يحصى ، والكلام ليس في عدّ الفضائل وإثباتها ، بل وجود النصّ.
* * *
ص: 124
نقل في « ينابيع المودّة » ، في الباب التاسع ، حديث المؤاخاة عن أحمد في مسنده ، عن زيد بن أبي أوفى (1).
كما نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن « المسند » أيضا (2).
وقد سبق ذكره في الآية الثانية والثلاثين ، وأنّ ابن تيميّة زعم أنّه من زيادات القطيعي (3).
وسبق أنّه قد نقله في « كنز العمّال » و « تذكرة الخواصّ » ، عن أحمد في « الفضائل » (4).
ثمّ حكى في « الينابيع » أيضا ، عن أحمد في « مسنده » ، عن حذيفة ابن اليمان ، قال : « آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين المهاجرين والأنصار ، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، ثمّ أخذ بيد عليّ علیه السلام ، فقال : هذا أخي » (5).
وحكى أيضا عن عبد اللّه بن أحمد في « زوائد المسند » ثمانية أحاديث في مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام (6).
ص: 125
فيمكن أن يكون المصنّف رحمه اللّه أشار إلى هذه الأحاديث بقوله : « من عدّة طرق » ، وكأنّ القوم قد تعلّلوا لحذفها من « المسند » في الطبع ، بدعوى أنّها من الزيادات ، فإنّي لم أعثر على شيء منها!
وروى الترمذي حديث المؤاخاة في فضائل عليّ علیه السلام من « سننه » ، عن ابن عمر ، وحسّنه ، ثمّ قال : وفيه عن زيد بن أبي أوفى (1).
ورواه في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، عن أبي الطفيل ، قال : « لمّا احتضر عمر جعلها شورى بين عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن ، وسعد ، فقال لهم عليّ : أنشدكم اللّه هل فيكم أحد آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينه وبينه - إذ آخى بين المسلمين - غيري؟!
قالوا : اللّهمّ لا ».
ثمّ قال : « وروينا من وجوه عن عليّ أنّه كان يقول : أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يقولها أحد غيري إلّا كذّاب ».
ثمّ قال : « قال أبو عمر (2) : آخى رسول اللّه بين المهاجرين [ بمكّة ] ، ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار [ بالمدينة ] ، وقال في كلّ واحدة منهما لعليّ : أنت أخي في الدنيا والآخرة ؛ وآخى بينه وبين نفسه ؛ فلذلك كان هذا القول وما أشبهه من عليّ ».
انتهى ما في « الاستيعاب » (3).
ص: 126
وروى الحاكم حديث المؤاخاة في « المستدرك » ، في كتاب الهجرة ، من طرق ، عن ابن عمر (1)
وحكى في « كنز العمّال » (2) ، عن الخلعي ، والبيهقي في « سننه » (3) ، والضياء في « المختارة » ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين عمر وأبي بكر ، وبين حمزة بن عبد المطّلب وزيد بن حارثة - إلى أن قال : - وبيني وبين نفسه »
وحكى في « الكنز » أيضا (4) ، عن أبي يعلى في « مسنده » (5) ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين الناس وتركني - إلى أن قال : - قال : إنّما تركتك لنفسي ، أنت أخي وأنا أخوك ، فإن حاجّك أحد فقل : إنّي عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يدّعيها أحد بعدك إلّا كذّاب ».
وحكى في « الكنز » أيضا نحوه (6) ، عن ابن عديّ ، بسنده عن يعلى ابن مرّة.
وحكى فيه أيضا ، عن الطبراني ، عن ابن عبّاس : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام : « أغضبت [ عليّ ] حين واخيت بين المهاجرين والأنصار ، ولم أواخ بينك وبين أحد منهم؟!
ص: 127
أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟!
ألا من أحبّك حفّ بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة الجاهلية » (1).
وحكى أيضا حديث المؤاخاة بين النبيّ وعليّ ، عن ابن عساكر ، عن أبي رافع ، عن أبي أمامة (2).
ونقل سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ثلاث روايات في المؤاخاة ، عن أحمد في « الفضائل » ، كما هي عادته في النقل عنها ، وأثبت وثاقتها ، ونقل أيضا عن أحمد ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن « الجمع بين الصحاح » (3).
وحكى في « ينابيع المودّة » ، في الباب التاسع ، عن ابن المغازلي ، أنّه أخرج ستّة أحاديث في المؤاخاة ، وعن أخطب خوارزم اثني (4) عشر حديثا ، وعن الحمويني حديثين ، بأسانيدهم عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، وحذيفة ، وأنس ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن أبي أوفى ، وأبي أمامة ، وغيرهم (5).
ص: 128
وقد مرّ في الآية الثالثة والعشرين الأحاديث في قول أمير المؤمنين : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله » (1).
ونقل في « كنز العمّال » (2) ، عن العدني ، عن أبي يحيى ، قال : سمعت عليّا يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يقولها أحد بعدي إلّا كاذب » ؛ فقالها رجل فأصابته جنّة
ويشهد لصحّة أخبار المؤاخاة بين المهاجرين ، ما رواه البخاري في باب « كيف يكتب : هذا ما صالح فلان بن فلان » ، من كتاب « الصلح » (3).
وفي باب « عمرة القضاء » ، من كتاب « المغازي » ، أنّه اختصم عليّ وجعفر وزيد بن حارثة في كفالة ابنة حمزة لمّا تبعت النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتناولها عليّ علیه السلام ؛ فقال عليّ علیه السلام : أنا أخذتها ، وهي بنت عمّي.
وقال جعفر : هي ابنة عمّي ، وخالتها تحتي.
وقال زيد : ابنة أخي (4).
ومثله في « مستدرك » الحاكم (5).
إذ لا معنى لقول زيد : « ابنة أخي » ومنازعته لأمير المؤمنين وجعفر ،
ص: 129
وهما هما مع رحمهما الماسّة بابنة عمّهما لو لا المؤاخاة التي عقدها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين حمزة وزيد ، وهما مهاجريّان (1).
لكنّ ابن تيميّة أنكر المؤاخاة بين المهاجرين ، وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين (2) ، قال : لأنّ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لإرفاق بعضهم ببعض ، ولتأليف قلوب بعضهم ببعض ، فلا معنى لمؤاخاة مهاجريّ لمهاجريّ (3).
وفيه : إنّ الإرفاق والتأليف أيضا مطلوبان بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، مع اشتمال المؤاخاة على حكم كثيرة أخر.
قال في « السيرة » (4) : « قال الحافظ ابن حجر : وهذا ردّ للنصّ بالقياس ، وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة ، فآخى بين الأعلى والأدنى ، ليرتفق الأدنى بالأعلى ، وليستعين الأعلى بالأدنى.
ولهذا تظهر مؤاخاته صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام ؛ لأنّه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة (5).
وفي ( الصحيح ) ، في عمرة القضاء ، أنّ زيد بن حارثة قال : ( إنّ بنت حمزة بنت أخي ) ؛ أي بسبب المؤاخاة (6) » ؛ انتهى.
ص: 130
وهو كلام حسن ، سوى إنّ مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ ليست للارتزاق ؛ لغنى عليّ علیه السلام حينئذ بالغنائم وغيرها ، وبلوغه منزلة يعول بها ولا يعال به.
وإنّما الغرض من مؤاخاته لعليّ تعريف منزلته ، وبيان فضله على غيره ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، كما دلّ عليه بعض الأخبار (1) ؛ لأنّ ذلك أقرب إلى التعاون والتعاضد ، وأوجب للتأليف ، فيكون أمير المؤمنين علیه السلام هو النظير لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
كما جعلته آية المباهلة نفسه ؛ وذلك رمز لإمامته ؛ ولذا احتجّ به أمير المؤمنين يوم الشورى (2).
كما أشار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - أيضا - إلى ذلك بقوله في كثير من هذه الأحاديث : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ».
وقوله : أنت أخي ووارثي ؛ فقال عليّ : وما أرث منك؟ قال : ما ورّث الأنبياء قبلي ؛ قال : وما ورّثوا؟ قال : كتاب اللّه وسنن أنبيائه ؛ كما سبق في الآية الثانية والثلاثين (3).
فإنّ عليّا علیه السلام إذا ورث مواريث الأنبياء كان من خلفائهم وإمام الأمّة ؛ إذ ليس الإمام إلّا من كان كذلك.
ويشهد لذلك وصف عليّ علیه السلام بالأخوّة في عرض وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالرسالة ، في ما هو مكتوب على باب الجنّة ، كما في الخبر
ص: 131
الذي نقله المصنّف رحمه اللّه عن « الجمع بين الصحاح » (1) ، ونقلناه عن « تذكرة الخواصّ » (2) ، ونقله في « كنز العمّال » عن الطبراني والخطيب (3) ، وعن ابن عساكر (4) ، بأسانيدهم عن جابر (5).
وأمّا مناظرة الفضل للحديث بأنّ أبا بكر خليل رسول اللّه ووزيره وقرينه ، فمن مقاومة حجّتنا عليهم بما ليس حجّة علينا.
والظاهر ، أنّه أشار بقوله : « خليل رسول اللّه » إلى ما رووه من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا » (6).
وأنت ترى أنّه نفي للخلّة (7) لا إثبات لها.
نعم ، فيه خلّة فرضية لا تساوي الأخوّة الفعليّة ، مع أنّ الأخوّة فوق الخلّة.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما على هذا الخبر من دلائل أنّه من الموضوعات.
ص: 132
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابع عشر : من مسند أحمد بن حنبل ، وفي الصحاح الستّة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، من عدّة طرق : « إنّ عليّا منّي وأنا من عليّ ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ، لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ » (2).
وفيه أيضا : لمّا قتل عليّ أصحاب الألوية يوم أحد قال جبرئيل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ هذه [ لهي ] (3) المواساة.
ص: 133
فقال : النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ عليّا منّي وأنا منه ».
فقال جبرئيل : وأنا منكما يا رسول اللّه (1).
* * *
ص: 134
وقال الفضل (1) :
إتّصال النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعليّ في النسب ، وأخوّة الإسلام ، والنصرة ، والمؤازرة ، غير خفيّ على أحد ، ولا دلالة على النصّ بخلافته ؛ لأنّ مثل هذا الكلام قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لغير عليّ ، كما ذكر أنّه قال : « الأشعريّون إذا قحطوا أرملوا (2) ، أنا منهم وهم منّي » (3).
ولا شكّ أنّ الأشعريّين بهذا الكلام لم يصيروا خلفاء ، فلا يكون هذا نصّا.
* * *
ص: 135
روى البخاري والحاكم في « المستدرك » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « أنت منّي وأنا منك » (1)، وذلك في قصّة مخاصمة أمير المؤمنين وجعفر وزيد في ابنة حمزة ، كما أشرنا إليها في المبحث السابق (2).
وروى الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عمران بن حصين - وصحّحه على شرط مسلم - ، قال عمران ما حاصله : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استعمل عليّا على سريّة ، فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، فتعاقد أربعة أن يخبروا النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأخبره أحدهم ، فأعرض عنه ، وكذلك الثاني والثالث.
ثمّ قام الرابع فأخبره ، فأقبل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والغضب في وجهه فقال : « ما تريدون من عليّ؟! إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن ».
ونحوه في « سنن الترمذي » ، في مناقب عليّ علیه السلام (4).
وفي « مسند أحمد » (5) و « كنز العمّال » (6) ، نقلا عن ابن أبي شيبة ،
ص: 136
جميعا عن عمران (1).
وفي رواية أخرى لأحمد (2) ، ولابن أبي شيبة ، كما في « الكنز » (3) ، كلاهما عن بريدة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لا تقع في عليّ علیه السلام ، فإنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي ».
وفي حديث آخر لابن أبي شيبة ، كما في « الكنز » (4) ، عن عمران ، - وقال : صحيح - : « عليّ منّي وأنا من عليّ ، وعليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي ».
وقد سبق في الحديث السادس أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « عليّ منّي وأنا منه ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ » (5).
رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة (6).
ودلالة الجميع على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ظاهرة ؛ لأنّ جعل كلّ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام بعضا من الآخر دليل على اتّحادهما بالمزايا والفضل والإمامة.
كما يشهد له مضيّ فعل عليّ علیه السلام في اصطفاء الجارية من السبي ، كما مرّ في رواية عمران وبريدة.
ص: 137
وبهذا يعلم أنّه أراد الإمامة بقوله : « هو وليّ كلّ مؤمن » ؛ إذ لا يصلح إرادة غيرها في المقام.
وبالجملة ، قد دلّت هذه الروايات على صحّة اصطفاء أمير المؤمنين للجارية ، ومضيّ فعله ؛ لأنّه من رسول اللّه ورسول اللّه منه ، فيفهم منها أنّه إمام فعلا.
بل يفهم من مجرّد قوله : « هو منّي وأنا منه » ، أنّه بمنزلته فعلا ، فيكون إماما فعليّا.
ولا ينافيه التقييد بالبعديّة في بعض الأخبار المذكورة ؛ لأنّ المراد بها التأخّر في الرتبة ، والإشارة إلى قيامه بعده بتمام شؤون الإمامة ، كما سبق تحقيقه في الآية الأولى من الآيات التي استدلّ بها المصنّف رحمه اللّه على الإمامة (1).
وأمّا معارضة الفضل بما ورد عندهم في شأن الأشعريّين ، ففي غير محلّها ؛ لأنّه من حديث المخالفين ، وهو ليس حجّة علينا ..
مع أنّه من رواية أبي موسى الأشعري ، وهو محلّ التهمة ، ومنافق ؛ لبغضه عليّا (2) ، والمنافق أعظم الفاسقين ، فلا تقبل روايته لو صحّ السند
ص: 138
إليه.
ولو سلّم قبولها ، فاستعمال التبعيض في حديث الأشعريّين - بغير الإمامة ، بقرينة المقام وغيره - لا يستلزم مثله في ما نحن فيه ، الذي عرفت ظهوره في الاتّحاد بالفضل والمنزلة ؛ ولذا اقتضى قوله صلی اللّه علیه و آله في قصّة براءة : « لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي » انعزال أبي بكر ، والحال أنّه ليس دون الأشعريّين عند القوم.
وممّا بيّنّا يعلم وجه الاستدلال بقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله لجبرئيل : « إنّ
ص: 139
عليّا منّي وأنا منه » ؛ لدلالته على أنّه نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فله منزلته وفضله ، وقد كرّم جبرئيل نفسه يجعلها بعضا منهما.
وقد روى هذا الحديث المصنّف رحمه اللّه عن « مسند أحمد » في ظاهر كلامه (1).
وحكاه في « كنز العمّال » (2) ، عن الطبراني ، عن رافع بن خديج.
ورواه الطبري في « تاريخه » (3) ، وذكر فيه قتل عليّ علیه السلام لأصحاب الألوية ، وتفريقه لمن أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من جماعات المشركين ، وقتله لبعضهم.
ومثله في « كامل » ابن الأثير (4).
ونحوه في « شرح النهج » لابن أبي الحديد (5) ، نقلا عن غلام ثعلب (6) ، ومحمّد بن حبيب في « أماليه » ، وجماعة من المحدّثين ، وقال :
ص: 140
« هو من الأخبار المشهورة ».
* * *
ص: 141
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الخامس عشر : في مسند أحمد بن حنبل ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « إنّ فيك مثلا من عيسى ، أبغضه اليهود حتّى اتّهموا أمّه ، وأحبّه النصارى حتّى أنزلوه المنزل الذي ليس له بأهل » (2)
وقد صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ الخوارج أبغضوا عليّا علیه السلام ، والنصيريّة (3) اعتقدوا فيه الربوبيّة.
ص: 142
وقال الفضل (1) :
الحمد لله الذي جعل أهل السنّة معتدلين بين الفريقين ؛ من المفرطة في حبّ عليّ ، كالنصيرية التي يدّعون ربوبيته ، وكالإماميّة التي يدّعون أنّ أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله كفروا كلّهم لمخالفة النصّ في شأنه ؛ ومن المفرطة في بغضه كالخوارج المبغضة.
وأمّا أهل السنّة والجماعة - بحمد اللّه - فيحبّونه حبّا شديدا ، وينزلونه في منزلته التي هو أهل لها ، من كونه وصيّا ، وخليفة من الخلفاء الأربع ، وصاحب ودائع العلم والمعرفة.
* * *
ص: 143
هذا الحديث كما هو مذكور في مسند أحمد ، مذكور في مستدرك الحاكم ، وخصائص النسائي ، وغيرها ، كما سبق في الآية الثانية والستّين (1).
وبمعناه ما في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، أنّه قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « تفترق فيك أمّتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسى » (2).
ولا ريب أنّ إنزال النصارى لعيسى بغير منزلته إنّما هو لاتّخاذهم له إلها.
وبمقتضى التمثيل يكون إنزال عليّ علیه السلام بغير منزلته هو اتّخاذه إلها كعيسى ، كما فعل النصيرية وغيرهم من الغلاة ، فلا يدخل الإماميّة في من أنزله بغير منزلته ؛ لأنّهم يقولون : إنّه عبد من عبيد اللّه تعالى ، أكرمه بالخلافة بالنصّ عليه.
وحينئذ ، فينحصر أمر الإماميّة بين أن يكونوا ممّن أبغضه ، ولا سبيل إليه بالضرورة ؛ وبين أن يكونوا من النمط الأوسط والمحقّ ، وهو المطلوب.
ص: 144
كما ينحصر أهل السنّة بين هذين ، والمتعيّن فيهم الأوّل ؛ لأنّ النمط الأوسط لا يمكن أن يجمع الفريقين المتباينين ، ولأنّ أهل السنّة اجتهدوا في تأخيره عمّن لا يقاس به علما وعملا ، ولا يلتفتون إلى آية تدلّهم على منزلته ، ولا إلى سنّة ترشدهم إلى فضله وعلوّ محلّه ، بل يحتالون إلى نفي النصوصيّة بالأوهام والشبه البعيدة ، ويتناولون الأسانيد القويّة الكثيرة بالتضعيف بكلّ وسيلة ، بعكس ما يرد عندهم في حقّ مشايخهم!
فلا بدّ أن يكون من قال : « إنّ عليّا هو الخليفة الأوّل » محقّا ناجيا ، ومن قال : « إنّه رعيّة لغيره » مبطلا هالكا ؛ وبه يتمّ إثبات إمامته وخلافته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا فصل.
وقد سبق في الآية الثانية والستّين دلالة ذلك على إمامته بوجوه أخر ؛ فراجع (1).
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ الإماميّة يكفّرون أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله ..
فإن أراد به أنّهم يقولون بشركهم أو إنكارهم الرسالة ، فباطل ..
وإن أراد أنّهم يقولون : إنّ أكثر الصحابة خالفوا نصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله على عليّ ، وألغوا أمر اللّه تعالى وأمر رسوله صلی اللّه علیه و آله في حقّه ، فصحيح ؛ لأنّ الإمامة عندنا أصل من أصول الدين ، ومن لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية ، كما مرّ تحقيقه في أوّل مباحث الإمامة (2) ..
ص: 145
وقد أشار اللّه تعالى إلى ذلك بقوله : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1) ، وصرّحت به السنّة المستفيضة ، كأخبار الحوض ، التي منها ما رواه البخاري في « باب الحوض » ، من أنّ الأصحاب ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النّعم (2) ، كما مرّ (3) ويأتي إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا ما زعمه من أنّ أهل السنّة يحبّون عليّا حبّا شديدا ، فلا نعرف منه إلّا الدعوى ، ولو كشف اللّه سبحانه حجاب ضمائرهم لعرفت أنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ..
بل الوجدان يشهد بخلافه ، فهذه أقلامهم عند تلاوة آيات فضله ، وهذه أرقامهم (4) عند سماع نصوص إمامته ، وهذا ولاؤهم لأظهر مبغضيه وأعدائه ، كمعاوية وأشباهه ..
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني
صديقك إنّ الرأي عنك لعازب (5)
ص: 146
إذا عرف صحّة هذا الحديث ، وصدّق بحمد اللّه على حبّه ، فما باله والى أشدّ أعدائه وأكبر مبغضيه ، كمعاوية وابن العاص ومروان ، وأشباههم ، ولم يحكم عليهم بالنفاق ، مع اتّضاح حالهم في بغض أمير المؤمنين واستمرارهم على عداوته وسبّه؟!
بل يلزمه أن لا يوالي عائشة ، بل يصفها بالنفاق ، لعلمه بعداوتها له ، واستدامتها على بغضه! ..
ففي « مسند أحمد » (1) عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن عائشة ، قالت :
لمّا مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيت ميمونة ، فاستأذن نساءه أن يمرّض في بيتي ، فأذنّ له ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معتمدا على العبّاس وعلى رجل آخر ، ورجلاه تخطّان في الأرض.
وقال عبيد اللّه : فقال ابن عبّاس : أتدري من ذلك الرجل؟! هو عليّ ابن أبي طالب ، ولكنّ عائشة لا تطيب لها نفسا.
ورواه أيضا في مقام آخر (2).
ص: 149
فهل ترى أشدّ في البغض من أن لا تطيب نفس الشخص أن يتلفّظ باسم عدوّه؟!
ورواه الطبري في « تاريخه » (1) ، وفيه : « ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير ، وهي تستطيع »!
وهو أصرح في الدلالة على بغضها لإمام المتّقين ونفس النبيّ الأمين.
ورواه البخاري في « باب الغسل والوضوء في المخضب » من كتاب الوضوء (2) ..
وفي « باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة » من كتاب الأذان (3) ..
وفي « باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها » من كتاب الهبة (4) ..
وفي « باب مرض النبيّ صلی اللّه علیه و آله » في أواخر كتاب المغازي (5).
وفي كلّها لم تسمّ الرجل الآخر ، وإنّما سمّاه ابن عبّاس.
ولم يرو البخاري تتمّة كلام ابن عبّاس ؛ رعاية لشأن عائشة! ولم يدر أنّ تركها لاسم أمير المؤمنين مع ذكر اسم عديله كاف في الدلالة على بغضها له!!
وروى أحمد أيضا (6) ، عن عطاء بن يسار ، قال : جاء رجل فوقع في
ص: 150
عليّ وعمّار عند عائشة ، فقالت : أمّا عليّ فلست قائلة لك فيه شيئا! وأمّا عمّار ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا يخيّر بين أمرين إلّا اختار أرشدهما.
.. إلى غير ذلك من الأخبار الكاشفة عن بغضها له ، وإن كان لا حاجة في بيان عداوتها وبغضها له إلى دليل.
وأعظم من ذلك حربها له ، وهي تعلم أنّ حربه حرب لرسول اللّه (1) ، مقدمة على قتله لو قدرت ، وهي تدري أنّه أخو رسول اللّه ونفسه.
وعلى هذه فقس ما سواها ، إذ لم تأت ذلك عنوة بل ورثته عن أسلافها!
وأمّا وجه الدلالة في الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه ونحوه على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد تقدّم في أوّل مباحث الإمامة ، وفي الآية الثانية عشرة (2).
* * *
ص: 151
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
السابع عشر : في مسند أحمد بن حنبل ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.
فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول اللّه؟
قال : لا.
قال عمر : أنا هو يا رسول اللّه؟
قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل.
وكان عليّ يخصف نعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحجرة عند فاطمة علیهاالسلام (2).
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لتنتهنّ
ص: 152
معشر قريش أو ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا منّي امتحن اللّه قلبه للإيمان ، يضرب أعناقكم على الدين.
قيل : يا رسول اللّه! أبو بكر؟
قال : لا.
قيل : عمر؟
قال : لا ، ولكن خاصف النعل في الحجرة (1).
* * *
ص: 153
وقال الفضل (1) :
صحّ الحديث ، وهذا يدلّ على أنّه يقاتل البغاة والخوارج ، وكان مقاتلة البغاة والخوارج على تأويل القرآن ، حيث كانوا يؤوّلون القرآن ، ويدّعون الخلافة لأنفسهم ، فقاتلهم أمير المؤمنين ، وعلّم الناس قتال الخوارج والبغاة ، كما قال الشافعي : إنّه لو لم يقاتل أمير المؤمنين البغاة ما كنّا نعلم كيفيّة القتال معهم (2).
وهذا لا يدلّ على النصّ بخلافته ، بل إخبار عن مقاتلته في سبيل اللّه مع العصاة والبغاة.
* * *
ص: 154
ذكر المصنّف رحمه اللّه هنا حديثين تقدّم بيان رواتهما في الآية الثانية والعشرين (1) ، وكلّ منهما دالّ على المقصود ..
أمّا الأوّل ، فلأنّ المراد - بالقتال على تأويل القرآن - : إمّا القتال على وفق ما أدّى إليه القرآن باجتهاد المقاتل ..
أو ما أدّى إليه في الواقع ؛ لعلم المقاتل به ..
فيكون المشبّه به على الوجهين هو : قتال النبيّ صلی اللّه علیه و آله على حسب ما أنزل إليه.
وإمّا أن يكون المراد : القتال على مؤوّل القرآن يعملوا به ، كما قاتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للإقرار بأنّه منزل من اللّه تعالى.
والأظهر أحد الوجهين الأخيرين ؛ لأنّهما أمكن في التشبيه.
ومن المعلوم أنّ القتال على أيّ الوجوه الثلاثة شأن خليفة الرسول ، وزعيم الأمّة ، فتثبت إمامة أمير المؤمنين علیه السلام .
ولمّا نفى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك عن الشيخين مع صدور القتال منهما علم أنّهما ليسا بإمامين.
وليت شعري ، إذا لم يكن قتالهما على وفق القرآن ، ولا لأجل العمل به ، فكيف وليا أمر القتال والأمّة؟! وكيف اتّخذهم الناس أئمّة؟!
فإن قلت : لعلّ المراد بقتال عليّ علیه السلام على التأويل : قتاله لمن تأوّل
ص: 155
القرآن وادّعى الخلافة لنفسه ، فلا يكون نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهذا القتال عن الشيخين منافيا لإمامتهما ؛ لأنّ هذا النفي مطابق للواقع ، إذ لم يقاتلا إلّا المشركين وإن كانا إمامين.
ولعلّه إلى هذا أشار الفضل بقوله : « وكان مقاتلة البغاة والخوارج على تأويل القرآن حيث كانوا يؤوّلون القرآن ويدّعون الخلافة لأنفسهم ».
قلت : لو أريد ذلك ، كان قوله صلی اللّه علیه و آله : « كما قاتلت على تنزيله » - بمقتضى المشابهة - أن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاتل من تنزّل عليه القرآن ؛ وهو كما ترى.
ولا أدري أيّة آية تأوّلها البغاة والخوارج حتّى استباحوا بها قتال أمير المؤمنين ، والخروج على إمام زمانهم؟!
ومتى قاتله الخوارج مدّعين للخلافة؟! وكذا معاوية وعائشة وأنصارها؟! فإنّهم إنّما قاتلوا - في ظاهر أمرهم - أمير المؤمنين علیه السلام طلبا بدم عثمان ، واتّخذوه - واقعا - وسيلة لبلوغ الرئاسة أو للانتقام من عليّ علیه السلام ، عداوة له ، كما في عائشة.
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فأبو بكر عندهم أيضا حارب المتأوّلين ، فلو كان إماما وحربه حقّا لما أجابه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله : « لا ».
ونعني بالمتأوّلين : مانعي الزكاة ؛ لأنّهم قالوا كما في « شرح النهج » لابن أبي الحديد (1) : « إنّ اللّه قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (2).
فوصف الصدقة بأنّها من شأنها أن يطهّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس
ص: 156
بأخذها ، وبيّن أنّ صلاته سكن لهم ، وهذه الصفات لا تتحقّق في غير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ».
وأمّا الحديث الثاني : فهو - أيضا - دالّ على المدّعى ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله وصف فيه الرجل الذي يبعثه اللّه تعالى بأنّه قد امتحن اللّه قلبه ، أي ابتلاه بأنواع المحن ، فوجده خالص الإيمان ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ولا يصانع أحدا في دينه.
وهذا يفيد بمفهومه أنّ غير هذا الرجل ليس كذلك ، لا سيّما الشيخان ؛ للتصريح بهما ، ولأنّهما أشارا بردّ المؤمنين إلى بلاد الكفر ، وجعل السبيل للكافرين عليهم خلافا لحكم اللّه ورسوله ، ووفاقا لرغبة الكافرين ، لا سيّما عمر ، فإنّه وافق أبا بكر على قوله : « صدقوا » ، ولم يبال باستياء النبيّ صلی اللّه علیه و آله من أبي بكر وتغيّر وجهه الشريف من قوله ، كما سبق في بعض الأخبار المصحّحة عندهم ، المذكورة في الآية الثانية والعشرين (1).
ولو كانا ممّن امتحن اللّه قلبه للإيمان وخالصي الإيمان لما فعلا ذلك.
بل يستفاد من وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله للرجل الذي يبعثه اللّه بأنّه امتحن اللّه قلبه للإيمان ، ويضرب أعناقهم على الدين ، بعد موافقة الشيخين لقريش ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أراد التعريض بهما بأنّهما ليسا بهذا الوصف.
وبالضرورة أنّ من ليس كذلك ، ولم يبال بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله مواجهة في حياته ، ولا بكتاب اللّه وحكمه ، أحقّ وأولى بعدم المبالاة بأحكام اللّه ودينه
ص: 157
ونبيّه بعد وفاته ، فلا يصلح للإمامة ، وإنّما الصالح لها من ثبت له ذلك الوصف الجميل الجليل.
وقد أشار النبيّ صلی اللّه علیه و آله - مع ذلك - إلى عصمة عليّ علیه السلام وفضله ، بجعله منه أو مثل نفسه ، كما في رواية « الجمع بين الصحاح » وغيرها ممّا سبق في الآية المذكورة (1) ، فيتعيّن للإمامة.
* * *
ص: 158
ومنه ، أنّه لمّا حضرت ابن عبّاس الوفاة قال : اللّهمّ إنّي أتقرّب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب (1).
* * *
ص: 160
وقال الفضل (1) :
حديث الطير مشهور وهو فضيلة عظيمة ، ومنقبة جسيمة ، ولكن لا يدلّ على النصّ ، وليس الكلام في عدّ الفضائل.
وأمّا التوسّل بولاية عليّ ، فهو حقّ ومن أقرب الوسائل.
* * *
ص: 161
روى الترمذي حديث الطائر بسنده عن السّدي ، عن أنس ، ثمّ قال : وقد روي من غير وجه عن أنس (1).
ورواه النسائي في « الخصائص » ، عن أنس - بهذا اللفظ - ، أنّه أتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعنده طائر فقال : اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير ؛ فجاء أبو بكر فردّه ، ثمّ جاء عمر فردّه ، ثمّ جاء عليّ فأذن له (2).
ورواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن أنس أيضا ، وذكر فيه أنّه جاء عليّ مرّتين فقال له : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على حاجة ؛ ثمّ جاء فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : إفتح ؛ فدخل.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما حبسك عليّ؟!
قال : إنّ هذه آخر ثلاث كرّات يردّني أنس ، يزعم أنّك على حاجة ؛ الحديث.
ثمّ قال الحاكم : هذا حديث [ صحيح ] على شرط الشيخين.
وقال : وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفسا ، ثمّ صحّت الرواية عن عليّ ، وأبي سعيد الخدري ، وسفينة.
ص: 162
ثمّ رواه الحاكم أيضا من طريقين ، عن إبراهيم بن ثابت البصري القصّار ، عن ثابت البناني ، عن أنس ؛ وتعقّبه الذهبي : بأنّ إبراهيم بن ثابت ساقط (1).
ويشكل بأنّ هذا مناقض لما ذكره هو في « ميزان الاعتدال » ، فإنّه قال فيه : « لا أعرف حاله جيّدا » (2).
كما أنّه تعقّب الحديث الأوّل بأنّ في سنده محمّد بن أحمد بن عياض ، عن أبيه ؛ فقال : « ابن عياض لا أعرفه » (3).
وقال في « الميزان » بترجمة محمّد المذكور ، بعد ما ذكر روايته لحديث الطير بالسند الذي ذكره الحاكم : « قال الحاكم : هذا على شرط البخاريّ ومسلم ».
ثمّ قال الذهبي : « الكلّ ثقات إلّا هذا - يعني محمّدا - ، فأنا أتهمه به ، ثمّ ظهر لي أنّه صدوق - إلى أن قال : - فأمّا أبوه فلا أعرفه » (4).
وعليه : فالأمر هيّن ؛ لأنّ عدم معرفته له لا تضرّ فيه بعدما عرفه الحاكم وصحّح حديثه على شرط الشيخين.
وقد روى الذهبيّ حديث الطير بترجمة جعفر بن سليمان الضّبعي من « الميزان » ، وسنده صحيح ؛ لأنّه رواه عن قطن بن نسير - وهو من رجال مسلم (5) - ، عن جعفر المذكور - وهو من رجاله أيضا (6) - ، عن
ص: 163
عبد اللّه بن المثنّى بن عبد اللّه بن أنس - وهو من رجال البخاري (1) - ، عن أنس (2).
وحكاه في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن عساكر من ثلاثة طرق ، وعن ابن النجّار من طريق (4).
ونقله سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ، عن أحمد في « الفضائل » ، بسنده عن سفينة (5).
ونقله في « ينابيع المودّة » في الباب الثامن ، عن أحمد في مسنده ، عن سفينة (6).
كما نقله المصنّف رحمه اللّه هنا عن مسند أحمد ، عن أنس (7)
والظاهر أنّ القوم أسقطوا الحديثين الأخيرين من « المسند » الموجود بأيدينا اليوم ، طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 هجرية ، كما هي عادتهم في إسقاط كثير من الأحاديث المتعلّقة بفضل أمير المؤمنين!!
فمع ما ذكرناه - الذي هو قليل من كثير - كيف يزعم ابن تيميّة أنّه لم يرو حديث الطير أحد من أصحاب الصحاح ، ولا صحّحه أئمّة
ص: 164
الحديث (1)؟!
والحال أنّه قد رواه : الترمذي ، والنسائي ، وصحّحه الحاكم (2).
ورواه الذهبي بترجمة جعفر بطريق لا شبهة في صحّته عندهم كما سمعت.
بل زعم ابن تيميّة - كعادته في فضائل إمام المتّقين - أنّ الحديث عند أهل المعرفة والعلم من المكذوبات والموضوعات (3) ، والحال أنّه حكى عن أبي موسى المديني ، أنّه قال : جمع غير واحد من الحفّاظ طرق أحاديثه (4).
ص: 165
وقال في « ينابيع المودّة » : ولابن المغازلي حديث الطير من عشرين طريقا (1).
وقد سمعت قول الحاكم : رواه عن أنس زيادة على ثلاثين نفسا (2).
وليت شعري ، أيّ أهل المعرفة يدّعي وضعه؟! فإنّا لا نعرف أحدا من سائر الناس ادّعاه فضلا عن أهل المعرفة!!
ص: 166
ولو سلّم ، فما زعمهم أهل المعرفة إنّما هم الخصوم والنواصب أمثاله ، الّذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم وأن يتّبع الحقّ أهواءهم!
وأمّا دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام فمن أظهر الأمور ؛ لأنّ أحبّ الناس إلى اللّه تعالى إنّما هو أفضلهم وأتقاهم وأعملهم بطاعته ، فلا بدّ أن يكون أحقّهم بالإمامة ، لا سيّما من أبي بكر وعمر ؛ إذ مع دخولهما بعموم الناس صرّح حديث النسائي باسمهما بالخصوص كما سمعت (1).
وأشكل في « المواقف » وشرحها على الحديث : « بأنّه لا يفيد أنّه أحبّ إليه في كلّ شيء ؛ لصحّة التقسيم ، وإدخال لفظ الكلّ والبعض ؛ ألا ترى أنّه يصحّ أن يستفسر ويقال : أحبّ إليه في كلّ الأشياء أو في بعض الأشياء؟ ... فلا يدلّ على الأفضليّة مطلقا » (2).
والجواب : إنّ الإطلاق مع عدم القرينة على الخصوص يفيد العموم في مثل المقام ، ألا ترى أنّ كلمة الشهادة تدلّ على التوحيد؟! وبمقتضى ما ذكراه ينبغي أن لا تدلّ عليه ؛ لإمكان الاستفسار بأنّه لا إله إلّا هو في كلّ شيء ، أو في السماء ، أو في الأرض؟ إلى غير ذلك ؛ فلا تفيد نفي الشريك مطلقا ؛ وهذا لا يقوله عارف.
والعجب منهما أن يقولا ذلك ، وهما يستدلّان على فضل أبي بكر بقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) (3) ، زاعمين أنّ المراد بالأتقى : أبو
ص: 167
بكر ، فيكون أفضل (1) ، والحال أنّه يمكن الاستفسار بأنّه الأتقى في كلّ شيء أو بعض الأشياء؟!
مضافا إلى أنّه لا يصحّ حمل الحديث على إرادة الأحبّ في بعض الأمور ، وإلّا لجاء مع عليّ علیه السلام كلّ من هو أحبّ منه بزعمهم في بعض الأمور كالشيخين ؛ لاستجابة دعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والحال أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد ردّهما كما في حديث النسائي (2).
ونحن نمنع أن يكون أحد أحبّ إلى اللّه سبحانه بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من عليّ علیه السلام في شيء من الأشياء ؛ لما سبق في المبحث الثاني من مباحث الإمامة أنّ الإمام أفضل الناس في كلّ شيء ، فيكون أحبّهم إلى اللّه تعالى في كلّ شيء (3).
وقد زاد ابن تيميّة في الطنبور نغمة ، فأورد على الحديث بأمور تشهد بجهله أو نصبه ..
منها : إنّ أكل الطير ليس فيه أمر عظيم هنا ، يناسب أن يجيء أحبّ الخلق إلى اللّه ليأكل معه ، فإنّ إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر ، وليس في ذلك زيادة وقربة عند اللّه لهذا الآكل ، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا ، فأيّ أمر عظيم يناسب أن يجيء أحبّ الخلق إلى اللّه يفعله (4)؟!
والجواب : إنّ الأمر العظيم تعريف الأحبّ إلى اللّه تعالى للناس
ص: 168
بدليل وجداني ، فإنّه آكد من اللفظ ، وأقوى في الحجّة ، كما عرّفهم نبيّ الهدى صلی اللّه علیه و آله أنّ عليّا حبيب اللّه في قصّة خيبر ، بإخبارهم أنّه يعطي الراية من يحبّه اللّه ورسوله ، ويحبّ اللّه ورسوله ، وأنّ الفتح على يده (1).
على أنّه يكفي في المناسبة رغبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن يأكل مع أحبّ الخلق إلى اللّه وإليه.
ومنها : إنّ هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة ؛ فإنّهم يقولون : إنّ النبيّ كان يعلم أنّ عليّا أحبّ الخلق إلى اللّه ، وأنّه جعله خليفة من بعده ، وهذا الحديث يدلّ على أنّه ما كان يعرف أحبّ الخلق إلى اللّه (2).
الجواب : إنّا لا نعرف وجه الدلالة على أنّه لا يعرفه ، أتراه لو قال : « ائتني بعليّ » يدلّ على عدم معرفته له؟! وكيف لا يعرفه وقد قال كما في بعض الأخبار : « اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ » (3)؟! ..
وقال لعليّ في بعض آخر : « ما حبسك عليّ؟! » (4) ..
وقال له في بعضها : « ما الذي أبطأ بك؟! » (5) ..
فالنبيّ صلی اللّه علیه و آله كان عارفا به ، لكنّه أبهم ولم يقل : « ائتني بعليّ » ؛ ليحصل التعيين من اللّه سبحانه ، فيعرف الناس أنّ عليّا هو الأحبّ إلى اللّه تعالى بنحو الاستدلال.
ومنها : ما حاصله أنّه مناقض للأحاديث الثابتة في الصحاح ، القاضية
ص: 169
بأنّ أبا بكر هو الأحبّ ، كما في الصحيحين من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا » (1).
ومناقض لقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) ، فإنّ أئمّة التفسير يقولون : إنّه أبو بكر (2) ؛ والأتقى هو الأحبّ لله ورسوله (3).
والجواب : إنّ روايتهم لا تقوم حجّة علينا ، وكذا قول أهل تفسيرهم ؛ لأنّه من التفسير بالرأي التابع للهوى ، ولمقدّمات باطلة!
على أنّه ليس مجمعا عليه بينهم ، وسيأتي الكلام في الآية إن شاء اللّه تعالى ، كما أنّ روايته غير تامّة الدلالة على مدّعاه.
* * *
ص: 170
معنى كونه باب مدينة علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه الواسطة للناس في وصولهم إلى علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا واسطة غيره ، والآخذ من غيره كالسارق ، فيكون أخذ العلم منه واجبا ومن غيره حراما ، فهو الإمام دون غيره ؛ لعدم اجتماع إمامة الشخص وحرمة الأخذ عنه واتّباعه في ما يحكم به.
كما أنّ وجوب الأخذ عنه للوصول إلى علم الرسول صلی اللّه علیه و آله لا يتمّ إلّا بعصمته ، فيتعينّ للإمامة.
وكذا جعله الباب لعلمه دالّ على إحاطته بجميع ما يصدر عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله من العلوم ، وذلك شأن الإمام.
ويشهد لانحصار طريق علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعليّ علیه السلام ، جهل الأمّة بأكثر الأحكام لمّا أعرضوا عنه ، والحال أنّ اللّه سبحانه قد أكمل دينه ، فما زالت آراؤهم مضطربة ، وأحكامهم مختلفة ، حتّى كأنّ اللّه تعالى قد أوكل إلى أهوائهم أحكامه.
ولمّا رجع الأمر إلى أمير المؤمنين علیه السلام لم يقدر على إمضاء ما علم ولا على نشره ؛ لأنّ الناس قد ألفوا خلافه ..
فقد نهى عن صلاة التراويح ، فصاح الناس : وا سنّة عمراه! (1) ..
ص: 173
ونهى عن أكل الجرّي والمارماهي (1) ، فلم يتّبعوه (2) ..
وأمر بالمتعتين ، فخالفوه (3) ..
.. إلى غير ذلك من الأحكام.
ولذا قال علیه السلام - كما رواه البخاري في باب مناقبه - : « أقضوا كما كنتم تقضون ، فإنّي أكره الخلاف حتّى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي » (4).
فإنّه صريح في أنّ قضاء من كان قبله ليس حقّا ، لكنّه لا يتمكّن من الخلاف ما لم يتمّ له الأمر.
ولو سلّم عدم دلالة الحديث على انحصار طريق علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعليّ علیه السلام ، فلا إشكال بدلالته على أعلميّته ، كما أقرّ به الفضل في ظاهر كلامه ، فيقبح تقديم المفضول عليه .. ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (5).
وقوله : « لا يجب أن يكون الأعلم خليفة ، بل الأحفظ للحوزة ، والأصلح للأمّة » .. ظاهر البطلان كما أوضحناه في المبحث الثاني من مباحث الإمامة (6).
ص: 174
وقد أوضحنا أيضا في المبحث الثالث فساد قوله : « ولو لم يكن أبو بكر أصلح للأمامة ، لما اختاروه » .. فإنّ الاختيار لا يصلح أن يكون طريقا للإمامة ، على أنّ من اختاروه إنّما هم نفر محدود ، كما سبق (1).
ثمّ إنّ هذا الحديث - أعني : حديث الباب - قد رواه الحاكم في « المستدرك » (2) من طرق ، عن ابن عبّاس ، وصحّحها ، وذكر في بعض طرقه أبا الصلت ، وقال : « ثقة مأمون » ، ونقل توثيقه عن ابن معين وأنّه قيل له : « أليس قد حدّث بهذا الحديث عن أبي معاوية؟! فقال : قد حدّث به جعفر بن محمّد الفيدي ، وهو ثقة مأمون ».
ومع ذلك زعم الذهبيّ أنّه موضوع ؛ لزعمه أنّ أبا الصلت ليس بثقة ولا مأمون (3)!
وفيه : إنّه مناف لوصفه له في « ميزان الاعتدال » ب « الرجل الصالح » ، وقال : « إلّا أنّه شيعيّ جلد » (4).
ولو سلّم أنّ أبا الصلت ليس ثقة ، فلا معنى للحكم بوضع الحديث مع رواية الفيدي الثقة له عن أبي معاوية.
وإذا صحّت الرواية إلى أبي معاوية فقد صحّ الحديث ؛ لأنّ أبا معاوية رواه عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ؛ وكلّهم ثقات عندهم.
ص: 175
ورواه الحاكم أيضا عن جابر وصحّحه (1) ..
وتعقّبه الذهبيّ بأنّ في سنده أحمد بن عبد اللّه بن يزيد الحرّاني ، وهو دجّال كذّاب (2).
وقد تبع فيه ابن عديّ ؛ لقوله في حقّه كما في « ميزان الاعتدال » : « كان سامرا (3) يضع الحديث » (4).
والظاهر أن لا منشأ لنسبة الوضع والكذب إليه عندهما إلّا روايته لهذا الحديث ، فكان مؤاخذا بالرواية في فضل أمير المؤمنين ، وله أسوة بأبي الصلت!
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن ابن الجوزي ، أنّه نقل هذا الحديث بلفظه أو ما يشبهه من خمسة عشر طريقا ، أخرجها ابن عديّ ، وأبو نعيم ، وابن مردويه ، والطبراني ، والخطيب ، والعقيلي ، وابن حبّان ، عن عليّ ، وابن عبّاس ، وجابر (5).
ولفظ حديث جابر هكذا : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الحديبية
ص: 176
وهو آخذ بيد عليّ يقول : « هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله - يمدّ بها صوته - ، أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب » (1).
وهذا الذي رواه الحاكم عن جابر ، لكنّه ذكر صدر الحديث في مقام متأخّر (2) ، وقد زعم ابن الجوزي أنّها كلّها موضوعة ؛ مستندا إلى اضطراب إسناد بعضها ، وجهل بعض الرواة في بعضها ، وأنّ بعضهم لا يجوز الاحتجاج به ، وبعضهم متّهم بسرقة هذا الحديث ، وبعضهم كذّاب (3).
وأنت تعلم أنّ هذا لو تمّ لا يستوجب الحكم بوضع الحديث مع استفاضة طرقه ؛ وغاية ما يقتضيه - على نظر - عدم الاعتماد عليها.
على أنّ السيوطي في « اللآلئ » قد تعقّبه فقال : « حديث عليّ أخرجه الترمذي ، وحديث ابن عبّاس أخرجه الحاكم في ( المستدرك ) » ؛ ثمّ نقل كلام الحاكم الذي أشرنا إليه (4).
ونقل عن الخطيب ، أنّه روى عن ابن معين توثيق أبي الصلت ، وأنّ القاسم بن عبد الرحمن الأنباري سأل ابن معين عن الحديث ، فقال : صحيح ..
قال الخطيب : أراد أنّه صحيح من حديث أبي معاوية (5).
أقول : وفيه الكفاية في مطلوبنا.
ص: 177
ثمّ نقل السيوطي عن الحافظ صلاح الدين العلائي ، أنّه قال في جملة جوابه عن دعوى الوضع : « أيّ استحالة في أن يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله مثل هذا في حقّ عليّ؟! ولم يأت كلّ من تكلّم في هذا الحديث وحكم بوضعه بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن ابن معين! ومع ذلك فله شاهد » (1) .. وذكر رواية الترمذي وغيره له ، عن شريك ، عن سلمة ، عن سويد ..
ثمّ قال : « وشريك .. احتجّ به مسلم ، وعلّق له البخاري ، ووثّقه ابن معين.
وقال العجلي : ثقة ، حسن الحديث.
وقال عيسى بن يونس : ما رأيت أحدا قطّ أورع في علمه من شريك.
فعلى هذا يكون تفرّده حسنا ، فكيف إذا انضمّ إلى حديث أبي معاوية؟! » (2) ..
إلى أن قال العلائي : « ولم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّة [ قادحة ] في حديث شريك سوى دعوى الوضع ، دفعا بالصدر » (3).
ثمّ نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر ، أنّه قال : « هذا الحديث من قسم الحسن » (4).
ثمّ قال السيوطي : « وبقي للحديث طرق » ، وذكر منها طريقين
ص: 178
للخطيب ، عن عليّ علیه السلام (1) ..
وطريقا لابن النجّار ، عنه علیه السلام أيضا ..
وطريقا لأبي الحسن عليّ بن عمر الحربي ، في « أماليه » ، عنه علیه السلام أيضا ، ولفظه : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وأنت بابها يا عليّ ، كذب من زعم أنّه يدخلها من غير بابها » ..
وطريقا لأبي الحسن شاذان الفضلي ، في « خصائص عليّ علیه السلام » ، عن جابر بن عبد اللّه ..
وطريقا للديلمي ، بسنده عن أبي ذرّ ، ولفظه : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليّ باب علمي ، ومبيّن لأمّتي ما أرسلت به من بعدي ، حبّه إيمان ، وبغضه نفاق ، والنظر إليه رأفة » (2).
وحكى في « كنز العمّال » (3) كلاما للسيوطي نحو ما هنا ، وذكر في طيّه أنّ ابن جرير روى في « تهذيب الآثار » الحديث الذي رواه الترمذي وصحّحه.
ثمّ ذكر في « الكنز » أنّ السيوطي قال أخيرا بصحّة هذا الحديث بعدما كان يرى حسنه (4).
ص: 179
أقول : ولا ريب لمصنف في صحّته ؛ لاستفاضة طرقه ، بل تواترها ، لا سيّما بضميمة أخبارنا (1) ، وله شواهد من الكتاب والسنّة
ص: 180
لا تحصى (1).
هذا ، وأمّا ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في صدر كلامه عن « مسند أحمد » فقد رواه في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام عن سعيد بن المسيّب ، قال : ما كان أحد من الناس يقول : « سلوني » غير عليّ بن أبي طالب (2) (3).
ص: 181
لم أجد فعلا في « مسند أحمد » تمام الحديث ، وإنّما وجدت فيه صدره (1)عن عمرو بن شاش (2) ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من آذى عليّا فقد آذاني ».
ورواه الحاكم عنه أيضا في « المستدرك » وصحّحه (3).
ورواه البخاريّ في « تاريخه » ، كما حكاه عنه في « كنز العمّال » (4).
ورواه أيضا في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين ، وزاد فيه : « ومن آذاني فقد آذى اللّه تعالى » (5) ، وهو يقتضي وجوب طاعة عليّ علیه السلام ؛ لأنّ عصيانه يؤذيه بالضرورة ، ووجوب طاعته على الإطلاق يقتضي عصمته وإمامته.
وإذا ضممت إلى الحديث قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) (6) علمت حال الناكثين والقاسطين.
ص: 184
أمّا بقيّة الحديث ، وهي : « من آذى عليّا بعث يهوديا أو نصرانيا » ، فيشهد لصحّتها ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أخطب خوارزم ، بسنده عن معاوية بن حيدة القشيري ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ علیه السلام : « من مات وهو يبغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (1).
وما حكاه السيوطي في « اللآلئ » ، عن العقيلي ، بسنده عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه ، مرفوعا : « من مات وفي قلبه بغض لعليّ فليمت يهوديّا أو نصرانيّا » (2).
وزعم ابن الجوزي أنّه موضوع ؛ لأنّ في سنده الجارود بن يزيد وعليّ بن قرين (3) ..
ولكنّ السيوطي تعقّبه بذكر رواية للديلمي أخرجها عن بهز بسندين خليّين ، عن الجارود وابن قرين ، قال فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ! ما كنت أبالي من مات من أمّتي وهو يبغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (4).
فهذه الأخبار متّفقة في المعنى مع ذيل الرواية التي حكاها المصنّف رحمه اللّه عن « مسند أحمد » ؛ لأنّ بغض عليّ إيذاء له.
ولا ريب بصحّة هذه الروايات ؛ لما تقدّم من أنّ بغض عليّ علیه السلام
ص: 185
علامة النفاق (1) ، ومن الواضح أنّ المنافق بمنزلة اليهود والنصارى (2).
ومن الغريب مسارعة ابن الجوزي للحكم بوضع الأخبار ، بمجرّد اشتمال سندها على ضعيف أو متّهم عنده ؛ فإنّه على هذا ينبغي أن يحكم بوضع رواياتهم جميعا ، حتّى أخبار الصحاح الستّة ؛ إذ لا يخلو خبر عندهم - إلّا النادر - من اشتمال سنده على ضعيف ، كما أشرنا إليه في المقدّمة (3) ، وهذا ممّا لا يرتضيه أصحابه.
ولعلّه إنّما يفعل ذلك في خصوص أخبار فضائل إمام الهدى انحرافا عنه ، وهو غير بعيد!
وأمّا الحديث الذي ذكره الفضل ، وهو : « من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب » ، فليس بمنزلة قوله صلی اللّه علیه و آله : « من آذى عليّا فقد آذاني ... » إلى آخره ؛ لأنّ معنى الحديث الذي ذكره : من آذى لي وليّا فليستعدّ للعقوبة ، وهذا ليس بمنزلة إيذاء عليّ علیه السلام ، الذي هو إيذاء لله ورسوله ، وموجب للعنة اللّه في الدنيا والآخرة والعذاب المهين ، والبعث على اليهوديّة أو النصرانيّة ؛ فإنّ هذا لا يكون إلّا في إيذاء من هو بمنزلة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإمام الوقت.
* * *
ص: 186
وقال الفضل (1) :
صحّ في الأخبار أنّ أبا بكر وعمر خطبا فاطمة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي أنتظر أمر اللّه فيها » (2)
، ولم يقل : « إنّها صغيرة » (3).
وهذا افتراء على أحمد بن حنبل ، وكلّ من قال هذا فهو مفتر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وناسبا (4) للكذب إليه ، فإنّ فاطمة كانت وقت الخطبة كبيرة ؛ لأنّها ولدت عام عمارة الكعبة.
والعجب من هذا الرجل أنّه يبالغ في احتراز الأنبياء عن الكذب وينسب الكذب الصراح إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !
نعوذ باللّه من هذا ، وإنّه خبّاط خبط عشواء (5).
* * *
ص: 188
ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن « المسند » قد رواه بعينه النسائيّ في أوائل « كتاب النكاح » من سننه ، في باب « تزوّج المرأة مثلها في السنّ » (1).
ورواه الحاكم في « المستدرك » في كتاب النكاح (2) ، وصحّحه على شرط الشيخين ، ولم يتعقّبه الذهبي (3).
والحقّ أنّها تزوّجت وهي صغيرة ؛ لأنّها ولدت بعد البعثة بإجماعنا (4).
واختاره الحاكم في « المستدرك » ، فإنّه عنون (5) بقوله : « ذكر ما ثبت عندنا من أعقاب فاطمة وولادتها » ، ثمّ روى أنّها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولم يتعقّبه الذهبي.
وروى أيضا (6) أنّها ماتت وهي ابنة إحدى وعشرين سنة ، وولدت على رأس إحدى وأربعين من مولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وروى في « الاستيعاب » - بترجمة فاطمة علیهاالسلام - أنّها ولدت سنة
ص: 189
إحدى وأربعين من مولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنكح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاطمة عليّا بعد وقعة أحد (1).
فعلى هذا كلّه تكون حين تزويجها صغيرة ابنة اثنتي عشرة سنة تقريبا.
ويروى عندنا أنّها تزوّجت وهي ابنة تسع (2) ، وقد يوافقه ما في « الاستيعاب » بترجمة خديجة علیهاالسلام ، قال : « قال الزبير : ولد لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله القاسم ، وهو أكبر ولده ، ثمّ زينب ، ثم عبد اللّه ، وكان يقال له : الطيّب ، ويقال له : الطاهر ، ولد بعد النبوّة ، ثمّ أمّ كلثوم ، ثمّ فاطمة » (3).
فإنّ فاطمة علیهاالسلام إذا ولدت بعد الطاهر وأمّ كلثوم ، وكلاهما بعد النبوّة ، لم يبعد أن يكون تزويجها وهي ابنة تسع.
وزعم بعضهم أنّ سنّها يوم تزوّجت خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف ، كما ذكره في « الاستيعاب » بترجمتها (4).
واختاره ابن حجر في « الصواعق » ، قال في أوّل الباب الحادي عشر : « تزويج النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة من عليّ أواخر السنة الثانية من الهجرة على الأصحّ ، وكان سنّها خمس عشرة سنة ونحو نصف سنة » (5).
وكيف كان ، فهي صغيرة ، إمّا حقيقة ، أو بالإضافة إلى الشيخين ،
ص: 190
فلا يكذّب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّها صغيرة ».
نعم ، هو عذر إقناعي ، والعذر الحقيقي أنّهما ليسا أهلا لها ، ولذا زوّجها من عليّ علیه السلام بأثر هذا العذر.
ويشهد له ( ما في ) « الصواعق » ، في الفصل الأوّل من الباب المذكور ، في أثناء الكلام على الآية الحادية عشرة (1) ، عن أبي داود السجستاني ، قال : « إنّ أبا بكر خطبها فأعرض صلی اللّه علیه و آله عنه ، ثمّ عمر فأعرض عنه ، فأتيا عليّا فنبّهاه إلى خطبتها ، فجاء فخطبها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ما معك؟ ... » الحديث ، ثمّ قال : « وأخرج أحمد وأبو حاتم نحوه » (2).
وحكى في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن جرير ، عن أنس ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعرض عن أبي بكر ، فرجع إلى عمر وقال : هلكت ؛ وأعرض عن عمر ، فرجع إلى أبي بكر وقال : إنّه ينتظر أمر اللّه فيها.
فإنّ إعراض النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنهما دليل على عدم أهليّتهما لها ، وإنّه من سخط عليهما ، لطلبهما ما لا يليق بهما ، ولذا قال أبو بكر : « هلكت ».
وفي « الكنز » أيضا (4) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، والدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، عن عليّ علیه السلام ، قال : خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأبى عليهما ، فقال عمر : أنت لها ... » الحديث.
ص: 191
وفي « الصواعق » ، في أوّل الباب المذكور ، عن أحمد وابن أبي حاتم ، عن أنس ، قال : « جاء أبو بكر وعمر يخطبان فاطمة إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فسكت ولم يرجع إليهما شيئا ، فانطلقا إلى عليّ يأمرانه بطلب ذلك ... » الحديث (1).
ثمّ قال : « وفي رواية أخرى عن أنس أيضا ، عند أبي الخير القزويني الحاكمي : خطبها بعد أن خطبها أبو بكر ثمّ عمر ، فقال : قد أمرني ربّي بذلك ... » الحديث (2).
وفي هذا دلالة أخرى على عدم أهليّتهما للتزويج بسيّدة النساء ؛ فإنّ منعهما - دون عليّ علیه السلام بأمر اللّه - كاشف عن أنّ النظر في أمرها راجع إلى اللّه سبحانه مع وجود أبيها سيّد النبيّين ، الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
كما عرفه عمر حيث قال في رواية ابن جرير المذكورة : « إنّه ينتظر أمر اللّه فيها » ، وليس ذلك إلّا لعظم شأنها عند اللّه تعالى وكرامتها عليه ، فلا يزوّجها إلّا بمن هو أهل لها ويليق بقدرها الرفيع ، فزوّجها في السماء بسيّد أوليائه ؛ وهو أدلّ دليل على فضله على الشيخين عند اللّه عزّ وجلّ وعند رسوله صلی اللّه علیه و آله ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
ويا هل ترى أنّ اللّه تعالى يصون عنهما تزويج فاطمة ، ولا يعقبه ضرر ظاهرا ، وهو يرضى أن تزف إليهما إمامة الأمّة والحكم في الدين والدنيا ، والنفس والنفيس؟!
وأعظم من هذه الأحاديث في الدلالة على عدم أهليّتهما للزهراء
ص: 192
وللإمامة ، ما في « اللآلئ المصنوعة » ، عن العقيلي والطبراني معا ، عن عليّ ابن عبد العزيز ، عن أبي نعيم ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن حجر ابن عنبس ، قال : « خطب أبو بكر وعمر فاطمة ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : هي لك يا عليّ ، لست بدجّال » (1)
فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « لست بدجّال » تعريض بالشيخين بأنّهما دجّالان لا يصلحان لتزويج فاطمة ، ولا للإمامة بالضرورة ؛ ولذا هاجت حميّة ابن الجوزي فقال : « موضوع ، موسى من الغلاة في الرفض » (2).
وتعقّبه السيوطي بقوله : « روى له أبو داود ، ووثّقه ابن معين ، وقال أبو حاتم : لا بأس به ».
ثمّ قال السيوطي : « والحديث أخرجه البزّار » ، وذكر أيضا في سنده موسى بن قيس ، ثمّ حكى عن الهيثمي في « زوائده » أنّه قال : « رجاله ثقات ، إلّا أنّ حجرا لم يسمع من النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (3).
وفيه : إنّه لو سلّم أنّ حجر بن عنبس لم يسمع من النبيّ صلی اللّه علیه و آله فهو ممّن أسلم في أيامه صلی اللّه علیه و آله ، فيكون راويا عن الصحابة ، ولا يضرّ إرساله (4).
ص: 193
قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :
الثاني والعشرون : في « الجمع بين الصحيحين » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخل على ابنته فاطمة فقبّل رأسها ونحرها ، وقال : أين ابن عمّك؟
قالت : في المسجد.
فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ، وخلص التراب إلى ظهره ، فجعل يمسح عن ظهره التراب ويقول : « إجلس يا أبا تراب » مرّتين (2).
* * *
ص: 194
وقال الفضل (1) :
هذا حديث صحيح ، وهو من تلطّفات النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأمير المؤمنين علیه السلام وإظهار المحبّة له ، ولا يثبت به النصّ.
* * *
ص: 195
نعم ، هو من تلطّفاته صلی اللّه علیه و آله وحبّه لأمير المؤمنين علیه السلام ، ولكن تلطّفه به حال نومه في المسجد من دون إشعار بالكراهة ، دليل على عدم كراهة النوم له فيه ، وعلى مساواته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في الحكم والطهارة ، كما يفيده حديث سدّ الأبواب إلّا بابه (1) ، وقد سبق وجه دلالته على إمامته علیه السلام (2).
مضافا إلى دلالة هذا الحديث على شدّة زهده البالغ أقصى الغايات ، الذي يمتاز به على سائر أهل الدرجات ؛ لأنّه من بيت النعمة والشرف ، وابن شيخ البطحاء (3) ،
ص: 196
ص: 197
وبيضة البلد(1) ، مع ما هو عليه من علوّ النفس وعزّتها ، وما هو فيه من الشجاعة وريعان الشباب.
فيكون ذلك الزهد منه دليلا على فضل إيمانه ومعرفته ، وزيادة تقواه ويقينه.
ص: 198
وأنّه ردّت له الشمس بعدما غابت ، حيث كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله نائما على حجره ودعا له بردّها ليصلّي عليّ العصر ، فردّت له (1).
وأنّه نزل إليه سطل (2) عليه منديل ، وفيه ماء ، فتوضّأ للصلاة ، ولحق بصلاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3).
وأنّ مناديا من السماء نادى يوم أحد :
ص: 200
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ (1)
ص: 201
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من الأشياء بعضه منكر ، منها :
إنّ النداء يوم بدر بأنّ « لا سيف إلّا ذو الفقار » من المنكرات ؛ لأنّ « ذو الفقار » كان سيفا لمنبّه بن الحجّاج (2) ، من أشراف قريش ، وهو قتل يوم بدر ، وصار سيفه المشهور بذي الفقار لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فكان ذو الفقار يوم بدر في يد الكفّار ، وكانوا يقتلون به المؤمنين ، فكيف يجوز أن ينادي مناديها أن : لا سيف إلّا ذو الفقار؟!.
نعم ، هو مطابق لمذهبه ، فإنّه يدّعي أنّ قتل أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله واجب ، فلا يبعد أن يدّعي أنّ المنادي يوم بدر نادى بذكر منقبة ذي الفقار وهو في يد الكفّار.
وهذا السفيه ما كان يعلم الحديث ولا التاريخ ، ومدار أمره ذكر المنكرات والمجهولات ، ولا يبالي التناقض والمخالفة بين الروايات.
* * *
ص: 203
ما بيّنه في وجه الإنكار خطأ ؛ لاحتمال أن يكون لأمير المؤمنين علیه السلام سيف ذو فقار حارب به يوم بدر ، أو أنّ سيف منبّه أو ابنه العاص - على الخلاف الذي ذكره ابن أبي الحديد (1) - صار إلى عليّ علیه السلام ، وقاتل به لمّا قتلهما وقتل نبيها أخا منبّه ، كما في « شرح النهج » أيضا (2).
فعلى أحد هذين الاحتمالين لا يمتنع أن ينادي المنادي يوم بدر : « لا سيف إلّا ذو الفقار ».
وقد حكى السيوطي في « اللآلئ » رواية النداء يوم بدر ، عن ابن عديّ ، وذكر أنّ ابن الجوزي زعم أنّها موضوعة ؛ لأنّ في سندها عمّار ابن أخت سفيان ، وهو متروك (3).
فتعقّبه السيوطي بقوله : « كلّا ، بل هو ثقة ثبت ، من رجال مسلم ، وأحد الأولياء الأبدال (4) ، والمصنّف تبع ابن حبّان في تجريحه ، وقد ردّ عليه » (5).
ثمّ إنّه ينبغي التعرّض لثبوت الأخبار التي ذكرها المصنّف بطرقهم ، وبيان وجه الاستدلال بها ..
ص: 204
أمّا الخبر الأوّل ؛ وهو خبر كسر الأصنام ..
فقد أخرجه الحاكم في « المستدرك » (1) ، عن عليّ علیه السلام ، وصحّحه ، قال : « لمّا كان الليلة التي أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أبيت على فراشه وخرج من مكّة مهاجرا ، انطلق بي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الأصنام ، فقال : اجلس.
فجلست إلى جانب الكعبة ، ثمّ صعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منكبي ، ثمّ قال : انهض.
فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي تحته ، قال : « اجلس ».
فجلست ، فأنزلته عنّي ، وجلس لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ قال لي : يا عليّ! اصعد!
فصعدت على منكبيه ، ثمّ نهض بي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وخيّل لي أنّي لو شئت نلت السماء ، وصعدت إلى الكعبة .. » الحديث.
ونحوه في « مسند أحمد » (2) لكن من دون تعيين الليلة ، وكذا في « كنز العمّال » (3) ، نقلا عن ابن أبي شيبة ، وأبي يعلى في مسنده ، وابن جرير ، والخطيب (4).
ص: 205
ووجه الدلالة فيه على المطلوب ، أنّ اختصاص أمير المؤمنين علیه السلام بمشاركة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هذه الواقعة الجليلة الخطيرة - بطلب من النبيّ صلی اللّه علیه و آله - دليل على فضله على غيره ، لا سيّما وقد رقى على منكب دونه العيّوق (1) ، وهام الملائكة والملوك.
وقد أشار الشافعي إلى هذه الواقعة مادحا لأمير المؤمنين علیه السلام ، كما حكاه في « ينابيع المودّة » (2) ، فقال [ من الرّمل ] :
قيل لي : قل في عليّ مدحا *** ذكره يخمد نارا موصده
قلت : لا أقدم في مدح امرئ *** ضلّ ذو اللّبّ إلى أن عبده
والنبيّ المصطفى قال لنا *** ليلة المعراج لمّا صعده :
وضع اللّه بظهري يده *** فأحسّ القلب أن قد برّده
وعليّ واضع أقدامه *** في محلّ وضع اللّه يده
بل قد يقال بدلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجه آخر ؛ وهو أنّ ضعفه عن حمل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا كان مخالفا لما هو عليه من القوّة العظيمة ، دلّ على أنّ المنشأ في ضعفه هو رعاية جهة النبوّة ؛ ولذا خيّل له أن لو شاء أن ينال السماء نالها ، فلا يرفع النبيّ على منكبيه - بما هو نبيّ ملحوظ به جهة النبوّة - إلّا من هو شريك له في أمره ، ومن هو كنفسه ، وخليفته في أمّته.
ص: 206
وأمّا الحديث الثاني ؛ وهو أنّه لا يجوز على الصراط إلّا من كان معه كتاب بولاية عليّ علیه السلام ..
فقد سبق مع دلالته على المطلوب في الآية الحادية عشرة (1).
وأمّا الحديث الثالث ؛ وهو حديث ردّ الشمس ..
فقد أخرجه كثير بطرق كثيرة ، وصحّحه جماعة ..
قال ابن حجر في « الصواعق » (2) : حديث ردّها صحّحه الطحاوي والقاضي في « الشفاء » ، وحسّنه شيخ الإسلام أبو زرعة وتبعه غيره » (3).
لكنّ ابن الجوزي على عادته في إنكار ما صحّ في فضائل أمير المؤمنين علیه السلام زعم وضع الحديث ، وذكر بعض طرقه فوهّنها ، كما حكاه عنه السيوطي في « اللآلئ » (4).
ولنذكر مجمل كلام ابن الجوزي ..
قال بعد ذكر حديث العقيلي عن أسماء بنت عميس : موضوع ،
ص: 207
اضطربت فيه الروايات ، رواه سعيد بن مسعود ، عن أسماء بنت عميس ، بسند فيه فضيل بن مرزوق ، ضعّفه يحيى ، وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات ، ويخطئ على الثقات (1).
وذكر حديثا آخر ، عن ابن شاهين ، عن أسماء ، وفي سنده عبد الرّحمن بن شريك ؛ قال أبو حاتم : واهي الحديث ، وشيخ ابن شاهين ابن عقدة رافضيّ ، رمي بالكذب ، وهو المتّهم به (2).
وذكر أيضا حديثا عن ابن مردويه ، عن أبي هريرة ، وفي سنده داوود ابن فراهيج ، ضعّفه شعبة (3).
انتهى ما عن ابن الجوزي.
وتعقّبه السيوطي بقوله : « فضيل ، الذي أعلّ به الطريق الأوّل ، ثقة صدوق ، احتجّ به مسلم في صحيحه ، وأخرج له الأربعة (4).
وعبد الرحمن بن شريك ، وإن وهاه أبو حاتم فقد وثّقه
ص: 208
غيره (1) ، وروى عنه البخاريّ في ( الأدب ) (2).
وابن عقدة ، من كبار الحفّاظ ، والناس مختلفون في مدحه وذمّه ؛ قال الدارقطني : كذب من اتّهمه بالوضع ؛ وقال حمزة السهمي : ما يتّهمه بالوضع إلّا ذو الأباطيل ؛ وقال أبو علي الحافظ : أبو العبّاس إمام حافظ ، محلّه محلّ من يسأل عن التابعين وأتباعهم (3) (4).
ص: 209
ص: 210
وداوود ، وثّقه قوم وضعّفه آخرون (1) » .
ثمّ الحديث ، صرّح جماعة من الأئمّة والحفّاظ بأنّه صحيح ..
قال القاضي عياض في ( الشفاء ) : أخرج الطحاوي في ( مشكل الحديث ) ، عن أسماء بنت عميس من طريقين ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ ؛ فذكر هذا الحديث.
قال الطحاوي : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات.
وحكى الطحاوي أنّ أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء ؛ لأنّه من علامات النبوّة (2) (3).
ثمّ ذكر السيوطي للحديث الأوّل طريقا للطبراني ، وآخر للعقيلي ، وثالثا للخطيب في « تلخيص المتشابه » ، ورابعا لأبي بشر الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » (4).
ثمّ قال : « ثمّ وقفت على جزء مستقلّ في جمع طرق هذا الحديث ، تخريج أبي الحسن شاذان الفضلي » ، ثمّ ساق له اثني عشر طريقا ، عن عليّ ، وأسماء ، وأبي هريرة ، وجابر بن عبد اللّه ، وأبي ذرّ ؛ لكنّ حديث
ص: 211
أبي ذرّ هكذا :
« قال عليّ يوم الشورى : أنشدكم باللّه ، هل فيكم من ردّت عليه الشمس غيري حين نام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجعل رأسه في حجري حتّى غابت الشمس ، فانتبه فقال : يا عليّ! ... صلّيت العصر؟
قلت : اللّهمّ لا.
فقال : اللّهم ارددها عليه ، فإنّه كان في طاعتك وطاعة رسولك ».
ثمّ قال السيوطي : « وروى ابن أبي شيبة طرقا من حديث أسماء ».
ثمّ قال : « وممّا يشهد بصحّة ذلك قول الإمام الشافعي وغيره : ما أوتي نبيّ معجزة إلّا أوتي نبيّنا نظيرها أو أبلغ منها.
وقد صحّ أنّ الشمس حبست على يوشع ليالي قاتل الجبّارين ، فلا بدّ أن يكون لنبيّنا نظير ذلك ، فكانت هذه القصّة نظير تلك ».
انتهى ما في « اللآلئ » (1).
وقد نسج ابن تيميّة على منوال ابن الجوزي ، فحكم بوضع الحديث (2).
قال المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » : « التاسع : رجوع الشمس له مرّتين ، إحداهما : في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والثانية : بعده.
أمّا الأولى : فروى جابر وأبو سعيد الخدري ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نزل عليه جبرئيل يوما يناجيه من عند اللّه ، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين علیه السلام ، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشمس ، فصلّى عليّ
ص: 212
العصر بالإيماء ، فلمّا استيقظ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : سل اللّه يرد عليك الشمس لتصلّي العصر قائما ؛ فدعا ، فردّت الشمس ، فصلّى العصر قائما.
وأمّا الثانية : فلمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل ، استعمل كثير من أصحابه دوابّهم ، وصلّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر ، وفاتت كثيرا ، فتكلّموا في ذلك ، فسأل اللّه ردّ الشمس فردّت ، ونظمه الحميري فقال [ من الكامل ] :
ردّت عليه الشمس لمّا فاته *** وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتّى تبلّج نورها في وقتها *** للعصر ثمّ هوت هويّ الكوكب
وعليه قد ردّت ببابل مرّة *** أخرى وما ردت لخلق مغرب »(1)
وأجاب ابن تيميّة بإنكار الحديثين ، واستشهد بكلام ابن الجوزي ، ثمّ نقل عن أبي القاسم الحسكاني ، أنّه جمع طرق حديث ردّها في أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مصنّف سمّاه : « مسألة في تصحيح ردّ الشّمس وترغيب النواصب الشّمس »(2) ، ثمّ ذكر ابن تيميّةطرقه ، وهي أكثر ممّا سبق ،
ص: 213
أخرجها عن أمير المؤمنين ، وأسماء ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأورد عليه بأمور ، ولنذكرها مفصّلة وإن كانت مشوّشة في كلامه ..
الأمر الأوّل : عدم صحّة طرقه ، وبالغ في النقد عليها ، حتّى ضعّف جملة من رجالها ، وهم ممّن احتجّ بهم مسلم ، والبخاري في الصحيحين (1).
فليت شعري ، كيف يجتمع هذا مع قولهم بصحّة أخبار الصحيحين أجمع؟!
وهل يسلم لهم خبر من نقد بعض رجاله بمثل تلك النقود ، حتّى يصحّ القول بصحّته؟!
وكيف كان! فنحن لا نضيّع الوقت بردّ نقوده بعدما صحّح جملة من
ص: 214
طرق الحديث : الطحاوي ، والقاضي عياض ، والحافظ السيوطي ، والحاكم الحسكاني ، وسبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ، وحسّنها أبو زرعة وغيره (1).
ولا سيّما أنّ المطلوب الوثوق ، ولا ريب بحصوله من الطرق المستفيضة ، بل هو أشدّ وأقوى من الوثوق من خبر صحيح أو أخبار صحاح.
وإذا ضممت إلى تلك الأحاديث أخبارنا (2) علمت أنّ ردّها لأمير المؤمنين متواتر.
الأمر الثاني : إنّه لو كان للواقعة أصل ، لكانت من أعظم عجائب العالم التي تتوفّر الدواعي إلى نقلها ، ولم يختصّ نقلها بالقليل (3).
ويرد عليه :
أوّلا : إنّ الدواعي إلى عدم نقلها أكثر ؛ لأنّ الناس في أيّام الأمويّين وكثير من الأوقات أعداء لأمير المؤمنين علیه السلام ، ومجتهدون في نقصه ،
ص: 215
فكيف يستفيض بينهم نقل هذه الفضيلة العظيمة؟!
وثانيا : إنّه منقوض بانشقاق القمر ، الذي هو معجزة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله (1) ، ولا يشاركه فيها عليّ حتّى تتوفّر الدواعي إلى إخفائها ، ومع ذلك لم يروها أكثر من رواة ردّ الشمس.
ودعوى ابن تيميّة الفرق بأنّ انشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس (2) ، باطلة ؛ لما في « صحيح البخاري » في تفسير : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (3) ، عن أنس ، قال : سأل أهل مكّة أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر (4).
وفي « سنن الترمذي » ، في تفسير هذه السورة ، عن جبير بن مطعم ، قال : انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى صار فرقتين ، على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ؛ فقالوا : سحرنا محمّد! فقال بعضهم : لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلّهم (5).
وثالثا : إنّ السبب في عدم تواتر نقل مثل هذه الوقائع في الكتب ، هو أنّ عامّة الناس كانوا أمّيّين ، وما كان التاريخ والتأليف مألوفا بين من يعرف الكتابة منهم ، بلا فرق بين المسلمين وغيرهم ؛ ولذا لم يعرف مؤلّف في تلك العصور ، ولم يصل إلينا من معجزات النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا القليل ،
ص: 216
ولا سيّما من طرق السنّة.
وإنّما وقع التأليف نادرا في التابعين ، وكثر في تبع التابعين ، على حين لم يبق من ذكر الحوادث السالفة إلّا ما ندر ، وتناسى الناس فضائل أمير المؤمنين ؛ خوفا أو عنادا ، لا سيّما ما هو صريح في إمامته.
الأمر الثالث : إنّ خصوصيّات الروايات متنافية من وجوه ، وهو يكشف عن كذب الواقعة.
الأوّل : دلالة بعضها على طلوع الشمس حتّى وقعت على الجبال وعلى الأرض ، وبعضها حتّى توسّطت السماء ، وبعضها حتّى بلغت نصف المسجد.
وهذا دالّ على أنّ ذلك بالمدينة ؛ لأنّ المقصود مسجدها ، وكثير من الأخبار يدلّ على أنّه بالصهباء (1) في غزوة خيبر (2).
الثاني : إنّ بعضها يدلّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يوحى إليه ، وبعضها كان نائما ثمّ استيقظ.
الثالث : دلالة بعضها على أنّ عليّا كان مشغولا بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبعضها على أنّه كان مشغولا بقسم الغنائم.
.. إلى غير ذلك من الخصوصيّات المتنافية (3).
ص: 217
والجواب : إنّ تنافي الخصوصيّات لا يوجب كذب أصل الواقعة ، وإنّما يقتضي الخطأ في الخصوصيّات ؛ إذ لا ترى واقعة تكثّرت طرقها إلّا واختلف النقل في خصوصيّاتها ، حتى إنّ قصّة انشقاق القمر قد وردت - في الرواية التي تقدّمت عن الترمذي (1) - بأنّ القمر صار فرقتين على جبلين.
وفي رواية أخرى للترمذي : إنشقّ فلقتين ، فلقة من وراء الجبل ، وفلقة دونه (2).
وفي « صحيح البخاري » : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه (3).
على أنّه لا تنافي بين تلك الخصوصيّات ؛ لأنّ المراد بجميع الخصوصيّات في الوجه الأوّل : هو رجوع الشمس إلى وقت صلاة العصر ، كما صرّح به بعض الأخبار (4).
لكن وقعت المبالغة في بعضها بأنّها توسّطت السماء (5) ، والمبالغة غير عزيزة في الكلام.
كما أنّ وقوع ردّ الشمس في غزوة خيبر ، لا ينافي بلوغها نصف
ص: 218
المسجد.
وأمّا الخصوصيّات في الوجه الثاني ، فلا تنافي بينها أيضا ؛ لصحّة حمل نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله على غشية الوحي والاستيقاظ على تسرّيه ؛ ولذا عبّر بعض الأخبار بالاستيقاظ بعد ذكر نزول جبرئيل وتغشّي الوحي للنبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
وأمّا الخصوصيّات في الوجه الثالث ، فهي أظهر بعدم التنافي بينها ؛ إذ لا يبعد أنّ قسم الغنائم هو الحاجة التي وقعت قبل شغل عليّ علیه السلام بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لا في عرضه.
وعلى هذا القياس في سائر الخصوصيّات التي يتوهّم تنافيها.
الأمر الرابع : اشتمال الأحاديث على المنكرات :
منها : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « يا ربّ! إنّ عليّا في طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس ».
قال أبو سعيد : فو اللّه لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتّى رجعت بيضاء نقيّة.
ومنها : إنّها لمّا غابت سمع لها صرير كصرير المنشار.
ومنها : إنّها أقبلت ولها صرير كصرير الرحى.
وإنّما قلنا : إنّ هذه منكرات ؛ لأنّ الشمس لا تلاقي من الأجسام ما يوجب هذه الأصوات التي تصل من فلك الشمس إلى الأرض (2).
والجواب : إنّ اللّه سبحانه لا يعجز عن إحداث الصوت ليكون
ص: 219
للسمع حظّ من هذه الفضيلة كما للبصر ، فيزيد التيقّن بها ، والالتفات إليها.
ولو تسرّبنا (1) إلى هذه المناقشات منعنا انشقاق القمر ، وسقوط شقّيه على الجبلين أو الجبل وما دونه ، فإنّه أكبر من ذلك.
فإذا أجيب هاهنا بأنّ اللّه شقّه وصغّر جرمه وأنزله إلى الأرض إيضاحا للحجّة ، فليجب بمثله في المقام.
وممّا اشتملت عليه من المنكرات - بزعم ابن تيميّة - نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد صلاة العصر ، وهو مكروه ، ولا يفعله النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهو أيضا تنام عيناه ولا ينام قلبه (2) ؛ فكيف يفوّت على عليّ صلاته؟!
ثمّ إنّ تفويت الصلاة إن كان جائزا لم يكن على عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب ، وليس عليّ أفضل من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والنبيّ قد فاتته العصر يوم الخندق ، ولم ترد عليه الشمس.
وقد نام ومعه عليّ وسائر الصحابة عن الفجر حتّى طلعت الشمس ، ولم ترجع إلى الشرق.
وإن كان التفويت محرّما فهو من الكبائر ، ومن فعل هذا كان من
ص: 220
مثالبه ، لا من مناقبه.
ثمّ إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس (1).
والجواب : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم ينم - كما عرفت - وإنّما تغشّاه الوحي (2).
وما ذكره من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يجب أن يجعله دليلا على كذب رواية نومه صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح ، وكذب رواية نسيانه الصلاة يوم الخندق ، كما أوضحناه في مباحث النبوّة (3).
فحينئذ يبطل نقضه بعدم ردّ الشمس للنبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا فاتته الصلاة في الوقتين ، وهو أفضل من عليّ علیه السلام .
على أنّ فضل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يستلزم أولويّة ردّها له ؛ لجواز أن يكون ردّها لعليّ علیه السلام دفعا لطعن أهل النفاق فيه بتركه الصلاة ، فردّت له ؛ ليعلم أنّه في طاعة اللّه تعالى بشاهد جليّ ؛ أو لغير ذلك من الحكم المقتضية لتخصيصه دون النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
على أنّ عليّا علیه السلام لم يترك أصل الصلاة ، فإنّه صلّاها إيماء ، كما صرّح به بعض الأخبار (4) ، وإنّما ردّها اللّه سبحانه له لينال فضل الصلاة قائما في وقتها ، ويظهر فضله وكمال طاعته ، وليقطع ألسنة المنافقين.
وبهذا يعلم ما في قوله : « إن كان جائزا لم يكن على عليّ إثم إذا
ص: 221
صلّى العصر بعد الغروب » ، فإنّ الداعي لردّها ليس رفع الإثم ، بل تلك الحكم المذكورة ، فقد ظهر أنّ المناقشة في الحديث إنّما هي من السفاسف.
وأمّا دلالته على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام فأجلى من الشمس ؛ لأنّه من أعظم الأدلّة على الاهتمام بشأنه وفضله على جميع الأصحاب بما لا يحلم أن يناله أحد منهم.
هذا كلّه في ردّها له في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..
ويروى ردّها له بعد وفاته صلی اللّه علیه و آله كما ذكره المصنّف رحمه اللّه (1) ، وحكاه ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (2) ، عن نصر بن مزاحم ، بسنده عن عبد خير ، قال : « كنت مع عليّ في أرض بابل وحضرت صلاة العصر ، فجعلنا لا نأتي مكانا إلّا رأيناه أقبح من الآخر ، حتّى أتينا على مكان أحسن ما رأينا ، وقد كادت الشمس أن تغيب ..
قال : فنزل عليّ فنزلت معه ، فدعا اللّه فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، فصلّيت العصر ثمّ غابت ».
ونقل في « ينابيع المودّة » (3) ، عن « المناقب » ، عن الحسين علیه السلام ، قال : « لمّا رجع أبي من قتال النهروان سار في أرض بابل ، وحضرت صلاة العصر ، فقال : هذه أرض مخسوفة ، وقد خسفها اللّه ثلاثا ، ولا يحلّ لوصيّ نبيّ أن يصلّي فيها.
ص: 222
قال جويرية بن مسهر العبدي (1) : صلّى الناس هنا ، وتبعت بمئة فارس أمير المؤمنين إلى أن قطعنا أرض بابل ، والشمس قد غربت ، فنزل وقال : آتني الماء ؛ فآتيته الماء ، فتوضّأ وقال : يا جويرية! أذّن للعصر.
فقلت في نفسي : كيف يصلّي العصر وقد غربت الشمس؟!
فأذّنت ، وقال لي : أقم ؛ فأقمت ، وإذا أنا في الإقامة تحرّكت شفتاه ، وإذا رجعت الشمس وصلّينا وراءه.
فلمّا فرغنا من الصلاة غابت الشمس بسرعة كأنّها سراج وقعت في طشت ماء واشتبكت النجوم ، والتفت إليّ وقال : أذّن للمغرب يا ضعيف اليقين! ».
ونقل في « الينابيع » أيضا ، عن أخطب خوارزم ، بسنده عن مجاهد ، أنّ ابن عبّاس أثنى على أمير المؤمنين علیه السلام في كلام قال فيه : « وردّت عليه الشمس مرّتين » (2).
وأمّا الحديث الرابع ؛ وهو حديث السطل والماء والمنديل ..
ص: 223
فقد حكاه أيضا في « الينابيع » (1) ، عن ابن المغازلي ، وصاحب « المناقب » ، وأخطب خوارزم ، بأسانيدهم عن أنس.
وأمّا الحديث الخامس ؛ وهو حديث النداء يوم أحد ..
فقد رواه الطبري في « تاريخه » (2) ..
وابن الأثير في « كامله » (3) ..
وكذا ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (4) ، ناقلا له عن غلام ثعلب ، ومحمّد بن حبيب في « أماليه » ، وجماعة من المحدّثين ..
ثمّ قال : « وهو من الأخبار المشهورة ، ووقفت عليه في بعض نسخ ( مغازي محمّد بن إسحاق ) ، ورأيت بعضها خاليا عنه.
ص: 224
وسألت شيخي عبد الوهّاب بن سكينة (1) عن هذا الخبر ، فقال : صحيح ».
أقول : ويكفي في صحّته استفاضته ، لا سيّما بضميمة أخبارنا (2).
وأمّا صدور النداء يوم بدر فقد تقدّمت روايته في أوّل المبحث (3) ، وأشار إليها سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » (4).
ونقل أيضا عن أحمد في « الفضائل » ، وصحّحه ، وقوع النداء يوم خيبر ، وأنّهم سمعوا تكبيرا من السماء في ذلك اليوم ، وقائلا يقول :
لا سيف إلّا ذو الفقا
ر ولا فتى إلّا علي
فاستأذن حسّان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن ينشد شعرا ، فأذن له فقال [ من مجزوء الكامل ] :
جبريل نادى معلنا
والنّقع (5) ليس ينجلي
ص: 225
والمسلمون أحدقوا *** حول النبيّ المرسل
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ولا فتى إلّا علي (1)
فلا ريب بصدور النداء بذلك من جبرئيل ولو في أحد هذه المواطن الثلاثة ، وهو صريح في نفي الفتوّة - أي : السخاء بالنفس - عن غير عليّ علیه السلام ، فيدلّ على أنّه أسخى الناس بنفسه وأطوعهم له ، والفضل في الطاعة فرع الفضل الذاتي ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
ويشهد لفضله الذاتي قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الحديث : « هو منّي وأنا منه » ، وقول جبرئيل : وأنا منكما (2).
* * *
ص: 226
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الرابع والعشرون : في « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « رحم اللّه عليّا ، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار » (2).
وروى الجمهور : قال صلی اللّه علیه و آله لعمّار : « ستكون في أمّتي بعدي هناة واختلاف حتّى يختلف السيف بينهم ، حتّى يقتل بعضهم بعضا ، ويتبرّأ بعضهم من بعض.
يا عمّار! تقتلك الفئة الباغية ، وأنت إذ ذاك مع الحقّ والحقّ معك ، إنّ عليّا لن يدنيك من ردى ، ولن يخرجك من هدى.
يا عمّار! من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوّه قلّده اللّه يوم القيامة وشاحين من درّ ، ومن تقلّد سيفا أعان به عدوّه قلّده اللّه وشاحين من نار.
ص: 227
فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني - يعني : عليّا - ، وإن سلك الناس كلّهم واديا وسلك عليّ واديا ، فاسلك واديا سلكه عليّ ، وخلّ الناس طرّا.
يا عمّار! إنّ عليّا لا يزال على الهدى.
يا عمّار! إنّ طاعة عليّ من طاعتي ، وطاعتي من طاعة اللّه تعالى » (1).
وروى أحمد بن موسى بن مردويه ، من الجمهور ، من عدّة طرق ، عن عائشة ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « الحقّ مع عليّ ، وعليّ مع الحقّ ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (2).
* * *
ص: 228
وقال الفضل (1) :
صحّ في الصحاح أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعمّار : ويح عمّار! تقتله الفئة الباغية (2).
وباقي ما ذكر إن صحّ دلّ على أنّ عليّا كان مع الحقّ أينما دار ، وهذا شيء لا يرتاب فيه حتّى يحتاج إلى دليل ، بل هذا دليل على حقّية الخلفاء ؛ لأنّ الحقّ كان مع عليّ ، وعليّ كان معهم ، حيث تابعهم وناصحهم ، فثبت من هذا خلافة الخلفاء ، وأنّها كانت حقّا صريحا.
ص: 229
وأمّا من خالف عليّا من البغاة ، فمذهب أهل السنّة والجماعة أنّ الحقّ كان مع عليّ ، وهم كانوا على الباطل ، ولا شكّ في هذا.
* * *
ص: 230
روى لفظ الحديث الأوّل الترمذي في فضائل عليّ علیه السلام (1).
والحاكم أيضا في فضائله من « المستدرك » (2).
ونقل في « الصواعق » (3) ، عن الذهبي أنّه صحّح طرقا كثيرة لدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ في غدير خمّ ؛ المشتمل على قوله : « وأدر الحقّ معه حيث دار ».
وحكى ابن أبي الحديد (4) ، عن أبي القاسم البجلي (5) وتلامذته من المعتزلة ، قالوا : لو نازع عليّ عقيب وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه - إلى أن قالوا : - وحكمه حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال : « عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ، يدور حيثما دار ».
ص: 231
وحكم ابن أبي الحديد أيضا بثبوت هذا الحديث (1) في شرح الخطبة التي يقول فيها : إنّ الأئمّة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم.
ونقل في « كنز العمّال » (2) ، عن أبي يعلى وسعيد بن منصور ، بسندهما عن أبي سعيد ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « الحقّ مع ذا ، الحقّ مع ذا - يعني : عليّا - ».
وحكى في « الكنز » أيضا (3) ، عن الديلمي ، عن عمّار وأبي أيّوب ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « يا عمّار! إن رأيت عليّا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره ، فاسلك مع عليّ ودع الناس ، إنّه لن يدلّك على ردى ، ولن يخرجك من هدى ».
وهذا بعض الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه ، وذكره بتمامه إلّا القليل في « كشف الغمّة » ، نقلا عن الخوارزمي ، عن أبي أيّوب (4).
والأخبار الدالّة على أنّ الحقّ مع عليّ - والحقّ معه - ، إمّا بلفظه أو بمعناه ، أكثر من أن تحصى ، وهي متواترة معنى ، وقد تقدّم منها ما صرّح بأنّه فاروق هذه الأمّة يفرق بين الحقّ والباطل (5) ..
ومنها أحاديث التمسّك بالثّقلين (6) ..
ص: 232
وأنّ أهل البيت سفينة النجاة (1).
فإذا كان عليّ مع الحقّ ، والحقّ معه ، يدور حيث دار ، وجب أن يكون معصوما ، والعصمة شرط الإمامة ، ولا معصوم غيره من الصحابة اتّفاقا.
وأيضا : يلزم منه بطلان خلافة أبي بكر ، ولا سيّما في الستّة أشهر التي امتنع فيها عن بيعة أبي بكر ، كما رواه البخاري في غزاة خيبر (2) ، وغيره (3).
وأمّا مبايعته بعد ذلك فلم تقع إلّا قهرا ، كما أنّ مناصحته لهم - بعد مشاورتهم له في بعض الأمور - إنّما هي لإصلاح الدين لا لترويج إمرتهم ؛ ولذا ما زال يتظلّم منهم ، ووقع بينهم وبينه من النفورة والعداوة ما هو جليّ لكلّ أحد (4).
وأمّا ما ذكره في شأن البغاة ، فهو إقرار بأنّ صاحبة الجمل وأصحابها ومعاوية وأنصاره ، كانوا مبطلين ، ومطالبين عند اللّه تعالى بأمر عظيم ، وهو إلقاح الفتنة إلى يوم الدين ، وإزهاق نفوس الآلاف من المسلمين ، الذي لا تنجي منه التوبة بالقول - لو صدرت - ما لم يعطوا النّصف من أنفسهم ويخرجوا عن المظالم إلى أهلها.
والإقرار بذلك لا يناسب تعظيمهم لهم ، وجعل تفضيل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام (5) ، وجعل الزبير حواريّ
ص: 233
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الخامس والعشرون : روى أحمد بن حنبل في « مسنده » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وقال : « من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (2).
وفيه : عن جابر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم بعرفات وعليّ تجاهه : « ادن منّي يا عليّ! خلقت أنا وأنت من شجرة ، فأنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلّق بغصن منها أدخله اللّه الجنّة » (3).
ص: 235
وفيه : عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ؛ الثّقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ».
ورواه أحمد من عدّة طرق (1).
وفي « صحيح مسلم » ، في موضعين ، عن زيد بن أرقم ، قال : خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بماء يدعى « خمّا » بين مكّة والمدينة ، ثمّ قال بعد الوعظ :
« أيّها الناس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثّقلين ؛ أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به - فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه ، ثمّ قال : - وأهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي » (2).
وروى الزمخشري - وكان من أشدّ الناس عنادا لأهل البيت ، وهو الثقة المأمون عند الجمهور - ، قال بإسناده : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فاطمة مهجة (3) قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ،
ص: 236
والأئمّة من ولدها أمناء ربّي ، وحبل ممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلّف عنهم هوى » (1).
وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) ، بأسانيد متعدّدة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « أيّها الناس! قد تركت فيكم الثّقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض ؛ وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (3).
وفي « الجمع بين الصحيحين » : « إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثّقلين ؛ أوّلهما كتاب اللّه ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به ؛ وأهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي خيرا » (4).
ص: 237
وقال الفضل (1) :
هذه الأخبار بعضها في الصحاح ، وبعضها قريب المعنى منها ، وحاصلها : التوصية بحفظ أحكام الكتاب ، وأخذ العلم منه ومن أهل البيت ، وتعظيم أهل البيت ومحبّتهم وموالاتهم ، وكلّ هذه الأمور فريضة على المسلمين ، ولا قائل بعدم وجوبه على كلّ مسلم.
ولكن ليس في ما ذكر نصّ على خلافة عليّ بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛
ص: 238
لأنّ هذا هو الوصيّة بالحفظ ، وأخذ العلم منهم.
وجعلهم قرناء للقرآن ، يدلّ على وجوب التعظيم ، وأخذ العلم عنهم ، والاقتداء بهم في الأعمال والأقوال ، وأخذ طريق السنّة والمتابعة من أعمالهم ، ولا يلزم من هذا خلافتهم ، وليس هو بالنصّ في خلافتهم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ومراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله : توصية الأمّة بحفظ القرآن ، ومتابعة أهل البيت ، وتعظيمهم ؛ وهذا ما لا نزاع فيه.
* * *
ص: 239
حديث الثّقلين مستفيض أو متواتر ، وقد رواه أحمد في « مسنده » من طرق كثيرة جدّا عن جماعة (1).
ورواه الترمذي في مناقب أهل البيت من « سننه » ، عن خمسة من الصحابة (2).
ورواه مسلم في فضائل عليّ علیه السلام ، من عدّة طرق ، عن زيد بن أرقم (3).
ورواه الحاكم في « المستدرك » (4) ، عن زيد - أيضا - من طريقين.
وقال ابن حجر في « الصواعق » - عند تعرّضه لحديث الثّقلين (5) - : « الحاصل : إنّ الحثّ وقع على التمسّك بالكتاب ، وبالسنّة ، وبالعلماء بهما من أهل البيت ؛ ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة ».
ثمّ قال : « إعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّا ».
ص: 240
ودلالته على إمامة عليّ وولده ظاهرة من وجوه :
الأوّل : إنّ تصريحه بأنّ الكتاب والعترة لا يفترقان ، دالّ على علمهم بما في الكتاب ، وأنّهم لا يخالفونه قولا وعملا.
والأوّل دليل الفضل على غيرهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
والثاني دليل العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم.
الثاني : إنّه جعلهم عديلا (1) للقرآن ، فيجب التمسّك بهم مثله ، واتّباعهم في كلّ أمر ونهي ، ولا يجب اتّباع شخص على الإطلاق إلّا النبيّ أو الإمام المعصوم.
الثالث : إنّه عبّر عن الكتاب والعترة ب « خليفتين » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه (2) ..
وحديث أحمد في « مسنده » (3) ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب اللّه ، وأهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ».
ومن الواضح أنّ خلافة كلّ شيء بحسبه ، فخلافة القرآن بتحمّله أحكام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومواعظه ، وإنذاره ، وسائر تعاليمه ؛ وخلافة الشخص بإمامته ، وقيامه بما تحتاج إليه الأمّة ، ونشر الدعوة ، وجهاد المعاندين.
الرابع : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر في مفتتح الحديث قرب موته ، كقوله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب » (4) ..
ص: 241
أو قوله : « كأنّي قد دعيت فأجبت » (1) ..
أو نحو ذلك كما في أحاديث مسلم (2) ، وأحد حديثي الحاكم (3) ، وحديث أحمد عن زيد بن أرقم (4) ، وحديثه عن أبي سعيد (5).
ثمّ قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ ومن المعلوم أن ذا السلطان والولاية ، الذي له نظام يلزم العمل به بعده ، إذا ذكر موته وقال : « إنّي تارك فيكم فلانا ، وكتابا حافظا لنظامي » ، لم يفهم منه إلّا إرادة العهد إلى ذلك الشخص بالإمرة بعده ؛ خصوصا وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ، أو : « من كنت وليّه فعليّ وليّه » ، كما في حديثي الحاكم وغيرهما (6).
ولا يبعد أنّ وصيّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالثّقلين كانت في غدير خمّ ، أو أنّه أحد مواردها (7) ؛ لقوله في حديث مسلم : « خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله
ص: 242
بماء يدعى خمّا » (1)، ولقوله صلی اللّه علیه و آله في بعض الأحاديث : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » (2) ، فإنّه صادر بالغدير ، فيكون قد عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله في خمّ بالخلافة إلى أهل البيت عموما ، وإلى عليّ خصوصا ، فكان الخليفة بعده أمير المؤمنين ، ثمّ الحسنان.
وقد بيّنّا في الآية الثالثة أنّ أهل البيت لا يشمل بقيّة أقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3).
الخامس : قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما » ، كما في أحد حديثي الحاكم ، وصحّحه على شرط الشيخين (4) ..
ونحوه ما في « الصواعق » (5) وصحّحه ..
وقوله صلی اللّه علیه و آله : « قد تركت فيكم الثّقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه (6) ..
وقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الترمذي عن زيد بن أرقم (7) ..
وقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا » ، كما
ص: 243
في حديث الترمذي عن جابر (1) ، وحديث أحمد عن أبي سعيد (2).
فإنّ كلّ واحد من هذه الأقوال صريح في بطلان خلافة المشايخ الثلاثة ؛ لأنّه صلی اللّه علیه و آله رتّب عدم ضلال أمّته دائما وأبدا على التمسّك بالثقلين.
وبالضرورة ، أنّ الضلال واقع ولو أخيرا ؛ لاختلاف الأديان وفساد الأعمال ، فيعلم أنّهم لم يتمسّكوا في أوّل الأمر بالعترة والكتاب ، وأنّ خلافة الثلاثة خلاف التمسّك بهما ، ولذا وقع الضلال.
ولا يرد النقض بأنّ الأمّة تمسّكت بالعترة - حين بايعت عليّا علیه السلام - ومع ذلك وقع الضلال المذكور ؛ وذلك لأنّ المراد هو التمسّك بالعترة كالكتاب بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا فصل.
على أنّ الأمّة لم تتمسّك بعليّ علیه السلام بعد مبايعته ؛ لمخالفة الكثير منهم له حتّى انقضت أيّامه بحرب الأمّة.
فأين تمسّكها بالعترة؟! وأين تمسّكها بالكتاب ، وهو قد قاتلهم على تأويله؟!(3).
فإن قلت : لعلّ المراد : أنّكم إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ما دمتم متمسّكين بهما ، فلا يدلّ ضلالهم أخيرا على عدم تمسّكهم أوّلا.
قلت : هذا احتمال خارج عن الظاهر ، حتّى بلحاظ قوله - في خبري الترمذي المذكورين - : « ما إن تمسّكتم به » و « ما إن أخذتم به » ؛ لأنّ « ما » فيهما مفعول به ل « تركت » و « تارك » ، لا ظرفية زمانية.
ص: 244
فقد ظهر من هذه الوجوه الخمسة دلالة الحديث على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ، لا على مجرّد الوصيّة بأخذ العلم منهم.
ولو سلّم ، فمن الواضح دلالة الحديث على وجوب أخذ العلم منهم ، وعدم جواز مخالفتهم ، كالقرآن ، وحينئذ فيجب اتّباع قولهم في الإمامة ، وفي صحّة إمامة شخص وعدمها ؛ لأنّه من أخذ العلم منهم.
ومن المعلوم أنّ عليّا خالف في إمامة أبي بكر - ولو في بعض الأوقات - ، فتبطل ولو في الجملة ، وهذا خلاف مذهب القوم.
فكيف وقد ادّعى أنّ الحقّ له من يوم وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى حين موته هو علیه السلام ، وتظلّم منهم مدّة حياته - كما سبق (1) -؟!
وأيضا : لم تتّبع الأمّة عترة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أمر الخمس والمتعتين وكثير من الأحكام ، فيكونون ضلّالا!
وما أدري متى تمسّكت الأمّة بالعترة؟!
أفي زمن أمير المؤمنين؟! أو في زمن أبنائه الطاهرين؟! وقد تركوا كلّا منهم حبيس بيته لا يسمع له قول ، ولا يتّبع له أمر ، ولا يؤخذ منه حكم.
بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة والشام والكوفة ، وسبوا نساءهم سبي الترك والديلم!
فهل تراهم مع هذا قد تمسّكوا بهم ، أو نبذوهم وراء ظهورهم وانقلبوا على الأعقاب ، كما ذكره سبحانه في عزيز الكتاب (2)؟!
ص: 245
هذا ، ولا يخفى أنّ الحديث دالّ على بقاء العترة إلى يوم القيامة لأمور :
الأوّل : قوله صلی اللّه علیه و آله فيه : « إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ فإنّه دالّ على أنّه ترك فيهم ما يحتاجون إليه ، وما هو كاف في حصول حاجتهم.
وبالضرورة ، أنّه لو لم يدل الثقلان لم يكفيا ؛ لأنّ الأمّة محتاجة مدى الدهر إلى الأحكام والحكّام.
الثاني : قوله صلی اللّه علیه و آله : « إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ؛ فإنّ تأبيد عدم الضلال موقوف على تأبيد ما يتمسّك به.
الثالث : قوله صلی اللّه علیه و آله : « لن يفترقا » ؛ فإنّه لو لم يكن في وقت من الأوقات من هو قرين الكتاب من العترة ، لافترق الكتاب عنهم.
وقد أقرّ ابن حجر في عبارته السابقة بإفادة الحديث بقاء العترة إلى يوم القيامة (1) ..
وقال بعد ذلك : « وفي أحاديث التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : ( في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ) ... » (2)إلى آخره.
ص: 246
أقول :
أراد بالخبر السابق ، ما نقله قبل هذا الكلام عن الملّاء في « سيرته » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإن أئمّتكم وفدكم إلى اللّه عزّ وجلّ ، فانظروا من توفدون » (1).
وليت شعري ، إذا علم ابن حجر ذلك ، فما باله أنكر إمامة العترة ، ودان بإمامة أضدادهم ، وتمسّك بالشجرة الملعونة في القرآن؟!
وكيف حلّ له أن يترك الأخذ ممّن ينفون عن الدين تحريف الضالّين ، ويرجع في أحكامه إلى من حرّفوا الدين ، بشهادة مخالفتهم لمن ينفون عنه التحريف؟!
بل لم يكتف ابن حجر وأصحابه حتّى عيّنوا لأخذ الأحكام أئمّتهم الأربعة ، وحرّموا الرجوع إلى أهل البيت!
فهل هذا من التمسّك بالكتاب والعترة اللذين لا يفترقان إلى يوم القيامة؟!
هذا كلّه في حديث الثّقلين (2).
ص: 247
وأمّا غيره ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه :
فالخبر الأوّل قد رواه أحمد (1) ، ورواه الترمذي في مناقب عليّ من « سننه » وحسّنه (2).
ودلالته على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ساواهم معه دون من سواهم ، في أنّ من أحبّهم نال تلك المنزلة الرفيعة والمرتبة السامية ، الدالّة على الفضل عند اللّه سبحانه والقرب منه.
فيثبت لهم الفضل على غيرهم ، وتكون الإمامة بهم.
ومثله في الدلالة على المطلوب الخبر الثاني ، الذي حكاه المصنّف عن أحمد ، عن جابر ؛ ولم أجده في « مسنده » ، ولا يبعد أنّه ممّا نالته يد الإسقاط كما هو العادة (3)!
وقد تقدّم في الآية الحادية والأربعين ما يصدّق هذا الحديث (4).
ص: 248
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ما هو قريب منه ، عن ابن مردويه ، بسند فيه عبّاد بن يعقوب ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « مثلي مثل شجرة ، أنا أصلها ، وعليّ فرعها ، والحسن والحسين ثمرتها ، والشيعة ورقها ، فأيّ شيء يخرج من الطيّب إلّا الطيّب » (1).
قال ابن الجوزي : « عبّاد ، رافضي ، يروي المناكير » (2).
أقول :
لا وجه لذكر حديثه في « الموضوعات » ، وإلّا لجرّ الطعن إلى صحاحهم ؛ لأنّه ممّن روى له البخاري في « صحيحه » ، وروى له الترمذي ، وابن ماجة ، ووثّقه جماعة (3).
ص: 249
وليست مناكيره عندهم إلّا رواياته في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله !
قال ابن عديّ : « روى أحاديث في الفضائل أنكرت عليه » كما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال » (1).
وأظهر من الحديثين المذكورين في الدلالة على مذهب الإماميّة حديث الزمخشري (2) ؛ فتبصّر واعتبر!
* * *
ص: 250
26 - حديث الكساء
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السادس والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، من عدّة طرق ، وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيتي ، فأتت فاطمة فقال : ادعي زوجك وابنيك.
فجاء عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وكان تحته كساء خيبري ، فأنزل اللّه : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ ) يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).
فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال : هؤلاء أهل بيتي.
فأدخلت رأسي البيت وقلت : وأنا معهم يا رسول اللّه.
قال : إنّك إلى خير (3).
ص: 251
وقد روي نحو هذا المعنى من « صحيح أبي داود » (1) ..
و « موطّأ مالك » (2) ..
و « صحيح مسلم » في عدّة مواضع وعدّة طرق (3).
* * *
ص: 252
وقال الفضل (1) :
إنّ الأمّة اختلفت فيها أنّها في من نزلت؟ وظاهر القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وإن صدق في النقل عن « الصحاح » فكانت نازلة في آل العباء ، وهي من فضائلهم ، ولا تدلّ على النصّ بالإمامة.
* * *
ص: 253
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
السابع والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ، ذهب أهل الأرض » (2).
ورواه صدر الأئمّة موفّق بن أحمد المكّي (3).
وفي « مسند أحمد » : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى : [ اللّهمّ ] ( اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) (4) ، عليّا
ص: 255
وقال الفضل (1) :
هذا موافق في المعنى للحديث المذكور قبل ، وهو أنّه صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » (2).
ومراد موسى في قوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، الإشراك في أمر النبوّة ، ودعوة فرعون.
وهذا لا يصحّ هناك ؛ لقوله : « إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » ، اللّهمّ إلّا أن يراد المشاركة في دفع الكفّار بالحرب وتبليغ العلم.
* * *
ص: 257
سبق دلالة هذا الحديث ورواته في آخر آية من الآيات التي ذكرناها في الخاتمة ؛ فراجع (1).
وما زعمه من إرادة المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ظاهر البطلان ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما سأل عين ما سأله موسى علیه السلام بقوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .
ومن الواضح أنّ موسى لم يرد المشاركة في دفع الكفّار ؛ لأنّه قد طلب دفعهم بطلب جعله وزيرا ، فإنّ دفع الأعداء أظهر فوائد الوزارة ، فلا حاجة لإعادة هذا الطلب بقوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .
فينبغي أن يريد المشاركة في النبوّة ، والرئاسة على الأمّة ، وتحمّل العلوم .. إلى نحو ذلك.
فإذا دعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله بما دعا به موسى علیه السلام ، ثبتت لعليّ المشاركة في كلّ ذلك سوى النبوّة ؛ للدليل المخرج لها.
على أنّ ظاهر الأخبار كون المشاركة من خواصّ أمير المؤمنين علیه السلام ، فلا يراد بها المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ؛ لأنّها لا تخصّ عليّا علیه السلام ، إلّا أن يراد بها أعلى مراتب المشاركة في الدفع والتبليغ ، بحيث لا يعدّ غيره مشاركا بالنسبة إليه ، فله وجه.
ولكنّه - أيضا - مثبت للمطلوب ؛ لأنّه فرع الفضل العظيم على غيره ،
ص: 258
والأفضل أحقّ بالإمامة.
وقد تقدّم في الحديث التاسع ما ينفعك ؛ فراجع (1).
واعلم أنّ الحديث الأوّل - الذي حكاه المصنّف رحمه اللّه عن أحمد وموفّق بن أحمد (2) - لم يتعرّض الفضل لجوابه غفلة أو تغافلا ، وقد حكاه غير المصنّف عن « المسند » ، كصاحب « ينابيع المودّة » (3) ، وابن حجر في « الصواعق » (4) ، كما ستعرف.
وأنا لم أجده في « المسند » بعد التتبّع ، والظاهر أنّ أيدي التلاعب لعبت في إسقاطه!
ولعلّ الحديث الآخر كذلك (5) ، ولا ريب أنّه من أدلّ الأمور على إمامة أهل البيت علیهم السلام ؛ إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على اللّه تعالى ، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة ، مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه ، فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، ولا سيّما إذا كان عظيما ، فإنّ المعصية من العظيم أعظم ، والحجّة عليه ألزم.
فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين ، فقد تعيّنت الإمامة لهم ، وهو دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، كما هو مذهبنا.
وقد جعل اللّه تعالى هذه الكرامة العظيمة لنبيّه صلی اللّه علیه و آله قبل أهل بيته ،
ص: 259
فقال سبحانه : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ... ) (1).
وأشار إلى ذلك ابن حجر في « صواعقه » (2) ، فقال : « السابعة : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، أشار صلی اللّه علیه و آله إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته ، وأنّهم أمان لأهل الأرض كما كان هو صلی اللّه علیه و آله أمانا لهم ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ».
ثمّ ذكر أخبارا من جملتها رواية أحمد التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه أوّلا (3).
وحكى في « كنز العمّال » في فضائل أهل البيت (4) ، عن ابن أبي شيبة ، ومسدّد ، والحكيم ، وأبي يعلى ، والطبراني ، وابن عساكر ، أنّهم رووا عن سلمة بن الأكوع ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ».
وروى الحاكم في « المستدرك » ، وصحّحه (5) ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا
ص: 260
فصاروا حزب إبليس ».
وهو كالأوّل في الدلالة على إمامتهم ؛ إذ شأن الإمام أن يكون أمانا من الاختلاف ؛ لعلمه وعصمته ، فلا يختلف في الدين من اتّبعه ، ولا في الدنيا ؛ لمنعه الناس عن ظلم بعضهم بعضا لو بسطت يده.
وقريب من هذه الأخبار ما استفاض عن رسول اللّه : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح » (1) و « إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل » (2).
قال ابن حجر بعد كلامه السابق : « جاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضا : إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا.
وفي رواية مسلم : ومن تخلّف عنها غرق.
ص: 261
وفي رواية : هلك.
و: إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له.
وفي رواية : غفر له الذنوب » (1).
وروى الحاكم في « المستدرك » (2) عن أبي ذرّ ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ».
وحكى مثله في « كنز العمّال » (3) ، عن البزّار ، عن ابن عبّاس.
وحكى مثله أيضا بإبدال « غرق » ب « هلك » ، عن ابن جرير والحاكم ، عن أبي ذرّ (4).
وكذا عن الطبراني ، عن أبي ذرّ ، مع زيادة قوله : « ومثل باب حطّة في بني إسرائيل » (5).
وهذه الأخبار كالتي قبلها في الدلالة على المطلوب ؛ لأنّه صريحة في أنّ أهل البيت علیهم السلام محلّ الاتّباع ووجوب الطاعة ، وأنّه باتّباعهم تحصل
ص: 262
النجاة والغفران ، وبالتخلّف عنهم يكون الهلاك ؛ وهو مقتضى الإمامة ..
ولذا جاء في الخبر : « عليّ باب حطّة ، من دخل منه كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ».
ونقله في « الكنز » (1) ، عن الدارقطني ، عن ابن عبّاس.
* * *
ص: 263
قال المصنّف - طاب مرقده - (1) :
الثامن والعشرون : في « صحيح البخاري » ، في موضعين بطريقين ، عن جابر وابن عيينة ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (2).
وفي رواية عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لا يزال أمر الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (3).
وفي « صحيح مسلم » أيضا : « لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (4).
ص: 264
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » في موضعين ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (1).
وكذا في « صحيح أبي داود » (2) و « الجمع بين الصحيحين » (3).
وقد ذكر السّدّي في تفسيره - وهو من علماء الجمهور وثقاتهم (4) - ،
ص: 265
قال : « لمّا كرهت سارة مكان هاجر ، أوحى اللّه إلى إبراهيم فقال : انطلق بإسماعيل وأمّه حتّى تنزله بيت النبيّ التهاميّ - يعني : مكّة - ، فإنّي ناشر ذرّيّتك وجاعلهم ثقلا على من كفر بي ، وجاعل منهم نبيّا عظيما ، ومظهره على الأديان ، وجاعل من ذرّيّته اثني عشر عظيما ، وجاعل ذرّيّته عدد نجوم السماء » (1).
ص: 266
وقد دلّت هذه الأخبار على إمامة اثني عشر إماما من ذرّيّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولا قائل بالحصر إلّا الإمامية في المعصومين ، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (1).
* * *
ص: 267
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من الأحاديث الواردة في شأن اثني عشر خليفة ، فهو صحيح ثابت في « الصحاح » من رواية جابر بن سمرة.
وأمّا ابن عيينة فهو ليس بصحابيّ ولا تابعيّ ، بل يمكن أن يكون أحدا من سلسلة الرواة ؛ وهو من عدم معرفته بالحديث وعلم الإسناد يزعم أنّ ابن عيينة وجابر متقابلان في الرواية.
ثمّ ما ذكر من عدد اثني عشر خليفة ، فقد اختلف العلماء في معناه ..
فقال بعضهم : هم الخلفاء بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان اثنا عشر منهم ولاة الأمر إلى ثلاثمئة سنة ، وبعدها وقع الفتن والحوادث ، فيكون المعنى : أنّ أمر الدين عزيز في مدّة خلافة اثني عشر ، كلّهم من قريش.
وقال بعضهم : إنّ عدد صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر ، وهم :
الخلفاء الراشدون - وهم خمسة - ، وعبد اللّه بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وخمسة أخر من خلفاء بني العبّاس ، فيكون هذا إشارة إلى الصلحاء من الخلفاء القرشية (2).
ص: 268
وأمّا حمله على الأئمّة الاثني عشر ؛ فإن أريد بالخلافة : وراثة العلم والمعرفة ، وإيضاح الحجّة ، والقيام بإتمام منصب النبوّة ، فلا مانع من الصحّة ، ويجوز هذا الحمل.
وإن أريد به الزعامة الكبرى ، والإيالة العظمى ، هذا أمر لا يصحّ ؛ لأنّ من اثني عشر اثنين كان صاحب الزعامة الكبرى ؛ وهما : عليّ وحسن ، والباقون لم يتصدّوا للزعامة الكبرى.
ولو قال الخصم : إنّهم كانوا خلفاء لكن منعهم الناس عن حقّهم.
قلنا : سلّمت إنّهم لم يكونوا خلفاء بالفعل ، بل بالقوّة والاستحقاق.
وظاهر أنّ مراد الحديث : أن يكونوا خلفاء قائمين بالزعامة والولاية ، وإلّا فما الفائدة في خلافتهم في إقامة الدين؟! وهذا ظاهر ، واللّه أعلم.
ص: 269
ثمّ إنّ كلّ ما ذكره من الآيات والأحاديث وأراد بها الاستدلال على وجود النصّ بالخلافة في شأن عليّ ، قد علمت أنّ أكثرها كان بعيدا عن المدّعى ، ولم يكن بينها وبين المدّعى نسبة أصلا.
وما كان مناسبا فقد علمت أنّه لا يدلّ على النصّ ، فلم يثبت بسائر ما أورده مدّعاه ، فأيّ فائدة في قوله : « والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى »؟!
* * *
ص: 270
لا يخفى أنّ التقابل بين جابر وابن عيينة لا يتوقّف على كونهما صحابيّين ، بل يتوقّف على انتهاء السلسلة إليهما ؛ غاية الأمر أن تكون رواية ابن عيينة مرسلة ، وهو كثير في أخبار صحاحهم!
ولم أعثر في مراجعتي ل « صحيح البخاري » إلّا على رواية واحدة في آخر « كتاب الأحكام » ، عن جابر ، قال : سمعت النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول : يكون اثنا عشر أميرا ؛ فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال : كلّهم من قريش (1).
وحكى في « ينابيع المودّة » (2) عن كتاب « العمدة » ، أنّ البخاري روى الحديث من ثلاثة طرق.
ولا ريب أنّ المراد به : أئمّتنا ؛ لأمور :
الأوّل : إنّه لو لا إرادتهم ، لكان الخبر كاذبا إن أراد جميع أمراء قريش ، وغير مفيد بظاهره إن أراد البعض.
الثاني : إنّ بعض أحاديث المقام يفيد بظاهره وجود الاثني عشر في تمام الأوقات بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى قيام الساعة ، وهو لا يتمّ إلّا على إرادة أئمّتنا ؛ كخبر مسلم في أول « كتاب الإمارة » ، عن جابر ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، أو
ص: 271
يكون عليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (1).
ومثله في « مسند أحمد » (2).
وكخبر مسلم - أيضا - ، عن جابر : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » (3).
الثالث : ما رواه مسلم في المقام المذكور ، عن عبد اللّه ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان » (4).
ورواه البخاري في أوّل « كتاب الأحكام » ، في « باب الأمراء من قريش » (5).
ورواه أحمد ، عن ابن عمر (6).
فإنّ المراد به : حصر الإمامة الشرعيّة في قريش ما دام الناس ، لا السلطة الظاهريّة ، ضرورة حصولها لغير قريش في أكثر الأوقات ، فيكون قرينة على أنّ المراد من الحديث الأوّل : حصر الخلفاء الشرعيّين في اثني عشر ، وهو لا يتمّ إلّا على مذهبنا.
الرابع : ما رواه أحمد (7) ، عن مسروق ، قال : كنّا جلوسا عند
ص: 272
عبد اللّه بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن! هل سألتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كم يملك هذه الأمّة من خليفة؟
فقال عبد اللّه : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك.
ثمّ قال : نعم ، ولقد سألنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل ».
وروى نحوه أيضا بعد قليل (1).
وذكره ابن حجر وحسّنه في « الصواعق » (2).
فإنّه دالّ على انحصار الخلافة في اثني عشر ، وإنّهم خلفاء بالنصّ ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « كعدّة نقباء بني إسرائيل » ، فإنّ نقباءهم خلفاء بالنصّ ، لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) (3).
مع أنّ سؤال الصحابة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما هو عن خلفائه بالنصّ ، لا بتأمير الناس أو بالتغلّب ؛ إذ لا يهمّ الصحابة السؤال عن ذلك ؛ لأنّ تأمير الناس وتغلّب السلاطين لا يبتني عادة على الدين حتّى يهمّ الصحابة السؤال عنه ؛ ولأنّ السلاطين بلا نصّ لا يحتاج إلى السؤال عنهم وعن عددهم ؛ لأنّ العادة جرت على وجود مثلهم وأنّهم لا ينحصرون بعدد.
فظهر أنّ السؤال إنّما هو عن الخلفاء بالنصّ ، وعنهم أجاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ص: 273
ولا قائل بأنّ الخلفاء اثنا عشر بالنصّ غير أئمّتنا علیهم السلام ، فيكونون هم المراد بالاثني عشر في هذا الحديث ، فكذا في الحديث السابق (1).
الخامس : إنّ المنصرف من الخليفة من استخلفه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، خصوصا قبل حدوث دعوى حصول الخلافة بلا نصّ ، بل لا يتصوّر الصحابة وكلّ العقلاء أن يتركهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا إمام منصوب منهم ، حتّى يسألوا عن غيره أو الأعمّ منه ، أو يفهموا من إخباره إرادة الغير أو الأعمّ.
فلا بدّ أن يراد بالاثني عشر في الحديثين ، أئمّتنا ، فهم أئمّة الأمّة بالفعل ، ولهم الزعامة العظمى الإلهيّة عليها.
ولا يضرّ في إمامتهم الفعليّة عدم نفوذ كلمتهم ؛ لأنّ معنى إمامتهم وولايتهم أنّهم يملكون التصرّف وإن منعهم الناس ، كالأنبياء المقهورين ، فإنّهم ولاة الأمر وإن تغلّب عليهم الظالمون.
وكما أنّه لا يصحّ أن يقال : لا فائدة في نبوّة النبيّ الممنوع عن التصرّف ؛ لا يصحّ أن يقال : لا فائدة في إمامة الإمام الممنوع عنه.
فإنّ الفائدة لا تنحصر بالتصرّف ؛ لكفاية أن يكون بهم إيضاح الحجّة وإنارة المحجّة ونشر العلم.
بل لو لم يتمكّنوا حتّى من هذا لحبس أو نحوه ، ففائدتهم أنّ وجودهم حجّة لله على عباده ، ودافع لعذرهم ، كما قال سبحانه في شأن الرسل : ( لِئَلأَيَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (2).
ص: 274
فكما أنّ النبيّ حجّة لم تبطل نبوّته بحبسه أو غيبته ؛ كما غاب نبيّنا في الغار ، وغاب موسى عن قومه ، فكذا الإمام ، ولا أثر لطول الغيبة أو قصرها في الفرق.
وأمّا الحملان اللذان ذكرهما الفضل - أعني : إرادة من لم تقع الفتن في أيّامهم ، أو الخلفاء الصلحاء - ، فيرد عليهما :
أوّلا : إنّ المراد بهذه الأخبار ، دوام الإسلام وعزّته إلى آخر الدنيا الذي تنتهي به الأئمّة الاثنا عشر - كما سبق - ، لا أنّ المراد : انتهاء عزّة الإسلام في قليل من السنين ويسير من الخلفاء.
وثانيا : إنّ ظاهر هذه الأخبار اتّصال عزّة الإسلام في مدّة خلافة الاثني عشر ، فلا يتّجه حمله على المتفرّقين.
ودعوى إرادة المجتمعين باطلة ؛ فإنّها لا تجامع أحد الحملين ..
أمّا الأوّل ؛ فلكثرة الفتن في أيّام الاثني عشر بمبدإ الإسلام.
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ من الخلفاء - في مبدإ الإسلام - يزيد بن معاوية وعبد الملك وأشباههما ، ممّن هم غير صلحاء بالاتّفاق.
وكيف يصحّ أن يقال : إنّ الدين قائم في أيّام معاوية ؛ وهو قد ألحق العهار بالنسب علانية (1) ، وحارب الحقّ جهرة (2) ، وقتل خيار عباد اللّه
ص: 275
وفي أيّام يزيد وعبد الملك ؛ وقد هدما الكعبة (1) ، وهتكا حرمة اللّه ورسوله ، ولم يتركا لله محرّما إلّا فعلاه ، ولا حرمة إلّا أضاعاها (2) ، والناس
ص: 277
لهما أعوان ، وبهم قام لهما السلطان؟!
فأين الإسلام وعزّته؟! وأين الدين وقيامه؟!
وثالثا : إنّ الحمل الأوّل لا يناسب عدد الاثني عشر ؛ لأنّ من لم تقع الفتن في أيّامهم أضعاف هذا العدد.
والحمل الثاني مناف لأخبارهم ؛ لإفادتها أنّ خلافة الصلحاء منحصرة في ثلاثين سنة ..
روى الحاكم في « المستدرك » (1) ، عن سفينة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « خلافة النبوّة ثلاثون سنة ».
وقال ابن حجر في « الصواعق » (2) : « الحادي عشر : أخرج أحمد ، عن سفينة ، وأخرجه أيضا أصحاب السنن ، وصحّحه ابن حبّان وغيره ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : الخلافة ثلاثون عاما ، ثمّ يكون بعد ذلك الملك.
وفي رواية : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ تصير ملكا عضوضا ».
ص: 278
فكيف يصحّ عندهم حمل الخلفاء الاثني عشر على الصلحاء؟!
على أنّ الحكم بصلاح من زعمهم من الصلحاء باطل ؛ لما ستعرف في الجزء الثالث (1).
وأمّا ابن عبد العزيز (2) ؛ فيكفيه أنّه من الشجرة الملعونة في القرآن (3) ، الّذين رآهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينزون على منبره نزو القردة ،
ص: 279
فساءه ذلك ولم ير ضاحكا بعدها (1).
وأمّا ابن الزبير ؛ فهو من أبعد الناس عن الخلافة والصلاح ..
روى مسلم في باب ذكر كذّاب ثقيف ومبيرها من « كتاب الفضائل » ، أنّ ابن عمر لمّا مرّ على ابن الزبير وهو مقتول قال : « أما واللّه لأمّة أنت أشرّها لأمّة خير » (2).
وهذه شهادة من ابن عمر أنّ ابن الزبير شرّ الأمّة.
وروى البخاري في « كتاب الفتن » ، في باب « إذا قال عند قوم شيئا ثمّ خرج فقال بخلافه » ، عن أبي برزة الأسلمي ، أنّه حلف باللّه إنّ ابن الزبير إن يقاتل إلّا على الدنيا (3).
وروى أحمد في « مسنده » (4) ، أنّ عثمان بن عفّان لمّا قال له عبد اللّه ابن الزبير : هل لك أن تتحوّل إلى مكّة؟! قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يلحد بمكّة كبش من قريش اسمه عبد اللّه ، عليه مثل نصف أوزار الناس ».
وروى أحمد أيضا (5) : عن سعيد بن عمرو ، قال : أتى عبد اللّه بن عمر ابن الزبير وهو جالس في الحجر ، فقال : يا بن الزبير! إيّاك والإلحاد
ص: 280
في حرم اللّه! فإنّي أشهد لسمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يحلّها ويحلّ به رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثّقلين لوزنها ».
وروى البخاري في تفسير سورة « براءة » (1) ، عن ابن عبّاس ، قال : إنّ اللّه كتب ابن الزبير وبني أميّة محلّين.
أقول :
هو من أكبر الذنوب ؛ فقد روى البخاري في « كتاب البيوع » (2) ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول اللّه قال : « إنّ اللّه حرّم مكّة ، ولم تحلّ لأحد قبلي ، ولا لأحد بعدي ، وإنّما حلّت لي ساعة من نهار ».
ورواه أيضا في « كتاب المغازلي » وغيره (3).
وقال في « الاستيعاب » بترجمة ابن الزبير : كان فيه خلال لا تصلح معها الخلافة ؛ فإنّه كان بخيلا ، ضيّق العطن (4) ، سيّئ الخلق ، حسودا ، كثير الخلاف (5).
وقال ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (6) : « كان شديد البخل ، يطعم الجند تمرا ويأمرهم بالحرب ، فإذا فرّوا من وقع السيوف لامهم
ص: 281
وقال : أكلتم تمري وعصيتم أمري ».
وذكر المؤرّخون أشياء كثيرة تشهد بفسقه وسوء ذاته ، كتركه الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أربعين جمعة قائلا : إنّ له أهيل سوء (1)!
وكفاك من فسقه حربه لمن حربه حرب لله ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، ومن نفاقه بغضه الشديد له ، وقد مرّ مرارا أنّ بغض عليّ علامة النفاق (2).
هذا في ما انتخبه من خلفائهم وزعم أنّهم من أهل الصلاح ، فكيف حال غيرهم؟!
ولا أفسد من مذهب يلتزم أهله بعدم صلاح من تجب طاعتهم طول الدهر سوى اثني عشر ، فتدبّر!
* * *
ص: 282
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
المبحث الخامس : في ذكر بعض الفضائل التي تقتضي وجوب إمامة أمير المؤمنين علیه السلام .
هذا باب لا يحصى كثرة.
روى أخطب خوارزم من الجمهور ، بإسناده إلى ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو أنّ الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب » (2).
فمن يقول عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل هذا ، كيف يمكن ذكر فضائله؟!
لكن لا بدّ من ذكر بعضها ؛ لما رواه أخطب خوارزم أيضا ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه جعل لأخي عليّ فضائل لا تحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّا بها ، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه
ص: 283
وما تأخّر.
ومن كتب فضيلة من فضائله ، لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم.
ومن استمع إلى فضيلة من فضائله ، غفر اللّه له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع.
ومن نظر إلى كتاب من فضائله ، غفر اللّه له الذنوب التي اكتسبها بالنظر.
ثمّ قال : النظر إلى عليّ عبادة ، وذكره عبادة ، ولا يقبل اللّه إيمان عبد إلّا بولايته والبراءة من أعدائه » (1).
* * *
وقد ذكرت في كتاب « كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين » ، أنّ الفضائل ..
إمّا قبل ولادته : مثل ما روى أخطب خوارزم - من علماء الجمهور - ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمّا خلق اللّه آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم ، فقال : الحمد لله ؛ فأوحى اللّه تعالى إليه : حمدني عبدي ، وعزّتي وجلالي لو لا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدّنيا ما خلقتك.
ص: 284
قال : إلهي فيكونان منّي؟
قال : نعم يا آدم ، ارفع رأسك وانظر!
فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش : لا إله إلّا اللّه ، محمّد نبيّ الرحمة ، وعليّ مقيم الحجّة ، من عرف حقّ عليّ زكا وطاب ، ومن أنكر حقّه لعن وخاب.
أقسمت بعزّتي وجلالي ، أن أدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني ، وأقسمت بعزّتي ، أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني » (1).
والأخبار في ذلك كثيرة (2).
* * *
ص: 285
وقال الفضل (1) :
لا يشكّ مؤمن في فضائل عليّ بن أبي طالب ، ولا في فضائل أكابر الصحابة ، كالخلفاء ؛ فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد خصّ كلّ واحد منهم بالفضائل التي كانت فيه ، وهي مذكورة في كتب الصحاح.
وكما إنّ هذا الرجل يذكر فضائل أمير المؤمنين من كتب أصحابنا ، كذلك كلّ على حسب مرادهم يذكرون فضائل من يريدون من الخلفاء الراشدين.
ولكن يشترط في ذكر الفضائل ، أن يروى من الصحاح المعتبرة ، ومن العلماء الّذين اعتمدهم الناس ، ويكونوا (2) صاحب قول مقبول ، ويعرفون سقيم الأخبار من صحيحها ، وجيّدها من رديئها ، ومقبولها من مردودها.
فإنّ الممارس لفنّ الحديث ، المبالغ في التتبّع والاقتفاء ، لا يخفى عليه صحّة الحديث ، وضعفه ، ووضعه ؛ فإنّ المنكر (3) والشاذّ (4) معلومان موسومان بوسم الشذوذ ؛ لأنّها غير المألوفة مثل هذه الأحاديث.
ص: 286
والأخبار التي يرويها عن أخطب خوارزم أثر النكر والوضع ظاهر عليها ، بحيث لا يخفى على المتدرّب في فنّ الحديث.
فإنّ هذه المبالغة التي نسبها للنبيّ في فضائل عليّ بقوله : « لو أنّ الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب » لا يخفى على الماهر في فنّ الحديث أنّ هذا ليس من كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ولينصف المنصف المتدرّب في معرفة الأخبار ، أنّ من شأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبالغ مثل هذه المبالغة في مدح أحد من المخلوقين ، وهذا من أوصاف الخالق ، ( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ) (1)؟!
ثمّ إنّ لفظ « الفضائل » لا يوجد في كلمات النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومحال أن يحكم المحدّث أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله تكلّم بلفظ « الفضائل » ، فإنّ هذا من ألفاظ المحدثين المولّدين وليس من كلام العرب.
والمحدّث لا يخفى عليه أنّ هذا موضوع ، وأكثر ما ذكر من مناقب الخوارزمي موضوعات.
وأمّا الحديث الذي رواه الخوارزمي عن ابن مسعود ، وهو أنّ اللّه خلق آدم لأجل محمّد وعليّ ، وأنّ العاصي لله إن أطاع عليّا فهو من أهل النجاة ، والمطيع بعد أن عصى عليّا فهو من أهل النار (2) ، فقد تحتّم الحكم بأنّه من الموضوعات ؛ لأنّه مخالف لحكم الشرع ، فإنّ عليّا عبد من عباد
ص: 287
اللّه تعالى ، وهو ليس بأكرم على اللّه من محمّد ، ومن اعتقد أنّ عليّا أكرم على اللّه من محمّد فهو كافر باللّه العظيم ، ولا يرتاب في هذا أحد من المؤمنين.
ومحمّد لا يمكن أن يدّعى فيه أنّ من أطاعه وعصى اللّه فهو من أهل النجاة ؛ لأنّ طاعة اللّه وطاعة رسوله واحد ، فكيف يمكن الدعوى أنّ من أطاع عليّا وإن عصى اللّه فهو من أهل النجاة؟!
وهذا من موضوعات غلاة الرفضة ، ذكره هذا الرجل الرافضي ، ولا اعتداد بهذا النقل ولا اعتبار.
ثمّ إنّ كلّ ما يذكره من هذه الفضائل - وإن صحّ - لا يدلّ على وجوب إمامته ، كما لا يخفى.
* * *
ص: 288
يرد عليه أمور :
الأوّل : إنّ قوله : « كلّ على حسب مرادهم يذكرون فضائل من يريدون ... » إلى آخره ..
خطأ ظاهر ؛ لأنّ ذكرنا لفضائل أمير المؤمنين علیه السلام من كتبهم يفيدنا حجّة عليهم ، بخلاف ذكرهم لفضائل أصحابهم من كتبهم ؛ فإنّه لا يفيدهم حجّة علينا ، لا سيّما مع معارضتها بما في كتبهم من مطاعنهم.
الثاني : إنّ قوله : « ولكن يشترط في ذكر الفضائل أن يروى من الصحاح ... » إلى آخره ..
مخالف لما ذكره ابن حجر في أوائل الفصل الأوّل من كتابه المسمّى ب « تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب معاوية بن أبي سفيان » ، قال بعد نقل حديث في فضل معاوية : « فإن قلت : هذا الحديث المذكور سنده ضعيف ، فكيف يحتج به؟!
قلت : الذي أطبق عليه أئمّتنا الفقهاء والأصوليّون والحفّاظ أنّ الحديث الضعيف حجّة في المناقب » (1).
ثمّ إنّه إن أراد بالصحاح : صحاحهم الستّة ، فهو ظاهر البطلان ؛ إذ ليست الرواية عنها شرطا في الأحكام فضلا عن الفضائل.
وإن أراد بها الأخبار الصحيحة - وإن لم توجد في صحاحهم الستّة ،
ص: 289
كالأخبار التي استدركها الحاكم في « المستدرك » ، ورواها الضياء في « المختارة » - فهو أيضا باطل ؛ إذ ليست الفضائل بأعظم من الأحكام.
وقد اكتفوا في ثبوتها بغير الأخبار الصحيحة ؛ لعدم انحصار الحجّة بها ؛ فإنّ الخبر الحسن كاف في الثبوت ، وكذا الخبر الكثير الطرق ؛ فإنّ الأخبار إذا كثرت في معنى واحد ، قوّى بعضها بعضا ، وصارت حجّة وإن كان سند كلّ منها ضعيفا.
ونحن كما رأيت نذكر كثيرا من أخبار الصحاح الستّة ، ومستدرك الحاكم ، ومسند أحمد ، ونحوها من كتبهم المعتبرة عندهم ، ونذكر غيرها ممّا يؤيّد بعضها بعضا ، أو قامت قرينة على قوّتها ، والجميع حجّة عليهم.
الثالث : إنّ ما جعله أمارة للوضع - من المبالغة الواقعة في ما حكى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - لا محلّ له ؛ إذ لا مبالغة فيه ، ولا سيّما إذا أريد عدم إحصاء الثواب على فضائله ، لا عدم إحصاء أنفسها ، فإنّ من كان عبارة عن الإيمان كلّه وله ضربة واحدة تعدل عبادة الثّقلين ، لا يكون ذلك مبالغة في حقّه.
وهل يكون ذلك مبالغة في من هو نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأخوه ، وعديل القرآن؟!
على أنّهم رووا نحو ذلك في حقّ الشيخين ، وما حكموا بوضعه! فقد نقل ابن حجر في « الصواعق » (1) ، عن أبي يعلى ، عن عمّار بن ياسر ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتاني جبرئيل آنفا فقلت : يا جبرئيل! حدّثني بفضائل عمر بن الخطّاب.
ص: 290
فقال : لو حدّثتك بفضائل عمر منذ لبث نوح في قومه ما نفدت فضائل عمر ، وإنّ عمر حسنة من حسنات أبي بكر ».
ومن أعجب العجب روايتهم لهذا الحديث عن عمّار ، وهم يعلمون انحرافه عن خلفائهم وسوء رأيه فيهم ، فلو رووه عن غيره لكان أولى لهم!
ومن هذا الحديث ونحوه ، يعلم وجود لفظ « الفضائل » عندهم في ما نسبوه إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وقد روى أحمد في « مسنده » (1) ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله حديثا قال في آخره : « وركعتا الفجر حافظوا عليهما ، فإنّهما من الفضائل » (2).
ص: 291
الرابع : إنّ قوله : « هذا من أوصاف الخالق » ..
لا يعرف له معنى ، ولعلّه يريد أنّ اللّه جلّ وعلا يوصف بأنّه متكلّم بكلمات لا تنفد بنفاد البحر ، فكيف يقال : إنّ عليّا متّصف بفضائل لا تحصى وإن كان البحر مدادا؟!
وفيه ما لا يخفى.
الخامس : إنّ قوله : « أكثر ما ذكر من ( مناقب الخوارزمي ) موضوعات » ..
دعوى بلا دليل ، وطعن مجمل غير مقبول.
السادس : إنّ حكمه بوضع حديث ابن مسعود خطأ ، ويعلم وجهه بعد بيان مقدّمة ، فنقول :
لا شكّ أنّ الإقرار باللّه وبنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله شرط للإيمان ، وكذا الإقرار بإمامة عليّ علیه السلام ؛ بناء على أنّ إمامته بنصّ اللّه ورسوله ، وأنّها كالنبوّة ، أصل من أصول الدين ، لكنّ الإقرار بها فرع الإقرار باللّه ورسوله ، ومن أقرّ بها تمّ إيمانه ، ومن لم يقرّ بها كان ناقص الإيمان وإن أقرّ باللّه ورسوله.
فإذا عرفت هذا ، عرفت أنّ من أطاع عليّا عارفا بحقّه - كما هو المراد بالحديث - كان مؤمنا مطيعا لله ورسوله بطاعة عليّ علیه السلام ؛ لأنّ طاعته له - بما هو إمام من اللّه تعالى - مستلزمة للإيمان بهما وطاعتهما ، فيكون صالحا لدخول الجنّة وإن عصى اللّه في بعض الأحكام ، وعصى بها عليّا
ص: 292
أيضا ؛ لأنّ عصيانه - حينئذ - عصيان مؤمن أهل للغفران.
كما أنّ من عصى عليّا جاحدا لإمامته ، عاص لله ورسوله ، ومحلّ لدخول النار وإن أطاعهما في الظاهر (1) ؛ لأنّ طاعته لهما ليست طاعة مؤمن حتّى تكون مقبولة ، كمن أطاع اللّه في الظاهر وعصى رسول اللّه جاحدا لرسالته ، كأهل الكتاب.
فصحّ ما في الحديث من قوله سبحانه : « أقسمت أن أدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني ، وأن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني » (2) أي في الظاهر.
كما يصحّ القول بأنّ من أطاع عليّا كان من أهل النجاة والجنّة ، وإن عصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ من عصى عليّا كان من أهل النار وإن أطاع رسول اللّه في الظاهر.
وذلك كلّه لا ينافي أكرميّة محمّد صلی اللّه علیه و آله من عليّ علیه السلام ، كما هو ظاهر.
وبالجملة : المراد بالحديث : أنّ من أطاع اللّه في الظاهر ، وعصى عليّا منكرا لحقّه ، فهو من أهل النار ؛ لعدم إيمانه.
وأنّ من أطاع عليّا عارفا بحقّه ، فهو من أهل الجنّة ، وإن عصى اللّه في بعض الفروع ؛ لأنّ عصيانه عصيان مؤمن ، فيكون أهلا للمغفرة والرحمة.
فذلك إشارة إلى إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وأنّ الإقرار بها شرط للإيمان ، وأنّه لا عبرة بطاعة المسلمين ظاهرا الّذين لم يقرّوا بالنصّ
ص: 293
على عليّ علیه السلام واتّبعوا غيره وعصوه ، وإن كانت طاعة اللّه ورسوله وخليفته في الواقع واحدة ، ومعصيتهم الواقعيّة معصية واحدة.
ويشهد لإرادة الإمامة من الحديث ، وصفه لعليّ في ما كتب على العرش ، بأنّه مقيم الحجّة في عرض وصف اللّه تعالى بالوحدانية ، ومحمّد بالنبوّة (1) ، فإنّه من أوضح ما يدلّ على الإمامة!
مضافا إلى تصريحه بأنّ محمّدا وعليّا علّة لخلق ادم ؛ فإنّه دليل الفضل على آدم ، فضلا عن الأمّة.
فلا بدّ أن يكون عليّ سيّدها وإمامها ، بل علّة خلقها بالأولويّة ، كما قال علیه السلام في « نهج البلاغة » بكتابه إلى معاوية : « نحن صنائع اللّه ، والناس بعد صنائع لنا » (2).
ثمّ إنّ الخبرين الأوّلين ظاهران أيضا في إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لاقتضائهما فضله على غيره ، مع تصريح ثانيهما بأنّ اللّه تعالى لا يقبل إيمان عبد إلّا بولايته والبراءة من أعدائه ، كما هو شأنّ الإمام ؛ ولذا كان بغضه علامة النفاق.
هذا ، وقد نقل الذهبيّ هذين الخبرين في « ميزان الاعتدال » بترجمة محمّد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان ، عن نور الهدى أبي طالب الزيني ، ثمّ قال بعد الخبر الثاني : « هذا من أفظع ما وضع ، ولقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجّال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب عليّ ؛ من ذلك بإسناد مظلم ، عن مالك ، عن
ص: 294
نافع ، عن ابن عمر ، مرفوعا : من أحبّ عليّا أعطاه اللّه بكلّ عرق في بدنه مدينة في الجنّة » (1).
وهذه المؤاخذة لابن شاذان ، إنّما هي لروايته في فضل أمير المؤمنين ما لا يتحمّله اعتقاد الذهبيّ فيه ، وإلّا فالرجل لا ذنب له سواه.
وقد عرفت في مقدّمة الكتاب ، أنّ رواية الشخص لفضائل أمير المؤمنين دليل على وثاقته ، ولا فظاعة ولا ركاكة في هذه المناقب التي يسطع من خلالها نور إمامة المرتضى عند من عرف بعض حقّه (2).
وقد نقل سبط ابن الجوزي في أوائل « تذكرة الخواصّ » نحو أوّل الحديثين ، عن ابن عبّاس (3).
ونقله في « ينابيع المودّة » ، في الباب السادس والخمسين ، آخر المناقب السبعين (4) ، التي حكاها عن كتاب إمام الحرم الشريف بمكّة أبي جعفر أحمد بن عبد اللّه الطبري الآملي الشافعي (5) ، رواه عن الديلمي
ص: 295
في « الفردوس » (1).
وأمّا الحديث الثاني ، فأكثر مضامينه قد وردت من عدّة طرق ، ولا سيّما قوله : « النظر إلى عليّ عبادة » ، فإنّه ورد مستفيضا بلفظه ، أو بلفظ : « النظر إلى وجه عليّ عبادة » (2).
وقد أخرجه الحاكم في « المستدرك » (3) ، بطريق عن عمران بن حصين ، وطريقين عن ابن مسعود ، وصحّحها جميعا ، وتعقّبه الذهبي بعد حديث عمران ، وأحد حديثي ابن مسعود بقوله : « ذا موضوع » ، ولم يذكر له علّة!
وغاية ما يوجّه به : دعوى أنّ بعض رجال الحديثين ضعيف ، وهو لا يستوجب الوضع ، ولا سيّما مع الإقرار بصحّة الحديث الثالث.
ص: 296
وقد سبقه إلى دعوى الوضع إمامه في النصب ابن الجوزي (1) ،
ص: 297
كما ذكره السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، مع أنّ ابن الجوزي ذكر له سبعة عشر طريقا ، عن أبي بكر ، وعثمان ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عبّاس ، وجابر ، وأبي هريرة ، وأنس وثوبان ، وعمران ، وعائشة ؛ واحتجّ للوضع بضعف بعض رواة بعضها ، والجهل بآخرين.
وتعقّبه السيوطي بالجواب عن بعض من طعن بهم ، وبإخراج عشرة طرق أخرى عن كثير من هؤلاء الصحابة ، منها روايات الحاكم الثلاث (1).
وليت شعري ، كيف يكون الحديث موضوعا مع استفاضة طرقه وصحّة بعضها؟!
ص: 298
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وإمّا حال ولادته ..
فإنّه ولد يوم الجمعة ، الثالث عشر من شهر رجب ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، في الكعبة ، ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعده (2).
وكان عمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثين سنة (3) ، فأحبّه وربّاه ، وكان يطهّره وقت غسله ، ويوجره (4) اللبن عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ، ويقول : هذا أخي ، ووليّي ، وناصري ، وصفيّي ، وذخري ، وكهفي ، وصهري ، وزوج كريمتي ، وأميني على وصيّتي ، وخليفتي.
وكان يحمله دائما ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها.
رواه صاحب كتاب « بشائر المصطفى » من الجمهور (5).
ص: 300
وقال الفضل (1) :
المشهور بين الشيعة أنّ أمير المؤمنين ولد في الكعبة ، ولم يصحّحه علماء التواريخ ، بل عند أهل التواريخ أنّ حكيم بن حزام ولد في الكعبة ، ولم يولد فيها غيره.
وأمّا ما ذكره من أحوال النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالنسبة إليه في صغره ، فلا يصحّ به نقل إلّا ما ذكره.
ولا ردّ عليه إلّا في قوله : « وخليفتي » إن أريد به الخلافة بعده ..
وإن أريد أنّه من الخلفاء ، فهذا صحيح لا شكّ فيه.
* * *
ص: 301
يكفي في الجزم بولادة أمير المؤمنين علیه السلام بالكعبة ، موافقة بعض الجمهور فيها ، وروايتهم لها (1) ، فإنّها منقبة تنكرها أسماع أعداء فضله ، وتتداعى لدرسها نفوس حسّاد مجده ؛ إذ بها الشرف الأعلى ، والدلالة على أنّه محلّ عناية اللّه سبحانه من يوم ولادته ، وأنّه قد طهّره بطهارته ، حتّى جعل مولده أعظم بيوت عبادته.
فإذا رواه واحد منهم كانت حجّة عليهم ، فكيف وقد ادّعى الحاكم في « المستدرك » تواترها؟! ..
فإنّه روى (2) في مناقب حكيم ، عن مصعب بن عبد اللّه ، أنّ أمّ حكيم ولدته في الكعبة ، ضربها المخاض وهي في جوفها فولدته فيها ، وحملت في نطع (3).
قال مصعب : ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.
فقال الحاكم : « وهم مصعب في الحرف الأخير ، فقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه
ص: 302
في جوف الكعبة ».
وأقول :
الحقّ أنّ حكيما لم يولد في الكعبة ، لكنّ المنحرفين عن الإمام المطهّر ذكروا ذلك لينقضوا فضله!
فعن ابن الصبّاغ المالكي ، في كتابه « الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة » ، ص 14 ، قال : « لم يولد أحد قبله في البيت سواه » (1).
ونحوه عن الكنجي الشافعي ، في كتابه « كفاية الطالب » ، ص 361 (2).
ص: 303
وعن الشّبلنجي ، في « نور الأبصار » ، ص 76 (1).
ومحمّد بن طلحة الشافعي ، في كتابه « مطالب السؤول » ، ص 11 (2).
ص: 304
ولو سلّم ولادة حكيم بالكعبة ، فهي من باب الاتّفاق ، كما يدلّ عليه خبر ولادته ، لا لكرامة له ، فإنّه من مسلمة الفتح ، ومن المؤلّفة قلوبهم ، كما ذكره في « الاستيعاب » (1).
وهذا بخلاف ولادة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فإنّها كجنابته في المسجد ، من طهارته وعناية اللّه به ، كما يشهد له ما رواه صاحب كتاب « بشائر المصطفى » على ما حكاه عنه في « كشف الغمّة » ، قال :
ومن « بشائر المصطفى » ، مرفوعا إلى يزيد بن قعنب ، قال : كنت جالسا مع العبّاس بن عبد المطّلب وفريق من بني عبد العزّى بإزاء بيت اللّه الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين علیه السلام ، وكانت حاملا به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق ، فقالت : يا ربّ! إنّي مؤمنة بك ، وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وإنّه بنى بيتك العتيق ، فبحقّ الذي بنى هذا البيت ، والمولود الذي في بطني ، إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي.
قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقّ من ظهره ، ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا ، وعاد إلى حاله ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أنّ ذلك من أمر اللّه تعالى.
ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
ثمّ قالت : إنّي فضّلت على من تقدّمني من النساء ؛ لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت اللّه سرّا في موضع لا يحبّ اللّه أن يعبد فيه إلّا اضطرارا.
ص: 305
وإنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطبا جنيّا.
وإنّي دخلت بيت اللّه الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة! سمّيه عليّا ، فهو عليّ ، واللّه العليّ الأعلى يقول : شققت اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي ، ويقدّسني ، ويمجّدني ، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه (1).
ثمّ ذكر فعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله معه وقوله فيه ، كما ذكره المصنّف رحمه اللّه (2).
ونقل أيضا في « كشف الغمّة » خبر ولادته علیه السلام في الكعبة عن ابن المغازلي (3).
ورواه سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » (4).
ص: 306
وقال عبد الباقي العمري (1) مادحا لأمير المؤمنين علیه السلام [ من البسيط ] :
أنت العليّ الذي فوق العلى رفعا
ببطن مكّة وسط البيت إذ وضعا (2)
وقال الحميري (3) في مدحه علیه السلام ومدح والدته الطاهرة [ من
ص: 307
الكامل ] :
ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة *** طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدت مع القمر المنير الأسعد
ما لفّ في خرق القوابل مثله *** إلّا ابن آمنة النبيّ محمّد (1)
وهذا كاشف عن معلومية ولادته بالكعبة في الصدر الأوّل ، كما هو كذلك في جميع الأوقات (2).
* * *
ص: 308
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه -(1) :
وإمّا بعد ولادته :
فأقسامها ثلاثة : نفسانية ، وبدنية ، وخارجية.
أمّا النفسانية : فينظمها مطالب :
لم يشرك باللّه طرفة عين ، ولم يسجد لصنم ، بل هو الذي كسر الأصنام لمّا صعد على كتف النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ..
( وهو أوّل الناس إسلاما ) (2) ؛ روى أحمد بن حنبل ، أنّه أوّل من أسلم ، وأوّل من صلّى مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3).
وفي « مسنده » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة : « أما ترضين أنّي
ص: 310
زوّجتك أقدم أمّتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما » (1).
وحديث الدار يدلّ عليه أيضا (2).
* * *
ص: 311
وقال الفضل (1) :
ما ذكر أنّ عليّا أوّل الناس إسلاما ، فهذا أمر مختلف فيه ، وأكثر العلماء على أنّ أوّل الناس إسلاما هو خديجة.
وقال بعضهم : أبو بكر.
وقال بعضهم : زيد بن حارثة.
وحاكم بعضهم فقال : أوّل الناس إسلاما من الرجال أبو بكر ، ومن الصبيان عليّ ، ومن النساء خديجة ، ومن العبيد زيد بن حارثة (2).
وقد حقّقنا هذا في « تلخيص كتاب كشف الغمّة ».
* * *
ص: 312
تعرّضه لتقدّم الإسلام خاصّة ، ظاهر في تسليمه ما عداه - ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه - ، وهو كاف في المطلوب ، ومن رام المناقشة في شيء من ذلك فقد كشف عن قصوره.
وأمّا ما ذكره من الخلاف في تقدّم إسلام أيّ الجماعة فلا يضرّنا ؛ لأنّا نحتجّ على الخصوم برواياتهم بلا حجّة لهم علينا.
بل يظهر من بعضهم الإجماع على تقدّم إسلام أمير المؤمنين علیه السلام ، كما ذكره ابن حجر في « الصواعق » (1) ، قال : « قال ابن عبّاس ، وأنس ، وزيد بن أرقم ، وسلمان الفارسي ، وجماعة : إنّه أوّل من أسلم ؛ ونقل بعضهم الإجماع عليه (2) ».
ويظهر من نفس الحاكم في « المستدرك » (3) دعوى الإجماع عليه ، فإنّه روى عن زيد بن أرقم : « إنّ أوّل من أسلم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ ».
ص: 313
ثمّ قال : « هذا حديث صحيح الإسناد ، وإنّما الخلاف في هذا الحرف أنّ أبا بكر الصدّيق كان أوّل الرجال البالغين إسلاما ، وعليّ بن أبي طالب تقدّم إسلامه قبل البلوغ ».
فإنّ معنى هذا الكلام ، أنّ عليّا علیه السلام تقدّم إسلامه قبل البلوغ على الناس جميعا بلا خلاف ، وإنّما الخلاف في تقدّم إسلام أبي بكر على البالغين لا على عليّ علیه السلام (1).
وأمّا ما زعمه الفضل من المحاكمة ، فخطأ ؛ لأنّ حمل الأخبار المستفيضة في تقدّم إسلام عليّ على تقدّمه على الصبيان من المضاحك ، ولا يتفوّه به ذو رأي ؛ إذ أيّ صبيان أسلموا في ذلك الوقت حتّى يكون إسلام عليّ علیه السلام متقدّما لهم؟!
مع أنّ من جملة ما ورد في تقدّم إسلامه ، ما دلّ على تفضيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله له به على الأمّة ، كما في خطابه لفاطمة علیهاالسلام ، وما اشتمل على افتخار عليّ علیه السلام به على الناس (2) ، فإنّ التفضيل والافتخار إنّما يناسبان تقدّم إسلامه على جميع الأمّة ، لا على الصبيان لو فرض إسلامهم.
كما أنّ أكثر الأخبار صريح في سبق إسلامه على المسلمين جميعا (3).
ص: 314
على أنّ تلك المحاكمة لو صحّت في نفسها لم تمنع من تقدّم إسلام أمير المؤمنين علیه السلام على أبي بكر وخديجة وزيد ؛ لأنّ تقدّم إسلامهم على أمثالهم لا ينافي تقدّم إسلام صبيّ على إسلامهم ، كما صرّح بعض الأخبار بتقدّم إسلامه على إسلام أبي بكر (1).
والحقّ أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ولد مسلما مقرّا بشهادة : أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كالنبيّ ، فإنّهما معصومان طاهران من حين ولادتهما.
أترى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان غير مؤمن بربّه ، ولا عارفا بنبوّته ، كما يتخيّله الجاهلون ، حتّى زعموا أنّ خديجة وورقة علّماه نبوّته ، كما سبق في آخر « مباحث النبوّة » (2)؟!
كيف لا؟! وقد خلقهما اللّه سبحانه نورا واحدا قبل أن يخلق آدم كما مرّ (3) ..
وهما خيرة اللّه من أرضه ؛ روى الحاكم في « المستدرك » (4) ، عن أبي هريرة ، وصحّحه على شرط الشيخين ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أما ترضين أنّ اللّه اطّلع إلى أهل الأرض فاختار رجلين ، أحدهما أبوك ، والآخر بعلك ».
ص: 315
وحكاه في « كنز العمّال » (1) عن الحاكم ، عن أبي هريرة ؛ وعن الطبراني ، والحاكم ، والخطيب ، عن ابن عبّاس.
وحكى في « الكنز » أيضا - قبل هذا بحديث - ، عن الطبراني ، عن أبي أيّوب ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة : « أمّا علمت أنّ اللّه عزّ وجلّ اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك ، فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّا » (2).
وحكى في « الكنز » الحديث الأوّل أيضا (3) ، عن الخطيب ، وقال : « سنده حسن ».
ونقله ابن أبي الحديد (4) ، عن أحمد في « مسنده » (5).
فكيف يتصوّر في من اختاره اللّه تعالى من جميع بريّته - حتّى الأنبياء - أن لا يكون مؤمنا عالما بالحقّ حين ولادته ، وقد كان عيسى - وهما مختاران عليه - مؤمنا عالما بأنّه رسول اللّه ساعة الولادة؟!
وحينئذ ، فهل يمكن أن يسبق عليّا في الإسلام غيره ممّن نشأ على عبادة الأوثان؟!
وكيف يتصوّر أن يكون مسبوقا وقد امتاز على الناس بالصلاة قبلهم
ص: 316
بسبع سنين؟! ..
روى الحاكم في « المستدرك » (1) ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « إنّي عبد اللّه وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها أحد بعدي إلّا كاذب ، صلّيت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة ».
ونقله في « الكنز » (2) ، عن ابن أبي شيبة ، والنسائي في « الخصائص » ، وأبي نعيم ، وغيرهم.
وروى الحاكم - بعد الحديث المذكور - ، أنّ عليّا علیه السلام قال : « عبدت اللّه مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة » (3).
ونقله في « الكنز » ، عن الحاكم وابن مردويه (4).
ونقل أيضا عن الطبراني ، وأحمد وأبي يعلى في « مسنديهما » ، والحاكم في « المستدرك » ، أنّ عليّا قال : « اللّهمّ ما أعرف أنّ عبدا لك من هذه الأمّة عبدك قبلي غير نبيّك - ثلاث مرّات - ، لقد صلّيت قبل
ص: 317
أن يصلّي الناس سبعا » (1).
... إلى غيرها من الأخبار (2).
وليت شعري ، كيف يدّعى أنّ أحدا أسبق من أمير المؤمنين علیه السلام في الإسلام ، وهو كان من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمنزلة هارون من موسى؟!
* * *
ص: 318
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
والناس كلّهم - بلا خلاف - عيال عليه في المعارف الحقيقية ، والعلوم اليقينيّة ، والأحكام الشرعيّة ، والقضايا النقليّة (2) ؛ لأنّه علیه السلام كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم ، وملازمته لرسول اللّه - وهو أشفق الناس عليه - ، لا ينفكّ عنه ليلا ولا نهارا ؛ فيكون بالضرورة أعلم من غيره.
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقّه : « أقضاكم عليّ » (3)، والقضاء يستلزم العلم والدين.
وروى الترمذي في « صحيحه » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » (4).
ص: 319
وذكر البغوي في « الصحاح » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » (1).
* * *
ص: 320
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من علم أمير المؤمنين ، فلا شكّ أنّه من علماء الأمّة والناس محتاجون إليه فيه ، وكيف لا؟! وهو وصيّ النبيّ في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف ، فلا نزاع لأحد فيه.
وأمّا ما ذكره من صحيح الترمذي ، فصحيح.
وأمّا ما ذكره من صحاح البغوي ، فإنّه قال : « الحديث غريب ، لا يعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك ، وإسناده مضطرب » (2).
فكان ينبغي أن يذكر ما ذكروه من معائب الحديث ؛ ليكون أمينا في النقل.
* * *
ص: 321
لا يخفى ما في كلامه من التنافي ؛ لأنّ قوله : « إنّه من علماء الأمّة » يدلّ على أنّه فرد من جماعة لا فضل له عليهم ؛ وقوله : « كيف لا؟! وهو وصيّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف » يدلّ على فضله على غيره!
وقد استدلّ المصنّف رحمه اللّه على أعلميّة أمير المؤمنين بأمور :
الأوّل : « إنّه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم ... » إلى آخره.
وهو دليل إقناعي ، ذكره تقريبا إلى أذهان السامعين ، وإلّا فعلم أمير المؤمنين علیه السلام كعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله رشحة من الفيض الإلهي ، سوى إنّ علم عليّ علیه السلام بواسطة النبيّ ، وعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بواسطة جبرئيل.
فكما إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يحتاج في علمه إلى ملازمة جبرئيل ، فكذا عليّ لا يحتاج إلى ملازمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
كيف؟! وقد علّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مقام واحد ألف باب من العلم ، يفتح له من كلّ باب ألف باب (1)!
الثاني : إنّه قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أقضاكم عليّ » كما في
ص: 322
« الاستيعاب » بترجمة عليّ (1) ..
وفي « الصواعق » (2) ، نقلا عن الطبراني ، وأبي يعلى ، والعقيلي ، وابن عساكر ..
ورواه الحاكم في « المستدرك » (3).
وروى البخاري في تفسير قوله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) من سورة البقرة (4) ، أنّ عمر قال : أقرأنا أبيّ ، وأقضانا عليّ (5).
ونحوه في « الاستيعاب » (6).
ووجه الاستدلال به ظاهر من كلام المصنّف رحمه اللّه .
الثالث : ما رواه الترمذي وذكره البغوي ، وقد سبق الكلام في سنده ودلالته في الحديث التاسع عشر (7).
ولا يفترق الحال بين الحديثين ، حيث قال في أحدهما : « أنا مدينة العلم » ، وفي الآخر : « أنا دار الحكمة » ؛ وذلك للتلازم بينهما ؛ فإنّ من يكون بابا لعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا بدّ أن تنكشف له وجوه الحكمة ، فيكون بابا لحكمته.
ص: 323
وإنّما لم يذكر المصنّف رحمه اللّه قول البغوي : « وإسناده مضطرب » ؛ لأنّ الاضطراب الذي أراده ، هو رواية بعضهم للحديث عن سويد (1) ، عن عليّ علیه السلام ؛ ورواية بعض آخر له عن سويد ، عن الصنابحي (2) ، عن عليّ علیه السلام ؛ وهو ليس بعيب في الحديث بعد اعتبار الصنابحي.
على أنّه لو كان عيبا ، لم يلزم التعرّض لمثله بعد استفاضة طرق الحديث ، وتصحيح جماعة من علمائهم لبعضها (3).
تنبيه :
لفظ الحديث في النسخة التي عندنا من صحيح الترمذي : « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » (4) ، والمصنّف رحمه اللّه نقله بلفظ : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » ، وصحّح الفضل نقله (5) ، وقد نقله ابن حجر عن الترمذي باللفظين معا (6) ، فلعلّه رواه باللفظين في مقامين!
كما إنّ البغوي ذكر الحديث في « الحسان » لا في « الصحاح » ،
ص: 324
بحسب نسخة « المصابيح » (1) التي عندنا ، فيحتمل خطأها ، ويحتمل خطأ المصنّف رحمه اللّه ، والفضل - أيضا - بإقراره للمصنّف على نقله!
* * *
ص: 325
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
وفيه (2) : عن أبي الحمراء ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريّا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (3).
وروى البيهقي ، بإسناده إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (4).
* * *
ص: 326
وقال الفضل (1) :
خان في هذا النقل ؛ لأنّه ذكر أنّ في « صحاح البغوي » هذا الحديث ، وهذا كذب باطل ؛ فإنّ الحديث لم يذكره البغوي أصلا ، لا في « صحاحه » ولا في « حسانه » ، وأثر الوضع على هذا الحديث ظاهر.
ولا شكّ أنّه منكر - مع ما نسبه إلى البيهقي - ؛ لأنّه يوهم أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الأنبياء ، وهذا باطل ؛ فإنّ غير النبيّ لا يكون أفضل من النبيّ.
وأمّا أنّه موهم لهذا المعنى ؛ لأنّه جمع فيه من الفضائل ما تفرّق في الأنبياء ، والجامع للفضائل أفضل ممّن تفرّق فيه الفضائل ، وأمثال هذا من موضوعات الغلاة ، وإن صحّ فيمكن حمله على أنّ له كمال هذه الفضائل.
* * *
ص: 327
لم يفهم الفضل مراد المصنّف رحمه اللّه ؛ فإنّ الضمير في قوله : « فيه » لو رجع إلى « صحاح البغوي » لقال : « وفيها ».
كما إنّه لا يرجع إلى « صحيح الترمذي » ؛ لعدم ذكره للحديث في مناقب عليّ علیه السلام ، ويبعد ذكره له في محلّ آخر.
فالظاهر أنّه راجع إلى « حقّه » في قول المصنّف سابقا : « وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقّه » (1) ، وما أبعد الخيانة عن المصنّف رحمه اللّه !
ويحتمل سقوط حديث آخر نقله المصنّف من كتاب آخر ، فيعود الضمير إلى ذلك الكتاب ، ولا يبعد - على هذا - أنّه « مسند أحمد » ؛ فإنّ المصنّف رحمه اللّه ينقل عنه كثيرا ، وهو موجود فيه بحسب ما ذكره ابن أبي الحديد (2) ، وصاحب « ينابيع المودّة » (3) ، كما نقلاه أيضا عن البيهقي.
لكنّي لم أجده في « المسند » ، ولا يبعد أنّه من يد التصرّف!
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الحاكم ، أنّه أخرج عن أبي الحمراء مرفوعا : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، ونوح في فهمه ، وإبراهيم في حلمه ، ويحيى في زهده ، وموسى في بطشه ، فلينظر إلى عليّ » (4).
ص: 328
ونقل عن ابن الجوزي ، أنّه قال : « موضوع » ؛ متعلّلا باشتمال سنده على أبي عمر الأزدي ، وهو متروك (1).
وتعقّبه السيوطي بأنّ له طريقا آخر عن أبي سعيد ، أخرجه ابن شاهين في « السنّة » عنه ، قال : كنّا حول النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأقبل عليّ ، فأدام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله النظر إليه ، ثمّ قال : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في حكمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، فلينظر إلى هذا » (2).
ونقل السيوطي طريقا آخر لابن شاهين عن أبي الحمراء (3).
فعليه يكون الحديث كثير الطرق ومعتبرا ، وإن فرض ضعف كلّ من أسانيده (4) ، مع أنّه قد رواه صاحب « المواقف » وما أعلّ سنده هو ولا الشارح (5).
ولا يضرّ اختلاف خصوصيّاته بحذف بعض الأنبياء وتبديل صفاتهم ؛ لجواز تعدّد أقوال النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو خطأ بعض الرواة.
ولا ريب بدلالة الحديث على فضل أمير المؤمنين علیه السلام على الأمّة
ص: 329
وإمامته لهم ؛ لدلالته على فضله على هؤلاء الأنبياء العظام ، فكيف بآحاد الأمم؟!
وذلك لأنّه صرّح بأنّ عليّا علیه السلام جمع ما تفرّق في أعاظم الأنبياء من الأوصاف ، التي كلّ واحدة منها أعظم الأفراد من نوعها.
ودعوى أنّ غير النبيّ لا يكون أفضل منه ، دعوى بلا حجّة.
نعم ، لا يجوز أن يكون النبيّ مفضولا لواحد من أمّته ، كما يحكم به العقل ، وإن خالف به بعض القوم كما سبق في « مباحث النبوّة » لله (1).
وقد بيّنّا في آية « المباهلة » وغيرها ، أنّ عليّا أفضل من جميع النبيّين سوى ابن عمّه سيّد المرسلين (2).
وقد تواتر عندنا أنّ عليّا سيّد الوصيّين (3) ، ومن جملتهم الأنبياء ، كيوشع بن نون وصيّ موسى علیه السلام .
* * *
ص: 330
قال المصنّف - قدس سره - (1) :
وأيضا : جميع العلوم مستندة إليه ..
أمّا الكلام وأصول الفقه ؛ فظاهر ، وكلامه في « النهج » يدلّ على كمال معرفته في التوحيد والعدل ، وجميع جزئيات علم الكلام والأصول.
وأمّا الفقه ؛ فالفقهاء كلّهم يرجعون إليه ..
أمّا الإمامية ؛ فظاهر (2) ..
وأمّا الحنفية ؛ فإنّ أصحاب أبي حنيفة أخذوا عن أبي حنيفة (3) ، وهو تلميذ الصادق علیه السلام (4) ..
وأمّا الشافعية ؛ فأخذوا عن محمّد بن إدريس الشافعي (5) ، وهو
ص: 331
قرأ على محمّد بن الحسن (1) تلميذ أبي حنيفة ، وعلى مالك ؛ فرجع فقهه إليهما (2) ..
وأمّا أحمد بن حنبل (3) ؛ فقرأ على الشافعي ؛ فرجع فقهه إليه (4).
وأمّا مالك (5) ؛ فقرأ على اثنين :
ص: 332
أحدهما : ربيعة الرأي (1) ، وهو تلميذ عكرمة ، وهو تلميذ عبد اللّه ابن عبّاس ، وهو تلميذ عليّ علیه السلام (2).
والثاني : مولانا جعفر بن محمّد الصادق ..
وكان الخوارج تلامذة له (3).
وأمّا النحو ؛ فهو واضعه (4).
وكذا علم التفسير (5) ..
قال ابن عبّاس : حدّثني أمير المؤمنين علیه السلام في باء ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من أوّل الليل إلى الفجر ولم يتمّ (6).
* * *
ص: 333
وقال الفضل (1) :
ذكر أنّ أبا حنيفة قرأ على الصادق ، ثمّ ذكر أنّ الشافعي قرأ على محمّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة ، وعلى مالك ، فرجع فقهه إليهما.
ويفهم من هذا أنّ كلّ من قرأ على أحد يرجع فقهه إليه ، فيرجع فقه جميع الأئمّة على هذا التقدير إلى الصادق.
وفقه الصادق عنده لا شكّ أنّه حقّ وصدق ، فلم يبق له بعد هذا الكلام اعتراض على الأئمّة الأربعة.
وأمّا قوله : إنّ الشافعي قرأ على محمّد بن الحسن ؛ فهو كذب وباطل.
وأمّا قوله : إنّ جميع العلوم من الفقه والأصول والكلام يرجع إلى أمير المؤمنين ..
فإن أراد أنّ أصحاب هذه العلوم ما استفادوا في تدوين هذه العلوم من غير كلام أمير المؤمنين ؛ فهو ممنوع.
وإن أراد أنّهم استفادوا من كلامه أيضا كما استفادوا من كلام باقي علماء الصحابة ؛ فهو حقّ لا شكّ فيه.
* * *
ص: 334
ما فهمه من كلام المصنّف رحمه اللّه ، وزعم أنّه لا يبقى بعده اعتراض على أئمّتهم ، خطأ ظاهر ؛ إذ ليس معنى الرجوع إليه اتّفاق فتاويهم معه ، بل معناه أنّه أساس تحصيلهم ومنشأ قوّتهم ، وإن خالفوه في أمور خطيرة وأحكام كثيرة استحسنوها بآرائهم ، وقاسوها بمقاييسهم! (1).
ومنه يعلم أنّ ترديده في معنى رجوع العلوم إلى أمير المؤمنين علیه السلام غير حاصر.
فإنّ مراد المصنّف رحمه اللّه : أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أساس تلك العلوم ،
ص: 335
ومنشأ قوّة البحث والاجتهاد فيها ، وإن استفاد العلماء رواية بعض الأحكام أو رواية تفسير بعض الآيات من غيره ؛ وهو غير ما أراده في شقّي الترديد.
ولا يمكن أن ينكر أنّ أمير المؤمنين علیه السلام منشأ التحصيل وسبب قوّة البحث والاستنباط والاجتهاد في علم الكلام ، والأصول ، والنحو ، بل والفقه والتفسير ، فإنّ أعظم من ينظر إليه فيهما هو ابن عبّاس ، وهو تلميذ أمير المؤمنين علیه السلام ، لا في عرضه(1).
وأمّا ابن مسعود ؛ فعلمه بالنسبة إلى علم أمير المؤمنين به كقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط ؛ إذ ليس هو بأعظم من ابن عبّاس ، وهو قد كان كذلك (2).
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « شرح نهج البلاغة » : « ومن العلوم :
علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ومنه تفرّع ، وإذ رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك ؛ لأنّ أكثره عنه وعن عبد اللّه بن عبّاس.
وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنّه تلميذه وخرّيجه ، وقيل له : أين علمك من علم ابن عمّك؟
فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط » (3).
بل علمه وعلم جميع الصحابة بالنسبة إلى علم أمير المؤمنين علیه السلام
ص: 336
كذلك ..
فأين هم ممّن عنده علم الكتاب (1) ، وباب مدينة علم الرسول (2) ، ومن يقول : « سلوني قبل أن تفقدوني » (3)؟!
وهل يتصوّر منصف أن يكون أصلا في الكلام والتفسير والفقه من لا يعرف أنّ اللّه سبحانه لا يحويه مكان؟! ويقول : هو في السماء على العرش!! في جواب السائل : أين هو؟ (4) ..
ومن لا يعرف مفردات الكتاب - كالأبّ (5) ، والكلالة (6) - فضلا عن مركنباته المتشابهة؟! ..
ويضرب السائل عن تفسير : ( وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ) (7) ، فرارا عن
ص: 337
جوابه (1)؟! ..
ويقرّ بأنّ المخدّرات أفقه منه (2)؟!.
وأمّا تكذيبه للمصنّف رحمه اللّه في دعوى قراءة الشافعي على محمّد بن الحسن ، فمن الجهل! ..
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « شرح النهج » : « ومن العلوم : علم الفقه ، وهو علیه السلام أصله وأساسه ، وكلّ فقيه في الإسلام عيال عليه ومستفيد من فقهه.
أمّا أصحاب أبي حنيفة ؛ كأبي يوسف (3) ، ومحمّد (4) ، وغيرهما (5) ، فأخذوا عن أبي حنيفة.
ص: 338
وأمّا الشافعي ؛ فقرأ على محمّد بن الحسن (1) ، فيرجع فقهه - أيضا - إلى أبي حنيفة.
وأمّا أحمد بن حنبل ؛ فقرأ على الشافعي ، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ؛ وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّد ، وقرأ جعفر على أبيه ، وينتهي الأمر إلى عليّ علیه السلام .
وأمّا مالك بن أنس ؛ فقرأ على ربيعة الرأي ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبد اللّه بن عبّاس ، وقرأ عبد اللّه بن عبّاس على عليّ (2).
وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك ، كان لك ذلك » (3) (4).
* * *
ص: 339
قال المصنّف - طاب مرقده - (1) :
وعلم الفصاحة إليه منسوب ، حتّى قيل في كلامه : « إنّه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق » (2) ، ومن كلامه تعلّم الفصحاء.
قال ابن نباتة (3) : « حفظت من كلامه ألف خطبة ، ففاضت ثمّ فاضت » (4).
وأمّا المتكلّمون ، فأربعة ؛ معتزلة ، وأشاعرة ، وشيعة ، وخوارج .. وانتساب الشيعة معلوم ..
والخوارج كذلك ؛ فإنّ فضلاءهم رجعوا إليه (5).
وأمّا المعتزلة ؛ فإنّهم انتسبوا إلى واصل بن عطاء (6) ، وهو تلميذ أبي
ص: 340
هاشم عبد اللّه (1) ، وهو تلميذ أبيه محمّد بن الحنفية ، وهو تلميذ أبيه عليّ علیه السلام .
وأمّا الأشاعرة ؛ فإنّهم تلاميذ أبي الحسن عليّ بن أبي بشر الأشعري (2) ، وهو تلميذ أبي عليّ الجبّائي (3) ، وهو من مشايخ
ص: 341
وقال الفضل (1) :
لا شكّ في توغّل أمير المؤمنين في العلم ، والفصاحة ، والأسرار المكنونة ، التي لم يطّلع عليها أحد غيره.
وأمّا ما ذكره من رجوع طوائف أهل الكلام إليه ؛ فإن أراد به أنّ أصول كلامهم مأخوذ منه ، فهذا يوجب أن يكون أصول عقائد الخوارج ، والمعتزلة ، والأشاعرة ، مأخوذا من أمير المؤمنين ، وما كان مأخوذا منه يكون حقّا ؛ وهذا لا يوافق مذهبه.
وإن أراد به أنّهم ينتسبون إليه بلا أخذ العلم والعقيدة ؛ فإثبات هذا لا يفيده في ما يدّعيه.
* * *
ص: 343
ظهر لك - ممّا سبق (1) - أنّ معنى رجوع هذه الطوائف ، هو أنّه المؤسّس لهم علم الكلام وطريقة الاستدلال على مسائله ، فلا ينافي مخالفتهم له في كثير من العقائد الحقّة.
ويكفيك من تعاليمه ما تضمّنه « نهج البلاغة » ، الذي هو سنا النور الإلهي ، ومصباح العلم الأحمدي.
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « شرح النهج » : « ما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل ، وينبوعها ، وأبو عذرها (2) ، وسابق مضمارها ، ومجلّي (3) حلبتها ؛ كلّ من برع فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى؟!
وقد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي ؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم.
ومن كلامه اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ!
فإنّ المعتزلة الّذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم
ص: 344
تعلّم الناس هذا الفنّ (1) ، تلامذته وأصحابه ؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء ، تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه علیه السلام .
وأمّا الأشاعرة ؛ فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري ، وهو تلميذ أبي عليّ الجبّائي ، وأبو عليّ أحد مشايخ المعتزلة.
فالأشعرية ينتهون بالآخرة الى أستاذ المعتزلة ومعلّمهم : عليّ بن أبي طالب.
وأمّا الإمامية والزيدية ؛ فانتماؤهم إليه ظاهر » (2).
* * *
ص: 345
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
وأمّا علم الطريقة ؛ فإنّ جميع الصوفيّة وأرباب الإشارات والحقيقة ، يسندون الخرقة إليه (2).
وأصحاب الفتوّة يرجعون إليه ، وهو الذي نزل جبرئيل ينادي عليه يوم بدر :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ (3)
وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أنا الفتى ، ابن الفتى ، أخو الفتى » (4).
أمّا أنّه الفتى ؛ فلأنّه سيّد العرب ..
وأمّا أنّه ابن الفتى ؛ فلأنّه ابن إبراهيم ، الذي قال اللّه تعالى فيه : ( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) (5) ..
وأمّا أنّه أخو الفتى ؛ فلأنّه أخو عليّ ، الذي قال جبرئيل فيه : لا فتى إلّا عليّ.
* * *
ص: 346
وقال الفضل (1) :
ما ذكره أنّ الصوفية يرجعون إليه ، ينافي ما ادّعى في صدر الكتاب ، أنّ الصوفية هم تاركو الصلاة ، والمعتقدون للحلول والاتّحاد (2).
وكيف يجوز نسبتهم إلى أمير المؤمنين وهذا علمهم وعقيدتهم؟!
ثمّ إنّ انتساب الخرقة لا يوجب أخذ العلم ، وأخذ العلم هو المدّعى.
وفي الجملة : هذا الرجل لا يعرف ما يقول ، وهو كالناقة العشواء يرتعي كلّ حشيش.
* * *
ص: 347
قد عرفت أنّ معنى الرجوع إليه ، هو أنّه الأصل لهم ، والأساس لأمرهم (1) ، وهو لا يستدعي الموافقة في كلّ شيء ..
فإنّ الملّيّين جميعا ينتسبون إلى أنبيائهم ، مع أنّ الضلال قد غلب عليهم ، فغيّروا وبدّلوا.
ومنهم المسلمون بطوائفهم ؛ فإنّهم ينتسبون إلى دين النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ويرجعون في علومهم إليه ، وأكثر فرقهم ضلّال.
ومنهم الصوفيّة ، فإنّهم من المسلمين ، وينتسبون إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالإسلام ، كما ينتسبون إلى أمير المؤمنين علیه السلام بعلم الطريقة ، وهما بريئان من عقائدهم وأعمالهم.
ويشهد لانتسابهم إلى أمير المؤمنين علیه السلام إسنادهم الخرقة إليه - التي هي شعارهم - سواء أرادوا بها - كما قيل - : سرّ الولاية ، فاستعاروا له الخرقة كلباس التقوى ؛ أم أرادوا بها : الخرقة الظاهريّة ، التي يزعم جهّالهم أنّها الخرقة التي أخذوها عن أسلافهم ، عن أهل البيت ، عن أمير المؤمنين علیه السلام (2).
ص: 348
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة الشرح : « ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف.
وقد عرفت أنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون ، وعنده يقفون.
وقد صرّح بذلك : الشّبلي (1) ، والجنيد (2) ، وسريّ (3) ، وأبو يزيد البسطامي (4) ، وأبو محفوظ معروف الكرخي (5) ، وغيرهم.
ص: 349
ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متّصل إليه علیه السلام » (1).
فقد ظهر أنّ مراد المصنّف رحمه اللّه بذكر الخرقة هو الاستشهاد بها على رجوعهم إليه ، لا أنّ إسنادها إليه موجب بذاته لأخذ العلم منه ، كما تخيّله الفضل.
ص: 350
وقال الفضل (1) :
رجوع الصحابة إليه في الفتوى غير بعيد (2) ؛ لأنّه كان مفتي الصحابة ، والرجوع إلى المفتي من شأنّ المستفتين ، وإنّ رجوع عمر إليه كرجوع الأئمّة وولاة العدل إلى علماء الأمّة.
وما ذكره من قوله : « لو لا عليّ لهلك عمر » ، فهو من فضائل عمر في عدله وصدقه وإنصافه وتواضعه.
* * *
ص: 352
لا شكّ في رجوعهم إليه واستفتائهم منه ، لا سيّما في غوامض المسائل التي لا يهتدون إليها سبيلا ، ولا يعرفون لها عند أحد مخرجا ، وما هو إلّا لظهور فضله عليهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
وأمّا قوله : « إنّ رجوع عمر إليه كرجوع الأئمّة وولاة العدل إلى علماء الأمّة » ..
فهو تجهيل لعمر ؛ إذ اعتبره كسائر الولاة الّذين يحتاجون إلى علم العلماء ، وقد سبق موضّحا أنّ الإمام أجلّ قدرا ، وأعلى شأنا ، من أن يحتاج إلى علم الرعيّة (1).
وأمّا ما زعمه من صدق عمر وتواضعه ، فمتنافيان ظاهرا ؛ لأنّ الحقّ إن كان مع أمير المؤمنين علیه السلام ، وكان عمر صادقا في قوله ، لزم أن لا يكون ذلك تواضعا ، بل إقرارا بالحقّ.
وإن كان الحقّ مع عمر ، فلا وجه لإقراره بعدم علمه وعمله بغير الحقّ تواضعا ، بل لزم أن يكون كاذبا في قوله.
* * *
ص: 353
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وفي مسند أحمد بن حنبل : « لم يكن أحد من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول : سلوني ؛ إلّا عليّ بن أبي طالب » (2)
وفي صحيح مسلم ، أنّ عليّا قال على المنبر : « سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فما من آية إلّا وأعلم حيث نزلت ، بحضيض جبل ، أو سهل أرض.
سلوني عن الفتن ، فما من فتنة إلّا وقد علمت كبشها ، ومن يقتل فيها » (3).
وكان يقول : « سلوني عن طرق السماء فإنّي أعرف بها من طرق الأرض » (4).
وقال عليّ : « علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم ، في كلّ باب ألف باب » (5).
وقضاياه العجيبة أكثر من أن تحصى ؛ كقسمة الدراهم على صاحبي
ص: 354
الأرغفة (1) ..
وبسط الدّية على القامصة (2) ، والناسخة (3) (4) ..
وإلحاق الولد بالقرعة ، وصوّبه النبيّ صلی اللّه علیه و آله (5) ..
والأمر بشقّ الولد نصفين ، حتّى رجعت المتداعيتان إلى الحقّ (6) ..
ص: 355
والأمر بضرب عنق العبد حتّى رجع إلى الحقّ (1) ..
وحكمه في ذي الرأسين بإيقاظ أحدهما (2) ..
واستخراج حكم الخنثى (3) ..
وأحكام البغاة ؛ قال الشافعي : عرفنا أحكام البغاة من عليّ (4).
وغير ذلك من الأحكام الغريبة ، التي يستحيل أن يهتدي إليها من سئل عن الكلالة (5) والأبّ (6) فلم يعرفهما (7) ، وحكم في الجدّ بمئة قضيّة (8).
* * *
ص: 356
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من الأقضية والأحكام التي قضى فيها أمير المؤمنين ، فهو حقّ لا يرتاب فيه ، وهذا شأنه وهو مشتهر به.
وأمّا قوله : « سلوني » ، فهذا من وفور علمه ، كالبحر الزاخر الذي يتموّج بما فيه ويريد إلقاء الدرّ على الساحل ، وليس هذا من باب النزاع حتّى يقيم فيه الدلائل.
وأمّا قوله : « من سئل عن الكلالة والأبّ فلم يعرفهما » ، فهو من المطاعن ، وستعرف جوابه في محلّه إن شاء اللّه.
* * *
ص: 357
مقصود المصنّف رحمه اللّه بيان فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، وأنّه لا نسبة بينه وبين من تقدّم عليه ، فكيف يكون رعيّة لهم وهم أئمّته ، واللّه سبحانه يقول : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) ..
ويقول : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2)؟!
وليس مراده مجرّد بيان علم أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لئلّا يكون محلّ النزاع ، ولا مجرّد الطعن في غيره ليحيل جوابه على ما يأتي.
* * *
ص: 358
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
المطلب الثالث : الإخبار بالغيب
وقد حصل منه في عدّة مواطن ..
فمنها : إنّه قال في خطبة : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فو اللّه لا تسألونني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة ، إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة.
فقام إليه رجل فقال له : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟
فقال علیه السلام : واللّه لقد حدّثني خليلي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما سألت ، وإنّ على كلّ طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك ، وإنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطانا يستفزّك ، وإنّ في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولو لا أنّ الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرت به ، ولكن آية ذلك ما نبأت به من لعنك وسخلك الملعون ».
وكان ابنه في ذلك الوقت صغيرا ، وهو الذي تولّى قتل الحسين علیه السلام (2).
ص: 359
وأخبر بقتل ذي الثديّة من الخوارج (1).
وعدم عبور الخوارج النهر ، بعد أن قيل له : قد عبروا (2).
وعن قتله نفسه (3).
وبقطع يدي جويرية بن مسهر ، وصلبه ؛ فوقع في أيّام معاوية (4).
وبصلب ميثم التمّار ، وطعنه بحربة عاشر عشرة ، وأراه النخلة
ص: 360
التي يصلب على جذعها ؛ ففعل به ذلك عبيد اللّه بن زياد عليهما اللعنة (1).
وبقطع يدي رشيد الهجري ورجليه ، وصلبه ؛ ففعل ذلك به (2).
وقتل قنبر ؛ فقتله الحجّاج (3).
وبأفعال الحجّاج التي صدرت عنه (4).
وجاء رجل إليه فقال : إنّ خالد بن عرفطة (5) قد مات.
ص: 361
فقال علیه السلام : إنّه لم يمت ، ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة ، صاحب لوائه حبيب بن حماز (1).
فقام رجل من تحت المنبر فقال : يا أمير المؤمنين! إنّي لك شيعة ومحبّ.
فقال : من أنت؟
فقال : أنا حبيب بن حماز.
قال : إيّاك أن تحملها! ولتحملنّها وتدخل بها من هذا الباب ؛ وأومأ بيده إلى باب الفيل.
فلما كان زمان الحسين علیه السلام ، جعل ابن زياد خالد بن عرفطة على مقدّمة عمر بن سعد ، وحبيب بن حماز صاحب رايته ، فسار بها حتّى دخل من باب الفيل (2).
ص: 362
وقال للبراء بن عازب (1) : يقتل ابني الحسين وأنت حيّ لا تنصره ؛ فقتل الحسين وهو حيّ لم ينصره (2).
ولمّا اجتاز بكربلاء في وقعة « صفّين » بكى وقال : هذا واللّه مناخ ركابهم ، وموضع قتلهم ؛ وأشار إلى ولده الحسين وأصحابه (3).
وأخبر بعمارة بغداد (4) ..
وملك بني العبّاس وأحوالهم (5) ..
ص: 363
وأخذ المغول الملك منهم (1).
وبواسطة هذا الخبر سلمت الحلّة والكوفة والمشهدان من القتل في وقعة هلاكو ؛ لأنّه لمّا ورد بغداد كاتبه والدي (2) والسيّد ابن طاووس (3) والفقيه ابن أبي المعزّ (4) ، وسألوا الأمان قبل فتح بغداد ،
ص: 364
فطلبهم ، فخافوا ، فمضى والدي إليه خاصّة ، فقال : كيف أقدمت على المكاتبة قبل الظفر؟!
فقال له والدي : لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام أخبر بك وقال : « إنّه يرد الترك على الأخير من بني العبّاس ، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدأ ملكهم ، جهوري الصوت ، لا يمرّ بمدينة إلّا فتحها ، ولا ترفع له راية إلّا نكسها ، الويل الويل لمن ناوأه ، فلا يزال كذلك حتّى يظفر » (1).
والأخبار بذلك كثيرة (2).
* * *
ص: 365
وقال الفضل (1) :
من ضروريات الدين أنّ علم الغيب مخصوص باللّه ، والنصوص في ذلك كثيرة ..
( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلأَهُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ ... ) (2)الآية ..
( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... ) (3) الآية ..
فلا يصحّ لغير اللّه أن يقال : إنّه يعلم الغيب.
ولهذا لمّا قيل عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الرجز :
وفينا نبيّ يعلم ما في الغد
أنكر على قائله وقال : دع هذا! وقل غير هذا! (4)
وبالجملة ، لا يجوز أن يقال لأحد : فلان يعلم الغيب.
نعم ، الإخبار بالغيب بتعليم اللّه جائز ، وطريق هذا التعليم إمّا الوحي ، أو الإلهام عند من يجعله طريقا إلى علم الغيب.
فإن صحّ أنّ أمير المؤمنين أخبر بالمغيّبات ، فلا بدّ أن يقال :
ص: 366
إنّه كان بتعليم اللّه ؛ إمّا بالإلهام كما يكون للأولياء ، أو بالسماع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
وبعض الناس على أنّه كان يعلم بالعلم الموسوم بالجفر والجامعة(1) ، وهو - أيضا - من تعليم اللّه.
فكان ينبغي له أن يبيّن حقيقة هذا ، ولا يطلق القول بالإخبار بالغيب ، فإنّه يوهم أنّ البشر يمكن له الإخبار بالغيب.
وأمّا ما ذكر من الإخبار بوقائع خروج الترك وخراب بغداد ، فقد
ص: 367
جاء في بعض الأحاديث الإخبار عنه (1) ، وهو بتعليم اللّه ، كما يقتضيه نصوص الكتاب وضرورة الدين.
* * *
ص: 368
من نظر إلى مفتتح كلامه تخيّل أنّ المصنّف رحمه اللّه جاء بذنب لا يغفر! وما برح بعد القعقعة (1) حتّى كانت نتيجة كلامة أنّه ينبغي للمصنّف رحمه اللّه أن يبيّن الحقيقة ، ولا يطلق القول بالإخبار بالغيب.
وليت شعري ، أيّ جواب في هذا عن كون أمير المؤمنين علیه السلام ذا الفضيلة على غيره بالإخبار بالمغيّبات ، القاضي بامتيازه على غيره وبإمامته دون من سواه؟!
ثمّ أيّ ضرر في الإطلاق ، وهو ممّا لا إيهام فيه ؛ لمعلوميّة المراد منه عند الجاهل فضلا عن الفاضل؟!
على أنّ المصنّف رحمه اللّه ذكر من الأحاديث ما يدلّ على أنّ إخبار أمير المؤمنين علیه السلام بالغيب كان من حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فيرتفع الإيهام لو وجد.
وقد نقل ابن أبي الحديد كثيرا ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه ، ومن غيره ، في عدّة صحائف (2).
ص: 369
ويشهد لعلمه بالغيب إيصاؤه بدفنه خفية (1) ، مع كون السلطان لهم بالفعل ، فإنّه لم يقع مثله عادة ، ولا يحسن أن يفعله بنوه لو لا علمه وعلمهم باستيلاء معاوية وبني أميّة على البلاد ، وهم غير مأمونين من إهانة قبره الشريف بنبش أو نحوه.
وكذا يعلم بكثرة الخوارج بعد ، وعداوتهم له ، فخاف منهم ما خافه من بني أميّة ، أو علمه منهم جميعا ، فأوصى سيّدي شباب أهل الجنّة - العالمين بما يعلم - أن يدفناه ليلا ولا يظهرا قبره ، فأخفياه حتّى قام الرشيد ببنائه وإظهاره ؛ لكرامة ذكرها المؤرّخون (2).
* * *
ص: 370
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه وأجره - (1) :
المطلب الرابع : في الشجاعة
وقد أجمع الناس كافّة على أنّ عليّا علیه السلام كان أشجع الناس بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وتعجّبت الملائكة من حملاته (2) ، وفضّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله قتله لعمرو بن عبد ودّ على عبادة الثقلين (3).
ونادى جبرئيل :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ (4)
وروى الجمهور أنّ المشركين كانوا إذا أبصروا عليّا في الحرب ، عهد بعضهم إلى بعض (5).
* * *
ص: 371
سبق أنّ الشجاعة شرط في الإمام ، فإذا ثبتت أشجعيّة أمير المؤمنين كان أولى بالإمامة.
وقول الفضل : « شجاعة أمير المؤمنين ... » إلى آخره ، دون أن يقول : أشجعيّته ؛ غفلة أو تغافل ، إلّا أن يرى أن لا شجاعة لغيره - ولو بالنسبة إليه - ، فيكون حسنا.
* * *
ص: 373
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
لا خلاف في أنّه أزهد أهل زمانه ، طلّق الدنيا ثلاثا (2).
قال قبيصة بن جابر : « ما رأيت في الدنيا أزهد من عليّ بن أبي طالب ، كان قوته الشعير غير المأدوم ، ولم يشبع من البرّ ثلاثة أيّام » (3).
قال عمر بن عبد العزيز : « ما علمنا أنّ أحدا كان في هذه الأمّة بعد النبيّ أزهد من عليّ بن أبي طالب » (4).
وروى أخطب خوارزم ، عن عمّار بن ياسر ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يا عليّ! إنّ اللّه تعالى زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة هي أحبّ إليه منها ، زهّدك في الدنيا ، وبغضها إليك ، وحبّب إليك الفقراء ، فرضيت بهم أتباعا ، ورضوا بك إماما.
يا عليّ! طوبى لمن أحبّك وصدّق عليك (5) ، والويل لمن
ص: 374
أبغضك وكذب عليك.
أمّا من أحبّك وصدق عليك فإخوانك في دينك ، وشركاؤك في جنّتك.
وأمّا من أبغضك وكذّب عليك ، فحقيق على اللّه أن يقيمه يوم القيامة مقام الكاذبين » (1).
* * *
ص: 375
وقال الفضل (1) :
أمّا زهد أمير المؤمنين فهو مسلّم عند الجمهور ، ولو أخذنا في الحكايات الدالّة على زهده ممّا رواه جمهور أصحابنا لطال الكتاب.
وهذا الرجل يزعم أنّ أهل السنّة والجماعة ينكرون فضائل أمير المؤمنين - حاشاهم عن ذلك - ، إنّما ينكر فضائل الشمس الخفافيش.
* * *
ص: 376
ليس الغرض بيان زهد أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّه أشهر وأظهر من أن يذكر ، وإنّما الغرض أزهديّته الكاشفة عن فضله الذاتي على من سواه ، وقربه الأقرب إلى اللّه تعالى ؛ فإن أقرّ القوم بذلك ، فنعم الوفاق ، وإلّا فليأتوا بسورة من مثله.
وتنزيه الفضل لأصحابه لا حقيقة له ؛ فإنّهم أنكروا أعظم فضائله وأجمعها للمزايا ، وهي خلافته بنصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنكروا عصمته وفضله على من سواه ، الذي هو من أظهر الضروريّات.
والفضل بنفسه لم يستطع أن يقرّ لأمير المؤمنين ، وإمام المتّقين ، بالأفضلية في العلم ، والشجاعة ، والزهد ؛ بل أثبت له - كما رأيت - أصل هذه الأمور فقط.
فهل يرى أنّ إنكار فضائله إنّما هو بإنكار علمه ، وشجاعته ، وزهده؟! فهذا لا يقدر عليه حتّى الخوارج!!
ثمّ إنّ الحديث الذي حكاه المصنّف رحمه اللّه عن أخطب خوارزم قد حكاه في « كنز العمّال » (1) ، ونقله ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (2) ، كلاهما عن أبي نعيم في « الحلية » ، بسنده عن عمّار ، ولفظه هكذا :
« يا عليّ! إنّ اللّه قد زيّنك بزينة ، لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إليه
ص: 377
منها ، هي زينة الأبرار عند اللّه ، الزهد في الدنيا ، فجعلك لا ترزأ (1) من الدنيا شيئا ، ولا ترزأ الدنيا منك شيئا ، ووهب لك حبّ المساكين ، فجعلك ترضى بهم أتباعا ، ويرضون بك إماما » (2).
ثمّ قال ابن أبي الحديد : « وزاد فيه أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل في ( المسند ) : فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك » (3).
وروى الحاكم هذه الزيادة فقط (4) ، وقال : « هذا حديث صحيح الإسناد ».
ونقلها أيضا في « الكنز » ، عن الطبراني ، والخطيب ، مع الحاكم (5).
* * *
ص: 378
قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :
قد عرفت أنّ الكلام - في هذا ونحوه - في الأفضليّة ، فإن أقرّ به الفضل ، فهو المراد ، وإلّا فليأت بشبهة.
وكيف يقاس بمن جاد بنفسه في جميع مواقف الزحام ، من بخل بها في كلّ مقام ، وفرّ مرارا عن سيّد الأنام (1)؟!
أو يقاس بمن سخا بجميع ماله على الأباعد ، من ضنّ ببعضه على الأقارب ، وحمل يوم الهجرة ماله كلّه وترك بلا قوت أهله (2)؟!
وهل يلحق من آثر على نفسه ولم يعزّ عليه قوته ، من كانت في أموال المسلمين نهمته حتّى كبت به بطنته (3).
* * *
ص: 381
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد استسعد به (2) وطلب تأمينه على دعائه يوم المباهلة ، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة (3).
ودعا على أنس بن مالك لمّا استشهده على قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ؛ فاعتذر بالنسيان ..
فقال : اللّهمّ إن كان كاذبا فاضربه ببياض لا تواريه العمامة ؛ فبرص (4).
ص: 382
وردّت عليه الشمس مرّتين لمّا دعا به (1).
ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة حتّى خافوا الغرق ، فنقص حتّى ظهرت الحيتان ، فكلّمته إلّا الجرّي والمارماهي والزمّار (2) ، فتعجّب الناس من ذلك (3).
وأمّا حسن الخلق ؛ فبلغ فيه الغاية ، حتّى نسبه أعداؤه إلى الدعابة (4).
وكذا الحلم ؛ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام : « إنّي زوّجتك من أقدم الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما » (5).
* * *
ص: 384
وقال الفضل (1) :
ما ذكره في هذا المطلب من استجابة دعاء أمير المؤمنين ؛ فهذا أمر لا ينبغي أن يرتاب فيه ، وإذا لم يكن دعاء سيّد الأولياء مستجابا ، فمن يستجاب له الدعاء؟!
وأمّا ما ذكر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بدعائه ؛ فقد ذكرنا سرّ هذا الاستسعاد والاشتراك في الدعاء في المباهلة ، أنّ هذا من عادات أهل المباهلة ، أن يشاركوا القوم والنساء والأولاد في الدعاء (2).
ويفهم منه أنّ النبيّ استسعد بدعائه لاحتياجه إلى ذلك الاستسعاد ، وهذا باطل عقلا ونقلا.
أمّا عقلا ؛ لأنّ النبيّ لا شكّ أنّه كان مستجاب الدعوة ، ومن كان مستجاب الدعوة فلا يحتاج إلى استسعاد الغير.
وأمّا نقلا ؛ فلأنّ الاشتراك في الدعاء في المباهلة لم يكن للاستسعاد ، بل لما ذكرنا.
وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين استشهد من أنس بن مالك ، فاعتذر بالنسيان ، فدعا عليه ؛ فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض ؛ لأنّ خبر « من كنت مولاه فعليّ مولاه » كان في غدير خمّ.
ص: 385
وكان لكثرة سماع السامعين كالمستفاض (1) ، فأيّ حاجة إلى الاستشهاد من أنس؟!
ولو فرض أنّه استشهد ولم يشهد أنس ، لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين أن يدعو على صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن خدمه عشر سنين ، بالبرص ؛ ووضع الحديث ظاهر.
* * *
ص: 386
استجابة الدعاء في مثل هذه الأمور الخارقة للعادة لا تقع إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ ؛ لاشتمالها على المعجز ، وليس مثلها لغير أمير المؤمنين علیه السلام ، فيكون هو الإمام.
وأمّا ما ذكره من سرّ الاستسعاد ، فهو من الأسرار الخاصّة بضمائر المخالفين لأهل البيت ؛ إذ لم يظهر علمه لغيرهم ، كما عرفته في الآية السادسة (1) ، والحديث الثامن (2).
كما إنّ الاستسعاد لا يتوقّف على الحاجة الواقعيّة ، بل هو من أمر اللّه تعالى ؛ لبيان شرف آل محمّد صلی اللّه علیه و آله عنده وعنايته بهم ..
ومن كمال الرسول ، حيث لا يظهر منه الاعتماد على نفسه ، وأنّ له حقّا على اللّه في الإجابة ، كما سبق موضّحا (3).
وأمّا تكذيبه للدعاء على أنس بحجّة أنّ حديث الغدير مستفيض لا يحتاج إلى الاستشهاد ؛ ففيه :
إنّ أمير المؤمنين علیه السلام إنّما أراد بيان استفاضته ، وكثرة المطّلعين عليه ؛ لتظهر إمامته بالنصّ ، وهذا ممّا يحتاج إلى أعظم الشواهد عند من نشأوا على موالاة الأوّلين ، ولو لا هذا ونحوه لم يكثر الشيعة بالكوفة ،
ص: 387
فيكون كتمان الشهادة فيه كتمانا لما أنزل اللّه تعالى ، فيستحقّ كاتمها العقوبة في الدنيا ، وأشدّ العذاب في الآخرة.
ولا ريب برجحان الدعاء بمثل البرص ؛ ليكون شاهدا عيانيّا مستمرّا على صدق حديث الغدير ، وإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وظلم السابقين له.
ولا يستبعد منه الدعاء على خادم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ فإنّ ضرر كتمانه في مثل المقام أشدّ من غيره ، وهو أولى بالعقوبة ، ولذا كان عذاب العاصية من أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضعفين (1).
وليس هذا أوّل سيّئة من أنس مع أمير المؤمنين علیه السلام ، بل له نحوها في قصّة الطائر (2) ، وغيرها (3) ، وهو من المنحرفين عنه.
قال ابن أبي الحديد (4) : « ذكر جماعة من شيوخنا البغداديّين أنّ عدّة من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّ علیه السلام ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ؛ ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة ، فمنهم : أنس بن مالك ، ناشد عليّ الناس في رحبة القصر - أو قالوا : برحبة الجامع - بالكوفة : أيّكم سمع رسول اللّه يقول : « من كنت مولاه فعليّ
ص: 388
مولاه »؟
فقام اثنا عشر رجلا ، فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم.
فقال له : يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها؟!
فقال : يا أمير المؤمنين! كبرت ونسيت.
فقال : اللّهمّ إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.
قال طلحة بن عمير : فو اللّه لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه
وروى عثمان بن مطرّف : إنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّي آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في عليّ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة ، سمعته واللّه من نبيّكم
وروى أبو إسرائيل ، عن الحكم ، عن أبي سليمان المؤذّن ، أنّ عليّا نشد الناس : من سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من كنت مولاه فعليّ مولاه؟
فشهد له قوم ، وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها ، فدعا عليّ عليه بذهاب البصر ، فعمي ، فكان يحدّث الناس بالحديث بعدما كفّ بصره ».
وذكر فيه أمر البرص بمحلّ آخر (1) ، ثمّ قال : « ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة في كتاب ( المعارف ) في باب البرص من أعيان
ص: 389
الرجال ، وابن قتيبة غير متّهم في حقّ عليّ على المشهور من انحرافه عنه ».
وقد روى أحمد في مسنده من عدّة طرق استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام بالرحبة ، وقيام من قام للشهادة ، وفي بعضها : « فقام إلّا ثلاثة ، ودعا عليهم فأصابتهم دعوته » ، كما سبق في الآية الثانية (1).
هذا ، وقد أغفل الفضل ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من فضل أمير المؤمنين علیه السلام بالحلم وحسن الأخلاق المطلوبين في الأئمّة ، ولا ريب بامتيازه على غيره بهما (2).
وأمّا الحديث الذي نقله المصنّف رحمه اللّه في تفضيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لحلم أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد رواه أحمد في مسنده (3).
ص: 390
ونقله في « كنز العمّال » (1) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، من حديث ذكر فيه خطبة أبي بكر وعمر لفاطمة علیهاالسلام ، وإباه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وتزويجها من عليّ علیه السلام ، وقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله لفاطمة : « واللّه لقد أنكحتك أكثرهم علما ، وأفضلهم حلما ، وأقدمهم سلما » قال : « وفي لفظ : أوّلهم سلما ».
ونقله أيضا في « الكنز » (2) ، عن الطبراني ، بلفظ : « إنّه لأوّل أصحابي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ».
ولو لا خوف الإطالة والملال ، لذكرت في حلمه من الأخبار والآثار ما كثر ..
وقد ذكر ابن أبي الحديد - في « مقدّمة الشرح » ، وفي أثنائه - نبذا من حلم أمير المؤمنين علیه السلام ، وصفحه ، وحسن أخلاقه ؛ فراجع (3).
* * *
ص: 391
قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - (1) :
القسم الثاني : في الفضائل البدنية ، وينظمها مطلبان :
الأوّل : في العبادة
لا خلاف أنّه علیه السلام كان أعبد الناس ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، والأدعية المأثورة ، والمناجاة في الأوقات الشريفة ، والأماكن المقدّسة (2).
وبلغ في العبادة إلى أنّه كان يؤخذ النشّاب من جسده عند الصلاة ؛ لانقطاع نظره عن غير اللّه تعالى بالكلّيّة (3).
وكان مولانا زين العابدين علیه السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، ويدعو بصحيفته ، ثمّ يرمي بها كالمتضجّر ويقول : أنّى لي بعبادة عليّ علیه السلام (4).
قال الكاظم علیه السلام : إنّ قوله تعالى : ( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (5)
ص: 392
نزلت في أمير المؤمنين علیه السلام (1).
وكان يوما في صفّين مشتغلا بالحرب ، وهو بين الصفّين يراقب الشمس ، فقال ابن عبّاس : ليس هذا وقت صلاة ، إنّ عندنا لشغلا!
فقال عليّ علیه السلام : فعلام نقاتلهم؟! إنّما نقاتلهم على الصلاة (2)!
وهو الذي عبد اللّه حقّ عبادته حيث قال : ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنّتك ، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك (3).
* * *
ص: 393
وقال الفضل (1) :
عبادة أمير المؤمنين ، لا يقاربه العابدون ، ولا يدانيه الزاهدون ، الملائكة عاجزون عن تحمّل أعبائها ، وأهل القدس مغترفون من بحار صفائها.
وكيف لا؟! وهو أعرف الناس بجلال القدس ، وجمال الملكوت ، وأعشق النفوس إلى وصال الجبروت.
وأمّا ما ذكر أنّه عبد اللّه حقّ عبادته ، فهو لا يصحّ ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال - مع كمال العبادة - : « ما عبدناك حقّ عبادتك » (2).
واتّفق العارفون أنّ اللّه لا يقدر أحد أن يعبده حقّ عبادته ، والدلائل على هذا مذكورة في محالّه.
* * *
ص: 394
إنّما الممتنع هو العبادة بحقّها من جميع الوجوه ، كمّا وكيفا ، وأمّا من جهة خاصّة فلا ، كعبادته سبحانه لذاته لا خوفا ولا طمعا ، وهي التي أرادها المصنّف رحمه اللّه ؛ ولذا جعل قوله علیه السلام : « ما عبدتك خوفا من نارك ... » إلى آخره ، تعليلا لكونه عبد اللّه حقّ عبادته ؛ وهي عبادة الأحرار ، لا عبادة العبيد والتجّار.
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « الشرح » : « كان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.
وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده (1) ، أن يبسط له نطع (2) بين الصّفّين ليلة الهرير (3) ، فيصلّي عليه ورده ، والسهام تقع بين
ص: 395
يديه ، وتمرّ على صماخيه (1) يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟!
وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير (2) ، لطول سجوده؟!
وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم اللّه سبحانه وإجلاله ، وما تتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته ، والاستحذاء له (3) ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلب خرجت ، وعلى أيّ لسان جرت!
وقيل لعليّ بن الحسين علیه السلام - وكان الغاية في العبادة - : أين عبادتك من عبادة جدّك؟
قال : عبادتي عند عبادة جدّي ، كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (4).
ولا غرو فقد وحّد اللّه قبل الناس طفلا ، وعبده صبيّا مع النبيّ سبع سنين ، في محلّ لم يعبده فيه عابد ، ولم يسجد له من الملأ ساجد.
ص: 396
وهذا بالضرورة لم يكن إلّا من كمال النفس ، وصفاء الذات ، وتمام العلم والمعرفة ، التي امتاز بها على من لم يعرف ضعة الحجارة في أكثر أعوامه ، ولم يتّصف بأدنى مراتب تلك العبادة في باقي أيّامه.
روى البخاري في : « باب يفكّر الرجل الشيء في صلاته » - قبل أبواب السهو - ، عن عمر ، قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة » (1).
وروى في « كنز العمّال » (2) ، أنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا ، فلمّا فرغ قيل له ، فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة ، حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها.
فكيف يقاس هذا بصاحب تلك العبادة والمعرفة؟!
وهل يحسن بشريعة العقل أن يكون هذا رئيسا دينيّا ، وإماما مذهبيّا ، وذاك مأموما؟!
ما هذا بحكم عدل ، ولا قول فصل!!
* * *
ص: 397
قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :
المطلب الثاني : في الجهاد
وإنّما تشيّدت مباني الدين ، وثبتت قواعده ، وظهرت معالمه ، بسيف مولانا أمير المؤمنين ، وتعجّبت الملائكة من شدّة بلائه في الحرب (2).
ففي غزاة بدر - وهي الداهية العظمى على المسلمين ، وأوّل حرب ابتلوا بها - قتل صناديد قريش الّذين طلبوا المبارزة ، كالوليد بن عتبة ، والعاص (3) بن سعيد بن العاص - الذي أحجم المسلمون عنه - ،
ص: 398
ونوفل بن خويلد - الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكّة قبل الهجرة ، وأوثقهما بحبل وعذّبهما (1) -.
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا عرف حضوره في الحرب : « اللّهمّ اكفني نوفلا » (2).
ولمّا قتله عليّ علیه السلام ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه » (3).
ولم يزل يقتل في ذلك اليوم واحدا بعد واحد ، حتّى قتل نصف المقتولين ، وكانوا سبعين.
وقتل المسلمون كافّة ، وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين النصف الآخر (4).
ص: 399
وفي غزاة أحد انهزم المسلمون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ورمي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وضربه المشركون بالسيوف والرماح ، وعليّ يدافع عنه ، فنظر إليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد إفاقته من غشيته ، وقال : ما فعل المسلمون؟
فقال : نقضوا العهد وولّوا الدّبر.
فقال : اكفني هؤلاء ؛ فكشفهم عنه.
وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! فانخلعت القلوب ، ونزل جبرئيل قائلا :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ
وقال للنبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه! لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه.
فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه؟! (1).
ورجع بعض الناس لثبات عليّ علیه السلام ، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيّام ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : لقد ذهبت بها عريضا! (2)
وفي غزاة الخندق أحدق المشركون بالمدينة كما قال اللّه تعالى : ( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) (3) ، ونادى المشركون بالبراز ، فلم يخرج سوى عليّ ، وفيه قتل أمير المؤمنين علیه السلام عمرو بن
ص: 400
عبدِ ودّ (1).
قال ربيعة السعدي : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد اللّه! إنّا لنتحدّث عن عليّ ومناقبه ، فيقول أهل البصرة : إنّكم لتفرطون في عليّ ؛ فهل تحدّثني بحديث؟
فقال حذيفة : والذي نفسي بيده ، لو وضع جميع أعمال أمّة محمّد في كفّة ميزان منذ بعث اللّه محمّدا إلى يوم القيامة ، ووضع عمل عليّ في الكفّة الأخرى ، لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد [ ولا يحمل ] (2)!
فقال حذيفة : يا لكع (3)! وكيف لا يحمل؟!
وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم عمرو بن عبد ودّ وقد دعا إلى المبارزة ، فأحجم الناس كلّهم ما خلا عليّا ، فإنّه نزل إليه فقتله.
والذي نفس حذيفة بيده ، لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد إلى يوم القيامة (4).
ص: 401
وفي يوم الأحزاب (1) تولّى أمير المؤمنين قتل الجماعة (2).
وفي غزاة بني المصطلق قتل أمير المؤمنين مالكا وابنه ، وسبى جويرية بنت الحارث (3) فاصطفاها النبيّ صلی اللّه علیه و آله (4).
وفي غزاة خيبر كان الفتح فيها لأمير المؤمنين علیه السلام ، قتل مرحبا ، وانهزم الجيش بقتله ، وأغلقوا باب الحصن ، فعالجه أمير المؤمنين علیه السلام ،
ص: 402
ورمى به ، وجعله جسرا على الخندق للمسلمين ، وظفروا بالحصن ، وأخذوا الغنائم ، وكان يقلّه (1) سبعون رجلا (2).
وقال علیه السلام : واللّه ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة ، بل بقوّة ربانيّة (3).
وفي غزاة الفتح قتل أمير المؤمنين علیه السلام الحويرث بن نفيل بن كعب (4) - وكان يؤذي النبيّ صلی اللّه علیه و آله - ، وقتل جماعة ، وكان الفتح على يده (5).
وفي غزاة حنين حين استظهر (6) النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالكثرة ، فخرج بعشرة آلاف من المسلمين ، فعانهم (7) أبو بكر ، وقال : لن نغلب اليوم من
ص: 403
قلّة (1) ؛ فانهزموا بأجمعهم ، ولم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله سوى تسعة من بني هاشم ، فأنزل اللّه تعالى : ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، يريد عليّا ومن ثبت معه.
وكان عليّ يضرب بالسيف بين يديه ، والعبّاس عن يمينه ، والفضل عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث يمسك سرجه ، ونوفل وربيعة ابنا الحارث ، وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطّلب ، وعتبة ومعتّب ابنا أبي لهب.
وقتل أمير المؤمنين جمعا كثيرا ، فانهزم المشركون وحصل الأسر (3).
وابتلي بجميع الغزوات ، وقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (4).
ص: 404
وروى أبو بكر الأنباري في « أماليه » ، أنّ عليّا علیه السلام جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس ، فلمّا قام عرض واحد بذكره ، ونسبه إلى التّيه والعجب.
فقال عمر : حقّ لمثله أن يتيه ، واللّه لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام ، وهو بعد أقضى الأمّة ، وذو سبقها (1) ، وذو شرفها.
فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟!
فقال : كرهناه على حداثة السنّ ، وحبّه بني عبد المطّلب (2).
وحمله سورة براءة إلى مكّة ، وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنفذ بها أبا بكر ، فنزل عليه جبرئيل وقال : إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدّيها إلّا أنت أو واحد منك (3).
وفي هذه القصّة وحدها كفاية في شرف عليّ وعلوّ مرتبته ، بأضعاف كثيرة على من لا يوثق على أدائها ولم يؤتمن عليها.
وهذه الشجاعة ، مع خشونة مأكله ؛ فإنّه لم يطعم البر ثلاثة أيّام ، وكان يأكل الشعير بغير إدام ، ويختم جريشه لئلّا يؤدمه الحسنان علیهماالسلام (4).
وكان كثير الصوم ، كثير الصلاة (5) ، مع شدّة قوّته حتّى قلع باب
ص: 405
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من بلاء أمير المؤمنين في الحروب مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهذا أمر لا شبهة فيه ، وكان في أكثر الحروب صاحب الظفر ، وهذا مشهور مسلّم لا كلام لأحد فيه.
وما ذكر من بلائه يوم بدر ، وأنّه قتل الرجال من صناديد قريش ، فهو صحيح ؛ وهو أوّل من بارز الصفّ يوم بدر حين خرج عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، وطلبوا المبارزة ، فخرج إليهم فئة من الأنصار ، فقالوا :
نحن لا نبارزكم ؛ ثمّ نادوا : يا محمّد! فلتخرج إلينا أكفاءنا من قريش.
فقال رسول اللّه : يا عبيدة! يا حمزة! يا عليّ! اخرجوا ..
فخرجوا ، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة ، وحمزة شيبة ، وعلي الوليد.
فقتل عليّ الوليد ، وحمزة شيبة ، واختلف الضرب بين عتبة وعبيدة ، فعاونه عليّ وحمزة وقتلوا عتبة (2).
وهذا أوّل مبارزة وقع في الإسلام ، وكان أمير المؤمنين فارسه.
وأمّا ما ذكر من بلائه يوم أحد ، فهو صحيح ؛ ولكن كان الصحابة ذلك اليوم صاحبي بلاء ، وكان طلحة بن عبيد اللّه صاحب البلاء ذلك
ص: 407
اليوم ، وكذا سعد بن أبي وقاص ، وأبي دجانة (1) ، وجماعة من الأنصار.
وأمّا ما ذكر من أمر حنين ، وأنّ أبا بكر عانهم ، فهذا من أكاذيبه.
وكيف يعين أبو بكر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان هو ذلك اليوم شيخ المهاجرين وصاحب رايتهم؟! ولكن رجل من المسلمين أعجبه الكثرة فأنزل اللّه تلك الآية (2).
وأمّا ما ذكر من أنّ عتبة ومعتّب ابني أبي لهب وقفوا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم حنين ، فهذا من عدم علمه بالتاريخ!
ألم يعلم أنّ عتبة دعا عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يسلّط اللّه عليه كلبا من كلابه ، فافترسه الأسد - وذلك قبل الهجرة - ومات في الكفر ؛ فكيف حضر مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة حنين؟!
وهذا من جهله بأحوال السابقين!
وأمّا قصّة سورة براءة فقد ذكرنا حقيقته قبل هذا ؛ وأنّه كان لأجل أن يعتبر العرب على نبذ العهود ، لا لأنّه لم يكن أبو بكر موثوقا به في أداء
ص: 408
سورة براءة (1).
وهذا كلام لا يرتضيه أحد من المسلمين أنّ مثل أبي بكر - وكان شيخ المهاجرين ، وأمين رسول اللّه - لا يثق عليه رسول اللّه في نبذ العهد وقراءة سورة براءة ؛ وهذا من غاية تعصّبه وجهله بأحوال الصحابة!
* * *
ص: 409
لا نعرف بلاء لأحد يوم أحد إلّا لأمير المؤمنين علیه السلام ، وأبي دجانة ، والمستشهدين.
وما قيل من بلاء طلحة وسعد فمحلّ نظر ؛ لأنّهما ممّن فرّوا.
روى الطبري في « تاريخه » (1) ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال :
« انتهى أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطّاب وطلحة ابن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال :
ما يجلسكم؟
قالوا : قتل محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !
قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه.
ثمّ استقبل القوم حتّى قتل ».
ومثله في « كامل » ابن الأثير (2) ، وفي « الدرّ المنثور » للسيوطي ، عن ابن جرير (3).
ص: 410
هذا ممّا دلّ على فرار طلحة وعدم بلائه.
وأمّا ما دلّ على فرار سعد ..
فمنه : ما رواه الطبري ، عن السدّي ، قال : « لم يقف إلّا طلحة ، وسهل بن حنيف (1) » (2).
ومنه : ما رواه الحاكم ، في كتاب المغازي من « المستدرك » (3) ، عن سعد ، قال : « لمّا جال (4) الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك الجولة [ يوم أحد ] ، تنحّيت فقلت : أذود عن نفسي ، فإمّا أن أستشهد ، وإمّا أن أنجو » الحديث.
ومنه : ما نقله ابن أبي الحديد (5) ، عن الواقدي ، قال : « بايعه يومئذ على الموت ثمانية ؛ ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار.
ص: 411
فأمّا المهاجرون : فعليّ ، وطلحة ، والزبير - إلى أن قال : - وأمّا باقي المسلمين ففرّوا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدعوهم في أخراهم (1) ، حتّى انتهى منهم إلى قريب من المهراس(2) ».
وروى القوشجي في « شرح التجريد » ما يدلّ على فرار طلحة وسعد - عند ذكر نصير الدين رحمه اللّه لغزاة أحد - ، قال : « جمع له - أي : لعليّ - الرسول صلی اللّه علیه و آله بين اللواء والراية ، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة - وكان يسمّى كبش الكتيبة - فقتله عليّ.
فأخذ الراية غيره فقتله عليّ ، ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد ، حتّى قتل تسعة نفر ؛ فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم.
فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتّى غشي عليه ، فانهزم الناس عنه سوى عليّ.
فنظر إليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد إفاقته وقال له : اكفني هؤلاء ؛ فهزمهم عليّ عنه ، وكان أكثر المقتولين منه »(3).
ص: 412
وبهذا جاءت أخبارنا ، لكن مع ذكرها لثبات أبي دجانة (1).
ولو سلّم أنّ طلحة وسعدا ثبتا ، فلا نعرف لهما بلاء يذكر.
ودعوى أنّ طلحة أصابه شلل وقاية لوجه النبيّ صلی اللّه علیه و آله محلّ نظر ، ولذا نسبه الشعبي إلى الزعم.
فقد حكى في « كنز العمّال » (2) ، في كتاب الغزوات ، عن ابن أبي شيبة ، عن الشعبي ، قال : « أصيب يوم أحد أنف النبيّ صلی اللّه علیه و آله ورباعيّته ، وزعم أنّ طلحة وقى رسول اللّه بيده ، فضرب فشلّت يده (3) ».
ولعلّ الشلل كان حينما فرّ!!
على أنّ عمدة المستند في ثباتهما وبلائهما هو نفسهما ، وهما محلّ التهمة ، لا سيّما مع العلم بكذبهما في بعض ما ادّعياه!
روى البخاري في غزاة أحد ، وفي مناقب المهاجرين ، عن أبي عثمان ، قال : « لم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض تلك الأيّام التي قاتل فيهنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غير طلحة وسعد ، عن حديثهما » (4).
إذ لا ريب - على تقدير ثباتهما في أحد - قد ثبت معهما غيرهما
ص: 413
كأمير المؤمنين علیه السلام ، فكيف يقولون : لم يبق غيرهما ؛ وليس هناك مقام آخر فرّ فيه المسلمون وثبتا فيه وحدهما؟!
فإذا علم كذبهما في ذلك ، كانا محلّ التهمة في كلّ ما أخبرا به ، ومنه دعوى سعد أنّ رسول اللّه جمع له أبويه وفداه بهما (1)!
ولو سلّم أنّهما لم يفرّا ، وأنّ لهما بلاء في أحد ، فلا يقاسان بأمير المؤمنين علیه السلام ، الذي عجبت الملائكة من حسن مواساته ، وصاح بمدحه جبرئيل ، حتّى يجعلهما الفضل في عرضه!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ؛ فعمدة المقصود : تفضيل أمير المؤمنين علیه السلام على المشايخ الثلاثة في الشجاعة والجهاد ، كسائر الصفات الحميدة ، والآثار الجميلة ، فلا ينفع الفضل إثبات شجاعة طلحة وسعد وبلائهما في أحد وحدهما دون المشايخ!
فكيف يستحقّون التقدّم على يعسوب الدين ، وليث العالمين ، وزين العلماء العاملين ، ونفس النبيّ الأمين؟!
لا سيّما عثمان! الذي اتّفقت الكلمة والأخبار على فراره بأحد ، وأنّه إنّما رجع بعد ثلاثة أيّام ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لقد ذهبت بها عريضا! » (2).
وكذا عمر ؛ فإنّ أكثر أخبارهم تدلّ على فراره ..
منها : جميع ما سبق.
ومنها : ما ذكره السيوطي في « الدرّ المنثور » ، بتفسير قوله سبحانه :
ص: 414
( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ ... ) (1) الآية ، قال : أخرج ابن المنذر (2) ، عن كليب ، قال : خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر « آل عمران » ويقول : إنّها أحدية.
ثمّ قال : تفرّقنا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم أحد ، فصعدت الجبل ، فسمعت يهوديّا يقول : قتل محمّد!
فقلت : لا أسمع أحدا يقول قتل محمّد إلّا ضربت عنقه ؛ فنظرت فإذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (3).
وليت شعري من أين جاء اليهودي هناك؟!
وأين كانت هذه الحماسة عن قريش؟!
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » ، في تفسير سورة آل عمران - بعدما ذكر حديث ابن المنذر المذكور (4) - ، عن ابن جرير ، عن كليب ، قال :
ص: 415
خطبنا عمر فقرأ آل عمران ، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ... ) (1) قال : لمّا كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتّى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنّني أروى (2) ... » (3) .. الحديث.
ومنها : ما ذكره ابن أبي الحديد (4) ، نقلا عن الواقدي ، قال : « لمّا صاح إبليس : إنّ محمّدا قد قتل ؛ تفرّق الناس - إلى أن قال : - وممّن فرّ عمر وعثمان ».
ومنها : ما حكاه أيضا عن الواقدي ، في قصّة الحديبية ، قال : « قال عمر : ألم تكن حدّثتنا أنّك ستدخل المسجد الحرام؟! - إلى أن قال : - ثمّ أقبل على عمر فقال : أنسيتم يوم أحد ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) (5) وأنا أدعوكم في أخراكم؟! » (6) .. الحديث.
.. إلى غير ذلك من الأخبار (7).
ص: 416
وأمّا أبو بكر ؛ فيدلّ على فراره أيضا أخبار ..
منها : بعض ما قدّمناه في أدلّة فرار سعد وطلحة (1).
ومنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك » (2) ، وصحّحه ، عن عائشة ، قالت : قال أبو بكر : لمّا جال الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم أحد كنت أوّل من فاء.
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » (3) ، في غزاة أحد ، عن أبي داود الطيالسي ، وابن سعد ، والبزّار ، والدارقطني ، وابن حبّان ، وأبي نعيم ، والضياء في « المختارة » ، وغيرهم ، بأسانيدهم عن عائشة ، قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ، ثمّ قال : ذاك كان كلّه يوم طلحة!
ثمّ أنشأ يحدّث ، قال : كنت أوّل من فاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ دونه ] ، فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحبّ إليّ » .. الحديث.
ص: 417
ومنها : ما رواه مسلم ، في أوّل غزوة أحد ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش (1).
ومن المعلوم أنّ أحد الرجلين عليّ ، والآخر ليس أبا بكر ؛ إذ لا رواية ولا قائل في ثباته ، وفرار سعد أو طلحة.
ومنها : ما رواه الحاكم في فضائل أبي بكر من « المستدرك » (2) ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (3) ، قال : « أبو بكر وعمر » ؛ ثم قال الحاكم : « صحيح على شرط الشيخين ».
ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن الحاكم ، قال : « وصحّحه » ، وعن البيهقي في « سننه » ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت هذه الآية في : أبي بكر وعمر (4).
ونقل الرازي في « تفسيره » ، عن الواحدي في « الوسيط » ، عن عمرو ابن دينار ، أنّه قال : الذي أمر اللّه (5) بمشاورته في هذه الآية : أبو بكر وعمر (6).
ووجه الدلالة في ذلك على فرار أبي بكر وكذا عمر ، أنّ من أمر اللّه سبحانه بمشاورته هم المنهزمون في أحد ، الّذين أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالعفو عنهم.
ص: 418
ولذا استشكل الرازي في رواية الواحدي فقال : « وعندي فيه إشكال ؛ لأنّ الّذين أمر اللّه رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ، وهم المنهزمون.
فهب أنّ عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلّا أنّ أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟! واللّه أعلم » (1) انتهى.
وفيه : إنّ الإشكال موقوف على تقدير ثبات أبي بكر ، وهو خلاف الحقيقة!
هذا ، والآية ظاهرة في الأمر بمشاورتهم للتأليف ، كما يظهر من كثير من أخبارهم (2).
ومثله الأمر بالعفو عنهم والاستغفار لهم ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
وقال ابن أبي الحديد (3) : « قال الجاحظ : وقد ثبت أبو بكر مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم أحد كما ثبت عليّ ، فلا فخر لأحدهما على صاحبه.
قال شيخنا أبو جعفر : أمّا ثباته يوم أحد فأكثر المؤرّخين وأرباب السير ينكرونه ، وجمهورهم يروي أنّه لم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا عليّ وطلحة والزبير وأبو دجانة.
وقد روى عن ابن عبّاس أنّه قال : ولهم خامس ، وهو عبد اللّه بن
ص: 419
مسعود ؛ ومنهم من أثبت سادسا ، وهو المقداد بن عمرو.
وروى يحيى بن سلمة بن كهيل ، قال : قلت [ لأبي ] : كم ثبت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم أحد؟
فقال : اثنان.
قلت : من هما؟
قال : عليّ وأبو دجانة.
وهب أنّ أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدّعيه الجاحظ ، أيجوز له أن يقول : ( ثبت كما ثبت عليّ ، فلا فخر لأحدهما على الآخر )؟! وهو يعلم آثار عليّ ذلك اليوم ، وأنّه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار ، منهم : طلحة بن أبي طلحة ، الذي رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في منامه أنّه مردف كبشا ، فأوّله وقال : كبش الكتيبة نقتله ؛ فلمّا قتله عليّ مبارزة - وهو أوّل قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم - كبّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : هذا كبش الكتيبة!
وما كان [ منه ] من المحاماة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد فرّ المسلمون وأسلموه ، فتصمد له كتيبة من قريش ، فيقول : يا عليّ! اكفني هذه ؛ فيحمل عليها فيهزمها ، ويقتل عميدها ، حتّى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ولا فتى إلّا علي
وحتّى قال النبيّ عن جبرئيل ما قال!
أتكون هذه آثاره وأفعاله ثمّ يقول الجاحظ : لا فخر لأحدهما على صاحبه؟!
ص: 420
( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (1) ».
وليت شعري ، كيف يتصوّر ثبات أبي بكر في ذلك اليوم الهائل وحومة الحرب الطاحنة وما أصاب ولا أصيب؟!
أتراهم ينعون شلل أصبع طلحة ، ولا ينعون جرح أبي بكر لو أصيب؟!
وكيف يسلم وهو قد ثبت للحرب ومحاماة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهو يرى ما جنى عليه الكافرون؟! ولا سيّما قد زعم أولياؤه أنّه قرين النبيّ صلی اللّه علیه و آله في طلب قريش له ، حتّى بذلوا في قتله ما بذلوا في قتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله (2)!
وأمّا تكذيب الفضل للمصنّف رحمه اللّه في دعوى أنّ أبا بكر عانهم يوم حنين ، فمن الجهل ؛ لأنّ الرازي والزمخشري ذكرا من الأقوال : إنّ أبا بكر هو القائل : « لن نغلب اليوم عن (3) قلّة » (4).
وروى القوشجي في « شرح التجريد » ، عند تعرّض المصنّف لغزاة حنين ، قال : « سار النبيّ صلی اللّه علیه و آله في عشرة آلاف ، فتعجّب أبو بكر من كثرتهم وقال : ( لن نغلب اليوم لقلّة ) ، فانهزموا بأجمعهم ، ولم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله سوى تسعة نفر : عليّ ، والعبّاس ، وابنه الفضل ، وأبو سفيان
ص: 421
ابن الحارث ، ونوفل بن الحارث (1) ، وربيعة بن الحارث (2) ، وعبد اللّه بن الزبير (3) ، وعتبة ومعتّب (4) ابنا أبي لهب.
ص: 422
فخرج أبو جرول وقتله عليّ ، فانهزم المشركون ، وأقبل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسار نحو العدوّ ، فقتل عليّ منهم أربعين وانهزم الباقون وغنمهم المسلمون » (1).
ومن المعلوم أنّ الإصابة بالعين تحصل من نحو هذا التعجّب ؛ ولذا ساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « لن نغلب اليوم عن قلّة ».
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج البيهقي في « الدلائل » ، عن الربيع ، أنّ رجلا قال يوم حنين : « لن نغلب اليوم عن قلّة » ، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأنزل اللّه : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) (2) (3).
ونحوه في « حاشية صحيح البخاري » للسندي (4).
والظاهر أنّ الراوي أراد بالرجل أبا بكر ، وعبّر عنه برجل احتشاما له في مثل المقام ، كما يشهد له التصريح باسمه في بعض الروايات!
وقول الفضل : « كيف يعين أبو بكر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان ذلك اليوم شيخ المهاجرين؟! ... » إلى آخره ..
خطأ ؛ إذ لا يستبعد ذلك ممّن لم ينشأ على الحروب ومقارعة الجيوش ، ولا تتوقّف إصابة العين على العداوة ، بل تنشأ من أمور نفسيّة في العائن!
ص: 423
راجع شرح ابن أبي الحديد لقوله علیه السلام : « العين حقّ » (1) (2).
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ أبا بكر كان صاحب رايتهم يوم حنين ، فلم أجد أحدا قاله أو رواه ، وإنّما صاحبها عليّ علیه السلام .
روى الحاكم (3) ، عن ابن عبّاس ، قال : « لعليّ أربع خصال ليست لأحد : هو أوّل عربي وأعجمي صلّى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو الذي كان لواؤه معه في كلّ زحف ، والذي صبر معه يوم المهراس (4) ، وهو الذي غسّله وأدخله قبره ».
وروى الحاكم أيضا (5) ، عن مالك بن دينار ، قال : « سألت سعيد بن جبير : من كان حامل راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! - إلى أن قال : - فقال : كان حاملها عليّ ، هكذا سمعت من عبد اللّه بن عبّاس ».
ثمّ قال الحاكم : « هذا صحيح الإسناد ، وله شاهد من حديث زنفل
ص: 424
العرفي ، وفيه طول فلم أخرجه » (1).
ونقل في « كنز العمّال » (2) ، عن ابن عساكر ، عن ابن عبادة ، قال : كانت راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المواطن كلّها - راية المهاجرين - مع عليّ ابن أبي طالب علیه السلام .
وأمّا ما أنكره على المصنّف رحمه اللّه من حضور عتبة بن أبي لهب في حنين ، فيبطله رواية القوشجي له كما سبق (3).
وما ذكره في « الاستيعاب » بترجمة معتّب وعتبة ، من أنّهما ما شهدا مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله حنينا (4) ، وما زعمه من أنّ عتبة افترسه الأسد بدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فباطل ؛ لأنّ ذلك هو لهب بن أبي لهب كما رواه الحاكم في « المستدرك » بتفسير سورة ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) (5) (6).
واعلم أنّه لا خلاف في فرار عثمان يوم حنين ، ويظهر من « الاستيعاب » أنّه لا إشكال أيضا في فرار أبي بكر! وإنّما الكلام في فرار عمر ..
قال في ترجمة العبّاس بن عبد المطّلب : « انهزم الناس [ عن رسول
ص: 425
اللّه صلی اللّه علیه و آله ] يوم حنين ، غيره (1) ، وغير عمر ، وعليّ ، وأبي سفيان ابن الحارث ، وقد قيل : غير سبعة من أهل بيته ..
وذلك مذكور في شعر العبّاس ، الذي يقول فيه [ من الطويل ] :
ألا هل أتى عرسي مكرّي ومقدمي
بوادي حنين والأسنّة تشرع »
إلى أن قال في « الاستيعاب » : « وهو شعر مذكور في ( السيرة ) لابن إسحاق ، وفيه:
نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة *** وقد فرّ من قد فرّ عنه وأقشعوا (2)
وثامننا لاقى الحمام بسيفه *** بما مسه في اللّه لا يتوجّع
وقال ابن إسحاق : السبعة : عليّ ، والعبّاس ، والفضل بن العبّاس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وابنه جعفر ، وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ، والثامن أيمن بن عبيد (3).
وجعل غير ابن إسحاق في موضع أبي سفيان : عمر بن الخطّاب.
والصحيح أنّ أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه ، لم يختلف فيه ،
ص: 426
واختلف في عمر » (1).
ويؤيّد ما صحّحه ما ذكره البخاري في غزاة حنين ؛ فإنّه روى خبرين عن البراء صريحين في ثبات أبي سفيان (2) ، وخبرين عن أبي قتادة صريحين في فرار عمر ، قال أبو قتادة في أحدهما : « انهزم المسلمون وانهزمت معهم ، فإذا عمر بن الخطّاب في الناس ، فقلت له : ما شأن الناس؟!
قال : أمر اللّه!!
ثمّ تراجع الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (3).
وقال في الآخر : « لمّا التقينا كانت للمسلمين جولة - إلى أن قال : - فلحقت عمر فقلت : ما بال الناس؟!
قال : أمر اللّه!! ثمّ رجعوا » (4) .. الحديث.
ونحوه في كتاب « الجهاد » من صحيح مسلم ، في « باب استحقاق القاتل سلب المقتول » (5).
وذكر في « كنز العمّال » - في كتاب الغزوات (6) - حديثين يتضمّنان أنّ الثابتين هم : عليّ ، والعبّاس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطّلب ، والزبير بن العوّام ، وأسامة بن
ص: 427
زيد.
وقد روى في « كشف الغمّة » بيتي العبّاس الأخيرين كما في « الاستيعاب » ، إلّا أنّه أبدل لفظ « سبعة » ب « تسعة » ، ولفظ « ثامن » ب « عاشر » ، وسمّى التسعة كما سمّاهم المصنّف والقوشجي (1).
وروى أيضا عن مالك بن عبادة الغافقي أنّه قال [ من الخفيف ] :
لم يواس النبيّ غير بني ها *** شم عند السيوف يوم حنين
هرب الناس غير تسعة رهط *** فهم يهتفون بالناس : أين (2)؟!
ثمّ قاموا مع النبيّ على المو *** ت فآبوا زينا لنا غير شين
وثوى أيمن الأمين من القو *** م شهيدا فاعتاض قرّة عين (3)
وأمّا ما زعمه من حقيقة قصّة براءة ، فقد سبق في الخبر السادس أنّها لا حقيقة لها ، اختلقوها لتسديد حال أبي بكر ، وبيّنّا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يبعثه أوّلا إلّا ليعزله ثانيا ؛ تنبيها على فضل عليّ وعدم كفاية أبي بكر ؛ ليعتبر الناس أنّ من ليست له أهليّة القيام بتأدية « براءة » مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يصلح للقيام مقامه في الإمامة والزعامة العظمى بالأولويّة (4)!
* * *
ص: 428
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
القسم الثالث : في الفضائل الخارجيّة ، وفيه مطالب :
لم يلحق أحد أمير المؤمنين علیه السلام في شرف النسب ، كما قال علیه السلام : « نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد » (2).
قال الجاحظ - وهو من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين علیه السلام - :
« صدق عليّ في قوله : نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد.
كيف يقاس بقوم منهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والأطيبان : عليّ وفاطمة ، والسبطان : الحسن والحسين ، والشهيدان : أسد اللّه حمزة وذو الجناحين جعفر ، وسيّد الوادي عبد المطّلب ، وساقي الحجيج عبّاس ، وحليم البطحاء أبو طالب.
والنجدة والخيرة فيهم ، والأنصار من نصرهم ، والمهاجرون من هاجر إليهم ومعهم ، والصدّيق من صدّقهم ، والفاروق من فرق بين الحقّ والباطل فيهم ، والحواريّ حواريّهم ، وذو الشهادتين ؛ لأنّه شهد لهم ، ولا خير إلّا فيهم ولهم ومنهم؟!
ص: 429
وأبان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أهل بيته بقوله : إنّي تارك فيكم الخليفتين ؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (1).
ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر لمّا طلب مصاهرة عليّ : إنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي (2).
فأمّا عليّ ، فلو أوردنا لأيّامه الشريفة ، ومقاماته الكريمة ، ومناقبه السنيّة ، لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال .. العرق صحيح ، والمنشأ كريم ، والشأن عظيم ، والعمل جسيم ، والعلم كثير ، والبيان عجيب ، واللسان خطيب ، والصدر رحيب ، وأخلاقه وفق أعراقه ، وحديثه يشهد لقديمه ».
هذا قول عدوّه (3).
* * *
ص: 430
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من كلام الجاحظ صحيح لا شكّ فيه ، وفضائل أمير المؤمنين أكثر من أن تحصى ، ولو أنّي تصدّيت لبعضها لأغرقت فيه الطوامير.
وأمّا ما ذكر أنّ الجاحظ كان من أعدائه ، فهذا كذب ؛ لأنّ محبّة السلف لا تفهم إلّا من ذكر فضائلهم ، وليس هذه المحبّة أمرا مشتهيا للطبع.
وكلّ من ذكر فضائل أحد من السلف ، فنحن نستدلّ من ذلك الذكر على وفور محبّته إيّاه.
وقد ذكر الجاحظ أمير المؤمنين بالمناقب المنقولة ، وكذا ذكره في غير هذا من رسائله ، فكيف يحكم بأنّه عدوّ لأمير المؤمنين؟!
وهذا يصحّ على رأي الروافض ؛ فإنّ الروافض لا يحكمون بالمحبّة إلّا بذكر مثالب الغير.
فعندهم محبّ عليّ من كان مبغض الصحابة ، وبهذا المعنى يمكن أن يكون الجاحظ عدوّا.
* * *
ص: 431
لا يصحّ الاستدلال على حبّ أمير المؤمنين علیه السلام بمجرّد ذكر فضائله ؛ إذ لا يسع أحدا أن يعد فضلا لسواه ويدعه ، ويثني على غيره ويعدوه.
وقد علم اللّه ما في طيّات قلوبهم من بغضه ، وإن اختلف قوّة وضعفا ؛ إذ لا يجتمع حبّه الصادق مع موالاة مبغضيه ، لا سيّما أظهر أعدائه وأكبر حسّاده وأشدّ محاربيه ، كمعاوية ، وابن العاص ، ومروان ، والمغيرة ، وأشباههم! بل كيف يوالي النبيّ من والاهم؟! وكيف يؤمن به من نصرهم وأطراهم؟!
أليس هو القائل لعليّ علیه السلام : « حربك حربي » (1) و « من أبغضك أبغضني » (2) و « من سبّك سبّني » (3)؟!
ص: 432
وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1).
فإذا رأيت أحدا ممّن يوالي هؤلاء يذكر فضلا لأمير المؤمنين علیه السلام ؛ فليس إلّا لأنّه لا يسعه - كما عرفت - ، أو لأنّه يريد أن يدفع عنه وصمة النصب (2) ، أو يريد بيان اطّلاعه وسعة باعه ، لا حبّا له ووفاء
ص: 433
بحقّه (1)!
ولذا لا يروون له فضيلة إلّا وطعنوا - مهما أمكن - بسندها أو دلالتها ، ولا تنشرح نفوسهم لها ، بخلاف ما إذا رووا فضيلة لغيره!
ولا بدّ أن يظهر اللّه مخفيّات سرائرهم على صفحات أرقامهم وطفحات أقلامهم ، كما رأيته من هذا الرجل في كثير من كلماته ، وظهر على الجاحظ في رسالته التي تحامل فيها على أمير المؤمنين علیه السلام كلّ التحامل ، وظهر فيها مظهر العداء له ، التي نقضها أبو جعفر الإسكافي (2).
ص: 434
ونقلنا كلمة منها في المبحث السابق (1).
هيهات لا تتكلّفنّ لي الهوى
فضح التطبّع شيمة المطبوع(2)
وممّا ذكرنا يعلم أنّه يشترط في حبّ عليّ علیه السلام الحقيقي بغض أعدائه.
* * *
ص: 435
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
كانت فاطمة سيّدة نساء العالمين زوجته ..
قال ابن عبّاس : « لمّا زفّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة علیهاالسلام كان قدّامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من ورائها ، يسبّحون اللّه ويقدّسونه حتّى طلع الفجر » (2).
فانظر - أيّها العاقل! - كيف يروي الجمهور هذه الروايات ، ويظلمونها ، ويأخذون حقّها (3) ، ويكسرون ضلعها ، ويجهضون ولدها من
ص: 436
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من فضائل فاطمة معلوم ، محقّق ، ثابت ..
وما ذكر أنّ الجمهور يروون فضائلها ويظلمونها ، فكلام باطل ؛ لأنّه على تقدير صحّة الظلم عليها ، فإنّ الظالمين عليها (2) كانوا جماعة غير الراوين لفضائلها ، فكلامه هذا غير مربوط ولا معقول ، كأكثر كلامه في هذا الكتاب.
* * *
ص: 438
أراد المصنّف رحمه اللّه بالجمهور : من خالفوا أمير المؤمنين علیه السلام ، سواء كانوا من الصحابة أم من غيرهم ، فتصحّ نسبة الظلم إليهم باعتبار بعضهم ، ونسبة الرواية إليهم باعتبار بعض آخر.
على أنّ الراوين لفضلها - إن لم يكونوا من الظالمين لها حقيقة - فهم منهم ببعض الوجوه والاعتبارات ؛ كمؤازرتهم لهم ، وتعظيمهم ، ونصرتهم لهم بالقلم واللسان!
ولنذكر من روى حديث سيادتها لنساء العالمين ، أو : المؤمنين ، أو : أهل الجنّة ، على اختلاف في ألفاظ الأحاديث ، ليعلم استفاضته عندهم أو تواتره.
فممّن رواه : البخاري ، في باب « مناقب فاطمة » ، وأواخر باب « علامات النبوّة » قبل أبواب فضائل أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقليل (1).
ومنهم : مسلم ، في باب « فضائل فاطمة » ، من طريقين عن عائشة ، عن فاطمة (2).
ومنهم : الحاكم ، في « المستدرك » ، من طريقين عن حذيفة (3) ،
ص: 439
ومن طريق عن أبي سعيد (1) ، ومن طريق عن عائشة (2).
ومنهم : الترمذي في باب « مناقب الحسنين » من طريق عن حذيفة ، وفي باب « فضل أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله » من طريق عن أمّ سلمة (3).
ومنهم : ابن عبد البرّ في « الاستيعاب » من عدّة طرق ، عن عائشة ، وأبي سعيد ، وعمران بن حصين ، وأنس ، وأبي هريرة (4).
ومنهم : أحمد في « مسنده » ، عن أبي سعيد (5) ، وحذيفة (6) ، وعائشة عن فاطمة (7).
وأخرجه النسائي في « الخصائص » من عدّة طرق ، عن عائشة ، وأمّ سلمة ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة (8).
وحكاه في « كنز العمّال » في فضائل فاطمة ، عن ابن جرير عن حذيفة (9) ، وعن البزّار عن عليّ علیه السلام (10) ، وابن أبي شيبة عن حذيفة (11).
ص: 440
وحكاه أيضا (1) ، عن البيهقي ، وابن ماجة ، والعقيلي ، عن فاطمة علیهاالسلام ..
وابن عساكر (2) ..
وابن حبّان في « صحيحه » ، عن حذيفة (3) ..
وابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (4) ..
وأبي يعلى والطبراني ، عن أبي سعيد (5) ..
وابن النجّار والطبراني ، عن أبي هريرة (6) ..
وفي أكثر هذه الروايات ذكر أنّ « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ».
وروى الحاكم في « المستدرك » (7) ، عن ابن عبّاس : أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة ، وفاطمة ، ومريم وآسية.
ومثله في « مسند أحمد » عن ابن عبّاس (8).
ص: 441
وفي رواية أخرى للحاكم ، عن عائشة : سيّدات نساء أهل الجنّة : مريم ، وفاطمة ، وخديجة ، وآسية (1).
وروى حديثه الأوّل بسند آخر عن ابن عبّاس (2).
وروى الحديث عن أنس - أيضا - من طريقين ، بلفظ : « حسبك من نساء العالمين ، مريم ، وخديجة ، وفاطمة ، وآسية » (3).
ومثله في « صحيح الترمذي » ، في فضائل خديجة (4).
وفي « مسند أحمد » ، عن أنس (5).
وروي في « الاستيعاب » بترجمة خديجة ، حديث تفضيل الأربع ، من أربعة طرق ، عن ابن عبّاس (6) ..
وثلاثة طرق ، عن أنس (7) ..
وطريق ، عن أبي هريرة (8) ..
ورواه بترجمة فاطمة بطرق أخر عن هؤلاء (9).
ورواه جماعة آخرون يطول ذكرهم (10).
ص: 442
وفي جملة هذه الروايات : « خير نساء العالمين أربع : مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفاطمة علیهاالسلام ».
وذكر الحاكم (1) ، أنّ مسلما أخرج حديث أبي موسى ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « خير نساء العالمين أربع » ، ولم أجده في « صحيح مسلم » ، لا في فضائل خديجة! ولا في فضائل فاطمة علیهاالسلام !!
نعم ، روى في فضائل خديجة ، عن أبي موسى : « لم يكمل من النساء غير مريم وآسية ، وإنّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » (2).
فلعلّ النّساخ حرّفوا الحديث ، إيثارا لعائشة بالفضل ، كما يشهد له أنّ هذا الحديث لم يشتمل على ذكر خديجة ، فكيف أخرجه مسلم في فضائلها؟! (3).
ولو لم يكن أصل لما ذكره الحاكم ، لتعقّبه الذهبيّ في « تلخيصه »! وكيف كان! فلا ريب عندنا أنّ فاطمة علیهاالسلام أفضل الأربع ، وسيّدة نساء العالمين أجمع ، كما قضت به أخبارنا (4) ، وكذا أكثر أخبار القوم ؛
ص: 443
وقد رغب بعض القوم أن يعارض حديث سيادة الزهراء علیهاالسلام بما وضعه على لسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » (1) ..
وهو ظاهر الوضع ؛ إذ لا يحسن نسبة هذا التشبيه الواهي إلى من أعطي جوامع الكلم ، وكان أفصح من نطق بالضاد.
وكيف لا يجزم بكذبه من عرف طريقة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في لطف كلامه ، وحسن بيانه ، وبديع تشبيهاته؟!
وأين هو من قوله صلی اللّه علیه و آله : « فاطمة سيّدة نساء العالمين » (2)؟!
وليت شعري ، أيكون الفضل جزافا ، وقد خالفت أمر اللّه في كتابه بقرارها في بيتها (3) ، وخرجت على إمام زمانها الذي قال فيه رسول اللّه : « حربك حربي » (4)؟!
ص: 445
وجاهرت بعداوته (1) ، وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه : « من عاداك عاداني ، ومن عاداني عادى اللّه » (2).
واستمرّت على بغضه (3) ، وقد جعل الرسول بغضه دليل
ص: 446
النفاق(1) ، وقال فيه : « من أبغضك أبغضني ، ومن أبغضني أبغض اللّه »(2).
وكيف تكون أفضل النساء وقد ضرب اللّه سبحانه مثلها وصاحبتها في كتابه المجيد بقوله تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ) ادْخُلَا ( النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (3)؟!
ثمّ إنّه بعد ثبوت حديث سيادتها الجامع لأصناف الفضل ، لا نحتاج إلى إثبات الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه في زفافها ؛ فإنّه من بعض ما يقتضيه سيادتها وشرفها ، ولا سيّما بعدما زوّجها اللّه تعالى في السماء من
ص: 447
عليّ سيّد الأولياء ، ولكنّي رأيته مصادفة في « ميزان الاعتدال » بترجمة توبة بن عبد اللّه (1) ، وقال عداوة ودفعا بالصدر : « هذا كذب [ صراح ] » (2).
ولنذكر عوضه ما هو أعظم منه ، بل أعظم من حديث سيادتها ، وهو ما رواه الحاكم (3) ، وصحّحه على شرط الشيخين ، عن عائشة ، قالت : « ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من فاطمة.
وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبّلها ورحّب بها ، وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه.
وكانت هي إذا دخل عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قامت إليه مستقبلة وقبّلت يده ».
ورواه أيضا (4) إلى قوله : « فأجلسها في مجلسه » ، وصحّحه أيضا على شرط الشيخين ، وأقرّ الذهبيّ بصحّته لكن لا على شرطهما.
وروى الترمذي نحو الأوّل ، في فضل فاطمة ، وحسّنه ، ثمّ قال : « وروي [ هذا الحديث ] من غير وجه عن عائشة » (5).
ص: 448
وروي أيضا في « الاستيعاب » نحوه (1).
فانظر إلى ما فيه من الدلالة على الفضل الباذخ والشرف الشامخ ؛ إذ ليس من شأن البنت أن يقوم لها أبوها ويتنحّى عنها ويجلسها في مجلسه ، لا سيّما وهو سيّد النبيّين وخير الأوّلين والآخرين.
ولعلّه يريد بذلك من أمّته تعظيمها بعده ، ورعاية حرمتها ، علما منه بما تلقاه منهم من التقصير بحقّها ، وغصبها ميراثها ، والهجوم على بيتها ، إلى أن ماتت غضبى عليهم.
وقد كان من تعظيمه لها أنّه إذا جاء من سفر أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين ، ثمّ ثنّى بفاطمة علیهاالسلام ، كما رواه في « المستدرك » عن أبي ثعلبة (2).
وروى أيضا (3) ، عن ابن عمر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان إذا سافر كان آخر الناس عهدا به فاطمة ، وإذ قدم من سفر كان أوّل الناس به عهدا فاطمة.
* * *
ص: 449
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
وكان سبطاه الحسنان أشرف الناس بعده ..
روى أخطب خوارزم ، بإسناده إلى ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » (2).
وعن البراء ، قال : رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حامل الحسن وهو يقول : « اللّهمّ إنّي أحبّه فأحبّه » (3).
وقال أبو هريرة : « رأيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمصّ لعاب الحسن والحسين كما يمصّ الرجل التمر » (4).
ص: 450
وعن أسامة بن زيد ، قال : « قلت : يا رسول اللّه! ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فإذا هو حسن وحسين على ركبتيه.
فقال : هذان ابناي وابنا بنتي ، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي أحبّهما فأحبّهما » ثلاث مرّات (1).
وعن جابر ، قال : دخلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلى ظهره الحسن والحسين وهو يقول : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما » (2).
وروى صاحب كتاب « [ نهاية ] الطلب وغاية السؤول » الحنبلي (3) ، بإسناده إلى ابن عبّاس ، قال : « كنت عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلى فخذه الأيسر
ص: 451
ابنه إبراهيم ، وعلى فخذه الأيمن الحسين ، وهو يقبّل هذا تارة ، وهذا أخرى ، إذ هبط جبرئيل فقال : يا محمّد! إنّ اللّه يقرأ عليك السلام ، وهو يقول : لست أجمعهما لك ، فافد أحدهما بصاحبه.
فنظر إلى ولده إبراهيم وبكى ، ونظر إلى الحسين وبكى ، ثمّ قال : إنّ إبراهيم أمّه أمة ، إذا مات لم يحزن عليه غيري ، وأمّ الحسين فاطمة ، وأبوه عليّ ابن عمّي ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، ومتى مات حزنت عليه ابنتي ، وحزن ابن عمّي ، وحزنت ، أنا أوثر حزني على حزنهما ؛ يقبض إبراهيم ، فقد فديت الحسين به ؛ فقبض إبراهيم بعد ثلاث.
وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا رأى الحسين مقبلا قبّله ، وضمّه إلى صدره ، ورشف ثناياه ، وقال : فديت من فديته بابني إبراهيم » (1).
وفي « صحيح مسلم » ، في تفسير قوله تعالى : ( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ) (2) ، قال : « لمّا قتل الحسين بن عليّ بكت السماء ، وبكاؤها حمرتها » (3).
ص: 452
وفي مسند أحمد بن حنبل ، أنّ من دمعت عيناه لقتل الحسين دمعة ، أو قطرت قطرة ، بوّأه اللّه عزّ وجلّ الجنّة (1).
وفي تفسير الثعلبي ، بإسناده قال : « مطرنا دما أيّام قتل الحسين علیه السلام » (2).
وكان مولانا زين العابدين عليّ بن الحسين أعبد أهل زمانه وأزهدهم ، يحجّ ماشيا والمحامل تساق معه (3).
وولده الباقر ؛ سلّم عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ قال لجابر : أنت تدرك ولدي محمّد الباقر ، إنّه يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فأقرئه عنّي السلام (4).
والصادق ؛ أعلم أهل زمانه وأزهدهم ، وكان يخبر بالغيب ، ولا أخبر
ص: 453
بشيء إلّا وقع ؛ فلهذا سمّوه الصادق (1).
وكان الكاظم أزهد أهل زمانه وأعلمهم (2) ، وكذا ولده الرضا (3) ، والجواد (4) ، والهادي (5) ، والعسكري (6) ، والمهدي (7).
فهؤلاء الأئمّة الاثنا عشر لم يسبقهم سابق ، ولم يلحقهم لاحق ،
ص: 454
اشتهر فضلهم وزهدهم بين المخالف والمؤالف ، وأقرّوا لهم بالعلم ، ولم يؤخذ عليهم في شيء ألبتّة كما أخذ على غيرهم!
فلينظر العاقل بعين البصيرة ، هل ينسب هؤلاء الزهّاد المعصومون العلماء إلى من لا يتوقّى المحارم ، ولا يفعل الطاعات؟!
* * *
ص: 455
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من فضائل فاطمة صلوات اللّه على أبيها وعليها وعلى سائر آل محمّد والسلام ، أمر لا ينكر ؛ فإنّ الإنكار على البحر برحمته ، وعلى البرّ بسعته ، وعلى الشمس بنورها ، وعلى الأنوار بظهورها ، وعلى السحاب بجوده ، وعلى الملك بسجوده ، إنكار لا يزيد المنكر إلّا الاستهزاء به.
ومن هو قادر على أن ينكر على جماعة ، هم أهل السداد ، وخزّان معدن النبوّة ، وحفّاظ آداب الفتوّة ، صلوات اللّه وسلامه عليهم؟!
ونعم ما قلت فيهم منظوما [ من المتقارب ] :
سلام على المصطفى المجتبى *** سلام على السيّد المرتضى
سلام على ستّنا فاطمة *** من اختارها اللّه خير النّسا
سلام على المسك أنفاسه *** على الحسن الألمعيّ الرضا
سلام على الأروعيّ الحسين *** شهيد برى جسمه كربلا
سلام على سيّد العابدين *** عليّ بن الحسين المجتبى
سلام على الباقر المهتدي *** سلام على الصادق المقتدى
سلام على الكاظم الممتحن *** رضيّ السجايا إمام التّقى
سلام على الثامن المؤتمن *** عليّ الرضا سيّد الأصفيا
سلام على المتّقي التقي *** محمّد الطيّب المرتجى
ص: 456
سلام على الأريحيّ النقي *** عليّ المكرّم هادي الورى
سلام على السيّد العسكري *** إمام يجهّز جيش الصفا
سلام على القائم المنتظر *** أبي القاسم القرم نور الهدى
سيطلع كالشمس في غاسق *** ينجّيه من سيفه المنتضى
يرى يملأ الأرض من عدله *** كما ملئت جور أهل الهوى
سلام عليه وآبائه *** وأنصاره ما تدور السّما
* * *
ص: 457
إنّ سيّد المرسلين وآله خيرة اللّه من العالمين ، لغنيّون بمدح اللّه لهم في كتابه العزيز (1) ، عن مدحهم بمثل هذا الذي سمّاه منظوما ، لكنّا نشكره عليه ، فإنّه غاية مقدوره ، ومبلغ علمه.
وينبغي التعرّض لهذه الأخبار التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ، لكنّها كثيرة يطول المقام ببيان من رواها ، فإن شئت أن تعرفها فارجع إلى « كنز العمّال » ، و « جامع الترمذي » ، و « صواعق » ابن حجر ، ونحوها ، تجدها وأضعافها (2).
نعم ، لا يجمل الإخلال بذكرها أصلا ، فالأولى أن نتعرّض لبعضها بنحو الإشارة إلى من رواها من الصحابة ، ومن أخرجها ، كحديث أنّ الحسنين علیهماالسلام سيّدا شباب أهل الجنّة ، « وكلّ الصّيد في جوف الفرا » (3).
ص: 458
فنقول : رواه من الصحابة عليّ علیه السلام ، وعمر ، وابنه ، وابن مسعود ، وأبو سعيد ، وجابر ، وحذيفة ، والبراء ، وأسامة ، وأنس ، وأبو هريرة ، وقرّة ، ومالك بن الحويرث ، وابن أبي رمثة ، وغيرهم (1) ..
وأخرجه الترمذي في « صحيحه » (2) ..
والنسائي في « الخصائص » (3).
والحاكم في « المستدرك » (4) ..
وأحمد في « المسند » (5) ..
والضياء في « المختارة » (6) ..
وابن عبد البرّ في « الاستيعاب » (7) ..
والطبراني في « الكبير » و « الأوسط » (8) ..
ص: 459
وأبو يعلى ، والبزّار ، وأبو نعيم ، وابن النجّار ، وابن مندة ، وابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وابن شاهين ، والديلمي ، وابن عساكر ، وغيرهم (1).
وربّما أخرجه الواحد منهم من نحو عشرة طرق عن جماعة من الصحابة (2).
ويعلم الكثير من هذا من مراجعة ما أشرنا إليه من محالّ روايات سيادة أمّهما فاطمة علیهاالسلام ؛ فإنّ كثيرا ممّن يروي سيادتها يروي سيادة
ص: 460
ولديها (1).
وقد وجدت حديث سيادتهما وحدهما ، أو مع أمّهما ، في « مسند أحمد » ، عن أبي سعيد ، من عدّة طرق (2) ..
وعن حذيفة من طريقين (3) ..
واعلم أنّه جاء في بعض ما أشرنا إليه من الأخبار أنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة إلّا ابني الخالة عيسى ويحيى (4).
والظاهر أنّه من قلم التصرّف ؛ لأنّ المراد بالشباب : إمّا الشباب في الدنيا أو في الآخرة ..
لا شكّ أنّه لا يراد الأوّل ؛ لأنّ الحسنين في أيّام كلام جدّهما صلی اللّه علیه و آله كانا طفلين ، وبلحاظ ما بلغاه من السنّ ، كان الحسن كهلا والحسين شيخا ..
كما أنّ عيسى حينما رفعه اللّه تعالى قد بلغ سنّ الكهولة أو تجاوزه ؛ لقوله تعالى : ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (5) ، وحينما ينزله يوم خروج المهديّ عجّل اللّه فرجه يكون من أكبر الأنبياء سنّا ..
ص: 461
فكيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » ثمّ يستثني عيسى؟!
فلا بدّ أن يكون المراد : هو الشباب في الآخرة.
وحينئذ فلا وجه لاستثناء عيسى ويحيى وحدهما ، والناس كلّهم شباب في الجنّة ، ومنهم من هو أفضل من يحيى ، كنوح وإبراهيم وموسى.
فلا بدّ أن يكون الاستثناء باطلا ، ويكون الحسنان سيّدي شباب أهل الجنّة من دون استثناء ، كما تواترت به أخبارنا (1) ، واستفاضت به بقيّة أخبارهم (2).
ص: 462
ولم يخرج من العموم إلّا جدّهما صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه المتكلّم ، مع كون خروجه ضروريّا ..
وأبوهما ؛ لقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في كثير من هذه الأخبار : « وأبوهما خير منهما » ، كما رواه الحاكم في « المستدرك » (1) ، من طريق عن ابن مسعود ، وطريق عن ابن عمر ، واتّفق هو والذهبي على صحّة حديث ابن مسعود.
ونقله في « كنز العمّال » (2) بلفظه ، أو بلفظ : « وأبوهما أفضل منهما » ، عن ابن عساكر ، عن عليّ علیه السلام ..
وعن النسائي وابن عساكر ، عن ابن عمر ؛ وعن الطبراني ، عن قرّة ومالك بن الحويرث (3) ..
ونقله أيضا بعد ذلك (4) ، عن الديلمي ، عن أنس ؛ وعن الطبراني ،
ص: 463
عن حذيفة.
ولو سلّم صحّة الاستثناء المذكور ، فهو كالنصّ في سيادة الحسنين لبقيّة الأنبياء ، وهو الشرف الذي لا يوازى ، ودليل فضلهما على بقيّة الأنبياء ، فكيف بآحاد أمّتنا وغيرها؟!
وإنّما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سيّدا شباب أهل الجنّة » ولم يقل : « [ سيّدا ] (1) أهل الجنّة » ؛ للإشارة إلى أنّ أهل الجنّة شباب كلّهم.
وفي بعض أخبارنا أنّ جميع أهل الجنّة شباب إلّا محمّدا وعليّا وآدم ونوحا وإبراهيم ، فإنّهم شيب.
وعليه : فيتّجه التقييد بالشباب ، ويرتفع الإشكال عن خروج محمّد صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام .
هذا ، ولمّا أراد بعض القوم أن يناظر الحسنين بالشيخين ، وضع على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة (2) ، وما تصوّر أنّهما في الدنيا بلغا سنّ الشيخوخة حتّى في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ أهل الجنّة شباب لا كهل فيهم.
وقد ذكر في « ميزان الاعتدال » حديث أنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة ، بترجمة محمّد بن كثير الصنعاني ، كما ذكرناه بترجمته في مقدّمة الكتاب ، وذكرنا أنّ ابن المديني بعدما سمع روايته لهذا الحديث قال : « لا أحبّ
ص: 464
أن أراه » (1).
وينبغي التعرّض - أيضا - لما رواه المصنّف رحمه اللّه ، عن جابر ، من ركوب الحسنين علیهماالسلام على ظهر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقوله : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما » (2) ..
فنقول : نقله في « كنز العمّال » ، في فضائل الحسنين (3) ، عن ابن عديّ ، والرامهرمزي في « الأمثال » ، وعن ابن عساكر من ثلاثة طرق ، وكلّهم عن جابر ، إلّا أنّه قال في إحدى روايات ابن عساكر : دخلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو يمشي بينهما (4) ، فقلت : نعم الجمل جملكما ؛ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ونعم الراكبان هما » (5).
ونقله أيضا عن الطبراني ، عن سلمان - بقصّة طويلة أخرى - ، قال : « كنّا حول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فجاءت أمّ أيمن ، فقالت : يا رسول اللّه! لقد ضلّ الحسن والحسين ، وذلك رأد (6) النهار.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا فاطلبوا ابنيّ!
ص: 465
وأخذ كلّ رجل تجاه وجهه ، وأخذت نحو النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، [ فلم يزل حتّى أتى سطح جبل ] ، وإذا الحسن والحسين يلتزق كلّ واحد منهما صاحبه ، وإذا شجاع (1) قائم على ذنبه يخرج من فيه شبه النار ، فأسرع إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فالتفت مخاطبا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ انساب فدخل بعض الأحجرة ، ثمّ أتاهما فأفرق بينهما ومسح وجوههما ، وقال : « بأبي وأمّي أنتما! ما أكرمكما على اللّه! » ، ثمّ حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر.
فقلت : طوبى لكما! نعم المطيّة مطيّتكما.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ونعم الراكبان هما ، وأبوهما خير منهما » (2).
وروى الترمذي ، في مناقب الحسنين ، عن ابن عبّاس ، قال : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حامل الحسن (3) على عاتقه ، فقال رجل : نعم المركب ركبت يا غلام!
فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ونعم الراكب هو (4).
ورواه الحاكم في فضائل الحسن (5).
ص: 466
وقريب من ذلك ما رواه الحاكم (1) في « المستدرك » أيضا ، في فضائل الحسنين علیهماالسلام ، وصحّحه ، عن أبي هريرة ، قال : « كنّا نصلّي مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العشاء ، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره ، وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا ، فإذا عاد عادا ، فلمّا صلّى جعل واحدا هاهنا ، وواحدا هاهنا.
فقلت : يا رسول اللّه! ألا أذهب بهما إلى أمّهما؟
قال : لا.
فبرقت برقة ، فقال : إلحقا بأمّكما.
فما زالا يمشيان في ضوئها حتّى دخلا ».
ومثله في « مسند أحمد » من طريقين ، عن أبي هريرة (2).
ونقله في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن عساكر ، من طريقين ، عن أبي هريرة.
وأمّا أحاديث حبّ النبيّ للحسنين فمتواترة ، ومن أحسنها ما رواه الحاكم (4) وصحّحه ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني.
ونقله في « كنز العمّال » (5) ، عن أحمد في « مسنده » ، وابن ماجة.
ص: 467
وروى الحاكم - أيضا - قبل الحديث المذكور ، وصحّحه على شرط الشيخين ، عن سلمان ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : الحسن والحسين ابناي ، من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبني أحبّ (1) اللّه ، ومن أحبّ (2) اللّه أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله النار.
وتعقّبه الذهبيّ بقوله : « هذا حديث منكر ، وإنّما رواه بقيّ بن خالد (3) بإسناد آخر واه ، عن زاذان ، عن سلمان » (4).
حقّا له أن يستنكره ؛ لأنّه يستوجب دخول أكثر أوليائه النار ، ومجرّد روايته بإسناد آخر واه لا يمنع من روايته بإسناد صحيح على شرط الشيخين ، ولذا لم يناقش الذهبيّ في هذا الإسناد!
ص: 468
وحكى نحوه في « كنز العمّال » (1) ، عن أبي نعيم وابن عساكر ، عن سلمان ؛ وعن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ؛ لكن بهذا اللفظ : « من أحبّهما أحببته ، ومن أحببته أحبّه اللّه ، ومن أحبّه اللّه أدخله جنّات النّعم ، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله جهنّم ، وله عذاب مقيم ».
وأمّا حديث فداء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ابنه إبراهيم للحسين علیه السلام ، فقد وردت به أخبارنا أيضا (2).
وحكاه السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الخطيب ، وقال : « زعم ابن الجوزي أنّه موضوع ، آفته محمّد بن الحسن النقّاش » (3).
وفيه - مع ما عرفت في مقدّمة الكتاب من أنّ من روى فضيلة لأهل البيت ثقة فيها (4) - : إنّ النقّاش ممّن أثنى عليه أبو عمرو الداني (5) ، وكان شيخ المقرئين في عصره ، ورحل إلى عدّة مدائن في طلب
ص: 469
العلم ، واحتيج إليه ، كما ذكره في « ميزان الاعتدال » (1) ، فأيّ داع له - وهو من أهل السنّة - إلى وضع هذا الحديث ، ويسقط نفسه بين قومه؟!
* * *
ص: 470
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما في « مسند أحمد بن حنبل » ، وقد أخذ بيد حسن وحسين - : « من أحبّني وأحبّ هذين وأحبّ أباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (2).
وعن حذيفة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ أن يتمسّك بقصبة الياقوت التي خلقها اللّه تعالى ، ثمّ قال لها : كوني ، فكانت ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب من بعدي » (3).
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو اجتمع الناس على حبّ عليّ لم يخلق اللّه النار » (4).
وقال صلی اللّه علیه و آله : « حبّ عليّ حسنة لا يضرّ معها سيئة ، وبغض عليّ
ص: 471
سيّئة لا ينفع معها حسنة » (1).
وقال رجل لسلمان : ما أشدّ حبّك لعليّ علیه السلام !
قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني » (2).
ومن « المناقب » لخطيب خوارزم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ عليّا قبل اللّه منه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه.
ألا ومن أحبّ عليّا أعطاه بكلّ عرق في بدنه مدينة في الجنّة.
ألا ومن أحبّ آل محمّد أمن الحساب والميزان والصراط.
ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فأنا كفيله بالجنّة مع الأنبياء.
ألا ومن أبغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة اللّه » (3).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (4) ..
ص: 472
وآيات القرآن دالّة عليه ..
قال اللّه تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلأَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) ، جعل مودّة عليّ وآله أجرا لرسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن ابن عبّاس ، قال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أحبّوا اللّه لما يغذوكم به من نعمة ، ولما هو أهله ، وأحبّوني لحبّ اللّه ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي » (3).
ومن « مناقب » الخوارزمي : عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من ناصب عليّا الخلافة بعدي فهو كافر ، وقد حارب اللّه ورسوله » (4).
ومنه : عن معاوية بن حيدة القشيري (5) ، قال : سمعت
ص: 473
النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ : « يا عليّ! لا يبالي من مات وهو يبغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (1).
ومنه : عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « كذب من زعم أنّه يبغضك ويحبّني » (2).
وعن أبي هريرة ، قال : أبصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّا وحسنا وحسينا وفاطمة ، فقال : « أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم » (3).
ومنه : عن ابن عبّاس ، قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « أنت سيّد في الدنيا ، وسيّد في الآخرة ، من أحبّك فقد أحبّني ، ومن أحبّني
ص: 474
وقال الفضل (1) :
ما ذكر في هذا المطلب من وجوب محبّة أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، سيّما عليّ بن أبي طالب ، فهو أمر لا منازع فيه ، والأخبار والآثار والدلائل على هذا المقصود عند أهل السنّة والجماعة كثيرة.
ولكن ذكر في هذا المطلب أخبارا منكرة موضوعة ، ظاهر عليها أثر الوضع والنّكارة (2) والمجهولية.
ولكن ما يتعلّق بذكر الفضائل لا يتعرّض لكونه موضوعا أو مجهولا ؛ لأنّ ذكر الفضائل مقصود ، ولا يتعلّق بالمذهب ولا يتوجّه إليه ردّ.
وأمّا ما ذكره من « مناقب الخوارزمي » نقلا عن أبي ذرّ ، أنّه قال : « من ناصب عليّا الخلافة بعدي فهو كافر » ، فهذا حديث موضوع ، منكر ، لا يرتضيه العلماء ، وأكثر ما ذكر من « مناقب الخوارزمي » ، فكذلك.
وهذا الخوارزمي رجل كأنّه شيعيّ مجهول ، لا يعرف بحال ، ولا يعدّه العلماء من أهل العلم ، بل لا يعرفه أحد ، ولا اعتداد برواياته وأخباره!
ص: 476
وأقول :
قد سبق كثير ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه هنا وبيّنّا ثبوته (1) ، ولو احتجنا إلى إثبات الباقي لذكرناه ، وفي « المستدرك » و « الكنز » أكثره (2) ، لكن لا حاجة إليه بعد قوله سبحانه : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلأَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (3) ، وغيرها من الآيات (4) ..
وبعد استفاضة الروايات في وجوب حبّهم وفضله ، وأنّ حبّهم علامة الإيمان ، وبغضهم علامة النفاق ، وأنّ من أحبّهم أحبّ اللّه ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض اللّه ورسوله.
والإنسان في غنى عن البحث في سند الأحاديث المتعلّقة بحبّهم وبغضهم ؛ لاشتهارها ، بل تواترها معنى.
وإذا تأمّلت كثرة ما ورد في الترغيب بحبّهم ، والتحذير من بغضهم ، والوصيّة فيهم بالكيفيّات المختلفة ، والوجوه المتعدّدة ، لعلمت أنّ ذلك لم يكن إلّا لأمر في الأصحاب ، وإلّا لو كانوا كما يظنّ الظانّون ، لما احتاجوا إلى ذلك ؛ لقضاء العادة بحبّهم لأهل البيت علیهم السلام ، واحترامهم لهم ؛ لقربهم
ص: 477
من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فضلا عن أهليّتهم في أنفسهم وكثرة آثار عليّ علیه السلام في الإسلام ..
فلا بدّ أن يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد علم ما نقوله ، من بغض غالب الأصحاب لهم ، وظلمهم إيّاهم ، وأنّ النفاق قد فشا فيهم وانقلبوا على الأعقاب!
بل لو تأمّل المنصف أخبار حبّهم وبغضهم لم يفهم منها إلّا إرادة وجوب التمسّك بهم ، فهي بيان لإمامتهم ، ولسان في وجوب اتّباعهم وحرمة مخالفتهم ، وإلّا فالحبّ والبغض من حيث هما ليسا بتلك الأهميّة التي اشتمل عليها الكتاب والسنّة.
وبهذا يعلم صحّة ما رواه أبو ذرّ رحمه اللّه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « من ناصب عليّا الخلافة [ بعدي ] فهو كافر » ..
وما زعمه - من كونه منكرا موضوعا - تامّ على مذهبه ، وإلّا فبالنظر إلى الخبر بنفسه لا نكارة فيه ، وهو وأشباهه حجّة عليهم.
ويؤيّده ما في « كنز العمّال » (1) ، عن الدارقطني في « الأفراد » ، عن ابن عبّاس : « عليّ باب حطّة ، من دخل منه كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ».
وما في « الكنز » أيضا ، عن عليّ ، وجابر ، وابن مسعود ، بطرق : « عليّ خير البشر ، فمن أبى فقد كفر » (2).
ورواه السيوطي في « اللآلئ » ، عن ابن عديّ ، بسنده عن أبي سعيد ؛
ص: 478
وعن أبي الحسن بن شاذان الفضلي ، بسنده عن حذيفة (1).
فهو كثير الطرق ، حقيق بالاعتبار ..
.. إلى نحوها من الأخبار (2).
ولا يخفى أنّ قول الفضل : « ولكن ما يتعلّق بذكر الفضائل لا يتعرّض لكونه موضوعا ... » إلى آخره (3) ..
مناف لما ذكره في أوّل المبحث الخامس ، حيث قال : « يشترط في ذكر الفضائل أن يروى من الصحاح المعتبرة ، ومن العلماء الّذين اعتمدهم الناس ... » إلى آخره (4).
والظاهر أنّ السبب في هذا العدول إرادته رواية فضائل أوليائه قريبا ، لتقبل على علّاتها ولا يلتفت إلى وضعها!
وأمّا ما طعن به الخوارزمي ، فليس إلّا لرواياته في فضائل أهل البيت ، والحال أنّه قد استفاض أكثرها بطرق أخر عن غيره ، بل كلّها بلحاظ شواهدها ومناسباتها.
وهو ممّن لا يجهل عند القوم ، فقد روى عنه ابن حجر ، وكنّاه ب « أبي بكر » في « الصواعق » ، في المقصد الثاني من المقاصد المتعلّقة بالآية الرابعة عشرة ، من الآيات الواردة في أهل البيت علیهم السلام (5).
وقد ذكره الذهبيّ في « الميزان » ، بترجمة « محمّد بن عبد اللّه بن
ص: 479
محمّد البلوي » ، فقال - بعد ما ذكر حديثا في فضل عليّ علیه السلام - : « رواه أخطب خوارزم » (1).
وذكره أيضا بترجمة « محمّد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان » ، فإنّه ذكر في ترجمته أحاديث له في فضائل عليّ علیه السلام ، ثمّ قال :
« ولقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجّال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب السيّد عليّ » (2).
ولو لا أنّ الرجل كبير المنزلة عندهم ، مسلّم الوثاقة بينهم ، لعرفت كيف رمته سهام ألسنتهم ، وطعنت فيه أسنّة أقلامهم!
فهذا ابن شاذان قد سمعت ما قال الذهبيّ فيه ، وهو لم يرو إلّا اليسير من فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ، فكيف بالخوارزمي وقد روى الكثير لو لا فضله الكبير بينهم؟!
وغاية ما طعن به ابن تيميّة على خبث لسانه أن قال : « ليس الحديث من صنعته » (3) ، ذكر هذا في ردّه ل « منهاج الكرامة ».
فكأنّه لا يكون من أهل صنعة الحديث إلّا أن يترك رواية فضائل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، أو يروي ما يتحمّله رأي ابن تيميّة خاصّة (4).
ص: 480
إنّه صاحب الحوض ، واللواء ، والصراط ، والإذن
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
المطلب الرابع : في أنّه صاحب الحوض ، واللواء ، والصراط ، والإذن.
روى الخوارزمي ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليّ يوم القيامة على الحوض ، لا يدخل الجنّة إلّا من جاء بجواز من عليّ » (2).
وعنه ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تعالى جبرئيل أن يجلس على باب الجنّة ، فلا يدخلها إلّا من معه براءة من عليّ علیه السلام » (3).
ص: 481
وعن جابر بن سمرة ، قال : قيل : يا رسول اللّه! من صاحب لوائك في الآخرة؟
قال : « صاحب لوائي في الآخرة ، صاحب لوائي في الدنيا ، عليّ ابن أبي طالب » (1).
وعن عبد اللّه بن أنس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنّم ، لم يجز عليه إلّا من معه كتاب بولاية عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (2).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
فلينظر العاقل إذا كانت مثل هذه وأضعافها أضعافا مضاعفة يرويها السنّة في صحاح الأخبار عندهم ، والآيات - أيضا - موافقة لها ثمّ يتركونها ، هل يجوز له تقليدهم؟!
ومع ذلك لم ينقلوا عن أئمّة الشيعة منقصة ولا رذيلة ولا معصية ألبتّة ، والتجأوا في التقليد إلى قوم رووا عنهم كلّ رذيلة ، ونسبوهم إلى مخالفة الشريعة في قضايا كثيرة! ولنذكر هنا بعضها في مطالب ..
* * *
ص: 482
وقال الفضل (1) :
من ضروريّات الدين أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله صاحب الحوض المورود ، والشفاعة العظمى ، والمقام المحمود يوم القيامة.
وأمّا أنّ عليّا صاحب الحوض ، فهو من مخترعات الشيعة ولم يرد به نقل صحيح.
وهذا الرجل ، الذي ينقل كلّ مطالبه من كتب أصحابنا ، لم ينقل هذا منهم ؛ وذلك لأنّه لم يصحّ فيه نقل عندنا.
ولكن ما ذكره لمّا كان من الفضائل والمناقب لمولانا عليّ بن أبي طالب ، فنحن لا ننكره ؛ لأنّ كلّ ما نقل من فضائله وفضائل أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ما لم يكن سببا إلى الطعن في أفاضل الصحابة ، فنتسلّمه ونوافقه فيه ؛ لأنّ فضائلهم لا تحصى ، ولا ينكره إلّا منكر نور الشمس والقمر.
وأمّا ما ذكره ، أنّ أمثال هذه الأخبار يرويها السنّة ، وهي في صحاح الأخبار عندهم ، والآيات أيضا موافقة لها ، ثمّ يتركونها ، هل يجوز لهم تقليدهم؟!
فإنّ أهل السنّة يعملون بكلّ حديث وخبر صحيح بشرائطها.
ولكن كما صحّ عندهم الأحاديث الدالّة على فضل عليّ بن أبي طالب وأهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كذلك صحّ عندهم الأحاديث الدالّة على
ص: 483
فضائل الخلفاء الراشدين ، فهم يجمعون بين الأحاديث الصحاح ، وينزلون كلّا منزله الذي أنزله اللّه ، ولا ينقصون أحدا ممّن صحّ فيه هذا الحديث ..
والشيعة ينقلون الأحاديث من كتب أصحابنا ممّا يتعلّق بفضائل أهل البيت ، ويسكتون عن فضائل الخلفاء وأكابر الصحابة ؛ ليتمشّى لهم الطعن والقدح ، وهذا غاية الخيانة في الدين.
وأيّة خيانة أعظم من أنّ رجلا ذكر بعض كلام أحد ممّا يتعلّق بشيء ، وترك البعض الآخر بما يتعلّق بعين ذلك الشيء ، ليتمشّى به مذهبه ومعتقده؟!
ونعوذ باللّه من هذه العقائد الفاسدة.
ثمّ ما ذكره ، أنّ أهل السنّة « لم ينقلوا عن أئمّة الشيعة منقصة ولا رذيلة ولا معصية ألبتّة ».
فجوابه أن نقول :
أيّها الجاهل العاميّ ، الضالّ العاصي! الشيعة ينسبون أنفسهم إلى الأئمّة الاثني عشر ..
أترى أئمّة أهل السنّة والجماعة يقدحون في أهل بيت النبوّة والولاية؟!
أتراهم - يا أعمى القلب! - أنّهم يفترون مثلك ومثل أضرابك على الأئمّة ، ويفترون المطاعن والمثالب ممّا لم يصحّ به خبر ، بل ظاهر عليه آثار الوضع والبطلان ، ولا كظهور البدر ليلة الأضحيان؟!
ثمّ ذكر أنّهم « التجأوا في التقليد إلى قوم رووا عنهم كلّ رذيلة ، ونسبوهم إلى مخالفة الشريعة ».
فجوابه : إنّهم لم يرووا عمّن يقلّدونه رذيلة أصلا ، بل هو يفتري
ص: 484
الكذب عليهم ، ومن هاهنا يريد أن يشرع في مطاعن الخلفاء ، ويبدأ بأبي بكر الصدّيق ..
ونحن نقول له : أنت لا تروي شيئا يعتدّ به إلّا من صحاحنا ، وها نحن قبل شروعك في مطاعن أبي بكر الصدّيق ، نذكر شيئا يسيرا من فضائله المذكورة في صحاحنا.
وصحاحنا ليس ككتب الشيعة التي اشتهر عند السنّة أنّها من موضوعات يهودي كان يريد تخريب بناء الإسلام ، فعملّها وجعلها وديعة عند الإمام جعفر الصادق ، فلمّا توفّي حسب الناس أنّه من كلامه (1) ..
واللّه أعلم بحقيقة هذا الكلام ، وهذا من المشهورات ..
مع هذا ، لا ثقة لأهل السنّة بالمشهورات ، بل لا بدّ من الإسناد الصحيح حتّى يصحّ الرواية.
وأمّا صحاحنا ، فقد اتّفق العلماء أنّ كلّ ما عدّ من الصحاح - سوى التعليقات في الصحاح الستّة - لو حلف بالطلاق أنّه من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو من فعله وتقريره ، لم يقع الطلاق ، ولم يحنث (2).
وها نحن نشرع في بعض فضائل الصدّيق ؛ إظهارا للحقّ ، الحقيق
ص: 485
بالتحقيق ، فنقول :
أوّل خلفاء الإسلام : أبو بكر عبد اللّه بن أبي قحافة ، من أولاد تيم ابن مرّة ، ونسبه يتّصل برسول اللّه في مرّة ، كان له ولدان : تيم وكلاب ، فكلاب هو أبو قصيّ ، وقصيّ جدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتيم هو جدّ أبي بكر الصدّيق.
وكان أبو بكر الصدّيق قبل البعثة من أكابر قريش وأشرافها ، وصناديدها ، وكان قاضيا حكما بينهم ، وكان صاحب أموال كثيرة ، حتّى اتّفق جميع أرباب التواريخ ، أنّه لم يبلغ مال قريش مبلغ مال أبي بكر.
وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصادقه ويحبّه ، ويجلس في دكّانه ، وهو كان يحبّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله محبّة شديدة ، لا يفارقه ليلا ولا نهارا ، وكان يعين رسول اللّه بماله وأسبابه.
فلمّا بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان لا يظهر حال نبوّته في أوّل الأمر على الناس ، فذكر لأبي بكر فصدّقه ، وقال رسول اللّه : « ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلّا وأظهر تردّدا ما خلا أبي (1) بكر » (2) ( كما قال ) (3).
فأخذ أبو بكر يدعو الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فآخر ذلك اليوم الذي أسلم أتى بعيون قبائل قريش ممّا (4) كانوا يصادقونه في مكّة ، وهم :
عثمان بن عفّان - من عيون بني أميّة - ، وسعد بن أبي وقّاص - من
ص: 486
أشراف بني زهرة - ، وطلحة بن عبيد اللّه - من أشراف تيم - ، والزبير بن العوّام - من أشراف بني أسد بن عبد العزّى - ، وغيرهم من الأشراف ، فبايعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الإسلام (1).
ثمّ أخذ في الدعوة ، ولا يقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أمر إلّا بمشاورته وهو يدعو الناس!
وكان عاقلا لبيبا مدبّرا ، مقبول القول ، وكان يبذل ماله في إعانة المسلمين وفي تشهير الإسلام.
وروي في الصحيح ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متّخذا خليلا من أمّتي لاتّخذت أبا بكر ، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته ، لا تبقينّ في المسجد خوخة إلّا خوخة أبي بكر » (2).
وفيه - أيضا - : عن عبد اللّه بن مسعود ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا ، ولكنّه أخي وصاحبي ، وقد اتّخذ اللّه صاحبكم خليلا » (3).
وفي الصحاح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما لأحد عندنا يد إلّا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر ، فإنّ له عندنا يدا يكافئه اللّه يوم القيامة ، وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر ، ولو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإنّ صاحبكم خليل اللّه » (4).
ص: 487
ثمّ لمّا أخذ الكفّار في إيذاء المسلمين وتعذيبهم ، قام أبو بكر بأعباء أذيّة قريش وإعانة المعذّبين ، والذبّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما هو مشتهر معلوم لا يحتاج إلى بيانه.
وكان يشتري المعذّبين من الكفّار ، واشترى بلال بن رباح ، وفدى غيره من الصحابة ، وابتلي بلاء حسنا لا يكون فوقها مرتبة حتّى جاء وقت الهجرة فصاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار ، وأنزل اللّه فيه : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ ) (1).
وأثنى اللّه عليه في كتابه العزيز في مواضع عديدة ممّا يطول ذكرها ، ولو لا أنّ الكتاب غير موضوع لذكر التفاصيل ، لفصّلنا مناقبه في عشر مجلّدات!
ثمّ بعد الهجرة أقام يحفظ الدين والجهاد ، ولم يقدر أحد من الشيعة أن يدّعي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غزا غزوة وتخلّف عنه أبو بكر حتّى توفّي.
وإجماع الأمّة على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يقدّمه على أصحابه ويفضّله عليهم ، وهو لم يفارق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطّ في غزاة ، ولا سفر ، ولا فرّ في غزوة ، ومن ادّعى خلاف ذلك فهو مفتر كذّاب ، مخالف لضرورات الدين.
ذكر في « صحيح البخاري » ، عن محمّد بن الحنفيّة ، قال : قلت لأبي : أيّ الناس خير بعد النبيّ؟
قال : أبو بكر.
قلت : ثمّ من؟
ص: 488
قال : عمر.
قال : [ و ] خشيت أن يقول : عثمان ، قلت : ثمّ أنت؟
قال : ما أنا إلّا رجل من المسلمين (1).
انظروا معاشر العقلاء! إنّ أمير المؤمنين عليّ هكذا يذكر الخلفاء ، ثمّ جاء ابن المطهّر الأعرابي ، البوّال على عقبيه ، ويضع لهم المطاعن ، قاتله اللّه من رجل سوء بطّاط (2).
وأيضا : عن عبد اللّه بن عمر ، قال : كنّا في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا نعدل بأبي بكر أحدا ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النبيّ لا نفاضل بينهم (3).
وفي رواية : كنّا نحن نقول - ورسول اللّه حيّ - : أفضل أمّة النبيّ بعده أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان (4).
وفي الصحاح : عن ابن عمر ، عن رسول اللّه ، أنّه قال لأبي بكر : « أنت صاحبي في الغار ، وصاحبي في الحوض » (5).
وفيها : عنه ، قال : قال رسول اللّه : « أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ، ثمّ أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ يأتي أهل البقيع فيحشرون معي ، ثمّ ينتظر أهل
ص: 489
مكّة حتّى تحشر بين الحرمين » (1).
وفي الصحاح : عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أتاني جبرئيل فأخذ بيدي فأراني باب الجنّة الذي يدخل منه أمّتي.
فقال أبو بكر : يا رسول اللّه! وددت أنّي كنت معك حتّى أنظر إليه.
فقال رسول اللّه : أما إنّك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي » (2).
والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى ..
ثمّ لمّا قرب وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعله في مرضه إماما للناس ؛ ليكون تلويحا إلى خلافته ، وهذا كالمتواتر عند المسلمين ، ولم يتردّد واحد في أنّ أبا بكر في أيّام مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يؤمّ الناس.
وفي الصحاح : عن عائشة ، قالت : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مرضه : « ادعي لي أبا بكر أباك ، وأخاك ، حتّى أكتب كتابا ، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ ، ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى اللّه والمؤمنون إلّا أبا بكر » (3).
وفي الصحاح : عن جبير بن مطعم ، قال : أتت النبيّ امرأة فكلّمته في شيء ، فأمرها أن ترجع إليه ، قالت ، يا رسول اللّه! أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - كأنّها تريد الموت -.
قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (4).
ص: 490
والأخبار الدالّة على الإشارة بخلافته كثيرة ، وهي تعارض الأخبار الدالّة على خلافة عليّ.
والإجماع فضل زائد ودليل تامّ على صحّة خلافته.
ثمّ إنّ الرجل السوء يذكر لمثل هذا الرجل المطاعن ، لعن اللّه كلّ مخالف طاعن.
وكنت حين بلغت باب المطاعن أردت أن أطوي عنه كشحا ، ولا أذكر منه شيئا ؛ لأنّها تؤلم خاطر المؤمن ، ويفرح بها المنافق الفاسد الدين ؛ لأنّ من المعلوم أنّ الدين قام في خلافة هؤلاء الخلفاء الراشدين.
ولمّا سمع المنافق أنّ هؤلاء مطعونون ، فرح بأنّ الدين المحمّدي لا اعتداد به ؛ لأنّ هؤلاء المطعونين - حاشاهم - كانوا مؤسّسي هذا الدين ، وهذا ثلمة عظيمة في الإسلام ، وتقوية كاملة للكفر ، أقدم به الروافض ، لا أفلحوا!
ولكن رأيت لو أنّي أترك هذا الباب ولم أجاوبه ، يظنّ الناس أنّ ما أورده من الأباطيل كان كلاما متينا ، ونقلا صحيحا لا يقدر على مجاوبته ، فعزمت أن أجري على وفق ما جريت في هذا الكتاب ، من ذكر كلامه والردّ عليه ، واللّه الموفّق.
* * *
ص: 491
لا ريب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو صاحب الحوض ، ولكنّ عليّا هو المتولّي عليه ، فهو صاحبه أيضا ، كما أنّ لواء النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الآخرة - وهو لواء الحمد - بيد عليّ علیه السلام أيضا ، كما صرّحت بهذا كلّه أخبار القوم (1) ، فضلا عن أخبارنا (2).
فمنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عليّ بن أبي طلحة ،
ص: 492
وصحّحه ، أنّ الحسن علیه السلام ، قال لمعاوية بن حديج : أنت السابّ لعليّ ... واللّه إن لقيته - وما أحسبك تلقاه - يوم القيامة ، لتجده قائما على حوض رسول اللّه يذود عنه رايات المنافقين.
ونحوه في « الصواعق » ، عن الطبراني (1).
ومنها : ما في « الصواعق » - أيضا - ، عن الطبراني : يا عليّ! معك يوم القيامة عصا من عصيّ الجنّة تذود بها المنافقين عن الحوض (2).
ومنها : ما في « الصواعق » ، عن أحمد : أعطيت في عليّ خمسا - إلى أن قال : - وأمّا الثانية : فلواء الحمد بيده ، آدم ومن ولده تحته.
وأمّا الثالثة : فواقف على حوضي ، يسقي من عرف من أمّتي (3).
ونحوه في « كنز العمّال » (4).
وروى في « الكنز » - أيضا - ، عن الطبراني ، عن عليّ علیه السلام : إنّي أذود عن حوض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيديّ هاتين القصيرتين ؛ الكفّار
ص: 493
والمنافقين (1).
وروى فيه - أيضا (2) - ، عن عمر - من حديث طويل - ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال فيه : وأنت تتقدّمني بلواء الحمد ، وتذود عن حوضي.
وفيه - أيضا (3) - : عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : أنت أمامي يوم القيامة ، فيدفع إليّ لواء الحمد ، فأدفعه إليك ، وأنت تذود الناس عن حوضي.
وقد ذكر كثير من أخبارهم أمر اللواء فقط ، كخبر « الكنز » (4) ، عن الديلمي ، عن أبي سعيد : يا عليّ! أنت صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.
وخبره الآخر (5) ، عن الخطيب ، والرافعي ، عن عليّ علیه السلام ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : سألت اللّه يا عليّ فيك خمسا - إلى أن قال : - أعطاني فيك أنّ أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة أنا ، وأنت معي ، معك لواء الحمد ، وأنت تحمله بين يديّ تسبق به الأوّلين والآخرين.
ص: 494
وروى نحوه في محلّ آخر (1).
وحكى (2) عن الطبراني ، عن بريدة ، قالوا : يا رسول اللّه! من يحمل رايتك يوم القيامة؟
قال : من يحسن أن يحملها إلّا من حملها في الدنيا ؛ عليّ بن أبي طالب.
.. إلى غيرها من الأخبار المصرّحة بأنّ عليّا صاحب حوض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولوائه في الآخرة (3) ، وقد ذكر قسما منها في « ينابيع المودّة » (4).
وأمّا روايات الإذن ، التي ذكر قسما منها المصنّف رحمه اللّه (5) ، الدالّة على أنّه لا يدخل الجنّة ، ولا يجوز الصراط ، إلّا من بيده جواز وبراءة من عليّ علیه السلام ، فمستفيضة.
وقد تقدّم بعضها في الآية الحادية عشرة ، وهي قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) (6) ، فراجع (7)!
وأمّا ما زعمه الفضل من الخيانة في نقل فضائل أهل البيت علیهم السلام من كتبهم والسكوت عن فضائل خلفائهم ، فخطأ ؛ لأنّا ننقل فضائل
ص: 495
أهل البيت من كتبهم للاحتجاج بها عليهم ، مع علمنا بصحّتها ؛ لورودها في أخبارنا ، وإن كانت أخبارهم متلجلجة البيان.
وأمّا ما رووه في فضائل من خالف أهل البيت ، فنحن نعتقد كذبه ، وأنّه ممّا حدث في أيّام معاوية وبعده طلبا للدراهم البيض ، والدنانير الصفر ، ومراغمة لآل محمّد ، وتقرّبا لأهل الخلاف ، كما سبق في المقدّمة (1).
وليت شعري ، كيف يطلب منّا أن نعتمد ما ليس حجّة عندنا؟! بل تواتر لدينا عكسه ، وظهر لنا ضدّه ، حتّى علمنا - كما دلّت عليه أخبارهم - أنّ كلّ ضلال وقع إنّما أساسه من رووا لهم الفضائل من يوم منعوا نبيّ الرحمة عن كتابة كتاب لا يضلّ المسلمون بعده أبدا (2).
وأمّا ما نال به كرامة الإمام العلّامة المصنّف رحمه اللّه لقوله : « لم ينقلوا عن أئمّة الشيعة منقصة ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّه أيّ مانع لهم عن القدح بهم لو وجدوا إليه سبيلا ، وليسوا عندهم بأعظم وأحبّ من خلفائهم ، وقد نقلوا عنهم ما نقلوا؟! كما ستعرفه (3).
وأمّا قوله : « أنت لا تروي شيئا يعتدّ به إلّا من صحاحنا » ..
ففيه : إنّه إن أراد أنّ صحاحهم ممّا يعتدّ بها حتّى عندنا ، فليس بصحيح ، وليس ما نرويه منها إلّا للاحتجاج به عليهم ؛ لأنّه حجّة عندهم.
وإن أراد أنّها ممّا يعتدّ بها عندهم خاصّة ، فذكره لما فيها من
ص: 496
فضائل أوليائهم لا فائدة فيه ؛ لعدم حاجة أصحابه إلى نقلها ، وعدم صلوحها للاحتجاج بها علينا ؛ وهذا غير خفيّ عليه.
ولكن ، وما حيلة المضطرّ إلّا ركوبها(1) ..
أو لأنّه يريد أن يخدع السذّج بها وبما لفّقه ، ممّا لا يخفى حتّى على أهل المعرفة من قومه.
وأمّا قوله : « وصحاحنا ليس ككتب الشيعة التي اشتهر عند السنّة ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّه لو صحّ نقله للشهرة عند أصحابه ، فهي ليست أوّل شهرة كاذبة أريد بها تشييد الباطل ، فقد اشتهر عندهم إدخال - من زعموه - ربّهم رجله في نار جهنّم حتّى تقول : قط قط(2).
واشتهر بينهم إلقاء الشيطان على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى(3).
واشتهر عندهم رقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأكمامه واستماعه للغناء الباطل دون عمر وأبي بكر(4) .
ص: 497
.. إلى غير ذلك من المشهورات الباطلة قطعا.
ولو كان لهذا الرجل معرفة ، لما روى هذه الشهرة عن أصحابه ؛ لأنّها تكشف عن كون شهراتهم من هذا القبيل ، مخالفة للضرورة والوجدان ، فإنّ كتب الشيعة مملوءة بالنقل عن إمامهم الصادق علیه السلام ، وما أحد نقل عن كتاب له ، وإنّما يروون عن لسانه وألسنة الأئمّة الميامين ومراسلاتهم ، وها هي ذي كتب الشيعة بمنظر لمن أراد الاطّلاع عليها.
وأمّا ما زعمه ، من اتّفاق علمائهم على أنّ كلّ ما في الصحاح لو حلف بالطلاق .. إلى آخره ..
ففيه : إنّ من حلف كذلك حانث جزما ؛ لأمور :
الأوّل : إنّ كثيرا ممّا فيها متناف ، فكيف تصدق كلّها؟!
الثاني : اشتمالها على ما فيه نقص لله ورسوله - كما سبق في مباحث النبوّة (1) - وهما منزّهان عن النقص.
الثالث : إنّ الكثير من رواتها كذبة فسقة - كما تقدّم في المقدّمة (2) - ، فكيف يحلف الحالف على صدقهم ولا يحنث؟!
الرابع : إنّ بعض أخبارها واضحة الكذب ؛ كالذي رواه البخاري في أواخر الجزء الثاني ، في باب مقدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه المدينة ، عن عثمان ، قال : « أمّا بعد ، فإنّ اللّه بعث محمّدا صلی اللّه علیه و آله بالحقّ ، وكنت ممّن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث به محمّد ، ثمّ هاجرت هجرتين ،
ص: 498
ونلت صهر رسول اللّه ، وبايعته ، فو اللّه ما عصيته ولا غششته حتّى توفّاه اللّه » (1) ، فإنّه قد ثبت عصيانه لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولو بفراره في الغزوات ، كفراره في أحد ثلاثة أيّام (2).
فإذا وقع مثل هذا الكذب في الرواية ، فكيف لا يحنث الحالف؟!
ونحوه - في ظهور الكذب - ما رواه البخاري - أيضا - ، في باب هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبيّ اللّه شابّ لا يعرف ... (3) الحديث.
فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان أكبر سنّا ، وشأنا ، وبيتا ، وأثرا ، وشهرة ، بدعوته التي تستدعي القصد إليه ورؤيته ومعرفته ، فكيف كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله شابّا لا يعرف ، وأبو بكر شيخا يعرف؟!
ونحوهما كثير!!
وإذا أردت أن تعرف حقيقة صحاحهم ، فعليك بمراجعة مقدّمة الكتاب (4) ، وكفاك أنّ عمدة أحاديثها تنتهي إلى عائشة ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وهم ليسوا محلّ الاعتماد ، فضلا عن السند الذي ينتهي إليهم.
ص: 499
أمّا عائشة ؛ فلما سبق من بغضها لأمير المؤمنين (1) ، وما سيأتي في المآخذ ، من صدور الكبائر عنها (2).
على أنّها قد روت كثيرا من النقص للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، الذي يعلم الإنسان بكذبه (3) ، ونسبت إليه جهله بنبوّته في أوّل البعثة حتّى عرّفته خديجة وورقة نبوّته ، وهو مخالف لضرورة الدين ، كما مرّ بيانه في مباحث النبوّة (4).
وأمّا ابن عمر ؛ فيعلم حاله من عدّة وقائع ..
منها : ما نقله الفضل عنه ، من تفضيل الصحابة لأبي بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، على وجه كان مفروغا عنه عندهم ، وأنّهم يتركون بعد الثلاثة سائر الصحابة بلا تفضيل بينهم ، فيكون عليّ من سائر المسلمين لا يرون له فضلا على غيره (5).
وقد تعقّبه صاحب « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّه بعد ما روى حديث ابن عمر المذكور ، قال : « وهو الذي أنكر [ ه ] (6) ابن معين ، وتكلّم فيه بكلام غليظ ؛ لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر ، أنّ عليّا أفضل الناس بعد عثمان ، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه ..
وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان ..
ص: 500
واختلف السلف - أيضا - في تفضيل عليّ وأبي بكر ..
وفي إجماع الجميع - الذي وصفناه - دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط ، وأنّه لا يصحّ معناه » (1).
ومنها : ما كذّبته فيه عائشة في اعتمار النبيّ صلی اللّه علیه و آله في رجب ..
روى مسلم في « باب عدد عمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وزمانهنّ » ، من « كتاب الحجّ » ، عن عروة بن الزبير ، قال : كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة ، وإنّا لنسمع ضربها بالسواك تستنّ.
قال : فقلت : يا أبا عبد الرحمن! اعتمر النبيّ في رجب؟
قال : نعم.
فقلت لعائشة : يا أمّتاه! ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟!
قالت : وما يقول؟
قلت : يقول : اعتمر النبيّ في رجب.
فقالت : لعمري ما اعتمر في رجب ، وما اعتمر من عمرة إلّا وإنّه لمعه.
قال : وابن عمر يسمع ، فما قال « لا » ، ولا « نعم » ؛ سكت (2)!
وأخرج مسلم أيضا نحوه ، عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة المسجد ، فإذا عبد اللّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة ، والناس يصلّون الضّحى في المسجد ، فسألناه عن صلاتهم؟
فقال : بدعة!
ص: 501
فقال له عروة : [ يا أبا عبد الرحمن! ] كم اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
فقال : أربع عمر ، إحداهنّ في رجب ...
ثمّ ذكر نحو الحديث السابق (1).
وروى البخاري مثله في باب « كم اعتمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله » ، من « كتاب الحجّ » (2).
وكذا أحمد في « مسنده » ، في مقامات عديدة (3).
ومنها : ما كذّبته فيه - أيضا - عائشة ، وهو عدد عمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
أخرج أحمد في « مسنده » (4) ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : سئل كم اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : مرّتين.
فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد اعتمر ثلاثة سوى العمرة التي قرنها بحجّة الوداع.
وروى نحوه في مقام آخر (5) ، غير إنّ ابن عمر قال فيه : اعتمر رسول اللّه مرّتين قبل أن يحجّ.
ومنها : ما كذّبته هي أيضا فيه ، وهو روايته عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله.
ص: 502
روى البخاري ومسلم في « كتاب الجنائز » ، ما ملخّصه : أنّ ابنة لعثمان ماتت وحضرها ابن عبّاس وابن عمر ، فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان : ألا تنهى عن البكاء ، فإنّ النبيّ قال : « إنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه ».
فقال ابن عبّاس : قد كان عمر يقول بعض ذلك.
وذكر ذلك لعائشة ، فقالت : واللّه ما حدّث رسول اللّه أنّ اللّه يعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه ... فو اللّه ما قال ابن عمر شيئا (1).
وروى مسلم نحوه كثيرا (2).
وكذا أحمد (3).
ومنها : ما كذّبته هي أيضا فيه ، وهو ما رواه من كلام النبيّ لمّا وقف على قليب (4) بدر.
أخرج مسلم في كتاب الجنائز ، في « باب الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه » ، عن عروة ، قال : ذكر عند عائشة أنّ ابن عمر يرفع إلى النبيّ أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه.
فقالت : إنّما قال رسول اللّه يعذّب بخطيئته أو بذنبه ، وإنّ أهله ليبكون عليه ، وذلك مثل قوله : إنّ رسول اللّه قام على القليب يوم بدر
ص: 503
وفيه قتلى بدر من المشركين ، فقال لهم ؛ ما قال : إنّهم ليسمعون ما أقول ، إنّما قال : إنّهم ليعلمون أنّ ما كنت أقول حقّ (1).
وروى أحمد ما تضمّنه عجز الحديث (2).
ومنها : ما كذّبته هي أيضا فيه ، وهو عدد أيّام الشهر ..
أخرج أحمد (3) ، عن ابن عمر ، عن النبيّ ، قال : الشهر تسع وعشرون.
فذكروا ذلك لعائشة ، فقالت : إنّما قال : الشهر يكون تسعا وعشرين.
ومنها : ما كذّبه فيه معاوية ..
روى البخاري في أوّل كتاب الأحكام ، في « باب الأمراء من قريش » ، عن الزهري ، عن جبير بن مطعم ، أنّه بلغ معاوية أنّ عبد اللّه بن عمر يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان.
فغضب ، فقام فأثنى على اللّه بما هو أهله ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالا منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب اللّه ، ولا تؤثر عن رسول اللّه ، وأولئك جهّالكم ، فإيّاكم والأمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنّ هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلّا كبّه اللّه على وجهه ما أقاموا الدّين » (4).
ومنها : ما كذّبه فيه بعض أهله ..
ص: 504
روى البخاري ، في « باب ما جاء في البناء » ، آخر « كتاب الاستئذان » ، عن سفيان ، قال ابن عمر : « واللّه ما وضعت لبنة على لبنة ، ولا غرست نخلة منذ قبض النبيّ.
قال سفيان : فذكرته لبعض أهله ، قال : واللّه لقد بنى!
لكنّ سفيان حمله على الصحّة ، فقال : لعلّه قال قبل أن يبني » (1).
أقول :
أهله أعرف به ، ولو لم يعرفه هذا البعض منهم بالكذب لما تسرّع لتكذيبه.
ولو سلّم ، فلا تتّجه بقيّة الروايات ؛ إذ لا وجه لها إلّا الحمل على الخطأ ، وهو ممتنع عادة في كثير منها.
ولو سلّم ، فمن أخطأ في هذه الأمور المحسوسة الظاهرة ، لا يمكن الحلف على صدق ما يرويه.
وبالجملة : الكذب - عمدا أو خطأ - في ما اختلف فيه ابن عمر وغيره ، لا بدّ أن يكون صادرا من أحدهما ، فيمتنع معه صحّة الحلف المذكور.
وقد وقع لأنس من ابن عمر ، مثل ما وقع لابن عمر من عائشة.
أخرج أحمد (2) ، عن بكر ، قال : قلت لابن عمر : إنّ أنسا حدّثه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لبّى بالعمرة والحجّ.
فقال ابن عمر : هل خرجنا مع رسول اللّه إلّا حجّاجا؟! فلمّا قدمنا
ص: 505
أمرنا أن نجعلها عمرة إلّا من كان معه هدي.
قال : فحدّثت أنسا بذلك ، فغضب وقال : لا تعدّونا إلّا صبيانا!
ثمّ إنّ ابن عمر قد صدرت منه الكبائر ، فلا يعتدّ بروايته ..
منها : إنّه ترك صلاة الجمعة ..
روى البخاري في أوائل كتاب المغازي ، عن نافع ، أنّ ابن عمر ذكر له أنّ سعيد بن زيد ... مرض في يوم جمعة ، فركب إليه بعد أن تعالى النهار ، واقتربت الجمعة وترك الجمعة (1).
ومنها : وهو أعظمها ، تخلّفه عن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام ، وقد بايعه أهل الحلّ والعقد (2) ، وعندهم أنّ الخلافة تنعقد بهم ، بل ببيعة الواحد والاثنين ، كما سبق (3).
مع أنّه قد روى مسلم في « باب الأمر بلزوم الجماعة » ، من « كتاب الإمارة » ، عن نافع ، قال : « جاء عبد اللّه بن عمر إلى عبد اللّه بن مطيع حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد ، فقال : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة.
فقال : إنّي لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثا ؛ سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية » (4).
ص: 506
وروى أحمد نحوه من طرق (1).
فيا عجبا من ابن عمر! يروي هذا ويرى أنّ من ليس في عنقه بيعة ليزيد المارد يموت ميتة جاهلية ، ويترك بيعة أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه عامدا مصرّا على الترك أكثر من أربع سنين!!
فهل تراه كاذبا في حديثه ، أو صادقا فيه غير مبال بالميتة الجاهلية بغضا لوليّ المؤمنين ومولاهم ، وهضما لحقّه ، والبغض له أعظم الفسق ، ودليل النفاق؟!
فكيف يكون مع هذا مقبول الرواية ، محلّ الاطمئنان برواياته؟!
فتدبّر واعتبر!!
وأمّا أبو هريرة ، فهو أولى بعدم الاعتماد عليه ؛ لكثرة خرافاته التي لا يقبلها عقل عاقل ، وظهور كذبه في كثير ممّا رواه ، واتّهام الصحابة والتابعين ، بل تكذيبهم له أفرادا ونوعا (2).
أمّا خرافاته وكذباته ، فلا يمكن إحصاؤها ، ولكنّا نذكر منها اليسير ..
فمنها : أخباره السابقة في « مبحث النبوّة » (3) ، التي وصم بها جلال اللّه سبحانه وشرف أنبيائه المعصومين.
ص: 507
ومنها : ما سنذكره من سبب حفظه العلم (1).
ومنها : ما رواه البخاري ، عنه (2) ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لن يدخل أحدا عمله الجنّة.
قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه؟!
قال : [ لا ، ] ولا أنا! ». الحديث ..
فإنّه مخالف لقوله تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) ..
وقوله سبحانه : ( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (4).
.. إلى كثير من الآيات الكريمة ، والسنّة المستفيضة (5).
ص: 508
ولكنّ أبا هريرة ينسج على منوال القصّاصين ، ويمسخ معالم اللّه سبحانه بما يقتضيه عقله وتحكم به مخيّلته ، فيلقي على أسماع القوم هذه السخافات والكذب الظاهر ، فيقبلونها من دون التفات ؛ لاعتمادهم على كلّ صحابيّ وإن ظهرت منه الكبائر بأنواعها ، وجاز في حديثه حدّ العقل.
ومنها : ما أخرجه البخاري (1) ، عنه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق ، فقال له : أسرقت؟!
قال : كلّا والذي لا إله إلّا هو.
فقال عيسى : آمنت باللّه ، وكذّبت عيني » ..
فإنّ الإيمان باللّه لا ينافي صدق عينه ، وأيّ عقل يقتضي تكذيب العين ووجدانها ، وتصديق الحالف باللّه كذبا المستحقّ للعقاب من جهة السرقة والحلف باللّه كذبا؟!
ولكنّ وساوس أبي هريرة وخياليّاته لم تقنع إلّا بالكذب على نبيّ في نسبة نبيّ آخر إلى الحمق والجهل!
ص: 509
ومنها : ما أخرجه البخاري (1) ، ومسلم (2) ، وأحمد (3) ، عنه ، قال : « كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما.
فقالت صاحبتها : إنّما ذهب بابنك.
وقالت الأخرى : إنّما ذهب بابنك.
فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى.
فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكّين أشقّه بينهما.
فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك اللّه ، هو ابنها.
فقضى به للصغرى.
قال أبو هريرة : واللّه إن سمعت بالسكّين إلّا يومئذ ، وما كنّا نقول إلّا : المدية ».
فإنّ داود علیه السلام إن حكم بلا دليل ، فقد حكم بغير الحقّ الذي أمدّه اللّه تعالى به ، وهو منزّه عن ذلك.
وإن كان بدليل ، فكيف نقض سليمان حكم اللّه بمجرّد إشفاق الأخرى؟!
فالحديث طعن من أبي هريرة بأحد النبيّين الأكرمين.
ومن المضحك قوله : « واللّه إن سمعت بالسكّين إلّا يومئذ » ..
ص: 510
فإنّ لفظ السكّين كثير الدوران في كلام العرب ، ولا يجهله أحد منهم ، وقد نطق به الكتاب العزيز ، فقال تعالى في سورة « يوسف » : ( وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ) (1) ، وهي مكّيّة ، نزلت قبل إسلام أبي هريرة بعدّة سنين ؛ لأنّه أسلم سنة سبع للهجرة (2) ، فما باله لم يسمع هذه الآية التي عمّ علمها المسلمين لقدمها؟!
ولم لم يعلمها وقد زعم أنّه حفظ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعاءين ، بثّ أحدهما ، ولو بثّ الآخر لقطع منه البلعوم ، كما رواه البخاري عنه (3)؟!
وليت شعري ، ما هذه الأسرار الغريبة التي خصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بها أبا هريرة ، وأخفاها عن المسلمين ، فضاعت عنّا؟!
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ومنها : ما رواه البخاري (4) ، عنه ، قال : « وكّلني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : واللّه لأرفعنّك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : إنّي محتاج ، وعليّ عيال ، ولي حاجة شديدة.
فخلّيت عنه ، فأصبحت ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت : يا رسول اللّه! شكا حاجة شديدة [ وعيالا ] ، فرحمته ، فخلّيت
ص: 511
سبيله.
قال : [ أمّا ] إنّه قد كذبك وسيعود.
فعرفت أنّه سيعود ؛ لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّه سيعود.
فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنّك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : دعني! فإنّي محتاج ، وعليّ عيال ، لا أعود.
فرحمته ، فخلّيت سبيله.
فأصبحت ، فقال لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت : يا رسول اللّه! شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته فخلّيت سبيله.
قال : أمّا إنّه قد كذبك وسيعود.
فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنّك إلى رسول اللّه ، وهذا آخر ثلاث مرّات ، إنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.
قال : دعني أعلّمك كلمات ينفعك اللّه بها.
قلت : ما هو؟
قال : إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( اللّهُ لا إِلهَ إِلأَهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... ) (1) حتّى تختم الآية ، فإنّك لا يزال عليك من اللّه حافظ ، ولا يقربك شيطان حتّى تصبح.
فخلّيت سبيله.
ص: 512
فأصبحت ، فقال لي رسول اللّه : ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت : يا رسول اللّه! زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني اللّه بها ، فخلّيت سبيله.
إلى أن قال : تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟!
قال : لا.
قال : ذاك شيطان ».
فليت شعري ، أيّ حاجة للشيطان في هذه السرقة الخاصّة؟!
ولم لم يسرق من حيث لا يراه أبو هريرة؟!
وكيف قدر أبو هريرة أن يأسره ، وهو جسم شفّاف؟!
وكيف ساغ لأبي هريرة أن يرحمه وهو أمين في الحفظ؟!
وكيف لم يصدّق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قوله : « قد كذبك » ، وصدّق السارق في الدعوى التي كذّبه النبيّ فيها ، ولا سيّما بعد التكرار؟!
وكيف صدّق النبيّ صلی اللّه علیه و آله في قوله : « سيعود » ، ولم يصدّقه في قوله : « كذبك » ، وكلّ منهما خبر للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في كلام واحد؟!
وهل محلّ لرحمته لو صدّق النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تكذيبه؟!
وكيف جاز لأبي هريرة أن يحنث في يمينه ثلاث مرّات بعدما حلف ثلاثا أن يرفعه إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
بل كيف صحّ للنبيّ - مع علمه بأنّه شيطان - أن يسكت بعد المرّة الأولى ، ولا ينهى أبا هريرة عن مسامحته بعدها ، والمال للفقراء ، وهو صلی اللّه علیه و آله أمينهم في الجمع والحفظ؟!
فهل يشكّ عاقل - بعد هذه الأمور - في أنّ ذلك من كذبات أبي
ص: 513
هريرة وسخافاته؟!
ومنها : ما رواه الحاكم (1) ، عنه ، وصحّحه ، قال : [ لمّا ] خلق اللّه آدم فمسح على ظهره ، فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذّرّ ، ثمّ جعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصا - أي : بريقا (2) - من نور ، ثمّ عرضهم على آدم ، فقال آدم : من هؤلاء يا ربّ؟
قال : ذرّيّتك.
فرأى آدم رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه.
فقال : يا ربّ! من هذا؟
قال : هذا ابنك داود.
قال آدم : كم جعلت له من العمر؟
قال : ستّين سنة.
قال : يا ربّ! زده من عمري أربعين سنة حتّى يكون عمره مئة سنة.
فقال اللّه عزّ وجلّ : إذا يكتب ويختم فلا يبدّل.
فلمّا انقضى عمر آدم جاء ملك الموت لقبض روحه ، قال آدم : أولم يبق من عمري أربعون سنة؟!
قال له ملك الموت : أولم تجعلها لابنك داود؟!
[ قال : ] فجحد ، فجحدت ذرّيّته » .. الحديث.
ص: 514
فانظر إلى هذه القصّة الخيالية ، واعتبر في آخرها كيف نسب أبو هريرة نبيّ اللّه إلى الكذب ، وجحود ما فعل ، وكتب عليه وختم ، كراهة للموت الذي بعده الكرامة التي رآها قبل الهبوط إلى الدنيا الدنية وبكى شوقا إليها!!
ولو فرض نسيان آدم ، فما معنى جحوده ، وقد ذكّره ملك الموت ، وهو الصادق الأمين؟!
ولكنّ أبا هريرة لا يبالي بنقص الأنبياء حتّى جعل جحود آدم علیه السلام سببا لجحود ذرّيّته الباطل!
وليت شعري ، لم دخل في خيال أبي هريرة أنّ وبيص ما بين عيني داود أعجب إلى آدم من وبيص ما بين عيون الأنبياء ، حتّى سيّدهم محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأحدهم يوسف ، ومن زاده اللّه بسطة في العلم والجسم (1)؟!
ومنها : ما رواه البخاري (2) ، عنه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « بينا أيّوب يغتسل عريانا ، فخرّ عليه جراد من ذهب ، فجعل أيّوب يحثي في ثوبه ، فناداه ربّه : يا أيّوب! ألم أكن أغنيتك عمّا ترى؟!
قال : بلى وعزّتك ، ولكن لا غنى بي عن بركتك ».
فإنّ جمعه للمال ؛ إن كان رغبة في الدنيا ، فالأنبياء أجلّ قدرا من ذلك.
وإن كان للآخرة - ولو بإظهار الحاجة إلى كرمه تعالى وتلقّي النعمة
ص: 515
بإعظامها - ، فما وجه عتاب اللّه تعالى له؟!
واحتمال أنّ العتاب للاختبار ، ليس في محلّه ؛ لأنّه إنّ أريد الاختبار حقيقة ، فاللّه ، عالم بما في نفسه من دون اختبار.
وإن أريد كشف ما في نفسه للناس ، إظهارا لفضله ، فهو قد اغتسل وحده عريانا.
وقصص أبي هريرة الخرافية لا تنتهي حتّى ينتهي عنها!
وأمّا تكذيب الصحابة والتابعين له ، عموما أو خصوصا ، فالأخبار به مستفيضة ، وقد كان أمير المؤمنين علیه السلام بالخصوص ، وعمر وابنه ، وعائشة ، وأفراد أخر من الصحابة يكذّبونه ، أو يتّهمونه بالكذب (1).
نقل ابن أبي الحديد (2) ، عن أبي جعفر الإسكافي ، وابن قتيبة في كتاب « المعارف » ، أنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : ألا إنّ أكذب الناس - أو قال : أكذب الأحياء - على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبو هريرة الدوسي.
وإنّ عمر بن الخطّاب ضرب أبا هريرة بالدّرّة (3) ، وقال : « قد
ص: 516
أكثرت من الرواية ، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1).
وحكى في « كنز العمّال » (2) ، عن ابن عساكر ، أنّ عمر قال له : « لتتركنّ الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو لألحقنّك بأرض دوس!
[ وقال لكعب : لتتركنّ الحديث ، ] أو [ لألحقنّك ] بأرض القردة! ».
وروى مسلم (3) ، عن ابن عمر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر بقتل الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية ؛ فقيل لابن عمر : إنّ أبا هريرة يقول : أو كلب زرع.
فقال ابن عمر : إنّ لأبي هريرة زرعا!
ثمّ روى مسلم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من اتّخذ كلبا إلّا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، نقص من أجره قيراط.
قال الزهري : فذكر لابن عمر قول أبي هريرة ، فقال : يرحم اللّه أبا هريرة ، كان صاحب زرع (4).
وروى أيضا ، عن سالم ، عن أبيه ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « من اقتنى كلبا إلّا كلب ضار ، أو ماشية ، نقص من عمله كلّ يوم قيراطان.
ص: 517
قال سالم : وكان أبو هريرة يقول : أو كلب حرث ؛ وكان صاحب حرث » (1).
وروى أحمد (2) ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « من اتّخذ [ أو قال : اقتنى ] كلبا ليس بضار ، ولا كلب ماشية ، نقص من أجره كلّ يوم قيراطان.
فقيل له : إنّ أبا هريرة يقول : وكلب حرث ، فقال : أنّى لأبي هريرة حرث! ».
وروى أحمد أيضا (3) ، عن عبد الرحمن بن عتاب ، ما حاصله أنّ أبا هريرة أفتى بشيء ، فأرسل مروان إلى أمّ سلمة وعائشة ، فذكرتا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلافه ، فقيل لأبي هريرة في ذلك ، فقال : كذا كنت أحسب ، وكذا كنت أظنّ.
فقال له مروان : بأظنّ وأحسب تفتي الناس؟!
وروى أحمد أيضا (4) ، عن أبي حسّان الأعرج ، أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا : إنّ أبا هريرة يحدّث أنّ نبيّ اللّه كان يقول : إنّما الطيرة في المرأة ، والدابّة ، والدار.
قال : فطارت شقّة منها في السماء وشقّة في الأرض (5) ، فقالت :
ص: 518
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلی اللّه علیه و آله ما هكذا كان يقول ، ولكنّ نبيّ اللّه كان يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة ، والدار ، والدابّة » (1).
وروى مسلم (2) ، أنّ أبا هريرة يقول : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر.
فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة!
نعم ، ذكر في ذيل الحديث أنّ ابن عمر أرسل إلى عائشة يسألها فصدّقت أبا هريرة ، لكنّه لا يخرج أبا هريرة عن كونه متّهما بالكذب.
وروى مسلم أيضا (3) ، عن ابن شهاب ، أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن حدّثه ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا عدوى ».
ويحدّث أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا يورد ممرض على مصحّ ».
قال أبو سلمة : كان أبو هريرة يحدّثهما - كلتيهما - عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ صمت بعد ذلك أبو هريرة عن قوله : « لا عدوى » ، وأقام على أن « لا يورد ممرض على مصحّ » ، قال : فقال الحارث : قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدّثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد سكتّ عنه ،
ص: 519
كنت تقول : « قال رسول اللّه : لا عدوى ».
فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك ، [ وقال : لا يورد ممرض على مصحّ ].
فماراه (1) الحارث في ذلك حتّى غضب أبو هريرة ، فرطن (2) بالحبشيّة ، فقال للحارث : أتدري ماذا قلت؟!
قال : لا.
قال أبو هريرة : قلت : أبيت.
قال أبو سلمة : ولعمري ، لقد كان أبو هريرة يحدّثنا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا عدوى » ؛ فلا أدري أنسي أبو هريرة ، أم نسخ أحد القولين الآخر؟!
أقول :
كلا العذرين باطل! ..
أمّا النسخ ؛ فلأنّه إنّما يدخل الأحكام ، مع أنّ النسخ لو دعا أبا هريرة إلى الترك لاعتذر به عند الحارث ، أو لم يروهما أوّلا.
ص: 520
وأمّا النسيان ؛ فيبطله عندهم ما رواه البخاري (1) ، عن أبي هريرة ، قال : « قلت : يا رسول اللّه! إنّي أسمع منك حديثا كثيرا أنساه.
قال : ابسط رداءك!
فبسطته ؛ قال : فغرف بيديه ، ثمّ قال : ضمّه ؛ فضممته ؛ فما نسيت شيئا بعده ».
وأقول :
هذا أيضا من حديث خرافة (2) ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لو كان مريدا له الحفظ ، كفاه أن يدعو له به ، كما فعل مع أمير المؤمنين لمّا بعثه قاضيا إلى اليمن (3) ، ولمّا نزل قوله : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (4).
ص: 521
فلم يحتج إلى هذا الفضول ، من البسط والاغتراف من الهواء والضمّ ، اللواتي لا تشبه أفعال العقلاء ، بل المشعبذين والخرافيّين ، فكيف ينسب إلى نبيّ الهدى؟!
وأمّا تكذيب الصحابة والتابعين له عموما ، أو اتّهامهم له ، فيدلّ عليه ما أقرّ به هو بنفسه في ما رواه مسلم (1) ، عن أبي رزين ، قال : « خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته ، فقال : إنّكم تحدّثون أنّي أكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتهتدوا وأضلّ » .. الحديث.
وما رواه البخاري (2) ، عن أبي هريرة ، قال : « يقولون : إنّ أبا هريرة يكثر الحديث! واللّه الموعد ؛ ويقولون : ما للمهاجرين والأنصار لا يحدّثون مثل أحاديثه؟!
وإنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإنّ إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم ، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللّه على ملء بطني ، فأحضر حين يغيبون ، وأعي حين ينسون ... » .. الحديث.
فهذا الحديث صريح باتّهامهم له ، كما إنّ الحديث الذي قبله صريح في تكذيبهم له!
فالعجب من السنّة! كيف يعتبرون حديثه ، وهم يطعنون في الراوي باتّهام بعض علمائهم له ، فضلا عن التكذيب له؟!
فكيف ، وقد اتّهمه الصحابة والتابعون ، وكذّبوه عموما وخصوصا؟!
ص: 522
مع أنّ السنّة رأوه في هذا الحديث قد كذب كذبا ظاهرا ؛ إذ نسب إلى جميع المهاجرين الصفق بالأسواق ، وإلى عامّة الأنصار العمل بأموالهم (1) - أي : بساتينهم - ، والحال أنّ الّذين كانوا كذلك إنّما هم القليل.
ونسب إلى نفسه ملازمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأن يملأ بطنه ؛ وهذا أمر - لو تمّ - زاد عليه فيه أنس ، وشاركه فيه جماعة من أهل الصّفة!
وما أدري كيف زاد حضوره على سائر المهاجرين والأنصار ، والحال أنّ أيّام إسلامه ثلاث سنين قبل وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (2) ، وهم حضروا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله من مبدإ الهجرة ، وبعضهم قبلها؟!
ولو سلّم ، فليس هذا جوابا عن إشكال عدم تحديث المهاجرين والأنصار مثل حديثه في الغرابة ؛ فإنّ زيادة حضوره عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يقتضي أن يختصّ بالغرائب دون بطانة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهله وأكابر الصحابة!
وليت شعري ، كيف يرتضون عذره ، وهم يزعمون أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يصنع شيئا إلّا بمشاورة أبي بكر ، وأنّ أبا بكر لا يفارق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلا ولا نهارا طول أيّام إسلامه ، بل قبل البعثة ، وهو لم يرو إلّا أقلّ القليل بالنسبة إلى روايات أبي هريرة؟!
فهل يرون أنّ أبا هريرة أوعى منه للعلم وأحفظ؟!
ص: 523
وكذا الحال في عظماء الصحابة ، ولا سيّما أمير المؤمنين ، عديل القرآن ، وصاحب الأذن الواعية ، الذي لم يفارق النبيّ صلی اللّه علیه و آله من طفوليّته إلى ساعة وفاته ، وهو لم تكن له من الرواية عندهم إلّا القليل بالنسبة إلى ما رواه أبو هريرة!
ثمّ إنّ عدم الاعتداد بأبي هريرة لا يختصّ بالصحابة والتابعين ، بل يعمّ غيرهم ..
فقد حكى ابن أبي الحديد (1) ، عن أبي جعفر ، وابن قتيبة ، أنّ أبا يوسف ذكر عن أبي حنيفة أنّه قال : « الصحابة كلّهم عدول ما عدا رجالا ، ثمّ عدّ منهم أبا هريرة ، وأنس بن مالك!
وأنّ أبا أسامة روى عن الأعمش ، قال : كان إبراهيم صحيح الحديث ، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه ، فأتيته يوما بأحاديث عن أبي هريرة ، فقال : دعني من أبي هريرة! إنّهم يتركون كثيرا من حديثه ».
ويؤيّد ما عن أبي حنيفة ، ما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه ، عن فخر الدين الرازي ، في مسألة التّصرية (2) ، من رسالته المعمولة لتفضيل مذهب
ص: 524
الشافعي ، أنّ الحنفيّة طعنوا في أبي هريرة وقالوا : إنّه كان متساهلا في الرواية (1).
هذا ، ولو أعرضنا عن طعن من سبق ذكرهم ، فلا ريب أنّ أبا هريرة كان من أعداء أمير المؤمنين علیه السلام ، وأنصار محاربيه ، ومن مبغضيه ، وقد عرفت أنّ بغضه علامة النفاق (2) ، والنفاق أكبر الفسق المانع من قبول الرواية.
وما زال أبو هريرة من المهاجرين بعداوة إمام الهدى وخذلانه ونصرة أعدائه ، حتّى إنّه كان يضع الحديث على رسول اللّه في نقصه!
نقل ابن أبي الحديد (3) ، عن أبي جعفر الإسكافي ، أنّ معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين ، على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : عروة بن الزبير.
ثمّ ذكر ما اختلفوه ، وذكر عن أبي هريرة ما استحقّ به عند معاوية أن يولّيه إمارة المدينة (4).
ثمّ نقل عن أبي جعفر ، وابن قتيبة ، أنّ سفيان الثوري روى عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن عمر بن عبد الغفّار ، أنّ أبا هريرة لمّا قدم
ص: 525
الكوفة مع معاوية ، كان يجلس بالعشيّات بباب كندة ، ويجلس الناس إليه ، فجاء شابّ من الكوفة فجلس إليه ، فقال : يا أبا هريرة! أنشدك اللّه أسمعت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ بن أبي طالب علیه السلام : « اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه »؟!
فقال : اللّهمّ نعم.
قال : فأشهد باللّه! لقد واليت عدوّه وعاديت وليّه!
ثمّ قام عنه (1).
هذا كلّه مضافا إلى شهادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّ أبا هريرة من أهل النار!
روى صاحبا « الإصابة » و « الاستيعاب » ، وغيرهما ، في ترجمة فرات ، أنّ أبا هريرة ، والرحّال بن عنفدة (2) ، والفرات بن حبّان (3) ، خرجوا من مجلس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال مشيرا إليهم : لضرس أحدكم في النار أعظم من أحد ، وإنّ معه لقفا غادر.
ص: 526
فكان أبو هريرة والفرات يقولان بعدها : ما أمنّا بعد هذا حتّى ارتدّ الرحّال وقتل مع مسيلمة (1).
مرادهما : تأويل الحديث بحمل لفظ « أحدكم » على الواحد لا الجميع ، وهو خلاف الظاهر والاستعمال المستفيض.
قال تعالى : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ) (2) ..
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (3) ..
( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) (4) ..
( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) (5) ..
( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) (6) ..
( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (7).
ص: 527
.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من الآيات (1) ، وغيرها (2).
مضافا إلى أنّ النبيّ لا يمكن أن يسقط شأن جماعة من أمّته بالإجمال ، وهو يريد واحدا خاصّا (3).
ص: 528
ولو لا خوف الملال لزدنا في بيان أحوال هذا الرجل ، وفي ما ذكرناه تبصرة ومعتبر (1)!
فإذا كان هذا حال أبي هريرة - وهو أكثر رواتهم رواية - ، فكيف يحلف المنصف على صدور جميع ما في صحاحهم؟!
وأمّا ما ذكره الفضل من اتّصال نسب أبي بكر برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الأب الثامن ، فغير نافع ما لم تحصل التقوى وطاعة المولى ، وقد كان أبو لهب أقرب منه نسبا!
على أنّ أبناء تيم من أرذل بيت في قريش (2) ، فلا يفيدهم شرف
ص: 529
الأصل ، وكلّ الناس من آدم ونوح.
وأمّا قوله : « كان أبو بكر قبل البعثة من أكابر قريش وأشرافها وصناديدها ... » إلى آخره ..
فيكذّبه ما رواه الجاحظ مفاخرا به - كما في « شرح النهج » (1) - ، من أنّ أبا بكر كان من المعذّبين بمكّة قبل الهجرة ، وأنّ نوفل بن خويلد ، المعروف بابن العدويّة (2) ، ضربه مرّتين حتّى أدماه ، وشدّه مع طلحة بن عبيد اللّه (3) في قرن (4) ، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان (5) ، ولذلك كانا يدعيان القرينين.
فإنّ مثل ذلك لم يفعلوه إلّا بأذلّائهم وعبيدهم ، لا بأشرافهم وصناديدهم (6).
ص: 530
وأمّا قوله : « كان صاحب أموال كثيرة ، حتّى اتّفق جميع أرباب التواريخ أنّه لم يبلغ مال قريش مبلغ مال أبي بكر ».
فلا أدري من هؤلاء أرباب التواريخ؟! فإنّي لم أجد أحدا ذكره!!
وغاية ما ادّعاه الجاحظ في مقام المفاخرة - كما ذكره ابن أبي الحديد في « الشرح » (1) - ، أنّ ماله كان أربعين ألف درهم.
وهذا لا يعدّ مالا في قريش ، لو سلّمنا أنّ أبا بكر يملكه (2).
ص: 531
وأمّا قوله : « كان يعين رسول اللّه بماله وأسبابه » ..
فكغيره من دعاواه الكاذبة ؛ إذ كيف يصحّ ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يرض أن يأخذ من أبي بكر بعيرا إلّا بالثمن عند الهجرة في تلك الحال الشديدة ، كما رواه البخاري (1) ، وأحمد (2) ، عن عائشة ؛ وذكره ابن الأثير في « الكامل » (3) ، والطبري في « تاريخه » (4)؟! ..
وكيف يمكن أن يدّعي لأبي بكر بذل المال (5) ، وقد أشفق أن يقدّم بين يدي نجواه صدقة يسيرة (6) ، وترك أهله المحاويج بلا شيء يوم الهجرة وأخذ ماله معه ، وكان خمسة آلاف أو ستّة آلاف درهم ، كما رواه أحمد ، عن أسماء بنت أبي بكر (7) ، ورواه الحاكم ، وصحّحه على شرط
ص: 532
مسلم (1)؟!
وأيضا : قد تزوّجت ابنته أسماء الزبير وهو فقير لا يملك سوى فرسه ، فكانت تخدم البيت وتسوس الفرس وتدقّ النوى لناضحه وتعلفه وتستقي الماء ، وكانت تنقل النوى على رأسها من أرض الزبير التي أقطعها إيّاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي على ثلثي فرسخ من منزلها ، كما رواه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، وأحمد (4).
فلو كان أبو بكر من أهل البذل ، فأين هو عن ابنته وهي بتلك الحال؟!
نعم ، ادّعت أسماء أنّ أباها أرسل إليها بعد ذلك خادما كفتها سياسة الفرس ، قالت : فكأنّما أعتقني (5).
وأمّا ما نقله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلّا أظهر تردّدا ما خلا أبا بكر » ..
فكذب ظاهر ؛ فإنّ عليّا وخديجة أظهر منه سلما وتسليما.
وكيف يدّعي التردّد لأبي ذرّ وأشباهه ممّن جاءوا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قاصدين الإسلام رغبة فيه (6)؟!
ص: 533
والحقّ أنّ أبا بكر إنّما أسلم لما سمعه من بحيرا الراهب وغيره ، في ارتفاع أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبعد صيته ، وانتشار حكمه ؛ وكذلك عمر (1).
ص: 534
وأمّا قوله : « فأخذ أبو بكر يدعو الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فآخر ذلك اليوم الذي أسلم ، أتى بعيون أشراف قبائل قريش ... » إلى آخره ..
ففيه نظر ؛ قال ابن أبي الحديد (1) ، في « شرح الخطبة التي مدح أمير المؤمنين علیه السلام في بعضها النبيّ صلی اللّه علیه و آله » بقوله : « لم يسهم فيه عاهر ،
ص: 535
ولا ضرب فيه فاجر » ..
قال : « في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن ، كما يقال : إنّ آل سعد بن أبي وقّاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب ، وإنّهم من بني عذرة من قحطان.
وكما قالوا : إنّ آل الزبير بن العوّام من أرض مصر ، من القبط.
وقال الهيثم بن عديّ في كتاب ( مثالب العرب ) : إنّ خويلد بن أسد ابن عبد العزّى ، كان أتى مصرا ، ثمّ انصرف منه بالعوّام فتبنّاه.
فقال حسّان يهجو آل العوّام [ من الطويل ] :
بني أسد! ما بال آل خويلد *** يحنّون شوقا كلّ يوم إلى القبط؟!
إلى أن قال :
لعمر أبي العوّام إنّ خويلدا *** غداة تبنّاه ليوثق في الشّرط (1) »
ولو سامحنا الفضل في أنّ هؤلاء من عيون الرجال ، وأنّ كلّ قبائلهم من أشراف القبائل ، فلا نسلّم أنّ إسلامهم بدعوة أبي بكر ، كما يشهد له
ص: 536
ما ذكره عليّ بن برهان الدين الحلبي في « السيرة الحلبية » ، وأحمد زيني - المشهور ب « دحلان » - في « السيرة النبويّة » ، حيث ذكرا أنّ السبب في إسلام طلحة وعبد الرحمن إخبار الرهبان لهما بنبوّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ غاية الأمر ، أنّهما أخبرا أبا بكر بقصّة الرهبان قبل إسلامهما ، ثمّ أسلما على يد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).
كما أنّ إسلام هؤلاء لم يكن في أوّل يوم.
ولو كان أبو بكر بهذه المنزلة من لطف الدعوة بحيث أسلم بسببه هؤلاء الجماعة في أوّل إسلامه ، لظهر له الأثر الكثير الكبير بعد ذلك بحيث تسلم مكّة عامّتها في أقلّ من مدّة سنة ، وما رأيناهم نقلوا إسلام أحد بسببه غير هؤلاء الّذين سمّاهم مع عبد الرحمن بن عوف!
وقد كشف عن كذب هذه الدعوى أبو جعفر الإسكافي ، في ردّه على رسالة الجاحظ ، كما حكاه ابن أبي الحديد (2) عنه ، قال :
« ما أعجب هذا القول ؛ إذ تدّعي العثمانية لأبي بكر الرفتي في الدعاء وحسن الاحتجاج ، وقد أسلم ومعه ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه ولطف احتجاجه ، ولا كرها بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه ، ولا كان له عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه في ما يأمره به » ..
إلى أن قال : « وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيّئ الحال ، وأبو بكر عندهم مثريا فائض المال ، فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة والإحسان ، وقد كانت امرأة أبي بكر أمّ عبد اللّه ابنه ... لم تسلم ، وأقامت
ص: 537
على شركها بمكّة ، وهاجر أبو بكر وهي كافرة ، فلمّا نزل قوله تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (1) ، طلّقها أبو بكر ، فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز ».
ثمّ قال أبو جعفر : « وكيف أسلم سعد ، والزبير ، وعبد الرحمن ، بدعاء أبي بكر ، وليسوا من رهطه ، ولا من أترابه ، ولا من جلسائه ، ولا كانت بينهم صداقة متقدّمة [ ولا أنس وكيد ]؟! ...
وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، لم يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه ، وقد زعمتم أنّهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه (2)؟!
وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام ، وقد ذكرتم أنّه أدّبه وخرّجه ، ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها (3)؟!
فكيف عجز عن هؤلاء الّذين عددناهم ، وهم منه بالحال التي وصفنا ، ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس ولا معرفة إلّا معرفة عيان؟!
وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطّاب ، وقد كان شكله (4) ، وأقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه؟!
ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أنّ هؤلاء لم يكن إسلامهم إلّا بدعاء الرسول [ لهم ] وعلى يديه ».
وأمّا قوله : « ولا يقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ على أمر ] إلّا
ص: 538
بمشاورته » ..
فإن أراد به المشاورة عن حاجة ، فهو ظاهر البطلان ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعظم قدرا وأجلّ شأنا من ذلك ؛ كيف؟! وهو مؤيّد بالوحي ، مسدّد بالعصمة.
وإن أراد به المشاورة لا عن حاجة ، فوقوعها في الجملة مسلّم كما أمره عزّ وجلّ بقوله : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) .
ولا ريب أنّ هذه المشاورة المنزّهة عن الحاجة إنّما هي للتأليف ، كما يدلّ عليه نفس الآية الكريمة ، قال تعالى : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ) لَانْفَضُّوا ( مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (1).
فإنّ قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ... لَانْفَضُّوا ) دليل على ضعف إيمانهم ، وأنّه غير ثابت عن صميم القلب.
فلا بدّ أن يكون الأمر بمشاورتهم للتأليف ، مضافا إلى أنّها نازلة في العصاة المنهزمين في أحد (2) ، ومثلهم يحتاج إلى التأليف.
وقد أخذ الفضل قوله : « لا يقدم ... إلّا بمشاورته » ممّا ورد عندهم من نزول قوله تعالى : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) بأبي بكر وعمر ، كما سبقت روايته قريبا عن الحاكم ، والبيهقي ، والواحدي ، في جهاد أمير المؤمنين علیه السلام ، من القسم الثاني المتعلّق بالفضائل البدنيّة (3).
ص: 539
وأمّا قوله : « كان يبذل ماله في إعانة المسلمين » ..
فيظهر لك ما فيه ممّا ذكرنا.
وقال أبو جعفر ردّا على زعم الجاحظ ، أنّ مال أبي بكر كان أربعين ألف درهم ، فأنفقه في نوائب الإسلام ، كما في « شرح النهج » (1).
قال أبو جعفر : « أخبرونا على أيّ نوائب الإسلام أنفق هذا المال؟! وفي أيّ وجه وضعه؟! فإنّه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتّى يفوت حفظه ، وينسى ذكره ، وأنتم لم تقفوا على شيء أكثر من عتقه - بزعمكم - ستّ رقاب ، لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مئة درهم ».
وأمّا ما رواه من قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله ، أبو بكر ».
فهو بالهزل أشبه! لأنّه إن أريد المنّة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالإنفاق عليه ، فيبطله روايتهم السابقة امتناع النبيّ صلی اللّه علیه و آله من أخذ البعير منه إلّا بالثمن (2).
على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله غنيّ عنه وعن أمثاله ، وقد تكفّل عليّا علیه السلام في حياة عمّة شيخ البطحاء ، وطما (3) فضله على المسلمين عامّة بعد الهجرة (4).
ص: 540
فكيف يحتاج إلى منّ أبي بكر؟!
وإن أريد المنّة عليه بالإنفاق في سبيل اللّه ، فهو ممّا لوجه له ، بل المنّة لله ورسوله عليه ، كما أنّ أعظم المنّة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليه بالصحبة لا له ، ( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ... ) (1) (2).
وليت شعري ، لم لم يتّخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خليلا؟! أبخلا منه بالخلّة على من هو - بزعمهم - أهل لها؟!
أم لمانع منها؟! وهو خلّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لله تعالى ، كما يظهر من أخبارهم ..
ففي حديث البخاري ، في آخر باب قول النبيّ : « سدّوا الأبواب إلّا باب أبي بكر » ، قال فيه : « لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلا » (3).
وهذا ليس بمانع ؛ لأنّ خلّة المؤمنين ممّا يزيد في القرب إلى اللّه ، والخلّة له ، مع أنّ وصف الخليل مختصّ بإبراهيم علیه السلام ، وليس من أوصاف نبيّنا المعروفة ، وإنّما يوصف بأنّه حبيب اللّه.
ومن المشتبه ما رواه البخاري أيضا : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذته خليلا ، ولكن أخوّة الإسلام أفضل » (4).
فإنّ أخوّة الإسلام نفس الخلّة الإسلامية ، فما وجه الاختلاف
ص: 541
الحقيقي بينهما والأفضليّة؟!
ولو كانت الأخوّة أفضل من ذات الخلّة ، لكانت أخوّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأبي بكر أفضل من خلّته لله سبحانه! (1).
وأمّا قوله : « ثمّ لمّا أخذ المشركون في إيذاء المسلمين وتعذيبهم ، قام أبو بكر بأعباء أذيّة قريش ».
فهو كسابقه في الكذب والهزل ؛ لأنّ من لم يقدر على دفع الأذى عن نفسه حتّى أدموه وأوثقوه مع طلحة في حبل واحد ، كيف يقدر على دفع الأذى عن غيره؟! (2).
وهل كان أعظم من شيخ البطحاء (3) ، وأسدي اللّه ورسوله ، حمزة وأمير المؤمنين ، وهم لم يقدروا على دفع الأذى عن المسلمين؟!
فكيف قدر عليه أبو بكر ، وهو من أرذل بيت في قريش ، كما ترويه (4)؟!
ومن هذا الباب - أو أكبر - ، دعوى ذبّه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لكن غرّه ما رواه البخاري ، عن عروة بن الزبير (5) ، قال : سألت ابن عمرو بن
ص: 542
العاص (1) : أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟
ص: 543
قال : بينا النبيّ صلی اللّه علیه و آله يصلّي في حجر الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فوضع ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر حتّى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ ) (1)؟! (2).
وما أدري أأنظر إلى متن الحديث ودلالته على أنّ هذا أشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والحال أنّهم صنعوا معه أشدّ منه أضعافا كثيرة ؛ كحصاره وأهله وقومه بالشعب سنين (3) ، وتشريده من مكّة مرارا (4) ، ورميه بالحجارة حتّى أدموا جبهته الشريفة وساقيه (5) ، وكسروا رباعيّته (6) ، وأدخلوا حلق المغفر في وجهه الشريف (7).
... إلى غير ذلك من أفعالهم الشنيعة (8).
ص: 544
ودلالته أيضا على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا حراك به ولا قوّة حتّى يخنقه عقبة خنقا شديدا ولا يقدر على تخليص نفسه ، وأنّ أبا بكر شجاع قويّ القلب والبدن والجانب ، حتّى أخذ بمنكب عقبة ودفعه من دون أن يلاقيه بالمثل؟!
أم أنظر إلى سنده ورجاله وهم من أسوأ الرجال؟!
فإنّ منهم : عروة (1) ، وابن أبي العاص (2) ، الخارجيّين (3).
ومنهم من تقدّمت ترجمته في مقدّمة الكتاب ، وهما :
يحيى بن أبي كثير ، المدلّس (4) ..
والوليد بن مسلم ، مولى بني أميّة ، الكذّاب ، المدلّس عن الكذّابين ، ولا سيّما في روايته عن الأوزاعي (5) ، كهذه الرواية.
ص: 545
ومنهم : محمّد بن إبراهيم التيمي ، راوي المناكير ، كما قاله أحمد بن حنبل (1) ؛ مع أنّه متّهم في حقّ أبي بكر ، كعروة.
وأمّا قوله : « كان يشتري المعذّبين من الكفّار .. » إلى آخره ..
فقد أجاب عنه أبو جعفر ، كما حكاه عنه ابن أبي الحديد (2) ، بعد قول الجاحظ : « أعتق أبو بكر جماعة من المعذّبين في اللّه ، وهم ستّ رقاب ، منهم : بلال (3) ، وعامر بن فهيرة (4) ، وزبيرة
ص: 546
النهديّة (1) ، وابنتها ، ومرّ بجارية يعذّبها عمر بن الخطّاب ، فابتاعها منه ، وأعتقها ، وأعتق أبا عيسى (2) ».
قال أبو جعفر : « أمّا بلال وعامر فإنّما أعتقهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، روى ذلك الواقدي ، وابن إسحاق ، وغيرهما.
وأمّا باقي مواليهم الأربع ، فإن سامحناكم في دعواكم ، لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال - لشدّة بغض مواليهم لهم - إلّا مئة درهم أو نحوها ، فأيّ
ص: 547
فخر في هذا؟! ».
وأمّا قوله : « فأنزل اللّه فيه : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ ... ) (1) ... » إلى آخره ..
فيرد عليه : إنّ الاستدلال على فضله بهذه الآية بأمور كلّها باطلة :
الأوّل : قوله تعالى : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ ) بدعوى دلالته على أنّ أبا بكر أحد اثنين في الفضل والشرف ، ولا فضل أعظم من كون أبي بكر قرينا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في الفضل.
وفيه : إنّه لو أريد الاثنينيّة في الفضل والشرف ، لكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله - بلحاظ أنّه المراد بالثاني - متأخّرا رتبة عن أبي بكر في الفضل والشرف ؛ وهو كفر!
فليس المراد ب ( ثانِيَ اثْنَيْنِ ) إلّا ما هو ظاهر اللفظ ؛ أعني مجرّد الإخبار عن العدد ، وهو لا يدلّ على الفضل بالضرورة!
الثاني : إنّه جعله صاحبا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والصحبة في هذا المقام العظيم منزلة عظمى.
وفيه : إنّ الصحبة - بما هي صحبة - لا تدلّ على أكثر من المرافقة والاصطحاب ، وهو قد يكون بين المؤمن وغيره ، كما قال تعالى : ( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ... ) (2).
وأمّا خصوصيّة المقام ، فلا أثر لها إلّا إذا كانت لحاجة ورغبة في أبي بكر لذاته ، فيكون الدالّ على الفضل هو الرغبة في صحبة أبي بكر لذاته ، وهو ممنوع ؛ إذ لا إشارة في الآية الكريمة إليه ، وأخبارهم
ص: 548
مدخولة!
على أنّ رواية البخاري وغيره ، الواردة في هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، مصرّحة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب الصحبة لمّا قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « قد أذن بالخروج إلى المدينة » (1).
ولا شكّ عندنا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يصحبه إلّا خشية أن يطلع عليه أحدا حيث أحسّ بخروجه ، وجاءت به بعض روايات القوم ، كما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن أبي القاسم الصبّاغ (2) ، من علماء الجمهور ، في كتابه « النور والبرهان » (3).
وكيف يكون في صحبة أبي بكر خير للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وقد ابتلي به فوق بلائه ، واحتاج إلى مداراته في دفع الخوف عنه؟!
ولو كان لأبي بكر فضل لعبّر اللّه سبحانه عنه ببعض ألفاظ التعظيم والإكرام ، ك « الأخ » و « النفس » ، ونحوهما ، لا ب « الصاحب » ، كما عبّر
ص: 549
عن عليّ ب « الأنفس » (1) و « الّذين آمنوا » (2).
الثالث : إنّه قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا ) (3) ، أي : معنا بلحاظ نصرته ورعايته لنا ، ومن كان شريكا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في نصرة اللّه له كان من أعظم الناس.
وفيه : إنّ المقصود بالنصرة والرعاية واقعا هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأمّا أبو بكر فتابع محض ؛ ولذا خصّه اللّه تعالى بقوله : ( فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ ) (4) .. الآية.
والتبعيّة في النصرة - لأجل الاجتماع - لا تدلّ على فضل بالضرورة.
الرابع : قوله تعالى : ( فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) (5) ، فإنّ كثيرا من الناس قالوا : إنّ السكينة مخصوصة بأبي بكر ؛ لأنّه المحتاج إليها لما تداخله من الحزن والهلع ، بخلاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه عالم بأنّه محروس من اللّه تعالى (6).
وفيه : إنّه لا يتّجه إرجاع السكينة إلى أبي بكر ؛ لأنّ بعدها ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ) (7)..
ص: 550
ودعوى عدم حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله الى السكينة ، باطلة ؛ إذ لا يستغني أحد عن لطف اللّه وتأييده وتثبيت قلبه ، كما قال تعالى في قصّة حنين : ( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1).
فلمّا خصّ اللّه نبيّه بالسكينة في آية الغار ، ولم يجر أبا بكر مجرى المؤمنين في ثبوت السكينة له معه ، كشف عمّا لا خفاء به عليك!
كما إنّ ظهور الحزن منه في موطن لا ينبغي للمؤمن حقّا أن يحزن فيه ، دليل على نقصانه ؛ فإنّه قد ظهر على يد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الآيات البيّنة والكرامات الظاهرة ما يشهد لكلّ مؤمن بالحفظ والسلامة ؛ كإنبات الشجرة ، ونسج العنكبوت ، وتعشيش الطائر ، وخروج النبيّ صلی اللّه علیه و آله من بين القوم في حال لا يرجى لغيره الخروج فيها .. إلى غير ذلك (2).
فالآية من أوضح الأدلّة على ذمّ أبي بكر ؛ لعدم إدخالها له بالسكينة ؛ ودلالتها على حزنه في مقام لا يحزن فيه كامل الإيمان ، بل المؤمن ؛ وإعراضها عن مدحه أصلا ؛ ودلالتها على حزنه المحرّم ، كما يقتضيه النهي ..
فكيف يقاس من يحزن ويهلع - مع هذه الآيات الواضحة - بمن شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه ، وبات على زيّ (3) النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين من
ص: 551
يطلبون سفك دمه ، ولا يرجى منهم الخروج؟!
فإن قلت : يرد النقض على بعض ما ذكرته بما جاء في الأنبياء ، قال تعالى : ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ ) (1) ، فإنّ موسى - مع نبوّته ، وعظيم شأنّه ، وثبات إيمانه ، ووعد اللّه له ولأخيه بأن يجعل لهما سلطانا ، وأنّهم لا يصلون إليهما ، وأنّهما ومن اتّبعهما الغالبون - أوجس في نفسه خيفة ، حتّى نهاه اللّه تعالى ؛ فكيف ينكر على أبي بكر حزنه عند ظهور الآيات له؟!
وأيضا : فقد نهى اللّه سيّد رسله فقال : ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) (2) ..
وقال تعالى : ( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ) (3) ...
وقال تعالى : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) (4) ..
[ وقال تعالى : ] (5) ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) (6) ..
فكيف يلام أبو بكر وينكر عليه ، وهو من أمّته؟!
قلت : أمّا موسى فلم يحزن خوفا على نفسه ، أو من عدم غلبته ، بل خاف إيقاع السحرة في أوهام البسطاء إمكان معارضة آياته تشبّثا في مقام الجدال بالأمور الصورية الكاذبة ، فيعسر عليه الانتصار والغلبة سريعا ؛
ص: 552
ولذا قال سبحانه : ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ... * إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) (1).
فليس نهيه نهي تحريم ، بل للتطمين بالنصر السريع بإلقاء عصاه.
ومنه يعلم الوجه في قوله تعالى : ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ... ) (3).
وأمّا نهي اللّه تعالى له عن الحزن على الكافرين وكفرهم ، فالمراد به التنبيه على عدم الاعتناء بهم ، وعدم استحقاقهم للحزن والأسف عليهم بإهلاكهم أنفسهم ، كما قال تعالى : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ) (4).
وهذا هو ظاهر الآيات بلا حاجة إلى تكلّف ، بخلاف نهي أبي بكر!
على أنّ تلك الآيات لو لم تكن ظاهرة بما قلنا ، فلا بدّ من حملها عليه ؛ للعلم بكمال الأنبياء وعصمتهم ، بخلاف أبي بكر ، ولا سيّما مع سهولة الحمل في تلك الآيات دون ما يتعلّق بأبي بكر ، بل هو متّضح الحال ، وأنّ حزنه لإشفاقه من القتل ، كما تدلّ عليه الأخبار.
وأمّا قوله : « وأثنى عليه في كتابه العزيز في مواضع عديدة » ..
فهو كذب مفترى ، بدليل ما رواه البخاري في سورة الأحقاف من
ص: 553
« كتاب التفسير » ، عن يوسف بن ماهك ، أنّ مروان قال : « إنّ هذا - يعني عبد الرحمن بن أبي بكر - الذي أنزل اللّه فيه : ( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي ) (1) ، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل اللّه فينا شيئا من القرآن ، إلّا أنّ اللّه أنزل عذري » (2).
إذ لو نزلت آية في مدح أبيها لاستثنتها أيضا ، فمن أين جاؤوا بالآيات العديدة؟!
ولا ينافي هذا العموم آية الغار ؛ لنزولها في رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكنّها دلّت على خطابه لأبي بكر ، وهو ليس نزولا فيه!
وأشهر ما زعموا نزوله في أبي بكر قوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى * وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (3).
رووا ذلك عن عروة وعبد اللّه ، ابني الزبير (4) ، وهو - مع كونه عن رأيهما قول - محلّ التهمة ، وأعدى عدوّ لعليّ ، وممّن حاربه يوم الجمل.
وقد مرّ أنّ بغضه - فضلا عن حربه - علامة النفاق (5) ، والمنافق فاسق لا يقبل رأيه في التفسير وروايته ، ولا كرامة!
ص: 554
على أنّه معارض برواية أخرى ؛ فقد رووا نزولها في عليّ علیه السلام ، أو أبي الدحداح (1) ، أو غيرهم (2).
وقال ابن حجر في « الصواعق » (3) : « ولا يمكن حملها على عليّ خلافا لما افتراه بعض الجهلة ؛ لأنّ قوله : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (4) يصرفه عن حمله على عليّ ؛ لأنّ النبيّ ربّاه فله عليه نعمة ، أي نعمة تجزى ، وإذا خرج عليّ تعيّن أبو بكر ؛ للإجماع على أنّ ذلك ( الْأَتْقَى ) أحدهما لا غير ».
ص: 555
تكرّر هذا الكلام بينهم وتشدّقوا به ، وهو جهل وتعصّب ؛ إذ ليس المراد بقوله تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) هو الثناء على الأتقى بأنّه لا يد لأحد عنده ؛ إذ لا يوجد أحد من بني آدم إلّا ولأحد نعمة عليه ، إذ لا أقلّ من أحد أبويه ، أو غيرهما من المربّين والكافلين ، سواء في ذلك عليّ ، أم أبو بكر ، أم غيرهما!
بل المراد : هو الثناء عليه بأنّه لم ينفق ماله لأجل مكافأة أحد بنعمة له عليه ، بل أنفق ماله ابتغاء وجه ربّه الأعلى.
ولذا صحّ الاستثناء في الآية ، فإنّه لا معنى لاستثناء قوله : ( إِلأَابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (1) من مجرّد مدح الشخص بأن لا يد لأحد عليه.
ثمّ كيف جاز لهم أن ينفوا نعمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أبي بكر؟!
ألم ينعم عليه بدعوته إلى الإسلام ورفع شأنه؟!
ألم ينعم عليه بالغنائم وغيرها؟!
( وَما نَقَمُوا إِلأَأَنْ أَغْناهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ... ) (2).
وأمّا قوله : « ولم يقدر أحد من الشيعة أن يدّعي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غزا غزوة وتخلّف عنه أبو بكر » ..
فلو صحّ ، فهم يقدرون على إثبات تخلّفه عن أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله في
ص: 556
الخروج تحت لواء أسامة (1).
ويقدرون على إثبات أنّه ما قاتل ولا همّ بقتال إلّا مرّة واحدة - كما رواه القوم - لمّا تقدّم ابنه عبد الرحمن في غزاة أحد ، وطلب المبارزة ، فقام إليه أبو بكر ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « شم (2) سيفك وأمتعنا بنفسك » (3) - مشيرا إلى جبنه - مع حنو (4) الولد على أبيه.
ويقدرون على إثبات أنّه فرّ في مقامات الزحام ، كخيبر وأحد وحنين - كما سبق نقله من أخبارهم (5) - ، وتستّر بالعريش في بدر (6).
فأيّ فائدة في عدم تخلّفه؟!
وأمّا قوله : « وإجماع الأمّة على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يقدّمه
ص: 557
على أصحابه ويفضّله عليهم » ..
فهو من مخيّلات أمّة أبي بكر وتسويلاتهم!
وأمّا ما نقله عن محمّد بن الحنفيّة (1) ، فهو ممّا رقمه (2) قلم الأهواء ، ولا حجّة لهم - بنقلهم - على خصومهم ، وكيف يفضّله أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو مولى المؤمنين والمؤمنات؟!
وقال في « خطبته الشقشقية » : « لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وهو يعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السّيل ، ولا يرقى إليّ الطير » (3).
وما زال يتظلّم منه ومن أصحابه (4).
وأمّا ما حكاه عن ابن عمر (5) ، فقد سبق أنّه من موارد الطعن عليه ، ومن كذباته الواضحة (6).
فهل ترى أعجب من ابن عمر ، يسمع نداء آية المباهلة بأنّه نفس سيّد النبيّين ، وآية التصدّق بأنّه مع اللّه ورسوله وليّ المؤمنين .. إلى أمثالهما من الكتاب والسنّة ، ثمّ يجعله من سائر المسلمين ، ويجعل فضل
ص: 558
أبيه وصاحبيه مفروغا عنه؟!
ما هذا إلّا الغيّ والحمق!!
وبما ذكرنا من بيان حال صحاحهم في المقدّمة وغيرها (1) ، تستغني عن التعرّض لبقيّة ما ذكره الفضل من الأحاديث والتكلّم في أسانيدها ومتونها ومعارضاتها.
وأمّا ما زعمه من جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأبي بكر إماما في الصلاة تلويحا إلى خلافته ، وأنّه صلّى بهم أيّام مرضه (2) ..
فهو من كذباتهم ..
والحقّ أنّه لم يصلّ بالناس إلّا في صلاة واحدة ، وهي صلاة الصبح ، تلبّس بها بأمر ابنته ، فعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج يتهادى بين عليّ والعبّاس - أو ابنه الفضل - ، ورجلاه تخطّان في الأرض من المرض (3) ، وممّا لحقه من تقدّم أبي بكر ، ومخالفة أمره بالخروج في جيش أسامة ، فنحّاه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وصلّى ، ثمّ خطب ، وحذّر الفتنة ، ثمّ توفّي من يومه ، وهو يوم الاثنين.
وقد صرّحت بذلك أخبارنا (4) ..
ودلّت عليه أخبارهم ؛ لإفادتها أنّ الصلاة التي تقدّم فيها هي التي عزله النبيّ عنها ، وأنّها صبح الاثنين ، وهو الذي توفّى فيه ..
ص: 559
أمّا الأوّل (1) ؛ فلما رواه مسلم (2) ، عن عائشة ، قالت : « لمّا ثقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس.
قالت : فقلت : يا رسول اللّه! إنّ أبا بكر رجل أسيف (3) ، وإنّه متى يقم مقامك لم يسمع الناس ، فلو أمرت عمر؟
فقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس!
قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إنّ أبا بكر رجل أسيف ، وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر؟
فقالت له ؛ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف! مروا أبا بكر فليصلّ بالناس!
قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس.
[ قالت : ] فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من نفسه خفّة ، فقام يهادى بين رجلين (4) ، ورجلاه تخطّان في الأرض.
فلمّا دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه ، فذهب يتأخّر ، فأومأ إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ قم مكانك ] ، فجاء رسول اللّه حتّى جلس عن يسار أبي بكر.
ص: 560
فكان أبو بكر يصلّي قائما ، وكان رسول اللّه يصلّي قاعدا ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول اللّه ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ».
وهو - كما تراه - صريح في أنّ أوّل صلاة صلّاها أبو بكر هي التي عزله النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنها.
وتدلّ عليه أخبار أخر أيضا (3).
وأمّا الثاني ؛ وهو أنّها صبح يوم الاثنين ؛ فلما رواه الطبري (4) ، عن عبد اللّه بن أبي مليكة ، قال : « لمّا كان يوم الاثنين خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاصبا رأسه إلى الصبح ، وأبو بكر يصلّي بالناس.
فلمّا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تفرّج الناس ، فعرف أبو بكر أنّ الناس لم يفعلوا ذلك إلّا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فنكص عن مصلّاه فدفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ظهره ، وقال : صلّ بالناس ؛ وجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى جنبه ، فصلّى قاعدا عن يمين أبي بكر.
فلمّا فرغ من الصلاة ، أقبل على الناس وكلّمهم رافعا صوته ، حتّى خرج صوته من باب المسجد ، يقول : يا أيّها الناس! سعّرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإنّي واللّه لا تمسكون عليّ شيئا ، إنّي لم
ص: 561
أحلّ لكم إلّا ما أحلّ لكم القرآن ، ولم أحرّم عليكم إلّا ما حرّم عليكم القرآن ... » .. الحديث.
وأمّا الثالث ؛ هو أنّها في يوم وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ فلما حكاه في « كنز العمّال » (1) ، عن ابن جرير ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، قال : « صلّى - أي : النبيّ صلی اللّه علیه و آله - في اليوم الذي مات فيه صلاة الصبح في المسجد ».
وما في « الكنز » أيضا (2) ، عن أبي يعلى في « مسنده » ، وابن عساكر ، عن أنس ، قال : « لمّا مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مرضه الذي مات فيه ، أتاه بلال فآذنه بالصلاة ، فقال : يا بلال! قد بلّغت ، فمن شاء فليصلّ ، ومن شاء فليدع.
قال : يا رسول اللّه! فمن يصلّي بالناس؟
قال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس.
فلمّا تقدّم أبو بكر رفعت الستور عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فنظرنا إليه كأنّه ورقة بيضاء عليه خميصة (3) سوداء ، فظنّ أبو بكر أنّه يريد الخروج ، فتأخّر ، فأشار إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن صلّ مكانك ، فصلّى أبو بكر ، فما رأينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى مات من يومه ».
ص: 562
ومنه ما في « الكنز » أيضا (1) ، عن أبي الشيخ في الأذان ، عن عائشة ، قالت : « ما مرّ عليّ ليلة مثل ليلة مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، يقول : يا عائشة! هل طلع الفجر؟
فأقول : لا يا رسول اللّه ؛ حتّى أذّن بلال بالصبح.
ثمّ جاء بلال ، فقال : السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته!
الصلاة يرحمك اللّه.
فقال النبيّ : ما هذا؟
فقلت : بلال.
فقال : مري أباك أن يصلّي بالناس »
فقد ثبت من جميع ما ذكرنا ، أنّ أوّل صلاة تقدّم فيها أبو بكر هي التي عزله النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنها ، وأنّها صبح يوم الاثنين الذي توفّي فيه ، ولم يتقدّم في غيرها.
فما في بعض أخبار عائشة ، من أنّ الصلاة التي تأخّر فيها أبو بكر عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله هي الظهر ، وأنّه صلّى بالناس في مرض النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيّاما (2) ، مردودة بالأخبار المذكورة.
مع أنّها ليست حجّة علينا ، ولا سيّما أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد نبز عائشة وصاحبتها بأنّهما صواحب يوسف (3) ، وهي أيضا محلّ التهمة في حقّ
ص: 563
أبيها.
وأقرّت بكذبها في المقام بما أظهرته من سبب الاستعفاء ؛ فإنّها تقول في كثير من أخبارهم : « ما حملني على كثرة مراجعتي إلّا أنّي كنت أرى أنّه لن يقوم أحد مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا تشاءم الناس به » (1).
فمع هذا ونحوه ، كيف تعتبر روايتها وتقدّم على ما يخالفها؟!
كما لا نعتبر خبرها بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو الآمر بتقديم أبي بكر ، بل إنّما أمر أن يصلّي بالناس بعضهم ، فانتهزت عائشة الفرصة فأمرت بتقديم أبي بكر ؛ كما يشهد له خبر عائشة السابق في رواية أبي الشيخ ، حيث أخبرت في آخره بأنّ النبيّ قال : « مري أباك أن يصلّي بالناس » (2)، فإنّه كاشف عن أنّ الأمر بتقديم أبيها قد صدر منها ، لكن ادّعت أنّه عن أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله !
ويشهد لعدم تعيين النبيّ صلی اللّه علیه و آله للمصلّي ، ما في « الاستيعاب » بترجمة أبي بكر ، عن عبد اللّه بن زمعة (3) ، قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « مروا
ص: 564
من يصلّي بالناس ».
لكن زعم ابن زمعة أنّه أمر عمر بالصلاة ، فلمّا كبّر سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صوته ، قال : « فأين أبو بكر؟! يأبى اللّه ذلك والمسلمون! » (1).
وهو غير مقبول منه ؛ لأنّه يقتضي قطع صلاة عمر ، وتأخيره ، وتقديم أبي بكر ؛ وهو حادث كبير ، لو صحّ لشاع.
ويشهد أيضا لعدم تعيين النبيّ صلی اللّه علیه و آله للمصلّي بالناس ، ما أخبر به أنس في الرواية المذكورة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « يا بلال! قد بلّغت ، فمن شاء فليصلّ ، ومن شاء فليدع » (2).
فإنّ مراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو التخيير في أمر الجماعة والإمامة ، لا أصل الصلاة بالضرورة ، وحينئذ فيكون خبر الراوي في تتمّة الحديث بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « مروا أبا بكر فليصلّ بالناس » (3) من الإضافات التي قضت بها السياسة!
وكيف يجتمع زعمهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو الآمر بتقديم أبي بكر ، وأنّه صلّى بالناس أيّاما ، مع جعله من جيش أسامة ، ولعن من تخلّف عنه؟! (4).
وأيضا : لو كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو الآمر المصرّ على تقديم أبي بكر ، وقد قصد التلويح إلى خلافته ، فما معنى خروجه صلی اللّه علیه و آله بأوّل صلاة صلّاها
ص: 565
أبو بكر وعزله عن الجماعة ، وهو بتلك الحال الشديدة المشجية ، تخطّ رجلاه في الأرض ، ويتهادى بين رجلين ، حتّى صلّى بالناس من جلوس صلاة المضطرّين؟!
فلا بدّ أن يكون مريدا بخروجه المستغرب رفع ما لبسوه على الناس ، من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو الآمر بتقديمه.
وأيضا : لو كانت صلاته بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وصلّى بالناس أيّاما ، لا صلاة الصبح فقط ، فلم لم يحضر صلاة النهار يوم وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بل كان بمنزله في السّنح (1)؟!
وأيضا : لو كانت صلاته بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومرغوبة له ، ومريدا بها التلويح إلى خلافته التي يعلم بوقوعها ، وأنّهاعلى الهدى كما زعموا ، فما الذي حدث حتّى خرج على تلك الحال ، وخطب تلك الخطبة العالية ، وقال : « سعّرت النار ، وأقبلت الفتن » (2)؟!
فالمنصف يعلم من هذا أنّ صلاة أبي بكر لم تكن عن أمره ، بل كانت فتنة اتّخذها أولياؤه حجّة ، وكانت أوّل نار سعّرت على الحقّ ، وفتنة مظلمة!
ولذا لم يعتدّ بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وصلّى مبتدئا ؛ فإنّه لو صلّى إماما لهم من حيث وصل إليه أبو بكر ، لخلت صلاته - على الأقل - من
ص: 566
تكبيرة الافتتاح ، فتبطل!
فإذا كان مبتدئا تعيّن أن يكون الناس قد ابتدأوا معه غير معتدّين بصلاة أبي بكر ، وإلّا كانوا سابقين على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض أفعال الصلاة ، وهو غير جائز في الجماعة (1).
ومن الواضح أنّ عدم اعتداد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بصلاة أبي بكر ، دليل على أنّها ليست بأمره ، وأنّها أوّل فتنة أصابت الإسلام.
هذا ، ومن الأوهام والخيالات زعمهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قدّمه في الصلاة تلويحا إلى خلافته (2) ..
والحال أنّ إمامة الصلاة عندهم لا يعتبر فيها العدالة ، فضلا عن الاجتهاد ونحوه من شروط الإمامة العامّة (3) ، فكيف تكون تلويحا إلى الزعامة العظمى والرياسة الكبرى؟!
وأعجب من ذلك ، ما كذبوا فيه على أمير المؤمنين علیه السلام ، أنّه قال - كما في « الاستيعاب » - : « رضينا لدنيانا من رضي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لديننا » (4) ..
إذ مع معلوميّة تظلّم أمير المؤمنين منهم وسخطه عليهم إلى حين وفاته ، كيف يجعل الخلافة من أمر الدنيا ، ويجعل الرضا بها تابعا للرضا
ص: 567
بإمامة الصلاة التي تجوز حتّى للفاجر بزعم القوم؟!
وأعجب من الجميع ، زعم الفضل معارضة ما دلّ على خلافة أمير المؤمنين بما أشير فيه إلى خلافة أبي بكر ..
فإنّ هذا من أخبارهم ، فلا يكون حجّة على خصومهم حتّى يوجب المعارضة ، ولا سيّما أنّهم أقرّوا بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يخلّف أبا بكر ، ورووه عن عمر مستفيضا (1) ، فيلزم تكذيب ذلك أو تأويله ، ويبقى ما دلّ على خلافة أمير المؤمنين بلا معارض!
مع أنّ ما زعموا الإشارة فيه إلى خلافة أبي بكر نادر لا يصلح للمعارضة ، وغير دالّ على مرادهم أصلا ؛ إذ لا دلالة أصلا في خبر جبير ابن مطعم (2) على أنّ الشيء الذي كلّمت المرأة فيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الأشياء التي مرجعها السلطان.
كما لا دلالة بقولها : « لم أجدك » على إرادة الموت ، وقول جبير : « كأنّها تريد الموت » ، ظنّ أو احتمال ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.
وأمّا ما رواه عن عائشة ، من قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مرضه : « ادعي لي
ص: 568
أباك وأخاك ... » (1) إلى آخره ..
فقد كفانا أمره عمر بقوله : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وحاشاه - يهجر » (2).
مع احتمال أن يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يعطيه مالا ويكتب له فيه ، أو يكتب له في الصلاة بالناس التي زعموا أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بها ، أو نحو ذلك.
على أنّ هذا الحديث مقطوع الكذب ؛ إذ كيف يتصوّر أن يأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عائشة بدعوة أبيها - وتحتمل أن يكتب له بالخلافة - فلا تحضره ، والحال أنّها تدعوه بلا دعوة!
أخرج الطبري في « تاريخه » (3) ، عن الأرقم بن شرحبيل ، قال : « سألت ابن عبّاس : أوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : لا.
قلت : فكيف ذلك؟!
قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ابعثوا إلى عليّ فادعوه!
فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر؟
وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر؟
فاجتمعوا عنده جميعا ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انصرفوا! فإن تك لي حاجة أبعث إليكم ؛ فانصرفوا ».
ص: 569
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الدارقطني ، أنّه أخرج عن عائشة ، قالت : « لمّا حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الموت قال : ادعوا لي حبيبي!
فدعوت له أبا بكر ، فنظر ، ثمّ وضع رأسه ، فقال : ادعوا لي حبيبي!
فدعوا له عمر ، فنظر إليه ، ثمّ وضع رأسه ، وقال : ادعوا لي حبيبي!
فقلت : ويلكم! ادعوا له عليّ بن أبي طالب ، فو اللّه ما يريد غيره.
فلمّا رآه أفرد الثوب الذي كان عليه ، ثمّ أدخله فيه ، فلم يزل محتضنه حتّى قبض ويده عليه » (1).
ثمّ نقل السيوطي ، عن ابن الجوزي ، أنّه قال : « موضوع » (2).
ولم يذكر له دليلا!
ثمّ نقل عن الدارقطني ، أنّه قال : « غريب ، تفرّد به مسلم بن كيسان الأعور ، وتفرّد به عن ابنه (3) إسماعيل بن أبان الورّاق » (4).
ثمّ قال السيوطي : « مسلم : روى له الترمذي ، وابن ماجة ، وهو متروك ، وإسماعيل بن أبان من شيوخ البخاري » (5).
ثمّ قال : « وله طريق آخر » وأنهاه إلى عبد اللّه بن عمرو ، قال : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال في مرضه : ادعوا لي أخي! فدعوا له أبا بكر ، فأعرض عنه!
ص: 570
ثمّ قال : ادعوا لي أخي! فدعوا له عمر ، فأعرض عنه!
ثمّ قال : ادعوا لي أخي! فدعوا له عثمان ، فأعرض عنه!
ثمّ قال : ادعوا لي أخي! فدعوا له عليّ بن أبي طالب ، فستره بثوب وأكبّ عليه.
فلمّا خرج من عنده قيل له : ما قال؟
قال : علّمني ألف باب ، يفتح لي من كلّ باب ألف باب » (1).
أقول :
مضمون الحديث معتبر ؛ لاعتضاد طرقه بعضها ببعض ، ولا سيّما أنّ مناقشة الدارقطني بإسماعيل ليست في محلّها ؛ لأنّه ممّن احتجّ به البخاري في صحيحه ، ووثّقه عامّة علمائهم حتّى الدارقطني في إحدى الروايتين عنه ، كما في « تهذيب التهذيب » (2).
وأمّا مسلم بن كيسان ، فدعوى أنّه متروك ، غير مسموعة ..
كيف؟! وقد أخرج له الترمذي وابن ماجة في صحيحيهما (3) ، وروى عنه عدّة عديدة وفيهم أكابر رواتهم ، كشعبة ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وعليّ بن مسهر ، والأعمش ، وسفيان بن عيينة ، وابن فضيل ، وإسرائيل ، وشريك ، وورقاء ، ومحمّد بن جحادة ، وزياد ، وعليّ بن
ص: 571
عابس ، وجرير بن عبد الحميد ، وغيرهم ، كما في « تهذيب التهذيب » (1) (2).
وأمّا قوله : « والإجماع فضل زائد ... » إلى آخره ..
فقد سبق ما في دعوى الإجماع ، في أوائل مباحث الإمامة (3).
وأمّا قوله : « ولمّا سمع المنافق أنّ هؤلاء مطعونون فرح ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّ المنافق يعلم أنّ صاحب الدّين ومؤسّسة هو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاصّة ، فلا طعن في الدّين إلّا بالطعن به نفسه ، دون آحاد أمّته أو جميعها ؛ ولذا طعن اللّه سبحانه بالأمّة فما كان منه نقصا في نبيّه الكريم ، قال سبحانه : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ... ) (4) الآية ؛ ونحن ما زدنا على هذا الطعن!
على أنّ المنافق لا يرى فرقا بين المشايخ الثلاثة ، وعبد الملك ، والمنصور والرشيد ، وأشباههم ممّن فتحوا الفتوح ، ومصّروا الأمصار ، واتّخذهم القوم أئمّة وأمراء للمؤمنين.
ص: 572
فكما لا يجوز منّا ترك القول بالحقّ في الآخرين لأجل أن لا يفرح المنافق ، لا يجوز منّا تركه في الأوّلين ، ولو أنصف المنافق لرأى أنّ من دلائل صحّة الإسلام فساد أمرائه ، وهو لا يزداد إلّا رفعة وسناء.
ثمّ إنّ الطعن لو صحّ لم يختصّ بأمّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، بل هو جار في الأمم السالفة ، كما في أمر السامري (1) ، وبلعم (2) ، وغيرهما (3).
وكلّ ما جرى في أمّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله جرى في الأمم السابقة ، حذو
ص: 573
النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة (1) ، كما صرّحت به أخبارنا (2) وأخبارهم (3) ..
فهل يحسن من الخصم ترك القول في السامريّ وأمثاله ، لئلّا يفرح المنافق حتّى يحسن منّا ترك القول بأشباههم؟!
ثمّ ما باله لم يوجّه الاعتراض أوّلا إلى إمامه معاوية ، حيث نسب إلى أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ونفسه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، كلّ مكروه ، وسبّه على المنائر والمنابر؟!
فكان اللازم عليه أن يدعو أوّلا بعدم الفلاح على معاوية ، وسائر بني أميّة وأشياعهم ، ولو دعا لأمّنّا وحمدنا اللّه على ذلك!
* * *
تمّ الجزء الثاني ،
ويليه الجزء الثالث (4).
* * *
ص: 574
تعيين إمامة عليّ علیه السلام بالسّنّة
1 - حديث النور... 5
رد الفضل بن روزبهان... 7
ردّ الشيخ المظفّر... 12
2 - حديث : ويكون خليفتي ، ويكون معي في الجنّة... 23
رد الفضل بن روزبهان... 24
ردّ الشيخ المظفّر... 26
3 - حديث الوصيّة... 47
رد الفضل بن روزبهان... 48
ردّ الشيخ المظفّر... 49
4 - حديث : من أحبّ أصحابك؟ وإن كان أمرٌ كنّا معه... 53
رد الفضل بن روزبهان... 54
ردّ الشيخ المظفّر... 55
5 - حديث : لكلّ نبيّ وصيّ ووارث... 57
رد الفضل بن روزبهان... 58
ردّ الشيخ المظفّر... 59
6 - حديث : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك... 61
رد الفضل بن روزبهان... 62
ردّ الشيخ المظفّر... 64
7 - حديث اختصاص المناجاة بعليّ علیه السلام ... 71
رد الفضل بن روزبهان... 72
ص: 575
ردّ الشيخ المظفّر... 73
8 - حديث المباهلة... 74
رد الفضل بن روزبهان... 75
ردّ الشيخ المظفّر... 76
9 - حديث المنزلة... 80
رد الفضل بن روزبهان... 82
ردّ الشيخ المظفّر... 83
10 - حديث : إنّي دافع الراية غدا... 89
رد الفضل بن روزبهان... 91
ردّ الشيخ المظفّر... 92
11 - حديث : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه... 102
رد الفضل بن روزبهان... 103
ردّ الشيخ المظفّر... 104
12 - حديث سدّ الأبواب عدا باب عليّ... 105
رد الفضل بن روزبهان... 106
ردّ الشيخ المظفّر... 107
13 - حديث المؤاخاة... 122
رد الفضل بن روزبهان... 124
ردّ الشيخ المظفّر... 125
14 - حديث : إنّ عليّا منّي وأنا من عليّ... 133
رد الفضل بن روزبهان... 135
ردّ الشيخ المظفّر... 136
15 - حديث : إنّ فيك مثلا من عيسى... 142
رد الفضل بن روزبهان... 143
ردّ الشيخ المظفّر... 144
16 - حديث : لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق... 147
ص: 576
رد الفضل بن روزبهان... 148
ردّ الشيخ المظفّر... 149
17 - حديث : ... ولكنّه خاصف النعل... 152
رد الفضل بن روزبهان... 154
ردّ الشيخ المظفّر... 155
18 - حديث الطائر... 159
رد الفضل بن روزبهان... 161
ردّ الشيخ المظفّر... 162
19 - حديث : أنا مدينة العلم وعليّ بابها... 171
رد الفضل بن روزبهان... 172
ردّ الشيخ المظفّر... 173
20 - حديث : من آذى عليّا فقد آذاني... 182
رد الفضل بن روزبهان... 183
ردّ الشيخ المظفّر... 184
21 - حديث تزويج عليّ من فاطمة الزهراء علیهماالسلام ... 187
رد الفضل بن روزبهان... 188
ردّ الشيخ المظفّر... 189
22 - حديث : إجلس يا أبا تراب... 194
رد الفضل بن روزبهان... 195
ردّ الشيخ المظفّر... 196
23 - أحاديث : كسر الأصنام ، وصكّ الولاية ، وردّ الشمس ،... 199
رد الفضل بن روزبهان... 203
ردّ الشيخ المظفّر... 204
24 - حديث : الحقّ مع عليّ... 227
رد الفضل بن روزبهان... 229
ردّ الشيخ المظفّر... 231
ص: 577
25 - حديث الثّقلين وما بمعناه... 235
رد الفضل بن روزبهان... 238
ردّ الشيخ المظفّر... 240
26 - حديث الكساء... 251
رد الفضل بن روزبهان... 253
ردّ الشيخ المظفّر... 254
27 - حديث : أهل بيتي أمان لأهل الأرض... 255
رد الفضل بن روزبهان... 257
ردّ الشيخ المظفّر... 258
28 - حديث : اثنا عشر خليفة... 264
رد الفضل بن روزبهان... 268
ردّ الشيخ المظفّر... 271
المبحث الخامس
في بعض فضائل عليّ علیه السلام قبل الولادة... 283
رد الفضل بن روزبهان... 286
ردّ الشيخ المظفّر... 289
فضائله حال الولادة... 300
رد الفضل بن روزبهان... 301
ردّ الشيخ المظفّر... 302
فضائله بعد الولادة...
من فضائله النفسانية :...
المطلب الأوّل : الإيمانه علیه السلام ... 309
رد الفضل بن روزبهان... 312
ردّ الشيخ المظفّر... 313
المطلب الثاني : علمه علیه السلام ... 319
رد الفضل بن روزبهان... 321
ص: 578
ردّ الشيخ المظفّر... 322
كلام العلامة الحلّي... 326
رد الفضل بن روزبهان... 327
ردّ الشيخ المظفّر... 328
العلوم كلّها مستندة إليه علیه السلام ... 331
رد الفضل بن روزبهان... 334
ردّ الشيخ المظفّر... 335
كلام العلامة الحلّي... 340
رد الفضل بن روزبهان... 343
ردّ الشيخ المظفّر... 344
كلام العلامة الحلّي... 346
رد الفضل بن روزبهان... 347
ردّ الشيخ المظفّر... 348
كلام العلامة الحلّي... 351
رد الفضل بن روزبهان... 352
ردّ الشيخ المظفّر... 353
كلام العلامة الحلّي... 354
رد الفضل بن روزبهان... 357
ردّ الشيخ المظفّر... 358
إخباره علیه السلام بالمغيّبات...
المطلب الثالث : الإخبار بالغيب... 359
رد الفضل بن روزبهان... 366
ردّ الشيخ المظفّر... 369
المطلب الرابع : الشجاعة علیه السلام ... 371
رد الفضل بن روزبهان... 372
ردّ الشيخ المظفّر... 373
ص: 579
المطلب الخامس : في الزهد علیه السلام ... 374
رد الفضل بن روزبهان... 376
ردّ الشيخ المظفّر... 377
المطلب السادس : كرمه... 379
رد الفضل بن روزبهان... 380
ردّ الشيخ المظفّر... 381
المطلب السابع : في استجابة دعائه علیه السلام ... 382
رد الفضل بن روزبهان... 385
ردّ الشيخ المظفّر... 387
من فضائله البدنية...
المطلب الأوّل : عبادته علیه السلام ... 392
رد الفضل بن روزبهان... 394
ردّ الشيخ المظفّر... 395
المطلب الثاني : جهاده علیه السلام ... 398
رد الفضل بن روزبهان... 407
ردّ الشيخ المظفّر... 410
من فضائله الخارجية...
المطلب الأوّل : في نسبه علیه السلام ... 429
رد الفضل بن روزبهان... 431
ردّ الشيخ المظفّر... 432
المطلب الثاني : في زوجته وأولاده علیهم السلام ... 436
رد الفضل بن روزبهان... 438
ردّ الشيخ المظفّر... 439
كلام العلامة الحلّي... 450
رد الفضل بن روزبهان... 456
ردّ الشيخ المظفّر... 458
ص: 580
المطلب الثالث : في محبّته علیه السلام ... 471
رد الفضل بن روزبهان... 476
ردّ الشيخ المظفّر... 477
المطلب الرابع : في أنّه صاحب الحوض ، واللواء و... 481
رد الفضل بن روزبهان... 483
ردّ الشيخ المظفّر... 492
فهرس المحتويات... 575
* * *
ص: 581
المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - دمشق
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1430 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-360-8
ص: 1
ص: 2
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء السابع
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صيدلية دياب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 5
الحمدلله رب العالمين ،
وصلی اللّه علی سيد النبيين وآله ،
ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين.
ص: 6
المؤمنين (عليه السلام) إماماً بعده (1).
وقالت السُنّة كافّة : إنّه مات بغير وصيّة ، ولم يستخلف أحداً ، وإنّ إمامة أبي بكر لم تثبت بالنصّ إجماعاً ، بل ببيعة عمر بن الخطّاب ، ورضا أربعة لا غير (2).
وقال عمر : «إنْ لم أستخلف ، فإنّ رسول اللّه لم يستخلف ، وإنْ أستخلف ، فإنّ أبا بكر استخلف» (3).
وهذا تصريح منه بعدم استخلاف النبيّ أحداً ، وقد كان الأَوْلى أن يقال : إنّه خليفة عمر ؛ لأنّه هو الذي استخلفه!
* * *
ص: 8
وقال الفضل (1) :
ما أجهلَ هذا الرجل باللغة! فإنّ الخليفةَ فعيلةٌ بمعنى الخالف ، وخليفة الرجل من يأتي خلفه ، ولا يتوقّف إطلاق الخليفة المضافة إلى شخص باستخلافه إيّاه.
فمعنى خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : الذي تولّى الخلافة بعده ، سواءً استخلفه أم لم يستخلفه.
فلو سلّمنا أنّ أبا بكر هو سمّى نفسه بهذا الاسم ، فإنّه لا يكون كذباً ؛ لِما ذكرنا.
ثمّ لا شكّ أنّ عليّاً خاطبه في أيّام خلافته بخليفة رسول اللّه ، ولو كان كذباً لَما تكلّم به ولا خاطبه به ، ولكن للشيعة في أمثال هذه المضايق سعة من التقيّة.
والظاهر ، أنّ القوم خاطبوه بذلك ، ولو أنّه سمّى نفسه بهذا صحّ ، كما ذكرنا ، فلا طعن.
ص: 9
الخلافة هي : الإمامة والولاية العامّة على الأُمّة ..
وبالضرورة : إنّ الولاية العامّة إنّما تكون بالأصالة لله تعالى ، وبالتَّبع والجعل للنبيّ ثمّ للإمام ، فلا تثبت الخلافة لأحد بدون النصب من اللّه ورسوله.
وإن شئتَ قلت : الخلافةُ نيابةٌ عن اللّه ورسوله في الأُمّة ، فلا تكون بدون إنابةِ مَن له الحكم والأمر.
واعترف بذلك صاحب «المواقف» وشارحها ، قالا في المقصد الثالث من مقاصد الإمامة : «وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد خلافاً للشيعة ، احتجّوا بوجوه :
الأوّل : الإمامة نيابة اللّه والرسول ، فلا تثبت بقول الغير ؛ إذ لو ثبتت بقوله لكان الإمام خليفةً عنه لا عن اللّه ورسوله.
قلنا : اختيار أهل البيعة للإمام دليلٌ لنيابة اللّه ورسوله.
وتلخيصه : إنّ البيعة عندنا ليست مثبتة للإمامة حتّى يتمّ ما ذكرتم ، بل هي علامة مظهرة لها ، كالأقيسة والإجماعات الدالّة على الأحكام» (1).
انتهى ملخّصاً.
فإنّك ترى أنّهما لم يُنكرا أنّ الإمام والخليفة لا يكون إلاّ
ص: 10
بالاستخلاف والنصب من اللّه ورسوله ، ولكنّهما ادّعيا حصول الاستخلاف من اللّه ورسوله بسبب البيعة من حيث كشفها عن الاستخلاف والاستنابة.
لكن عرفت في أوائل مبحث الإمامة بطلانَ الرجوعِ إلى الاختيار والبيعة في ثبوت الإمامة ، ولا سيّما بيعة الواحد والاثنين (1).
ويظهر أيضاً من ابن أبي الحديد الاعتراف بما قلنا ، إلاّ أنّه أجاب عن الإشكال (2) بما حاصله : إنّه سُمّي خليفة ؛ لاستخلاف النبيّ إيّاه على الصلاة.
وفيه - مع منع استخلاف النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له على الصلاة - : إنّه لو سُلّم لا يقتضي استخلاف النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له على الأُمّة ، كما مرّ (3).
ويظهر ذلك أيضاً من الرازي كما مرّ في الآية الرابعة والثمانين ، ولكنّه أجاب عنه بحصول الاستخلاف بالأمر بالاختيار ، وقد عرفت أنّه لا أمر بالاختيار (4).
وقد يُستدلّ للمدّعى بما رواه في «كنز العمّال» (5) ، عن ابن الأعرابي (6) ، قال : روي أنّ أعرابياً جاء إلى أبي بكر فقال : أنت خليفةُ
ص: 11
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟
قال : لا.
قال : فما أنت؟!
قال : أنا الخالِفَةُ بعده ؛ أي : القاعدةُ بعده.
أقول :
لم يذكر في «القاموس» من معاني الخالفةِ القاعدةَ ، بل ذكر له معاني أُخر ..
أحدها : كثير الخلاف.
ثانيها : غير النجيب ، ومَن لا خير فيه.
ثالثها : الأحمق (1).
ص: 12
فتدبّر!
ويدلّ على المدّعى أيضاً ما رواه ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ، قال : «قال : أبو بكر لقنفذ - وهو مولىً له - : إذهب فادع لي عليّاً!
فذهب إلى عليّ ، فقال [له] : ما حاجتك؟!
فقال : يدعوك خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال عليٌّ : لَسريع ما كذبتم على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ...» (1) .. الحديث.
ومنه يظهر بطلان ما زعمه الخصم من مخاطبة أمير المؤمنين له ب «خليفة رسول اللّه» ، ولو سُلّم فللتجوّز بابٌ واسعٌ يخرج منه عن الكذب تدعو إليه الضرورة.
كما إنّ التقيّة من دين اللّه ورسوله ، كما صرّح بها الكتاب (2)
ص: 13
والسُنّة (1).
وأمّا مخاطبة الناس له ، فلا ترفع الكذب عنه بتسمية نفسه وكتابته إلى الأطراف بقوله : «مِن خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» ، وقوله في عهده لعمر : «هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمّد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» (2)!
ص: 14
وقال الفضل (1) :
كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يبعث جيش أُسامة ؛ طلباً لقصاص زيد ؛ وليبلغ خبر قوّة الإسلام إلى ملوك الشام فلا يقصدوا المدينة بعد وفاته ، ولهذا كان يبالغ في بعث جيش أُسامة.
وأمّا قوله : «لعن اللّه من تخلّف عن جيش أُسامة» ، فهذا من ملحقات الروافض.
فلمّا بلغ أمر الخلافة إلى أبي بكر لم يكن ملائماً لأمر الإسلام أن يذهب الخليفة بنفسه ، سيّما وقد ارتدّ جميع العرب ، فأنفذ أبو بكر جيش أُسامة ؛ امتثالا لأمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو بنفسه قام لتجهيز باقي الجيوش وقتال أهل الردّة وحفظ الحوزة ، ومع ذلك استأذن من أُسامة - وهو الأمير - في التخلّف ، فأذن له.
فيا معشر المسلمين! من كان يعلم هذه الأحوال هل يجعل تخلّف الخليفة القائم بتعبئة الجيوش وجرّ العساكر وإقامة وظائف الدين ، طعناً فيه؟!
هذا ، وقد صحّ أنّ أبا بكر لم يكن في جيش أُسامة ، وقد قال الجزري : «من ادّعى أنّ أبا بكر كان في جيش أُسامة فقد أخطأ ؛ لأنّ النبيّ بعدما أنفذ جيش أُسامة قال : (مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) ، ولو كان مأموراً بالرواح مع أُسامة لم يكن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يأمره بالصلاة بالأُمّة».
ص: 16
لا ريب أنّ أبا بكر كان من جيش أُسامة كما صرّح به في «طبقات» ابن سعد (1) ، و «تهذيب تاريخ الشام» لابن عساكر (2) ، وفي «كنز العمّال» (3) عن ابن أبي شيبة عن عروة ، وفي «كامل» ابن الأثير (4).
وكلّهم صرّحوا بأنّ من جملة جيش أُسامة أبا بكر وعمر.
وقال الطبري في «تاريخه» (5) : «أوعب مع أُسامة المهاجرون الأوّلون».
وهو شامل بعمومه لأبي بكر ، بل هو أظهر من يُراد بهذا اللفظ عندهم.
بل الظاهر أنّ في العبارة سقطاً ، وهو : «ومنهم أبو بكر وعمر» ، كما في «كامل» ابن الأثير (6) ؛ لأنّه مأخوذ من «تاريخ» الطبري.
ونقل ابن أبي الحديد (7) ، عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب «السقيفة» ، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن : «أنّ
ص: 17
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في مرض موته أمَّر أُسامة على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجرّاح - إلى أن قال : - وقام أُسامة وتجهّز للخروج ، فلمّا أفاق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) سأل عن أُسامة والبعث ، فأُخبر أنّهم يتجهّزون ، فجعل يقول : «أنفِذوا بعث أُسامة ، لعن اللّه مَن تخلّف عنه» ، وكرّر ذلك - إلى أن قال : - فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان أُسامة إلى أن ماتا إلاّ بالأمير».
وبهذا عُلم أنّ لعن المتخلّف ثابت بأخبارهم.
كما ذكره أيضاً الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» ، عند بيان الاختلافات الواقعة في مرض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وبعد وفاته ، قال : «الخلاف الثاني في مرضه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : جهّزوا جيش أُسامة ، لعن اللّه مَن تخلّف عنه ، فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ...» (1) إلى آخره.
وحكى شارح «المواقف» في أوّل تذييل «المواقف» عن الآمدي ، أنّه ذكر الاختلافات الواقعة من المسلمين ، وعدّ منها الاختلاف في التخلّف عن جيش أُسامة ، قال : «قال قوم بوجوب الاتّباع ؛ لقوله : جهّزوا جيش أُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه.
وقال قوم بالتخلّف عنه ؛ انتظاراً لِما يكون من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في مرضه» (2).
ومثل هذا الكلام ، وكلام الشهرستاني ، دالاّن على أنّ لعن المتخلّف من الأُمور المسلّمة عندهم.
ولو سُلّم أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يلعن المتخلّف ، فاللّه سبحانه قد
ص: 18
لعنه ؛ لأنّ في التخلّف إيذاءً للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد لعن سبحانه من آذاه وأعدّ له عذاباً أليماً ، قال تعالى في سورة الأحزاب : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) (1).
وقال سبحانه في سورة التوبة : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2).
.. إلى غيرهما من الآيات (3).
واعلم أنّ رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أعظمُ الناسِ سياسةً ، وأفضلُهم حكمةً ، وأسدُّهم رأياً ، وأصوبُهم عملا ، وأظهرُهم عصمةً ، وقد أقدم على بعث أُسامة - وهو ابن سبع عشرة سنة - رئيساً على كبار الصحابة وشجعانهم ، ومَن مضت لهم التجربة في الحروب والرئاسة ، ولهم السنُّ والسمعة ، مع عظم الوجه الذي وجّهه فيه وأهمّيته وبُعد الشُقة ، حتّى إنّه لمّا قدّمه عليهم قالوا وتكلّموا ، فلم يمنعه طعنهم في إمرته ، وعزم على خلاف رغباتهم ومقاصدهم ، كما أمره اللّه تعالى بقوله : ( فإذا عزمتَ فتوكل على اللّه ) (4) (5).
ص: 19
فلا بُد أن يكون عمله - وهو سيّد الحكماء - عن حكمة تامة ، وغرض أعظم من رئاسة ذلك الجيش ، وهو التنبيه على عدم أهليّتهم للإمامة والخلافة ، وأنّهم أتباع لا متبوعون ، حتّى لعن المتخلّف ؛ كشفاً عن نفاقهم وأنّهم ينقلبون على أعقابهم ، كما ذكره سبحانه في كتابه
ص: 20
المجيد (1) ، وصرّحت به أخبار الحوض (2).
وإلاّ فلو خضع أُولئك القوم لسلطان اللّه وأمره بطاعة رسوله ونهيه عن مخالفته ، لَما تخلّفوا عن جيش أُسامة واحتملوا لعنة سيّد الأنبياء.
وقيل : إنّ النبيّ أراد تبعيدهم عن المدينة ؛ لتخلوَ لأمير المؤمنين وتصفوَ له الأُمور (3).
وأقول : هذا مما اعتقده أُولئك الصحابة ؛ فلذا أصرّوا على الخلاف واحتملوا اللعنة ، ونسبوه إلى الهجر (4).
ولكنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يعلم أنّ غاية أمرهم غصب خلافة وصيّه - وإنْ خرجوا عن المدينة - ، فأراد بيان حقائقهم لأُمّته وكشف حالهم للمسلمين على ممرّ الدهور.
ولكن أين مَن يقرّ له بالرسالة حقاً ، ويعرف أنّ أمره وحكمه من أمر اللّه وحكمه؟!
وأمّا ما استدلّ به الجزري (5) ، فقد عرفت بطلانه ؛ لأنّ الأمر بصلاة أبي بكر إنّما هو من ابنته صبح الاثنين ، وأنّ صلاته أوّل فتنة ونار
ص: 21
سُعّرت على الحق (1).
فاللازم أن يُعكس الأمر ويقال : إنّ كون أبي بكر من الجيش الذي لعن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مَن تخلّف عنه ، دليلٌ على أنّ صلاته لم تكن عن أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وكانت بدون علمه!
ص: 22
وقال الفضل (1) :
هذا ليس من روايات أهل السنة ، بل من روايات الروافض ، وإن سلّمنا صحّته فإنّ لكلّ إنسان شيطاناً ، كما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فسئل عنه : وأنت أيضاً يا رسول اللّه؟!
فقال : وأنا أيضاً ، إلاّ أنّه أعانني اللّه عليه فأسلم (2).
وهذا من باب إنصاف الصديق.
وأما طلب الرشاد ؛ فهو من طلب المشورة ، وقد أُمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بهذا في قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (3).
ولم يكن هذا استرشاداً ، بل استعانة في الرأي ، وتأليفاً لقلوب التابعين ؛ وكلام الصدّيق - إنْ صحّ الرواية - من هذا الباب.
ص: 24
عنهما في «كنز العمال» (1) ، ولفظهما هكذا :
«إنّ أبا بكر خطب فقال : أمَا واللّه ما أنا بخيركم - إلى أن قال : - أفتظنّون أنّي أعمل فيكم بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟! إذن لا أقوم بها! إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يُعصم بالوحي ، وكان معه ملَك ، وإنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني أن لا أُؤثّر في أشعاركم وأبشاركم».
ومنهم : الطبراني في «الأوسط» ، كما نقله عنه في «الكنز» أيضاً (2) ، إلاّ أنّه قال في حديثه : «إنّ لي شيطاناً يحضرني».
ومنهم : الزبير بن بكّار (3) ، كما حكاه عنه ابن أبي الحديد (4).
ويظهر من قاضي القضاة أنّ صدور هذا القول من أبي بكر مفروغٌ
ص: 26
عنه ، لكنّه أجاب عنه - كما في «شرح النهج» (1) - بأنّ هذا القول لو كان نقصاً فيه ، لكان قول اللّه في آدم وحوّاء : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ) (2) وقوله : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) (3) وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (4) يوجب النقص في الأنبياء ، وإذا لم يُوجب ذلك فكذا ما وصف به أبو بكر نفسه.
وإنّما أراد أنّه عند الغضب يُشفق من المعصية ، ويحذَر منها ، ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه ، وذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي.
وأورد عليه السيّد المرتضى طاب ثراه بما حاصله :
إنّ قول أبي بكر لا يشبه ما تلاه من الآيات ؛ لأنّ أبا بكر أخبر عن نفسه بطاعة الشيطان ، وأنّ عادته بها جارية ، وليس هذا بمنزلة من يلقي الشيطان في أُمنيّته ؛ أي : فكرته على سبيل الخاطر ، ولا يطيعه (5).
ص: 27
وقوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) معناه : أنّهما فعلا مكروهاً ؛ لأنّ الأنبياء لا يفعلون محرّماً ؛ للعصمة.
على أنّ القاضي يقول : إنّ هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحقّ عليها عقاباً ولا ذما ، وهي تجري - من بعض الوجوه - مجرى المباح ؛ لأنّها لا تؤثّر في أحوال فاعلها وحطّ رتبته.
فأين هي ممّا أخبر به أبو بكر عن نفسه ، من أنّ الشيطان يعتريه حتّى يؤثّر في الأشعار والأبشار على وجه الاعتياد ، وأنّه يأتي ما يستحقّ به التقويم؟!
ص: 28
ودعوى أنّ ذلك على وجه الإشفاق والخشية من المعصية ، لا تلائم قوله : «إنّ لي شيطاناً يعتريني ...» إلى آخره ؛ فإنّه قول مَن عرفَ عادته ، وأبانَ عن صفةِ طائش لا يملك نفسه.
انتهى.
وممّا ذكرنا يُعلم بطلان ما أجاب به الخصم من أنّ لكلّ إنسان شيطاناً ، فإنّ الإشكال ليس من حيث إنّ له شيطاناً فقط ، بل من حيث طاعته له على سبيل العادة ، كما يقتضيه كلامه.
وأما ما في أخبارهم من أنّ للنبيّ شيطاناً ؛ فكذب ، بل له ملَكٌ يسدّده ، كما دلّ عليه حديث ابن راهويه والهروي (1) ؛ ولإثباته محلّ آخر.
وبالجملة : قول أبي بكر طعنٌ به وبإمامته من وجوه :
الأوّل : ما دلّ عليه من أنّ له شيطاناً قريناً له ، وهو فرع العشوة عن ذِكر اللّه تعالى ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (2).
وبالضرورة أنّ من هو كذلك ، ولا سيّما إذا لم يُؤمَن على الأشعار والأبشار - كما صرّحت به الأخبار التي ذكرناها - لا يصلح للإمامة والولاية على رقاب الناس وأموالهم.
وما زعمه الخصم من أنّه من باب الإنصاف ؛ خطأٌ ؛ لأنّه صدّق قوله بفِعله ، فإنّه في أوّل إمارته فعل ذلك بعمر وهو أخصّ الناس به وأعظمهم
ص: 29
يداً ومنزلةً عنده ، فقد رووا أنّه أخذ بلحية عمر وقال له : «ثكلتك أُمك» (1) لمّا طلب منه استبدال أُسامة بغيره.
الثاني : إنّه دالٌّ على أنّه حادٌّ طائش ، وذو الحدّة والطيش لا يصلح للإمامة ، وقد أقرّ ابن أبي الحديد بحدّته بعد قول المرتضى : «إنّها صفة طائش لا يملك نفسه» ، قال : «لعمري ، إنّ أبا بكر كان حديداً ، وقد ذكره عمر بذلك ، وذكره غيره من الصحابة» (2).
روى في «الاستيعاب» بترجمة عليّ (عليه السلام) ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس : سُئل عن أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فوصف أبا بكر بالحدّة ، قال : مع حدة كانت فيه (3).
الثالث : إنّه طلب التقويم من رعيّته في هذه الخطبة ، وهو مناف لإمامته ؛ لحاجته إلى إمام آخر يقهره أو يرشده ، وحمله على طلب المشورة تأويل من غير دليل.
على أنّه أيضاً مناف للإمامة ؛ فإنّ الإمام أجلّ من أن يحتاج إلى مشورة أحد والاستعانة به ، وإلاّ لكان شريكاً له في الإمامة.
وأما أمر اللّه سبحانه نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالمشاورة ، فليس لنقصان فيه ،
ص: 30
بل للتأليف - كما سبق وجاءت به أخبارهم (1) - ، ودلّ عليه ظاهر الآية (2) ، وأقرّ به الرازي (3) ، والخصمُ نفسُه (4) ، وغيرُهما (5).
وليس أبو بكر كذلك ؛ لظهور حاجته إلى غيره ، وعليها اتّفقت الكلمة والآثار والأخبار.
ص: 31
وقال الفضل (1) :
لم يصحّ عندنا رواية هذا الخبر (2) ؛ وإنْ صحَّ كان تحذيراً من أن ينفرد الناس - بلا حضور العامة - بالبيعة ، ولهذا سمّاه بالفلتة ، وكان ذلك لضرورة داعية إليه ، وذلك أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) توفّي من غير استخلاف (3) ، وإنّما لم يستخلف النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ليُعلم أنّ نصب الإمام ليس من أُصول الشرائع ، بل هي من الواجبات على الأُمة (4).
فالواجب عليهم أنّ ينصبوا بعده ، ولهذا وَكَلَ أمرَها إليهم ، فلمّا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أراد الأنصار في سقيفة بني ساعدة أن ينصبوا بينهم أميراً منهم ، وكان هذا سبب الاختلاف الذي كان وقوعه سبباً لذهاب الإسلام ؛ لضعف القلوب وزيغها عن الإسلام بسبب وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وارتداد العرب ، فسارع أبو بكر وعمر إلى السقيفة لرفع الاختلاف ، ووقع (5) البيعة.
ولو كانا يؤخّران البيعة إلى حضور جميع الناس واتّفاق كلّ الآراء ، لكان يُخاف منه وقوع الفتنة والاختلاف ، فتسارعوا إلى عقد البيعة ، واكتفوا بإجماع أهل الحلّ والعقد ، وهم كانوا ذلك اليوم الأنصار ؛ لأنّهم كانوا
ص: 33
العسكر ، وأهل الحلّ والعقد في الخلافة هم العساكر وأُمراؤها.
فهذه الضرورة دعت إلى استعجال البيعة ؛ فلما تمّ هذا الأمر أراد عمر أن يبيّن للناس أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة دعت إليها الضرورة ، فلا تعادوا (1) إلى مثلها ، ولا تجعلوه دليلا ، فلا يتصوّر في هذا الكلام طعن ، لا في أبي بكر ولا في عمر.
وأمّا قوله : «يلزم خطأ أحد الرجلين ؛ لارتكاب أحدهما ما يوجب القتل» ..
فهذا كلام باطل ؛ لأنّ الارتكاب حال الضرورة لا ينافي تركه في غير حالها.
ص: 34
نقل ابن حجر هذا الكلام عن عمر في «الصواعق» (1) ، وأرسله إرسال المسلّمات.
وكذلك الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» (2).
ورواه البخاري في «باب رجم الحبلى» (3) ، ولكن لفظه هكذا :
«بلغني أنّ قائلا منكم يقول : واللّهِ لو مات عمر بايعت فلاناً! فلا يَغرَّنّ امرَأً أن يقول : إنّما كانت بيعةُ أبي بكر فلتةً وتمّت ؛ ألا وإنّها قد كانت كذلك ، ولكنّ اللّه وقى شرّها ، وليس منكم مَن تُقطَّع الأعناق إليه مثل أبي بكر ؛ مَن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يُبايَعُ هو ولا الذي بايعه تَغرّةَ (4) أن يُقتلا».
ثمّ قال في آخر خطبته مثل قوله الأخير ، إلاّ أنّه قال : «فلا يُتابَعُ» بالتاء المثنّاة.
ص: 35
وروى أحمد في «مسنده» هذه الخطبة (1) ، وقال في آخرها : «مَن بايع أميراً عن غير مشورة من المسلمين ، فلا بيعة له ولا بيعة للّذي بايعه ؛ تغرّة أن يُقتلا».
ونقله بعينه في «كنز العمال» (2) ، عن أحمد ، والبخاري ، وأبي عبيد في «الغرائب» ، والبيهقي.
ثمّ نقل عن ابن أبي شيبة ، أنّه خطب فقال في آخر خطبته : «كانت لعمري فلتة ، كما أعطى اللّه خيرها مَن وُقيَ شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه» (3).
وذكر أيضاً خطبته ابنُ أبي الحديد (4) ، نقلا عن الطبري ، ثمّ قال : «هذا حديث متّفق عليه من أهل السّير».
إلى أن قال : «فأمّا حديث الفلتة ، فقد كان سبقَ من عمر أن قال : إنّ بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
وهذا الحديث (5) الذي ذكرناه ... فيه حديث الفلتة ، ولكنّه منسوق على ما قاله أوّلا.
ص: 36
أَلا تراه يقول : (فلا يغرّنّ امرَأً أن يقول : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً ؛ فلقد كانت كذلك)!
فهذا يُشعر بأنّه قد كان قالَ مِن قَبلُ : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة» ؛ انتهى.
والمراد بالفلتة : إمّا الفتنة ؛ كما يظهر من الخصم (1) ، ونطقت بها رواية ابن الأثير في «كامله» (2) لمّا روى حديث السقيفة ، فإنّه رواها بلفظ «الفتنة» (3).
وهذا لا شكّ فيه ؛ فإنّ بيعة أبي بكر فتنةٌ وأيُّ فتنة؟! كانت أساس الفتن ورأسها.
وإمّا أن يُراد بها : الزلّة (4) والخطيئة ، كما هو ظاهر اللفظ ، وهي لعمري زلّة وخطيئة لا تُقال!
وإمّا أن يراد بها : الفجأة والبغتة ، كما زعمه بعض القوم إصلاحاً لهذه الفلتة (5).
وهو - لو سُلّم - لا ينفع بعدما حكم عمر بقتل من عاد لمثلها ، وأنّه
ص: 37
لا بيعة له ، وأنّ الشأن فيها أن يترتّب عليها الشرّ!
وأما اعتذار عمر بقوله : «وليس فيكم من تقطّع الأعناق إليه مثل أبي بكر» ..
فإن أراد به أنّ أبا بكر كان مسلّم الفضيلة ، بحيث يؤمن على بيعته الشرّ ، فهو مناف لقوله : «وقى اللّه شرّها» ؛ فإنّه صريح في أنّها غير مأمونة الشرّ.
وإن أراد به مجرّد أنّه مسلّم الفضيلة ، فهو - لو سُلّم - لا فائدة فيه بعدما كانت مخطورة الشرّ ، الذي هو المناط في فساد البيعة واستحقاق القتل عليها.
فقد اتّضح أنّ عمر قد طعن بخلافة أبي بكر بما لا يمكن معه الإصلاح!
ودعوى أنّ المعلوم من حاله إعظام أبي بكر ، والقول بإمامته - فلا يتصوّر منه القدح فيها ، ولا سيّما أنّ خلافته فرع من خلافته ، فلا بُد من تأويل كلامه - باطلة ..
فإنّه لو سُلّم إعظامه له واقعاً ، فطعنه في بيعته ليس بأعظم من طعنه بصلح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يوم الحديبية (1) ، ولا من نسبة الهجر إليه (2) ، أو نحو ذلك مما كان يفعله مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (3).
ص: 38
فإذا صدرت منه هذه الأُمور في حقّ سيّد المرسلين في حياته مواجهةً ، فكيف يُستبعد منه نحوه في حقّ أبي بكر بعد موته حتّى يلزم تأويل كلامه بما لا يتحمله اللفظ؟!
ومجرّد تفرّع خلافته عن خلافته لا يمنع من طعنه بها بعدما صار سلطاناً يُخشى ويُرجى ويمتنع عزله عادة ، ولا سيّما أنّ ما قاله معلوم للسامعين ، ووجوههم شركاؤه في هذه الفلتة.
فلا يستبعد منه أن يطعن بخلافة أبي بكر ؛ حذراً من أن تقع البيعة بعده لمن يكره بيعته ، وهو عليٌّ (عليه السلام) ، كما طعن برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالهجر ؛ لهذه العلّة!
نقل ابن أبي الحديد - بعد ذكر الخطبة المذكورة - ، عن الجاحظ ، أنّه قال : «إنّ الرجلَ الذي قال : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً ، عمّارُ بن ياسر ؛ قال : لو قد مات عمر بايعتُ عليا (عليه السلام).
فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به» (1).
ص: 39
وأما ما زعمه الخصم من الضرورة على النحو الذي قرّره ..
ففيه : منع كون الإمامة ليست من أُصول الشرائع (1) ، وأنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم ينصب إماما.
ولو سُلّم ، فلِمَ كانت بيعة سعد موجبة للاختلاف والفتنة لو قصد الشيخان وجه اللّه ونصر الإسلام؟!
وقد كان يمكنهما متابعة الأنصار فلا يقع اختلاف ولا فتنة ، ولا سيّما أنّ الأنصار - بقول الخصم - هم العساكر ، وأهل الحلّ والعقد!
وليست القُرشيّة شرطاً عند عمر ؛ ولذا تمنّى أن يكون معاذ (2) أو سالم مولى حذيفة حيا فيولّيه الأمر بعده (3).
وكذا ليست شرطاً عند الأنصار ؛ ولذا أرادوا الأمر لسعد ، وهم عدولٌ عند السنة.
ولو سُلّم لزوم مخالفة الأنصار ، بدعوى أنّ الخلافة لقريش - من حيث إنّها قريش - ، فلا معنى لتعيّن بيعة أبي بكر دون عليّ ، ولا سيّما أنّ بيعة عليّ (عليه السلام) دافعةٌ للشبهة عنهما ، وأقرب إلى منع الاختلاف ، ولو لقربه من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وزيادة اختصاصه به.
ص: 40
ولو أعرضنا عن ذلك ، فقد كان يمكنهم منع بيعة الأنصار والاختلاف الناشئ منها بأن يقول عمر : لا تجوز البيعة من دون مشورة المسلمين ؛ لأنّها فلتةٌ يُخاف شرُّها ، فانتظروا ريثما نفرغ من جهاز النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ويجتمع المسلمون ، فإنّ لهم حقاً في الرأي.
أترى أنّ ذلك لا يُرضي الأنصار ، ولم يكن أقرّ لعيونهم من بيعة أبي بكر رغماً على سعد وقومه؟!
بل تأخيرها إلى الاجتماع هو المتعيّن ؛ لأنّ مسارعتهم إلى بيعة أبي بكر في حال طلب الأنصار بيعة سعد أَوْلى بخوف الفتنة وذهاب الإسلام.
ثمّ إنّ ما ذكره الخصم من زيغ القلوب عن الإسلام ، لا وجه له ؛ لأنّ مَن حضر المدينة عدول كلّهم عند السنة ، ومَن لم يحضرها لم تُعلم حالهم عند وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، والقسم الوافر منهم من الصحابة ، وهم عدول ..
فمن أين عَلِمَ الشيخان زيغ القلوب حتّى ينشأ من الاختلاف حينئذ ذهابُ الإسلام؟!
ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه وقلنا بصحّة مسارعة عمر لبيعة أبي بكر ، فنهيه عن البيعة بعد موته من دون مشورة المسلمين خطأ ؛ لأنّ الحاجة حينئذ إلى المسارعة أشد ؛ لكثرة المسلمين ، وعدم تيسر اتّفاق آرائهم أو رؤسائهم ، فإذا وقعت البيعة لواحد وجب إتمامها على مذهب السنة ؛ لقولهم بانعقاد البيعة وثبوت الإمامة ولو بالواحد والاثنين (1).
ومنه تعلم أنّ إيجابَ عمرَ لضربِ عنقِ مَن يبايع فلتةٌ أُخرى ،
ص: 41
وحكمه بعدمِ انعقاد بيعته ظلمٌ له ، ومناف لقولهم بانعقادها ، ووجوبِ ضربِ عنقِ مَن نازعه ، ولزومِ الوفاءِ ببيعة الأوّل فالأوّل (1).
ولعمري ، إنّ من تأمّل الحقيقة ، ونظر بعين الإنصاف إلى تلك المسارعة في حال الاختلاف والنزاع الشديد بينهم وبين الأنصار ، عرف منهم عدم المبالاة بذهاب الإسلام في سبيل احتمال تحصيل الإمرة!
ثمّ إنّ الوجه في قول المصنّف لارتكاب أحدهما ما يوجب القتل ، ظاهر ؛ لأنّ حكم عمر بوجوب القتل وبطلان البيعة إنْ طابق الواقع ، كان أبو بكر مستوجبَ القتل غيرَ صحيح الإمامة ، وإلاّ كان عمر هو المستوجب للقتل ؛ لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2).
وحكمه ليس عن خطأ ، بل تبعٌ لهواه ، ولأنّه بايع أبا بكر على النحو الذي حكم هو بوجوب قتل المبايع!
* * *
ص: 42
وقال الفضل (1) :
إنْ صحّ هذا ، فهو من باب التواضع وتأليف قلوب التابعين ، وحقّ الإمام أن لا يُفضل نفسه على الرعيّة ولا يتكبّر عليهم.
وقد قيل : إنّه قال هذا بعدما شكا بعض أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) استئثاره للخلافة من غير انتظار لحضورهم ، فقال : أقيلوني ، فإنّي لا أُريد الخلافة ، وليس هي عندي شيء لا أقدر على طرحها ؛ وهذا من باب الاستظهار بترك الإيالة (2) والحكومة.
كما روي أنّ أمير المؤمنين كان يقول : لا تسوي الخلافة عندي نعلا مخصوفاً (3).
ومن حمل من أمثال هذه الكلام على خلاف ما ذكرناه وجعلها من المطاعن ، فهو جاهل بعرف الكلام.
* * *
ص: 44
تشكيكه في صحّة الرواية مناف لِما سيأتي منه من ثبوت القول المذكور في الصحاح (1) ، فقد حكاه عنها عند جوابه عن قول المصنّف : «ومنها : إنّه طلب هو وعمر إحراق بيت أمير المؤمنين (عليه السلام)» (2).
وقد روى نصير الدين (رحمه اللّه) في «التجريد» استقالة أبي بكر باللفظ الذي ذكره المصنّف (رحمه اللّه) ، ولم يناقش القوشجي في «الشرح» بصحّتها (3).
ورواها أبو عبد اللّه القاسم ، مصنّف كتاب «الأموال» ، كما نقل السيّد السعيد عنه (4).
وروى أيضاً استقالته جماعةٌ ..
منهم : ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ، لكن لم يذكر إلاّ قوله : «أقلتُكم بيعتي» (5) أو : «أقيلوني بيعتي» (6).
ومنهم : أبو نُعيم ، كما حكاه عنه في كتاب الخلافة من «كنز العمال» (7) ، ولفظه هكذا : «هي لكم ردٌّ ، ولا بيعةَ لكم عندي».
ص: 45
ومنهم : الطبراني في «الأوسط» ، كما حكاه عنه في «الكنز» أيضاً (1) ، ولفظه : «قد أقلتُكم رأيكم ، إنّي لستُ بخيركم».
ومنهم : العشاري ، كما نقله عنه في «الكنز» أيضاً (2) ، ولفظه : «قد أقلتُكم بيعتكم».
وقال ابن أبي الحديد (3) ، في شرح قول أمير المؤمنين (عليه السلام) من الخطبة الشقشقيّة : «فيا عجباً! بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته» ..
قال : «اختلف الرواة في هذه اللفظة ، فكثير من الناس رواها : أقيلوني! فلستُ بخيركم».
وذكرها ابن أبي الحديد أيضاً (4) ، في ما دار بين السيّد المرتضى وقاضي القضاة.
والإشكال فيها من وجهين :
الأوّل : في أصل استقالته.
الثاني : في قوله : «لستُ بخيركم».
فقد ذكره المصنّف في «منهاج الكرامة» ، قال : «لو كان إماماً لم يجز
ص: 46
له طلب الإقالة» (1).
وحكاه قاضي القضاة عن الشيعة ، كما ذكره ابن أبي الحديد في المقام الأخير (2).
وأجاب عنه القاضي وغيره من أصحابه بما حاصله ، أنّه لبيان الزهد في الإمارة (3).
وأجاب أيضاً ابن أبي الحديد عنه بمنع عدم جواز الاستقالة بناءً على أنّ الإمامة بالاختيار (4).
ويرد على الأوّل : إنّه خلاف الظاهر ، فلا يُصار إليه بغير دليل ، كيف؟! وقد علّل استقالته بما يقضي بعدم إمامته ؛ وهو قوله : «لستُ بخيركم» ، فلا يتّجه حمله على الزهد فيها!
وحينئذ فلا يقاس على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الصريح بالزهد فيها.
ويرد على الثاني : إنّ البناء على الاختيار إنّما هو في أصل انعقادها ، فإلحاق الحلّ به ممّا لا دليل عليه ، بل مخالف لقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5) ونحوه (6).
ص: 47
فهو الذي ذكره المصنّف هنا ، وحاصله :
إنّ أبا بكر إنْ كان صادقاً في أنّه ليس خيرهم ، لم يصلح للإمامة ؛ لاشتراطها بالأفضلية ، كما يقتضيه تعليل أبي بكر لاستقالته بنفي خيريّته.
وإنْ كان كاذباً لم يصلح لها أيضاً ؛ إذ لا أقلَّ من منافاة الكذب للعدالة التي هي شرط الإمامة عندهم ؛ لأنّ الكذب من الكبائر.
وأجاب ابن أبي الحديد باختيار الشقّ الأوّل ، وأنّه يجوز تقديم المفضول على الفاضل (1).
وفيه - مع ما حقّقناه في ما سبق من اشتراط الأفضلية (2) - : إنّه مناف لتعليل أبي بكر لاستقالته بنفي خيريّته.
وأجاب بعضهم باختيار الشقّ الثاني على أن يكون كذباً في الظاهر مقصود به التواضع ، وهو لا ينافي العدالة ؛ لعدم حرمته مع هذا القصد (3).
وفيه - مع عدم الدليل عليه - : إنّه مناف للحلف على عدم خيريّته في رواية الهروي وابن راهويه عن الحسن ، كما حكيناه عن «الكنز» قريباً ..
قال الحسن : إنّ أبا بكر خطب فقال : «أَمَا واللّه ما أنا بخيركم» (4) .. الحديث.
ص: 48
وكيف يُحمل على التواضع وقد قال في بعض الأخبار : «وعليٌّ فيكم»؟!
فإنّ عليا (عليه السلام) إنْ لم يكن معلومَ الفضل عليه ، فلا أقلّ من كونه محلَّ الشكّ ، فكيف يُصرف إلى التواضع؟!
والظاهر أنّه إنّما نصّ على عليّ (عليه السلام) عند استقالته ونفي خيريّته ؛ لأنّه يريد تهييج الرأي العامّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وتحريض أعوانه عليه ليبلغ أحد الأمرين :
إمّا انفراد عليّ (عليه السلام) ، أو قتله ؛ فيأمَن بذلك على مستقبله.
ثمّ إنّ إقراره بأنّه ليس بخيرهم لا يختصّ بمقام الاستقالة ، بل أقرّ به في مقام آخر ..
فإنّه خطب بأوّل ولايته فقال : «وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم» ، كما رواه الطبري في «تاريخه» (1) ، وابن الأثير في «كامله» (2).
وحكاه في «كنز العمال» (3) ، عن البيهقي ، عن الحسن.
وعن ابن إسحاق في «السيرة» (4) ، عن أنس ؛ وقال : ابن كثير : «إسناده صحيح».
ص: 49
وعن ابن سعد ، والخطيب ، والمحاملي في «أماليه» ، عن عروة (1).
وعن الهروي ، عن قيس بن أبي حازم (2).
ونقله في «الصواعق» (3) ، عن الخطيب ، وابن سعد أيضاً.
* * *
ص: 50
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : قوله عند موته : «ليتني كنت سألت رسول اللّه هل للأنصار في هذا الأمر حق؟» (2).
وهذا شكٌّ في صحّة ما كان عليه وبطلانه ، وهو الذي دفع الأنصار لمّا قالوا : «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله : «الأئمة في قريش» (3).
فإن كان الذي رواه حقاً ، فكيف حصل له الشكّ؟! وإلاّ فقد دفع بالباطل!
* * *
ص: 51
وقال الفضل (1) :
إنْ صحّ هذا فمن باب الاحتياط وزيادة الإيقان ، وأنّه لمّا دفع الأنصار عن الخلافة كان تقواه تدعو إلى طلب النصّ.
فأمّا حديث : «الأئمّة في قريش» فلم يروه أبو بكر ، بل رواه غيره من الصحابة ، وكان هو لا يعتمد على خبر الواحد ، وكان تمنّى أن يسمع هو بنفسه عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عدم حقّية الأنصار في الخلافة.
وهذا من غاية تقواه وحرصه على زيادة العلم والإيقان.
ص: 52
روى الطبري من طريقين (1) ، أنّ أبا بكر قال في مرض موته :
«لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتُهنّ ووددت أنّي تركتُهنّ ، وثلاث تركتُهنّ ووددت أنّي فعلتُهنّ ، وثلاث وددتُ أنّي سألتُ عنهن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فأمّا الثلاث التي وددتُ أنّي تركتُهنّ : فوددتُ أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب.
ووددتُ أنّي يوم السقيفة كنتُ قذفتُ الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - ، فكان أحدهما أميراً وكنتُ وزيراً.
إلى أن قال : ووددتُ أنّي سألتُ رسول اللّه لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد (2).
ووددتُ أنّي سألتُه : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟
ووددتُ أنّي كنتُ سألتُه عن ميراث ابنة الأخ والعمة ، فإنّ في نفسي منها شيئاً.
ونحوه في «الإمامة والسياسة» (3) ..
ص: 53
و «العقد الفريد» (1).
وكذا في «كنز العمال» (2) ، عن أبي عبيد في كتاب «الأموال» ، والعقيلي ، وخيثمة بن سليمان الطرابلسي ، والطبراني ، وابن عساكر ، وسعيد بن منصور ، قال : «وقال : إنّه حديث حسن».
فأنت تراه صريحاً في الشكّ والشبهة ؛ لتمنّيه السؤال وقوله : «إنّ في نفسي منها شيئاً».
وحمله على زيادة الإيقان يحتاج إلى صارف قويّ ، وهو مفقود.
فإن قلت : لا يصحّ حمل كلامه على الشكّ في خلافته ؛ إذ لا قائل بأنّ الخلافة مقصورة على الأنصار ؛ وإنّما الكلام في أنّها مخصوصة بقريش ، أو هي فوضى ، فتكون خلافته على كلا الأمرين صحيحة ولا يتصوّر الشكّ فيها.
هذا محصل كلام ابن أبي الحديد (3).
قلت : أصل الشكّ متعلّق بجهة دفعه للأنصار ، وهو يحصل على تقدير القول بأنّها فوضى ، ولا يتوقّف على القول باختصاصها بالأنصار.
فإذا شكّ في صحّة دفعه لهم ، كان شاكاً في صحّة خلافته ؛ لأنّها فرعٌ عن صحة دفع الأنصار.
ص: 54
ومن السخف قول الخصم : «و [أنّه] لمّا دفع الأنصار عن الخلافة كان تقواه تدعو إلى طلب النصّ» ؛ فإنّ من تدعوه تقواه إلى طلب النصّ ويتشوّق إلى معرفته ، كيف لا تدعوه إلى التوقّف عن الخلافة حدوثاً واستمراراً ، وعن تعيين عمر بعده؟!
وأمّا ما ذكره مِن أنّ حديث : «الأئمّة من قريش» لم يروه أبو بكر ..
فصحيح ؛ إذ لم يروه هو ولا غيره يوم السقيفة ، وإنّما قالوا : «إنّ قريشاً عشيرة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، والعرب لا تطيع سواهم ، ولا يصلح هذا الأمر إلاّ لقريش ؛ أو نحو ذلك ، من دون أن يرووه عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كما سبق بيانه في المبحث الثالث من مباحث الإمامة (1).
لكن لا ريب أنّ أبا بكر وأعوانه دفعوا الأنصار بشيء ، فإنْ كان حقاً فكيف حصل الشكّ؟!
وإنْ كان باطلا ، فقد دفع بالباطل ، كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه).
ودعوى عروض الشكّ له أخيراً في ما كان يراه حقاً تستدعي أن لا يستمرّ على الخلافة ، وأن لا يعقدها لعمرَ بعده.
وأمّا قوله : «وكان هو لا يعتمد على خبر الواحد» ..
فهو أَوْلى بتقريع أبي بكر ، فإنّه اعتمد على ما ليس حجّةً ، ودفع الأنصار عن دعواهم بلا برهان!
ص: 55
وقال الفضل (1) :
إنْ صحّ هذا فهو من باب التبرّي عن الإيالة والخلافة ، كما هو دأب العارفين باللّه ، ويكون تحذيراً لمن يأتي بعده ؛ ليعلموا أنّ أمر الخلافة صعب ، ولا يطمع فيه كلّ مهَوَّس (2) ، وهذا من باب الشفقة على الأُمّة ، سيّما الخلفاء وأرباب الرايات ، ولا يُتصوّر فيه طعن.
وأمّا ما ذكره من كشف بيت فاطمة ، فلم يصحّ بهذا رواية قطعاً.
ص: 57
كونه من باب التبرّي عن الإيالة غير صحيح ، وإلاّ لَما تمنّى منصباً آخر ، ولا سيّما ما هو قريب من الإمامة ، وهو الوزارة.
بل يدلّ على صعوبة أمر الخلافة عليه فتمنّى أنّه لم يتولّها ، كما فهمه قاضي القضاة ، ولكن قال : «لا ذمّ على أبي بكر فيه ؛ فإنّ من اشتدّ عليه التكليف فهو يتمنّى خلافه» (1).
واعترض عليه السيّد المرتضى (رحمه اللّه) بأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ومؤدّياً إلى الفتنة ، فالتمنّي لخلافها لا يكون إلاّ قبيحاً (2).
وأجاب عنه ابن أبي الحديد (3) بأنّ أبا بكر ما تمنّى أن يكون الإمام غيره مع استلزام ذلك للمفسدة ، بل تمنّى أن يليَ الأمر غيره وتكون المصلحة بحالها.
يَرِدُ عليه : إنّ التقييد بأن تكون المصلحة بحالها غير مفهوم من كلام أبي بكر ، وإنّما تمنّى أن يقذف الأمر بعنق أحد الرجلين على الحال
ص: 58
نفسها يوم السقيفة ؛ فيتمّ اعتراض المرتضى (رحمه اللّه).
وأما قول الخصم : «وهذا من باب الشفقة على الأُمّة ، سيّما الخلفاء وأرباب الرايات» ..
فباطل ؛ لأنّ من يريد تحذير هؤلاء ويشفق عليهم لا يختار الوزارة التي هي أقرب المناصب إلى الخلافة ، بل يختار العزلة.
وأمّا كشف بيت فاطمة (عليها السلام) ، فقد عرفت في المطلب السابق رواية الجماعة له (1) ، وسيأتي تفصيله قريباً إن شاء اللّه تعالى (2).
ص: 59
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يولّهِ شيئاً من الأعمال وولّى غيره ، وأنفذه لأداء سورة براءة ثمّ ردّه (2).
فمن لم يُستصلَح لأداء آيات ، كيف يُستصلَح للرئاسة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى عموم الرعايا في سائر البلاد؟!
ص: 60
وقال الفضل (1) :
دعوى عدم توليته دعوى زور باطل ، مخالف للمتواتر ؛ فإنّه لا نزاع بين أحد في أنّ أبا بكر كان وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يصدر في شيء ولا يقدم على أمر إلاّ عن رأيه ومشاورته.
وكان أمير المؤمنين عليٌّ يقول : كثيراً ما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر ، وجئتُ أنا وأبو بكر وعمر ، وقلتُ أنا وأبو بكر وعمر» (2).
فلا أمر في الإسلام ، ولا تولية ، ولا عزل ، إلاّ برأيهما ومشاورتهما.
ثمّ إنّه في معظم الغزوات كان أبو بكر صاحب راية المهاجرين ؛ وكان في غزوة تبوك ، آخر غزوة غزاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وما اجتمع له من العساكر في غزوة مثل ما اجتمع في هذه الغزوة ، وكان صاحب الراية الكبرى أبا بكر الصدّيق.
ثمّ إنّه تولّى الحجّ في سنة تسع من الهجرة.
وأمّا بعث عليّ بقراءة سورة براءة ونبذ العهود ، فقد ذكرنا سببه (3).
ثمّ نقول لهذا الرجل العامّيّ ، الجاهل بالأخبار والآثار :
ص: 61
كان أبو بكر يُستصلَح لإقامةِ الدين من أوّل نشوء الإسلام إلى آخره وإظهارِ آثار النبوّة ..
أتزعم أنّه لم يقدر على قراءة عشر من القرآن على العرب ، وهو أمير الحجّ ونائب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في الحجّ؟!
ومِن غاية جهلك بالأخبار أنّك تدّعي أنّه لمّا لحقه عليٌّ رجع قبل الحجّ!
فيا أيّها الجاهل! مَن حجَّ تلك السنة إنْ رجع أبو بكر؟!
أتدّعي أنّ عليا كان أمير الحاجّ تلك السنة وتخالف المتواتر ، أم تدّعي أنّه لم يحجّ في سنة تسع أحد؟!
وكل هذا من جهلك وبغضك!
أمَا تستحي مِن ناظر في كتابك يا سفيه البطاط (1)؟!
ثمّ من تولّى الإمامة والصلاة بالمسلمين أيام مرض
ص: 62
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
أتدّعي أنّه لم يصلِّ بالناس؟! أَوَلَمْ يأمره رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالصلاة في أيام المرض؟!
وكلّ هذا - ممّا يدّعيه - باطلٌ ومخالفٌ لصحاح الأخبار الجارية مجرى المتواترات.
وأيّ ولاية أتمُّ من ولاية الصلاة؟! وقد قال ابن عبّاس : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يصلِّ خلف أحد من أُمته - ما خلا عبد الرحمن بن عوف في ركعة من السفر (1) - إلاّ أبو بكر الصدّيق.
ثمّ إنّك لا تستصلحه لولاية أمر من الأُمور؟! أُفّ وويلٌ لك يا أعرابيّ ، الجافُّ الجاهل!
ص: 63
من الواضح أنّه لا يصحّ الاستدلال على خصم إلاّ بما هو حجةٌ عليه.
ولذا ترى المصنّف (رحمه اللّه) يستدلّ على القوم بأخبارهم ونحوها ممّا هو حجّة عليهم ، ولا يذكر شيئاً من أخبارنا ، مع أنّها أصرح في مطلوبه وأصحّ عنده.
وحينئذ : فما رواه الخصم من أعمال أبي بكر حقيق بالإعراض عنه.
على أنّ كلّ ما ذكره باطل في نفسه ..
أما دعوى عدم النزاع لأحد في أنّ أبا بكر كان وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فمهزأةٌ عند الشيعة ، وممنوعة عند كثير من السنة وأكثر علمائهم وأرباب صحاحهم ، فإنّهم لم يرووا حديث الوزارة ، ولو كان له نوعُ صحة عندهم لاهتمّوا بذِكره وصيّروه أصحّ الأخبار.
نعم ، رواه الترمذي - واستغربه - بلفظ ظاهر الكذب ؛ وهو أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «ما مِن نبيّ إلاّ وله وزيران من أهل السماء ، ووزيران من أهل الأرض ؛ فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل وميكائيل ، وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» (1).
ص: 64
ولا شكّ بكذبه ؛ لأمرين :
الأوّل : إنّه لم يُسمع أن تكون الملائكة وزراء للأنبياء - ولا سيّما على وجه الكلّية - ، ولو كان الأمر كذلك لاستفاض نقله ، وما خفي حاله ؛ لكونه من العجائب.
الثاني : إنّ صحاحهم جاءت بقول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لعليّ (عليه السلام) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؛ فيكون وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1).
فإذا خصّت رواية الترمذي الوزارة بالشيخين ، كانت كاذبةً جزماً ؛ لمعارضتها بالقطعي.
وأمّا قوله : «لا يصدر في شيء ولا يقدم على أمر إلاّ عن رأيه ومشورته» ..
فمن الكذب الظاهر أيضاً ، بل الموجب للكفر ؛ لإفادته النقص في سيّد النبيّين!
فأيّ نقص فيه أعظم من نسبته إلى الحاجة إلى أبي بكر حتّى يلقّنه في كلّ شيء ، ويوقفه على كلّ أمر؟!
على أنّ المنشأ في هذا الزعم إنْ كان هو دعوى الوزارة ، فقد عرفت منعها ، مع أنّها لا تقتضيه.
وإنْ كان ما رووه في نزول قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (2) بأبي بكر وعمر (3) ..
ص: 65
فمع أنّه لا يدلّ على مطلوبه ، قد مرّ مراراً أنّه للتأليف (1) ، وأنّه على ذمّهما أدلّ ، وكلّ مشورة تقع من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما تكون للتأليف ، والاستصلاح ، أو للتعليم والتأديب ، أو لاستعلام ما في نفس المستشار ، أو نحو ذلك (2).
وأما ما نقله عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ فهو أكذب من سوابقه ، ولا سيّما قوله : «وقلتُ أنا وأبو بكر وعمر» ، فإنّه من إضافات هذا الخصم على رواياتهم ، فهو كذبٌ على كذب ؛ إذ لا وجود له في أصل الرواية التي رواها البخاري ومسلم في مناقب عمر (3).
وكيف يمكن أن يقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ذلك على سبيل العادة ، إلاّ أن يكونا شريكين له في النبوّة ، أو قيّده نقصانُ رأيه بهما؟! حاشا عظيمِ مقامه!! (4).
ص: 66
ثمّ ما المراد بذهاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومجيئه معهما؟!
فإنْ كان هو التردّد في البلد ، الذي يصحبه فيه كلّ أحد ، فلا فضل لهما به.
وإنْ كان هو الكون معه في المقامات المهمّة ؛ كمصادمة الشجعان ومنازلة الأقران ، فهو ليس لهما ، بل كانا يفارقانه فيها ويفرّان بأنفسهما عنه (1).
وأما قوله : «ثمّ إنّ في معظم الغزوات كان أبو بكر صاحب راية المهاجرين» ..
فكذبٌ أيضاً ، وإنّما ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما بيّنّاه في المطلب المتعلّق بجهاده ، في الجزء الثاني (2).
ص: 67
وكيف يكون صاحب رايتهم في معظم الغزوات ، ولم يُحكَ أنّه أصاب أو أُصيب ، وأراق دماً أو أُريق منه دم؟!
ولا أدري من أين أخذ الخصم كونه صاحب الراية في معظم الغزوات ، وفي غزوة تبوك ، ولم تذكره كتب التاريخ والأخبار؟!
نعم ، أعطاه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الراية يوم خيبر ، فرجع منهزماً يُجبّن أصحابه ويجبّنونه ، كصاحبه عمر ، كما سبق (1).
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى حجّ أبي بكر وعزله بعليّ (عليه السلام) ؛ فقد تقدّم بيان الحق فيه في الحديث السادس من الأحاديث التي استدلّ بها المصنّف (رحمه اللّه) على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وذكرنا هناك جملة من أخبارهم المصرّحة برجوع أبي بكر عند لحاق أمير المؤمنين له (2).
وأما قوله : «كان أبو بكر يُستصلح لإقامة الدين ...» إلى آخره ..
فدعوى بلا بيّنة ، وحكمٌ بلا برهان!
وأما قوله : «أتزعم أنّه لم يقدر على قراءة عشر من القرآن؟!» ..
ففيه : إنّ المصنّف لم يزعم هذا ، وإنّما يقول : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاف على رسوله الوهنَ ؛ لجبنه ، أو الجهل بكثير ممّا يُسأل عنه ، أو الخيانة
ص: 68
ومصانعة الكفار.
وإنّما أرسله أوّلا - مع هذه الأحوال - ؛ ليظهر للناس أخيراً حاله ، ويعلمهم من عدم استصلاحه لذلك أنّه لا يصلح للرئاسة العامّة بالأولويّة ، ويبيّن لهم فضل أمير المؤمنين عليه ومحلّه منه ، ويعرّفهم أنّ مثل هذا الأمر إذا لم يصلح إلاّ له أو لمن هو منه - كما نطقت به الأخبار - فكيف بالإمامة؟!
وأما قوله : «أتدّعي أنّ عليا كان أمير الحاجّ في تلك السنة؟!» ..
ففيه : إنّه لا مانع من هذه الدعوى بعد نصبه للمطلب الأسنى ، وقيامه بالأمر بعد رجوع أبي بكر - لا سيّما وهو من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى - ، فإنّه مغن عن النصّ عليه بإمرة الحاجّ لو سلّمنا أنّه غير منصوص عليه.
وليست دعواهم كون أبي بكر أمير الحاجّ في تلك السنة إلاّ لاستلزامِ تركِ النبيِّ لنصبِ الأميرِ مخالفةَ عادتِه ، وعادةِ الرؤساء ، ومخالفةَ العقلِ في مثل هذه المواطن المحتاجة إلى أمير.
فليت شعري ، لِم أجازوا أن يترك أُمّته بعد موته بلا إمام مع انتشارِهم في الأرض ، وتشتّتِ أهوائهم ، وقربِ عهدهم بالكفر ، والفوضويّة؟!
ومجرّد قصد التشريع لا يتوقّف على الفعل ، بل يكفي فيه القول ، ولا سيّما أنّه لم يتّفق أنّ أحداً من ملوك الإسلام ترك رعيّته بلا نصبِ مَن يقوم بعده ، حتّى يهتمّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لبيان جواز عمله ، بل لا معنى للتشريع بعمل لم يتبعه عملُ مثلِه أصلا ، ولم يقتدِ به أحدٌ من الأُمّة أو غيرها.
ص: 69
وأما قوله : «وتخالف المتواتر» ..
فمناف لِما سبق منه ، من انحصار المتواتر في خبر أو خبرين (1).
وأمّا ما ذكره في ما يتعلق بالصلاة ، فقد سبق تحقيق الحقّ فيه قريباً ، وأنّ أبا بكر لم يتقدّم للصلاة إلاّ صبح الاثنين يوم وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأمر عائشة (2).
ولمّا علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عرف أنّهم انتهزوا الفرصة ، فتكلّف للخروج أشدّ التكلّف ، ونحّى أبا بكر وابتدأ في الصلاة ، دفعاً للتلبيس الذي صنعوه.
على أنّ الإمامة في الصلاة ليست من الأعمال التي تحتاج إلى تولية حتّى يذكرها الخصم في المقام ؛ فإنّها جائزة عندهم لكلّ مَن يَعرف القراءة ، وإنْ كان جاهلا فاسقاً.
فلو فرض أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمره بالصلاة في الناس ، لم تثبت له ولاية في الصلاة ولا غيرها.
وأمّا ما رواه عن ابن عبّاس فهو من الكذبات الواضحة ، حتّى منعه بعضهم ..
قال في «السيرة» (3) : «ومن خصائصه - أي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في ما حكى القاضي عياض - : أنّه لا يجوز لأحد أن يؤمّه ؛ لأنّه لا يصحّ التقدّم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها ، لا لعذر ولا لغيره ، وقد نهى اللّه
ص: 70
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه منع فاطمة إرثها ، فقالت : يا بن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟!
واحتجّ عليها برواية تفرّد هو بها عن جميع المسلمين ، مع قلّة رواياته ، وقلّة علمه ، وكونه الغريم ؛ لأنّ الصدقة تحلّ عليه ، فقال لها : إنّ النبيّ قال : «نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث ، ما تركناه صدقة» (2).
والقرآن مخالف لذلك ؛ فإنّ صريحه يقتضي دخول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيه بقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) (3).
وقد نصّ على أنّ الأنبياء يُورَثون ، فقال تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (4).
وقال عن زكريا : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (5).
ص: 72
وناقض فِعلُه - أيضاً - هذه الرواية ؛ لأنّ أمير المؤمنين والعبّاس ، اختلفا في بغلة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسيفه وعمامته ، وحكم بها ميراثاً لأمير المؤمنين (1).
ولو كانت صدقة لَما حلّت على عليّ (عليه السلام) ، وكان يجب على أبي بكر انتزاعها منه ، ولكان أهل البيت - الّذين حكى اللّه تعالى عنهم بأنّه طهّرهم تطهيراً - مرتكبين ما لا يجوز!
نعوذ باللّه من هذه المقالات الرديّة والاعتقادات الفاسدة!
وأخذ فدكاً من فاطمة (2) ، وقد وهبها إيّاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم يصدّقها ، مع أنّ اللّه قد طهّرها وزكّاها واستعان بها النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في الدعاء على الكفّار ، على ما حكى اللّه تعالى وأمرَه بذلك ، فقال تعالى : ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) (3).
فكيف يأمره اللّه تعالى بالاستعانة - وهو سيّد المرسلين - بابنته وهي كاذبة في دعواها ، غاصبة لمال غيرها؟!
نعوذ باللّه من ذلك!
فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، فشهد لها ، فلم يَقبل شهادته ، قال :
ص: 73
إنّه يجرّ إلى نفسه (1)!
وهذا من قلّة معرفته بالأحكام!
ومع أنّ اللّه تعالى قد نصّ في آية المباهلة أنّه نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة ، واستعان به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأمر اللّه في الدعاء يوم المباهلة ، أن يشهد بالباطل ويكذب ويغصب المسلمين أموالهم؟! نعوذ باللّه من هذه المقالة!
وشهد لها الحسنان (عليهما السلام) ، فردّ شهادتهما وقال : هذان ابناك! لا أقبل شهادتهما ؛ لأنّهما يجرّان نفعاً بشهادتهما.
وهذا من قلّة معرفته بالأحكام أيضاً!
مع أنّ اللّه قد أمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال : ( أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) ، وحكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة (2) ، فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور والكذب وغصب المسلمين حقهم؟! نعوذ باللّه من ذلك!
ثمّ جاءت بأُمّ أيمن ، فقال : امرأة لا يُقبَل قولها! مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «أُمّ أيمن من أهل الجنّة» (3).
فعند ذلك غضبت عليه وعلى صاحبه ، وحلفت أن لا تكلّمه ولا صاحبه حتّى تلقى أباها وتشكو إليه (4).
ص: 74
فلمّا حضرتها الوفاة أوصت أن تُدفن ليلا ، ولا يدع أحداً منهم يصلّي عليها (1) ، وقد رووا جميعاً أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (2).
ص: 75
وقال الفضل (1) :
لا بُد في هذا المقام من تحقيق أمر فدك ، ليتبيّن حقيقة الأمر ، فنقول :
كانت فدك قرية من قرى خيبر ، ولما فتح اللّه خيبر على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) جلا أهلُ فدك ففتحت ؛ فكان مما أفاء اللّه عليه من غير إيجاف (2) خيل ولا رِكاب ، فصار من أقسام الفيء ، وكان تحت يد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما يكون أموال الفيء تحت أيدي الأئمة.
وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ينفق منها على عياله وأهل بيته ، ثمّ يصرف ما يفضل عن نفقة عياله في السلاح والكرَاع (3).
فلمّا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وترك أزواجاً وأهل بيت ، ولم يكن يحلّ لأزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التزويج بعده ؛ لأنّهن كنّ أُمّهات المؤمنين ، ولم يكن سعةٌ في أموال الفيء حتّى ينفقَ الخليفةُ على أزواجه من سائر جهات الفيء ويترك فدك لفاطمة وأولادها ، فعمل أبو بكر في فدك مثل عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان ينفق منها على أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وفاطمة
ص: 76
وأولادها ، وما كان يفضل عن نفقتهنّ يصرفها في السلاح والكراع لسبيل اللّه ، كما كان يفعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فلمّا انتهى أمر الخلافة إلى عمر بن الخطّاب ، حصل في الفيء سعة ، وكثرت خُمسُ الغنائم وأموالُ الفيء والخراج ، فجعل عمر لكلّ واحد من أزواج النبيّ عطاءً من بيت المال ، وردّ سهم بني النضير إلى عليّ وعبّاس ، وجعلها فيهم ليعملوا بها كيف شاءُوا.
وقد ذكر في «صحيح البخاري» أنّ عليا وعبّاساً تنازعا في سهم بني النضير ، ورفعا أمرها إلى عمر بن الخطّاب ، فذكر أنّ أمركم كان هكذا ، ثمّ ذكر أنّه تركها لهم ليعملوا كيف شاءُوا (1).
هذا ما كان من أمر حقيقة فدك.
وأما دعوى فاطمة إرث فدك ، وأنّها منحولة لها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم يثبت في الصحاح ؛ وإنْ صحَّ ، فكلّ ما ذكر من المطاعن في أبي بكر - بحكمه في فدك - فليس بطعن.
أما ما ذكر أنّه احتجّ برواية الحديث وعارض به النصّ ، فإنّ الحديث إذا صحّ بشرائطه فهو يُخصّص حكم الكتاب.
وأما ما ذكر أنّ أبا بكر تفرّد برواية هذا الحديث من بين سائر المسلمين ، فهذا كذب صراح ؛ فإنّ عمر قال بمحضر عليّ وعبّاس وجمع من الصحابة : «أنشدكم باللّه ، هل سمعتم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نُورَث ما تركناه (2) صدقة.
ص: 77
فقالوا جميعاً : اللّهمّ نعم» ، كما رواه البخاري في «صحيحه» (1).
وروى - أيضاً - في «الصحيح» فقال : حدّثنا عبد اللّه بن يوسف ، قال : حدّثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا تقتسم ورثتي ديناراً ، وما تركت - بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي - فهو صدقة» (2) ؛ انتهى.
فكيف يقول هذا الفاجر الكاذب : إنّ أبا بكر تفرّد برواية حديث عدم توريث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فإن قيل : لا بُد لكم من بيان حجّية هذا الحديث ، ومن بيان ترجيحه على الآية.
قلنا : حجّية خبر الواحد والترجيح ممّا لا حاجة بنا إليه ها هنا ؛ لأنّ أبا بكر كان حاكماً بما سمعه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلا اشتباه عنده في سنده ، وعلم - أيضاً - دلالته على ما حمله عليه من المعنى ؛ لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها إليه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعياً مخصِّصاً للعمومات الواردة في بيان الإرث.
وأما ما ذكر أنّ أبا بكر لا يُسمع عنه هذا الخبر ؛ لأنّه كان غريماً ؛ لأنّ الصدقة تحلّ له ؛ فما أجهله بالفرق بين الشهادة والرواية ؛ فإنّ الشهادة لا تُسمع من الغريم الذي يجرّ النفع ، والرواية ليست كذلك ، وهذا معلوم عند العامة ومجهول عنده.
وأما ما ذكر من النصوص على أنّ الأنبياء يُورَثون ؛ لقوله تعالى :
ص: 78
( وورث سليمانُ داودَ ) (1) ؛ فالمراد : ميراث العِلم والنبوّة والحكمة.
وأمّا دعاء زكريّا ؛ فاتّفق العلماء أنّ المراد منه : النبوّة والحبورة (2) ، وإلاّ لم يُستجب دعاؤه ؛ لأنّ الإجماع على أنّ يحيى قُتل قبل زكريا ، فكيف يصحّ حمله على الميراث وهو لم يرث منه؟!
وأمّا ما ذكره أنّه ناقض فعله في توريث عليّ في السيف والعمامة ..
فالجواب : أنّه أعطاهما عليا ؛ لأنّه كان المصالِح ، والصدقة في هذا الحديث لا يُراد بها الزكاة المحرّمة على أهل البيت ، بل المراد : أنّها من جملة بيت مال المسلمين ، وقد يطلق الصدقة بالمعنى الأعمّ ، وهو كلّ مال يُرصد لمصالح المسلمين والجنود ، وبهذا المعنى يشمل خُمس الغنائم ، والفيء ، والخراج ، ومال من لا وارث له من المسلمين ، والزكوات ؛ وقد يُطلق ويُراد به : الزكوات المفروضة والصدقة المسنونة المتبرّع بها ، وهاتان الأخيرتان كانتا محرّمتين على أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعطى أبو بكر سيف رسول اللّه وعمامته عليا ؛ لأنّه كان من جملة مال من لا وارث له مِن المسلمين ، ولو كان ميراثاً لكان العبّاس وارثاً أيضاً ؛ لأنّه كان العمّ.
وأمّا قوله : «لكان أهل البيت - الّذين حكى اللّه عنهم بأنّه
ص: 79
طهّرهم ... (1) - مرتكبين ما لا يجوز» ..
فنقول : أهلُ البيت - على هذا التقدير - كانوا مدّعين لحقّهم ، والإمام يُفرض عليه أن يعامل الناس بالأحكام الشرعيّة ، ولو أنّ ملَكاً من الملائكة يدّعي حقاً له - مع وجوب عصمته ، وتيقّن صدقه - فليس للإمام أن يقول : هو صادق ولا يحتاج إلى البيّنة لعصمته من الكذب ؛ بل الواجب عليه أن يطلب الحجة في قوله.
أمَا سمعت أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ادّعى على يهودي عند شريح القاضي ، فطلب منه الحجّة ، فأتى بالحسن بن عليّ ، فما قبل شهادته وقال : إنّه فرع ؛ فقال أمير المؤمنين : لستَ أهلا للقضاء! ألا تعلم أنّ هذه الدعوى لحق بيت المال ، وها هنا تُسمع شهادة الفرع؟! (2).
والغرض : أنّ الإمام والقاضي يجب عليهما مراعاة ظاهر الشرع ، وهو أن لا يسمع قول المدّعي إلاّ بالحجّة وإن تحقّق عصمته عن الكذب ، فلو تمّ حجةٌ حكَم ، وإلاّ توقف.
ولو صحّ قصة مرافعة فدك ، فأبو بكر عمل فيه ما كان يجب عليه من طلب الحجة من المدّعي ، وإن اعتقد عصمته من الكذب.
وأمّا ما ذكر أنّ الحسنين شهدا لها ولم يسمع أبو بكر ، فإنْ صحّ فربّما كان لصغرهما ، ولعدم سماع شهادة الفرع كما فعل شريح ، وهذا لا طعن فيه كما ذكرنا ؛ لأنّه مراع لقواعد الشرع ، وشريح حكم بطلب
ص: 80
الحجة وإتمامها على وجه يرتضيه الشرع ، فلا طعن.
وأمّا عدم سماع شهادة أُمّ أيمن - إنْ صحّ - ؛ فلأنّها قاصرةٌ عن نصاب الشهادة ؛ فإنّها شهدت مع عليّ ، وهو من باب شهادة رجل وامرأة ، وكان لا بُد من التكميل ، ولا طعن على الحاكم إذا راعى ظاهر الشرع في الأحكام ، وأبو بكر ليس أقلّ قدراً من شريح - وقد عمل مع أمير المؤمنين في أيّام خلافته مثل هذا - وهو كان قاضياً لأمير المؤمنين ، فكيف يتصوّر الطعن؟!
فأما غضب فاطمة ، فهو من العوارض البشرية ، والبشر لا يخلو من الغضب ، والغاضب على الغير قد يغضب لغرض ديني ، لقصور المغضوب عليه في أداء حقّ اللّه ، وهذا الغضب من باب العداوة الدينية ، وما ذكر من الحديث : «إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة» فالظاهر أنّ المرادَ هذا الغضب.
ص: 81
ما زعمه من أنّ فدك قرية من قرى خيبر ، مخالف للضرورة ، ومناف - أيضاً - لأخبارهم.
روى الطبري في «تاريخه» ، بحوادث سنة سبع من الهجرة (1) ، من حديث قال فيه : «حاصر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أهل خيبر في حصنيهم الوَطيح (2) والسُّلالِم (3) ، حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يُسيّرهم ويحقن دماءهم ، ففعل.
وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد حاز الأموال كلّها : الشِّقّ (4) ونَطَاة (5)
ص: 82
والكتيبة (1) ، وجميع حصونهم ، إلاّ ما كان من ذَينِكَ الحصنَين ، فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يسألونه أن يسيّرهم ويحقن دماءهم ويخلّوا [له] لأموال ، ففعل ، - إلى أن قال : - فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللّه أن يعاملهم بالأموال على النصف ... فصالحهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على النصف ... وصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّهم لم يُجلِبوا عليها بخَيل ولا رِكاب» .. الحديث.
وروى الطبري أيضاً (2) ، قال : «كانت المقاسم على أموال خيبر على الشِّقّ ونَطَاة والكَتيبة ، فكانت الشِّقّ ونَطَاة في سُهْمان المسلمين (3) ، وكانت الكتيبة خمس اللّه وخمس النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسهم ذي القربى - إلى أن قال : - ولمّا فرغ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر قذف اللّه الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع اللّه بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول اللّه يصالحونه على النصف من فدك ... فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)
ص: 83
خاصة ؛ لأنّه لم يوجف عليها بخَيل ولا رِكاب».
وروى ابن الأثير في «الكامل» نحو هذين الخبرين (1) ، ثمّ قال (2) : «لمّا انصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر بعث ... إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ... فصالحوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على نصف الأرض ، فقبل منهم ذلك ، وكان نصف فدك خالصاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه لم يُوجف عليه بخَيل ولا رِكاب».
وروى البخاري (3) ومسلم (4) : «أنّ فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا نُورَث ما تركناه (5) صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال ؛ وإنّي واللّه لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللّه ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً» (6) .. الحديث.
وروى مسلم أيضاً (7) : «أنّ فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة
ص: 84
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يَقْسِم لها ميراثها ممّا ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ممّا أفاء اللّه عليه ؛ فقال لها أبو بكر : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا نُورَث ما تركناه (1) صدقة ...
وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال : لستُ تاركاً شيئاً كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يعمل به إلاّ عملت به ، إنّي أخشى إنْ تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
فأمّا صدقته بالمدينة ، فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس فغلبه عليها عليٌّ.
وأما خيبر وفدك ، فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كانتا لحقوقه التي تَعرُوه ونوائبِه ، وأمرُهما إلى مَن وَلِيَ الأمرَ.
قال : فهما على ذلك إلى اليوم».
ونحوه في «صحيح البخاري» (2) ، و «مسند أحمد» (3).
وذكر البخاري - في هذا الحديث - أنّها غضبت فهجرت أبا بكر ، ولم تزل مهاجرته حتّى توفّيت (4).
وذكر هو ومسلم - في الحديث الأوّل - أنّها وَجَدتْ (5) على أبي بكر
ص: 85
في ذلك فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها عليٌّ ليلا ، ولم يُؤْذِن بها أبا بكر ، وصلّى عليها (1).
فأنت ترى أنّ هذه الأخبار صريحة الدلالة على أنّ فدك غير خيبر ، ومثلها في أخبارهم كثير (2) ، فكيف زعم الخصم أنّها من قُراها؟!
وبهذه الأخبار التي ذكرناها يُعلم أنّ فدك وكلّ ما لم يُوجف عليه بخيل أو رِكاب ملكٌ لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاصة ..
فقول الخصم : «وكان تحت يد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما يكون أموال الفيء تحت أيدي الأئمة» (3) ، باطل ؛ فإنّ ظاهره أنّه للمصالح العامة لا للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاصّة ، وهو مخالف للأخبار السابقة وضرورة الإسلام.
ولعلّه أخذ هذه الدعوى من قول أبي بكر في الحديث الأوّل : «إنّي واللّه لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عن حالها التي كانت عليها ، ولأعملنّ فيها بما عمل» (4).
وقوله في الحديث الثاني : «لستُ تاركاً شيئاً كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يعمل به» (5).
ص: 86
فإنّ هذين القولين دالاّن على أنّ متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كانت صدقة في أيامه.
وفيه : إنّ كلام أبي بكر متناقضٌ ، فلا ينبغي أن يُعتمد عليه ؛ لأنّ متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنْ كانت من الصدقات في أيامه لم يكن محلٌّ لروايته أنّ الأنبياء لا يُورَثون ؛ إذ لا ميراث حتّى يحتاج لرواية هذا الحديث.
وإنْ كانت ملكاً لرسول اللّه ، كان خوف أبي بكر من مخالفة عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تقشّفاً كاذباً ؛ لأنّ عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حيث وقع كان بنحو الملك ، فلا يلزم أبا بكر أن يعمل كعمله ، وقد صارت بزعمهم صدقة من سائر صدقات المسلمين التي يجوز تخصيص بعضهم فيها ، كما خصّ هو عليا بسلاح النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وبغلته بعنوان الصدقة - كما ادّعاه الخصم (1) - ، وخصّ عمر عليا والعبّاس بصدقة المدينة.
وأما ما زعمه من أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان ينفق على عياله من فدك ، فيكذّبه ما رواه البخاري (2) ومسلم (3) ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان ينفق على أهله نفقة سنة من أموال بني النضير ، وما بقي يجعله في الكرَاع والسلاح.
ويكذّبه - أيضاً - الحديث الذي أشار إليه الخصم ، المشتمل على قصّة منازعة عليّ والعبّاس في مال بني النضير ؛ فإنّ عمر قال فيه : «كان
ص: 87
رسول اللّه ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال» (1).
وما رواه البغوي في «المصابيح» ، في باب الفيء ، من الحسان ، عن عمر ، قال : «كان لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث صَفايا (2) : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك.
فأما بنو النضير ؛ فكانت حبساً لنوائبه (3).
وأما فدك ؛ فكانت حبساً لأبناء السبيل.
وأما خيبر ، فجزّأها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ثلاثة أجزاء : جزءَين بين المسلمين ، وجزءاً نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين» (4).
فإنّ هذه الأخبار مُكذّبة لِما ادّعاه الخصم من أنّ نفقة عيال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من فدك ، كما أنّها متكاذبة فيما بينها ؛ لدلالة الخبرين الأوّلين على أنّها من بني النضير ؛ ودلالة خبر البغوي على أنّها من خيبر!
على أنّه لو كانت فدك محلّ نفقة عيال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في سنين ، لَما خفي ذلك على عياله والمسلمين ، ولا سيّما أنّ الفاضل عن نفقتهم - بزعم الخصم - يصرف في الكرَاع والسلاح ، فكيف يمكن لفاطمة (عليها السلام) دعوى
ص: 88
أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدك من يوم ملَكها ، ثمّ يشهد لها بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
وكيف لا تنعى عليها (1) عائشة هذه الدعوى نصرةً لأبيها؟!
وأمّا قوله : «ولم يكن سعةٌ في أموال الفيء حتّى ينفق الخليفة على أزواجه من سائر جهات الفيء ويترك فدك لفاطمة» ..
فعذرٌ بارد ؛ لأنّ الحقوق الشرعيّة لم تكن تضيق عن نفقة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي تعوّدن عليها في أيامه.
ولا أظنّ أنّها كانت في ذلك الوقت تبلغ ما أعطاه جابرَ بن عبد اللّه في أيّام وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا جاءه مال البحرين ، فإنّه أعطاه ألفاً وخمسمئة درهم ، كما رواه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، وأحمد في «مسنده» (4).
وكذا أعطى غيرَه نحو ذلك ..
ففي «كنز العمّال» (5) ، عن ابن سعد : «سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : مَن كانت له عِدَةٌ عند
ص: 89
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فليأت! فيأتيه رجالٌ فيعطيهم.
فجاءه أبو بشير المازني فقال : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال لي : إذا جاءنا شيء فأتنا ؛ فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً ، فوجدها ألفاً وأربعمئة».
بل لم تكن نفقة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ القليل ممّا وهبه أبو بكر لمعاذ بن جبل ..
روى في «الاستيعاب» - بترجمة معاذ - ، أنّه مكث باليمن أميراً ، وكان أوّل من اتّجر بمال اللّه ، فمكث حتّى أصاب ، وحتّى قُبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فلمّا قدم قال عمر لأبي بكر : أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيّشه وخذ سائره منه.
إلى أن قال : فقال أبو بكر : لا آخذ منك شيئاً ، قد وهبته لك (1).
ونحوه في «كنز العمال» (2) ، عن عبد الرزّاق ، وابن راهويه.
كما أنّ نفقتهنّ لا تبلغ إلاّ اليسير ممّا أعطاه لأبي سفيان ..
ففي «شرح النهج» (3) ، عن الجوهري في «كتاب السقيفة» ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعث أبا سفيان ساعياً ، فرجع من سعايته وقد مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال : مَن وليَ بعده؟ قيل : أبو بكر ؛ قال : أبو فَصيل (4)؟! قالوا : نعم.
ص: 90
إلى أن قال : فكلّم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدِم ، وإنّا لا نأمن شرّه ، فَدعْ (1) له ما في يده ؛ فتركه ، فرضيَ.
وأنت تعلم أنّ مال السعاية التي يوجّه بها أبو سفيان ، ويرشى به في أمر الخلافة ، ويرضيه ممّن ازدراه واستصغره ؛ لهو من أكثر الأموال!
فإذا وسع مال اللّه هذه العطيات ونحوها ، فكيف يضيق عن نفقة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
ولو فرض أنّه يضيق عنها ، فقد كان من شرع الإحسان وحفظ الذمام لسيّد المرسلين أن يضيّقوا على أنفسهم وينفقوا على الأزواج من مال اللّه ، أو يضمّ أبو بكر وعمر ابنتيهما إلى عيالهما ويطيّبوا نفس بضعة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بإعطائها فدك التي أفاء اللّه بها عليه ، ولا يلجِئُها إلى النزاع في تلك المقامات ويغضبوها حتّى الممات.
أترى أنّ من بنى لقومه بيت شرف ومجد ، وجعل لهم مملكة يزاحمون بها الممالك العظمى ، ثمّ مات وخلّف بينهم بنتاً واحدة ، ومالا يقوم بكفايتها ، فهل يحسن منهم أن ينتزعوا منها ذلك المال قهراً بحجة أنّه يعود إلى المملكة؟!
وهل ترى مَن يفعل ذلك معدوداً من حافظي حقّ الأب وذمامه ، أو معدوداً من المضيّعين لحقّه وأعدائه؟!
ص: 91
فكيف بسيّد النبيّين ، الذي بنى لهم شرف الدنيا والدين ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، وهداهم - لو آمنوا - إلى الصراط المستقيم ، وما خلّف بينهم إلاّ بنتاً وصفها بأنّها بضعته ، وأنّها سيّدة نساء العالمين ، وأنّها (1) يغضبه ما يُغضبها؟!
وأمّا قوله : «فعمل أبو بكر في فدك مثل عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان ينفق [منها] على أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وفاطمة وأولادها» ..
فكذب ظاهر ؛ إذ - مع أنّ نفقة الأزواج بحسب أخبارهم السابقة كانت من مال بني النضير أو خيبر - إنّ سيّدة النساء لم تقم بين أظهرهم إلاّ مدّة يسيرة ساخطة عليهم ، فمتى أخذت من أيديهم؟!
مضافاً إلى ما رواه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» ..
فإنّه لم يستثن إلاّ نفقة نساء النبيّ ومؤنة عامله ، فلا تكون نفقة فاطمة (عليها السلام) وأولادها منها!
والظاهر أنّ فدك صارت من مختصّات أبي بكر وعمر ، كما عن السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (4).
ويدلّ عليه ما رواه أبو داود في «سننه» في «باب صفايا رسول اللّه»
ص: 92
من «كتاب الخراج» ، عن أبي الطفيل ، قال : «جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها من النبيّ ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه يقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أطعم نبيا طُعمةً فهي للذي يقوم بعده» (1).
ونحوه في «كنز العمّال» (2) ، عن أحمد ، وأبي داود ، وابن جرير ، والبيهقي.
بل الظاهر أنّ خيبر أيضاً مختصّة بهما وصارت طعمة لهما ؛ لِما سبق عن البخاري ، ومسلم ، وأحمد ، أنّ عمر أمسك خيبر وفدك وقال : هما صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كانتا لحقوقه التي تعروه ، وأمرُهما إلى مَن وليَ الأمر (3) ..
فإنّه دالٌّ على أنّ عمر وأبا بكر قد اتّخذا فدك وخيبر لحقوقهما ونوائبهما طعمةً لهما ، وهو ممّا يزيد في اللوم والتقريع لهما في منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً وسهمها من خيبر.
وأمّا قوله : «فلمّا انتهى أمر الخلافة إلى عمر - إلى قوله : - ردّ سهم بني النضير إلى عليّ وعبّاس» ..
فمن الجهل الواضح ؛ لأنّه يدلّ على زعمه اتّحاد سهم بني النضير وفدك ؛ لأنّ كلامه في فدك وتحقيقِ أمرِها ، وهما بالضرورة مختلفان ،
ص: 93
والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فتح بني النضير في سنة أربع (1) ، وفدك في سنة سبع (2).
على أنّ عمر لم يردّ شيئاً من فدك وسهم بني النضير ، وإنّما زعموا أنّه ردّ صدقته بالمدينة ، كما سبق في حديث البخاري ومسلم وأحمد (3).
لكنّ الظاهر أنّ الخصم أخذ دعوى ردّ عمر لسهم بني النضير من الخبر المشتمل على منازعة أمير المؤمنين والعبّاس ، فإنّه دالٌّ على ذلك ، فيتناقض مع ما دلّ على أنّه إنّما ردّ صدقته بالمدينة!
فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما بيّنه الخصم في تاريخ فدك ، جهلٌ في كذب!
وهل هو أعلم بحقيقتها من الطاهرة العالمة؟!
وأمّا ما يظهر منه من التشكيك في دعوى فاطمة (عليها السلام) ، فمن الغرائب!
ليت شعري ، إذا لم تدع أحدهما ، فما هذا الذي وقع بينها وبين أبي بكر ، ممّا ملأ العالم ذِكرُه ، وشوّه وجه التاريخ أمرُه؟!
ولنتكلّم في الدعويين :
أمّا دعوى الإرث ، فقد اشتملت عليها صحاح أخبارهم ، وقد سمعت بعضها ، ولشهرتها ووضوحها لا نحتاج إلى تطويل الكلام بإثباتها ، ولمّا ادّعت الميراث ، ردّها أبو بكر بالحديث الذي رواه ، فكذّبته وقالت من خطبة طويلة : «يا بن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد
ص: 94
جئتَ شيئاً فريا» كما ذكره ابن أبي الحديد (1) ، واستدلّت (عليها السلام) بالآيات التي ذكرها المصنّف (رحمه اللّه).
كما استدلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً بآيتَي سليمان ويحيى (2) ، كما في «كنز العمّال» (3) ، عن ابن سعد.
وأمّا قوله : «الحديث إذا صحّ بشرائطه [فهو] يُخصّص حكم الكتاب» ..
فصحيحٌ ، لكنّ الكلام في حصول الشرائط - كما ستعرف - على أنّ آيتَي إرث سليمان ويحيى خاصّتان ، فلا يعارضهما الحديث وإنْ صحّ.
وأما تكذيبه للمصنّف في دعوى تفرّد أبي بكر ، فباطل ؛ لأنّ المصنّف لم يستبدّ بهذه الدعوى ، بل سبقته إليها عائشة ، وكانت أعلمَ بتفرّد أبيها!
فقد نقل في «كنز العمال» (4) ، في فضائل أبي بكر ، عن البغوي ، وأبي بكر في «الغيلانيّات» ، وابن عساكر ؛ عن عائشة ، قالت : «لمّا توفّي
ص: 95
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) اشرأبَّ (1) النفاق ، وارتدّت العرب ، وانحازت الأنصار ، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لَهاضها (2) ، فما اختلفوا بنقطة إلاّ طار أبي بغنائها وفصلها ؛ قالوا : أين يُدفن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علماً ؛ فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : ما من نبيّ يُقبض إلاّ دُفن تحت مضجعه الذي مات فيه.
واختلفوا في ميراثه ، فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة».
ونقله ابن حجر في «الصواعق» (3) عن هؤلاء الجماعة.
ويدلّ - أيضاً - على تفرّد أبي بكر ، ما رواه أحمد في «مسنده» (4) ، عن عمر ، قال في جملة كلامه : «حدّثني أبو بكر - وحلف بأنّه لصادق - أنّه سمع النبيّ يقول : إنّ النبيّ لا يورَث ، وإنّما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين».
وقال ابن أبي الحديد (5) : «أكثر الروايات أنّه لم يروِ هذا الخبر إلاّ أبو بكر وحدَه ، ذكر ذلك معظم المحدّثين ، حتّى إنّ الفقهاء أطبقوا على
ص: 96
ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد.
وقال شيخنا أبو عليّ : لا يُقبل في الرواية إلاّ رواية اثنين ، كالشهادة ، فخالفه المتكلّمون والفقهاء كلّهم ، واحتجّوا بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده : (نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث) ، حتّى إنّ بعض أصحاب أبي عليّ تكلّف لذلك جواباً ، فقال : قد رُوي أنّ أبا بكر يوم حاجّ فاطمة قال : أنشُد اللّه امرَأً سمع من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في هذا شيئاً؟
فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنّه سمعه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)»!
وأمّا استدلال الخصم لعدم تفرّد أبي بكر بقول عمر بمحضر عليّ والعبّاس وغيرهما ، فهو مما رواه البخاري (1) من طرق ، ومسلم (2) ، والألفاظ متقاربة ، وهو من الكذب الصريح ؛ لأُمور :
الأوّل : إنّه يصرّح بأنّ عمر ناشد القوم - ومن جملتهم عثمان - ، فشهدوا بأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا نُورَث» ، وهو مناف لِما رواه البخاري (3) عن عائشة ، أنّها قالت : «أرسل أزواجُ النبيّ عثمانَ إلى أبي بكر يسألنه ثُمنهنَّ ممّا أفاء اللّه على رسوله ، فكنت أنا أردّهُنّ» .. الحديث.
فإنّه يقتضي أن يكون عثمان جاهلا بذلك ، وإلاّ لامتنع أن يكون رسولا لهنّ إلاّ أن يظنّ القومُ فيه السوء!
الثاني : إنّه لو كان القوم الّذين ناشدهم عمر عالمين بما رواه أبو بكر ، لَما تفرّد أبو بكر بروايته عند منازعة فاطمة (عليها السلام) له.
ص: 97
فهل تراهم ذخروا شهادتهم لعمر ، وأخفوها عن أبي بكر وهو إليها أحوج؟!
الثالث : إنّ أحاديث البخاري صريحةٌ في أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والعبّاس طلبا من عمر الميراث ، حيث يقول في أحدها : «جئتماني وكلِمتكما واحدة ، [وأمركما واحد] ، جئتني يا عبّاس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا نورَث ما تركناه صدقة» (1).
وقريب منه ما في حديثيه الآخرَين (2).
فكيف يُتصوّر أن يطلبا من عمر الميراث وهما يعلمان أنّ النبيّ لا يُورَث؟!
وهو من الكذب الفظيع ؛ لمنافاته لدينهما وشأنهما ، وكونه من طلب المستحيل عادة ؛ لأنّ أبا بكر قد حسم أمره ، وكان أكبرَ أعوانِه عليه عمر ، فكيف يطلبان منه الميراث؟!
ومع ذلك ، فكيف دفع لهما عمر مال بني النضير ليعملا به عمله وعمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، وهما قد جاءاه يطلبان الميراث مخالفين لعلمهما ، غير مباليَين بحكم اللّه ورسوله - حاشاهما - ، فيكون قدحاً في عمر؟!
الرابع : إنّ أمير المؤمنين والعبّاس لو سمعا من النبيّ ما رواه أبو بكر حتّى أقرّا به لعمر ، فكيف يقول لهما عمر - كما في حديث مسلم - : «رأيتما أبا بكر كاذباً آثماً غادراً خائناً ؛ ورأيتماني كاذباً آثماً غادراً
ص: 98
خائناً» (1)؟!
الخامس : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لو سمع ذلك فلِمَ ترك بضعة الرسول أن تطالب بما لا حقّ لها فيه؟!
أأخفى ذلك عنها راضياً بأن تغصب مال المسلمين ، أو أعلمها فلم تُبالِ وَعَدتْ على ما ليس لها فيه حقّ ، فيكون الكتاب كاذباً أو غالطاً بشهادته لهما بالطهارة (2)؟!
فلا مندوحة لمن صدّق اللّه وكتابه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يقول بكذب هذه الأحاديث.
السادس : إنّه ذكر في حديث مسلم - ويعزُّ علَيَّ نقله ، وإنْ كان ناقل الكفر ليس بكافر - ، أنّ العبّاس قال لعمر : «اقضِ بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن» (3).
وهذا ممّا لا يتصوّر صدوره من العبّاس ؛ إذ كيف ينسب لعليّ الكذب والأثم والغدر والخيانة وهو يعلم أنّه نفس النبيّ الأمين (4) ، وأنّ اللّه سبحانه شهد له بالطهارة؟!
ص: 99
وكيف يسبه وقد علم أنّ من سبه سب اللّه ورسوله (1)؟!
اللّهمّ إلاّ أن يكون كافراً مخالفاً لِما عُلم وثبت بالضرورة! والعبّاس أجلّ قدراً وأعلى شأناً من ذلك ، فلا بُد أن يكون هذا القول مكذوباً على العبّاس من المنافقين الّذين يريدون سب الإمام الحقّ ، ووضعوا هذا الحديث لإصلاح حال أبي بكر وعمر من دون فهم ورويّة!
وأما حديث أبي هريرة - الذي استدلّ به الخصم - لعدم تفرّد أبي بكر ، فهو من الكذب المجمَع عليه ؛ لمخالفته لمذهبنا كما هو ظاهر ، ولمذهبهم ؛ لأنّهم يزعمون أنّ ما تركه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صدقةٌ كلُّه ، فلا وجهَ لاستثناء نفقة نسائه.
وليس هذا الكذب إلاّ من أبي هريرة ؛ تزلّفاً لأهل الخلاف بلا معرفة (2).
ص: 100
ص: 101
ص: 102
ص: 103
فإذا عرفت أنّ أبا بكر متفرّد بهذه الرواية ، عرفت أنّه لا يصحّ التعويل عليها ؛ إذ لا يمكن أن يُخفي نبيُّ الرحمة والهدى هذا الحكم عمّن هو محلُّ الابتلاء به - وهم ورثته - ، ويعرّف به أجنبيا واحداً ، حتّى يصير سبباً للفتنة والخلاف بين ابنته الطاهرة ومَن يلي أمر الأُمة إلى أن ماتت غضبى عليه ، وهو قد قال في حقّها : «إنّ اللّه يغضب لغضبها ، ويرضى لرضاها» (1) ..
و «يؤذيني ما يؤذيها» (2).
ص: 104
فكان هذا البيان لفضلها مع ذلك الإخفاء عنها ، سبباً لاختلاف أُمته والعداوة بينهم إلى الأبد ؛ لأنّهم بين ناصر لها وقاطع بصوابها ، وبين ناصر لأبي بكر وراض بعمله.
وكيف يُتصوّر أن يُخفيَ هذا الحكم عن أخيه (1) ، ونفسه (2) ، وباب مدينة عِلمه (3) ، ومَن عندَه عِلم الكتاب (4) ، ويُظهره لغيره (5)؟!
ليت شعري! ألم تكن لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رأفةٌ على بضعته فيعلمها حكمها ويصونها عن الخروج إلى المحافل مطالبة بما لا تستحقّ ، وتعود بالفشل راغمةً مهضومة؟!
ما أظنّ مؤمناً برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، عارفاً بشأنه ، يلتزم بصحة هذا
ص: 105
الخبر مع هذه المفاسد!
وأما ما أجاب به عن السؤال بقوله : «فإن قيل : لا بُد لكم من بيان حجّية هذا الحديث ، ومن بيان ترجيحه على الآية» ..
ففيه : إنّ دعوى الحكومة لأبي بكر في المقام خطأٌ ؛ فإنّه خصم بحت ؛ لاستحقاقه لهذه الصدقة ، وإنْ فُرض غناه ؛ لأنّها من الصدقات بالمعنى الأعمّ الذي ادّعاه الخصم.
بل أبو بكر أظهر الناس خصومةً ؛ لأنّه يزعم أنّ أمر صدقات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) راجعٌ إلى وليّ الأمر بعده ، وأنّه وليّه.
وليت شعري لِمَ صار أمير المؤمنين (عليه السلام) خصماً لليهودي في الرواية التي ذكرها الفضل ورجع إلى شريح ، وصار أبو بكر هو الحكَم في ما ادّعاه على الزكيّة الطاهرة؟!
ولو سُلّم أنّ له الحكومة وإنْ كان خصماً ، فالحديث الذي استند إليه في الحكم عليها ليس قطعيّ الدلالة ؛ لاحتمال أن يريد به النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : أنّا لا نترك شيئاً من المال يبقى بعدنا لورثتنا (1) ، بل نصرفه في وجوه البرّ ؛ إذ ليس من شأننا جمع المال كالملوك ، وما نتركه بعدنا إنّما هو من مال الصدقات التي لنا الولاية عليها.
وحينئذ لو اتّفق بقاء مال يملكه النبيّ لسبب يُرجح بقاءه (2) ، لا يمتنع أن يكون إرثاً لورثته.
ص: 106
وقول الخصم : «لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها إليه بقرينة الحال ...» إلى آخره ..
رجمٌ بالغيب ؛ إذ لا دليل على وجود قرينة الحال لولا حمل أبي بكر على الصحّة ، وهو ليس أَوْلى بالحمل على الصحّة من أهل البيت الملغين لحديثه!
نعم ، لا ينكر ظهور حديثه في مطلوبه ، لكنّه لو صحّ لا يصلح لمعارضة ظهور الآيات في توريث الأنبياء ، لا سيما ما تعرّض منها لإرث الأنبياء بخصوصهم.
وأمّا ما زعمه من الفرق بين الشهادة والرواية ..
فممنوعٌ إذا كانت الرواة لإثبات الحاكم مدّعاه بروايته ؛ إذ تلحقه التهمة بإرادة جرّ النفع إلى نفسه ، كالشاهد!
وأما ما أجاب به عن آية إرث سليمان ..
فمخالف للظاهر ، بل غير صحيح ؛ لأنّ سليمان كان نبيا في حياة أبيه ، فكيف يرث منه النبوّة؟!
وكذا العلم ؛ لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (1) .. الآية.
فإنّه دالٌّ على أنّ كلاًّ منهما قد أُوتي علماً بالأصالة ؛ ولذا قال سبحانه : ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) (2) ، فيدلّ قوله : ( وَوَرِثَ ) على أنّه ورث منه أمراً آخر غير العلم ، وينصرف إلى المال.
ص: 107
وإنّما بيّن سبحانه إرثه للمال ؛ للدلالة على أنّه بقيَ بعده ، وأنّ الأنبياء تُورِّث المالَ وترثُ منه.
وأما ما ذكره بالنسبة إلى دعاء زكريا (عليه السلام) ..
فيَرِدُ عليه أوّلا : منعُ اتّفاق العلماء على إرادة النبوّة والحبورة ؛ لمخالفة أهل البيت وشيعتهم جميعاً (1) ، وأكثر علماء التفسير من العامة (2) ..
قال الرازي في تفسير الآية : «اختلفوا في المراد بالميراث على وجوه :
أحدها : إنّ المراد بالميراث في الموضعين : هو وراثة المال ؛ وهذا قول ابن عبّاس والحسن والضحاك.
وثانيها : إنّ المراد في الموضعين : وراثة النبوّة ؛ وهو قول أبي صالح (3).
وثالثها : يرثني المال ، و [يرث] من آل يعقوب النبوّة ؛ وهو قول السدي ومجاهد والشعبي ، وروي أيضاً عن ابن عبّاس والحسن والضحاك (4).
ورابعها : يرثني العِلمَ ، ويرث من آل يعقوب النبوّة ؛ وهو مرويٌّ عن
ص: 108
مجاهد» (1).
وحكى السيوطي في «الدرّ المنثور» ، عن الفريابي ، أنّه أخرج عن ابن عبّاس ، قال : «كان زكريّا لا يُولد له ، فسأل ربّه فقال : ربّ هب ( لي من لَدنك وليا * يرثني ويرثُ من آل يعقوبَ ) (2).
قال : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة» (3).
ويَرِدُ عليه ثانياً : إنّ دعواه الإجماع على أنّ يحيى قُتل قبل أبيه باطلة ؛ لأنّها من قبيل دعوى الإجماع على خلاف ما أنزل اللّه تعالى ، قال سبحانه : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ... فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي ... ) (4).
فإنّه يستلزم بمقتضى استجابة دعاء زكريّا أن يكون يحيى قد بقيَ بعد أبيه ؛ لأنّ الوراثة تستدعي بقاء الوارث بعد الموروث.
وثالثاً : إنّه لا بُد من حمل الآية على ميراث المال لا النبوّة ؛ لأُمور :
الأوّل : إنّ يحيى (عليه السلام) كان نبيا في حياة أبيه وهو صبيّ ، فلا معنى لأن يكون وارثاً للنبوّة من أبيه ، مع أنّ النبوّة لا تحصل بالميراث إلاّ بالتجوّز ، وهو خلاف الظاهر.
الثاني : إنّ الموالي كانوا شرار بني إسرائيل ، كما في «الكشّاف» (5) ،
ص: 109
وغيره (1) ، فلا يجوز أن يرثوا النبوّة حتّى يخافهم من ورائه ، ويدعوَ أن يهب اللّه له وارثاً غيرَهم.
ولو فُرض إمكان نبوّتهم ، فلا وجه لخوفه من إرثهم للنبوّة إلاّ البخل بنعمة اللّه على الغير ، وهو كما ترى ، بل ينبغي سروره بذلك لخروجهم من الضلال إلى الهدى.
ودعوى أنّه ما خاف أن يرثوا النبوّة ، بل خاف أن يُضيّعوا الدين ويغيّروه ، فدعا ربّه أن يهب له ولداً حافظاً للدين ، مانعاً لهم عن الفساد ، ممنوعة ؛ لبعدها عن سوق الآيات وخصوصيّات الكلام ، التي منها أنّه طلب وليّاً ، وهو لا خصوصيّة له في تحصيل هذا الغرض ، وطلب أن يكون رضيّاً من دون قيد التمكّن من دفعهم عن الفساد.
الثالث : إنّه لو كان المراد : ولداً وارثاً للنبوّة ، لكان دعاؤه أن يجعله رضيا ، فضولا ؛ إذ لا تكون النبوّة إلاّ لرضيّ ، والحال أنّ ظاهره التقييد.
كما يشهد له ما حكاه السيوطي في «الدرّ المنثور» ، عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن محمّد بن كعب ، قال : «قال داود : يا ربّ! هبْ لي ابناً ؛ فوُلد له ابنٌ خرج عليه ، فبعث له داودُ جيشاً ..
إلى أن قال : ربّ إنّي سألت أن تهب لي ابناً ، فخرج علَيَّ؟!
قال : إنّك لم تستثنِ!
قال محمّد بن كعب : لم يقل كما قال زكريا : ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ
ص: 110
هذا ، ولا يُستبعد من زكريّا أن يطلب وارثاً لماله ، وإن لم يدخل المال تحت نظر الأنبياء ؛ لأنّه خاف أن يرث الموالي ماله فيستعينون به على معاصي اللّه تعالى.
ولا يُشكَل بأنّه إذا خاف ذلك أمكنه أن يتصدّق بماله فيحصل له ثواب الصدقة ويتمّ غرضه ؛ وذلك لأنّه لا يرجح أن يُفقِر الإنسانُ نفسَه باختياره ابتداءً منه ، وكلّما نال مالا أخرجه في آنه ، قال تعالى : ( وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) (3).
على أنّ طلب الولد الصالح الذي يتعاهد أباه بماله ونتائجه وعمله أَوْلى من الصدقة.
وأما ما أجاب به عن مناقضة فعل أبي بكر لروايته في توريث السيف والعمامة ، فيبتني ردّه على الإحاطة بأخبارهم الحاكية لكيفيّة وصول السيف والعمامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولم يتيسّر لي الآن ذلك (4).
ص: 111
ولكن لأبي بكر مناقضة أُخرى اطّلعتُ عليها في «مسند أحمد» (1) ..
فقد أخرج عن ابن عبّاس ، أنّه قال : «لمّا قُبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) واستُخلِف أبو بكر ، خاصم العبّاسُ عليا في أشياء تركها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فقال أبو بكر : شيء تركه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فلم يحرّكه ، فلا أُحرّكه» .. الحديث.
ومثله في «كنز العمّال» في أوّل كتاب الخلافة (2) ، عن أحمد والبزّار ، وقال : «حسن الإسناد».
فإنّ هذا الحديث صريح في أنّهما اختصما بأشياء من متروكات
ص: 112
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومقتضى رواية أبي بكر أن تكون هذه المتروكات من الصدقات ، فكيف كان على أبي بكر أن لا يحرّكها؟!
وأيُّ تحريك أكبر من حكم النبيّ بأنّها صدقة؟!
وأمّا قوله : «ولو كان ميراثاً لكان العبّاس وارثاً أيضاً ؛ لأنّه العمّ» ..
فمردودٌ بأنّ العمّ لا يرث مع البنت ؛ لبطلان التعصيب (1) على الأحقّ ، ولو سُلّم فقد زعم بنو العبّاس أنّهم ورثوا البردة والقضيب ، ولعلّهم يرون أنّهما كانا سهم العبّاس من الميراث.
هذا كلّه في دعوى الإرث.
وأمّا دعوى النِّحلة ، فلا ريب بصدورها من سيّدة النساء (عليها السلام) ، وهي مسلّمةٌ من الصدر الأوّل إلى الآن.
ص: 113
قال قاضي القضاة - في ما حكاه عنه ابن أبي الحديد (1) - : «أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح ، ولسنا ننكر صحة ما روي من ادّعائها فدك ، فأما أنّها كانت في يدها فغير مسلّم».
فأنت ترى أنّه لم ينازع إلاّ في كون فدك بيدها الذي هو محلّ الكلام في الصدر الأوّل ، ولم ينكر صحّة ما روي من ادّعائها النحلة.
وحكى ابن أبي الحديد ، عن كتاب «السقيفة وفدك» لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أخباراً كثيرة في ادّعائها نِحلة فدك (2).
وذكر في «المواقف» وشرحها ، في المقصد الرابع من مقاصد الإمامة ، أنّها ادّعت النحلة وشهد لها عليٌّ والحسنان ، وأضاف في «المواقف» : أُمَّ كلثوم ، وقال في شرحها : «الصحيح : أُمّ أيمن» (3).
ولم يناقش أحدهما في وقوع دعوى النحلة ، وصدور شهادة الشهود بها ، وإنّما أجابا بتصويب أبي بكر في ردّ شهادتهم!
وقال ابن حجر في «الصواعق» (4) : «ودعواها أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدكاً ، لم تأت عليها إلاّ بعليّ ، وأُمّ أيمن ، فلم يكمل نصاب البيّنة ؛ على أنّ في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافاً بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إمّا (لعلّه لكونه) (5) ممّن لا يراه ، ككثير من العلماء ، أو أنّها لم تطلب
ص: 114
الحلف مع مَن شهد لها.
وزعمهم أنّ الحسن والحسين وأُمّ كلثوم شهدوا لها ، باطل ؛ على أنّ شهادة الفرع والصغير غير مقبولة» ؛ انتهى.
فإنّه لم يُنكر صدور الدعوى منها وشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأُمّ أيمن لها ، وإنّما أنكر شهادة الحسنين وأُمّ كلثوم.
وقال الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» : «الخلاف السادس : في أمر فدك والتوارث عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ودعوى فاطمة وراثةً تارةً ، وتمليكاً أُخرى ، حتّى دُفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة» (1).
فإذا عرفت هذا فنقول : لا ريب عندنا أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدك ، وأنّ اليد لها عليها من يوم أفاء اللّه تعالى بها عليه ، وكان بأمر اللّه سبحانه حيث قال له : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (2).
وأنّ أبا بكر قبضها قهراً ، وطلب منها البيّنة على خلاف حكم اللّه تعالى ؛ لأنّه هو المدّعي.
وقد حاجّه أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك ، فما كان جوابهم إلاّ أن قال عمر : «لا نقوى على حجتك ، ولا نقبل إلاّ أن تُقيم فاطمة البيّنة» ، كما صرّحت به أخبارنا (3) ، وشهدت به أخبارهم (4) ..
ص: 115
قال السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) من سورة بني إسرائيل : «أخرج البزّار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخُدري ، قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة فأعطاها فدك» (1).
قال : «وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا نزلت : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) أقطع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً» (2).
ونقل السيوطي - أيضاً - الحديثين في «لباب النقول» ، وذكر أنّ الطبراني أخرج - أيضاً - الحديث الأوّل عن أبي سعيد ، لكن قال : «قال ابن كثير : هذا مُشكل ، فإنّه يُشعر بأنّ الآية مدنيّة ، والمشهور خلافه» (3).
وفيه - مع أنّه يكفينا موافقة البعض - : أنّ الشهرة لو سُلّمت إنّما هي على كون السورة مكّية ، وهو باعتبار أغلبها ، فلا يُنافي نزول آية منها بالمدينة.
وحكى في «كنز العمّال» (4) ، عن ابن النجّار ، والحاكم في «تاريخه» ، عن أبي سعيد ، قال : «لما نزلت : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) قال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : يا فاطمة! لكِ فدك».
ص: 116
وحينئذ ، فتكون مطالبة أبي بكر للزهراء بالبيّنة خلافَ الحقّ وظلماً محضاً ؛ لأنّها صاحبة اليد وهو المدّعي.
ويدلّ على أنّ اليد لها ، لفظُ الإيتاء في الآية ، والإقطاعُ والإعطاءُ في الأخبار المذكورة ، فإنّها ظاهرة فى التسليم والمناولة.
كما يشهد لكون اليد لها ، دعواها النِحلة - وهي سيّدة النساء وأكملهنّ (1) - ، وشهادةُ أقضى الأُمّة بها (2) ؛ لأنّ الهبة لا تتمّ بلا إقباض (3).
فلو لم تكن صاحبة اليد لَما ادّعت النِحلة ، ولردّ القوم دعواها بلا كلفة ، ولم يحتاجوا إلى طلب البيّنة.
ولو سُلّم عدم معلوميّة أنّ اليد لها ، فطلبُ أبي بكر منها البيّنةَ جورٌ أيضاً ؛ لأنّ أدلّة الإرث تقضي بملكيّتها لفدك ، ودعواها النِحلة لا تجعلها مدّعية لِما تملك.
بل مَن زَعَمَ الصدقة هو المدعي ، وعليه البيّنة ، ولا تكفي روايته في إثبات ما يدعي ؛ لأنّه الخصم - كما عرفت - ، كما لا يُقبل - أيضاً - حكم الخصم على خصمه.
على أنّ البيّنة طريق ظنّي مجعول لإثبات ما يحتمل ثبوته وعدمه ، فلا مورد لها مع القطع واليقين المستفاد في المقام من قول سيّدة النساء التي طهّرها اللّه تعالى وجعلها بضعةً من سيّد أنبيائه ؛ لأنّ القطع طريق
ص: 117
ذاتي إلى الواقع ، لا بجعل جاعل (1) ، فلا يمكن رفعُ طريقيّته ، أو جعلُ طريق ظاهريّ على خلافه.
ولذا كان الأمر في قصة شهادة خُزيمة (2) للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، هو ثبوت ما ادّعاه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بلا بيّنة مع مخاصمة الأعرابي له ، فإنّ شهادة خزيمة فرع عن قول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وتصديق له ، فلا تفيد أكثر من دعوى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
بل كان اللازم على أبي بكر والمسلمين أن يشهدوا للزهراء ، تصديقاً
ص: 118
لها ، كما فعل خزيمة مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأمضى النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فِعلَه.
ولكن يا للأسف! مَن اطّلع على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدك أخفى شهادته ؛ رعايةً لأبي بكر ، كما في الأكثر ..
أو خوفاً منه ومن أعوانه ؛ لِما رأوا من شدتهم على أهل البيت (عليهم السلام) ..
أو عِلما بأنّ شهادتهم تُردّ ؛ لِما رأوه من ردّ شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، واجتهاد الشيخين في غصب الزهراء ؛ ولذا لم يشهد أبو سعيد وابن عبّاس ، مع أنّهم علموا ورووا أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة فدك.
ولا يبعد أنّ سيّدة النساء لم تطلب شهادة ابن عبّاس وأبي سعيد وأمثالهما ؛ لأنّها لم تُرِد - واقعاً - بمنازعة أبي بكر إلاّ إظهارَ حالِه وحالِ أصحابه للناس إلى آخر الدهر ، ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1).
وإلاّ فبضعة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أجلُّ قدراً وأعلى شأناً من أن تحرص على الدنيا ، ولا سيّما أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به.
ولو سُلّم أنّ قول الزهراء وحده لا يفيد القطع ، فهل يبقى مجال للشكّ بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
ولو سُلّم حصول الشكّ ، فقد كان اللازم على أبي بكر أن يعرض عليها اليمين - حينئذ - ولا يتصرّف بفدك قبله ؛ لوجوب الحكم بالشاهد
ص: 119
واليمين ، كما رواه مسلم في أوّل «كتاب الأقضية» ، عن ابن عبّاس ، قال : «قضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بيمين وشاهد» (1).
ونقل في «كنز العمّال» (2) ، عن ابن راهويه ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «نزل جبرئيل على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) باليمين مع الشاهد».
ونقل في «الكنز» - أيضاً (3) - ، عن الدارقطني ، عن ابن عمر (4) ، قال : «قضى اللّه في الحقّ بشاهدين ، فإن جاء بشاهدين أخذ حقّه ، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده».
ونقل - أيضاً (5) - ، عن البيهقي ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «اليمين مع الشاهد ، فإن لم تكن له بيّنةٌ فاليمين على المدّعى عليه» .. الحديث.
مع أنّهم قد رووا أنّ أبا بكر وعمر وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد ، كما نقله في «الكنز» - أيضاً (6) - ، عن الدارقطني والبيهقي ، عن
ص: 120
عبد اللّه بن عامر بن ربيعة.
ونقله - أيضاً (1) - ، عن البيهقي ، عن عليّ (عليه السلام).
فإذا كان الأمر كذلك ، فلِمَ أسقط حقّها من فدك وتصرّف فيها بمجرّد سكوتها عن طلب يمينها ما لم تُسقط حقّها في اليمين كسائر الحقوق؟!
ولو فُرض أنّ أبا بكر لا يرى الحكم بشاهد ويمين ، فقد كان اللازم عليه أن لا يمسك فدك إلاّ بيمينه ، أو تعفو عنه ؛ لأنّه الخصم المنكر.
ودعوى أنّها صدقة لا خصم بها ، ظاهرة البطلان ؛ لأنّ مستحقَّ هذه الصدقة ومدعيها خصمٌ فيها ، وأبو بكر من مستحقّيها ، وصاحبُ الولاية عليها بزعمه ، ومتظاهر في الخصومة بها.
ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه ، فقد زعم أبو بكر أنّ له الأمر على فدك وغيرها من متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حيث روى أنّ أمرها إلى من ولي الأمر (2) ، حتّى زعموا أنّه أعطى أميرَ المؤمنين (عليه السلام) عمامةَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسيفَه وبغلتَه (3) ، وأنّ عمر أعطاه والعبّاسَ سهمَ بني النضير أو صدقتَه بالمدينة (4).
فقد كان من شرع الإحسان أن يترك فدك لبضعة نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي لم
ص: 121
يخلف بينهم غيرها ؛ تطييباً لخاطرها ، وحفظاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيها.
أتراه يعتقد أنّ أبا سفيان ومعاذاً - وقد أعطاهما ما أعطاهما (1) - أَوْلى بالرعاية من سيّدة النساء وبضعة المصطفى؟!
أو أنّه يحلُّ له إعطاؤهما من مال الفيء دون الزهراء من مال أبيها؟!
أو أنّه يعتقد صدق جابر وغيره ممّن ادّعوا عِدَة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فأعطاهم (2) ، ولا يعتقد صدق الطاهرة البتول فمنعها؟!
أو أنّه عدوٌّ مكنه الدهر من عدوّه فاجتهد بأذاه ، ووجد سبيلا إلى إضعاف أمر سيّده ومولاه؟!
والمنصِف يعرف حقيقة الحال ، ويبني على ما اللّهُ تعالى سائله يوم تنتشر الأعمال.
فقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ أبا بكر لم يعامل سيّدة النساء بشرع الإسلام ، ولا شرع الإحسان والوفاء!
كما ظهر بطلان ما فعله شريح مع أمير المؤمنين (عليه السلام) (3) ؛ فإنّ الواجب عليه أن لا يطلب من أمير المؤمنين البيّنة ، بل عليه ، وعلى المسلمين أن يفعلوا فِعل خزيمة ؛ لعلمهم بأنّ علاّم الغيوب شهد بطهارته وعصمته.
ولكن لا عجب من شريح ؛ لأنّه ليس أهلا للقضاء ، كما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أراد عزله ، فقال كثير من أهل الكوفة : قاض نصبه
ص: 122
عمر لا يُعزل (1) ؛ وإنّما حضر أمير المؤمنين (عليه السلام) عنده لرفع التهمة عن نفسه.
وما نقله الخصم من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : «ألا تعلم أنّ هذه الدعوى لحقّ بيت المال وها هنا تُسمع شهادة الفرع؟!» ..
فكذبٌ ظاهر ؛ لدلالته على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يقول بسماع شهادة الفرع لحقّ الأصل ، وهو خلاف مذهبه ؛ ولذا رضي بشهادة الحسنين لأُمهما (عليها السلام).
نعم ، لا يرى أمير المؤمنين (عليه السلام) سماع شهادة الفرع على الأصل ، كما دلّت الأخبار عنه وعن أبنائه الطاهرين (2).
وأمّا قوله : «فلو تمّ حجة حكم ، وإلاّ توقف» ..
ففيه : إنّا لم نرَ أبا بكر توقف ، بل قبض فدك وتصرّف بها ساكن الجأش (3) ، مطمئنّ النفس ، كأنّه ورث مال أبيه.
ولعلّ الخصم يزعم أنّ الحجّة تمّت ظاهراً لأبي بكر فلا يبقى مجال لتوقّفه ، وهو خطأ ؛ إذ لا أقلّ من الحاجة إلى يمين أبي بكر ، أو امتناع الزهراء عن اليمين ، لو لم تتمّ لها الحجة إلاّ به.
وأما ما أجاب به عن شهادة الحسنين ..
ص: 123
فغير صحيح ؛ إذ لا يمكن أن يخفى ذلك على باب مدينة عِلم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1) ومَن عنده علم الكتاب (2) ويدور معه الحقّ حيث دار (3) ، ويظهر لهذا الخصم وأشباهه!
فلا ريب بجواز شهادة الفرع للأصل ؛ لرضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بها ، مع طلب سيّدة النساء (عليها السلام) لها.
كما أنّ صغرهما غير مانع ؛ لأنّ اللّه تعالى عرّف الأُمّة كمالهما وفضلهما على جميع الأُمّة ، حيث أمر سيّد أنبيائه بأن يجعلهما عوناً له في المباهلة ، وأمرهما بالتأمين على دعائه.
ولولا مضيّ شهادتهما مع صغرهما لَما رضي أمير المؤمنين بها.
وليت شعري ، أين منهم هذه المناقشات والتقشّفات (4) عن عائشة لمّا رأت أنّ الحجرة لها ، حتّى استأذنها عمر في دفنه - كما رووا (5) - ،
ص: 124
وكذا بقيّة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حُجرهنّ وأثاثهنّ؟! فإنّا لم نسمع أنّهم سألوهنّ البيّنة على الملكيّة فأقمنها!!
وسيأتي لهذا تتمة في أواخر هذه المباحث.
وأما ما زعمه من أنّ غضب الزهراء على أبي بكر كان من العوارض البشرية ..
فحاصل مقصوده منه : أنّه غضب باطل خارج عن الغضب المقصود بقوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك».
وفيه : إنّه عليه يكون المراد بالحديث : إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة إذا كان غضباً بحقّ ، ومن باب العداوة الدينيّة ، فلا يدلّ على فضلها ؛ إذ كلّ مؤمن كذلك.
وهو مما لا يقوله ذو معرفة ، فلا بُد أن يكون المراد أنّها لا تغضب إلاّ بحقّ ، كما يقتضيه إطلاق غضبها في الحديث ، وسيأتي له زيادة تحقيق إن شاء اللّه تعالى.
وهذا الحديث قد رواه الحاكم في «المستدرك» ، وصحّحه (1).
وحكاه في «كنز العمّال» (2) ، عن أبي يعلى ، والطبراني ، وأبي نُعيم ، وابن عساكر.
وحكاه - أيضاً - ، عن الديلمي بلفظ : «إنّ اللّه عزّ وجلّ يغضب لغضب فاطمة ، ويرضى لرضاها» (3).
ص: 125
قد يُتساءل في أنّ المتقدّم هو دعوى النِحلة أو دعوى الميراث؟
ولا إشكال عندهم على تقدير تقدّم دعوى النحلة ، وإنّما الإشكال في العكس ؛ لأنّها إذا ادّعت الميراث أوّلا ، فقد أقرّت لزوماً بأنّ المال ليس لها ، بل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى حين وفاته ، فكيف تدعي - بعد هذا الإقرار - النِحلةَ والملكَ في حياته؟!
ويمكن الجواب عنه : بأنّها إنّما ادّعت استحقاق متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مطلقاً بالإرث ، أو ما عدا فدك ، فلا ينافي دعواها بعد ذلك استحقاق خصوص فدك بالنِحلة.
ولو سُلّم أنّها سمّت فدك في دعوى الميراث فلا بأس به ؛ لأنّ الشخص لا يلزم بالإقرار اللزومي ما لم يكن محلّ القصد في الإقرار ، وإلاّ فالإشكال وارد أيضاً على تقدير تقدّم دعوى النِحلة ؛ لأنّ دعوى النِحلة تستلزم إقرارها بأنّ فدك ليست من مواريث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأملاكه ، فكيف تدّعي بعد ذلك الميراث لها؟!
وهذا ممّا لا يقوله أحد ، فلا بُد من القول بأنّ الإقرار اللزومي غير مُعتبَر.
وبالجملة : لم تقصد سيّدة النساء (عليها السلام) في الدعويين إلاّ أنّ المال لها بلا خصوصيّة للأسباب ؛ إذ لا غرض لها يتعلّق بذوات الأسباب ، وإنّما ذكرتها آلة للتوصّل إلى ملكها ، فلا يضرّ ذِكرها وإن استلزم كلّ سبب منها
ص: 126
عدم مسبب الآخر ، كما في سببين متضادَّين.
على أنّها لمّا كانت اليد لها على فدك بوجه الملك بعدما كانت لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، لزم أن يكون انتقالها إليها بنِحلة أو نحوها ، فتتضمّن يدها دعوى النِحلة أو غيرها ، فإذا ادّعت الميراث كانت دعواها له متأخّرة عن دعوى النِحلة ذاتاً.
وبالجملة : إنّ فدك كانت بيد الزهراء ، ولمّا تُوفّي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قبضها أبو بكر بدعوى أنّها لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما قبض بقيّة مواريثه ؛ فقالت : إذاً ما هو له يكون لي إرثاً ، أترثُ أباك ولا أرثُ أبي؟! فردّها بأنّ الأنبياء لا يُورَثون ، فالتجأت إلى بيان وجه يدها على فدك ؛ وهو النِحلة ، واستشهدت لها بالشهود ، وذلك أقرب إلى ظواهر الأخبار.
وكيف كان! فقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ الزهراء في دعوى الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي قبضها أبو بكر ، بلا فرق بين فدك ، ومال بني النضير ، وسهمه من خمس خيبر ، وغيرها.
نعم ، في دعوى النِحلة إنّما طالبت بخصوص فدك ؛ لأنّها هي التي نحلها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وبها طال النزاع ، وكانت هي المظهِر لدعواها ؛ لتعلّق الدعويين بها ؛ وظهور اغتصابه لها ؛ لسبق يدها عليها.
إنّ لسيّدة النساء دعوىً ثالثةً تتعلّق بحقّها من خمس خيبر الذي ملكته في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو سهمها من الخمس الذي قسمه اللّه سبحانه بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
ص: 127
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ... ) (1) الآية.
وهو الذي عيّنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له ولذويه ، وميّزه عن سهام المحاربين ، وهو حصن الكتيبة - كما سبق في رواية الطبري (2) - ، فملكوه بأشخاصهم.
فللزهراء في خمس خيبر حقان : حق من حيث إنّها شريكةُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وحقٌّ من جهة ميراثها لحقه.
وقد استولى أبو بكر على خُمس خيبر كلّه ، فمنعها الحقَّين.
ونحن إن صحّحنا له روايته أنّ الأنبياء لا تورَث ، وسوّغنا له الاستيلاء على حقّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فما المسوّغ له الاستيلاء على حقّ غيره ، وقد ملكوه في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وعيّنه لهم ، وليس للحاكم أن يتولاّه كالصدقات إذا قبضها الفقراء؟!
ولكنّ أبا بكر روى في ذلك روايةً أُخرى جعلها حُجّةً لاستيلائه عليه ، فقد نقل في «الكنز» (3) ، عن أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي ، وغيرهم ، عن أبي الطفيل ، قال : «جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت : أنت ورثت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أم أهله؟!
قال : بل أهله.
ص: 128
قالت : فما بال الخُمس؟!
فقال : إنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إذا أطعم اللّه نبيّاً طُعمةً ، ثمّ قبضه ، كانت للذي بعده ؛ فلما وُلّيتُ رأيتُ أن أردّه على المسلمين ...» .. الحديث.
ونقل أيضاً (1) ، عن ابن سعد ، عن أُمّ هاني ، أنّ فاطمة قالت : يا أبا بكر! من يرثك إذا مِتّ؟
قال : ولدي [وأهلي].
قالت : فما شأنك ورثتَ رسول اللّه دوننا؟!
قال : يا ابنة رسول اللّه! ما ورثتُه ذهباً ولا فضّة ، ولا شاة ولا بعيراً ، ولا داراً ولا عقاراً ، ولا غلاماً ، ولا مالا.
قالت : فسهمُ اللّه الذي جعله لنا ، وصافيَتُنا التي بيدك؟!
فقال : إنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّما هي طُعمة أطعمنيها اللّه ، فإذا مِتّ كانت بين المسلمين.
ونحو الحديثين في «شرح النهج» (2) ، عن كتاب «السقيفة» للجوهري.
وهما ظاهران في أنّ الخُمس المعيّن في زمن النبيّ - كخُمس خيبر - قد زعم أبو بكر أنّه بعد النبيّ للمسلمين ، أو أنّه له وردّه على المسلمين ، وهو خطأٌ ؛ فإنّ هذا الخمس ليس طُعمةً لرسول اللّه خاصّةً حتّى يشمله
ص: 129
ما رواه هنا.
هذا ، وللزهراء (عليها السلام) دعوىً رابعةٌ تتعلّق بخمس الغنائم الحادثة بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنّ أبا بكر كما قبض الخمس الذي كان لأهل البيت في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كخمس خيبر ، منعهم خمس الغنائم الحادثة بعده ، فنازعته الزهراء في ذلك أيضاً ، والأخبار به كثيرة (1) ، وذكر ابن أبي الحديد (2) عدة أخبار في ذلك.
وقد اشتُهر النزاع بين الشيعة والسنة في أمر هذا الخمس ومستحقّه ، وللقوم فيه أقوال ليس هذا محلّ ذِكرها.
كما اشتُهر أنّ أبا بكر ومَن لحقه منعوا بني هاشم خُمسَهم ، وأنّهم عملوا بخلاف ما عمله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حتّى روى أحمد في «مسنده» (3) أنّ نجدةَ الحروريَّ سأل ابن عبّاس عن سهم ذي القربى ؛ فقال : هو لنا ؛ لقربى رسول اللّه ، قسمه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهم ، وكان عمر عرض علينا منه شيئاً دون حقّنا فرددناه عليه .. الحديث.
وروى أحمد (4) ، أنّ النبيّ لم يُقسم لعبد شمس ، ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً ، كما كان يقسم لبني هاشم وبني المطلب ، وأنّ أبا بكر لم يكن يُعطي قربى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما كان رسول اللّه يعطيهم ، وكان عمر يعطيهم وعثمان من بعده منه.
ص: 130
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه طلب هو وعمر إحراق بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفاطمة ، وابناهما ، وجماعة من بني هاشم ؛ لأجل ترك مبايعة أبي بكر (2).
ذكر الطبري في «تاريخه» ، قال : أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ ... فقال : «واللّه لَأُحرقنّ عليكم أو لَتخرُجنّ للبيعة!» (3).
وذكر الواقدي ، أنّ عمر جاء إلى عليّ في عصابة فيهم أُسيد ابن الحُضَيْر (4) ، وسلمة بن أسلم ، فقال : «اخرجوا أو لنحرقنّها
ص: 132
عليكم!» (1).
ونقل ابن حِنزابة (2) في «غُرره» : قال زيد بن أسلم : كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليٌّ وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا ، فقال عمر لفاطمة : «أَخرِجي مَن في البيت وإلاّ أحرقته ومَن فيه!
قال : وفي البيت عليٌّ (عليه السلام) ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ،
ص: 133
وجماعة من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالت فاطمة : تحرق على وُلدي؟!
فقال : إي واللّه! أو ليخرُجنّ وليبايِعنّ!» (1).
وقال ابن عبد ربّه - وهو من أعيان السنة - : فأمّا عليٌّ والعبّاس فقعدوا في بيت فاطمة ؛ وقال له أبو بكر : إنْ أبَيا فقاتلهما.
فأقبل بقبس من نار على أن يُضرم عليهما الدار ، فلقيته فاطمة ، فقالت : يا بن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟!
قال : نعم (2)!
ونحوه روى مصنّف كتاب «المحاسن وأنفاس الجواهر» (3).
فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له تقليد مثل هؤلاء إن كان هذا نقلهم صحيحاً ، وأنّهم قصدوا بيت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لإحراق أولاده على شيء لا يجوز فيه الانتقام ، ولا تحلُّ بسببه هذه العقوبة مع مشاهدتهم تعظيم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهم؟!
وكان ذات يوم يخطب فعثر الحسن - وهو طفل صغير - فنزل من منبره وقطع الخطبة وحمله على كتفه وأصعده المنبر ، ثمّ أكمل الخطبة (4).
ص: 134
وبال الحسين يوما في حجره وهو صغير فزعقوا به ، فقال : لا تُزْرِموا (1) على وَلدي بولَه» (2).
مع أنّ جماعةً لم يبايعوا ، فهلاّ أمر بقتلهم (3)؟!
ص: 135
وبأيّ اعتبار وجب الانقياد إلى هذه البيعة ، والنصُّ غيرُ دالّ عليها ولا العقلُ؟!
فهذا بعض ما نقله السنة من الطعن على أبي بكر ، والذنب فيه على الرواة من السنة.
ص: 136
وقال الفضل (1) :
من أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر ، وهو إحراقُ عمرَ بيت فاطمة.
وما ذكر أنّ الطبري ذكره في «التاريخ» ، فالطبري من الروافض ، مشهور بالتشيّع ، مع أنّ علماء بغداد هجروه ؛ لغلوّه في الرفض والتعصّب ، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره.
وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشكّ أنّه رافضيّ متعصّب يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب ؛ لأنّ العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذبٌ صُراحٌ وافتراءٌ بيّن ، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السلف ؛ وذلك لوجوه سبعة :
الأوّل : إنّ بيت فاطمة كان متّصلا ببيوت أزواج النبيّ ، ومتّصلا بالمسجد ، وقبر النبيّ.
وهل كان عمر يُحرق بيوت النبيّ والمسجد والقبر المكرّم؟!
نعوذ باللّه من هذا الاعتقاد الفاسد ؛ لأنّ بيوتهم كانت متّصلة ، معمولةً من الطين والسعف اليابس ، فإذا أخذ الحريق في بيت ، كان يحترق جميع البيوت والمسجد والقبر المكرّم.
أكان عمر يُقدِم على إحراق جميع هذا ، ولا يخاف لومة لائم
ص: 137
ولا اعتراض معترض؟!
من تأمل هذا عَلِمَ أنّه من المفتريات الصريحة.
الثاني : إنّ عيون بني هاشم ، وأشراف بني عبد مناف ، وصناديد قريش ، كانوا مع عليّ ، وهم كانوا في البيت وعندهم السيوف اليمانيّة ، وإذا بلغ أمرهم إلى أن يُحرَقوا في البيت ، أتراهم طرحوا الغيرة وتركوا الحميّة رأساً ، ولم يخرجوا بالسيوف المسَلّة فيقتلوا من قصد إحراقهم بالنار؟!
الثالث : دفعُ الصائلِ على النفس واجب ، وتركُ الدفعِ إثمٌ ، وأيُّ صولة على النفس أشدُّ من صولة الإحراق؟!
فكان يجب على عليّ أن يدفعه ، وإلاّ قدح في عصمته.
الرابع : لو صحّ هذا ، دلّ على عجز عليّ - حاشاه عن ذلك - ؛ فإنّ غاية عجز الرجل أن يُحرَقَ هو وأهلُ بيتِه وامرأتُه في داره ، وهو لا يقدر على الدفع ، ومثل هذا العجز يقدح في صحّة الإمامة.
الخامس : إنّ أُمراء الأنصار وأكابر الصحابة كانوا مسلمين منقادين محبّين لرسول اللّه ..
أتراهم سكتوا ولم يكلّموا أبا بكر في هذا ، وإنّ إحراق أهل بيت النبيّ لا يجوز ولا يحسن؟!
السادس : لو كان هذا أمراً واقعاً ، لكان أقبح وأشنع من قتل عثمان وقتل الحسين ، ولكان ينبغي أن يكون منقولا في جميع الأخبار ؛ لتوفّر العزائم والرغبات على نقل أمثال هذا.
وما رأينا أحداً روى هذا ، إلاّ أنّ الروافض ينسبونه إلى الطبري ،
ص: 138
ونحن ما رأينا هذا في تاريخه (1) ، وإنْ كان في تاريخه فلا اعتداد به ؛ لأنّه من الواقعات العظيمة المشهورة ، وفي أمثال هذا لا يُكتفى برواية واحد لم يوافقه أحد ، وأهل الحديث يحكمون بأنّ هذا منكَر شاذّ ؛ لأنّ الوقائع العظيمة يتوفّر الدواعي إلى نقلها وحكايتها.
فإذا نقل مثل هذه الواقعة أحدٌ من الناس ، أو جماعة من المجهولين المتعصّبين ، فهي غير مقبولة عند أهل الحديث.
السابع : إنّه ينافي هذا رواية الصحاح ؛ فإنّ أرباب الصحاح ذكروا في بيعة عليّ لأبي بكر ، أنّ بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر إلاّ بعد وفاة فاطمة ، ولم يتعرّض أبو بكر لهم وتركهم على حالهم ، وكانوا يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات والمصالح والمهمّات وتدبير الجيوش ، فلمّا توفّيت فاطمة بعث أمير المؤمنين على أبي بكر وقال : ائتني وحدك! فجاءه أبو بكر في بيته ، فجلسا وتحدّثا ، ثمّ قال عليّ لأبي بكر : إنّك استأثرت هذا الأمر دوننا ، ما كنّا نمنعك عن هذا الأمر ، ولا نحن نراك غير أهل لهذا ، ولكن كان ينبغي أن تؤخّره إلى حضورنا.
فقال أبو بكر : يا أبا الحسن! كان الأنصار يدّعون هذا الأمر لأنفسهم ، وكانوا يريدون أن ينصبوا أميراً منهم ، وكان يُخاف منهم الفتنة ، فتسارعت إلى إطفاء الفتنة وأخذت بيعة الأنصار ، وإن كان لك في هذا الأمر رغبةٌ فأنا أخطب الناس وأُقيل بيعتهم ، وأُبايعك والناس.
فقال أمير المؤمنين : الموعد بيني وبينك بعد صلاة الظهر.
فلمّا صلّوا الظهر رقى أبو بكر المنبر وقال : «أقيلوني فلستُ بخيركم
ص: 139
وعليٌّ فيكم».
فقام عليٌّ وخطب ، وقال : إنّ بيني وبين أبي بكر شيء (1) ؛ فإنّه استأثر هذا الأمر دوننا ، ولم يتوقّف بحضورنا ، وهو أَوْلى للخلافة.
ثمّ قال : ابسط يدك لأُبايعك!
فبايعه في محضر الناس ، وبايع بنو هاشم ، وتمّ الأمر.
هذا رواية الصحاح في بيعة عليّ لأبي بكر ، وهذا كان أطوار الصحابة ، وهم لم يكونوا للملك طالبين ، ولا في الحكومة راغبين ، وكان أميرهم كفقيرهم ، فإنّ أبا بكر لم ينصب نفسه إماماً ليأكل أموال الناس ، ويتنعّم باللذائذ.
فإنّ أصحاب الصحاح - من الروايات - اتّفقوا على أنّه لمّا وليَ الخلافة أصبح يمشي في السوق وعلى رقبته أثواب يبيعها ، فجاءه أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقالوا : يا خليفة رسول اللّه! أتدع الناس فوضى وتعمل في السوق؟!
فقال : إنّ لي عيالا ، ولو لم أعمل في السوق لضاعوا ، وإنّي مُصلّ بكم ، وأُقيم بأمر الخلافة ، وأعمل في السوق لقوت عيالي.
فجلس أمير المؤمنين عليٌّ وأكابر الصحابة ؛ كعمر بن الخطّاب وعبّاس وعثمان في المسجد ، قالوا : عيّنوا شيئاً لأبي بكر من بيت مال المسلمين ليبذله في عياله ويترك عمل السوق ؛ لئلاّ يضيع أمر المسلمين.
فعيّنوا له كلّ سنة ألفي درهم ، فأخذ في السنتين من أيّام خلافته أربعة آلاف درهم من بيت المال ، فلمّا قرب وفاته قال لعائشة : بيعوا جميع
ص: 140
ما في تحت يدي ، وأدّوا ما أخذت من بيت المال إلى عمر ليصرفه في مصالح المسلمين ؛ فإنّي لا أُريد أن آخذ بهذا العمل شيئاً.
فلمّا أدّى ما أخذه من بيت المال بعث إلى عمر إجّانة (1) ، وحِلْساً (2) ، وأثواباً عتيقة كانت عنده ، فلمّا رآها عمر بكى وقال : لقد أتعب مَن بعده (3).
وأوصى أبو بكر أن يكفّن في أثوابه التي لبسها أيّام حياته ، وقال : إنّ الحيّ بالجديد أجدر (4).
هكذا كان سيرتهم في الخلافة.
ثمّ إنّ ابن المطهّر الأعرابي أخذ يكتب لهم المطاعن ، فَلُعن من مشوم طاعن.
هذا ما ذكره من مطاعن الصدّيق وشيخ المهاجرين ، والحمد لله الذي وفّقنا لإبطال مطاعنه على وجه يرتضيه المؤمن الموافق ، ويتسلّمه المخالف المشاقق ؛ لظهور حجّته وبُهور (5) برهانه.
ص: 141
ثمّ بعد هذا يذكر مطاعن الفاروق ؛ ونحن على ما وعدنا قبل هذا ، نذكر أوّلا شيئاً يسيراً من فضائل أمير المؤمنين حيث ما ثبت في الصحاح ، فنقول وباللّه التوفيق (1) :
أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ... بن عديّ بن كعب بن لؤيّ ، ونسبه يتّصل برسول اللّه في كعب بن لؤيّ.
وهو كان قبل البعثة من أكابر قريش وصناديدها.
وأُمه كانت مخزوميّةً أُختَ وليد بن المغيرة.
وكان عمر - في الجاهلية - مهيباً معظّماً ، مقبول القول.
ورئاسة شُبّان قريش ، والاستيلاء والقوّة ، انتهت إلى عمر وأبي جهل وأبي الحكم بن هشام (2).
ولمّا بُعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) واستولى الكفّار على المسلمين ، وضعف أمر الإسلام ، واختفى رسول اللّه في بيت الأرقم ، مخافة سطوة الكفّار ، ولم يقدر أحد أن يُظهر الإسلام ، دعا رسول اللّه : اللّهمّ أعزّ
ص: 142
الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب (1).
فوقع الدعاء له ، فأسلم عمر صبيحة ليلة دعا فيها رسول اللّه ، ودخل على رسول اللّه وهو كمل الأربعين ؛ لأنّ بإسلامه تُكمِّل عدد المسلمين بأربعين (2) ؛ وقال لرسول اللّه : يا رسول اللّه! اللات والعزّى يُعبدان علانية ويُعبد اللّه سرّاً؟!
فخرج هو والنبيّ وسائر الأصحاب - ويقدمهم حمزة ، وعمر - ، حتّى دخلوا المسجد وصلّوا في الحرم وطافوا وخرجوا إلى بيتهم ، وقال أصحاب رسول اللّه : ما زلنا في عزّ منذ أسلم عمر.
ثمّ كان وزيراً لرسول اللّه طول حياته ، لا يصدر عن أمر إلاّ برأيه ومشاورته.
وكان ينطق السكينة على لسانه ، كما روي في الصحاح ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه : «وُضع الحقّ على لسان عمر وقلبه» (3).
وفي الصحاح ، عن عتبة بن عامر ، قال : قال النبيّ : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطّاب» (4).
ص: 143
وكان مهيباً يخافه المنافقون والكفّار وأرباب الفساد.
روي في الصحاح ، عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : «استأذن عمر ابن الخطّاب على رسول اللّه وعنده نسوة من قريش تكلِّمنهُ عالية أصواتُهُنّ.
فلمّا استأذن عمر قُمن فتبادرن الحجابَ ، فدخل عمر - ورسول اللّه يضحك - فقال : أضحك اللّه سنك يا رسول اللّه ، ممّ تضحك؟!
فقال النبيّ : عجبت من هؤلاء اللواتي كنّ عندي ، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.
قال عمر : يا عدوّاتِ أنفسهنّ! أتهَبنني ولا تهَبن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فقلن : نعم ، أنت أفظّ وأغلظ.
فقال رسول اللّه : يا بن الخطّاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلاّ سلك غير فجّك» (1).
وهذا حديث نقله جمهور أرباب الصحاح ، ولا شكّ في صحّته لأحد.
وهذا حجّة على الروافض حيث يقولون : إنّ بيعة أبي بكر كان باختيار عمر بن الخطّاب ..
فإنّه لو صحّ ما ذكروا أنّه باختياره ، فهو حقّ لا شكّ فيه بدليل هذا الحديث ؛ لأنّه سلك فجّاً يسلك الشيطان فجّاً غيره ، وكلّ فجّ يكون مقابلا ومناقضاً لفجّ الشيطان فهو فجّ الحقّ لا شكّ.
ص: 144
وهذا من الإلزاميات العجيبة ، التي ليس لهم جواب عن هذا ألبتّة.
وفضائله لا تُعدّ ولا تُحصى ، وقد كان راسخاً في العلم ، متصلّباً في الدين ، من الأشدّاء على الكفّار ، كما هو مشهور معلوم ، لا ينكره إلاّ الروافض الجهلة.
روي في الصحاح أنّه قال : «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون علَيَّ وعليهم قُمُص ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما دون ذلك ، وعُرض علَيَّ عمر بن الخطّاب وعليه قميص يجرّه.
قالوا : فما أوّلته يا رسول اللّه؟
قال : الدين» (1).
ثمّ إنّه أقدمُ بصحبة رسول اللّه ، وحضر معه في جميع غزواته ، وكان صاحب المشاورة ، وكثيراً ما كان يقول لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : افعل ، ولا تفعل ؛ وكان رسول اللّه يعمل برأيه ، وينزل القرآن على تصديقه.
روي في الصحاح ، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أنّه قال : «لقد كان في ما قبلكم من الأُمم محدَّثون ، فإن يك في أُمّتي أحد فإنّه عمر» (2).
وفي قصّة أُسارى بدر ، أنّه لمّا شاور رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أبا بكر ، فاختار الفداء ، وشاور عمر ، فاختار قتلهم ، فمال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى قول أبي بكر واختار الفداء وأنزل اللّه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ص: 145
فصار في المشاورة قول عمر مختاراً عند اللّه.
ثمّ إنّ الأعرابي ابن المطهّر لم يصوّب رأيه في اختيار خلافة أبي بكر.
ثمّ لمّا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يوافق أبي (3) بكر في تهيئة الجيوش ، وإقامة مراسم الدين والجهاد ، فلمّا انتهت إليه الخلافة قام بأعبائها عشر سنين ، وفتح جميع أقطار البلاد ، وأخذ المُلك من قيصر وكسرى ، وعمل ما هو أغنى من أن يُذكر.
ولولا عمر لم تكن قواعد الإسلام والسنة قائمة ، وسيرته في الخلافة غنيّة عن الذِكر والتعريف ، حتّى إنّ بعض العلماء قال : سِيَر عمر في الخلافة كثيرة ، وأجلّها أنّه لبث في الخلافة مدّة عشر سنين ، ولم يمرّ عليه يوم واحد إلاّ وقد فتح اللّه للمسلمين مدينة أو عسكراً ، فلم يمض يوم واحد جديد إلاّ عن فتح جديد وغنيمة جديدة.
ومع هذا لم يغيّر عمر سيرته وطريقته ، ولبس الخشن ، وأكل الخشن ، وكان كأحد من المسلمين في تواضعه ، وتردّده في الأسواق ، ولبسه الألبسة الخَلِقَةَ ، وكان يحمل الطعام على رقبته لأيامى الغزاة ، وأولاد الشهداء.
ص: 146
وبالجملة : الأخبار في هذا أكثر من أن تُحصى ، ثمّ جاء في آخر الزمان أعرابيّ سكودن (1) النجس ابن المطهّر فوضع عليه المطاعن ، وها نحن نجري على عادتنا في نقل كلامه والردّ عليه ، فنقول وباللّه التوفيق ، ومنه الإعانة وعليه التكلان.
ص: 147
من الصلف نسبة افتراء هذا الخبر إلى الشيعة ، مع رواية الكثير من علمائهم وثقاتهم له ، كالّذين نقله المصنّف (رحمه اللّه) عنهم وغيرهم ، ولكن لم يرووا الإحراق ، وإنّما رووا إرادة الإحراق ؛ ولذا قال المصنّف (رحمه اللّه) : «طلب هو وعمر إحراقه».
ولكنّ الخصم أراد بنسبة الإحراق تفظيع الخبر ؛ لِتُقرَّب إلى الأذهان استبعاداته التي ذكرها.
وممّن روى هذا الخبر - غير من حكاه المصنّف عنهم - : ابن أبي شيبة ، كما نقله عنه في «كنز العمّال» (1) ، قال : «أخرج عن أسلم ، أنّه حين بويع أبو بكر بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان عليٌّ والزبير يدخلون على فاطمة ويشاورونها ويرجعون في أمرهم ؛ فلمّا بلغ ذلك عمر خرج حتّى دخل على فاطمة ، فقال : ما من الخلق أحد أحبّ إليَّ من أبيك ، وما من أحد أحبَّ إلينا بعد أبيك منك ، وأيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يُحرق عليهم الباب.
فلمّا خرج عمر جاؤوها ، قالت : تعلمون أنّ عمر قد جاءني ، وقد حلف باللّه لئن عدتم ليحرقنّ عليكم الباب ، وأيم اللّه ليمضينّ لِما حلف عليه ، فانصرفوا راشدين» .. الحديث.
ص: 148
ومنهم : ابن قتيبة ، في كتاب «الإمامة والسياسة» ، قال في أوائل كتابه ، في كيفية بيعة عليّ : «إنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ ، فأبَوْا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لَتخرجوا أو لأُحرقنّها على مَن فيها.
فقيل له : يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة!
قال : وإنْ!» (1) .. الحديث.
ومنهم : النظّام - كما حكاه عنه الشهرستاني في «الملل والنحل» في الفرقة النظّامية - ، قال النظّام : «إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت المحسّن من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوها بمن فيها! وما كان في الدار إلاّ عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين» (2).
ومنهم : أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، في «كتاب السقيفة» - كما نقله عنه ابن أبي الحديد (3) - ، قال : «جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ، ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده! لتخرجنّ إلى البيعة أو لأُحرقنّ البيتَ عليكم!».
وأما ما زعمه من أنّ الطبري مشهور بالتشيّع ، مهجور الكتب والرواية ، فمناقضٌ لِما سيذكره قريباً في إخراج عثمان أبا ذرّ إلى الربذة ، من أنّه وابن الجوزي من أرباب صحة الخبر (4).
ص: 149
وكيف يُعدّ الطبري من الشيعة وهو من أعلام علماء السنة ، حتّى عدّه النووي في «تهذيب الأسماء» بطبقة الترمذي والنسائي ، وأثنى عليه ، كما نقله السيّد السعيد عنه (1)؟!
وقال ابن خلّكان بترجمته من «وفيات الأعيان» : «كان إماماً في فنون كثيرة ، وكان من المجتهدين ، لم يقلّد أحداً ، وكان ثقة في نقله ، وتاريخه أصحُّ التواريخ وأثبتها» (2). انتهى ملخّصاً.
وقال الذهبيّ في ترجمته من «ميزان الاعتدال» : «ثقة صادق ... من كبار أئمة الإسلام المعتمدين».
لكن قال الذهبيّ : «فيه تشيّع [يسير] وموالاة لا تضرّ» (3).
ولعلّ سببه جمعه لطرق حديث الغدير في كتاب سمّاه
ص: 150
«الولاية» (1) ، وإلاّ فلا أعرف للرجل عُلقة بالتشيّع ؛ واسمه : محمّد بن جرير بن يزيد ، وهو صاحب التاريخ والتفسير المشهورَين ، وتاريخه مطبوع بمصر ، وذكر فيه الحديث الذي نقله المصنّف عنه (2) ، قال : «حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب ، قال : أتى عمرُ بن الخطّاب منزلَ عليّ وفيه طلحة والزبير ، ورجال من المهاجرين ، فقال : واللّه لأُحرقنّ عليكم ، أو لتخرجُنّ إلى البيعة.
فخرج عليه الزبير مُصْلِتاً بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه».
كما إنّ ما نقله المصنّف (رحمه اللّه) عن ابن عبد ربّه موجود في كتابه (3).
وأما ما ذكره من الوجوه فغير تامة ..
أما الستّة الأُوَل ؛ فلأنّها مبنيّة على وقوع الإحراق ، وقد ذكرنا أنّ المرويَّ هو قصد الإحراق ، ولعلّ عمر إذا بلغ الأمر إلى الإحراق لم يفعل ؛ لجواز أن يكون قاصداً للتهديد فقط.
على أنّ إحراق بيت فاطمة (عليها السلام) لا يستلزم إحراق غيره ؛ لوجود الآجر والطين فيمكن الإطفاء قبل السراية.
ومن عرف سيرة عمر وغلظته مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قولا وفعلا ،
ص: 151
لا يستبعد منه وقوع الإحراق فضلا عن مقدّماته!
وقوله في الوجه الثاني : «أتُراهم طرحوا الغيرة وتركوا الحميّة؟! ...» إلى آخره ..
يَرِدُ عليه - مع ما عرفت من ابتنائه على وقوع الإحراق - : أنّ الزبير قد أراد قتالهم لكن لم يبلغ مراده ، وأمير المؤمنين (عليه السلام) مأمور بالصبر والسلم ..
أخرج أحمد في «مسنده» (1) ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «سيكون بعدي اختلافٌ أو أمرٌ ، فإنِ استطعتَ أن تكون السلمَ فافعل».
وأما بقيّة الهاشميّين فأَمرُهم تبعٌ لأمير المؤمنين ، وكذا مثل المقداد ، وسلمان ، وأبي ذرّ ، وعمّار ؛ ولا أدري مَن يعني بأشراف بني عبد مناف وصناديد قريش الّذين زعمهم مع عليّ (عليه السلام)؟!
وأما ما ذكره في الوجه الثالث ، من وجوب دفع الصائل ..
وفي الوجه الرابع ، أنّه يدلّ على العجز القادح في صحة الإمامة ..
فإنّما يَرِدان على عثمان حيث ألقى بيده ولم يدافع عن نفسه!
وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يبلغ الأمر معه إلى ذلك ، ولو بلغ لعلموا مَن العاجز! فإنّه إنّما أُمر بالسلم حيث يستطيعه.
وأما ما ذكره في الخامس ، من أنّ أُمراء الأنصار وأكابر الصحابة كانوا مسلّمين منقادين محبّين ... إلى آخره ..
ص: 152
فهو - لو سُلّم - غير وارد ؛ إذ لم يُعلم حضور أكثرهم ، ومن حضر كان على رأي الشيخين ، أو مضطرب الحال.
على أنّ الإحراق لو وقع ليس بأعظم من غصب الخلافة ، ومخالفة نصّ الغدير ، وغيره.
ولو سُلّم ، فقد تدرّج الأمر من غصب الخلافة ، إلى غصب ميراث بضعة الرسول ونحلتها ، إلى إحراق البيت ، فهانَ!
وبالجملة : إذا رأى الناسُ مقاومةَ أُولي الأمر لأهل البيت وشدّتهم عليهم وعلى أوليائهم ، لم يُستبعد سكوت الرعيّة ، ولا سيّما أنّ جُلّ الأُمراء والأكابر أعوانٌ لهم في الاعتداء على أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَن يتعلّق به ، والتجاهر في عداوتهم.
وأما ما ذكره في الوجه السادس ، فلو فُرض وقوع الإحراق لم يُستغرب ترك مؤرّخي السنة لذِكره ؛ إذ من المعلوم محافظتهم على شأن الشيخين ، بل وشؤون أنفسهم ، فإنّ رواية ما يُشعِر بالطعن بهما ، فضلا عن مثل هذا العمل الوحشي ، ممّا يوجب وهن الرجل وكتابه بأنظار قومه ، بل يوجب التغرير بنفسه وعرضه ، كما فعل هو نفسه بالطبريّ - كما رأيت - وهو ذو الفضيلة عندهم ؛ لمجرّد سماعه أنّه روى قصْدَ الإحراق!
وكما فعل الشهرستاني بالنظّام ، وهو من أكابر معتزلة السنة ؛ إذ نسبه إلى الميل إلى الرفض لتلك الرواية التي سمعتها (1)!
ولو قال القائل : إنّهم أحرقوا الباب لم يبعد عن الصواب ؛ لأنّ كثير الاطّلاع منهم ، الذي يريد رواية جميع الوقائع ، لم يسعه أن يهمل هذه
ص: 153
الواقعة بالكلّية ، فيروي بعض مقدّماتها ؛ لئلاّ يخلّ بها من جميع الوجوه ، وليحصل منه تهوين القضيّة كما فعلوا في قصّة بيعة الغدير (1) وغيرها (2).
وبالجملة : يكفي في ثبوت قصد الإحراق رواية جملة من علمائهم له ، بل رواية الواحد منهم له ، لا سيّما مع تواتره عند الشيعة (3) ، ولا يحتاج إلى رواية البخاري ومسلم وأمثالهما ، ممّن أجهده العداء لآل محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والولاء لأعدائهم ، ورام التزلّفَ إلى ملوكهم وأُمرائهم ، وحُسْنَ السمعة عند عوامّهم.
هذا كلّه في الوجوه الستّة.
وأمّا في السابع ؛ فلأنّ ما زعمه من المنافاة لرواية الصحاح كذب ؛ إذ ليس فيها ما ينافي قصد الإحراق أو وقوعه ، فإنّها لم تشتمل على أنّه لم يتعرّض لهم وتركهم على حالهم ، كما ادّعاه الخصم ، ولا على أنّهم يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات ، وتدبير الجيوش ، ولا عذر أبي بكر بخوف الفتنة من الأنصار ، ونحو ذلك.
راجع ما رواه البخاري في غزوة خيبر ، المشتمل على كيفيّة البيعة (4).
ص: 154
وما رواه مسلم في باب قول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «لا نورَث ما تركناه صدقة» (1).
وظنّي أنّ غيرهما من صحاحهم لم يشتمل على ما ذكره ؛ إذ لم ينقله عنها ناقل بحسب التتبّع ، بل اشتمل حديث البخاري ومسلم على أنّ عمر خاف على أبي بكر من دخوله وحده على عليّ.
وهذا ممّا يقرّب وقوع الإساءة منهم إليه ، كقصد الإحراق ونحوه.
ومن الجفاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ما اشتمل عليه هذان الحديثان من أنّ المسلمين كانوا «إلى عليّ قريباً حين راجعَ الأمرَ بالمعروف» ؛ فإنّه دالٌّ على أنّه كان فاعلا للمنكر ، مخالفاً للشرع ، لمّا لم يبايع أبا بكر.
وهذا تكذيب لله سبحانه بشهادته له بالطهارة ، وتكذيب للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بشهادته له بأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور حيث دار.
فتبّاً لأُولئك المسلمين الّذين بعدوا عن سيّدهم ، وعبد اللّه حقّاً ، وأخي نبيّهم (عليه السلام) ، ووصيّه.
وما زال أُولئك المسلمون بُعداءَ عن ذلك الإمام الأعظم إلى زماننا هذا ، حتّى جاء شاعرهم المصري في وقتنا فافتخر بما قاله عمر من التهديد بإحراق بيت النبوّة وباب مدينة علم النبيّ وحكمته ، وقال [من البسيط] :
وقولة لعليّ قالها عمرُ *** أَكرِمْ بسامعها أَكرِمْ (2) بمُلقيها
ص: 155
أَحرقْتُ بابَك (1) لا أُبقي عليكَ بها *** إنْ لم تبايع وبنتُ المصطفى فيها
مَن كان مِثلُ (2) أبي حفص يَفوهُ بها *** أمامَ فارسِ عدنان وحاميها (3)
وقد ظنّ هذا الشاعر أنّ هذا من شجاعة عمر ، وهو خطأٌ ، أَوَلَمْ يعلم أنّه لم تثبت لعمر قدمٌ في المقامات المشهورة ، ولم تمتدَّ له يدٌ في حروب النبيّ الكثيرة؟! فما ذلك إلاّ لأمانهِ من عليّ (عليه السلام) بوصيّة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له بالصبر ، ولو هَمّ به لهام على وجهه واختطفه بأضعف ريشة.
وأمّا قول الخصم : «فإنّ أصحاب الصحاح اتّفقوا على أنّه لمّا وليَ الخلافة ...» إلى آخره ..
فالظاهر كذبه ؛ إذ لم أجده في ما اطلعت عليه من صحاحهم ، ولا نقله عنها ناقل!
بل المنقول عنها خلافه ..
فإنّ ابن حجر في «الصواعق» ، في آخر كلامه بخلافة أبي بكر نقل عن البخاري ، عن عائشة ، قالت : لمّا استُخلف أبو بكر قال : لقد علم قومي أنّ حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي ، وشُغِلتُ بأمر المسلمين ، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، ويحترف للمسلمين فيه (4).
ص: 156
ونقله أيضاً عنه وعن جماعة آخرين في «كنز العمال» (1).
فإنّه دالٌّ على أنّ أبا بكر هو المريد للأكل من مال المسلمين ، لا أنّ الصحابة أرادوا ذلك!
وأصرح منه في المدّعى ما رواه الطبري في «تاريخه» (2) - من حديث طويل - ، قال فيه أبو بكر : «لا واللّه ما تُصلح أُمور الناس التجارة ، وما يصلحهم إلاّ التفرّغ لهم ، والنظر في شأنهم ، ولا بُد لعيالي ممّا يُصلحهم.
فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم ويحجّ ويعتمر ، وكان الذي فرضوا له في كلّ سنة ستّة آلاف درهم ...» .. الحديث.
ومثله في «كنز العمّال» (3) ، عن ابن سعد ..
وفي «كامل» (4) ابن الأثير.
نعم ، في بعض أخبارهم أنّ عمر هو الذي منعه من التجارة ، وأراد الفرض له ففرض له أبو عبيدة ..
كالذي حكاه ابن حجر في المقام السابق ، عن ابن سعد (5).
ص: 157
وما حكاه في «كنز العمال» (1) ، عن البيهقي ، إلاّ أنّ عمر قال فيه : «نفرض بالمعروف» ولم يُعيّن من فرض له.
ثمّ قال الراوي : «فأنفق في سنتين وبعض أُخرى ثمانية آلاف درهم».
ولم أجد في شيء من أخبارهم أنّ أمير المؤمنين وأكابر الصحابة عيّنوا لأبي بكر ما ينفقه في عياله.
وأين أمير المؤمنين عنه حتّى يهتمّ لنفقته وهو مشغول بجهاز النبيّ وفقده ، وباتّفاق القوم على غصبه؟!
ليت شعري ، ما لأبي بكر أصبح مهتمّاً لأمر الدنيا - والنبيّ لم يُقبر - وهو عندهم موسِر ، حتّى أوصى بردّ جميع ما أخذه من بيت المال ؛ وهو ثمانية آلاف أو نحوها أو ما يزيد على اثني عشر ألفاً (2)؟!
ولم أجد في أخبارهم أنّ فرضَ أبي بكر كان ألفَي درهم فقط ، بل في بعض أخبارهم أنّهم جعلوا له ألفين ، فقال : «زيدوني! فإنّ لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة ؛ فزادوه خمسمئة».
كما نقله في «الصواعق» في المقام المذكور (3) ، وفي «كنز العمّال» (4) ؛ كلاهما عن ابن سعد ، عن ميمون بن مهران (5).
ص: 158
وأمّا قوله : «وأوصى أن يُكفّن في أثوابه التي لبسها في أيّام حياته ، وقال : إنّ الحيّ بالجديد أجدر».
فهو لو صحّ دلّ على جهل أبي بكر بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
روى مسلم (1) ، عن جابر : «أنّ النبيّ خطب يوماً فذكر رجلا من أصحابه قُبض فكُفّنَ بكفن غير طائل وقُبر ليلا ، فزجر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يُقبر الرجل بالليل حتّى يُصلّى عليه ، إلاّ أن يضطرّ إنسانٌ إلى ذلك ؛ وقال النبيّ : إذا كفّنَ أحدُكم أخاه فليحسن كفنه».
بل تدلّ وصيّة أبي بكر بتكفينه بالعتيق على طلب مخالفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ كُفّن بالجديد ، ولم يُوصِ بالتكفين بالعتيق.
ففي «كنز العمّال» (2) - عند ذِكر وفاة أبي بكر - ، عن أبي يعلى ، وأبي نُعيم ، والدغولي ، والبيهقي ، بأسانيدهم عن عائشة ، قالت - في حديثها عن موت أبيها - : قال : [في] كم كفّن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟
قلت : كفنّاه في ثلاثة أثواب سُحُوليّة (3) بيض جُدد ...
ص: 159
فقال : اغسلوا ثوبي [هذا] - وبه رَدْعٌ (1) من زعفران - ، واجعلوا معه ثوبين جديدين.
فقلت : إنّه خَلِقٌ.
فقال : الحيُّ أحوجُ إلى الجديد من الميّت ، إنّما هو للمُهْلة (2).
وأقول : لو أوصى أن يُدفن عارياً لكان أَوْلى بمراعاة الأحياء ، مع أنّ الكفن للمهْلة والصديد!
وأمّا ما ذكره من أنّ عمر كان من أكابر قريش وصناديدها ؛ فمحلُّ نظر ..
قال عمرو بن العاص - كما في أوائل «العقد الفريد» (3) - : «قبّح اللّه زماناً ، عمرُو بن العاص لعمرَ بنِ الخطّاب [فيه] عامل ، واللّهِ إنّي لأعرف الخطّاب يحمل فوق رأسه حُزمة حطب وعلى ابنه مِثلُها ، وما منهما إلاّ في نَمرة (4) لا تبلغ رُسغيه».
ص: 160
وقريب منه في «كنز العمال» (1).
وقال ابن الأثير في «كامله» (2) : «قال ابن المسيّب : حجّ عمر ، فلمّا كان بضَجَنان (3) قال : كنت أرعى إبل الخطّاب في هذا الوادي في مِدْرَعة صوف ، وكان فظّاً ، يُتعبني إذا عملتُ ، ويضربني إذا قصّرتُ».
ونحوه في «تاريخ الطبري» (4).
وفي «الاستيعاب» بترجمة عمر (5).
ونقل ابن أبي الحديد (6) ، عن أبي عبيد في «غريب الحديث» ، أنّ عمر قال : «لقد رأيتُني وأُختاً لي نرعى على أبوينا ناضحاً (7) لنا ، قد ألبستنا أُمّنا نُقبَتَها (8) ، وزوّدتنا يَمنتَيْها هَبيداً (9) ، فنخرج بناضحنا ،
ص: 161
فإذا طلعت [الشمس] ألقيتُ النقبة إلى أُختي وخرجت أسعى عرياناً ، فنرجع إلى أُمّنا وقد جعلت لنا لَفيتة (1) من ذلك الهَبيد ، فيا خِصْباه (2)!».
فمَن هذا حاله وحال أبيه ، ويحمل حزمة الحطب على رأسه ، كيف كان صنديداً كبيراً؟!
وكيف كان في الجاهليّة مهيباً معظّماً مقبولَ القول ، وله ولأبي جهل رئاسةُ شبّانِ قريش والاستيلاءُ والقوّةُ؟!
وأمّا قوله : «وأُمه مخزوميّة أُخت وليد بن المغيرة» ..
فخلاف قول أصحابه ؛ فإنّها على هذا بنت المغيرة ، وأصحابه اختلفوا في أنّها بنت هشام بن المغيرة ، أو هاشم بن المغيرة كما في «الاستيعاب» ، وصوّب أنّها بنت هاشم (3).
ص: 162
وحكى السيّد السعيد ، عن ابن شهرآشوب وغيره ، أنّ هاشماً وجد حنتمة مرميّة في الطريق ، فأخذها وربّاها ، ثمّ زوّجها الخطّاب (1).
وهو الأقرب ؛ فإنّ الخطّاب أقلُّ نفساً وبيتاً من أن يتزوّج بنت هاشم الصُّلبية (2) ، ولا سيّما أنّ أُمّ الخطّاب - أو جدته لأبيه - «نفيل» ، أَمةٌ زنجيّة (3) ؛ والعرب تأنف من الزنوج (4) ، وإنّما نُسبت إلى هاشم بالتبنّي والتربية ، كما هو عادة العرب.
وأما ما زعمه من اختفاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في بيت الأرقم ..
فكذب ظاهر ؛ لأنّ عمّه أبا طالب (عليه السلام) أقوى على حفظه ، ويواسيه بنفسه وأولاده ؛ ومن يقدر على قتله وعمه في الحياة؟!
روى الحاكم في «المستدرك» (5) ، وصحّحه على شرط الشيخين ، عن عائشة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «ما زالت قريش كاعةً (6) حتّى
ص: 163
توفّي أبو طالب».
وأما ما زعموه من دعاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأن يُعزّ الإسلام بعمر أو أبي جهل ..
فمن الغرائب ؛ فإنّ الإسلام إذا لم يعزّ بأبي طالب وبنيه وحمزة وذويه ، فكيف يعزّ بعمر وهو حطّاب ذليل؟!
وأيُّ نسبة في الشرف والعزّ بينه وبين أبي جهل حتّى يُعادل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بينهما؟!
وأعجب من هذا جعلُه من أقران حمزةَ أسدِ اللّه ورسوله ، حتّى يتقدّم معه المسلمون ويُصلّوا في الحرم ويطوفوا بحمايته!
وأين منه هذه الشجاعة يوم الخندق ، وخيبر ، وأُحد ، وحنين؟!
وكيف تجتمع هذه الدعاوى مع ما رواه البخاري (1) ، عن ابن عمر ، قال : بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص ... فقال له : ما بالك؟!
قال : زعم قومك أنّهم سيقتلونني إن أسلمت.
قال : لا سبيل إليك ، بعد أن قال : أمِنْتُ.
فخرج العاص فلقي الناس ، فقال : أين تريدون؟!
فقالوا : نريد ابنَ الخطّاب الذي صبا.
فقال : لا سبيل إليه ؛ فكرَّ الناس»؟!
وروى أيضاً عن ابن عمر ، قال : «لمّا أسلم عمر اجتمع الناس عند داره ، وقالوا : صبا عمر - وأنا غلام فوق ظهر بيتي - ، فجاء رجل عليه
ص: 164
قَباء (1) من ديباج ، قال : قد صبا فما ذاك؟! فأنا له جار.
قال : فرأيت الناس تصدّعوا عنه ، فقلت : من هذا الرجل؟
قالوا : العاص بن وائل» (2).
وأمّا قوله : «كان وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، لا يصدر عن أمر إلاّ برأيه ومشاورته» ؛ فقد سبق مثله في حقّ أبي بكر ، وعرفت الكلام فيه (3).
وأما قوله : «كان ينطق السكينة على لسانه ، كما روي في الصحاح ...» إلى آخره ..
ففيه : إنّ هذا - وسائر ما يذكره من أخبارهم - إن أراد به البيان لأصحابه ، فهم في غنىً عنه ؛ لعلمهم بها.
وإنْ أراد به الاستدلال علينا ، فهو خطأ ؛ لأنّا نعتقد كذبها ؛ إذ هي - مع ما عرفت من حال رواتها - قد قامت الضرورة والأدلّة الواضحة على كذبها ؛ إذ كيف تصحّ دعوى نطق السكينة ووضع الحقّ على لسان عمر وقلبه ، وقد شكّ يوم الحديبية (4) ، وأنكر على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بما أنكر (5) ، ونسب إليه الهجر (6) ، فسببَ كلّ ضلال وقع ويقع إلى يوم القيامة؟!
وكيف تُحتمل الصحّة في ما رووه : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر»؟!
ص: 165
فإنّ الإيمانَ مطلقاً - أو بعد البلوغ - شرطُ النبوّة ، وعمر قضى أكثر عمره في الكفر!!
وكيف تُقبل دعوى فرار الشيطان منه ، ولم يفرّ - بزعمهم - من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتّى ألقى على لسانه كلمة الكفر ، ولا عن آدم وغيره من الأنبياء (1)؟!
وهو - أيضاً - قد استزلّه الشيطان وأشباهه يوم أُحد ، ففرّوا عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ ) (2) (3).
وقد قال أبو بكر : «إنّ لي شيطاناً يعتريني» (4) ، وهو عندهم خيرٌ من عمر ، ورَوَوْا : «إنّ لكلّ إنسان شيطاناً» (5).
وليت شعري ، ما الذي يخافه الشيطان من عمر حتّى يفرّ منه ، ولا يسلك فجه ولا سلطانَ له عليه؟!
ومن المضحك أن يجعل هذا الخبر من الإلزاميات العجيبة لنا ، مع ما عرفت من حاله ، وأنّه من أخبارهم.
وأظرف منه استشهاده به ؛ لكون المنافقين وأهل الفساد يخافون من عمر ، فإنّه لم يظهر من النسوة شيء من النفاق والفساد ، وإلاّ فكيف سكت
ص: 166
عنهنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، اللّهمّ إلاّ على روايتهم أنّ النبيّ يحبّ الباطل دون عمر؟!
وأظرف من الجميع جعل ذلك دليلا على هيبة عمر ، والحال أنّ النسوة قُلنَ له بوجهه : «إنّك أفظُّ وأغلظ» ، ولو قال : إنّه دليل على فظاظته ؛ لكان أَوْلى (1).
وأما ما رواه من تأويل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لقميصه المجرور بالدِّين ..
فغريب ؛ لأنّ جرّ القميص يدلّ على التبختر والبطر ، فكيف يؤوّل بالدين؟!
وما زعمه من حضوره في جميع الغزوات ..
فغير بعيد ، ولكن لا فائدة به مع عدم القتال ، والهزيمةِ عند مصادمة الرجال!
وأمّا ما ذكره من أنّ القرآن ينزل على تصديقه ، فقد سبقه إليه ابن حجر في «صواعقه» ، وعدّ من موافقة القرآن له تكلّمه بجملة من الآيات قبل نزولها (2) ، وحينئذ فلا معجزة في القرآن ، أو هو سارق من عمر!!
وعدّ أيضاً من موافقاته له ما نقله عن «مسند أحمد» ، ورأيته أنا فيه (3) : «إنّ عمر جامع زوجته بعد الانتباه ليلة الصيام - وقد كان حراماً في أوّل الإسلام - فنزل : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ... ) (4) الآية.
ص: 167
وروى - أيضاً - أحمد ما يدلّ على ذلك (1).
وأنت تعلم أنّ عدّ هذا بالموافقات غريب ؛ فإنّه بالمخالفات أشبه ؛ لأنّه من فعل الحرام والمخالفة لله ورسوله!
غاية الأمر أنّه سبب نسخ الحكم ، وهو ليس من الموافقة في شيء ، إلاّ أن يكون عمر أراد بفعله الحرام نسخ حكم اللّه ، فنُسخ تبعاً له ؛ فتأمّل!
إلى غير ذلك من الموافقات التي لا ربط لجملة منها بالموافقة ، وينبغي عدّ كثير منها في الهزليّات ؛ فراجع (2)!
ثمّ إنّ ما ذكره في كيفيّة الموافقة في قصّة أسرى بدر ، دالٌّ على أنّ اللّه سبحانه أنزل في النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر : ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) (3) ، وقوله تعالى : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (4) ؛ فيكون النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) طالباً لعرض الدنيا ومستحقاً لأنْ يمسّه عذاب عظيم ، ومجوّزاً لأخذ الفداء من عند نفسه لا من اللّه تعالى ، وهذا هو الكفر والتكذيب لقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (5).
كما إنّه يوجب التناقض بين أقوال اللّه سبحانه ، فإنّه يقول : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (6) ، ثمّ يؤنّبهم على أخذ الفداء ، وهو عن إذن
ص: 168
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وإيتائه.
ويشهد لكون تجويز أخذ الفداء من اللّه تعالى ما رواه في «الدرّ المنثور» ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، أنّهما أخرجا عن أبي عبيدة ، قال : «نزل جبرئيل على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر فقال : إنّ ربّك يُخيّرك إنْ شئت أن تقتل هؤلاء الأسرى ، وإنْ شئت أن تفادي بهم ويُقتل من أصحابك مثلهم.
فاستشار أصحابه ، فقالوا : نُفاديهم فنقوى بهم ويُكرم اللّه بالشهادة من يشاء» (1).
ومِن هذا يُعلم أنّ المراد بما أخذه في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) إلى قوله : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2) ليس هو أخذ الفداء على الأسرى ؛ فإنّه برخصة اللّه وإذن نبيّه.
على أنّ الأسر وأخذ الفداء على الأسرى لم يكونا قبل الإثخان في الأرض ؛ إذ أيُّ إثخان أعظمُ من قتل أعيان المشركين وغلبتهم ، الذي سمّاه تعالى ذات الشوكة وقطعاً لدابر الكافرين بقوله سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) (3)؟!
فلا بُد أن يُراد بما أخذوه ما جنوْه من مخالفةِ رغبةِ
ص: 169
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حرب النفير وطلبهم غنيمة العير وأسر مَن فيها.
رُوي في «الكشّاف» وغيره ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) استشار أصحابه فقال : العيرُ أحبُّ إليكم أم النفير؟
فقالوا : العِيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوّ.
فتغيّر وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ ردّد عليهم فقال : العير قد مضت إلى ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل.
فقالوا : يا رسول اللّه! عليك بالعير ودعِ العدوّ (1).
ونقل السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير قوله تعالى من سورة الأنفال - أيضاً - : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ... ) (2) الآية ، عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي أيّوب الأنصاري - من حديث قال فيه - : إنّ النبيّ قال : ما ترون في القوم ، فإنّهم قد أُخبروا بمخرجكم؟
فقلنا : يا رسول اللّه! لا واللّه! ما لنا طاقة بقتال القوم ، إنّما خرجنا للعير.
ثمّ قال : ما ترون في قتال القوم؟
فقلنا مثل ذلك.
فقال المِقداد (3) : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى :
ص: 170
( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) (1) (2) .. الحديث.
وروى مسلم (3) : «أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان ، فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر فأعرض عنه».
ومثله في «مسند أحمد» (4) من طريقين.
وروى السيوطي في «الدرّ المنثور» ، أنّهما قالا (5) : «إنّها قريش وخُيلاؤها (6) ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ، فتأهّب لهم يا رسول اللّه!» (7).
ونقل السيوطي - أيضاً - ، عن ابن أبي شيبة وابن مردويه ، أنّه خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى بدر ، حتّى إذا كان بالرَّوْحاء خطب الناس ، فقال : كيف تَرَوْن؟
فقال أبو بكر : يا رسول اللّه! بلغنا أنّهم كذا وكذا.
ثمّ خطب الناس فقال : كيف تَرَوْن؟
فقال عمر مثل قول أبي بكر (8) .. الحديث.
وبهذين الحديثين ونحوهما يُعلم أنّ إعراض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عن
ص: 171
الشيخين - المذكور في حديث مسلم - ، إنّما هو لتخذيلهما عن حرب النفير ؛ لا لأنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يريد جواب الأنصار.
كما يشهد له سرورُه بكلام المقداد - وهو ليس من الأنصار - حتّى أشرق وجه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من قوله.
وقال ابن مسعود : «لأنْ أكون صاحبَه أحبُّ إليَّ ممّا عُدِل به» ، كما رواه البخاري (1).
فقد ظهر أنّ قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ... ) (2) الآية ، إنّما هو تقريع لعمر وكلّ مَن أراد العِيرَ ، وأسرَ مَن فيها ، ومجانبة النفير.
فالآية قريبة من الآية التي سبقت عليها بأوّل السورة وهي قوله تعالى : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ... ) (3) الآية.
ولو سُلّم أنّ قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ) الآية ، توبيخ على الأسر في حرب النفير ، بناءً على أنّه قبل الإثخان في الأرض ، فلا ريب أنّه لا بأس على النبيّ فيه ؛ لأنّه ليس بإذنه ، بل فعله المسلمون من تلقاء أنفسهم طلباً لعرض الدنيا ، وإنّما أجاز لهم اللّه ورسوله أخذ الفداء تأليفاً لهم - حيث رغبوا فيه - ، ورعايةً للمصلحة الوقتيّة.
ص: 172
وحينئذ ؛ فالمراد بما أخذوه في قوله تعالى : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1) ، هو اتّخاذهم للأسرى بدون إذن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ طلباً لعرض الدنيا.
وبالجملة : لا بأس على رسول اللّه في أصل الأسر ؛ لأنّه من دون إذنه ، ولا في أخذ الفداء ؛ لأنّه برخصة اللّه تعالى.
فما زعمه الفضل من نزول الآية توبيخاً للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ظلمٌ له ، وكذبٌ على اللّه عزّ وجلّ.
ولعلّ سببه ما قاله لهم عمر مِن موافقة اللّه له ، ومخالفته للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الأسرى.
ويكذِّبُه - بعد امتناع أن يستبيحَ النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمراً ويقولَ من غير وحي - ما رواه الطبري في «تاريخه» (2) ، عن محمّد بن إسحاق ، قال : «لما نزلت هذه الآية ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) ، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : لو نزل عذاب من السماء لم ينجُ إلاّ سعد بن معاذ ؛ لقوله : يا نبيّ اللّه! كان الإثخانُ في القتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال».
وهو قد قال ذلك - كما في رواية الطبري (3) - لمّا رأى المسلمين يأسرون المشركين ، وهو على باب العريش.
وإنّما جعلناه مكذّباً لدعوى عمر ؛ لأنّه لو كان ممّن يريد قتلهم - كما زعمه - لاستُثني مع سعد في رواية ابن إسحاق.
ص: 173
هذا ، ومن العجيب إشارة عمر على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - بحسب ما رواه القوم - أن يمكّن من العبّاسِ حمزةَ ومن عقيل عليا (1) ، والحال أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نهى عن قتل العبّاس خاصة وبني هاشم عامة - كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما (2) - ؛ لأنّهم أُخرجوا كرهاً ، وكان بعضهم من المسلمين ؛ فإنّ هذا من أعظم الصلافة وأشد المخالفة للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأكبر الإيذاء له ، مع أنّه أمر بما نهى اللّه عنه من قتل المسلمين!
وأمّا ما ذكره من موافقة عمر لأبي بكر في الجهاد ، وأنّه فتح الفتوح بعده ، فمسلّم ، لكن تلك الفتوح ناشئةٌ ممّا عوّدهم عليه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من الجهاد والفتوح والغنائم ، ومتفرّعة عن بشارته يوم الخندق بفتح بلاد كسرى وقيصر (3) ، وكلُّ أحد لو ولي بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - وعلم تلك البشارة - لقام بما قاموا به.
ولو سُلّم أنّهم فتحوا تلك الفتوح بتدبيرهم وحزمهم ، فإنّما يكون مدحاً إذا كان لله تعالى ، لا للإمرة والسلطان ، وهو محلّ نظر!
ص: 174
وقد فتح الأُمويّون والعبّاسيّون وغيرُهم الفتوح ، ومصّروا الأمصار ، طلباً للمُلك والعزّ.
أخرج أحمد في «مسنده» (1) ، عن أبي بكرة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى سيؤيّد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم».
وروى البخاري (2) : أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «إنّ اللّه يؤيّد الدين بالرجل الفاجر».
ودعوى أنّه أقام قواعد السنة ممنوعة ؛ لِما رأيناه من تبديله إيّاها ، وتشريعه خلاف ما جاء به الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على حسب ما تهواه نفسه ، وتقتضيه سياسته - كما ستعرف - وإنّما أقام قواعد مُلكه ، وحاط الدين ما درّت محالبه.
وقوله : «وسيرته في الخلافة غنيّة عن الذِكر» ..
لعلّه يريد به ما كان يصنعه مع الناس من الإهانة والتحقير ، والجفاء والضرب ، بلا موجب (3).
ص: 175
ومثل تسيير نصر بن حجاج (1) بلا استحقاق.
وعمله مع عمّاله بلا ميزان شرعيّ (2) ، فإنّهم إن كانوا من الأُمناء ،
ص: 176
فكيف غرّمهم؟! وإلاّ فكيف ردّهم إلى أعمالهم؟!
ولو كانت سيرته في الخلافة على النهج الشرعيّ ومرضيّة لله سبحانه ، لقبل أميرُ المؤمنين بيعةَ ابنِ عوف بشرط أن يسير بسيرة الشيخين (1).
وأما لبسه الخشن ؛ فلو كان للآخرة ، لتناسقت جميعُ أفعاله ، واتّبع وصيّة النبيّ في بضعته وآله.
وكم زاهد في الدنيا للدنيا ، ومتواضع في الناس للرفعة!
* * *
ص: 177
ص: 178
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
نقل الجمهور عن عمر مطاعن كثيرة ..
منها : قوله عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا طلب في حال مرضه دواةً وكتفاً (2) ليكتب فيه كتاباً لا يختلفون بعده ، وأراد أن ينصّ حال موته على ابن عمّه عليّ (عليه السلام) ، فمنعهم عمر وقال : إنّ نبيّكم ليهجر!
فوقعت الغوغاء (3) وضجر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال أهله : لا ينبغي عند النبيّ هذه الغوغاء.
ص: 179
فاختلفوا ، فقال بعضهم : أحضروا ما طلب ، ومنع آخرون.
فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ابعدوا!
هذا الكلام في صحيح مسلم (1).
وهل يجوز مواجهة العامّي بهذا السفه ، فكيف بسيّد المرسلين (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
ص: 180
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث مذكور في الصحاح ، ولكنّه ألحق شيئاً وغيّره.
والصحيح أنّه لمّا طلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الدواة والكتف ، قال عمر : إنّ رسول اللّه قد غلبه الوجع ، وعندنا كتاب اللّه.
فقال بعضهم : أحضروا ما طلب ؛ وقال بعضهم : لا تُحضروا ؛ ووقع الاختلاف.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : قوموا عنّي ، فلا ينبغي عندي التنازع (2).
وأما قوله : «إنّ نبيّكم ليهجر» ، فليس في «البخاري».
وإنْ سلّمنا صحّة الرواية ، فالهجر : هو الكلام الذي يقوله المريض ، فيكون المعنى موافقاً لِما هو في بعض الصحاح.
والمراد : أنّه يتكلّم بكلام المرضى وهو متوجّع ، فلا إساءة أدب في هذا.
وأما منع عمر عن كتابة الكتاب ، فقال العلماء :
إنّ عمر خاف أن يكتب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً لا يفهمه المنافقون ؛ لغلبة وجعه ، فيقع الاختلاف بين المسلمين (3).
ص: 181
وقال بعضهم : إنّ رسول اللّه تكلّم بكلام المرضى ، لا أنّه يريد الكتابة ، كما يقول المريض : ناولوني فلاناً وفلاناً وهو لا يريد (1).
والأوّل أظهر ؛ لأنّ عمر في أيّام صحّة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما يقول له : إفعل فلاناً ولا تفعل فلاناً ؛ وكان رسول اللّه يوافقه في رأيه (2).
فكان له هذا المنصب والمقام عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أيام الصحة ، فجرى على عادته ؛ لأنّ الكتابة لم تكن من رأيه كما ذكرنا.
ومَن علم أحوال عمر مع رسول اللّه طول صحبته لم يتعجّب من هذا.
ثمّ ما ذكر أنّه أراد أن ينصّ حال موته على خلافة عليّ ؛ فهذا من باب الإخبار بالغيب.
ولِمَ لا يريد أن ينصّ بخلافة أبي بكر؟! وقد وافق هذا ما روينا عن عائشة ، أنّه قال : ادعي لي أبا بكر أباك حتّى أكتب له كتاباً (3).
ثمّ هذا مناقض لِما ادّعاه من النصّ في غدير خُمّ ؛ فإنّه يدّعي النصّ في ذلك المشهد ، ثمّ يقول : إنّه أراد أن ينصّ.
وهذا نِعمَ اعتراف منه بعدم النصّ.
* * *
ص: 182
قد جاء في بعض أخبارهم نسبة الهجر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنحو الجزم والإخبار ، كما في «صحيح مسلم» (1) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : «يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثمّ جعل تسيل دموعه حتّى رأيتُ على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقالوا : إنّ رسول اللّه يهجر».
وهذا هو الذي أراده المصنّف (رحمه اللّه).
ومثله في «مسند أحمد» (2).
بل روى البخاري الحديث بلفظ الإخبار بالهجر في باب «جوائز الوفد» (3) ، عن ابن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : «يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثمّ بكى حتّى خضب دمعُه الحصباء ، فقال : اشتدّ برسول اللّه
ص: 183
وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازعٌ ، فقالوا : هَجَرَ رسول اللّه!
قال : دعوني! فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه.
وأوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفدَ بنحو ما كنتُ أُجيزهم ، ونسيت الثالثة».
ومن أوضح الأُمور أنّ نسبةَ الهجر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إساءةُ أدب معه ، بل كفرٌ بمقامه ؛ فإنّه مخالف للعقل والشرع.
أما العقل ؛ فلأنّ الهَجْرَ : هو الهَذَيان ؛ يقال : هَجَرَ النائمُ : إذا هَذَى ، كما في «القاموس» (1).
وهذا ممتنع عقلا على النبيّ في صحّته ومرضه ؛ لأنّ من جاز عليه الهجر ولم يُؤمَنْ عليه الهذيان والخطأ ، أمكن التشكيك في كثير من أقواله وأفعاله ، فلا يكون قوله وفعله حجة ، وهو مناف لمنزلة النبوّة ، وناف لفائدة البعثة.
وأما الشرع ؛ فلقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (2) ..
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (3) ..
ص: 184
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) ..
فإنّ هذه الآيات أطلقت وجوب طاعته والأخذ منه ، ومنعت من مخالفة مطلق ما قضى به.
ومن الواضح : أنّ صدور الهجر يستدعي خلاف ذلك الوجوب والمنع ، وينافي ذلك الإطلاق.
ولقوله تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ..
فإنّه دالٌّ على أنّ كلّ ما ينطق به من أمر أو منع إنّما هو عن وحي اللّه تعالى ، وهو لا يجامع الهجر.
ولقوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إلى قوله : ( ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) (3) ..
فإنّه ناف للهجر عنه ؛ لأنّ من جاز عليه الهجر ، لم يكن أميناً ، ومَن وقع منه الهجر ، كان مجنوناً ؛ لأنّ الجنون حالة في الإنسان يُستر فيها عقلُه.
غاية الأمر : أنّ من يهجر في حالة خاصّة ليس جنونُه مستحكماً.
ولو سُلّم أنّ الهجر هو الهذيان الحاصل من غير الجنون - كما هو الأقرب - فهو بحكمه ؛ لأنّ المقصود بالآية ليس هو نفي الجنون من حيث هو ، بل لِما يترتّب عليه من الهذيان ، فينتفي عن النبيّ كلّ هذيان.
وممّا ذكرنا يُعلم أنّه لا فائدة في ما قصدوا به إصلاح هذه
ص: 185
الفرْطة (1) ؛ إذ بدّلوا في بعض أخبارهم لفظ «الهجر» بقولهم : «غلبه الوجع» (2) ؛ فإنّ النتيجة بهما واحدة ؛ وهي إثبات الهذيان للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حاشاه (3)!
وأما ما نسبه إلى بعض علمائهم من أنّ عمر خاف أن يكتب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يفهمه المنافقون ، فيقع الاختلاف بين المسلمين ؛ فهو أشبه باللغو ؛ إذ كيف يقع - بسبب عدم فهم المنافقين لمراد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - الاختلاف بين المسلمين الّذين يفهمون مراده ، ويعتقدون أنّ ما يكتبه رافعٌ للضلال أبداً.
مع أنّ عمر - على هذا - قد دفع القبيح بالأقبح ؛ لأنّه خاف الاختلاف فأوقعه بالمخالفة للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أوحش وجه وأكذبه ؛ وهو
ص: 186
نسبة الهذيان إلى النبيّ!
وليت شعري ، ما عسى أن يفعل المنافقون - وهم الأقلّون - أكثر من ذلك لمجرّد كتابة النبيّ ما لا يفهمونه.
على أنّه كيف يُتصوّر أن يصف النبيّ كتابه بأنّهم لا يضلّون بعده أبداً ، ثمّ يكتب ما لا يُفهم فيسبب به الاختلاف والضلال على خلاف ما ضَمِنه كتابه؟!
فهل تجويز هذه الكتابة إلاّ تجويز للهجر بوجه آخر؟!
مضافاً إلى أنّ عمر لو كان قاصداً لذلك ، لكان الواجب عليه أنّ يُنبّه النبيّ بعبارة جميلة طالباً فيها توضيح مقصوده ، لا أنّه يمنعه عن أصل الكتاب الرافع للضلال إلى آخر الأبد.
وأيضاً : فقد زعم القوم عدالة الصحابة كلّهم واقعاً إلاّ النادر الخفيّ الحال من المنافقين ، فمن أين يقع الاختلاف بين المسلمين العدول بسبب عدم فهم القليلين المنافقين للكتاب؟!
وما أدري إذا كان الأمر على ما قاله ذلك البعض ، فما الذي أبكى ابن عبّاس حتّى بلّت دموعه الحصباء ، وعدّه الرزيّة كلّ الرزيّة؟!
ألم يكن له عِلم بمقصود عمر ، كما علمه هذا البعض بعد حين ، فيسترّ لهذه المقاصد الشريفة؟!
وأمّا ما زعمه الخصم من أنّ عمر كان يقول للنبيّ : إفعل ولا تفعل ..
فهو كذبٌ وإزراءٌ بحقّ سيّد المرسلين وشأن الرسالة ، كما سبق (1).
ولو سُلّم ، فإنّما يجوز ذلك في مقام الاستشارة ، لا في مقام يقضي
ص: 187
به النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ويعزم ، كما في المورد ، فإنّه ليس لأحد فيه الخيَرة ، كما صرّحت به الآية السابقة (1).
وأما قوله : «ومن علم أحوال عمر مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وطول صحبته لم يتعجّب من هذا» ..
فصحيحٌ ؛ لِما نعهده من سوء أدبه مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومخالفته له في كثير من المقامات التي يقضي فيها ، وتدخّله في ما ليس له ، كما في الصلاة على ابن أُبَيّ ، والصلح يوم الحديبية ، وغيرهما (2) ، فيُعرض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عنه ، أو يجيبه بما يقتضيه حُسن خُلُقه وعظيم تأليفه ، وإلاّ فالنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أعلى شأناً ، وأرفع مكاناً ، وأظهر عصمة ، وأكبر تأييداً من أن يحتاج إلى الآراء الناقصة ، ويتّبع من لا طريق له إلاّ الظنّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
ثمّ إنّ بعض الرواة قد تصرّف في الحديث فصوّره بصورة الاستفهام ؛ تقليلا للاستهجان ، فروى أنّهم قالوا : «ما شأنُه؟! أَهَجَر؟! استفهموه!» كما رواه البخاري (3) ، ومسلم (4) (5).
وفي لفظ آخر : «ما باله (6)؟! أَهَجر؟! استفهموه!» كما رواه
ص: 188
البخاري أيضاً (1).
وليت شعري ، كيف يُستفهم عن الهجر من احتُمِل في حقّه الهجر؟!
وكيف يكون عمر مستفهماً وهو يقول : «حسبنا كتاب اللّه» ، الذي هو كلامُ معارِض لا مستفهِم ، حتّى لو حُمل استفهامه على الإنكار كما زعمه بعضهم؟!
وهل يُجامع الإنكارَ قولُه : «أَهَجَر؟! استفهموه!»؟! فإنّه لو أُريد به الإنكار على قائل لتعلّق به الاستفهام الإنكاري لا بالنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولَمَا كان مورد لقوله : «حسبنا كتاب اللّه»!
على أنّه لم يسبق أحد عمرَ إلى نسبة الهجر إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتّى يُنكر عمرُ عليه ، بدليل ما رواه البخاري (2) ومسلم (3) ، عن ابن عبّاس ، قال : «لمّا حُضِرَ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال : هلُمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده.
قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب اللّه!
واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه كتاباً لن تضلّوا بعده ؛ ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا
ص: 189
اللغط (1) والاختلاف عند النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : قوموا عنّي!».
وروى أحمد في «مسنده» (2) ، عن جابر ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتاباً لا يضلّون بعده ، فخالف عمر بن الخطّاب حتّى رفضها.
ومن العجب شدّة تحفّظهم على شأن عمر ؛ فإنّهم إذا رووا لفظ «الهجر» لم يُعيّنوا قائله (3) ، وإذا عيّنوا عمر قالوا : «قال : غلبه الوجع» (4) ، أو : «خالف حتّى رفضها» (5).
وإذا تُليت عليهم الأدلّة الواضحة على امتناع وصمة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالهجر والهذيان ردّوها بجدّهم ، وخذلوا رسولَ اللّه ونصروا عمرَ بجهدهم ، وأساؤوا القول في مَن ينتقده ؛ وإنْ آذى نبيّهم وأغضبه وغمه ، وسبب
ص: 190
كلّ ضلال إلى يوم القيامة.
فقد روى أحمد الحديث في «مسنده» (1) ، وقال فيه : «فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف وغُمّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : قوموا عنّي!».
وحكى ابن أبي الحديد (2) ، عن الجوهري ، رواية الحديث ، وقال فيه : «فلمّا أكثروا اللغط واللغو والاختلاف غضب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال : قوموا عنّي! لا ينبغي لنبيّ أن يُختلف عنده هكذا ؛ فقاموا» .. الحديث.
ويا هل ترى ، إنّا لو قلنا : «إنّ عمر يهجر» في قبال قوله للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «يهجر» ، أكانوا يرضون منّا بدون القتل؟!
والحال أنّ قولنا لو كان حراماً وضلالا لكان بسبب عمر ؛ لمنعه للكتاب الرافع للضلال إلى يوم القيامة ، فكان أَوْلى بما يستحلّونه منّا!
وأعجب من ذلك أنّهم - مع نسبة الهجر عندهم إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - يستدلّون على استحقاق أبي بكر الخلافة ؛ بدعوى أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمره بالصلاة في الناس!
والحال أنّ أمره بها - على زعمهم - كان في حال شدّة المرض بحيث يُغمى عليه مرّةً ويفيق أُخرى ، كما في بعض روايات البخاري (3) ، ومسلم (4) ، وغيرهما (5).
ص: 191
وكانت صلاته أيضاً في الناس - على زعمهم - سبع عشرة صلاة أو نحوها (1) ، وهي بعدُ أمرِ الكتاب ؛ لأنّه كان يوم الخميس والنبيّ توفّي يوم الاثنين ، فكيف كان أمره بالكتاب هجراً ، وأمره بالصلاة دليلا على الخلافة؟!!
بل أعجب من ذلك أنّهم يروون أنّ أبا بكر أمر عثمان أن يكتب : أما بعد ؛ ثمّ أُغمي عليه ، فكتب عثمان : أمّا بعد ، فقد استخلفت عليكم عمرَ بن الخطّاب ولم آلُكُم (2) خيراً.
ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ! فقرأ عليه.
فقال : أراك خِفْتَ أن يختلف الناس.
قال : نعم ؛ وأقرّها أبو بكر.
رواه الطبري في «تاريخه» (3) ، وابن الأثير في «كامله» (4).
فأنت ترى أنّ أبا بكر قد كتب وأمضى وهو في حال يُغشى عليه ، فلم يقولوا : «يهجر»! وسيّد النبيّين (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر بالكتابة قبل وفاته بخمسة أيّام ، ولم تكن حاله في الشدّة كحال أبي بكر ، وقالوا : «يهجر»!
فهل الفرق بينهما إلاّ مخالفة وصيّة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهوى أُولئك
ص: 192
الصحابة ، وموافقة وصيّة أبي بكر لهواهم؟!
وهل تتصوّر أمراً لا تهواه أنفسهم ، ويخالفون النبيّ فيه بالصراحة ، ويجدون في منعه كلّ الجدّ بأقبح المنع ، غير الوصيّة لعليّ (عليه السلام) بالإمامة؟!
أو هل تتوهّم أنّ أمراً يُبكي ابن عبّاس فواتُه حتّى يخضب الحصباءَ ، ويتذكّره بعد طول المدّة ، ويجعل الحيلولة دونه كلّ الرزيّة ، غير خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
أو هل تحتمل أنّ أمراً يتضمّنه الكتاب الصغير يكون مؤمناً من الضلال والاختلاف إلى آخر الأبد ، غير النصّ على أئمّة حفظة للدين ، عِلماً وعملا ، إلى يوم القيامة؟!
وما هم غير عليّ وأولاده الطاهرين ؛ لأنّ الحفظ كذلك لا يتمّ إلاّ بالعصمة ، ولا قائل بعصمة غيرهم.
ولو كان ذلك الحفظ يحصل بأبي بكر وأمثاله لَما وقع الضلال ، وهو واقع بكثرة ساحقة للهدى في طول السنين.
ويشهد لإرادة أئمّتنا (عليهم السلام) قوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّي مخلّف فيكم الثِّقلَين ، إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً» (1).
فإنّ مرمى الحديثين واحد ، سوى إنّه يريد أن يكتب بهذا الكتاب تفصيل ما أجمله في حديث الثِّقلَين ، ويذكر الأئمّة بأسمائهم ؛ لتحصل فيه فائدة جديدة.
لكنّ القوم عرفوا مراده فمنعوه - كما اعترف به عمر في ما دار بينه
ص: 193
وبين ابن عبّاس - كما ذكره ابن أبي الحديد (1) ، ففاجأوه بكلمة جفاء لم تكن في الحُسبان اضطرّته إلى العدول عمّا أراد ؛ إذ لا تبقى بعدها فائدة في كتابه.
ولو أصرّ على مطلوبه لدامت الفتنة والاختلاف في أنّه هجر أو لا؟ و ( لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (2).
وقد علم أنّ شيعة الحقّ غنيّون - عن المضيّ عليه - بنصّه يوم الغدير (3) ونصّ القرآن المجيد (4) ، كما زادهم بصيرة في أضداد خليفته ووصيّه ، فقضت الحكمة أن يعدل بعد ذلك عن الكتاب.
فيا لهف نفسي! يريد نبيُّ الرحمة حياتنا إلى الأبد ، ويطلب أن يكتب لنا كتاباً حقيقياً بأن تتشوّق إليه قلوب المؤمنين ، وتتشوّف إليه عيون المهتدين ، فلا يُتّبع!
ويريد أبو بكر أن يوصي إلى عمر ، ويظهر الشكّ في أمره بما يدعو المسلم العاقل إلى النفرة عنه ، فيُتّبع! ..
قال : «إنّي أستخلف عليكم عمر ، فإن عدل فذلك ظنّي به ، وإن
ص: 194
بدّل فلكلّ امرئ ما اكتسب ، ولا أعلم الغيب».
كما ذكره في «الصواعق» (1).
ورواه جماعة ؛ كابن قتيبة (2) ، وابن عبد ربّه (3) ، وغيرهما (4).
ويا بأبي وأُمّي ، الشفيق على أُمّته! أيّةُ كلمة ودّعوه بها ، وهو في فراش الموت بينهم؟! وأيّةُ إساءة أساؤوه بها وهو يريد الإحسان إليهم؟!
فقد ثبت بما بيّنّا أنّ مراد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالكتاب : هو النصّ على أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين.
وقول الخصم : «هذا من باب الإخبار بالغيب» ..
خطأٌ ؛ فإنّه من باب اتّباع الدليل - كما عرفت (5) - مع القرائن القاضية به ؛ كسبق النصوص عليه في الكتاب والسنة ؛ فيكون هذا الكتاب من باب تأكيد النصّ ، فما زعمه الخصم من مناقضة مقاصد المصنّف ساقط ؛ إذ أيُّ عارف يقول : إنّ في تأكيد النصّ مناقضة؟!
كما تحقّق ممّا بيّنّا أنّه لا يمكن أن يريد النصّ على أبي بكر ، ولو أدركه عمر لكتب الكتاب بيده ، وعجّل إليه في يومه قبل غده ، واستغنى عن التزوير يوم السقيفة ، والهجوم على دار فاطمة الشريفة.
وقد ظهر من الأحاديث أنّهم لم يأتوا بمجرّد إساءة الأدب مع
ص: 195
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بل آذوه أيضاً ، وأغضبوه ، وغموه ، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) (2).
وأيضاً خالفوا أمر اللّه عزّ وجلّ بطاعة نبيّه الكريم (3) ، ونهيه عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض (4) ، وسببوا كلّ ضلال إلى يوم القيامة.
وما أعجب قول عمر : «حسبُنا كتاب اللّه!» ؛ فإنّه من أكذب القول ؛ ضرورةَ عدمِ علمهم منه بكلّ ما تحتاج إليه الأُمة ؛ ولذا قرنه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعترته فقال : «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي».
وروى الترمذي في «صحيحه» (5) ، وحسنه ، عن أبي الدرداء ، قال : «كنّا مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فشخص ببصره إلى السماء ، ثمّ قال : هذا أوانٌ يُختلس العلمُ من الناس حتّى لا يقدروا منه على شيء.
فقال زياد بن لبيد الأنصاري (6) : كيف يُختلس العلمُ منّا وقد قرأنا
ص: 196
القرآن؟! فواللّه لنَقرأنّه ولنُقرئنّه نساءنا وأبناءنا.
قال : ثكلتك أُمّك يا زياد! إنْ كنتُ لاََعُدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا تُغني عنهم؟!».
ونحوه في «مسند أحمد» (1) ، عن أبي أُمامة.
وروى أبو داود في «صحيحه» (2) ، عن العرباط (3) ، من حديث قال النبيّ فيه : «أيحسب أحدُكم متّكئاً على أريكته قد يَظنّ أنّ اللّه لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في القرآن ، ألا وإنّي قد وعظت ، وأمرت ، ونهيت عن أشياء ، إنّها لمثل القرآن أو أكثر».
وروى أبو داود أيضاً (4) ، عن أبي رافع ، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال :
ص: 197
«لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته ، يأتيه الأمرُ من أمري ، ما أمرتُ به أو نهيتُ ، عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدناه في كتاب اللّه اتّبعناه!».
ومثله في «صحيح الترمذي» ، وحسنه (1).
وعن الحاكم في «مستدركه» ، وابن ماجة ، وابن حبّان في «صحيحيهما» (2).
.. إلى نحوها من الأحاديث الكثيرة (3).
فكيف يردّ عمر أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالكتابة ويقول : «حسبنا كتاب اللّه»؟!
فيا عجباً!! أكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يعلم بمكان كتاب اللّه منهم ، أو أنّهم أعلم منه بما فيه وبفوائده ، حتّى يزيّف عمر طلبه للكتاب بقوله : «حسبنا كتاب اللّه» كما يزيّف أحدُنا رأيَ مثلِه؟!
ثمّ إنّ المصنّف (رحمه اللّه) أشار بقوله : «فقال أهله : لا ينبغي عند النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) هذه الغوغاء» إلى أخبار رواها القوم تدلّ على ذلك ..
منها : ما رواه أحمد في «مسنده» (4) ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس ، قال : «لمّا حُضِر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : ائتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي.
ص: 198
فأقبل القوم في لغطهم ، فقالت المرأة : وَيحكمْ! عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!».
ومنها : ما في كتاب الشمائل في «كنز العمّال» (1) ، عن ابن سعد ، بسنده عن عمر ، قال : «كنّا عند النبيّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : اغسلوني بسبع قِرَب ، وائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقالت النسوة : ائتوا رسولَ اللّه بحاجته.
فقلتُ : اسكتن! فإنّكنّ صواحبُه ، إذا مرض عصرتُنّ أعينكُنّ ، وإذا صحّ أخذتُنّ بعنقه.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : هنّ خير منكم».
ومنها : ما في كتاب «الخلافة والإمارة» من «الكنز» أيضاً (2) ، عن الطبراني في «الأوسط» ، عن عمر ، قال : «لمّا مرض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.
قال النسوة من وراء السِتر : ألا تسمعون ما يقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فقلتُ : إنّكنّ صويحبات يوسف ، إذا مرض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عصرتُنّ أعيُنكنّ ، وإذا صحّ ركبتنّ عُنقه.
فقال رسول اللّه : دعوهنّ! فإنّهنّ خير منكم».
ص: 199
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إيجاب بيعة أبي بكر على جميع الخلق ، ومخاصمته على ذلك (2) ، وقصد بيت النبوّة ، وذرّيّة الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - الّذين فرض اللّه مودّتهم ، وأكّد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عدّة مرار موالاتهم ، وأوجب محبّتهم ، وجعل الحسن والحسين ودائع الأُمة ، فقال : اللّهمّ هذان وديعتي عند أُمّتي (3) - بالإحراق بالنار (4).
وكيف يحلّ إيجاب شيء على جميع الخلق من غير أن يوجبه اللّه ، أو نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أو يأمران به؟!
أترى عمر كان أعلم منهما بمصالح العباد؟!
أو كان قد استناباه في نصب أبي بكر إماماً؟!
أو فوّضت الأُمة بأسرها إليه ذلك وحكّموه على أنفسهم؟!
فليرجع العاقل المنصف من نفسه ، وينظر : هل يستجيز لنفسه
ص: 200
المصير إلى هذه الاعتقادات الرديّة؟!
مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان أشرف الأنبياء (عليهم السلام) ، وشريعته أتمّ الشرائع ، وقنع من اليهود بالجزية ، ولم يُوجب عليهم متابعته قهراً وإجباراً ، وكذا من النصارى والمجوس ، ولم يعاقبهم بالإحراق!
فكيف استجاز هؤلاء الصحابة قصد أهل البيت بذلك؟!
مع أنّ مسألة الإمامة عندهم ليست من أُصول العقائد ، ولا من أركان الدين ، بل هي ممّا يتعلّق بمصالح العباد في أُمور الدنيا (1).
فكيف يعاقب من يمتنع من الدخول فيها؟!
وهلاّ قصدوا بيوت الأنصار وغيرهم ، مثل : سلمان ، وأبي ذرّ ، والمقداد ، وأكابر الصحابة لمّا امتنعوا من البيعة؟!
وأُسامة بن زيد لم يبايع إلى أن مات ، وقال : «إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمّرني عليكم فمن أمّرك علَيَّ يا أبا بكر؟!» (2).
* * *
ص: 201
وقال الفضل (1) :
قد عرفت أنّ إمامة أبي بكر ثبتت بالإجماع ، وكلّ إجماع فإنّ مبدأه يكون شخصاً أو أشخاصاً ، ثمّ يتتابع الناس في الموافقة والقبول حتّى يتمّ (2).
وإجماع خلافة أبي بكر كان مبدأَه عمرُ وأبو عبيدة ، وهما كانا من أهل الحلّ والعقد ، ومن أكابر الصحابة.
وعمر كان من المحدثين (3) ، وكان وزير رسول اللّه (4) ..
وأبو عبيدة كان من الأُمناء ، وقال فيه رسول اللّه : «أمين هذه الأُمّة أبو عبيدة بن الجرّاح» (5) ..
فكانا مبدأ الإجماع ، وليس هو الموجب ، وهذا ظاهر.
وما ذكره من إحراق بيت أهل البيت ، فقد بيّنّا أنّه من موضوعات الرفَضة بوجوه عقليّة ونقليّة (6).
ص: 202
قد أنكر المصنّف (رحمه اللّه) على عمر إيجاب بيعة أبي بكر ومخاصمته عليها في حين لا إجماع ، فلا يرتبط بالجواب عنه قول الخصم : «إنّ مبدأ الإجماع عمر وأبو عبيدة ، وإنّ إمامة أبي بكر ثبتت بالإجماع».
على أنّ دعوى الإجماع ظاهرة الكذب ، كما سبق (1).
وقوله : «ثمّ يتتابع الناس في الموافقة والقبول» ..
لا ينطبق على بيعة أبي بكر ؛ لأنّ عمر لم يترك الناس على رسلهم ، بل استكره الناس وخاصمهم على بيعة أبي بكر ، فلا موافقة ، ولا إجماع بالاختيار - لو سُلّم الإجماع - كما مرّ في مبحث تعيين الإمام (2).
وأمّا ما ذكره في فضل عمر وأبي عبيدة ..
فهو من مزعوماتهم وأخبارهم ، وهي غير حجّة علينا ، بل ولا عليهم ؛ لِما عرفت من حالها في المقدّمة وغيرها (3).
وأمّا قوله : «وليس هو الموجب» ..
أي لبيعة أبي بكر ؛ فهو من إنكار الضروريات ، كما يعرفه مَن عرف طرفاً ممّا جرى في السقيفة وما بعدها.
ولا يمكن أن يجاب عن عمر باحتمال أنّه ممن يرى انعقاد
ص: 203
الإمامة ببيعة الواحد والاثنين ؛ فلذا خاصم في إتمام بيعة أبي بكر بعدما بايع هو وجماعة ؛ وذلك لأنّ عمر ليس على هذا الرأي ، فإنّه قال في خطبته : «إنّ بيعة أبي بكر فلتة ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، ولا بيعة له ولا لمن بايعه» ، كما سبق في مآخذ أبي بكر (1).
على أنّه لو كان يرى ذلك ، فغاية ما يلزم أنّه لا تجوز البيعة لغيره ، لا أنّه يجب على جميع الخلق بيعتُه.
وأما إنكار الخصم لإحراق بيت آل محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فصحيحٌ ، لكنّ المصنّف (رحمه اللّه) ادّعى قصدَ الإحراق ، وهو مستفيض في أخبارهم ، كما سبق (2).
هذا ، واعلم أنّ المصنّف (رحمه اللّه) نقض على القوم بأنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قنع بالجزية من أهل الذمة ، ولم يوجب عليهم متابعته ، فكيف استجاز هؤلاء الصحابة قصد أهل البيت بالإحراق لأجل متابعة أبي بكر؟!
ويمكن أن يجيب القومُ عنه بالنقض ؛ بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل معاوية لأجل المتابعة ..
وفيه : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل معاوية لعلمه بفساده وإفساده للدين ؛ ولعهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إليه بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (3) ،
ص: 204
ولم يقاتله لمجرّد طلب المتابعة ، وإلاّ فقد كان يمكنه أن يقرّه والياً وينال متابعته ثمّ يعزله ، كما أُشير عليه بذلك ، فامتنع وقال : «واللّه لا أُداهن في ديني ، ولو أقررتُه ( كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) (1)» (2) ، كما سنذكره إن شاء اللّه في مطاعن معاوية.
ويشهد لكون قتاله لا لمجرّد المتابعة ، أنّه لم يقهر سعداً وابنَ عمر وغيرَهما على متابعته (3).
ص: 205
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه قد بلغ من قلّة المعرفة ، أنّه لم يعلم أنّ الموت يجوز على النبيّ ، بل أنكر ذلك لمّا قالوا : مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
فقال : واللّه ما مات محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتّى يقطع أيدي رجال وأرجلهم.
فقال له أبو بكر : أما سمعت قول اللّه تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (2) ، وقوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ... ) (3)؟!
فقال : أيقنت بوفاته ، وكأنّي لم أسمع هذه الآية (4).
ومَنْ هذه حالُه ، كيف يجوز أن يكون إماماً واجب الطاعة على جميع الخلق؟!
ص: 206
وقال الفضل (1) :
في «الصحاح» ، أنّ رسول اللّه لمّا توفّي قام عمر في المسجد ، وقال : إنّ أُناساً يزعمون أنّ رسول اللّه توفّي ، وإنّه ذهب يناجي ربّه كما ذهب موسى يناجي ربّه في الطور ، وسيعود ويقطع أيدي رجال وأرجلهم بما قالوا : إنّه مات.
فدخل أبو بكر وقال لعمر : اجلس! فما جلس ، وكان يتكلّم بمثل ذلك الكلام ، حتّى قام أبو بكر في ناحية أُخرى من المسجد ، فقال : أيّها الناس! من كان يعبد محمّداً ، فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فهو حيٌّ باق لا يموت ؛ ثمّ قرأ هذه الآية : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ... ) (2) الآية.
فلمّا سمع عمر هذه المقالة رجع إلى قول أبي بكر وقال : كأنّي لم أسمع هذه الآية (3).
واختلفوا في ذلك الحال الذي غلبه حتّى حكم بأنّ النبيّ لم يمت ..
فقال بعضهم : أراد أن لا يستولي المنافقون ، وخاف أن لو اشتهر موت النبيّ قبلَ البيعةِ لخليفة تشتّت أمر الإسلام ، فأراد أن يُظهر القوّة
ص: 207
والشوكة على المنافقين ؛ ليرتدعوا عمّا همّوا به من إيقاع الفتنة والإيضاع خِلال (1) المسلمين كما كان دأبهم.
وقال بعضهم : كان هذا الحال من غلبة حُكم المحبّة وشدّة المصيبة أنّ قلبه كان لا يأذن له أن يحكم بموت النبيّ.
وهذا كان أمرٌ عمَّ جميع المؤمنين بعد النبيّ حتّى جُنّ بعضهم ، وعمي بعضهم من كثرة الهمّ ، واختلّ بعضهم (2) ، فغلب عمر شدّة حال المصيبة ، فخرج من حال العلم والمعرفة ، وتكلّم بعدم موته ، وأنّه ذهب إلى مناجاة ربّه ؛ وأمثال هذا لا يكون طعناً.
ص: 208
كِلا العذرين بارد باطل.
أما الأوّل ؛ فلأنّه لو كان عمر خائفاً من تشتّت أمر الإسلام واستيلاء المنافقين قبل البيعة ، فلِمَ ترك مقالته لقول أبي بكر؟! والحال أنّ البيعة لم تقع ، بل كان عليه أن يشير إلى أبي بكر بالسكوت ويعرّفه غرضه ، ويشتغلا بالبيعة!
على أنّه كيف يتصوّر أن يبقى المنافقون تحت الرهبة من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى أن تحصل البيعة؟! والحال أنّ الاشتغال بالبيعة إنّما يترتّب عند المسلمين أنفسهم على موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
أو كيف يرتدع المنافقون الّذين لم يؤمنوا بأصل نبوّة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمجرّد قول عمر : ما مات ، وذهب إلى المناجاة ؛ وهم يرونه بينهم ميّتاً ساكن الحركات؟!
بل يعدّون هذا القول من عمر - والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مسجّىً بينهم - من الهذيان والخرافات!
مضافاً إلى أنّ أهل السنة يرون أنّ الصحابة كلّهم عدول ، وأنّ المنافق بينهم قليلٌ مخفيُّ الحال ، فكيف يستولي المنافقون ، أو يُخاف منهم - بأسرع وقت - تشتّت أمر الإسلام؟!
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ عمر لو خرج من حال المعرفة بمجرّد سماع قولهم : «مات النبيّ» ، للزم أن يزول عقله بالكلّية لمّا تحقّق عنده موت النبيّ بقول أبي بكر ، فلا يذهب إلى السقيفة بوقته ويزوّر بنفسه ما يزوّر ،
ص: 209
ويفعل ما يفعل ، فيها وفي خارجها.
وكيف تلائم تلك المحبّة المدّعاة إعراضه - كصحبه - عن تجهيز النبيّ ودفنه إلى ثلاثة أيام؟!
أو كيف تجتمع مع إيذائه حال المرض المُشجي بنسبة الهجر إليه ومنعه عمّا أمر به؟!
ثمّ إنّي لستُ أذهب إلى ما قاله المصنّف (رحمه اللّه) ، إنّ صدور ذلك القول من عمر من قلّة المعرفة ؛ فإنّ مثل عمر الذي يبتدع الشورى وكيفيّتها لا يجهل جواز موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
كيف؟! والنبيّ نعى نفسه الشريفة إليهم مراراً (1) ، ونطق الكتاب العزيز بموته (2)!
وما تخلّفَ عمر عن جيش أُسامة إلاّ ارتقاباً لموته!
ولا قال : «حسبنا كتاب اللّه» إلاّ بناءً على وفاته!
وما نسبهَ إلى الهجر إلاّ طعناً برأيه في ما يوصي به لِما بعد الموت!
فكيف يَجهل موته وقد فارقت روحُه الدنيا ، أو يَحتمل ذهابه إلى
ص: 210
المناجاة وهو مسجّىً بينهم؟!
بل لا أرى ذلك منه إلاّ مكراً وكيْداً ؛ فإنّه يعلم أنّ الهاشميّين وبعض الصحابة كسلمانَ ، والمقدادِ ، وأبي ذرّ ، وعمار ، وحذيفة ، ونحوهم (1) ، يريدون بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فخاف أن يبايعوه ويتّبعهم الناس ؛ لسبق أمر الغدير ، فادّعى أنّ النبيّ ما مات ؛ ليشغل الناس وقتاً ما بهذا الكلام ، فيحصل لبيعة عليّ (عليه السلام) تأخير حتّى يأتي أبو بكر من منزله بالسنح (2) ؛ ليُعمِلا رأيهما ، ويَمضيا على ما أبرماه وأصحابهما في الصحيفة من منع أمير المؤمنين (عليه السلام) خلافته.
ولمّا حضر أبو بكر لم يسعه العدول من مقالته دفعةً ، بل بقي يتكلّم إلى أن قرأ أبو بكر قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) الآية ، فأظهر المغلوبيّة ، وزعم كأنّه لم يسمع الآية (3)!
ص: 211
والحال أنّ الآية لا تدلّ على بطلان ما زعمه من ذهاب النبيّ إلى المناجاة ؛ فإنّها لا تدلّ على موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في هذا اليوم الذي مات فيه!
ومَن أنصف وعرف بعض أحوال عمر صدّق بما قلناه.
ثمّ إنّ عدم حضور أبي بكر عند وفاة النبيّ - وهو يعلم أنّه على خطر الموت - مُستغرَبٌ بحسب العادة ، ولكن لا غرابة فيه عند مَن عرف الحقيقة ، بل يجعله قرينةً على ما حقّقناه سابقاً ، من أنّ أبا بكر قد صلّى بالناس صبح الاثنين يوم وفاة النبيّ بغير رضاه ، فلما علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خرج يجرّ رجليه من المرض ونحاه (1).
فذهب أبو بكر إلى منزله بالسُّنح (2) ؛ فراراً من مواجهة النبيّ له بما يكره.
ولمّا صلّى رسول اللّه لم يجده ، وقال : «سُعّرت (3) الفتن» ، كما سبق
ص: 212
في رواية الطبري (1) ، فلذلك كان عند وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنزله في السُّنح.
ولمّا سمع بوفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أسرعَ الكرّة واجتمع بعمر ، وذهبا بأنصارهما إلى السقيفة ، وفعلا ما فعلا!
* * *
ص: 213
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه أمر برجم امرأة حامل ، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : إن كان لك عليها سبيل ، فليس لك على ما في بطنها سبيل.
فقال : لولا عليٌّ لهلك عمر (2).
ومنها : إنّه أمر برجم مجنونة ، فنبّهه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال : القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق.
فقال : لولا عليٌّ لهلك عمر (3).
وهذا يدلّ على قلّة معرفته ، وعدم تنبّهه لظواهر الشريعة.
ص: 214
وقال الفضل (1) :
الأئمةُ المجتهدون قد يَعرض لهم الخطأُ في الأحكام ؛ إما لغفلة ، أو نسيان ، أو عروض حالة تدعو إلى الاستعجال في الحكم ؛ والإنسان لا يخلو عن السهو والنسيان ، والعلماء وأرباب الفتوى يرجعونهم إلى حكم الحق.
ولهذا يُستحبّ للحاكم أن يشاور العلماء ، ولا يحكم إلاّ بمحضر أهل الفتوى.
وإنْ صحّ ما ذكر من حكم عمر في الحامل والمجنونة ، فربّما كان لشيء مما ذكرناه ، ولا يكون هذا طعناً.
وكيف يصحّ لأحد أن يطعن في علم عمر ، وقد شاركه النبيُّ في علمه ، كما ورد في «الصحاح» عن ابن عمر ، قال : «سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : بَيْنا أنا نائمٌ أُتيت بقدح لبن فشربت حتّى إنّي لأرى الرِّيَّ (2) يخرج في أظفاري ، ثمّ أعطيتُ فضلي عمرَ بن الخطّاب.
قالوا : فما أَوّلته يا رسول اللّه؟
قال : العلم» (3)؟!
ص: 215
سبق أنّ الإمام لا بُد أن يكون معصوماً من الخطأ ، محيطاً بأحكام الشريعة ، فلا يجوز أن يجهل حكماً ، أو يُخطئ فيه ، ولا سيّما واضحات الشريعة كهذه الأحكام ، وخصوصاً في ما يتعلّق بالدماء ونحوها ، ولا سيّما مع الاستعجال ، وإلاّ كان أضرّ الناس على الأُمّة والشريعة ، فتمتنع إمامته (1).
وقد أنصف القاضي الأُرموي (2) في ما نقل عنه السيّد السعيد (رحمه اللّه) ، حيث قال القاضي في «لباب الأربعين» : «لا يقال : عمر لم يتفحّص عن حالها ، ولم يعلم كونها حاملا ، فلمّا نبّهه عليٌّ ترك رجمها ؛ لأنّ هذا يقتضي أنّ عمر ما كان محتاطاً في سفك الدماء ، وهو شرٌّ من الأوّل» (3).
ص: 216
وأمّا قوله : «وإن صحّ ما ذكر ...» إلى آخره ..
فهو من التشكيك في البديهيات ؛ فإنّ ابن تيميّة - مع عناده وتهتّكه في العصبيّة - أقرّ في ردّه ل «منهاج الكرامة» بصحة خبر المجنونة (1).
ورواه الحاكم في «المستدرك» (2) ، وصحّحه مع الذهبيّ على شرط الشيخين.
ونقله في «كنز العمّال» (3) ، عن عبد الرزّاق ، والبيهقي.
ورواه البخاري باختصار (4) ، قال : قال عليّ لعمر : «أمَا علمتَ أنّ القلم رُفع عن المجنون حتّى يُفيق ، وعن الصبي حتّى يُدرِك ، وعن النائم حتّى يستيقظ؟!».
ورواه في «الاستيعاب» بترجمة عليّ ، قال : «كان عمر يتعوّذ باللّه من معضلة ليس لها أبو حسن.
وقال في المجنونة التي أمر برجمها ، وفي التي وضعت لستّة أشهر [فأراد عمر رجمها] ، فقال له : إنّ اللّه يقول : ( وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثلاثونَ شَهراً ) (5) .. الحديث.
ص: 217
وقال له : إنّ القلم رُفع عن المجنون ... الحديث.
فكان عمر يقول : لولا عليٌّ لهلك عمر» (1).
ونقل أيضاً في «كنز العمّال» (2) حديث التي وضعت لستّة أشهر ، عن البيهقي ، وعبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
وأما حديث الحامل ..
فقد عرفت تسليمه في كلام القاضي الأُرموي (3).
ورواه الحاكم بعد الحديث السابق (4) ، ولكن ذكر فيه أنّ المرأة كانت مجنونة حُبلى ، فأراد عمر أن يرجمها فقال له عليٌّ : أَوَما علمت أنّ القلم رُفع عن ثلاث ...؟! .. الحديث.
ورواه نصير الدين في «التجريد» ، ولم يناقش القوشجي بصحّته (5).
وسيأتي نقل المصنّف (رحمه اللّه) له عن «مسند أحمد» (6).
ص: 218
وذكره ابن أبي الحديد (1) ، وذكر جواب قاضي القضاة عنه من دون أن يناقش في سنده ، لكن ذكر فيه أنّ معاذاً نبّه عمر على ذلك فقال : «لولا مُعاذ لهلك عمر».
وهو أَوْلى بالطعن على عمر ونقصه.
وأمّا استنكار الخصم للطعن في عمر ، مستدلاًّ بما روي عن ابنه ..
فمن الظرائف ؛ لأنّه استدلّ على علمه بروايتهم - وهي ليست حُجةً علينا - عن ابنه ، وهو محلّ التهمة ، وترك ما يشاهده الناس من كثرة جهله.
على أنّ الخصم سيُصرّح في أنّ رؤيا الأنبياء من الخياليات كرؤيا سائر الناس ، فلا عبرة بها!
ص: 219
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
ومنها : أنّه منع من المغالاة في المهر ، وقال : «من غالى في مهر ابنته جعلته في بيت المال» ؛ بشبهة أنّه رأى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) زوّج فاطمة (عليها السلام) بخمسمئة درهم.
فقامت امرأة إليه ونبّهته بقوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) (2) على جواز ذلك.
فقال : كلُّ الناس أفقهُ من عمر ، حتّى المخدّرات في البيوت (3).
واعتذار قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك المغالاة والتواضع في قوله : «كلّ الناس أفقه من عمر» ، خطأٌ ؛ فإنّه لا يجوز ارتكاب المحرّم ؛ وهو أخذ المهر وجعله في بيت المال لأجل فعل مستحبّ (4).
ص: 220
والرواية منافية ؛ لأنّ المرويّ أنّه حرّمه ومنعه حتّى قالت المرأة : «كيف تمنعنا ما أحلّ اللّه لنا في محكم كتابه؟!» (1).
وأما التواضع ؛ فإنّه لو كان الأمر كما قال عمر لاقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ ، ولو كان العذر صحيحاً ، لكان هو المصيب والمرأة مخطئة!
ص: 221
وقال الفضل (1) :
شأن أئمّة الإسلام وخلفاء النبوّة أن يحفظوا صورة سنة رسول اللّه في الأُمة ، فأمرهم بترك المغالاة ، والإجماع على أنّ الإمام له أن يأمر بالسنة أن يحفظوها ، ولا يختصّ أمره بالواجبات ، بل له الأمر بإشاعة المندوبات.
وهذا ممّا لا نزاع فيه ، كما أجاب قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك المغالاة والتواضع في قوله.
وأمّا تخطئة قاضي القضاة في جوابه ، فخطأٌ بيّنٌ ؛ لأنّه لم يرتكب المحرّم ، بل هدّد به ، وللإمام أن يُهدد ويُوعد بالقتل والتعزير والاستصلاح ، فأوعد الناس وهددهم بأخذ المال إن لم يتركوا المغالاة ، فلا يكون ارتكاب محرّم.
ولم يرووا أنّه أخذ شيئاً من المهور الغالية ووضعها في بيت المال ، ولو فعله لارتكب محرّماً على زعمه.
ثمّ قال : «والرواية منافية ؛ لأنّ المرويّ أنّه حرّمه».
فهذا غير مسلّم ، ولمّا كان ظاهر أمره ينافي ما ذكرته المرأة من جواز المغالاة بنصّ الكتاب رجع وتواضع بقوله : «كلّ الناس أفقه من عمر».
وقد كان عمر رجّاعاً إلى أحكام اللّه ، وقافاً عند كتاب اللّه.
وكان متواضعاً غاية التواضع والخشوع عند ذِكر اللّه ، حتّى إنّه قيل :
ص: 222
قال له رجل : اتّقِ اللّه ، فوضع خده على الأرض (1).
وهذا من كمال تواضعه.
وأمّا قوله : «لو كان الأمر كما قال عمر ، لاقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ» ، فهذا كلامٌ بيّنُ البطلان ؛ فإنّ عمر تواضع بقوله : «كلّ الناس أفقه من عمر».
وهذا التواضع لا يقتضي إظهار القبيح ، ولا تصويب الخطأ ، لا أنّه تواضع بترك الحقّ والصحيح ، وأخذ الباطل وتقريره ، حتّى يلزم ما يقول.
ص: 223
لا ريب بحسن الحثّ من كلّ مسلم على سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والترغيب بها ، ولكنّ الكلام في تحريم ما أحلّ اللّه ورسوله كما فعل عمر في المقام.
ودعوى أنّه لم يُحرّم المغالاة وإنْ هدّد عليها ، باطلة ؛ لأنّ صريح ما وقع منه التحريم ، بشهادة ما نقله في «كنز العمّال» (1) ، عن سعيد بن منصور ، والبيهقي ، عن الشعبي ، قال : «خطب عمر بن الخطّاب ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وقال : ألا لا تُغالوا في صداق النساء ، وإنّه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول اللّه ، أو سيق إليه ، إلاّ جعلت فضل ذلك في بيت المال.
ثمّ نزل ، فعرضت له امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين! لَكتابُ اللّهِ أحقُّ أن يتّبع أم قولُك؟!
قال : كتاب اللّه ؛ فما ذاك؟!
قالت : نهيتَ الناس آنفاً أن يتغالوا في صداق النساء ، واللّه تعالى يقول في كتابه : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) (2).
فقال عمر : كلّ أحد أفقه من عمر - مرّتين أو ثلاثة -.
ص: 224
ثمّ رجع إلى المنبر فقال للناس : إنّي كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء ، فليفعل رجلٌ في ماله ما بدا له».
ثمّ نقل في «الكنز» نحوه ، عن سعيد بن منصور ، وأبي يعلى ، والمحاملي ، عن مسروق (1).
ثمّ نقل عن عبد الرزّاق ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن السُلمي ، قال : «قال عمر : لا تُغالوا في مهور النساء!
فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر! إنّ اللّه يقول : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) من ذهب.
قال : وكذلك هي قراءة ابن مسعود.
فقال عمر : إنّ امرأة خاصمت عمر فخصمته» (2).
ثمّ نقل في «الكنز» أيضاً ، عن الزبير بن بكّار في «الموفّقيّات» ، وابن عبد البرّ في «العلم» ، عن عبد اللّه بن مصعب ، قال : «قال عمر : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقيّة! فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقالت امرأة : ما ذاك لك!
قال : ولِمَ؟!
قالت : لأنّ اللّه تعالى يقول : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) الآية.
ص: 225
فقال عمر : امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ» (1).
ونحو ذلك في «شرح النهج» (2).
وروى في «الدرّ المنثور» هذه الأحاديث وغيرها في تفسير الآية ، وقال في حديث مسروق : «سنده جيّد» (3).
وهي صريحة في تحريم عمر للمغالاة وإقراره بالخطأ.
وقد ادّعى الحاكم في «المستدرك» (4) تواتر الأسانيد الصحيحة بخطبة عمر ؛ قال : «وفي هذا الباب لي مجموعٌ في جزء كبير».
فقد ظهر أنّه لا وجه لحمل عمر على طلب الاستحباب والتواضع بعد صراحة الأخبار في التحريم ، والإقرار بالخطأ.
مع أنّ حمله على الاستحباب لا يلائم التهديد بارتكاب الحرام ؛ وهو جعل المهر في بيت المال ؛ فإنّه لا يصحّ تهديد شخص على ترك نافلة الليل والصدقة المستحبّة بأنّه لو ترك النافلة لَقتَلَه وأخَذَ ماله.
بل لا يصحّ التهديد على ترك الواجب وفِعل الحرام ، إلاّ بما يسوّغه الشرع من الحدود والتعزيرات ونحوها.
فلا يجوز أن يُهدد تاركُ الصلاة أو شاربُ الخمر بأن يُزنى بأُمه ، أو يُقتل أخوه ، أو يؤخذ مالُه ؛ ضرورة أنّ التهديد إنّما يصحّ بما يمكن للفاعل أن يفعله ويسوغ له شرعاً إذا كان مقيّداً بالشرع.
ص: 226
وهذا هو مراد المصنّف في تخطئة القاضي.
ولا تتوقف تخطئتُه على ارتكاب عمر للحرام وأخذ شيء من المهور ووضعه في بيت المال ، كما تخيّل الخصم أنّه مراد المصنّف (رحمه اللّه).
وأيضاً : لو كان عمر مريداً للاستحباب أوّلا والتواضع أخيراً ، لكان بتواضعه بإظهار خطأ نفسه مُظهراً للقبيح ؛ وهو إرادة التحريم والتهديد على مخالفته ، ومصوِّباً لخطأ المرأة في حملها له على التحريم ؛ وهذا ليس من أفعال العقلاء!
وأمّا قوله : «كان عمر رجّاعاً إلى أحكام اللّه ، وقّافاً عند كتاب اللّه» ..
فمحلُّ نظر ؛ بشهادة مخالفته للكتاب في أمر الخمس (1) ، والزكاة (2) ، والمتعتين (3) ، وغيرها (4) ، وعدم رجوعه إلى حكمه.
ص: 227
نعم ، كان يرجع في كثير من المسائل عمّا يراه إلى رأي آخر ؛ لتسرّعه وتحيّره ؛ كما في أحكام الإرث (1) ، والحدود (2) ..
وربّما يرجع نادراً إلى حكم اللّه - كما في المقام - ؛ لاتّضاح خطئه وافتضاح رأيه ، وعدم المقتضي لإصراره على الخطأ ..
ومع ذلك هو مُصرٌّ حيث يسعه ..
فقد حكى في «كنز العمّال» - قبل الأحاديث التي ذكرناها سابقاً - ،
ص: 228
عن ابن أبي شيبة ، عن نافع ، قال : «تزوّج ابن عمر [صفيّة] على أربعمئة درهم ، فأرسلتْ إليه أنّ هذا لا يكفينا ؛ فزادها مئتين سرّاً من عمر» (1).
وأما قوله : «كان متواضعاً غاية التواضع» ..
فمحلُّ نظر أيضاً ، بدليل كثرة إهانته للناس ، وتحقيره لهم ، وضربه لهم بالدرّة بلا سبب شرعي (2).
* * *
ص: 229
قال المصنّف - رفع اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه تسوّر على قوم ، ووجدهم على منكَر ، فقالوا : أخطأتَ من جهات :
تجسّست ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (2) ..
ودخلت الدار من غير الباب ، واللّه تعالى يقول : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (3) ..
ودخلت بغير إذن ، وقد قال اللّه تعالى : ( لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) (4) ..
ولم تسلّم ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) (5).
فلحقه الخجل (6).
ص: 230
أجاب قاضي القضاة بأنّ له أن يجتهد في إزالة المنكر ، ولحقه الخجل ؛ لأنّه لم يصادف الأمر على ما قيل له (1).
وهذا خطأ ؛ لأنّه لا يجوز للرجل أن يجتهد في محرّم ومخالفة الكتاب والسنة ، خصوصاً مع عدم علمه ، ولا ظنّه ؛ ولذا ظهر كذب الافتراء على أُولئك (2).
ص: 231
وقال الفضل (1) :
جواب قاضي القضاة صحيح ، وتخطئته خطأ ظاهر ؛ لأنّ هذا ليس من الاجتهاد في الحرام ؛ فإنّ الاجتهاد في الحرام فيما لم يكن للحكم الحرام معارِض ، وها هنا ليس كذلك ؛ لأنّ إزالة المنكر على المحتسب والإمام واجب بقدر الوسع والإمكان ، فهذا يجوّز التجسّس ؛ لأنّه من جملته ، ومع الإزالة.
فكان التجسّس لإزالة المنكر خارجاً عن حكم مطلق التجسّس ، فيجوز فيه الاجتهاد.
ألا يرى أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحمير الأهليّة (2) - مع أنّ الكسر إتلاف مال الغير - وهو حرام ؛ للنصّ والإجماع ، ومع ذلك أمر به ؛ لأنّ إزالة المنكر كانت تدعو إلى ذلك.
فإزالة المنكر إذا دعت إلى أمر لا يتيسر الإزالة إلاّ به ، يجوز للمحتسب (3) الإقدام عليه.
ص: 232
أَما سمعت أنّ المحتسب له أن يكسر الدِّنان (1) التي فيها الخمر إذا لم يتيسر الإهراق بدون الكسر.
ويجوز أنّ عمر اجتهد ؛ فدخل الدار وتجسّس على ما ذكرنا ، ثمّ لما ذكّروه القرآنَ تغيّر اجتهاده فتركهم وخرج.
وأمثال هذه الأُمور لا يبعد عن أئمة العدل.
ص: 233
لا يخفى أنّ النهي عن المنكر لا يتحقّق إلاّ مع إحراز وجود المنكر ، أو إحراز العزم عليه ؛ وبخلافه التجسّس ، فإنّه لا يتحقّق إلاّ مع الشكّ في ما يُتجسّس عنه.
فحينئذ إذا قام دليلٌ على وجوب النهي عن المنكر ، ودليلٌ على حرمة التجسّس ، لم يقع بينهما تزاحم أصلا ، لتباين موضوعيهما ، فلا وجه لدعوى خروج التجسّس لإزالة المنكر عن حكم مطلق التجسّس.
ولو سُلّمت المزاحمة ، فالمقتضي لحرمة التجسّس أهمّ وأقوى من مقتضى وجوب النهي عن المنكر ، فيلزم القول بحرمة التجسّس تقديماً لها على وجوب النهي عن المنكر المحتمل.
ويدلّ عليه ما حكاه في «كنز العمّال» (1) ، عن عبد الرزّاق ، والحاكم ، والبيهقي ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وغيرهم ، عن ابن
ص: 234
مسعود ، من حديث طويل رواه عنه ابن (1) أبي ماجد الحنفي ، قال : «أوّلُ رجل قُطع من المسلمين رجلٌ من الأنصار ، أُتي به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فكأنّما أُسِفَّ (2) في وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رمادٌ.
فقالوا : يا رسول اللّه! كأنّ هذا شقّ عليك؟!
فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم ، إنّ اللّه عفوٌّ ، يحبُّ العفو ، وإنّه لا ينبغي لوال أن يؤتى بحدّ إلاّ أقامه ؛ ثمّ قرأ : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) (3)».
ونقل أيضاً نحوه عن الديلمي ، عن ابن عمر (4).
و (5) عن عبد الرزّاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب.
ونقل أيضاً (6) ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قام بعد أن رجم الأسلمي ، فقال : «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى اللّه عنها ، فمن ألَمّ بشيء منها
ص: 235
فليستَتِرْ».
إلى غير ذلك من الأحاديث الناهية عن الفضيحة وطلب الستر (1).
بل نقل في «الكنز» (2) ، عن عبد الرزّاق ، وهناد ، وابن عساكر ، عن أبي الشعثاء ، قال : «استعمل عمر بن الخطّاب ، شُرَحْبيل بن السِّمْط (3) على مَسْلَحة (4) دون المدائن ، فقام شرحبيل فخطبهم ، فقال : أيّها الناس! إنّكم في أرض ، الشرابُ فيها فاش ، والنساءُ فيها كثيرٌ ، فمَن أصاب
ص: 236
منكم حداً فليأتنا ، فلنقم عليه الحد ؛ فإنّه طَهورُه.
فبلغ ذلك عمر فكتب إليه : لا أُحلّ لك أن تأمر الناس أن يهتكوا سترَ اللّه الذي سترهم».
فليت شعري ، إذا لم يُحلّ عمر ذلك ، فما باله يتجسّس هو ويهتك ستر اللّه؟!
وكيف صار التجسّس عند الخصم راجحاً لإزالة المنكر ، وقد أمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالستر ، وقال لمن جاؤوا بالسارق : «أنتم أعوان الشيطان»؟!
وممّا ذكرنا يُعلم عدم صحّة قياس ما نحن فيه على كسر الدِّنان إذا توقّف إهراق الخمر عليه ؛ فإنّ التكليف بإتلاف الخمر معلومٌ على قوله ، فتجب مقدّمته وهي كسر الدِّنان ، بخلاف التكليف بالنهي عن المنكَر المحتمل ؛ فإنّه غير معلوم ، بل محكوم بالعدم ، فكيف يجب التجسّس مقدّمةً لإزالته؟!
على أنّ إتلاف الخمر أهمّ في نظر الشارع من حفظ الدِّنان ، بخلاف النهي عن المنكَر في المقام ، فإنّ الستر على الناس أهمُّ منه ، فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.
وأمّا ما رواه من أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحُمر الأهليّة ، فكذب ؛ إذ لو سُلّم حرمة أكل لحمها ، فترك الأكل لا يتوقّف على كسر القدور ، فكيف يأمر به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ويُتلف المال بلا مقتض؟!
ولو سُلّم صحّة الرواية ، وتوجيهها بأنّ الأمر بالكسر لبيان الاهتمام بحرمة أكل الحمير ، فقياسُ ما نحن فيه على كسر القدور خطأ ؛ ضرورة أنّ الاهتمام في المقام إنّما هو بالستر على الناس ، لا بالنهي عن المنكر ،
ص: 237
حتّى يُستباح لأجله التجسّس (1).
هذا ، ومن المضحك قوله : «إنّ عمر اجتهد فدخل الدار وتجسّس ، ثمّ لما ذكّروه القرآن تغيّر اجتهاده».
فإنّ هذا في الحقيقة تسليم لجهل عمر - أوّلا - بالأُمور الواضحة المخالفة للكتاب والسنة ، وهو المطلوب.
ولا أدري كيف يكون مجتهداً مَن يجهل صريح القرآن ولا يعرفه إلاّ بتذكير بعض جهّال الرعيّة وعصاة البريّة؟!
ثمّ إنّ قول قاضي القضاة : «ولحقه الخجل ؛ لأنّه لم يصادف الأمر على ما قيل له» ، خلاف المرويّ من الواقعة ، فإنّهم رووا أنّه تسوّر فصادف ما صادف ابتداءً من دون أن يسبق له من أحد قول بذلك.
فقد ذكر الغزّالي في «إحياء العلوم» (2) ، أنّ عمر سمع وهو يعسُّ بالمدينة صوت رجل يتغنّى في بيته ، فوجد عنده امرأة وعنده خمر ، فقال : يا عدوَّ اللّه! أظننت أنّ اللّه يسترك وأنت على معصيته؟!
فقال : إن كنتُ - أنا - عصيتُ اللّه في واحدة ، فقد عصيتَه أنت في ثلاث ؛ قال اللّه تعالى : ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (3) وقد تجسّست.
ص: 238
وقال : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) (1) ، وقد تسوّرت.
وقال : ( لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ... ) (2) الآية ، وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام.
فقال عمر : هل عندك من خير إن عفوت عنك؟
قال : نعم ؛ فتركه وخرج».
ومثله في «شرح النهج» (3).
ثمّ إنّ لعمر خطأً آخر ، وهو أنّه لم يُهرق الخمر وترك الرجل على حال لا تؤمَن منه المعصية ، بل على حال المعصية إن كانت المرأة أجنبيّة!
وأيضاً : إن كان موجب الحدّ والتعزير والنهي صادراً ، لم يجز له العفو ، وإلاّ فلا محلّ له!
هذا ، ويظهر من أخبارهم أنّ لعمر قصّة أُخرى تجسّس بها ، رواها ابن الأثير في «الكامل» (4) ، قال : «إنّ عمر وعبد الرحمن بن عوف أتيا السوق ، فقعدا على نشز (5) من الأرض يتحدّثان ، فرُفع لهما مصباح ، فقال عمر : ألم أنهَ عن المصابيح بعد النوم؟!
فانطلقا فإذا قوم على شراب لهم ، قال : انطلق فقد عرفتُه ؛ فلمّا
ص: 239
أصبح أرسل إليه ، قال : يا فلان! كنتَ وأصحابك البارحة على شراب.
قال : وما علمُك؟
قال : شيءٌ شهدتُه.
قال : أَوَلمْ ينهك اللّه عن التجسّس؟! فتجاوز عنه».
ومثله في «تاريخ الطبري» (1).
وليت شعري ، كيف لم ينهه وأصحابَه بعد التجسّس والاطّلاع؟! وما وجه تجاوزه عن الحد بعد العلم؟!
* * *
ص: 240
قال المصنّف - قدّس سرّه - (1) :
ومنها : إنّه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز ، حتّى إنّه أعطى عائشة وحفصة في كلّ سنة عشرة آلاف درهم (2).
وحرّم على أهل البيت خُمسَهم (3).
وكان عليه ثمانون ألف درهم لبيت المال (4).
ومنع فاطمة (عليها السلام) إرثها ، ونِحلَتها التي وهبها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لها (5).
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه يجوز أن يُفضل النساء (6).
ص: 241
وهو خطأ ؛ لأنّ التفضيل إنّما يكون لسبب يقتضيه ؛ كالجهاد وغيره (1).
ص: 242
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ عمر لمّا كثرت الغنائم واتّسع الفيء والخراج ، جعل لكلّ من أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عشرة آلاف ، وكان ذلك بمشاورة الصحابة ، وفيهم عليّ.
وأعاد فدك على بني هاشم ليعملوا فيها كيف شاؤوا.
فإعطاءُ النساء - اللاتي هنّ أُمّهاتُ المؤمنين ، ولم يجز لهنّ التزويج بحال - ممّا لا يجوز الطعن فيه ، سيّما إذا كانت الغنائم وأموال المصالح كثيرة.
وأمّا تفضيل بعضهنّ فممّا لا نقل فيه صحيح ؛ وإنْ صحَّ ، فله التفضيل ، كما قال قاضي القضاة (2).
والسبب المقتضي لا ينحصر في الجهاد ؛ لأنّ بعضهنّ ربّما كان أكثر مؤنةً من بعض.
وأمّا قوله : «كان عليه ثمانون ألف درهم لبيت المال».
فهذا ظاهر البطلان ؛ لأنّ الناس يعلمون أنّ عمر لم يكن يتّسع في معاشه ، بل كان يعيش عيش فقراء الحجاز ، فكيف أخذ من بيت المال هذا؟!
وإن أخذه فربّما صرفه في الجهات التي تدعو إلى الصرف فيها
ص: 243
مصالح الخلافة.
وأما منع فاطمة إرثها ونحلتها ؛ فإنّ فاطمة لم تكن حيّةً في زمان خلافته ، وقد سمعت في ما مضى تفصيل قصّة فدك ، وإنّ عمر ردّها إلى بني هاشم (1).
* * *
ص: 244
لا يجوز إعطاء نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من غير تركته بمقتضى وصيّته المذكورة بأخبارهم ، كالذي رواه البخاري (1) ومسلم (2) ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي ، فهو صدقة».
ولو سُلّم عدم دلالة مثل هذا الخبر على تعيّن نفقة نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ممّا ترك ، فلا وجه لتفضيل نسائه على الرجال.
فإنّ التفضيل إن كان بالفضل ، فأمير المؤمنين ، وجملة من الصحابة أفضل منهنّ.
وإن كان بالقرب من النبيّ ، فعليٌّ وأبناء فاطمة أقرب إليه منهنّ.
وإن كان بالجهاد والنفع في الإسلام ، فلا جهاد لهنّ ، وكون غيرهنّ أنفع ؛ لأنّهنّ مأمورات بأن يَقرْنَ في بيوتهنّ ، ولا يتبرّجن للرجال (3).
وإن كان بكثرة المؤنة ، فكثير من الرجال أكثر منهنّ مؤنة ، وقد كنّ في أيّام النبيّ يَعِشنَ بأبسط عيش ، وكونهنّ أُمّهات المؤمنين أَوْلى بأن يساوين أبناءهنّ ، وأَوْلى بأن يساوين أيامى المؤمنين ؛ ليكنّ أُسوةً لغيرهنّ
ص: 245
كما كنّ في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أُسوةً للغير.
فما بال عمر يريد أن يُدخلهُنّ في زيّ أهل الثراء وأُبّهة الملوك وترفهم ، ويُدخل الحسرة في قلوب الفقراء والأيامى؟!
كما أنّ تحريم التزويج عليهنّ لا يقتضي أكثر من الإنفاق عليهنّ بنحو ما تعوّدنه ، لا ذلك الإنفاق العظيم ، ولا سيّما مع إمكان أن تدخل حفصة في عياله ، وكذا جملة من نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى أهاليهنّ.
وهذا التفضيل قد رواه جماعة من القوم ، منهم الطبري في «تاريخه» (1) ، وابن الأثير في «كامله» (2) ، وذكرا أنّ فرضَ نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ضعفُ فرضِ أهل بدر ، وفرضُهم خمسة آلاف درهم ، ثمّ تدرّج الفرض في النقصان إلى مئتين.
ومثله في «شرح النهج» (3) ، عن أبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ الجوزي في «أخبار عمر وسيرته».
وأما قوله : «كان هذا بمشاورة الصحابة ومنهم عليّ».
فكذب ظاهر ؛ لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يرى التفضيل في العطاء ، وكان يَقسِم بالسويّة.
وقسمته (عليه السلام) بالسويّة - بعد تفضيل عمر - هي التي أوجبت خروج طلحة والزبير عليه ؛ إذ علّمهم عمر الترف ، وغرس في قلوبهم حبّ المال وجمعه ، فكان التفضيلُ أحدَ أسباب الفتن.
ص: 246
وإنّما أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يزيد على غير أهل بدر ؛ لأنّه بعض حقه من الخمس ، وكذا الحسنان (عليهما السلام).
وبالجملة : تفضيل عائشة وحفصة وباقي نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على كبار المسلمين - كأمير المؤمنين وغيره - لا وجه له سوى الهوى والحيف ، ولا سيّما مع منع أهل البيت خمسهم ، ومنع سيّدة النساء إرثها ونحلتها ، بمشاركته لأبي بكر في منعها حينما كانت حيّة ، وباستمراره عليه بعد وفاتها ؛ إذ لم يرجعه إلى ورثتها ، فكان مانعاً لها بمنعهم.
ولا يخفى أنّ تفضيل نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على الرجال هو محلّ كلام المصنّف (رحمه اللّه) ، لا تفضيل بعضهنّ على بعض ليشكّك الخصم في صحّته.
على أنّ الحاكم في «المستدرك» (1) قد روى تفضيل بعضهنّ على بعض ، وصححه على شرط الشيخين ، عن سعد ، قال : «كان عطاء أهل بدر ستّة آلاف ستّة آلاف ، وكان عطاء أُمّهات المؤمنين عشرة آلاف عشرة آلاف لكلّ امرأة منهنّ ، غير ثلاث نسوة ..
عائشة ؛ فإنّ عمر قال : أُفضّلها بألفين ؛ لحبّ رسول اللّه إيّاها.
وصفية وجويرية ، سبعة آلاف سبعة آلاف».
وروى الحاكم - أيضاً - ، عن مصعب بن سعد ، أنّ عمر فرض لأُمّهات المؤمنين عشرة آلاف ، وزاد عائشة ألفين (2).
وأما إنكاره لاقتراض عمر من بيت المال ، فلا وجه له بعدما
ص: 247
استفاضت روايته عندهم.
فقد رواه في «كنز العمّال» ، في وفاة عمر ، عن عثمان بن عروة (1) ، وجابر (2).
ورواه أيضاً الطبري في «تاريخه» (3) ، وابن الأثير في «كامله» (4) ، لكنّهما لم يعيّنا قدر ما اقترضه.
وتعليله لعدم صحّة الاقتراض بأنّه لم يكن يتّسع في معاشه ، وكان يعيش عيش فقراء الحجاز ، خطأ ؛ فإنّا لا نسلّم له إلاّ الزهد في الظاهر!
كيف؟! والزاهد - الصادق في زهده - حقيق بأن يطلب لابنته ما يطلب لنفسه ، لا سيّما وقد اعتادت في أيّام النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على جشوبة (5) العيش! فما باله أعطاها ما أعطاها من مال المسلمين - وهي واحدة - ويمكن أن تدخل في جملة عياله؟!
وأمّا قوله : «وإن أخذه فربّما صرفه في الجهات التي تدعو إلى الصرف فيها مصالح الخلافة».
فإنْ أراد به المصالح العامة ، فلا وجه له ؛ لأنّها من بيت المال.
وإنْ أراد به الخاصّة به ، فلا وجه لدخلها بمصالح الخلافة.
وأما ما زعمه من أنّ عمر ردّ فدك لبني هاشم ، فقد أوضحنا لك
ص: 248
كذبه في مآخذ أبي بكر ، وبيّنّا أنّ رواياتهم مختلفة في أنّه ردّ صدقة النبيّ بالمدينة أو سهم بني النضير (1).
ص: 249
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه عطّل حدّ اللّه تعالى في المغيرة بن شعبة لمّا شُهِد عليه بالزنا ، ولَقنَ الشاهدَ الرابع الامتناع من الشهادة ، وقال له : أرى وجهَ رجل لا يفضح اللّه به رجلا من المسلمين!
فلَخلَخَ (2) في شهادته ؛ اتّباعاً لهواه ، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وفضحهم.
فتجنّب أن يفضح المغيرة ، وهو واحد قد فعل المنكر ووجب عليه الحدّ ، وفضح ثلاثة ، مع تعطيله حكم اللّه ، ووضعه الحدّ في غير موضعه (3).
ص: 250
أجاب قاضي القضاة بأنّه أراد صرف الحد عنه ، واحتال في دفعه (1).
قال السيّد المرتضى : كيف يجوز أن يحتال في صرف الحدّ عن واحد ويوقع ثلاثة فيه وفي الفضيحة؟! مع أنّ عمر كان كلّما رأى المغيرة يقول : قد خفت أن يرميني اللّه بحجارة من السماء! (2).
ص: 251
وقال الفضل (1) :
قصة المغيرة على ما ذكره المعتمَدون من الرواة ، أنّه كان أميراً بالكوفة ، وكان الناس يُبغضونه ، فأخذوا عليه الشهود أنّه زنى ، وأتوا عمر ، فأحضره من الكوفة.
فشهد عليه واحدٌ منهم ، فقال عمر لمغيرة : قد ذهب ربعك!
فلمّا شهد اثنان ، قال : قد ذهب نصفك!
فلمّا شهد الثالث ، قال : قد ذهب ثلاثة أرباعك!
فلمّا بلغ نوبة الشهادة إلى الرابع ، أدّى الشهادة بهذه الصفة : إنّي رأيته مع المرأة في ثوب ملتحفَين به ، وما رأيت العضوَ في العضو كالمِروَد في المِكحَلة.
فسقط الحد عن المغيرة.
فقال المغيرة : يا أمير المؤمنين! انظر كيف كذبوا علَيَّ!
فقال له عمر : اسكت! فلو تمّ الشهادة لكان الحجر في رأسك.
هذا رواية الثقات ، ذكره الطبري في «تاريخه» بهذه الصورة ، وذكره البخاري في «تاريخه» ، وابن الجوزي ، وابن خلّكان ، وابن كثير ، وسائر المحدّثين ، وأرباب التاريخ في كتبهم.
وعلى هذا الوجه هل يلزم طعن؟!
وأما على روايته ، فليس فيه طعن أيضاً ؛ لأنّه لوّح إلى الشاهد
ص: 252
بترك الشهادة ، فهذا مندوب إليه ؛ لأنّ الإمام يجب عليه دَرْء الحدّ بالشبهات ، وله أن يندب الناس بإخفاء المعاصي.
كيف لا؟! وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ... ) (1) الآية.
وأما تفضيح الثلاثة ؛ لأنّهم فضحوا أميراً من أُمراء الإسلام ، وكان عمر يعرف غرضهم ، ومع ذلك أجرى عليهم حدّ القذف ، فلا طعن.
ص: 253
قبحُ الكذب عقليٌّ وشرعيٌّ ، ولا سيّما في مقام تحقيق المذهب الحقّ الذي يَسأل اللّهُ العبدَ عنه ، وأقبحُ منه عدمُ المبالاة به ، وعدمُ الحياء ممّن يطلع عليه.
أنت ترى هذا الرجل يفتعل قصّة وينسبها إلى كتب معروفة ، وما رأيناه منها خال عن أكثر هذه القصّة ؛ ك «تاريخ الطبري» ، و «وفيات الأعيان».
ويشهد بكذبه ، وأنّه لم يرَ هذه الكتب وغيرها ، ما نسبه إلى المعتمَدين ، من أنّ المغيرة كان أميراً بالكوفة ، وهو خلاف ما ذكره عامّة المؤرّخين ، مِن أنّه كان أميراً بالبصرة ، وأوقع هذه الواقعة فيها.
ولنذكر ما في «تاريخ الطبري» ، و «وفيات الأعيان» ؛ لتعلم كذبه في ما نسبه إليهما ، وتستدلّ به على كذبه في ما نسبه إلى غيرهما.
قال الطبري في حوادث سنة سبع عشرة (1) : «وفي هذه السنة ولّى عمرُ أبا موسى البصرة ، وأمره أن يُشخِص إليه المغيرةَ في ربيع الأوّل.
فشهد عليه - في ما حدّثني معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيّب - :
ص: 254
قال : وحدّثني محمّد بن يعقوب بن عتبة ، عن أبيه ، قال : كان يختلف إلى أُمّ جميل (1) ، امرأة من بني هلال ... فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه.
فخرج المغيرة يوماً حتّى دخل عليها ، وقد وضعوا عليها الرصد ، فانطلق القوم الّذين شهدوا جميعاً فكشفوا الستر وقد واقعها».
ثمّ ذكر الطبري ، ومثله ابن الأثير في «كامله» (2) - واللفظ غالباً للطبري - ، أنّ المغيرة كان ينافره أبو بكرة عند [كلّ] ما يكون منه ، [وكانا بالبصرة ،] وكانا متجاورين وبينهما طريق ، وكانا في مَشربتين متقابلتين لهما في داريهما ، في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأُخرى.
فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدّثون في مشربته ، فهبّت ريح ففتحت باب الكوّة ، فقام أبو بكرة ليصفقه ، فبصر بالمغيرة - وقد فتحت الريح باب كوّة مشربته - وهو بين رِجْلَي امرأة.
ص: 256
فقال للنفر : قوموا فانظروا!
فقاموا فنظروا ..
ثمّ قال : اشهدوا!
قالوا : ومَن هذه؟!
قال : أُمّ جميل!
وكانت غاشيةً للمغيرة ، وتغشى الأُمراء والأشراف.
فقالوا : إنّما رأينا أعجازاً ، ولا ندري ما الوجه؟
ثمّ إنّهم صمّموا حين قامت» (1).
وقال ابن الأثير : «فلمّا قامت عرفوها» (2).
إلى أن قالا : «ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود ، فقدموا على عمر» (3).
إلى أن قالا : «فبدأ بأبي بكرة ، فشهد أنّه رآه بين رِجْلَي أُمّ جميل ، وهو يُدخله ويُخرجه كالميل في المكحلة.
قال : كيف رأيتهما؟
قال : مستدبرهما.
قال : فكيف استثبتّ رأسها؟!
قال : تحاملت.
وشهد شبل ونافع مثل ذلك.
وأمّا زياد ، فإنّه قال : رأيته جالساً بين رِجْلَي امرأة ، فرأيت قدمين
ص: 257
مخضوبتين ، واستَين (1) مكشوفتين ، وسمعت حفزاً (2) شديداً.
قال : هل رأيت كالميل في المكحلة؟
قال : لا.
قال : هل تعرف المرأة؟
قال : لا ، ولكن أُشبّهها.
قال : فتنحّ! وأمر بالثلاثة فجُلدوا الحدّ» (3).
انتهى ملخّصاً.
وإليك ما ذكره في «وفيات الأعيان» ، في آخر ترجمة يزيد بن زياد ابن ربيعة بن مُفرّغ ، ولنذكر ملخّصه ، قال : إنّ عمر رتّب المغيرة أميراً على البصرة ، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار ، وكان أبو بكرة يلقاه ويقول : أين يذهب الأمير؟
فيقول : في حاجة.
فيقول : إنّ الأمير يُزار ولا يزور.
قالوا ، وكان يذهب إلى امرأة يقال لها : أُمّ جميل ، زوجها الحجّاج بن عتيك (4).
فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته نافع ، وزياد ، وشبل بن معبد ،
ص: 258
أولاد سميّة ، وكانت أُمّ جميل في غرفة أُخرى قُبالة هذه الغرفة ، فضربت الريح باب غرفة أُمّ جميل ففتحته ، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع.
فقال أبو بكرة : هذه بليّة قد ابتُليتم بها ، فانظروا!
فنظروا حتّى أثبتوا» (1).
ثمّ ذكر حضورهم عند عمر للشهادة ، وشهادة الثلاثة بنحو ما ذكره الخصم ... إلى قول عمر : ذهب ثلاثة أرباعك.
ثمّ ذكر تلويح عمر لزياد - الذي أنكره الخصم - ، قال : قال عمر لمّا رأى زياداً مُقبلا : إنّي أرى رجلا لا يُخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين ؛ ثمّ رفع رأسه إليه فقال : ما عندك يا سَلْحَ الحُبارى (2)؟! (3).
ثمّ ذكر نحو ما سننقله عن أبي الفرج في كيفيّة شهادة زياد ... إلى قول عمر : ما رأيتك إلاّ خفتُ أن أُرمى بحجارة من السماء (4).
وذكر أيضاً أنّ عمر بن شبّة : قال في كتاب «أخبار البصرة» : «إنّ أبا بكرة لمّا جُلد أمرت أُمّه بشاة فذُبحت وجعلت جلدها على ظهره ، فكان
ص: 259
يقال : ما ذاك إلاّ من ضرب شديد» (1).
وذكر ابن أبي الحديد (2) - نقلا عن أبي الفرج الأصبهاني - كيفيّة الواقعة بنحو ما عرفت ، وقال في آخرها : «فلمّا رأى عمر زياداً مقبلا قال : إنّي لأرى رجلا لن يُخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين.
ثمّ قال أبو الفرج : وفي حديث أبي زيد عمر بن شبّة (3) ، عن السريّ ، عن عبد الكريم بن رشيد ، عن أبي عثمان النهدي ، أنّه لمّا شهِد الأوّل عند عمر ، تغيّر لذلك لون عمر.
ثمّ جاء الثاني ، فشهِد ، فانكسر انكساراً شديداً.
ثمّ جاء الثالث ، فشهِد ، فكأنّ الرماد نُثر على وجه عمر.
فلما جاء زياد ، جاء شابّاً يَخطرُ (4) بيديه ، فرفع عمر رأسه إليه ، وقال : ما عندك أنت يا سَلْحَ العُقاب؟!
وصاح أبو عثمان النهدي صيحةً تحكي صيحة عمر.
قال عبد الكريم : لقد كدتُ أن يُغشى علَيَّ لصيحته».
إلى أن قال : «قال : يا أمير المؤمنين! أمّا أنْ أُحِقَّ ما حقَّ القوم ،
ص: 260
فليس عندي ؛ ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً ، وسمعت نَفَساً حثيثاً وانبهاراً (1) ، ورأيتُه متبطنها.
فقال : أرأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة؟
قال : لا.
قال أبو الفرج : وروى كثير من الرواة أنّه قال : رأيته رافعاً برجليها ، ورأيت خصيتيه متردّدتين بين فخذيها ، وسمعت حفزاً شديداً ، وسمعت نفَساً عاليا.
فقال عمر : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟
قال : لا.
فقال عمر : اللّه أكبر! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم»!
إلى أن قال : «وأعجبَ عمرَ قولُ زياد ، ودرأ الحدّ عن المغيرة.
فقال أبو بكرة بعد أن ضُرب : أشهد أنّ المغيرة فعل كذا وكذا.
فهمَّ عمر بضربه ، فقال عليٌّ : إنْ ضربته رجمتُ صاحبَك! ونهاه عن ذلك.
قال أبو الفرج : يعني : إنْ ضربته تصير شهادته شهادتين ، فيوجب بذلك الرجمَ على المغيرة».
إلى أن قال : «فلمّا ضُربوا الحدّ قال المغيرة : اللّه أكبر! الحمد لله الذي أخزاكم.
فقال عمر : اسكت! أخزى اللّه مكاناً رأَوْكَ فيه».
ص: 261
إلى أن قال : «وحجّ عمر بعد ذلك مرّةً ، فوافق الرقطاء بالموسم فرآها ، وكان المغيرة يومئذ هناك ، فقال عمر للمغيرة : ويحك! أتتجاهل علَيّ؟! واللّه ما أظنّ أنّ أبا بكرة كذَب عليك ، وما رأيتُك إلاّ خِفتُ أن أُرمى بحجارة من السماء.
قال : وكان عليٌّ بعد ذلك يقول : إنْ ظفرتُ بالمغيرة لأُتبعنّه الحجارة».
ثمّ إنّ رواية الطبري وابن الأثير ، وإن لم تشتمل على تلويح عمر إلى زياد بترك الشهادة ، لكنّها لا تنافي الروايات الكثيرة المصرّحة بتلويحه ، وقد سمعتَ بعضها.
ومنها : ما نقله في «كنز العمال» (1) ، عن البيهقي ، عن قَسَامة (2) ابن زهير ، قال : لمّا كان من شأن أبي بكرة والمغيرة الذي كان ، ودعا الشهود فشهِد أبو بكرة ، وشهِد ابن معبد ، ونافع ، فشقّ على عمر حين شهِد هؤلاء الثلاثة.
فلمّا قام زياد قال عمر : [إنّي] أرى غلاماً كيساً لن يشهد إن شاء اللّه إلاّ بحق.
قال زياد : أما الزنا فلا أشهد به ، ولكن قد رأيت أمراً قبيحاً.
ص: 262
قال عمر : اللّه أكبر! حُدوهم!
فجلدوهم ؛ فقال أبو بكرة : أشهد أنّه زان.
فهمّ عمر أن يُعيد عليه الحدّ فيها ، فنهاه عليٌّ وقال : إنْ جَلَدتَهُ فارجم صاحبَك ؛ فتركه ولم يجلده».
ومنها : ما نقله في «الكنز» أيضاً (1) ، عن عبد الرزّاق ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : «شهد أبو بكرة ، ونافع ، وشبل بن معبد على المغيرة ، أنّهم نظروا إليه كما يُنظَرُ المِرودُ في المكحلة.
فجاء زياد ، فقال عمر : جاء رجلٌ لا يشهد إلاّ بحقّ.
فقال : رأيت مجلساً قبيحاً ، وابتهاراً ؛ فجلدهم عمر الحدّ».
ونحوه في «الإصابة» بترجمة شبل بن معبد (2).
فهذه الأخبار ونحوها صريحة الدلالة على أنّ عمر لوّح لزياد بترك الشهادة ، بل أخافه ؛ لهواه في المغيرة ، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : «صاحبك».
ودلّ عليه تغيّر حال عمر من شهادتهم ، حتّى كأنّ الرماد نُثر على وجهه.
ولو كان طالباً للحقّ وإزالة المنكر ، لجعل المغيرة عبرةً للأُمراء الّذين بهم قوامُ الدينِ وحِفظُه.
وقول الخصم : «إنْ لوّح ... فهذا مندوب إليه» ..
ص: 263
خطأٌ ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد حظر كتمان الشهادة مع طلب إقامتها (1) ، فيحرم التلويح والدعوة إلى الكتمان حينئذ ؛ لأنّه من الدعوة إلى الحرام ، بلا فرق بين أن تكون الشهادة في موجبات الحدود وغيرها (2).
نعم ، يُندب الستر على الناس في غير مقام إقامة الشهادة ، وقبل طلبها من الشاهد ، ويُندب أن يلوّح الحاكم إلى المقرّ بالرجوع عن إقراره قبل الثبوت به (3) ، وهو غير ما نحن فيه.
وأما قوله : «إنّ الإمام يجب عليه درء الحدّ بالشبهات» ..
فممّا لا ربط له بالمقام ؛ لأنّ المراد به : أنّ الفاعل إذا ادّعى شبهةً جائزةً في حقه ؛ كما لو وطأ أجنبية في مكان مظلم من داره ، وادّعى أنّه كان يراها زوجته ، فإنّه حينئذ يُدرأ عنه الحدّ ؛ لجواز الاشتباه في حقه واحتمال صدقه.
وهذا لا يقتضي ندب أن يلوّح الحاكم للشاهد بترك شهادته بما شاهده وحقّقه ، وإن كان الأمر مشتبهاً عند الحاكم.
ومن الظريف تعليله لقوله : «فهذا مندوب إليه» بقوله : «لأنّ الإمام يجب عليه درء الحد بالشبهات» ؛ فإنّ الوجوب لا يكون علّة للندب ،
ص: 264
بل للوجوب (1).
وأما قوله : «وله أن يندب الناس بإخفاء المعاصي» ..
فمسلّم في غير مقام إقامة الشهادة ، وفي غير مقام الجرح والتعديل (2).
واستدلاله على ذلك بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ... ) (3) الآية ، خطأٌ ظاهر ، وإلاّ لانسدَّ باب الشهادة في الحدود ، وباب الجرح.
ولو استدلّ بهذه الآية على ما كان يعمله عمر من التجسّس لكان أصوب!
وقوله : «وأمّا تفضيح الثلاثة ؛ لأنّهم فضحوا أميراً من أُمراء الإسلام» ..
خطأٌ آخر ؛ لأنّهم لم يفضحوه ، بل هو فضح نفسه ، وفضح الإسلام بعمله.
وفضيحتهم له بالشهادة موافقةٌ لقانون الإسلام ، فلا إنكار عليها بوجه.
وأما قوله : «وكان عمر يعرف غرضهم» ..
فمِن الرجم بالغيب!
نعم ، ذكر القوم أنّ بين بعضهم - وهو أبو بكرة - وبين المغيرة
ص: 265
منافرة عند ما يكون منه (1).
وهي - لو صحت - إنّما كانت لأعمال المغيرة المنكَرة ، التي ينبغي أن ينافره عليها كلّ مسلم.
وبالجملة : إنّ عمر قد دعا إلى كتمان الشهادة في مقام طلب إقامتها ، وهو ممّا حرّمه اللّه تعالى ؛ وفضَحَ جماعةً من المسلمين - يعلم هو وكلُّ من اطّلع على ذِكر الواقعة بصدق شهادتهم ، وعدم استحقاقهم للفضيحة - مراعاةً للمغيرة ، فتجنّبَ أن يفضح مستحقاً للفضيحة ، وفضح وضرب غير مستحقّين ؛ ولذا كان يقول إذا رأى المغيرة : «خفت أن أُرمى بحجارة من السماء» (2).
وهل يشكّ عاقل في أنّ زياداً إنّما ترك الشهادة لأجل عمر؟!
أتراه جاء من البصرة إلى المدينة ، وقطع تلك الفيافي الشاسعة لأجل أداء تلك الشهادة التي أقامها؟!
أو أنّ أصحابه عزموا على الشهادة ، وجاؤوا بصحبته حتّى أدّوا شهادتهم في الملأ ، وهم لم يعلموا أنّه يشهد بما شهدوا به ، وغرّروا بأنفسهم؟!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فلا ريب أنّه قد ثبت عند عمر - بشهادة الأربعة - أنّ المغيرة جلس من المرأة مجلس الفاحشة ، وأنّه تبطنها وجلس بين فخذيها ، وحفز عليها ، إلى نحو ذلك ، فهلاّ ضمّ إلى جلد الثلاثة تعزير المغيرة ، ولو بخفيف التعزير؟!
ص: 266
وهو - أعني عمر - قد حد الصائم حد شارب الخمر ، معلّلا بجلوسه مع السكارى ، كما نقله في «كنز العمّال» (1) ، عن أحمد بن حنبل ، في الأشربة ، فلِمَ لا عزّر المغيرة بفعله الشنيع كما فعل عليّ (عليه السلام)؟!
نقل في «الكنز» (2) ، عن عبد الرزّاق ، عن أبي الضحى ، أنّه شهد ثلاثة نفر على رجل وامرأة بالزنا ، وقال الرابع : رأيتهما في ثوب واحد ؛ فجلد عليٌّ الثلاثة وعزّر الرجل والمرأة.
وهذا التعزير واجب عند أحمد بن حنبل ؛ لأنّه يرى وجوب التعزير في كلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة ، كما حكاه عنه الشعراني في باب التعزير من كتاب «الميزان» (3).
فيكون عمر عاصياً بترك تعزير المغيرة بمذهب أحمد ، بل وبمذهب الشافعي أيضاً ؛ فإنّ الشعراني وإن نقل عنه عدم الوجوب ، لكن قال بعد ذلك : «هو خاصٌّ برعاع الناس» (4).
بل وبمذهب مالك وأبي حنيفة أيضاً ؛ لأنّهما قالا كما في «الميزان» بوجوب التعزير إذا غلب على ظنّ الحاكم أنّه لا يصلح العاصي إلاّ الضرب (5) ؛ كما هو كذلك في المغيرة ؛ لأنّه فاجر عند عمر.
فقد روى ابن عبد ربّه في أوائل «العقد الفريد» ، تحت عنوان : «اختيار السلطان لأهل عمله» ، أنّه لمّا قدم رجالٌ [من الكوفة] على عمر
ص: 267
يشكون سعد بن أبي وقّاص ، قال : مَن يعذرني من أهل الكوفة؟! إنْ ولّيتهم التقيّ ضعّفوه ، وإنْ ولّيتهم القويّ فجّروه!
فقال له المغيرة : إنّ [التقيّ] الضعيف له تقواه وعليك ضعفه ، والقويّ الفاجر لك قوّته وعليه فجوره.
قال : صدقت ، فأنت القوي الفاجر ، فاخرج إليهم!
فلم يزل عليهم أيام عمر (1).
وبالجملة : لا ريب بمعصية عمر في ترك تعزير المغيرة ولو ببعض المذاهب السنيّة!
ولو سُلّم عدم وجوب تعزيره ، فلا شكّ برجحانه ، ولا أقلّ من رجحان إهانته!
فما لعمر أبقى المغيرة في محلّ الكرامة عنده ، وهو يعلم فجوره حتّى ولاّه البصرة ثانياً بعد عتبة ، وأبي موسى ، كما ذكره الطبري - قولا - في آخر حوادث سنة سبع عشرة (2) ، وابن الأثير (3)؟!
ولو فرض أنّه لم يُعده إلى البصرة ، فلا ريب أنّه ولاّه الكوفة إلى أن مات ، كما سمعته في رواية ابن عبد ربّه.
وذكره ابن حجر في «الإصابة» بترجمة المغيرة (4).
وقال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، بترجمة المغيرة أيضاً : «لمّا شُهِد عند عمر عزله عن البصرة وولاّه الكوفة ، فلم يزل عليها إلى أن قُتل
ص: 268
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : إنّه كان يتلوّن في الأحكام ، حتّى روي عنه أنّه قضى في الجدّ بسبعين (2) قضيّة ، وروي مئة قضيّة (3).
وإنّه كان يفضّل في الغنيمة (4) والعطاء ، وقد سوّى اللّه بين الجميع (5).
وإنّه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظنّ (6).
ص: 270
وقال الفضل (1) :
أمّا تلوّنه في الأحكام ؛ فلو صحّ فإنّه من باب تغيّر الاجتهادات ، وهو كان إماماً ، ولم تتقرّر الأحكام الاجتهادية بعدُ في زمانه ، وقد عُلم علماً يقينيا أنّه كان لا يعمل برأي إلاّ بمشاورة الصحابة.
وأمير المؤمنين عليٌّ كرّم اللّه وجهه قد كان يتغيّر اجتهاده ، كما في أُمّ الولد أنّه قال : «اجتمع رأيي ورأي عمر في أُمّ الولد ، أن لا تباع ، وأنا اليوم أقول ببيعهنّ» (2).
والمجتهدون لا يخلون عن هذا.
وأمّا التفضيل في العطاء ؛ فهذا أمر يتعلّق برأي الإمام ، والنبيّ أعطى صناديد العرب في غنائم حُنين مئة ، واعترض عليه ذو الخويصرة الخارجي (3) كما يعترض هذا الرافضيُّ على عمر.
وأمّا الأحكام من جهة الرأي والحدس والظنّ ؛ فهو من شأن المجتهد ، والفقه من باب الظنون.
* * *
ص: 271
حكى في «كنز العمّال» (1) ، عن ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وابن سعد ، وعبد الرزّاق ، عن عبيدة السلماني ، قال : «لقد حفظت من عمر في الجد مئة قضيّة مختلفة [كلّها ينقض بعضها بعضاً]».
وأما رواية السبعين ، فقد ذكرها ابن أبي الحديد (2) ، ولم يُنكر صحتها هو ولا قاضي القضاة!
وهذا ممّا يدلّ على عدم تورّعه في الفتيا ، وأنّه لم يرجع فيها إلى ركن وثيق ، بل يقول مِن غير علم ، كما يشهد له ما في «الكنز» قبل الحديث المذكور ، عن عبد الرزّاق ، والبيهقي ، وأبي الشيخ - في الفرائض - ، عن سعيد بن المسيّب ، عن عمر ، قال : «سألت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كيف قسم الجد؟
قال : ما سؤالك عن ذلك يا عمر؟! أظنّك تموت قبل أن تعلم ذلك!
قال سعيد : فمات عمر قبل أن يعلم ذلك» (3).
ص: 272
وبالضرورة أنّ من يسمع هذا من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - فضلا عمّا يجده من جهل نفسه ، وكان عنده أدنى حرمة للدين - لم يحكم في الجدّ بقضيّة واحدة فضلا عن مئة قضيّة مختلفة.
ويشهد لعدم عنايته بالدين والأحكام ، ما في «الكنز» في قرب الخبر الأوّل ، عن (عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ،) (1) عن عبيدة السلماني ، قال : «كان عليٌّ (2) يُعطي الجدّ مع الإخوة الثلث ، وكان عمر يُعطيه السُدس.
فكتب عمر إلى عبد اللّه : إنّا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجدّ ، فأعطه الثُلث» (3).
ونحوه عن ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وسعيد بن منصور ، عن عبيد ابن نضلة (4).
فأنت ترى أنّ هذا لمجرّد التشهّي والاستحسان ، من غير ابتناء على دليل ، فكأنّ اللّه تعالى قد أوكل الأحكام إلى رغبته ولم يبعث بها رسولا ، أو بعث بها رسولا لكن قدّم هوى عمر!
ومن هذا الباب ما في «الكنز» أيضاً (5) ، عن ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : «إنّ أوّل جدّ وَرثَ في الإسلام عمرُ بن
ص: 273
الخطّاب ، فأراد أن يَحتازَ المالَ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين! إنّهم شجرةٌ دونك ؛ يعني : بني بنيه».
وليس ميراث الجدّ أوّل جهالاته وعدم مبالاته في الحكم ، بل له أمثال ذلك ..
ففي «الكنز» (1) ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن الحكم بن مسعود ، قال : «قضى عمر في امرأة توفّيت ، وتركت زوجها ، وأُمّها ، [وإخوتَها لأُمّها ،] وإخوتَها لأبيها وأُمّها ، فأشرك عمر بين الإخوة للأُمّ والإخوة للأب والأُمّ في الثلث.
فقال له رجل : إنّك لم تشرك بينهما عامَ كذا وكذا.
فقال عمر : تلك على ما قضينا يومئذ ، وهذا على ما قضيناه».
وفيه أيضاً (2) : عن سعيد بن منصور ، عن إبراهيم ، «أنّ رجلا عرف أُختاً له سبيت في الجاهلية ، فوجدها ومعها ابن لها لا يُدرى مَن أبوه ، فاشتراهما ثمّ أعتقهما.
وأصاب الغلام مالا ثمّ مات ، فأتوا ابن مسعود فذكروا له ذلك ، فقال : ائتِ أمير المؤمنين عمر فسَلْه عن ذلك ، ثمّ ارجع فأخبرني بما يقول لك.
فأتى عمر فذكر ذلك له ، فقال : ما أراك عُصبةً ، ولا بذي فريضة.
ص: 274
فرجع إلى ابن مسعود فأخبره ، فانطلق ابن مسعود حتّى دخل على عمر فقال : كيف أفتيتَ الرجل؟
قال : لم أره عصبةً ، ولا بذي فريضة.
فقال عبد اللّه : لم تُورِّثه مِن قِبل الرحم ، ولا ورّثته مِن قِبل الولاء!
قال : ما ترى؟!
قال : أراه ذا رحم ، ووليَّ النعمة ، وأرى أن تورّثه.
فورّثه».
وفيه أيضاً (1) : عن عبد الرزّاق ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : «جاء ابنَ عبّاس رجلٌ فقال : رجلٌ توفّي وترك ابنته وأُخته - إلى أن قال : - فقال الرجل : إنّ عمر قضى بغير ذلك ، قد جعل للأُخت النصف ، وللبنت النصف.
فقال ابن عبّاس : أأنتم أعلمُ أم اللّه؟!
قال طاووس : قال ابن عبّاس ، قال اللّه تعالى : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) (2) ، فقلتم أنتم : لها النصف وإنْ كان له ولد».
ولأجل هذا ونحوه قال ابن عبّاس - كما في «الكنز» أيضاً عن سعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق - : «وددت أنّي وهؤلاء الّذين يخالفوني
ص: 275
في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ، ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين ، ما حَكَمَ اللّه بما قالوا» (1).
وأفضح من ذلك جهل عمر بمعنى الكلالة (2) ، وقوله فيها بغير علم ..
فقد نقل في «الكنز» (3) ، عن سعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والدارمي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن الشعبيّ ، قال : سُئل أبو بكر عن الكلالة ، فقال : إنّي أقول فيها برأيي ، فإن كان صواباً ، فمِن اللّه وحده لا شريك له ، وإن كان خطأً ، فمنّي ومن الشيطان ، واللّه منه بريء ؛ أراه ما خلا الوالد والولد.
فلما استُخلِف عمر قال : الكلالة ما عدا الولد - وفي لفظ : مَن لا ولد له -.
فلمّا طُعن عمر قال : إنّي لأستحيي من اللّه أن أُخالف أبا بكر ، أرى أنّ الكلالة ما عدا الوالد والولد».
فانظر إلى هذه الملاعب في الدين ، والتقوّل في أحكام ربّ العالمين ، لمجرّد الهوى والميل النفسي ، فكأنّ اللّه سبحانه أوكل إلى
ص: 276
رغبات نفوسهم أحكامه ، وإلى جهالاتهم وآرائهم الناقصة نظامه ، مع إقرارهم بالجهل وعدم المعرفة كما سمعت.
وحكى في «الكنز» (1) ، عن ابن راهويه ، وابن مردويه - وقال : هو صحيح - ، أنّ عمر سأل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كيف يُورَثُ الكلالة؟
قال : أَوَليس قد بيّن اللّه ذلك؟! ثمّ قرأ : ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً ... ) (2) الآية.
فكأنّ عمر لم يفهم ، فأنزل اللّه : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ) (3) الآية.
فكأنّ عمر لم يفهم ، فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول اللّه طيب نفس فاسأليه عنها.
فقال : أبوكِ ذكر لكِ هذا؟! ما أرى أباك يعلمها أبداً!
فكان يقول : ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما قال».
فليت شعري ، إذا علم أنّه لا يعلم الكلالة أبداً ، فكيف خالف أبا بكر مرّةً ووافقه أُخرى؟!
ولِمَ لم يرجع إلى مَن عنده عِلمُ الكتاب وقرينه؟!
وأظهر من ذلك في الحكم على حسب الهوى ، ما في «الكنز» أيضاً (4) ، عن سعيد بن المسيّب ، «أنّ عمر بن الخطّاب لم يورِّث أحداً
ص: 277
من الأعاجم إلاّ أحداً وُلِدَ في العرب».
وأعجب من عمر أولياؤه حيث يسمّون ذلك اجتهاداً!
فهل من الاجتهاد عندهم القول بما يخالف ضرورة الدين؟!
أو أنّ للمجتهد التلوّن الفاحش في الأحكام من دون علم ورويّة؟!
أو أنّ اللّه سبحانه لم يُكمل دينه ، وأرسل الرسول بدين ناقص ، واعتمد على عمر وأشباهه في إكمال الدين على حسب أهوائهم ، وسمّاه أصحابه اجتهاداً؟!
ألم يقل اللّه تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (1).
وما سدّ اللّه باب العلم بدينه ؛ لأنّه نصب إليه دليلا ، وهو نبيّه وثِقلاه اللذان خلّفهما في أُمّته ، وأمر بالتمسّك بهما.
ثمّ ذمّ سبحانه على اتّباع الظنّ ، فضلا عن الوهم والشكّ ، والقول بمجرّد الهوى ، فقال : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (2).
وقال سبحانه : ( إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (3).
وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إيّاكم والظنَّ! فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث» ، كما رواه البخاري (4).
ومن أعجب العجب قوله : «ولم تتقرّر الأحكام الاجتهادية بعد في زمانه»!
فإنّه دالٌّ على أنّها تقرّرت بعد في أيام مذاهبهم الأربعة!
ص: 278
فلا أدري أكانوا أعلم بالكتاب والسنة مِن ثِقل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وصحبه ، أو جاءتهم نبوّةٌ جديدةٌ تقرّرت بها أحكامهم؟!
أو أباح اللّهُ لهم أن يُشرّعوا أحكاماً من عند أنفسهم ، ويستبدلوا عن أحكام اللّه ما شاءته أوهامهم واستحسنته آراؤهم ، ثمّ لا يجوز ذلك لأحد بعدهم؟!
وبما سمعته من الأخبار المذكورة ونحوها ، تعلم بطلان قول الخصم : «وقد عُلم علماً يقينياً أنّه كان لا يعمل برأي إلاّ بمشاورة الصحابة».
فإنّ تلك الأخبار صريحة في استبداده في الأحكام ، وتشريعه لها بمحض الهوى والتشهّي ، ولو أردنا استقصاء ما شرّعه لضاق به الكتاب ، وسيأتي بعضها إن شاء اللّه تعالى.
وأما ما ذكره من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد كان يتغيّر اجتهاده ، كما في أُمّ الولد ... إلى آخره ..
فكذب ظاهر ؛ إذ لا يجوز هذا في حقّ بابِ مدينة علم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأحد الثِّقلَين ، وقرينِ الكتاب ، فإنّ الخطأ والأخذ بالظنّ والوهم شأن غيره من أهل الآراء الناقصة.
وروايتهم - مع اختلافها ومخالفتها لِما نعلمه من مذهبه ومنزلته (عليه السلام) - لا يمكن أن نحتمل فيها الصحّة ، وهي من الموضوعات التي أحدثوها ؛ حفظاً لشؤون أصحابهم.
وأمّا ما زعمه من أنّ التفضيل في العطاء أمر يتعلّق برأي الإمام ..
فباطل ؛ لمخالفته لعمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) المنوط بأمر اللّه تعالى.
ويا هل تُرى أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف الجهات التي تصوّرها
ص: 279
عمر في تفضيل عائشة وحفصة على وجوه المسلمين ، وتفضيل بعضهم على بعض؟!
وأمّا قياسه على عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في إعطاء صناديد قريش من غنائم حنين دون غيرهم ..
فخطأٌ ؛ لأنّه ليس من التفضيل ، بل من التخصيص للتأليف في قضيّة خاصة.
وأمّا ما زعمه أنّ الأحكام من جهة الحدس والظنّ من شأنّ المجتهد ..
فمسلّمٌ إذا كان الظنّ ناشئاً من الأدلّة الشرعيّة ، وأمّا إذا نشأ من استحسانات العقول الناقصة والتخمين والهوى ، فهو مرتبة تشريعيّة فوق مرتبة النبوّة ، فإنّ النبيّ مع عظيم مقامه لا ينطقُ عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى (1) ..
وقال تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (2) ..
فكيف يجوز لعمر التقوّل والحكم من عند نفسه بما يقتضيه استحسانه ويرتضيه خياله؟!
وحقاً أقول : لو تمسّك الناس بالثِّقلَين لَما احتاجوا إلى الحدس والتخمين ، بعد أن أكمل اللّه دينه وأطلع عليه نبيّه ، ووصيّه وباب مدينة علمه.
ص: 280
فإنّ اللّه سبحانه لا يُشرّع ديناً ناقصاً يستعين بخلقه على إكماله ، أو يكمله ويتركه بلا هاد إليه محفوظ لديه ، وإلاّ كان تشريعه لغواً.
لكنّ القوم نبذوا الثِّقلَين وراء ظهورهم ، فحرموا أنفسهم والأُمّة فوائد الدين الحقّ ، وسدّوا علينا باب العلم واليقين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ص: 281
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه قال : «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما» (2).
وهذا يقدح في عدالته حيث حرّم ما أباحه اللّه تعالى.
وكيف يسوغ له أن يُشرّع الأحكام وينسخها ، ويجعل اتّباعه أَوْلى من اتّباع الرسول الذي لا ينطق عن الهوى؟!
فإنّ حكم هاتين المتعتين إن كان من عند الرسول لا من قبل اللّه ، لزم تجويز كون كلّ الأحكام كذلك ، نعوذ باللّه تعالى!
ص: 282
وإن كان من عند اللّه ، فكيف يحكم بخلافه؟!
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه قال ذلك كراهة للمتعة ، وأيضاً يجوز أن يكون ذلك برواية عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1).
واعترضه المرتضى : بأنّه أضاف النهي إلى نفسه وقال : «كانتا على عهد رسول اللّه» ، وهو يدلّ على أنّه كان في جميع زمانه حتّى مات عليهما.
ولو كان النهي من الرسول كان أبلغ في الانتهاء ، فلِمَ لم يقل ذلك على سبيل الرواية (2)؟!
وقد رُوي عن ابنه عبد اللّه إباحتها ، فقيل له : إنّ أباك يحرّمها؟! فقال : إنّما ذلك عن رأي رآه (3).
وقد روى السنة في «الجمع بين الصحيحين» ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : «تمتّعنا مع رسول اللّه ، فلمّا قام عمر ، قال : إنّ اللّه كان يُحلُّ لرسوله ما يشاء بما يشاء ، وإنّ القرآن قد نُزّل منازلَه ، فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم اللّه ، وإيّاكم (4) ونكاح هذه النساء ، فلن أُوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة» (5).
ص: 283
وهذا نصٌّ في مخالفة كتاب اللّه والشريعة المحمّديّة ؛ لأنّا لو فرضنا تحريمها لكان فاعلها على شبهة ، والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ادرأُوا الحدودَ بالشبهات» (1).
فهذه رواياتهم الصحيحة عندهم تدلّ على ما دلّت عليه ..
فلينظر العاقل ، وليخف الجاهل!
وفي الصحيحين ، عن جابر - من طريق آخر - ، قال : «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، حتّى نهى عمر بن الخطّاب ، لأجل عمرو بن حرَيث (2) لمّا استمتع» (3).
ص: 284
وفي «الجمع بين الصحيحين» - من عدة طرق - إباحتها أيام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأبي بكر ، وبعض أيام عمر (1).
روى أحمد بن حنبل في «مسنده» ، عن عمران بن حصين ، قال : «نزلت متعة النساء في كتاب اللّه تعالى ، وعملناها مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم ينزل القرآن بحرمتها ، ولم ينه عنها حتّى مات» (2).
وفي «صحيح الترمذي» ، قال : سُئل ابن عمر عن متعة النساء فقال : هي حلال.
وكان السائل من أهل الشام ، فقال له : إنّ أباك قد نهى عنها؟!
فقال ابن عمر : إن كان أبي قد نهى عنها ، وصنعها رسول اللّه ، نترك السنة ونتّبع قول أبي؟! (3).
قال محمّد بن حبيب البختري (4) : «كان ستّة من الصحابة وستّة من التابعين يفتون بإباحة المتعة للنساء» (5).
ص: 285
وقد روى الحميدي ومسلم في «صحيحيهما» ، والبخاري أيضاً ، من عدّة طرق ، جواز متعة النساء ، وأنّ عمر هو الذي أبطلها بعد أن فعلها جميع المسلمين بأمر النبيّ إلى حين وفاته وأيام أبي بكر (1).
ص: 286
وقال الفضل (1) :
قال الشافعي : «ما علمتُ شيئاً حُرّم مرّتين وأُبيح مرّتين إلاّ متعةَ النساء» (2).
هذا كلامه.
والسرّ في ذلك أنّ العرب كانوا لا يصبرون على ترك النكاح إذا طال العهد ، وكانوا يرخّصون في المتعة في الغزوات لطول العهد من الأزواج ، ثمّ تقرّر الأمر إلى الحرمة ، ولا خلاف في هذا بين أكثر العلماء.
وأيضاً : نصُّ الكتاب يقتضي حرمة المتعة ؛ لأنّه تعالى يقول : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (3).
[والمتعة ليست بالمملوكة ولا بالزوجة ، فالمتمتّع ملوم فيها.
وأمّا أنّها ليست بمملوكة ، فظاهر] (4).
وأما أنّها ليست بزوجة ؛ لأنّها ليست وارثة ولا موروثة للمتمتّع بها ، وقد قال تعالى : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ) (5).
ص: 287
وأمّا ما ذكر من الأحاديث ، فهي مرويّة عن جماعة لم يعلموا أنّ الأمر تقرّر على الحرمة في آخر الأمر.
ونحن نقول : لو كان الأمر على ما يذكره الشيعة ، وإنّ تحريم المتعة كان من قِبَل عمر ، فَلِمَ لم يُحلّلهُ أمير المؤمنين في أيّام خلافته ، وهو كان الإمام المتبوع؟!
ولِمَ لَمْ يعترض علماء الصحابة على عمر؟!
والشافعي كان أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ ؛ لأنّه كان قرشياً حجازياً عالماً بجميع الناسخ والمنسوخ ، ولو كان كذلك (1) لم يختر حرمته.
وكذا مالك ، كان عالم المدينة ، ولو كان مِن قِبَل عمر ، وكان تلميذ ابن عمر ، وكان ابن عمر يقول بالحلّية ، فلِمَ لَمْ يختره؟!
وكذا أبو حنيفة هو تلميذ عبد اللّه بن مسعود ، ولو كان النهي من عمر [فلِمَ] (2) لَمْ يختر الحلّية؟!
وإجماعُ أكثرِ علماء الإسلام على الحرمة يدلُّ على أنّ الأمر تقرّر على الحرمة.
وأمّا ما ذكر أنّ عمر قال : «أنا أنهى عنهما» ، فالمراد أنا أُخبركم بالنهي وأُوافق رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
وأمّا قوله : «كانتا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» لا يلزم أن يكون دائماً ، والمفهوم لا يخالف هذا ، كما ادّعاه المرتضى (3).
ص: 288
وإنّما الكلام في نسخ حلّية متعة النساء ..
فذهب إليه أكثرُ القوم (1).
والحقّ عدم النسخ ، وأنّ التحريم للمتعتين من عمر لا من اللّه ورسوله ، كما تواترت به أخبارنا (2) ، وكذا أخبارهم (3).
أمّا متعةُ الحجِّ ، فستعرف إن شاء اللّه تعالى أخبارهم المصرّحة بحلّيّتها إلى الأبد ، فلا بُد أن يكون تحريمها من عمر ، وكذا متعة النساء ؛ لأنّ تحريمه لهما بلفظ واحد ، ويدلّ عليه - أيضاً - ما لا يحصى من أخبارهم ..
منها : ما رواه البخاري (4) ، عن عبد اللّه ، قال : «كنّا نغزو مع
ص: 290
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك ، فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوّج المرأة بالثوب ، ثمّ قرأ علينا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) (1).
ورواه مسلم (2) من عدّة طرق عن عبد اللّه ، وقال فيه : «ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل».
فإنّ استشهاد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالآية ظاهر في أنّ الامتناع من المتعة من تحريم طيّبات ما أحلّ اللّه ، فلا يصلح لتعلّق النسخ به ، فيكون التحريم من عمر.
ومنها : ما رواه مسلم (3) ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّامَ على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرِو بن حرَيث».
فإنّه صريحٌ في استمرار الحلّية أيّام النبيّ وأبي بكر ، بل وأيّام عمر ، إلى أن نهى من عند نفسه لقضيّة ابن حرَيث.
ومنها : ما رواه مسلم (4) ، عن أبي نضرة ، قال : «كنت عند جابر بن عبد اللّه ، فأتاه آت ، فقال : ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين! فقال جابر : فعلناهما مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعدْ لهما».
ص: 291
وهو صريحٌ في أنّ النهي إنّما هو من عمر بعدما استمرّت الحلّية إلى زمانه ، وأنّهم تركوهما اتّقاءً من عمر ؛ بشهادة أنّ متعة الحجِّ مما اتّفقت كلمةُ المسلمين على حلّيتها ، فلولا التقيّة لم يمتنعوا عنها.
ومنها : ما رواه مسلم أيضاً (1) ، عن عطاء ، قال : «قدم جابر بن عبد اللّه معتمراً ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثمّ ذكروا المتعة ، فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول اللّه ، وأبي بكر ، وعمر».
ومثله في «مسند أحمد» (2) ، بسند حديث مسلم ، وزاد فيه : «حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر».
وهو صريح في بنائهم على الحلّية في هذه الأوقات ، وليس بجائز أن يخفى النسخُ على المسلمين إلى أن ينهى عمر!
ومنها : ما رواه مسلم (3) ، عن عروة بن الزبير : «أنّ عبد اللّه بن الزبير قام بمكّة ، فقال : إنّ ناساً أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة ؛ يعرّض برجل.
فناداه ، فقال : إنّك لَجِلفٌ جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتّقين ؛ يريدُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك ، فواللّه لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك».
فإنّ قوله «تُفعل على عهد إمام المتّقين» ظاهرٌ في الاستمرار إلى حين وفاته (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وإلاّ لم يكن ردّاً لابن الزبير.
ص: 292
والمراد بالرجل : هو ابن عبّاس ، ولا يخفى لطفُ قوله : «إمام المتّقين» ، فإنّ فيه إشارةً إلى أنّ من لم يُفتِ بالحلّية ليس من المتّقين ، وخارجٌ عن اتّباع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ومنها : ما رواه مسلم أيضاً (1) ، عن أبي نضرة ، قال : «كان ابنُ عبّاس يأمر بالمتعة ، وكان ابنُ الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر ابن عبد اللّه ، فقال : على يديَّ دار الحديث ، تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلمّا قام عمر قال : إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وإنّ القرآن قد نزَلَ منازله ، فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم اللّه ، وأبتُّوا نكاحَ هذه النساء ، فلن أُوتى برجل نكح امرأةً إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة».
وقريب منه في «مسند أحمد» (2).
وكذا في صحيح مسلم ، وقال فيه : «فافصلوا حجَّكم من عُمرتكم ؛ فإنّه أتمُّ لحجكم وأتمُّ لعُمرتكم» (3).
وهو صريح في أنّ اللّه تعالى أحلّ لرسوله المتعة بإقرار عمر ، لكنّ عمر أمر من نفسه ببتِّ النكاح ؛ استبداداً برأيه.
وهذا الحديث قد ذكره المصنّف (رحمه اللّه) (4) ، واعترض عليه - أيضاً - بما تغافل الخصمُ عن جوابه ؛ وهو أنّه لو فُرض حرمةُ المتعة لكان فاعلها على شبهة ، والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ادرأُوا الحدودَ بالشُبهات» (5) ..
إذ لو فُرض روايةُ عمر للتحريم عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فهو مختصٌّ بهذه
ص: 293
الرواية ، وعملُ المسلمين على خلاف رأيه وروايته إلى حين خطبته ، فلا محالة تحصل الشبهة للعامل ، ولا أقلّ من احتمالها في حقه ، فبِمَ يستحقّ الرجم؟!
ومنها : ما رواه البخاري (1) ، عن عمران بن حصين ، قال : «أُنزلت آية المتعة في كتاب اللّه ، ففعلناها مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم ينزل قرآن يُحرّمها ، ولم ينه عنها حتّى مات ، قالٌ رجلٌ برأيه ما شاء».
ونحوه في «مسند أحمد» (2) ، لكنّه لم يذكر قوله : «قال رجلٌ برأيه ما شاء».
وهو كما تراه نصٌّ في عدم نسخ الحلّية بالكتاب والسنة ، وأنّ عمر حرّمها برأيه ، ونسخ إباحتها بإشاءته.
ولكن يُحتمل أن يُراد هنا بالمتعة : متعةُ الحجِّ (3) ، إلاّ أنّه عليه - أيضاً - يتمّ المطلوب ؛ لأنّ المتعتين من باب واحد ، وقد حرّمهما عمر بلفظ واحد.
ومنها : ما رواه مسلم (4) ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : «قال أبو ذرّ : لا تصلح المتعتان إلاّ لنا خاصة.
يعني : متعة النساء ومتعة الحجّ».
فإنّه دالٌّ على أنّ المتعتين من خواصّ المسلمين ؛ وذلك لأنّ متعة
ص: 294
النساء كانت محرّمة قبل الإسلام (1) ، ومتعة الحجِّ كانت من أفجر الفجور في أشهر الحجّ إلى أن ينسلخ صفر ، كما رواه مسلم (2) والبخاري (3).
بَيْد أنّ عمر أراد إعادة تلك السنة القديمة ، فحرّم المتعتين!
ولا يتّجه أن يريد أبو ذرّ بقوله : «لنا خاصّة» خصوص الصحابة ؛ للإجماع على صلاح متعة الحجّ لمطلق المسلمين.
ومنها : ما رواه أحمد في «مسنده» (4) من طرق صحيحة ، عن عبد الرحمن الأعرجي ، قال : سأل رجلٌ ابنَ عمر عن المتعة - وأنا عنده - متعة النساء ، فقال : واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) زانين ولا مسافحين ؛ ثمّ قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيحُ الدجّالُ وكذّابون ثلاثون أو أكثر».
وهو صريحٌ في إباحة متعة النساء طولَ عهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّ مَن حرّمها أحدُ الكذّابين المذكورين!
ولا يُستبعد ذلك من ابن عمر لمّا خالف التحريمَ عملُه ورأيُه ، ورأى فشوّ البدعة وتغيير حكم اللّه ورسوله علناً ، ولا سيّما قد صدر منه ذلك حال الغضب ، كما صُرّح به في بعض هذه الأخبار (5) ، فأبدى
ص: 295
الحقيقة من دون التفات لأبيه ، لا سيّما مع عدم ذِكره في كلامه وكلام السائل (1).
ومنها : ما رواه أحمد أيضاً (2) ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : «كنّا نتمتّع على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالثوب».
وهو دالٌّ على أنّه كان سيرةَ المسلمين على عهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كلّه.
ومنها : ما رواه أحمد - أيضاً (3) - ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : «كنّا نتمتّع على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر حتّى نهانا عمر أخيراً ؛ يعني النساء».
وهذا من أصرح الأخبار في المدّعى.
ومنها : ما رواه أحمد - أيضاً (4) - ، عن جابر ، قال : «متعتان كانتا على عهد النبيّ ، فنهانا عنهما عمر فانتهينا».
وهو صريح الدلالة على أنّ النهي من عمر ، لكنّهم انتهوا خوفاً وتقيّة ؛ لِما عرفتَ من أنّ متعة الحجِّ حلالٌ بلا ريب حتّى عند القوم ، فليس النهيُ فيها إلاّ من عمر ، وليس الانتهاءُ عنها إلاّ تقيّة!
ومنها : ما رواه أحمد - أيضاً (5) - ، عن عمران بن حصين ، قال : «تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم ينهنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعد ذلك عنها ،
ص: 296
ولم ينزل من اللّه فيها نهيٌ».
ومنها : ما رواه ابن جرير الطبريُّ في «تفسيره» بسند صحيح ، عن شعبة ، عن الحكم ، قال : «سألته عن هذه الآية ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) إلى هذا الموضع : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (1) أمنسوخة هي؟
قال : لا.
قال الحكم : وقال عليٌّ : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ» (2).
ونقله السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير آية المتعة من سورة النساء ، عن ابن جرير ، وعبد الرزّاق ، وأبي داود في «ناسخه» (3).
وقال أيضاً : أخرج عبد الرزّاق وابنُ المنذر ، من طريق عطاء ، عن ابن عبّاس ، قال : «يرحم اللّه عمر ، ما كانت المتعة إلاّ رحمة من اللّه رحم بها أُمة محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولولا نهيُه عنها ما احتاج [إلى] الزنا إلاّ شَفىً» (4).
ونحوه في «نهاية» ابن الأثير ، في مادّة «شفا» بالفاء (5).
ص: 297
وحكى في «كنز العمّال» (1) ، عن عبد الرزّاق ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» ، وأبي داود في «ناسخه» ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطّاب لأمرتُ بالمتعة ، ثمّ ما زنى إلاّ شقيٌّ».
وأنت ترى أنّ هذه الأخبار الأخيرة ، نسبت النهي إلى عمر وإلى رأيه ، لا إلى روايته ، فيكون النهي منه ، لا من اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا سيّما أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في الرواية الأخيرة : «لولا ما سبق من رأيه لأمرتُ بالمتعة» ؛ فإنّه (عليه السلام) لا يأمر بها إلاّ وهي حلالٌ من اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
وهذا دليلٌ على أنّ المانع لأمير المؤمنين (عليه السلام) عن الأمر بها هو التقيّة ، وكراهة إظهار مخالفة عمر ؛ لئلا يتّخذها أعداؤه سبيلا للخلاف عليه.
وكيف يصحُّ نسخُ إباحتها وهي رحمة من اللّه للأُمّة ، كما قاله ابن عبّاس (2)؟! إذ لا أقلّ في مصلحتها أنّها سببٌ لتقليل الزنا!
ومنها : ما نقله في «الكنز» (3) ، عن ابن جرير في «تهذيب الآثار» ، عن أُمّ عبد اللّه ابنة أبي خيثمة ، أنّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال :
ص: 298
إنّ العزْبة (1) قد اشتدّت علَيَّ فابغيني امرأةً أتمتّع معها.
قالت : فَدلَلتُهُ على امرأة ، فشارطها ، وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء اللّه أن يمكث ، ثمّ إنّه خرج ، فأُخبر عن ذلك عمر بن الخطّاب ، فأرسل إليّ فسألني : أحقٌّ ما حُدثت؟!
قلت ، نعم.
قال : فإذا قدم فآذنيني به.
فلمّا قدم أخبرته ، فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟!
قال : فعلتُه مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ لم ينهنا عنه حتّى قبضه اللّه ، ثمّ مع أبي بكر ، فلم ينهنا عنه حتّى قبضه اللّه ، ثمّ معك ، فلم تُحْدِث لنا فيه نهيا.
فقال عمر : أمَا والذي نفسي بيده ، لو كنتُ تقدّمتُ في نهي لرجمتُك ، بيِّنوا حتّى يُعرف النكاح من السفاح».
وهو صريحٌ في أنّ النهي إحداثٌ من عمر بلا سبق من اللّه ورسوله ، وأنّها حلالٌ في عهد صاحب الشرع إلى حين نهي عمر.
ولا أدري ، ما يطلب عمر بقوله : «بيِّنوا حتّى يعرف النكاح من السفاح»؟!
فإنّها إذا كانت حلالا من صاحب الشريعة ، كانت حلالا بيّناً ، وامتازت عن السفاح ، وأيُّ بيان يطلب فوق معرفتها موضوعاً وحكما؟!
ص: 299
ومنها : ما حكاه في «الكنز» (1) ، عن الطحاوي وكاتب الليث ، عن عمر ، قال : «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه ، أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ؛ متعة النساء ؛ ومتعة الحجّ».
وقد ذكره الرازي في «تفسيره» محتجاً به على حرمة المتعة (2).
وحكى في «الكنز» - أيضاً (3) - ، عن ابن جرير في «تهذيب الآثار» وابن عساكر ، عن أبي قلابة ، أنّ عمر قال : «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه ، أنا أنهى عنهما وأضرب فيهما».
وروى القوشجي في «شرح التجريد» ، آخر «مبحث الإمامة» ، أنّ عمر صعد المنبر وقال : «أيّها الناس! ثلاثٌ كنّ على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أنا أنهى عنهنَّ وأُحرِّمهُنَّ وأُعاقب عليهنَّ ؛ وهي : متعةُ النساء ، ومتعةُ الحجِّ ، وحيَّ على خير العمل» (4).
وهو من أصرح الأخبار في المطلوب ؛ لأُمور :
الأوّل : إنّه نسب النهي إلى نفسه ، ولو كان روايةً عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لكان اللازم أنّ ينسبه إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه أبلغ في الانتهاء ، كما ذكره المرتضى (5).
الثاني : إنّ الرواية لا تناسب قوله : «كانتا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» ؛ فإنّه ظاهرٌ في جوازه الواقعي على عهده ، فلا يصلح
ص: 300
أن يكون توطئة لرواية النهي عنه ، بل ينافيها ، وإنّما يناسب أن يكون توطئةً للنهي من نفسه.
الثالث : إنّ إرادة الرواية ممتنعة ؛ لأنّه قرن بين المتعتين ، ومن المعلوم من دين النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حلّية متعة الحجّ إلى آخر الأبد ، كما تواترت به الأخبار (1).
ولأجل صراحة قول عمر في التشريع خلافاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال المأمون - وهو يحكي كلامه - : «مَن أنت يا جُعَل (2) حتّى تنهى عمّا فعله
ص: 301
رسول لله (صلى اللّه عليه وآله وسلم)»؟! كما ذكره ابنُ خلّكان في ترجمة يحيى بن أكثم (1).
فقد اتّضح بما بيّنّا أنّ عمر قد حرّم ما أحلّه اللّه ورسوله ، وشرّع خلاف حكمهما ، وأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبرارَ الصحابة إنّما سكتوا تقيّةً ، مع علمهم بحلّية المتعتين.
ولا يمكن إنكار الخصم لهذا في متعة الحجّ ، فمثلها متعةُ النساء ، فلا معنى لقوله : «لم يعلموا أنّ الأمر تقرّر على الحرمة في آخر الأمر».
وكيف يمكن أن لا يعلم أميرُ المؤمنين ، وابنُ عبّاس ، وجابر ، وغيرهم من أكابر الصحابة وأصاغرهم ، ثمّ يبقى خفيّاً عليهم إلى أن يُظهره عمرُ في آخر خلافته ، وهو ممّا وقع الاتّفاق على جهله أو عمده في متعة الحجّ؟!
وما باله لم يُظهر ما علم في أوّل خلافته أو خلافة أبي بكر؟! فلا بُد أن يكون مشرِّعاً مستبدّاً عن اللّه ورسوله.
ولا أدري ، ما معنى التقرّر على الحرمة في آخر الأمر؟! فهل هو
ص: 302
بمعنى ثبوتها بنبوّة جديدة لعمر؟! أو أنّ له تخطئةَ اللّهِ والرسولِ والحكمَ بما تهواه نفسه؟!
وأمّا استدلال الخصم على حرمة متعة النساء بقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) الآية (1) ..
فخطأٌ ظاهر ؛ لأنّ عدم التوريث لا ينافي الزوجيّة ، وكذا عدم بعض الآثار الأُخر ؛ كعدم النفقة ؛ والليلة لها ؛ وذلك لأنّ الكافرةَ وقاتلةَ الزوج لا ترثانه وهما زوجتان (2) ، والناشزة لا تستحقّ النفقةَ والليلةَ وهي زوجةٌ (3).
ولو سُلّم أنّ المتمتّع بها ليست زوجةً ، فآية الحفظ مخصّصةٌ بآية المتعة ؛ وهي قوله تعالى من سورة النساء : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (4) ، فإنّها خاصة ، وآية الحفظ عامةٌ (5).
كما إنّ آيةَ الحفظ مخصَّصةٌ بأَمةِ الغير التي أذن لغيره في وطئها ، فإنّها ليست بزوجة ، ولا مملوكة ليمين الواطئ ، ولا يلزم حفظُ الفرج عنها بالإجماع (6).
ص: 303
ولو سُلّم عدم التخصيص وقلنا بلزوم النسخ ، فالمتعيّن نسخُ آية الحفظ ؛ لأنّها مكّية (1) ، وآية المتعة مدنيّةٌ (2) ؛ ولِما سبق من الأخبار المصرّحة بهذا (3).
فإن قلت : روى الترمذيُّ (4) أنّ آية الحفظ هي الناسخة ؛ لروايته عن ابن عبّاس أنّه قال : «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدةَ ليس له بها معرفةٌ ، فيتزوّج المرأةَ بقدر ما يرى أنّه يقيم ، فتحفظ له متاعه ، وتصلح له شيئَه ، حتّى إذا نزلت الآية ( إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) (5) قال ابن عبّاس : فكلُّ فرج سواهما فهو حرام».
قلتُ : لا ريب بكذب هذه الرواية ؛ لِما سبق ؛ ولمخالفتها للمعلوم من قول ابن عبّاس بالحلّية ، وللمعروف من كماله ، فإنّ من له أدنى معرفة لا يدّعي أنّها ليست بزوجة لمجرّد انتفاء بعض الآثار عنها ، أو بزعم عدم صدق الزوجة عليها ، والحال أنّها إنّما تُستباحُ بعقد النكاح.
على أنّ هذه الرواية ضعيفةٌ عند القوم أنفُسِهم ؛ لاشتمال سندها على موسى بن عبيدة الذي عرفتَ بعض ترجمته في مقدّمة الكتاب (6) ، فلا تقاوم الأخبار المصرّحة بأنّ آية المتعة غيرُ منسوخة ، مع أنّ ظاهر الرواية إنّما يناسب كثرةَ المسلمين في أوّل الإسلام ، وحاجتهم إلى المتعة ،
ص: 304
وهو خلاف الواقع ؛ لندرتهم.
واعلم أنّه لا ريب بإرادة متعة النساء من قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ... ) (1) الآية ؛ للإجماع (2) ..
وللزوم التكرار لو أُريد به النكاح الدائم ؛ لأنّه تعالى قد بيّن بالآيات التي قبلها حكم النكاح الدائم ، قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (3) إلى قوله تعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (4).
ولِما استفاض عند القوم عن ابن عبّاس وأُبَيّ بن كعب ، من أنّ الآية هكذا : «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى» ..
قال الرازي في تفسير الآية : «روي عن أُبَيّ بن كعب أنّه كان يقرأ : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنَّ أُجورهنَّ ..
قال : وهذا - أيضاً - قراءة ابن عبّاس ، والأُمّة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة ، فكان ذلك إجماعاً من الأُمّة على صحّة هذه الرواية» (5).
وروى الحاكم في كتاب التفسير من «المستدرك» (6) ، عن أبي نضرة ، قال : قرأت على ابن عبّاس ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) .
قال ابنُ عبّاس : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) إلى أجل مسمّى.
قال أبو نضرة : فقلتُ : ما نقرأها كذلك!
ص: 305
فقال ابن عبّاس : واللّهِ لأََنزلها اللّهُ كذلك!
ثمّ قال الحاكم : هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم».
ونقلهُ السيوطيُّ في «الدرّ المنثور» ، عن الحاكم ، قال : «وصحّحه من طرق عن أبي نضرة» (1).
ونقله - أيضاً - عن عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في «المصاحف» ، ثمّ قال : «وأخرج ابن أبي داود في (المصاحف) ، عن سعيد بن جبير ، قال : في قراءة أُبَيّ بن كعب : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّىً» (2).
ونقل مثله عن عبد بن حميد وابن جرير ، عن قتادة ، في قراءة أُبَيّ (3).
.. إلى غير ذلك ممّا ذكره السيوطيُّ من الأخبار (4).
هذا ، وقد استدلّ القومُ على نسخ حلّية متعةِ النساء بأخبار رووها ؛ وهي أقسامٌ :
الأوّل : عن سبرة ، أنّ النبيّ حرّمها عام الفتح قائلا : أيّها الناس! إنّي كنتُ أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء ، وإنّ اللّه قد حرّم ذلك
ص: 306
إلى يوم القيامة (1).
وفي بعض الروايات عن سبرة ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال ذلك وهو قائمٌ بين الرُكن والمقام (2).
الثاني : عن سلمة ، أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رخّص فيها عام أَوْطاس (3) ثلاثاً ، ثمّ نهى عنها (4).
ويمكن إرجاع هذا القسم إلى الأوّل ؛ لأنّ عام أَوْطاس هو عامُ
ص: 307
الفتح (1).
الثالث : عن عليّ ، أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حرّمها يومَ خيبر (2).
الرابع : عن [ابن] أبي عمرة ، أنّها رخصةٌ في أوّل الإسلام لمن اضطرّ إليها ، كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ثمّ أحكم اللّه الدينَ ونهى عنها (3).
وهذه الأقسام الأربعة رواها مسلم في باب نكاح المتعة (4).
الخامس : عن سبرة ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر بها وحرّمها في حجّة الوداع ؛ رواه أحمد (5) ، وذكر فيه أنّ تحريمه لها وهو يخطب.
كما رواه كذلك في «كنز العمّال» (6) ، عن ابن جرير من طريقين له عن سبرة.
السادس : إنّها ما حلّت قطُّ إلاّ في عُمرة القضاء ثلاثة أيّام ، لا قبلها
ص: 308
ولا بعدها ؛ رواه في «كنز العمّال» (1) ، عن عبد الرزّاق عن الحسن.
وهذه الأخبار - كما تراها - مختلفة في تعيين وقت التحريم ، بحيث لا يمكن الجمع بينها ، وهو دليل الكذب ، ولا سيّما الأوّل والخامس ؛ فإنّ راويهما واحدٌ ، وهو سبرة.
كما إنّ تحديد الحِلّ في بعضها بثلاثة أيّام مناف للأخبار السابقة وغيرها ، حتّى روى البخاريّ (2) ، عن سلمة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «أيّما رجل وامرأة توافقا ، فَعِشرةُ ما بينهما ثلاثُ ليال ، فإنْ أحبّا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا».
على أنّ التأمّل في نفس كلّ من هذه الأقسام يدلُّ على كذبه ..
أمّا الأوّل والخامس ؛ فلأنّه لا يمكن أن يُعلِنَ النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحرمةَ بمكّة يومَ الفتح ، وفي حجّة الوداع - ولا سيّما وهو يخطب - ولا يطّلع عليها غيرُ سبرةَ ، حتّى يُحلّها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) من غير علم ، وابنُ عبّاس ، وابنُ مسعود ، وجابر ، وعمران ، وأبو ذرّ ، وأبو سعيد ، وابنُ عمر ، وغيرهم.
مع أنّه لم يروِها عن سبرة غيرُ ابنه الربيع (3) ، مع كثرة الابتلاء بها ، ووجود داعي السؤال عنها بعد أن حرّمها عمرُ.
وأمّا القسم الثاني ؛ فإنْ أُريد به ما يرجع إلى الأوّل ، فالكلامُ الكلامُ.
ص: 309
غايةُ الأمر أنّه يكون سلمةُ راوياً له مع سبرة ، وهو لا يرفع الإشكال.
وإنْ أُريد به ما لا يرجع إليه ، كفى في العلم بكذبه تحديدُه الحِلَّ بالثلاث.
وبهذا يُعلم كذبُ الأخير أيضاً.
وأمّا الثالث ؛ فلأنّه مرويٌ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومعلومٌ أنّه خلاف مذهبه ، وكيف يرويه وهو يقول : «لولا ما سبق من رأي عمر لأمرتُ بها ، ثمّ ما زنى إلاّ شقيّ» (1)؟!
أو كيف يرويه عنه ابنُ عبّاس ، ثمّ يبقى مُصِرَّاً على الحلّية حتّى يلقى من ابن الزبير ما يلقى (2)؟!
وأما الرابع ؛ فلأنّ المتعة إذا كانت كالميتة والدم ولحم الخنزير ، كانت حراماً مطلقاً (3) ؛ لأنّ الرخصة للضرورة لا تجعلها من قسم الحلال حتّى تُنسخ.
ولا يمكن إرادةُ نسخ الرخصة الناشئة من الاضطرار ؛ للعلم بثبوت
ص: 310
الرخصة في مقام الضرورة ، وأنّ اللّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما اضطرّوا إليه ، كما دلّ عليه الكتابُ والسنة (1) ؛ ولذا تُباح الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير عند الضرورة.
على أنّ أدلّة حلّية المتعة - ولو في زمن خاصّ - واضحةُ الدلالةِ على جوازها اختياراً ، وهو مجمعٌ عليه (2).
هذا كلّه مع قطع النظر عن أسانيد هذه الأخبار ، وإلاّ فالكلام فيها واسعُ المجال.
ثمّ إنّ من أدلّة النسخ ما حكاه في «كنز العمّال» (3) ، عن سعيد بن منصور وتمّام وابن عساكر ، أنّه لمّا وليَ عمر بن الخطّاب فقال : «إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أذن لنا في المتعة ثلاثاً ، ثمّ حرّمها ، واللّه لا أعلم أحداً
ص: 311
تمتّع وهو محصنٌ إلاّ رجمتُه بالحجارة ، إلاّ أن يأتيني بأربعة يشهدون أنّ رسول اللّه أحلّها بعدَ إذ حرّمها ، ولا أجد رجلا من المسلمين متمتّعاً إلاّ جلدته مئة جلدة ، إلاّ أن يأتيني بأربعة شهداء أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أحلّها بعدَ إذ حرّمها».
وهو أيضا ظاهر الكذب ؛ لأنّه إنّما حرّم المتعتين معاً بلفظ واحد ، وكان التحريم في أواخر خلافته ، وقال : «أنا أنهى عنهما» من دون أن يستند إلى قول النبيّ ؛ ولأنّ اعتبار الشهود الأربعة على التحليل ممّا لم يدعه مسلمٌ ، ولِما سبق من مخالفة الحكم بالحِلِّ في خصوص ثلاثة أيام لصحاحهم (1) ..
فلا بُد أن يكون هذا الحديث كذباً من أحد جُهّالهم ، كسائر أحاديث التحريم.
هذا ، ولا عبرة بذهاب الشافعيّ وغيره إلى الحرمة ؛ لاستنادهم إلى هذه الأخبار ، وكونهم إلى تسديد رأي عمر أميل.
وكان اللازم على الشافعي أن يحكم بحرمتها وحلّيتها مراراً ، لا مرّتين فقط ؛ لتلك الأخبار المختلفة ، حتّى يكون الدين لعباً!
واستدلال الخصم على أعلميّته بالناسخ والمنسوخ ؛ بدعوى أنّه عالمٌ بهما ، طريفٌ ، والعِلم لا يستدعي العمل به.
وقوله : «كان مالك تلميذَ ابن عمر» ، باطلٌ ؛ لأنّ ابن عمر مات في
ص: 312
آخر سنة 73 (1) ، أو في أوّل ما بعدها (2) ، ووُلد مالك سنة 93 (3).
وكذا قوله : «كان أبو حنيفة تلميذ ابن مسعود» ، فإنّ ابن مسعود مات سنة 32 (4) ، وقيل : في ما بعدها (5).
ووُلد أبو حنيفة سنة 80 ؛ لأنّه مات سنة 150 وله سبعون سنة ، كما ذكر ذلك في «التقريب» (6).
اللّهمّ [إلاّ] (7) أن يريد التلمذة بالواسطة!
على أنّ التلمذة - حتّى لو كانت بدون واسطة - لا تستوجب الموافقة ، ولا سيّما في هذه المسألة التي اهتمّ عمر للتحريم فيها.
الأوّل : إنّ المصنّف (رحمه اللّه) نقل عن الترمذي ، أنّه سئل ابن عمر عن متعة النساء فقال : هي حلال ... إلى آخره (8).
والذي وجدته في «صحيح الترمذي» ، في الحجّ ، في «باب ما جاء بالتمتّع» ، أنّه سأل ابنَ عمر شاميٌّ عن متعة الحجّ ، فقال : هي حلالٌ.
ص: 313
فقال الشامي : إنّ أباك قد نهى عنها.
فقال : أرأيتَ إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أمرُ أبي يُتّبَع ، أم أمرُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فقال الرجل : بل أمرُ رسول اللّه.
فقال : لقد صنعها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1).
ثمّ قال الترمذيّ : هذا حديثٌ حسنٌ ، صحيحٌ (2).
ولم يذكر الترمذيُّ مثل هذا الحديث في نكاح المتعة ، فلعلّه قد سقط من نسخة «صحيحه» المطبوع في هذا الزمان ، أو وقع الاشتباه من المصنّف (رحمه اللّه).
وعلى تقدير الاشتباه ، فالحديث نافعٌ لنا في إفادته أنّ عمر هو المشرّع لتحريم متعة الحجّ خلافاً لله ورسوله ، فمثلُها متعة النساء ؛ لأنّ تحريمه لهما بلسان واحد وبلفظ الإنشاء ، لا الرواية في واحدة والإنشاء في الأُخر.
الثاني : إنّ جواب قاضي القضاة بأنّ عمر قال ذلك كراهةً للمتعة (3) ، مأخوذٌ من جواب عمر لأبي موسى بالنسبة إلى تحريم متعة الحجّ ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (4).
وأنت تعلم أنّه جوابٌ منكرٌ ؛ فإنّا نعلم أنّ اللّه جلّ وعلا لم يُنِطْ
ص: 314
أحكامه بكراهة أحد وإرادته.
وهل هذا إلاّ التشريع المحرّم ، والجرأة على مخالفة اللّه ورسوله بلا عناية بقول اللّه وحكمه؟! (1).
ص: 315
إعلم أنّ متعة الحجّ المسمّاة بالعُمرة ، كانت حراماً بأشهر الحجّ في الجاهليّة ..
ثمّ أحلّها اللّه ورسوله في الإسلام إلى آخر الأبد بهذه الأشهر ، بل فرَضا وقوعها فيها قبلَ الحجِّ على البعيد.
ثمّ حرّمها عمر في إمارته ، فأعاد حكمها الجاهلي!!
فها هنا ثلاث دعاوى ..
أمّا الأُولى : فيدلّ عليها ما سبق في البحث السابق من أنّ البخاري ومسلماً رويا عن ابن عبّاس ، أنّهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور (1).
وأمّا الثانية : فيدلّ عليها من الكتاب العزيز قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) إلى قوله سبحانه : ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (2) ..
دلّ على أنّ فرض البعيد أن يتمتّع بالعمرة قبل الحجّ ، وموصولةً به ، بأن يكونا في أشهر الحجّ بعام واحد.
ويدلّ عليها من السنة ما هو متواترٌ ؛ ولنذكر منها بعض ما صرّح بأنّ ذلك إلى الأبد ، وإلى يوم القيامة ..
ص: 318
روى مسلم (1) ، عن جابر خبراً طويلا قال فيه : «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : مَن كان منكم ليس معه هديٌ فليَحِلّ ، وليجعلها عُمرةً.
فقام سراقة بن مالك ، فقال : يا رسول اللّه! ألِعامنا هذا أم لأبد؟
فشبَّك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أصابعَه واحدةً في أُخرى ، وقال : دخلت العُمرةُ في الحجّ مرّتين ، لا بل لأبدِ أبد».
وروى مسلم - أيضاً (2) - ، عن جابر ، قال : «أهللنا أصحابَ محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالحجّ خالصاً وحده ؛ فقدم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صبحَ رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نَحلَّ ، قال : أحلّوا وأصيبوا النساء ...
فقلنا : لم يكن بيننا وبين عرفة إلاّ خمس ، أمرنا أن نُفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنيّ ... فقام النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فينا ، فقال : قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ، ولولا هديي لحللتُ كما تَحلّون ، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لم أَسُقِ الهَديَ ...
فقدم عليٌّ (عليه السلام) من سعايته ، فقال : بم أهللت؟
قال : بما أهلّ به النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : فأهدِ وامكث حَراماً.
قال : وأهدى له عليٌّ هدْياً.
فقال سراقة : يا رسول اللّه! ألِعامنا هذا أم لأبد؟
قال : لأبد».
ص: 319
ونحوه في «صحيح البخاري» (1) و «مسند أحمد» من طرق (2) ، قال في بعضها : «فشبك رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أصابعه ، وقال : للأبد ؛ ثلاث مرّات ، ثمّ قال : دخلت العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» (3).
والأخبار المشتملة على قوله : «دخلت العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» كثيرة ، روي جملةً منها في «المسند» (4).
وأمّا الدعوى الثالثة : فقد سبق في البحث المتقدّم جملةٌ من الأخبار الدالّة عليها (5).
وروى البخاري (6) ، عن عمران ، قال : «تمتّعنا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فنزل القرآن ، قال رجلٌ برأيه ما شاء».
ويحتمل أن يراد بهذا الحديث : متعةُ النساء.
وروى مسلم (7) ، عن عمران ، قال : «إعلم أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) جمع بين حجّة وعمرة ، ثمّ لم ينزل فيها كتابٌ ولم ينهنا عنها ، قال فيها رجلٌ برأيه ما شاء».
وروى مسلم - أيضاً - ، عن مطرّف ، قال : «بعث إليَّ عمران بن
ص: 320
حصين في مرضه الذي تُوفّي فيه ، فقال : إنّي محدّثك بأحاديث لعلّ اللّه أن ينفعك بها بعدي ، فإن عشتُ فاكتم عنّي ، وإن مُتُّ فحدّث بها - إن شئت - إنّه قد سُلّم علَيَّ ، واعلم أنّ نبيّ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد جمع بين حجّ وعُمرة ثمّ لم ينزل فيها كتابُ اللّه ، ولم ينه عنها نبيُّ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال فيها رجلٌ برأيه ما شاء» (1).
وفي رواية أُخرى لمسلم نحوها ، قال فيها محمّد بن حاتم - بعد قول عمران : ارتأى رجلٌ برأيه ما شاء - : «يعني عمر» (2).
.. إلى نحو ذلك ممّا رواه مسلم في باب واحد ، بأسانيد تبلغُ العشرة أو تزيد (3).
ويا عجباً! كيف بلغ الحال في تقيّة الصحابة وخوفهم أن يأمر أحدهم بكتمان ما يحدِّث به من حكم اللّه الذي نزل به كتابه وأعلن به الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
وروى مسلم (4) ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : «قدمت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو منيخ بالبطحاء ، فقال : بم أهللت؟
قلت : بإهلال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
قال : هل سقت من هَدي؟
قلت : لا.
قال : فطفْ بالبيت وبالصفا والمروة ، ثمّ حِلّ.
ص: 321
فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثمّ أتيتُ امرأةً من قومي فمشطتني وغسلت رأسي.
فكنت أُفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر ، فإنّي لقائمٌ بالموسم إذ جاءني رجلٌ فقال : إنّك لا تدري ما أحدث أميرُ المؤمنين في شأن النُّسُك» إلى أن قال : «فلمّا قدم قلت : ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟!
قال : إنْ نأخذ بكتاب اللّه ؛ فإنّ اللّه قال : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) ، وإنْ نأخذ بسنة نبيّنا ؛ فإنّ النبيّ لم يَحِلّ حتّى نحر الهَديَ».
وروى مسلم معه حديثين آخرين بمعناه (2) ، وروى نحوه البخاري (3) والنسائي (4) ، وأحمد في مسنده (5).
وهذا الاستدلال من عُمَر أشبهُ بالأغاليط ؛ فإنّ الآية التي ذكرها لا تدلُّ على مدّعاه بوجه ؛ لأنّ فِعل العُمرةِ مع الحجّ لا يستوجب نقصان شيء منهما.
وقد صرّح ابنُ عمر بتمام العُمرة ، كما في «مسند أحمد» (6) ، عن الزهري ، عن سالم ، قال : «سُئل ابنُ عمر عن متعة الحجّ ، فأمر بها وقال : أحلّها اللّه ، وأمر بها رسول اللّه.
قال الزهري : وأخبرني سالم أنّ ابن عمر قال : العُمرة في أشهر الحجّ
ص: 322
تامةٌ ، عمل بها رسول اللّه ، ونزل بها كتابُ اللّه».
وليت شعري ، هل يرى عمر أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يعرف معنى الآية؟!
أو أنّه عرفه وخالف عمداً في أمر أصحابه بالمتعة في حجّة الوداع؟!
وأمّا دعوى عمر أنّه يأخذُ بسنة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعجب من ذلك ؛ فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما بقي على إحرامه في تلك الحجة ؛ لأنّه ساق هدياً - كما صرّحت به الأخبار (1) - ، فكيف يأخذ عمر بفعله الخاصّ به وببعض أصحابه في تلك الحجّة ، ويترك قوله الصريح بدخول العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة؟!
وروى مسلم (2) ، عن أبي موسى : «أنّه كان يُفتي بالمتعة ، فقال له
ص: 323
رجل : رويدك! ... فإنّك لا تدري ما أحدث أميرُ المؤمنين في النسك بعدُ ؛ حتّى لقيه بعدُ فسأله ، فقال عمر : قد علمتُ أنّ النبيّ قد فعله وأصحابُه ، ولكن كرهتُ أن يظلّوا مُعرِّسين بهنّ في الأراك ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم».
ونحوه في «صحيح النسائي» (1) و «مسند أحمد» (2).
وهو أقبحُ من الحديث السابق ؛ فإنّه لو جاز تغيير الأحكام بالكراهة والرضا لَما بقي للإسلام رسمٌ ، ولا كان لله على عباده مزيةٌ ، ولا سيّما إذا جاز تغيير ما صرّح النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأنّه إلى الأبد!
وليت شعري ، إذا غضب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أصحابه لتردّدهم في ما أمر به من الإحلال في حجّة الوداع - كما رواه مسلم (3) وأحمد (4) عن عائشة - ، فكيف حالُه لو سمع أنّ عمر غيّر حكمه وحكم اللّه في كتابه المجيد ، وهدد على طاعتهما ومعصيته؟!
وروى الترمذي - وصحّحه (5) - ، عن محمّد بن عبد اللّه : «أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس وهما يذكران التمتّع بالعُمرة إلى الحجّ ، فقال الضحّاك : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه.
فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي!
قال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك.
ص: 324
فقال سعد : قد صنعها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وصنعناها معه».
ومثله في التمتّع من «صحيح النسائي» (1) ، وفي ما جاء في التمتّع من «موطأ مالك» (2).
وروى النسائي - أيضاً - في التمتّع ، عن ابن عبّاس ، قال : «سمعتُ عمر يقول : واللّهِ إنّي لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب اللّه ، ولقد فعلها رسول اللّه ؛ يعني العُمرة في الحجّ» (3).
وروى مالك في ما جاء في العُمرة من «موطئه» ، عن ابن عمر ، أنّ عمر قال : «افصِلوا بين حجّكم وعُمرتكم ، فإنّ ذلك أتمّ لحجِّ أحدكم ، وأتمّ لعُمرته ؛ أن يعتمر في غير أشهر الحجّ» (4).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تُحصى (5) ..
ومنها يُعلم ما في قول الفضل : «ولم يصحّ عنه روايةٌ في منعها ؛ وإنْ صحَّ ، فيمكن أن يكون سمع من رسول اللّه شيئاً»!!
ولا أدري ، ما هذا الذي يحتمل سماعه وقد صرّح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أنّها إلى الأبد وإلى يوم القيامة؟!
وأعجب من ذلك قوله : «والمسائل المخلتف فيها لا اعتراض فيها على المجتهدين» ؛ فإنّ المسألة إجماعيّة لا خلافيّة ، كما أقرّ به الخصم ، فقال : «متعةُ الحجّ جوّزها العلماء وذهبوا إليه».
ص: 325
نعم ، قد يريد أنّ اللّه ورسوله مجتهدان ، وعمر مجتهدٌ في عرضهما ، فلا اعتراض عليه وإنْ قالَ لمجرّد الكراهة والهوى ، ناسخاً أيضاً قوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) ، وفي آية أُخرى : ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) (3).
ثمّ إنّ عثمان أراد ترويج هذه الفتوى المخالفة للكتاب والسنة والإجماع ، مع اطّلاعه على ذلك ، وحضوره حجّة الوداع ، وسماعه من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما سمعه المسلمون ..
فقد روى البخاري (4) ، عن مروان بن الحكم ، قال : «شهدتُ عثمان وعليا ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يُجمَع بينهما ، فلمّا رأى عليٌّ أَهَلَّ بهما ... قال : ما كنت لأدعَ سنة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لقول أحد».
ونحوه في القِران من «صحيح النسائي» (5).
وروى البخاري - أيضاً (6) - ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : «اختلف عليٌّ وعثمان - وهما ب «عُسْفان» (7) - في المتعة ، فقال عليٌّ : ما تريد إلاّ أن
ص: 326
تنهى عن أمر فعله النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فلمّا رأى ذلك عليٌّ أهلّ بهما جميعاً».
ونحوه في «مسند أحمد» (1) ، وزاد فيه : «فقال عثمان : دعنا منك».
وكذا في «صحيح مسلم» (2).
وروى أحمد (3) ، عن أبي حرملة (4) ، قال : سمعت سعيداً قال : «خرج عثمان حاجّاً ، حتّى إذا كان ببعض الطريق قيل لعليّ : إنّه نهى عن التمتّع بالعُمرة إلى الحجّ ؛ فقال لأصحابه : إذا ارتحل فارتحلوا.
فأهلّ عليٌّ وأصحابه بعُمرة ، فلم يكلّمه عثمان في ذلك ، فقال له عليٌّ : ألم أُخبَر أنّك نهيت عن التمتّع بالعُمرة؟!
فقال : بلى.
قال : فلم تسمع من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تمتّع؟!
قال : بلى».
ومثله في التمتّع من «صحيح النسائي» (5).
ص: 327
.. إلى غير ذلك من أخبارهم (1).
وقد أصرّ - أيضاً - عروة بن الزبير على بقاء هذه البدعة حتّى اجترأ على ابن عبّاس ، فقال ابن عبّاس - بعد كلام دار بينهما - كما في «مسند أحمد» (2) : «أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ويقول : نهى أبو بكر وعمر!».
واعلم أنّ اتّفاق علمائهم على ثبوت متعة الحجّ دليلٌ على أنّ الحكم بلغ من الضرورة ما لا يمكن افتعال خلافه ؛ إذ مجرّد مخالفة عمر للكتاب والسنة لا يمنعهم من وضع صورة الأدلّة لتسديد أمره ، كما فعلوا في متعة النساء!
وكيف يمكنهم وضعها ، وقد كان حكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالتمتّع إلى الحجّ ، ودوامه إلى الأبد ، من المشاهدات لأكثر الأُمة في حجّته الواقعة في آخر أيّامه ، ورتّب على حكمه العمل؟! وليس هناك للناس بعد موتِ عمر داع إلى مخالفة ذلك الحكم الضروري!
على أنّ اللّه سبحانه أراد بيان حال عمر ، فحال بينهم وبين وضع الأدلّة هنا ، فيظهر أمره في منع متعة النساء ، وفي سائر أفعاله!
ص: 328
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه (1) - :
ومنها : قصة الشورى ، وقد أبدع فيها أُموراً ..
فإنّه خرج بها عن الاختيار والنصّ جميعاً ، وحصرها في ستّة ..
وذمّ كلَّ واحد منهم ، بأن ذكر فيه طعناً لا يصلح معه للإمامة ، ثمّ أَهّله بعد أن طعن فيه ، وجعل الأمر إلى ستّة ، ثمّ إلى أربعة ، ثمّ إلى واحد وصفه بالضعف والقصور!
وقال : «إنِ اجتمع عليٌّ وعثمان ، فالقول ما قالاه ، وإنْ صاروا ثلاثة وثلاثة ، فالقول للّذين فيهم عبد الرحمن» ؛ وذلك لعلمه بأنّ عليا وعثمان لا يجتمعان ، وأنّ عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختَنه (2) وابنِ عمه (3).
وأنّه أمر بضرب أعناقهم إن تأخّروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام.
ص: 329
وأنّه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم ، أو الّذين ليس فيهم عبد الرحمن (1).
وروى الجمهور ، أنّ عمر لمّا نظر إليهم قال : قد جاءني كلُّ واحد منهم يهز عفريته يرجو أن يكون خليفةً.
أمّا أنت يا طلحة! أفلستَ القائل : إنْ قُبض النبيُّ لننكحنَّ أزواجه من بعده ، فما جعل اللّه محمّداً أحقّ ببنات عمِّنا منّا ؛ فأنزل اللّه فيك : ( وما كان لكم أن تُؤذوا رسولَ اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه مِن بعده أبداً ) (2)؟!
وأمّا أنت يا زبير! فواللّه ما لانَ قلبك يوماً ولا ليلة ، وما زلتَ جِلْفاً جافياً ، مؤمنَ الرضا ، كافرَ الغضب ، يوماً شيطان ، ويوماً رحمان ، شحيح.
وأمّا أنت يا عثمان! لروثةٌ خيرٌ منك ، ولئن وليتها لتحملنّ بني أبي معَيط على رقاب الناس ، ولئن فعلتها لتُقتلَنَّ ؛ ثلاث مرّات.
ص: 330
وأمّا أنت يا عبد الرحمن! فإنّك رجلٌ عاجزٌ ، تحبّ قومكَ جميعاً.
وأمّا أنت يا سعد! فصاحب عصبيّة وفتنة ، ومِقْنَب (1) وقتال ، لا تقوم بقرية لو حمِّلتَ أمرَها.
وأمّا أنت يا عليّ! فواللّه لو وُزن إيمانُك بإيمان أهل الأرض لرجحهم.
فقام عليٌّ مولّياً يخرجُ ، فقال عمر : واللّه إنّي لأعلم مكانَ الرجلِ لو ولّيتموه أمرَكم حملكم على المحجة البيضاء.
قالوا : من هو؟!
قال : هذا المولّي عنكم (2) ، إنْ ولّوها الأجلح (3) سلك بكم الطريق المستقيم.
قالوا : فما يمنعك من ذلك؟!
قال : ليس إلى ذلك سبيل!
قال له ابنه عبد اللّه : فما يمنعك منه؟!
قال : أكره أن أتحمّلها حيا وميّتاً (4)!
ص: 331
وفي رواية : لا أجمعُ لبني هاشم بين النبوّة والخلافة (1).
وكيف وصف كلَّ واحد بوصف قبيح - كما ترى - زعمَ أنّه يمنع من الإمامة ، ثمّ جعل الأمر في مَن له تلك الأوصاف؟!
وأيُّ تقليد أعظم من الحصر في ستّة ، ثمّ تعيين من اختاره عبد الرحمن ، والأمر بضرب رقاب مَن يخالف منهم؟!
وكيف أمرَ بضرب أعناقهم إنْ تأخّروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيّام؟!
ومن المعلوم أنّهم لا يستحقّون ذلك ؛ لأنّهم إن كُلّفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام ، فربّما طال زمانُ الاجتهاد ، وربّما نقص ، بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فكيف يسوغ الأمرُ بالقتل إذا تجاوزت الثلاثة؟!
ثمّ أمر بقتل مَن يخالف الأربعة ، ومَن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن ، وكلّ ذلك ممّا لا يُستحقّ به القتل!
ومن العجب اعتذار قاضي القضاة ، بأنّ المرادَ : القتلُ إذا تأخّروا على طريق شقِّ العصا وطلبوا الأمر من غير وجهه (2) ؛ فإنّ هذا مناف لظاهر الخبر ؛ لأنّهم إذا شقّوا العصا وطلبوا الأمر من غير وجهه ، فمن أوّل الأمر وجب قتالُهم (3).
* * *
ص: 332
وقال الفضل (1) :
إنّ أمر الشورى أوّل الدلائل على تقوى عمر وخوفه من اللّه تعالى ؛ لأنّه احتاط فيه كمال الاحتياط.
وأصلُ حكاية الشورى - كما ذكره أرباب الصحاح - ، أنّ عمر لمّا جُرح قال له الناس : استخلف.
فقال : أنا لا أحمل هذا الأمر حيّاً وميّتاً ، إنّ هؤلاء النفر الستّة كلّهم من قريش ، وقد جمعوا شرائط الخلافة ، وقد علمتم أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا توفّي كان عنهم راضياً ، فأنا أجعلُ هذا الأمر بينهم (2).
وهذا من كمال الاحتياط ، وتركه الأغراض الخاصّة ، ونظر مصلحة العامة بلا غرض لنفسه.
وأمّا ما ذكر أنّه ذكر معائب كلّ واحد بالأُمور القادحة في الخلافة في حضورهم ، فهذا أمرٌ باطل لا شكّ فيه ، وصاحبُ هذه الرواية جاهلٌ بالأخبار ، كذّاب لا يعلم الوضع.
فإنّ وضع الأخبار ينبغي أن يكون على طريقة لا يعلم الناس أنّها موضوعة ، ووضوح وضع هذا الخبر أظهرُ من أن يخفى على أحد ، فإنّ الرجل مجروح ، وهؤلاء كانوا أكابرَ قريش وأقرانه في الحسب والنسب!
أتُراه يأخذ في أعينهم ويشتمهم عند الموت ، وهو يريد استخلافهم؟!
ص: 333
ويقول لزبير وهو شيخ المهاجرين بمحضر الناس : إنّك جاف جِلفٌ ؛ ويقول لطلحة كذا ، ولسعد كذا؟!
فهذا معلومٌ من أطوار الصحابة وحكاياتهم أنّه من الموضوعات ؛ واللّه أعلم.
ولقد سألتُ من الشيخ برهان الدين إبراهيم البغدادي (1) ، في تبريز ، سنة قدم تبريز ، عن هذا ، وذكرت ذلك له - والشيخ المذكور كان أُستاذ الشيعة وإمامهم في زمانه - ، فصدّقني ، وقال : هذا كذبٌ صُراح ؛ بل الحقُّ أنّ عمر قبل أن يُجرح بأيّام قلائل تأوّه يوماً ، فقال له ابن عبّاس في الخلوة : لِمَ تتأوّه يا أمير المؤمنين؟!
قال : ذهب عمري وأنا متفكِّرٌ في هذا الأمر .. أُوَلّيها لمن؟!
فقال ابنُ عبّاس : قلت : أينَ لك من عثمان؟!
قال : أخاف أن يولِّي بني أُميّة على الناس ، ثمّ لم يلبث العربُ إلاّ أن يضربوا عنقه ، واللّه لو فعلتُ لفعل ، ولو فعل لفعلوا.
فقلت : أين لك من طلحة؟!
قال : نعوذ باللّه من زَهْوه (2).
قلت : أين لك من الزبير؟!
قال : شجاعٌ جاف.
قلت : أين لك من سعد؟!
ص: 334
قال : قائد عسكر ، ولا يصلح للخلافة.
قلت : أين لك من عبد الرحمن؟!
فقال : ضعيف.
قلت : أين لك من عليّ بن أبي طالب؟!
قال : فيه دعابة ، وإذاً يحملهم على الحقِّ الذي لا يُطيقونه.
ثمّ ما مرّ عليه أُسبوعٌ حتّى ضربه أبو لؤلؤة.
هكذا سمعتُ منه.
ثمّ بعد هذا رأيتُ في «الأحكام السلطانية» ، لأقضى القضاة الماوردي (1) ، ذَكَرَ على نحو ما سمعته من الشيخ برهان الدين البغدادي.
ثمّ إنّا لو فرضنا صحّة ما ذكر ، فإنّه لم يذكر المعائب القادحة للإمامة ، بل هذا من مناصحة الناس ، فذكر ما كان من العيوب.
ولو صدق ، فلا اعتراض على عمر ، فإنّه - على ما ذكره - أشار إلى خلافة عليّ إشارةً جليّةً لا تخفى ، بل هو قريبٌ من التنصيص ، ورغبته في خلافته من هذا الكلام ظاهرةٌ ، فلا اعتراض عليه.
وأمّا ما ذكره من ترتيب الستّة ، ثمّ الأربعة ، ثمّ اثنان ، فهذا من اجتهاداته في اختيار الإمام ، والأمرُ إليه ، ولا اعتراض عليه.
وأمّا ما ذكره من القتل بعد الثلاثة إن لم يقرّوا الأمرَ ، فهذا من باب التوعيد والتهديد ، وشدّة الاهتمام بعدم التأخير ؛ لأنّ التأخير كان مظنّة لقيام الفتن وعروض الحوادث.
وأمّا جواب قاضي القضاة - بأنّ الأمر بالقتل إذا طلبوا الأمر من غير
ص: 335
وجهه ، وعلى طريق شق العصا - ، فجوابٌ صحيح.
وما اعترض عليه بقوله : «إذا شقّوا العصا فطلبوا الأمر من غير وجهه من أوّل يوم وجب قتالُهم» ، فباطلٌ ؛ لأنّ شقّ العصا يظهر بعد الثلاثة ؛ فإنّ الثلاثة كانت من عند الإمام السابق ، فمَن خالف وطلب الأمرَ مِن غير وجهه في الأيّام الثلاثة لم يُحكم عليه بشيء ؛ لأنّ وقت المشورة باق ولعلّه يرجعُ ، وأمّا بعد الثلاثة فقد طال الأمرُ ، وتحتّم طلبُ الأمر للمخالف من غير وجهه.
* * *
ص: 336
روى الطبري في «تأريخه» (1) ، عن عمرو بن ميمون خبراً طويلا ، قال في جملته : «إنّ عمر قال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة! إنّ اللّه عزّ وجلّ طالما أعزّ الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلا من الأنصار ، فاستحِثّ هؤلاء الرهط حتّى يختاروا رجلا منهم ...».
إلى أن قال : «فإنِ اجتمع خمسة ورَضُوا رجلا وأبى واحد ، فاشدخْ (2) رأسه - أو : اضرب رأسه - بالسيف!
وإنِ اتّفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان ، فاضرب رؤوسهما!
فإنْ رضي ثلاثة رجلا منهم ، وثلاثة رجلا منهم ، فحكِّموا عبد اللّه بن عمر ، فأيّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلا!
فإنْ لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إنْ رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس!
فخرجوا ، فقال عليٌّ لقوم كانوا معه من بني هاشم : إنْ أُطيعَ فيكم قومكم لم تؤمَّروا أبداً.
وتلقاه العبّاس ، فقال : عُدِلَت عنّا.
فقال : وما علمك؟!
قال : قرَنَ بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر ، فإنْ رضي رجلان
ص: 337
رجلا ، ورجلان رجلا ، فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
فسعد لا يخالف ابنَ عمّه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهرُ عثمانَ ، لا يختلفون ، فيولّيها عبد الرحمن عثمانَ ، أو يولّيها عثمانُ عبد الرحمن.
فلو كان الآخران معي لم ينفعاني ؛ بَلهَ (1) ، إنّي لا أرجو إلاّ أحدهما».
ثمّ أتى على القصّة .. إلى أن قال : «دعا عبد الرحمن عليا فقال : عليك عهد اللّه وميثاقه لتعملنّ بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.
قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.
ودعا عثمانَ ، فقال له ما قال لعليّ ، قال : نعم.
فبايعه.
فقال عليٌّ : حبوتَه حبوَ دهر ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (2).
واللّهِ ما ولّيتَ عثمانَ إلاّ ليردّ الأمر إليك ، واللّهُ كلَّ يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن : يا عليّ! لا تجعل على نفسك سبيلا!».
إلى أن قال : «قال عليٌّ : إنّ الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر
ص: 338
إلى بنيها فتقول : إنْ وُلِّيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم» .. الحديث (1).
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (2) ، وكذا في «العقد الفريد» (3) ، وذكر فيه (4) أنّ عليا قال : «أعمل بمبلغ علمي وطاقتي» ولم يذكر قوله : «أرجو أن أفعل» ولا قوله : «إنّ الناس ينظرون إلى قريش ...» إلى آخره.
ص: 339
وروى ابن قتيبة في كتاب «السياسة والإمامة» (1) ، عند التعرّض لأمر الشورى (2) ، قصّة عهد عمر ، وقال فيها : سأستخلف النفر الّذين توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو عنهم راض ؛ فأرسل إليهم فجمعهم - وذكر الستّة - فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين! إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً ، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ...
إلى أن قال : إنِ استقام أمر خمسة وخالف واحد ، فاضربوا عنقه!
وإنِ استقام أربعة واختلف اثنان ، فاضربوا أعناقهما!
وإنِ استقام ثلاثة واختلف ثلاثة ، فاحتكموا إلى ابني عبد اللّه ، فلأيّ الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم ، فإن أبى الثلاثة الأُخر فاضربوا أعناقهم!
فقالوا : قل فينا يا أمير المؤمنين مقالةً نستدلّ فيها برأيك ونقتدي به!
فقال : واللّه ما يمنعني أن استخلفك يا سعد ، إلاّ شدّتك وغِلظتك مع أنّك رجلُ حرب.
وما يمنعني منك يا عبد الرحمن ، إلاّ أنّك فرعون هذه الأُمة.
وما يمنعني منك يا زبير ، إلاّ أنّك مؤمن الرضا ، كافر الغضب.
وما يمنعني من طلحة ، إلاّ نخوتُهُ وكبرُهُ ، ولو وليَها وضع خاتمه في إصبع امرأته.
وما يمنعني منك يا عثمان ، إلاّ عصبَتُكَ ، وحبّك قومك.
وما يمنعني منك يا عليّ ، إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن
ص: 340
وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم».
وبهذا يُعلم أنّ القوم هم الّذين طلبوا من عمر أن يبيّن فيهم رأيه ، فلا يُستبعد منه أن يقول فيهم السوء.
كما لا يُستبعد منه الابتداء به في وجوههم ؛ لغلظته المعروفة وغرور الإمرة ، وكونهم في محلّ الرجاء للزعامة العامّة التي يسهل عليهم في سبيلها كلّ صعب.
وروى في «الاستيعاب» ، بترجمة عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، عن ابن عبّاس ، قال : «بينا أنا أمشي مع عمر يوماً إذ تنفّس نفَساً ظننت أنّه قد قُضِبَت (1) أضلاعه ، فقلت : سبحان اللّه! واللّهِ ما أخرج منك هذا إلاّ أمر عظيم!
فقال : ويحك يا ابن عبّاس! ما أدري ما أصنع بأُمة محمّد؟!
قلت : ولِمَ وأنت قادر أن تضع ذلك مكان الثقة؟!
قال : إنّي أراك تقول : إنّ صاحبك أَوْلى الناس بها؟! يعني عليا.
قلت : أجل ، واللّهِ إنّي لأقول ذلك في سابقته وعلمه وقرابته وصهره.
قال : إنّه كما ذكرت ، ولكنّه كثير الدعابة.
قلت : فعثمان؟!
قال : فواللّهِ لو فعلتُ لحمل بني أبي مُعيط على رقاب الناس يعملون فيهم بمعصية اللّه ، واللّه لو فعلتُ لفعل ، ولو فعل لفعلوه ، فوثب الناس عليه فقتلوه!
فقلت : طلحة بن عبيد اللّه؟!
ص: 341
قال : الأُكيسع (1)؟! هو أزهى من ذلك ، ما كان اللّه ليراني أُولّيه أمر أُمة محمّد وهو على ما هو عليه من الزَّهْو!
قلت : الزبير بن العوّام؟!
قال : إذاً يُلاطم الناس في الصاع والمُد (2)!
قلت : سعد بن أبي وقّاص؟!
قال : ليس بصاحب ذلك ، ذاك صاحب مِقنَب يقاتِل به!
قلت : عبد الرحمن بن عوف؟!
قال : نِعم الرجل ذكرتَ ، ولكنّه ضعيف عن ذلك ، واللّهِ يا ابن عبّاس ما يصلح لهذا الأمر إلاّ القويّ في غير عنف ، الليّن في غير ضعف ، الجواد
ص: 342
في غير سَرَف ، والمُمسِك في غير بخل» (1).
ثمّ قال في «الاستيعاب» : «وفي حديث آخر ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر ذكر له أمر الخلافة واهتمامه بها ، فقال له ابن عبّاس : أين أنت عن عليّ؟!
قال : فيه دُعابة.
قال : فأين أنت والزبير؟!
قال : كثير الغضب ، يسير الرضا.
فقال : طلحة؟!
قال : فيه نخوة ؛ يعني كبْراً.
قال : سعد؟!
قال : صاحب مِقنَبِ خيْل.
قال : فعثمان؟!
قال : كَلِف بأقاربه.
قال : عبد الرحمن؟!
قال : ذاك الرجل ليّن - أو قال : ضعيف -.
ثمّ قال : وفي رواية أُخرى قال في عبد الرحمن : ذلك الرجل لو ولّيته جعل خاتمه في إصبع امرأته» (2).
ونقل في «كنز العمّال» (3) نحو حديث «الاستيعاب» الأوّل عن أبي
ص: 343
عبيد في «الغريب» ، والخطيب في «رواة مالك» ، ووصف فيه عليا بالدُّعابة ، والزبير بأنّه وَعْقةٌ لَقِسٌ (1) ، يلاطم على الصاع بالبقيع.
ونقل - أيضاً - عن ابن راهويه ، عن أبي مجلز ، قال : قال عمر : مَن تستخلفون بعدي؟
فقال رجل من القوم : الزبير.
قال : إذاً تستخلفونه شحيحاً غَلِقاً ؛ يعني : سيّئ الخلق ...
إلى أن قال : فقال رجل : نستخلف عليا.
فقال : إنّكم - لعمري - لا تستخلفونه ، والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ وإن كرهتم.
فقال الوليد بن عقبة : قد علمنا الخليفة من بعدك.
فقعد ، فقال : مَن؟!
قال : عثمان.
قال : وكيف بحبّ عثمان المال ، وبرّه لأهل بيته؟!» (2).
ونقل في «الكنز» أيضاً (3) ، عن ابن عساكر ، عن أبي بحرية ، أنّه
ص: 344
خرج عمر على مجلس فيه هؤلاء الستّة ، فقال : «كُلّكم يحدّث نفسه بالإمارة بعدي - إلى أن قال : - أفلا أُحدِّثكم عنكم؟!
قال الزبير : فحدّثنا ، ولو سكتنا لحدّثتنا.
ثمّ ذكر فيه أنّه قال للزبير : إنّك كافرُ الغضب ، مؤمنُ الرضا ، يوماً تكون شيطاناً ، ويوماً تكون إنساناً ، أفرأيتَ يوم تكون شيطاناً ، مَن يكون الخليفة يومئذ؟!
وقال لطلحة : مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وإنّه عليك لعاتب».
وفي «الكنز» أيضاً (1) ، عن ابن سعد ، عن سماك ، أنّه ذكر عهد عمر بالشورى ، ثمّ قال : «وقال للأنصار : أَدخِلوهم بيتاً ثلاثة أيّام ، فإن استقاموا وإلاّ فادخلوا عليهم واضربوا أعناقهم».
ونقل ابن أبي الحديد في المجلّد الثالث (2) ، نفس الحديث الذي ذكره المصنّف.
ونقل نحوه في المجلّد الأوّل (3).
فهذه الأحاديث ونحوها موجبة للطعن في عمر بأُمور :
الأوّل : إنّه خرج بالشورى عن النصّ والاختيار ؛ لأنّه لم ينصّ على واحد بعينه ، ولم يُرجع الأُمة إلى اختيارها ، ولا تثبت الإمامة عندهم إلاّ بأحد الطريقين (4) ، فوَضعُ طريق ثالث بدعةٌ.
ص: 345
وقول الخصم : «هذا من اجتهاداته ، والأمر إليه» ..
تحكّمٌ ظاهر ؛ فإنّ الاجتهاد بلا دليل إبداعٌ ، بل على مذهبهم في انعقاد البيعة ولو بواحد ، لو بايع أحدٌ أحداً ولو من غير هؤلاء الستّة كانت بيعته لازمةً ، ولا سيّما أنّه بعد موته لا إمامة له ، فما وجه تعيينه للستّة وتحكّمه في رقاب المسلمين؟!
وقد يُستدلّ على صحة عمله ومضيّه ؛ بأنّ المسلمين قد التزموا ببيعة أحد الستّة بعينهم بلا نكير ، ودخل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى بلا قهر ، فكان إجماعاً.
وفيه : إنّ الإجماع لا يثبت إلاّ مع تحقّق الرضا والاختيار ، وهو محلّ نظر ؛ لخروج أكثر المسلمين عن المدينة وهم لا يستطيعون المخالفة بعد انعقاد البيعة ؛ لعدم الجامع لهم ، فلم يُعلم رضاهم ، بل لا يستطيع من في المدينة المخالفة ؛ لأنّ السيف على رؤوس أعاظمهم ، وهم لا يقدرون على الدفع والمعارضة ، فكيف بسائر الناس؟!
الثاني : إنّه أمر بضرب أعناقهم على النهج الذي ذكره ، وبالضرورة أنّهم لا يستحقّون القتل بذلك.
ودعوى أنّ المراد : التهديدُ ، باطلة ؛ لأنّ الأمر بعد موته يخرج عن يده وعلمه ، فما يؤمنه مِن قتلهم وقد حكم به حكماً باتّاً؟!
وأما ما أجاب به القاضي ، فتخمينٌ لا يرتبط ظاهراً بكلام عمر ، كالجواب بالحمل على التهديد ، مع أنّ شقّ العصا إنّما هو بالخروج على إمام الزمان ، ولا إمام قبل بيعة أحدهم ، على أنّهم إذا شقّوا العصا فمن أوّل يوم يجب قتالهم.
ص: 346
وقول الخصم : «شقّ العصا يظهر بعد الثلاثة» ..
تخصيص من غير مخصّص ، ومجرّد كون الثلاثة من الإمام لا يقتضي التخصيص ، ولا سيّما أنّه لا إمامة له بعد موته ، كما أنّ احتمال الرجوع لا يختصّ بالثلاثة.
وبالجملة : شقّ العصا المدّعى إمّا أن يوجب القتل بمجرّد وقوعه ، أو بشرط عدم رجاء الرجوع.
وعلى الوجهين لا يختلف الحال بين الثلاثة وما بعدها ، فلا معنى لإيجاب قتل شاقِّ العصا بعدها مطلقاً ، وعدم إيجابه فيها مطلقاً.
وليت شعري ، هل مِن شقّ العصا مجرّد كون الثلاثة من غير حزب عبد الرحمن ، أو عدم الرضوخ (1) إلى رأي عبد اللّه الذي لا يُحسن طلاق زوجته (2)؟!
الثالث : إنّه حصر الأمر في الستّة ، وعابهم قبل جرحه وبعده - كما سمعته في الأخبار (3) - بما زعم أنّه مناف للإمامة ، وأكثرها مناف لها إجماعاً ؛ كالضعف ، والبخل ، والغلظة ، وكفران الغضب ، وحمل الأقارب على رقاب الناس ؛ فقول الخصم : «لم يذكر المعائب القادحة
ص: 347
للإمامة» باطلٌ.
كيف ، وعمر بنفسه قد صرّح بمنافاتها لها ، وأقرّ علماؤهم بمنافاة أكثرها لها (1)؟!
وقوله : «بل هذا من مناصحة الناس» ..
غلطٌ ؛ فإنّ المناصح لا يؤهّل مَن لا يستحقّ الإمامة ويحصر الأمر بهم.
ودعوى أنّه أشار إلى خلافة عليّ (عليه السلام) ، غير نافعة ؛ لأنّه لم يذكر إلاّ ما علِمه القومُ مثله.
على أنّه أزال أثر هذه الإشارة بجعلهم أقران عليّ ، وإطماعِه لهم بالزعامة العامة.
وظنّي أنّ عمر إنّما وصف عليا بأنّه يسلك بهم الطريق المستقيم تحذيراً لهم ، وتنبيهاً على لزوم معارضته ؛ لأنّه يحول بينهم وبين مقاصدهم وشهواتهم ، وهم عبيد الدنيا.
ولذا قال عمر في بعض الأخبار السابقة : «لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ ، وإن كرهتم» (2).
وليت شعري ، كيف صحّ لعمر أن يؤهّل الزبير للإمامة وولاية أمر الأُمة ، وهو قد منعه الغزو خوفاً من إفساده؟!
روى الحاكم في «المستدرك» (3) - وصحّحه هو والذهبيّ - ، عن قيس
ص: 348
ابن أبي حازم ، قال : «جاء الزبير إلى عمر يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : إجلس في بيتك! فقد غزوتَ مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فردّد ذلك عليه ، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليها : أُقعد في بيتك! فواللّه [إنّي] لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمّد».
الرابع : إنّه زعم أنّه لا يتحمّلها حيا وميّتاً ، اعتذاراً من عدم إسناده الأمر إلى عليّ (عليه السلام) ، بعدما أقرّ أنّه يسلك بهم الطريق المستقيم ، كما في بعض الأخبار السابقة (1).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة عمر : «ومن أحسن شيء يروى في مقتل عمر وأصحّه» (2) ، وذكر حديثاً قال فيه عمر : «إنْ ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم ؛ يعني عليا ...
فقال له ابن عمر : ما يمنعك أن تُقدّم عليا؟!
قال : أكره أن أحملها حيا وميّتاً» (3).
ونحوه في «كنز العمّال» (4) ، عن ابن سعد ، والحارث ، وأبي نعيم ، وغيرهم ، ثمّ قال : «وصُحّح».
فإنّ عمر إذا علم أنّ عليا كذلك ، كان الواجب عليه تعيينه ، ولا يُغرّر ويخاطر بالأُمّة بتأهيل غيره معه ممّن عابهم ، حتّى آل الأمر إلى أحدِ مَن
ص: 349
عابهم فوقعت الأُمة في البلاء والفتنة العظمى بقتله.
على أنّ هذا العذر كذب صريح ؛ ضرورة أنّه بتعيين الستّة ثمّ بعضهم بالنحو الذي قرّره قد تحمّلها ألبَتّةَ ، بل تحمّلها أقبح تحمّل ؛ لأمره بقتل مَن خالف ترتيبه ممّن زعم أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مات وهو عنهم راض ، ولا سيّما أنّه قد يُقتل أخو النبيّ ونفسُه ومَن يسلك بالأُمّة الطريق المستقيم.
الخامس : إنّ مجموع ترتيبه كاشفٌ عن إرادة قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) ، أو تصغير شأنه في حياته مع حرمانه ؛ ضرورة أنّ عليا وعثمان لا يتّفقان ، وأنّه لا ينضمّ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثةٌ منهم ؛ إذ لا يُرجى له إلاّ موافقة الزبير ، كما كشفت عنه الواقعة.
ولمّا كان عمر يحتمل بعيداً تبعيّة طلحة للزبير في موافقة عليّ (عليه السلام) ، جعل القول للّذين فيهم عبد الرحمن ؛ علما منه بأنّ عبد الرحمن لا يختلف مع ختَنه عثمان ، وابن عمه سعد ؛ كما صرّح به أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الأخبار السابقة (2).
ص: 350
كما أنّه جعل الحكم في بعض الأخبار إلى ابنه عبد اللّه (1) ؛ لعلمه بانحرافه عن أمير المؤمنين عند الحقائق ؛ ولذا لم يبايعه لمّا كانت البيعة له بعد عثمان ، وبايع بعده معاويةَ ويزيد (2).
فهل يرى عمر أنّ ابنه وعبد الرحمن أحقّ بالنظر لمصلحة الأُمّة من أمير المؤمنين ، الذي قال فيه سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (3) الآية ، فَحَصَرَ الولايةَ على المؤمنين به جلّ وعلا وبرسوله وأخيه؟!
ومع ذلك فقد صغّر مقامه العظيم بهذا ، وبجعله قريناً لهؤلاء الخمسة ، مع إخراجه عن الإمامة بهذا الترتيب.
وبالجملة : يدور أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بين أن لا يدخل في الشورى ، فينال عمر مقصوده من عزل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخلافة حتّى في الاستقبال - كما ستعرف - ، ويكون اللوم ظاهراً على أمير المؤمنين ، وبين أن يدخل فيها فيُقرَن بتلك النظائر ، ويؤول الأمر إلى غيره ، فيحيا متأسّفاً ، أو يُقتل مظلوماً ؛ ولذا قال في خطبته الشِّقشِقية : «فيا للهَ وللشورى ...» (4).
لكنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) آثر الدخول معهم ؛ لجهات كثيرة ..
منها : إنّه لو تجنّب الدخول في الشورى لخاف ، أو علم اتّفاق
ص: 351
الخمسة على أن يتداولوا الخلافة بينهم فلا تصل إليه ، والواجب عليه التوصّل إليها ولو بعد حين ؛ طلباً لحفظ الشريعة بالممكن.
ومنها : إنّه أراد تذكيرهم بما يعيّنه للخلافة في مورد يحسن فيه التذكير ويُصغى فيه إليه ، ويمكن عودُ الحقّ فيه إلى نصابه ، فلا يبقى لأحدهم عذر في المخالفة حتّى تيسّر له أن يصرّح بنصّ الغدير.
فإنّ سيّدنا الشريف المرتضى (رحمه اللّه) في «الشافي «استدلّ على صحّة خبر الغدير بما تظاهرت به الرواية من احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) به في الشورى على الحاضرين ، في جملة ما عدّده من فضائله ومناقبه ، وما خصّه اللّه به ، حين قال : «أَنشدكم اللّه هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بيده فقال : مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ؛ غيري؟!
فقال القوم : اللّهمّ لا» (1)!
وقد خلا ما رأيته من رواياتهم في احتجاجه (عليه السلام) يوم الشورى عن ذِكر خبر الغدير (2) ، وهو - لو صحّ - فلعلّه لكون ذِكره مبطلا بصريحه لخلافة مَن تقدّم ، وهو لا يسعه.
ومنها : إنّه (عليه السلام) أراد تضليل إمرة الشيخين ، وتهجين أعمالهما ؛ ليعتبر من له قلب.
وقد فعل ذلك لمّا عرض عليه عبد الرحمن البيعة بشرط أن يسير
ص: 352
بسيرتهما فأبى ، ولا سيّما بعد أن شهد له عمر بأنّه يسلك الطريق المستقيم ؛ إذ لو كانت سيرتهما صحيحة ومن الطريق المستقيم لوافقت عمله وقَبِل الشرط.
وقد سمعت في بعض الأخبار السالفة إباءَهُ عن قبول البيعة بالشرط (1).
وروى أحمد في «مسنده» (2) ، عن أبي وائل ، قال : «قلت لعبد الرحمن بن عوف : كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟!
قال : ما ذنبي؟! قد بدأتُ بعليّ فقلت : أُبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله ، وسيرة أبي بكر وعمر ؛ فقال : في ما استطعت.
قال : ثمّ عرضتُها على عثمان فقبِلها».
فإنّ الحديث وإن لم ينطق بالحقيقة - كما هي - حفظاً لشأن الشيخين ، لكنّه دالٌّ على أنّه لا يستطيع العمل بسيرة الشيخين ؛ ضرورة استطاعته العمل بالكتاب والسنة ؛ لأنّه قرينُ الكتاب (3) وبابُ
ص: 353
السنة (1).
وليس عدم استطاعته للعمل بسيرتهما لعجزه عن العمل بالحقّ ؛ لأنّ الحقّ يدور معه حيث دار (2) ، بل لعدم كونها على الحقّ والصراط المستقيم ، ولذا جعلها عبد الرحمن مغايرةً للكتاب والسنة.
ومن الواضح أنّ ما خرج عنهما ليس من الدين ، ولا على الصراط المستقيم.
وأظهر من هذا الحديث في المدعى ما في «شرح النهج» (3) ، أنّ عبد الرحمن قال لعليّ : «أُبايعك على كتاب اللّه ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.
فقال : بل على كتاب اللّه وسنة رسوله واجتهاد رأيي.
فعدل عنه إلى عثمان ، فعرض ذلك عليه ، فقال : نعم.
فعاد إلى عليّ ، فأعاد قوله ؛ فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً ، فلمّا رأى عليا غيرُ راجع عمّا قاله ، وأنّ عثمان يُنْعِمُ له بالإجابة ، صَفَق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين!
فيقال : إنّ عليا قال له : واللّهِ ما فعلتَها إلاّ لأنّك رجوتَ منه ما رجا صاحبُكما من صاحبه ، دقَّ اللّهُ بينكما عِطرَ منشِم (4).
ص: 354
قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلّم أحدُهما صاحبَه حتّى مات عبد الرحمن» ؛ انتهى.
فقد ظهر ممّا سمعتَ أنّ أمير المؤمنين وعبد الرحمن عالمان بمخالفة سيرة الشيخين للكتاب والسنة ودين اللّه تعالى ، حتّى إنّ عبد الرحمن توسّل إلى دفع الأمر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بتلك الحيلة المصطنعة.
ومِن تلك الجهات ونحوِها ممّا أوجب عليه الدخول في الشورى ، يُعلم أنّ دخوله فيها لا يدلّ على إقراره بأنّه غير منصوص عليه - كما قيل (1) - ، بل احتمال تلك الجهات كاف في رفع الدلالة.
واعلم أنّ الشورى هي التي أطمعت طلحة والزبير بالخلافة وغرّتهما بأنفسهما حتّى حاربا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة ، وهي التي أيقظت بغي معاوية وغيره.
روى في «العقد الفريد» (2) ، «أنّ زياداً أوفد ابن حصين على
ص: 355
معاوية ، فقال له معاوية : أخبرني ما الذي شتَّت أمرَ المسلمين وملأَهم ، وخالف بينهم؟
قال : نعم ، قتلُ الناسِ عثمانَ.
قال : ما صنعتَ شيئاً.
قال : فسيرُ عليّ إليك.
قال : ما صنعتَ شيئاً.
(قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتالُ عليّ إياهم.
قال : ما صنعتَ شيئاً) (1).
قال : ما عندي غير هذا.
قال : أنا أُخبرك ؛ لم يشتّت بين المسليمن ، ولا فرّق أهواءهم ، إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة ، فلم يكن رجلٌ منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه ، ولو أنّ عمر استخلف عليهم ما كان في ذلك اختلاف» ؛ انتهى ملخّصاً.
هذا ، وقد ذكر المصنّف (رحمه اللّه) أنّ عمر أجاب في رواية : «لا أجمع لبني هاشم بين النبوّة والخلافة» ، ولم أجدها في ما يحضرني الآن من كتبهم ، لكن رأيت ما يدلّ على صحّتها ..
فقد روى ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (2) ، عن ابن عبّاس ، قال : ماشيت عمر بن الخطّاب يوماً ، فقال لي : يا ابن عبّاس! ما يمنع قومكم منكم ، وأنتم أهل البيت خاصة؟!
ص: 356
قلت : لا أدري.
قال : لكنّني أدري ؛ إنّكم فَضَلْتموهم بالنبوّة ، فقالوا : إنْ فَضَلُوا بالخلافة مع النبوّة لم يُبقوا لنا شيئاً».
وروى الطبري في «تاريخه» (1) ، عن ابن عبّاس ، قال : «خرجت مع عمر في بعض أسفاره - إلى أن قال : - قال : يا ابن عبّاس! ما منع عليا من الخروج معنا؟!
قلت : لا أدري.
قال : يا ابن عبّاس! أبوك عمّ رسول اللّه ، وأنت ابن عمّه ، فما منع قومكم منكم؟!
قلت : لا أدري.
قال : لكنّي أدري ؛ يكرهون ولايتكم لهم.
قلت : لِمَ ونحن لهم كالخير؟!
قال : اللّهمّ غفراً! يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فتكونوا بَجَحاً بَجَحاً».
وروى - أيضاً (2) - عن ابن عبّاس نحو ذلك بقصّة لطيفة ، تقدّم نقلها في المبحث الرابع من مباحث الإمامة ، فراجع (3).
ص: 357
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : إنّه أبدع في الدين ما لا يجوز ؛ مثل : التراويح (2) ؛ ووضع الخراج على السواد (3) ؛ وترتيب الجزية (4).
وكلّ هذا مخالف للقرآن والسنة ..
لأنّه تعالى جعل الغنيمة للغانمين ، والخمس لأهل الخمس (5).
والسنة تنطق بأنّ الجزية على كلّ حالم دينار (6) ، وأنّ الجماعة إنّما
ص: 358
تجوز في الفريضة (1).
أجاب قاضي القضاة ، بأنّ قيام رمضان جاز أن يفعله النبيّ ويتركه (2).
واعترضه المرتضى ، بأنّه لا شبهة في أنّ التراويح بدعةٌ ؛ لأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «أيّها الناس! إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعةً بدعةٌ ، [وصلاة الضحى بدعة ،] ألا فلا تجمعوا في شهر رمضان في النافلة ، ولا تُصلّوا صلاة الضحى ؛ فإنّ قليلا من سنة خيرٌ من كثير من بدعة ، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالة سبيلُها إلى النار (3).
وخرج عمر في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ،
ص: 359
فقال : ما هذا؟
فقيل له : إنّ الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع.
فقال : بدعةٌ ، ونِعمَت البدعة.
فاعترف - كما ترى - بأنّها بدعة (1) ، وقد شهد الرسول بأنّ كلّ بدعة ضلالة (2).
وسأل أهلُ الكوفة من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن ينصب لهم إماماً يُصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، فزجرهم ، وعرَّفهم أنّ ذلك خلاف السنة ، فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم وقدّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) فدخل المسجد ومعه الدرّة (3) ، فلما رأَوْهُ تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه (4)!
ص: 360
وقيام شهر رمضان أيّامَ الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ثابتٌ عندنا ، لكن على سبيل الانفراد ، وإنّما أنكرنا الاجتماع على ذلك ، ومدّعيه مكابرٌ ؛ لم يقل به أحد ، ولو كان كذلك لم يقل عمر : إنّها بدعة.
فهذه البدع بعض ما رواه الجمهور ، فإنْ كانوا صادقين في هذه الروايات ، فكيف يجوز الاقتداء بمن طُعن فيه بهذه المطاعن؟!
وإن كانوا كاذبين ، فالذنب لهم والوزر عليهم ، وعلى مَن يقلّدهم ، حيث عَرفَ كذبَهم ونَسب رواياتهم إلى الصحّة ، وجعلوها واسطة بينهم وبين اللّه تعالى.
ص: 361
وقال الفضل (1) :
ذكر من مطاعنه في هذا الفصل ثلاثة أشياء :
الأوّل : إنّه أبدع في الدين ما لا يجوز ؛ مثل التراويح ؛ والجماعةُ إنّما تكون في الفريضة.
فنقول : قد ثبت في «الصحاح» ، عن زيد بن ثابت : «أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) اتّخذ حجرة في المسجد من حصير ، فصلّى فيها ليالي حتّى اجتمع إليه ناس ، ثمّ فقدوا صوته ليلة ، وظنّوا أنّه قد نام ، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم ، فقال : ما زال بكم والذي (2) رأيتُ من صنيعكم حتّى خشيت أن يُكتب عليكم ، ولو كُتب عليكم ما قمتم به ، فصلّوا - أيّها الناس - في بيوتكم ؛ فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاةُ المكتوبةُ» (3).
وعن أبي هريرة ، قال : «كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ، فيقول : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
فتوفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك
ص: 362
في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر» (1).
وعن أبي ذرّ ، قال : «صمنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتّى بقي سبع ، فقام بنا حتّى ذهب شطر الليل ، فقلت : يا رسول اللّه! لو نفلتنا قيامَ هذه الليلة؟
فقال : إنّ الرجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف حُسب له قيامُ ليلة.
فلمّا كانت الرابعة ، لم يقم حتّى بقي ثلث الليل ، فلمّا كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح - يعني : السحور - ثمّ لم يقم بنا بقيّة الشهر» (2).
هذه الأخبار كلّها في «الصحاح» ، وهذا يدلّ على أنّ رسول اللّه كان يصلّي التراويح بالجماعة أحياناً ، ولم يداوم عليها ؛ مخافة أن تُفرض على المسلمين فلم يطيقوا ، فلمّا انتهى هذه المخافة جمعهم عمر وصلّى التراويح.
وأمّا قوله : «اعترف بأنّها بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة» ..
فنقول : البدعة قد تقال ويراد بها : ما ابتُدِع من الأعمال التي لم يكن خصوصها في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وإن كانت موافقةً للقواعد ، مأخوذةً من الأُصول الشرعيّة التي تقرّر في زمانه.
مثلا : عمل المؤذّن (3) بدعة مستحبّة - وإن لم يكن في زمن
ص: 363
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّ أصله - وهو الإعلان بالأذان وتشهيره - مأخوذٌ من استحباب الشرع ، وموافقٌ للأُصول الدينية.
وهذه البدعة قد تكون مستحبّة ، وقد تكون مباحة ، كما صرّح به العلماء (1).
فقول عمر : «بدعةٌ ونِعْمَتِ البدعةُ» ؛ أراد به : أنّه لم يتقرّر أمرها في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا لا ينافي كونها معمولة في بعض الأوقات ، فاندفع اعتراضُ المرتضى عن قاضي القضاة.
وأمّا ما ذكره من أنّ أمير المؤمنين منعه في أيّام خلافته في الكوفة ، فإن صحّ جازَ أن يؤدّي اجتهاده إلى المنع ؛ لأنّ المقام مقام الاجتهاد ، ولا اعتراض على المجتهد إذا خالف مجتهداً آخر.
الثاني : إنّه أبدع وَضْعَ الخراج ، ورسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يضعِ الخراجَ.
والجواب : إنّ الخراج إنّما يوضَع على الأراضي التي فُتحت صُلحاً ، ولم يُفتح في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مدينة من المدائن صلحاً ، بل أسلم أهلها ، أو فُتح عنوةً ، فلهذا لم يوضع الخراج ، ولم يتقرّر أمره.
ثمّ لمّا فتح بلاد كسرى - وكان عمل الملوك فيها الخراج - اقتضى رأيه الخراج ، فشاور الأصحاب وأجمعوا عليه ، فعمل بالخراج ؛ للإجماع.
وكان أمير المؤمنين من أهل ذلك الإجماع ، ولم يقدر أحد أن يروي أنّ أمير المؤمنين اعترض على عمر في وضع الخراج ، بل رضي به ، ولو كان غيرَ صالح لكان يعترض عليه ، كما اعترض عليه في حدّ الحامل (2) ،
ص: 364
والمجنون (1).
وأيضاً عمل به أمير المؤمنين في زمان خلافته ، وأخذ الخراج من سواد العراق ، ولو كان باطلا في الدين أبطله وأفسده ، وكذا قرّره سائر خلفاء الإسلام.
وقام الدين بالخراج ، وكلّ الناس عيال على الخراج ، والأمر الذي مرّ عليه جميع المجتهدين وأئمّة الإسلام واستحسنوه ، وأيّدوه بالقرآن في قوله تعالى : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (2) ، قيل : أُريد به الخراج (3).
ثمّ جاء البوّالُ الأعرابيُّ - الذي سواءٌ قوله وبوله - يعترض على إمام الإسلام ، والمُلهَم بالصواب في كلّ مقام!
الثالث : إنّه أبدع ترتيب الجزية ، والسنة تنطق في أنّ الجزية على كلّ حالم دينار.
فالجواب : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخذ من كلّ حالم ديناراً ، على ما رواه معاذ بن جبل ، قال : «بعثني النبيّ إلى اليمن ، فأمر أن نأخذ من كلّ حالم ديناراً» (4).
وهذا لا يدلّ على نفي الزيادة ، ففي الزيادة مساغٌ للإمام ، وربّما كان أهلُ اليمن فقراءَ ، أخذ منهم أقلّ الجزية.
وأمثال هذا ممّا لا طعن فيه ؛ لأنّ سائر الخلفاء الراشدين بعده تبعوه
ص: 365
في هذا.
ولو كان الأمر على خلاف السنة لخالفوه الراشدون بعده ، سيّما أمير المؤمنين عليّ ، وإلاّ لكان يقدح في عصمته على رأيهم.
وأمّا ما ذكر ، أنّ مطاعن عمر رواه الجمهور ..
فإن أراد بالجمهور : أصحابه ، فلا يبعد أن يكون صادقاً.
وإن أراد به : أهل السنة ، فلم يروِ واحدٌ من العلماء من أهل السنة والجماعة طعناً في عمر.
وما ذكره من المطاعن ، فقد عرفتَ جواب كلّ واحد على وجه يرتضيه كلُّ عاقل مؤمن ، وينقاد له كلُّ منافق ؛ لظهور حجّته وصحّة بيّنته ، والحمد لله على ذلك.
ثمّ بعد هذا يشرع في مطاعن عثمان بن عفّان ، ونحن قبل المطاعن - على ما وعدنا - نذكر شَمةً (1) من مناقبه وفضائله ، فنقول : أمير المؤمنين عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف ، يتّصل نسبه برسول اللّه في عبد مناف.
وكان في الجاهلية من أشراف قريش وصناديدها ، وصاحب الأموال الجمّة ، والعشائر الوافرة.
أسلم في أوائل البعثة ، وهو من أهل السابقة في الإسلام وقدماء المهاجرين ، وزوّجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنته رقيّة ، وهاجر إلى الحبشة ،
ص: 366
ثمّ هاجر إلى المدينة ، وبذل أمواله في سبيل اللّه ، فهو صاحب الهجرتين ، ومصلّي القبلتين ، وزوج النورين (1).
ثمّ لمّا توفّى [اللّهُ] رقيّة ، زوّجه أُمَّ كلثوم بنت رسول اللّه (2).
واتّفق جميع أهل الأعصار أنّ هذه فضيلة لم تحصل لأحد من أولاد آدم ، أن يجتمع عنده بنتا نبيّ ، سيّما سيّد النبيّين.
ثمّ لمّا هاجر رسول اللّه ، هاجر عثمان من الحبشة إلى المدينة ، وبذل أمواله في سبيل اللّه.
رُوي في «الصحاح» ، عن طلحة بن عبيد اللّه ، أنّه قال : قال النبيّ : «لكلّ نبيّ رفيق ، ورفيقي في الجنّة عثمان» (3).
وعن عبد الرحمن بن خبّاب ، قال : «شهدت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو يحثّ على جيش العسرة ، فقام عثمان فقال : يا رسول اللّه! علَيَّ مئة بعير بأحلاسها (4) وأقتابها (5) في سبيل اللّه.
ثمّ حضَّ ، فقام عثمان فقال : يا رسول اللّه! علَيَّ مئتا بعير بأحلاسها
ص: 367
وأقتابها في سبيل اللّه.
ثمّ حضَّ ، فقام عثمان فقال : علَيَّ ثلاثُمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل اللّه.
فأنا رأيت رسول اللّه ينزل من على المنبر وهو يقول : ما على عثمان ما عمل بعد هذه» (1).
وعن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : «جاء عثمان إلى النبيّ بألف دينار في كمّه حين جهّز جيش العسرة ، فنثرها في حجره ، فرأيت النبيّ يقلّبها في حجره ، ويقول : ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ؛ مرّتين» (2).
وعن أنس ، قال : لمّا أمرنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ببيعة الرضوان ، كان عثمانُ رسولَ رسولِ اللّه إلى مكّة ، فبايع الناس.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ عثمان في حاجة اللّه وحاجة رسوله ؛ فضرب بإحدى يديه على الأُخرى ، وكانت يد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خيراً من أيديهم أنفسهم» (3).
والأخبار في فضائله كثيرة ، وقد ذكرنا يسيراً منها ..
ثمّ نشرع في دفع المطاعن التي رواها هذا الرافضيّ الضالّ عن شيوخه الضالِّين ، على دأبنا.
ص: 368
يرد على ما أجاب عن الطعن الأوّل أُمور :
الأوّل : إنّ الاستدلال بحديث زيد بن ثابت باطلٌ لجهتين :
الأُولى : دلالته على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول شيئاً ويفعل خلافه ، ويأمر ولا يأتمر ؛ لأنّه يقول فيه : «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة».
ويتّخذ حجرةً من حصير في المسجد يُصلّي بها النافلة ، وهذا ممتنع على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فيكون الحديث كاذباً.
ودعوى أنّه أراد التشريع بفعله ، غير صحيحة ؛ لإغناء بيانه القولي عن الفعل المرجوح.
ولو سُلّم صحّة مثل هذا التشريع بالفعل ، كفى فيه أن يصلّي صلاة واحدة ، فكيف يصلّي لياليَ؟!
ثمّ إنّه إذا فُرض أنّ صلاة المرء في بيته أفضل ، فكيف يفرض عليهم المفضول لمجرّد صنيعهم له بوجه الندب؟!
الجهة الثانية : إنّ هذا الحديث غيرُ تامِّ الدلالة ؛ لأنّ اجتماع الناس إليه أعمّ من صلاتهم بصلاته ومنفردين ؛ ولعدم دلالة الحديث على علم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بصلاتهم معه جماعة حينما صلّى.
ولذا قال البخاري في هذا الحديث - عندما رواه - في باب «صلاة الليل» : «فلمّا علم بهم جعل يقعد» (1).
ص: 369
ولا يخفى ما في قوله : «ولو كُتب عليكم ما قمتم به» من الذمّ لهم ، على خلاف ما يراه القوم من عدالتهم.
وأَوْلى منه في ذمّهم ما رواه مسلم في باب «استحباب صلاة النافلة في بيته» ، عن زيد بن ثابت ، قال في حديثه : «فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول اللّه مُغْضَباً ...» (1) .. الحديث.
ورواه البخاري - أيضاً - في كتاب «الأدب» ، في «باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه عزّ وجلّ» (2).
الأمر الثاني : إنّ حديث أبي هريرة لا دلالة فيه على مدّعى الخصم ، بل هو دالٌّ على الخلاف ؛ لأنّ المراد بترغيب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في قيام رمضان : هو الترغيب في قيامه فرادى ؛ إذ لا يمكن أن يُرغِّب في قيامه جماعةً في المسجد وهو يقول : «أفضل صلاة المرء في بيته» ، فإنّهما متضادّان.
فإذا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك إلى صدر من إمارة عمر ؛ كان عمر بأمره في قيام رمضان في المسجد جماعةً مُبدعاً ، وهو المطلوب!
الثالث : إنّ ما حمل عليه لفظ البدعة ، غير صحيح ؛ لأنّه إذا زعم أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يصلّي بهم أحياناً ، لم يصحّ منه القول بأنّ خصوصها لم يكن في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، إلاّ أن يريد أنّها لم تكن متعارفة في زمانه وإنْ ثبت أصلها ، لكن لا يحتاج حينئذ إلى القول بأنّها مأخوذة من
ص: 370
الأُصول الشرعيّة ؛ لفرض ثبوت أصلها وأنّ النبيّ صلاّها.
وبالجملة : إن قلنا : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صلاّها ورغّب فيها ، كان أصلها وخصوصها ثابتاً ، ولم يكن معنىً لإطلاق عمر عليها البدعة.
وإنْ لم نقل ذلك ، منعنا موافقتها للقواعد ؛ إذ لا نعرف قاعدة تقتضي جواز أن تُصلّى النافلة جماعةً ، بل القاعدة المنع ؛ لأنّها تستلزم تفويت القراءة بلا دليل.
وكيف كان ، لا يمكن إنكار دلالة جملة من الأخبار على أنّها من مبتدعات عمر التي لم تكن في زمن النبيّ.
وما دلَّ على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فعلها أحياناً في المسجد غير حجّة ؛ لأنّه - مع الغضّ عن سنده - إنّما هو من رواية الخصوم ، ومحلّ التهمة في حقّ عمر ، ولمعارضته بما هو حجة عليهم.
وكيف يمكن أن يدّعي أنّها ليست من مبتدعاته ، وقد عدّها أولياؤه من أوّلياته ، كما في «تاريخ الطبري» (1) ، و «كامل» ابن الأثير (2) ، و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي (3) ، وعن ابن سعد (4) ، وابن الشحنة (5)؟!
وقال في «الاستيعاب» بترجمة عمر : «هو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الإشفاع» (6).
ص: 371
إلى غيرهم من المؤرّخين والمترجمين (1).
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، كفى في إبداع عمر جعلها في المساجد سنةً ، وتفضيلها على الفرادى في البيوت ، خلافاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إذ يقول : «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة» (2).
وقد روي في «كنز العمّال» (3) ، أنّ «فضل صلاة التطوّع في البيت على فِعلها في المسجد كفضل الجماعة على المنفرد».
وأمّا ما أجاب به عن الطعن الثاني ، ففيه :
أوّلا : إنّ قوله : «إنّ الخراج إنّما يوضع على الأراضي التي فُتحت صُلحاً» ، مناف لمطلوبه ، ومصحِّحٌ للطعن في عمر ؛ لأنّه وضع الخراج على سواد العراق ونحوه ممّا فتح عنوةً لا صُلحاً (4).
ثانياً : إنّ قوله : «لم يُفتح في زمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مدينةٌ من المدائن صلحاً» ، خطأٌ واضح ؛ لِما سبق من فتح فدك وغيرها صلحاً ؛ ولذا كانت من الأنفال المختصة به (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (5).
وثالثاً : إنّ قوله : «اقتضى رأيه الخراج» ، مسلّم ؛ لكنّ الكلام في صحة رأيه ومشروعيّة حكمه.
كيف ، وقد رووا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قسّم حصون خيبر التي فتحها
ص: 372
عنوة بعدما أخذ منها الخمس ، كما سبق في مسألة منع الزهراء إرثها (1)؟!
وروى البخاري (2) ، أنّ عمر قال : «لولا آخرُ المسلمين ما فَتحتُ قريةً إلاّ قسَمتُها كما قسَم النبيُّ خيبر».
وقوله : «شاوَر الأصحاب وأجمعوا عليه» ..
ممنوعٌ ، وهل هو إلاّ كدعوى المشاورة على تغيير حكم اللّه ومخالفة كتابه الموجِب للخمس في الغنيمة؟!
وقوله : «لم يقدر أحد أن يروي أنّ أمير المؤمنين اعترض على عمر ...» إلى آخره ..
لو سُلّم ، فوجهُه ظاهر ، كما في سائر الأحكام السياسيّة التي يراعيها عمر في ملكه ، بل والغالب من غيرها.
أتُرى أنّ أمير المؤمنين يعترض على عمر ويقول له : سلّم إلينا الخمس ولا تأخذ الخراج ؛ وهو يعلم أنّه قد قبض هو وأبو بكر قبله خمس خيبر الذي قسمه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهم ، فكيف يعطيهم ما فتحه هو ويمتنع من أخذ الخراج؟!
وإنّما أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الخراج ؛ لعدم تيسّر مخالفة عمر ؛ فإنّه لو أخذ الخمس واختصّ به هو وأهله وترك الخراج ، لأدّى الحال إلى الهرج والمرج ، وانتقض عليه أمره.
وقد كان (عليه السلام) غير مستقرّ الأمر ، ولم يتمكّن من تغيير غالب مبتدعات
ص: 373
عمر التي ليست في الأهمّية مثل هذا ، فكيف يقدر على تغييره والناس كما قال الخصم : «عيال على الخراج»؟!
على أنّ النقض علينا بفِعل أمير المؤمنين (عليه السلام) غير صحيح ؛ لأنّا نرى أنّه الإمام الحقّ ، وأنّ كلّ ما غنمه المسلمون بغير إذنه هو له خاصّة.
فحينئذ إذا أخذ الخراج من سواد العراق ونحوه ، فقد أخذ بعض حقّه وما إليه أمرُه ، فلا نقضَ.
وأمّا بقيّة السلاطين فلا عبرة بهم ؛ لأنّهم أمثال عمر ، وعنه أخذوا ؛ كعلمائهم ، وبه أكلوا وتملّكوا.
وأمّا ما أيّد به مطلوبه من قوله تعالى : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (1) ..
فليس في محلّه ؛ لأنّه إن أُريدَ فيه بالخراج ما هو محلّ الكلام ، فقد دلّت الآية على أخذ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له وارتزاقه منه ، فكانت دليلا لا مؤيِّداً ، وهو خلاف الواقع بالاتّفاق.
وإنْ أُريدَ به الرزق ، لم تصلح الآية للتأييد ؛ لعدم ارتباطها حينئذ بمحلّ الكلام ؛ حيث إنّ المعنى : أم تسألهم أجراً على ما جئتهم به ، فأجر ربّك ورزقه خير.
وأمّا جوابه عن الطعن الثالث ، بأنّ حديث معاذ «لا يدلّ على نفي الزيادة» ، فممنوع ؛ لظهوره في أنّ الجزية خصوص الدينار على كلّ حالم ؛ لمساواة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بين الجميع فيه ، ويمتنع عادة أن لا يكون فيهم غنيٌّ ولا متوسّطُ الحال.
ص: 374
ولو سُلّم عدم ظهوره في ذلك ، فاستباحةُ الزائد على الدينار محتاجةٌ إلى دليل ، وهو مفقود عندهم.
ولو سُلّم جوازه بمقتضى القاعدة ، فقوله : «ففي الزيادة مساغٌ للإمام» ، ظاهر في أنّ للإمام الحكمَ بما يشاء ، ولا يتقيّد بكتاب وسنة ، كما جرت به سيرة عمر ، وقضى به اعتذارهم عنه بالاجتهاد الذي يريدون به هذا المعنى في كثير من الموارد ، وهو التشريعُ المحرّمُ والنبوّةُ الجديدة!
ولو سُلّم عدم التشريع منه في ذلك ، فهناك مطاعنُ أُخرُ غيرُه كثيرةٌ ..
منها : إنّه أبدع وضع العشور ..
روى في «الكنز» (1) ، عن أبي عبيد ، وابن سعد ، عن أنس ، قال : بعثني عمر وكتب لي أن آخذ من أموال المسلمين ربعَ العُشر ، ومن أموال أهل الذمّة إذا اختلفوا بها للتجارة نصف العُشر ، ومن أموال أهل الحرب العُشر».
وروى - أيضاً - عن الشافعي ، وأبي عبيد ، والبيهقي ، عن ابن عمر : «أنّ عمر كان يأخذ من النبَط (2) نصف العُشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل
ص: 375
إلى المدينة ويأخذ من القبَطة (1) العُشر» (2).
وروى عن الشافعي ، وأبي عبيد ، عن السائب ، قال : «كنتُ عاملا على سوق المدينة زمنَ عمر ، فكنّا نأخذ من النّبط العشر» (3).
وعن أبي عبيد ، عن الشعبي ، قال : «أوّلُ من وضع العُشر في الإسلام عمر» (4).
ونحوه ، عن عبد الرزّاق ، عن ابن جريج (5).
إلى غير ذلك ممّا في «الكنز» (6) ، وغيره (7).
ص: 376
ومنها : إنّه أوجب الزكاة في الخيل وهي غيرُ واجبة ..
حكى في «كنز العمّال» (1) ، عن البيهقي ، وأبي عاصم النبيل ، عن يعلى ، قال في جملة حديثه : «قال عمر : إنّا نأخذ من كلّ أربعين شاةً ، شاةً ، ولا نأخذ من الخيل شيئاً ، خذ من كلّ فرس ديناراً.
قال : فضرب على الخيل ديناراً ، ديناراً».
وحكى أيضاً عن ابن جرير ، عن عمر ، قال : «يا أهل المدينة! إنّه لا خير في مال لا يُزكّى ؛ فجعل في الخيل عشرةَ دراهم ، وفي البراذين ثمانية» (2).
وذكر السيوطي في «تاريخ الخلفاء» ، في أوّليات عمر ، أنّه أوّل من أخذ زكاة الخيل (3).
ويدلّ على عدم الوجوب ما رواه البخاري (4) ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ليس على المسلم صدقةٌ في عبده ولا فرسه».
ورواه مسلم بعدة طرق (5).
ص: 377
وروى الحاكم في «المستدرك» (1) ، وصحّحه مع الذهبيّ ، عن حارثة ابن مضرب ، قال : «جاء ناس من أهل الشام إلى عمر ، فقالوا : إنّا قد أصبنا أموالا ؛ خيلا ورقيقاً ، نُحبّ أن تكون لنا فيها زكاةٌ وطهورٌ.
قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله.
فاستشار عمر عليا في جماعة من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال عليٌّ : هو حسن إن لم يكن جزيةً يؤخذون بها راتبةً».
ومثله في «الكنز» أيضاً (2) ، عن جماعة ، منهم ابن جرير ، قال : «وصحّحه».
فكيف جاز لعمر جعلها راتبةً لازمةً وهم مخيّرون؟!
وقد أبدع عمر - أيضاً - الزكاةَ في الأُدُم (3) ..
حكى في «الكنز» (4) ، عن الشافعي ، وعبد الرزّاق ، وأبي عبيد ،
ص: 378
والبيهقي ، والدارقطني ، قال : «وصحّحه» ، عن حِماس ، قال : «كنت أبيع الأُدُم والجِعاب (1) فمرّ بي عمر بن الخطّاب ، فقال : أدِّ صدقة مالك!
فقلت : يا أمير المؤمنين! إنّما هو الأُدُم.
قال : قوِّمه ، وأخرِج صدقته!».
مع أنّه قد روى الحاكم (2) - وصحّحه مع الذهبيّ على شرط الشيخين - ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «إنّما آخذ الصدقة من الحنطة ، والشعير ، والزبيب ، والتمر».
ثمّ روى الحاكم - أيضاً - ، وصحّحه مع الذهبيّ ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا تأخذوا الصدقة إلاّ من هذه الأربعة ؛ الشعير ، والحنطة ، والزبيب ، والتمر» (3).
[ومنها :] (4) وأبدع عمر - أيضاً - الزكاةَ في الحُلِيّ ، مع أنّه لا زكاة في الذهب والفضة إلاّ من النقدين ؛ لدليلهما الخاصّ (5).
حكى في «الكنز» (6) ، عن البخاري في «تاريخه» ، والبيهقي ، عن
ص: 379
شعيب بن يسار ، أنّ عمر كتب أن يُزكّي الحُليّ.
ثمّ نقل عن البيهقي ، أنّه روى عن شعيب ، قال : «كتب عمر إلى أبي موسى أن مرْ مَن قبَلك من نساء المسلمين أن يصَّدّقن من حُليِّهنّ» (1).
ومنها : إنّه أسقط سهم المؤلّفة قلوبُهم الذي فرضه اللّه سبحانه في كتابه العزيز ، وأعطاهم إيّاه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مدّة حياته.
قال تعالى في سورة التوبة : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (2).
دلّت الآية على أنّ سهمَ المؤلّفة فرضُ اللّه تعالى ، وأنّه على مقتضى العلم والحكمة ؛ فإنّ الحكمة تقتضي تأليفهم وترغيبهم وغيرهم في الإسلام.
وذكر السيوطي في «الدرّ المنثور» ، أنّه أخرج أبو داود ، والبغوي في «معجمه» ، والطبراني ، والدارقطني ، عن زياد بن الحارث ، قال : قال رجل : يا رسول اللّه! أعطني من الصدقة.
فقال : إنّ اللّه لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتّى حكم فيها ، فجزّأها ثمانية أجزاء ، فإن كنتَ من تلك الأجزاء أعطيتُك حقك» (3).
ص: 380
وروى السيوطي - أيضاً - نحوه ، عن ابن سعد (1).
فإذا كان اللّه سبحانه لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره حتّى جزّأها بنفسه المقدّسة ، فكيف جاز لعمر أن يُسقط سهم المؤلّفة؟!
قال في كتاب «الجوهرة النيّرة على مختصر القدوري في الفقه الحنفي» (2) : «إنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤوا بعد النبيّ إلى أبي بكر ليكتب لهم بعادتهم ، فكتب لهم بذلك ، فذهبوا بالكتاب إلى عمر ليأخذوا خطّه على الصحيفة ، فمزّقها ، وقال : لا حاجة لنا بكم ، فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن أسلمتم وإلاّ فالسيف بيننا وبينكم!
فرجعوا إلى أبي بكر ، فقالوا له : أنت الخليفة أم هو؟!
فقال : بل هو إن شاء اللّه ؛ وأمضى ما فعله عمر».
وهذا القول من عمر جهلٌ بوجه الحكمة ، وعمدٌ في مخالفة اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ أعطاهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقد فشا الإسلام وعزّ أهلُه فوق العزّ يومَ منعهم عمر وأبو بكر.
وروى الطبري في «تفسيره» ، عن حبّان بن أبي جبلة ، قال : «قال عمر - وقد أتاه عُيينة بن حِصن (3) - : ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
ص: 381
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (1) ؛ أي ليس اليوم مؤلّفة» (2).
والعجب من السنة ، كيف اتّبعوا عمر في ذلك مع علمهم بما ذكرنا؟!
ولم أجد منهم مَن يظهر منه خلاف عمر سوى النادر ؛ كالطبري في «تفسيره» ؛ فإنّه نقل القول ببقاء سهم المؤلّفة عن إمامنا أبي جعفر (عليه السلام) وأظهر الموافقة له (3).
وكالرازي في «تفسيره» ، قال عند ذكر المؤلّفة : «إنّ هذا الحكم غير منسوخ» ، ثمّ قال : «لا دليل على نسخه ألبتّة» (4) الآية (5).
ومنها : إنّه أسقط مع أبي بكر سهمَ أهلِ البيت من الخمس ، وقد جعله اللّه تعالى لهم في كتابه المجيد ، قال عزّ وجلّ : ( واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمُسَهُ وللرسول ولذي القربى ... ) (6).
وأعطاهم إياه رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
ص: 382
فاغتصبهم أبو بكر ، ومنعهم هو وعمر ما أعطاهم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنعاهم - أيضاً - خمس الغنائم الحادثة ، كما سبقت الإشارة إليه في غصب فدك (1) ، وسيأتي - إن شاء اللّه تعالى - تمام الكلام.
ومنها : إنّه جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات ، كما ذكره السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (2) ، وابن الشحنة في «روضة الناظر» (3) ، وابن الأثير في «كامله» (4) ، وعدّوه جميعاً من أوّليّات عمر.
ونقل في «الكنز» (5) ، عن الطحاوي ، عن سليمان بن يسار ، قال : «جمع عمر الناس على أربع تكبيرات في الجنازة».
ونقل - أيضاً - نحوه ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن أبي وائل (6).
وهو خلاف سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) (7).
ويدلّ عليه جملة من أخبار القوم :
روى أحمد في «مسنده» (8) ، عن عبد الأعلى ، قال : «صلّيت
ص: 383
خلف زيد بن أرقم على جنازة ، فكبّر خمساً ، فقام إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده ، فقال : نسيت؟!
قال : لا ، ولكن صلّيت خلف أبي القاسم خليلي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فكبّر خمساً ، فلا أتركها أبداً».
وروى النسائي في «صحيحه» (1) ، عن [ابن] أبي ليلى : «أنّ زيد بن أرقم صلّى على جنازة فكبّر عليها خمساً ، وقال : كبّرها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)».
وسينقل المصنّف (رحمه اللّه) في مسائل الفقه ، عن الديلمي ، والخطيب في «تاريخه» ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يصلّي على الميّت بخمس تكبيرات (2).
وروى مسلم (3) ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : «كان زيد يصلّي على جنائزنا أربعاً ، وإنّه كبّر على جنازة خمساً ، فسألته فقال : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يكبّرها».
ومثله في «صحيح الترمذي» (4).
فإنّه ظاهرٌ في أنّ عمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسنته هو التكبير خمساً (5) ، كما استظهره الترمذي أيضاً ، فقال بعد ذِكر الحديث : «وقد
ص: 384
ذهب بعض أهل العلم إلى هذا ، من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وغيرِهم ؛ رأوا التكبير على الجنازة خمساً» (1).
فيكون تكبير زيد أربعاً ؛ للتقيّة.
ولو فُرض استفادة التخيير بين الأربع والخمس من هذا الحديث ، كان عمر بتعيين الأربع مشرّعاً!
ومنها : تحريمه البكاء على الميّت ، حتّى عاقب عليه واستباح المحرّمات ، وهتك الحُرمات لأجله ، مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نهاه مراراً عن منع البواكي ، وفعله النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه الشريفة ، وطلبه مراراً (2).
أمّا تحريم عمر له ، فقد ذكره البخاري في «باب البكاء عند المريض» من «أبواب الجنائز» ، قال : «وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب» (3).
وروى الطبري في «تاريخه» ، عند ذكِر موت أبي بكر في حوادث
ص: 385
سنة 13 (1) ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : «لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر حتّى قام ببابها ، فنهاهنّ عن البكاء ، فأبَيْنَ أن ينتهين.
فقال عمر لهشام بن الوليد : ادخل فأخرج لي ابنة أبي قحافة ، أُخت أبي بكر.
فقالت عائشة لهشام : إنّي أُحرّج عليك بيتي.
فقال عمر : أُدخل ، فقد أذنتُ لك!
فدخل ، فأخرج أُمّ فروة أُخت أبي بكر إلى عمر ، فعلاها بالدِّرّة ، فضربها ضربات ، فتفرّق النوح».
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (2).
وكذا في «كنز العمّال» (3) ، عن ابن سعد ، عن سعيد بن المسيّب.
ثمّ نقل - أيضاً - نحوه ، عن ابن راهويه ، عن سعيد ، وقال : «هو صحيح» ، وذكر فيه أنّ عمر قال لهشام : «أخرِج النساء ... إلى أن قال : فجعل يُخرجُهنّ امرأةً امرأةً وهو يضربُهنّ بالدِّرّة» (4).
ونقل أيضاً في «الكنز» ، عن عبد الرزّاق ، عن عمرو بن دينار ، قال : «لمّا مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين ، فجاء عمر - ومعه ابن عبّاس - ومعه الدِّرّة ، فقال : يا عبداللّه! ادخل على أُمّ المؤمنين
ص: 386
فأْمُرها فلتحتجب وأَخرجهنّ علَيَّ.
فجعل يُخرجهُنّ عليه وهو يضربهنّ بالدِّرّة ، فسقط خمار امرأة منهنّ ، فقالوا : يا أميرَ المؤمنين! خمارُها!
فقال : دعوها! فلا حُرمة لها!
وكان يعجبُ من قوله : لا حرمة لها» (1)!
ونقل أيضاً في «الكنز» ، عن عبد الرزّاق ، عن نصر بن أبي عاصم ، «أنّ عمر سمع نوّاحةً بالمدينة ليلا ، فأتاها ، فدخل عليها ففرّق النساء ، فأدرك النائحة فجعل يضربها بالدِّرّة ، فوقع خمارها ، فقالوا : شعرُها يا أميرَ المؤمنين!
فقال : أجل ، لا حرمة لها» (2).
.. إلى غير ذلك من أخبارهم (3).
وأمّا نهي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لعمر عن منع البواكي (4) ، فقد رواه النسائي في «صحيحه» (5) ، عن أبي هريرة ، قال : «مات ميّت من آل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فاجتمع النساء يبكين عليه ، فقام عمر ينهاهن ويطردُهن ، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : دعهنّ يا عمر! فإنّ العينَ دامعةٌ ، والقلبَ مصابٌ ، والعهدَ قريبٌ».
ص: 387
ونحوه في «مسند أحمد» ، عن ابن عبّاس (1) ، وأبي هريرة (2).
وأمّا ما يدلّ على فعل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) للبكاء (3) ، فأخبار مستفيضة ، روى جملة منها البخاري في «أبواب الجنائز» (4) ، ومسلم في كتاب «الجنائز» (5) ، وكتاب «الفضائل» (6).
وفي بعض أخبارهما ، أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بكى على صبيّ مات لإحدى بناته ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول اللّه؟!
قال : هذه رحمةٌ جعلها اللّه في قلوب عباده ، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء (7).
وبكى (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على ولده إبراهيم - كما في رواية البخاري - ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول اللّه؟!
قال : يا ابن عوف! إنّها رحمة ؛ ثمّ أتبعها - يعني : عبرته - بأُخرى ، فقال : إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون (8).
ص: 388
وقال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» بترجمة حمزة (عليه السلام) : «لمّا رأى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حمزة قتيلا بكى ، فلمّا رأى ما مثل به شهق» (1).
وروى أحمد في «مسنده» من روايات بكاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يُحصى (2).
وأمّا ما يدلّ على طلبه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) للبكاء على الميّت ، والنوح عليه ، ورغبته فيهما ، فكثير أيضاً ..
روى أحمد (3) ، عن ابن عمر ، «أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا رجع من أُحد ، فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قُتل من أزواجهنّ ، فقال رسول اللّه : ولكنّ حمزة لا بواكيَ له.
قال : ثمّ نام ، فاستنبه وهنّ يبكين حمزة ، فهنّ اليوم إذا يبكين يندبنَ حمزة».
ونحوه في «الاستيعاب» بترجمة حمزة (عليه السلام) (4).
وقال في «تاريخ الطبري» (5) : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مرّ بدار من دور الأنصار ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاها ، فذرفت عينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فبكى ، ثمّ قال : لكنّ حمزة لا بواكيَ له ؛ فلما رجع سعد وأُسيد ، أمرا نساءهم أن يتحزّمنَ ثمّ يذهبنَ فيبكينَ على عمّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ص: 389
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (1) ، وفي «السيرة الحلبية» (2).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة جعفر بن أبي طالب : «لمّا أتى النبيَّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نَعْيُ جعفر (عليه السلام) ، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها ...
ودخلت فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي وتقول : وا عماه!
فقال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : على مثل جعفر فلتبكِ البواكي» (3).
فمع هذا كلّه ونحوه ، كيف ساغ لعمر منع البكاء على الميّت والعقاب عليه؟!
نعم ، قد يُعتذر له بما رواه هو وابنه ، من أنّ الميّت يُعذّب ببكاء أهله ..
وهو غير صحيح ؛ وإلاّ فكيف بكى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على حمزة ، وجعفر ، وزيد ، ورضي بالبكاء عليهم وعلى شهداء أُحد ، وغيرهم (4)؟!
ص: 390
وقد أنكرتْ عائشة وابن عبّاس عليهما في هذه الرواية ، واحتجّت بقوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (1) (2) ؛ أي : لو كان البكاء وزراً ، وإلاّ فإنّها بكت أباها واستبكت عليه (3).
فلا عذر لعمر إلاّ القسوةُ ، وعدمُ الرحمة ، وإمضاءُ رأيه يوم نهى عن البكاء بمحضر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فردعه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (4)!
ومنها : تأخيره مقام إبراهيم (عليه السلام) إلى موضعه اليوم ، وكان ملصَقاً بالبيت ، كما ذكره ابن أبي الحديد (5) ، والسيوطي في «تاريخ الخلفاء» (6) ،
ص: 391
وعن ابن سعد في «طبقاته» (1) ، والدميري في مادّة «الديك» من «حياة الحيوان» (2).
ومنها : توسعةُ المسجد الحرام بإضافة دور جماعة أبَوْا بيعها ، فهدمها عليهم ، ووضع أثمانها في بيت المال حتّى أخذوها ، كما في حوادث سنة 17 من «تاريخ الطبري» (3) ، و «كامل» ابن الأثير (4).
ومثل ذلك وقع من عثمان ، كما في «تاريخ الطبري» (5) ، و «كامل» ابن الأثير (6) أيضاً.
ومنها : إنّه قاسَمَ عمّاله أموالهم وأبقاهم في أعمالهم ، كما ذكره جماعة ممّن بيّن أحوال عمر ..
قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» : «أخرج ابن سعد ، عن ابن عمر ، أنّ عمر أمر عمّاله فكتبوا أموالهم ، منهم سعد بن أبي وقّاص ، فشاطرهم عمر في أموالهم ، فأخذ نصفاً وأعطاهم نصفاً» (7).
ونقل في «كنز العمّال» (8) ، عن ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أنّه قاسمهم نصف أموالهم.
ص: 392
ونقل عن ابن عبد الحكم - أيضاً - قصّة مقاسمته لابن العاص ، كما سبق طرفٌ منها (1).
ولا حاجة لإطالة الكلام في مقاسمته لهم ، فإنّها غنيّة عن البيان (2) ..
فهو إن كان يعلم خيانتهم بمقدار ما أخذه منهم ، فكيف ائتمنهم ثانيا؟!
على أنّ علمه بخصوص النصف بالنسبة إليهم جميعاً ، مقطوع بخلافه!
وإن كان لم يعلم خيانتهم ، فكيف استباح أخذ أموالهم ، ولا سيّما مثل سعد الذي زعموا أنّه أحد المبشّرين بالجنّة (3) ، وجعله عمر أحد الستّة في الشورى ، وأَهّله لإمامة الأُمّة والاستيلاء على رقابهم وأموالهم؟!
ومنها : حكمه على اليمانيَّين بدِيَة أبي خراش الهذلي الشاعر (4) ؛ إذ
ص: 393
باتوا ضيوفاً عنده فذهب يستقي لهم ، فمات من حيّة نهشته في الطريق ، كما ذكره في «الاستيعاب» بترجمة أبي خِراش من كتاب الكنى (1).
ومنها : حكمه على غيلان (2) بخلاف الشرع.
روى أحمد في «مسنده» (3) ، عن ابن عمر ، أنّ غيلان بن سلمة طلّق نساءه ، وقسّم أمواله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر - إلى أن قال : - فقال : وأيمُ اللّه لتراجعنّ نساءك ولترجعنّ في مالك ، أو لأُورّثهنّ منك ، ولآمرنّ بقبرك فيرجم كما رُجم قبر أبي رِغال (4).
ومثله في «الكنز» (5) ، عن عبد الرزّاق ، عن ابن عمر.
ص: 394
وأنت ترى أنّ هذا خلاف السنة ؛ فإن الطلاق بيد من أخذ بالساق (1) ، ولا يجب في الشريعة الرجوع بهنّ (2) ، كما إنّ الناس مسلّطون على أموالهم (3) ، بل بعد الإقباض لا يجوز الرجوع في هبة الرحم (4).
وليت شعري ، ما وجه توريثهنّ منه إن لم يرجع بهنّ وبماله؟!
وكيف يستحقّ أن يُرجم قبره ويُهتك ، حتّى يحلف على ذلك ، وغاية ما صنع أنّه فعل مكروها؟!
ومنها : حكمه في الرِّكاز (5) بخلاف السنة ، فإنّ الركاز إنّما فيه الخمس والباقي لواجده (6).
ص: 395
وهو قد خالفه ..
حكى في «كنز العمّال» في «كتاب الزكاة» (1) ، عن ابن عبد الحكم ، أنّ ابن العاص كتب إلى عمر عن عبد وجد جرّةً من ذهب مدفونةً ؛ فكتب إليه عمر : أن أَرْضِخْ (2) له منها بشيء ، فإنّه أحرى أن يؤدّوا ما وجدوا.
ص: 396
ونقل في «الكنز» أيضاً (1) ، عن الخطيب ، عن السائب : «أنّ عمر استعمله على المدائن ، فبينما هو جالس في إيوان كسرى نظر إلى تمثال يشير بإصبعه إلى موضع ؛ قال : فوقع في رُوعي أنّه يشير إلى كنز ، فاحتفرت ذلك الموضع فاستخرجت كنزاً عظيماً ، فكتبت إلى عمر أُخبره ، وكتبت : إنّ هذا شيء أفاءه اللّه علَيَّ دون المسلمين.
قال : فكتب إليَّ : إنّك أمير من أُمراء المسلمين فاقسمه بين المسلمين».
ومنها : إنّه حدَّ مَن لم يشرب الخمر ؛ لجلوسه مع من شربها.
حكى في «الكنز» (2) ، عن أحمد بن حنبل في «الأشربة» : «أنّ عمر أُتي بقوم أُخذوا على شراب ، فيهم رجل صائم ، فجلَدَهم ، وجلَدَه معهم.
قالوا : إنّه صائم!
قال : لِمَ جلس معهم؟!».
وأنت تعلم أنّه لا حدّ عليه ، كما أنّ تعزيره بمقدار حدّ الشرب - لو أراد التعزير - خلاف السنة.
روى مسلم (3) ، عن أبي بُردة : أنّه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلاّ في حدّ من حدود اللّه».
ص: 397
ونحوه في «صحيح الترمذي» (1) ، و «صحيح البخاري» (2) من طرق ، وذكر في بعضها أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا عقوبةَ فوق عشر ضربات إلاّ في حدّ من حدود اللّه» (3).
ومنها : ما فعله مع ضبيع (4) التميمي من الضرب المبرّح ، والنفي ، وتحريم المجالسة (5) ، لمّا سأله عن معنى قوله تعالى : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) (6) ..
قال ابن أبي الحديد (7) : «جاء رجل إلى عمر ، فقال : إنّ ضبيعاً
ص: 398
التميمي لقيَنا فجعل يسألُنا عن تفسير حروف من القرآن.
فقال : اللّهمّ أمكنّي منه!
فبينا عمر يوماً جالس يُغدّي الناس إذ جاءه ضبيع ، وعليه ثياب وعمامة ، فتقدّم فأكل ، حتّى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين! ما معنى قوله تعالى : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ) (1)؟
قال : ويحك! أنت هو؟!
فقام إليه فحسر عن ذراعيه ، فلم يزل يجلده حتّى سقطت عمامته ، فإذا له ضفيرتان ، فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك.
ثمّ أمر به فجُعل في بيت ، ثمّ كان يخرجه كلّ يوم فيضربه مئة ، فإذا برأ أخرجه فضربه مئة أُخرى.
ثمّ حمله على قَتَب وسيّره إلى البصرة ، وكتب إلى أبي موسى أن يحرّم على الناس مجالسته ، وأن يقوم في الناس خطيباً ، ثمّ يقول : إنّ ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه.
فلم يزل وضيعاً في قومه وعند الناس حتّى هلك ، وقد كان من قبل سيّد قومه».
وليت شعري كيف يستحقّ من أخطأ طريق العلم هذا العمل الوحشي الفرعوني ، الذي اشتمل على أنواع المنكَرات وأعظم الموبِقات؟!
فإنّ غاية ما يُفرض أنّه يباح له تعزيره وتأديبه ، وقد عرفتَ أنّه
ص: 399
لا يجوز التعزير بأكثر من عشر ضربات.
وكيف صار ممّن ابتغى العلم فأخطأه لولا جهل المسؤول؟!
وهلاّ أرشده إلى الطريق لو عَلِمه ، وهو بنفسه قد سُئل عن الأبِّ ، ثمّ قال : إنّ هذا لَهُوَ اللّهْو (1) ، وما عليك يا بن الخطّاب أن لا تدري ما الأبُّ؟! كما في «شرح النهج» (2).
فهلاّ أدّب نفسه ببعض ما أدّب التميميّ؟!
ومنها : نفيه ربيعة (3) خلافاً للسنة ؛ روى النسائي في آخر «صحيحه» ، في باب «تغريب شارب الخمر» ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : «غرّب عمرُ ربيعةَ بن أُميّة في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهِرَقلَ فتنصر» (4).
ص: 400
ومنها : نفيه نصر بن حجّاج إلى البصرة ؛ إذ تغنّت به امرأة في دارها ، وكان في غاية الحسن والجمال ، كما هو مستفيض ، وذكره في «شرح النهج» (1).
وليت شعري ، كيف استحقّ نصر النفي بمجرّد أن تغنّت به امرأة ، وما استحقّ المغيرة شيئاً من الإهانة ، وقد شهد عليه ثلاثة بالزنا ، وشهد الرابع بأنّه جلس منها مجلس الفاحشة رافعاً رجليها ، وخصيتاه متردّدتان بين فخذيها ، وسمع له حفزاً شديداً ونَفَساً عالياً (2)؟!!
وأما ما ذكره الفضل بالنسبة إلى نسب «عثمان» ، وأنّه يتّصل برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في عبد مناف ..
فمحلّ ريب عندنا ؛ لِما روي أنّ أُميّة كان عبداً روميا تبنّاه عبد شمس ، وكان ذلك من عادة العرب ، بحيث لا يُنسب عندهم اللحيق إلاّ إلى المستلحِق ، ويتوارثان ، وتترتّب عليه جميع آثار البنوّة (3).
كما نُسب ذكوان إلى أُميّة إذ تبنّاه ، وكان عبداً له ، كما ذكره في «الاستيعاب» بترجمة الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط بن ذكوان ، لكن جعله
ص: 401
قولا (1).
ويشهد لذلك قول أبي طالب (عليه السلام) في بني أُميّة [من الطويل] :
قديماً أبوهم كان عبداً لجدّنا
بنو أَمَة شهلاءَ جاشَ بها البحرُ
من أبيات ذكرها ابن أبي الحديد (2) ، لكن استفاد منها صحّة ما يروى أنّ عبد المطّلب (عليه السلام) استعبد أُميّة لرهان بينهما (3) ، وهو خطأ ، وإلاّ لقال : عبداً لأبينا.
ويؤيّد المدّعى معروفيّتهم ببني أُميّة لا بني عبد شمس ، والحال أنّ عبد شمس أظهر في الشرف من أُميّة ، وإنّما عرف عتبة وشيبة ببني عبد شمس (4).
ص: 402
ويُحتملُ أن يكون أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أشار إلى استلحاق أُميّةَ وبنيه بعبد شمس بقوله في كتابه إلى معاوية : «وليس الصريحُ كاللصيق (1)» (2) جواباً عمّا كتبه معاويةُ إليه : «إنّا وأنتم من بني عبد مناف» (3).
ويحتملُ - أيضاً - أنّه (عليه السلام) أشار إلى المعروف من كون معاويةَ ابنَ زنا ولحيقاً بأبي سفيان (4).
ويحتملُ أنّه (عليه السلام) أشار إلى الأمرين.
وأما ما زعمه من تزويجه ابنتَي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فمحلّ إشكال أيضاً ؛ لِما قيل : إنّهما ربيبتاه ؛ فنُسبتا إليه للتربية ؛ بل قيل : إنّهما ابنتا أُخت خديجة (5).
ولو سُلّم أنّهما ابنتاه حقيقةً - كما هو الأقربُ (6) - ، فالظاهر أنّ
ص: 403
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما زوّجه للتأليف ، كما يشهد له ما ذكره ابنُ الأثير في «نهايته» بمادّة «أبَر» ، بالباء الموحّدة من تحت ..
قال : «في حديث أسماء بنت عميس : قيل لعليّ : ألا تتزوّجُ ابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟ فقال : ما لي صفراء ولا بيضاء ، ولستُ بمأبور في ديني فيُوَرّي (1) بها رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عنّي ، إنّي لأوّل مَن أسلم».
ثمّ قال : «يعني : لستُ غيرَ صحيحِ الدينِ ، ولا المتّهَمَ في الإسلام فيتألّفني عليه بتزويجها إيّايَ».
قال : «ويروى بالثاء المثلّثة ، وسيُذكر» (2).
ثمّ ذكره في هذه المادّة ، وقال : «أي : لستُ ممّن يؤثَر عنّي شرٌّ وتهمةٌ في ديني» (3).
فإنّه دالٌّ على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد يزوّج الرجلَ للتأليف ، والمتعيّن له عثمانُ ؛ لأنّ من عداه من أصهار النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إمّا مؤمنٌ حقّاً وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أو كافرٌ معاند!
وأما ما تعرّض له من أخبارهم في فضل عثمان (4) ، فقد عرفتَ في
ص: 404
ما ذكره في فضل الشيخين (1) ، أنّ ذِكرَ أخبارهم في مثل المقام لغوٌ ، لا يفيد أصحابه علماً ، ولا يكون علينا حجة (2).
على أنّها لا تعارض أخبارَ الطعن المتّفق عليها بين الفريقين (3).
مضافاً إلى ظهور ضعف أسانيدها عندهم ؛ ولذا لم يروها البخاريُّ ومسلم ، وإنّما رواها الترمذيُّ ، وقال في الأوّل منها (4) : «هذا حديثٌ غريبٌ ، وليس إسناده بالقويّ ، وهو منقطعٌ» (5) ؛ انتهى.
فإنّه رواه عن أبي هشام الرفاعيِّ - وهو : محمّد بن يزيد - ، عن يحيى بن يَمان ، عن شيخ من بني زهرة ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب ..
وهو كما ترى ؛ فإنّ الشيخ مجهول (6) ، ومَن عداه ضعافٌ (7) ، كما عرفتَ بعض ترجمة الرفاعيِّ ويحيى في المقدّمة (8) ، وعليه فَقِس بقيّة الأحاديث.
على أنّ الحديثين اللذين زعموا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال فيهما : «ما
ص: 405
ضرّ عثمان ما عمل بعد» (1) كاذبان جزماً ؛ لأنّه إذا آمنه العقوبة ، فقد سهّل له المعصية.
ولا يمكن أن يقع مثله من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حقّ من ليس بمعصوم أو شبهه ، فكيف يقولُه في حق مَن يجعلُ مال اللّه سبحانه طعمة للوزغ (2) وبنيه ، وينتهكُ حرمات الصحابة الأبرار ، كأبي ذرّ وعمار وأشباههما (3)؟!
على أنّه كيف يتصدّق بهذه الصدقة الكثيرة وقد أشفق أن يقدّم في النجوى الصدقة القليلة الواجبة (4)؟!
ولِمَ سلّم وقوعُ تلكَ الصدقة منه؟! فمَن يُشفقُ مِن تقديم الصدقة القليلة الواجبة ، حقيقٌ بأن يكون وقوع الصدقة الكثيرة المندوبة منه للسمعة والرياء وطلب الثناء!
هذا حالُ ما انتخبه من أخبارهم ، فكيف حالُ غيرها؟!
ص: 406
ولو رأيتَ ما رواه البخاريُّ ومسلمُ في فضل عثمان لبان لك على صفحاتها أثرُ التصنّع والكذب (1) ؛ ولذا عدل الخصمُ عنها إلى هذه الأخبار ، مع رواية الترمذي للجميع (2) ؛ فخصّها لزعمه أنّها أقربُ إلى القبول.
وأما قوله : «التي رواها عن شيوخه الضالّين» ..
فصحيحٌ ؛ لأنّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يروِ هذه المطاعن إلاّ عن الشيوخ الضالّين ؛ لإثبات ضلالهم المبين.
ص: 407
ص: 408
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
فاستعمل الوليدَ بن عُقبة (1) حتّى ظهر منه شربُ الخمر (2) ..
وفيه نزل قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ) (3) ، المؤمن : عليٌّ ، والفاسق : الوليدُ بن عُقبةَ ، على ما قاله المفسّرون (4) ..
ص: 410
وفيه نزل : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (1) ..
وكان يصلّي حالَ إمارته وهو سكران ، حتّى تكلّم فيها والتفتَ إلى مَن خلفه وقال : أزيدكم في الصلاة؟ فقالوا : لا ، قد قضينا صلاتنا (2).
واستعمل سعيدَ بن العاص (3) على الكوفة ، وظهرت منه أشياء
ص: 411
منكَرة ، وقال : إنّما السواد (1) بستانٌ لقريش ، تأخذُ منه ما شاءت ، وتتركُ منه ما شاءت! حتّى قالوا له : أتجعلُ ما أفاء اللّه علينا بستاناً لكَ ولقومك (2)؟!
وأفضى الأمر إلى أن منعوه من دخولها ، وتكلّموا فيه وفي عثمان كلاماً ظاهراً ، حتّى كادوا يخلعون عثمانَ ، فاضطرّ حينئذ إلى إجابتهم
ص: 412
وعزله قهراً لا باختيار عثمان (1).
وولّى عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح (2) مصراً ، وتكلّم فيه أهل مصر ، فصرفه عنهم بمحمّد بن أبي بكر.
ثمّ كاتبه بأن يستمرّ على الولاية ، فأبطن خلافَ ما أظهر ، فأمره بقتل محمّد بن أبي بكر وغيره ممّن يَرِدُ عليه ، فلمّا ظفر محمّد بذلك الكتاب كان سببَ حصره وقتله (3).
ص: 413
وقال الفضل (1) :
معظم ما يطعنون على عثمان هو تولية بني أُميّة على الممالك ؛ وذلك لأنّه رأى أُمراء بني أُميّة أُولي رشد ونجابة وعلم بالسياسات.
وكان إذ ذاكَ اتّسعَ عرصةُ الإسلام وبَعُد الممالك ، واختلف سيرُ الناس ؛ لاختلاط الأعجام بالعرب ، واختلاف العرب واستيلائهم ، فلا بُد من الأُمراء الّذين يكونون ذوي بأس وقوّة واستيلاء.
وكانوا بنو أُميّة على هذه النعوتِ ، فكان عثمانُ يختارهم للإمارة ، وكلّما ظهر منهم شيءٌ يعزلهم ، كما روي في الصحاح ، أنّه لمّا علم عثمان أنّ الوليد بن عقبة شرب الخمرَ عزله عن إمارة الكوفة ؛ كما ذكر.
ولا طعنَ في الإمام إذا نصبَ من رآه عدلا أهلا للإمارة ، ثمّ يظهر منه خلاف هذا فيعزله ، فإنّه حال النصب علمه أهلا للإمارة ، ولو كان حال النصب يعلم أنّه ليس بأهل للإمارة ثمّ ينصبه لكان طعناً ، ولم يثبت هذا فلا طعنَ.
ص: 414
ليس هذا إلاّ اليسيرَ ممّا يطعن به على عثمان ، فإنّ له ما هو أكثرُ وأعظمُ ؛ كتغييره أحكام اللّه تعالى وسنة نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) واستهزائه بالشريعة (1) ، وإحراقه المصحف المجيد (2).
وأمّا قوله : «لمّا رأى بني أُميّة أُولي رشد ونجابة ...» إلى آخره ..
فمن عدم المبالاة بالكذب ، وقلّة الحياء منه ؛ فإن الشجرة الملعونة في القرآن (3) لا يمكن أن تثمر الرشد والنجابة والهدى ، وإنّما تثمرُ المكرَ والفسقَ والخنا.
ولا أدري ، أيُّ رشد لهم وعلم بالسياسة وقد أتوا من صنوف التهتّك والجور ما رأته كلُّ عين ، حتّى أهاجوا الرأي العامَّ ، وقُتل بسببهم عثمان؟!
وأيّةُ نجابة لهم وما فيهم إلاّ خمّارٌ ، أو زان ، أو ابنُ زنا؟!
ويكفيك أنّ إمامهم وأنجبهم معاوية ، وهو لحيقٌ بأبي سفيانَ (4) مستلحِقٌ لزياد (5)!
ص: 415
لكن الدنيا أقبلت عليهم ، وجرت المقاديرُ باستيلائهم ، فحسب بعضُ الناس أنّ ذلك من سياستهم ، وكان بعضهم - كمعاوية - صاحبَ مكر وخديعة وحيلة ، فتخيّل أولياؤهم أنّ لهم رشداً.
ولو سُلّم أنّهم كانوا كذلك ، فلا ريبَ أنّ عثمان لم يقدِّمهم لرشدهم ونجابتهم ؛ لوجود مَن هو أرشد وأنجب وأعلم بالسياسة منهم في صحابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ولو كان الداعي له هو ذلك ، لجعلهم في البلاد البعيدة الواقعة في الثغور ، المحتاجة لذوي القوّة والرشد والسياسة ، لا في البلاد الآمنة المطمئنّة حتّى ألحقوا بها الفتن ، وألحقوا بها العناءَ ، وشوّهوا وجه الإسلام.
ولا أدري من أين عرف عثمانُ رُشدَ عبد اللّه بن عامر (1) وعِلمَه بالسياسة ، حتّى جمع له بين كور البصرة وفارس وهو ابنُ أربع أو خمس وعشرينَ سنةً ، لم يتولّ شيئاً من الولايات قبلها (2)؟!
ص: 416
نعم ، أراد أن يطعمه مال القطرين ويرفع قدره ، فولاّه إيّاهما ..
روى الطبريُّ في «تاريخه» (1) : «أنّ غيلان بن خرَشة (2) قال لعثمان : أمَا منكم خسيس فترفعوه؟! أمَا منكم فقيرٌ فتجبروه؟! يا معشر قريش! حتّى متى يأكل هذا الشيخُ الأشعري هذه البلاد؟! فانتبه لها الشيخ ، فولاّها عبد اللّه بن عامر».
ومثله الكلام في سعيد بن العاص ؛ فإنّه ولاّه الكوفة ولم يبلغ الثلاثين ، وما تولّى قبلها عملا (3).
وكذا الوليد بن عقبة ؛ فإنّه لم يتولّ بلاداً ، وما عرف سياسة ، وإنّما ولاّه عثمان الكوفة طعمة ..
فقد ذكر في «شرح النهج» (4) ، عن الأغاني ، أنّ سبب إمارة الوليد على الكوفة أنّه لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلاّ العبّاس وأبو سفيان والحكم والوليد ، ولم يكن سريره يسع معه إلاّ واحداً ، فأقبل الوليد يوماً فجلس ، فجاء الحكم ، فأومأ عثمان إلى الوليد ، فرحل (5) له عن مجلسه ، فلمّا قام الحكم قال الوليدُ : لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما
ص: 417
حين آثرت عمكَ على ابن أُمكَ.
فقال عثمان : إنّ الحكَم شيخُ قريش ، فما البيتان؟!
فقال [من الطويل] :
رأيتُ لِعمِّ المرءِ زُلفى قرابة *** دُوَيْنَ أخيه حادثاً لم يكن قِدْما
فأمّلتُ عَمْراً أن يَشِبَّ وخالداً *** لكي يَدعُواني يومَ نائبة عَمّا
يعني : عَمْراً وخالداً ابنَي عثمان.
قال : فرَقّ له عثمان وقال : قد ولّيتكَ الكوفة ، فاخرج إليها!
وقال ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» تحت عنوان «ما أنكر الناسُ على عثمان» : «أنّه اجتمع ناسٌ من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمانُ من سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ... وما كان من هبة خمس إفريقيّة لمروان - إلى أن قال : - وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني أُميّة أحداث وغلمة ، لا صحبة لهم من الرسول ، ولا تجربة لهم بالأُمور» (1).
وقال في «العقد الفريد» (2) : «لمّا أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجِلّة (3) من أصحاب محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قيل لعبد الرحمن : هذا عملك! قال : ما ظننتُ هذا! ثمّ مضى ودخل عليه وعاتبه ، وقال : حابيتَ أهلَ بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين ... لله علَيَّ أن لا أُكلِّمك أبداً.
ص: 418
فلم يكلّمه حتّى مات.
ودخل عليه عثمان عائداً له في مرضه ، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلّمه» ؛ انتهى ملخّصاً.
وأمّا قوله : «وكلّما يظهر منهم شيءٌ يعزلهم» ..
فكذبٌ ظاهرٌ ؛ وإلاّ فلماذا اجتمع عليه الناسُ من الأطراف النائية حتّى حصروه وقتلوه؟!
وهو لم يعزل من هؤلاء المعلنين بالفسق إلاّ سعيد بن العاص والوليد ابن عقبة ، ولم يعزلهما باختياره.
أمّا سعيد ، فلِما رواه الطبري في «تأريخه» (1) ، أنّه اجتمع ناسٌ من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلّمه ويخبره بإحداثه ، فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللّه التميمي (2) ، فأتاه ، فقال : إنّ ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أُموراً عظاماً ، فاتّق اللّه وتب إليه وانزع عنها!
إلى أن قال : فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى عبد اللّه ابن سعد بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد اللّه بن عامر ، فجمعهم ليشاورهم في أمره ، وما طلب إليه ، وما بلغه عنهم.
فلمّا اجتمعوا عنده قال لهم : إنّ لكل امرئ وزراء ونصحاء ، وإنّكم
ص: 419
وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناسُ ما رأيتم ، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون.
إلى أن قال : فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم ، وأمرهم بالتضييق على مَن قِبلهم ، وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ، وعزم على تحريم أُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
وردّ سعيد بن العاص أميراً على الكوفة ، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح ، فتلقّوه فردّوه ، فقالوا : لا واللّه لا يلي علينا حُكماً ما حملنا سيوفنا.
ومثله في «كامل» ابن الأثير (1).
وقال في «الاستيعاب» - بترجمة سعيد - : «ردّه أهلُ الكوفة ، وكتبوا إلى عثمان : لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك» (2).
وأمّا الوليد ، فنحن نذكر لك بعضَ ترجمته في «شرح النهج» من تتمّة كلامه السابق ، نقلا عن «الأغاني» ؛ لتعرفَ أنّه ما عزله باختياره ، وملخّصه :
إنّ الوليد اختُصّ بساحر يلعب بين يديه ، وكاد أن يفتن الناس ، فجاء جندب (3) فقتل الساحر ، قياماً بواجب الشريعة ، فحبسه الوليدُ ، فمضى
ص: 420
دينار بن دينار إليه فأخرجه من الحبس ، فأرسل الوليد إلى دينار فقتله (1).
وكان الوليد ينادم أبا زُبيد الطائي النصراني ، حتّى كان يمرّ إليه في المسجد الشريف ويسمُر عنده ويشرب معه الخمر ، ويرجع ويشُقّ المسجدَ سكران (2).
وشرب الوليد مرّة الخمرَ وصلّى بالناس الصبح أربع ركعات ، فقال : أزيدكم؟ وتقيا في المحراب بعد أن قرأ في الصبح رافعاً صوته [من مجزوء الرَّمل] :
علِق القلبُ الرَّبابا *** بعدما شابَتْ وشابا (3)
فخرج رهطٌ من الكوفة إلى عثمان شاكين ، فأراد أن ينكّل بهم ، فاستجاروا بعائشة ، فرفعت نعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقالت : تركَ سنة صاحب هذا النعل!
فتسامع الناسُ واختلفوا وتضاربوا بالنعال.
ودخل رهطٌ من الصحابة على عثمان ، فقالوا له : اتّق اللّه ولا تُعطّل الحدود ، واعزل أخاك عنهم! ففعل (4).
انتهى ملخّصاً.
وكيف يقال : إنّ عثمان يعزل من يظهرُ منه شيءٌ وهو لم يبال باتّضاح فسقهم لكلّ أحد ، وقد تحمّل الإهانة والسبّ ثمّ القتل في سبيل إمرتهم؟!
روى الطبريُّ في «تاريخه» (5) ، أنّ «عثمان مرّ على جبلة بن عمرو
ص: 421
الساعدي (1) وهو جالسٌ في نَدِيِّ (2) قومِه وفي يد جبلة جامعةٌ ، فلمّا مرّ عثمانُ سلّم ، فردّ القومُ ، فقال جبلة : لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا؟!
ثمّ أقبل على عثمان ، فقال : واللّه لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه!
قال عثمان : أيُّ بطانة؟! فواللّه إنّي لأَتخيّر (3) الناس.
فقال : مروان تخيّرتَه ، ومعاوية تخيّرتَه ، وعبد اللّه بن عامر تخيّرتَه ، وعبد اللّه بن سعد تخيّرتَه ؛ منهم من نزل القرآن بذمّه ، وأباح رسول اللّه دمه.
فانصرف عثمان ، فما زال الناسُ مجترئين عليه إلى هذا اليوم».
وروى أيضاً (4) حديثاً طويلا ، قيل لعثمان في آخره : «اعزل عنّا عمّالك الفسّاق ... واردد علينا مظالمنا!
قال عثمان : ما أراني في شيء إن كنتُ أستعمل من هويتم ، وأعزل من كرهتم».
وسيأتي أيضاً في المقام ما يدلّ على المطلوب.
ص: 422
وأمّا قوله : «ولا طعن في الإمام إذا نصب من رآه عدلا أهلا للإمارة ...» إلى آخره ..
فصحيحٌ ، لكن لا يصحُّ في أكثر ولاة عثمان!
ليت شعري ، كيف كان الوليد عدلا عند عثمان وقد شهد اللّه سبحانه في كتابه العزيز بفسقه مرّتين (1)؟!
وكان من أشهر الناس في الفسق ، وأوضحهم حالا في سوء الأعمال ، حتّى قال له سعد بن أبي وقّاص لمّا عزله عثمان بالوليد : ما أدري ، أصَلَحتَ بعدنا أم فسدنا بعدك؟! كما في «شرح النهج» عن «الأغاني» (2).
وذكر أيضاً أنّه قال له في رواية : ما أدري ، كِستَ (3) بعدنا أم حَمُقْنا بعدك؟!
فقال : لا تجزعنّ! فإنّه المُلكُ ، يتغدّاه قومٌ ويتعشّاه آخرون.
فقال سعدٌ : أراكم واللّه ستجعلونه مُلكاً (4).
ومثله في «الاستيعاب» بترجمة الوليد (5) ، وفي «كامل» ابن الأثير (6).
وقال له ابن مسعود - كما في هذين الكتابين - : ما أدري ، أصَلَحتَ بعدنا أم فسد الناس (7)؟!
ص: 423
وقال في «الاستيعاب» بترجمته أيضاً : «وله أخبارٌ فيها نكارةٌ وشناعةٌ تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله».
وقال أيضاً : «أخباره في شرب الخمر ، ومنادمته أبا زبيد الطائي ، مشهورةٌ».
وقال : «خبرُ صلاته بهم وهو سكران ، وقوله : أزيدكم؟! بعد أن صلّى الصبح أربعاً ، مشهورٌ من رواية الثقات من نقلة أهل الحديث وأهل الأخبار».
ثمّ قال : «وقد روي في ما ذَكر الطبري : أنّه تعصّب عليه قومٌ من أهل الكوفة بغياً وحسداً ، وشهدوا عليه زوراً أنّه تقيا الخمر ؛ وذكر القصّة وفيها : إنّ عثمان قال له : يا أخي اصبر! فإنّ اللّه يؤجرك ويبوء القوم بإثمك (1).
وهذا الخبرُ من نقل أهل الأخبار ، لا يصحّ عند أهل الحديث ، ولا له عند أهل العلم أصلٌ» (2).
وأنت إذا تلوْتَ تراجم عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح ، وسعيد بن العاص ، وعبد اللّه بن عامر ، وأمثالهم من ولاة عثمان ، عرفت أنّهم ليسوا بأقلّ ظهوراً في الفسق ، والطيش ، وعدم الخبرة بالولاية والسياسة ، من الوليد ؛ فكيف يزعم الخصم أنّ عثمان رآهم عدولا وأهلا للإمارة فنصبهم؟!
وأمّا ما نقله عن «الصحاح» ، من عزله الوليد عن الإمرة بعدما شرب الخمر ، فلم أجده فيها بعد التتبّع ، ولعلّه استفاد عزله من أمره بأن يجلد
ص: 424
الحدّ ، كما رواه البخاري (1) ، عن عروة بن الزبير : «أنّ عبيد اللّه بن عَدِيّ أخبره أنّ المِسْوَر بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا له : ما يمنعك أن تكلّم خالك عثمان في أخيه الوليد بن عقبة؟! وكان أكثرَ الناسُ في ما فعل به.
قال عبيد اللّه : فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة ، فقلت له : إنّ لي إليك حاجةً ، وهي نصيحةٌ.
فقال : أيّها المرءُ! أعوذ باللّه منك.
فانصرفت ، فلمّا قُضِيَتِ [الصلاةُ] جلستُ إلى المِسْوَر ، وإلى ابن عبد يغوث ، فحدّثتهما بالذي قلتُ لعثمان وقال لي ، فقالا : قد قضيتَ الذي كان عليك.
فبينما أنا جالسٌ معهما إذ جاءني رسول عثمان ، فقالا لي : قد ابتلاك اللّه! فانطلقت حتّى دخلتُ عليه ، فقال : ما نصيحتك؟ ...
قال : فتشهّدت ، ثمّ قلت : إنّ اللّه بعث محمّداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل عليه الكتاب ، وكنتَ ممّن استجاب لله ورسوله ، وآمنتَ به ، وهاجرتَ الهجرتين ، وصحبتَ رسول اللّه ، ورأيتَ هديه ، وقد أكثرَ الناسُ في شأن الوليد ، فحقٌّ عليك أن تقيم عليه الحدّ ...
إلى أن قال : فأمّا ما ذكرتَ من شأن الوليد ، فسنأخذ فيه بالحقِّ إن شاء اللّه.
فجلدَ الوليدَ أربعين جلدةً».
وهذا الحديث شاهدٌ بأنّ عثمان عطّل حدَّ اللّه في الوليد ، إلى أن أكثرَ
ص: 425
الناسُ عليه الإنكار ، وخاف عاقبة أمره.
وغيره من الأحاديث صريحٌ في ذلك (1).
كما إنّ هذا الحديث دليلٌ على صحّة إنكار ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» على ما ذكره الطبريُّ ، وقد عرفتَه (2).
ثمّ إنّ المصنّف (رحمه اللّه) نقل في طيّ كلامه ، أنّ سعيد بن العاص قال : «إنّما السواد بستانٌ لقريش» ، وهو قد رواه القومُ ..
منهم : ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، بترجمة سعيد (3) ..
ومنهم : الطبريُّ في «تأريخه» (4) ..
وابن الأثير في «كامله» (5).
وقد تعرّض المصنّف (رحمه اللّه) أيضاً لولاية ابن أبي سرح - وهو أخو عثمان من الرضاعة - ، وطلب المصريّين عزله مجملا (6).
ولنذكر بعض تفاصيله ، وإنكار المسلمين تأميره ..
قال ابن الأثير في «الكامل» (7) : «فكان أوّل ما تكلّم به محمّد بن أبي حذيفة ومحمّد بن أبي بكر ، في أمر عثمان ، في هذه الغزوة ، وأظهرا
ص: 426
عيبه وما غيّر وما خالف به أبا بكر وعمر ، ويقولان : استعملَ عبد اللّه بن سعد رجلا كان رسول اللّه قد أباح دمه ، ونزل القرآن بكفره ، وأخرج رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قوماً [و] (1) أدخلهم ، ونزع أصحابَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، واستعمل سعيدَ بن العاص وابنَ عامر».
ومثله في «تاريخ الطبري» (2).
وقال في «العقد الفريد» (3) : «كان كثيراً ما يولّي بني أُميّة ممّن لم يكن له من رسول اللّه صحبة ، وكان يجيء من أُمرائه ما ينكره أصحاب محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان يُستعتبُ فيهم فلم يعزلهم.
فلمّا كان في الحِجج الآخرة استأثر ببني عمّه فولاّهم ... وولّى عبد اللّه بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين ، فجاء أهلُ مصر يشكونه ويتظلّمون منه - إلى أن قال : - فكتب إليه عثمان يتهدّده ، فأبى ابنُ أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان ، وضرب رجلا ممّن أتى عثمانَ ، فقتله.
فخرج من أهل مصر سبعمئة رجل إلى المدينة ، فنزلوا المسجد ، وشكوا إلى أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما صنع ابن أبي سرح ..
فقام طلحة بن عبيد اللّه فكلّم عثمان بكلام شديد ..
وأرسلت إليه عائشة : قد تقدّمَتْ إليك أصحابُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسألوك عزل هذا الرجل فأبيتَ أن تعزله ، فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصِفهم مِن عاملك.
ص: 427
ودخل عليه عليٌّ - وكان متكلّم القوم - ، وقال : إنّما سألوك رجلا مكانَ رجل ، وقد ادّعوا قبَله دماً ، فاعزله عنهم ، واقضِ بينهم ، [وإنْ وجَبَ عليه حقٌّ فأنصِفهم منه]».
ثمّ ذكر ما حاصله ، أنّه أرسل محمّد بن أبي بكر عاملا ومعه جمع من الصحابة ، فلمّا كانوا على مسيرة ثلاثة أيّام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير ، ففتّشوه وأخرجوا منه كتاباً من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيه بقتلهم ، فرجعوا به إلى المدينة.
فاغتمّ أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من ذلك ، ودخل عليٌّ وجماعة على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير.
ثمّ قال ما لفظه : «قال له عليٌّ : هذا الغلام غلامكُ؟ قال : نعم ؛ والبعير بعيرك؟ قال : نعم ؛ والخاتم خاتمك؟ قال : نعم ، قال : فأنت كتبتَ الكتابَ؟! قال : لا.
إلى أن قال : فعرفوا أنّه خطّ مروان ... وسألوه أن يدفع إليهم مروان ، فأبى».
وقال الطبريّ في «تاريخه» (1) ، في حوادث سنة 35 : «قدم المصريّون القدْمة الأُولى ، فكلّم عثمانُ محمّد بن مَسلمة ، فخرج في خمسين راكباً من الأنصار ... فردّهم.
ورجع القومُ حتّى إذا كانوا بالبُوَيْب (2) وجدوا غلاماً لعثمان معه كتاب إلى عبد اللّه بن سعد ، فكرّوا ، فانتهوا إلى المدينة ، وقد تخلّف بها
ص: 428
من الناس الأشتر وحكيم بن جبلة ، فأتوا بالكتاب ، فأنكر عثمان أن يكون كتبه ... قالوا : فالكتاب كتابُ كاتبك؟!
قال : أجل ، ولكنّه كتبه بغير أمري.
قالوا : فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتابَ غلامُك؟!
قال : أجل ، ولكنّه خرج بغير إذني.
قالوا : فالجمل جملك؟!
قال ، أجل ، ولكنّه أُخذ بغير علمي.
قالوا : ما أنت إلاّ صادقٌ أو كاذبٌ ، فإن كنتَ كاذباً فقد استحققتَ الخلع ؛ لِما أمرتَ به من سفك دمائنا بغير حقّها ، وإن كنتَ صادقاً فقد استحققت أن تُخلع ؛ لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ؛ لأنّه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا مَن يُقتطَع مثلُ هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته.
وقالوا له : إنّك ضربتَ رجالا من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك ، فأَقدْ مِن نفسك مَن ضربته وأنت له ظالمٌ.
فقال : الإمام يخطئُ ويصيبُ ، فلا أَقيدُ من نفسي ؛ لأنّي لو أَقدتُ كلّ مَن أصبته بخطأ آتي على نفسي.
قالوا : إنّك أحدثتَ أحداثاً عظاماً فاستحققتَ بها الخلع ، فإذا كُلّمتَ فيها أعطيتَ التوبة ثمّ عدتَ إليها وإلى مثلها.
ثمّ قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحقّ ، ولامنا فيك محمّد بن مسلمة ، وضمن لنا ما حدث من أمر ، فأخفرته (1) ، فتبرّأ منك
ص: 429
وقال : لا أدخل في أمره.
فرجعنا أوّل مرّة لنقطع حجّتك ونبلغ أقصى الإعذار إليك ، نستظهر باللّه عزّ وجل عليك ، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب ، وزعمت أنّه كُتبَ بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتَمك!
فقد وقعت عليك بذلك التهمةُ القبيحة ، مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم ، والأثرة في القَسْم ، والعقوبة للأمر بالتبسُّط من الناس والإظهار للتوبة ، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة.
ولقد رجعنا عنك ، وما كان لنا أن نرجع حتّى نخلعك ونستبدل بك مِن أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مَن لم يُحدِث مثل ما جرّبنا منك.
إلى أن قال : وأرسل إلى محمّد بن مسلمة أن يردّهم ، فقال : واللّه لا أكذبُ في سنة مرّتين».
وقريب منه في «كامل» ابن الأثير (1).
ولعمري ، لو كان عثمان بريئاً من أمر الكتاب ، لأظهر الاهتمام الكبير بالبحث عمّن زوّره ، وضيّق على الرسول ليعرّفه به ، وتنمّر لمروان وأشباهه.
كما إنّ حجج القوم عليه لأثبات استحقاقه للخلع وعدم أهليّته للخلافة واضحةٌ قويّةٌ ، ولا سيّما ما يتعلّقُ بأمر الكتاب ؛ لاستلزامه ضعفه الشديد أو فسقه العظيم ؛ لأَِمْره بسفك دماء المسلمين بغير حقّها ، الّذين ما طلبوا منه إلاّ عزلَ عامله الجائر.
ص: 430
ولو فُرض أنّه غيرُ جائر ، لكان حقاً عليه أن يعزله ؛ تأليفاً لهم ، ودفعاً للفتنة ، وحقناً لدمه.
فالعجب ممّن يروي هذا الحديث ويتّخذه إماماً!
وأعجبُ منه أنّهم يرونَه خليفة حقّ ، وأفضل من أخي النبيّ ونفسه! وهو بمقتضى أخبارهم لا يجد رائحة الجنّة ..
روى البخاريُّ (1) ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ما من عبد استرعاه اللّهُ رعيّةً ، فلم يَحُطْها بنصيحة ، إلاّ لم يجد رائحةَ الجنّةِ».
ونحوه في «صحيح مسلم» (2).
وبالضرورة أنّ عثمان لم يحط المسلمين نصحاً بعزل أصحاب النبيّ واستبدالهم بالوليد الفاسق وابن عامر ، ولا بنصب ابن أبي سرح وسعيد ابن العاص وأشباههما.
وفي ما ذكرناه كفايةٌ لمن اعتبر!
ص: 431
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه ردّ الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ، وهو طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كان قد طرده وأبعده عن المدينة ، وامتنع أبو بكر من ردّه (2) ، فصار عثمان بذلك مخالفاً للسنة ، ولسيرة من تقدّمه ، مدّعياً على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، عاملا بدعواه من غير بيّنة!
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه قد نُقل أنّ عثمان لمّا عوتب على ذلك ذكر أنّه استأذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (3).
اعترضه المرتضى ، بأنّ هذا قول قاضي القضاة لم يُسمع من أحد ، ولا نُقل في كتاب ، ولا نعلم من أين نقله القاضي ، أو في أيِّ كتاب وجده؟! فإنّ الناس كلّهم رووا خلافه.
قال الواقدي - من طرق مختلفة - ، وغيره : إنّ الحكم بن أبي العاص
ص: 432
لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى الطائف ، وقال : لا يساكنني في بلد أبداً ؛ لأنّه كان يتظاهر بعداوة رسول اللّه والوقيعة فيه ، حتّى بلغ به الأمر إلى أنّه كان يعيب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في مشيه ، فطرده النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأبعده ولعنه ، ولم يبق أحد يعرفه إلاّ بأنّه طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فجاء عثمان إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وكلّمه فيه فأبى ، ثمّ جاء إلى أبي بكر وعمر في زمن ولايتهما فكلّمهما فيه ، فأغلظا عليه القول وزبراه ؛ وقال له عمر : يخرجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وتأمرني أن أُدخله؟! واللّهِ لو أدخلته لم آمن من قول قائل : غيّر عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)! وكيف أُخالف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟! فإيّاك يا ابن عفّان أن تعاودني فيه بعد اليوم!
فكيف يحسن من القاضي هذا العذر؟!
وهلاّ اعتذر به عثمان عند أبي بكر وعمر وسلِم من تهجينهما إيّاه ، وخلص من عتابهما عليه؟!
مع أنّه لمّا ردّه جاءه عليٌّ (عليه السلام) وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف وعمار بن ياسر ، فقالوا : إنّك أدخلت الحكم ومن معه ، وقد كان النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخرجهم ، وإنّا نذكّرك اللّهَ والإسلامَ ومعادَكَ ، فإنّ لك معاداً ومنقلباً ، وقد أبت ذلك الولاة قبلك ، ولم يطمع أحدٌ أن يكلِّمهما فيهم ، وهذا شيء نخاف اللّه فيه عليك.
فقال عثمان : إنّ قرابتهم منّي ما تعلمون ، وقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخرجه لكلمة بلغته عن الحكم ، ولن يضرّكم مكانهم شيئاً ، وفي الناس من هو شرٌّ منهم.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا أحد شرٌّ منه ولا منهم.
ص: 433
ثمّ قال : هل تعلم عمر يقول : واللّه ليحملنّ بني أبي مُعَيط على رقاب الناس ، واللّه لئن فعل ليقتلنّه؟!
فقال عثمان : ما كان منكم أحدٌ ليكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه ، وينال في المقدرة ما نلتُ ، إلاّ كان سيدخله ، وفي الناس من هو شرٌّ منه.
فغضب عليٌّ وقال : واللّه لتأتينا بشرّ من هذا إن سَلمتَ ، وسترى يا عثمان غِبّ (1) ما تفعل (2).
فهلاّ اعتذر عند عليّ ومَن معه بما اعتذر به القاضي؟!
* * *
ص: 434
وقال الفضل (1) :
روى أرباب «الصحاح» ، أنّ عثمان لمّا قيل له : لِمَ أدخلت الحكم بن أبي العاص؟!
قال : استأذنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في إدخاله فأذن لي ، وذكرتُ ذلك لأبي بكر وعمر فلم يصدّقاني ، فلمّا صرت والياً عملتُ بعلمي في إعادتهم إلى المدينة (2).
وهذا مذكور في «الصحاح».
وإنكار هذا النقل من قاضي القضاة (3) ، إنكارٌ باطلٌ لا يوافقه نقلُ «الصحاح».
ويؤيّد هذا ما ذكر في «الصحاح» ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر يوم الفتح بقتل عبد اللّه بن أبي سرح ، فجاء عثمان واستأمن منه فلم يؤمّنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأتى من اليمين واليسار والقدّام والخلف ، وفي كلّ هذه المرّات كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يقبل منه ، وهو يبالغ ، حتّى قبل في آخر الأمر (4).
ص: 435
وكان هذا من حرص عثمان على صلة الرحم.
فإذا صحّ الخبرُ أنّه استأذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في إدخال الحكم بن أبي العاص ، وأدخله بعلمه بإذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلا مخالفة ولا طعن.
* * *
ص: 436
لا أثر لهذا الخبر في «صحاحهم» بحسب التتبّع ، ولم أجد من نقله عنها.
ولو كان موجوداً فيها فلِمَ لَم يعيّن الكتابَ ومحلَّ ذِكره منه بعد إنكار المرتضى (رحمه اللّه) ، حتّى لا يحتاج إلى التأييد بذِكر الخبر المتعلّق بابن أبي سرح (1).
ولو سُلّم وجوده فيها أو في غيرها ، فعلى القوم أن يكذّبوا عثمان تبعاً للشيخين ؛ لأنّهما أعرفُ به ، أو يكذّبوا الخبر ؛ لأنّ عثمان عدلٌ عند الشيخين ، فكيف لا يصدّقانه؟!
ولأنّه يلزم منه الطعنُ على عمر ، حيثُ لم يصدّق عثمان في هذا الأمر اليسير ويؤهّله في الشورى للأمر الخطير!
على أنّه كيف يُتصوّر أن ياذن النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لعثمان في إدخاله ، ولا يدخله ولا يخبر أحداً بإذنه له إلى أن يتوفّى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد كان عثمان بذلك الحرص على إدخاله؟!
فإن قلتَ : لعلّ إذن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حال شدّة مرضه بحيثُ لا يسعُ الوقتُ إدخاله ، ولا يتحمّل المجال الإخبار بالإذن ؛ إذ لا هَمّ للناس إلاّ تعرُّف حال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لشدّة مرضه والوجل عليه.
قلتُ : لو اتّجه هذا الاحتمالُ ، فللمعارض أن يجيب بما قال عمر :
ص: 437
«إنّ النبيّ - وحاشاه - يهجرُ» (1)!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فتلك الروايةُ على تقدير وجودها معارَضةٌ بالروايات التي ذكرها المصنّف (رحمه اللّه) ، الدالّة على عدم استئذانه من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وعدم إذنه أصلا ، وهي أكثر.
وقال في «العقد الفريد» (2) : «لمّا ردّ عثمان الحكم بن أبي العاص طريدَ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وطريدَ أبي بكر وعمر إلى المدينة ، تكلّم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس منّي؟! إنّي وصلت رحماً ، وأقررتُ عيناً!».
فإنّه لو كان عذرُ عثمان إذنَ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له لَذَكرَه!
وبالجملة : إنّا رأينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) طرد الحكم وحرّم دخوله المدينة ، فكلّ مَن خالفه مطعونٌ فيه حتّى يقيم العذر والحجّة ، ولا حجّة لعثمان بالضرورة ؛ ولذا فشا الطعن عليه بين الصحابة من حين إدخاله إلى المدينة إلى أن قُتل عثمان.
وهو بإدخاله له قد خالف سيرة الشيخين قبله ، فينبغي أن يقول أهل السنة بسقوطه عن الخلافة ؛ لمخالفته - بذلك - لشرط عبد الرحمن ؛ فإنّه بايعه على أن يسير بسيرتهما (3).
ولو سُلّم إذن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له وتحقّق العذر له ، فلا ريب أنّ الحَكَم من أعداء اللّه وأعداء رسوله ، حتّى لعنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومَن يخرج مِن
ص: 438
صلبه إلى يوم القيامة ، كما استفاض في أخبار الفريقين (1) ، حتّى روى في «الاستيعاب» لَعْنَ النبيِّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له من طريقين (2) ، وذكر أنّ عبد الرحمن ابن حسّان بن ثابت (3) قال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه [من الكامل] :
إنّ اللعينَ أبوك فارمِ عظامَه *** إنْ تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجاً (4) مجنونا
يُمسي خميصَ البطنِ من عمل التُقى *** ويظلُّ من عمل الخبيثِ بطينا (5)
فكان اللازم على عثمان أن يعاديه بعداوة اللّه ورسوله ، وأن يعادي ابن أبي سرح ولا يؤويه يوم الفتح بعدما أهدر النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) دمه ، إذ
ص: 439
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ) (1) ، لا أنّه يحرص على أمان ابن أبي سرح ، وعلى الإذن للحكم ، ثمّ يدخله المدينة ، ويعزّه ويفضّله في الإكرام والعطاء على وجوه المهاجرين والأنصار ..
فقد كان لا يجلسُ معه على سريره إلاّ أربعةٌ ، أحدُهم الحَكمُ ، كما ذكرناه في البحث السابق (2).
وأعطاه مئة ألف ..
قال في «العقد الفريد» (3) : «وممّا نقمَ الناسُ على عثمانَ أنّه آوى طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحكمَ بن أبي العاص ، ولم يُؤوه أبو بكر و [لا] عمر ، وأعطاه مئة ألف».
ومثله في «شرح النهج» (4).
ثمّ جعل بطانته وخاصّته الخصيصة ابنه مروان ، اللعين في صلب أبيه ، وولاّه زمام أمر المسلمين ، ووهبه ما لا يُعَد من أموالهم ، وقدّمه على وجوه الصحابة (5).
* * *
ص: 440
قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :
ومنها : إنّه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي اعتُدت للمسلمين ..
دفع إلى أربعة من قريش وزوّجهم ببناته أربعمئة ألف دينار (2).
وأعطى مروان مئة ألف دينار (3).
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه ربّما كان من ماله (4).
اعترضه المرتضى (رحمه اللّه) ، بأنّ المنقول خلاف ذلك ، فقد روى الواقديُّ أنّ عثمان قال : «إنّ أبا بكر وعمر كانا يتأوّلان من هذا المال [ظَلَْفَ (5)] ذوي أرحامهما ، وإنّي تأوّلتُ منه صلة رحمي» (6).
ص: 441
وروى الواقديُّ ، أنّه بعث إليه أبو موسى الأشعري بمال عظيم من البصرة ، فقسّمه عثمان بين وُلده وأهله بالصِّحاف (1).
وروى الواقديُّ - أيضاً - ، قال : قدمت إبل من إبل الصدقة ، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص (2).
وولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ، ثلاثمئة ألف ، فوهبها له (3).
وأنكر الناس على عثمان إعطائه سعيد بن العاص مئة ألف (4).
ص: 442
وقال الفضل (1) :
لا خلاف بين المسلمين أنّ عثمان كان صاحب أموال كثيرة ، حتّى جهّز ثلثَ جيش العسرة في زمن رسول اللّه (2) ، وكان ذلك زمن الضيق والشدّةِ ، ولم يتّسع الأموال بعد.
فلمّا اتّسع الأموالُ ، فلا شكّ أنّ المرء العالم بتحصيل الأموال - سيّما إذا استُخلِف - تزيد أمواله بالتجارات والمعاملات.
فربّما كان من ماله ما أعطى أقرباءه ، كما أجاب قاضي القضاة.
ومَن كان يفرّق بين أمواله وأموال الفيء؟! لأنّ كلَّ هذا كان تحت يده.
أكان المرتضى وابن المطهّر من حسّاب أمواله ومن خزّانها ، حتّى يعلموا أنّه أعطى من ماله أو من مال الفيء؟!
والأصل أن يُحمل أعمال الخلفاء الراشدين على الصواب ، فالأصل أنّه أعطى من ماله ، فلا طعن.
وإن فرضنا أنّه أعطى من مال الصدقات ، فربّما كان لمصالح لا يعلمُه إلاّ هو ، كما أعطى رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أشراف العرب من غنائم حنين
ص: 443
ذكر الفضل هنا أُموراً أشبه بالخيالات والخرافات ..
الأوّل : زعم أنّه جهّز ثلثَ جيش العسرة ، وهو قد روى سابقاً أنّه تبرّع بستّمئة بعير (1) ، فكيف تكون الستّمئة ثلث جهاز الجيش البالغ خمسة وعشرين ألفاً ، كما ذكره المؤرّخون (2)؟! اللّهم إلاّ أن يكون الاختلاف بلحاظ اختلاف أخبارهم!
وليت شعري ، مَن تسمح نفسه بذلك المقدار الكثير - كيفما بلغ - ، كيف أشفق مِن تقديم صدقة النجوى الواجبة القليلة (3)؟!
وكيف يجتمع لمن يكون بهذا الكرم ، تلك الأموال العظيمة التي يعطي منها أقاربه تلكَ العطايا الجسيمة؟!
الثاني : زعم أنّ العالِم بتحصيل الأموال - لا سيّما إذا استُخلِف - تزيد أمواله بالتجارة ، وهو خلاف الضرورة ؛ لأنّ الخليفة يشتغل بأُمور الناس والإسلام عن التجارة.
وقد رووا - كما مرّ - أنّ أبا بكر لمّا استُخلِف اشتغل عن التجارة
ص: 445
واستنفق من بيت المال (1) ؛ فكيف يقوم عثمان بأُمور الخلافة مع اتّساع المملكة أضعافاً كثيرةً ، ويتّجر بأمواله التي بعضها تلك العطايا؟!
ولكن قد يوجّه بما سيأتي عن «السيرة الحلبية» ، من أنّ عثمان منع أن يشتري أحدٌ قبل وكيله ، وأن تسير سفينة في غير تجارته (2)!
فإنّه على هذا لا تحتاج تجارته وزيادة أمواله إلى صرف وقت كثير ؛ لاستعانته بالوكلاء والاحتكار!
ويشكل : بأنّه مع هذا الجور والنهمة في جمع المال ، يمتنع أن يعطي عثمان من أمواله تلك العطايا ويده مبسوطة على مال المسلمين ، فيبطل قول الفضل : «فربّما كان من ماله ما أعطى أقرباءه».
على أنّه لو كان من أهل العطاء لهم من ماله ، لأعطاهم قبل أن يستخلف بعض هذه العطايا ؛ ولم يحكِه التاريخ أصلا!
الثالث : قوله : «ومَن كان يفرّق بين أمواله وأموال الفيء ...» إلى آخره ..
فإنّ الفرق واضح لكلِّ أحد ؛ لأنّ لبيت المال خزّاناً مخصوصين.
نعم ، لا فرقَ بينهما في أيّام معاوية إلى قرون من الهجرة ؛ لأنّهم اتّخذوا مال اللّه من أملاكهم ، وصرفوه في شهواتهم ومصالح دنياهم.
وأظرفُ من هذا قوله : «أكان المرتضى وابن المطهّر من حسّاب أمواله ...» إلى آخره ..
فإنّهما استدلاّ على ذلك بأخبارهم المصرّحة بهبته لهم مال البصرة
ص: 446
وإبل الصدقة وصدقات قضاعة ، ونحوها ، كخمس إفريقية وغيره ، ممّا سيمرّ عليك ، ولم يتكلّما بالتخمين ، كالقاضي (1) وهذا القائل.
على أنّ المرتضى وابن المطهّر لم يختصّا بهذا الطعن ، بل طعن به قبلهم عامّةُ الصحابة ؛ لِما شاهدوه من إعطاء عثمان أقاربه من بيت المال.
أيظنّ الفضلُ أنّ الصحابةَ كلَّهم فسقةٌ يطعنون بما لا يشهدون ولا يعلمون؟!
ومنه يعلم ما في قوله : «والأصل أن يُحمل أعمال الخلفاء الراشدين ...» إلى آخره ؛ إذ لا مورد للأصل مع الدليل واليقين ، مع أنّ الأصل هو ذلك في أعمال الخلفاء الراشدين ، وكلامنا في أنّ عثمان منهم.
الرابع : قوله : «وإن فرضنا أنّه أعطى من مال الصدقات ، فربّما كان لمصالح لا يعلمه إلاّ هو ، كما أعطى رسول اللّه ...» إلى آخره ..
فإنّ وجه الحكمة لا يمكن أن يخفى - حتّى الآن - بحيث لا يدركه أحدٌ ممّن شاهد الحال أو تأخّرَ ، ولا اعتذر به عثمان وأولياؤه لمّا كثر الطعن عليه.
والفرق بينه وبين إعطاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لأشراف العرب ظاهر ؛ فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد قصد تأليف المنافقين ، وعُلم من حاله ، وصرّح به (2).
ص: 447
ولعلّ الخصم يرى أنّ بني أُميّة - ومنهم بطانة عثمان وعمّاله في أعظم بلاد الإسلام - كانوا منافقين ، وملّكهم مالَ اللّه ورقابَ عباده تأليفاً لهم ، حتّى تحمّل الأذى والضرّ والقتل في سبيل تأليفهم ؛ فانظر واعتبر!
هذا ، ولنُضِفْ إلى ما ذكره المرتضى (رحمه اللّه) من الأخبار ما اطّلعنا عليه من روايات القوم ..
قال الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» ، في الخلاف التاسع : «أخذوا عليه أحداثاً ، منها : ردُّه الحكمَ إلى المدينة بعد أن طرده النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان يسمّى طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بعد أن تشفّع إلى أبي بكر وعمر فما أجاباه ، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً ..
ومنها : نفيه أبا ذرّ إلى الربذة ..
وتزويجه مروانَ بن الحكم بنته ، وتسليمه خمس غنائم إفريقية ، وقد بلغ مئتي ألف دينار ..
ومنها : إيواؤه ابنَ أبي سرح بعد أن أهدر النبيُّ دمه ، وتوليته إيّاه مصر بأعمالها ..
وتوليته عبد اللّه بن عامر البصرة حتّى أحدث فيها ما أحدث ..
.. إلى غير ذلك مما نقموا عليه» (1).
وقال في «العقد الفريد» (2) : «وممّا نقم الناسُ على عثمان أنّه آوى
ص: 448
طريدَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحكمَ بن أبي العاص ولم يؤوِه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مئة ألف ..
وسيّر أبا ذرّ إلى الربذة ..
وسيّر عامرَ بن عبد قيس من البصرة إلى الشام ..
وطلب منه عبد اللّه بن خالد بن أسيد صلةً ، فأعطاه أربعمئة ألف ..
وتصدّق رسولُ اللّه بمهزور (1) - موضع سوق بالمدينة - على المسلمين ، فأقطعها الحارثَ بن الحكم أخا مروان ..
وأقطع مروان فدك ، وهي صدقة لرسول اللّه ..
وافتتح إفريقية ، وأخذ خمسها فوهبه لمروان».
وقال ابن الأثير في «الكامل» (2) ، عند ذِكر ولاية ابن أبي سرح : «كان قد أمره عثمان بغزو إفريقية سنة 25 ، وقال له عثمان : إنْ فتح اللّه عليك فلك من الفيء خمسُ الخمس نفلا - إلى أن قال : - ثمّ إنّ عبد اللّه بن سعد عاد من إفريقية إلى مصر ... وحمل خمس إفريقية إلى المدينة ، فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمئة ألف دينار ، فوضعها عنه عثمان ، وكان هذا ممّا أُخذَ عليه.
وهذا أحسنُ ما قيل في خمس إفريقية ، فإنّ بعض الناس يقول : أعطى عثمانُ خمسَ إفريقية عبد اللّه بن سعد ، وبعضهم يقول : أعطاه
ص: 449
مروانَ بن الحكم ، وظهر أنّه أعطى عبد اللّه خمسَ الغزوة الأُولى ، وأعطى مروانَ خمسَ الغزوة الثانية التي فُتحت فيها جميع إفريقية».
وذكر الطبريُّ في «تأريخه» (1) قصّة إعطاء عثمان خمسَ الخمس لعبد اللّه ، ثمّ ذكر أنّ الذي صالحهم عليه عبد اللّه ثلاثمئة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم.
وروى - أيضاً (2) - أنّه «قدمت إبلٌ من إبل الصدقة على عثمان ، فوهبها لبعض بني الحكم ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف ، فأرسل إلى المِسْوَر وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، فأخذاها ، فقسّمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار».
وقال في «السيرة الحلبية» ، عند بيان فتنة قتل عثمان (3) : «وسببُ هذه الفتنة أنّهم نقموا عليه أُموراً ..
منها : عزلهُ لأكابر الصحابة ممّن ولاّه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنهم من أوصى عمر بأن يبقى على ولايته ، وهو أبو موسى ، فعزله عثمان وولّى ابن خاله عبد اللّه بن عامر محلّه.
وعزلَ عمرو بن العاص عن مصر ، وولاّها ابن أبي سرح.
وعزلَ المغيرة عن الكوفة ، وعزل ابن مسعود عنها - أيضاً - وأشخصه إلى المدينة.
وعزلَ سعد بن أبي وقّاص عن الكوفة ، وولاّها أخاه لأُمّه الوليد بن
ص: 450
عقبة ، الذي سمّاه اللّه تعالى فاسقاً (1) ، وصار الناس يقولون : بئس ما صنع ، عزل الليّن الهيّن الورع ، وولّى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر.
ولعلّ مستندهم في ذلك ما رواه الحاكم في صحيحه : مَن ولّى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة مَن هو أرضى لله منه ، فقد خان اللّه ورسوله والمؤمنين (2).
ومنها : إنّه أدخل عمّه الحكَمَ [المدينة] ، وكان يقال له : طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولعينه ، وقد كان (صلى اللّه عليه وآله وسلم) طرده إلى الطائف ، ومكث به مدّة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومدّة أبي بكر ، بعد أن سأله عثمانُ في إدخاله المدينة [فأبى] ، فقال له عثمان : عمّي! قال : عمّك إلى النار ، هيهات هيهات أن أُغيّر شيئاً فعله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فلمّا تُوفّي أبو بكر وولي عمر ، كلّمه عثمان [في ذلك] ، قال له : ويحك يا عثمان! تتكلّم في لعين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وطريده ، وعدوِّ اللّه وعدوِّ رسوله؟!
فلمّا ولي عثمان ردّه إلى المدينة ، فاشتدّ ذلك على المهاجرين والأنصار ، فأنكر ذلك عليه أعيانُ الصحابة ، فكان من أكبر الأسباب على القيام عليه ...
إلى أن قال : ومن جملة ما انتُقمَ (3) به على عثمان ، أنّه أعطى ابنَ عمه مروانَ مئةَ ألف وخُمس إفريقية.
وأعطى الحارثَ عُشرَ ما يباع في سوق المدينة.
ص: 451
وأنّه جاء إليه أبو موسى بحلية ذهب وفضّة ، فقسّمها بين نسائه وبناته.
وأنّه أنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره.
وأنّه حَمى لنفسه دون إبل الصدقة.
وأنّه حبس عطاء عبد اللّه بن مسعود وهجره.
وحبس عطاء أُبَيّ بن كعب.
ونفى أبا ذرّ إلى الربذة.
وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لمّا شكاه معاوية.
وضرب عمّار بن ياسر.
وكعب بن عبيدة ، ضربه عشرين سوطاً ، ونفاه إلى بعض الجبال.
وقال لابن عوف : إنّك منافقٌ.
وأنّه أقطعَ أكثر أراضي بيت المال.
وأمر أن لا يشتري أحدٌ قبل وكيله.
وأن لا تسير سفينةٌ في البحر إلاّ في تجارته.
وأنّه أحرق الصحف التي فيها القرآن.
وأنّه أتمّ الصلاة بمنى ولم يُقصّرها لمّا حجّ بالناس.
وأنّه ترك قتل عبيد اللّه وقد قتل الهُرمزان».
وذكر هذا كلّه في «الصواعق» ، في آخر كلامه بخلافة عثمان (1).
وقريبٌ منه في «شرح النهج» (2).
ص: 452
.. إلى غير ذلك ممّا رواه علماؤهم (1).
ومعه ، كيف يصحّ للفضل أن يقول : «ربّما كان من ماله ما أعطى أقرباءه»؟!
وقد أطلنا بنقل هذه الكلمات لفائدتها في ما يذكره المصنّف (رحمه اللّه) من مطاعن عثمان.
ص: 453
سبق من كلام علمائهم ما يُصرّح بأنّه حمى لنفسه (1).
وذكر ابن أبي الحديد (2) ، أنّ عثمان كان يحمي الشّرَف (3) لإبله ، وكانت ألف بعير ، ولإبل الحكَم بن أبي العاص ..
ويحمي الربذة لإبل الصدقة ..
ويحمي النقيع (4) لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أُميّة.
ولو سُلّم أنّه إنّما حمى لإبل الصدقة ، فهو حرامٌ لغير رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لِما رواه البخاري (5) ، عن الصعب بن جَثّامة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا حمى إلاّ لله ورسوله.
ثمّ قال : «بلغنا أنّ النبيّ حمى النقيع ، وأنّ عمر حمى الشرف والربذة».
ص: 456
وأيضاً ، فقد جعل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين سواءً في الماء والكلأ (1) ، فلا يجوز لأحد أن يحمي الكلأ عن المسلمين ولو لإبل الصدقة.
فقول الفضل : «الحمى الذي منعه رسول اللّه ، هو أن يحمي الإمام لنفسه» ، تقييدٌ من غير دليل ، وما ادّعاه من الإجماع كاذبٌ لا مستندَ له إلاّ الهوى ونصرة المذهب.
نعم ، يجوز الحمى لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاصةً ؛ للخبر الأوّل (2) وغيره (3).
وممّا ذكرنا يُعلم أنّ الطعن واردٌ أيضاً على عمر ، فلا فائدة في ذِكر الفضل له إلاّ زياده الطعن على أئمته!
* * *
ص: 457
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :
ومنها : إنّه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلةَ وغيرهم (2) ، وهذا ممّا لا يجوز في الدين.
أجاب القاضي : يجوز أن يكون قد اجتهد (3).
واعترضه المرتضى (رحمه اللّه) بأنّ المال الذي جعل اللّه له جهةً مخصوصةً لا يجوز أن يُعدَل به عن جهته بالاجتهاد.
ولو جاز ، لبيّنه اللّه تعالى لنبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه أعلمُ بمصالح العباد (4).
ص: 458
وقال الفضل (1) :
إنْ صحَّ الرواية ، فلا شكّ أنّه عمل فيها بالاجتهاد ، كما أجاب قاضي القضاة.
واعتراض المرتضى مندفعٌ ؛ بأنّ التغيير لا يجوز بالاجتهاد في غير محلِّ الضرورة ، كما فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في غنائم حنين.
وأيضاً ، ربّما كان عثمان سمع جوازه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فيكون عاملا بعلمه البيّن عنده ، ويكون حجّته في العمل.
* * *
ص: 459
تشكيكه في صحّة الرواية ليس في محلّه ؛ فإنّ القاضي أعلم منه بالأخبار ولم يناقش في صحّتها ، بل ظاهره تسليمُ الصحّة ، كما لا يخفى على من راجع كلامه المحكيّ في «شرح النهج» (1).
ودعوى الخصم جواز التغيير بالاجتهاد في محلِّ الضرورة ، صحيحة إنْ أراد التغيير في العمل ؛ للضرورة التي يباح معها فعل المحرّمات ، كأكل الميتة.
لكنّ زمن عثمان زمان السعة ، كما أقرّ به الخصم (2) ، ولذا أعطى أقرباءه ما أعطى.
وقوله : «كما فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في غنائم حنين» ..
قياسٌ مع الفارق ؛ فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما فضّل بعض المقاتلة على بعض بالغنائم ، ولم يعطهم من الصدقة ، وهذا لا ربط له بجعل المال المختصّ بجهة لغيرها.
وأمّا قوله : «ربّما كان عثمان سمع جوازه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» ..
فعذرٌ غيرُ مسموع ؛ إذ لا يصحُّ الاعتذار عن مخالفة الدليل إلاّ بإقامة دليل آخر ، وإلاّ لَما جازت مؤاخذة صحابيّ أو غيره بشيء يفعله ،
ص: 460
لجواز أن يكون سمع أو روى عن رسول اللّه جوازه ، ولو لنفسه خاصةً.
وحينئذ فَلِمَ لم يعذروا قتلة عثمان ، لجواز أن يكونوا سمعوا أو رووا جواز قتله أو وجوبه؟!
بل يمكن أن يعذر الصحابيُّ بشرب الخمر ، لجواز أنّه سمع من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تجويزه له خاصةً ؛ وهذا باللغو أشبه!
واعلم أنّ الصدقة الزكويّة يجوز أن يدفع منها سهم سبيل اللّه إلى الغزاة (1) ، فلا بُد أن يكون الكلام في صدقة مخصوصة بغيرهم ؛ ولذا احتاج القومُ إلى الجواب بأنّه يجوز التغيير بالاجتهاد ، ونحو ذلك.
هذا ، ولا يخفى أنّ عثمان قد أعطى من الغنيمة غير الغانمين والمقاتلين ، بعكس ما فعله هنا ، فطعن المصريّون عليه به أيضاً.
روى الطبريُّ في «تأريخه» (2) حديثاً احتجّ به المصريّون على عثمان ، وذكر فيه أنّهم أخذوه بأُمور ما عنده منها مخرج ، فعرفها ، فقال : «أستغفر اللّه وأتوب إليه ...
إلى أن قال : فقال لهم : ما تريدون؟
قالوا : نريد أن لا يأخذ أهل المدينة عطاءً ؛ فإنّ هذا المال لمن قاتل عليه ، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ...
إلى أن قال : فقام فخطب ، فقال : إنّي ما رأيتُ واللّه وفداً في الأرض
ص: 461
هم خير لحوْباتي (1) من هؤلاء الوفد ...
إلى أن قال : فغضب الناس وقالوا : هذا مكر بني أُميّة .. الحديث.
وإنّما ذكروا الشيوخ مع المقاتلة مع عدم قتالهم ؛ لرضا هؤلاء المقاتلة بمشاركتهم لهم في غنيمتهم ، وإباحتهم لهم من حقهم ، وإلاّ فهم لا يستحقّون منها بدون قتال.
* * *
ص: 462
قال المصنّف - رحمة اللّه عليه - (1) :
ومنها : إنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود حتّى كسر بعض أضلاعه.
وعَهِدَ عبد اللّه بن مسعود إلى عمّار أن لا يُصلّي عثمان عليه.
وعاده عثمان في مرض الموت ، فقال له : ما تشتكي؟
قال : ذنوبي.
قال : فما تشتهي؟
قال : رحمةَ ربي.
قال : ألا أدعو لك طبيباً؟
قال : الطبيب أمرضني.
قال : أفلا آمر لك بعطائك؟!
قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينيه وأنا مستغن عنه؟!
قال : يكون لولدك.
قال : رزقهم على اللّه تعالى.
قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.
قال : أسأل اللّه أن يأخذ لي منك حقّي (2).
ص: 463
وقال الفضل (1) :
ضربُ عثمان عبد اللّه بن مسعود ممّا لا رواية فيه أصلا إلاّ لأهل الرفض ، وأجمع الرواة من أهل السنة أنّ هذا كذبٌ وافتراء.
وكيف يضرب عثمانُ عبد اللّه بن مسعود وهو من أخصّ أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومن علمائهم؟!
نعم ، من جملة ما ذكره صحّ في «الصحاح» ، أنّ عبد اللّه بن مسعود لمّا مرض عاده عثمان فقال له : أجعلُ عطاءكَ بعدك لبناتك.
قال : لا حاجة لهنّ فيه علّمتهنَّ سورة الواقعة يقرأنها بعد العشاء ، وإنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «من قرأ سورة الواقعة بعد العشاء لم تصبه فاقة» (2).
ص: 464
من المسلّمات وجود الرواية عندهم بضربه لابن مسعود ، لكنّهم يتعلّلون عنها ببعض الأجوبة ؛ كمنع صحّتها ، وكون ضربه للتأديب ، ونحو ذلك.
قال نصيرُ الدين (رحمه اللّه) في «التجريد» : «ضرب ابن مسعود حتّى مات ، وأحرق مصحفه» (1).
وقال القوشجي في شرحه : «وأُجيب بأنّ ضربَ ابنِ مسعود إن صحّ فقد قيل : إنّه لمّا أراد عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد ويرفع الاختلاف بينهم في كتاب اللّه ، طلب مصحفه [منه] ، فأبى - إلى أن قال : - فأدّبه عثمان لينقاد ؛ ولا نسلّم أنّه مات من ذلك» (2).
وقال ابن أبي الحديد (3) : «الطعنُ السادس : إنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود حتّى كسر بعض أضلاعه.
قال قاضي القضاة : قال شيخنا أبو عليّ : لم يثبت عندنا ، ولا صحّ عندنا ما يقال من طعن عبد اللّه عليه ، وإكفاره له ، والذي يصحّ من ذلك أنّ عبد اللّه كره منه جمعَه الناسَ على قراءة زيد بن ثابت ، وإحراقه
ص: 465
المصاحف.
قال (1) : وقيل : إنّ بعض موالي عثمان ضربه لمّا سمع منه الوقيعة في عثمان.
ولو صحّ أنّه أمر بضربه ، لم يكن بأن يكون طعناً في عثمان بأَوْلى من أن يكون طعناً في ابن مسعود ؛ لأنّ للإمام تأديبَ غيره ، وليس لغيره الوقيعة فيه إلاّ بعد البيان».
ثمّ نقل ابن أبي الحديد عن المرتضى أنّه اعترض هذا الكلام ، فقال : «المعلوم المرويُّ خلاف ما ذكره ، ولا يختلف أهلُ النقل في طعن ابن مسعود على عثمان ، وقوله فيه أشدّ الأقوال وأعظمها ... وقد روى كلُّ من روى السيرة من أصحاب الحديث - على اختلاف طرقهم - أنّ ابن مسعود كان يقول : ليتني وعثمان برملِ عالج (2) ، يحثو علَيَّ وأحثو عليه حتّى يموتَ الأعجزُ منّي ومنه».
إلى أن قال المرتضى : «وقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة ، أنّه كان يقول : ما يزن عثمان عند اللّه جناح ذباب».
ثمّ ذكر المرتضى (رحمه اللّه) وصيّة عبد اللّه لعمّار أن لا يصلّي عليه عثمان ، وذكر عيادة عثمان لعبد اللّه وما قاله كلٌّ منهما للآخر بعين ما رواه المصنّف (رحمه اللّه) هنا.
إلى أن قال المرتضى : «فأمّا قوله : إنّ عثمان لم يضربه ، وإنّما ضربه
ص: 466
بعض مواليه لمّا سمع وقيعته فيه ..
فالأمر بخلاف ذلك ، وكلُّ مَن قرأ الأخبار عَلم أنّ عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه ، وبأمره جرى ما جرى عليه ، ولو لم يكن بأمره ورضاه ، لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه ، ويعتذر إلى من عاتبه على فعله».
ثمّ ذكر المرتضى (رحمه اللّه) كثيراً من الأخبار الدالّة على أنّه بأمره ، وقال : «وقد روى محمّد بن إسحاق ، عن محمّد بن كعب ، أنّ عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطاً في دفنه أبا ذرّ.
وهذه قصة أُخرى ...».
ثمّ قال : «فأمّا قوله : إنّ ذلك ليس بأن يكون طعناً في عثمان بأَوْلى من أن يكون طعناً في ابن مسعود ..
فواضح البطلان ؛ لأنّه لا خلاف بين الأُمّة في طهارة ابن مسعود ، وفضله ، وإيمانه ، ومدح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وثنائه عليه ، وأنّه مات على الجملة المحمودة منه ، وفي جميع هذا خلافٌ بين المسلمين في عثمان».
وأما قول القاضي : «للإمام تأديبُ غيره ، وليس لغيره الوقيعة فيه إلاّ بعد البيان» .. فتحكمٌ ظاهر!
وهل هو إلاّ فتحُ باب الجور لأئمّتهم ، وإطلاق عنان الهوى لهم ، مع علمهم بأنّ أكثرهم من الفاسقين؟!
ثمّ أيُّ بيان يُطلب أكثرُ من إحراق المصاحف الكريمة ، وهتك
ص: 467
حرمتها العظيمة ، وجمع الناس قهراً على قراءة شخص لم يتّفق عليها الصحابة ، ويرى بعضهم أنّ الصواب في خلافها؟!
وذكر ابن حجر في «الصواعق» ، في تتمّة خلافة عثمان ، أجوبة المطاعن عليه ، وأشار في أثنائها إلى رواية ضربه لابن مسعود ، فقال : «إنّ حبسه لعطاء ابن مسعود وهجره له ؛ فلِما بلغه عنه ممّا يوجب ذلك ، لا سيّما وكلٌّ منهما مجتهدٌ ، فلا يُعترض بما فعله أحدُهما مع الآخر.
نعم ، زعم أنّ عثمان أمر بضربه ، باطلٌ ، ولو فُرضت صحّته لم يكن بأعظم من ضرب عمر لسعد بن أبي وقّاص بالدرّة على رأسه ، حيث لم يقم له ، وقال له : إنّك لم تهب الخلافة ، فأردت أن تعرف أنّ الخلافة لا تهابك.
ولم يتغيّر سعد من ذلك ، فابن مسعود أَوْلى ؛ لأنّه كان يجيب عثمان بما لا يبقي له حرمةً ولا أُبّهةً أصلا.
بل رأى عمر أُبيّاً يمشي وخلفه جماعةٌ ، فعلاه بالدرّة وقال : إنّ هذا فتنةٌ لك ولهم ؛ فلم يتغيّر أُبَيّ.
على أنّ عثمان جاء لابن مسعود وبالغ في استرضائه ، فقيل : قبله واستغفر له ، وقيل : لا.
وكذلك ما وقع له مع أبي ذرّ ؛ فإنّه كان متجاسراً عليه بما يخرم أُبّهةَ ولايته ، فما فعله معه ومع غيره إنّما هو صيانةٌ لمنصب الشريعة وحمايةٌ لحرمة الدين» (1).
ص: 468
إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة في وجود الرواية عندهم بضرب عثمان لابن مسعود (1) ، وغايةُ ما عندهم التشكيك في صحّتها ، أو رميها بالبطلان!
ولا ريب بصحتها ؛ لموافقتها لأخبارنا (2) ؛ وللعلم الضروريّ بأنّهم إلى الستر على عثمان أميلُ.
فإذا وردت روايةٌ واحدةٌ عندهم - فضلا عن الروايات بضرب عثمان لابن مسعود - علمنا صحّتها.
هذا ، ولا شيء أعجب ممّا لفّقه ابن حجر في هذا الكلام ، فإنّ أُولئك الصحابة لم يتجاسروا على عثمان إلاّ لِما رأوه من إحداثه وعدم إقلاعه عنها ، وأكله وقومه المال بالباطل ، وتوليته مثل الوليد الفاسق وابن أبي سرح الفاجر على رقاب الأُمة ، وإحراقه المصاحف المحترمة ، إلى غير ذلك من أفعاله التي ما صان بها منصب الشريعة ، ولم يرع معها حرمة الدين ، ولم يبق لأجلها عند الصحابة محلٌّ لحمل عثمان على الصحّة ، أو حمله على الاجتهاد الذي زعمه ابنُ حجر.
أترى أنّ ابن حجر أعرفُ بعثمان واجتهاده الذي يعذر فيه ، من أبي ذرّ وعمّار وابن مسعود وسائر الصحابة والتابعين الّذين شاهدوا عثمان وأفعاله ، حتّى قُتل بينهم لأجلها وشاركوا في قتله؟!
ويشهد لِما قلنا ما رواه مسلم (3) ، عن شقيق ، عن أسُامة بن زيد ،
ص: 469
قال : «قيل له : ألا تدخلُ على عثمان فتكلّمه؟!» ..
وفي رواية : «عن أبي وائل ، قال : كنّا عند أُسامة ، فقال له رجلٌ : ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلّمه في ما يصنع؟!
فقال : أترون أنّي لا أُكلّمه إلاّ أُسمِعكم؟! واللّهِ لقد كلّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أُحبُّ أن أكون أوّل من فتحه.
ولا أقول لأحد يكون علَيَّ أميراً : إنّه خيرُ الناس ، بعدما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : يؤتى بالرجل يومَ القيامة فيلقى في النار فتندلق (1) أقتاب (2) بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى ، فيجتمع إليه أهلُ النار فيقولون : يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول : بلى ، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه».
ونحوه في «صحيح البخاري» ، في «كتاب بدء الخلق» (3) ، وفي كتاب «الفتن» (4) ، لكنّه لم يصرّح في المقامين باسم عثمان ؛ حفظاً لشأنه! وإنْ علم كلُّ أحد من الرواية أنّه المرادُ.
فإذا كان هذا رأيُ أُسامةَ وغيره في عثمان ، فكيف جاء ابنُ حجر بعد القرون المتطاولة وزعم اجتهاد عثمان ، وطلبه صيانة منصب الشريعة ، ورعاية حرمة الدين ، بهتك حرمة صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الأقربين ،
ص: 470
وتولية المردة الفاسقين ، وإعطائهم مال فقراء المسلمين ، مع أنّ أُولئك الصحابة لم يأتوا بشيء إلاّ أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وأن يتَّبع سبيل الرشاد؟!
وأما ما تعرّض له من ضرب عمر لسعد ، فلا فائدة به إلاّ إكثارُ الطعن على أئمّتهم ؛ ضرورة أنّ ضرب عمر لسعد - بمجرّد عدم قيامه له - حرامٌ خارجٌ عن حكم الشريعة.
وإلاّ فلو جاز ضربُ سعد لذلك ، لوجب قتلُ عمر في قوله : «إن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ليهجر» (1) حتّى سبب ضلالَ الأُمة إلى يوم الدين ، وفي جذبه لثوب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقيامه في صدره عندما أراد الصلاة على عبد اللّه ابن أُبَيّ (2).
فإنّ أُبّهة النبوّة فوق أُبّهة الخلافة بمراتب لا تُحصى ، وإساءةُ سعد دون إساءة عمر بجهات لا تستقصى!
وأما ضربُ عمر لأُبَيّ فأشنع من ضربه لسعد ، وقد كان يكفي عمر
ص: 471
نهيُ أُبَيّ عن عمله ، فإذا أبى ضربه لو جوّزناه له.
هذا ، وإنّ أعظم ما جاء به عثمان في أمر ابن مسعود ، إحراقه لمصحفه وسائر المصاحف ، كما رواه البخاريُّ (1) ؛ إذ لا شيء أعظم منه في الجرأة على اللّه ورسوله ، والاستخفاف بالكتاب العزيز ، والتمادي في الغيِّ.
فإنّه لو أراد - كما زعموا - تحصين القرآن وقطع الاختلاف فيه ، لاكتفى بمحو ما خالف المصحف الذي أمر بجمعه.
على أنّ الاختلاف الواقع إن كان في القراءات السبع ، فهو الذي طلبه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بحسب أخبارهم ، وأجابه اللّه سبحانه إليه وقال : «أيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» ، كما رواه مسلم (2).
فلا يجوز لعثمان المنع عنه ، فضلا عن إحراق ما اشتمل عليه!
وإنْ كان في غير السبع ، فقد كان الواجب على عثمان أن يخصّ المنع به ، ويجمع الناس على السبع لا على قراءة واحدة ، وهي قراءة أُبَيّ.
ولو رأيتَ ما ورد عندهم في قراءة ابن مسعود ، وأمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأخذ القرآن منه (3) ، لعرفتَ أنّ الحقّ مع ابن مسعود في الطعن على
ص: 472
عثمان وإكفاره.
* * *
ص: 473
قال المصنّف - عطّر اللّه مرقده - (1) :
ومنها : إنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود على دفن أبي ذرّ أربعين سوطاً (2) ..
لأنّ أبا ذرّ لمّا مات بالربذة وليس معه إلاّ امرأته وغلامه ، وعهد إليهما أن غسّلاني وكفّناني ، ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمرّون بكم قولوا : هذا أبو ذرّ صاحبُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعينونا على دفنه.
فلمّا مات فعلوا ذلك ، وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين ، فلم يَرُعْهم إلاّ الجنازةُ على قارعة الطريق ، وقد كادت الإبلُ أن تطأها ، فقام إليهم العبدُ فقال : هذا أبو ذرّ صاحبُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعينونا على دفنه.
فقال ابن مسعود : صدق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال له : تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك.
ثمّ نزل هو وأصحابه ووارَوه (3).
ص: 474
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من ضرب عثمان ابن مسعود لدفنه أبا ذرّ ، فباطلٌ بيّن البطلان ؛ لأنّ السفهة من المغول والتركمان ، والأجلاف من الأعراب والأكراد ، لا يضربون أحداً من الناس للإعانة على دفن يهوديّ ، فكيف برجل يسلّمون أنّه من أصحاب الرأي ، حتّى سلّمه عمرُ ورآه أهلا للشورى في الخلافة؟!
هل من شأنه أن يضرب رجلا من مفتي الصحابة وعلمائهم وقرّائهم وصاحب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن قدماء المهاجرين ، ومصلّي القبلتين ، وصاحب الهجرة ، ومن أهل بدر ، وكان سببُ الضرب أنّك دفنت رجلا من أعدائي ، إن صحّت الرواية؟!
فهذا كلامٌ لو سمعه العالم بالأخبار للعنَ على المفتري كما يلعنُ مسيلمة الكذّاب.
ثمّ ما رواه من قصّة أبي ذرّ ، فباطلٌ مخالفٌ للنصوص من أهل التاريخ ، فقد ذكر جميع أرباب التواريخ في موت أبي ذرّ : «أنّه لمّا مرض بالربذة ، وكان أيّام الحجّ ، بكت امرأته ، فقال أبو ذرّ : ما يُبكيك؟!
قالت : إنّك تموت ، ولا بُد أن ندفنك ، وليس لك ثوبٌ تكفّن فيه.
فقال أبو ذرّ : لا تبكي! فإنّي سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّك تموت بأرض فلاة وحدك ، ويحضر موتك فئة من الناس يحبّهم اللّه
ص: 475
تعالى.
إذ كما قال : فقومي وانظري هل ترين أحداً؟ فقامت وصعدت تَلعةً (1) كانت هناك ، فرأت جماعة على المطايا تسير بهم كالنسور ، فلوّحت بثوبها ، فطاروا إليها ، فقالوا : هل لك حاجة؟
فقالت : هل لكم في أبي ذرّ صاحب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يموت.
ففدوه بآبائهم وأُمّهاتهم ، وكان في الركب مالك بن الحارث الأشتر ، فلمّا حضروا عنده قال : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عهد إليّ أنّي أموت بأرض فلاة ، يحضرني فئةٌ يحبّهم اللّه تعالى ، فأبشروا أنّكم حضرتم.
ثمّ قال : أيّكم لم يُولّ شيئاً من الإمارة والجباية ، أو شيئاً من أُمور الولاية؟
ولم يكن في القوم أحدٌ إلاّ وقد تولّى بعض ذلك ، ما خلا شابّاً قال : أنا ما وليتُ شيئاً ممّا ذكرتَ.
قال : فأنت كفنّي بثوبك.
فمات ، وكفنوه ودفنوه» (2).
هذا حكاية موت أبي ذرّ ، وذكره جميع أرباب التواريخ ، ولم يذكر أحدٌ أنّ عبد اللّه بن مسعود حضر موته ولا دفنه ، فهذا من مفتريات الرفضة ، عصمنا اللّه عن الكذب والعصبيّة.
ص: 476
سبق في المبحث السابق نقل ضرب ابن مسعود لدفنه أبا ذرّ (رضي اللّه عنه) عن محمّد بن إسحاق (1).
وأمّا استبعاد الخصم له فليس في محلّه ؛ فإنّ هذا ونحوه غيرُ بعيد من الأعداء ؛ لأنّ الأُمويّين - الّذين مدحهم الخصمُ سابقاً بالرشد والنجابة - لمّا قتلوا حُجراً وأصحابه - وهم من خيار المؤمنين وعباد اللّه الصالحين - حملوا رؤوسهم إلى الشام (2).
ولمّا توفّي أميرُ المؤمنين وأخو النبي الأمين ، لعنوه - لعنهم اللّه - على منابرهم سنين متطاولة (3).
ص: 477
ولمّا قتلوا سيّد شباب أهل الجنّة ، داسوا بخيولهم صدره وظهره ، وتركوه وأصحابه منبوذين بالعراء بلا دفن ، وسيّروا رؤوسهم إلى الشام ، وسبوا نساء الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) سبي الترك والديلم (1).
وأيضاً : فإنّ المسلمين ألقوا عثمان بعد قتله على المزبلة ثلاثة أيّام ، وأرادوا منع دفنه ، كما في «الاستيعاب» وغيره (2).
وتتبّع العبّاسيّون قبور الأُمويّين ونبشوها وأحرقوا ما وجدوا بها من عظامهم المسودّة (3).
إلى غير ذلك ممّا امتلأت به صفحات التاريخ من أفعال الأعداء بأعدائهم (4).
ص: 478
فكيف يُستبعد ذلك من عثمان وحمقه الذي أرداه وأورده القتل؟!
وأمّا جعل عمر له في الشورى ، فليس لحسن رأيه فيه ، كيف وهو قد تفرّس فيه أنّه يحمل أقرباءه على رقاب الناس ، وأنّه يُقتل لذلك (1)؟! ..
بل لسعي عمر في توهين الإمام الحق ، وصرف الأمر عنه بطريق لا يُنتقد في الظاهر عليه!
ثمّ إنّ الخصم إنّما أنكر الرواية التي نقلها المصنّف (رحمه اللّه) ، وصحّح غيرها ؛ طلباً لدفع الطعن عن عثمان بضربه لابن مسعود على دفن أبي ذرّ ، وما درى أنّه كالمستجير من الرمضاء بالنار ؛ فإنّ الرواية التي اختارها قد اشتملت على أنواع المطاعن ..
منها : دلالتها على فقر أبي ذرّ بحيث لا كفن له ، مع ملاءة بيت المال وإسراف عثمان وبني أُميّة فيه ، ودلالتها على غربته وأهله وشدّة محنة زوجته بحيث لا أنيس ولا معين ، وكلُّ ذلك بسبب عثمان.
فهل ترى أنّ اللّه سبحانه أحلّ ماله للوزغ الطريد وأبنائه ، وحرّمه على أبي ذرّ وأهله؟!
ومنها : إنّ قول أبي ذرّ : «أيّكم لم يُولّ شيئاً من الإمارة أو الجباية أو شيئاً من أُمور الولاية» ، دليلٌ على جور أُولئك الولاة ، وبطلان تلك الولايات ، وأنّ أُجورهم على الولاية حرامٌ ، وأموالهم من أموال الظلمة ،
ص: 479
فتبطل إمامة عثمان وأمثاله!
أترى أنّ أبا ذرّ يمتنع أن يكفَّن من أموالهم لو كانوا ولاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
وفي خبر آخر ذكره في «الاستيعاب» بترجمة أبي ذرّ : «أنشدكم أن لا يكفّنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً (1) أو بريداً (2) أو نقيباً» (3).
ومثله في «مستدرك الحاكم» من طريقين ، في مناقب أبي ذرّ (4).
ومنها : إنّ تلك الرواية صرّحت بأنّ أُولئك الركب ممّن يُحبّهم اللّه تعالى ، وبأنّ الأشتر منهم (5).
كما صرّحت بأنّ الأشتر وحُجراً منهم إحدى روايتي الحاكم (6).
فيكون الأشتر ممّن شهد له النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ اللّه يحبّه.
وأنت تعلم كيف كان اعتقاده بعثمان وحاله معه ؛ فإنّه كان يراه مهدور الدم ، حتّى كان أعظم المجلبين عليه ، وأكبر المسببين لقتله ، بل قيل إنّه هو الذي قتله (7).
كما إنّ حُجراً ممّن باشر قتله ، فطعنه تسع طعنات ، كما سيأتي إن
ص: 480
شاء اللّه.
فكيف يجتمع حبُّ اللّهِ لقاتل عثمان ، مع القول بإمامته وظلم قاتليه؟!
وقال ابن الأثير في «كامله» ، في حوادث سنة 32 (1) : «وفيها مات أبو ذرّ ، وكان قال لابنته : استشرفي هل تريْنَ أحداً؟ قالت : لا ؛ قال : فما جاءت ساعتي بعد - إلى أن قال : - إنّه سيشهدني قومٌ صالحون.
ونحوه في «تاريخ الطبري» (2).
ثمّ قال ابنُ الأثير : «وكان الّذين شهدوه : ابن مسعود ... وعلقمة بن قيس ومالك الأشتر ، النخعيّين» ، وعَد جماعة (3).
وروى أحمد في «مسنده» (4) ، والحاكم في إحدى روايتيه - المشار إليهما - ، وابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، أنّ أبا ذرّ قال : «إنّي سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول لنفر أنا منهم : ليموتنَّ رجلٌ منكم بفلاة من الأرض ، يشهده عصابةٌ من المؤمنين».
ومثله في «كنز العمّال» (5) ، عن ابن سعد ، وابن حبّان في «صحيحه» ، والضياء في «المختارة».
ص: 481
وروى في «الاستيعاب» من حديث آخر ، أنّه «صلّى عليه عبد اللّه بن مسعود ، صادفه وهو مقبلٌ من الكوفة مع نفر فضلاء من الصحابة ، منهم : حُجر بن الأدبر ، ومالك بن الحارث الأشتر» (1).
قال ابن أبي الحديد (2) - بعد نقل الحديثين المذكورين عن «الاستيعاب» - : «قلت : حُجر بن الأدْبَر ، [هو حُجْر بن عَدِيّ] الذي قتله معاوية ، وهو من أعلام الشيعة وعظمائها.
وأمّا الأشتر ، فهو أشهر في الشيعة من أبي الهُذَيل في المعتزلة.
قُرئ كتاب (الاستيعاب) على شيخنا عبد الوهّاب بن سُكَينة (3) المحدِّث - وأنا حاضرٌ - ، فلمّا انتهى القارئ إلى هذا الخبر ، قال أُستاذي عمرُ بن عبد اللّه الدبّاس - وكنت أحضرُ معه سماع الحديث - : «لِتقُل الشيعة بعد هذا ما شاءت ، فما قال المرتضى والمفيد إلاّ بعض ما كان حُجر والأشتر يعتقدانه في عثمان ومَن تقدّمه!
فأشار الشيخ إليه بالسكوت ، فسكت» ؛ انتهى.
ومن العجب أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يشهد للأشتر ، بالإيمان والصلاح وحبّ
ص: 482
اللّه له ، وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ، بما ليس فوقه غاية ، وابن حجر في «الصواعق» عبّر عنه بالمارق ، عند الجواب عن الطعن على عثمان بأنّه انتهك حرمة الأشتر ، قال : «وما فعله بالأشتر معذورٌ فيه ؛ فإنّه رأسُ فتنة في زمان عثمان ، بل هو السبب في قتله ، بل جاء أنّه هو الذي باشر قتله بيده.
فأعمى اللّه بصائرهم ، كيف لم يذمّوا فعل هذا المارق ، وذمّوا فعل من شهد له الصادق أنّه الإمام الحقُّ ، وأنّه يُقتل مظلوماً ، وأنّه من أهل الجنّة؟!» (1) ؛ انتهى.
ولعمري ، إنّ أعمى البصيرة من لا يتبصّر في أفعال عثمان الخارجة عن قانون الشريعة ، ولا يبصر فضل الأشتر وغيره من الآمرين بالمعروف ، الناهين عن المنكر.
وأعمى البصيرة مَن لا يعرف أنّ أخبار أصحابه في فضل أوليائهم ، لا تكون حجّةً لهم على خصومهم ، وأنّ المتّفَق على رواية فضله ليس بمنزلة المختلَف فيه ، مع كثرة الأدلّة على كذب ما رواه في فضل عثمان ، وضعف رواتها.
وكيف يصفُ الأشتر بالمارق ، وهو سيف أمير المؤمنين (عليه السلام) على البغاة الّذين قاتلهم على تأويل القرآن ، وقال في حقّه : «كان لي كما كنتُ لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» (2)؟!
وما بال ابن حجر لم يصف عائشةَ وطلحة والزبير وابن العاص بالمروق ، وهم مثلُ الأشتر أو أعظم منه في التأليب على عثمان؟!
ص: 483
نعم ، يفترقان عند ابن حجر بأنّ مالكاً ناصرٌ للإمام الحقِّ وشيعةٌ له ، وهؤلاء محاربوه وأعداؤه ، فنِعم الحكمُ اللّه ، والزعيمُ محمّد ، وعند الساعة يخسرُ المبطلون.
وأما إنكار الخصم رواية حضور ابن مسعود لدفن أبي ذرّ ..
فقد ظهر لك أمره من الأخبار المتقدّمة (1) ، مضافاً إلى ما رواه الحاكم في «المستدرك» (2) ، عن خليفة بن خياط ، قال : «مات أبو ذرّ [بالربذة] سنة 32 ، وصلّى عليه عبد اللّه بن مسعود».
ثمّ روى الحاكم رواية أُخرى في ذلك أشرنا إليها سابقاً (3).
وقال في «الاستيعاب» - مع ما نقلناه عنه سابقاً بترجمة أبي ذرّ ، بعنوان «جندب بن جنادة» - ، قال : «وفي خبر غيره ، أنّ ابن مسعود لمّا دُعي إليه وذُكر له بكى بكاءً طويلا» ..
ثمّ قال : «وقد قيل : إنّ ابن مسعود كان مقبلا من المدينة إلى الكوفة فَدُعي للصلاة عليه - إلى أن قال : - وكانت وفاته بالربذة سنة 32 ، وصلّى عليه ابن مسعود» (4).
وقال فى «الاستيعاب» أيضاً ، بترجمة أبي ذرّ ، في «باب الكنى» : «توفّي أبو ذرّ سنة 31 أو سنة 32 ، وصلّى عليه ابن مسعود» (5).
ثمّ روى عن الحَلْحَال ، قال : «خرجنا حجّاجاً مع ابن مسعود سنة
ص: 484
أربع وعشرين ، ونحن أربعة عشر راكباً ، حتّى انتهينا إلى الربذة ، فشهدنا أبا ذرّ ، فغسّلناه وكفنّاه ودفنّاه هناك» (1).
وروى الطبريّ في «تاريخه» (2) ، في حوادث سنة 32 ، خبرين يشتملان على حضور ابن مسعود دفن أبي ذرّ.
.. إلى غير ذلك من أخبارهم التي يطول ذِكرها (3).
وبهذا تعلم حال هذا الخصم في نفيه وإثباته ومكابراته!
* * *
ص: 485
قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :
ومنها : إنّه أقدم على عمّار بن ياسر بالضرب ، حتّى حدث به فتقٌ.
وكان أحدَ مَن ظاهرَ المتظلّمين من أهل الأمصار على قتله ، وكان يقول : قتلناه كافراً.
وسبب قتله : أنّه كان في بيت المال بالمدينة سفط (2) فيه حليٌ وجوْهَرٌ (3) ، فأخذ منه عثمان ما حلّى به أهله ، فأظهر الناسُ الطعن عليه في ذلك ، وكلّموه بالرديء حتّى أغضبوه ، فقال : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام.
فقال أمير المؤمنين : إذاً تُمنع من ذلك ، ويُحال بينك وبينه.
فقال عمّار : أُشهد اللّهَ أنّ أنفي أوّل راغم من ذلك.
فقال عثمان : أعلَيَّ يا ابن سميّة تجترئ؟! خذوه!
ودخل عثمان ، فدعا به ، وضربه حتّى غُشي عليه ، ثمّ أُخرج ، فحُمل
ص: 486
حتّى أُدخل بيت أُمّ سلمة ، فلم يصلِّ الظهر والعصر والمغرب ، فلمّا أفاق توضأ وصلّى ...
وكان المقداد وعمار وطلحة والزبير ، وجماعة من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كتبوا كتاباً عدّدوا فيه أحداث عثمان ، وخوّفوه ، وأعلموه أنّهم مواثبوه إن لم يُقلع ، فجاء عمّار به ، فقرأ منه صدراً.
وقال : أعلَيَّ تقدِم مِن بينهم؟!
ثمّ أمر غلمانه فمدّوا يديه ورجليه ، ثمّ ضربه عثمان على مذاكيره ، فأصابه فتقٌ ، وكان ضعيفاً كبيراً فغُشي عليه (1).
وكان عمّار يقول : ثلاثةٌ يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) (3).
وقيل لزيد بن أرقم : بأيّ شىء أكفرتم عثمان؟
فقال : بثلاث ؛ جعل المال دولةً بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنزلة من حارب اللّه ورسوله ، وعمل بغير كتاب اللّه (4).
وكان حذيفة يقول : ما في عثمان بحمد اللّه أشكّ ، لكنّي أشكّ في قاتله ، لا أدري أكافر قتل كافراً ، أو مؤمن (خلص إليه النية) (5) حتّى قتله ،
ص: 487
هو أفضل المؤمنين إيماناً (1)؟!
مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول : عمار جلدة ما بين العين والأنف (2).
وقال : ما لهم ولعمّار؟! يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار (3).
وقال : من عادى عمّاراً عاداه اللّه ، ومن أبغض عمّاراً أبغضه اللّه (4).
وأيُّ ذنب صدر من عمّار ، وأيُّ كلام غليظ وقع منه استوجب به هذا الفعل؟! وقد كان الواجب إقلاع عثمان عمّا كان يؤخذ عليه فيه أو يعتذر بما يُزيل الشبهة عنه!
* * *
ص: 488
وقال الفضل (1) :
ذكر في هذا الفصل من المزخرفات ما يشهد السماءُ والأرضُ على كذبه ، وضربُ عمّار بن ياسر ممّا لا رواية به في كتاب من الكتب.
ونحنُ نقول في جملته : أنّ هذه الأخبار وقائع عظيمةٌ يتوفّر الدواعي على نقلها وروايتها.
أترى جميع أرباب الروايات سكتوا عنه إلاّ شرذمةٌ يسيرةٌ من الروافض؟!
ولقد صدق مأمون الخليفة حيث قال : «أربعةٌ في أربعة ، الزهد في المعتزلة ، والمروّة في أصحاب الحديث ، وحبُّ الرياسة في أصحاب الرأي ، والكذب في الروافض» (2).
وكَذِب ما ذكره بَيّنٌ!
ولِمَ لَم ينسب هذه المزخرفات - التي لا يجري فيها تأويل ألبتّة - إلى صحاحنا ، مع أنّه يدّعي أنّه يروي كلَّ شيء من صحاحنا؟!
ثمّ ما ذكر من كلام حذيفة وزيد بن أرقم في تكفير عثمان بعد قتله ، فنقول :
اتّفق جميع أرباب التواريخ ، أنّ عثمان في الليلة التي قُتل في صبيحتها ختم القرآن في الركعتين.
ص: 489
فلمّا فرغ من صلاة الصبح أخذ يقرأ من المصحف ، فلمّا قتلوه وقع قطرةٌ من دمه على قوله تعالى : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (1).
أترى حذيفة وزيد بن أرقم يُكفّران مَن هذه عبادته؟!
ثمّ إنّهم سمعوا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على المنبر مراراً : «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم» (2) ، فعُلم أنّ كلّ ما ذكره في تكفيره كذبٌ صراحٌ.
عاقبه اللّه بكذبه على الخلفاء!
* * *
ص: 490
روى ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» بعنوان : «ما أنكر الناس على عثمان» : «أنّه اجتمع ناسٌ من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ...
إلى أن قال : وكان ممّن حضر الكتاب عمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود ، وكانوا عشرة ... والكتاب في يد عمّار ...
إلى أن قال : فدخل عليه وعنده مروان وأهله من بني أُميّة ، فدفع له الكتاب ، فقرأه ...
إلى أن قال : قال عثمان : اضربوه!
فضربوه ، وضربه عثمان معهم ، حتّى فتقوا بطنه ، فغُشيَ عليه ، فجرّوه حتّى طرحوه على باب الدار» (1).
وذكر في «السيرة الحلبيّة» من مطاعن عثمان ، أنّه ضرب عمّاراً ، كما سبق (2).
وأقرّ القوشجي في «شرح التجريد» بضربه له (3) ، وأجاب بما سيأتي.
وقال في «العقد الفريد» (4) تحت عنوان «ما نقم الناس على عثمان» :
ص: 491
«كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة ، فقالوا : من يذهب بها إليه؟.
قال عمّار : أنا.
فذهب بها إليه - إلى أن قال : - فقام إليه فوطأه ، حتّى غُشيَ عليه».
وعدَّ ابنُ حجَر في «الصواعق» ، بآخر كلامه بخلافة عثمان ، ضرب عثمان لعمّار في ما نُقِمَ عليه ، وإن أجاب بأنّه لم يضربه وإنّما ضربه عبيده (1).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة عمّار رضوان اللّه عليه : «كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان ، حين نال من عمّار غلمانُ عثمان ما نالوا من الضرب ، حتّى انفتق له فتقٌ في بطنه ، وكسروا ضلعاً من أضلاعه.
فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : واللّه لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان» (2).
إلى غير ذلك من رواياتهم وكلماتهم ، التي أُرسل فيها ضربُ عمّار إرسال المسلّمات ، وإنْ زعم بعضُهم - تقليلا للطعن - أنّ الضارب له غلمانه خاصّة ، وترقّى بعضهم فقال : إنّه بغير إذنه (3).
وهو باطلٌ بالضرورة ، وإلاّ لانتقم منهم لعمّار ، وقاده منهم.
بل الحقّ أنّه بأمره ومشاركته ، كما سبق في بعض ما سمعت ،
ص: 492
وصرّحت به أخبار أُخر ذكرها في «شرح النهج» (1).
وأجاب القوشجيُّ عنه بقوله : «وضربُ عمّار كان لِما روي أنّه دخل عليه وأساء له الأدب ، وأغلظ له في القول ، ممّا لا يجوز الاجتراء بمثله على الأئمة.
وللإمام التأديب لمن أساء الأدب إليه ، وإن أفضى ذلك إلى هلاكه ، [فلا إثم عليه] ؛ لأنّه وقع من ضرورةِ فعلِ ما هو جائز له.
كيف؟! وأنّ ما ذكره لازمٌ على الشيعة ، حيث رووا أنّ عليا قتل أكثر الصحابة في حربه ، فإذا جاز القتلُ لمفسدة ، جاز التأديب بالطريق الأَوْلى» (2).
إنّ التأديب إنّما يجوز إذا كانت الإساءة بغير حقّ.
وأما الإساءة التي أوجبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يجوز التأديب لأجلها ، وإلاّ لَما جاز معارضة الملوك بكلِّ منكَر فعلوه ؛ وهو كما ترى.
على أنّه لا إساءة من عمّار إلاّ كونه رسولا من جماعة من أكابر الصحابة عدّوا على عثمان أحداثه.
فإن كانت واقعة ، كان الواجب على عثمان الإقلاع عنها ، وإلاّ لزمه الاعتذار منها ، لا أنّه يصنع معه صنيع الجبّارين المتهوّرين ، حتّى أنكر عليه
ص: 493
الصحابة ولم يعذروه.
وإنّما عذره مَن جاؤوا بعد حين - كالقوشجي وأشباهه - زاعمين ضلال مَن أنكروا عليه ، ومنهم الصحابة!
ولا يقاس بقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابة ؛ لأنّهم من البغاة الخارجين على إمام زمانهم.
مع أنّ رسول اللّه قد عهد إليه أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين (1).
وقال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» (2) يعني عليا (عليه السلام).
ص: 494
فكيف يقاس به عثمان إذ ضرب عمّاراً ؛ لنهيه له عن المنكر بأمر أجلاّء الصحابة؟! ..
وقد ورد في حقه عند أهل السنة ، أنّه قد أجاره اللّه من الشيطان ، وأنّه مُلِئ إيماناً إلى مُشاشه (1) ، وأنّه ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما ؛ إلى غير ذلك من فضائله ..
فقد روى البخاري (2) ، عن أبي الدرداء : «أنّ عمّاراً أجاره اللّه على لسان رسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من الشيطان».
ورواه الحاكم - أيضاً - في «المستدرك» ، في مناقب عمّار (3) ، وصحّحه هو والذهبي.
وروى الحاكم - أيضاً - ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مُلِئ عمار إيماناً إلى مُشاشه» (4) ، وصحّحه مع الذهبي على شرط الشيخين.
ص: 495
وروى - أيضاً - ، عن ابن مسعود ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ما عُرض عليه أمران قطُّ إلاّ أخذ بالأرشد منهما» (1).
وعن عائشة ، أنّه قال : «ما خُيّر عمّارُ بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما» (2).
ومثل الأخير في مناقب عمّار من «جامع الترمذي» (3) ، وفي «مسند أحمد» (4).
ونقله باللفظين في «كنز العمّال» ، عن أحمد في «مسنده» ، عن ابن مسعود (5).
وروى الحاكم - أيضاً - ، عن عليّ (عليه السلام) ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال لعمّار : مرحباً بالطيّب المطيَّب (6).
ص: 496
وروى - أيضاً - ، عن خالد بن الوليد ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مَن يسب عمّاراً يسبه اللّه ، ومَن يعادِ عمّاراً يعاده اللّه» (1).
وفي رواية أُخرى له ، عن خالد ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مَن يسابّ عمّاراً يسبّه اللّه ، ومَن يعاد عمّاراً يعاده اللّه ، ومَن يحقّر عمّاراً يحقّره اللّه» (2).
وفي رواية أُخرى له عنه ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مَن يسبّ عمّاراً يسبّه اللّه ، ومَن يبغض عمّاراً يبغضه اللّه ، ومَن يسفّه عمّاراً يسفّهه اللّه» (3).
.. إلى نحو ذلك ممّا رواه الحاكم ، من طرق صحّحها هو والذهبيُّ (4).
ص: 497
وروى أكثرها في «الاستيعاب» بترجمة عمّار (1) ، وزاد أنّه نزل فيه : ( أَوَمَن كان ميْتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) (2) (3).
وأنّه أحد من اشتاقت إليهم الجنّة (4) ، كما رواه الحاكم - أيضاً - في مناقب عليّ (عليه السلام) (5).
ونقل في «كنز العمّال» (6) ، عن ابن مسعود : «إذا اختلف الناس كان ابن سُميّة على (7) الحقِّ».
وعن ابن عساكر ، عنه : «عمّارُ يزول مع الحقّ حيثُ يزول» (8).
ونقل - أيضاً - ، عن عليّ (عليه السلام) : «عمّار خُلِطَ الإيمانُ بلحمه ودمه ، يزول مع الحقِّ حيثُ زال» (9).
وأخبار فضائله كثيرةٌ عند السنة ، فهل ترى أن الطيّب المطيّب ، الذي أجاره اللّه تعالى من الشيطان ، ولا يختار إلاّ الأرشد ، ويزول مع الحقِّ حيث زال ، وجعل اللّه له نوراً يمشي به في الناس ، يقول في عثمان ما ليس
ص: 498
بحقّ ، ويأتي إليه ما لا يرضاه اللّه تعالى ، حتّى يستحقّ به من عثمان ذلك الفعل الشنيع؟!
وهل ترى أنّ اللّه سبحانه إذا سب من سب عمّاراً ، وعادى من عاداه ، وحقّر من حقّره ، كيف يفعل بمن فعل به تلك الأفعال الفظيعة لمجرّد أنّه نهاه عن إحداثه ، وأراد منه أن يتّبع سبيلَ الرشاد؟!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، وسوّغنا لعثمان تأديب عمّار وتعزيره ، فقد سبق في مآخذ عمر أنّه لا عقوبة فوق عشر ضربات في غير حدّ من حدود اللّه تعالى (1) ، فكيف جاز لعثمان كسر ضلع عمّار ، وفتق بطنه ، وضربه الضرب المبرِّح؟!
ولا أقّل من إغضائه على هذا العمل الوحشي الخاسر ..
وليس هو بأعظم من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد سمع نسبة الهجر إليه بأُذنيه (2) ، وقيل له : اعدل (3)! فلم ينتصف لنفسه.
ولا أعظم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد سمع من الخوارج الكلمات القارصة (4) ، فأغضى عنها.
وأما ما حكاه الخصمُ عن المأمون - ولا أظنُّ الخصم صادقاً في النقل - ، ففيه :
ص: 499
إنّ المأمون إن لم يكن من الشيعة ، فلا عبرة بتكذيبه لهم ؛ لأنّ قول العدوّ بعدوّه غيرُ مقبول من دون حجة.
وإن كان منهم ، فالرواية عنه كاذبةٌ ؛ إذ يمتنع أن يكذب الشخصُ في نقص أهل مذهبه من دون ضرورة.
نعم ، إذا أراد المأمون بالروافض من رفض الحقّ ، وهم السنة ، كان صواباً ؛ فإنّ الموضوعاتِ جلُّ أخبارِهم ، والكذبةَ أكثرُ رواتِهم ، كما عرفته في مقدّمة الكتاب من أحوال خير رجالهم ، وهم رجال صحاحهم الستّة (1).
وقد قالوا : «إنّ الحديث الصادق في الحديث الكاذب ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» (2).
ويكفيك في معرفة كذبهم ، مشاهدة كذبات هذا الرجل سابقاً ولاحقاً وفعلا.
وقد اتّضح ممّا ذكرناه في جميع المباحث ، أنّ المصنّف (رحمه اللّه) إنّما ينقل مثالب أئمتهم من كتبهم ، فإن كان المنقول كذباً فهو منهم وعليهم ، وإن كان صدقاً ، ثبت المطلوب!
ومجرّد كونه لا يقبل التأويل لا يقتضي كذبه ، بل هو ألزم لهم وأَوْلى بتقريعهم!
ثمّ إنّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يدّع أنّه لا ينقل إلاّ عن صحاحهم ، حتّى يطالبه الخصم به.
ص: 500
نعم ، هو أَوْلى بالاحتجاج عليهم لو تعلّقت صحاحهم الستّةُ بالسيرة بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنّما تتعلّق بالأحكام ، وبالسيرة النبويّة في الجملة.
وأما دعواه اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ عثمان ختم في الليلة التي قُتل في صبيحتها القرآنَ في الركعتين ..
فمن كذباته ، فإنّي لم أجده في تاريخ!
على أنّه كيف يختم القرآن في صلاة الصبح - كما يظهر من كلامه - والوقت لا يتّسع ، وكذا لو أراد ركعتين من صلاة الليل؟!
نعم ، لو أراد ركعتين قطع بهما الليل كان ممكناً ؛ كما روى في «الاستيعاب» ، عن امرأة عثمان : «أنّه كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن» (1).
لكنّه كذبٌ أيضاً ؛ لأنّ عثمان لو كان يحفظ القرآن لجمع الناس على مصحفه ولم يلتجئ إلى زيد بن ثابت وغيره (2).
مع أنّه كان كعمر ، ممّن حكي عنه سوء الحفظ ، وكثرة النسيان (3) ؛ ولذا كان قليل العلم والرواية على طول أيامه.
كما لا ريب بوضعِ سقوطِ قطرة من دمه على قوله : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ
ص: 501
اللَّهُ ) (1) ، كما صرّح به ابن حجر (2) نقلا عن الذهبي.
ولو صحّ سقوطها عليها ، فالأَوْلى أن يكون بشارةً لقاتله ؛ لأنّه هو الذي كفاه اللّه إياه بقتله.
فإذا علمت أنّ تلك العبادة مكذوبة ، ارتفع وجه استبعاد الفضل لتكفير حذيفة وزيد إياه.
على أنّه لا دليل على علمهم بها لو وقعت ، فكيف يستبعد تكفيرهم له لأجلها؟!
ولو فرض أنّهم رأوا منه تلك العبادة في ليلة قتله ، فلعلّهم يعرفون منه المكيدة لسبق إحداثه وتوبته منها بلا حقيقة ، كما علم مكيدته محمّد ابن أبي بكر عندما دعاه إلى العمل بالقرآن لمّا دخل عليه لقتله ، فقال له محمّد : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (3) (4).
وكيف يستبعد من حذيفة وزيد تكفير عثمان وقد كفّره ابن مسعود ، كما سمعت الرواية فيه (5)؟!
وكفّره عمّار ، الطيّبُ ، الذي يزول مع الحقّ حيث يزول ، ولم ينازع في وجود رواية تكفير عمّار له قاضي القضاة وأبو عليّ في كلامهما الذي
ص: 502
نقله في «شرح النهج» (1).
نعم ، استبعد أبو عليّ تكفير عمّار لعثمان ، فقال : «وممّا يبعّد صحّة ذلك أنّ عمّاراً لا يجوز أن يكفّره ولمّا يقع منه ما يستوجب به الكفر ؛ لأنّ الذي يكفَّر به الكافر معلومٌ ؛ ولأنّه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أَوْلى بذلك ، ولوجب أن يجتمعوا على خلعه ، ولوجب أن لا يكون قتله لهم مباحاً ، بل يجب أن يقيموا إماماً ليقتله ...
إلى أن قال : وقد روي أنّ عمّاراً نازع الحسن بن عليّ ، فقال عمّار : قُتل عثمان كافراً ؛ وقال الحسن : قُتل مؤمناً ؛ وتعلّق بعضهما ببعض ، فصارا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال : ماذا تريد من ابن أخيك؟!
فقال : إنّي قلتُ كذا ، وقال كذا.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : أتكفر بربّ كان يؤمن به عثمان؟!
فسكت عمّار».
وقد يجاب بأنّ عثمان لم يكفر كفراً صريحاً مشهوراً بين الناس حتّى يجتمع المسلمون على تكفيره وخلعه ، وإنّما اتّفق مَن بالمدينة مِن أهل الأمصار والصحابة على خلعه ؛ لأحداثه الموجبة للخلع وجور ولاته ، وإن لم يُخلع قتل ، فقتلوه.
ولكن قال بعض الصحابة بكفره ، كعمّار ، فإنّ المرويّ أنّه كفّره لحكمه بغير ما أنزل اللّه تعالى ، واستشهد بقوله سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
ص: 503
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (1) (2).
وما رواه أبو عليّ من تنازع الحسن وعمّار ، فهو غيرُ دافع لتكفير عمار لعثمان ، بل هو دليلٌ له.
وهو - أيضاً - لا يدلّ على عدم تكفير أمير المؤمنين (عليه السلام) له ؛ لأنّ الكفر لا ينحصر بإنكار اللّه تعالى (3).
بل عدول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن التصريح بإيمان عثمان إلى قوله : «أتكفر بربّ كان يؤمن به عثمان؟!» شاهدٌ بصحّة قول عمّار ، وإنّما لم يوافقه ظاهراً لجهة راعاها ، وهي التي دعت الحسن (عليه السلام) إلى خلاف عمّار ، وقد فهمها عمّار فسكت ، وإلاّ فهو إنّما يقول بكفره ؛ لأنّه يحكم بغير ما أنزل اللّه ، لا لأنّه لم يؤمن باللّه حتّى يردّه كلامُ أميرِ المؤمنين (عليه السلام)!
وأما ما ذكره الخصم من رواية : «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم» ..
فليست حجةً علينا ، وقد عرفتَ بطلانها معنىً ، وضعفها سنداً ، عندما ذكرها الخصمُ في فضائله (4).
ص: 504
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : إنّه أقدم على أبي ذرّ رحمه اللّه تعالى - مع تقدّمه في الإسلام - حتّى ضربه ، ونفاه إلى الربذة (2).
أجاب قاضي القضاة باحتمال أنّه اختار لنفسه ذلك (3).
اعترضه المرتضى بأنّ المتواتر من الأخبار خلاف ذلك ؛ لأنّ المشهور أنّه نفاه أوّلا إلى الشام ، فلما اشتكى معاوية منه استقدمه إلى المدينة ، ثمّ نفاه منها إلى الربذة.
وروي أنّ عثمان قال يوماً : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال ، فإذا أيسر قضى؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك.
فقال له أبو ذرّ : يا ابن اليهودية! أتعلّمنا ديننا؟!
فقال عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي ، إلحق بالشام!
ص: 505
فأخرجه إليها.
فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية بثلاثمئة دينار ، فردّها عليه.
وكان أبو ذرّ يقول : واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، واللّه ما هي في كتاب اللّه ولا سنة نبيّه.
واللّه إنّي لأرى حقّاً يُطفأ ، وباطلا يُحيا ، وصادقاً مكذَّباً ، وأثرةً بغير تقى ، وصالحاً مستأثَراً عليه.
فقال حبيب بن مسلمة الفهري (1) لمعاوية : إنّ أبا ذرّ لَمُفسدٌ عليكم الشام ، فتدارك أهلَه إن كان لك فيه حاجة.
فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ، فاحمل جُندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره.
فوجّهه مع مَن سار به ليلا ونهاراً ، وحمله على بعير ليس عليه إلاّ قتبٌ ، حتّى قدم المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
فبعث إليه عثمان ، وقال له : إلحق بأيّة أرض شئت!
فقال أبو ذرّ : بمكة؟
قال : لا.
قال : ببيت المقدس؟
ص: 506
قال : لا.
قال : بأحد المصرين (1)؟
قال : لا ، ولكن سر إلى الربذة!
فلم يزل بها حتّى مات (2).
وروى الواقديُّ : أنّ أبا ذرّ لمّا دخل على عثمان قال له : لا أنعم اللّه بك عيناً يا جُنيدب!
فقال أبو ذرّ : أنا جُنيدب! وسمّاني رسول لله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عبد اللّه ، فاخترتُ اسمَ رسول اللّه الذي سمّاني به على اسمي.
فقال عثمان : أنت الذي تزعم أنّا نقول : إنّ يد اللّه مغلولةٌ ، وأنّ اللّه فقيرٌ ونحن أغنياء.
فقال أبو ذرّ : لو كنتم لا تزعمون ، لأنفقتم مال اللّه في عباده ، ولكنّي أشهدُ لَسمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا ، وعباده خولا ، ودين اللّه دخلا (3).
فقال للجماعة : هل سمعتم هذا من رسول اللّه؟!
فقال عليٌّ والحاضرون : سمعنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : ما أظلّت
ص: 507
الخضراءُ ، ولا أقلّت الغبراءُ ، من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ (1).
فنفاه إلى الربذة (2).
وروى الواقديُّ ، أنّ أبا الأسود الدؤلي قال : كنتُ أُحبُّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة فقلتُ له : ألا تخبرني خرجتَ من المدينة طائعاً ، أم أُخرِجت؟
فقال : كنتُ في ثغر من ثغور المسلمين أُغني عنهم ، فأُخرجت إلى المدينة ، فقلتُ ، أصحابي ودارُ هجرتي ، فأُخرجت منها إلى ما ترى.
ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائمٌ في المسجد إذ مرّ بي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائماً في المسجد؟!
قلتُ : بأبي أنت وأُمي ، غلبتني عيني فنمتُ فيه.
فقال : كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟
قلت : إذاً ألحقُ بالشام ، فإنّها أرضٌ مقدّسةٌ ، وأرضُ بقيّة الإسلام ، وأرض الجهاد.
فقال ، كيف تصنع إذا أخرجوك منها؟
ص: 508
قلت : أرجع إلى المسجد.
فقال : كيف إذا أخرجوك منه؟
قلت : آخذ سيفي فأضربُ به.
فقال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ألا أدلّك على خير من ذلك؟! إنسق معهم حيثُ ساقوك ، وتسمع وتطيع.
فسمعتُ وأطعتُ ، وأنا أسمعُ وأُطيع ، واللّهِ (ليقتُلَنّ اللّهُ عثمانَ) (1) وهو آثمٌ في جنبي (2).
فكيف يجوز - مع هذه الروايات - الاعتذار بما قال القاضي؟!
* * *
ص: 509
وقال الفضل (1) :
خروج أبي ذرّ على ما ذكره أرباب «الصحاح» ، وذكره الطبريُّ ، وابن الجوزيّ ، من أرباب صحّة الخبر ، أنّه ذهب إلى الشام ، وكان مذهبُ أبي ذرّ أنّ قوله تعالى : ( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ) (2) محكَم غير منسوخ ، وكنز الذهب والفضة حرامٌ وإن أخرجوا زكاته.
ومذهب عامة الصحابة والعلماء أنّها منسوخةٌ بالزكاة (3).
فكان أبو ذرّ تقرّر مذهبه ، واتّفق أنّه حضر عند معاوية ، وكان كعبُ الأحبار حاضراً عند معاوية - وكان أبو ذرّ تقرّر مذهبه في الآية - ، فقال كعب الأحبار : هذه منسوخةٌ بالزكاة.
فأخذ لَحْيَ (4) بعير وضرب به رأس كعب الأحبار ، فشجّه مُوضِحةً (5).
فكتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذرّ ، فكتب عثمان إلى أبي ذرّ
ص: 510
يطلبه إلى المدينة.
فجاء أبو ذرّ إلى المدينة ، ونصحه عثمان بحسن العشرة مع الناس ، وأنّ الناس اليوم ليسوا كزمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وفيهم البَرُّ والفاجرُ اليوم.
فقال أبو ذرّ : إنّي أستأذن منك أن ألحق بفلاة من الأرض.
فخرج من المدينة حاجّاً أو معتمراً ، فلمّا قضى نسكه رجع وسكن بالربذة.
هذا حكاية سكون أبي ذرّ بالربذة ، ولا اعتراض فيه على عثمان.
واتّفق أهل «الصحاح» من التواريخ على ما ذكرنا ، فتمّ اعتذار القاضي ؛ لأنّه جرى على ما ذكره عامةُ المؤرّخين.
ومخالفة الواقدي في بعض المنقول لا يقدح في ما ذهب إليه العامةُ.
* * *
ص: 511
نِعْمَ المَثلُ قول القائل : «الكذوب لا حافظة له» (1) ؛ فإنّ الفضل زعم سابقاً - كما تقدّم ص 46 من هذا الجزء (2) - أنّ الطبريّ رافضيٌّ مشهورٌ بالتشيّع ، حتّى هجره علماء بغداد وهجروا كتبه ورواياته ؛ والآن يجعله من أرباب صحة الخبر!
ولا شكّ أنّه لم ير «تاريخ الطبريّ» ، وإنّما سمع شيئاً فزاد فيه ولفّقه ، ونسبه إلى الطبريّ وغيره!
فإنّه ادّعى خروج أبي ذرّ إلى الحجّ أو العمرة ، ولا أثر له في «تاريخ الطبريّ» ، وإنّما جاء في بعض الأخبار خروج الركب الّذين دفنوا أبا ذرّ إلى الحجّ أو العمرة (3).
وزعم - أيضاً - حضور كعب الأحبار عند معاوية ، والموجود في «تاريخ الطبريّ» (4) حضوره عند عثمان ..
قال الطبريُّ ، حكاية عن السَّرِيّ ، في روايته عن شعيب ، عن سيف ،
ص: 512
عن محمّد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : «كان أبو ذرّ يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة ، وكان يحبُّ الوحدة والخلوة ، فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار ، فقال لعثمان : لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتّى يبذلوا المعروف ، وقد ينبغي للمؤدّي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتّى يُحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات.
فقال كعب : مَن أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه.
فرفع أبو ذرّ محجنه ، فضربه ، فشجّه» .. الحديث.
واعلم أنّ الطبريّ إنّما اقتصر على هذا الحديث ونحوه ، لا لصحّتها عنده ، بل لكراهة أن يذكر ما فيه طعنٌ بعثمان ومعاوية ؛ فإنّه قال في ابتداء كلامه : «وفي هذه السنة - أعني سنة 30 - كان ما ذُكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية ، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أُمورٌ كثيرةٌ ، كرهتُ ذِكر أكثرها.
فأمّا العاذرون معاوية في ذلك ، فإنّهم رووا في ذلك قصّةً كتب إليّ بها السَّرِيّ».
ثمّ قال في آخر كلامه : «وأمّا الآخرون ، فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة ، وأُموراً شنيعةً ، كرهت ذِكرها» (1).
كما أشار إليها ابن الأثير في «كامله» (1) ، قال : «وفي هذه السنة [يعني سنة 30] كان ما ذُكر في أمر أبي ذرّ ، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة.
وقد ذُكر في سبب ذلك أُمورٌ كثيرةٌ ، من سبّ معاوية إيّاه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لا يصحّ النقل به ، ولو صحّ ، لكان ينبغي أن يُعتذر عن عثمان ؛ فإنّ للإمام أن يؤدِّب رعيّته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه ؛ كرهتُ ذِكرها.
وأمّا العاذرون ، فإنّهم قالوا ...» ، ثمّ ذكر ما نقله الطبريُّ عن السَّرِيّ ، وسمعتَ بعضه.
والكلام هنا يقع في أمرين :
الأوّل : في ما نسبوه إلى أبي ذرّ رضوان اللّه عليه ، من أنّه يرى حرمة كنز الذهب والفضة وإن أُخرجت زكاتهما ، أي : حرمة إبقاء ما يفضل على الحاجة ، وعدم إنفاقه على الفقراء.
وهذه النسبة ظاهرةُ الكذب ؛ لجهات :
الأُولى : إنّ أبا ذرّ أتقى لله ، وأطوع لرسوله ، من أن يخالف أحكامهما ؛ فإنّه رأى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعينه ، وبقي معه إلى حين وفاته ، ورأى وجود الأغنياء من المسلمين في أيّامه ، من دون أن يوجب في أموالهم من الصدقات غير الزكاة ، فكيف يصدر من أبي ذرّ الحكم المخالف لِما وجد عليه الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
ص: 514
الثانية : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يرى هذا الرأي ، بإقرار الخصوم (1) ، فهل يمكن أن يترك هداية أبي ذرّ (رضي اللّه عنه) إلى حكم اللّه ورسوله حتّى يقع في ما وقع فيه؟!
أو يمكن أن يكون أبو ذرّ لا يسمع من أمير المؤمنين (عليه السلام) هدايتَه وتعليمَه ، وهو أشدّ الناس اتّباعاً له ، وأعرفهم بمنزلته؟!
الثالثة : إنّ الغنى لم يحدث في الناس أيّام عثمان ، بل كان من أيّام النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وتضاعف في أيّام أبي بكر ، وفاضت الأموال في أيّام عمر (2) ، ولم تصدر من أبي ذرّ - في وقت - إشارةٌ إلى تلك الفتوى التي نسبوها إليه (3).
فهل كان مدّخراً لها إلى أيام عثمان ، فرواها لنا العاذرون لعثمان ومعاوية؟!
تاللّه ليس الأمر كذلك ، ولكنّ أبا ذرّ رأى نهمة بني أُميّة في مال اللّه ، فجعل يتلو تلك الآية الكريمة في الطرقات ، إنكاراً على جعلهم مال اللّه وفيء المسلمين كنوزاً لهم ، ودولةً بين الأغنياء والجبابرة.
فكانت ثورته عليهم ، لا على الأغنياء ، كما هو واضحٌ لمن أنصف.
الرابعة : إنّ السنة وجّهوا الخلاف بين أبي ذرّ وغيره - كما ذكره الخصم - بالنسخ وعدمه ، فزعموا أنّ أبا ذرّ لا يرى آية تحريم الكنز منسوخة بالزكاة ، وأنّ غيره يرى أنّها منسوخهٌ بها.
ص: 515
وهذا من السخف ؛ إذ لا معنى لنسخ الآية بالزكاة ؛ لعدم التنافي بينهما ؛ إذ يمكن أن تجب الزكاة والزائد على الحاجة معاً بلا منافاة ..
كما قد تجب الزكاة دون الزائد ؛ لتعلّقها بمال الفقير ..
أو يجب الزائد دون الزكاة ؛ لعدم كون مال الغنيّ من الزكويّات ..
فما معنى النسخ؟!
وهل يصحّ وقوع الخلاف فيه بين الصحابة؟!
الخامسة : إنّه كيف يمكن أن يضرب أبو ذرّ كعبَ الأحبار ، فيشجّه موضِحةً ، لمجرّد مخالفته له في فتوى اتّفق عليها كلُّ الصحابة؟!
وهذا ليس من سيماء العدالة ، ولا من أخلاق عيسى ، الذي شبّهه به رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كما رواه في «الاستيعاب» و «المستدرك» ، ونقله في «كنز العمّال» عن جماعة (1).
فلا بُد أن يكون ضربه له لإفتائه بما يخالف الدين والملّة ، كإحلاله للخليفة مال اللّه باسم القرض ، أو أخذ الزائد - من بيت المال - على عطاء المسلمين ، كما في بعض الأخبار (2).
فيكون كعبُ الأحبار مبيحاً لعثمان وبني أُميّة أن يجعلوا مال اللّه دولا وكنوزاً ، فاستحقّ من أبي ذرّ الضرب.
السادسة : إنّ الأخبار التي رواها الطبريُّ ، واتّخذها السنةُ سنداً
ص: 516
لهم ، لا دلالة فيها على ما نسبوه إلى أبي ذرّ من إيجاب بذل الأغنياء أموالهم إلى الفقراء ؛ إذ غايةُ ما تدلُّ عليه رجحانُ عدم اقتصار الأغنياء على الزكاة ، وهو مما لا ريب فيه لكلّ مسلم.
فكيف صار به أبو ذرّ مخالفاً للأُمّة ، وخاف منه بنو أُميّة على مملكتهم ، واقتُضي تسييره؟!
ولو سُلّم ظهورها في الوجوب ، وحرمة كنز الزائد على الزكاة والحاجة ، فهي من روايات السَّرِيّ ، وهو - على الظاهر - : ابنُ عاصم بن سهل ، مؤدّبُ المعتزِّ باللّه ، وهو من النواصب المعاندين ، كما تشهد به رواياته التي يكتب بها إلى الطبريّ في «تأريخه» ، وكان - أيضاً - من الكذّابين (1) ..
فقد حكى الذهبيّ في «ميزان الاعتدال» تكذيبه عن ابن خِراش ، وحكى عن ابن عديّ أنّه وهّاه وقال : يسرق الحديث (2).
مع أنّه قد روى تلك الأخبار عمّن هو أسوأ منه ، كسيف (3)
ص: 517
على أنّها معارضة بما هو أكثر عدداً ، وأقوى سنداً ، وأقربُ إلى الاعتبار صحّةً ، ولو من حيث إنّه مِن رواية مَن لا يُتّهم على عثمان ومعاوية ، بخلاف روايات السَّرِيّ وأشباهه ، من المتّهمين في إرادة تبرئتهما وعذرهما.
الأمر الثاني : في أنّ خروج أبي ذرّ عن المدينة ليس باختياره ، بل قهراً من ولاة الأمر ؛ لأنّ ما دلّ عليه أكثرُ وأصحُّ وأبعدُ عن التهمة ، ممّا دلّ على خروجه باختياره ورغبته ، حتّى أرسله علماء العامّة إرسال المسلّمات ، كالشهرستاني في «الملل والنحل» (3) ، وعليّ بن برهان الدين الحلبي في «السيرة الحلبيّة» (4) ، وابن حجر في «الصواعق» (5) ، كما سبقت كلماتهم (6).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة أبي ذرّ - باسمه - : «استقدمه عثمان بشكوى معاوية ، وأسكنه الربذة ، فمات بها» (7).
ص: 518
قال ابن الأثير في «أُسد الغابة» ، بترجمة أبي ذرّ - بكنيته - : «فضربَ الدهرُ ضربةً ، وسُيّر أبو ذرّ إلى الربذة» (1).
.. إلى غير ذلك من كلمات علمائهم (2).
بل أرسل القوشجيُّ في «شرح التجريد» ضرب عثمان لأبي ذرّ إرسال المسلّمات (3).
وكيف يحتمل في أبي ذرّ أن يترك جوار النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وصحبة الوصيّ باختياره؟!
وقال ابن أبي الحديد (4) : «إعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السير ، وعلماء الأخبار والنقل ، أنّ عثمان نفى أبا ذرّ أوّلا إلى الشام ، ثمّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية ، ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام». ثمّ ذكر ما نقله المصنّف هنا عن المرتضى (رحمه اللّه) (5).
ونقل عن الجاحظ في «كتاب السفيانية» قول معاوية لأبي ذرّ : «يا عدوّ اللّه وعدوّ رسوله! لو كنتُ قاتلَ رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك!».
وقول أبي ذرّ لمعاوية : «ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت
ص: 519
وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ودعا عليك مرّات أن لا تشبع».
إلى أن قال الجاحظ : «فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل إليّ جندباً على أغلظ مركب وأوعره.
فوجّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (1) ليس عليها إلاّ قتبٌ ، حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحمُ فخذيه من الجَهْد.
فلمّا قدم بعث إليه عثمان : إلحق بأيّ أرض شئت!
قال : بمكّة.
قال : لا.
قال : ببيت المقدس.
قال : لا.
قال : بأحد المصرين.
قال : لا ، ولكنّي مسيّرك إلى الربذة.
فسيّره إليها ، فلم يزل بها حتّى مات» (2).
وروى أحمد في «مسنده» (3) ، عن أبي ذرّ ، «قال : أتاني نبيّ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأنا نائمٌ في مسجد المدينة ، فضربني برجله ، فقال : لا أراك نائماً فيه؟!
قلت : يا نبيّ اللّه! غلبتني عيني.
ص: 520
قال : كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟!
قلت : آتي الشام الأرض المقدّسة المباركة.
قال : كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟!
قلت : ما أصنع؟! اضرب بسيفي!
فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ألا أدلّك على ما هو خيرٌ لك من ذلك وأقرب رشداً؟! تسمع وتطيع ، وتنساق لهم حيثُ ساقوك».
ونحوه في أوّل أحاديث أبي ذرّ (1).
وكذا عن أسماء بنت يزيد (2) ، إلاّ أنّ في هذه الرواية أنّ أبا ذرّ لمّا قال : آخذ سيفي فأُقاتل ؛ كَشَرَ (3) إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقال : «ألا أدلّك على خير من ذلك؟!
قال : بلى.
قال : تنقاد لهم حيث قادوك ، وتنساق لهم حيث ساقوك ، حتّى تلقاني وأنت على ذلك».
وهذه الأخبار التي حكيناها عن أحمد ، كما تدلّ على نفي أبي ذرّ وسوقه بغير اختياره من المدينة إلى الشام ، ومنه إليها ، ومنها إلى الربذة ، تدلّ على ظلم من نفاه ، واستحقاقه القتل ، كما فهمه أبو ذرّ ، وقال : «أضربُ بسيفي» ، ولم ينكر عليه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بل كشَرَ إليه.
لكنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا علم أنّه لا يقدر على الدفع عن نفسه ، وأنّه
ص: 521
يُقتل لو امتنع من الانقياد لهم ، دلّه على ما هو خيرٌ له وأقربُ إلى الرشد ، وهو أن ينساق لهم حيث ساقوه ، حتّى يلقاه يومَ القيامة مظلوماً ، فيكون نفيهم له حجّةً دائميّةً ظاهرةً على ضلال الإمارة التي ناوأته وناوأها ، وأنكر عليها ..
ولو قاتلهم وحده وقتلوه ، لجعلوا قتله - هم وأتباعُهم - واجباً من باب دفع الصائل عن النفس.
ويدلّ - أيضاً - على تسيير أبي ذرّ إلى الربذة قهراً ، ما في «مستدرك الحاكم» (1) ، عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : «كنتُ مع أبي الدرداء ، فجاء رجلٌ من قبل المدينة ، فسأله ، فأخبره أنّ أبا ذرّ مسيّرٌ إلى الربذة.
فقال أبو الدرداء : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، لو أنّ أبا ذرّ قطع لي عضواً أو يداً ما هجتُه (2)» .. الحديث.
ونحوه في «الاستيعاب» ، بآخر ترجمة أبي ذرّ (3).
وفي «المستدرك» - أيضاً (4) - حديثٌ آخر يتعلّق بغزوة تبوك ، قال النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في آخره : رحم اللّه أبا ذرّ ، يمشي وحده ، ويموت وحده.
قال ابن مسعود : فضرب الدهرُ ضربةً ، فسُيّر أبو ذرّ إلى الربذة».
وهو دالُّ أيضاً على نفيه إلى الربذة.
كما يدلّ على نفيه من الشام إلى المدينة وتسييره قهراً ، ما في «مسند أحمد» (5) ، أنّه لمّا بلغ أبا الدرداء تسييرُ أبي ذرّ من الشام إلى
ص: 522
المدينة ، قال بعد أن استرجع قريباً من عشر مرّات : ( ارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ) (1) ، كما قيل لأصحاب الناقة» .. الحديث.
وهو صريح في أنّ من نفاه إلى المدينة مستحقّ للعذاب ، كقوم صالح.
ثمّ إنّ الحاكم في «كتاب الفتن» من «المستدرك» (2) ، روى طرفاً من أوّل حديثَي الواقدي ، اللذين نقلهما المرتضى (رحمه اللّه) (3) ، وصحّحه هو والذهبيُّ على شرط مسلم ، عن حلاّم بن جندل الغفاري ، قال : «سمعت أبا ذرّ يقول : سمعت رسول اللّه يقول : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، اتّخذوا مال اللّه دولا ، وعباد اللّه خولا ، ودين اللّه دغلا.
قال حلاّم : فأُنكر ذلك على أبي ذرّ ، فشهد عليُّ بن أبي طالب : إنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : ما أظلّت الخضراءُ ، ولا أقلّت الغبراء ، على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».
وروى الحاكم - أيضاً - بعده حديثين نحوه ، عن أبي سعيد الخدري (4).
وحكى في «كنز العمّال» ، في كتاب الفتن (5) ، نحوه ، عن أبي يعلى وأحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد.
ص: 523
وأيضاً (1) ، عن أبي يعلى وابن عساكر ، عن أبي هريرة.
ولا يخفى أنّ أبا العاص هو جدّ عثمان ، ووالد الحكم ، فلهذا استشهد أبو ذرّ بالحديث ، وأنكره عثمان ..
فيكون عثمان ممّن اتّخذ مال اللّه دولا ، ودينه دغلا ، وعباده خولا!
فلا يصحّ الاعتذار عنه بأنّه إمام ، وللإمام أن يؤدّب رعيّته ، كما سمعته من ابن حجر ، وابن الأثير (2) ، واعتذر به القوشجيُّ عن ضرب عثمان لأبي ذرّ (3).
وليت شعري ، كيف يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر مسيئاً ، ويعد نفيه وضربه على نهيه عن المنكر تأديباً له؟!
والحال ، أنّ مجرّد جعل مال اللّه دولا مصحِّحٌ لقتال الجاعل ، فضلا عمّا لو اتّخذ دين اللّه دغلا ، وعباده خولا.
كما يدلّ عليه ما في «مسند أحمد» (4) ، عن أبي ذرّ ، قال : «قال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : كيف أنت وأئمةٌ من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟!
قال : قلتُ : إذاً والذي بعثك بالحقِّ أضعُ سيفي على عاتقي ، ثمّ أضرب به حتّى ألقاك ، أو ألحقَ بك.
ص: 524
قال : أَوَلا أدلّك على ما هو خيرٌ لك من ذلك؟! تصبر حتّى تلقاني».
ورواه - أيضاً - بعده بطريق آخر ، عن أبي ذرّ ، بلفظ قريب منه (1).
فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم ينكر عليه استحقاقهم للضرب بالسيف ، وإنّما أمره بالصبر ؛ لأنّه الأصلح.
ولذا سكت أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ، وتولّى قتلَ عثمان غيرُه!
* * *
ص: 525
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه عطّل الحدّ الواجبَ على عبيد اللّه بن عمر بن الخطّاب ، حيث قتل الهرمزان مسلماً ، فلم يَقدْه به (2) ، وكان أميرُ المؤمنين يطلبه لذلك (3).
قال القاضي : إنّ للإمام أن يعفو ، ولم يثبت أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه ليقتله ، بل ليضع من قدره (4).
أجاب المرتضى (رحمه اللّه) ، بأنّه ليس له أن يعفوَ ، وله جماعةٌ من فارس لم يقدموا خوفاً ، وكان الواجب أن يؤمِّنهم عثمان حتّى يقدموا ويطلبوا بدمه.
ثمّ لو لم يكن له وليُّ لم يكن لعثمان العفو.
أمّا أوّلا : فلأنّه قتل في أيّام عمر ، وكان هو وليّ الدم ، وقد أوصى
ص: 526
عمر بأن يُقتل عبيد اللّه إن لم تقم البيّنة العادلة على الهرمزان وجُفَينة أنّهما أمرا أبا لؤلؤة - غلام المغيرة بن شعبة - بقتله ، وكانت وصيّته إلى أهل الشورى (1).
فلمّا مات عمر ، طلب المسلمون قتل عبيد اللّه كما أوصى عمر ، فدافع وعلّلهم ، وحمله إلى الكوفة وأقطعه بها داراً وأرضاً ، فنقم المسلمون منه ذلك ، وأكثروا الكلام فيه (2).
وأمّا ثانياً : فلأنّه حقٌّ لجميع المسلمين ، فلا يكون للإمام العفو عنه.
وأميرُ المؤمنين (عليه السلام) إنّما طلبه ليقتله ؛ لأنّه مرّ عليه يوماً ، فقال له أمير المؤمنين : أمَا واللّه لئن ظفرت بك يوماً من الدهر لأضربنّ عنقك!
فلهذا خرج مع معاوية [عليه] (3).
* * *
ص: 527
وقال الفضل (1) :
قصة الهرمزان وعبيد اللّه قبل أن يصيب عمر بأيام ، أنّه مرّ على باب دار الهرمزان ، فرآه جالساً على باب داره ، وعنده العُلوج (2) من الأعاجم ، ومنهم أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
فقام الهرمزان لعبيد اللّه ، فوقع من حجره المِغْول (3) الذي قتل أبو لؤلؤة به عمر ، وكان مِغولا ذا رأسين ، فسأل عبيد اللّه الهرمزانَ عن ذلك المِغْول ، فقال : هو من سلاح الحبشة.
فلمّا قُتل عمر ، وجدوا ذلك المِغْول بيد أبي لؤلؤة ، وبه ضرب عمر.
فلمّا رجعوا من دفن عمر ، عاد عبيد اللّه إلى دار الهرمزان بالسيف فقتله ؛ لأنّه كان يتّهمه بالمشاركة في القتل.
هذا ما كان من أمر الهرمزان على ما ذكره أرباب صحاح التواريخ.
ونقله الطبريُّ وغيره ، واتّفقوا أنّ قتل عبيد اللّه الهرمزانَ كان بعد دفن عمر ، بلا خلاف بين أرباب التواريخ.
ص: 528
فتمَّ جواب قاضي القضاة ، بأنّ للإمام أن يعفو (1) ، فعفا عثمان عن عبيد اللّه ؛ لأنّه كان وليَّ الدم.
وأمّا ما ذكر أنّ الواجب كان أن يؤمِّن أولياء دم الهرمزان حتّى يطلبوا دمه ، فإنّ من المعلوم أنّ الهرمزان لم يكن له وليٌّ ؛ لأنّه كان ملك الأهواز ، وكان غريباً بالمدينة كسائر العلوج.
وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه ليقتله ، فالجواب ما أجاب القاضي ، أنّه لم يثبت أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه للقتل ، بل للإيذاء والتعزير والتعنيف.
وما ذكر المرتضى أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه ، بدليل أنّه قال له : «لئن ظفرت بك يوماً لأضربنّ عنقك» ، فهذا كلامٌ يجوز أن يذكره أميرُ المؤمنين للتعنيف والزجر - الذي كان يطلبه لأجله - لئلاّ يعود على مثل ذلك الفعل.
وأمثال هذه الأُمور ناجزةٌ من زمان طويل ، والأصل حمله على الصحة ؛ لأنّ العلماء قالوا : الأصل أنّ ما جرى لم يجر إلاّ بحقّ.
* * *
ص: 529
عجباً لهذا الرجل ، من عدم حيائه من الكذب وعدم مبالاته به ؛ فإنّه نسب ما ذكره في قصّة الهرمزان إلى الطبريّ وغيره!
وقد نظرتُ «تاريخ الطبريّ» ، وغيره ممّا حضرني من كتبهم ، فلم أجد بها أنّ عبيد اللّه مرّ بدار الهرمزان ، وقام له ، وأنّه شاهد مِغْولا عنده ، بل لم يُذكر فيها المِغْول أصلا ، وهو - أيضاً - غير الخنجر المذكور فيها!
فقد ذكر الطبريُّ (1) ما حاصله ، أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة طعن عمر : رأيتُ عشيّة أمس الهرمزانَ وأبا لؤلؤة وجُفينة وهم يتناجون ، فلمّا رأوني ثاروا ، وسقط منهم خنجر له رأسان ، نصابه في وسطه.
فسمع بذلك عبيد اللّه فأتى الهرمزان ، فقتله ، فلمّا عضّه السيفُ قال : لا إله إلاّ اللّه ؛ ثمّ مضى فقتل جُفينة.
ومثله في «كامل» ابن الأثير (2).
وقال في «أُسد الغابة» ، بترجمة عبيد اللّه : «قيل لعبيد اللّه : قد رأينا أبا لؤلؤة والهرمزان نجيّاً ، والهرمزان يقلّب هذا الخنجر بيده - إلى أن قال : - فعدا عليهم بالسيف ، فقتل الهرمزان وابنته وجُفينة» (3).
وأما دعواه اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ قتل عبيد اللّه الهرمزانَ
ص: 530
كان بعد دفن عمر ..
فغير معتمدة ؛ لِما علمنا من كذبه وجهله مراراً ، وخلوِّ ما رأيناه من كتب التاريخ عن ذلك (1) ، والسيّد المرتضى (رحمه اللّه) أحقُّ منه بالصدق والدراية.
وأما ما زعمه أنّه لا وليّ للهرمزان ..
فممنوعٌ ؛ لِما في «أُسد الغابة» ، بترجمة عبيد اللّه ، وفي «الكامل» و «تاريخ الطبري» ، من أنّ له ولداً يسمّى القماذبان (2) ، كما ستسمع.
ولو سُلّم أن لا ولدَ له بالمدينة ، فمن المجزوم به عادةً أنّ له وليّاً معلوماً بالأهواز ؛ لأنّ مَن هو مثله من الملوك لا يخلو عادةً مِن وليّ معلوم.
فمن المضحك تعليلُ الفضل - للعِلم بعدم الوليّ له - بأنّه كان ملكاً وغريباً بالمدينة.
ولو سُلّم عدم الجزم بوجود وليّ له ، فلا أقلّ من احتماله ، فلا بُد من طلبه إلى أن يتحقّق اليأس ، لتثبت حينئذ ولايةُ عثمان.
ولو سُلّم أن لا وليّ له ليكون عثمان وليّ الدم ، فليس معنى ولايته إلاّ أنّ له ولاية المطالبة به ، لا أنّ له العفو عنه ؛ إذ لا دليلَ عليه ، ولا سيّما بعد كون الحقّ في الدم للمسلمين جميعاً ، ولم يسعهم مشورةً ، بل طلب كثيرٌ منهم قتله ..
ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى قتل عبيد اللّه ، كما هو معلوم ، حتّى إنّ ابن الأثير في «الكامل» ، بعدما ذكر رواية عفو عثمان ، ورواية
ص: 531
أُخرى في عفو ابن الهرمزان ، قال : «والأوّل أصحّ ؛ لأنّ عليا لمّا ولي الخلافة أراد قتله ، فهرب إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر وليّ الدم لم يتعرّض له عليٌّ» (1).
ونحوه في «أُسد الغابة» (2).
وروى في «الاستيعاب» ، بترجمة عبيد اللّه ، عن الحسن : «أنّ عبيد اللّه بن عمر قتل الهرمزان بعد أن أسلم ، وعفا عنه عثمان ، فلمّا وليَ عليٌّ خشيَ على نفسه ، فهرب إلى معاوية ، فقُتل بصِفّين» (3).
ولا يخفى أنّ طلب أمير المؤمنين (عليه السلام) لقتل عبيد اللّه ، ظاهرٌ في الطعن بعثمان وعفوه ، وكفى به حجّةً على من عذر عثمان ، فإنّ الحقّ مع عليّ ، يدور معه حيثُ دار (4).
كما إنّه حجةٌ على كذب ما رواه السَّرِيّ ، من عفو ابن الهرمزان ، ولا سيّما مع كونه بالهزليات الملفّقة أشبه!
ففي «تاريخ الطبريّ» (5) : «كتب إليَّ السَّرِيّ ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي منصور ، قال : سمعت القماذبان يُحدّث عن قتل أبيه ، قال : كانت العجمُ بالمدينة يَستَرْوِح بعضُها إلى بعض ، فمرّ فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان ، فتناوله منه وقال : ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟!
فقال : آنسُ به.
ص: 532
فرآه رجلٌ ، فلمّا أُصيب عمر قال : رأيتُ هذا مع الهرمزان ، دفعه إلى فيروز.
فأقبل عبيد اللّه ، فقتله ، فلمّا ولي عثمان دعاني ، فأمكنني منه ، ثمّ قال : يا بنيّ! هذا قاتل أبيك ، وأنت أَوْلى به منّا ، فاذهب فاقتله.
فخرجت به ، وما في الأرض أحدٌ إلاّ معي ، إلاّ أنّهم يطلبون إليّ فيه ، فقلت لهم : ألي قتلُه؟!
قالوا : نعم ؛ وسبوا عبيد اللّه.
فقلت : أفلكم أن تمنعوه؟!
قالوا : لا ؛ وسبوه.
فتركته لله ولهم ، فاحتملوني ، فواللّه ما بلغت المنزل إلاّ على رؤوس الرجال وأكفّهم».
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (1).
وليت شعري ، أهذه الأقاصيصُ الكاذبة ، والخيالاتُ المخالفة للضرورة ، ممّا يحسن أن يُسوّد بها العاقلُ شيئاً من كتابه الذي يطلب اعتماد الأجيال اللاحقة عليه؟!
وكلُّ أخبار السَّرِيّ من هذا القبيل!
وأمّا دعوى الفضل - تبعاً للقاضي - أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يطلبه للإيذاء والتعزير ..
فباطلةٌ ؛ لأنّه إذا فرض أنّ لعثمان الولاية ، وأنّ عفوهَ وحده كاف ، فليس لأحد سبيلٌ على عبيد اللّه ، بالتعزير وغيره ؛ إذ لم يجعل اللّه عليه من
ص: 533
الحقّ سوى القصاص ، وقد سقط بالعفو فرضاً.
وتأويله لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) - مع عدم مناسبته له - لا يجامع طلبَ أمير المؤمنين (عليه السلام) قتله بعد ولايته ، كما سبق في رواية ابن الأثير (1).
بل ولا خشية عبيد اللّه منه ، كما عرفت في رواية «الاستيعاب» (2).
وأمّا قوله : «وأمثال هذه الأمور ناجزةٌ من زمان طويل ، والأصل حمله على الصحة ؛ لأنّ العلماء ...» إلى آخره ..
ففيه :
أوّلا : إنّا لسنا أوّل من طعن على عثمان بذلك ، بل طعن عليه الصحابة ، حتّى قال زياد بن لبيد الأنصاري مخاطباً لعثمان - كما رواه الطبريُّ وابن الأثير (3) - [من الوافر] :
أبا عمرو! عبيد اللّه رَهْنٌ *** فلا تَشْكُكْ بقتلِ الهُرمزانِ
فإنّك إنْ عفوتَ الجرمَ منه *** وأسبابُ الخَطا فرَسا رهانِ
أتعفو إذ عفوتَ بغير حقّ؟! *** فما لكَ بالذي تَحكي يَدانِ
وثانياً : إنّه لا محلّ للحمل على الصحّة مع اتّضاح الحال ومخالفة العفو لقواعد الشريعة ؛ ولذا أراد أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قتله (4).
وكان العفوُ عنه أوّلَ أمر طعن به الصحابةُ والمسلمون على عثمان (5).
ص: 534
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّ الصحابة تبرّأوا منه ؛ فإنّهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيّام لم يدفنوه (2) ..
ولا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار ، بل أسلموه ..
ولم يدافعوا عنه ، بل أعانوا عليه ..
ولم يمنعوا من حصره ، ولا من منع الماء عنه ، ولا من قتله ، مع تمكّنهم مِن ذلك كلّه (3).
(وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «اللّه قتله ، وأنا معه» (4) ، أي : أنا مع اللّه ، أحكم بما حكم به اللّه) (5).
ص: 535
وروى الواقدي ، أنّ أهل المدينة مَنعوا من الصلاة عليه ، حتّى حُمل بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته غيرُ مروانَ وثلاثة من مواليه ، ولمّا أحسّوا بذلك رموه بالحجارة ، وذكروه بأسوأ الذِكر.
ولم يقع التمكّن من دفنه إلاّ بعد أن أنكر أمير المؤمنين (عليه السلام) المنعَ من دفنه (1).
* * *
ص: 536
وقال الفضل (1) :
أمّا قوله : «إنّ الصحابة تبرّأوا منه» ، فهذا أمرٌ غيرُ ثابت ؛ لأنّ أكبر الصحابة كان أمير المؤمنين ، وقد اتّفق جميع أرباب التواريخ أنّ أمير المؤمنين - حين حاصروا عثمان - بعث إليه بالحسن والحسين ومحمّد ابن الحنفيّة وأولاد جعفر شاكِين بالسلاح (2) ، ليعينوه ، فطلبهم عثمان وأنشدهم باللّه أن يرجعوا ، وقال لهم : إنّ النبيّ عهد إليّ أنّي أدخل الجنّة على بلوىً أُصيبها ، وأنا أصبرُ وأحتسب (3) ، فارجعوا.
كما روي في «الصحاح» ، عن أبي سهلة ، قال : «قال لي عثمان يوم الدار : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد عهد إليّ عهداً ، وأنا صابرٌ عليه» (4).
فكيف يقال : إنّ الصحابة أسلموه إلى مَن جلب عليه مِن أهل الأمصار ، ولم يدفعوا عنه؟!
وقد ثبت أنّ أمير المؤمنين أعانه بأولاده وأفلاذ كبده ، وهذا ممّا اتّفق عليه الرواة.
ولا شكّ أنّ عثمان كان إماماً مظلوماً شهيداً ، وهو كان على الحقّ وأعداؤه على الباطل.
ص: 537
كما روي في «الصحاح» ، عن مرّة بن كعب ، قال : «سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وذكر الفتن فقرّبها ، فمرّ رجلٌ متقنّع في ثوب ، فقال : هذا يومئذ على الحقّ ؛ فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفّان.
قال : فأقبلتُ عليه بوجهه فقلتُ : هذا؟!
قال : نعم» (1).
وروي في «الصحاح» ، عن ثمامة بن حزن القشيري ، قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان ، فقال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ، فقال : من يشتري بئر رومة ويجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير منها في الجنّة؟
فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتّى أشرب من ماء البحر؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّ المسجد ضاق بأهله ، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : من يشتري بقعة فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنّة؟
فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أُصلّي فيه ركعتين؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
ص: 538
قال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّي جهّزت جيش العسرة من مالي؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان بثَبير (1) مكّة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرّك الجبلُ حتّى تساقطت حجارته بالحضيض ، فركضه برجله ، قال : أسكن ثبيرُ! فإنّما عليك نبيٌّ وصديقٌ وشهيدان؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : اللّه أكبر! شَهِدوا ، وإنّي شهيدٌ وربّ الكعبة ؛ ثلاثاً» (2).
هذا روايات «الصحاح» ..
وقد ثبت من نصوص رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أنّ عثمان شهيد (3) ، ثمّ جاء البوّال الذي استوى قوله وبوله ، فيجعله كالكفّار ، ولا يقبل دفنه مع المسلمين ، أُفّ له وتُفّ ، والصفع على رقبته بكلّ كفّ.
وأعجب من هذا أنّه يتّهم على أمير المؤمنين ، أنّه شارك في قتل عثمان ، وقد ذكر صاحب كتاب «نهج البلاغة» في مواضع من كلامه أنّه كان يتبرّأُ من قتل عثمان غاية التبرّي (4).
وكان أشدّ الأشياء على أمير المؤمنين أن يشركه أحدٌ في قتل عثمان ،
ص: 539
حتّى إنّه قال : «لو أنّي أعلم أنّه يذهب من صدور بني أُميّة الوهج من مشاركتي في قتل عثمان ، لحلفت لهم بين الركن والمقام خمسين حلفة أنّي ما شاركت في قتل عثمان ، ولا رضيتُ به ، ولا أمرتُ به» (1).
وهذا كان من مبالغة أمير المؤمنين في عدم مشاركته في قتل عثمان ، وهو ينسبه إلى المشاركة ، فأمير المؤمنين وسائر الأنبياء والمرسلين خصوم ذلك الرجل في ما ادّعاه.
وأمّا ما ذكر أنّه لم يصلّ عليه أحدٌ إلاّ مروان وبعض الموالي ، فإنّه كاذبٌ في هذا الكلام ؛ فإنّ كلّهم اتّفقوا على أنّ مروان جرح يوم الدار جراحةً عظيمة ، حتّى خاف انقطاع رقبته ، فهرب إلى الشام وهو مجروح (2) ، فكيف حضر في جنازة عثمان؟!
وأما عدمُ صلاة الصحابة على عثمان ، فإنّه كان في أيّام الهرج ، وأجلاف الأمصار استولوا على المدينة ، وهم قتلوا عثمان ، وكان الصحابة يخافون منهم أن يحضروا جنازة عثمان ، حتّى إنّ أمير المؤمنين هرب منهم والتجأ إلى حائط من حوائط المدينة ، كما هو مذكور في التواريخ.
ص: 540
مَن تصفّح أخبار القوم ، فضلا عن أخبارنا ، علم أنّه لا ناصر لعثمان من الصحابة إلا النادرُ ، وعرف أنّ الصحابة شركاء في قتله ، ولو بالرضا.
فيا هل ترى أنّ من استباح الصحابةُ قتله ، وباشره بعضُهم ، وشهدوا بجوره وفسقه ، وهم عدول جميعاً عند القوم ، كيف يكون حاله؟! وهل يصحّ عدّه من الأئمة؟!
ولنذكر شيئاً ممّا في «تاريخ الطبري» ، الذي أقرّ الخصمُ بصحّته (1) ؛ لتعرف صدق ما قلنا ..
فقد روى عن الواقدي (2) ، أنّ «أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كتب بعضهم إلى بعض أن أقدموا ، فإنْ كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد ؛ وكثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول اللّه يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحدٌ ينهى ولا يذبُّ إلاّ نفيْر ؛ زيد بن ثابت ، وأبو أُسَيد الساعدي ، وكعب بن مالك ، وحسّان بن ثابت».
وروى أيضاً (3) ، بسنده عن عثمان بن الشريد ، قال : «مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي (4) ، وهو بفناء داره ومعه جامعةٌ ، فقال :
ص: 541
يا نعثل! واللّه لأقتلنّك ولأحملنّك على قَلوص (1) جرباء ، ولأُخرجنّك إلى حرّة النار.
ثمّ جاءه مرّةً أُخرى وعثمان على المنبر ، فأنزله عنه».
ثمّ روى بسنده ، عن أبي حبيبة ، أنّ عثمان خطب ، فقام إليه جَهْجاه الغِفاري (2) ، فصاح : يا عثمان! إنّ هذه شارفٌ قد جئنا بها ، عليها عباءةٌ وجامعةٌ ، فانزل ، فلنُدرِّعكَ العباءة ، ولنطرحك في الجامعة ، ولنحملك على الشارف ، ثمّ نطرحك في جبل الدخان.
فقال عثمان : قبّحك اللّه ، وقبّح ما جئتَ به!
قال أبو حبيبة : ولم يكن ذلك منه إلاّ عن ملإ من الناس ، وقام إلى عثمان خيرتُه وشيعته من بني أُميّة ، فحملوه وأدخلوه الدار (3).
وروى - أيضاً - بسنده ، عن عبد الرحمن بن يسار ، أنّه قال : «لمّا رأى الناس ما صنع عثمانُ ، كتب مَن بالمدينة من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى مَن بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرّقوا في الثغور - : إنّكم إنّما خرجتم
ص: 542
أن تجاهدوا في سبيل اللّه ، تطلبون دين محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنّ دين محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد أُفسِد مِن خلفكم وتُرِك ، فهلموا فأقيموا دين محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
فأقبلوا من كلّ أُفق حتّى قتلوه» (1).
ثمّ ذكر ابن يسار ، أنّ عثمان كتب إلى ابن أبي سرح عامله على مصر - حين تراجع الناس [عنه] ، وزعم أنّه تائبٌ - كتاباً يأمره فيه بقتل بعض الّذين شخصوا من مصر ، وعقوبة بعضهم في أنفسهم وأموالهم ، منهم نفرٌ من الصحابة ، ومنهم قومٌ من التابعين.
وقال في آخره : «فلمّا رأوا ذلك ، رجعوا إلى المدينة ، فبلغ الناس رجوعهم والذي كان من أمرهم ، فتراجعوا من الآفاق كلّها ، وثار أهلُ المدينة» (2).
وروى - أيضاً - حديثاً ، عن الكلبيّ ، قال فيه : «فلمّا رأى عثمان ما نزل به ، وما قد انبعث عليه من الناس ، كتب إلى معاوية : أمّا بعد ، فإنّ أهل المدينة كفروا ، وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إليّ مَن قِبَلك مِن مقاتلة أهل الشام ، على كلّ صَعب وذَلول.
فلمّا جاء معاوية الكتابُ ، تربّص به ، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - وقد علم اجتماعهم - ، فلمّا أبطأ أمره على عثمان ، كتب إلى يزيد بن أسد بن كرْز (3) ، وإلى أهل الشام ، يستنفرهم - إلى أن قال : -
ص: 543
وكتب إلى عبد اللّه بن عامر ، أن اندُب إليّ أهلَ البصرة» (1) .. الحديث.
ثمّ روى بعده حديثاً ، أخرجه عن عبد اللّه بن الزبير ، عن أبيه ، قال فيه : «وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجّون ويقسمون له باللّه لا يُمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه ، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ اللّه تعالى» (2).
إلى غير ذلك ممّا رواه الطبريُّ وغيره ، من الأخبار الدالّة على استباحة الصحابة لقتله ، ومشاركتهم فيه يداً أو لساناً أو بالرضا (3) ، التي منها ما أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) من أنّهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام (4).
أخرج الطبريُّ (5) ، عن أبي بشير العابدي ، قال : «نُبذ عثمان ثلاثة أيام لا يدفن ، ثمّ إنّ حكيم بن حزام القرشيّ وجبير بن مطعم بن عديّ كلّما عليا في دفنه ، وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك ، ففعل ، وأذِن لهم عليٌّ.
فلمّا سمع الناس بذلك ، قعدوا له في الطريق بالحجارة ، وخرَج به ناسٌ يسيرٌ من أهله ، وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له : حشُّ كوكب (6) ، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.
ص: 544
فلمّا خُرِجَ به على الناس ، رجموا سريره ، وهمّوا بطرحه ، فبلغ ذلك عليا ، فأرسل إليهم يعزم عليهم لَيكفنَّ عنه ، فانطلقوا به حتّى دُفن في حشّ كوكب» (1).
وأخرج - أيضاً - ، عن أبي كريب (2) - عامل بيت مال عثمان - ، قال : «دُفن عثمان بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته إلاّ مروان وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة ، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه.
وأخذ الناس الحجارة وقالوا : نعثلٌ ، نعثلٌ ؛ وكادت تُرجم ، فقالوا : الحائط ، الحائط ؛ فدُفن في حائط خارجاً» (3).
ثمّ أخرج (4) عن عبد اللّه بن ساعدة ، قال : «لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ، ثمّ حمله أربعةٌ» وذكرهم ، وقال : «فلمّا وضع ليُصلّى عليه ، جاء نفرٌ من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه ، فيهم أسلم ابن أوس وأبو حبّة المازني ، في عدة ، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع - إلى أن قال : - فقالوا : لا واللّه ، لا يُدفن في مقابر المسلمين أبداً!
فدفنوه في حشّ كوكب».
وأخرج - أيضاً - ، عن عبد اللّه بن موسى المخزومي ، قال : «لمّا قُتل عثمان أرادوا حزّ رأسه ، فوقعت عليه نائلة وأُمّ البنين فمنعنهم ،
ص: 545
وصِحن ، وضربن الوجوه ، فقال ابن عُديس (1) : اتركوه! فأُخرج عثمان - ولم يغسَّل - إلى البقيع ، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنازة ، فأبت الأنصار» (2).
وأخرج - أيضاً - ، عن أبي عامر ، قال : «كنتُ أحدَ حملة عثمان حين قتل ، حملناه على باب وإنّ رأسه ليقرع الباب لإسراعنا به ، وإنّ بنا من الخوف لأمراً عظيماً ، حتّى واريناه في قبره في حشّ كوكب» (3).
ثمّ نقل الطبريُّ روايتين - في ما كتبه إليه السَّرِيُّ - أنّه صلّى عليه مروان (4).
وروى في «الاستيعاب» ، بترجمة عثمان ، أنّه لمّا قُتل أُلقيَ على المزبلة ثلاثة أيّام ، فلمّا كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلا ، فاحتملوه.
فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ، ناداهم قومٌ من بني مازن : واللّه لئن دفنتموه ها هنا لنخبرنّ الناس غداً.
ص: 546
فاحتملوه ، وكان على باب ، وإنّ رأسه على الباب ليقولنّ : طق .. طق .. حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب ، فاحتفروا له (1).
فهذه الأخبار - ونحوها - دالّةٌ على أنّ الصحابة تبرّأوا منه ، وأرادوا قتله ، وأعانوا عليه.
بل جملةٌ منها دالّةٌ على قول كثير منهم بكفره ، وأنّه مفسِد لدين النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيجبُ قتاله ؛ ولذا باشر بعضهم قتله ، ومنعوا من الصلاة عليه ، ومنعت الأنصار من دفنه في مقابر المسلمين ، حتّى دُفن في مقبرة اليهود «حشّ كوكب».
وحتّى خرجوا - كما في إحدى روايتَي السَّرِيّ - بجيفتَي عبديْن له قتلا في الدار ، وجرّوا بأرجلهما ، ورُمي بهما على البلاط ، فأكلتهما الكلاب (2).
وأما ما زعمه الخصمُ ، من اتّفاق المؤرّخين على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بعثَ الحسن والحسين وابن الحنفيّة وأولاد جعفر ..
فمِن كذباته الواضحة!
وغاية ما ذكره الطبريُّ وابنُ الأثير وابنُ عبد البرّ ، دفاع الحسن (عليه السلام) عنه (3).
وزاد ابن حجر في «الصواعق» : الحسين (عليه السلام) ، وأنّ الحسن خضب بالدماء ، وأنّه لمّا بلغ أمير المؤمنين والزبير وطلحة وسعداً قتل عثمان خرجوا وقد ذهبت عقولهم ، وأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسنين (عليهما السلام) :
ص: 547
كيف قُتل وأنتما على الباب؟! ورفع يده ولطم الحسن (عليه السلام) ، وضرب صدر الحسين (عليه السلام) ، وشتم محمّد بن طلحة وعبد اللّه بن الزبير ، ناقلا ذلك كلّه عن ابن عساكر (1).
وهو من الكذب الصريح ؛ لأنّ الحسن (عليه السلام) إذا دافع حتّى خُضب بالدم - كما ذكره ابن عبد البرّ أيضاً (2) - ، لم يستحقّ - بأبي وأُمّي - من أبيه اللطمة.
ولأنّ طلحة أعظم المجلِبين على عثمان ، حتّى قتله به مروان يومَ الجمل (3) ، فكيف يذهب عقله بسماع خبر قتله؟!
وكيف يبعث ابنه للدفاع عنه ، وهو - أيضاً - ممّن جدّ في منعه الماء (4)؟!
ولو كانت عقولهم تذهبُ بمجرّد سماع خبر قتله ، فما بالُهم لم يدافعوا عنه وتركوه على المزبلة ثلاثة أيّام ، وما صلّوا عليه ، ولا أمروا بالصلاة عليه ودفنه؟!
أتراهم لو اتّفقوا - وهم وجوه المسلمين - على الدفاع عنه ، أو على دفنه والصلاة عليه ، يقدرُ أحدٌ مخالفتهم ومنعهم؟!
ص: 548
وقد روى في «العقد الفريد» (1) ، عن العتبي ، قال : «قال رجلٌ من بني ليث : قدمت المدينة ، فلقيت سعد بن أبي وقّاص ، فقلت : يا أبا إسحاق! من قتل عثمان؟
قال : قتله سيفٌ سلّته عائشةُ ، وشحذه طلحة ، وسمّه عليٌّ.
قلت : فما حالُ الزبير؟
قال : أشار بيده ، وصمت بلسانه».
وحكى في «كنز العمّال» (2) ، في فضائل عثمان ، عند بيان حصره وقتله ، عن ابن أبي شيبة ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «مَن كان سائلا عن دم عثمان ، فإنّ اللّه قتله وأنا معه».
ورواه ونحوه ابنُ أبي الحديد (3) ، في شرح قوله (عليه السلام) : «لو أمرتُ به لكنتُ قاتلا ، أو نهيتُ عنه لكنتُ ناصراً ، غير إنّ مَن نصره لا يستطيع أن يقول : خذله مَن أنا خيرٌ منه ، ومَن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره مَن هو خيرٌ منّي» (4).
وفسّر ابنُ أبي الحديد كلامه الأخير ، فقال : «معناه أنّ خاذليه كانوا خيراً من ناصريه ؛ لأنّ الّذين نصروه كان أكثرهم فسّاقاً ، كمروان وأضرابه ، وخذله المهاجرون والأنصار» (5).
ص: 549
بل معناه فوق ذلك ؛ لإرادته له - مع بيان كونه واضحاً ظاهراً - بحيث لا يستطيع الناصرُ والخاذلُ القول بخلافه.
ثمّ إنّا لا ندّعي مشاركة أمير المؤمنين (عليه السلام) في قتل عثمان ، ولا قاله المصنّف (رحمه اللّه) كما زعم الخصمُ ..
ولكن نقول : إنّه لم يره معصومَ الدم محرّمَ القتل ، وإلاّ لنهى ودافع عنه ؛ قياماً بواجب النهي عن المنكر ، بل قال (عليه السلام) : «اللّه قتله وأنا معه».
ومعناه - كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) - : «اللّه حكم بقتله ، وأنا أحكم بحكمه».
ونحو هذا كثيرٌ في كلامه (عليه السلام).
وإنّما لم يتظاهر بالإعانة عليه لموانع كثيرة.
وكان (عليه السلام) يصدر منه الكلام الكثير في عدم تخطئة قاتليه (1).
ولو خطأهم ، لجفاهم ولم يجعلهم أخصّ أصحابه وأقربهم منه ، كعمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، ومحمّد بن أبي بكر ، وعمرو بن الحَمِق الخزاعي ، الذي هو أحدٌ الأربعة الّذين دخلوا على عثمان الدار ، كما في ترجمة عمرو من «الاستيعاب» (2) و «أُسد الغابة» (3).
وهو الذي وثب عليه ، وجلس على صدره ، وطعنه تسع طعنات ،
ص: 550
وقال - كما في «تاريخ الطبريّ» (1) و «كامل» ابن الأثير (2) - : «أمّا ثلاثٌ منهنّ فإنّي طعنتُهنّ إيّاه لله ، وأمّا ستٌّ فلِما في صدري عليه».
وأمّا ما نقله عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «لو أنّي أعلمُ أنّه يذهبُ من صدور بني أُميّة ...» إلى آخره ..
فظاهر البهتان ؛ لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم أنّ بني أُميّة يعلمون عدم مشاركته في دم عثمان ، ويعلمُ أنّ الوهج في صدورهم ليس لقتله ؛ بل للعداوة الدينيّة ، وطلبهم الدنيا بنسبة المشاركة له.
هذا ، وممّا ذكرناه من الأخبار يُعلم أنّ مروان كان حاضراً دفن عثمان ، وبعضها مصرّحٌ بأنّه صلّى عليه - كروايتَي السَّرِيّ اللتين أشرنا إليهما (3) - ، فلا كذب من المصنّف (رحمه اللّه) ، كما رماه به الخصمُ.
على أنّ المصنّف لم يروِ صلاة مروان ، بل حضوره لجنازته ..
ومن الجهل إحالتُه لصلاة مروان وحضوره ، بدعوى أنّه جُرح جراحة عظيمة فهرب إلى الشام ؛ فإنّ هذا لو منع من حضوره وصلاته ، لمنعه من الهرب إلى الشام بطريق أَوْلى.
على أنّه لم يهرب ، بل بقيَ بالمدينه وبايع أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ثمّ ذهب إلى مكّة ونكث مع مَن نكث يومَ البصرة ، ثمّ ولّى إلى الشام (4).
وأما اعتذاره عن عدم صلاة الصحابة على عثمان ..
فواه جدّاً ؛ لأنّ الأخبار السابقة ونحوها ، صرّحت بأنّ الأنصار منعوا
ص: 551
من الصلاة عليه ، بل يُستفاد منها اتّفاق عامّة الصحابة على المنع منها ولو بالرضا.
وكيف يتركون الصلاة والدفن الواجبين خوفاً من أهل الأمصار ، وهم أكثرُ منهم وأعزّ شأناً؟!
وما ذكره من هرب أمير المؤمنين (عليه السلام) خوفاً منهم ..
فمن الكذب المضحك ، وقد تركتُ القول فيه لقارئه!
بقيَ شيءٌ ، وهو ما يتعلّق بالأخبار التي استدلّ بها الخصم لإثبات مظلوميّة عثمان وحسن حاله ..
أمّا أوّلا ؛ فلأنّها من أخبارهم ، وقد عرفت مراراً أنّ ذِكرها في مقام المحاجة معنا عبثٌ ؛ لأنّها ليست حجةً علينا (1).
وأما ثانيا ؛ فلأنّ الرواية الأُولى ، الدالّة على صبر عثمان وعهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إليه (2) ، كاذبةٌ جزماً ، وإلاّ لأعلم النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الصحابةَ بمظلوميّته ؛ لئلاّ يقترفوا فيه الأُمور العظام ، وليدفعوا عنه شرّ الأنام ، فإنّهم أعدل العدول عند القوم.
مع أنّها معارضة بما يدلّ على عدم صبره ، وأنّه لو كان له ناصرٌ لفعل الأفاعيل ..
كالرواية المتقدّمة المصرّحة بكتابته إلى معاوية وابن عامر ويزيد بن أسد وأهل الشام ، يستفزّهم لحرب أهل المدينة ، وقال : إنّهم كفروا ، وأخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة (3).
ص: 552
وكالرواية التي رواها الطبريُّ ، عن الزبير (1) - ومرّ طرفٌ منها (2) - ، قال - بعدما ذكر مسير المصريّين وكتابهم إليه - : «وكتب أهلُ المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجّون ويقسمون له باللّه لا يُمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه ، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ اللّه.
فلمّا خاف القتل ، شاور نصحاءه وأهل بيته ، فقال لهم : قد صنع القوم ما رأيتم ، فما المَخرج؟
فأشاروا عليه أن يُرسل إلى عليّ بن أبي طالب ، فيطلب إليه أن يردّهم عنه ، ويعطيهم ما يرضيهم ، ليطاولهم ، حتّى يأتيه إمداده».
إلى أن قال : «وكتب بينهم كتاباً ... ثمّ أخذ عليه في الكتاب أعظمَ ما أخذ اللّه على أحد من خلقه من عهد وميثاق ، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار ، فكفّ عنه المسلمون ورجعوا ... ، فجعل يتأهّبُ للقتال ، ويستعدّ بالسلاح ، وقد كان اتّخذ جنداً عظيماً من رقيق الخُمسِ ، فلمّا مضت الأيّام الثلاثة - وهو على حاله لم يغيّر شيئاً ممّا كرهوه ، ولم يعزل عاملا - ، ثار به الناس» .. الحديث.
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (3).
.. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة (4).
هذا ، مع ضعف تلك الرواية ؛ فإنّ الترمذي أخرجها بجماعة (5) ،
ص: 553
منهم سفيان بن وكيع ، الذي سبق بعض ما قيل فيه في مقدّمة الكتاب (1).
وأما الرواية الثانية - وهي رواية مرّة بن كعب ، ورواها الترمذيُّ أيضاً (2) - ، فهي مع ضعف سندها بجماعة - منهم : محمّد بن بشّار ، الذي سبق بعض ترجمته في المقدّمة (3) - ، قد روى الترمذيُّ عن مرّة أنّه رواها عندما قامت الخطباء بالشام (4).
وأنت تعلم أنّ هناك محلّ الكذب والتهمة!
مع أنّه يمتنع عادة أن يجتاز عثمانُ على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه ولا يسلّم عليهم وهو بقربهم ؛ إذ لو سَلّم عليهم لعرفه مُرّة ، ولم يحتجْ إلى أن يقوم إليه ليعرفه ؛ ولو كان بعيداً ، لَما جرى التخاطب بين النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومرّة.
وأثرُ التصنّع من الراوي باد على ذلك التقنّع.
وأمّا الثالثة - وهي رواية ثمامة ، ورواها الترمذي أيضاً (5) - ، فيرِدُ عليها : إنّها ضعيفة السند بجماعة ، منهم : يحيى بن أبي الحجّاج المنقري ، الذي قال فيه ابنُ معين : ليس بشيء (6).
وثانياً : إنّ الترمذي ذكر في صدر الرواية ، أنّ عثمان أشرف يومَ الدار وقال : ائتوني بصاحبيكم اللذين ألّباكم علَيَّ!
ص: 554
قال : فجيء بهما كأنّهما جملان ، أو كأنّهما حماران ، فقال : أنشدكم اللّه ... (1) .. الحديث.
وظاهره : أنّ المنشود هو الصاحبان ، ولا بُد أن يكونا صحابيّين ، ومن قدماء الصحابة ، لتصحّ مناشدتهما بهذه الأُمور.
ولا ريب أنّ أحدهما طلحة ؛ لأنّه أظهرُ مَن ألّب على عثمان من الصحابة (2).
فحينئذ ، إن جاز عند القوم أن يكون طلحةُ - مع شهادته بهذه الأُمور العظيمة - يسعى بقتل عثمان ومنعه الماء ، كان مِن أفسق الفاسقين ، وهم لا يقولونه.
وإن لم يجز ذلك عندهم ، كذبت الرواية.
ولو فرض أنّ المنشود هو عموم الصحابة ، فالرواية أَوْلى بالكذب ، وإلاّ كان الأمر أشنعَ وأفظع!
ولا أدري ما وجه قوله : «حتّى أشرب من ماء البحر» (3) ، ولا بحر عنده؟! إلاّ أن يريد به ماءً مالحاً في بئر بداره ، فيكون مجازاً ، وهو تكلّفٌ!
* * *
ص: 555
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : إنّه كان يستهزئ بالشرائع ، ويتجرّأ على المخالفة لها (2) ..
في «صحيح مسلم» ، أنّ أمرأةً دخلت على زوجها ، فولدت لستّة أشهر ، فذُكر ذلك لعثمان بن عفّان ، فأمر بها أن تُرجَم ، فدخل عليه عليٌّ فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) (3) ، وقال أيضاً : ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) (4).
ص: 556
قال : فواللّه ما كان عند عثمان إلاّ أن بعث إليها ، فرُجمَت (1).
كيف استجاز أن يقول هذا القول ، ويُقدِم على قتل امرأة مسلمة عمداً من غير ذنب ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) (2)؟!
وقال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (3) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (4) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (5).
وفي «الجمع بين الصحيحين» ، أنّ عثمان وعليا حجّا ، ونهى عثمانُ عن المتعة ، وفعلها أمير المؤمنين ، وأتى بعمرة التمتّع.
فقال عثمان : أنهى الناسَ وأنت تفعله؟!
فقال أمير المؤمنين : ما كنت لأدع سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بقول أحد (6).
ص: 557
وفي «الجمع بين الصحيحين» ، أنّ النبيَّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صلّى صلاة المسافر بمنى وغيرها ركعتين ، وكذا أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في صدر خلافته ، ثمّ أتمّها أربعاً (1).
وفيه : عن عبد اللّه بن عمر ، قال : «صلّى بنا رسول اللّه بمنى ركعتين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان صدراً من خلافته ، ثمّ إنّ عثمان صلّى بعد أربعاً» (2).
وروى الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» ، من عدّة طرق ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صلّى في السفر دائماً ركعتين (3).
فكيف جاز لعثمان تغييرُ الشرع وتبديله؟!
وفي تفسير الثعلبي ، في قوله تعالى : ( إنْ هذان لَساحران ) (4) ، قال عثمان : إنّ في المصحف لحناً ، واستسقمه (5) العربُ بألسنتهم.
فقيل له : ألا تُغيّره؟!
فقال : دعوه! لا يُحلّلُ حراماً ولا يُحرِّمُ حلالا (6)!
وفي «صحيح مسلم» ، أنّ رجلا مدح عثمان ، فجثا المِقداد على
ص: 558
ركبتيه - وكان رجلا ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصى (1).
مع أنّ المِقداد كان عظيم الشأن ، كبير المنزلة ، حسن الرأي (2) ، قال فيه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «قدَّ مِنّي قدّاً» (3).
ص: 559
وهذا يدلُّ على سقوط مرتبة عثمان عنده ، وأنّه لا يستحقّ المدحَ ، مع أنّ الصحابة قد كان يمدح بعضُهم بعضاً من غير نكير.
* * *
ص: 560
وقال الفضل (1) :
ما ذكر أنّ عثمان كان يستهزئ بالشريعة ، فهذا كذبٌ باطلٌ لا دليل عليه.
وأمّا ما ذكر أنّه أمر برجم المرأة ، ولم يسمع ما ذكره أميرُ المؤمنين ، فهذا لا يدلّ على أنّه استهزأ بالشريعة ، وربّما كان له فيه اجتهاد اقتضى رجمها.
فهو عملَ بعلمه واجتهاده ، واختلاف المجتهدين لم يكن من باب الاستهزاء على الشريعة.
وأمّا ما ذكر من أمر متعة الحجّ ، فهذا محلُّ الاختلاف ، وكلٌّ عمل باجتهاده ، ولا اعتراض للمجتهد على المجتهد.
وأما أنّه صلّى بمنى أربعاً ، فقد اعترضوا عليه حين اجتمع عليه أهل الأمصار ، فأجاب : إنّ رسول اللّه وأبو بكر وعمر كانوا إذا حجوا لم يكن لهم بمكة بيوتٌ ومنازلُ ، ولم يكونوا عازمين على السكون.
وإنّي كان لي منازلُ وبيوت في مكّة ، فنويتُ الإقامة في تلك الأيّام فأتممتُ الصلاة ؛ لأنّ مكّة كان منزلي ووطني (2).
وأمّا عدمُ تصحيح لفظ القرآن ؛ لأنّه كان يجب عليه متابعةُ صورة
ص: 561
الخطّ ، وهكذا كان مكتوباً في المصاحف ، ولم يكن التغيير له جائزاً ، فتركه ؛ لأنّه لغة بعض العرب.
وأمّا عملُ مقداد وحثوه الحصى على وجه مادح عثمان ؛ فلأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «احثوا على وجه المدّاحين التراب» (1) ، فعمل مِقداد بالحديث.
وربّما كان المادح طاعناً في المدح مفرطاً ، فحثا على وجهه الحصى ؛ لأنّ عمله كان منافياً للسنة.
* * *
ص: 562
لا أعرف من أين يحتمل تعويل عثمان على الاجتهاد في قصّة الرجم؟!
أمن دلالة الآيتين اللتين استدلّ بهما أميرُ المؤمنين على جواز كون الحمل ستّة أشهر ، فيلزم درء الحدِّ عن المرأة؟!
أم من ظاهر حال عثمان من العجز عن الجواب ، حتّى أقسم الراوي وقال : «فواللّه ما عند عثمان إلاّ أن بعث إليها ، فرُجمت»؟!
وهلاّ ذكر الخصم وجهاً لاجتهاد عثمان في قبال آي الكتاب؟!
مع أنّ الحمل لو كان من زنى ، فلا بُد أن يكون الزنى قبل إحصان المرأة وتزويجها ، فيكون عليها الحدُّ بالجلد لا الرجم ، فَلِمَ أمر بها فرُجمت؟!
وقد وقع نظيرُ ذلك لعليّ (عليه السلام) مع عمر ، كما نقله في «كنز العمّال» (1) ، عن جماعة بأسانيدهم ، عن الأسود الدؤلي ، ولكن لم يذكر فيه ما صنع عمرُ بعد نهي أمير المؤمنين (عليه السلام) له (2).
ومثله الكلام في متعة الحجّ ؛ فإنّه لو كان لعثمان وجهٌ ، لردّ به على أمير المؤمنين ، إذ رماه بمخالفة رسول اللّه بقوله : «ما كنت لأدع سنة رسول اللّه بقول أحد».
بل لم يكن عند عثمان إلاّ أن قال : «دعنا منك!» ، كما رواه
ص: 563
وهل يمكن الاجتهاد بمنعها ، وقد شرّعها النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى الأبد ، كما مرّت أخبارها عند الكلام في متعة الحجّ (3)؟!
لكنّ اجتهادهم من غير دليل ليس بعزيز ، بارك اللّه لهم في هذا الاجتهاد الذي استباحوا به نسخ الكتاب والسنة ومسخ الشريعة!
وأمّا إتمام عثمان بمنى ، فالأمر فيه كأخواته ؛ لأنّ القصر في السفر ضروريٌّ لا يمكن الاجتهاد بخلافه ، ولذا قال ابن عمر : كما في «الكنز» (4) ، عن الديلمي ، عنه : «صلاة المسافر ركعتان ، من ترك السنة فقد كفر».
وجعل ابنُ عمر - أيضاً - القصرَ بمنى ، من لوازم معرفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فقد روى أحمد في «مسنده» (5) ، عن داود بن أبي عاصم ، قال : «سألتُ ابنَ عمر عن الصلاة بمنى؟
قال : هل سمعتَ بمحمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
قلت : نعم ، وآمنتُ به.
قال : فإنّه كان يُصلّي بمنى ركعتين».
ومن ثمّ أنكر الصحابة على عثمان إتمامه بمنى ، وشقّ عليهم ..
ص: 564
روى أحمد (1) - من حديث - ، أنّه قيل لأبي ذرّ : «إنّ عثمان صلّى أربعاً! فاشتدّ ذلك على أبي ذرّ وقال قولا شديداً».
وروى البخاري (2) ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : «صلّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد اللّه بن مسعود ، فاسترجع ، ثمّ قال : صلّيتُ مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنى ركعتين ، وصلّيتُ مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصلّيتُ مع عمر بمنى ركعتين ، فليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان».
ومثله في «صحيح مسلم» (3).
وروى الطبري في «تأريخه» (4) ، عن ابن عبّاس ، قال : «أوّلُ ما تكلّم الناسُ في عثمان ظاهراً ، أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين ، حتّى إذا كانت السنة السادسة أتمّها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
حتّى جاءه عليٌّ (عليه السلام) في مَن جاءه ، فقال : واللّه ما حدث أمرٌ ، ولا قدم عهدٌ ، ولقد عهدت نبيّك (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يُصلّي ركعتين ، ثمّ أبا بكر ، وعمر ، وأنت صدراً من ولايتك!
فما درى ما يرجع إليه ، فقال : هذا رأيٌ رأيتُه!».
ومثله في «كامل» ابن الأثير (5).
ص: 565
ولا نعرف ما هذا الرأيُ ، إلاّ عدم المبالاة بالدين ، والاجتهاد بالخروج عن الشريعة!
والعجبُ من عائشة أنّها زادت في الطنبور نغمةً ، فصلّت في السفر مطلقاً أربع ركعات!
روى البخاريُّ (1) ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : «الصلاة أوّل ما فُرضت ركعتين ، فأُقرّت صلاةُ السفر ، وأُتِمّت صلاةُ الحضر.
قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تُتِمُّ؟!
قال : تأوّلتْ ما تأوّل عثمان».
ومثله في «صحيح مسلم» (2).
وليت شعري ، ما هذا التأوّل؟!
ولعلّ مراد عروة أنّ الإشكال كما يَرِدُ عليها ، يَرِدُ على عثمان قبلها ، فهي ليست أوّل مخالف للسنة الواضحة حتّى تُختصَّ بالانتقاد.
وأمّا ما رواه الفضلُ من اعتذار عثمان ، فمع اضطرابه أنّه لو كان عذراً تاما ، فلِمَ قصّر في صلاته السنين السابقة؟!
مع أنّه لو تمّ عذره ، فإنّما يكون عذراً في الإتمام بمكّة لا بمنى.
وأهل مكّة أنفسهم إذا خرجوا إلى منى قصّروا ، فكيف بغير المقيم بها؟!
قال مالك في «موطّئه» تحت عنوان : «صلاة منى» ، من كتاب الحجّ :
ص: 566
«أهلُ مكّة يصلّون بمنى إذا حجّوا ركعتين ركعتين ، حتّى ينصرفوا إلى مكة» (1).
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فالعذر إنّما يأتي في عثمان نفسه ، فما باله حمل الناس جميعاً على الإتمام حتّى صلّى بهم أربعاً؟!
وخيف من خلافه ، وصارت الأربعُ سنةً لبني أُميّة ..
روى مسلم (2) ، أنّ ابن عمر كان إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً ، وإذا صلاّها وحده صلّى ركعتين.
بل يظهرُ من بعض الأخبار أنّ عثمان ، كما جعل الإتمامَ بمنى سنةً ، جعلَه سنةً بمكة على الناس عامّة ، سواء نووا الإقامة بمكّة عشرة أيام أم لا!
فقد روى أحمد في «مسنده» (3) ، عن عبّاد بن عبد اللّه بن الزبير ، قال : «لمّا قدم علينا معاوية حاجّاً ، قدمنا معه مكّة ، فصلّى بنا الظهر ركعتين - إلى أن قال : - نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، فقالا له : ما عاب أحدٌ ابنَ عمّك بأقبح ما عبتَه به.
فقال لهما : وما ذاك؟!
فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟!
فقال لهما : ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع أبي بكر ، وعمر.
ص: 567
قالا : فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّها ، وإنّ خلافك إيّاه له عيبٌ.
قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً».
فانظر وتدبّر في هذه الملاعب ، والتهتّك في خلاف الشريعة ، تعرف ما هم عليه من الضلال ، وأنّه ليس للمؤمن أن يعدّهم من المسلمين ، فضلا عن عدّهم في صفوف الأئمة الّذين يجب اتّباعهم!
هذا ، وقد روى الطبريُّ - أيضاً - أنّ عثمان اعتذر عن إتمامه بمنى بعذر ردّه عبد الرحمن بن عوف ..
قال بعدما أنكر عليه عبد الرحمن : «يا أبا محمّد! إنّي أُخبرتُ أنّ بعض مَن حجّ مِن أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان ، هذا إمامكم يصلّي ركعتين.
وقد اتّخذتُ بمكّة أهلا ، فرأيت أن أُصلّي أربعاً ؛ لخوف ما أخاف على الناس ، وأُخرى قد اتّخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مالٌ ، فربّما اطّلعتُه (1) فأقمتُ فيه بعد الصَّدر (2).
فقال عبد الرحمن : ما مِن هذا شيء لك فيه عذر ..
أمّا قولك : (اتّخذتُ أهلا) ، فزوجتك بالمدينة ، تخرجُ بها إذا
ص: 568
شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنّما تسكن بسكناك.
وأمّا قولك : (لي مالٌ بالطائف) ، فإنّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال ، وأنت لستَ من أهل الطائف.
وأما قولك : (يرجع [مَن حجَّ] مِن أهل اليمن وغيرهم فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين وهو مقيمٌ) ، فقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ينزل عليه الوحيُ ، والناسُ يومئذ الإسلامُ فيهم قليل.
ثمّ أبو بكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلامُ بِجِرانه (1) ، فصلّى بهم عمر حتّى مات ركعتين.
فقال عثمان : هذا رأيٌ رأيتُه.
فخرج عبد الرحمن ، فلقي ابنَ مسعود ، فقال : أبا محمّد! غيرُ ما يُعلم.
قال : لا.
قال : فما أصنع؟!
قال : اعملْ بما تعلم.
فقال ابن مسعود : الخلاف شرٌّ» (2).
ومثله في «كامل» ابن الأثير (3).
وليت شِعري ، ما معنى الرأي بعد انقطاع الحجة؟! وما الداعي
ص: 569
للشرِّ بعد اتّضاح المحجة؟!
ويَرِدُ على عثمان - أيضاً - : أنّ الكلام في صلاته بمنى أربعاً ، وهي لا تتفرّع على اتّخاذه بمكة أهلا وإقامته بها ، كما عرفت (1).
وكيف يمكن أن يستدلّ أهلُ اليمن وغيرُهم بصلاة عثمان بمنى ركعتين ، على كون حكم المقيم الصلاة ركعتين ، وهو غير مقيم بها؟!
وكيف تكون صلاته أربعاً رافعةً لوهمهم ، وليست منى محلَّ إقامته؟!
ولو جاز له التمامُ ، فكيف يصحُّ جمع الناس على الأربع لمجرّد ذلك الوهم ، وهم بين مقيم وغير مقيم ، فأبطلَ عملَ الأكثر؟!
ولعمري ، إنّ لسان العذر عن عثمان وبني أبيه لكليلٌ!
فما ضرّ أهل السنة لو اتّبعوا سبيل الإنصاف ، وأقرّوا بالحق لينفعهم ( يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ) (2) ، ويوم يبرأ المتبوع من التابع (3)؟!
وأمّا ما أجاب به الخصمُ عن مسألة اللحن ، فلا ربط له بإشكال المصنّف (رحمه اللّه) ؛ لأنّ مراد المصنّف : أنّ عثمان نسب اللحن إلى القرآن ، وهو جرأةٌ على اللّه تعالى ، وإثباتُ نقص له ولكتابه ، وفي ذلك خروجٌ عن الإسلام ، وليس مراده أنّه لِمَ لَمْ يغيّر القرآن؟ فإنّ هذا ليس من وظيفة عثمان.
ص: 570
ومن هنا يُعلم أنّ قول الخصم : «لأنّه لغةُ بعض العرب» ، يكون ردّاً لعثمان ، لا جواباً عنه.
وأمّا جوابه عن عمل المِقداد بما رواه عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فهو مذكورٌ في تتمّة الحديث الذي نقله المصنّف (رحمه اللّه) عن مسلم ..
فإنّه رواه في «كتاب الزهد» (1) ، وذكر فيه أنّ المِقداد لمّا حثا الحصباء على وجه مادح عثمان ، قال له عثمان : ما شأنك؟!
قال : «إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب».
لكنّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يعتنِ بذِكر هذه التتمّة ؛ لعدم صلوحها لدفع الطعن عن عثمان ..
فإنّها إنْ أُبقيت على ظاهرها ، كانت كذباً ؛ لأنّ المدح للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولأصحابه بينهم كان شائعاً في زمن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بالشعر وغيره ، وكان النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يرضى به ويسمعه.
وإنْ صُرفت عن ظاهرها - بتقييد المدّاحين بمدّاحي الفسّاق ، أو المدّاحين كذباً ؛ لتجاوزهم في المدح قدر الممدوح - كانت مؤكّدة للطعن في عثمان.
أمّا على التقييد الأوّل ؛ فظاهر.
أمّا على الثاني ؛ فلأنّ الواجب على عثمان أن يفعل فِعل المِقداد ، بل هو أَوْلى منه ، فحيثُ لم يفعل ، كان مخالفاً لأمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
على أنّه ما عسى أن يقول المادح لعثمان أكثر من أن يجعله إماماً
ص: 571
هادياً مهديا أو نحوه؟!
فإذا أنكر المِقداد بهذا الانكار ، ثبت الطعن في عثمان ؛ لأنّ المِقداد مُسلَّمُ الفضل وعُلُوِّ المنزلة في الدين ، حتّى جاء في صحاح أخبارهم ، أنّه أحدُ الأربعة الّذين يحبّهم اللّه تعالى ، وأمر نبيّه بمحبّتهم (1) ، وأنّه أحدُ الوزراء النجباء (2).
.. إلى غير ذلك مما ورد في فضله (3).
* * *
ص: 572
[جرأة عثمان على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)] (1)
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (2) :
ومنها : جرأته على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
روى الحميدي في تفسير قوله تعالى : ( وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا ) (3) ..
قال السُدّي (4) : لمّا توفّي أبو سَلَمة (5) وخُنيس بن حُذافة (6) ،
ص: 573
وتزوّج النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) امرأتيهما أُمَّ سلمة وحفصة ، قال طلحة وعثمان : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ، ولا ننكح نساءه إذا مات؟!
واللّهِ لو قد مات ، لقد أَجْلَبنا (1) على نسائه بالسهام!
وكان طلحة يريد عائشة ، وعثمان يريد أُمّ سلمة.
فأنزل اللّه تعالى : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ اللّه ولا أن تنكِحوا أزواجَه مِن بعدِه أبداً إنّ ذلكم كان عند اللّه عظيماً ) (2) ..
وأنزل : ( إنْ تُبدوا شيئاً أو تُخفوه ... ) (3) ..
وأنزل : ( إنّ الّذين يؤذون اللّهَ ورسولَه لعنهمُ اللّهُ في الدنيا والآخرة وأَعدّ لهم عذاباً مهيناً ) (4) (5).
ص: 574
وقال الفضل (1) :
إن صحّ ما رواه ، فإنّهم كانوا لا يعلمون أنّ أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يُنكَحن مِن بعده.
ومن عادة العرب أن يتكلّموا في النساء ، وفي التزوّج بعد الرجال مثل هذا ، وليس فيه قصدُ إيذاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بل ذكروا هذا الكلام على سبيل عادة العرب ، فأعلمهم اللّه تعالى بعدم جواز هذا.
وأمّا نزول قوله تعالى : ( الّذين يؤذون اللّه ورسوله ) ، فهو في شأن المنافقين بلا كلام ، وهو يفتري أنّها نزلت فيهما.
ص: 575
قوله : «كانوا لا يعملون ...» إلى آخره ..
رجمٌ بالغيب ، والظاهر علمهم ؛ لأنّ الاستفهام في قولهما : «أينكحُ محمّد نساءنا ، ولا ننكح نساءه؟!» للإنكار بالضرورة ، وهو يقتضي معروفية المنع من نكاح أزواجه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، إمّا من سنته (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أو من قوله تعالى : (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (1).
فحينئذ يكون قولهما ردّاً لحكم اللّه ، وجرأةً على رسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فأراد اللّه جلّ وعلا تسجيل هذا الحكم بنصّ الكتاب العزيز ، ردعاً لهم ، وبياناً لكون نكاحهنّ من بعده عند اللّه عظيماً.
ولو سُلّم أنّ الحكم لم يكن معلوماً قبل نزول هذه الآيات ، فلا شكّ بدلالتها على أنّ تعريضَهم بنكاح أزواجه إيذاءٌ له ، وأنّ مَن آذاه ملعونٌ
ص: 576
في الدنيا والآخرة.
قال الرازي : «المراد : أنّ إيذاء الرسول حرامٌ ، والتعرّض لنسائه في حياته إيذاءٌ له ، فلا يجوز» (1).
على أنّ قولهما المذكور دالٌّ على استيائهما من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّهما يريدان الانتقام منه ، ولذا عبّرا عنه باسمه ، لا بوصفه بالرسالة ، أو نحوها من صفات الكرامة ، وهذا كاف في الإساءة إليه وإيذائه.
وما ذَكره من عادة العرب ، ممنوعةٌ ، ولو سُلّمت لم تدفع فظاعة قولهما وظهوره في ما ذكرنا.
واعلم أنّه لا ريب بنزول الآية في طلحة ، منفرداً أو منضمّاً إلى عثمان.
ويدلّ على نزولها بطلحة ما سبق في قصة الشورى ، من قول عمر لطلحة : «مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو عليك عاتبٌ ؛ للكلمة التي قلتها» (2).
وما نقله السيوطي في «لباب النقول» و «الدرّ المنثور» ، عن ابن سعد ، عن أبي بكر [بن] محمّد بن عمرو بن مخزوم ، أنّها نزلت في طلحة (3).
وفيهما - أيضاً - ، عن ابن أبي حاتم ، عن السُدّي ، أنّها نزلت فيه (4).
ص: 577
وزاد في «الدرّ المنثور» مثله ، عن عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة (1).
ونقل السيوطي - أيضاً - ، عن جماعة ، أنّها نزلت في رجل قال : «لو توفّي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تزوّجتُ فلانة» (2).
وسمّى بعضهم عائشة (3) ، وذكر بعضهم : أنّها ابنة عمّ الرجل (4).
والظاهر : أنّ الرجل هو طلحة ؛ لأنّه هو الذي ذكرها في الروايات السابقة ، وقال : «لو توفّي تزوّجتُ عائشة» ، وهو ابن عمّها أيضاً.
ويحتمل أن يراد بالرجل في الرواية التي لم تسمِّ الرجل ولا المرأة : عثمان ؛ فإنّه أحد الرجلين اللذين نزلت فيهما الآية ، برواية السُدّي القويّة عندنا (5) ؛ لموافقتها لأخبارنا (6) ، وإنْ تركَ أكثرُ أخبارِ القوم ذِكرَ عثمان ستراً عليه ، ويكفينا نزولها في طلحة ، فإنّه من أركانهم.
وأمّا ما ذكره الفضل ، من أنّه لا كلام في نزول الآية الأخيرة بالمنافقين ..
ص: 578
فمع أنّه مردود بما نقله الحميدي عن السُدّي ، لا يجديه نفعاً ؛ لأنّ لفظ الآية عامٌّ ، فيؤخذ بعمومه وإنْ كان سبب النزول هو المنافقين ، ويدخل فيه طلحة برواية الكثير ، وعثمان برواية السُدي.
فيكون قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ... ) (1) الآية ، مثبتاً لصغرى هي : أنّ طلحة ، أو هو مع عثمان ، ممّن آذى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ويكون قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... ) (2) الآية ، كبرى لتلك الصغرى ، فينتج منهما ما لا يخفى عليك!
* * *
ص: 579
[إنّ عثمان مطعون في القرآن] (1)
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (2) :
ومنها : ما رواه السُدي من الجمهور ، في تفسير قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ... ) (3) الآيات.
قال السُدي : «نزلت هذه في عثمان بن عفّان ؛ قال : لما فتح رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بني النضير ، فغنم أموالهم ، قال عثمان لعليّ : ائت رسولَ اللّه فسَلْهُ أرضَ كذا وكذا ، فإنْ أعطاكها فأنا شريكك فيها ، وآتيه أنا فأسأله إيّاها ، فإنْ أعطانيها فأنت شريكي فيها.
فسأله عثمان أوّلا ، فأعطاه إياها.
فقال له عليٌّ : أشركني؟ فأبى عثمان.
فقال : بيني وبينك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
فأبى أن يخاصمه إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقيل له : لِمَ لا تنطلق معه إلى النبيّ؟!
فقال : هو ابنُ عمّه ، فأخاف أن يقضي له!
فنزل قوله تعالى : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (4) إلى قوله تعالى :
ص: 580
( أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1).
فلمّا بلغ عثمان ما أنزل اللّه فيه ، أتى النبيَّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فأقرّ لعليّ بالحق» (2).
* * *
ص: 581
وقال الفضل (1) :
هذه الكلمات والمفتريات من تفاسير الشيعة.
وأمّا المفسّرون من أهل السنة ، ذكروا أنّها نزلت في شأن المنافقين ، لمّا لم يرضوا بحكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقالوا للزبير - عند المخاصمة والرفع إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وحكم النبيّ للزبير - : إنّه كان ابنَ عمّتك! فأنزل اللّه هذه الآيات.
وآثار الكذب والافتراء على هذه الكلمات لائحٌ لمن له أدنى درية في معرفة الحديث والأخبار.
* * *
ص: 582
لا محلّ لكلامه بعد كون السُدي من مشاهير مفسّريهم وقدمائهم ، كما ستعرف (1).
وأمّا ما نسبه إلى مفسّريهم ، فالظاهر أنّه كاذبٌ فيه ؛ لأنّ الرازي لم يذكره في تفسيره ، الذي هو أجمع كتبهم لأقوالهم ، ولا سيّما إذا تعلّقت بمكرمة أحد أوليائهم.
وإنّما نقل فيه ثلاثة أقوال ، عن مقاتل ، والضحّاك ، والحسن ، وليس هذا منها (2).
كما لم يذكره السيوطي في «الدرّ المنثور» ، وهو أجمع تفاسيرهم للأخبار (3).
ويقرِّب كذبَ الخصم اضطرابُ الأمر عليه ، فقال : «إنّه كان ابن عمتك».
ولو صحّ الحديث ، لقالوا للزبير : إنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان ابنَ خالك ، أو : كنتَ ابنَ عمته!
* * *
ص: 583
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : ما رواه السُدِّي في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ) (2) الآية.
قال السُدِّي : «لمّا أُصيب النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأُحد ، قال عثمان : لألحقنَّ بالشام ، فإنّ لي به صديقاً من اليهود ، فلآخذنّ منه أماناً ، فإنّي أخافُ أن يدالَ علينا اليهود.
وقال طلحة بن عبيد اللّه : لأخرجَنّ إلى الشام ، فإنّ لي به صديقاً من النصارى ، فلآخذنّ منه أماناً ، فإنّي أخاف أن يدال علينا النصارى.
قال السُدي : فأراد أحدُهما أن يتهود ، والآخر أن يتنصّر.
قال : فأقبل طلحة إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وعنده عليٌّ ، فاستأذنه طلحةُ في المسير إلى الشام ، وقال : إنّ لي بها مالا ، آخذه ثمّ أنصرف.
فقال له النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : عن مثلها مِن حال تخذلنا ، وتخرج وتدعنا؟!
فأكثر على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من الاستئذان ، فغضب عليٌ (عليه السلام) ، وقال : يا رسول اللّه! ائذن لابن الحضرميّة ؛ فواللّه لا عزَّ مَن نصرَهُ ، ولا ذلَّ من خذله.
ص: 584
فكفّ طلحةُ عن الاستئذان عند ذلك ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) (1) يعني : أُولئك (2).
يقول : إنّه يحلف لكم أنّه مؤمنٌ معكم ، فقد حبط عمله بما دخل فيه من أمر الإسلام حتّى نافق فيه» (3).
ص: 585
وقال الفضل (1) :
اتّفق جميعُ أهل التفسير ، أنّ الآية نزلت في عبادة بن الصامت ، وعبد اللّه بن أُبَيّ بن سلول ، حين قال عبادة لعبد اللّه - وكان عبادةُ مؤمناً خالصاً ، وكان عبد اللّه منافقاً - : إنّي تركت كلّ مودّة وموالاة كانت لي مع اليهود ، ونبذت كلّ عهد لي كان معهم.
وقال عبد اللّه : لا أترك مودّة اليهود وموالاتهم وعهدهم ؛ فإنّي أخشى الدوار ، وينفعني موالاتهم.
فأنزل اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ) (2) الآية (3).
فأخذ الروافض هذا وجعلوه في حقّ كبار الصحابة ، وقد أنزله اللّه في شأن المنافقين ؛ كالخوارج الّذين جعلوا الآيات التي نزلت في شأن اليهود والنصارى ، حجّةً على الخروج على الإمام وأَوّلوه في أهل القِبلة.
وكلُّ ذلك خطأٌ.
وأمّا ما ذكره في شأن نزول الآية ، أنّها نزلت في عثمان وطلحة ،
ص: 586
فكذبه ظاهرٌ في غاية الظهور ؛ لأنّ طلحة في غزوة أُحد ابتُلي بلاءً حسناً ، حتّى إنّ يده شُلّت لمّا جعلها فداءً لوجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حين تفرّق الأصحاب ، فحمى طلحةُ وجهَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من السيف بيده ، وقطعت يده.
ومن المقرَّرات أنّه ابتُلي يوم أُحد بما لم يبتل به أحدٌ من المسلمين.
ثمّ إنّه يذكر طلحةَ كان يريد الفرار إلى الشام ليتنصّر ، أُفّ له من كذّاب مفتر.
وأمّا عثمان ، فإنّه كان مزوَّجاً بابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كان يترك بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعد سوابق الإسلام ، ويريد التهوّد من إدالة اليهود على الحجاز؟!
وأيُّ ملك كان يهودياً في الشام ، حتّى يستولي على الحجاز؟!
ثمّ إنّه لِمَ لَم يرجع إلى أبي سفيان ويستأمن منه ، وهو ابن عمّه ، وكان كلُّ المخافة - التي يدّعيها - من أهل مكّة ، وكان أبو سفيان رئيس قريش ، وسيّد الوادي؟!
والغرض : إنّ هذا الجاهل بالأخبار وأضرابه - من السُدي ، وغيره من رفضَة حِلّة - لا يعلمون الوضع ، ولا يخافون الافتضاح عند العلماء.
والحمد لله الذي فضح ابن المطهّر في مطاعنه ، بما وفّقنا من ردّ ما ذكرَ من المطاعن ، بالدلائل العقليّة ، والبراهين النقليّة ، بحيث لا يرتاب أحدٌ ممّن ينظر في هذا الكتاب ، أنّه على الباطل ، وأنّنا على الحقِّ الأبلج ، وصار مطاعنه ملاعنه.
ونِعمَ ما قلتُ شعراً [من الوافر] :
ص: 587
أَجَبنا عن مطاعنِ رافضيّ *** على الأخلافِ والأصحابِ طاعنْ
فَيَلْعَنُهُ الذَّكيُّ إذا رآهُ *** فصيّرْنا مطاعِنهُ ملاعنْ
والحمد لله على هذا التوفيق.
ص: 588
عُبادةُ هذا : عَقَبيٌّ بدريٌّ أُحديٌّ شَجَريٌّ (1) ، شهد المشاهد كلّها مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال في «أُسد الغابة» : شهد العقبة الأُولى والثانية ، وشهد بدراً ، وأُحداً ، والخندق ، والمشاهدَ كلّها.
وكان أحد نقباء الأنصار ، بايع رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أن لا يخاف في اللّه لومة لائم» (2).
وروى الحاكم - وصحّحه مع الذهبيِّ - على شرط الشيخين ، في مناقب عبادة (3) ، عن عبادة ، قال : «بايعنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أن لا نخاف في اللّه لومة لائم».
وكأنّه لوفائه بهذه البيعة رُويت عنه القصّة التي ذكرها الخصمُ.
وأنكر على معاوية منكَراته ، في أيّام عمر وبعده ..
روى الحاكم (4) ، عن قبيصة بن ذؤيب ، أنّ عبادة أنكر على معاوية
ص: 589
أشياء ، ثمّ قال له : لا أُساكنك بأرض ؛ فرحل إلى المدينة.
فقال له عمر : ما أقدمك إليّ؟! لا يفتح اللّه أرضاً لستَ فيها أنت وأمثالك ، انصرف لا إمرة لمعاوية عليك!
وروى أحمد في «مسنده» (1) ، أنّ عبادة قال لأبي هريرة : «يا أبا هريرة! إنّك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، إنّا بايعناه على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ... وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في اللّه ولا نخاف لومة لائم فيه ، وأن ننصر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ... ، ولنا الجنّةُ.
فهذه بيعةُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي بايعنا عليها ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما بايع عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وفّى اللّه بما بايع عليه نبيّه.
فكتب معاوية إلى عثمان : إنّ عبادة بن الصامت قد أفسد علَيَّ الشام وأهله ، فإمّا تكنّ إليك عبادة ، وإمّا أُخلّي بينه وبين الشام.
فكتب إليه أن رحل عبادة - إلى أن قال : - فلم يفجأ عثمانُ إلاّ وهو قاعدٌ في جنب الدار ، فالتفت إليه ، فقال : يا عبادة بن الصامت! ما لنا ولك؟!
فقام عبادةُ بين ظهريّ الناس ، فقال : سمعتُ رسول اللّه أبا القاسم محمّداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّه سيلي أموركم بعدي رجالٌ يُعرِّفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى اللّه ، فلا تعتلوا بربّكم».
ص: 590
وروى الحاكم ، عن عبادة ، نحو هذا الخبر الذي أخبر به عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بين ظهريّ الناس (1).
فيا رحمَ اللّه عبادة ، ولقّاه رحمةً ورضواناً ، كأنّه أبو ذرّ في إنكاره المنكَر ، وابتلائه ببني أُميّة.
لكنّه نال في الجملة من عمر أن لا إمرة لمعاوية عليه ، وإن لم يعزل معاوية عن سلطانه الذي تسلّط به على المنكَرات ، وعزّ على عبادة مساكنته معها ، وكان حقاً على عمر أن يعزل معاوية لأجلها.
وقد أراد عبادةُ بروايته المذكورة عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أنّ عثمان ومعاوية من الولاة الذي يأمرون بالمنكَر ، وينكرون المعروف ، وأنّهم عصاة لله لا طاعة لهم ؛ وهذا من أكبر الطعن بعثمان.
كما أنّ قول عثمان : «ما لنا ولك؟!» ، دالٌّ على أنّ إنكار عبادة للمنكَر مناف لسلطانه ، ومضرٌّ بشؤونه!
ثمّ إنّ دعوى الخصم اتّفاق جميع المفسّرين على نزول الآية في عبادة وابن سلول ..
كاذبةٌ ؛ لِما في «الدرّ المنثور» ، عن ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة - الذي هو من أكبر مفسّريهم - أنّه قال في جملة كلام له في تفسير الآية : «كان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام» (2).
وفيه - أيضاً - ، عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السُدِّي ، نحو ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) ، إلاّ أنّه لم يسمّ الرجلين اللذين خافا أن يدال اليهود
ص: 591
والنصارى ، وأراد أحدهما التهود ، والآخر التنصر (1).
والظاهر أنّه من إرادة الراوي عن السُدِّي السترَ على الرجلين ، وإلاّ فقد نقل المصنّف (رحمه اللّه) ، أنّه سمّاهما.
وبالجملة : طلحةُ في قول عكرمة والسُدِّي ممّن نزلت فيه الآية ، واختلفا في الآخر ، فقال عكرمة : هو الزبير ، وقال السُدِّي : هو عثمان ، على ما حكاه المصنّف (رحمه اللّه) عنه.
وأمّا ما استدلّ به الخصم على كذب نزولها في طلحة ، من أنّه ابتُلي بلاءً حسناً حتّى شُلّت يده ..
فباطلٌ ؛ لِما عرفت في مطلب جهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ كثيراً من أخبارهم دالّةٌ على فرار طلحة ، فأيُّ ابتلاء له لولا دعواه؟!
وعرفتَ أنّ الشلل - وما هو أعظم منه - قد يقع حال الهزيمة (2).
ومن المضحك أنّه مرّة يقول : «شُلّت يده» ، وأُخرى يستحقر ذلك فيقول : «قُطعت يده» ، مع عدم وروده في شيء من أخبارهم ، وقد ورد فيها أنّه شُلّ إصبعه (3).
وزعم أيضاً : أنّه وقى وجه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من السيف ؛ ليكون أمكن في مدح طلحة وشجاعته.
ولم أجد في أخبارهم ذِكر السيف ، وإنّما رووا عنه أنّه وقاه من
ص: 592
السهم (1).
وأما ما استدلّ به على عدم نزولها بعثمان ..
فليس في محلّه أيضاً ؛ لأنّ تزويجه ببنت النبيّ أو ربيبته ، لا يمنعه من التوسّل إلى حفظ نفسه العزيزة جبناً ؛ ولذا فرّ ، ولم يعد إلاّ بعد ثلاثة أيام وحصول الأمان (2).
وقوله : «أيُّ يهودي كان ملِكاً بالشام؟!» ..
خطأٌ نشأ من عدم فهم الرواية ، فإنّ معناها : أنّه أراد أن يأخذ أماناً من صديقه اليهودي ؛ ليتّخذه وسيلة عند يهود الحجاز ، وذلك لا يستدعي كونه ملِكاً ، بل يكفي أن يكون وجيهاً مرعيَّ الجانب عند يهود الحجاز ، الّذين خاف عثمان أن تكون لهم الدولة.
وطلب ابن سلول - مع شرفه - مودّتهم خشية الدوار ، كما ذكره الخصمُ.
وأما قوله : «لِمَ لم يرجع إلى أبي سفيان ...» إلى آخره ..
ففيه : إنّ الرجوع إليه لا يمكن إلاّ بالمجاهرة بعداوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ لا علّة له في الذهاب إلى مكّة ، كما يتعلّل بالمال والتجارة لو ذهب إلى الشام ، كما تعلّل به طلحة.
ولو جاهر بعداوة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، خاف أن تكون له الدولة فتناله العقوبة!
ص: 593
على أنّه يجوز أن يكون عثمان يعلم أنّ أبا سفيان لم يقبله بأوّل وهلة ، فيناله التحقيرُ الكثير ، فاختار أيسر الطريقين.
وأما ما نسبه إلى السُدي من الرفض ..
ففيه : أنّ السُدِّي ، وهو : إسماعيل بن عبد الرحمن ، من قدماء مفسِّريهم ومشاهيرهم (1) ، ولا تخلو تفاسيرهم من أقواله ، إلاّ ما يضرُّ بشؤون خلفائهم.
وقد روى عنه جميع أرباب صحاحهم الستّة ، إلاّ البخاريّ.
وقال ابنُ حجر في «التقريب» : صدوق (2).
وقال في «تهذيب التهذيب» : قال العجليُّ : ثقةٌ ، عالمٌ بالتفسير ، راويةٌ له.
وقال أحمد : ثقة.
وقال يحيى بن سعيد القطّان : ما رأيت أحداً يذكره إلاّ بخير ، وما تركه أحد.
وقال ابنُ عديِّ : هو عندي مستقيم الحديث ، صدوق (3).
وذكر أكثر هذا في «ميزان الاعتدال» ، وقال : رُميَ بالتشيّع (4).
ص: 594
لا يبعد أنّ المنشأ في هذا الرمي ، روايتُه لبعض تلك المطالب في خلفائهم ، وبعض فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما رموا الحاكم والنسائيّ وغيرهما بالتشيّع (1) ؛ لأنّهم يجدون لهم إنصافاً في الجملة ، وهو خلاف طريقتهم ؛ إذ لا يقنعهم من الرجل إلاّ أن يروا عليه أثر النصب في جميع أقواله وأفعاله ، وأن لا يتعرّض لرواية شيء من مساوئ خلفائهم وأوليائهم ، حتّى لو وقعت منه صدفةً ، وكان ما رواه مشهوراً.
ولو فُرضَ أنّ السُّدِّي من الشيعة ، فما ضرّه بعدما احتجّ به أهلُ صحاحهم ، ووثّقه علماؤهم ، كما عرفت.
وأما قوله : «لا يعلمون الوضع» ..
فصحيحٌ ؛ فإنّا بحمد اللّه لا نستحلّه ولا نألفه ، ولا ننقل شيئاً عنهم إلاّ بعد أن نراه ، وقد أوقفناك على محالِّ النقل من كتبهم ، فإنْ صدقوا في روايتها ، فهو المطلوب ، وإنْ كذبوا ، فالذنب منهم وعليهم ، ولسنا مثلهم نختلقُ ما لا أصلَ له ، كما عرفته من هذا الخصم مراراً.
وما زالوا يكذبون على الشيعة ، وينسبون إليهم ما لا أثر له في كتبهم ، ولا يمرُّ على بال أحد منهم (2)!
ص: 595
* * *
ص: 596
المطلب الأوّل
في المطاعن التي رواها السُنّة في أبي بكر
1 - تسمية أبي بكر بخليفة رسول اللّه... 7
ردّ الفضل بن روزبهان... 9
ردّ الشيخ المظفّر... 10
2 - أبو بكر في جيش أُسامة... 15
ردّ الفضل بن روزبهان... 16
ردّ الشيخ المظفّر... 17
3 - قول أبي بكر : إنّ لي شيطاناً يعتريني... 23
ردّ الفضل بن روزبهان... 24
ردّ الشيخ المظفّر... 25
4 - قول عمر : بيعة أبي بكر فلتة... 32
ردّ الفضل بن روزبهان... 33
ردّ الشيخ المظفّر... 35
5 - قول أبي بكر : أقيلوني... 43
ردّ الفضل بن روزبهان... 44
ردّ الشيخ المظفّر... 45
6 - تشكيك أبي بكر في حقّ الأنصار بالخلافة... 51
ردّ الفضل بن روزبهان... 52
ردّ الشيخ المظفّر... 53
7 - تمنّيات أبي بكر... 56
ردّ الفضل بن روزبهان... 57
ردّ الشيخ المظفّر... 58
8 - النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يُوَلِّ أبا بكر شيئاً من الأعمال... 60
ردّ الفضل بن روزبهان... 61
ردّ الشيخ المظفّر... 64
9 - منع فاطمة (عليها السلام) إرثها... 72
ردّ الفضل بن روزبهان... 76
ص: 597
ردّ الشيخ المظفّر... 82
10 - طلب إحراق بيت الإمام عليّ (عليه السلام)... 132
ردّ الفضل بن روزبهان... 137
ردّ الشيخ المظفّر... 148
المطلب الثاني
في المطاعن التي نقلها السنة عن عمر بن الخطّاب
1 - قصة الدواة والكتف... 179
ردّ الفضل بن روزبهان... 181
ردّ الشيخ المظفّر... 183
2 - إيجابه بيعة أبي بكر بالقوّة ، وقصد بيت النبوّة بالإحراق... 200
ردّ الفضل بن روزبهان... 202
ردّ الشيخ المظفّر... 203
3 - إنكار موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)... 206
ردّ الفضل بن روزبهان... 207
ردّ الشيخ المظفّر... 209
4 - قول عمر : لولا عليٌّ لهلك عمر... 214
ردّ الفضل بن روزبهان... 215
ردّ الشيخ المظفّر... 216
5 - عمر يمنع من المغالاة في المهور... 220
ردّ الفضل بن روزبهان... 222
ردّ الشيخ المظفّر... 224
6 - قصة تسوّر عمر على جماعة... 230
ردّ الفضل بن روزبهان... 232
ردّ الشيخ المظفّر... 234
7 - أُعطيات عمر من بيت المال... 241
ردّ الفضل بن روزبهان... 243
ردّ الشيخ المظفّر... 245
8 - تعطيل حد المغيرة بن شعبة... 250
ردّ الفضل بن روزبهان... 252
ردّ الشيخ المظفّر... 254
9 - مفارقات عمر في الأحكام... 270
ص: 598
ردّ الفضل بن روزبهان... 271
ردّ الشيخ المظفّر... 272
10 - تحريم عمر متعة النساء... 282
ردّ الفضل بن روزبهان... 287
ردّ الشيخ المظفّر... 289
11 - تحريم عمر متعة الحجّ... 316
ردّ الفضل بن روزبهان... 317
ردّ الشيخ المظفّر... 318
12 - قصة الشورى... 329
ردّ الفضل بن روزبهان... 333
ردّ الشيخ المظفّر... 337
13 - مخترعات عمر... 358
ردّ الفضل بن روزبهان... 362
ردّ الشيخ المظفّر... 369
المطلب الثالث
في المطاعن التي رواها الجمهور عن عثمان
1 - ما رواه الجمهور في حقّ عثمان... 409
ردّ الفضل بن روزبهان... 414
ردّ الشيخ المظفّر... 415
2 - إيواؤه الحكم بن أبي العاص... 432
ردّ الفضل بن روزبهان... 435
ردّ الشيخ المظفّر... 437
3 - إيثار عثمان لأهل بيته بالأموال العظيمة... 441
ردّ الفضل بن روزبهان... 443
ردّ الشيخ المظفّر... 445
4 - ما حماه عن المسلمين من الماء والكلأ... 454
ردّ الفضل بن روزبهان... 455
ردّ الشيخ المظفّر... 456
5 - صرفه للصدقة في غير وجهها... 458
ردّ الفضل بن روزبهان... 459
ردّ الشيخ المظفّر... 460
ص: 599
6 - ضربُه لعبد اللّه بن مسعود... 463
ردّ الفضل بن روزبهان... 464
ردّ الشيخ المظفّر... 465
7 - ضربُه لابن مسعود على دفنه لأبي ذرّ... 474
ردّ الفضل بن روزبهان... 475
ردّ الشيخ المظفّر... 477
8 - ضربُه لعمار بن ياسر... 486
ردّ الفضل بن روزبهان... 489
ردّ الشيخ المظفّر... 491
9 - نفيُه لأبي ذرّ... 505
ردّ الفضل بن روزبهان... 510
ردّ الشيخ المظفّر... 512
10 - تعطيل عثمان لحدّ ابن عمر... 526
ردّ الفضل بن روزبهان... 528
ردّ الشيخ المظفّر... 530
11 - براءة الصحابة من عثمان يوم الدار... 535
ردّ الفضل بن روزبهان... 537
ردّ الشيخ المظفّر... 541
12 - مخالفات عثمان للشريعة... 556
ردّ الفضل بن روزبهان... 561
ردّ الشيخ المظفّر... 563
13 - جرأة عثمان على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)... 573
ردّ الفضل بن روزبهان... 575
ردّ الشيخ المظفّر... 576
14 - إنّ عثمان مطعون في القرآن... 580
ردّ الفضل بن روزبهان... 582
ردّ الشيخ المظفّر... 583
15 - أراد عثمان أن يتهود... 584
ردّ الفضل بن روزبهان... 586
ردّ الشيخ المظفّر... 589
الفهرس المحتويات... 597
ص: 600
تالیفایة الله العلامةالشیخ محمدحسین المظفر
(1375-1301 ه)
الجزء الثامن
تحقیق
موسسة آل البيت الاحياء التراث
المتبرع الدیجیتالي : جمعیة المساعدة إمام الزمان (عج) في اصفهان
محرر : سيدة مرضیه محمدی سرپیری
ص: 1
دلائل الصدق
لنهج الحق
تالیف
ایة الله العلامة
الشیخ محمدحسین المظفر
(1375-1301 ه)
الجزء الثامن
تحقیق
موسسة آل البيت الاحياء التراث
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1438 ه- - 2017م
مؤسسة ال البيت الاحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فَوق صيدلية دياب - ط2
تلفاكس : 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - حرب : 24/34
البريد الإلكتروني alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 4
ص: 5
المطلب الرابع
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
المطلب الرابع
في مطاعن معاوية :
وهي أكثر من أن تحصى ، وقد روى الجمهور منها أشياء كثيرة .
منها : ما روى الحميدي قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «ويحَ عمّار ! تقتله الفئة الباغيةُ [ بصفّين ] ((2)) يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ((3)) ، فقتله معاوية .
ص: 6
ولما سمع معاوية اعتذر فقال : قتله من جاء به.
فقال ابن عباس : فقد قتل رسول الله صلی الله علیه واله و سلم حمزة لأنه جاء به إلى الكفار ((1)) .
ص: 7
وقال الفضل ((1)) :
قول أهل السنة والجماعة في معاوية : أنّه رجل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله و سلم ، وصحبته ثابتةٌ ، لا ينكره الموافق والمخالف ، وكان كاتب وحي رسول الله صلی الله علیه واله و سلم.
وبعد أن توفي رسول الله صلی الله علیه واله و سلم خرج إلى الشام تحت راية أخيه يزيد بن أبي سفيان ، ولمّا توفّي يزيد في إمارة الشام زمن إمارة عمر بن الخطاب ، ولاه عمرُ في إمارة الشام، وكان أميراً بها مدة خلافة عمر بن الخطاب .
ثمّ ولاه عثمان الشام، وأضافه ما فتحه من بلاد الروم، وكان على ولايتها مدة خلافة عثمان بن عفان((2)) .
ثمّ لمّا تولّى الخلافة أمير المؤمنين علي ، عزله من إمارة الشام وجعل الإمارة لعبد الله بن عباس.
فقال عبد الله : يا أمير المؤمنين ! إنّ معاوية قد استولى على الشام وله سنين كثيرة يحكم في الشام - وهو رجل من أهل الدنيا - فقره على أمره حتى تأخذ منه البيعة ، ثمّ إذا جاء الموسم للحج استوقفه في المدينة ، وابعث من تريد إلى الشام .
فلم يسمع أمير المؤمنين كلام عبد الله بن عباس وعزله في يومه » ((3)).
ص: 8
وبعد أن قتل عثمان ، ذهب مروان ونائلةُ بنتُ الفرافصة ((1)) - زوجة عثمان - إلى الشام ، وقد قطعت أنامل نائلة حين هموا بقتل عثمان ، فأوقعت نائلة نفسها على عثمان ، فقطعوا أناملها بالسيف .
فأخذ مروان ونائلة قميص عثمان وأناملها ، وذهبا بهما إلى معاوية .
فعلق معاوية القميص والأنامل على مسجد دمشق ، واجتمع بنو أُمية كلّهم في الشام ، وهموا بطلب ثأر عثمان ، ولم يبايعوا لعلي حتى وقع ما وقع من الفتن والحوادث المشهورة ((2)) .
ومذهب أهل السنة والجماعة أنّ الإمام الحق بعد عثمان كان علي بن أبي طالب ، ولا نزاع لأحد من أهل السنة في هذا ، وأن كل من خرج على عليّ ، كانوا بغاة على الباطل .
ولكن كانوا من أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله و سلم ينبغي أن يحفظ اللسان عنهم، ويكفّ عن ذكرهم وذكر ما جرى بين الصحابة ؛ لأنّه يورث الشحناء، ويثير البغضاء ، ولا فائدة في ذكره .
وأما ما ذكره من مطاعن معاوية ، فلا اهتمام لنا أصلاً بالذب عنه ؛ فإنّه لم يكن من الخلفاء الراشدين حتى يكون الذب عنه موجباً لإقامة سنة
ص: 9
الخلفاء وذب الطعن عن حريمهم ، ليقتدوا بهم الناس ولا يشكوا في كونهم الأئمة ؛ لأن معظم الإسلام منوط بآرائهم ، فإنّهم كانوا خلفاء النبوة ، ووارثي العلم والولاية .
وأما معاوية ، فإنّه كان من ملوك الإسلام ، والملوك في أعمالهم لا يخلون عن المطاعن ، ولكن كفُّ اللسان عنهم أولى ؛ لأن ذكر مطاعنه لا يتعلّق به فائدةٌ ما أصلاً ؛ فإنّ ذكر مطاعن الخلفاء ينفعُ الرّفضة ، وأقل المنافع أن يصير سبباً للمباحثة والمعارضة التي هي أنفع المنافع عند المجادلين من الرفضة. وهذه المنفعة مفقودة في ذكر مطاعن معاوية ؛ لأنه لم يعارض أحدٌ في الذب عنه، فَذِكْرُ مطاعنه محض الغيبة الضارة، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: «ولا تذكروا موتاكم إلا بالخير»((1)).
لكن لما ذكر هذا الرجلُ مطاعنه - ونحن لا نريد أن نترك شيئاً ممّا ذكره - نذكر مطاعنه ، ونتكلم في كل فصل بما يليق في ذلك الفصل من الكلام.
فنقول : ما ذكر أن رسول الله قال : «ويحَ عمّار تقتله الفئة الباغية » .
فهذا حديث صحيح ، ولاشك أنه قتل في حرب صفين ، ولا شك أن أصحاب معاوية قتلوه - وهم الفئة الباغية - ولا نزاع في هذا .
* * *
ص: 10
وأقول :
إثبات الصحبة لمعاوية غير نافعة له ؛ إذ كم من صاحب للنبي صلی الله علیه و اله وسلم منافق ، بل ربِّ خاصة له في الظاهر وهو أفسقُ فاسقٍ .
روى البخاري ((1)) عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم قال :
«ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة ، إلّا كانت له بطانتان ؛ بطانة تأمرة بالمعروف وتحضّه عليه؛ وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه» ((2))
ونحوه في «مسند أحمد» ((3)) .
فأيّة فائدة لمعاوية في الصحبة، وهو من أكبر المنافقين ؛ لحربه ؛ واستدامة بغضه لسيّد المسلمين وأخ النبي الأمين ؟!
وكان من المؤلّفة قلوبهم، كما في ترجمته من كما في ترجمته من «الاستيعاب »((4)) و تاريخ الخلفاء للسيوطي ((5)) ، وغيرهما ((6)) ؛ ولأجل تأليفه استكتبه النبي صلی الله علیه و اله وسلم للصدقات ونحوها ، كما حقق كونه كاتب الصدقة حافظ أبرو الشافعي ((7))
ص: 11
على ما نقله السيد السعيد رحمه الله ((1))
ولا أدري أيه آية كتبها معاوية للنبي صلی الله علیه و اله وسلم ، وأية رواية جاءت بها ؟!
فلا أصل لما تشدق به الخصم وبعض أصحابه من أنّه كاتب الوحي . وغاية ما ذكره قدماؤهم ؛ كالطبري وابن الأثير في تاريخهما ، وابن عبد البر في «الاستيعاب » : أنّه كتب لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم ولم يبينوا المكتوب ((2)) .
وقال ابن أبي الحديد ((3)) : اختلف في كتابته له ، كيف كانت ؟
فالذي عليه المحققون من أهل السيرة : إنّ الوحي كان يكتبه عليّ ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأن حنظلة بن الربيع التيمي ، ومعاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك ، وإلى رؤساء القبائل ، ويكتبان حوائجه بين يديه ، ويكتبان ما يجيء من أموال الصدقات وما يُقسم في أربابها » ((4)).انتهى .
ولو سُلّم أنه كتب شيئاً من الوحى فى أيام إسلامه البسيرة المدخولة ، فقد كتب قبله ابنُ أبي سرح ، وارتد عن الإسلام ((5)) ، وما صدر من معاوية ، أشد وأنكى في الإسلام .
ص: 12
وأما ما ذكر من تولية عمر له على الشام فصحيح ، لكن لا تدلّ على فضيلة له ، وأن الإشكال في المولّي أعظم، وتوليته له إحدى مطاعنه ؛ لوجود كبار الصحابة السابقين الذين هم أولى منه بالولاية ، وأصلح للدين ، كما سبق مثله في تولية عثمان لأقاربه ((1)) ، بل عَزلَ عمر به من هو أولى منه بالأمارة ، فقد روى الترمذي في مناقب معاوية :
« أنّه لمّا عزل عمر عمير بن سعد ((2)) عن حمص ، ولى معاوية ، فقال الناس : عزل عميراً وولّى معاوية» ((3)) الحديث .
ولا شك أنّ هذا القول منهم إنّما هو لظهور فسق معاوية ، أو ظهور فضل عمير عليه ، فلم يحط عمر الإسلام نُضحاً .
وقد سبقت رواية البخاري ومسلم عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم أنه قال :
«ما من عبد استرعاه الله رعيّةً فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة» ((4))
ولكن يا لَلْعَجبِ !! قد أضاف الراوي إلى ذلك : «أنّ عميراً قال :
لا تذكروا معاوية إلا بخير ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يقول :
« اللهم ! اهد به » .
ص: 13
إذ أيُّ مناسبة بين معاوية والهداية به ؟!
فهل من الهداية به إلحاقه العَهارَ ((1)) بالنسب جهراً ((2)) ، وإضلاله قطرالشام حتى أماتهم ميتة جاهليّةً ؛ لجهلهم بإمام زمانهم وخروجهم عليه ((3)) ؟!
وهل من الهداية به لبسه الحرير والديباج ، وشربه الخمر ، واستعماله أواني الذهب والفضة ((4)) ؟ !
إلى غير ذلك مما يتهتك به ، كما ستعرف .
وليت عمر بعد ما ولاه على رقاب المسلمين يسمع به قول قائل ، أو لا يَمدّه في غيه بالمال، أو لا يغضي عما يعمله من سييء أفعاله .
روى في «الاستيعاب» بترجمة معاوية: «أنّه ذُمّ يوماً عند عمر، فقال : دعونا من ذم فتى قريش»((5)).
وروى أيضاً : أنّه كان يجري عليه في كل شهر ألف دينار» ((6)) .
ص: 14
وفي رواية أخرى : «في السنة عشرة آلاف دينار» ((1)).
ذلك يزعمون : «أن عمر حج سنة عشر من خلافته، فکانتنفقته ستة عشر ديناراً .
فقال : أسرفنا في هذا المال»، كما في «تاريخ الخلفاء»، وفي «الصواعق » ((2)) بسيرة عمر.
فهل من السرف إنفاق هذا القدر اليسير في مجموع طريق الحج ، ولا يكون من السرف إعطاء معاوية في كل شهر ألف دينار لو كانت الأمور على حقائقها ؟!
وفي الاستيعاب أيضاً : « أن عمر قال : - إذ دخل الشام ورأى معاوية - :
هذا كسرى العرب .
وكان معاوية قد تلقاه في موكب عظيم ، فلما دنا منه قال :
أنت صاحب الموكب العظيم ؟
قال : نعم ...
قال : مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟
قال : مع ما يبلغك من ذلك .
قال : ولم تفعل هذا ؟
قال : نحن بأرض جواسيس العدو بها كثيرةٌ ، فيجب أن تظهر لهم عزّ السلطان ما نرهبهم به ...
ص: 15
فقال عمر: ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس ((1))
إن كان ماقلت حقاً ، إنّه لرأي أريب، وإن كان باطلاً : إنّه لخدعة ادیب.
قال : فمرني يا أمير المؤنين .
قال : لا أمرك ولا أنهاك » ((2)) .
ونحوه في تاريخ الطبري ((3)) .
ولا ريب أن إظهار عمر للشك في صحة عذر معاوية ، إغضاء منه عمّا علمه من بطلان عذره ؛ إذ كيف يخفى على عمر أو غيره أن عز السلطان الإسلامي وإرهاب العدوّ ، إنما يحصل بكثرة الجن-د والخيل والسلاح، وتفاني الرعيّة في طاعة الوالي لاعتقادهم بفضله ، وهداه ، لا بتجبر الوالي ، ووقوف ذوي الحاجات ببابه ، وتحقيره لهم ؟!
ولا أعجب من عمر ؛ فإنّه أظهر الشك في معاوية ثمّ ما برح حتى أوكل الأمر إلى هواه ، فقال : «لا أمرك ولا أنهاك».
وهل يشتبه على عمر سوء أعمال معاوية وهو مهتوك الستر ؟!
قال ابن أبي الحديد ((4)) في شرح كتاب لأمير المؤمنين إلى ابن العاص
ص: 16
يقول فيه :
«فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امريء ، ظاهر غيّه، مهتوك ستره ...» إلى آخره .
قال : «أما مهتوك ستره ؛ فإنّه كان كثير الهزل والخلاعة ، صاحب جلساء وسمار .
ومعاوية لم يتوفّر ، ولم يلزم قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين علیه السلام، واحتاج إلى الناموس والسكينة .
وإلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك ، موسوماً بكل قبيح.
وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً ؛ خوفاً منه ، إلا أنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات المحلاة بهما ، وعليهما جلال ((1)) الديباج والوشي ، وكان حينئذ شاباً وعنده نزق الصبا وأثر الشبيبة ، وسكر السلطان والإمرة .
ونقل الناس عنه في كتب السيرة : إنّه كان يشرب الخمر في أيام عثمان بالشام، وأما بعد وفاة أمير المؤمنين علیه السلام واستقرار الأمر له ، فقد اختلف فيه.
فقيل : إنّه شرب الخمر في ستر ، وقيل : لم يشرب .
ولا خلاف أنّه الغناء وطرب عليه ، وأعطى ووصل عليه»((2)) .
أقول ، الظاهرُ شربه لها بعد استقرار الأمر له ؛ لما في «مسند
ص: 17
أحمد » ((1)) عن عبد الله بن بريدة الأسلمي ، قال :
«دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ، ثمّ أُتينا بالشراب ، فشرب معاوية .
ثم ناول أبي ، قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
فإن مثل بريدة لا يغضي عن معاوية لولا خوفه منه واستقرار الأمر له
مضافاً إلى ما في تتمة الحديث قال : «أي عبد الله » :
«ثمّ قال معاوية : كنتُ أجمل شباب قريش ، وأجوده ثغراً ، وما شيء كنتُ أجد له لذة كما كنتُ أجده وأنا شاب غير اللبن ، أو إنسان حسن الحديث يحدثني» .
فإن هذا الكلام ظاهر في بلوغه سن الشيخوخة ، وذهاب اللذات عنه ، سوى لذتي اللبن والحديث الحسن ، فلا يجد لذة للخمر - وقد شاخ - كما كان يجدها وهو شاب ، فيا سوأةً له ولمن يواليه .
وأعظم دليل على ظهور فسقه ونفاقه ، أنّه لمّا ولي أمير المؤمنين علیه السلام لم يرض أن يبقيه والياً زمناً يسيراً ، وقال - كما في ترجمة المغيرة من «الاستيعاب» -:
«لا والله ، لا رآنى الله مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله».
ثم قال علیه السلام: ( إن أقررتُ معاوية على ما في يده ، كنت متخذ المضلين عضدا»((2))((3)).
ص: 18
وروى الطبري في تأريخه ((1)) أن أمير المؤمنين علیه السلام لما أشار عليه المغيرة بإقرار معاوية قال: «والله لا أُداهنُ في ديني» ((2))
وأنّه علیه السلام أجاب ابن عبّاس بعد ما أشار عليه بإقرار معاوية وأصحابه
قال :
«أما ما ذكرت من إقرارهم ، فوالله ، ما أشك أنّ ذلك خيرٌ في عاجل الدنيا لإصلاحها ، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان ، فوالله لا أُولي منهم أحداً أبداً» ((3)).
وأما ما ذكره من أنّه لا نزاع لهم في أنّ من خرج على علي علیه السلام كانوا بغاةً على الباطل ، وأنّه ينبغي أن يحفظ اللسان عنهم ؛ لأنه يورث الشحناء ، فطريف ؛ لأنّهم إذا لم ينازعوا في أنهم على الباطل ، فما بال ذكرهم بباطلهم ومثالبهم يورث شحناء السنّة وبغضهم لنا ، بل كان يلزمهم إعانتنا على ثلب
المبطلين ؟!
أترى من سنة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أن يبغض المسلم المسلم لذكره أهل الباطل بباطلهم ومعائبهم ؟!
وقوله : « لا فائدة بذكره ، أطرف من سابقه ؛ إذ أيّةً فائدة أعظم من إظهار حال المبطل ؛ لئلا يغتر به الجاهل، ويدخل الناس في ضلالته، ويعظموا حقير منزلته ، ويعادوا أولياء الله لإجله ؟!
وكم من آية وسنّة لعنت أهل النفاق، وذمّت المردة الفساق.
وهل هذا إلا مثل أن يقال : لا تذكروا اليهود والنصارى بما هم فيه ؛
ص: 19
لأنه يورث الشحناء ؟!
وأما ما زعمه من أنّه لا اهتمام لهم بالذب عن معاوية ، فيكذبه الوجدان ، فكم كتاب لهم في الذب عنه، وكم مقال لهم في الدفع عن مخازيه ، حتى أبانوا عن غاية ولائهم له وتمسكهم به ، فلا يؤثر في شأنه مخالفته لضرورة شريعة الرسول صلی الله علیه و اله وسلم بالحاق زياد بأبيه بالزنا ،وخروجه على إمام زمانه، وسفك ما لا يحصى من الدماء، سبّ أخ النبي صلی الله علیه و اله وسلم ونفسه على المنابر ((1)) ، وفي كل ذلك ينسبونه إلى الاجتهاد ، ويعذرونه ((2)).
وقد أثبت ابن حجر الهيثمي خلافة معاوية في «صواعقه»، وألف لها وللذب عنه ، كتاباً سمّاه :
«تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب سيّدنا معاوية بن أبي سفيان ((3)). »
فانظر إلى هذا الاسم العريض الطويل، الكاشف عما اشتمل عليه المسمّى من الخرافات والأباطيل .
وأما قوله : « ولا يشكوا في كونهم الأئمة»
ففيه : إنّه لا بأس بالشك في إمامتهم بمقتضى مذهبهم ؛ إذ ليست هي من الاعتقاديات وأصول الديانات، وإنما مسألة الإمامة عندهم فرعيّة
ص: 20
عمليّةً ؛ بأن يجب على الأمة نصبُ إمام حاضر ، ولا دخل لها بالاعتقاد بإمامة إمام غابر ((1))
وتعليله لذلك بأن معظم الإسلام منوط بآرائهم ، خطاً ؛ لأن اتباع أقوالهم عندهم لا يتوقف على الاعتقاد بإمامتهم ، وإنما يتوقف على اجتهادهم ، كسائر الصحابة .
على أنا لا نعرف أحكاماً مأخوذةً من آرائهم سوى الأحكام التي ابتدعوها ، ومرّ عليك بعضُها .
وأما ما زعمه من أن المباحثة والمعارضة أنفع المنافع عند المجادلين من الرفضة ، ففيه :
إنّ همة الشيعة ورفضة الباطل ، أعلى وأرفع من هذه الغاية ، كيف ؟ وأدلتهم القويمة شاهدةً بأن غايتهم هدايه الأنام، وقصدهم بالزام الخصم بحجته إرشاده إلى الحق .
ومن المضحك إطلاقه الغيبة الضارّة على ذكر مطاعن معاوية ؛ فإن الغيبة الضارّة هي ذكر المؤمن بما يكره ، والكلام في إيمان معاوية .
على أن هذا الذكر لو حرم لسقط علم الرجال ، وانسدّ باب الجرح ، من أوليائه .
مع أنّ المصنف رحمه الله إنما أخذ ذلك منهم ، ورواه عنهم ، فهم أوّل من استغاب معاوية ، بل الله سبحانه أوّل من استغابه وعشيرته حيث أظهر أسواءهم ، ووصفهم بأنّهم الشجرة الملعونة في القرآن((2))، واتبعه نبيه
ص: 21
الكريم بهذا ولوازمه من بغض هذا الحي ولعنه ((1)) ، ونحن ما زدنا على هذا . ومما ذكرنا يعلم أن معاوية ليس من موتانا الذين أريدوا بقوله : لا تذكروا موتاكم إلا بخير»
ولا شك لعاقل أن غرض هذا الخصم وصحبه من هذه الكلمات ونحوها منع النظر في مطاعن أوليائهم ؛ لئلا يتضح حالهم ، وإلا فأي شخص ينكر وجوب النظر في معرفة الدين الحقِّ وبيان أدلته ومؤيداته ؟!
ثمّ إن ما ذكره من تسليم صحة حديث : قتل الفئة الباغية لعمار .
يستلزم أن يقول : إن معاوية وأصحابه دعاة النار ؛ لاشتمال الحديث على ذلك ، وهو مستفيض الرواية((2)) . حتى رواه البخاري في باب الجهاد ((3)) بلفظ : «ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية ، عمّار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار» ((4))
ورواه أيضاً في «كتاب الصلاة » ((5)) بلفظ : «ويح عمّار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»((6)).
ص: 22
وكفى القوم ذمّاً أن يوالوا دعاة النار الباغين على إمام زمانهم، الكافرين حين بغيهم، فقد رووا:
إن من مات وليس في عنقه بيعةً ، فقد مات ميتة جاهلية» ((1)) ، إلى نحوه من الأخبار ((2)) .
وبالضرورة أن من لو مات مات ميتة جاهليةً ، كافر .
ص: 23
قال المصنف - طيب الله رمسه _((1)):
ومنها : ما رواه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب في كتاب «المثالب» قال :
«كان معاوية [يعزى ] لأربعة ؛ لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ؛ ولمسافر بن عمرو ؛ ولأبي سفيان ، ولرجل آخر سمّاه» قال :
وكانت هند أُمّه من المغتلمات ((2)) ، وكان أحبُّ الرجال إليها السودان ،وكانت إذا ولدت أسود قتلته((3)).
وأما حمامة ((4)) ، فهي بعض جدّات معاوية ، كان لها راية بذي المجاز ((5)) يعني من ذوات الرايات في الزنا، وادّعى معاوية أخوّة زياد، وكان له مدع يقال له : أبو عبيد ؛ عبد بني علاج من ثقيف.
فأقدم معاوية على تكذيب ذلك الرجل، مع أن زياداً ولد على
ص: 24
فراشه ، وادعى معاوية أن أبا سفيان زنى بوالدة زياد - وهي عند زوجها المذكور - وأن زياداً من أبي سفيان»((1))
فانظر إلى هذا الرجل ، بل إلى القوم الذين يعتقدون فيه الخلافة وأنّه حجّةُ الله في أرضه ، والواسطة بينهم وبين ربّهم ، وينقلون عنه أنه ولد زنا ، وأنّ أباه زنى بأخته ، هل يقاس بمن قال الله في حقه :«إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» ؟!((2))
ص: 25
وقال الفضل ((1)) :
إن ما اتفقت عليه الأمةُ بلا نزاع : أن تشييع الفاحشة ونشرها قبيح شرعاً، ويستقبحه العقول السليمة، سيما ما كان من أمر الجاهلية ؛ فإن أنكحة الجاهليّة لا ندري كيف جرت ؟
والأنساب في الجاهلية لا اعتداد بها ؛ لأنّ أنكحتهم لم تكن معتبرة . وهذه أشياء قد نهى الله ورسوله عن نشرها ، والقذف بالزنا قبيح لأيّ شخص كان ، ولا ندري ما غرض هذا الرجل من نشر هذه الأمور .
وأمّا قذف هند ، فهي لا نزاع أنّها أسلمت يوم الفتح ، فقذفها يوجب الحدّ بلا شبهة ، وهو من الكبائر بلا نزاع، سيما وأن ما ذكره غير موافق لصحاح التواريخ .
وحقيقة خبر هند ، كما ذكره أرباب صحاح التواريخ، وذكر الميداني في مجمع الأمثال»، وغيره من علماء التواريخ : «أنّ هنداً قبل أن تُزَوّج بأبي سفيان كانت متزوجة برجل من صناديد قريش ، لا أدري الآن أنه كان مسافر بن عمرو أو غيره ((2)) ، فذهب زوجها يوماً يصطاد - وكان يوماً شديد القيظ والحرّ - فخرجت هند من البيت ونامت في ساحة الدار.
فرجع زوج هند فرآها مضطجعة في ساحة الدار ، والرجل راقد
ص: 26
بقربها فأخذته الغيرة .
فقالت هند : ما شعرت بهذا الرجل ، وأنه متى دخل الدار ؟
فوقعت بينهما منازعة وشقاق ، ورفعا أمرهما إلى كاهن ، فحكم لهند وأنّها بريّةً ممّا يقذفها الزوج به ، وقال الكاهن : إن هذه المرأة ستلد ملكاً عظيماً ، يبلغ حكمه المشارق والمغارب .
فحلفت هند أن لا تلد هذا الملك من ذلك الزوج ، وسألت طلاقها وأخذت منه الطلاق .
ثم تزوجت بأبي سفيان ، فولدت له معاوية .
هذا ما ذكروه من أمر هند ((1)) .
وأما ما ذكر أن معاوية ادعى أخوّة زياد، فتفصيل هذه الرواية على ما ذكره المؤرّخون ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة»، وذكره ابن الجوزي في تأريخه : «إن زياداً وُلِدَ على فراش عبيد الثقفي ، وكان أبو سفيان يدعي أنه ولد في الجاهليّة على عادتهم في إلحاق الأولاد ، فلما جاء الإسلام، ونهى عن الإلحاق، ترك أبو سفيان ذلك الدعوى .
وكان زياد رجلاً رشيداً شجاعاً نجيباً ، فبعثه عمر بن الخطاب أيام خلافته لبعض الأعمال إلى اليمن، فعمل فيها عملاً جيداً .
فلما رجع من اليمن كان يقصُّ قصته في عمله على عمر بن الخطاب، وتكلّم على قوانين العقل بالكلام الجيد.
ص: 27
فقال عمرو بن العاص : الله در أبيه ، لو كان هذا الغلام من قريش الساق العرب بعصاه .
فقال أبو سفيان : أنا أعلم من وضع ماءه عند أمه .
فقال أمير المؤمنين عليّ : اتَّقِ الله يا أبا سفيان ولا ترجع إلى الجاهلية.
فلم يذكر أبو سفيان شيئاً بعدما قال له أمير المؤمنين هذا الكلام .
ثمّ لمّا كان زمن علي بن أبي طالب ، بعث زياداً أميراً على آذربيجان . فكتب إليه معاوية يستلحق ويسترضيه ، فكتب أمير المؤمنين إلى زياد : أن لا تميل إلى استمالة معاوية ، وكتب فيه :
إنّ ذلك نزعةٌ من نزعات الشيطان ألقاها على أبي سفيان ، ولم يثبت به نسب .
فقال زياد : والله لقد شهد به .
ثمّ لما بلغ [أمر] الخلافة إلى معاوية ، بعث إلى الكوفة واستلحق زياداً ((1)) .
وهذا من قبائح الأمور الصادرة من معاوية ، ولا يعتذر له ؛ لأنّه كان من الملوك ، والملوك لا يخلون عن أمثال هذه الأمور.
وأما قوله : «إنّ أهل السنة يعدونه خليفة ، ويجعلونه حجة الله في أرضه .
فهذا أمرٌ باطل ؛ فأنّ أهل السنّه لا يعدّونه إلا ملكاً من ملوك الإسلام،
ص: 28
وهو كان من أهل البغي في زمن أمير المؤمنين ، ثمّ صار ملكاً بعد وفاة أمير المؤمنين لما بايعه الحسن بن عليّ ، وانتهى خلافة النبوة ، وختم بالحسن ابن عليّ .
هذا مذهب أهل السنة والجماعة .
ص: 29
وأقول :
نعم ، اتفقت الأمّة على حرمة تشييع الفاحشة ، لكن في الذين آمنوا ،كما قيدت به الآية الكريمة ((1)).
وأما في المنافقين والكافرين فلا بل هو راجح ؛ لفائدة التنفير عنهم ؛ لئلا يعظمهم الناسُ ويتخذوهم أئمةً ، وهذا هو غرضُ المصنف - رحمه الله - في رواية هذه الكلمات.
وكيف يقال بقبح نشر هذه الأمور شرعاً ، وقد فعله الصحابه أيام النبي صلی الله علیه و اله و سلم؟!!! قال حسّان هنداً لما أخبره عمر بشعرها في أحد ، كما رواه الطبري في تأريخه ((2)) :
[ من الكامل ]
أشِرَت ((3)) لكاع ((4)) وكان عادتها *** لُوْماً إذا أشِرَتْ مع الكفر
لعن الإله وزوجها معها *** هند الهنود عظيمة البظر
ومنها :
ص: 30
ونَسيتِ فاحشة أتيت بها *** یا هند ويحكِ سبّةَ الدّهر!
زعم الولائدُ ((1)) أنها ولدت *** ولداً صغيراً كان من عهر((2))
ونقل ابن أبي الحديد ((3)) عن محمد بن إسحاق قول حسّان - أيضاً - في هجائها :
لِمَن سواقط ولدان مطرحةٌ *** باتت تفحص في بطحاء أجياد ((4))
باتت تفحّصُ لم تشهد قوابلها *** إلا الوحوش وإلا جنة الوادي
يظل يرجمه الصبيان منعفراً *** وخاله وأبوه سيدا الوادي
لفحشها»((5)).
ولحسان أبياتٌ أخر فى هجانها تأتى.
وأما قوله : « والأنساب فى الجاهلية لا اعتداد بها ؛ لأنّ أنكحتهم لم تكن معتبرة» فغلط فاحش ؛ لأن النبي صلی الله علیه واله و سلم قال : «لكل قوم نكاح » ((6))،بل هو من ضروريات الدين والعقلاء .
ولعلّ قصد الخصم من هذا تبرير فعل معاوية بنفيه زياداً عن أبيه عبيد ، وإلحاقه بأبي سفيان ، وإلا فأيُّ فائدة بهذا الكلام ؟!
ص: 31
ثمّ إنّه كما للجاهليّة نكاح ، فلهم سفاح ؛ وهو إتيان الرجل غير زوجته ، كما وقع في قضايا هند ، ولهذا كانت تُعيّرُ بالعهر، وبأنها ولدت معاوية وعتبة من سفاح.
وأما ما زعمه من أنّ هنداً أسلمت فقذفها يوجب الحد
ففيه : إن إسلامها مدخول ، ونفاقها محقق ، فلا حرمة لها ولا حدَّ في قذفها .
ولو سلم أن إسلامها صحيح ، فلا حد في قذفها أيضاً ؛ لأنه بلحاظ أيام كفرها ، حكى في «الكنز» بكتاب الحدود ((1)) عن عبد الرزاق عن أبي سلمة :
«أن رجلاً عيّر رجلاً بفاحشة عملتها أمه بالجاهلية ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فقال : لا حدّ عليه» ((2))
ثمّ إنّ القاذف لهند هو الراوي الأوّل ، لا الناقل عنه بواسطة أو بغير واسطة كالمصنف رحمه الله والكلبي .
وأمّا زعمه من أن ما ذكره المصنف غير موافق لصحاح التواريخ ، وأن حقيقة الخبر غير ذلك .
ففيه : إنّه إنّما زعم صحة تلك التواريخ ؛ لموافقتها لهواه في معاوية ، وإلا فالصحيح ماذكره المصنف رحمه الله؛ بدليل ما اشتهرت به هند من البغاء ، كما عرفته في شعر حسّان ، وبدليل ما سينقله المصنف - رحمه الله - عن الحافظ أبي سعيد ، وأبي الفتوح ؛ من أن مسافر بن أبي عمر جامع هنداً سفاحاً فحملت.
ص: 32
فتزوّجها أبو سفيان فولدت معاوية بعد ثلاثه أشهر .
ونحوه عن الأغانى ((1)).
وبدليل ما نقله ابن ابي الحديد ((2)) عن الزمخشري في «ربيع الأبرار» قال : كان معاوية يعزى إلى أربعة : إلى مسافر بن ابي عمرو ، وإلى عمارة ابن الوليد بن المغيرة ، وإلى العباس بن عبد المطلب ، وإلى الصَّباح ؛ مغَنَّ كان لعمارة بن الوليد ((3)).
قال : وكان أبو سفيان ذميماً قصيراً، وكان الصباح عسيفاً ((4)) لأبي سفیان شاباً وسيماً ، فدعته هند إلى نفسها فغشيها .
وقالوا : إنّ عتبة ابن أبي سفيان من الصباح أيضاً .
وقالوا : إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته.
وفي هذا المعنى يقول حسّان - أيام المهاجاة بين المسلمين ، والمشركين في حياة رسول الله صلی الله علیه واله و سلمقبل عام الفتح-:
لمن الصبي بجانب البطحاء *** في الترب ملقى غير ذي مهدِ
نجلت ((5)) به بيضاءُ آنسةٌ ((6)) *** من عبد شمس صلبة الخد ((7))
أقول : ومن شواهد كون معاوية ابن زنا صلافة وجهه باستلحاقه
ص: 33
زياداً جهراً بين الجماهير ؛ فإن معاوية لو لم يكن لحيقاً أيضاً لاستحيى من ذلك واستنكره، ولا سيّما أنّ كيفية استلحاقه لزياد قد اشتملت على أنواع التهتك وصنوف المخازي .
قال ابن الأثير في كامله ((1)) : رأى معاوية أن يستميل زياداً ، ويستصفي مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي ، فقال له معاوية :
بم تشهد يا أبا مريم ؟
فقال : أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً ، فقلت له :
ليس عندي إلا سميّة .
منياً .
فقال : ائتني بها على قدرها ووضرها ((2)) .
فأتيته ،بها، فخلا ،معها ، ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منیا.
فقال له زياد : مهلاً أبا مريم إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتما ،فاستلحقه معاوية .
وكان استلحاقه أوّل مارُدّت به الشريعة علانية ، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قضى ب: الولد للفراش وللعاهر الحجر».(3)
ص: 34
ونقل ابن أبي الحديد نحوه عن عليّ بن محمّد المدائني ، وذكر فيه :«أنّ زياداً قال من فوق المنبر : يا أبا مريم ! لا تشتم أمهات الرجال تُشْتَمْ أُمَك » ((1)) .
فيا قاتل الله زياداً ومعاوية، ما أصلف وجهيهما وما أبعدهما عن الحياء .
وأعجب من معاوية من يواليه - وهو بهذا الحال من الخنا ((2))- ويضع الأخبار، الأخبار في فضله - وهو بهذا الفجور - ويعد رواياته من صحاح وهو بهذا التجاهر في الفسق .
وأما ما ذكره من اعتقادهم في معاوية ، فقد عرفت الكلام فيه ((3)) ، وقد بقي في كلامه موارد تاريخية هي محل للانتقاد تركناها لرائيها .
ص: 35
قال المصنّف - طاب مرقده ((1)) :
ومنها : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم دعا عليه .
روى مسلم في الصحيح عن ابن عباس ، قال :
كنتُ ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فتواريت خلف باب ، قال :فحطأني حطأة ((2)) وقال : اذهب فادع لي معاوية .
قال : فجئت ، فقلت : هو يأكل
قال : ثمّ قال لي : اذهب فادع لي معاوية .
قال : فجئت ، فقلت : هو يأكل : فقال : لا أشبع الله بطنه» .
قال ابن المثنى : قلت لأميه ، ما حطأني ؟ قال : قفدة ((3)) »((4)).
قال : قفدني فلو لم يكن عنده معاوية من أشدّ المنافقين لما دعا عليه ؛ لأنّه كما وصفه الله تعالى:«وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم» ((5)) ، وقال في حقه :« فلا
ص: 36
تذهب نفسك عليهم حسرات»((1)) «فلعلك باخع نفسك على آثارهم» ((2)).
ومن يقارب قتل نفسه على الكفّار، كيف يدعو على مسلم عنده ؟! وقال الله تعالى :«إن تستغفر لهم سبعين مرّةً»((3)) .
فقال : والله ، لأزيدن على السبعين ((4)).
وقد ورد في تفسير:«إنّك لعلى خلق عظيم»((5)) .
أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كلما آذاه الكفار من قومه قال :«اللهم اغفر لقومي ،إنهم لا يعلمون»((6)).
فلو لم يكن عنده منافقاً، لكان يدعو له ولا يدعو عليه .
وكيف جاز لمعاوية أن يعتذر بالأكل ، مع أنه صلی الله علیه و اله و سلم قال :
«لا يؤمنُ عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأهله ، وماله ، وولده »((7))
ص: 37
حتى دعا النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليه ، مع أنه لا ينطق عن الهوى ، فيكون الدعاء بإذن الله تعالى ؟!
* * *
ص: 38
وقال الفضل ((1)) :
من الأمور المقرّرة عند العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
إنّما أنا بشر يعرضني ما يعرض البشر ، وقد سألت الله تعالى أنّ كلّ دعوة أدعوها على أحدٍ من المسلمين يجعلها الله رحمة ومغفرة له»((2)).
وهذا من المعلومات عند العلماء ، والإجماع واقع على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على بعض المسلمين .
كما قال لمعاذ : تكلتك أمك ((3)).
وقال لأُم سلمةَ : تَرِبَتْ يمينُكِ ((4)).
وقال لِسَوْدَة : قطع الله يدك ((5)) .
وقال الصفيّة : « عَقْرى حَلْقى » ((6))((7)) ، وغيرها من الدعوات .
ص: 39
ولأجل هذا سأل من الله أن يجعلها رحمةً لمن دعا عليه.
فما ذكر - أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لا يدعو إلا على منافق - باطل بإجماع العلماء.
وأما ما ذكر أنّه كيف جاز لمعاوية أن يعتذر بالأكل ؟
فلم يصح أنه اعتذر ولم يجيء ، وربّما رآه ابن عباس مشغولاً بالأكل . فلم يذكر أن رسول صلی الله علیه و اله وسلم يطلبه ، وظاهر الحديث يدلُّ على هذا ،هكذا قال العلماء ((1)) .
وأنا أقول : أثر دعوة النبي صلی الله علیه و اله وسلم أنه أكل جميع الدنيا ولم يشبع من الخلافة والملك حتّى وُوري في التراب ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب .
ص: 40
(1)
وأقول :
حاصل جواب الفضل : معارضة الآيات الشريفة بما تقرر عند علمائهم، وتكذيب الله سبحانه وتصديقهم؛ فإنّ الله تعالى يصف نبيه الكريم بالخلق العظيم ((1)) ، وهم يصفونه بما ينبعث عن الخُلق.
والله سبحانه ينفي عنه القول عن الهوى وبدون الوحی(2)،وهم يثبتون له القول عن جزع النفس وضيق الطبيعة ((3)) .
والله عزّ وجلَّ يخبرُ أنّه كاد أن يهلك نفسه غمّاً ويستغفر لهم ((4)) ،وهم يخبرون أنه لا يبالي بالمؤمنين ويتهوّر في الدعاء عليهم ((5)).
والله تبارك وتعالى يفضّله على المرسلين والنبيين ، وهم يجعلونه من سائر البشر ((6)) ، يصد عنه ما يصدر عنهم، حتّى يقع منه ما حُرِّم عليه من الدعاء على المؤمنين باللعن ونحوه .
وما الداعي إلى ذلك إلا نصرةً أشباه معاوية وابن العاص الذين لعنهم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ودعا عليهم ؛ إعلاماً بشدّة نفاقهم، وخبث سرائرهم ،
ص: 41
و تحذيراً للناس من اتباعهم .
وأما الدعوات التي رواها الخصم عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم، فلو سُلّم وقوعها منه ، فليس المراد بها الدعاء الحقيقي، وإلا لاستجيبت ، بل المراد منها : بيان التألّم من المدعو عليه ، وهذا بخلاف الدعاء على معاوية ؛ فإن المراد منه : حقيقة الدعاء .
ولذا كان يأكل ولا يشبع، ويقول: «كلت أضراسي ولم يشبع بطني »((1)).
وقد ورث هذا الداء منه ملوك الأمويين ، كما هو معلوم من حالهم .
وقد نسب القوم إلى النبي صلی الله علیه و اله وسلم دعوات مجابة لا تناسب النبوة والرحمة ، كدعائه على صبي بأن يقطع الله أثره ، فأقعد ((2)) - جزاهم الله بما نقصوا به نبيّهم العظيم وكذبوا عليه.
وكله لإخفاء حال معاوية وابن العاص ، والحكم الوزغ واشباهم .
ولا أدري من هم العلماء الذين زعم الخصم إجماعهم على إثبات الحمق والتهوّر إلى نبي الرحمة المعصوم من الخطأ والزلل ؟!
أليسوا هم علماء النصب، ورواة الكذب، والمتعلّقين بأغصان الشجرة الملعونة في القرآن الذين لا يبالون بنص الكتاب، ولا يحجبهم عن عيب النبي حجاب ؟!
ص: 42
وأمّا اعتذاره لدلالة الحديث على اعتذار معاوية بالأكل ، فلا ينفعه بل هو أضرُّ عليه ؛ لأنّ دعاء النبي صلی الله علیه و اله وسلم عليه إبتداء أدل على نفاقه.
على أن قول ابن عباس : هو يأكل»، يدلُّ على اعتذار معاوية بالأكل ، كما هو المتعارف في أمثاله.
فإنّك إذا أرسلت رسولاً إلى أحدٍ فذهب إليه ، وقال : هو مشغول ،ُفهم منا منه أنّه اعتذر بالشغل ؛ إذ هو المطلوب منه الاعتذار .
وكيف يحسن من ابن عباس أن لا يبلغ في المرتين رسالة النبی صلی الله علیه و اله وسلم إلى معاوية ، ويعتذر من عند نفسه ؟!
ولو لم يفهم النبي صلی الله علیه و اله وسلم لو أن هذا العذر من معاوية ، لقال لابن عباس في المرة الثانية : بلغه أمري .
ثم إن هذا الحديث قد رواه مسلم في «كتاب البر والصلة والآداب»((1))فراجع ((2))
هذا وقد ذكر المصنف رحمه الله بعد الطعن المذكور طعناً آخر ((3)) تركه الفضل..
ص: 43
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
ومنها : إنّه خاصم عليّاً وقتل جمعاً كثيراً لا يحصى من المسلمين.
وأدخل الشبهة على أكثر الباقين، مع أن الأمر لعلي بالإجماع عندهم ، ومبايعة المسلمين ((2)) والنص من النبي صلی الله علیه و اله و سلم((3))، واستحقاقه بواسطة العصمة ((4)) .
وأجاب بعضهم عن حربه لأمير المؤمنين علیه السلام: بأنه اجتهد فأخطأ ((5)) .
وفيه : إنّه لا وجه للاجتهاد في حرب إمام الوقت ، والقاح الفتنة ، وإضلال الأمة ، وقتل ما لا يحصى من نفوس المسلمين ؛ طلباً لثأر شخص واحد من أُناس مخصوصين ، هم أولى منه بالاجتهاد ، وأحقُّ منه بالدين ، على أنه ليس ولي الدم .
ولا أدري كيف يحمل معاوية على الاجتهاد وهو لم يبال بمخالفة ضروریات الدین، کاستلحاق زیاد((6)) ، وشرب الخمر ((7)) ؟!
ومن أين جاءه الاجتهاد والمعرفة بالأحكام ، وهو إنّما أظهر الإسلام
ص: 44
بعد الفتح بمدةٍ ((1)) واشتغل بالرياسة ، وملاذ الدنيا وشهواتها ؟!
وكيف استقام له الاجتهاد بعد ما ظهر له ولغيره بعد قتل عمار أنّهم الفئة الباغية ؟ !
وكيف اجتهد حتى استجاز قتل الأبرياء من المسلمين في غير ساحة الحرب ، وروّع أهل الحرمين ((2)) ، وقتل الأطفال ((3)) ، ونهب حليّ المسلمات ، والمعاهدات ((4)).
ثم خرج على سيد شباب أهل الجنّة إلى أن انتزى على الأمّة قهراً ؟!
وقتل خيار المسلمين صبراً ؛ كحُجر وأصحابه ((5)) ، وعمرو بن الحمق ((6)) وأمثاله ((7)) ، ومكّن ولاة الجور والفساد من رقاب العباد ؟!
وعهد لابنه الرّجس المارد المعلن بالكفر والفجور ؟!
فيا بارك الله للقوم بهذا الاجتهاد الذي استباحوا به مسخ الشريعة وحرب ، الأئمة ، وإهلاك الأمة ، وسيجزون بما قالوا وعملوا يوم يعضُ الظالم على يديه ويقول: «يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا
ص: 45
ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا»((1))
ص: 46
قال المصنّف - شيّد الله حجّته ((1)) :
ومنها : إنّه قال : أنا أحقُّ بالخلافة من عمر بن الخطاب .
روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين ، قال عبد الله بن عمر :
دخلت على حفصة - ونوساتها ((2)) تنطف- ((3)) ، قلتُ : قد كان من أمر الناس ما تبيّن فلم يحصل لي من الأمر شيء.
فقالت : إلحق بهم ، فإنّهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ، فلم تدعه حتى ذهب.
فلما تفرّق الناس خطب معاوية فقال : من أراد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحق منه ومن أبيه ((4)).
قال الحميدي : وأراد عبد الله أن يجيب معاوية فأمسك عن الجواب »((5)).
فإن كان ما يقوله معاوية حقاً ، فقد ارتكب عمر الخطأ في أخذه الخلافة ، وإن كان ،باطلاً، فكيف يجوز تقديمه على طوائف المسلمين ؟ !
ومنها : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يلعنه دائماً ويقول : الطليق ابن الطليق ،اللعين ابنُ اللعين ((6)).
ص: 47
وقال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»((1)).
وكان من المؤلفة قلوبهم ، ولم يزل مشركاً مدة كون النبي صلی الله علیه و اله و سلم مبعوثاً يُكذب بالوحي ويهزأ بالشرع .
وكان يوم الفتح باليمن يطعن على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ويكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بالإسلام ، ويقول له :
أصبوت إلى دين محمد وفضحتنا، حيث يقول الناس : إن ابن هند تخلّى عن العزّى ((2)) ؟
وكان الفتح في شهر رمضان لثمان سنين من قدوم النبي قال الله صلی الله علیه و اله و سلم المدينة ، ومعاوية يومئذ مقيمٌ على الشرك، هارب من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لأنه قد هدر دمه فهرب إلى مكة ((3)).
فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم مضطراً فأظهر الإسلام . وكان إسلامه قبل موت النبي بخمسة أشهر، وطرح نفسه على العباس حتى شفع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فعفا عنه .
ثمّ شفع إليه ليكون من جملة خمسة عشر ليكتب له الرسائل ((4))
ص: 48
وقال الفضل ((1)):
ما ذكر أن معاوية كان يدعي أنه أحق بالخلافة من عمر ، فلا يبعد هذا ؛ لأنه كان يدعي أنه أحق من أمير المؤمنين في حياته وأيام خلافته فخرج عليه وبغى عليه، وقتل جيوش المسلمين، وفعل ما فعل ممّا لا ينبغي أن يذكر لقباحته وإساءته ، فلا يبعد أن يدعي مثل ذلك في عمر .
ومن خالف الحقَّ ، وخاض في الباطل والخطأ ، يدّعي كلّ ما يكون خطأ .
ولا إمامة له على المسلمين، ولا شرائط في إمامته صحت ، بل أخذ الخلافة والملك عنوةً بالسيوف، كما قال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم:
«الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثمّ بعد ذلك يكون ملكاً عضوضا»((2)).
والصحيح إن معاوية أسلم بعد الفتح بأيام يسيرة ((3)).
ص: 49
وأقول :
لم يُرد المصنف رحمه الله الطعن على معاوية بأنه أدعى الأحقية ممن هو أحقُّ منه وهو عمر ، بل أراد أن هذه الدعوى إن بطلت ، فقد بطلت خلافة معاوية ؛ لأن الكاذب المبطل لا يصلح للإمامة ، وإن صحت فقد بطلت خلافة عمر ؛ لوجود الأحقُّ منه ، ولأن الأحق ليس أهلاً للخلافة بإقرار الخصم ، فكيف بالمفضول ؟!
ولا معيّن للاحتمال الأوّل ، ولا يتأتى الترديد المذكور في دعوى معاوية الأحقية من أمير المؤمنين علیه السلام ؛ إذ لو سلّم صدور هذه الدعوى منه ؛فهي متعيّنة البطلان ؛ لأنّ خلافة أمير المؤمنين مسلّمة الصحّة عند الفريقين ،بخلاف خلافة عمر .
ولا أشدّ وهناً وأضعف شأناً من خلافة عمر ؛ لادعاء صاحبه وصنيعته أنّه أحق بها منه .
وهذا الحديث قد رواه البخاري في غزوة الخندق من «كتاب المغازي » ((1)).
وأما ما صححه الخصم من إسلام معاوية بعد الفتح بأيام يسيرة ، فقول نشأ من الهوى لا الدليل.
ويكفينا في صحة خلافه رواية واحد منهم له، كما ذكره المصنف رحمه الله ((2)).
ص: 50
ويؤيده ما حكاه ابن أبي الحديد ((1)) عن الزبير بن بكار في كتاب «المفاخرات » :
«أنّ الحسن علیه السلام قال لمعاوية :« أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر ، وأنت تسوقه ، وأخوك عتبة هذا يقوده ، فراكم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : لعن الله الراكب ، والقائد ، والسائق »((2)).
أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يُسلم تنهاه عن ذلك :
[من البسيط]
يا صخرُ لا تُسْلِمَن يوماً فتفضَحَنا *** بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا
خالي وعمي وعم الأم ثالثهم *** وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
لا تركنن إلى أمر تكلفنا *** والراقصات به في مكة الخرقا ((3))
فالموت أهون من قول العداة لقد *** حاد ابن هند عن العُزى إذاً فرقا ((4))
فإنّه على الظاهر إنّما كتب إليه بعد الفتح وهو هارب ؛ إذ لم يهم أبو
ص: 51
سفيان بالإسلام قبل الفتح جزماً ، ويبعد أن يسلم معاوية إلا بعد مدة طويلة من هذا الشعر.
ولو سلمنا أنّه أسلم بعد الفتح بمدة يسيرة ، فلا فائدة في إسلامه ؛ لأنّ إسلامه مدخول ، وهو من المؤلّفة قلوبهم، كما سبق عن «الاستيعاب»((1)) و «تاریخ الخلفاء» ((2)) ، وذكره ابن أبي الحديد ((3)).
كما أنه من أشدّ المنافقين ؛ لمزيد بغضه وعداوته لأمير المؤمنين علیه السلام ، حتى اتخذ السبّ له ديناً لأهل الشام ((4) ) .
وقد استفاض كما سبق قول النبي صلی الله علیه و اله وسلم لعلي علیه السلام: «لا يبغضك إلا منافق »((5)).
وقال ابن أبي الحديد ((6)) : «معاوية عند أصحابنا مطعون في دينه منسوب إلى الإلحاد ، قد طعن فيه صلی الله علیه و اله وسلم.
وروى فيه شيخنا أبو عبد الله المصري في كتاب «نقض السفيانية»على الجاحظ أخباراً كثيرةً تدلّ على ذلك».
أحمد وروى بن أبي طاهر في كتاب «أخبار الملوك» :
أن معاوية سمع المؤذن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقالها ثلاثاً .
فقال : أشهد أن محمّد رسول الله .
ص: 52
فقال : لله درك يا ابن عبد الله ! لقد كنتَ عالي الهمة ، ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين» ((1))
ونقل في النصائح الكافية عن الزبير بن بكار في «الموفقيات» عن المطرف بن المغيرة بن شعبة ((2)) ، قال :
«دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه فيتحدث معه مه ، ثمّ ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ليلةً العشاء، ورأيته معتماً ، فانتظرته ساعةً وظننتُ أنّه لأمر حدث
فأمسك عن فينا ، فقلت : مالي أراك مغتمّاً منذ الليلة ؟
فقال : يا بُنيّ جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم .
قلت : وما ذاك ؟
قال : قلت له - وقد خلوت به - : إنّك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين !
فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً ، فقد كبرت .
ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ، ما عندهم اليوم شيءٌ تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه .
فقال : هيهات هيهات! أي ذكرٍ أرجو بقاءه ؟ ملك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل : أبو
ص: 53
بكر .
ثمّ ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلا أن يقول قائل : عمر.
وابنُ أبي كبشة ((1)) ليصاح به كلَّ يوم خمسَ مرّاتٍ : أشهد أن محمداً رسول الله .
فأي عمل يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا ، لا أبا لك ؟!
لا والله ، إلا دفناً دفنا »((2))
وعن ابن تيمية في كتاب الصارم المسلول» بسنده عن عباية ((3))
قال :
ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية ، قال : بنيامين النضري : كان قتله غدراً.
ص: 54
فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : يا معاوية ! أيغدرُ عندك رسول الله ولا تنكر، والله لا يظلّني وإياك سقف بيت أبدا، ولا يخلو لي دم هذا إلا قتلته » .
وروى الطبري ((1)) في حوادث سنة 284:
«أن المعتضد عزم في هذه السنة على لعن معاوية على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس ، وكان من جملته في ذكر أبي سفيان :
«فحارب مجاهداً ، ودافع مكايداً ، وأقام منابذاً ، حتى قهره السيف وعلا أمرُ الله وهم كارهون ، فتقول بالإسلام غير منطو عليه ، وأسر الكفر غیر مقلع عنه.
فعرفه بذلك رسول الله ،والمسلمون، وميّز له المؤلفة قلوبهم ، فقبله وولده على علم منه ((2)).
فمما لعنهم الله به على لسان نبيه صلی الله علیه و اله و سلم قوله :« والشجرة الملعونة فی القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيرا» ((3)).
ولا اختلاف بين أحدٍ أنّه أراد بها :بني أمية ((4)).
ومنه قول الرسول - وقد رآه مقبلاً على حمار، ومعاوية يقوده، ويزيد يسوقه :«لعن الله الراكب والقائد والسائق »((5)).
ومنه ما يرويه الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان :
تلقفوها - يا بني عبد شمس - تلقف الكرة ، فوالله ما من جنّة ولا
ص: 55
نار»((1)) ... إلى أن قال :
ومنها الرؤيا التي رآها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فوجم لها فما رنی بعدها ضاحکا فانزل الله:«وما جعلنا الرویا التی اریناک الا فتنة للناس » ((2)).
فذكروا أنه رأى نفراً من بني أمية ينزون على منبره نزو القردة» ((3))... إلى أن قال :
ومنها ما أنزل الله على نبي الله صلی الله علیه و اله و سلم: «ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر»((4)).
قالوا : ملك بني أُمية ((5)).
ومنها : إنّ رسول الله بني صلی الله علیه و اله و سلم دعا معاوية ليكتب بين يديه، فدافع بأمره ، واعتل بطعامه ، فقال : «لا أشبع الله بطنه » ((6)).
ص: 56
فبقي لا يشبع وهو يقول : والله ، ما أترك الطعام شبعاً ولكن إعياء ((1)) .
ومنها : إن رسول الله قال : « يطلعُ من هذا الفجّ رجل من أمتي يحشر على غير ملّتي ، فطلع معاوية((2)).
ومنها : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه »((3)).
ومنها : الحديث المشهور المرفوع أنه صلی الله علیه و اله و سلم قال : «إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك من الجحيم » ((4)).
ثم ذكر جملة من بوائق معاوية ((5)) تستدعي مراجعتها، ولولا الإطالة لذكرنا الكتاب بتمامه ، وهو كتاب أحد خلفائهم في خليفة آخر .
وقد اشتمل على مطاعن مما ذكرها المصنف رحمه الله.
وما زال معاوية منافقاً مستهيناً بالقيامة وبرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
روى الحاكم ((6)) وصححه مع الذهبي : «أن أبا أيوب قال لمعاوية :
أما إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قد أخبرنا أنه سيصيبنا بعده إثرة .
قال : فما أمَرَكُمْ ؟
قال : أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض .
قال : فاصبروا إذن .
فغضب أبو أيوب وحلف أن لا يكلّمه أبداً »(7).
ص: 57
وروى الحاكم أيضاً ((1)) ، وكذا أحمد في مسنده ((2)) ، عن أبي سعيد ((3)) .
هذا وقد ذكر السيوطي في «اللآلىء المصنوعة» في فصل مناقب الصحابة حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » ((4)) .
وذكر أنّ ابن الجوزي نقله في «الموضوعات» عن ابن عدي من طريق عن عبد الله وطريقين عن أبي سعيد ، وزعم أنه موضوع ؛ لأنّ في سند الأوّل : عباد بن يعقوب ، وهو رافضي ، والحكم بن ظهير، وهو متروك كذاب .
وفي سند أحد حديثي أبي سعيد : مجالد بن سعيد ، وفي سند الآخر:علي بن زيد بن جذعان ، وهما ليسا بشيء ((5)) .
ثمّ نقل ابن الجوزي الحديث عن عمرو بن عبيد عن الحسن ((6)) .
وأقول : لا وجه لحكمه بالوضع سوى ولاء معاوية ؛ فإنّ عباداً قد احتج به البخاري في «صحيحه»((7)).
وروى عنه الترمذي وابن ماجة في صحيحهما ((8)) .
ص: 58
كما أن الحكم قد روى عنه الترمذي في صحيحه ((1)).
وأما مجالد وعلي ، فقد روى عنهما أهل الصحاح الستة سوى البخاري ((2)).
فلا بد أن يكون حديثا أبي سعيد صحيحين في منتهى الصحة عندهم ، فكيف يزعم ابن الجوزي الوضع؟!
وقد كان اللازم على السيوطي أن يتعقبه بذلك ، لكن تعقبه بحديث آخر حسن عن جابر، وذكر أن ابن عدي زعم : أن سفيان بن محمد الفزاري الواقع في سنده قد سوّی سنده ((3)).
وأنت تعلم أنّ هذا تخرّص وتهجم من غير حجّةٍ .
وتعقبه أيضاً بحديث آخر صحيح عن سهل بن حنيف، لكن في سنده سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق صاحب «المغازي » ((4)) .
قال ابن عدي : سلمة ضعفه إسحاق بن راهويه ((5)) .
وقال البخاري : في حديثه مناكير ((6)).
وفيه : إنّه لا عبرة بتضعيف ابن راهويه مع توثيق ابن معين له
ص: 59
وتصديق غيره وتوثيقه له ((1)).
قال في تهذيب التهذيب بترجمة سلمة : قال ابن معين : ثقة.
وقال : كتبنا عنه ، ليس في المغازي أتم من كتابه.
وقال أيضاً : سمعت جريراً يقول : من لدن بغداد إلى خراسان ، ليس أثبت في ابن إسحاق من سلمة.
وقال أبو داود : ثقةً ، وقال ابنُ سعد : كان ثقة صدوقاً.
وقال أبو حاتم : محله الصدق ، وقال ابن عدي : لم أجد له ما جاوز الحد في الإنكار ((2)) .
ثمّ إنّ القوم وقعوا في حيص من هذا الحديث ، فصحفه بعضهم ورواه :هكذا
«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه - بالموحدة - فإنّه أمين مأمون » ((3)) .
كما ذكره السيوطي أيضاً نقلاً عن الخطيب ، وحكى عن الخطيب أن في سنده مجاهيل أربعة ، وفيه - أيضاً - محمد بن إسحاق الفقيه ، وهو كثيرالخطأ والمناكير ((4)) .
هذا ، فقد نقل السيوطي عن ابن عدي أنّه قال : هو أقرب إلى العقل ؛ فإن الأمة رأوه يخطب على منبر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ولم ينكروا
ص: 60
ذلك عليه ، ولا يجوز أن يقال : إنّ الصحابة ارتدت بعد نبيها صلی الله علیه و اله وسلم،وخالفت أمره((1)).
وأقول : هذا من غرائب الكلام ؛ فإنّ الحديث لا يدلُّ على علم الأمة أو الصحابة جميعاً بأمر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، حتى يكون مارواه الخطيب أقرب إلى العقل .
ولو فرض علم جميع الصحابة ، ففي وقت سلطان معاوية لم يبق منهم إلا الأقلّون ، وهم أضعف من أن ينكروا على معاوية أو يقتلوه ؛ لأنّه قد ملكهم وغيرهم برعاع الشام قسراً ، ونزا على منبر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قهراً، ولذا استلحق زياداً من دون مبالاة بهم وبغيرهم، وبالشريعة الأحمدية .
وإنّما أمرهم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بقتله مع علمه بضعفهم، وعدم عملهم ، كما صرّحت به بعض الأخبار ((2)) ؛ لأن غرضه صلی الله علیه و اله وسلم الإعلام بأن معاوية مستحق القتل ، مهدور الدّم .
ولو سلّم ما ادعاه ابن عدي ؛ من أنّ ما رواه الخطيب أقرب إلى العقل ، للجهة التي ذكرها ؛ فهو أبعد عن العقل من جهة أخرى ؛ وهي قوله فيه : فإنّه أمين مأمونٌ ؛ لأنّ المراد أنّه أمين مأمون على دين النبي صلی الله علیه و اله وسلم وأمته.
ومعاوية ليس كذلك بالضرورة ؛ لسفكه الدماء بغير حقها ، واستلحاقه زياداً ؛ وشربه الخمر ، وإتيانه سائر المنكرات المنافية للأمان على الدين
ص: 61
والدنيا .
هذا ، وقد زعم ابن الجوزي وضع حديث آخر مشهور - أيضاً - نقله عن أبي يعلى بسنده عن أبي برزة ، قال :
«كنا مع النبي صلی الله علیه و اله وسلم فسمع صوت غناء ، فقال : أنظروا .
فصعدت فنظرتُ ، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان ، فجئت فأخبرت النبي صلی الله علیه و اله وسلم.
فقال :« اللهم ! أركسهما في الفتنة ركسا ، اللهم ! دُعَهُما إلى الناردعا »((1)).
وقد تعلّل ابن الجوزي لوضعه، بأن في سنده يزيد بن أبي زياد ،وكان يلقن بأجرة فيتلقّنُ ((2)).
وتعقبه السيوطي بقوله : هذا لا يقتضي الوضع، والحديث أخرجه أحمد في مسنده ((3)).
أقول : مضافاً إلى أن يزيد ممّن أخرج له أرباب صحاحهم سوى البخاري ((4)).
ثمّ قال السيوطي : وله شاهد من حديث ابن عباس ، أخرجه الطبراني في «الكبير» عنه.
قال : سمع النبي صلی الله علیه و اله وسلم صوت رجلين يتغنيان وهما يقولان :
ص: 62
ولا يزال جوادي تلوح عظامه *** ذوى الحرب عنه أن يُجنّ فيُقبرا
فسأل عنهما ، فقيل له : معاوية وابن العاص.
فقال :« اللهم اركسهما في الفتنة ركسا ، ودعهما إلى النار دعا» ((1)) .
ثمّ قال السيوطي : قال ابن قانع في معجمه : حدثنا محمد بن عبدوس ، ثم ذكر سنده عن صالح شقران ، قال :
«بينما نحنُ ليلة في سفر إذ سمع النبي صلی الله علیه و اله وسلم صوتاً.
فقال : ما هذا ؟ فذهبتُ أنظر ، فإذا هو معاوية بن رافع ، وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول :
ولا يزال جوادي تلوح عظامه ذوى الحرب عنه أن يموت فيقبرا فأتيت النبي صلی الله علیه و اله وسلم فأخبرته .
فقال :« اللهم اركسهما ، ودعهما إلى نار جهنم» .
فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبي صلی الله علیه و اله وسلم من السفر ».
قال السيوطي : « وهذه الرواية أزالت الإشكال ، وبيّنت أنّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة .
وهي قوله : ابن العاص، وإنّما هو ابن رفاعة أحد المنافقين
وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين» ((2)) .
وأقول : يشكل بإمكان تعدّد الواقعة مع أن نسبة الوهم إلى الحديث الأوّل ليست بأولى من نسبته إلى الحديث الثاني ، بل الأقرب في الثاني
ص: 63
العمد دفعاً للطعن عن معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص الذين هما أولى بالنفاق لمن أنصف، مضافاً إلى أن رجال سند الحديث الثاني بين ضعيف ومجهول ، فلا يصلح لمقاومة غيره حتى يحمل بسببه على لوهم ولاسيما أن طرق الأوّل متعدّدة، وصح منها حديث أبي برزة ، فيبعد وهم الجميع وضبط المتحد.
ص: 64
وقال الفضل ((1)) :
إن صح هذا ، فلا يحكم بأنّه مات على الكفر ، وربما أراد أنه ترك سنة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في أخذ الخلافة عنوة ، وفي التوغل بالبغي ، وطلب شيء لا حق له فيه.
ص: 66
وأقول :
هذا تأويل مضحك ؛ فإنّ المراد بالحديث : أنه حين الموت مفارق للسنة ، وبغي معاوية إنما كان قبل موته عندهم بأكثر من عشرين سنة ، بل عندهم أنه حين موته خليفة حق ؛ لتحقق الإجماع عليه بعد صلح الحسن علیه السلام.
على أنه لا ریب بدلالة الحديث على ذمّ معاوية ، وفي مذهبهم أن بغیه خطافي الإجتهاد ، فله أجر فيه ، فكيف يحسن تأويل الفضل ؟!
فالظاهر أن معنى الحديث : أنّه يموت على خلاف ما يموت عليه المؤمنون ، وما هو إلا الكفر ، والخروج عن الإسلام .
ولعل لفظ الحديث في كتاب «المعتضد» السابق : - « يحشر على غير ملتي »((1))- أظهر في كفره من اللفظ الذي ذكره المصنف رحمه الله
ص: 67
قال المصنّف - قدس الله نفسه ((1)) :
ومنها : إن النبي صلی الله علیه و اله وسلم كان ذات كان ذات يوم يخطب ، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ، ولم يسمع الخطبة ، فقال النبي صلی الله علیه و اله وسلم:
«لعن الله القائد والمقود ، أي يوم يكون لهذه الأمة يكون لهذه الامة من معاوية ذى الاستاه ) ((2))؟ !
ص: 68
وقال الفضل ((1)):
لا شك أن يزيد بن معاوية لم يكن في زمن النبي صلی الله علیه و اله وسلم وأنه تولد بعد عمه يزيد بن أبي سفيان ، وهو مات في طاعون عمواس ((2))((3))- زمن عمر ابن الخطاب - فالله أعلم بحقيقة الخبر .
ص: 69
وأقول :
نقل السيد السعيد رحمه الله ، هذا الخبر عن الزمخشري في : «ربیع الأبرار»((1)) ، وهو حجّة على من قال : إنه ولد بعد النبي صلی الله علیه و اله وسلم، ولو سلم أنّه ولد بعده كما هو الأشهر، فلا يبعد وقوع الخطأ في الحديث ؛ لأنّ المشهور هو يزيد بن معاوية ، فاشتبه الراوي ، أو الناسخ، فعبر بالابن ، والمقصود الأخ ، والله العالم .
ص: 70
قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :
ومنها : إنّه سبّ أمير المؤمنين علیه السلام، مع الآيات التي نزلت في تعظيمه ، وأمر الله تعالى النبي صلی الله علیه و اله وسلم بالاستعانة به على الدعاء يوم المباهلة ، ومؤاخاة النبي صلی الله علیه و اله وسلم، واستمر سبه ثمانين سنة إلى أن قطعه ابن عبد العزيز ((2))، وفيه قال ابن سنان الخفاجي شعراً:
[من الكامل ]
أعلى المنابر تُعلنون بسبه *** وبسيفه نُصِبَتْ لَكُمْ أَعْوَادُها ؟ ! ((3))
ص: 71
وقال الفضل ((1)) :
أمّا سبّ أمير المؤمنين - نعوذ بالله من هذا - فلم يثبت عند أرباب الثقة ، وبالغ العلماء في إنكار وقوعه، حتى إن المغاربة وضعوا كتباً ورسائل ، وبالغوا فيه كمال المبالغة ، وأنا أقول شعراً :
[من الخفيف]
من یکن تاركاً ولاء علي *** لست أدعوه مؤمناً وزكيّاً
كيف بين الأنام يذكر سباً ؟ *** للذي كان للنبي وصيّاً
ليس قولي لفاعل السبّ إلا *** لعن الله من يسبّ علياً
ص: 72
وأقول :
إنكار سبهم لعلي علیه السلام من إنكار الضروريات ، ومكابرة المتواترات وليس هو إلا كإنكار صحة حديث الغدير وتواتره .
كيف ؟ ولا يخلو من حكاية سب القوم لأمير المؤمنين علیه السلام كتاب من كتب السيرة والتاريخ ، حتّى إنه يستفاد ممّن لا دخل له بالتاريخ ؛ كصحيح مسلم ؛ فإنّه روى فيه في باب فضائل علي علیه السلام عن عامر بن سعد بن أبي وقاص .
قال : « أمر معاوية سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟
فقال : «أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فلا ...» ((1))
الحديث .
ونحوه في «مسند أحمد» ، ومستدرك الحاكم ((2)) .
وروى مسلم أيضاً في الباب المذكور أنّه استعمل رجل من آل مروان على المدينة ، فأمر سهل بن سعد أن يشتم عليّاً ، فأبى.
فقال : أمّا إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب» ((3)). الحديث .
والاشتغال في إثبات ذلك وما جاء فيه يعد من الفضول .
وقد استفاض - أيضاً - قول رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: « من سب عليّاً فقد
ص: 73
سبني».
كما رواه الحاكم في المستدرك ((1)) وصححه مع الذهبي عن أم سلمة ((2)).
وفي رواية أُخرى عنها قالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يقول : من سب علياً فقد سبني ، ومن سبني فقد سبّ الله » .
روت هذا لما قالت لشبث بن ربعي : يسب رسول الله في ناديكم ؟
قال : « وأنى ذلك ؟
قالت : فعلي بن أبي طالب
قال : إنا نقول أشياء نريد عرض الدنيا .
قالت : «فإني سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم...»((3)) الحديث.
والروايات في هذا أكثر أن من تحصى ((4)) ، فما حال من سب الله ورسوله مدة خلافته ، وكتب به إلى البلدان وأبقاه سُنّة بعده في كثير من السنين ((5)) ؟ !
وأما ما قاله من الشعر، فالأحسن منه ما قلته في مدح سيد
ص: 74
الوصيين علیه السلام:
[من الخفيف]
مَنْ يَكُن سالكاً صراط «على» *** لَمْ يَزل سالِكاً صراطاً سويًا
هُوَ جَنبُ الله الذي رفع الله له في الورى مكاناً عليّا
إن رآه الملوك خرُّوا خضوعاً *** لمعاليه سجداً وبكيّا
وَهُوَ نفسُ النبي في سابق الفضل ويتلوه شاهداً ووصيّا
و «بخم» لما ارتضاه إماماً *** كان وجه الإسلام فيه مضيّا
غير أن النفوس مرضى فمالت *** لشقاها ورشدها عادَ غيّاً
كالذي يخبط الظلام ضلالاً *** بعد ما أسفر الصباح وضيا
عاندوا «أحمداً» وعادوا «عليّاً» *** وتولوا منافقاً وغويا
وأسروا سبّ النبي نفاقاً *** حين سبّوا جهراً أخاه «عليا»
لعنوه دهراً فيا لعن الله *** عداه مدى البقا سرمديا
وسلام عليه يوم توفاه *** زكياً ويوم يبعث حيّا
ص: 75
قال المصنف - طاب ثراه ((1)) :
ومنها : إنّه سمّ مولانا الحسن علیه السلام، وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين علیه السلام، وسلب نساءه ، وهدم الكعبة ((2)) ، ونهب المدينة وأخافهم ((3)).
وكسر أبوه ثنية النبي صلی الله علیه و اله وسلم((4)) ، وأكلت أمه كبد حمزة ((5)) .
فما أدري ، كيف العقل الذي قاد إلى من أحاطت به هذه الرذائل وإلى متابعته ؟ !
ص: 76
وقال الفضل ((1)) :
من يرضى بمتابعة معاوية ، ومن يجعله إماماً حتّى يشنع عليه ابن المطهر ، وقد ذكرنا أنّه من الملوك وليس علينا أن نذب عنه .
ص: 77
وأقول :
سبق أنّهم رضوا بمتابعته ، وقالوا بخلافته وإمامته ، وكذا ابنه الرّجس المارد يزيد ، وسائر فروع الشجرة الملعونة ((1)) .
ولهذا بايع ابن عمر معاوية وابنه ، وأوجب التمسك ببيعة يزيد ، كما روي في صحاحهم وغيرها ((2)).
ولا ريب عندنا أن معاوية سم إمامنا الحسن الزكي بِدَرِّهِ السُّمَّ إلى جعيدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن بن قيس زوجة الحسن علیه السلام، ووافقنا عليه كثير من علمائهم .
ففي «الاستيعاب» بترجمة الحسن علیه السلام بعد ما روى أن بنت الأشعث سقت الحسن علیه السلام السم ، قال :« وقالت طائفة : كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها » ((3)).
وحكى ابن أبي الحديد ((4)) عن أبي الحسن المدائني قال : «دس إليه معاوية سمّاً على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن ، وقال لها : إن قتلتيه بالسم ، فلك مئة ألف، وأزوجك يزيد ابني ، فلما مات ، وفي لها بالمال ، ولم يزوجها من يزيد» ((5)).
ص: 78
ونقل - أيضاً - نحوه ((1)) عن أبي الفرج الأصبهاني عن مغيرة ((2)).
ونقل - أيضاً ((3)) - عن المدائني عن الحصين بن المنذر الرقاشي ، إنّه قال : « والله ، ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ، قتل حُجراً وأصحاب حجر ، وبايع لابنه يزيد ، وسمّ الحسن»((4)).
ونقل - أيضاً ((5)) - في محل آخر عن أبي الفرج «أن الحسن علیه السلام شهيداً مسموماً، دس معاوية إليه وإلى سعد بن أبي وقاص - حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه - سمّاً فماتا في أيام متقاربة، وكان تولى ذلك من الحسن زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية»((6)) إلى غير ذلك مما في شرح النهج .
وروى الحاكم في المستدرك ((7)) في آخر فضائل الحسن علیه السلام، عن قتادة بن دعامة ، قال :«سمت ابنة الأشعث الحسن بن علي - وكانت تحته - ورشيَتْ على ذلك مالاً» ((8)) .
ومن الروايات السابقة يعلم أن الراشي لها معاوية .
وقال ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة»: لما أتى معاوية الخبر بموت الحسن ، أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه ((9)).
ص: 79
فيا ويله من الله ورسوله ! قتل سيد شباب أهل الجنة وأحد الثقلين ، ثم ما استحى من عالم السرائر حتى سجد فرحاً بقتل وليه ، والله سبحانه يقول في قتل سائر المؤمنين : «ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم
خالداً فيها » ((1)) .
فكيف بمن قتل سيد أوليائه وريحانة رسوله ؟؟
ص: 80
وقال الفضل ((1)) :
هذه الآية اختلف في شأن نزولها ، قال بعضهم : نزل في رؤيا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأنّه رأى فى الرؤيا أولاد مروان ينزون على منبره ، ولم يذكر أحد من علماء السنة أنه نزل في معاوية.
ص: 82
وأقول :
من المضحك مغالطة الفضل في المقام ؛ فإنَّ المصنف رحمه الله لم يرد أنّ الآية نزلت في معاوية خصوصاً أُميّة عموماً، حتى يقول الفضل : لم يذكر أحد من العلماء النزول في معاوية ، بل أراد أنها نزلت في بني أُمية ،ومنهم معاوية .
ويدل على نزولها فيهم ؛ ما سبق في «كتاب المعتضد»؛ من أنّه لا خلاف في إرادتهم من الآية ((1)).
وما في «الدرّ المنثور» عن ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرّة ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:« أريت بني أُمية على منابر الأرض ،وسيتملكونها فتجدونهم أرباب سوء » .
واهتم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لذلك ، فأنزل الله : «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس» ((2)).
وفيه - أيضاً - عن ابن مردويه ، عن الحسين بن علي عليهما السلام :«أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أصبح وهو مهموم ، فقيل : مالك يا رسول الله ؟ قال : إني أُريت في المنام كأن بني أُمية يتعاورون ((3)) منبري هذا ، فقيل : يا رسول الله ! لا تهتم فإنّها دنيا تنالهم، فأنزل الله تعالى:«وما جعلنا الرؤيا التي
ص: 83
أريناك إلّا فتنة للناس» ((1))
وفيه - أيضاً - عن ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الله «الدلائل »، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بني أُميّة على المنابر ، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه إنّما هي دنيا أعطوها ،فقرت عينه ، وهي قوله تعالى:«وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» ، يعني : بلاء ((2)).
ونقل الرازي وغيره عن ابن عباس أنّ الشجرة الملعونة بنو أُميّة ((3)) وبهذه الروايات يعلم أن المراد ببني فلان في بعض الأخبار بنو أُمية ففي «الدرّ المنثور» عن ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى النبي صلی الله علیه و اله و سلم بنو فلان ينزون ((4)) على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتى مات، وأنزل الله :«وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس»((5)).
فقد ظهر بما ذكرنا أن الشجرة الملعونة هي بنو أمية ؛ وهم معاوية وذووه ، ويدخل فيهم - أيضاً -: عثمان.
كما يشهد له ما في «الدرّ المنثور» - أيضاً - عن ابن مردويه ، عن
ص: 84
عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول لأبيك وجدك : «إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن» ((1)) .
فإن جد مروان هو أبو العاص ، وهو جد عثمان ، فيدخل في الآية .
وأما ما ورد عندهم من نزولها في بني الحكم ((2)) ، فلا ينافي نزولها في بني أُمية مطلقاً ، لأن أُميّة مطلقاً ، لأن بني الحكم منهم .
ولو لا إرادة الأعم لم يدخل والد الحكم ، كما صرحت بدخوله عائشة ، على أنّ القول بإرادة خصوص بني الحكم يضر القوم في دخول عمر بن عبد العزيز الذي زعموه من صلحاء الخلفاء ، وأحد الاثني عشر أريدوا فى أخبار : «إنّ الخلفاء اثنى عشر خليفة من قريش».
ص: 85
قال المصنّف - قدس الله نفسه ((1)) :
ومنها : إنّ الحافظ أبا سعيد إسماعيل بن علي السمّان الحنفي ذكر في كتاب : مثالب بني أُميّة ، والشيخ أبا الفتوح محمد بن جعفر بن محمد الهمداني في كتاب «بهجة المستفيد» :
أن مسافر بن عمرو بن أُمية بن عبد شمس ، كان ذا جمال وسخاء ، عشق هنداً وجامعها سفاحاً ، فاشتهر ذلك في قريش ، وحملت ، فلما ظهر السفاح هرب مسافر من أبيها عتبة إلى الحيرة - وكان فيها سلطان العرب عمرو بن هند - وطلب عتبة - أبو هند - أبا سفيان ، ووعده بمال كثير ، وزوجه ابنته هنداً ، فوضعت بعد ثلاثة أشهر معاوية .
ثمّ ورد أبو سفيان على عمرو بن هند أمير العرب ، فسأله مسافر عن حال هند ، فقال : إنّي تزوجتها ، فمرض مسافر ومات ((2)) .
ص: 86
وقال الفضل ((1)) :
قد قدمنا تفصيل هذه الحكاية ((2)) على ماذكره المعتمدون من أرباب التواريخ ، فطي هذه الحكايات والمثالب لا شك أولى وأنسب بطريق الإسلام .
ص: 87
وأقول :
سبق أن الأصح ما ذكره المصنف رحمه الله ، وأن الأنسب بطريق الإسلام نشر مثالب المنافقين والكافرين ؛ كما فعله شاعر النبي صلی الله علیه و اله و سلم حسان بحياة النبی صلی الله علیه و اله و سلم؛ لئلا يغتر بهم الجاهلون ، ويكابر بفضلهم المعاندون((1)).
ص: 88
قال المصنّف - نور الله رمسه ((1)) :
ومنها : ما رواه صاحب «كتاب الهاوية»، فيه : إن معاوية قتل أربعين المهاجرين والأنصار وأولادهم ((2)) ، وقد قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: « من أعان على قتل امرىء مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوباً على جبهته آيس من رحمة الله» ((3)).
وفيه عن ابن مسعود : لكلّ : « لكلّ شيء آفة، وآفة هذا الدين بنو أُمية » ((4)).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى .
فلينظر العاقل المنصف، هل يجوز له أن يجعل مثل هذا الرجل واسطة بينه وبين الله عزّ وجلّ، وأنّه تجب طاعته على جميع الخلق ؟ !
وقد نقل الجمهور أضعاف ما قلناه ، وقد كان ظلم معاوية معروفاً عند كلّ أحد حتّى النساء .
ص: 89
روى الجمهور أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية في خلافته بالشام - وهي يومئذ عجوز كبيرة - فلما رآها معاوية قال : مرحباً بك يا خاله !
قالت : كيف أنت يا ابن أخي ؟ لقد كفرت النعمة ، وأسأت لابن عمك الصحبة ((1)) ، وتسمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، بلا بلاء كان منك ولا من أبيك بعد أن كفرتم بما جاء به محمد صلی الله علیه و اله و سلم، فأتعس الله منكم الجدود ((2)) ، وأضرع منكم الخدود ، حتّى ردّ الله الحق إلى أهله ، هي العليا ، ونبيّنا هو المنصور على كلّ من ناواه «ولو كره المشركون» ((3)).
فكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء، وعن أهله غناءً وقدراً ، حتى قبض الله نبيه صلی الله علیه و اله و سلم المغفوراً ذنبه ، مرفوعة منزلته ، شريفاً عند الله مرضيّاً .
فوثب علينا بعده تيم ، وعدي وبنو أمية ، فأنت منهم تُهدى بهداهم ،وتقصد بقصدهم ، فصرنا فيكم - بحمد الله - أهل البيت بمنزلة قوم موسى وآل فرعون ؛ يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم .
وصار سيدنا فيكم بعد نبينا صلی الله علیه و اله و سلم بمنزلة هارون من موسى حيث يقول :
«يا ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني» ((4))،فلم
ص: 90
يجمع بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم شمل ، ولم يسهل وعث، وغايتنا الجنة ،وغايتكم النار».
فقال لها عمرو بن العاص : أيتها العجوز الضالة ! أقصري من قولك ،وغضي من طرفك.
قالت : من أنت ؟
قال : أنا عمرو بن العاص .
قالت : « يا ابن النابغة ، أربع على ضلعك ، واعن بشأن نفسك ، ما أنت من قريش في لباب حسبها ، ولا صحيح نسبها، ولقد ادعاك خمسة من قريش ، كلّهم يزعم أنك ابنه ، ولطالما رأيت أُمّك أيام منى بمكة تكسب الخطيئة وتتزن الدراهم ((1)) من كلّ عبد عاهر، هائج، وتسافح بهم أليق ، وهم بك أشبه منك بفرع سهم» ((2))
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى ، ووقائعه الردية أشهر من أن تذكر .
ص: 91
وقال الفضل ((1)) :
قد ذكرنا أن هذه الحكايات والأخبار التي لم يصح بها رواية ، ولم يقم بصحتها برهان، ترك ذكرها أولى وأليق، سيما أنها متضمنة لنشر الفواحش، وعظام هذه الجماعة رميمة، ولم يبق لهم آثار، ولم يبق أحد يدعي حقيتهم ولا إمامتهم حتى يكون متعلقاً بأمر من أمور الدين .
ولينصف المنصف ، إن ترك نشر الفواحش والإقدام بها أولى ، سيّما لطائفة محت الدهور آثارهم وجرت الرياح على مكان ديارهم .
ص: 92
وأقول :
إن كان نشر هذه الفواحش قبيحاً ، فهم أوّل ناشر لها، وقد نقلها المصنف رحمه الله عنهم ، بل أوّل ناشر لها هو الصحابة.
روى في السيرة الحلبية »((1))« أنّ أمّ عمرو بن العاص وطئها أربعة ؛وهم : العاص ، وأبو لهب ، وأُمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب ، وادعى كلّ منهم عمراً ، فألحقته بالعاص .
وقيل لها : لم اخترت العاص ؟
قالت : لأنه كان ينفق على بناتي ... إلى أن قال : وكان عمرو يعير بذلك، عيّره علي وعثمان ، والحسن ، وعمّار بن ياسر، وغيرهم من الصحابة »((2)) انتهى .
فكيف يزعم الفضل أولوية ترك نشرها ؟
وكيف ينكر صحتها ، وقد استفاضت بها الرواية ، وقامت على صحتها قرائن سوء أفعالهم ، وعادات ،آبائهم ، ولو ضممت إليها أخبارنا حصلت على التواتر واليقين ؟ !
وأما ما ذكره من أنّ عظامهم رميمة ، فصحيح ، لكن هواهم حي في قلوب النواصب ، وقد اتبعوا آثارهم في أعمالهم وأخبارهم واتخذوها حجّة بينهم وبين الله تعالى ، فأمرنا الله سبحانه بإبداء مساوئهم ؛ ليموت حبّهم من القلوب ويعلم الناس أن آثارهم كأصولهم ، ولولا ذلك فإنا نربأ بأقلامنا أن
ص: 93
تدَنس بذكر هذه المخازي القبيحة .
هذا ، وما رواه المصنف رحمه الله عن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب ، قد رواه في «العقد الفريد» بتغيير يسير ((1)) تحت عنوان : «وفود أروى بنت عبد المطلب» ((2)).
ولم يتعرّض الفضل لما ذكر المصنف رحمه الله - من أنّ آفة هذا الدين بنو أُميّة - غفلةً أو تغافلاً، وهو قد رواه ونحوه في «كنز العمال»((3)) عن علي علیه السلام، قال :« لكلّ أُمّة آفة ، وآفة هذه الأمة بنو أمية» ((4)).
عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت علي بن أبي طالب على منبر الكوفة يقول : «ألا لعن الله الأفجرين من قريش؛ بني أُمية ؛ وبني المغيرة » ((5)).
وعن ابن مندة وأبي نعيم عن عمران بن جابر الحنفي ، قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول :« ويل لبني أمية» ! ثلاث مرات ((6)) .
وروى الحاكم في المستدرك ((7)) وصححه مع الذهبي - على شرط الشيخين - عن أبي برزة الأسلمي قال :
كان أبغض الأحياء إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بنو أمية ، وبنو حنيفة ،
ص: 94
وثقيف ((1)).
والأخبار من نحو ماذكرناه كثيرة ، وهي دالة بمنطوقها أو لازمها على أن آفة الدين والأمة بنو أميه .
تمّ القسم الأوّل من الجزء الثالث من دلائل الصدق ويلحقه القسم الثاني إن شاء الله تعالى .
ص: 95
قال المصنّف - شرف الله خاتمته ((1)) :
المطلب الخامس
فيما رواه الجمهور في حق الصحابة.
روى الحميدي في : «الجمع بين الصحيحين» في مسند سهل بن سعد في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول :
«أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ ، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثمّ يحال بيني وبينهم » .
قال أبو حازم فسمع النعمان بن أبي عياش - وأنا أُحدّثهم - هذا الحديث ، فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول: ؟ قال : فقلت نعم ، قال : أنا أشهد على أبي سعید الخدری، لسمعته يزيد على اللفظ المذكور فيقول :
إنّهم من أمتي ، فيقال : إنّك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً ، لمن بدل بعدي »((2)).
ص: 96
وقال الفضل ((1)) :
شرع من هاهنا في مطاعن الصحابة ونحن نذكر قبل الشروع فيما ذكر شمّة من مناقب الصحابة إن شاء الله تعالى
فنقول : مذهب عامة العلماء أنه يجب تعظيم الصحابة كلهم ، والكف عن القدح فيهم ؛ لأنّ الله تعالى عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ؛ كقوله تعالى :« والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار»((2)) .
وقوله :« يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم» ((3)).
وقوله :« والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً» ((4)).
وقوله :«لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة»((5)) .
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم قدرهم وكرامتهم عند الله والرسول قد أحبّهم ، وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة .
منها : قوله صلی الله علیه و اله و سلم«خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم»((6)).
ومنها : قوله صلی الله علیه و اله و سلم« لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل
ص: 97
أحد ذهباً ما بلغ مُدّ ((1)) أحدهم ولا نصيفه ((2))»((3))
ومنها : قوله صلی الله علیه و اله و سلم: «أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبّهم فبحُبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فيبغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخُذه»((4)) .
إلى غير ذلك من الأحاديث المشهورة في الكتب الصحاح.
منها : ما روى عن أبي برزة قال : «رفع - يعني النبي صلی الله علیه و اله و سلم- رأسه إلى السماء ، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال :النجوم أمنة السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأنا أمنةً أصحابي ، فإذا ذهبتُ - أنا - أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أُمتي ما يوعدون»((5)).
وفيها ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم«أكرموا أصحابي فإنّهم خياركم ، ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى إن الرجل ليحلف ، ولا يستحلف ، ويشهد ، ولا يُستشهد ، ألا من سرّه بحبوحة الجنّة ، فليلزم الجماعة ؛ فإنّ الشيطان فإنّ الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ... » ((6))الحديث .
ص: 98
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : « لا تَمسُّ النار مسلماً رآني ورأى من رآني» ((1)) .
وعن عبد الله بن معقل قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «الله الله في أصحابي .. لا تتخذوهم ،غرضاً ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» ((2)).
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام ، ولا يصلح الطعام إلا بالملح»((3)).
وعن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله : «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائداً ونوراً لهم يوم القيامة» ((4)).
والأخبار في هذا الباب كثيرة لا تحصى .
ثمّ إنّ من تأمّل سيرتهم ووقف على مآثرهم وجدهم في الدين ، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله صلی الله علیه و اله و سلم لم يتخالجه شك في عظم شأنهم ، وبراءتهم عمّا نسب إليهم المبطلون من المطاعن ، ومنعه ذلك عن الطعن فيهم ، ورأى ذلك مجانباً للإيمان .
ونحن - إن شاء الله - نذكر كلّ ما طعن به هذا الرجل الضال ونجيب عنه على ما اعتمدنا - إن شاء الله تعالى - فنقول :
ما روي من الجمع بين الصحيحين أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : « لا
ص: 99
تدري ما أحدثوا بعدك » ((1)).
فاتفق العلماء أن هذا في أهل الردّة الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وهم كانوا أصحابه في حياته ثم ارتدوا بعده، ويدلّ عليه الأحاديث والأخبار التي سيذكر بعد ذلك.
ولا شك أن هذا لم يرد في شأن جميع أصحاب محمد صلی الله علیه و اله و سلم بالإجماع ؛ لأنّ فيهم من لم يتغيّر ولم يبدل بعده بلا خلاف ، فهو من أهل النجاة بلا نزاع .
فإن أريد به : من بدل بعض التبديل ولم يبلغ الارتداد ، فليس في الأصحاب إلا من بدل بعض التبديل فرجع الوعيد إلى الأكثر ، فلزم أن لا يهتدي لمحمد صلی الله علیه و اله و سلم إلا نفر معدود في كل عصر من عصر من الأعصار ، وهذا ينافي ما ذكره رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من كثرة أمته يوم القيامة ، وأنّه يباهي بهم الأمم ، كما ورد في صحاح الأحاديث ((2)) .
وإن أُريد به : التبديل إلى حدّ الكفر ، فهو عين المدعى ، فلزم من هذه المقدّمات أنّ هذا الحديث وأمثاله في هذا الباب واردة في شأن أهل الردّة كما قاله العلماء .
ص: 100
وأقول :
لا وجه لوجوب تعظيم الصحابة كلّهم والكف عن القدح بهم ، ومنهم المنافق، والفاسق، والباغي، والزاني ، وشارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة .
وكيف يجب تعظيمهم جميعاً ، وقد ذمّهم الله سبحانه في كتابه العزيز آحاداً وجماعات في موارد كثيرة ؟
ويكفيك ما اشتملت عليه سورة براءة» حتّى سُميت الفاضحة ((1)) ، وذمّهم أيضاً نبيه الكريم في عدة مواطن ، وآذوه في كثير من المقامات .
وكيف يحسن القول بوجوب تعظيمهم جميعاً، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم«ما من نبي إلا كانت له بطانتان ؛ بطانة تأمره بالمعروف ؛ وبطانة تأمره بالشر»، كما سبق في أوّل مطاعن معاوية ((2)) .
فإذا كان هذا حال من يُعدّ بطانة، فكيف حال سائر الصحابة ؟ !
وكيف يحسن ترك القدح بهم جميعاً ، وقد روى البخاري - كما سبق ويأتي - :« أنهم ارتدوا جميعاً على أدبارهم القهقرى، وأنهم إلى النار،
ص: 101
ولا يخلص منهم إلا مثل همل النعم» ((1)).
ولا أعجب من دعوى وجوب تعظيمهم جميعاً ، ولم تكن لهم هذه المنزلة عند أنفسهم ، كما هو واضح عند من عرف طرفاً من أخبارهم ، فقد كان فاشياً بينهم سب بعضهم بعضاً، وضرب بعضهم بعضاً ((2)) ، ونفي((3)) بعضهم لبعض ؛ كما فعله خلفاؤهم، بل استباح بعضهم قتل بعض كما ، عرفته مع عثمان((4)).
وفي الاستيعاب بترجمة عمّار : أن معاوية قتل من أهل بيعة الرضوان ثلاثة وستين رجلاً ((5)).
وقد سبق أنه قتل من المهاجرين والأنصار أربعين ألفاً ((6)) ، وعلم الخاص والعام أنّه قتل حجراً وأصحابه الذين غضب لقتلهم أهل السماء والأرض ، وأنّه قتل عمر بن الحمق وسير رأسه ((7)) .
ويكفيك حرب البصرة وما فعلته عائشة والزبير وطلحة بعثمان بن حنيف.
إلى ما لا يحصى ، ممّا كان يقوله أو يفعله بعضهم مع بعض ، وقد جمع يسيراً منه ابن أبي الحديد بعدة صفحات من شرح النهج ((8)) .
ص: 102
وأما ما ذكره من ثناء الله تعالى عليهم في كتابه ، فغير مفيد له ؛ لأنّ المقصود بالآيات التي ذكرها هو بعضهم ؛ فإنّ المراد بالسابقين في الآية الأولى : : هو خصوص من أسلم في أوائل البعثة ، بل بعضهم
خاصة ؛ وهم المحسنون منهم ؛ بدليل تتمتها، وهي قوله تعالى في سورة التوبة :«والذين اتبعوهم بإحسان»((1)) .
فإنّ التبعية بالإحسان تستدعى المشاركة فيه، ونحن لا نشك بأن السابقين المحسنين محل للثناء من الله عزّ وجلّ ومن رسوله ، سواء ماتوا أم قتلوا في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، أم بقوا بعده .
وأما الآية الثانية : فالممدوح بها من آمنوا بألسنتهم وقلوبهم، وثبتوا على الإيمان، وعملوا بطاعة الرحمن ، فإنّهم هم الذين يسعى نورهم بين أيديهم ، لامن انغمس فى ظلمات المعاصى وارتد القهقرى أو حارب من حربه حرب الله ورسوله صلی الله علیه و اله و سلم، فقد قال رسول الله لعلي صلی الله علیه و اله و سلم: «حربك حربي»((2)).
ولا من دخل في زمرة المنافقين بحكم النبي الأمين ؛ وهم الذين أبغضوا علياً ، وأولئك أكثر الصحابة .
الله
وكذا الكلام في «الآية الثالثة» : فإنّ الممدوح بها من وصفهم سبحانه بأنهم :«أشداء على الكفّار رحماء بينهم * تراهم ركعاً سجداً»((3)).
ص: 103
وبالضرورة أن ليس كل الصحابة كذلك ؛ وإنّما هم على علیه السلام وشيعته ، كما مر عند ذكر المصنف رحمه الله للآية في الآيات النازلة بأمير المؤمنين علیه السلام.
وأما الآية الرابعة : فلا تدلّ على أكثر من رضا الله تعالى عن جماعة خاصة من الصحابة في فعل خاص ؛ وهو بيعتهم للنبي صلی الله علیه و اله و سلم بیت الشجرة ، فلا تشمل جميع الصحابة ولا تدلّ على رضا الله تعالى عن أهل بيعة الشجرة في كل أفعالهم . ولا سيما بعد ما أحدثوا الأحداث.
روى البخاري ((1)) عن المسيب ، قال :
لقيت البراء بن عازب، فقلت له : طوبى لك صحبت النبي صلی الله علیه و اله و سلم وبايعته تحت الشجرة .
فقال : يا ابن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده ((2)) .
هذا كلّه في الآيات .
وأما ما استدل به من أخبارهم فغير حجّة علينا ، بل أكثرها ليس حجّة عندهم ؛ لضعف أسانيدها، ودعوى الفضل اشتهارها ممنوعة ؛ فإنّ الراوي لأكثرها هو الترمذي ، وقد رماها بالغرابة ؛ كرواية: «الله الله في أصحابي» ، ورواية : لا تمس النار مسلماً رآني ، ورواية: «ما من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائداً ونوراً لهم يوم القيامة» ((3)).
ولا ريب في غرابتها وكذبها لأمور كثيرة ، إلا أن يراد بها الخصوص ، كما هو صريح بعضها ، فإن الخطاب في قوله : لا تسبوا أصحابي ، ولا
ص: 104
تتخذوا أصحابي غرضاً ، وأكرموا أصحابي ، لا يمكن أن يكون خطاباً للكافرين، أو للمعدومين حال الخطاب ، كما هو ظاهر ، فلابد أن يكون خطاباً للأصحاب أنفسهم ، ولا أقل من شموله لهم.
فيلزم أن يكون الذين أراد إكرامهم وعدم سبهم جماعة مخصوصين منهم ؛ وهم الذين اتخذهم الصحابة غرضاً بعده وسبوهم ولم يكرموهم،وما هم بالضرورة إلا عليّ علیه السلام وآله ، كما يشهد له ما في «كنز العمال»((1))عن الديلمي عن جابر وأحمد بن حنبل والطبراني وسعيد بن منصور عن أبي أمامة عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال: «يجيء يوم القيامة المصحف، والمسجد والعترة .
فيقول المصحف : يا رب حرقوني ومزقوني .
ويقول المسجد : يا رب خربوني وعطلوني وضيعوني.
وتقول العترة : طردونا وقتلونا وشرّدونا !
وأجثو بركبتي للخصومة.
فيقول الله تعالى : ذلك إلى ، وأنا أولى بذلك »((2)) .
وما في «مسند أحمد »((3)) عن أمّ الفضل قالت :
أتيت النبي صلی الله علیه و اله و سلم في مرضه فجعلت أبكي ، فرفع رأسه فقال : ما يبكيك ؟
قلت : خفنا عليك ، وماندري ما نلقى من الناس بعدك ؟
ص: 105
قال : أنتم المستضعفون بعدي » ((1)).
وما في المسند أيضاً ((2)) عن عبد عبد المطلب بن ربيعة قال : «دخل العباس على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فقال : يا رسول الله ! إنا لنخرج فنرى قريشاً تتحدث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله - ودرّ عرق بين عينيه - ثمّ قال : والله لا يدخل قلب إمريء إيمان حتّى يحبّكم الله والقرابتي».
ومثله في محلّ آخر من المسند ((3)).
وكذا في الكنز ((4)) عن ابن ماجة والطبراني وغيرهما عن العباس بن عبد المطلب ((5)).
ويشهد له - أيضاً - ما في المسند ((6)) عن عبد المطلب بن ربيعة قال : أتى ناس من الأنصار النبي صلی الله علیه و اله و سلم فقالوا : إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم : إنّما مثل محمد مثل نخلة في كباء والكباء : الكناسة»
الحديث .
إلى غير ذلك من الأخبار والآثار الدالة على عداوة الأصحاب وسبهم لأهل البيت علیهم السلام، واتخاذهم لهم غرضاً .
ويؤيد المدعى قوله في بعض الأحاديث التي ذكرها الخصم : «فمن أحبهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم».
ص: 106
فإن مضمونه وارد كثيراً في حق على علیه السلام وآله الأكرمين.
ولا يبعد أن أصل الروايات هكذا : « لا تسبوا أهل بيتي ولا تتخذوهم غرضاً وأكرموهم».
فحرفوها كما حرّفوا رواية «النجوم أمنة لأهل السماء» المذكورة .
فإن مضمونها وارد في خصوص أهل البيت علیهم السلام، كما سبق في الحديث السابع والعشرين من الأحاديث التي ، بها المصنف رحمه الله على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام في الجزء الثاني ((1)).
وأما رواية :«خير القرون قرنى » ، فظاهرة الكذب ؛ إذ لا أقل من اشتمال قرنه على طواغيت الأمة وفراعنة الملوك ؛ كمعاوية ويزيد وعبد الملك والوليد ،وأشباههم، الذين أحرقوا الكتاب العزيز وجعلوه هدفاً للسهام ((2)) ، وحاربوا وسبوا مَنْ حربُهُ وسبّه حرب وسب الله ورسوله ، وقتلوا سبطي الرحمة وسيدي شباب أهل الجنة علیهما السلام، وسبوا أهل بيت النبوة ، و هدموا الكعبة ، وهتكوا حرمة الحرمين ، وأباحوا المدينة للنهب والفجور، وقتلوا خيار المسلمين وعباد الله الصالحين ؛ كحجر وأشباهه ، وأسسوا الكذب على رسول الله واستعملوا الرشى عليه ، وكان هلاك الأُمة على أيدي غلمة سفهاء منهم ، كما في الخبر ((3)).
ص: 107
وما تركوا الله حرمة إلا هتكوها ، ولا سُنّة إلا ضيعوها فماعسى أن يقع في سائر القرون حتى يكون هذا القرن الأوّل خيرها ؟ !
هذا مع معارضتها بأخبار مستفيضة لهم .
منها : ما رواه البخاري في باب خلق أفعال العباد عن أبي جمعة ، قال : كنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم- ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة - فقلنا يا رسول الله ! هل من أحد أعظم منا أجراً ؟ آمنا بك واتبعناك ، قال : «وما يمنعكم من ذلك - ورسول الله بين أظهركم - يأتيكم الوحي من السماء ، بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجراً»((1)).
ومنها ما رواه أحمد في مسنده ((2)) عن أنس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:«طوبى لمن آمن بي ورآني ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني» سبع مرار .
ونحوه في «المسند» - أيضاً ((3)) - عن أبي إمامة .
ومنها ما في المسند» - أيضاً ((4)) - عن أبي جمعة من طريقين ، قال :
تقدّمنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ومعنا أبو عبيدة الجراح فقال : يا رسول الله ! هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك ، وجاهدنا معك ، قال : نعم ، قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني.
ومنها ما فيه - أيضاً - عن الجهني ، قال : بينما نحن عند رسول
ص: 108
الله صلی الله علیه و اله و سلم إذا طلع راكبان ... فدنا إليه أحدهما ليبايعه ، فلما أخذ بيده قال :
يا رسول الله ! أرأيت من رآك وآمن بك وصدقك واتبعك ، ماذا له ؟
قال : طوبى له .
قال : فمسح على يده فانصرف، ثمّ أقبل الآخر حتى إذا أخذ بيده ليبايعه ، قال : يا رسول الله ، أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك ؟
قال : طوبى له ، ثمّ طوبى له ، ثمّ طوبى له ، فمسح بيده فانصرف((1)). وهذه الروايات أقرب إلى الصحة من الخبر الأوّل ؛ لأنّ من شاهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم وصحبه تطلبه الآيات والمعجزات، ومن لم يصحبه يطلبها ،فمن لم يصحبه أعظم عناء في طلب الحق ، وكلّما تأخر الزمان زاد العناء وكثرت الشكوك ، فيكون المؤمن في الأزمنة المتأخرة أولى بعظم المنزلة ، وأحق بالأجر والرعاية ، ولذا في أوّل البقرة وصف الله سبحانه المتقين ومدحهم بالذين يؤمنون بالغيب ((2)).
ولا ينافي ذلك دلالة القرآن المجيد على تفضيل السابقين ؛ ؛ لأن المقصود به تفضيل السابقين من الصحابة على اللاحقين منهم .
ولا ريب بفضل السابق منهم إلى الإيمان عن صميم القلب ، على اللاحق منهم ؛ لأنّ السبق إلى الحق رغبة فيه دليل على كمال السابق وأفضليته ، وهذا بخلاف السبق في الوجود الزماني ؛ فإنّه لا دخل له بالفضل والكمال الذاتي ، ولا ينشأ منه بالضرورة .
ص: 109
وأما ما ذكره من أنّ من تأمّل سيرتهم لم يتخالجه شك في عظم شأنهم» ، ففيه :
أولاً : إنّ سيرتهم مختلفة ، وكثير منها دال على ضعة شأنهم، فبين فرار من زحف ((1)) ، ولمز في الصدقات ((2)) ، وإنّهام للنبي الأمين في القسمة ((3)) ، ونسبة الهجر إليه ((4)) ، وعصيانه في تنفيذ جيش أسامة واللحاق به ((5)) ، إلى كثير من مخالفة أوامره ونواهيه .
وثانياً : إنه لو سلّمنا استقامة سيرتهم في رضا الله تعالى أيام حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فلا شك أنّهم انقلبوا على أعقابهم بعده ، كما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز ((6)) .
وقد اتبعوا سنن من كان قبلهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة(7)، كما أخبر به رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((8))؛ لأن بني إسرائيل بعد أن آمنوا بموسى علیه السلام ونصروه على عدوّه ، انقلبوا بلا فصل على أعقابهم ، واتّبعوا السامري ، واستضعفوا هارون وكادوا يقتلونه .
ص: 110
فكذا أُمّة نبينا صلی الله علیه و اله و سلم بعد أن آمنوا به و نصروه ، انقلبوا بالأثر على أعقابهم، واتّبعوا في السقيفة غير من نصبه لهم، واستضعفوا من بمنزلة هارون من موسى، وكادوا يقتلونه يوم قادوه بحمائل سيفه.
ولو أحسنًا الظن بعموم الصحابة لكذبنا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في قوله المذكور ؛ فإنّ المسلمين لم يتبعوا سُنّة بني إسرائيل في مخالفة خليفة موسى إلا يوم السقيفة حيث خالفوا خليفة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم واتبعوا غيره .
ولذا قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «ليسیرن راكب في جانب المدينة فيقولن : لقد كان في هذه مرّة حاضر من المؤمنين كثير »، كما في مسند أحمد ((1)) بلفظه، أو نحوه ((2)).
فإن قوله صلى الله عليه وسلم : « مرّة » دال على قصر زمان الإيمان بالمدينة ، وعلى كونه اتفاقياً غير دائمي ، ولا بد أن يكون الاتفاقي هو الإيمان في زمان النبي صلی الله علیه و اله و سلم؛ لأن الناس بعده إلى هذا الوقت على مذهب واحد ، وهو ليس إيماناً حقيقياً وعلى ما يريد الله ورسوله ، وإلا لكان وجود المؤمنين دائمياً لا اتفاقياً ، وما مغايرته له إلا لمخالفتهم خليفة النبي ، وإنكارهم النص عليه إنكاراً مستمراً من يوم السقيفة إلى هذا الوقت، فإنّه لم يصدر منهم ما يوجب كونهم غير مؤمنين في طول هذا الزمان سواه .
وأما ما أجاب به عن حديث الحوض ، فهو مشوّش خال عن المعنى ولا محصل له، إلا أن يراد به دعوى أن المراد بالحديث الذي ذكره المصنّف وأمثاله من الأحاديث هم أهل الردّة دون أبي بكر ومن قال بإمامته ، وإلا لزم أن يكون المؤمنون بالنبي صلی الله علیه و اله و سلم في كل عصر قليلين ،
ص: 111
وهو خلاف ما روى أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم يباهي بأمته الأمم يوم القيامة الدالة على كثرتهم ، فلا بد أن يراد بتلك الأحاديث قليل من الصحابة ، وهم أهل الردّة ، كما اتفق عليه العلماء .
ويرد عليه أن الكلام تارة في المراد بأحاديث الحوض ومفادها وأُخرى في معارضتها بما روي أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم يباهي بأمته الأمم .
أمّا الأول : فلا إشكال بظهور تلك الأحاديث بأبي بكر وأتباعه دون أهل الردّة ؛ لقرائن :
منها : دلالةُ بعض تلك الأحاديث على ارتداد عامة الصحابة إلا مثل همل النعم ، كما سيذكره المصنف رحمه الله.
ومنها : تعبير بعضها بأنهم ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم ، أو مازالوا يرجعون على أعقابهم، كما في حديثي مسلم في كتاب «الفضائل» ((1)).
أو بأنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، كما في حديث مسلم «في كتاب الجنّة وصفة نعيمها» ((2)) .
وحديث البخاري في «كتاب بدء الخلق» ((3)).
فإنّ هذا النحو من الكلام ظاهر في الاستمرار وطول مدة الارتداد ، لا يناسب إرادة مانعي الزكاة أيّاماً وأشباههم ، ولا سيّما أنّهم رجعوا إلى الإسلام بإقرار الخصوم.
ص: 112
ومنها : ما اشتمل عليه حديث أحمد ((1)) عن أم سلمة ، قالت جملة حديث عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم سمعته يقول : «أيها الناس ! بينما أنا على الحوض جيء بكم ،زمراً ، فتفرقت بكم الطرق فناداني مناد بعدي فقال : إنهم قد بدلوا بعدك ، فقلت : ألا سحقاً سحقاً » ((2)).
فإن قوله صلی الله علیه و اله و سلم: «أيها الناس»، وقوله : «جيء بكم زمراً»،
وقوله : « فتفرّقت بكم الطرق» ، لا يناسب إرادة قوم مخصوصين من اهل البادية رأوا النبي صلی الله علیه و اله و سلم أوقاتاً قليلة وارتدوا أياماً يسيرة وتابوا وأسلموا .
فلا ينبغي الإشكال بأن المراد بهذه الأحاديث ونحوها من أنكروا إمامة أمير المؤمنين ، وخالفوا نص الغدير ؛ لارتدادهم بإنكارهم الضروري في وقتهم - مع أنّ الإمامة أصل من أصول الدين على الأحق - وهؤلاء عامة الصحابة إلا النادر ، ولذا قال في حديث البخاري : « ولا أراه يخلص إلا مثل همل النعم» ((3)).
وأما معارضتها بحديث مباهاة النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأمته ، فليست بمحلها ؛ لاستفاضة تلك الأحاديث ؛ ولأنّ الشيعة من أيّام النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلى اليوم - فضلاً عن أيّام الحجّة المنتظر علیه السلام وما بعده - أكثر من مؤمني النبی صلی الله علیه و اله و سلم، فإن من بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم من باقي الأمم كفار لإنكارهم رسالته .
ص: 113
قال المصنف - طاب ثراه ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين من المتفق عليه في الحديث الستين من مسند عبد الله بن عباس عنه قال :
ألا إنه سيجاء برجال من أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول :
يارب! أصحابي .
فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فأقول كما قال العبد الصالح :«وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنّهم عبادك ...» ((2)) .
قال : فيقال لي : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ((3)) .
ص: 114
وقال الفضل ((1)) :
قد وقع التصريح في هذا الحديث على ما ذكرنا ((2)) أن المراد منهم : أرباب الارتداد الذين ارتدوا بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وقاتلهم أبو بكر الصديق .
ص: 115
وأقول :
نعم، وقع التصريح فيه بارتدادهم ، ولكن صريحه أنهم لم يزالوا مرتدين ، وهم غير من زعموا ردّتهم وقاتلهم أبو بكر ؛ لقلة أيام ردّتهم وعودتهم إلى الإسلام - كما عرفت ((1)) - على أنّ الكثير ممن زعموا ردّتهم إنّما منعوا الزكاة عن أبي بكر ، وغاية ما يقال فيه : الحرمة لا الإرتداد ؛ ولذا أجرى عليهم عمر أحكام الإسلام، فردّ سبيهم وأموالهم ، مضافاً إلى أن هذه الرواية وغيرها مصرّحةٌ بأنّهم من الصحابة .
ومن زعموا ردّتهم إن ماتوا على الارتداد - كما هو ظاهر هذه الأخبار - لم يكونوا من الصحابة ؛ لأن من مات مرتداً ليس بصحابي عندهم ، وإن تابوا وماتوا مسلمين ، لم يكونوا ممن يؤخذ بهم ذات الشمال ويحال بينهم وبين النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فلا يرادون بتلك الأخبار على كلاالوجهين .
ولا يرد علينا النقض بمن أنكروا النصَّ على أمير المؤمنين ودفعوه عن الإمامة ، حيث نقول : بارتدادهم، ونسميهم مع ذلك بالصحابه ؛ لأنّه لا يشترط عندنا في إطلاق اسم الصحابي على الشخص بقاؤه على الإيمان بل لا يشترط فيه إلا تحقق الصحبة لاسيما مع بقائه على صورة الإسلام .
فالوجه - كما سبق - أن يراد بهذه الأخبار : من أنكروا إمامة أمير المؤمنين ؛ فإنّهم لم يزالوا مرتدين ؛ لإنكارهم أصلاً من أصول الدين وهو
ص: 116
الإمامة ، وإنكارهم ضروري الإسلام في وقتهم ؛ وهو النص على أمير المؤمنين.
ص: 117
قال المصنّف - أعلى الله درجته ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في الحديث الحادي والثلاثين بعد المئة من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : «إنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : ليردن على الحوض رجال ممّن صحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ((2)) ، فلأقولنّ : أي رب ! أصحابي ! فليقالَن لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ((3)).
وفي الجمع بين الصحيحين - أيضاً - في الحديث السابع والستين بعد المئتين من المتفق عليه من مسند أبي هريرة من عدة طرق، قال: قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم:« بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عَرفْتُهُمْ خرج رجل بيني وبينهم ، فقال : هلموا .
فقلت إلى أين ؟
قال : إلى النار والله.
قلت : ما شأنهم ؟
قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى .
ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم ، فقال : هلموا .
ص: 118
فقلت : إلى أين ؟
فقال : إلى النار والله.
قلت : ما شأنهم ؟
قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى .
فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هملِ النَّعم» ((1)).
ورووا نحو ذلك من عدة طرق في مسند أسماء بنت أبي بكر ، ومن عدة طرق في مسند أُمّ سلمة ، ومن عدة طرق في مسند سعيد بن المسيب كلّ ذلك في الجمع بين الصحيحين ((2)).
وفي الجمع بين الصحيحين - أيضاً - في مسند عبد الله بن مسعود ، قال : قال : رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «أنا فرطكم على الحوض ، ولَيُرفعن إليَّ رجال منكم ، حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ! أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ((3)) .
وروى نحو ذلك في مسند حذيفة بن اليمان في الحديث السابع من المتفق عليه ((4)) .
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند أبي الدرداء في
ص: 119
الحديث الأوّل من صحيح البخاري : قالت أم الدرداء : دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف من محمد صلی الله علیه و اله و سلم شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً ((1)) .
وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث الأول من صحيح البخاري من مسند أنس بن مالك عن الزهري ، قال : «دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً ، ممّا أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت» ((2)) .
وفي حديث آخر منه ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، قيل : الصلاة ، قال : أليس قد ضيعتم ما ضيعتم فيها » ((3)).
وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك وأبي عامر أنّ النبی صلی الله علیه و اله و سلم، قال: «أول دينِكُمْ نبوّة ورحمة ، ثمّ ملك ورحمةٌ ، ثم ملك وجبرية ، ثمّ ملك عضّ ((4)) يستحل فيه الحرّ والحرّة » ((5)) .
وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث السادس بعد الثلاثمائة من المتفق عليه من مسند أبي هريرة عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال : « مَثَلي كمثل رجل قد استوقد ناراً ، فلمّا أضاءت ما حوله جاء متهافت الفراش من
ص: 120
الدواب إلى النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنّه فيقحمن فيها ، قال : وذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بِحُجَزِكُمْ ، هلموا عن النار ،فتغلبونني فتقتحمون فيها » ((1)) .
وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث العاشر من مسند ثوبان مولی رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:« وإنّما أخاف على أُمتي الأئمة المُضلين ، وإذا وقع عليهم السيف لا يرفع عنهم إلى يوم القيامة ، فلا تقوم الساعة حتّى يلحق حي من أُمتي بالمشركين ، وحتّى يعبد الفئام ((2)) من أُمّتي لأوثان » ((3)).
وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث التاسع والأربعين من إفراد البخاري من مسند أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: « لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أمتى ما أخذ الدول ((4)) شبراً بشبر وذراعاً بذراع .
فقيل : يا رسول الله ! كفارس والروم ؟
قال : ومَن الناس إلّا أُولئك» ((5)) .
ص: 121
وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث الحادي والعشرين من المتفق عليه من مسند أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:«لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتتبعونهم.
قلنا يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟
قال : فمن» ((1)) .
وروى البغوي في كتاب المصابيح في حديث طويل في صفة الحوض ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: أنا فرطكم على الحوض ، من مرّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنّهم أُمتي ! فيقال : إنك لا ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي » ((2)) .
ص: 122
وقال الفضل ((1)) :
ما ذكره من الأحاديث بعضه يدل على أنّ الأمة بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يبدلون سُنّته ، وبعضه يدلّ على أمراء السوء فى الأُمة يعملون بخلاف سُنّته.
وكلّ هذه الأمور واقعة ، ولا طعن فيه على الصحابة، وهو يدعي الطعن ، وما ذكر من اسم الأصحاب فقد ذكرنا أنّ المراد بهم : المرتدون بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((2)).
ص: 123
وأقول :
قد علم ممّا بينا أن المتعين إرادة أكثر الصحابة إلا النادر من أحاديث الحوض واختلاجهم دونه ؛ للقرائن السابقة ، وامتنع إرادة من زعموهم أهل الردة؛ لتوبتهم وعودتهم إلى الإسلام ، لو سلمنا ارتداد مانعي الزكاة منهم(1).
وأما ما دلّ على تبديل الأمة لسنة النبي صلی الله علیه و اله و سلم کحديثي أبي الدرداء وأنس ، فعمدة النظر فيها إلى الصحابة ، ولا سيّما أنّ أبا الدرداء مات في خلافة عثمان قبل قتله بسنتين ، كما في باب الأسماء والكنى من «الإستيعاب » ((2)) .
وأظهر منها في الدلالة على الطعن بالصحابة وذمهم حديث أبي هريرة المذكور الذي ضرب النبي صلی الله علیه و اله و سلم فيه مثلاً لهم بالفراش، وهو مما رواه مسلم في باب شفقته صلی الله علیه و اله و سلم على أُمته من كتاب «الفضائل » ((3)) .
وأمّا الأحاديث المتعلقة بأمراء السوء، فالمراد ما يشمل الخلفاء الثلاثة ، لصراحة بعضها في ذلك ؛ كحديث : «أوّل دينكم نبوّة ورحمةٌ ثمّ ملك ورحمة ...» إلى آخره ((4))
فإنّه صريح بإرادة من ملكوا بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم بلا فصل ومع الفصل .وأن إمارتهم ملك لا خلافة نبوّة، ولكن لا بد من خروج
ص: 124
المؤمنين علیه السلام للإجماع على خلافته ، مع عدم استقرار الأمر له .
دالة وأما أحاديث اتباع الأمة سُنَن مَنْ قبلهم ، فهي على انقلاب الصحابة ؛ لما سبق من أن من جملة ما وقع في الأمم السالفة أن أُمّة موسى خالفت خليفته في قومه أخاه هارون واتبعوا السامري .
ولم يقع مثله في هذه الأُمّة إلا يوم السقيفة ؛ حيث خالفت الأُمّة خليفة نبيّها صلی الله علیه و اله و سلم، ومن هو بمنزلة هارون من موسى ، واتبعوا غيره .
وقد صرّح بعض أخبارهم بأن الأمة تتبع سُنَن بني إسرائيل ، كما في مسند أحمد من طريقين(1) وهم أُمّة موسی الذين ضيّعوا هارون واتّبعوا غیرة.
ص: 125
قال المصنّف - قدس الله روحه ((1)) :
وقد تضمّن الكتاب العزيز وقوع أكبر الكبائر منهم ؛ وهو الفرار من الزحف ، فقال تعالى :« ويوم حنين إذ أعجبتْكُم كثرتكم فلم تُغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين» ((2)).
وكانوا أكثر من عشرة آلاف نفر ، فلم يتخلّف معه إلا سبعة أنفس ((3)) :
عليّ بن أبي طالب ، والعبّاس والفضل ابنه ، وربيعة وأبو سفيان ابنا الحارث بن عبد المطلب ، وأسامة بن زيد، وعبيدة بن أم أيمن ، وروي - أيضاً - أيمن بن أُمّ أيمن وأسلمه الباقون إلى الأعداء للقتل ((4)).
ولم يخشوا النار ولا العار، وآثروا الحياة الدنيا الفانية على دار البقاء ، ولم يستحيوا من الله الله تعالى ولا من نبيهم صلی الله علیه و اله و سلم، وهو يشاهدهم عيانا.
ص: 126
وقال الفضل ((1)) :
ذكر الله قصة حنين في كتابه العزيز، وأن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ولّوْا مُدبرين ، وكان هذا قضاء الله في الحرب ؛ ليُعْلَمْ أَن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان مؤيّداً من الله تعالى ، لا من قوة العساكر .
وقد رُوي في صحيح البخاري عن البراء بن عازب : أنه قال له رجل : أفررتم يوم حنين ؟
قال : لا والله ، ما ولى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولكن خرج شُبّان أصحابه ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوماً رماةً ... لا يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هنالك إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على بغلته البيضاء ... وأبو سفيان بن الحارث يقودها ، فنزل فاستنصر ، وقال : «أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب» ((2)).
قال البراء : كنا إذا حمى البأس اتقينا به، وإن الشجاع منا من يحاذي به» ؛ يعني النبي صلی الله علیه و اله و سلم.
ويعلم من هذا الحديث أن شبّان الصحابة ولوا يوم حنين ، وأمّا الباقون فقاموا وثبتوا ؛ لأنّ البراء نفى الفرار وقال : لا والله .
وأيضاً اختلفوا في العدد الذين وقفوا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقيل : كانوا ثلاثمائة رجل ، ولا خلاف في أن أبا بكر وقف معه ولم يفارق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في موقف من المواقف .
ص: 127
ثمّ إنّا لم ندَّع عصمة الصحابة من الذنوب حتى يلزمنا براءتهم عن الفرار، والإنسان لا يخلو من الذنوب، وقد عفا الله عنهم على ما يقتضيه النصّ ؛ لأنّه قال :« ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثمّ الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم» ((1)).
قيل : المراد من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم : الفارون ،والعجب أنّ الله قَبِلَ عذرهم وتاب عليهم ، وابن المطهر لا يرضى به .
ص: 128
وأقول :
قوله : «هذا قضاء الله في الحرب أراد به - بمقتضى مذهبه من الجبر - أنّه قضاءً حتمٌ، ليرفع بذلك العيب عن المنهزمين بعيب سبحانه ، حيث قضى عليهم حتماً بالفرار، وذمّهم على فعله.
وأمّا قوله : « لِيُعْلَمْ أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان مؤيداً » ... إلى آخره .
فهو مخالف بظاهره لمذهبه من أن أفعال الله تعالى غير معللة، بالأغراض ، ولو علل فرارهم بما اشتملت عليه الآية من إعجابهم بكثرتهم ووردت به الرواية من أنّ أبا بكر هو الذي أعجبته كثرتهم - كان أولى .
وأما ما نسبه إلى البخاري من رواية البراء ، فلا يبعد أن المراد بها ما رواه في كتاب الجهاد ((1)) بتغير يسير .
وكذا رواه مسلم في كتاب الجهاد.(2)
وهو من الكذب الواضح ؛ لمخالفته لما تضافرت به الأخبار من فرار المسلمين عامة إلا النادر ، وقد سبق جملة منها في مطلب جهاد أمير المؤمنين علیه السلام ((3)) ؛ ولأنه لو كان الفارون هم الشبان والأخفاء ، وقد خرجوا حسّراً ليس عليهم سلاح - كما في رواية البخاري - أو ليس عليهم كثير سلاح ، ولقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، ولا يكادون يخطئون ، لما
ص: 129
حَسُنَ من الله سبحانه أن يعير المسلمين عامة ، ويذمهم بأنّهم ولوا مدبرين . والحال : أنّه قد ثبت الكثير ، وأهل الحزم منهم ، بل يكون الشبّان والأخفاء - أيضاً - معذورين بالفرار في تلك الحال ، ولا سيما قد أقبلوا إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وتحيزوا إلى فئة.
فيا عجباً للقوم !! كيف يكذبون نصرة للمذنبين ، وإن استلزم نقص الله سبحانه وإثبات الظلم له بذمّ قوم بُراء ؟ !
ومن الخطل قوله : وأما الباقون فقاموا وثبتوا ، لأن البراء نفى الفرار وقال : «لا والله» ؛ فإنّ جواب القسم هو قوله في الرواية : ما ولّى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولا دَخلَ له بنفي فرار غيره.
والحق أن المسلمين فرّوا جميعاً سوى نفر لا يزيد عددهم على
عشرة، وأفضلهم ثباتاً أمير المؤمنين علیه السلام، كما سبقت الإشارة إليه في جهاده ((1)) .
ونقل في كنز العمّال» في كتاب الغزوات ((2)) عن العسكري في أنس قال : « لما كان يوم حنين ، قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم:«الآن حمي الوطیس»، وكان علي بن أبي طالب أشدّ الناس قتالاً بين يديه» ((3)).
ويشهد لفرار عامة المسلمين ما رواه البخاري في كتاب المغازي ((4)) ومسلم في كتاب الزكاة ((5)) عن أنس قال : «لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي صلی الله علیه و اله و سلم عشرة آلاف ومن
ص: 130
الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده ...» ((1)) الحديث .
ولكن يرد على قوله : - بقي وحده - أن عليا علیه السلام لا شك ولا خلاف في ثباته ، وأنّه مدار الحرب وقطبها ، وكذلك ثبت العبّاس ، وبعض بني هاشم ، كما حققناه في جهاد أمير المؤمنين علیه السلام.
كما لا شك ولا خلاف في فرار أبي بكر وعثمان ، كما يدلّ عليه كلام الاستيعاب في ترجمة العبّاس ((2)) ، وإنما الخلاف بينهم في فرار عمر .
ويظهر من الاستيعاب اختيار فراره - وهو الصواب كما أوضحناه في المطلب المشار إليه ، وذكرنا فيه خبرين صريحين في فرار عمر ، فراجع(3).
وأمّا ذكره من القول : «بأن الثابتين كانوا ثلاثمائة رجل» ، فلا يبعد أنّه من مفترياته بدليل أن غاية ما روي في عدد من فاؤا للحرب بعد الهزيمة أنّهم مائة.
روى الطبري في تأريخه ((4))«أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لما رأى الناس لا يلوون على شيء قال : يا عباس ! اصرخ يا معشر الأنصار ! يا أصحاب السمرة ! قال : فناديت ، فأجابوا : أن لبيك لبيك ... إلى أن قال : حتى اجتمع إليه منهم مائة رجل استقبلوا الناس فاقتتلوا ...» ((5)) الحديث .
وأما قوله : «لم ندع عصمة الصحابة من الذنوب»
فصحيح ، لكنّهم يمنعون عن الطعن بهم ويوجبون تعظيمهم، والإغضاء عن قبائحهم، خلافاً لله سبحانه حيث فضحهم بها في صريح
ص: 131
كتابه ، وذمّهم على إتيانهم أكبر الذنوب .
وغرض المصنف رحمه الله من ذكر مطاعنهم بيان أن اجتماع أكثرهم على أبي بكر لا يقتضي سلامته وإمامته، لعِلْمِنا بإتيان أكثرهم القبيح وارتكاب عامتهم أعظم الذنوب إلا الأندر منهم .
ولتعلم أنّ أبا بكر وصاحبيه ليسوا أهلاً للإمامة ، لأن من تصدر منه تلك الكبيرة العظيمة لا يؤْمَنُ على الأمة وأموالهم ونصر الإسلام عند الزحام .
وقوله : « وقد عفا الله عنهم، على ما يقتضيه النص»
خطأ ، فإنّ الآية الكريمة لم تدلّ على توبة الله تعالى على الفارين جميعاً، بل على من يشاء خاصة ، على أنّه قد يقال : أن المراد ب-«من يشاء» : ناس من الكافرين المحاربين، وبالتوبة عليهم : إسلامهم كما في الكشاف »((1)) ، ولم يذكر غير هذا المعنى ، فلا يكون في الآية دلالة على توبة الله على أحد من الفارين .
ولو سلّم فالتوبة عليهم لا تمنع من الطعن بهم بالنقصان ، وأنهم محل لارتكاب أكبر الذنوب ، والتلبس بأعظم العيوب ، فلا يمتنع اجتماعهم على شخص للهوى وحبّ الدنيا ، وحسداً وعداوةً لولي الأمر .
وأما ما نقله من القول بأنّ :«المراد بالمؤمنين الذين أنزل الله عليهم السكينة هم الفارون» ، فقول صادر عن بعض أصحابه.
وقال بعضهم : المراد منهم الثابتون كما في «الكشاف »((2)) وهو الأصح ؛ لأن الله سبحانه جمعهم مع رسوله في إنزال السكينة عليهم، ولا
ص: 132
يجتمع معه فيها إلا من ثبت معه، لا من فرّ عنه وأسلمه لعدوّه ، ولا سيّما من لم يعد إلا بعد ما قام بأعباء الحرب غيره : «وأيده بجنود لم تروها» ((1)).
روى الطبري ((2)) أنّه : اجتلد الناس ، وما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين ((3)).
وكيف يراد بأهل السكينة : المنهزمون ، وقد وصفهم الله تعالى بالإيمان ومدحهم به، فإنّه لا يحسن مدحهم به في مقام عصيانهم وذمّهم بهذه الجريمة العظمى ، بل ينبغي وصفهم في هذا الحال بخلاف الإيمان كما ورد : «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن » ((4)).
والتوبة لا تصحح مدحهم في المقام، لأنّها واقعة بعده ، قال تعالى :«ثم يتوب الله على من يشاء»((5)) مع أنّها على من يشاء لا على الجميع .
ص: 133
قال المصنّف - قدس الله نفسه ((1)) :
وقال الله تعالى :« وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما» ((2)) .
رووا أنهم كانوا إذا سمعوا بوصول تجارة تركوا الصلاة معه والحياء منه ومراقبة الله تعالى، وكذا في اللهو ((3)) ، ومن كان في زمانه معه بهذه المثابة ، كيف يستبعد منه مخالفته بعد موته وغيبته عنهم بالكلية ؟ !
ص: 134
وقال الفضل ((1)) :
ذكروا في شأن نزول الآية أن القوافل التي كانت تأتي بالطعام انقطع عن المدينة وضاق أمر الناس ، فجاء القافلة والنبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يخطب ، وكانوا يضربون الطبل عند نزول القافلة .
فلما سمعوا صوت الطبل تسارع إليه فئام ((2)) الناس ، وقام أكابر الصحابة معه ، فأنزل الله الآية في شأن من يذهب ويترك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قائماً ، وفي كل طائفة يكون عوام وخواص ، ولا يبعد هذا عن الإنسان ، وهذا لا يوجب الكفر بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كما يدعيه هذا الرجل .
ص: 135
وأقول :
ينبغي هنا بيان أمور :
الأوّل : سبب نزول الآية ، لا شك أنّ سبب نزولها أمران : التجارة واللهو الواقعان من المسلمين في واقعتين أو أكثر ؛ لعطف أحدهما على الآخر ب- «أو» في قوله تعالى :« وإذا رأوا تجارة أو له-واً انفضّوا ... » ((1)) ، ولتكرار من الجارة في قوله تعالى: «خير من اللهو ومن التجارة» ((2)) ، ولورود كل منها مستقلاً في أخبارهم.
أما التجارة ؛ فقد روى البخاري في كتاب الجمعة ((3)) عن جابر قال :
«بينما نحن نصلي مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي إلا اثني عشر رجلاً ، فنزلت هذه الآية» ((4)).
وروى نحوه في بابين من أوائل «كتاب البيع» ((5))، وفي الجميع أن العير أقبلت وهم يصلون ، ولم يُسْتَتْنَ إلا اثني عشر رجلاً .
وكذا روى نحوها في «كتاب التفسير » ((6)) ، لكن لم يقيد بحال الصلاة
ص: 136
وروى مسلم في كتاب الجمعة »((1)) عدّة أخبار من نحو ما عرفت لم يَسْتَثْنِ إِلَّا اثني عشر رجلاً، وفي بعضها : أن العير جاءت فانفتل الناس إليها ، وقد كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم يخطب قائماً ((2)).
وأمّا اللّهو ؛ فقد روى نزول الآية فيه لما وقع منفرداً ابن جرير ((3))وابن المنذر .
قال السيوطي في «لباب النقول» بعد نقل ما رواه البخاري ومسلم في نزولها بالتجارة : أخرج ابن جرير عن جابر - أيضاً -: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير ، ويتركون النبي صلی الله علیه و اله و سلم قائماً على المنبر وينفضون إليها ، فنزلت ، قال : وكأنها نزلت في الأمرين معاً .
ثم رأيت ابن المنذر أخرجه عن جابر لقصّة النكاح، وقدوم العير معاً ، من طريق واحد ، وأنّها نزلت في الأمرين ، فلله الحمد» . انتهى كلام السيوطي ((4)) .
الثاني : إن الآية دالة على أن انفضاض المسلمين عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم سجيّة لهم ، كما وقع منهم مرتين ((5)) ، وفي «الكشاف» وغيره قيل : ثلاث مرّات ((6)) ، وذلك لتعبيرها ب «إذا» التي هي شرط في المستقبل، والفعل
ص: 137
المستقبل يفيد بذاته التجدّد، ويفيد في المقام الاستمرار ؛ لأنّه لم يقيد بوقت خاص، فيكون كناية عن كون الانفضاض للهو والتجارة سجيّة لهم وشأناً ، كقوله تعالى :« وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحنُ مستهزؤون» ((1)).
وقوله تعالى :« وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون» ((2)).
أي أنّ ذلك مع وقوعه منهم هو من شأنهم وسجيتهم ، ولا يصح أن يراد مجرّد الحكاية عن انفضاض سابق ، فإنّه لا يناسب التعبير ب- «إذا»الشرطية ، بل يتعين التعبير ب- «إذ الظرفية ، فالعدول عن «إذ» إلى «إذا» التي هي للاستقبال لا بد أن يكون لنكتة ؛ وهي بيان سجيتهم
الثالث : لا ريب بانفضاض الصحابة عامة إلا النادر الذي يصح إلحاقه بالعدم من حيث العدد لقلته ، ولذا تركت الآية ذكر من بقي مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ونسبت الانفضاض إلى عموم المؤمنين ، وقد عرفت أن صحاح أخبارهم المذكورة إنّما استثنت اثني عشر رجلاً .
وحكى في الكشاف وغيره قولاً بأنّهم ثمانية ((3)) ، فلا يتجه قول الفضل : « وقام معه أكابر الصحابة ، فإنّ أكابرهم أضعاف العدد المذكور . والحامل له على هذا دفع الطعن عن مشايخهم ووجوههم ، وقد كفاه بعضهم هذه الكلفة بالنسبة إلى الشيخين فروى لهم أن من جملة الاثني عشر
ص: 138
أبا بكر وعمر ، كما في بعض أخبار مسلم ((1)) .
وهو إلى الكذب أقرب ، وإلا لما خَلَتْ عنه رواية من رواياتهم ، لشدّة اهتمامهم بشأنهما ، على أنّ هذا الحديث ضعيف السند بجماعة ، منهم : هشيم الذي سبقت ترجمته في مقدّمة الكتاب ((2)) ، ومنهم حصين بن عبد الرحمن الذي ضعفه البخاري، وابن عدي والعقيلي ، كما في ميزان الاعتدال»((3)).
وقال يزيد بن هارون : اختلط ((4)).
الرابع : ثبت بما ذكرنا أن جميع جميع الصحابة إلا الأندر ليسوا من أهل السجايا الجميلة والمراقبة الله تعالى، والحياء من رسوله صلی الله علیه و اله و سلم، كيف وقد تركوا أهم الواجبات بمرأى من نبيهم صلی الله علیه و اله و سلم وتركوه قائماً يخطب ، أو في الصلاة ، لأجل اللهو والتجارة ؟ !
وما اعتذر لهم به الخصم من انقطاع قوافل الطعام عن المدينة ، وضيق أمر الناس - لو صح - فليس عذراً شرعياً في ترك الواجب ، إذ يمكنهم الانتظار قليلاً حتى يؤدوا الواجب .
ولذا روى في «الكشاف » وغيره : أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : « والذي نفسي بيده ، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً» ((5)) على أنه
ص: 139
يكفي في ذمّهم انفضاضهم عن الصلاة لأجل اللهو واللعب .
والعجب من السُنّة ! كيف يعرضون عن الكتاب العزيز وصراحته في
ذمّ الصحابة ، لأجل رغباتهم في مدح قوم ذمّهم الله تعالى ، حتى افتعل الخصم أو غيره قصة لا حقيقة لها ؟ !
أترى أن الله سبحانه مع عدله ورحمته وعفوه يذمّ الصحابة عموماً ،لأجل انفضاض الرعاع منهم لعذر يشرع عادة لمثلهم ؟ !
وليت شعري ، إذا علموا أنّ في الصحابة عواماً لا يستغرب منهم ترك أهم الواجبات ، وعدم المبالاة بالنبي صلی الله علیه و اله و سلم، فما بالهم يعظمون كل صحابي ويثبتون عدالته ، ويصححون حديثه ، ويبنون عليه دينهم ؟ !
فإذا عرفت أنّ الصحابة إلّا النادر بتلك الحال ، وعلى تلك السجيّة الردية التي يتركون معها أعظم الواجبات لغير عذر شرعي بلا خوف من الله تعالى ، واستحياء من رسوله صلی الله علیه و اله و سلم، لم يستبعد منهم مخالفة النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعد وفاته في وصيه وخليفته لأجل الدنيا ، أو الحسد لوصيه ، أو طلب الثأر منه ، أو اتباع رؤسائهم .
وأما قوله : وهذا لا يوجب الكفر بعد رسول الله ، كما يدعيه هذا الرجل .
ففيه : إن المصنف رحمه الله لم يدع إيجابه للكفر ، وإنّما يقول : إنّهم إذا کانوا بتلك المثابة لم يستبعد مخالفتهم للنبي صلی الله علیه و اله و سلم في خليفته، خلافاً لأهل السنة ، ولو فرض أنّه ادعى الايجاب ، فالدعوى غير بعيدة بمقتضى أخبارهم.
ص: 140
روي في «كنز العمال »((1)) عن الشافعي ، والبيهقي في المعرفة عن ابن عباس عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم: «من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل »((2)).
وروي عن أرباب السنن الأربعة ، والحاكم، وأحمد بن حنبل عن أبي الجعد عن عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم: « من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها ، طبع الله على قلبه»((3)) .
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المشتمل عليها «الكنز» وغيره ((4)) ، الدالة على أنّ تارك الجمعة لا لعذر ، منافق مطبوع على قلبه ، والمنافق كافر
ص: 141
في الباطن .
ص: 142
قال المصنف - طاب ثراه ((1)) :
وقال الله تعالى :« ومنهم من يلمزك في الصدقات»((2)) اتهموا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وهم من أصحابه .
وقال الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك في الحديث الحادي عشر من المتفق عليه : أنّ أناساً من الأنصار قالوا يوم حنين، حيث أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء ، وطفق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يعطي رجالاً من قريش المئة من الإبل فقالوا : يغفر الله
لرسول الله ، يعطي قريشاً ويتركنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم((3)).
وقال الحميدي في هذا الحديث عن أنس : إن الأنصار قالت : إذا كانت شدة فنحن ندعى ، وتعطى الغنائم غيرنا ((4)).
قال ابن شهاب : فحدث ذلك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فعرفهم في حديث ذلك أنّه فعل ذلك تأليفاً لِمَن أعطاه ((5)) .
ثم يقول في رواية الزهري عن أنس : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال للأنصار :«إنكم ستجدون بعدي إثرة شديدة ، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله
ص: 143
وقال الفضل ((1)) :
اتفق المفسّرون على أن قوله تعالى :« ومنهم من يلمزك في الصدقات»((2)) ، نزل في ذي الخويصرة الخارجي - اسمه : حُرقوص بن زهير ، وهو أصل الخوارج - قال الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: اعدل ، فإنك لا تعدل .
فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: لقد خِبْتُ وخسرتُ إن لَمْ أعدل .
فقال عمر : يا رسول الله ! ائذن لي أضرب عنقه.
فقال له رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم : إنه سيخرج من ضئضئي ((3))هذا قوم وكذا ((4))... ووصف الخوارج ، وهو ذو الثدية المشهور ((5)).
والغرض أن الآية لم تنزل فى الأنصار ، نعم ، كان من شبّان الأنصار هذا القول ، فلما سأل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عنهم ، تابوا واستغفروا ، فقبل الله رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أعذارهم .
ص: 145
وأمثال هذا يكون من أهل العسكر ، ومن الشبّان ، ولم يقل أحد من الحكماء وذوي الرأي شيئاً مما ذكره.
وأما قول أنس : «فلم نصبر» فهو شكاية منه من بعض الأنصار ، ولا يدلّ على أنّ الأنصار تركوا الصبر ، لأنّهم صبروا على الإثرة .
ص: 146
وأقول :
ذكر المصنف رحمه الله مورد نزول الآية مجملاً بقوله : اتهموا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم- وهم من أصحابه - ولم يعيّن أنّهم من الأنصار ، ثم ذكر مارواه الحميدي دليلاً آخر للطعن في أناس من الأنصار ، لا لبيان مورد نزول الآية ، كما توهّم الخصم ، وإن كان نزولها فيهم أو فيما يعمهم غير بعيد.
ودعوى الفضل اتفاق المفسرين على نزولها في ذي الخويصرة ، كاذبة ، فإن مفسّريهم اختلفوا ، كما في «الكشاف» وغيره في أنها نزلت بالمؤلّفة قلوبهم ، أو بأبي الجواظ ، أو بذي الخويصرة ((1)) .
كما أن قوله : « تابوا واستغفروا ، فقبل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كذب أيضاً ، إذ لم يذكر ذلك في الحديث، فإنّه رواه البخاري في باب غزوة الطائف من كتاب المغازي، ولم يذكر فيه توبتهم واعتذارهم وقبول عذرهم ((2)) .
نعم ، ذكر فيه اعتذار فقهاء الأنصار ، لا أولئك القائلين ، قال : قال فقهاء الأنصار أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئاً ، وأمّا ناس منا حديثةً أسنانهم ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، يعطي قريشاً ويتركنا ، وسيوفنا تقطرمن دمائهم .
ص: 147
فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: «فإني أعطى رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال ، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم ...
قالو یا رسول الله ! قد رضينا .
فقال لهم النبي صلی الله علیه و اله و سلم: ستجدون إثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله ، فإني على الحوض».
قال أنس : فلم يصبروا ((1)) .
ورواه البخاري أيضاً : في آخر كتاب الجهاد ((2)) ، وقال فيه أنس : «فلم نصبر» ((3)).
ورواه مسلم من طريقين في كتاب الزكاة ((4))وذكر في أحدهما «إنّ أنساً قال : فلم نصبر»((5)).
وروى مسلم - أيضاً - في المحل المذكور والبخاري في باب غزوة الطائف حديثاً آخر عن أنس ، يدلّ على إنكار أكابر الأنصار وصغارهم ،على قسمة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ويدل على سكوتهم وعدم اعتذارهم.(6)
فيكشف ذلك عن تمحل الحديث الأوّل في التخصيص بالصغار، وإثبات اعتذار الكبار .
ص: 148
قال أنس : «لما كان يوم حنين ، أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم، بنعمهم وذراريهم ، ومع النبي عشرة آلاف ومن الطلقاء ، فأدبروا حتى بقي وحده» ... إلى أن قال : « فانهزم المشركون ، فأصاب يومئذ غنائم كثيرة ، فقسم في المهاجرين والطلقاء ، ولم يعط الأنصار شيئاً ، فقالت الأنصار : إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا .
فبلغه ذلك ، فجمعهم في قبة فقال : يا معشر الأنصار ! ما حديث بلغني عنكم ؟! فسكتوا .
فقال : يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تحوزونه إلى بيوتكم ؟ قالوا : بلى ...»((1))
الحديث.
بل جاء عندهم حديث آخر يصرح باعترافهم بقولهم ، ولزومهم جانب الشدّة في إنكار القسمة على النبي صلی الله علیه و اله و سلم من دون حياء وتوبة ، وهو متعلق ظاهراً بقسمة حنين أيضاً.
رواه مسلم في المحل المذكور، والبخاري في باب مناقب الأنصار كلاهما عن أنس ، قال :
«لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش ، فقالت الأنصار : إن هذا لهو العجب !!! إن سيوفنا تقطر من دمائهم ، وإن غنائمنا تردّ عليهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فجمعهم فقال : ما الذي بلغني عنكم ...؟ قالوا : هو الذي بلغك ، قال : أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم
ص: 149
وترجعون برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...» ((1)) ؟ ! الحديث.
وهو كالذي قبله شامل لمطلق الأنصار ، بل هما ظاهران جداً في إرادة الكبار ، لأنّهم هم الذين يجمعهم النبي صلی الله علیه و اله و سلم ويخاطبهم .
فقد ظهر أن الأنصار مطلقاً طعنوا برسول الله في قسمته، وهو أكبر طعن بهم .
كما يستفاد من هذه الأخبار أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم الأعلى قريشاً ، مهاجرهم وطليقهم من غنائم حنين، فيكون المهاجرون منهم كالطلقاء في التأليف ، وهو من أدلّ الأمور على سوء حالهم .
كما دلّت هذه الأخبار على استثثارهم على الأنصار ظلماً ، وهو طعن بهم - أيضاً - من وجه آخر ، وهو أكبر من الطعن بالأنصار بعدم الصبر وعدم امتثال أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهم بالصبر ، وتخصيص الفضل لقول أنس لم نصبر ببعض الأنصار ، تحكّم بحت ، كما أن قوله : «لأنهم صبروا على
الإثرة» ، تخرص على الغيب في قبال إقرار أنس .
هذا ، وقد غضبت الأنصار مع قريش على النبي صلی الله علیه و اله و سلم في قسمة أخرى تتعلق بما بعثه إليه علي علیه السلام من اليمن ، فإنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم قسمة بین أربعة : الأقرع بن حابس ((2)).
ص: 150
وعيينة بن بدر ((1)) ، وزيد الطائي ((2)) ، وعلقمة بن علاثة ((3)).
فغضبت قريش والأنصار ، وقالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويَدَعُنا ، فاعتذر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأنه يتألفهم ، كما رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ((4))
ص: 151
وأحمد في مسنده ((1)) عن أبي سعيد ، ومسلم في كتاب الزكاة ((2)) ، لكنه قال :
«فغضبت قریش» ، ولم يذكر الأنصار .
ص: 152
قال المصنّف - رفع الله درجته ((1)) :
وروى مسلم في الصحيح في حديث عن عائشة عن قصّة الإفك قالت : قام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول .
قالت : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على المنبر : يا معشر المسلمين ! ... من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي ، فوالله ، ما علمت على أهلى إلا خيراً ، ولقد ذكر رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ ، فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ! إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج ، أمرتنا فقبلنا أمرك .
قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج - وكا رجلاً صالحاً ،ولكن احتملته الحمية .
فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله.
فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلنه ؛ فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يَعِظُهُم حتى سكتوا وسكت» ((2)).
فلينظر العاقل المقلّد في هذه الأحاديث المتفق على صحتها عندهم ،
ص: 153
كيف بلغوا الغاية في تقبيح ذكر الأنصار وفضائحهم ، ورداءة صحبتهم لنبيهم في حياته وقلة احترامهم له ، وترك الموافقة ؟ ! وكيف أحوجه الأمر إلى قطع الخطبة ، ومنعوه ، ومنعوه من التألم من المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يتمكن من الانتصاف من رجل واحد، حيث كان لهم غرض فاسد في منعه ، وخالفوه واختلفوا عليه، واقتصر على الإمساك ؟ ! فكيف يكون حال
ص: 154
وقال الفضل ((1)):
ما ذكره من مجادلة الأنصار ، فسببه أنّهم كانوا قومين قبل هجرة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وكان بينهم جدال عظيم حتى أنه وقع بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، منها حرب البعاث المشهور ((2))، فلما جمعهم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تركوا ما كانوا عليه من المنازعة والجدال وتألفوا برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وقد كان يبدر ((3)) عنهم آثار أعمال الجاهلية العصبية المكنونة في الضمائر ، والبشر لا يخلو من هذا .
ولكن كانوا متسارعين إلى أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وهذا الرجل المتعصب لا يذكر محاسنهم ومساعيهم ، وما بذلوا في سبيل الله والأنفس ، وما أثنى الله عليهم في كتابه ، ويذكر هفواتهم ، في القليلة ، وما ذكره لا يوجب أن يتركوا نص رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعد وفاته ، مع أن النص يكون مقيداً لهم في دفع بيعة أبي بكر.
ص: 155
وأقول :
نحن لا ندعي أن مجادلتهم كانت بلا سبب ، بل نقول : إن حميتهم الجاهلية لم تبطل ولم يحصل لهم الكمال المطلوب ، والطاعة الحقيقية الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وإن تألّفوا به وأطاعوه فيما لا ينافي مقاصدهم، ولذا جرى منهم هذا الأمر الشنيع ، وصغروا عظيم مقامه.
وأعظم منه منه في هتك حرمته ، ما رواه البخاري في أوّل كتاب الصلح أنس ، قال : «قيل للنبي صلی الله علیه و اله و سلم: لو أتيت عبدالله بن أبي ، فانطلق إليه النبی صلی الله علیه و اله و سلم،وركب حماراً ، فانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبی صلی الله علیه و اله و سلم قال : إليك عني ، والله لقد آذاني نَتْنُ حمارك .
فقال رجل من الأنصار : والله ، لحمار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنّها نزلت :
«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» ((1)) ((2)).
ورواه مسلم في كتاب الجهاد ((3)) .
فأنت ترى طائفة من المسلمين قد انتصروا لابن أبي - و - وهو كافر قد أساء الأدب مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على طائفة أخرى من المسلمين غضبوا
ص: 156
لرسول الله - وهو حاضر بينهم - فكيف بهم بعد موته ؟!
وأعظم من ذلك أضعافاً مضاعفة تصغيرهم لأمر النبي ، واستهزاؤهم على حكم الله تعالى لما أمرهم بالإحلال في حجّة الوداع ، فقالوا : يروح أحدنا إلى ( منى ) وذكره يقطر منيّاً ، كما سبق في مطاعن عمر في بعض أخبار متعة الحجّ ((1)) .
وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق لا تحصى ، وقد غضب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من عدم امتثالهم أمره ، ودخل على عائشة وهو غضبان ، فرأت الغضب في وجهه ، فقالت : من أغضبك ، أغضبه الله ؟ قال : ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع »((2))، كما رواه أحمد في مسنده.(3)
ومثله في تصغير أمره بأوحش وجه نسبتهم الهجر إليه في مرضه ومخالفة أمر الكتاب حتى وقع الناس ، وانغمسوا بالضلال بسببهم(4).
وكم مقام لهم عصوه فيه ، وأغضبوه لأجله وأساؤوا صحبته فيه !
وكم أمر صنعه هو بنفسه الشريفة، وتنزّهوا عنه مريدين به إظهار الفضل عليه !
ص: 157
روى البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وكتاب الأدب عن عائشة قالت : صنع النبي صلی الله علیه و اله و سلم شيئاً ، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فخطب ، فحمد الله ، ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! فوالله ، إنّي أعلمهم بالله وأشدّهم له خشية ((1)) .
وروى مسلم نحوه من طرق في كتاب الفضائل ((2)) قالت عائشة في بعضها : فغضب حتى بان الغضب في وجهه ((3)).
إلى غير ذلك من أحوالهم الردية، وأفعالهم الخبيثة ، وأقوالهم السيئة التي أجروها مع سيد النبيين في حياته وجاهاً له .
فكيف يستبعد منهم تصغير مقام أمير المؤمنين ، ومخالفة نص النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليه بعده ؟ !.
وكيف يستبعد من قريش التظاهر على إمامهم ، وعنده أوتارهم الكثيرة ، والعهد قريب ، والجرح لما يندمل ، مع الحسد لفضله ، وطلب الدنيا ، وسابق العداوة لبني هاشم التي تضاعفت بحروب النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهم ، واستيلاء سلطانه عليهم قهراً ، وكون الكثير منهم من المؤلفة ؟ !
فائدة :
قصة نزول الآية في أمر الإفك على عائشة إنما كانت من حديثها ، وعندي فيها إشكال ، إذ لو صحت ؛ لرواها الكثير ؛ لتعلّقها بنزول الآية ، وكونها بأهل النبي وابنة الخليفة بعده ، المعظمة لديهم ، وصدور الشكاية من
ص: 158
رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم - وهو يخطب على المنبر - ووقوع الخلاف بين الأوس والخزرج ، حتى كادوا أن يقتتلوا .
فلو كان لذلك أصل لنقله الكثير ، وما اختصت بنقله عائشة.
والأقرب أن الآية نزلت في شأن الإفك من عائشة على (مارية) ، حتّى قالت : إن ابراهيم ليس من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وظاهرتها حفصة وأبواهما .
كما يشهد له ما في «الدر المنثور» في تفسير سورة التحريم عن ابن مردويه عن أنس ، قال : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أنزل أُمّ إبراهيم منزل أبي أيوب ، قالت عائشة : فدخل النبي صلی الله علیه و اله و سلم بيتها يوماً، فوجد خلوة فأصابها فحملت بإبراهيم .
قالت عائشة : فلما استبان حملها فزعت من ذلك ، فمكث رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حتى ولدت، فلم يكن لأمه لبن فاشترى له ضائنة يغذي منها الصبي ، فصلح عليه جسمه ، وحسن لحمه ، وصفا لونه .
فجاء به يوماً يحمله على عنقه ، فقال : يا عائشة ! كيف ترين الشبه ؟
فقلت : أنا غيرى ما أدري شبهاً .
فقال : ولا باللحم ؟
فقلت : لعمري ، لَمَنْ تغذى بألبان الضأن ليحسُنُ لحمه .
قال : فجزعت عائشة وحفصة ، فحرمها ، وأسر إليها سراً فأفشته إلى عائشة ، فنزلت آية التحريم ، فأعتق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم الرقبة ((1)) .
ونقل في كنز العمال عن الطبراني أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : «ألا أخبرك يا عمر ! إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ الله عزّ وجلّ قد برأ ماريّة
ص: 159
وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها منّي غلاماً ، وأنه أشبه الخلق بي ، وأمرني أن أسميه إبراهيم ...» ((1))الحديث.
فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إنما خص عمر بالخطاب ، لأنّ له شأناً مارية ، ولما أراد النبي صلی الله علیه و اله و سلم إظهار براءة مارية وجداناً ، أمر عليّاً علیه السلام بضرب عنق من اتهموه بها ، فجاءه علي علیه السلام إلى الدار ، فلما رآه عرف في وجهه العطب ((2)) ، فصعد نخلة ، فرآه على علیه السلام مجبوباً ، فكف عنه وأخبر النبي صلی الله علیه و اله و سلم ((3)).
وروى مسلم في آخر كتاب التوبة : أن علياً علیه السلام أخرجه من ركيّ يتبرّد بها ، فإذا هو مجبوب((4)).
ولو لا علم النبي صلی الله علیه و اله و سلم ببراءته ، وإرادته كشف الحال عياناً مع علمه بأنّه يسلم من علي علیه السلام - لما أمر بقتله بمجرد التهمة بالضرورة .
فيا سبحان الله ما أكبر كيدهم ، الذي اضطر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يفعل ذلك.
ص: 160
قال المصنّف - أعلى الله منزلته- ((1)) :
وروى الحميدي في مسند أبي هريرة في «صحيح مسلم» : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لما فتح مكة وقتل جماعة من أهلها ، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن هاشم ، فقال : يا رسول الله ! أبيدت خضراء قريش ، فلا قريش بعد اليوم .
فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .
فقالت الأنصار بعضهم لبعض : أمّا الرجل فأدركته رغبة في تربته ورأفة بعشيرته .
وفي رواية أخرى : فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته ((2)).
فلينظر العاقل هل يجوز أو يحسن من الأنصار مثل هذا القول في حق النبي صلی الله علیه و اله و سلم؟!
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة ، من المتفق عليه : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال لها : يا عائشة ! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - وفي رواية : حديثو عهد بكفر ، وفي رواية : حديثو عهد بشرك وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه ولزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ؛ باباً شرقياً ؛ وباباً غربياً، فبلغت به
ص: 161
أساس إبراهيم(1).
فانظر - أيها المنصف - كيف يروون في صحاح أحاديثهم أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يتقي قوم عائشة - وهم من أعيان المهاجرين والصحابة -من أن يواطئهم في هدم الكعبة ، وإصلاح بنائها ؟ !
فكيف لا يحصل الاختلال بعده في أهل بيته الذين قتلوا آباءهم وأقاربهم ؟
ص: 162
وقال الفضل ((1)):
ما ذكر من قول الأنصار : إن الرجل أدركته رغبة في قومه ، فهذا كان من غاية شدّتهم في الدين، وكانوا يحبّون أن يقتلوا الكفرة المتمردين ، وأيضاً كانوا يخافون من أن يرغب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في الإقامة بمكة ، ويترك المدينة ، ولهذا دعاهم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وقال لهم : المحيا محياكم والممات مماتكم .
ثمّ إنّ الكريم من تُعدّ هفواته.
وأما ما ذكر من حديث عائشه فإنّه يدلّ على أن هذا الرجل أعجمي ،لا يعرف عرف كلام العرب أصلاً ، فإنّ المراد من خطاب عائشة في الحديث : وأن قومها حديثو عهد بكفر : ليس بني تيم ، بل المراد : قريش كلهم .
ومن عادة المتكلم أن ينسب القوم إلى المخاطب ، إذا كانوا من قومه . والرجل حسب أنّ المراد بني تيم وجعله من المطاعن ، وهذا باطل صريح يفهمه كلّ من يعرف العرف ، وإنّما كف رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عن تغيير بناء الكعبة ؛ لحداثة عهد قريش ،بالإسلام، وكان مظنة الارتداد ، كما ألف قلوبهم بنفل الغنائم ، والغرض أنّه لم يرد به قوم عائشة ؛ وهم بنو تيم، فإنّهم لم يكونوا ذلك اليوم من الأعيان في قريش ، ولم يُرِدْ به أبا بكر وطلحة ، كما لا يخفى .
ص: 163
وأقول :
المضحك اعتذاره عنهم بشدّتهم في الدين ، فإنّ الشدّة فيه إنما تكون باتباع أمر الله ورسوله ، والتسليم لهما في كل ما يقولان ويفعلان ، لا بالتنديد برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، والاستخفاف بشأنه.
وكل عاقل إذا سمع مثل كلامهم لا يفهم منه إلا الطعن بالنبي ، والتوهين لمقامه ؛ بأنّ عمله ناشئ عن الميل إلى قومه، لا عن أمر الله تعالى ، كما يشهد لإرادتهم الاستخفاف بشأنه، تعبيرهم عنه : بالرجل ،لا بأوصافه الجليلة.
كما عبر الخصم عن المصنف رحمه الله في هذا المقام وغيره بالرجل استخفافاً به، به ، للإشارة إلى أنّه من سائر الرجال ، ولا مزية له على غيره .
وهذا في الحقيقة من أكبر منافيات الدين ، إن لم يدخل في قسم الكفر برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، على أن الاعتذار عنهم بالشدة في المقام شهادة عليهم بالنقصان ، فإنّ هذه الشدّة مع تأمين النبي صلی الله علیه و اله و سلم لمن دخل دار أبي سفيان ، ومن ألقى سلاحه ، لا تكون إلا ممّن يرى نفسه أشدّ من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في الدين ، ويجهل وجه الحكمة في فعله صلی الله علیه و اله و سلم، وهل الدين إلا الإيمان بالله ورسوله والتسليم والرضا بفعلهما ؟ ! ومما ذكرنا يعلم ما في
العذر بالخوف من أن يرغب النبي صلی الله علیه و اله و سلم في الإقامه بمكة ، فإن خوفهم لا يسوّغ لهم ذلك الكلام السَّيِّئ والطعن والاستخفاف بنبيهم صلی الله علیه و اله و سلم، وكلامنا.
فیه.
وأما قوله : « والكريم من تُعدّ هفواته» ، ففيه :
ص: 164
إنّها كيف تُعدّ وقد وصل إلينا منها أكثر الكثير ؟! فكيف بما لم يصل ؟! حتّى عرفنا أحوالهم ومعارفهم ، وأن الإسلام لم يغيّرهم تمام التغيير ، وهو ليس بغريب ممّن ألفوا العوائد الجاهلية ، ونشأوا على الأخلاق الردية والأعمال الوحشية .
ولو سلّم أنّها معدودةٌ ، فمثل هذه الهفوات أدلّ شيء على نقصان إيمانهم ، وزيادة جهلهم ، وجرأتهم على مقام النبوة ، فلا يمكن أن يكونوا محلاً لحسن الرأي بهم ، وأهلاً للثناء عليهم بالفضل والصلاح ، بل يكونون من أقرب الناس إلى الخلاف والارتداد على أدبارهم القهقرى ، خصوصاً بعد مفارقة النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهم ، وانتقاله إلى عالم الكرامة ، كما خاطبهم سبحانه بذلك بقوله :«أفإن مات أو قتل انقلبتم ...» ((1)) .
ثمّ إنّ هذا الحديث قد رواه مسلم في باب فتح مكة من كتاب الجهاد ((2))
وأما ما فهمه الفضل من كلام المصنف رحمه الله من إرادة بني تيم من قوم عائشة : فجهل ظاهر ؛ إذ لم يُرِدْ المصنف رحمه الله بهم إلا قريشاً ، ولا ينافيه قوله : وهم من أعيان المهاجرين والصحابة ، فإن قريشاً بعض من كل منهما ، لا جميعهما .
وكيف يفهم المصنف رحمه الله من قوم عائشة بني تيم ، ويحكم بأنهم من الأعيان ، وهو يعرف منازلهم ، ولا حاجة له إلى تكلّف دعوى إرادتهم ، فإنّها أخفٌ طعناً في الصحابة من إرادة مطلق قريش التي يقتضيها ظاهر الحديث ؟ !
ص: 165
فإذا خاف النبي صلی الله علیه و اله و سلم على قريش الانقلاب لتغيير الكعبة ، فكيف لا يحصل لهم الانقلاب بمخالفة خليفته ودفعه عن مقامه ، وقد عادَوْهُ مِنْ قَبْلُ ، وحسدوا مقامه ، ولهم عنده الترات ((1)) الكثيرة والزمان قريب ، وقد أمكنتهم الفرصة ؟ ! !
ص: 166
قال المصنف - طاب ثراه -((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الحادي عشر من إفراد مسلم ، قال : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم ، أي قوم أنتم ؟
قال عبد الرحمن بن عوف : نكون كما أمرنا الله.
فقال رسول الله : أو غير ذلك تتنافسون ، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون ، ثم تتباغضون ، وفي رواية : ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض ((2)) .
وهذا ذم منه صلی الله علیه و اله و سلم لأصحابه.
ص: 167
وقال الفضل ((1)) :
هذا نصيحة وتنبيه، وإرشاد إلى عدم التنافس والتحاسد والتباغض
عند إقبال الدنيا عليهم ، وليس من شأن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يذم أصحابه.
فقد ثبت في «الصحاح» : أن عمر قال لرسول الله ، دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي بن سلول - حين ظهر نفاقه - فقال : لا ... لا يقال إنّ محمداً يقتل أصحابه ((2)) .
والغرض أنه صلی الله علیه و اله و سلم كان مشفقاً مرشداً ، لا معنفاً ذاماً ، كما يدعيه ابن المطهر .
ص: 168
وأقول :
لا أدري من أين يفهم الإرشاد ، وقول رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: « أو غير صريح في الرد على عبد الرحمن إذ قال : نكون كما أمرنا.
وأما قوله : وليس من شأن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يذم أصحابه ، فتمويه وجهل ، فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إنما قصد الإخبار على خلاف ما زعمه عبد الرحمن ، وإن كان لازمه الدم ، على أنه صلی الله علیه و اله و سلم أولى الناس بدم من يستحق الذم ؛ ردعاً له وتنبيهاً للناس على حاله ، إذا خيف من تعظيمه والاقتداء به ، وكم الله ورسوله ذمّاً للصحابة ، كما سبق ويأتي .
وأما ما ذكره من حديث عمر ، فلا ربط له بالمقام ، فإنّه إنما يدلّ على كفّه عن قتل منافقي أصحابه حذراً من تشنيع أعدائه وتوهين ،أمره ، وهذا مخصوص بالقتل لمجرّد مخالفته والنفاق معه.
وأما القتل فما دونه حداً وتعزيراً ودفعاً للفساد ، فلا، لأنه لا محلّ للتشنيع فيه عليه ، بل التشنيع في تركه ، والوهن في الرأي والمجتمع والدين بخلافه .
ص: 169
قال المصنّف - قدّس سرّه ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين في مسند المسيب بن حزن بن أبي وهب ، من إفراد البخاري : إن سعيد بن المسيب حدّث أن جده حزناً قدم على النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : ما اسمك ؟
قال : اسمي حزن .
قال : بل أنت سهل .
قال : ما أنا بمغيّر اسماً سمّانيه أبي .
وفي رواية : قلت : لا أغيّر اسماً سمّانيه أبي .
قال ابن المسيب : فما زالت فينا الحزونة بعد(2).
وهذه مخالفة ظاهرة من الصحابي للنبي صلی الله علیه و اله و سلم فيما لا يضره ، بل فيما ينفعه ، فكيف لا يخالفونه بعد فيما ينفعهم ؟ .
ص: 170
وقال الفضل ((1)) :
مخالفة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فيما يأمر وينهى من أمور الشريعة حرام و فسق.
وأما ما يتعلق بأمثال هذا ، فلا يوجب حرمة ، ألا ترى أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال لبريرة حين في رجعتها مغيث : ألا تراجعيه ؟
فقالت : أتأمرني بهذا ؟
قال : إنّما أشفع.
قالت : لا حاجة لي فيه ((2)).
فَعْلِم من هذا أن الشفاعة ، وتغيير الاسم ، وأمثال هذا لا توجب مخالفته قدحاً ، وهذا لا يصير دليلاً وبرهاناً على أن الصحابة خالفوا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وتركوا نصه بعده ، كما لا يخفى .
ص: 171
وأقول :
هذا الحديث رواه البخاري على نحو ورقتين من آخر كتاب الأدب في باب اسم حزن ، وباب بعده ، باللفظين الذين ذكرهما المصنف رحمه الله ((1)) و هو دال على العجرفة الشديدة، وقلّة المبالاة برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والردّ عليه ، ولذا بقيت فيهم الحزونة.
ولا ريب أنّ من يصدر منه مثل ذلك فيما لا يضره ، بل ينفعه ، لا يستبعد منه المخالفة فيما يراه نفعاً وإن كان حراماً .
وأما مسألة بريرة ، فإنّ كانت من هذا الباب، كان الطعن وارداً أيضاً ، وإلا فذكرها خطأ ، وواضح أن بريرة كانت في سؤالها على جانب كبير من الأدب والورع لا تقاس بحزن ، إذ استفهمت أنّه إن كان الطلب من نوع الأمر فهي تمتثله مُرغمة ، وإن كان من نوع الشفاعة حفظ اختيارها ، فهي لا تطيق الرجوع إلى مغيث ، فإنّها كانت أمة تحت مغيث فأعتقت ، وخيّرها النبی صلی الله علیه و اله و سلم، فاختارت نفسها ، وكانت تبغض مغيثاً، حتّى قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم للعباس : ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً ، كما رواه البخاري في كتاب الطلاق(2).
على أنه يمكن أن تعذر عرفاً في امتناعها من مراجعة مغيث ، لشدة بغضها ،له ، لا سيما وهي امرأة لا تجد نفسها محلاً للعتب.
ص: 172
وأما حزن ، فقد كان من أشراف قريش ومن المهاجرين ، كما في «الاستيعاب » ((1)) ، ولم يقل له النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلا ما ينفعه، ويستحسنه كلّ سامع ، فكيف تقاس إحدى المسألتين بالأخرى ؟
ص: 173
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين من المتفق عليه من مسند أبي هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لقد هممتُ أن آمر بحطب فيحطب ، ثم أمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم أمر رجلاً يوم الناس ، ثمّ أخالف إلى رجال فأُحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده ، لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً ((2)) سميناً وخبزاً براً لشهد العشاء » ((3)) .
وهذا ذم من النبي صلی الله علیه و اله و سلم الجماعة من أصحابه حيث لم يحضروا الصلاة جماعة معه .
ص: 174
وقال الفضل ((1)) :
هذا تهديد واحتساب وتوعيد على ترك الصلاة للمتكاسلين ، والناس لا تخلو من الكسل ، وربما قال هذا في جماعة من المنافقين ، لا أنه ذكر هذا على سبيل التعنيف والإيذاء ، بل قصد إرشادهم إلى الجماعة ، كما دأب أرباب الاحتساب ، والمرشد قد يوعد ويهدد ، ولا يقصد الذم ، والله اعلم.
ص: 175
وأقول :
قد روى البخاري هذا الحديث في كتاب الأذان ((1)) ، ومسلم في كتاب الصلاة ((2)) ، وهو مشتمل على أمرين: التهديد وهو واضح، والذم وهو أوضح ، إذ لا أدل عليه من قوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم أحدهم أنّه يجد عَرْقاً الله سميناً ... إلى آخره ، بل ذلك التهديد يستلزم الذمّ أيضاً ، إذ لا يحسن مثله على مالا ذمّ عليه.
وأما قوله : « وربّما كان هذا في جماعة ، فغير بعيد ، لما رواه مسلم في المقام المذكور عن أبي هريرة ، قال : «إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء ، وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم أمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أنطلق برجال معهم حُزَمُ الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» ((3)).
وروی نحوه البخاري (4)في في كتاب كتاب الأذان .
وروى مسلم أيضاً ((5)) عن عبد الله ، قال : لقد رأيتنا وما يتخلف عن
ص: 176
الصلاة إلا منافق أو مريض ((1)).
وفي رواية أخرى : ما يتخلف عنها إلا منافق ((2)).
لكن على هذا يلزم إثبات النفاق لأكثر الصحابة ، فيكون أضرّ على الخصم .
روى أحمد في مسنده ((3)) عن أبي هريرة قال : «أخر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم صلاة العشاء حتى تهوّر الليل ((4)) ، فذهب ثلثه أو قرابته ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس عزون ((5)) ، وإذا هم قليل ، قال : فغضب غضباً ما أعلم أنّي رأيته غضب غضباً قط أشدّ منه ، ثم قال : لو أنّ رجلاً دعا الناس إلى عَرْق أو مَرْماتين ((6)) أتوه لذلك ولم يتخلّفوا ، و وهم يتخلفون عن هذه الصلاة ، لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ، وأتبع هذه الدور التي تخلّف أهلوها عن هذه، فأضرمها عليهم بالنيران ((7)).
وروى أيضاً ((8)) عن أسامة بن زيد حديثاً قال فيه : إن رسول الله
ص: 177
صلی الله علیه و اله و سلم كان يصلي الظهر بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان من الناس ، والناس في قائلتهم وتجارتهم ، فأنزل الله تعالى:«حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين» ((1)) فقال رسول صلی الله علیه و اله و سلم:«لينتهُنّ رجال أو لأحرقن بيوتهم»((2)).
وروى أحمد أيضاً ((3)) عن بن كعب قال : صلى بنا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم صلاة الفجر ، فلما قضى الصلاة رأى من أهل المسجد قلّة ، فقال :«إنّه ليس من صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء الآخرة ، ومن صلاة الفجر».
إلى غيرها من الأخبار الدالّة على تخلّف أكثر الصحابة عن الجماعة ، فيلزم أن يكون أكثرهم من أهل النفاق، وهو أضرّ بمذهب الخصم .
وليت شعري ، إذا تخلّفوا عن الجماعة تكاسلاً وطلباً للراحة ، ولم يواسوا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وما اعتنوا بغضبه ، وفوات الثواب الجزيل ، فهل يستبعد منهم التخلّف عن أمير المؤمنين ؛ طلباً للجاه العريض الطويل ؛ ونيل المال الكثير ؛ وحسداً لولي الأمر ؛ وطلباً للثأر منه ؛ ووفاقاً لأكابرهم؟ !!
ص: 178
قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند حذيفة بن اليمان عن زيد بن زيد ، قال : كنا عند حذيفة، فقال رجل : لو أدركت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قاتلت معه فابليت.
فقال حذيفة ، أنت كنت تفعل ذلك ؟! لقد رأيتنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ليلة الأحزاب ، وأخدتنا ريح شديدة وقرّ .
فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم ؟ جعله الله معي يوم القيامة ، فسكتنا فلم يجبه منا أحدٌ ، ثمّ قال : ألا رجل يأتيني
بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ، فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، ثمّ قال : ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ، فسكتنا فلم منا أحد ، فقال : قم يا حذيفة ! فأتنا بخبر القوم ، ولا تذعرهم
على ((2)).
فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام ، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس ، فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: لا تدعرهم علي ، ولو رميته لأصبته ، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام ، فلما أتيته فأخبرته بخبر
ص: 179
القوم وفرغت قُررت ((1)) ، فالبسني رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من فضل عباءة كانت عليه يصلّي فيها ، فلم أزل نائماً حتى أصبحت ... قال : قم یا نومان ((2))((3)).
وهذا يدلّ على التهاون في أمره ، والإعراض عن مطالبه ، وقلة القبول منه ، وترك المراقبة الله تعالى ، وإيثارهم الحياة على لقاء الله تعالى ، فكيف يستبعد منهم المخالفة بعد موته ؟ !
ص: 180
وقال الفضل ((1)) :
الإنسان عند الشدائد البدنية قد يضطرب حاله ، ولا يطيق مقاساتها ويتغيّر حاله ، والبشر لا يخلو من هذه الأشياء ، وإنّما ذكر حذيفة هذه الحكاية ؛ لئلا يغتر الناس بإسلامهم ، ولا يتمنوا الشدائد ، وأمثال هذا لا يعده المؤمن المنصف من المطاعن في الذين بذلوا نفوسهم وأموالهم في سبيل الله تعالى ، سيّما حذيفة ، فإنّه صاحب سر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
والشيعة أيضاً يعدّونه من خواص الأصحاب ، ومن مارس الشدائد والحروب ، يعلم أنّ أمثال هذا قد يعرض الإنسان عند شدة الأمر، وهذا لا دليلاً على مخالفتهم نص رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعد وفاته.
ص: 181
وأقول :
نعم ، قد يضطرب حال الإنسان عند الشدائد ، ولكن كامل الإيمان لا يبالي بها في جنب الله تعالى ، وفي جنب تعهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأن يكون معه القيامة ، الذي هو من نوادر الفوائد ، التي يتنافس عليها بالنفس والنفيس ، ولا تعرض إلا اتفاقاً، ولا سيّما قد كرر النبي صلی الله علیه و اله و سلم الطلب والتعهد ، فمن لا يغتنم ذلك الأمر العظيم الفذ ، لا يكون إلا ناقص الفضل والمعرفة .
فالصحابة ليسوا إلا من سائر البشر ، لا يستبعد في حقهم ما يصح على غيرهم ، فلا غرابة في إنكارهم نص الغدير للأغراض البشرية ، ولاشك أن من يرغب عن ذلك الثواب الجسيم طلباً للراحة ، ويترك طاعة الرسول إيثاراً للعاجلة ، أحق بأن يرغب في ملاذ الدنيا التي لا ينالها مع من يقسم بالسوية ، ويستوي عنده الشريف والوضيع ، ولا يعصي الله طرفة عين .
وأما ما ذكره من أن حذيفة عندنا من الخواص ، فصحيح ((1)) ، لكن الكمال يأتي تدريجاً ، ولأجل علم النبي صلی الله علیه و اله و سلم بفضله على الحاضرين من الصحابة حينئذ ، وبأنّه يصير بعد من الخواص ، خصه وميزه بعنايته .
ص: 182
قال المصنّف - زيد شرفه- ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين من إفراد البخاري من مسند ابن عمر ، قال : بعث رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا .
فجعل خالد يقتل ويأسر ، ويدفع إلى كل واحد منا أسيراً ، حتى إذا كان يوم أمرنا خالد أن يقتل كل واحد منا أسيره .
فقلت : والله ، لا أقتل أسيري ، ولا يقتل واحد من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فذكرنا له ، فرفع يديه وقال :«اللهم ! إنّى أبرأ إليك ممّا صنع خالد» مرتين.(2)
ولو كان مافعله خالد صواباً لم يتبرأ الرسول منه ، وإذا كان خالد قد خالفه في حياته وخانه في أمره ، فكيف به وبغيره بعده ؟!
ص: 183
وقال الفضل ((1)) :
قَتْلُ خالد لتلك الجماعة باجتهاد أنّهم كفار ولم يسلموا ، فلما علم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حالهم وحكم بإسلامهم ، تبين خطأ خالد ، وهذا لا المخالفة أصلاً ، لأن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم ينهه عن قتلهم ، فقتلهم خالد ، وهذا لا يوجب مخالفته أصلاً ، كما لا يخفى .
ص: 184
وأقول :
روى البخاري هذ الحديث في كتاب المغازي ((1)) وكتاب الأحكام ((2)) . ولا مساغ فيه لحمل خالد على الاجتهاد ، ضرورة أن المطلوب حقيقة الإسلام بلا دخل لخصوصية اللفظ.
فلو أسلم شخص باللغة الهندية أو غيرها لصح إسلامه ، كإسلام الأخرس بالإشارة .
ولذا امتنع ابن عمر وأصحابه من قتل أسراهم ، وبرأ النبي صلی الله علیه و اله و سلم من فعله ، ولو كان فعله عن اجتهاد ، لكان معذوراً فيه ، بل مثاباً عليه ، وإن كان مخطئاً ، فلا يجوز تهجين أمره ، والبراءة من فعله.
ولو سلّم أن المورد محل اجتهاد ، فما على خالد لو احتاط في دمائهم المخالفة ابن عمر وصحبه ، إلى
يرجع إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم أو يراجعه ؟ !
ولكن كيف يؤخّر قتلهم وهو يطلبهم بإحنة الجاهلية ، وما قتلهم إلا لأجلها ،فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إنما أرسله إليهم داعياً لا مقاتلاً .
روى الطبري في تأريخه في حوادث سنة ثمان من الهجرة ((3)) : «أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم- بعث - حين افتتح مكة - خالد بن الوليد داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب، فلما نزلوا على الغميصاء - وهي ماء من
ص: 185
مياه بني جذيمة - وكان بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف ، والفاكه بن المغيرة .... إلى أن قال : «فلما رأه القوم أخذوا السلاح ، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح ، فإنّ الناس قد أسلموا .
ثمّ روي أنّهم لما وضعوه أمر بهم خالد فكتفوا ، ثمّ عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم رفع يديه إلى السماء ثم قال : « اللهم ! إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد.»
ثم دعا عليّ بن أبي طالب ، فقال : يا عليّ ! اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم ... فخرج حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم به ، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال ، حتى أنّه لَيَدِي مِبْلَغَةَ ((1)) الكلب ، ثم ذكر أنّه أعطاهم احتياطاً بقية ما معه من المال».
وقال : ثم رجع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فأخبره فقال : أصبت وأحسنت ، ثمّ قام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فاستقبل القبلة قائماً ، شاهراً يديه حتى إنه ليرى بياض ماتحت منكبيه، وهو يقول « اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » ثلاث مرات ((2)).
ثمّ روى الطبري أنّه كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فی ذلك ، فقال له : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.
فقال : إنما ثارت بأبيك.
فقال عبد الرحمن : كذبت ، قد قتلت - أنا - قاتل أبي ، ولكنك إنّما
ص: 186
ثارت بعمّك الفاكه بن المغيرة» ((1)) الحديث.
و روى ذلك كله ابن الأثير في كامله ((2))وهو كما ترى مشتمل على تصريح عبد الرحمن ، وإقرار خالد بأنه قتلهم للثأر .
كما أن صدر الخبر مصرّح بأنّه إنما بعث داعياً لا مقاتلاً ، فأين الاجتهاد الذي زعمه أنصار خالد ؟! وقد جاءت أخبارنا - أيضاً - بذلك وأنّ بني جذيمة امتنعوا من وضع السلاح ، معتذرين بأنّا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية ، فآمنهم ثمّ قتلهم ، وقد أراد السُنّة إصلاح أمر خالد فوضعوا حديث البخاري ونحوه ، وقد اتضح لك أنّه - أيضاً - غير نافعهم .
وهل يصلح العطّار ما أفسد الدهر ((3)) ؟
وإنما لم يقتل النبي صلی الله علیه و اله و سلم خالداً بمن قتلهم من المسلمين ، لقبول أهلهم الديات أو لئلا يقال : إنّه يقتل أصحابه، فيحصل في أمره وهن ، أو لادعاء خالد الشبهة لقوله - كما ذكره الطبري، وابن الأثير - : إن عبد الله بن حذافة أمرني بذلك عن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، أو لما ذكره ابن عمر من قالوا : صبأنا ، وإن لم يكن للشبه حقيقة عندنا .
ولذا برىء النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلى الله تعالى من فعله ، كما أن براءته صلی الله علیه و اله و سلم من صنع خالد دون ابن حذافة دليل على كذب خالد في عذره ، أو كذب من أرادوا إصلاح حاله ، والله العالم .
ص: 187
قال المصنّف - رفع الله درجته- ((1)) :
وروى أحمد بن حنبل في مسنده من عدة طرق : «إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلما بلغ ذا الحليفة دعا عليّاً علیه السلام، فقال : أدرك أبا بكر ، فحيث لحقته ، فخذ الكتاب منه ، واذهب به إلى أهل مكة واقرأه عليهم ، قال : فلحقته بالجحفة ، فأخذت الكتاب منه ، فرجع أبو بكر إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : يا رسول الله نزل في شيء ؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني ، فقال : لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك» ((2)).
ونحوه روى البخاري في صحيحه ((3)).
وفي الجمع بين الصحاح الستة عن أبي داود والترمذي عن عبد الله ابن عباس : « أنّ النبي دعا أبا بكر ، وأمره أن ينادي في الموسم ببراءة ، ثمّ أردفه علياً ، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله العضباء ، فقام أبو بكر فزعاً، وظنّ أنه حدث أمر ، فدفع إليه علي كتاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فيه : إن علياً ينادي بهؤلاء الكلمات ، فإنّه لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي».
فانطلقا فقام عليّ أيّام التشريق ينادي : ذمّة الله ورسوله بريّة من كلّ مشرك ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يَحُنّ بعد العام مشرك ، ولا
ص: 188
يطوف بالبيت بعد اليوم عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة »((1)).
ورواه الثعلبي في تفسير براءة .
وروى فيه : «إن أبا بكر رجع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : نزل في شيء ؟ قال : لا ، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني»((2)).
فمن لا يصلح لأداء آيات يسيرة يبلغها، كيف يستحق التعظيم المفرط في الغاية، وتقديمه على من عزله ، وكان هو المؤدّي ؟ !
ولكن صدق الله العظيم:«إنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»((3)).
فلينظر العاقل في هذه القصة، ويعلم أن الله تعالى لو لم يرد إظهار فضيلة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، وأن أبا بكر ينبغي أن يتابعه ، لما ردّه عن طريقه بعد خروجه من المدينة على أعين الخلائق ، وكان يمنعه من الخروج في أوّل الحال ، بحيث لا يعلم أحد انحطاط مرتبته ، لكن لم يأمره بالردّ إلا بعد تورّطه في المسير أياماً ؛ لأنه سبق في علمه تعالى تقصير أكثر بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ففعل في هذه القضية ما فعل ؛ ليكون حجّة له تعالى عليهم يوم العرض بين يديه .
ص: 189
وقال الفضل ((1)) :
قد ذكر هذا الرجل المكرّر هذا الكلام مرّة بعد أخرى ، وقد أجبناه في ما سبق ((2)) ، ومن الغرائب أنّ هذا الرجل يدعى أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم رد أبا بكر من تلك السفرة ، وعزله من إمارة الحجّ ، وهذا من غاية جهله بالأخبار ، فإن من المتواتر - كوجود أبي بكر وعمر ، ووجود الكعبة والحج أن أبا بكر حجّ بالناس في سنة تسع ، ولا ينكره إلا من كان حديث العهد بالإسلام ، أو مجادل جاهل مثل ابن المطهر، ثمّ يرتب عليه أنه يريد أن يبايع أبو بكر عليّاً .
فيا معشر المسلمين ! هذا يستفاد من أي شيء ؟
أيستفاد من إرداف علي بقراءة سورة براءة ، ولم يتحقق غير هذا، وقد ذكرنا أن هذا الإرداف كان لنبذ العهود مع الكفّار، وقد كان دأب من العرب أن لا يتولّى نبذ العهد إلا صاحب العهد ، أو أحد قومه ، وهل في هذا مظنّة إرادة البيعة ؟ ! بل لأهل السنة والجماعة أن يعكسوا الكلام ويقولوا : إنّما بعث عليّاً خلف أبا بكر ليحضر معه الحج ، ويقتدي به في الأعمال ، لأن أبا بكر كان أمير الحاج ، ويقرأ سورة البراءة المتضمنة لتبليغ القيام بمقام الوصية ، ليعلم الناس أنّ أبا بكر خليفة ، وأن علياً هو الوصي .
ص: 190
إنّما ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث ؛ أوّلاً لبيان فضل علي علیه السلام وإمامته ؛ وذكره ثانياً للطعن في أبي بكر ، وذكره هنا للطعن فيمن قدموه ، مع علمهم بعدم صلوحه للقيام مقام النبي صلی الله علیه و اله و سلم في هذا الأمر الخاص السهل ، فكيف يصلح للقيام مقامه بالزعامة العامة العظمى ؟ !
وأما ما زعمه من تواتر حجّ أبي بكر في الناس ، فظاهر الكذب ، لما استفاض في أخبارهم - فضلاً عن أخبارنا - من رجوع أبي بكر عند وصول على إليه ، وإشفاقه من نزول شيء فيه .
وقد ذكر المصنف رحمه الله هنا بعضها ، ومرّ كثير منها في الحديث السادس الدال على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام((1)) ، فإنّ رجوعه وإشفاقه دليل على عزله بالكلية ، ولو بقي أميراً للحاج، لما كان وجه لإشفاقه ؛ لأن علياً علیه السلام- بزعمهم - تحت إمرته ، ولم يبعث معه إلا لنبذ العهد الذي تقضي به به عادة العرب .
وأمّا نداؤه لمعشر المسلمين ، فها نحن أولاء معشر الشيعة - ونحن أفضلهم - نجيبه : بأنّ إرادة النبي لمتابعة أبي بكر لعلي علیه السلام كما عبر به المصنف رحمه الله أو مبايعته له كما عبّر به الخصم ، مستفادة من عزله بعلي بما هو من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وبعضه بوحي من الله أنه لا يؤدّي عنه إلا هو أو رجل منه ، فإنّه إذا كان هذا الأمر اليسير من خواص النبي صلی الله علیه و اله و سلم ومن هو بمنزلة
ص: 191
بعضه ، فالزعامة العظمى أولى ، وإذا اختصت الزعامة بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعلي ، وجب على أبي بكر وغيره متابعته ومبايعته .
وأيضاً إذا كان علي من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، كان أحق بمنصبه وأفضل من أبي بكر وغيره ، فتلزمهم متابعته ومبايعته، وليس المراد بكونه منه : مجرد قرب النسب ، إذ كم قريب منه لا يصدق عرفاً أنّه منه ؛ البعده عنه بالكفر ، أو الفسق ، أو الجهل ، فلا بد أن يراد به : قرب الفضل والمنزلة خاصة ، أو مع النسب ، فيتم المطلوب .
ولذا ورد في كثير من أخبارهم تعبير النبي صلی الله علیه و اله و سلم بما يخص علياعلبه السلام، قال صلی الله علیه و اله و سلم:« على مني وأنا من عليّ ، ولا يؤدّي عني إلا أنا أو عليّ »((1)) كما سبق نقلها في الحديث السادس(2).
وأما قوله : « ولم يتحقق غير هذا» ، ففيه :
ما عرفت من تحقق عوده بأخبارهم التي هي حجّة عليهم، فيعزل قهراً عن إمارة الحجّ ، لو سلّم ثبوتها له أوّلاً ، وما يخالفها من أخبارهم ليس حجة علينا ، بل وعليهم، لما عرفت من حال رجالهم ، مع أنّهم محلّ التهمة في المقام .
وأما قوله : وقد كان من دأب العرب»، ففيه :
« ما عرفت - أيضاً - من أنه كذب على العرب، وإلا لما خالفه النبي صلی الله علیه و اله و سلم أولاً ، ولما خفي على أصحابه ، ولما أشفق أبو بكر من عزله حتى بكي ، ولما أجابه النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأنه من الوحي ، من دون إشارة إلى العادة ،
ص: 192
ولا طلع أهل السير على هذه العاده ، فهل بقيت مستورة عن الناس إلى أن أخبر بها الخصم ؟
فالحق أن نصب أبي بكر أوّلاً وعزله ثانياً ، كله بأمر الله تعالى ووحيه ، ليعرف الناس قولاً وفعلاً فضل علي علیه السلام، وانحطاط منزلة أبي بكر عن تولّي مثل ذلك ، فكيف بالإمامة ؟ ولو أرسل عليا علیه السلام من أول الأمر، لم یتبین ذلک.
وأما ما ذكره من العكس فمبني على بقاء أبي بكر على إمرة الحاج ، وقد عرفت بطلانه ((1)) ، بل مبني - أيضاً - على عدم عزله بما يقضي بوصية على علیه السلام، كما أقرّ بقضائه بها الخصم ، فإنّه إذا قضى بها دلّ على أفضلية عليّ ، والأفضل أحق بالإمامة ، بل معنى الوصي هو الإمام ، كما عرفته من،بعض أحاديث الوصية وغيرها .
ص: 193
قال المصنّف - رحمة الله عليه -((1)) :
وكذلك في قصة خيبر ، فإنّهم رووا في صحيح أخبارهم : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أعطى أبا بكر الراية فرجع منهزماً ، ثمّ أعطاها لعمر فرجع منهزماً ، فقال صلی الله علیه و اله و سلم« لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ، ويحبّ الله ورسوله ، كرار غیر فرار »((2)).
ثمّ أعطاها لعلي علیه السلام، وقصد بذلك إظهار فضله ، وحط منزلة الآخرين ، لأنّه قد ثبت بنص القرآن العظيم أنّه : «ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»((3)) .
فوجب أن يكون دفع الراية إليهما بقول الله تعالى ، ولا شك في أنه تعالى عالم بالأشياء في الأزل، فيكون عالماً بهرب هذين، فلولا إرادة إظهار فضل عليّ ، لكان في ابتداء الأمر أوحى بتسليم الراية إليه ، ثم إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم وصفه بما وصفه ، وهو يشعر باختصاصه بتلك الأوصاف ، وكيف لا يكون ومحبة الله تعالى تدلّ على إرادة لقائه ؟! وأمير المؤمنين علیه السلام لم يفرّقاصداً بذلك لقاء ربه تعالى ، فيكون محباً له تعالى .
ص: 194
وقال الفضل ((1)) :
أما قوله : «إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قصد بذلك إظهار فضله ، وحطّ منزلة الآخرين» ، فهذا باطل ؛ لأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يقصد قط حط منزلة أحد من المسلمين ، وكلّهم كانوا من أصحابه وأمرائه ، وإرادة حط منزلة من دأب أرباب الغرض والتعصب ، وحاشاه عن ذلك ، بل في كل يوم من أيام خيبر بعث رجلاً ولم يحصل الفتح ، فبعث من فتح الله بيده ، وهو كان أمير
المؤمنين .
وأمّا ما قال : إنّه كان بأمر الله تعالى، فإنّه لا ينطق عن الهوى ، فنقول :
المراد من قوله :«ما ينطق عن الهوى»((2)): أنّه لا يتكلم بالباطل وبأمنية النفس ومتابعة الهوى ، لا أنّه لا يعمل برأيه الصائب ، فإن كل ما عمل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من تدبير أمور الحرب لم يكن من قبل هواه ونفسه ، بل برأيه الصائب المستنبط من كلام الله تعالى ومن أوامره .
فالظاهر أنه صلی الله علیه و اله و سلم عمل هذا برأيه في الحروب ؛ لأنّ تدبيرات الحروب تتعلق بالرأي ، وإن سلّمنا أنّه من أمر الله تعالى ، فلا يلزم منه إرادة حط منزلة الشيخين ، ورفعة منزلة علي علیه السلام لا تستلزم حطهما ، وأمثال هذه الاستدلالات على مطلوبه أوهن من بيت العنكبوت .
ص: 195
وأقول :
لا وجه لإنكار قصد النبي صلی الله علیه و اله و سلم حط منزلة أحد من المسلمين ، والحال أنّه قد تتعلّق به المصلحة ، بل ما زال يحط منازل بعض عن بعض بالتأمير، وتفضيل المطيعين على العصاة وذوي الفضل على غيرهم، وبنحو قوله صلی الله علیه و اله و سلم: « على سيّد المسلمين»((1)) و «فاطمة سيدة نساء العالمين»((2)) و «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » ((3))..
ص: 196
فلا معنى لزعمه أن ذلك دأب أرباب التعصب ، فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذا أراد بحط منزلة الشيخين إرشاد الناس إلى عدم صلوحهما للإمامة ، لجبنهما، وارتكابهما أكبر الذنوب بالفرار من الزحف ، وتوهين الإسلام، كان من أقرب الأمور إلى السداد وأصحها للأُمّة ، والتعصب لا يحصل إلا
فيما يكون هضماً للحق وحيفاً على الحقيقة .
وأما ما ذكره من معنى الآية ، وعدم دلالتها على أن فعل النبي صلی الله علیه و اله و سلم بوحی الله تعالى، فغيرُ متجه ، لأنّ مقصود المصنف بالاستدلال هو قوله تعالى :«إن هو إلا وحي يوحى»((1)) لا مجرد قوله:«وما ينطق عن الهوى»((2)).
وأنت تعلم أن مقتضى الحصر في الآية أنه لا ينطق عن رأي واجتهاد ، لأنهما غير الوحي، فيكون تقديم النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهما بوحي الله تعالى ، فإذا أوحى إليه به - مع علمه سبحانه بانهزامهما - وأن الفتح على يد علي علیه السلام لزم أن يكون تعالى مريداً بذلك إظهار فضل عليّ، وحط منزلة الرجلين ، وإلا كان أمره تعالى بتقديمهما عبثاً .
ثمّ من حكمته سبحانه أنّه لم يقدمهما إلا بعدما أرمد علياً علیه السلام؛ لئلا
ص: 197
يكون عليه بتقديمهما بأس ، حيث إنّه التحق بهم ، ولو سلم أن تقديمهما برأي النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فهو أفضل الناس رأياً وأكملهم عقلاً ، فكيف يقدّمهما علی علی علیه السلام مع علمه بشجاعته وجبنهما وقدرته على شفائه ؟ ! وعلمه أن الفتح على يده ، كما أخبر به قبل وقوعه ؟! فلا بد أن يكون قاصداً بذلك إظهار فضل علي علیه السلام وحط منزلتهما ، والإعلام بعدم صلوحهما للإمامة .
ثمّ إنّ الفضل قد أغفل ما ذكره المصنف رحمه الله من إشعار الحديث بانحصار تلك الأوصاف بأمير المؤمنين علیه السلام، إذ لا حيلة له في الجواب إن كان من المنصفين .
والظاهر : أن تعبير المصنف رحمه الله بالإشعار مسامحة مع الخصوم، وإلا فهو من أصرح الأمور بالتعريض بهما بعد فرارهما ، وأن تلك الأوصاف ليست من صفاتهما ، كما أوضحناه في الحديث العاشر من الأحاديث الدالة على إمامة أمير المؤمنين ((1)).
ص: 198
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
وقد روى ابن عبد ربه - من الجمهور - : أن أمير المؤمنين كان يتألّم من الصحابة كثيراً في عدة مواطن، وعلى رؤوس المنابر ، وقال في بعض خطبه : «عفا الله عما سلف ، سبق الرجلان ، وقام الثالث كالغراب همه بطنه ، ويله لو قص جناحه وقطع رأسه ، لكان خيراً له ، انظروا ، فإن أنكرتم فأنكروا ، وإن عرفتم فاعرفوا ... ألا إن أبرار عترتي ، وأطائب أرومتي ، أحلم الناس صغاراً ، وأعلمهم كباراً ، ألا وإنا نحن أهل البيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، من قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحقِّ ، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق ، ألا وبنا عزّة كلّ مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقهم، وبنا فتح الله وبنا ختم» ((2)).
ونقل الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري - من أهل السنة - في كتاب «معاني الأخبار» بإسناده إلى ابن عباس ، قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علیه السلام، فقال :
«والله ، لقد تقمصها أخو تَيْم وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً ،
ص: 199
وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربِّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى إذا مضى الأوّل لسبيله أدلى بها إلى فلان بعده ، ثمّ تمثل بقول الأعشى :
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر
عقدها لأخي عدي بعده ، فيا عجباً بين ما هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ماتشطرا ،ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء يخشن مسُّها ، ويغلظ كلمها، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فَمُني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، مع هن وهن ، فصبرت على طول المدة، وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم .
فيا الله وللشورى ، متى اعترض الرَّيبُ في مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن ، إلى أن قام ثالث نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ، فما راعني إلا والناس يهرعون إليَّ كعرف الضبع ، قد انثالوا علي من كل جانب ، حتّى لقد وطىء الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، وفسقت أُخرى ، ومرق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى :«تلك الدار الآخرة نجعلها
ص: 200
للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين»((1)).
بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم احلولت الدنيا بأعينهم وراقهم زيرجها .
أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظة ظالم ، ولا سعب ،مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» ((2)) .
وهذا يدلّ بصريحه على تألّم أمير المؤمنين علیه السلام، وتظلمه من هؤلاء الصحابة ، وأن المستحق للخلافة هو ، وأنّهم منعوه عنها .
ومن الممتنع ادّعاؤه الكذب ، وقد شهد الله له بالطهارة ، وإذهاب الرجس عنه ، وجعله ولياً لنا في قوله تعالى :«إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...»((3)) الآية ، وأمر النبي صلی الله علیه وسلم بالاستعانة به في دعاء المباهلة ، فوجب أن يكون محقاً في أقواله .
ص: 201
وقال الفضل ((1)) :
هذه الخطبة الشقشقية المعروفة المشهورة، وقد ذكرها السيد الرضي في كتاب «نهج البلاغة ، والله أعلم بهذا ، وليس لأمثال هذا حجّة في صحة من إسناد ، أو نقل من كتاب الثقات ، حتى يجعل دليلاً .
وإن فرضنا صحته ، فهو خبر آحاد ، ولا يعارض الخبر المتواتر ، أن أمير المؤمنين بايع الخلفاء طائعاً راغباً وناصحهم وشاورهم في الأمر ، ووافقهم في التدابير .
وإن سلّمنا أنّه كان مكرهاً، لأنّه كان يرى نفسه أفضل من غيره، وإمامة المفضول عندنا جائزة ((2)) ، فكان كراهته للبيعة ، لا أنّه يراهم غير مستأهلين للخلافة، وخلافة المفضول عندنا جائزة ، ولهذا بايعهم، ولمّا رأى معاوية غير أهل للخلافة حاربه ومنعه من الخلافة.
ص: 202
وأقول :
قد أغفل الفضل التعرض لجواب الخطبة الأولى ، تخفيفاً للمؤنة ، وهی قد رواها ابن عبد ربه عند ذكر خطب أمير المؤمنين علیه السلام((1)).
وما حكاه المصنف رحمه الله هو نبذة منها ، ومنها بعد قوله علیه السلام: « وإن عرفتم فاعرفوا»، قوله: «حق وباطل ولكلّ أهل ، ولأن أمر الباطل فقديماً فعل ، ولأن قل الحق فلربما ولعلّ ولقلما أدبر شيء فأقبل ، ولأن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء ، وإنّي لأخشى أن تكونوا في فترة وماعلينا إلا
الاجتهاد »((2)).
ثم ذكر بعده قوله علیه السلام:«ألا إن أبرار عترتي ...»إلى آخره .
وهذه الخطبة قد صرّحت بالطعن في عثمان بما هو معلوم من حالته من أنّه كالغراب همه بطنه ، ولوّحت إلى الطعن فيه وفيمن تقدّمه بقوله علیه السلام:« ولأن أمر الباطل فقديماً فعل وبقوله :« ولأن قل الحق فلربما ولعلّ» ؛ إذ لو كانوا على الحقِّ ، لما نسبه إلى القلّة.
ولو كان الشيخان على الحقِّ لما قال : «سبق الرجلان من دون تعرّض لمدحهما في هذا المقام .
وقد أشار إلى أنّهم ظالمون ، وأنّ الناس ارتكبوا معهم ما لا يجهلون ،بقوله : «عفا الله عما سلف».
ثمّ أشار إلى وقوع الفتن بأيّامه وعدم استقامة الحق بقوله : «ولقلما
ص: 203
أدبر شيء فأقبل»، وبقوله :«وإنّي لأخشى أن تكونوا في فترة».
وقد صدق علیه السلام، فإن الفترة قد وقعت بأعظم مما كان في السالفة ، فقامت دول الضلال بمحو آثار النبوة ، والحكم بأحكام الجاهلية ،والعمل بأعمالهم ، وصار أئمة الحق الذين أوجب رسول الله على أمته بهم في زوايا الخمول والإهمال، وهم الذين أشار إليهم أمير المؤمنين علیه السلام ووصفهم بأوصافهم الحقيقية بقوله : «ألا إن أبرار عترتي ...»إلى آخر الخطبة الأولى .
وأما الثانية ، فقد ناقش الخصم أوّلاً بصحتها ، وادعى ثانياً معارضتها ، وزعم ثالثاً عدم إفادتها الطعن بخلفائهم .
ويردّ على الأوّل : إنّ صحة الرواية إما أن تثبت بصحة السند ، أو بكثرة طرقها وشهرتها بين المخالف والمؤالف ، أو بموافقة مضمونها لما هو ثابت ، وهذه الخطبة الشقشقية إن سلّمنا أنّها لم تصح من الجهة الأولى ، فهي صحيحة من الجهتين الأخيرتين .
أما من أولاهما : فلأنها قد رواها الكثير منا ، وجماعة منهم كالحسن ابن عبد الله العسكري الذي حكاها المصنّف عنه ، وقد ترجمه في وفيات «الأعيان وكنّاه بأبي أحمد وأثنى عليه ، قال :
هو أحد الأئمة فى الآداب والحفظ ، وهو صاحب أخبار ونوادر ، وله رواية متسعة ، وله التصانيف المفيدة ... إلى أن قال : وكانت ولادته ي-وم الخميس لست عشره ليلة خلت من شوال سنة 293 ، وتوفّي يوم لسبع خلون من ذي الحجة سنة 382((1)) ، وكأبي علي الجبائي ، وأبي هلال
ص: 204
العكسري في كتاب «الأوائل» المتوفى سنة 395 على ما في كتاب «هداية الأحباب» ، وقد نقل ذلك عنهما السيّد السعيد رحمه الله ((1)).
وكابن الأثير فى «النهاية» ، حيث روى فيها بعض هذه الخطبة ، قال في مادة «خضم» في حديث علي : فقام إليه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع» ((2)).
وكالفيروزآبادي في «القاموس»، قال في مادة «شق»: والخطبة الشقشقية العلوية ، لقوله لابن عبّاس لما قال له : لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت [قال]: يا ابن عبّاس ! هيهات تلك شقشقة هدرت ثمّ
قرت» ((3)).
وقال ابن أبي الحديد ((4)) حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة 603 قال : «قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ... إلى أن قال: فقلت له : أتقول إنّها منحولة ؟ فقال : لا والله، وإنّي لأعلم أنّها كلامه ، كما أعلم أنّك مصدق».
قال : فقلت له : إن كثيراً من الناس يقولون : إنّها من كلام الرضي ، فقال : أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب ، وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقه وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر.
ص: 205
ثم قال : والله ، لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يُخلق الرضي بمئتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي .
ثم قال ابن أبي الحديد : قلت : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة ((1)) - أحد متكلمي الإمامية - وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف»، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضى موجوداً»((2))
وأمّا صحة الخطبة من الجهه الثانية ، فلاشتمالها على التظلّم من الخلفاء الثلاثة ، وهو مستفيض في الأخبار - كما سبق - بل ادعى ابن أبي الحديد ،تواتره ولاشتمالها - أيضاً - على بيان زهده بالإمارة وكيفية البيعة له ، وخروج الناكثين والقاسطين والمارقين عليه ، إلى غير ذلك من مضامينها المعلومة المشهورة ، فما عسى أن يناقش المنصف في صحتها ، ولا سيما
ص: 206
أن مجرد رواية أحد علمائهم لها كاف في صحتها، كما عرفت وجهه في مقدّمة الكتاب ؟! وهل يليق مثلها في بلاغتها وسوقها بغير سيد الوصيين ؟ ويرد على الثاني : وهو معارضتها بما زعم تواتره أنه ليس في أخبارهم ما يدلّ على أنه بايع طائعاً راغباً - فضلاً عن تواتره - سوى النادر ، كرواية ذكرها الطبري في تأريخيه ((1)) رواها بسند واءٍ ، ومتن مُضْحِك ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : «كان عليّ في بيته إذ أتي ، فقيل له : قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطئ عنها ، حتى بايعه ، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلّله ولزم مجلسه ((2)).
وإنّي لأعجب من الطبري كيف يروي مثل هذا الحديث الهزلي ؟
وهو قد روى قبله أخباراً كثيرة تدلّ على أنه ما بايع إلا قهراً ، التي في بعضها - وقد أتى إلى منزل علي - : والله لأُحَرِّقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ((3)) .
وأصح ما عندهم - بزعمهم - ما رواه البخاري في غزوة خيبر : «إنّ علياً استنكر وجوه الناس لما توفيت فاطمة ، فالتمس مصالحة أبي بكر» ((4)).
و هو- مع أن سنده لم يشتمل إلا على عدوّ لأمير المؤمنين ؛ كعروة بن الزبير وعائشة - أقرب إلى الدلالة على الخوف ، وأنه لم يبايع طائعاً راغباً ، ولو ادعى المتتبع المنصف تواتر أخبارهم - فضلاً عن أخبارنا - بأنه لم
ص: 207
يبايع إلا قهراً ، لكان أقرب إلى الصواب .
وأما قوله : «ناصحهم وشاورهم ووافقهم في التدابير» .
فإن أراد أن ذلك لترويج إمرتهم وتصويبها ، فهو كذب ظاهر ، كيف وهو لم يزل يتظلم منهم ، وينسبهم إلى غصب حقه وأنه لولا عدم الناصر ، وأن يده جذاء ، لقاتلهم ؟ !
وإن أراد به أنه شاركهم في التدبير حفظاً لبيضة الإسلام، فقد كان ذلك عند الضرورة في أيّام عمر لما يعلم من تهوّره ، وكان يجب عليه حفظ الإسلام بقدر الإمكان ، فإنّه الإمام الحق ، ولا يمكنه الحفظ إلا بموافقتهم في الظاهر، وجعلهم آلةٌ لمقصوده ، ولو كان مشاركاً لهم رضاً بإمرتهم ، لسار كما سار مع رسول الله صلی الله علیه واله وسلم في الجهاد والنصرة ، ولجاهد معهم كما جاهد في أيام خلافته.
ويرد على الثالث : إن قوله :«كان يرى نفسه أفضل ، وإمامة المفضول عندنا جائزه ...»إلى آخره .
باطل بالضرورة ، فإنّه علیه السلام لم يكن يرى نفسه أفضل فقط ، بل كان يراهم ظالمين غير أهل للخلافة ، كيف لا ؟ وهو يقول: «فطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء»، فإنّه دال على أنّه علیه السلام يرى حربهم وهو لا يجتمع مع أهليتهم للخلافة وصحة إمامتهم ، ويقول :«أصبر على طخية عمياء»،ويقول : « أرى تراثي نهباً»، إلى غير ذلك من فقرات الخطبة الصريحة بإثبات الجور والعصيان لهم، وأنّهم غاصبون لميراث النبوة وهو الخلافة ، وهو لا يجتمع مع كون خلافتهم خلافة حقّ .
وأما ما زعمه من جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، فقد
ص: 208
عرفت في أوّل مباحث الإمامة ((1)) أنّه مخالف للعقل والنقل.«أفمن يهدي إلى الحقِّ أحق أن يتبع أم من لا يهدى إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون»((2)).
وأما قوله : « ولمّا رأى معاوية غير أهل للخلافة حاربه ومنعه من الخلافة» ، ففيه :
أولاً : إنّه إذا علم الخصوم رأي أمير المؤمنين علیه السلام- الذي يدور معه الحقِّ حيث دار - في معاوية، على وجه استباح تلك الحرب الشعواء ، عن الخلافة ، فما بالهم اتخذوه خليفة حق ويترضون عليه ؟!
أكانوا أعرف بمعاوية من أمير المؤمنين علیه السلام، أو أحق منه بمراعاة الحق ، وأتقى الله تعالى ؟!
وثانياً : إن حربه له ليس لمنعه عن الخلافة، فإن معاوية لم يدعها حينئذ ، بل لأنه يراه ضالاً مضلاً، لا يصلح أن يتخذه عضداً ووالياً عنه.
فإنّ معاوية لما علم رأيه فيه، تعلّل لمخالفته بالطلب بدم عثمان ، بعد أن كان من الخاذلين له - كما سبق - فحاربه أمير المؤمنين لضلاله وبغيه بأمر الله ورسوله صلی الله علیه واله وسلم حيث عهد إليه أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ((3)).
وثالثاً : إن محاربة أمير المؤمنين علیه السلام لمعاوية دون المشايخ الثلاثة لا تدل على صحة خلافتهم ، للفرق بوجود الناصر له على مغاوية دونهم ، كما هو ظاهر .
ص: 209
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
وروي أنه اتصل به أنّ الناس قالوا : ما باله لم ينازع أبا بكر و عمر وعثمان ، كما نازع طلحة والزبير ؟
فخرج مرتدياً ، ثمّ نادى بالصلاة جامعة ، فلمّا اجتمع أصحابه ، قام خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا معشر الناس ! بلغني أن قوماً قالوا : ما باله لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان ، كما نازع طلحة والزبير وعائشة ، وإن لي في سبعة أنبياء أسوة .
فأولهم نوح، قال الله تعالى مخبراً عنه :«إنّي مغلوب فانتصر»((2)).
فإن قلتم : ما كان مغلوباً كذبتم القرآن ، وإن كان ذلك كذلك ، فعليّ أعذر.
والثاني إبراهيم خليل الرحمن، حيث يقول :«وأعتزلكم وما تدعون من دون الله»((3)).
فإن قلتم : إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم، وإن قلتم : رأى مكروهاً منهم فاعتزلهم ، فالوصي أعذر.
والثالث ابن خالته لوط إذ قال لقومه :«لو أنّ لى بكم قوة»((4))
فإن قلتم إنّه لم يكن له بهم قوة فاعتزلهم ، فالوصي أعذر.
ص: 210
ويوسف إذ قال :«ربّ السجن أحبّ إلى ممّا يدعونني إليه»(1).
فإن قلتم : إنّه دُعي إلى ما يسخط الله عزّ وجلّ فاختار السجن ،فالوصى أعذر.
وموسى بن عمران إذ يقول :«ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين»((2))
فإن قلتم : إنه فرّ منهم خوفاً ، فالوصي أعذر.
وهارون إذ قال : «يا ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بی الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين»((3)).
فإن قلتم : إنّهم استضعفوه وأشرفوا على قتله، فالوصي أعذر .
ومحمد صلی الله علیه و اله و سلم لما هرب إلى الغار ، .
فإن قلتم : إنّه هرب من غير خوف أخافوه ، فقد كذبتم .
وإن قلتم : إنّهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب، فالوصي أعذر .
فقال الناس جميعاً : صدق أمير المؤمنين ((4)).
ص: 211
وقال الفضل ((1)) :
هذا النقل ممّا لا إسناد له ، ولا علامة لصحته ، بل هو مخالف للواقع لأنّ أمير المؤمنين لم يكن مستضعفاً ، ولا عاجزاً ، لأن قواد بني عبد مناف كانوا معه وكان فاطمة في علوّ منصبها في بيته ، وإنّهم يدعون أن فاطمة كانت مغضبة على أبي بكر ، فلِمَ لم تأمره بالخروج عليه ويساعده الأنصار الذين نازعوا أبا بكر في خلافته، سيما سعد بن عبادة فإنّه لم يبايع أبا بكر ؟ !
فالقول : بأن أمير المؤمنين كان ضعيفاً غير مسلّم ، ولاشك في أن أبا بكر كان أضعف منه ، ولكنّ الروافض حسبوا أنّهم ملوك يتنافسون في الملك ، حاشاهم عن ذلك .
ص: 212
وأقول :
في مغلوبيّة أمير المؤمنين علیه السلام كهؤلاء النبيين الأكرمين علیهم السلام، ولا شاهد أكبر من الوجدان ، وإنكار الخصم أحد مكابراتهم التي ما قام لهم مذهب إلا بها ، كيف وقد أقرّ هو في كلامه الآتي بأنّه ما من بطن من بطون قريش إلا ولهم عليه ،دم ، وأنّ الضغائن كانت في صدورهم عليه؟!
وأما قوله : إن قوّاد بني عبد مناف كانوا معه ، فالظاهر أنه يريد بهم ما يشمل بني أمية ، وأنت تعلم أن أجلهم عثمان كان أحد أعضاد القوم ، وأن أبا سفيان كان منافقاً لا فائدة بنصره ، فقد طلب في أوّل الأمر بيعة أمير المؤمنين ؛ استحقاراً لأبي بكر ، ولما رشوه بما معه من الصدقات وبتولية ابنه يزيد صار عوناً لهم، ومن أشياعهم ، كما سبق((1)).
وأما بنو هاشم ، فأعظمهم العباس وعقيل ، فهما عاجزان عن مقابلة جماهير قريش .
وأما قوله : كان فاطمة في علوّ منصبها في بيته ، فمن الغرائب ، لأنّ علوّ منصبها لم يردعهم عن غصب حقها من الأموال القليلة ، فكيف يجلب قوة لأمير المؤمنين علیه السلام يبلغ بها السلطان ؟ !
وأي علوّ منصب أبْقَوْهُ لها وقد هجموا عليها دارها ، وهموا بإحراق بيتها بمن فيه(2)؟ !
ص: 213
وأعجب من ذلك قوله : وإنّهم يدعون أن فاطمة كانت مغضبة على أبي بكر ، فإنّ هذا ليس دعوى مجردة منا ، فقد صرّحت به صحاح أخبارهم كرواية البخاري في باب فرض الخمس من كتاب الجهاد ، قال : غضبت ،فهجرت أبا بكر ولم تزل مهاجرته حتى توفيت((1)) .
وروى البخاري ومسلم ((2)) أنّها وجدَت على أبي بكر فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت ((3)).
وقوله : فلِمَ لم تأمره بالخروج ، خطأ ؛ لعلمها بأنه إمامها ولا يعمل إلا بأمر الله تعالى ، مع أنّه لم يخف عليها استضعاف القوم له ، حيث اغتصبوه منصبه واغتصبوها إرثها ونحلتها .
ولكن ذلك سعت معه إلى بيوت وجوه المسلمين ليلاً ؛ إتماماً للحجّة عليهم ، كما سبق في المبحث الرابع من مباحث الإمامة ((4)).
وأما قوله :«ويساعده الأنصار».
ففيه : إنّهم فريقان ؛ فريق يطلب الإمرة لنفسه ، وفريق أنصار أبي بكر، فكيف يساعدون عليّاً ؟ هذا قبل تمام الأمر لأبي بكر، وأما بعده فالأمر أظهر .
وأما قوله : «ولا شك أنّ أبا بكر كان أضعف منه »
فإن أراد أنّه أضعف منه نفساً وبيتاً ، فهو مما لا ينكره ذو إدراك ،ولكن لا أثر له في المقام .
ص: 214
وإن أراد أنّه أضعف منه ،ناصراً ، فهو ظاهر الكذب ، وليس أمير المؤمنين بأكثر ناصراً ولا بأشد تكليفاً من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لما فر إلى الغار .
وقوله ، «ولكن الروافض حسبوا أنهم كالملوك» .
خطأ واضح، فإن رفضة الباطل لم يحسبوا حسباناً أن أضداد أمير المؤمنين علیه السلام كالملوك ، بل علموه علماً يقينياً بشهادة ما فعلوه بالثقلين الأعظمين من الحرق والظلم ، وما أجَرَوْهُ في الرعية من الجور والتجبر والاستثثار، وما أبدعوه فى الدين من المظالم والأحكام.
ص: 215
قال المصنّف - رفع الله درجته- ((1)) :
وروى ابن المغازلي الشافعي في كتاب «المناقب» بإسناده قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لعلي بن أبي طالب : إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي»(2).
ومن كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ من الجمهور بإسناده إلى ابن عباس ، قال :«خرجت أنا والنبي صلی الله علیه و اله و سلم وعلي ، فرأيت حديقة ، فقلت : ما أحسن هذه يا رسول الله !
فقال : حديقتك في الجنة أحسن منها.
ثمّ مررنا بحديقة ، فقال عليّ : ما أحسن هذه يا رسول الله !
قال : حتى مررنا بسبع حدائق.
فقال : حدائقك في الجنة أحسن منها.
ثمّ ضرب بيده على رأسه ولحيته وبكى حتى علا بكاؤه .
قال علي علیه السلام: ما يبكيك يا رسول الله ؟
قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني(3).
فإذا كان علماؤهم قد رووا هذه الروايات، لم يخل إما أن يصدقوا فيجب العدول عنهم ، وإما أن يكذبوا ، فلا يجوز التعويل على شيء من رواياتهم ألبتة.
ص: 216
وقال الفضل ((1)) :
ماروى عن ابن المغازلي أن الأمة يغدرون بعلي ، فإن هذا ظاهر.
وقد غدره الناكثون والقاسطون والمارقون ، والبغاة والخوارج ، وهذا لا يتعلّق بالخلفاء .
وما روى أن الضغائن كانت في صدور أقوام منه ، فهذا أيضاً ،ظاهر لأنه روي أنه لم يكن بطن من بطون قريش إلا وكان لهم على أمير المؤمنين دعوى دم أراقه في سبيل الله ، والضغائن كان في صدورهم ، ولكن لم يظهروه مادام أمر الخلفاء ،منتظماً ، وأظهروه بعد انقراض الخلفاء في زمن خلافته وخالفوه .
ثمّ ما ذكر أن علماءهم يروون هذا ، فنحن لا نعرف ابن المغازلي وأشباهه ممّن يذكر عنهم المناكير والشواذ .
وأما ما ذكره ورواه من الصحاح ، فنحن نسلّم صحته ، ونذكر معانيه ، ونبينه على وجه لا يبقى فيه ارتياب ، ولا يخالف شيئاً من قواعد المذهب الحق ، كما رأيته .
ص: 217
وأقول :
ظاهر الرواية الأولى غدر الأمة جميعاً بعلي ، ولم يقع ذلك إلا في أيام المشايخ الثلاثة ، كما أن لفظ ( بعدي ) ظاهر في البعدية المتصلة ، لا بعد نيف وعشرين سنة.
وكذلك السين تقتضي الاستقبال القريب، فلا يشك ذو فهم مع هذه الأمور أن مراد النبي صلی الله علیه و اله و سلم:هو غدر الأمة الواقع بأثر موته المستمر إلى أيام خلافة أمير المؤمنين .
وأما قوله : «لم يظهروه ما دام أمر الخلفاء منتظماً».
فتكلّف ظاهر ، لأنّ أحق وقت تظهر فيه تلك الضغائن هو وقت قرب العهد بأسبابها ، وليس هو إلا زمن وفاة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فإذا رأينا أهل تلك الضغائن هم اللفيف الأعظم للخلفاء الثلاثة، علمنا أن ذلك أوّل وقت إظهارها ، وأنّ قيام دولتهم لم يكن إلا بتلك الضغائن.
ولذا جعل النبي صلی الله علیه و اله و سلم الغاية في إبدائها مجرد فقده ، لا فقده وفقد غیره بسنين متطاولة .
وليت شعري ، كيف لم يظهروها له وقد عزلوه قبل دفن النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن منصبه ؟ ولم يدخلوه في الرأي بالخلافة، ثمّ همّوا بإحراق بيته عليه ((1)) وغصبوا حق زوجته بضعه النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وتركوه نيفاً وعشرين سنة جليس داره وحبيس بيته؟!
ص: 218
وأما تجاهله بأمر ابن المغازلي ، فغير مسموع منه بعدما عرفه من هو أعظم منه ، وهو ابن حجر في «الصواعق» ، حيث كناه بأبي الحسن ، وروى عنه نزول الآية السادسة من الآيات الواردة في أهل البيت علیهم السلام((1))مع أن ابن المغازلي لم يختص برواية هذا الحديث، بل رواه الحاكم في المستدرك ((2)) ، وصححه هو والذهبي في : « تلخيص المستدرك » ((3)) .
ونقله في «كنز العمال »((4)) عن الحاكم والدار قطني والخطيب ((5)).
ونقله ابن أبي الحديد ((6)) عن أحمد بن عبد العزيز في كتاب «السقيفة » ((7)).
كما أن الرواية التي حكاها المصنف رحمه الله عن ابن مردويه الذي من أعاظم علمائهم قد ذكرها - أيضاً - في الكنز ((8)) نقلاً عن البزار ، وأبي يعلى ، والحاكم في «المستدرك ، وأبي الشيخ ، والخطيب ، وابن النجار ، لكن بأسانيدهم عن علي علیه السلام من دون ذكر لحديقة ابن عباس(9).
ص: 219
ويشبه هذه الأحاديث ما رواه الحاكم بعد الحديث الأوّل الذي نقلناه عنه ، وصححه هو والذهبي على شرط البخاري ومسلم ، عن ابن عباس قال : « قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم لعلي : أما إنك ستلقى بعدي جهداً ، قال : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة سلامة من دينك »((1)).
وما رواه الحاكم - أيضاً - قبل ذلك الحديث عن أنس قال : «دخلت مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم على علي بن أبي طالب يعوده وهو مريض ، وعنده أبو بكر وعمر ، فتحوّلا حتى جلس رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقال أحدهما لصاحبه :
الله ما أراه إلا هالكاً ، فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: إنّه لن يموت إلا مقتولاً ، ولن يموت حتّى يملأ غيظاً»((2)).
وهذا الحديث باعتبار اشتماله على مالا ينبغي صدوره من الرجلين بمحضر النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وعلي مشعر بشماتتهما وتمنيهما موت أمير المؤمنين علیه السلام، فأجابهما النبي صلی الله علیه و اله و سلم بما يدل على سلامته من هذا المرض ، وما يشعر بظلمهما ، وغيظهما له ، وإلا فأي حاجة في المقام إلى قوله صلی الله علیه و اله و سلم«ولن يموت حتى يملأ غيظا»؟
ص: 220
قال المصنّف - أعلى الله مقامه- ((1)) :
وقد روى الحافظ محمد بن موسى ((2)) الشيرازي في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر : تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان ، و تفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن سليمان ، وتفسير وكيع بن جرّاح ، وتفسير يوسف بن موسى القطان، وتفسير قتادة، وتفسير أبي عبد الله القاسم بن سلام ، وتفسير علي بن حرب الطائي ، وتفسير السُّدّي ، وتفسير مجاهد، وتفسير مقاتل بن حيان، وتفسير أبي صالح، وكلهم من الجماهرة ، عن أنس بن مالك قال :
«كنا جلوساً عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: فتذاكرنا رجلاً يصلّي ، ويصوم ويتصدق ، ويزكي .
فقال لنا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: لا أعرفه .
فقلنا : يا رسول الله ! إنّه يعبد الله ، ويسبّحه ويقدسه ، ويوحدّه .
فقال رسول الله لا أعرفه .
فبينا نحن في ذكر الرجل إذ طلع علينا فقلنا : هو ذا ، فنظر إليه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وقال لأبي بكر : خذ سيفي هذا ، وامض إلى هذا الرجل واضرب عنقه، فإنه أوّل من يأتيه من حزب الشيطان.
فدخل أبو بكر المسجد فرآه راكعاً فقال : والله لا أقتله، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم نهانا عن قتل المصلين، فرجع إلى رسول الله فقال : يا رسول
ص: 221
الله ! إني رأيته يصلّي
فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: اجلس فلست بصاحبه .
قم يا عمر وخذ سيفي من أبي بكر ، وادخل المسجد واضرب عنقه ، قال عمر : فأخذت السيف من أبي بكر ودخلت المسجد ، فرأيت الرجل ساجداً فقلت : والله لا أقتله، فقد استأمنه من هو خير منّي ، فرجعت إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فقلت : يا رسول الله ! إني رأيت الرجل ساجداً .
فقال : يا عمر اجلس فلست بصاحبه .
قم يا عليّ ! فإنّك أنت قاتله إن وجدته فاقتله ، فإنّك إن قتلته لم يقع بین أُمتي اختلاف اختلاف أبداً .
قال علي : فأخذت السيف ، ودخلت المسجد فلم أره .
فرجعت إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقلت : يا رسول الله ! ما رأيته .
فقال : يا أبا الحسن ! إن أُمّة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن أُمّة عيسى افترقت اثنتين وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن أُمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية، والباقون في النار .
فقلت : يا رسول الله ! وما الناجية ؟
فقال : المتمسك بما أنت وأصحابك عليه.
فأنزل الله في ذلك الرجل «ثاني عطفه»((1)) يقول : هذا أوّل من يظهر من أصحاب البدع والضلالات .
قال ابن عباس : والله ، ما قتل ذلك الرجل إلا أمير المؤمنين علیه السلام يوم
ص: 222
صفين ، ثمّ قال:«له في الدنيا خزي»((1)) ، قال : القتل «ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق»((2))بقتاله علي بن أبي طالب يوم صفين ((3)) .
فلينظر العاقل إلى ما تضمنه هذا الحديث المشهور المنقول من طريق الجمهور من أن أبا بكر وعمر لم يقبلا أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ولم يقبلا قوله واعتذرا بأنّه يصلي ويسجد ، ولم يعلما أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أعرف بما هو عليه منهما ، ولو لم يكن مستحقاً للقتل لم يأمر الله نبيه بذلك .
وكيف ظهر إنكار النبي صلی الله علیه و اله و سلم على أبي بكر بقوله : لست بصاحبه ذلك فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم حكم بأنه لو قتل لم يقع وامتنع عمر من قتله ، ومع ذلک فان النبی صلی الله علیه و اله و سلم،حکم بانه لو قتل لم یقع بین امته اختلاف أبداً ، وكرّر الأمر بقتله ثلاث مرات عقيب الإنكار على الشيخين ، وحكم صلی الله علیه و اله و سلم بأن أُمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة اثنتان وسبعون منها في النار ، وأصل هذا بقاء ذلك الرجل الذي أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم الشيخين بقتله فلم يقتلاه ؟
فكيف يجوز للعامي تقليد من يخالف أمر الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم؟
ص: 223
وقال الفضل ((1)) :
الظاهر أن هذا الخبر موضوع ، ولا كل ماذكر في كتب أهل السنة نحكم على صحته ، وإنّما قلنا : إنّ الظاهر أنّ هذا الخبر موضوع ؛ لوجوه : الأول : إنّه من المنكرات غير مألوف من أُمور الدين أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يأمر بقتل من يمدحه الأصحاب : إنّه يصوم، ويصلي ، ويتصدق، وهذا من منكرات الدين ولم يرو مثله .
الثاني : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لو أراد قتله ، لم يكن يأمر أكابر الصحابة بهذا الأمر ، بل كان يأمر أحداً من الأصحاب فيقتله ، ومثل هذا الأمر منكر من أحوال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
الثالث : إن هذا الذي أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بقتله - كما زعم الراوي -كان ذلك الرجل الذي هو أصل الخوارج، وهو الذي أصل الخوارج، وهو الذي قتله علي بعد هذا ، وهو ذو الخويصرة الذي قال الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: اعدل ، فإنك لا تعدل ، أن يأذن له في ضرب عنقه، فلم يأذن له رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولو كان يريد قتله لكان يأذن لعمر في قتله .
الرابع : إن أصول الفرق المبتدعة أقوام شتّى ، ولم يشتهر أن رجلاً واحداً أصل هذه الجماعات .
وبالجملة : هذا الحديث ظاهر عليه أنّه من المنكرات .
ص: 224
وأقول :
قد روى نحو الحديث أحمد في مسنده عن أبي سعيد ((1)) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد ((2)) عند كلامه في أصحاب الأهواء، وابن حجر في الإصابة بترجمة ذي الثدية، نقلاً عن أبي يعلى عن أنس، ثم ذكر في الإصابة» أخباراً أخر بضامين أُخر ((3)).
ثمّ قال : « وللقصة الأولى شاهدان عند محمد بن قدامة ، أحدهما من مرسل الحسن ، فذكر سببها بالقصّة، والآخر من طريق مسلمة بن أبي بكرة ، عن أبيه عند محمد بن قدامة ، والحاكم في «المستدرك» ، ولم يسمّ الرجل فيهما ((4)) .
فعلى هذا يكون أصل الحديث مشهوراً ، مروياً بطرق عديدة ، فيكون موثوقاً به ، غير أن بعض الخصوصيات التي اشتمل عليها مختلفة ، كما تختلف في سائر الأحاديث المتعدّدة الطرق الحاكية لواقعة واحدة .
ففي حديث المصنف ، وحديث :أحمد : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أمر كلاً من أبي بكر وعمر ، وأمير المؤمنين علیه السلام بقتله.
وفي حديث ابن عبد ربه ، وابن حجر : جر: أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : أيكم يقوم فيقتله ؟ فقام أبو بكر ، فقال : أنا ، ثمّ عمر ، ثمّ علي علیه السلام ، وهذا ونحوه
ص: 225
غير مضر في صحة أصل الحديث .
وأما ما ذكره الخصم من الوجوه الموجبة لكونه من المنكرات ، فباطل .
أما الأوّل ، فلاته إن أراد به عدم مألوفية أن يأمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتل العالي أحد لأجل مدح الأصحاب له ، فهو صحيح ، لكن لا يدل الحديث عليه بوجه حتى يستنكره .
وإن أراد عدم مألوفية أن يأمر بقتل من مدحوه وإن كان هناك لقتله فهو خطأ ، إذ ليس هذا مما يتكرّر الوقوع حتى يكون أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتله في هذه الواقعة منكراً مخالفاً لعادته، وليس مجرد مدح الصحابة له المبني على الظاهر، والجهل بمستقبله مما يوجب امتناع النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن الأمر بقتله وهو يعلم بحاله .
وأما الثاني ، فلأن أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم لأكابر الصحابة بالقتل لا ينافي شؤونهم ، بل هم يستأذنونه في قتل من يحتملون استحقاقه للقتل ، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يأمر أعظم أصحابه عليا علیه السلام بقتل من يريد قتله .
وأمّا الثالث ، فلأنا لا نسلّم اتّحاد ذي الثدية الذي أمر النبي بقتله في هذه القصة مع ذي الخويصرة ، الذي قال للنبي صلی الله علیه و اله و سلم: اعدل .
ولذا ذكر ابن الأثير في أسد الغابة ذا الخويصرة في الصحابة ((1)) ، مستدركاً على من قبله ، مع أنّهم ذكروا ذا الثدية ، وذكرهما ابن حجر في الإصابة بعنوانين، لكن قال في ترجمة ذي الثدية : ويقال : هو ذو الخويصرة ((2)) .
ص: 226
ولو سلّم اتّحادهما ، فليس من المعلوم أن ذا الثدية والخويصرة هو الذي أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتله ، لأن ذا الثدية قتل بالنهروان ، ومن أمرالنبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتله قتل بصفین،کما صرح به هذا الحدیث الذی ذکره المصنف رحمه الله.
نعم ، ظاهر حديث أحمد الذي أشرنا إليه سابقاً أن من أمرالنبی صلی الله علیه و اله و سلم بقتله من الخوارج، وصرّح محمد بن كعب - كما في «الإصابة» - بأنّه ذو الثدية ، فتحصل المعارضة بين الأحاديث ، وتسقط في هذه الخصوصية فلا يثبت الاتحاد .
ولو سُلّم ، فيمكن أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يكن يعلم بأنّه أوّل من يظهر البدع إلا حين الأمر بقتله ، دون حين النهي عنه ، أو إنّه يعلم به في الوقتين ، لكنه مأمور من الله تعالى بقتله في وقت دون آخر، أو إنّه أراد امتحان الشيخين لا الأمر الحقيقى ، لعلمه صلی الله علیه و اله و سلم بأنه يبقى ولا يقتل حتى يكون أوّل من يظهر البدع في أمته ، فيتضح حال الشيخين وأنهما ليسا ممّن يأتمر بأمره ، ويعتقد فيه ما يجب اعتقاده .
وهذا واضح بناءً على أنه صلی الله علیه و اله و سلم أمرهما بالخصوص بقتله ، وكذا بناءً على أنّه قال : أيكم يقوم فيقتله ؟! لعلمه بأنّهما يتسرعان إلى نحو ذلك السلم ، أو إلى خصوص الواقعة.
والعجب من الشيخين كيف يتعلّلان لعدم قتله بتلك العلل الواهية ؛حيث تعلل أبو بكر بنهي النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن قتل المصلين .
والحال إن الأصحاب أخبروا النبي بأنه من المصلين الصائمين المزكّين ، ومع ذلك أمره بقتله، مصرحاً بأنّه أوّل من يأتيه من حزب الشيطان ، كما في الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله ، أو بأن بين عينيه
ص: 227
سفعة ((1)) من الشيطان ، كما في حديث «الإصابة» و«العقد الفريد » ((2)).
وأعجب منه عمر حيث شاهد ذلك كله ورأى إصرار النبي صلی الله علیه و اله و سلم على قتله وتعلل بأنه استأمنه من هو خير مني ؛ يعني : أبا بكر .
فهل يرى أن أبا بكر أحق بالاتباع من النبي صلی الله علیه و اله و سلم وأصوب رأياً منه ؟ !
أو أن ذلك منهما تعلّل، والمانع في الحقيقة جبنهما ، أو أنهما يريدان أن يظهرا للناس أنّهما محتاطان بالدماء دون النبي صلی الله علیه و اله و سلم، كما كان يرى ذو الخويصرة أنّه أعدل منه ؟ !
وأما بطلان الوجه الرابع ، فلأن الحديث لم يقل : إن أصل الفرق المبتدعة هذا الشخص، بل دلّ على أنه أوّل من يظهر من أصحاب البدع ، على أنه يجوز أن يكون بسببه سَهْلَ على غيره الابتداع ، فيعد أصلاً بهذا اللحاظ ، أو بلحاظ أنّه أساس لما بعده كإبليس ، حيث إن هذا الرجل فتنة الخوارج التي أوجبت الوهن في أمر أمير المؤمنين علیه السلام یوم صفین، وزوال الأمر عن أبنائه الطاهرين ، ولولاه لتغلّب أمير المؤمنين بصفين ودام الأمر في بنيه ، وزالت البدع السابقة ، ولم تحدث اللاحقة .
ص: 228
قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :
وهذا كما روى مسلم في صحيحه ، والحميدي في مسند عبد الله بن عباس ، قال : «لما احتضر النبي وفي بيته رجال منهم عمر بن الخطاب .
فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده .
فقال عمر بن الخطاب: قد غلب عليه الوجع ، وإن الرجل ليهجر ،حسبكم كتاب الله
وفي رواية ابن عمر : إنّ النبي ليهجر .
قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين : فاختلف الحاضرون عند النبی صلی الله علیه و اله و سلم، فبعضهم يقول : القول ما قاله النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وبعضهم يقول : القول ما قاله ،عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع.
وكان عبد الله بن عباس يبكي حتى تبل دموعه الحصى ، ويقول : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ؟!
وكان يقول : الرزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وبين كتابه »((2)).
ص: 229
فلينظر العاقل إلى ما تضمنه هذا الحديث من سوء أدب الجماعة في حق نبيهم ، وقد قال الله تعالى :«يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول ... »((1)) الآية .
ثم إنه صلی الله علیه و اله و سلم لما أراد إرشادهم ، وحصول الإلفة بينهم بحيث لا تقع بينهم العداوة والبغضاء ، منعه عمر عن ذلك وصدّه عنه ، ومع هذا لم يقتصر على مخالفته حتى شتمه ، وقال :«إنّه يهذي ، والله يقول : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»(2)
وبالخصوص مثل هذا الكتاب النافي للضلال، وكيف يحسن مع عظمة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأمر الله تعالى الخلق بتوقيره وتعظيمه ، وإطاعته في أوامره ونواهيه، أن يقول له بعض أتباعه : إنّه يهذي ، مقابلاً في وجهه بذلك ؟ !
وفي الجمع بين الصحيحين من مسند جابر بن عبد الله قال : «دعا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عند موته ، فأراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلّون بعده أبداً ،فكثر اللغط ، وتكلّم عمر ، فرفضها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم» ((3)).
وكيف يسوغ لعمر منع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من كتبه ما يهتدون به إلى يوم القيامة ؟ !
فإن كان هذا الحديث صحيحاً عن عمر وجب ترك القبول منه ، وإلا
ص: 230
لم يَجُزْ لهم إسناده إليه ، وحرم عليهم التعويل على كتبهم هذه .
ص: 231
وقال الفضل ((1)) :
قد ذكر هذا الحديث فيما مضى ((2)) ، وأجبنا عن اعتراضه ((3)) ، وهوعلى عادته يكرّر الكلام مرّات ونحن نجيبه ، فنقول :
إن المتواتر بين المسلمين أن عمر كان وزيراً لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وصاحب مشورته ، وكثيراً ما كان رسول الله يقدم على أشياء فيمنعه ،عمر،ويقول : لا تفعل يا رسول الله ! فيسمع قوله ، وهذا فيما يتعلق برأي النبي .
منها : إنّه عزم في غزوة تبوك أن يدخل دمشق ويحارب ملكها ، فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله ! فأطاعه وقبل رأيه ((4)).
ومنها : قصة الأسرى، وكان رسول الله يشاوره في أمرهم ، فنهاهم أخذ الفداء ، ووافقه الله تعالى في قوله :«ما كان لنبي أن يكون له أسرى»((5)) ((6)).
ومنها : أمر الحجاب ، وكان عمر يبالغ فيه حتّى أنزل الله تصديقه ((7)).
ومن مارس الأخبار والآثار علم أن عمر كان له عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم هذا المقام والمنصب، فجرى على عادته عند موت رسول الله، فقبل
ص: 232
رسول الله رأيه وترك الكتاب.
وأما ما قال إنّه شتم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فهذا من جهله باللغة ، وجرأته على الصحابة - لا أفلح - فإنّ الهجر - كما بينا - ، هو الكلام الذي يتكلّم المريض به ، وليس هو ألبتة شتماً ،وهذا المتعصب لا يعرف اللغة ،ويحسب أنه من إساءة الأدب ، وكان عمر من أحسن الناس أدباً بالنسبة إلى رسول الله ، يعلمه المتدرّب في الأخبار .
ص: 233
وأقول :
عرفت ممّا مرّ وجه تكرار المصنف لمثل الحديث ، فهو قد ذكره - أولاً - للطعن بعمر وأعاده - ثانياً - للطعن بالصحابة من حيث موافقتهم له في شتم النبي صلی الله علیه و اله و سلم ورد أمره ، ومن حيث تأميرهم لمثله.
وأما حديث الوزارة فمن حديث الخرافة ، كما مرّ .
وقوله : «كان صاحب مشورته» ، إنّما هو مأخوذ من روايتهم نزول قوله تعالى :«وشاورهم في الأمر» في أبي بكر وعمر، وقد عرفت أنه أدل على ذمّهما لصراحة الآية في تأليفهما .
قال تعالى:«فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله»((1)).
فإن قوله تعالى :«ولو كنت فظاً ... لانفضوا»دال على أن إسلامهم غير ثابت عن صميم القلب، فلابد أن يكون الأمر بمشاورتهم والعفو عنهم والاستغفار لهم للتأليف.
كما أن آخر هذه الآية يكذب ما رواه الخصم من انه صلی الله علیه و اله و سلم عزم على دخول دمشق ، فنهاه عمر فأطاعه ، وذلك لأن الله تعالى أمره بالإقدام والتوكل عليه إذا عزم ، فكيف يعصي الله ويطيع عمر ؟
ثم إن من آخر الآية ، ومن قوله تعلى :«يا أيها الذين آمنوا لا
ص: 234
تقدموا بين يدى الله ورسوله ...»((1)).
وقوله سبحانه :«وما آتاكم الرسول فخذوه ..»((2)).
وقوله : عزّ وجلّ :«أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ...»((3)).
وقوله تعالى :«وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ...»(4).
إلى غيرها من الآيات ، يعلم أنه ليس لعمر معارضة رسول الله فيما عزم عليه من كتابة ذلك الكتاب الهادي. وأنه عاص بمخالفة أمره .
وقد سبق في مطاعن عمر دلالة الحديث على وجوه من المطاعن في،عمر، فراجع ((5)).
ومن أعجب العجب أن الخصم يرى قول المصنف : إن عمر شتم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم جرأة على الصحابة ، ولا يرى قول عمر : إنّ النبي يهجر ، جرأة على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولا ردّه لأمره نقصاً فيه، ولا تسبيبه لكلّ ضلال إلى الأبد سيئة من سيئاته ، فلو قال القائل : إنّهم أُمّة عمر لا أُمّة لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان مصيباً !!
وأما ما ذكره من قصة أسرى بدر ، فقد عرفت حقيقته في ذيل مطاعن أبي بكر ((6)) .
وأمّا ما زعمه من أنّ أمر الحجاب نزل على موافقة رأي عمر، فمن
ص: 235
أظهر الكذب ، كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى .
ص: 236
قال المصنف - رفع الله منزلته - ((1)):
وفي الجمع بين الصحيحين من مسند أبي هريرة من إفراد مسلم، قال : «كنا قعوداً حول رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ومعنا أبو بكر وعمر في نفر ، فقام رسول الله من بين أظهرنا فأبطأ علينا حتى خشينا أن يقتطع دوننا ،وفزعنا فقمنا ، وكنت أوّل من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار ، فدرت به هل أجد له باباً ؟ فلم أجد ، فإذا ربيع - أي جدول - يدخل في جوف حائط من بئر خارجة ، فاحتفرت كما يحتفر الثعلب ، فدخلت على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
فقال : أبو هريرة ؟
فقلت : نعم يا رسول الله
قال : ما شأنك؟
قلت : كنت بين أظهرنا فقمت ، وأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا ، فكنت أوّل من فزع ، فأتيت هذا الحائط فاحتفرت كما يحتفر الثعلب ، وهؤلاء الناس وراثي .
فقال : يا أبا هريرة ! وأعطاني نعليه ، فقال : اذهب بنعلي هاتين ، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره
ص: 237
بالجنة .
فكان أوّل من لقيت عمر فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟
قلت : هاتان نعلا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعثني بهما ، من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه ، بشرته بالجنّة .
قال : فضرب عمر بين ثديي ، فخررت لاستي.
فقال : ارجع يا أبا هريرة !
فرجعت إلى رسول الله ، فأجهشت بالبكاء ، وركبني عمر فإذا هو على اثری.
فقال رسول الله : مالك يا أبا هريرة ؟
قلت : لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به ، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي ، وقال : ارجع.
فقال له رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: يا عمر ! ما حملك على ما صنعت ؟
فقال : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة ؟
قال رسول الله : نعم.
قال : فلا تفعل، فإنّي أخشى أن يتكل الناس عليها ، فخلهم يعملوا .
فقال رسول الله : خلّهم ((1)) .
وهذا رد من عمر على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وإهانة لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حيث ضرب أبا هريرة حتى قعد على استه، ورجع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم باكياً شاكياً، مع أنه لو كان شريكاً له في الرسالة لم يحسن منه وقوع مثل
ص: 238
هذا في حق أتباع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، مع أنه قد كان يمكنه منع أبي هريرة أداء الرسالة على وجه أليق وألطف فيبلغ غرضه معظماً لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، مع أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال له ذلك بوحي من لقوله :«وما ينطق عن الهوى»((1)) ، ولأن هذا جزاء أخروي لا يعلمه إلاالله تعالى ، ولأنّه ضمان على الله تعالى ، لأنه الحاكم في الجنة.
مع أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، قال فيما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند أبي ذر ، قال صلی الله علیه و اله و سلم: «أتاني جبرئيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة»((2)).
وفي رواية :«لم يدخل النار»((3)) .
فهذا صحيح عندهم، فكيف استجاز عمر الردّ على رسول صلی الله علیه و اله و سلم؟!
وفيه في مسند غسان بن مالك - متفق عليه - قال : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : «إن الله تعالى قد حرّم النار على من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهه»((4)).
وإذا كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال ذلك في عدة مواضع ، كيف استجاز عمرفعل ما فعله بأبي هريرة ؟!
ص: 239
وقد روى عبد الله بن عباس ، وجابر ، وسهل بن حنيف ، وأبو وائل ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو علي الجبائي ، وأبو مسلم الأصفهاني ، ويوسف ، والثعلبي ، والطبري، والواقدي والزهري والبخاري، والحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند المسور بن مخرمة» في حديث الصلح بين سهيل بن عمرو وبين النبي صلی الله علیه و اله و سلم بالحديبية ، يقول فيه :
فقال عمر بن الخطاب : فأتيت النبي فقلت له : ألست نبي الله حقاً ؟
قال : بلى .
قلت : ألسنا على الحقِّ ، وعدوّنا على الباطل ؟
قال : بلى .
قلت : فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا ؟
قال : إنّي رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري .
قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟
قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟
قلت : لا .
قال : فإنّك آتيه ومطوف به .
قال عمر : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً ؟
قال : بلى .
قلت ألسنا على الحقِّ ، وعدونا على الباطل ؟
قال : بلى .
قلت : فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ !
قال : أيها الرجل ! إنّه رسول الله ، وليس يعصي ربه وهو ناصره،
ص: 240
فاستمسك بغرزه ((1)) ، فوالله إنّه على الحقِّ .
قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟
قال : فأخبرك أنك تأتيه العام ؟
قلت : لا
قال : فإنّك آتيه ومطوف به » ((2)).
وزاد الثعلبي في تفسيره عند ذكر سورة الفتح وغيره من الرواة : «أن عمر بن الخطاب قال : ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ »((3)).
وهذا الحديث يدلّ على تشكيك عمر، والإنكار على النبي صلی الله علیه و اله و سلم فيما فعله بأمر الله تعالى، ثم رجوعه إلى أبي بكر حتى أجابه أبو بكر بالصحيح .
وكيف استجاز عمر أن يوبخ النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ويقول له عقيب قوله - إنِّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري - أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟!
ص: 241
وقال الفضل ((1)) :
أما ما ذكر أنّ عمر نهى أبا هريرة عن تبليغ الرسالة ؛ فاتفق العلماء على أن ذلك يدلّ على كمال علم عمر، وعلق منزلته عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم؛ حيث مكنه بعد الاعتراض، وذلك أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعث أبا هريرة مبشراً للناس بأنّ التيقن في الشهادة كاف في دخول الجنّة على أي عمل كان خيراً أو شرّاً ، وهذا يوجب أنّ الفاسق يعتمد ولا يتوب : ويقول أنا متيقن بالشهادة وقد بشرني رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بدخول الجنة ، فلا أرتدع من الفسق والذنوب ، وكان يؤدي هذا إلى ترك الأعمال .
وكان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حيث يبلغ هذا في مقام البسط والثقة بالتوحيد ، وأنّه كاف في النجاة إذا حصل كماله ، فإنّ كمال اليقين بالتوحيد ينفي درن الذنوب ، ولا يبقى معه شيء.
ولكن هذا المعنى لم يفهمه العامة ؛ لأنّهم يفهمون من اليقين ماهم عليه ، والحال أن اليقين حال المشاهدة، ولهذا الكلام بسط لا يليق بهذا المقام ، فلمًا سمع عمر هذا الكلام من أبي هريرة علم أنه صلی الله علیه و اله و سلم كان في مقام البسط ، والعامة لا يفهمون ضيقه هذا ، ولا يدركون ماهية اليقين ، وأنّه كيف يتحقق في المرء ، فيحسبون أن ماهم عليه من الشهادة بالتوحيد هو اليقين الذي بشر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بأن صاحبه يدخل الجنّة إذا كان متصفاً به، وهذا يوجب أن يتكلوا ويتركوا العمل .
ص: 242
ولهذا لما ذكر عمر عذره عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تابع رأيه ، وقال : خلهم يعملوا ، وهذا يصدق ما ذكرنا قبله أن عمر كان له هذا المنصب عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ومن حمل هذا من عمر على ترك الأدب ، فهو من الرفضة المبتدعة الجهلة ، الذي لا يعلم حقيقة الحال، فنقول له : لو كان هذا إساءة أدب منه مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، لكان ينبغي أن يضرب عنقه، ويأمر عليّاً أو واحداً من الصحابة أن يضرب عنق عمر لنفاقه وإساءة أدبه .
أكان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يخاف من عمر ؟!! أم كان لا يقدر على قتله ؟
ولو كان أمثال هذه الأمور صادرة عن عمر لإساءة الأدب ، لكان مشتهراً بالنفاق ؛ كعبد الله بن أبي بن سلول ، نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة ، مع أن فعل عمر موافق لمذهب الإمامية، فإن جزاء الأعمال عندهم واجب على الله تعالى ، وليس الشهادة وحدها كافية في النجاة من النار .
وأما ما ذكر أن عمر أساء الأدب لأبي هريرة حين ضربه حتى خرّ لاسته، فالجواب : أن عمر كان أميراً مبجلاً ، وكان وزيراً لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولم يعد ضرب عمر لأبي هريرة من إساءة الأدب ، وهذا كما يضرب الأمراء والمقربون سائر الجنود ويأمرونهم وينهونهم ، وربما كان لم
الأداء يمتنع من بمجرد نهي عمر، فأحوجه إلى الضرب ، وأمثال هذا لا يذكره إلا من يتبع عوام الناس ، وقصد عمر في فعله معلوم ، وأنه لم يرد بما فعله إلا حفظ الإسلام ، ورعاية قواعد الدين .
وأما ما ذكره من حديث يوم الحديبية ، وأن عمر قال للنبي صلی الله علیه و اله و سلم:ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟
ص: 243
فالجواب : إنّ هذا شبهة دارت في خاطره ، وأراد دفعها والجواب عنها ، فسأل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ثم سأل أبا بكر حتى ارتفع الشك من خاطره ، والإنسان يعرضه أمثال هذا ، ألا تسمع قول الله في الرسل :«حتّى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا ...»((1)) الآية .
وطلب رفع الشك بأي عبارة لا يكون ترك الأدب ، ولم يذكر عمر ماذكر للتوبيخ وتعنيف رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، بل ذكر لدفع الشبهة ودفع التردد ، وهذا على الموافق المؤمن ظاهر .
ص: 244
وأقول :
حاصل جوابه عن الحديث الأوّل تخطئة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وتصويب عمر من وجهين :
الأوّل : إنّ النبي أراد باليقين معنى ، والناس يفهمون خلافه ، فيكون مغرّراً بالناس .
الثاني : إنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يعرف مفسدة كلامه بأنّه يؤدّي إلى الاتكال وترك الأعمال ، وقد عرف عمر خطأ النبي صلی الله علیه و اله و سلم بالأمرين فرد أمره ، ولما عرف النبي صلی الله علیه و اله و سلم خطأ نفسه وإصابة عمر ، اتبع رأي عمر وسمع قوله .
فيحق للقائل أن يقول : تعالوا على الإسلام نبكي ونلطم ، فإن النبي الذي لا يعرف موارد التغرير بالأمة ، ولا يدرك المفاسد الواضحة في أفعاله،ويتهوّر في مقام التبسط حتى ينبهه مثل عمر ، كيف يكون رسولاً إلى جميع الخلق ، هادياً لهم بكل أعمالهم إلى الحقِّ ؟
وفي الحقيقة يكون الطعن على الله سبحانه، حيث يرسل مثل هذا الرسول ، ويوجب طاعته والأخذ منه بنص كتابه ، بل هو الذي أوحى إليه بما أمر به أبا هريرة ، لأنه لا ينطق إلا عن وحي يوحى ، فيكون النقص مستنداً إليه سبحانه ، والكمال الأعظم لعمر ، وبئس المذهب مذهباً يؤدّي إلى هذا .
ثمّ إنّه لا فائدة لذكر الخصم ماهيّة اليقين ، وبيان أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم أراد به : حال المشاهدة، سوى بيان خطأ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في إتيانه بلفظ لا يفهم الناس مراده منه ، وبيان أن عمر عرف حقيقة اليقين ، فيكون من أهل
ص: 245
الفضل والمعرفة ، وإلا فالمدار في منع عمر بهذه الرواية هو اتكال الناس ، ولا إشعار فيها بإرادة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لذلك المعنى من اليقين، ولا في فهم عمر له .
هذا ، والظاهر أن أبا هريرة لم ينقل القصّة على وجهها كما يشهد له مارواه مسلم مع ذلك الحديث في كتاب الإيمان ((1)) عن معاذ : إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال له : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار .
قال : يا رسول الله ! أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟
قال : إذن يتكلوا» ((2)) .
وفي رواية أخرى قال : « أفلا أبشر الناس ؟
قال : لا تبشّرهم فيتكلوا» ((3)) .
ومثلها في صحيح البخاري ((4)) .
فإنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذا نهى معاذاً عن بشارتهم خوفاً من الاتكال ، فكيف يأمر أبا هريرة بما ينهى عنه ؟ !
وأيضاً فالشهادة بالتوحيد لا تكفي وحدها في النجاة ؛ بضرورة الدين، فإنّ من أنكر نبوّة نبينا صلی الله علیه و اله و سلم من أهل النار ، وإن شهد بالتوحيد متيقناً .
فكيف يأمر أبا هريرة بتلك البشارة لمن أيقن بالوحدانية على
ص: 246
الإطلاق ؟ اللهم إلا أن يراد : البشارة بالتوحيد بشروطه ، ومنها : الشهادة بالرسالة ، كما ستعرف .
كما أن إشكال الاتكال قد يرتفع بأنّ الحكمة اقتضت التبشير في ذلك الوقت ، تشويقاً للناس إلى التوحيد، وترغيباً لهم في الإسلام ، وإن أدى إلى اتكال من سمع في ذلك الوقت.
ويشكل أيضاً على صحة الواقعة بأن أبا هريرة إذا كان شجاعاً يتطرّق الأماكن الخالية طلباً للنبي صلی الله علیه و اله و سلم وخوفاً عليه أن يُقتطع ، فما باله يجهش بالبكاء كالطفل لضربة عمر ؟ !
وليت شعرى ، لِمَ اتّخذ الأنصار تلك البستان بلا باب ، حتّى الجَؤوا أبا هريرة إلى أن يحتفر كالثعلب ؟
ثمّ أي مناسبة بين النعلين ، وهذه البشارة العظمى للمتيقن بأشرف المعتقدات ؟
ألم يكن عند النبي علامة لتصديق أبي هريرة غير النعلين ؟!
والمنصف إذا تدبّر عرف التصنّع في هذا الحديث ، وأن ترتيبه من خرافات أبي هريرة وكذباته ، لكنّه لا يتهم على عمر فيما يتعلق بسوء أدبه ونصدقه في سكوت النبي صلی الله علیه و اله و سلم؛ لما نعلمه من عظيم خلقه وجميل تأليفه .
فأما قول الخصم : «لو كان هذا إساءة أدب مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم،لكان ينبغي أن يضرب عنقه».
فمُسَلّم، لكن منعه عنه أن يقال : إنّه يقتل أصحابه ، كما روى
ص: 247
البخاري في كتاب بدء الخلق ((1)) : إنَّ ابن أبي بن سلول قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل .
فقال عمر : ألا نقتل يا رسول الله ! هذا الخبيث ؟
فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ((2)) .
وروى - أيضاً - نحوه في كتاب التفسير ((3)).
وأما قوله : ولو كان أمثال هذه الأمور صادرة عن عمر لإساءة الأدب لكان مشتهراً بالنفاق كعبد الله بن أبي بن سلول .
ففيه : إن له طريقة في مخالفة النبي لا تشبه طريقة ابن أبي ، فإنّ ابن أبي كان يظهر في كثير من أحواله مظهر العداوة لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ودينه ،بخلاف عمر فإنّه كان يخرج في مخالفاته في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم مخرج الشفقة على الإسلام وأهله ، وبعد حياة النبي يخرج مخرج أنّها من الدين ومصالحه ، وأمضتها رياسته وإقبال الدنيا عليه ، والأعوان الذين همّهم العاجلة .
فتراهم حتى اليوم يسدّدون أمره، ويحملون ما كان منه في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم وبعده على الصحة، ولا يصفون إلى انتقاد منتقد ، وإن جاءهم بأعظم البينات ، فإذا إضطرهم المجال نسبوه إلى الاجتهاد، أي أنّ له رأياً محترماً ، وإن خالف الله ورسوله ، وأبطل الكتاب والسنة وهو مرتبة ف-مرتبة النبوّة ، وحاكمة على الله وكتابه.
ص: 248
ولم يكن عمر يظهر في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم مظهر المعارضة الصريحة له ، والردّ لأمره بلا مبالاة إلا في قصّة الهجر، فإنّه علم حينئذ موت النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وعرف كثرة أنصاره وأهل رأيه ، ولا عطر بعد عروس(1).
وأما قوله : إن فعل عمر موافق لمذهب الإمامية ... إلى آخره .
ففيه : إنا لا نقول : بوجوب جزاء المعصية والعقاب عليها ، بل نقول :
باستحقاق العقاب على المعصية، وأن الله العفو عنها ، لأن العقاب حقه .
نعم ، نقول : بوجوب جزاء الطاعة والثواب عليها ، ولكن لا يلزم منه موافقة فعل عمر لمذهبنا ، إذ لا يلزم من مذهبنا القول بعدم كفاية الشهادة بالوحدانية في دخول الجنّة .
على أن عمر لم يمنع من هذا ، وإنما يقول : إن التظاهر به يوجب التسامح في الأعمال ، والاتكال على الشهادة ، وهو مسألة أخرى .
ص: 249
وبالجملة : إن مذهبنا ورأي عمر مسألتان مختلفتان لا تلازم بينهما ولا تنافی.
ثمّ إن مضمون حديث أبي هريرة قد جاء في أخبارنا عن إمامنا الرضا علیه السلام. قال - ما حاصله - : إن كلمة الشهادة كافية في دخول الجنة والنجاة من النار ، لكن قال علیه السلام: بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها ((1)).
أي أنها مشروطة بالشهادة لمحمد صلی الله علیه و اله و سلم بالنبوة ، وللأئمة الاثني عشر بالإمامة ، لأن الشهادة بهذا كله من أصول الدين.
وأما ما زعمه من أنّه لا إساءة أدب من عمر مع أبي هريرة بضربه له ،لانه كان أميراً مبجلاً ووزيراً للنبي صلی الله علیه و اله و سلم.
ففيه : إنا لا نعرف له من الإمرة والوزارة إلا الدعوى من أصحابه ، مع أن المصنف رحمه الله لم يتكلم في إساءة الأدب مع أبي هريرة ، وإن كان مسيئاً للأدب معه ، وفاعلاً للحرام بضربه له بلا جرم ، بل تكلّم في إساءة أدبه مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وإهانته له بضربه لرسوله ، وردّه لأمره ، فإنّ الأمير والوزير لوفعل برسول الملك هذا الفعل ، وردّ أمره بهذا الردّ من دون جرم من الرسول ، كان معدوداً في زمرة الجهال الجفاة الطغام المستهزئين بملكهم وأوامره ، بل الشريك لا يفعل هذا الفعل برسول شريكه، ولا يرد أمره بذلك الردّ المستهجن المستقبح ، ولو فعل كان مسيئاً للأدب مع شريكه مهيناً له أعظم إهانة.
وقوله : « وربما كان أبو هريرة لم يمتنع من الأداء بمجرد نهي عمر خطأ، لأنّه إن أريد احتمال أنّه منعه فلم يمتنع ، فهو خلاف ظاهر
ص: 250
الحديث ؛ لدلالته على أنّه ضربه بمجرد الإخبار ، مع أنه كيف لا يمتنع بمنعه إلى مراجعة النبي صلی الله علیه و اله و سلم ولا سيما مع اللطف ، وهو يعلم - كما يزعمون - أنّه وزير رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و له منصب المعارضة عنده ، هريرة من أضعف الناس نفساً ؛ لأنّه يجهش بالبكاء لضربة واحدة ، ومن أدناهم شأناً وحالاً ؛ لأنه من أهل الصفة، ويتملق للناس لسد رمقه ؟ !
وإن أُريد أن عمر يحتمل أن أبا هريرة لم يمتنع بمنعه له فضربه ، فهو الأوّل بالبطلان ، إذ لا يجوز العقاب قبل الجناية وبمجرد احتمال صدور المخالفة .
وأما ما أجاب به عن حديث صلح الحديبية .
ففيه : إن عمر لو كان مستفهماً حقيقة وطالباً لدفع الشبهة من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لاكتفى بجوابه له بقوله : إنّي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أي إني فاعل بوحي الله تعالى ولست أعصيه ، أي إنّي مأمور حتماً بهذا الصلح وهو ناصري ، أي لا تخشى على الدنية لنصر الله تعالى لي.
بل رأينا عمر زاد في جرأته ، ووبّخ النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقوله : ألست كنت تحدّثنا بأنا سنأتي البيت ؟ أي أن دعوى الرسالة ونصر الله لك غير مسموعة لما رأيناه من كذبك فيما ادعيته سابقاً من دخول البيت .
فأجابه النبي صلی الله علیه و اله و سلم: بأني لم أكذب ، أفحدثتك أنك تأتيه العام حتى أكون كاذباً ؟
وأيضاً فقول أبي بكر : فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق ، صريح في أن كلام عمر ينافي هذا ولا أقل من أن يكون عمر شاكاً في أمر
ص: 251
النبی صلی الله علیه و اله و سلم، كما صرح به عمر نفسه فيما رواه المصنف عن الثعلبي.(1)
ومن المعلوم أنّ الشاك غير مؤمن ، قال تعالى:«إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون»((2).
فقال الناس : حَلْ حَلْ ((3)) ، فألحت (§َلَحْتِ الناقةُ : لزمت مكانها فلم تبرح ، من ألح بالشيء : إذا لزمه وأصر عليه.تاج العروس 188/4 مادة «لَحَحَ ».(4)خلاتِ الناقة - كَمَنعَ - خلاً وخلاءٌ وخلوءاً : بَرَكتْ وحَرَنَتْ من غير علة ، فلم تبرح مكانها . تاج العروس 147/1 مادة (خلا)(5)صحيح البخاري 36/4 مقطع من ح 18.
فعله بين المسلمين ، حتّى ما أطاعوه بالنحر والحلق ، وقد أمرهم ثلاثاً ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها مالقي من الناس ، كما رواه البخاري في تتمة الحديث ((1)) .
ولو ذكر المصنف رحمه الله هذه التتمة لكانت دخيلة بمقصوده ، وإن كفى بالطعن بهم الطعن السابق في كبيرهم ، بل فيهم ذاتاً من حيث اعتبارهم له وتأميرهم إياه.
وقد كشفت لهم هذه الواقعة عن حاله ، وهذا الصلح قد كان فتحاً مبيناً حتّى أنزل الله تعالى فيه :«إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً»((2))، كما رواه البخاري في غزوة الحديبية ، ومسلم في صلح الحديبية ((3)). وأمّا اعتذار الخصم عن شك عمر بعروض مثله للرسل ، لقوله تعالى :
«حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا»((4))الآية.
فمبني على رجوع ضمير ظنّوا إلى الرسل ، على معنى أنهم ظنّوا أنّ الله سبحانه قد أخبرهم بالنصر كذباً ، فيكون عذراً عن عمر بشكه ، وهو ظاهر البطلان ؛ لاستلزامه كفر الرسل بظنّهم كذب الله سبحانه في إخباره ، وهو خلاف الإجماع ؛ لأنّهم معصومون عن الكفر حتى عند السُنّة ، فلابد من رجوع الضمير إلى قومهم المفهوم من صدر الآية ، لأن معناها حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم وظنّ قومهم أنّ الرّسل كذبوا ، أو إلى نفس الرسل على معنى : أنهم ظنوا أن أصحابهم المؤمنين كذبوهم في إيمانهم ، سواءً
ص: 253
كان الظنّ حقيقياً أم مجازياً باعتبار ما يقتضي كذب المؤمنين في إيمانهم من طول البلاء عليهم ، وتأخر النصر عنهم ، هذا كله على تقدير قراءة كذبوا بالتخفيف.
وأما على قراءتها بالتشديد فالأمر أوضح ، لأن المعنى حينئذ : حتى إذا استيأس الرسل ممن لم يؤمن بهم، وظنّوا أن من آمن بهم كذبهم في إخبارهم له بالنصر ، جاءهم نصرنا .
روى البخاري في كتاب بدأ الخلق ((1))«أنّ عروة سأل عائشة : أرأيت قوله تعالى :«حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا»، أو كذبوا ((2)).
قالت : بل كذبهم قومهم .
فقلتُ : والله ، لقد استيقنوا أنّ قومهم كذبوهم وماهو بالظنّ ، فلعلها ، او کذبوا.
قالت : معاذ الله ! لم تكن الرُّسل تظنّ بربها.
:قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، وطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، حتى إذا استيأس الرُّسُلُ ممّن كذبهم من قومهم ، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم ، جاءهم نصرنا ((3)).
وروى البخاري نحوه في كتاب التفسير ((4)).
ولو أعرضنا عن ذلك ، فالآية إنما تكون عذراً لعمر في شكه ، لا في
ص: 254
إساءته الأدب مع النبي صلی الله علیه واله وسلم، ومواجهته بالتوبيخ والكفر ، وهو محلّ القصد.
وما ذكره الخصم من أنّ طلب دفع الشك بأي عبارة كانت ، لايكون ترك الأدب ...»إلى آخره ،مكابرة ظاهرة لا تستحق الجواب.
ص: 255
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة : من المتفق على صحته أن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أعتم بالعشاء حتى ناداه عمر : الصلاة ، نام النساء والصبيان .
فخرج وقال : ما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم على الصلاة،وذلك حين صاح عمر بن الخطاب ((2)) .
وقد قال الله تعالى :«لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون»((3)).
فجعل ذلك محبطاً للعمل .
وقال:«إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون* ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم»((4)).
ص: 256
وقال الفضل ((1)) :
ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت النبي صلی الله علیه واله وسلم، فإنّه وارد في غير الصلاة ، وأما الصلاة وإنهاء النبي الا برفع الصوت والإعلام، فلا بأس به ، وإلا لم يكن يجوز لبلال ولسائر المؤذنين أن يرفعوا أصواتهم بالأذان .
وقد صح أن بلال كان إذا فرغ من الأذان ينادي عند حجرة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم:الصلاة الصلاة ، والعجب أنه يجعل هذا من باب رفع الصوت فوق صوت النبي صلی الله علیه واله وسلم، فبلال على هذا التقدير وسائر المؤذنين كان أعمالهم محبطاً ، لأنّهم ينادون : الصلاة الصلاة، وهذا من غرائب الاعتراضات الدالة على جهله وعناده .
ص: 257
وأقول :
روى مسلم هذا الحديث في كتاب الصلاة ((1)) ، ولا ريب بدلالته على حرمة نداء عمر ، لقول النبي صلی الله علیه واله وسلم: مالكم أن تنزروا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أي تستعجلوه وتستحوه .
كما يدلّ على حرمته قوله تعالى :«لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول»((2)).
وقول الخصم : إنّه وارد في غير الصلاة ، دعوى بلا بينة .
وأما رفع الصوت بالأذان ، فخارج بالدليل ، أو لأن الآية مختصة بمقام التخاطب مع النبي صلی الله علیه واله وسلم.
وما صححه الخصم من نداء بلال عند حجرة النبي صلی الله علیه واله وسلم: الصلاة الصلاة ، كاذب .
ولو سلّم فغايته أن يجعل مقيّداً للآية لا جواباً عن الحديث ،إذ ليس هذا النداء مقصوداً به النزروالإعجال ، بل التنبيه، بخلاف نداء عمر ، ولذا لم يؤنب بلالاً ، ولم ينكر عليه ، كما فعل مع عمر.
ص: 258
قال المصنّف - قدس سره- ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب : أنّه لمّا توفّي عبد الله بن أبي بن سلول ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فسأله أن يصلي عليه ؟
فقام رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ليصلي عليه
فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فقال : يا رسول الله !
أتصلي عليه وقد نهاك ربّك أن تصلي عليه ؟
فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم: إنما خيرني الله تعالى قال :«استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرّة»((2)) ، وسأزيد على السبعين .
قال : إنّه منافق .
فصلى عليه رسول الله ((3)).
وهذا رد على النبي صلی الله علیه واله وسلم.
ص: 259
وقال الفضل ((1)) :
غير الحديث عن صورته ، والصواب من رواية الصحاح : إن عمر قال الرسول الله صلی الله علیه واله وسلم: أتصلي عليه ، وهو قال كذا وكذا ؟ وطفق يعد مثالبه وما ظهر عليه من نفاقه.
فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم:دعني فأنا مأمور ومخيّر، فصلّى عليه ،فأنزل الله تصديقاً لفعل عمر ونهيه عن الصلاة عليه قوله :«ولا تصل على مات أبداً ولا تَقُمْ على قبره ...»((2))((3)) الآية .
وهذا من مناقب عمر، حيث وافقه الله في فعله ، وأنزل على تصديق قوله القرآن .
وهذا الرجل يذكر هذه المنقبة العظيمة من مثالبه ومطاعنه ، وهذا أيضاً - يدل على ما ذكرنا أن عمر كان جريئاً في المشاورات ، وكان رسول الله أعطاه هذا المقام .
ص: 260
وأقول :
قد روى البخاري في تفسير سورة براءة ((1)) هذا الحديث بألفاظه التي ذكرها المصنف رحمه الله ، وكذلك مسلم ، في فضائل عمر، وفي أوّل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ((2)).
فما نسبه الفضل إلى المصنف رحمه الله من تغيير صورة الحديث جهل وتحامل ، بل الفضل هو الذي غير صورة الحديث الذي صوّبه ، فإنّه على الظاهر هو الذي رواه البخاري ((3)) عن عمر ، قال:«لما مات عبد الله بن ابن سلول دعي له رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ليُصلي عليه .
فلما قام رسول الله ، وثبتُ إليه فقلت : يا رسول الله ! أتصلي على ابن ابی وقد قال يوم كذا وكذا وكذا ؟ ثمّ عدّد عليه قوله .
فتبسم رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وقال : أخر عني يا عمر !
فلمّا أكثرتُ عليه ، قال : إنّي خُيّرت فاخترت ، لو أعلم أنّي زدت على السبعين فغفر له لزدت عليها ، فصلّى عليه رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة :«ولا تُصلّ على أحدٍ منهم أبداً ...»إلى قوله :«وهم فاسقون»(4) (5).
ص: 261
ونحوه في«مسند أحمد»((1))عن عمر ، وقال فيه: «فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحوّلت حتّى قمت في صدره»((2)).
وروى البخاري - أيضاً - حديث ابن عمر في باب الكفن في القميص من أبواب الجنائز، وقال فيه :«فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر،فقال : أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ؟
فقال : أنا بين خيرتين »((3)).
وروى البخاري - أيضاً - نحوه في كتاب اللباس(4).
إلى غير ذلك من الأخبار المروية عن عمر وابنه ، في هذه الواقعة الدالة على أنه صدر من عمر فيها أُمورٌ منكرة .
منها : افتراؤه وقوله : « أتصلى وقد نهاك ربّك أن تصلي عليه ؟ أو نحو هذا القول ، فإن النبي صلی الله علیه واله وسلم لم يكن منهياً حينما صلى على ابن أبي ، وإنّما نُهي بعد ذلك ، ولذا قال : ( خُيّرت فاخترت»((5)) .
ومنها : جرأته على رسول الله صلی الله علیه واله وسلم وإنكاره عليه الإنكار الشنيع ، الله حتى أخذ بثوبه ، أو جذبه وقام في صدره ، وقد قال الله تعالى :«يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ...»((6)).
وليت شعري ، ، أكان عمر يرى نفسه أعلم من النبي صلی الله علیه واله وسلم، أو يرى الله. أنّ النبي لم يتبع أحكام الله تعالى ؟ أو كان لا يعرف لرسول الله حرمة
ص: 262
ورسالة ، وأراد أن يهجن فعله بين الناس؟
ومنها : إنه عصى رسول الله صلی الله علیه واله وسلم في قوله : «أخر عنّي ، حتّى أكثر عليه»، وقد أمر الله بطاعته.
فمن وقع منه مع النبي صلی الله علیه واله وسلم في واقعة واحدة أنواع المنكرات .كيف يكون أهلاً للولاية على المسلمين ؟
فأما قوله : وهذا من مناقب عمر حيث وافقه الله تعالى في فعله...
إلى آخره، فمن المضحكات ، لأنّه لم يعد منكرات عمر الصريحة من مطاعنه ، ويعد النسخ الاتفاقي من مناقبه .
وحقيقة الموافقة المدّعاة أنّ الله سبحانه ظهر له برأي عمر تعالى في تخيير النبي صلی الله علیه واله وسلم، فاتبع رأي عمر ، لأن النبيّ لم يفعل برأيه حتى يكون الله موافقاً لرأي عمر دون النبي صلى الله عليه وسلم ! وهذا كفر صريح .
على أنّ تلك الموافقة المستفادة من نزول الآيتين بعد إنكار عمرعلی النبی صلی الله علیه واله وسلم إنّما أخذوها من أخبارهم، وهي غير حجّة علينا ، مع أن تلك الأخبار إنما هي من مرويات عمر وابنه ، وهما محلّ التهمة فيما به جلب الفضل ، وعمر هو محلّ الكلام .
بل لا ريب بكذب الرواية في بعضها ، وهو تبسم النبي صلی الله علیه واله وسلم إليه إذ لا يساعد فعل عمر ووقوف النبي صلی الله علیه واله وسلم على جنازة تبسمه إليه .
ومما ذكرنا في المقام وقبله يعلم ما في قوله : كان رسول الله صلی الله علیه واله وسلمأعطاء هذا المقام، كما أن صريح الروايات أن ماصدر من عمر لم يكن مسبوقاً باستشارة النبي صلی الله علیه واله وسلم، فلا محل لقول الفضل : «وهذا يدلّ على أن عمر كان جريئاً في المشاورات ولو قال : كان جريئاً في المخالفات وفعل المنكرات ، لكان أولى.
ص: 263
واعلم أن الحكمة في صلاة النبي صلی الله علیه واله وسلم على ابن أبي وإعطاء قميصه كفناً له هو تأليف المنافقين والكافرين من الخزرج، ويدل عليه مافي «الدرّ المنثور عن أبي الشيخ ، قال في حديث: «إنّهم ذكروا القميص ، فقال النبي صلی الله علیه واله وسلم: وما يغني عنه قميصي ؟! والله ، إنّي لأرجو أن يُسلم به أكثر من ألف من الخزرج»((1)).
ولكن - ياللأسف - زاد الراوي في هذا المقام إنتصاراً لعمر ، أنه نزل بعد قول النبي صلی الله علیه واله وسلم: إني لأرجو أن يسلم ... إلى آخره، قوله تعالى عقيب الآيتين السابقتين :«ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم»((2)).
إذ لا يمكن أن ينهى عن الإعجاب بإسلام البنين بعد ما رجاه، وهو إنّما بعث إلى الدعوة إلى الإسلام، وهذا الراوي لم يعرف أن المراد : هو النهي عن الإعجاب بذوات البنين وصفاتهم ومحاسنهم الظاهرية ، فكذب على الله ورسوله في نزولها في المقام .
ص: 264
قال المصنّف - أعلى الله مقامه- ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين من مسند عائشة قالت : كان أزواج رسول الله صلی الله علیه واله وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المصانع ((2)).
فخرجت سودة بنت زمعة فرآها عمر - وهو في المجلس - فقال :عرفتك يا سودة !
فنزلت آية الحجاب عقيب ذلك ((3)).
وهو يدلّ على سوء أدب عمر، حيث كشف سرّ زوجة النبي صلی الله علیه واله وسلم،ودلّ عليها أعين الناس ، وأخجلها ، وما قصدت بخروجها ليلاً إلا الاستتار عن أعين الناس وصيانة نفسها .
وأي ضرورة له إلى تخجيلها حتّى أوجب ذلك نزول آية الحجاب ؟ !
ص: 265
وقال الفضل ((1)) :
هذا يدلّ على كمال غيرة عمر، وشدّة اهتمامه في حفظ سرّ أزواج النبی صلی الله علیه واله وسلم، ولهذا قال : عرفناك يا سودة ! والمراد : إن الخروج بالليل - أيضاً - يوجب معرفة الناس ، وليس هذا كمال الاستتار، فينبغي أن يتحرّز عن الخروج بالليل أيضاً .
ألا ترى أن الله تعالى أنزل عقيب هذا آية الحجاب ، وهذا موافقة لعمر ، وهو من مناقبه.
ولو لم يكن هذا العمل من عمر مقبولاً عند الله ، لأنزل عقيبه تأنيباً لعمر وتوبيخاً له على مافعل ، لا أنّه ينزل ما يكون تصديقاً له وموافقة إيَّاه ،وهذا ظاهر على غير المتعصب.
ص: 266
وأقول :
لا مناسبة بين الغيرة والاهتمام في ستر أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم، وبين نداء سودة باسمها في مجمع الناس ، وهي خارجة إلى الخلاء ليلاً صيانة لنفسها .
وقد يوجه بأنّه هتكها فعلاً طلباً لسترها في المستقبل ، لأنّه كان يقول للنبي صلی الله علیه واله وسلم: احجب نساءك ، فلم يفعل ، فصنع عمر ذلك حرصاً على أن يُنزل الحجاب ، كما دلّ على ذلك تمام الحديث الذي حكاه المصنف رحمه الله فإنّه رواه البخاري مصرحاً بذلك في باب آيه الحجاب من كتاب الاستئذان ولنذكره بلفظه ليعرفه كل سامع .
قال : «إن عائشة قالت : كان عمر بن الخطاب ، يقول الرسول الله :احجب نساءك .
قالت : فلم يفعل ، وكان أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المصانع ((1))، فخرجت سودة بنت زمعة - وكانت أمرأة طويلة - فرآها عمر ابن الخطاب - وهو في المجلس -.
فقال : عرفتك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب .
قالت : فأنزل الله عزّ وجلّ آية الحجاب» ((2)).
ورواه البخاري أيضاً بلفظ قريب منه في كتاب الوضوء ((3)) وكذا مسلم
ص: 267
في كتاب السلام ((1)).
ويرد على هذا التوجيه أنّ لازمه أن يكون عمر أغير من رسول الله صلی الله علیه واله وسلم وأحرص منه على حجاب نسائه ، بل يكون أغير من الله سبحانه وأعرف منه بالصلاح ، لأن النبي صلی الله علیه واله وسلم إنّما يُحل ويحرّم بأمر الله تعالى ، ويكون عمر قد فعل ذلك الفعل القبيح، وأساء الأدب مع النبی صلی الله علیه واله وسلم واجترأ عليه ، ليلجأ الله سبحانه إلى أن يأمر نبيه صلی الله علیه واله وسلم بحجابهن ! وهذا - لعمر الله - رأي من لم يشم رائحة الإيمان .
وأما قوله : «فينبغي أن يتحرّز عن الخروج بالليل».
فإن أراد به : أنّه ينبغي أن يتحرّزن بأمر النبي صلی الله علیه واله وسلم لهن بالتحرز ،فهو راجع إلى ذلك التوجيه القبيح.
وإن أراد أنه ينبغي لهنّ أن يتحرّزن ، وإن لم يأمرهنّ النبي صلی الله علیه واله وسلم،فهو خلاف قول عائشة : حرصاً على أن ينزل الحجاب .
مع أن التحرّز غير ميسور لهنّ بعد اضطرار من إلى الخروج ، لعدم وجود الكنيف في دار النبي حينئذ وإلا لما خرجن .
وأما ما ذكره ... الحديث ، وتشدّق به الخصم من نزول آية الحجاب عقيب فعل ،عمر، فكذب ظاهر اختلقه القوم تلافياً لما فرط من عمر ، فإنّ آية الحجاب نزلت قبل ذلك ، بدليل مارواه البخاري في تفسير سورة الأحزاب عند ذكر آية الحجاب عن عائشة ، قالت : «خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت أمرأةً جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، الخطاب ، فقال : يا سودة ! والله ما تخفين علينا ، فانظري
ص: 268
كيف تخرجين ؟
اللهُ: قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلی الله علیه واله وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق فدخلت ، فقالت : يا رسول الله ! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي فقال لي عمر كذا وكذا .
قالت : فأوحى الله إليه ، ثمّ رفع عنه ، وإنّ العرق في يده ماوضعه ،فقال : إنّه قد أذِنَ لَكُنْ أنْ تَخرُجْنَ لحاجتكن»((1)).
ومثله في كتاب السلام ((2)) .
وهو صريح بأن ما صدر من عمر كان بعد نزول الحجاب ، كما هو دال على أن الله سبحانه أوحى في الحال إلى نبيه صلی الله علیه واله وسلم بجواز خروجهن رضاً بفعل سودة، ورداً لعمر ، وهو كافٍ في تأنيبه وتوبيخه ، ولو أنبه النبی صلی الله علیه واله وسلم صريحاً ، أو عاقبه بما هو حقه ، لم يأمن منه ومن بعض خواصه أن يأفكوا على سودة ، كما أفكوا على مارية ، لأنه لم يفعل ما فعل شفقة على سودة وطلباً لسترها، وإلا لنبهها بطريق جميل .
وهلا فعل مثل ذلك مع ابنته ، إذ كانت تخرج كما تخرج سودة ، بل يلزمه أن يفعل ذلك مع ابنته خاصة، ليعلم صدق نيته وصحة ما يقوله قومه .
هذا ، ويدل - أيضاً - على كذب دعوى نزول آية الحجاب في قصه سودة أخبارهم المستفيضة بنزولها في قصة تزويج النبي صلی الله علیه واله وسلم بزينب بنت جحش ، والآية أنسب بهذه القصّة.
وروى البخاري في تفسير سورة الأحزاب عن أنس ، قال : «لما تزوج
ص: 269
رسول الله صلی الله علیه واله وسلم زينب ابنة جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلمّا قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلی الله علیه واله وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثمّ إنّهم قاموا ، فجئت فأخبرت النبي صلی الله علیه واله وسلم أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله :«يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ...»((1))((2)) الآية .
وتَيَمَّتُها :«إلّا أن يؤذن إلى طعام غير ناظرين إناء ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب»((3)).
وروى البخاري نحو هذا الحديث من عدة طرق في المحل المذكور وغيره ((4)) .
ومثله مسلم في «كتاب النكاح»((5)).
وبهذه الأخبار يعلم كذب ما روى عن عمر - أيضاً - كما في البخاري في كتاب الصلاة ((6)) قال :
ص: 270
وافقت ربّي في ثلاث : قلت : يا رسول الله ! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت«واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى»((1)) .
وآية الحجاب ، قلت : يا رسول الله ! لو أمرت نساءك أن يحتجبن ، فإنّه يكلّمُهن البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب ((2)) ، ... الحديث .
ص: 271
قال المصنف - طاب ثراه -((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين في مسند جابر بن عبد الله - من المتفق عليه - قال جابر: «إنّ أباه قتل يوم أحد شهيداً ، فاشتد الغرماء في حقوقهم ، فأتيت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم وكلمته ، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحلوا أبي ، فلم يوافقوا، فلم يعطهم رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثمرة حائطي ولم يكرههم ، ولكن قال : سأغدو عليكم .
فغدا علينا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم حين أصبح فطاف في النخل ، ودعا في ثمرها بالبركة، فَجَذَذْتُها فقضيتُهُمْ حقوقهُمْ ، وبقي لنا من ثمرها بقيّة، ثمّ جئت إلى رسول الله صلی الله علیه واله وسلم،فأخبرته بذلك.
فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم لعمر - وهو جالس : اسمع يا عمر !
فقال عمر: إن لم نكن قد علمنا أنك رسول الله ، فوالله إنّك لرسول الله»(2).
وهذا يدل على أنّ النبي سيّء الرأي فيه، ولهذا أمره بالسماع وأجاب عمر : إن لم نكن علمنا أنك رسول الله ، فإنّك رسول الله
ص: 272
وقال الفضل ((1)):
الصحيح في هذا الخبر أن عمر لم يكن حاضراً، وقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم جابر : أخبر عمر ؛ فأخبر جابر عمر ، فقال : نشهد أنّه رسول الله.
وسرُّ هذا الأمر بالإخبار أن عمر كان يسرّه ظهور الآيات فأمره باخباره.
وإن كان الرواية كما ذكر ، فهو أيضاً في هذا المعنى ، لا أنّ لا أنّ عمر كان في رسالة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولا أن النبي كان سيئ الرأي فيه ، نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة في حق أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.
ص: 273
وأقول :
قد روى البخاري الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله في «كتاب الهبة »((1)) .
ولا ريب أن معناه ما فهمه المصنف رحمه الله لا مافهمه الفضل ، إذ لا وجه لأن يقصد النبي صلی الله علیه واله وسلم بأمره لعمر بالسماع إدخال السرور عليه ، فإنّ حضوره وسماعه كافيان في دخول السرور عليه - لو كان ممن يستر بذلك فلا بد أن يكون أمر النبي صلی الله علیه واله وسلم له بالسماع - مع عدم الحاجه إليه - لإرادة إلزامه بالحجّة ، ولذا أجاب بأنّا إن لم نكن علمنا أنّك رسول الله ، فوالله إنك لرسول الله.
كما أنّ الأقرب في الحديث الذي ذكره الفضل - لو ثبت وجوده - هو ذلك أيضاً ، إذ لو كان المقصود إدخال السرور عليه ، للاحت عليه إمارته من إظهار الفرح ، وحمد الله تعالى ونحو ذلك ، لا مجرد الإقرار بالشهادة .
ص: 274
قال المصنّف - رفع الله درجته -((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك ، قال : إن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم مشاور حين بلغه إقبال أبي سفيان .
قال : فتكلّم أبو بكر ، فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر ، فأعرض عنه ((2)).
وهذا يدلّ على سقوط منزلتهما عنده ، وقد ظهر بذلك كذب من اعتذر عنهما في ترك القتال ببدر ، بأنهما كانا ، أو أحدهما في العريش يستضيء برأيهما ، فمن لا يسمع قولهما في ابتداء الحال ، كيف يستنير بهما حالة الحرب ؟
وقد اعترض أبو هاشم الجبائي فقال : أيجوز أن يخالف النبي صلی الله علیه واله وسلم فيما يأمر به .
ثمّ أجاب فقال : أما ما كان على طريق الوحي ، فليس يجوز مخالفته على وجه من الوجوه .
وأما ما كان على طريق الرأي ، فسبيله سبيل الأئمة في أنه لا يجوز أن يخالف ذلك حال حياته، ويجوز بعد وفاته .
والدليل على ذلك أنّه أمر أسامه بن زيد أن يخرج بأصحابه في الوجه الذي بعثه فيه، فأقام أسامة وقال : لم أكن لأسأل عنك الركبان ، وكذلك أبو بكر استرجع ، عمر ، ولا كان لأبي بكر استرجاع عمر((3)).
ص: 275
وهذا قول بتجويز مخالفة النبي صلی الله علیه واله وسلم، والله تعالى قد أمر بطاعته وحرّم مخالفته، ثمّ كيف يجيب بجواز المخالفة بعد الموت لا حال الحياة ، ويستدلّ عليه بفعل أسامة وأبي بكر وعمر ، ومخالفتهم كانت في حياة الرسول صلی الله علیه واله وسلم؛ ولهذا قال ؛ ولهذا قال أسامة : لم أكن لأسأل عنك الركبان .
وهذا يدلّ على المخالفة في الحياة وبعد الموت ، فأي وقت يجب القبول منه ؟! وكيف يجوز لهؤلاء القوم أن يستدلوا على جواز مخالفة الرسول بفعل أسامه وأبي بكر وعمر ؟!
ص: 276
وقال الفضل ((1)):
كانت واقعة بدر من غير عزم من رسول الله صلی الله علیه واله وسلم على القتال . وخرج ليتلقى عِيرَ أبي سفيان ، فلما علم قريش بخروجه خرجوا عازمين على القتال ، وكان صلی الله علیه واله وسلم بايع الأنصار وبايعوه على أن يحموه في المدينة ، ويدفعوا عنه بما يدفعون به عن عيالهم ، ولم يبايعوا على أن يقاتلوا معه في أي وقت كان .
فلما خرج قريش ، وسمع رسول الله صلی الله علیه واله وسلم بخبرهم ، أراد أن ينظر أن الأنصار يوافقونه إن قاتل أو لا يوافقونه ؛ لأنّهم لم يبايعوا على الخروج معه إلى العدوّ ، فاستشار الأصحاب ، وقال : أيها الناس ! ما الرأي ؟
فقال أبو بكر : الرأي الخروج إليهم والمقاتلة معهم ، فأعرض رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.
وكذا عمر قال : الرأي الخروج، فأعرض رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.
وَسِرُّ الإعراض أنّه يريد الأنصار يتكلمون في هذا الأمر ، فإنّه كان من المعلوم أن أبابكر وعمر يوافقانه في القتال، والغرض استفسار حال الأنصار ليعلم ما عندهم من الرأي .
ولهذا لما تكلّم مقداد بن الأسود بالكلام الدال على الموافقة ، أعرض وقال : يا أيها الناس ! ما الرأي ؟
فقام إليه سعد بن معاذ وقال : كأنك تريدنا يا رسول الله ؟
ص: 277
قال : نعم .
قال : بايعناك ونوافقك في القتال .
وقال ما قال ، فسر بذلك رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وسار إلى قريش ، وهذا سرّ الإعراض.
وهذا الرجل إما جاهل بالأخبار أو متجاهل للتعصب ، نعوذ بالله منه ، وهذا الإعراض لهذا الأمر، لا لمنع أن يستنير رسول الله في العريش برأي أبي بكر .
وحاصل الكلام : أن هذا الرجل ما يدعى ؟ أيدعى أن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم لم يكن يشاور أبا بكر ولا عمر في الأمور ، فهذا أمر باطل ودعوى كاذبة ، مخالفة للتواتر المعلوم ؛ لأن أبا بكر وعمر كانا وزيري رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولم يصدر رسول الله صلی الله علیه واله وسلم عن أمر إلا برأيهما ، ومن خالف هذا فهو مكابر للمعلوم بالتواتر، ولما هو جار مجرى الضروريات من الدين .
وما ذكر من أبي هاشم من جواز مخالفة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فهذا مذهب لم يقل به أهل السنة والجماعة ، والمذهب أنّه لم يجز مخالفة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم في حال حياته ولا بعد موته .
نعم، يجوز أن يقال له فيما لا يكون بطريق الوحي : افعل كذا ولا تفعل كذا على سبيل المشاورة، لأنّ الله تعالى قال:«وشاورهم في الأمر»((1))، والمشاورة لأجل أن يقال : افعل ولا تفعل، وإلا فما فائدة المشاورة ، كما كان يفعل عمر، فإن وافق ذلك القول رأي النبي صلی الله علیه واله وسلم فذاك ، وإلا يجب الرجوع إلى أمره وموافقته وطاعته فيما أمر ونهى .
ص: 278
وأقول :
يرد عليه أمور :
الأوّل : إنّ ما زعمه من إشارة أبي بكر وعمر بالخروج والمقاتلة كذب صريح لا أثر له في أخبارهم ، ومخالف لما نطقت به رواياتهم ، من قولهما : إنها قريش ،وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت ، فتأهّب لهم يا رسول الله ، وقولهما : بلغنا أنّهم كذا وكذا ، كما سبق نقله عن «الدر المنثور في آخر مآخذ أبي بكر ((1)).
فإنّ ذلك دال على إشارتهما بترك الحرب ، وترهيب النبي صلی الله علیه واله وسلم والمسلمين من قتال قريش بكثرتهم، وعدم دخول الذلّ عليهم أصلاً ، فيلزم ترك حربهم إلى وقت التأهب .
فحينئذ يعلم أن إعراض النبي صلی الله علیه واله وسلم عنهما - كما رواه مسلم في باب غزوة بدر من كتاب الجهاد ((2)) ، وأحمد في مسنده ((3)) - إنما هو لسوء قولهما ، لا لأنّه يريد الأنصار كما زعمه الفضل .
صَدَّ اللهُ ولذا سُرِّيَ عن النبي صلی الله علیه واله وسلم بقول المقداد، وسُرّ به، ولم يعرض عنه ، وهو من المهاجرين ، كما ستعرف .
نعم، جاء في رواية الزمخشري الآتية : أنهما قاما فأحسنا ، ولعله من حيث طلبهما التأهب لقتال قريش ؛ لضعفهم فعلا عن حربهم، و الا فلم
ص: 279
تؤثر عنهما كلمة حسنة في المقام .
وما زعمه الفضل من أنّ الأنصار لم يبايعوا على الخروج للحرب ،فمنقوض بالمهاجرين ، فإنّهم لم يبايعوه - أيضاً - على ذلك.
وقد كان خطاب النبي صلی الله علیه واله وسلم عاماً للجميع ، فأجابه كل من المهاجرين والأنصار حتى أجابه المقداد بعد سعد بن عبادة ، كما في رواية الزمخشري الآتية .
ولو كان يريد الأنصار لما أجابه المقداد بعد سعد، إذ لا يمكن أن يخفى عليه إرادة النبي صلی الله علیه واله وسلم للأنصار ، ويظهر للفضل وأشباهه ، فإذا كان الشيخان على ذلك الرأي غير المرغوب به للنبي صلی الله علیه واله وسلم في أوّل الحال ، فكيف يستنير برأيهما في ثاني الحال .
الثاني : إن ما ذكره من إعراض النبي صلی الله علیه واله وسلم عن المقداد أكذب من سابقة.
روى البخاري في غزوة بدر في أوّل الجزء الثالث من صحيحه عن ابن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحبّ إليَّ ممّا عُدل به ((1)).
أتى النبي صلی الله علیه واله وسلم فقال : لا نقول كما قال قوم موسى :«إذهب أنت وربك فقاتلا»((2))، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك
ص: 280
وخلفك ، فرأيت النبي صلی الله علیه واله وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله - »((1)).
وروى البخاري - أيضاً - في تفسير سورة المائدة من كتاب التفسير عند ذكر قوله تعالى :«فاذهب أنت وربك فقاتلا ...»الآية .
أنّه قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ! إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :«فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون».
ولكن امض ونحن معك ، فكأنّه سُرِّي عن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم»((2)) .
ونقل السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى :«كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق ...»((3))الآية .
عن ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي أيوب ، قال في حديث له : «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما تَرَوْنَ في القوم ، فإنّهم أخبروا بمخرجكم ؟ فقلنا : يا رسول الله ! لا والله، ما لنا طاقة بقتال القوم ،إنما خرجنا للعير .
ثمّ قال : ما ترون في قتال القوم ؟ فقلنا : مثل ذلك.
فقال المقداد : لا تقولوا كما قال اصحاب موسى لموسى :«إذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون»((4)) ... الحديث .
وروى الزمخشري في الكشاف : أنّه نزل جبرئيل فقال : يا محمد ! إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إمّا العير، وإمّا قريشاً، فاستشارالنبی صلی الله علیه واله وسلم أصحابه وقال : ما تقولون ؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على
ص: 281
كلّ صَعْب وذَلُولٍ ، فالعيرُ أحبُّ إليكم أم النفير ؟
قالوا : بل العير أحبّ الينا من لقاء العدو .
فتغير وجه رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثم ردّد عليهم ، فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل .
فقالوا : يا رسول الله ! عليك بالعير ودع العدو .
فقام عند غضب النبي صلی الله علیه واله وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثمّ قام سعد بن عبادة ، فقال : أنظر أمرك فامض ، فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلّف عنك رجل من الأنصار .
ثمّ قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله ! امض لما أمرك الله فإنّا معك حيثما أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى :«إذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون»((1)).
ولكن : اذهب أنت ورتك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، مادامت تطرف.
فضحك رسول الله صلی الله علیه واله وسلم»((2))الحديث .
إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة ((3)).
الثالث : إن ما ذكره من حاصل الكلام قد أهمل فيه الشق الثاني الذي هو مراد المصنف رحمه الله ، أعني أن النبي صلی الله علیه واله وسلم لم يعتبر رأيهما ، وإن عمتهما المشورة كما هو صريح كلام المصنّف ومحل دليلة .
ص: 282
ولو فرض أنّه أراد ما ذكره الخصم فهو لا يضر المصنف رحمه الله الأن مشاورتهما وأشباههما إنّما هي للتأليف كما مر مراراً ، وقد عرفت أيضاً سخافة دعوى وزارتهما ، وضلالة القول بأنّه لا يصدر إلا عن رأيهما .
وأما ما زعمه من التواتر فهو كسائر مزاعمه الكاذبة التي لا يخفى حالها حتى على الجهال .
نعم ، المعلوم هو تدخلهما بما ليس لهما التدخل فيه، ولا سيّما عمر ، فيعرض النبي صلی الله علیه واله وسلم تكرماً وتأليفاً .
الرابع : إنّ ما زعمه من مخالفة قول أبي هاشم لمذهبهم مخالف لما قاله سابقاً ؛ إن لعمر منصب الاعتراض والمعارضة عند النبي صلی الله علیه واله وسلم، كما عرفته في قصة رمي عمر للنبي صلی الله علیه واله وسلم فيما عزم عليه ، إعراضاً عن قوله سبحانه:«يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم»((1)) .
وقوله تعالى :«لا تقدموا بين يدي الله ورسوله»((2)).
وقوله تعالى :«أطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين»((3)).
إلى نحوها من الآيات الكريمة .
وأما قوله :«المشاورة لأجل أن يقال : افعل ولا تفعل»
فصحيح ؛ لكن لا لحاجة برسول الله إلى ذلك ، فإنّه غني بتعليم الله وإرشاده ، بل للتأليف وحسن العشرة ، كما عرفته في صحيح الآية .
ثمّ إنّ الفضل قد تغافل عما ذكره المصنف رحمه الله من قصة بعث أسامة
ص: 283
ومخالفة القوم للنبي صلی الله علیه واله وسلم، إذ لا مندوحة له عن الالتزام بأنها تقضي بجواز مخالفة النبي صلی الله علیه واله وسلم في مذهبهم حتى حال حياته .
ص: 284
قال المصنّف - أنار الله برهانه -((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين قال : قال النبي صلی الله علیه واله وسلم رأيتني دخلت الجنّة فإذا أنا بالرميصاء ((2)) - امرأة أبي طلحة - فسمعت خفقةً ، فقلت : من هذا ؟
فقال : هذا بلال .
فرأيت قصراً بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا ؟
فقال : لعمر بن الخطاب.
فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك فوليت مدبراً .
فبكى عمر ، وقال : عليك أغار يا رسول الله ؟ ! ((3))
وكيف يجوز أن يرووا مثل هذا الخبر ؟ !
وأي عقل يدل على أن الرميصاء وبلالاً يدخلان الجنّة قبل النبي صلی الله علیه واله وسلم؟
قوله : «ذكرت غيرتك» ، يعطي أن عمر كان يعتقد جواز وقوع الفاحشة من النبي في الجنة.
ص: 285
وقال الفضل ((1)) :
في هذا الفصل استدل بأشياء ينبغي أن يضحك عليه الضاحكون ، ويبكي عليه الباكون ؛ فإنّه قال :«وأي عقل يدلّ على أن الرميصاء وبلالاً يدخلان الجنّة قبل النبي صلی الله علیه واله وسلم.
وهذا يدلّ على أنّه لم يفرّق بين النوم واليقظة !! ورؤيا النبي صلی الله علیه واله وسلم أنه دخل الجنّة وكان فيه الرميصاء وبلالاً ، أيوجب أنهما دخلا قبل النبي الجنّة يوم القيامة في اليقظة ؟ !
وهذا غاية الجهل ، ومما ينبغي أن يتخذه الظرفاء ضحكة
ثمّ قال : إن ماذكر رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أنه ذكر غيرة عمر يدل على اعتقاد عمر لجواز وقوع لجواز وقوع الفاحشة عن النبي صلی الله علیه واله وسلم في الجنة ، وهو يعلم أن الجنّه لا يكون فيه الفاحشة ، وهذا أمر من أمور الرؤيا، وهل يثبت به شيء ؟!
وقد اتفق أن رسول الله ذكر غيرة عمر في الرؤيا ، ثم حكاه له .
ومن كان من أهل الرؤيا يعلم أنّه يتفق الآراء والخيالات للرائي ممّا شاهده وعلمه في اليقظة ، ثمّ إنّ عمر أجاب : بأنّي أغار عليك يا رسول الله !ولم لم يجعل هذا جواباً لدفع اعتقاد جواز الفاحشة ؟
وبالجملة : ذهب التعصب بهذا الرجل مذهباً عجيباً حتى الحق بالجهال وأهل المضاحك ، نعوذ بالله من سوء التعصب والجدال بالباطل .
ص: 286
وأقول:
لا شبهه عندنا أن رؤيا الأنبياء حق ، لأنّها من الوحي ، ويشهد له ما رواه الحاكم في«المستدرك» في كتاب التفسير وصححه هو والذهبي في«التلخيص » ، على شرط الشيخين عن ابن عبّاس ، قال : رؤيا الأنبياء وحي ((1)) .
وحينئذ، فإن وافقنا القوم على هذا، فقد لزمهم كلّ ما أورده المصنف رحمه الله ، وإن خالفونا وقالوا : إنّها من الخيالات المصيبة تارةً والمخطئة أخرى ، فلا معنى لذكر هذه الرواية ونحوها في فضائل عمر ، كما فعل القوم ، ومنهم الخصم ، فيما سبق .
ولو نظرت إلى مارواه البخاري ومسلم في فضائل عمر ، لرأيت الكثير منها على هذا النحو من الخرافات ((2)).
وأما قوله : إن عمر أجاب بأنّي عليك أغار ... إلى آخره ، فخطأ ؛لأن رؤيا النبي صلی الله علیه واله وسلم- بناء على صحتها - أصدق من قول عمر .
ص: 287
قال المصنّف - قدس سره ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين : أن عمر قال قال - يوم مات رسول الله صلی الله علیه واله وسلم- : والله، ما مات محمد ولا يموت حتى يكون آخرنا ((2)).
وفيه عن عائشة من إفراد البخاري : أنّ رسول الله صلی الله علیه واله وسلم مات وأبوبكر بالسُّنح ((3)) - يعني بالعالية - فقام عمر يقول : والله ، ما مات رسول الله قالت : وقال عمر : ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي قوم وأرجلهم .
فجاء أبو بكر، فكشف عن وجه رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وعرفه أنه قد مات(4).
وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين اعتذار عمر عن ذلك من إفراد البخاري ، عن أنس : إنّه سمع خطبة عمر بن الخطاب الأخيرة حين جلس على منبر رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وذلك في الغد من يوم توفّي رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم .
ص: 288
وقال عمر : فإنّي قلت لكم أمس مقالة ما كانت في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي سول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولكن أرجو أن يعيش حتى يَدْبُرَنا ((1)) ((2)) .
وهذا اعتراف منه صريح بأنّه تعمد قول ما ليس في الكتاب ولا في سنة النبی صلی الله علیه واله وسلم، وأنّه كان مخطئاً فيه ، ثم اعتذر بأنه رجا أن يعيش النبي صلی الله علیه واله وسلم في زمانه ويَدْبُرَهُ ، وكلّ هذا اضطراب .
ص: 289
وقال الفضل ((1)) :
قد سبق الجواب عن هذا الاعتراض ((2)) ، وأن عمر اعتراه حالة مدهشة لموت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أغفله عن جواز الموت ، فإن المحب المفرط التائه لا يجوز موت حبيبه ، ويضطرب وينكر ،موته ، وهذا من تجاهل العارف لفرط الدهشة .
ثمّ لما سكن اضطرابه اعتذر بما اعتذر ، واعترف بأنّه أخطأ في عدم جواز الموت، والاعتذار عن الخطأ صواب عند أولي الألباب.
ص: 290
وأقول :
قد مرّ ما فيه في مآخذ عمر عمر ((1)) ، وأنّ دعوى الدهشة لا تناسب الإسراع إلى السقيفة والعمل الذي عمله عمر بها، والتزوير الذي زوّره بنفسه لأجلها ، ودعوى فرط المحبة لا تجامع إيذاء النبي صلی الله علیه واله وسلم المشجية ، بنسبة الهجر إليه في وجهه ، واللغط عنده ، ورد أمره بأسوأ ردّ ، ولا تجتمع مع الإعراض عن دفنه أياماً.
ومن العجب قوله :«وهذا من تجاهل العارف» فإن التجاهل إنّما يحصل من الملتفت ، ولذا أضيف إلى العارف .
وقد زعم أن عمر اعترته حالة مدهشة أغفلته عن جواز الموت على النبي صلی الله علیه واله وسلم، فكيف تكون تجاهلاً ؟
والحق أن كلامه من عَمْد العارف ؛ لعدم اندهاشه - كما عرفت - ولعلمه يقيناً قبل موت النبي صلی الله علیه واله وسلم بأنه يموت ؛ لأنه نعى نفسه الشريفة إليهم مراراً عديدة، وقد تخلف عمر وأصحابه عن جيش أسامة انتظاراً لوفاته صلی الله علیه واله وسلم.
ونسبه إلى الهجر ، وقال : حسبنا كتاب الله علماً بمماته ، وإنّما حكم بعدم موت النبي صلی الله علیه واله وسلم، خوفاً من وقوع البيعة لأمير المؤمنين قبل حضور أبي بكر من السُّنح ، فقال تلك المقالة ليشغل الناس عن التوجه إلى بيعة علي علیه السلام إلى أن يحضر أبو بكر ويتفقا مع أعوانهما ، كما سبق توضيحه في
ص: 291
مآخذ عمر .
ثم إن المصنف رحمه الله هنا أخذ على عمر حصول الاضطراب في أقواله ؛لأنه حلف - أولاً - إنّه ما مات رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وهو دليل التيقن به .
ثم اعترف أنّه قال عن غير مستند ، وإنما رجا رجاء .
وقول الفضل اعترف بأنّه أخطأ ، والاعتذار الخطأ صواب ، غير صالح لأن يكون جواباً عن مؤاخذة المصنف ، لأن الاعتذار عن الخطأ إنما يكون صواباً مقبولاً إذا كان اعترافاً بالخطأ ، لا بتوجيه ما فرط منه بالرجاء الذي لا يناسب وقوع اليمين منه في السابق.
ص: 292
قال المصنّف - طاب ثراه- ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أبي هريرة قال : كان رسول الله صلی الله علیه واله وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ، فيقول :
من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر.
فتوفي رسول الله صلی الله علیه واله وسلم والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ((2)).
ثمّ روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أبي هريرة - المتفق على صحته - عن عبد الرحمن بن عبد الباري((3)) ، قال : خرجت مع عمرليلاً في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهط.
فقال عمر : لو جمعت هؤلاء على قار واحد لكان أمثل .
ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب.
قال : ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم .
فقال عمر : بدعة ، ونعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوّله ((4)).
فلينظر العاقل وينصف ، هل يحل لأحد أن يبتدع بدعة
ص: 293
ويستحسنها ؟ !
وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم: كل بدعة ضلالة ((1)).
ويقول عمر : إنّها بدعة ونعمت البدعة ، ويأمر بها ويحثّ عليها
وكيف استجاز لنفسه أن يأمر بما لم يأمر الله ولا نبيه به ؟
أتراه أعلم منهما بمصلحة العباد - معاذ الله تعالى - أو أن النبي صلی الله علیه واله وسلم كتمه - نعوذ بالله منه - أو أنّ المسلمين في زمان النبي صلی الله علیه واله وسلم وأبي بكر أهملوا ؟ ! وقد قال النبي صلی الله علیه واله وسلم:«من أحدث في ديننا ماليس منه فهو رد»((2)).
ورواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلی الله علیه واله وسلم يصلي في رمضان ، فجئت وقمت إلى جنبه ،وجاء رجل آخر فقام أيضاً حتّى كنا رهطاً .
فلما أحسّ النبي صلی الله علیه واله وسلم بنا خلفه ، جعل يتجوز في الصلاة ، ثم دخل رَحْلَهُ فجعل يصلي صلاة لا يصليها عندنا.
قال : فقلنا له حين أصبحنا : أفطنت لنا الليلة ؟
فقال : نعم، وذلك الذي حملني على الذي صنعت ((3)).
ص: 294
فإذا كان النبي صلی الله علیه واله وسلم امتنع أن يكون إماماً في نافلة رمضان ، ومنع من الاجتماع فيها ، فكيف جاز لعمر أن يخالفه ، ومع ذلك يستمر أكثر المسلمين عليه ويهملون ما فعله النبي صلی الله علیه واله وسلم هذا يشهد على نفسه أنّه ابتدعه ، ومع وأبو بكر ؟ !
ص: 295
وقال الفضل ((1)) :
قد سبق هذه المباحثة ((2)) ، وذكرنا من روايات الصحيح أن رسول الله ذلك يستمر أكثر المسلمين عليه ويهملون ما فعله النبي صلی الله علیه واله وسلم صرح بأنه يخشى أن يفرض عليهم الجماعة في قيام رمضان فلايطيقونه ، ولهذا ترك الجماعة.
وكان أوّلاً يصلّى الجماعة ولما كان في زمن عمر ارتفع ذلك المحذور ؛ لانقطاع الوحي ، فجمع في القيام ، وجمع الناس ؛ لئلا تفوت عليهم فضيلة القيام ، ووقع الإجماع على الجماعة .
وأيضاً ذكرنا أنّ البدعة لفظ مشترك ، قد يقال ويراد به : ما يخالف أصول الشرع ، ومنه : البدعة ضلالة.
وقد يقال : ويراد به : ما ابتدع في الشرع ، ويكون موافقاً للأصول الصحيحة الدينية ، وبهذا المعنى قد يكون مندوباً وقد يكون مباحاً ، وما ذكرعمر أنّها بدعة ونعمت البدعة فبهذا المعنى .
ص: 296
وأقول :
سبق ما فیه فی ماخذ عمرمفصلاً ((1)) ، وبالجملة : يستفاد من كثير من أخبارهم وأقوالهم أنّ التراويح ليست من سُنّة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، بل من بدع عمر وأولياته ، ولا يدفع الطعن منه الخلاف ؛ لأنّه من أخبارهم ومحلّ التهمة ، ونحن لا نعرف عبادةً مبتدعة وهي سُنّة ، بل لا يمكن لاعتبار التقرّب وقصد الامتثال في العبادة، ومع فرض الابتداع ، لا أمر حتى تكون مسنونة ومقصوداً بها الامتثال ، وليس عندنا أصل ديني يقتضي جواز الجماعة وترك الفاتحة في النافلة ، مع قوله : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب »((2)).
ولو سلّم أن الجماعة في نافلة رمضان غير محرّمة ، فلا شك باستفادة مرجوحيتها من أخبارهم، ومفضولية النافلة في المسجد عن في البيت ، فإذا فضّل عمر التراويح وكونها في المسجد كان مبدعاً ، وهو كاف فى الطعن به.
ص: 297
قال المصنّف - قدّس سرّه- ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن أبي سلمة ((2)) وجابر قالا : كنا في جيش فأتانا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، قال : قد أُذن لكم أن تستمتعوا متعة النساء ((3)).
فاستمتعنا ؛ يعني وفيه في مسند عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله ليس معنا نساء ، فقلنا: ألا نستمني ((4)) ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله :«يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ...»((5))((6)).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أبي موسى الأشعري ، عن إبراهيم بن أبي موسى: أن أباه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ؛ فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في
ص: 298
النسک.
فلقيه بعد ذلك فسأله ، فقال عمر : قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا مُعرَّسين بين الأراك ((1)) ، ثمّ يروحوا في الحج تقطر رؤوسهم ((2)).
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند عمران بن حصين متعة الحج - وقد تقدّم لعمران بن حصين حديث في متعة النساء أيضاً ((3)) - قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ، وفعلناها مع رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولم ينزل قرآن يُحرمها، ولم ينه عنها رسول الله صلی الله علیه واله وسلم حتى مات ، وقال رجل برأيه ما شاء .
قال البخاري ومسلم في صحيحهما : إنّه عمر ((4)).
وهذا تصريح بأنّ عمر قد غير شرع الله وشريعة نبيه في المتعتين وعمل فيهما برأيه ، وقال الله تعالى:«ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ...»((5)).
فإن كانت هذه الروايات صحيحة عندهم فقد ارتكب عمر كبيرة ، وإن كانت كاذبة ، فكيف يصححونها ويجعلونها من الصحاح ؟!
ص: 299
وقال الفضل ((1)) :
قد سبق أن متعة النساء كانت على عهد رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثم أبيحت ، واختلف في أنّه تقرّر الأمر على الحرمة أو الإباحة ، والنص يقتضي الحرمة كما ذكرنا ((2)).
وأكثر العلماء على الحرمة ، وبعض الصحابة كانوا يقولون : بالإباحة ، ولكن الأكثرون تابعوا رأي عمر ، وإليه ذهب الأئمة الأربعة وسائر أصحاب الحديث ، ومن اعترض من الصحابة على عمر لم يبلغه أن الأمر تقرّر على الحرمة ، فأي ذنب يتصوّر فيه لعمر حتى يقول : إنّه فعل كبيرة ، نعوذ بالله
من هذه الاعتقادات.
ثمّ ما ذكر في متعة الحج فقد ذكر نهي عمر وأنه نهى عن وأنه نهى عن المتعة ، فإن للإمام المجتهد أن يختار طريقاً من الطرق المتعدّدة التي جوزها الشريعة ، والحج ينعقد بثلاثة طرق : بالإفراد والقرآن، والتمتّع ، فكان لعمر أن يختار القرآن والإفراد ، وينهى عن المتعة لمصلحة رآها ، وهذا لاينافي كونه جائزاً ، فإن المباح قد يصير منهياً عنه ؛ لتضمنه أمراً مكروهاً ، وللإمام النهي عنه.
وأيضاً يحتمل أن عمر سمع من رسول الله شيئاً في المتعة فعمل بما سمع هو بنفسه ؛ لأنّ الدليل عنده يقيني ، وأمثال هذا لا يعد من الكبائر ، كما عده هذا الرجل وأساء الأدب .
ص: 300
وأقول :
قد سبق ما فيه في مآخذ عمر فراجع ((1)).
والعجب أنّ الخصم قد تنصل قريباً من تجويز مخالفة ما يقوله النبي صلی الله علیه واله وسلم على سبيل الرأي فضلاً عن الوحي، وهنا يسوغ لعمر أن يجتهد في مقابلة نص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين فيحرم متعة الحج الجائزة بالنصّ إلى الأبد لمصلحة رآها ، فكأنّه لم يسمع قوله تعالى :«ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»((2)).
وليت شعري ، أي مصلحة علمها عمر في تحريم متعة الحج وجهلها الله ورسوله ؟! وأي مكروه عثر عليه فيها دونهما ؟ !
أو أي شيء سمعه من النبي صلی الله علیه واله وسلم فيها، وقد تواتر عنه أنها حلال إلى الأبد ؟ ! فانظر واعجب .
ص: 301
قال المصنّف - رفع الله مقامه ((1)) :
وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي موسى الأشعري قال : دخل عمر على حفصة وأسماء عندها ، فقال حين رأى أسماء : من هذه ؟
قالت : أسماء بنت عُميس .
قال عمر : الحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟
فقالت أسماء : نعم .
فقال عمر : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم .
فغضبت وقالت : كذبت یا عمر ! کلا والله ، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو أرض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله ورسوله ، وأيم الله ، لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك الرسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وأسأله ، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك .
قال : فلما جاء النبي صلی الله علیه واله وسلم قالت : يا نبي الله ! إن عمر قال كذا وكذا .
فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم: ليس بأحق بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ((2)) .
وهذا نص من النبي صلی الله علیه واله وسلم في تخطئته وتفضيل هجرة المرأة على هجرته ، وأنّها أحق برسول الله منه ، وليس لهذه المرأة الخلافة فلا تكون له.
ص: 302
وقال الفضل ((1)):
هذا الفصل أيضاً ذكر فيه أموراً عجيبة تدلّ على عدم فهمه معاني الأخبار، فإن المراد بقول النبي صلی الله علیه واله وسلم:« ليس بأحق بي منكم : تفضيل أهل الهجرتين على أهل الهجرة الواحدة، لاتفضيل أسماء على عمر ، كما لا يخفى على كل من له أدنى معرفة .
ثمّ الاستدلال بأنّ المرأة كانت أحق برسول الله ولم تكن لها الخلافة ، فلا تكون له ، من المضاحك ، فإنّ الأحقية بمعنى الأكثرية للسعي لأجل رسول الله صلی الله علیه واله وسلم بالهجرتين ، أي نسبة لها بالخلافة ؟ !
ص: 303
وأقول :
نعم ، المراد تفضيل أهل الهجرتين على أهل الهجرة ، ولكن لما كانت أسماء من أهل الهجرتين ، وعمر من أهل الهجرة ، كانت أفضل منه بالهجرة وأحق منه بالنبي صلی الله علیه واله وسلم بحسب العموم ، بل بالخصوص والنصوصية ؛ لأنّ التفاخر في الفضل والأحقية بالنبي صلی الله علیه واله وسلم قد وقع بينهما ، والنبي صلی الله علیه واله وسلم صوبها وخطأه .
فإذا كانت أسماء أحق بالنبي صلی الله علیه واله وسلم من عمر ، وهي لا تستحق الخلافة ، كان هو أولى بعدم استحقاق الخلافة ؛ لامتناع أن يكون الأبعد عن النبی صلی الله علیه واله وسلم أولى بمنصبه.
ولا ينتقض بأمير المؤمنين علیه السلام، وإن كان من أهل ؛ الهجرة لمعلومية أحقيته بالنبي صلی الله علیه واله وسلم من وجوه عديدة ؛ كالقرابة ؛ والعلم ؛ والعصمة ، فلا بدّ من تخصيص العموم به ، بخلاف عمر ؛ للعلم بعدم أحقيته من بعض الجهات والشك في غيرها .
بل نعلم بحسب ظاهر الحديث بانتفاء الأحقية له من وجه أصلاً لإطلاق الأحقية فيه بالنبي صلی الله علیه واله وسلم الأهل الهجرتين ، فإنّه يقتضي ثبوتها لهم بلا تزاحم في جهات الأحقية .
وانتفاءها عن . هذا ، وليت شعري ، كيف يرى القوم مقاماً وفضلاً لرجل يحسد امرأة ويذمّها بقوله : الحبشية البحرية ، ويفتخر عليها حتى كذبته وخصمته بحجتها القويمة ، وقول النبي الكريم صلی الله علیه واله وسلم؟! فمن كان بهذه المثابة كيف يصلح للزعامة العامة لولا إقبال الدنيا ؟
ص: 304
قال المصنف - رفع الله درجته -(1):
وروى ابن عبد ربه في كتاب العقد الفريد في حديث استعمال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص في بعض ولايته، فقال عمرو بن العاص : « قبح الله زماناً عمل فيه عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب ، والله إني لأعرف الخطاب يحمل على رأسه حزمة من حطب وعلى ابنه مثلها ، وما ثمنها إلا تمرة لا تبلغ مضغته ((2)) .
وهذا يدلّ على انحطاط مرتبته ، ومنزلة أبيه عند عمرو بن العاص فكيف استجازوا ترك بني هاشم، وهم ملوك الجاهلية والإسلام ؟
ص: 306
وقال الفضل ((1)) :
قد علم الناس أنّ عمر كان من أشراف قريش ، من أولاد عدي بن لؤي ، وكان أُمّه مخزومية من صناديد قريش ، ولو طعن عليه عمرو بن العاص ، كان كطعنه على علي بن أبي طالب، فلا يبعد منه الطعن على الخلفاء .
ثمّ إنّ العرب كانوا يعتادون ذكر مثالبهم فيما بينهم، وليس فيه حجة على دناءة عمر ، وإن فرضنا صحته ، فهي من الدلائل على أنّه أخذ الخلافة من جهة استحقاق الإسلام وفضيلته فيه، لا من جهة النسب والحسب ،وهذا هو المدعى.
ص: 307
وأقول :
لا نعرف مِنْ زَعْمِ كونه من أشراف قريش وصناديدها إلا الدع-وى المجردة ، وقد أقرّ عمر بنفسه بما يقضي بخلاف ذلك ، كما سبق في ذيل مآخذ أبي بكر عن «الاستيعاب» و «تاريخي الطبري، وابن الأثير» وغيرها ((1)) .
كما سبق هناك - أيضاً - ما في دعوى كون أُمه مخزومية نسباً لا استلحاقاً ((2)).
وأمّا تشبيه الفضل طعن ابن العاص بعمر بطعنه بأمير المؤمنين علیه السلام، فليس في محلّه ؛ لأن طعنه بأمير المؤمنين علیه السلام له إنما هو بالمشاركة في قتل عثمان ونحوه ، لا بالخسة والدناءة ، كما طعن بعمر .
وأما قوله :«وإن فرضنا صحته ، فهو من الدلائل على أنه أخذ الخلافة من جهة استحقاق الإسلام وفضيلته» ، فممنوع ؛ لأنّه لم يأخذها إلا باجتماع قريش على عداوة علي علیه السلام وحسدهم له ، وإرادتهم صرف الأمر عنه بكل وجه ورجائهم الإمرة بعد عمر، ونيل الكثير من الدنيا في حياته مع نص،أبي بكر ((3))، وقد تشاطرا ضرعيها.
ص: 308
قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :
وفيه : خرج عمر بن الخطاب ويده على المعلى بن الجارود ، فلقيته امرأة من قريش ، فقالت له :يا عمر فوقف لها ، فقالت له :
كنا نعرفك مرّة عُميراً، ثمّ صرت من بعد عمير عمر ، ثمّ صرت من بعد عمر أمير المؤمنين، فاتق الله يا ابن الخطاب ! وانظر في أمور الناس ؛ فإنّه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت ((2)).
ص: 309
وقال الفضل ((1)) :
إن صح هذا دلّ على فضيلة من فضائل عمر، وأنه كان يقف للنساء والضعفاء ، ويتحمّل أذاهم ويسمع منهم النصيحة ، ولا طعن فيه .
ص: 310
وأقول :
ذكره في «العقد الفريد »((1)) ، وهو واضح الدلالة على ضعة ((2)) عمرحتى عرفتها النساء ، كما هو محل قصد المصنف رحمه الله.
كما يدلّ - أيضاً - على سوء رأي المرأة فيه حتى أمرته بالتقوى ؛مريدةً أن عمله على خلافها ،وأغلظت له القول .
ولا دلالة في وقوفه لها على التواضع ؛ لاحتمال شرف المرأة ، أو جريانه على العادة من الوقوف لنداء المنادي ، وإلا فسيرته على الخلاف ؛ يضرب بدرّته من لم يقم له ولم يخضع لمقامه.
ص: 311
قال المصنّف - قدست نفسه ((1)):
وقد روى أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي - وهو من رجال السنة - في كتاب «المثالب» قال:
كانت صهاك أمةً حبشية لهاشم بن عبد مناف ، فوقع عليها نفيل بن هاشم، ثمّ وقع عليها عبد العزى بن رياح ، فجاءت بنفيل جد عمر بن الخطاب ((2)).
ومن أعجب الأشياء نسبتهم الشيعة إلى السب، ولم يستجرئ الشيعة على مثل هذا القول ، ولا تعرّضوا له، وعلماؤهم يروونه ، وهذا من جملة قلة الإنصاف ، فإنّ الشيعة أقصى ما يقولون : إنّه أخذ الإمامة وهي حق أمير المؤمنين علیه السلام، وغصبه ذلك ، وهذا عالمهم قد نقل عنه ما ترى ، فأهملوا
واشتغلوا بذم الشيعة.
ص: 312
وقال الفضل ((1)) :
الكلبي كتب كتاب «المثالب» وذكر فيه مثالب العرب ، وما يرمي به بعضهم بعضاً من القدح بالأنساب ، ولا صحة له ولا دليل فيه ، وهو لم يذكر هذه لمعائب الخلفاء - كما اعتاده الشيعة - بل رواه عن مثالب قبائل العرب . ثمّ أنكحة الجاهلية - على ما ذكره أرباب التواريخ - على أربعة أوجه : منها : أن يقع جماعةٌ على امرأةٍ ، ثمّ مَنْ وُلِدَ منها يحكم فيه القائفُ ،أو تصدّق المرأة، وربما كان هذا من أنكحة الجاهلية.
وما ذكر أنّ الشيعة لا يسبّون عمر إلا بأنّه أخذ الخلافة ، ولا يقدحون فيه بشيء آخر ، فكلّ هذا الكتاب يدلّ على كذبه في هذا الكلام ، والموعد بيننا وبينه عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، إذ يؤاخذه بإيذاء أصحابه ، وذكر مطاعن أحبائه ، ثمّ يبعثه إلى جهنم وبئس المهاد .
ص: 313
وأقول :
قد روى ابن أبي الحديد نحو ذلك ((1))، فيؤيد ما ذكره الكلبي، ومجرّد عدم قصد الكلبي ذكر معائب خلفائهم - بما هم خلفاؤهم - لا يغير موضوع الثلب لهم .
وأما ما ذكره من وجوه أنكحة الجاهلية، فتمحل بارد ؛ إذ لا يبقى معه موضوع للزنا في الجاهلية ، وهو كما ترى .
نعم ، قد يلحقون الولد بتولّده من الزنا كما يلحقونه بالتبنّي ، وهو أمر آخر.
وأما تكذيبه للمصنّف رحمه الله بحجّة ما تضمنه هذا الكتاب ، فخطأ ؛ لأنّ كل ما ذكره المصنف رحمه الله فيه إنّما هو عنهم ، فهم المعاقبون به لو كان ذنباً ، على أنّ المصنف رحمه الله إنّما نفى عن الشيعة السبّ بنحو ما ذكره الكلبي ، لا بما يدل على عصيان الخلفاء الثلاثة ، وعدم صلوحهم للخلافة الإلهية فإن ذكر مثله مما لابد منه في مقام المحاجة.
وأما ما أحال عليه من الموعد ، فنحن نحيله على مثله ، وعند الساعة يخسر المبطلون .
ص: 314
قال المصنف - ضاعف الله اجره - (1):
وفي الجمع بين الصحيحين قال :
إن عمر بن الخطاب أمر على المنبر أن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره ، فذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله تعالى :
«وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً»((2)) .
فقال : كلّ أحد أعلم من عمر حتى النساء ((3)).
فلينظر العاقل المنصف، هل يجوز لمن وصف نفسه بغايه الجهل وقلة المعرفة أن يجعل رئيساً على الجميع ، وكلّهم أفضل منه على ما شهد به على نفسه ؟!
ص: 315
وأقول :
قد عرفت بطلان جوابه ((1)) ، وإنّما كرّر المصنف رحمه الله هذا الحديث ونحوه ؛ لأنه ذكره أوّلاً للطعن في عمر ؛ لبيان عدم استحقاقه للخلافة وذكره هنا للطعن فيه بما هو من الصحابة ، وللطعن بالصحابة حيث رضوا به أميراً .
ص: 317
قال المصنّف - طاب مرقده - ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي أن عمر أمر برجم أمرأة ولدت لستة أشهر ، فذكره علي علیه السلام قول الله تعال :
«وحمله وفصاله ثلاثون شهراً»((2)).
مع قوله تعالى :«والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين»((3)).
فرجع عمر عن الأمر برجمها(4).
وهذا يدلّ على إقدامه على قتل النفوس المحترمة وفعل ما يتضمن القذف .
ص: 318
وقال الفضل ((1)) :
ما أبرد هذا الحلّي الجاهل، وما أسمجه في تكراره وكودنيته ، وقد ذكرنا أنّ عمر حكم حكماً ، ثمّ ذكره عالم كتاب الله فرجع عن الحكم ، كيف يدل هذا على إقدامه وجرأته في قتل النفوس المحترمة ؟ ! نعوذ بالله من سماجة الرجل الحلّى.
ص: 319
وأقول :
لم يسبق من المصنف رحمه الله ذكر لهذا الحديث في مطاعن عمر ،وإن ذكرناه نحن عند الكلام على الخبر المتعلق بأمره برجم الحامل والمجنونة ((1)) .
نعم، ذكر المصنف نحوه في مطاعن عثمان ، وأن عثمان لم يبال بتعليم أمير المؤمنين علیه السلام له ، وما كان عنده إلا أن بعث إلى المرأة فَرُحِمَتْ ((2)).
وهذا وإن دلّ على أن عثمان أجراً على النفوس المحترمة من عمر ،وأشد مخالفة أحكام الله وعدم المبالاة بها ، لكن عمر - أيضاً - جراً عليها ؛ لاستبداده وعدم تروّيه في الحكم بقتل النفوس المحترمة ، بل تصديه للحكم فيها ، مع جهله ووجود عالم كتاب الله تعالى ، حرام ؛ لقوله تعالى :«أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتَّبَع ...»((3)) الآية .
فإنّه إذا حُرّم بحكم الآية اتباع من لا يهتدي إلا أن يهدى لم يجز له التصدّي لما حُرّم .
ثمّ إنّ هذا الحكم من عمر الذي لا يشرع له يتضمن القذف فيستحق عليه الحدّ .
ص: 320
قال المصنف - طاب ثراه - ((1)):
حمد بن حنبل في مسنده : أن عمر بن الخطاب أراد أن وروی يرجم مجنونة ، فقال له عليّ : مالك ذلك ، أما سمعت رسول صلی الله علیه و اله و سلم يقول : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يبرأ ويعقل ، وعن الطفل حتى يحتلم » ؟ !
فدرأ عمر عنها الرجم ((2)).
وذكر ابن حنبل عن سعيد بن المسيب ، قال : كان عمر يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو الحسن ؛ يعني عليّاً ((3)).
ص: 321
وقال الفضل ((1)) :
قد سبق جواب هذا ، وأنّه من الأحكام التي حكم بها إمام فذكره عالم بالمسألة فرجع ، وليس في هذا طعن، ولا شك أن الخلفاء كانوا يستمدون من العلماء ، وسيّما عليّاً ((2)).
ص: 322
وأقول :
قد عرفت ما فيه مما قبله ، ومما ذكرناه في نفس الحديث عند ذكره مآخذ عمر ((1)) ، ولا شك أن ، ولا شك أن من يحتاج إلى الاستمداد بالعلماء ، ويجهل مثل هذه الأحكام الواضحة ، ولا سيما المتعلقة بالنفوس المحترمة ، لحري بأن يكون مأموماً لا إماماً ، ومحكوماً لا حاكماً.
ص: 323
قال المصنف - زيد اجره -((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي من عدة طرق ، منها في مسند ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأبي بكر ،وسنتين من خلافة خلافة عمر الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه
عليهم(2).
فلينظر العاقل ، هل كان يجوز لعمر مخالفة الله ورسوله ، حيث جعلا الثلاثَ ،واحدةً ، ويجعلها هو ثلاثاً؟!
ص: 324
وقال الفضل ((1)) :
لم يجعل عمر الثلاث غير واحدة، بل أمرهم بالطلاق السني ؛ والطلاق السُّنّي أن لا يوقع الثلاث مرّةً واحدة، وقد اعتذر عمر عن هذا ؛ بأنّ الناس يستعجلون في أمر الطلاق ويطلقون الثلاث دفعةً واحدةً ، وهذا الطلاق البدعِي ، ولم يحكم بأن الثلاث لا تقع دفعة واحدة ، وأن ليس له في الوقوع حكم الواحدة ، ولا يفهم هذا من الحديث .
والحاصل : أنّه يجعل الواحدة في الحديث صفة للطلقة ونحن نجعلها صفةً للدفعة ؛ فمعنى الحديث :وكان الطلاق في عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقع الثلاث دفعةً واحدةً ، وهو الطلاق البدعي ، والناس لم يكونوا يمتنعون من هذه البدعة ، ويوقعون الثلاث دفعة ، فنهى عمر عن هذه البدعة .
ص: 325
وأقول :
لا يخفى ما في كلامه من التشويش والاضطراب ، فإنّه قال أولاً : «لم يجعل عمر الثلاث غير واحدةٍ ، ثمّ ناقض نفسه فقال : «ولم يحكم بأن الثلاث لا تقع دفعة واحدة»، ثمّ قال : «وأن ليس له في الوقوع حكم الواحدة»؛ أي ولم يحكم بأن ليس له في الوقوع حكم الواحدة ، وهو بمعنى كلامه الأوّل ، إلا أن يقال أنّ لفظ (لا) في قوله : «لا تقع» زائدةٌ ،فتتفق الجمل كلها بالمقصود .
وكيف كان ؟ فما ذكره في معنى الحديث لا يلائم قوله : «فلو أمضيناه عليم فأمضاه» ؛ إذ لو أراد عمر النهي عن البدعي بالمعنى الذي ذكر الفضل ، لقال : فلو نهيناهم عنه ، فنهاهم، على أنّه لا يجامع عدالة الصحابة جميعاً كما يزعمون - فإنّهم كيف يستمرون في عهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم وبعده إلى سنتين أو ثلاث من إمارة عمر على هذه البدعة بلا ناه من الصحابة عن المنكر ولا منته عنه ؟ !
بل كيف تقع هذه البدعة في عهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وتستمر في عهده ، ولا يرفعها إلى أن تجيء نوبة عمر ، فيتولى هو المنع عن هذه البدعة دون النبي صلی الله علیه و اله و سلم؟!
وما بال عمر لم ينه عنها في السنين الأول من إمارته ، ولا في أيام أبي بكر ، وهما كسلطان واحد ؟ !
على أنّه إذا كان طلاق الثلاث في دفعة واحدة بدعة، ونهى عنه عمر ، فكيف ذهب إليه علماؤهم واستمر عليه عملهم ؟! فلا إشكال أن عمرأول من أجاز طلاق الثلاث ثلاثاً ، وتبعه السُنّة ، وأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، كان
ص: 326
يجعل الثلاث واحدة، ويقول : إن غيره لعب بكتاب الله تعالى ، كما استفاضت به أخبارهم .
فقد روى مسلم في باب طلاق الثلاث عن طاووس : إن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم إنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم وأبي بكر ، وثلاثاً من إمارة عمر ؟
فقال ابن عباس : نعم ((1)) .
ونحوه - أيضاً - في صحيح النسائي في طلاق الثلاث المتفرقة ((2)) .
وروى مسلم في الباب المذكور عن طاووس : أن أبا الصهباء ، قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن طلاق الثلاث في عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأبي بكر واحدة ؟!
فقال : قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم(3).
ونحوه في الدر المنثور عن أبي داود ، والبيهقي في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة :«الطلاق مرتان ..»((4)) الآية ((5)).
ص: 327
ونقل في كنز العمال في كتاب الطلاق عن أبي نعيم عن طاووس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناةٌ فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك((1)).
ثم نقل عن أبي نعيم عن الحسن : أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: «لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ولكن أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فأَلْزِمْ كُلّ نفس ما أَلْزَمَ نفسه من قال لامرأته : أنت حرام علي فهي حرام ، ومن قال لامرأته : أنت بائنةٌ ، فهي بائنة ، ومن قال : أنت طالق ثلاثاً فهي ثلاث ((2)).
وروى الحاكم في«المستدرك»((3)) وصححه عن ابن أبي مليكة : أن أبا الجوزاء أتى ابن عبّاس فقال: أتعلم أن ثلاثاً كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلى واحدة ؟
قال : نعم ((4)).
وروى مسلم في الباب السابق ما حكاه المصنّف هنا عن الجمع بين الصحيحين ((5)).
ورواه - أيضاً - أحمد في مسنده ((6)) ، والحاكم في مستدركه ((7)).
ص: 328
ونقله في الدرّ المنثور بتفسير قوله تعالى :«الطلاق مرتان ...»(1)الآية ، عن عبد الرزاق وأبي داود والنسائي والبيهقي(2).
ونقل - أيضاً - في تفسير هذه الآية عن ابن عباس قال : «طلق ركانة امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: كيف طلقتها ؟
قال : طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد .
قال : نعم ، فإنّما تلك واحدةٌ ، فأرجعها إن شئت»((3)).
ونقل - أيضاً - في الدر المثور» عن عبد الرزاق ، وأبي داود ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، قال:«طلق عبد زيد أبو ركانة أُمّ ركانة ... إلى أن قال : قال راجع امرأتك أم ركانة.
فقال : إنّي طلقتها ثلاثاً يا رسول الله !
قال : قد علمت وتلا:«يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لِعِدَّتِهِنَّ»((4))((5))».
وروى النسائي في صحيحه تحت عنوان «الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ عن محمود بن لبيد ، قال : «أخبر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضباناً ، ثم قال : أيُلْعَبُ بكتاب
ص: 329
الله وأنا بين أظهركم ؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ! ألا أقتله ؟»((1)).
ونحوه في «الكشاف» بتفسير سورة الطلاق ((2)).
وقد أشار رسول صلی الله علیه و اله و سلم بقوله :«أيُلْعَبُ بكتاب الله ؟ ... إلى قوله تعالى:«الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ...»((3)) الآية .
فإن قوله سبحانه :«الطلاق مرتان يدلّ على اعتبار الرجوع بعد الطلقة الأولى لتقع الطلقة الثانية ، ويصدق المرتان ، فإن الطلاق هو الفراق ورفع عُلْقَةِ الزوجية ، وبالضرورة لا ترتفع العُلقة مرتين إلا بالرجوع بعد الطلقة الأولى ، وكذا يعتبر الرجوع بعد الثانية ؛ لتقع الثالثة ، فتحرم بعدها .
كما قال سبحانه:«فإمساك»؛ أي رجوع بعد الطلقتين ،«بمعروف أو تسريح بإحسان»؛ أي بطلاقها مرة ثالثة«فإن طلقها»أي ثالثة ،«فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره».
فالحلّ المنفي هو ما كان بعد الطلقة الثالثة المسبوقة بالطلقتين ، فلا تحرم بالطلاق ثلاثاً مجتمعة .
فليت شعري ، إذا كان الكتاب دالاً على ذلك ؛ بحيث سمى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم خلافه لعباً بكتاب الله ، وصرّحت به السنة مع علم عمر ،جاز له مخالفتهما ؟
وكيف صح للقوم أن يتخذوه إماماً ويتبعوه في أقواله وأفعاله ، وقد قال سبحانه :«ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين *
ص: 330
ثمّ لقطعنا منه الوتين»((1)) ؟ !
فهل يَرَوْنَ أنّ الله سبحانه هدّد سيد رسله بهذا التهديد على التقول عليه ، وأطلق لعمر ماشاء هواه ، بل هو ليس من التقوّل على الله تعالى ، وإنّما هو من القول في عرض الله وفوق الله ، ولذا اتبعوه دونه في هذا الحكم .
ولا يكاد ينقضي العجب من هؤلاء القوم ، إذا نظر المتأمل في هذا المقام وأشباهه .
ثمّ إنّ قول الخصم : والطلاق السنّي أن لا يوقع الثلاث مرّة واحدة مخالف لقول مذهبه الشافعي ؛ فإنّه يرى أنّ طلاق الثلاث دفعة واحدة من الطلاق السنّي ، كما حكاه عنه الشعراني في كتاب «الطلاق» من«الميزان»((2)).
ص: 331
قال المصنّف - قدس الله روحه - ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عمار بن ياسر قال : إن رجلاً أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء .
فقال : لا تصل .
فقال عمار: ألا تذكر يا أمير المؤمنين ! إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً ؛ فأما أنت فلم تصل ؛ وأما أنا فتمعكت ((2)) بالتراب وصليت .
فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك .
فقال عمر : اتق الله يا عمّار !
فقال : إن شئت لم أحدّث به .
فقال عمر : نوليك ما توليت ((3)).
ص: 332
وهذا يدلّ على عدم معرفة عمر بظاهر الأحكام، وقد ورد به القرآن العزيز في قوله تعالى :«فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً»((1)) في موضعين ، ومع ذلك فإنه عاشر النبي صلی الله علیه و اله و سلم والصحابة مدة حياة النبي ،ومدة أبي بكر أيضاً ، وخفي عنه هذا الحكم الظاهر للعام ، أفلا يفرّق العاقل بین هذا ، وبين من قال في حقه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «أقضاكم على »((2)).
وقال تعالى :«ومن عنده علم الكتاب»((3))«وتعيها أذن واعية»((4)) .
وقال هو :«سلوني عن طرق السماء ؛ فإنّي أخبر بها من طرق الأرض ، سلوني قبل أن تفقدوني»((5)).
والله لو ثنيت لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم»((6)).
ص: 333
وقال الفضل ((1)) :
ظاهر آيات القرآن ليس بنص في كيفية تيمّم الجنب ، وهذا أمر يعلم السُنّة ، لأنّ كيفية تيمّم الجنب لا يُفهم من النصّ ، ولهذا تمعك عمار في التراب .
ولو كان النص يدلّ بصريحه على كيفية تيمّم الجنب ، لم يقع لعمّار التمعك في التراب ، ويمكن أن يكون قد فهم من الكتاب والسنة ما يدل على ترك الصلاة للجنب ؛ لعدم صريح النصّ على هذا، كما يعلم من التفاسير ((2))، ويمكن أن يكون يعرضه نسيان الحكم ، ولا ندعي عصمته من الخطأ .
وأما ما ذكر من علم أمير المؤمنين ، فلا نزاع لأحد فيه ، وكمال علمه لا يدلّ على جهل غيره .
ص: 334
وأقول :
لا شك أن قوله سبحانه :«يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ...»إلى قوله تعالى :«فلم تجدوا ماء فتيمموا ...»((1))نص في ثبوت أصل التيمم للصلاة ، كما هو محل الكلام .
وإن لم يكن نصاً في كيفيته، فيكون عمر بإسقاطه للتيمم، وللصلاة الجامعة للشرائط الواجبة بنص كتاب الله ، مخالفاً للنص في الأمرين ، وذلك ليس عن نسيان ؛ لتذكير عمّار له لو نسي، كما رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم ((2)).
أن هذا الحكم ممّا لا يُنسى ؛ لكونه من الضروريات وكثرة الابتلاء به في حياة النبي صلی الله علیه و اله وسلم وبعده ؛ حتى إن المسلمين ابتلوا به مرّة في السفر ،فنزلت الآية .
روى البخاري في أوّل كتاب التيمم ، ومسلم، وغيرهما من عدة طرق : أنّ آية التيمم نزلت في السفر لما أدركت المسلمين الصلاة وهم على غير ماء ، فتيمموا بعد نزول الآية ((3)).
فمن يجهل مثل هذا الحكم، أو ينساه ، لم يمكن أن يكون عالماً بأمر ألبتة .
وقول الخصم :«يمكن أن يكون قد فهم من الكتاب والسنّة ما يدل
ص: 335
على ترك الصلاة للجنب ... إلى آخره ، من المضحكات ؛ إذ أية آية أو سُنّة يمكن أن يفهم منها الدلالة على ترك الصلاة ؟ !
وقياس عدم نصوصية الآية في وجوب التيمم على عدم نصوصيتها في كيفيته غلط ؛ لعدم التلازم ، بل الآية الكريمة نص في خلاف فعل عمار ، وإن لم يكن نصاً في تمام الكيفية ، فلابد أن يكون فعله قبل نزول الآية ؛ إذ هو أجل من أن تخفى عليه صراحتها في خلاف فعله .
فإذا اتضح لك حال عمر، علمت أنه لا يصلح أن يكون إماماً للمسلمين أو يكون مجتهداً أو ينسب إليه فضل ، فضلاً عن أن يقرن بمن عنده علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبي صلی الله علیه و اله وسلم.
وقول الخصم : « وكمال علمه لا يدل على جهل غيره»، صحيح ، لكن المصنف رحمه الله لم يرد أن يثبت بأخبار فضل أمير المؤمنين علیخ السلام جهل الغير، وإنّما أراد أن يبيّن للمنصف الفرق بين عمر ، وبين من عنده علم الكتاب ، وأقضى الأمة ؛ ليعتبر بقوله تعالى :«أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتبعَ أم من لا يهدي إلا أن يُهدى»((1))
وقوله سبحانه :«هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»((2)).
هذا ، والأقرب أن عمر لم يكن يجهل ذلك الحكم ولا نسيه ، بل كان عامداً إلى الخلاف ؛ استكباراً عن مخالفة عمله الأول الذي وقع له مع عمار ؛ وتكبراً على عمار أن يُخَطَّئَهُ ويُرشِدَهُ ، وإلا فلم أشفق منه عمّاروقال : «إن شئت لم أحدّث به» ؟!
ص: 336
ولو فرض أنه كان شاكاً في خبر عمّار، فقد كان اللازم عليه أن يستوضح الحال من بقية المسلمين .
واعلم : أن البخاري روى في كتاب التيمم عن شقيق بن سلمة ، قال :«كنت عند عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن ! إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟
فقال عبد الله : لا يصلّي حتى يجد الماء .
فقال أبو موسى : كيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلی الله علیه و اله وسلم:كان يكفيك .
قال : أو لَمْ تر عمر لم يقنع بذلك ؟
فقال أبو موسى : فدعنا من قول عمار ، كيف تصنع بهذه الآية ؟ - يعني آية التيمم -
فما درى عبد الله ما يقول .
فقال : إنا لو رخصنا لهم في هذا ، لأوشك إذا بَرُدَ على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم ((1)).
وروى البخاري نحوه - أيضاً - من عدة طرق ((2)) ، وكذا مسلم في باب التيمم ((3)).
ص: 337
وهو من الكذب على عبد الله بن مسعود ، فإنّه أعظم من أن يستبيح ترك الصلاة ، ويخالف الكتاب والسنّة ؛ خوفاً أن يعصي عاص فيترك الوضوء في البرد ويتيمم، ولو جازت مخالفة الله ورسوله ، وطرح الكتاب والسنّة لهذه الاستحسانات الواهية ، لما بقي للشريعة رسم ، وأسقطنا كل الواجبات ، وأبحنا كلّ المحرّمات .
ص: 338
قال المصنّف - أعلى الله مقامه - ((1)) :
وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى سلمان بن ربيعة ، قال : قال عمر بن الخطاب : قسم ((2)) رسول الله.
فقلت : والله يا رسول الله ! لغير هؤلاء أحق به منهم .
قال : إنّهم خيروني أن يسألوني بالفحش ، أو يبخلوني ، فلست بباخل ((3)) .
وهذه معارضة لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وهو العارف بمصالح العباد ، ومن يستحق العطاء والمنع .
ص: 339
وقال الفضل ((1)) :
قد عرفت شأن عمر عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في الأحاديث التي مرت وأنّه كان له منصب ومقام يذكر أمثال هذه الأشياء عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وهذا شأن الوزراء في المشاورات والمصالح، ألا ترى جواب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يتضمن تصديق قول عمر ؛ حيث قال : إنّهم خيروني أن يسألوني بالفحش ، أو يُبخلوني ؟
والمراد أنّه يعطيهم هذا من غير استحقاق لهم ، بل لتأليف قلوبهم ،وغيرهم أحق بالعطاء ، ولكن المصلحة هذا .
وأمثال هذا لا يعد من المطاعن .
ص: 340
وأقول :
إثبات ذلك الشأن والمقام لعمر عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم إنما هو من سوء فهم أوليائه ، استنتجوه من سوء أدبه مع النبي صلی الله علیه و اله وسلم، لعدم معرفته ومعرفتهم بمقام صفوة الله من عباده .
وأمّا من عرفه الله تعالى منزلته وعلو شأنه بقوله :«لا تُقدموا بين یدی الله ورسوله»((1))، حيث ساوى سبحانه بين نفسه ورسوله في عن التقدم بين يديهما، وبقوله تعالى:«وما آتاكم الرسول فخذوه...»((2)) إلى غيرهما من الآيات الكريمة .
فلا يرى ذلك إلا معارضة للحق بالباطل، وسوء أدب ومعرفة ، إذ ليس الحديث متعلقاً بالمشاورة حتى يقول الخصم : « وهذا شأن الوزراء في المشاورات » .
وأما ما زعمه من تضمّن جواب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لتصديق عمر، ففيه : إنّه بتكذيبه أليق ؛ لأن فعل النبي صلی الله علیه و اله وسلم التابع للمصلحة يستدعي كذب عمر في دعوى الأحقية لغير هؤلاء في المقام، على أن مازعمه موقوف على رجوع الضمير في قوله صلی الله علیه و اله وسلم:«إنّهم خيروني » إلى من قسم النبی صلی الله علیه و اله وسلم فيهم القسم، وهو خلاف الصواب ؛ فإنّه راجع إلى من لم يرض بعمل النبي كعمر بدليل رواية أحمد في مسنده للحديث بلفظ
ص: 341
الخطاب فإنّه رواه ((1)) عن عمر أنّه قال فيه : «قسم رسول الله قسمه ، فقلت :يا رسول الله ! لغير هؤلاء أحق منهم أهل الصفة .
فقال رسول الله : إنّكم تخيروني ، إنكم تسألوني بالفحش وبين أن تبخلوني ، ولست بباخل»((2)).
ومثله في«تهذيب التهذيب»لابن حجر بترجمة سلمان بن ربيعة ((3)) .
ولو سلّم أن المراد بالحديث ، تصديق عمر ، فهو دليل على نقص من قسم فيهم رسول الله تلك القسمة ، وهو كاف في المدعى ؛ لما فيه من الطعن بالصحابة بأنّهم أتباع الدنيا، وأنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم يتألفهم ، وهذا الحديث رواه مسلم في كتاب الزكاة ((4)).
وأعظم منه ما حكاه في كنز العمال عن الترمذي ، وابن جرير، والبزار ، وغيرهم ، عن ابن عمر قال : «جاء رجل إلى رسول الله ، فسأله أن يعطيه ، فقال النبي صلی الله علیه و اله وسلم، ما عندي شيء، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك.
فقال عمر : يا رسول الله ! هذا أعطيته ما عندك ، فما كلّفك الله مالا تقدر عليه ، فكره النبي صلی الله علیه و اله وسلم قول عمر حتى عرف في وجهه.
فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ! أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً .
فتبسم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم حتى عرف البشر في وجهه بقول
ص: 342
الأنصاري ، ثم قال : بهذا أُمِرتُ »((1)).
ص: 343
قال المصنّف - طاب ثراه - ((1)) :
وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين»:أن عمر لم يدر ما يحد شارب الخمر ، ورَوَوا أنه غيّر سنة نبيه صلی الله علیه و اله و سلم فيه ((2)).
ص: 344
وقال الفضل ((1)) :
ذكر العلماء أنّ حدّ الشارب للخمر لم يتعيّن في زمن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وكانوا إذا أتوا بشارب الخمر يضربونه بالنعال والجريد وأطراف الثوب ، ثمّ بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم جمع أبو بكر من حضر ضرب شارب الخمر، وقاسوه بأربعين جلدة، فعينوا له ذلك ، وهذا كان بالاجتهاد ، فلا عجب أن عمل عمر بالاجتهاد ؛ لأنه محل الاجتهاد .
ص: 345
وأقول :
إن أراد : أنه لم يتعيّن لنقصان الدين، أو لإهمال النبي صلی الله علیه و اله وسلم، حكم الله تعالى ، فهو باطل ؛ بنص الكتاب على إكماله ؛ وبضرورة الإسلام .
وإن أراد : إنّه لم يتعين لجواز الزيادة والنقصان بحكم الله تعالى ،فتعيين أبي بكر وعمر إدخال في الدين ما ليس منه .
وكيف كان ؟ فلا شك أن عمر غيّر سُنّة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بمقتضى أخبارهم ؛ لأنّه إذا فرض أنهم قاسوه بالأربعين ، فكيف جاز لعمر ضرب الثمانين ، بل بمقتضى بعض أخبارهم أن عمر غير سنة النبي صلی الله علیه و اله وسلم مرتين .
تال روى البخاري في كتاب الحدود ((1)) عن السائب بن يزيد ، قال : «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم وإمرة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر ، فنقوم عليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى إذا كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين»((2)).
نعم ، في كثير من أخبارهم أن تعيين الأربعين كان لأبي بكر ،والثمانين لعمر ، فيكون كلّ منهما مغيّراً بتغيير واحد مستقل.
ثم إذا كان رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يكتفي بالضرب بالأيدي ، والنعال ، وأطراف الثوب ، فما وجه تعيينهم للجلد بالعصي ؟! فهل كان دين الله سبحانه غير صالح لدفع الفساد ؟ ؟
ودعوى أن المقصود بالحدّ : التأديب - وهو منوط برأي الإمام -
ص: 346
باطلة ؛ لعدم الدليل عليه ؛ ولاستلزامه جواز تغيير حدود الله كلها، وهو خلاف الإجماع والضرورة .
على أنه لا وجه حينئذ لتعيين الأربعين ، والثمانين ، بل يلزم إيجاب ما يحصل به التأديب بحسب الأشخاص من دون تعيين عدد وآلة ، وربما كان النعال أشدّ في تأديب بعضهم .
ص: 347
قال المصنّف - قدس سره - ((1)) :
وفيه : أنه سأل أبا أوفى ما كان يقرأ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في صلاة العيد ؟((2)).
وسأل أبا واقد الليثي ((3)) : ما كان يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر ؟((4)).
وهذا من قلة المعرفة بأظهر الأشياء ؛ التي هي الصلاة الجهرية .
ص: 348
وقال الفضل ((1)) :
سأل هذا عن أبي أوفى ليرى أنه يوافقه فيما قرأ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ويمكن أن يكون ناسياً له فأراد أن يذكّره ، ولاشك أن عمر حضر في الأعياد عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في الصلاة، والإنسان قد يعرضه النسيان ، أو يريد زيادة التحقيق ، وأمثال هذا لا يعد من المطاعن .
ص: 349
وأقول :
بمقتضى ظاهر كلامه أنه يدور أمر عمر بين الشك والنسيان ،وبالضرورة أن وقوع أي الأمرين منه في أظهر الأشياء - التي هي الصلاة الجهرية المتكررة في السنين العديدة - يكون من أدلّ الأُمور على قلة تدبّره في الأحكام ، وقلة علمه واهتمامه بها ، ولاسيما أن الذي سأل عنه الرجلين أمر واحد ، فيكون شكه ، أو نسيانه مكرّراً ، فكيف يصلح للإمامة وإدارة شؤون الأُمّة على قانون الشرع في الكبير والصغير ؟ !
هذا، وقد روى مسلم في كتاب صلاة العيدين ((1)) صدور المسألتين من عمر لأبي واقد ((2)) ، فلعل في النسخة غلطاً ، أو روى مسلم سؤال عمر لأبي أوفى في محلّ آخر ، أو رواه البخاري ، فراجع .
ص: 350
قال المصنّف - طاب ثراه - ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين أنّ أبا موسى استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثاً ، فلم يأذن له ، فانصرف .
فقال عمر : ماحملك على ما صنعت ؟
قال : كنا نؤمر بهذا .
فقال : لَتَقيمَنُ على هذا بيّنة أو لأفعلنَّ بك .
فشهد له أبو سعيد الخدري بذلك عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم.
فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، الهاني الصفق((2))بالأسواق((3)).
وهذا أمر ظاهر قد خفي عنه ، فكيف الخفي ؟؟
ص: 351
وقال الفضل ((1)) :
إن سُنّة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تفرق علمها في الأصحاب ، وكان كلّ عالم من الصحابة يدرون بعض سُنّته وأحواله ، وكان أبو موسى يعلم هذه السنة ، وعمر كان لا يعلمها ، وكثير من هذه الأحكام كان يعلمها بعض دون بعض ، وكانوا يذاكرونه ويعلمونه من لا يعلم، فعدم علم عمر ببعض السنن لا يقدح في علمه بالكلية .
ص: 352
وأقول :
مثل هذه السنة التي هي محل الابتلاء ، ولا سيما للأخصاء والوزراء كعمر - على زعمهم - لا يمكن أن يجهلها الخواص، بل مطلق من سكن المدينة من الصحابة ، ولذا اشتهر علمها حتى عند الأصاغر منهم.
فقد روى مسلم هذا الحديث، وقال في تتمته : «فخرج - أي أبو فانطلق إلى مجلس الأنصار فقالوا : لا يشهد لك إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ... »((1))الحديث .
وروى مسلم - أيضاً - : أن أبا سعيد قال : كنت جالساً بالمدينة ، في مجلس من الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً .
قلنا : ما شأنك؟
قال : إن عمر أرسل إلى أن آتيه ... إلى أن قال : فقال عمر : أقم عليه البينة وإلا أوجعتك .
فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم قال أبو سعيد : قلت :
أنا أصغر القوم .
قال : فاذهب به »((2)).
وفي حديث آخر لمسلم - أيضاً -: «أن عمر قال : فوالله لأوجعن ظهرك ، وبطنك ، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا.
فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أحدثنا سنّاً، قم يا أبا
ص: 353
سعيد . . . »((1)) الحديث.
وروى البخاري نحو ذلك في صحيحه ((2))، وأحمد في مسنده ((3)).
وهذه الأخبار صريحة باشتهار هذا الحكم حتى عند الأصاغر من الصحابة ، وباستهزائهم في شأن عمر ؛ بأنّه لا يعلم حتى معلومات الأصاغر ، فمن هذا حاله قلة في العلم حتّى أقرّ على نفسه في المقام بأنّه ألهاء الصفق في الأسواق ، كيف يصلح للإمامة ويحكم في صغار الأمور وكبارها ؟ !
وكيف اتخذه الصحابة إماماً مع علمهم بحاله ؟ !
وليت شعري ، بم استحق أبو موسى أن يفزعه عمر، ويحلف أن يوجع ظهره وبطنه إن لم يأت بمن يشهد له ؟! فهل يحرم على الصحابي أن يعمل بما يروي عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، إلا أن تكون له بينة ، أو أن ذلك جهالة أُخرى من عمر ، أو أنّه عذاب على الصحابة سلطه الله عليهم ؛ لأنّهم أعانوه على ظلم آل محمد صلی الله علیه و اله و سلم، ومن أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله تعالى عليه ، كما في الخبر ؟؟ ! ((4)).
وقد روى مسلم - في ذيل بعض أحاديث المقام -: أنه يشهد لأبي أُبي بن كعب، ثمّ قال لعمر : لا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((5)).
ص: 354
وفي رواية أخرى : لا تكونَنَّ عذاباً على أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال عمر : سبحان الله ... إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت ((1)).
أقول : هذا من الجواب المضحك : فإنّ المتثبت لا يحلف على العقوبة ، بل يسأل العلماء ، فإن شهدوا ثبتت عنده صحة الخبر، وإلا توقف إن لم يكن خبر الواحد حجّة عنده .
ومن الغريب أنّ السُنّة يحكمون بعدالة كل صحابي ، وهذا عمل سيدهم مع أخص الصحابة به ، حتى مات وهو وال عنه.
ص: 355
قال المصنّف - رفع الله درجته - ((1)) :
وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين» في مسند عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ،فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر .
ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله الله إلا الله .
ثمّ قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، قال : أشهد أن محمداً رسول الله.
ثم قال : حي على الصلاة ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال : حي على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله .
ثمّ قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر .
ثم قال : لا إله إلا الله ، قال : لا إله إلا الله من قلبه ، دخل الجنّة ((2)).
فهذه روايته وزاد بعد موت النبي صلی الله علیه و اله و سلم: الصلاة خير من النوم .
وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين» في حديث أبي محذورة سمرة بن معير ((3)) ، لما علمه الأذان ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا
ص: 356
إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، ثم يعود فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله مرتين ، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين حي على الصلاة، مرّتين ، حي على الفلاح،مرتين ، الله أكبر لا إله إلا الله ((1)).
وقال الشافعي في كتاب الأمّ أكره في الأذان : الصلاة خير من النوم ؛ لأن أبا محذورة لم يذكره((2)).
ص: 357
وقال الفضل ((1)) :
روى مسلم في صحيحه ، وكذا الترمذي ، والنسائي في صحيحيهما عن أبي محذورة ، قال : قلت يا رسول الله ! علمني الأذان ، فذكر الأذان وقال : بعد حي على الفلاح، فإن كانت صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ((2)).
وعن بلال قال : قال رسول الله : لا تُثَوِبَنَ في شيء من الصلاة إلا فی صلاة الفجر ، هكذا في الصحاح((3)) .
وهو يقول : إنّ التثويب من زيادة عمر، ثمّ يفتري على الشافعي ذكر في «الأُمّ»: أن أبا محذورة لم يذكر التثويب .
والحال : أن مذهب الشافعي أنّ التثويب في صلاة الصبح سُنّة من رسول الله لا خلاف فيه لأحد من أصحابه ، وهو أعلم من أصحاب الشافعي بمذهبه ، هذا جهل من جهالاته .
ص: 358
وأقول :
ما أصلف وجهه وأقل حياءه ، كيف افترى في حديث أبي محذورة هذه الزيادة على«صحيح مسلم»وهو بأيدي الناس ، ولا أثر لها فيه ((1)) ، كما أنه لا وجود لهذا الحديث في«صحيح الترمذي» حتى بدون الزيادة ، وإنما أشار إليه إشارة ؟ !((2))
نعم ، هو موجود بالزيادة في «صحيح النسائي» في الأذان في السفر من طريق واحد ضعيف((3)).
ورواه قبله من طرق بدون هذه الزيادة ((4)) ، وحينئذ فلا يستبعد من الشافعي أن يكون له قولان ، وأن يفتي في«كتاب الأم»بكراهة : الصلاة خير من النوم ، إلتفاتاً إلى خلو حديث أبي محذورة عن هذه الزيادة في أكثرطرقه وأصحها .
وأما حديث بلال ؛ فلم أجده في صحيحي مسلم ، والنسائي ، وإنما رواه الترمذي بسند ضعيف، كما صرّح به البغوي في «المصابيح»(5).
وكيف كان ؟ فلا ينبغي التأمل في أن لفظ : «الصلاة خير من النوم»
ص: 359
من البدع ؛ لخلوّ أكثر الأخبار المبينة لفصوله عنه .
منها : حديث عمر الذي حكاه المصنف عن مسلم ، وقد رواه في أوائل كتاب الصلاة في باب استحباب القول مثل قول المؤذن ((1)) ، وللأخبار الدالة على أنّه لم يكن في عهد رسول الله ، أو أنّه من البدع ، وفي بعضها التصريح بأنه عمر .
فمنها ما رواه مالك في موطأه تحت عنوان : ما جاء في النداء للصلاة ، قال : بلغني أن المؤذن جاء عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً ، فقال : الصلاة خيرٌ من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداءالصبح(2).
وعن الزرقاني عند وصوله إلى هذا الحديث من «شرح الموطأ»، قال : «هذا البلاغ أخرجه الدار قطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري، عن نافع ، عن ابن عمر عن عمر»((3)).
ومنها : مارواه الترمذي في باب ما جاء في التثويب في الفجر عن مجاهد ، قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً وقد أذن فيه ، ونحن نريد أن نصلّي فيه ، فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرج بنا من عند هذا المبدع ، ولم يصل فيه ((4)).
ونحوه في كتاب الصلاة من كنز العمال ((5)) ، نقلاً عن عبد الرزاق ،
ص: 360
والضياء في «المختارة» .
ومنها : ما في الكنز - أيضاً - عن الدار قطني ، وابن ماجة ، والبيهقي :عن ابن عمر : «أن عمر قال لمؤذنه : إذا بلغت حي على الفلاح في الفجرفقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم»((1)).
أقول : ومثله عن ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة((2)).
ومنها : ما في الكنز - أيضاً - عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني حسن بن مسلم أن رجلاً سأل طاووساً متى قيل : «الصلاة خير من النوم»، فقال : أما إنّها لم تقل على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((3)).
ومنها : ما في الكنز - أيضاً - عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال :«أخبرني عمرو بن حفص أن سعداً أوّل من قال :«الصلاة خير من النوم»فقال عمر : بدعة ثم تركه »((4)).
إلى غير ذلك من أخبارهم ((5)) وهي كما تدلّ على أن التثويب ليس من شريعة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وإنه من البدع ، فقد دل قسم منها - وهو من رواية أعاظمهم - على أنّه من بدع عمر ، ولا ينافيه ما دلّ على أن سعداً أوّل من قاله ، فإن عمر قد أمر به وجعله سُنّة من بعده .
كما لا يعارضه مادلّ على أنّه من الرسول صلی الله علیه و اله و سلم، لضعفه عن
ص: 361
المقاومة ؛ وكونه من رواية المتهمين، بخلاف رواية كونه من عمر ، فيصح حينئذ قول المصنف رحمه الله إنه من زيادة عمر ، وإنّه قد أبدع في الأذان ما ليس من روايته.
ثمّ إنّ عمر كما زاد في الأذان : الصلاة خير من النوم نقص منه ومن الإقامة :«حي على خير العمل »(1).
قال القوشجي - وهو من متكلمي الأشاعرة - في أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد»: «صعد المنبر وقال : أيها الناس ! .. ثلاث كن على عهد رسول صلی الله علیه و اله و سلم أنا أنهى عنهنَّ وأحرمهن وأعاقب عليهن ؛ وهي متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحي على خير العمل»((2)).
واعتذر عنه بعد ما أرسله إرسال المسلّمات : بأنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع»((3))انتهى.
وهذا العذر من الغرائب ؛ إذ جعل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وعمر مجتهدين ،وسوّغ لعمر مخالفة النبيّ صلی الله علیه و اله و سلم، ومعه لا يبقى أثر للرسالة ، بل ولا للربوبية ؛ لأنّ النبي لا ينطق إلا عن الوحي ، لا سيما في الأحكام، فيلزمه أن يكون الله سبحانه مجتهداً، وعمر مجتهداً آخر، وله تصويب الله وتخطئته وهذا هو الكفر والخروج عن الدين، ولاسيما إنّهم أخذوا على أنفسهم العمل بقول عمر، دون قول الله تعالى ورسوله.
ويدل - أيضاً - على أنّ«حيّ على خير العمل من فصول الأذان ما
ص: 362
في«كنز العمال» في كتاب الصلاة ، عن الطبراني :«كان بلال يؤذن بالصبح فيقول : «حيّ على خير العمل»(1).
ونقل - أيضاً - عن أبي الشيخ ، عن سعد القرظ ، قال :«كان بلال ينادي بالصبح فيقول : حي على خير العمل ، فأمره النبي صلی الله علیه و اله و سلم أن يجعل مكانها : الصلاة خير من النوم»((2)).
ونحن نصدقه في صدر الحديث ونكذبه في ذيله ؛ لما عرفت أن لفظ : الصلاة خير من النوم ، ليس من سُنّة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
وروى في السيرة الحلبية في باب بدء الأذان ومشروعيته ((3)) : إن ابن والإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السلام كانا يقولان في الأذان : حيّ على خير العمل ((4)).
إلى غير ذلك من أخبارهم((5)).
ص: 363
ص: 364
قال المصنّف - طاب مرقده -((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أبي موسى الأشعري ، قال : «قال عامر بن أبي موسى ، قال لي عبد الله بن عمر : هل تدري ما قال أبي لأبيك ؟
قال : قلت : لا .
قال : فإنّ أبي قال لأبيك : يا أبا موسى ! هل يسرّك أنّ إسلامنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و هجرتنا معه ، وجهادنا معه ، وعملنا كله معه ، يردّ كلّ عمل عملناه بعده ، ونجونا منه كفافاً رأساً برأس ؟
فقال أبوك لأبي : لا والله ! لقد جاهدنا بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وصلينا ،وصمنا وعملنا خيراً كثيراً ، وأسلم على أيدينا بشر كثير ، وأنا أرجو ذلك .
قال أبي : لكنّي أنا - والذي نفس عمر بيده - لوددت أن ذلك يرد لنا كلّ شيء عملناه بعده ، ونجونا منه كفافاً رأساً برأس»((2)).
ومن كتاب الجمع بين الصحيحين» من مسند عبد الله بن عباس:«أنّه لما طعن عمر بن الخطاب كان يتألم .
فقال ابن عباس : ولا كلّ ذلك.
فقال بعد كلام : أما ما ترى من جزعي ! فهو من أجلك، وأجل أصحابك ، والله ، لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل
ص: 365
أن أراه »((1)).
وهذا اعتراف منه حال الاحتضار ؛ بأنه وقع منه ما يستوجب المؤاخذة في حق بني هاشم ، وأنّه تمنّى أن يفتدي بملء الأرض ذهباً من عذاب الله لأجل ما جرى منه في حقهم.
ص: 366
وقال الفضل ((1)) :
لا يخفى على من يفهم الكلام أنّ هذا من أعمال الصديقين حال الموت وأنهم لا يرون أعمالهم في ذلك الوقت ويتواضعون عند الله ويعترفون بذنوبهم فإنّ القدوم على الله أمر صعب ، ولا يجزم المؤمن بقبول أعمله ، سيما من قصد الخلافة، والزعامة الكبرى ، فإنّه أمرصعب وأخوف .
وليس هذا من باب الاعتراف بالذنب عند الناس ، بل هو من باب التواضع عند الله تعالى، ولا يعرف هذا الا الصديقون الخائفون .
ص: 367
وأقول :
لا يخفى أنه إذا كان الصدّيقون لا يرون أعمالهم شيئاً ، والمؤمنون لا يجزمون بقبولها وجب بمقتضى الحديث الأوّل أن لا يكون عمر صديقاً ولا مؤمناً ؛ لدلالته على أنّه يعد أعماله في أيام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم شيئاً،لا وأنّها مقبولة عند الله تعالى ؛ ولذا تمنى أن يردّ بها أعماله بعده رأساً برأس،وهذا - أيضاً - من الاعتراف عند الناس بالذنب ؛ لأن تمنّى المعادلة بين العملين يدلّ على الإقرار بفساد عمله بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم ليكون العمل الصالح المعلوم منجياً من العمل الفاسد المعلوم .
وبالجملة : طريق الصدّيقين أن لا يروا أعمالهم شيئاً ، ولا يعتمدوا على شيءٍ منها أصلاً ، فأين هذا من تمنّي المعادلة بين ما يحكم عليه بالقبول بلا دليل، وبين ما يعرف فساده ؟ ! كما لا دخل له بالتواضع ؛ فإنّه لا يناسب الاعتداد بشيء من الأعمال .
هذا في الحديث الأوّل الذي رواه البخاري في أواخر الجزء الثاني(1).
وأما الحديث الثاني الذي رواه البخاري - أيضاً - في مناقب عمر(2):فهو أيضاً لا يناسب قول الصدّيقين ؛ لأن تخصيص عمر لبعض الأعمال وتمنّيه أن يفتدي من عذاب الله عليها بملء الأرض ذهباً ، دليل عن أنّها من الموبقات ، وأنّه عرف منها الوبال عليه ، وهذا لا ربط له بكلام الصدّيقين ،وينفع المصنف رحمه الله في إثبات الاعتراف بالذنب عند الناس.
ص: 368
ولا يخفى أنه كما يحتمل أن يريد عمر بالأصحاب في قوله : «من أجلك وأجل أصحابك» : ما فهمه المصنف رحمه الله ، وهو خصوص بني هاشم ، كما هو الأقرب، يحتمل أن يريد بالأصحاب : مطلق الرعايا :لإستيلائه عليهم، وعمله فيهم بغير حق .
ص: 369
قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :
وفي الجمع بين الصحيحين عن ابن عمر - في رواية سالم عنه-قال : دخلت على حفصة فقالت : أعلمتَ أنّ أباك غير مستخلف ؟
قلت : ما كان ليفعل .
قالت : إنّه فاعل .
قال : فحلفت أن أكلمه في ذلك ، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه ، وكنت كأنما أحمل بيميني جبلاً حتى رجعت فدخلت عليه ، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره .
قال : ثمّ قلت : سمعت الناس يقولون مقالةً ، فاليت أن أقولها لك :
زعموا أنّك غيرُ مُسْتَخْلِفٍ ، وأنّه لو كان راعي غنم أو راعي إبل ، ثمّ جاء وتركها لرأيت أنّه قد ضيّع ، فرعاية الناس أشد .
قال : فوافقه قولي .
فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إليَّ ، فقال : إنّ الله يحفظ دينه ، وإنّي إن لا أستخلف ، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم يستخلف ، وإن أستخلف ، فإن أبا بكر قد استخلف.
فقال : والله ، ماهو إلا أن ذكر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأبا بكر ، فقلت :
لم يكن ليعدل برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أحداً وإنه غير مستخلف»((2)).
وهذا يدلّ على اعتراف عبد الله بن عمر بما تشهد به العقول ؛ من أن
ص: 370
المتولّي لأمور الناس إذا تركهم بغير وصيّة يكون قد ضيع أمورهم، وقد شهد على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أنه قبض ولم يستخلف وضيّع الناس ، وأن عمر وافق ابنه ثمّ عدل عنه .
ص: 371
وقال الفضل ((1)) :
هذه الأخبار تدلّ على أن ابن عمر كان يزعم أن ترك الاستخلاف تضييع ، وهذا من اجتهاده، ونبهه عمر أنّ هذا في الإسلام ليس بتضييع ؛ لأنّ الله تعالى تكفّل حفظ دينه ، وليس أمر الدين كأمر الملك ليحتاج إلى حافظ الحوزة ، والتوصية بالخلافة .
ألا ترى أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم يستخلف ، فهل ضاع أمر أمته ؟
وهل ظهر خلل أو فساد في أصول الشرائع ؟
فالاستخلاف وعدم الاستخلاف بالنسبة إلى أهل الإسلام مساو ؛ لأنّه إن استخلف الخليفة السابق،فذاك حسن ؛ لأنّه راعي أهل الإسلام بالتكفيل من الخليفة اللاحق، وإن لم يستخلف ، فإنّ إجماع المسلمين يقوم مقام الاستخلاف .
وهذا معنى قول عمر : فإن لم استخلف، فإن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم يستخلف ، وإن أستخلف ، فأبو بكر استخلف.
والمراد : أن الاستخلاف وعدم الاستخلاف مساو بالنسبة إلى حفظ الإسلام، فإنّه يقول :«إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»((2)).
ص: 372
وأقول :
إن أراد : أن الله سبحانه قد تكفّل بحفظ الإسلام - أي الشهادتين - فلا دخل له بكلام ابن عمر حتى يكون رداً له ؛ لأنه يرى وجوب الاستخلاف خوفاً من اختلاف الرعية ، ووقوع الفساد فيها ، وظلم بعضهم بعضاً ، ويرى أن ترك الاستخلاف تضييع للرعية .
وإن أراد : أنّه تكفّل بحفظ الحوزة ، وعدم ضياع أمور الرعية أصلاً ، فهو راجع إلى القول بعدم الحاجة إلى الإمام، وهو خلاف الضرورة ، وخلاف ما صرّح به أصحابه ؛ كصاحب المواقف» وشارحها وغيرهما ((1)) على أنّ عمر إنّما قال : إن الله يحفظ دينه والمنصرف منه أصل الإسلام ، ولذا لم يكن ردّاً لقول ابنه.
وإن أراد : أنّه تكفل بحفظ الحوزة بمقدار ما تنصب الأمة إماماً لها ، فهو قول بعدم الحاجة إلى إمام في الجملة ، وهو باطل ؛ لإنه تخصيص بلا دليل .
وقوله سبحانه :«إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»(2).
إنّما يدل على حفظ القرآن ولا ربط له بالمدعى ، وأما ترك النبي صلی الله علیه و اله وسلم للاستخلاف ، فهو - لو سلّم - لا يقتضي التخصيص ؛ لاحتمال الخطأ في فعله ، أو الهجر الذي نسبوه إليه ، حاشاه .
فلا محالة أن نسبة ترك الاستخلاف إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم النسبة للتضييع
ص: 373
إليه حتى لو لم يضع أمرُ الأمة بعده ، فإنّ إقدامه على التضييع لا ينافي عدم حصول التضييع لأمر اتفاقي .
ولو سلم أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم لم يضيع أمر الأمة بترك الاستخلاف ؛ لعلمه بالاستخلاف ؛ وحصول الإجماع بعده، فهو لا يتمّ في عمر وغيره ممن لا يعلم العاقبة ، ولا دلالة في عمل النبي صلی الله علیه و اله وسلمعلى ثبوت قاعدة كلية فيما بعده .
والحق أن وجه الحاجة إلى الإمام هو حفظ الحوزة والدين؛ أصولاً وفروعاً ؛ علماً وعملاً ، ولا يحصل هذا إلا بإمام عالم بجميع الأحكام،معصوم حتى عن الخطأ ؛ لئلا تضيع الأُمّة الدينية ولو بضياع بعض أحكامها .
فلا بد من النص من الله تعالى والاستخلاف من النبي صلی الله علیه و اله وسلم أو إمام بعده،و الإجماع لا يقوم مقام ذلك ؛ إذ لا علم للناس بالمعصوم الذي لا يجهل شيئاً من الأحكام.
فقد ظهر مما ذكرنا أنه بناءً على أنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم لم يستخلف ، لم يحصل مجرّد التضييع من النبي ، بل حصل الضياع ؛ لعدم قيام معصوم محيط بجميع الأحكام مقامه.
ثمّ إنّ هذا الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله قد رواه مسلم في باب الاستخلاف وتركه من كتاب الإمارة ((1)) .
ص: 374
قال المصنّف - اجزل الله ثوابه- ((1)) :
ونقل ابن عبد ربه في كتاب العقد : أن معاوية قال لابن حصين : أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين وجماعتهم، وفرّق ملأهم، وخالف بينهم ؟
فقال : قتل عثمان .
قال : ما صنعت شيئاً .
قال : فمسير علي إليك .
قال : ماصنعت شيئاً .
قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم .
قال : ما صنعت شيئاً .
قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين !
قال : : فأنا أخبرك ؛ إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر في ستّة .
ثمّ فسّر معاوية ذلك في آخر الحديث ، فقال : لم يكن من الستة رجل إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك أنفسهم . ولو أن عمر استخلف كما استخلف أبو بكر ، ما كان في ذلك اختلاف((2)).
ص: 375
وقال الفضل ((1)) :
قد كان عمر يقول : لا أحمل أمر الخلافة حياً وميتاً ، وكان هذامن اتقاء الله تعالى ، وكان يخاف أن يستخلف غير الأهل فيكون وِزْرُ فعله في رقبته.
وأيضاً جعل عمر الشورى لم يكن موجب الفتنة ؛ لأنّ الأمر تقرر على عثمان ، وهؤلاء الذين ادعى معاوية أنهم كانوا يريدون الأمر لأنفسهم ، لم يخرجوا على عثمان حتى يكون وقوع الفتنة من قبلهم .
بل نقول : إنّما شتت أمر المسلمين خروج الفئة الباغية - بالاجتهاد والخطأ - على عليّ ، وهو كان صاحب الحق ، فخرجوا وتشتت أمر المسلمين .
ص: 376
وأقول :
سبق أنه قد تحمّلها أسوأ تحمّل ؛ لأنه حصرها في ستة بعد ماعاب أكثرهم بما ينافي الخلافة، ثمّ أمر بقتلهم بالنهج المتقدم ((1)) ، ولو كان من أهل التقوى ، لما أمر بقتل من شهد لهم بأنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم مات وهو راضِ ضرر المخالف منهم بالحبس ونحوه ، فمن يطاع عنهم ؛ إذ كان يمكنه بالقتل أولى بأن يطاع بالحبس .
وأما قوله : كان يخاف أن يستخلف غير الأهل ... إلى آخره ، فلا يتمّ إلا أن يكون عمر فكيف أهلهم وعينهم ؟! ولم لم يترك الأمر إلى اختيار المسلمين ؟
ولو فرض أنه كان معذوراً في إدخال كلّ منهم ؛ لأهليته عنده للخلافة ، فلا محالة يكون معذوراً في تعيين واحدٍ منهم ، فلا معنى لخوف الوزر في الثاني دون الأوّل .
ولا أعجب من أهل السنّة ، فإنّهم بينما يقولون في كل صحابي شاكاً حتى في الستة ، وإذا كان شاكاً في أهليتهم للخلافة بالعدالة ، إذ تراهم يجعلون عمر يخاف وزر أفعال خواص الصحابة .
وأما تعليله لعدم الفتنة في جعل الشوري ؛ بأن الأمر تقرر على عثمان ، فتجاهل ظاهر .
أمّا أوّلاً : فلأنّ الأمر وإن تقرّر - أولاً - على عثمان ، لكن بعد ذلك طمع فيها طلحة والزبير وقومهما حتّى ألبوا الناس عليه ، ولا سيما طلحة .
ص: 377
وأما ثانياً : فلأنّ الذي أراده معاوية بتشتيت أمر المسلمين هو ما وقع في البصرة ، وصفين ، وما تفرّع عليهما من حرب النهروان ، والعداوة بين المسلمين .
ومن الواضح أنّ أقوى الأسباب فيه هو إطماع عمر للزبير وطلحة وقوم عثمان في الخلافة.
ومن المضحك أن الفضل أراد أن يشتم معاوية في قبال شتم معاوية لعمر ، فقال : بل نقول ... إلى آخره ، فما أتمّ كلامه حتى عذر معاوية بقوله بالاجتهاد ؛ إذ لا تطاوعه نفسه على شتم ذلك الباغي غصن الشجرة الملعونة في القرآن .
ثمّ إنّ هذا الخبر قد ذكره ابن عبد ربه ((1)) ، كما سبق ذكره في مطاعن عمر(2).
ص: 378
قال المصنّف - ضاعف الله أجره -((1)) :
وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين»في مسند عمر بن الخطاب : أنّ أبا بكر قال ذلك - يعني يوم السقيفة - : ولن يعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش ((2)) .
ثم قال عمر يوم الشورى بعد ذمّ كلّ واحد منهم بما يكرهه : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً ما تخالجني فيه الشكوك ((3))، وبالإجماع إن سالماً لم يكن قرشياً ((4)).
وقد ذكر الجاحظ في كتاب «الفتيا» هذه المناقضة ((5)).
ص: 379
وقال الفضل ((1)) :
الصحيح من الخبر : أن عمر قال :لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيّاً ،لم أجعل الشورى ؛ لأن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم سماه أميناً، هذا ماصح من الرواية ، فإن صح أنّه ذكر سالماً فربما كان مذهبه أن القرشية ليست بشرط في الخلافة ، كما ذهب إليه كثير من العلماء .
وأيضاً كلام عمر لا يدلّ على تولية الخلافة لا يدلّ على تولية الخلافة ، لأنه قال : لم يخالجني فيه شك لاستحقاقه، لكن لا تمكن التولية ؛ لعدم قرشيته فلا تناقض .
ص: 380
وأقول :
أحمد روی في مسنده ((1)) عن أبي رافع - قال في آخر حديث له قال عمر : «لو أدركني أحد رجلين ، ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به ؛ سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح »((2)).
وروى الطبري في تأيخه((3))«أنّه قيل لعمر : لو استخلفت ؟ قال : من أستخلف ؟
لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً استخلفته ، فإن سألني ربي ، قلت : سمعت نبيّك يقول : إنّه أمين هذه الأمة .
ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته ، فإن سألني ربّي قلت :
سمعت نبيّك يقول : إنّ سالماً شديد الحبّ له ((4)).
ونحوه في كامل ابن الأثير»((5)) و«العقد الفريد »((6)).
وقال في الاستيعاب بترجمة سالم: وروى عن عمر انه قال:« لو كان سالم حياً ماجعلتها شورى»(7).
ونقل في«كنز العمال»((8)) عن أبي نعيم ، عن شهر بن حوشب ، قال :
ص: 381
قال عمر ابن الخطاب : لو استخلفت سالماً مولى أبي حذيفة ، فسألني : ما حملك على ذلك ؟ لقلت : يا رب ! سمعت نبيّك يقول : إنّه يحبّ الله حقاً من قلبه.
ولو استخلفت معاذ بن جبل فسألني ربّي : ما حملك على ذلك ؟
لقلت : يا ربّ ! سمعت نبيك محمّداً يقول : إنّ العلماء إذا حضروا ربهم كان معاذ بن جبل بين أيديهم...»((1)).
فهذه الأخبار تصرّح بأن عمر يستخلف سالماً يستخلف سالماً لو كان حيّاً، وهي ليست بأصرح في ذلك من الخبر الذي ذكره المصنف رحمه الله ، لأنّه في مقام الاستخلاف الفعلي ، لكنّ الخصم أبى إلا عناداً.
وقد سمعت في بعض هذه الأخبار أن عمر ذكر للخلافة من غير قريش معاذاً أيضاً ؛ إذ هو من الأنصار ، فتثبت به المناقضة أيضاً.
وقد جاء - أيضاً - ذكر معاذ في رواية ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ص 23 قال :
قال عمر: «لو أدركت معاذ بن جبل استخلفته»((2)) الحديث.
وأما ما أجاب به عن المناقضة بقوله : فربّما كان مذهبه أنّ القرشية لیست بشرط في الخلافة.
ففيه : إن الأمر إذا كان كذلك فبم تغلبوا على الأنصار في السقيفة ؟! وكيف يقول عمر : زوّرت في نفسي مقالة أعجبتني ، فوالله ، ما ترك - أي أبو بكر - من كلمة أعجبتنى فى تزويري إلا قال مثلها وأفضل ؟ !
وقد كان من جملة ما قاله أبو بكر : لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ
ص: 382
من قريش(1).
ثمّ إن دعوى عمر الوثاقة في سالم، ومعاذ ، وأبي عبيدة ، دون عثمان ، مضرّةً بما يزعمه القوم من فضل عثمان على المسلمين جميعاً سوى الشيخين ، فإنّه إذا كان عمر لم يثق بعثمان على طول صحبته له ، فكيف يكون أفضل المسلمين ؟
والأعجب من ذلك دعوى عمر الوثاقة بهم دون علي علیه السلام، وقد قال الله تعالى :«إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...»((2))الآية .
وقال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»((3)) ، وهو أخو رسول الله ونفسه، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى .
وليت شعري ، مابال أبي عبيدة يستحق الخلافة بلا ريب - لكونه على روايته أميناً - ولا يستحقها عليّ كذلك ، وقد أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا ؟!
وما بال معاذ يستحقها بلا تردّد لعلمه، ولا يستحقها علي کذلک،وهو الأذن الواعية ووارث علم النبي صلی الله علیه و اله وسلم ، وباب علمه ، ومن عنده علم الكتاب ، وقرينه في أنّ من تمسك به أمن الضلال ؟!
وما بال سالم يستحقها بلا شك لروايته إنّه شديد الحبّ الله تعالى ، ولا يستحقها عليّ كذلك ؟ !
وقد روى عمر نفسه حدیث خیبر ((4)).
ص: 383
أما في هذا كلّه وأضعافه ما يوجب وثاقة عمر بسيّد المسلمين ، كما وثق بسالم ومعاذ وأبي عبيدة ؟! ما هذا إلا أعجب العجب ! !
وإذا تأمّل المنصف ذلك علم صحة ما جاءت به الرواية عندنا من : أنّ أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ومعاذاً وسالماً قد كتبوا في حجة الوداع بينهم صحيفة جعلوا أمينها أبا عبيدة، وتعاقدوا فيها على دفع أمير المؤمنين عن الخلافة ، وأن يتداولوها فيما بينهم على ترتيب أسمائهم المذكورة ، وأشهدوا فيها أربعين من أصحابهم، حيث علموا أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم يريد نصب أمير المؤمنين علیه السلام خليفة بعده ((1)) ، ثم دحرجوا له الدباب ((2)) ليلة العقبة ، بعد نص الغدير ((3)).
ص: 384
قال المصنّف - أجزل الله ثوابه - ((1)) :
وقد ذكر أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي من الكلبي من علماء الجمهور : أنّ من جملة البغايا وذوات الرايات صعبة بنت الحضرمي ((2)) ، وكانت لها راية بمكة، واستصفت بأبي سفيان فوقع عليها أبو سفيان ، وتزوّجها عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، فجاءت بطلحة بن عبيد الله لستة أشهر ، فاختصم أبو سفيان وعبيد الله ((3)) في طلحة ،فجعلا أمرهما إلى صعبة ، فألحقته بعبيد الله.
فقيل لها : كيف تركت أبا سفيان ؟
فقالت : يد عبيد الله طلقة ويد أبي سفيان بكرة ((4)).
وقال أيضاً : وممن كان يلعب به ويتخنّث أبو طلحة ((5)) ، فهل يحلّ لعاقل المخاصمة مع هؤلاء لعلى علیه السلام.
ص: 385
وقال أيضاً : ممّن كان يلعب به وينتحل عفان أبو عثمان ، فكان يضرب بالدفوف(1).
ص: 386
وقال الفضل ((1)) :
قال ابن الجوزي في«كتاب الموضوعات»: وكان من كبار الكذابين وهب بن وهب القاضي، ومحمد بن السائب الكلبي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وأبي داود النخعي، وإسحاق بن نجيح الملطي ، وغياث بن إبراهيم النخعي، والمغيرة بن سعيد الكوفي(2).
والغرض أنّ محمّد بن السائب الكلبي ، من الكذابين الوضاعين ، وهو لا يعرف اسمه ، وحسب أن اسمه : هشام بن محمد ، وهذا باطل لا يخفى على أهل الأخبار .
ثمّ ما ذكره ليس إلا نشر الفاحشة ، ولا اعتماد على نقل صاحب المثالب ، فإنّ من صنف كتاباً في شيء فلا بُدّ يأتي بكل غثّ وسمين ، ويذكر فيه معائب الناس ، وليس فيه دليل ولا حجّة ، وكلامنا في الدلائل العقلية ، والشرعية، وهو ينقل الكلام من كتاب المضاحك والمثالب ، وهو يتضمّن نسبة الفاحشة إلى أنساب أكابر الصحابة وجماعة الخلفاء ، والذين شهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لهم بالجنة، وقد صح هذا بحيث لا يرتاب فيه ، وقد صح أن ولد الزنا لا يدخل الجنة ((3)).
فيجب الحكم ببطلان ما رواه من كتاب المثالب ، وأيضاً إن صح هذا
ص: 387
الخبر فليس فيه قدح ؛ لأن هذا من أنكحة الجاهلية وقد صح أن أنكحة الجاهلية معتبرة ولا ينتفي بها النسب ، فلا مثلبة .
ص: 388
وأقول :
لو اعتبرنا كلام ابن الجوزي فلا شاهد به للخصم ، فإنّ محمداً هو أبو هشام ، وقد ذكرهما الذهبي في«ميزان الاعتدال» بترجمتين ، وكنّى الأب- وهو محمد - بأبي النضر((1))، وكنّى الابن - وهو هشام - بأبي المنذر ((2)).
وذكر في الترجمتين أن هشاماً روى عن أبيه .
ثمّ إنّه إذا كان محمّد من كبار الكذابين ، فما بال صحاحهم اشتملت على روايته ، إذ روى عنه الترمذي في صحيحه ، كما ذكره الذهبي في میزان الاعتدال ، وابن حجر في«تهذيب التهذيب »((3))؟ !
وما بال كبار رجالهم رووا عنه ، كالسفيانين ، وحمّاد بن سلمة ، وابن المبارك ، وابن جريج ، وابن إسحاق، وأبي معاوية الضرير، وهشيم ، وإسماعيل ، وأبي بكر بني عيّاش ، ويزيد بن بزيع، ومحمد بن فضيل ويزيد بن هارون ، إلى كثير من علمائهم ورجالهم، كما في تهذيب التهذيب »((4))؟ !
وفيه عن ابن عدي أنّه قال : هو معروف بالتفسير ، وليس لأحد أطول من تفسيره ، وحدث عنه ثقات الناس ورضوه في التفسير((5)).
وأمّا نشر الفاحشة فهم أساسه، وقد نقله المصنف رحمه الله عنهم لیمیز
ص: 389
الخبيث من الطيب وقد عرفت في آخر الكلام على مطاعن معاوية أن الصحابة عيّروا ابن العاص بأمه لشهرتها بالفاحشة ((1)) ، وهو دليل على أن نشرها لا يكون قبيحاً مطلقاً.
وأمّا دعوى عدم الاعتماد على نقل صاحب «المثالب» فغير صحيحة بالنسبة إلى ما ينقله علماؤهم في مثالب أوليائهم ، إذ يبعد جداً أن يكذبوا أو ينقلوا كذباً فيما يتعلق بهم .
وأما قوله : «وكلامنا في الدلائل العقلية والشرعية»، فصحيح ، وهذا منها ، فإنّه إذا ثبت أنّ ابن الزنا لا يَنْجُبُ ، ولا يدخل الجنّة ، ولاخير فيه ، فقد ثبت أنّ أكابر أوليائهم كذلك ، فلا يستحقون الخلافة والتعظيم ، وأن يجعلوا في عرض إمام المتقين ، ونفس النبي الأمين صلّى الله عليهما وعلى الهما الطاهرين .
وأما قوله :«وشهد لهم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بالجنة» ، فممنوع.
والحديث الذي رواه الترمذي في تبشير العشرة بالجنّة ،موضوع ، كما مرّ تحقيقه في الآية الثانية والثلاثين من الآيات التي استدل بها المصنف رحمه الله على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام.((2)).
وقد أخرجه الترمذي من طرق تشتمل على حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، وعبد الرحمن بن حميد، وتنتهي إلى عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد ((3)) ، وكلّهم محلّ التهمة، مضافاً إلى ضعف كثير من رجال الأسانيد .
ص: 390
وكيف يكون طلحة من أهل الجنّة وقد روى مسلم ((1)) : أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم قال : من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية ((2)).
ونحو هذا مستفيض في أخبارهم ، حتى رواه مسلم والبخاري من عدة طرق ((3)) .
بل روى مسلم : أن ابن عمر جاء إلى ابن مطيع حينما كان من يزيد في أمر الحرّة ماكان ، فقال :سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يقول : من خلع يداً طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة ،مات ميتة جاهلية ((4)).
ورواه أحمد في مسنده من عدة طرق ((5)) .
فإذا كان هذا عندهم حال من خلع طاعة الرجس المارد يزيد صاحب الحرة ، وهادم الكعبة ، وقاتل سيد شباب أهل الجنة ، وهاتك حرمة رسول الله ، فكيف بمن خلع طاعة إمام المتقين الذي أوجب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أمته التمسك به وجعله عديل القرآن ، وقال : «حربه حربي»حتى قتل بسبب خلع طاعته آلاف مؤلّفة من المسلمين - ثمّ قتل - أعني طلحة - وهو باق على عناده ؟ !
ودعوى الاجتهاد لا نعرف وجهها ولا سيما مع عدم وجه للاجتهاد عند ابن عمر في خلع يزيد المعلن بالفسق والفجور.
ص: 391
وأما ما ذكره في أنكحة الجاهلية ، فقد عرفت ما فيه ، على أنه لا شيء في بيان الزنا أظهر من أن يقال: إنّها من البغايا وذوات الرايات ، واستصفت بأبي سفيان فوقع عليها.
ص: 392
قال المصنّف - أعز الله شأنه -((1)):
وروى البلاذري قال : لما قتل الحسين كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد ابن معاوية :
أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة، وجلّت المصيبة ، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين
فكتب إليه يزيد :
أمّا بعدُ ... يا أحمق ! فإنّا جئنا إلى بيوت مجدّدة، وفرش ممهدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحقِّ لنا فعن حقنا قاتلنا ، وإن كان الحق لغيرنا ، فأبوك أوّل من سنّ هذا ، واستأثر بالحق على أهله ((2)).
ص: 393
وقال الفضل ((1)) :
تعصب هذا الرجل بلغ حداً استدلّ بكلام يزيد حين اعترض عليه في قتل الحسين ، واسترضى كلامه واستطابه ؛ لأنّه تكلّم بما يوافق مذهبه ، ولو أنه شتم أبا بكر وعمر ، لكان ابن المطهر يُحِلّ عليه دم الحسين ، وأي دليل في كلام ذلك المنحوس ، المنكوس ، المردود ؟ !
وكان في هذا المقام ينبغي أن يثني على ابن عمر، حيث شافه ذا سلطان ظالم بكلمة الحق .
ص: 394
وأقول :
لا شك أنّه لو استولى أمير المؤمنين علیه السلام على خلافة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بعده وحل في منصبه، لما وليها بعده إلا الحسنان ، وما حلم بها يزيد وأبوه ، ولا مرّت على وهمهما وأشباههما ، ولكن لما دفع الشيخان أمير المؤمنين علیه السلام عن مقامه ، وصغرا عظيم شأنه وشؤون أهل بيته ، سهل الأمر على معاوية وأمثاله ، ولا سيما بعدما مكناه في البلاد وأوطاه رقاب العباد ، فنال بهما معاوية ما نال ، ثمّ صيّر الأمر بعده إلى ابنه ، فجاء إلى فرش ممهدة، ووسائد منضّدة ، من أبيه ، وممن أسس له.
وهذا أمر ضروري وجداني يدركه كل عاقل ، ولا يحتاج إثباته إلى قول يزيد وغيره، وإن كان قوله مؤيداً للمطلوب، فالحسين علیه السلام لم يقتل إلا بأسياف الأولين ، ولذا قال القاضي ابن قريعة ((1))من أبيات له :
لولا حدود صوارم *** أمضى مضاربها الخليفة
لنشرت من أسرار آل *** محمّد جملاً ظريفة
وأريتكم أن الحسين *** أُصيب في يوم السقيفة ((2))
ص: 395
بل إنّما بنيت جميع دول الضلال على ذلك الأساس ، ولذا ترى العباسيين - وهم من أبعد الناس عن الدين - مجتهدين بتعظيم الثلاثة وإثبات أحقيتهم ، إذ لا تتم دعوى استحقاقهم للخلافة إلا بذلك ، وبمعاداة من أمرت الأمة بموالاتهم والتمسك بهم.
فقد ظهر بما بينا أن يزيد قد شتم أبا بكر وعمر بأعظم شتم ، فلا محلّ لقول الخصم : ولو أنّه شتم أبا بكر وعمر ... إلى آخره .
وأما دم الحسين صلی الله علیه و اله وسلم، بل قطرة من دماء أقل أنصاره ، فلا يساويه ابن المطهر بقتل جميع أعداء الحسين فضلاً عن شتم بعضهم .
وأما ابن عمر فإنّما ترك المصنف رحمه الله الثناء عليه ؛ لأنّه لم يأت بواجبه ، إذ كان الواجب عليه نصر الحسين علیه السلام، والتمسك به كما أمره الله تعالى ، مع أنّه يحتمل فيه أن كتابه ليس الله ، بل ليرى الناس أنه ممن ينكر المنكر ، ولينال مقاصده من يزيد ، كيف ؟ وابن عمر فرع أبيه ، ورشحة منه في العداوة لآل الرسول صلی الله علیه و اله وسلم، ولذا لم يبايع أمير المؤمنين ، مع علمه بأنه من رسول الله بمنزلة هارون من موسى ، وأنّه مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، ومدّ يد البيعة إلى أغصان الشجرة الملعونة ، كيزيد ، وأبيه ، وعبد الملك ، والله ولي الحساب وإليه المرجع والمآب .
ص: 396
قال المصنّف - قدس الله روحه - ((1)) :
أخبارهم
وروى الواقدي وغيره من نقلة الأخبار عندهم ، وذكروه في الصحيحة : أن النبي لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود، فنزل جبرئيل بهذه الآية :«وآت ذا القربى حقه»((2)) .
فقال محمد صلی الله علیه و اله وسلم: ومن ذو القربى ؟ وما حقه ؟
قال : فاطمة تدفع إليها فدكاً والعوالي .
فاستغلتها حتّى توفّي أبوها .
فلمًا بويع أبو بكر منعها، فكلمته في ردّها عليها ، وقالت : إنّها لي، وإن أبي دفعها إلي .
فقال أبو بكر : فلا أمنعك ما دفع إليك أبوك .
فأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر بن الخطاب وقال : إنها امرأة فطالبها بالبيّنة على ما ادعت .
فأمرها أبو بكر ، فجاءت بأم أيمن وأسماء بنت عميس مع علي علیه السلام فشهدوا بذلك ، فكتب لها أبو بكر .
فبلغ ذلك عمر فأخذ الصحيفة فمحاها ، فحلفت أن لا تكلّمهما ، وماتت ساخطة عليهما .
وجمع المأمون ألف نفس من الفقهاء وتناظروا ، وأدّى بحثهم إلى ردّ
ص: 397
فدك إلى العلويين من ولدها، فردّها عليهم(1).
وذكر أبو هلال العسكري في كتاب«أخبار الأوائل»: أن أوّل من ردّ فدك على أولاد فاطمة عمر بن عبد العزيز .
وكان معاوية أقطعها لمروان بن الحكم، وعمر بن عثمان ، ويزيد ابنه أثلاثاً .
ثمّ غصبت ، فردّها عليهم السفّاح .
ثمّ غصبت ، فردّها عليهم المهدي .
ثمّ غصبت ، فردها عليهم المأمون .
ثمّ قال - أعني أبا هلال - ثمّ غصبت ، فردّها عليهم الواثق.
ثمّ غصبت ، فردّها عليهم المعتضد.
ثمّ غصبت ، فردّها عليهم المعتضد.
ثمّ غصبت ، فردّها عليهم الراضي(2).
أن أبا بكر أعطى جابر بن عبد الله عطية ادعاها على رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم من غير بيّنة ، وحضر جابر بن عبد الله وذكر أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم وعده أن يحثو له ثلاث حثيات من مال البحرين ، فأعطاه ذلك ولم يطالبه ببينة ، مع أنّ العدة لا يجب الوفاء بها يجب الوفاء بها والهبة للولد مع التصرف توجب التمليك ، فأقل المراتب أنّه يجري فاطمة مجراه .
وقد روى سند الحفاظ ابن مردويه بإسناده إلى أبي سعيد ، قال : لما نزلت :«وات ذا القربى حقه»، دعا رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم فاطمة فأعطاها
ص: 398
فدك ((1)).
وقد روى صدر الأئمة أخطب خوارزم موفق بن أحمد المالكي ، قال : ومما سمعت في المفاريدبإسنادي عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله : يا علي ! إنّ الله زوجك فاطمة وجعل صداقها الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً ((2)).
ص: 399
وقال الفضل ((1)) :
قد قدمنا في حقيقة خبر فدك ما هو الصحيح ((2)) ، وأن أبا بكر عمل فيها ما عمل رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وكان رسول الله يطعم أهله منها ، ثمّ ينفق ما يفضل في السلاح والكراع .
فاستنّ أبو بكر سنة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في فدك ، ثمّ عمر عمل بفدك ما عمل به أبو بكر ، إلا أنّه ردّ سهم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم من بني النضير إلى العباس وعلي، واختصما فيه، كما ذكرنا من صحيح البخاري ((3)).
مانعاً ولو كان عمر من إعطاء فدك لفاطمة ، كيف لم يردّ عليّ علیه السلام الصدقات بالمدينة في زمان خلافته ؟!
وأما دعوى فاطمة فلم يصح في الصحاح ، ويذكرونها نقلة الأخبار أرباب التواريخ، ومجرّد نقلهم لا يصير سبباً للقدح في الخلفاء ، وإن صح فقد ذكرنا وجهه.
ص: 400
وأقول :
سبق هناك ما يطفي الغليل ويشفي العليل ((1)) ، ثمّ إنّه قد يظهر ممّا ذكره المصنف رحمه الله هنا أن فدك من قرى خيبر ، وأن النبي صلی الله علیه و اله وسلم اصطفاها .
وقد أوضحنا هناك أنّها من غيرها وأنها لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بلا حاجة إلى الاصطفاء، لأنّها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، فلا بد من حمل الكلام هنا على المسامحة .
ص: 401
قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :
قال محمود الخوارزمي في «الفائق» : قد ثبت أن فاطمة صادقة ، وأنّها من أهل الجنّة ، فكيف يجوز الشك في دعواها فدك والعوالي؟
وكيف يقال : إنّها أرادت ظلم جميع الخلق وأصرت على ذلك إلى الوفاة ؟
فأجاب : بأن كون فاطمة صادقة في دعواها ، وأنها من أهل الجنة لايوجب العمل بما تدعيه إلا ببينة.
قال : وأصحابنا يقولون : لا يكون حالها أعلى من حال نبيهم محمد صلی الله علیه و اله وسلم، ولو ادعى محمد صلی الله علیه و اله وسلم مالاً على ذمّي ، وحكم حاكماً ، ما كان للحاكم أن يحكم له إلا بالبينة ، وإن كان نبياً ومن أهل الجنة ((2)) .
وهذا من أغرب الأشياء ، بل إنّه ليس بمستبعد عندهم ، حيث جوّزوا الكذب على نبيهم ، نعوذ بالله من هذه الأقوال .
ص: 402
وقال الفضل ((1)) :
قد تقرّر في الشرع أن الحاكم لا بد له من مستند في حكمه ، وذلك المستند للحكم ؛ إما البيئة العادلة ؛ أو اليمين ؛ أو علم الحاكم .
ثمّ إنّ الحاكم ليس له أن يحكم بغير المستند ، وكل هذه الأمور تقرّر في الشرع ، ولا خلاف في هذا .
فالحاكم في حكمه مشروط عليه وجود المستند ، والحكم مشروط به ، فإذا فقد الشرط فقد المشروط ، لا أنّ الحاكم إذا تيقن صدق المدعي فله الحكم .
ألا ترى أنّ في الحدود لا يجوز للحاكم أن يعمل بعلمه ؟! فإذا رأى الحاكم أن فلاناً زنى ، وهو شاهد فعل الزنا بشرائطه المعتبرة في الشهادة على الزنى ، فلا يجوز له الحكم ، مع وجود العلم اليقيني بالزنى ، فالعلم اليقيني بصدق الحكم إذا فقد ، فقد مستند الحكم ، فلا يوجب الحكم بل لا يجوز .
والشيعة إن وافقوا في هذا ، فليس لهم الاعتراض على أبي بكر في عدم حكمه لفاطمة وطلبه البيّنة منها، وإن خالفوا في هذا الحكم ، فالبحث بينهم وبين أهل السنة في ذلك الأصل الذي يتفرّع عليه هذا الحكم .
ص: 403
وأقول :
لا يصح الحصر في هذه الأمور الثلاثة ، بل هناك أمر آخر وهو الشاهد مع يمين المدعي ، كما سبق دليله في أمر فدك ((1)).
فحينئذ لو سلّم أن سيدة النساء هي المدعية المكلّفة في الإثبات وأنّها لا بيّنة لها ، فلا يصح لأبي بكر أن يحكم عليها بعد شهادة أمير المؤمنين علیه السلام لها من دون أن تنكل عن اليمين.
ولو فرض أنه لا يرى الحكم بالشاهد واليمين ، فليس لأبي بكر أن يتولّى على فدك بدون أن يحلف هو ؛ لأنه الخصم ، أو أظهر الخصماء ، كما سبق توضيحه .
ثمّ إن قوله : « أو علم الحاكم إن أراد به اطلاعه ، فلا بد من زيادة قسم آخر ، وهو علم الحاكم بصدق المدعي ، ومطابقة دعواه للواقع من غير جهة الاطلاع ، كما تشهد له قصة شهادة خزيمة للنبي صلی الله علیه و اله وسلم، فإنّها تدل على جواز الشهادة للنبي صلی الله علیه و اله وسلم للعلم بصدقه ، وهو يستدعي جواز الحكم له بالأولوية ، بل بمقتضى عدم إجراء النبي صلی الله علیه و اله وسلم في هذه القصة أحكام التداعي على نفسه ، مع مداعاة خصمه له ، يُعلم مضي قوله ووجوب الحكم له بلا بيّنة، وبذلك يعلم ما في قول الخوارزمي : ولو ادعى محمد على ذمي ... إلى آخره .
كما أنه بمقتضى صحة شهادة خزيمة ينبغي لأبي بكر والمسلمين أن
ص: 404
يشهدوا للزهراء ، لا أن يحكم عليها ، فإنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم قد شرع الشهادة لمن يفيد قوله العلم بمقتضى عدم انكاره على خزيمة وإنعامه عليه ، بجعل شهادته بشهادة رجلين .
وإن أراد بعلم الحاكم : الأعم من الإطلاع ، فلا شك ، أنّ قول الزهراء يفيد العلم اليقيني ؛ لشهادة الله تعالى لها بالطهارة ، ولا سيما بضميمة شهادة أمير المؤمنين علیه السلام لها ، المطهر مثلها عن الرجس تطهيرا ، فلا بد لأبي بكر من الحكم الفاطمة علیها السلام.
ولو سلّم أن ليس له الحكم لها ، فلا ريب أن له إعطاءها ما تدعيه بلا حكم ، كما أعطى جابر وأبا بشر المازني ما ادعياه من عدة النبي صلی الله علیه و اله وسلم بلا بينة ، وكما أعطى معاذ بن جبل ما أعطاه من مال اليمن الكثير بلا حجّة ، بل لمجرد دعواه أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم أرسله ليجبره ، وكما أعطى أبا سفيان الصدقات التي لا تحل له بلا سبق دعوى منه ، كما مرّ في الكلام على فدك . أليس من المروة، وشرع الإحسان، وصلة سيد الرسل، أن يصلوا بضعته بمال أبيها ؟!
أليس من الهدى والإيمان أن يؤدوا أجر الرسالة بمودتها ولا يلجئوها إلى الخروج إلى تلك المحافل الحاشدة حتى عادت منهم راغمة واجدة !!! وأما استشهاد الفضل لمطلوبه بعدم عمل الحاكم بعلمه واطلاعه في الحدود ، فليس في محله ؛ لأن الحدود من حقوق الله تعالى ، وقد بناها بفضله على التسامح ، لا سيما الزنى، الذي اعتبر فيه أربعة شهود ، ولو لا المسامحة في الحدود لكان النقض بها وارداً على الفضل أيضاً ؛ لأنه جعل - أولاً - علم الحاكم وإطلاعه أحد الأمور التي يستند إليها الحاكم في حكمه ،والحال : إن ذلك غير كافي في الحدود ، كما ذكره .
ص: 405
وأما قوله :«فالعلم اليقيني إذا فقد فقد مستند الحكم، فلا يوجب الحكم» .
ففيه إنّه خارج عن المقام، لفرض إفادة قول سيّدة النساء العلم ، كما هو مفروض كلام الخوارزمي .
ص: 406
قال المصنّف - أعلى الله مقامه - ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن بني صهيب - مولى بني جذعان - ادعوا بيتين وحجرة ، أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أعطى ذلك صهيباً .
فقال مروان : من يشهد لكم على ذلك ؟
قالوا : ابن عمر يشهد
فقضى لهم مروان بشهادته ((2)) .
وفي صحيح البخاري : أن فاطمة علیها السلام أرسلت إلى أبي بكر وسألته ميراثها من رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر : إن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال :« لا نورث ، ماتركناه صدقة»وإنّما يأكل آل محمد صلی الله علیه و اله وسلم من هذا المال ، وإنّي - والله - لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليه ، وأبى أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً .
فوجدت ((3)) فاطمة على أبي بكر فهجرته ، فلم تتكلّم عه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ،
ص: 407
وقال الفضل :
ما ذكره من حكم مروان لبني صهيب بشهادة عبدالله بن عمر وحده ،فربّما يكون خطأ من مروان ، أو رأى بني صهيب أهلاً للمصالح فأعطاهم من مالها، وليس في فعل مروان ،دليل، فإنّه غير كثيراً من سنن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في أعماله وأحكامه .
وأما حديث البخاري ، فهو صحيح ، وهو يدلّ على أن فاطمة طلبت فدك على وجه الميراث ، وهذا يخالف روايته أنّها سألتها على وجه النحلة والهبة ، وبطل ما يذكر من دعوى فاطمة هبتها ؛ لأن الحديث الصحيح دل على أنّها سألتها ميراثاً حيث قال : أرسلت إلى أبي بكر وسألت ميراثها من
رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ولا يعارض هذا الخبر الصحيح أخبار المؤرّخين .
وأما ما ذكر من موجدة فاطمة على أبي بكر، فقد ذكرنا وجهه ، فنرجو من الله إذا قدمت على رسول الله استرضاها رسول الله لأبي بكر ،وأخبرها أن أبا بكر عمل بالسنة .
ص: 409
وأقول :
ليس المقصود هو الاستدلال بفعل مروان فقط ، بل في إقرار ابن عمر وغيره له على فعله .
وأما قوله : ( أو رأى بني صهيب أهلاً للمصالح ... إلى أخره» .
فهو خلاف ما صرّح به الحديث، من أنه قضى لهم بشهادته .
وليت شعري ، إذا صح هذا وجهاً فلِمَ لم يعمل به أبو بكر ؟ فهل كان لا يرى بضعة الرسول أهلاً للمصالح ؟
ثمّ إنّه إذا عرف الفضل أن مروان غيّر كثيراً من سنن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فما بالهم زعموا عدالته ، وأخذوا عنه في صحاحهم ، وانتمنوه على دينهم ؟ !
وهذا الحديث قد رواه البخاري في آخر كتاب الهبة ((1)).
وأمّا طلب الزهراء علیها السلام للميراث ، فلا أعرف وجه إبطاله لدعوى النحلة إذا صدرا متعاقبين ، كما هو الوارد .
وما أشار إليه من توجيه غضبها علیها السلام، قد مر ما فيه ، وسيأتي منه ما ينافيه .
وأما ما ترجاه ، فإن كان من رجاء مالا يقع ؛ كقوله تعالى :«ربّ ارجعوني لعلّى أعمل صالحا»((2))فله وجه.
وهذا الحديث الثاني قد رواه البخاري في غزوة خيبر من كتاب
ص: 410
المغازي((1)) ، ومسلم في باب قول النبي :«لا نورث ما تركناه صدقة» من كتاب الجهاد ((2))، ورواه البخاري أيضاً مصرحاً بلفظ الغضب في باب فرض الخمس من كتاب الجهاد ((3)).
ص: 411
قال المصنّف - رفع الله درجته - ((1)) :
وهذا الحديث قد اشتمل على أشياء رديّة ، منها :
مخالفة النبي صلی الله علیه و اله وسلم أمر الله تعالى في قوله :«وأنذر عشيرتك الاقربین»(2).
فكيف لم ينذر فاطمة وعلياً والعبّاس والحسن والحسين هذا الحكم ، ولا سمعه واحد من بني هاشم، ولا من أزواجه ، ولا أحد من خلق الله ؟ !
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم ، وهما يطلبان إرثه من فدك ، وسهمه من خيبر(3).
وفيه : أن أزواج النبي صلی الله علیه و اله وسلم حين توفي رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن ((4)).
ص: 412
وقال الفضل ((1)) :
أعجب العجائب هذا الكلام، وهذا الاستدلال ، فإن الإنذار هو أصول الشرائع ، فلو لم يبلغ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم كل فرع من فروع الشريعة إلى كلّ واحد من الأمة لزم عدم الإنذار .
وهذا من غرائب الكلام، وكأنّ هذا الرجل رجل نزل من شاهق جبل لا يعرف الحر من البرد ، وهو جديد العهد بالإسلام ، أو أخذه تعصب حتى أورده المورد الوبى .
أيحكم أن جميع الأحكام يجب أن أن يرويه عن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم جميع الأنام ، وإلا لم يحصل الإنذار ؟
أم يزعم أن جميع أحكام الشرع من جزئيات الفروع يجب أن يكون معلوماً لجميع الصحابة ؟ !
أم يزعم أن أبا بكر ليس من أهل الرواية ، حتى يلقمه العلماء الحجر ويقتلوه بالخشب والمدر ؟
وكل هذه أُمور باطلة ، فإنّ الحديث رواه أبو بكر فإنّه سمع من رسول الله ، فروى وتقرّر الحكم وعمل به، ثم بعده عمل الناس به.
ص: 413
وأقول :
يقال : أنذره بالأمر ؛ أي أعلمه، وحذره ، كما في القاموس وغيره ((1)) ، فلا يختص الإنذار بتبليغ أصول الشرائع، بل يعمّ الإعلام بوجوب الصلاة - مثلاً - والتحذير من العقاب بتركها ، قال تعالى :«فلولا نفر من كلّ فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»((2)).
ثم لا ريب بأنه كما يطلب من الأنبياء الإنذار بالأصول ، يطلب منهم الإنذار بالفروع ؛ لإنّهم بعثوابالأمرين ، ولا بد من إنذار كل فرد من الأمة بما يبتلى به من الفروع، وإلا لزم الإخلال بالإرشاد .
وحينئذ فيكون تخصيص الأقربين بقوله تعالى :«وأنذر عشيرتك الأقربين»((3)) ؛ لأنّهم في أوّل الأمر أولى من ينبغي أن يسمع منه ، أو لمزيد العناية بهم، أو لغيرهما من المصالح .
فعلى ذلك لا يمكن أن يخفي النبي صلی الله علیه و اله وسلم عن أهل بيته حكم ميراثهم ، وهو محل ابتلائهم بالخصوص .
فإن قلت : رُبِّ حكم يكون محلّ الابتلاء به هو الإمام والحكام ؛ كأحكام القضاء والحدود، فلا يجب على النبي صلی الله علیه و اله وسلم أن يعلم بها غير خليفته ومن ينصبه للقضاء، ومنها حكم ميراث النبي صلی الله علیه و اله وسلم، ولذا أعلم به
ص: 414
أبا بكر وترك أهله .
قلت : لا يمكن أن يكون حكم ميراثهم خارجاً عن محلّ ابتلائهم ،وهو ظاهر ، ولا داخلاً في محل ابتلاء أبي بكر بما هو حاكم ،لأنه خصم ولا يجوز أن يكون الخصم هو الحكم، إذ لو جعلت حكومة مخاصمة
الحاكم إليه لضاعت الحقوق التي عليه - ولو في بعض المقامات - إلا أن يكون معصوماً .
فإن قلت : لا شك أنه لا يتوقف مُضي قول أبي بكر على لحاظ كونه حاكماً ، بل يكفي في قبول قوله كونه راوياً حين الابتلاء بالحكم ، إذ لا يلزم بيان الحكم فعلاً لمن يبتلى به في المستقبل، وإنما يلزم بيانه له في وقته ولو بواسطة من يعتمد عليه ، كأبي بكر في المقام ، فلا نحتاج إلى إثبات مضي حكمه بما هو حاكم .
قلت : لا يصلح جعل رواية الخصم محلّ الاعتماد حال الخصومة ضرورة الاتهام له ولو من خصمه ، ولذا اتهمت سيدة النساء أبا بكر في روايته ، بل قطعت بافترائه ، وقالت له ، لقد جئت شيئاً فَرِيّا((1)).
فكيف يمكن أن يجعله النبي صلی الله علیه و اله وسلم واسطة في التبليغ ؟ !
فحينئذ يكون ترك النبي صلی الله علیه و اله وسلم لإعلامها وإعلام باب مدينة علمه من أعظم الإخلال بالإنذار ، ومن أكبر الفساد ، والنبي صلی الله علیه و اله وسلم يجل عنهما ، وبما ذكرنا يعلم ما في كلام الفضل من الخلل والجهل .
ص: 415
قال المصنّف - أعلى الله درجاته - ((1)) :
ومنها نسبة هؤلاء إلى الجهل وقلة المعرفة بالأحكام مع ملازمتهم الرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ونزول الوحي في مساكنهم ، وهم يعلمون سره وجهره . وقد روى الحافظ ابن مردويه بإسناده إلى عائشة ، وذكرت كلام فاطمة عليها السلام لأبي بكر ، وقالت في آخره:«وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون ؟ إني لا أرث أبى ...
يا ابن أبي قحافة ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟لقد جئت شيئاً فريا، فدونكها مرحولة مخطومة ، تلقاك يوم حشرك ونشرك ، فنعم الحكم الله ، والغريم محمد ، والموعد القيامة ، وعند
الساعة يخسر المبطلون»((2)).
ص: 416
وقال الفضل ((1)) :
لا يلزم من عدم علم طائفة بحكم من أحكام الدين جهلهم وقلة معرفتهم ، فإن أكثر الأحكام مما تقرر بعد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، مع أن أبا بكر لما روى الحديث سأل تصديقه من الصحابة فصدقوه ، وربّما لم يسمعوا تلك الطائفة هذا الحديث ، أيدعي أن كل الفروع والأحاديث والأحاديث سمعه . سمعه خواص رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم؟!
والإجماع أنّ أبا بكر كان من أكثر الناس ملازمة ومصاحبة لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ولا يمكن أن يدعى فيه بأنه سمع من رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم كل الأحكام ، بل كثير من الأحكام كان يسأل عن غيره .
وأما ما ذكر من حديث ابن مردويه من كلام فاطمة ، فلم يصح في الصحاح .
ص: 417
وأقول :
قد تجاهل في مراد المصنف رحمه الله ، فإن مراده إثبات علم أهل البيت بحکم ميراثهم ، بدليل أن عدم علمهم به يستلزم جهلهم وقلة معرفتهم - حاشاهم - ؛ ؛ لأنّ من يجهل مثل هذا الحكم المختص به مع ملازمته ليله ونهاره ، واتخاذه داره داره ، ونزول الوحي في مسكنه ،للنبيّ صلی الله علیه و اله وسلم كان أولى أن يجهل غيره .
وليس مراد المصنف رحمه الله إثبات علم أهل البيت بكل فرع ، وإن كان الحقِّ أنّهم يعلمون بجميع ما أنزل الله تعالى على نبيه .
وأما ما زعمه من أنّ أبا بكر سأل تصديقه من الصحابة فصدقوه، فكذب ظاهر، إذ لم أجد له اثراً في رواية أصلاً .
نعم ، ورد عندهم أن عمر سأل جماعة من الصحابة عندما تنازع عنده علي والعباس فصدقوه .
وقد أوضحنا لك كذبه عند الكلام على فدك في مآخذ أبي بكر ((1)).
وأما ملازمة أبي بكر للنبي صلی الله علیه و اله وسلم فغير بعيدة ، ولكن كم من سامع لا يستمع ،و مبصر لایتبصر، لقلّة استعداده ، أو عدم اهتمامه بالعلوم الشرعية ، ولذا لم يوجد له عندهم من الروايات إلا النادر ، مع اهتمامهم بشأنه وابتلائه بالمسلمين عامة أكثر من عامين .
وأما ما رواه ابن مردويه فلا تتوقف صحته على وجوده في
ص: 418
صحاحهم ، فكم أهملت صحاحهم صحيحاً عندهم ، حتى استدرك الحاكم وغيره على الصحيحين أحاديث لا تحصى، وليس ما جمعه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل صحاحهم بأولى بالصحة مما جمعه ابن مردويه .
كيف ؟ وقد عرفت في طي الكتاب ما في صحاحهم من المنكرات والمكفرات ، وعرفت في المقدّمة ما في أسانيدهم أسانيدهم من رجال الكذب والفسق .
وكيف يرجى من مثل البخاري ومسلم في شدّة تعصبهم وميلهم مع ملوك وقتهم عن مذهب أهل البيت أن يرووا قول الزهراء لأبي بكر : لقد جئت شيئاً فريا ؟ !
على أنّهم يخشون أن تُرمى صحاحهم بالسقم ، ويخافون على أنفسهم القتل ، كما داسوا في خصيي النسائي حتى قتلوه لما قال : لا أعرف لمعاوية فضيلة ، إلّا لا أشبع الله بطنه ((1)).
ص: 419
قال المصنّف - رفع الله منزلته - ((1)) :
ومنها : إنّه يلزم عدم شفقة النبيّ صلی الله علیه و اله وسلم على أهله وأقاربه وخواصه ،فلا يعلمهم أنّهم لا يستحقون ميراثه ، ويعرف أبا بكر وحده ، حتى يطلبوا ما لا يستحقون ، ويظلموا حقوق جميع المسلمين، مع أنّه عظيم الشفقة على الأباعد ؛ حتى قال الله تعالى في حقه :«فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا»((2))،«ولا تذهب نفسك عليهم حسرات»((3)).
ص: 420
وقال الفضل ((1)) :
أحكام الشرع يعلم من كتاب الله وسنّة نبيه ، وإجماع المسلمين والقياس الجليّ ، فهذه الأصول الأربعة تعطي الأحكام، والسنّة تعلم من روايات الصحابة ، ولا كلّ الصحابة يروون جميع الأحكام ، بل كلّ طائفة الأحكام رواها بعض الأصحاب .
والشفقة والرحمة تقتضي تمهيد أحكام الشرع، كما مهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لأمته ، ولا فرق في الشفقة بتبليغ الأحكام بالنسبة إلى رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بين القريب والبعيد، فلا يلزم من عدم ذكر حكم من الأحكام لأقاربه عدم شفقته عليهم ، سيما ما يتعلّق بحال بعد موته ، لأنه ذكر للخليفة بعده ، وهو كان يعلم أنّ الخليفة سيبلغه ، فما ترك شيئاً من الشفقة والرحمة .
ص: 421
وأقول :
لا ريب أن وظيفة النبي صلی الله علیه و اله وسلم بيان الأحكام، وأن شفقته ثابتة على جميع الأنام ، ولا سيما آله الكرام ، وذلك الحديث الذي اختص بعلمه أبو بكر مناف لشفقة النبي صلی الله علیه و اله وسلم على أهل بيته ، إذ بين عمومات أحكام المواريث، وأخفى عنهم الحكم المخصص لها المختص بهم، ففتح لهم باب الظلم على جميع المسلمين ، وألجأ بضعته سيدة النساء إلى المشاجرة فيما لا تستحقه بمحافل البعداء .
ومجرد علمه بتبليغ خليفته لهم - لو فرض صحة ذلك التبليغ - لا ينفع بعد علمه بتكذيبهم له، حتى ماتت بضعته غضبى عليه .
بل يلزم منه - أيضاً - عدم شفقته على خليفته ، وعلى جميع آخر الأبد ، لأنّه أدّى إلى إهانة خليفته باتّهام خواصه وتكذيبهم له ، وأدّى إلى الخلاف والفتنة بين إلى يوم الدين ، فبين ناصر لأبي بكر مبرّر
لفعله، وبين ناصر لها مكذب لقوله ، وناسب له إلى ظلم مَنْ أمر الله بمودتهم ، وأوصى النبي صلی الله علیه و اله وسلم بحفظهم ، وكل هذا ناشيءٌ من النبي صلی الله علیه و اله وسلم - وحاشاه - لو كان تاركاً لبيان حكم أهله لأهله.
فهل أعظم من هذا طعن على سيّد الأنبياء وصفوة الله من أهل الأرض والسماء ؟
ص: 422
قال المصنّف - أجزل الله ثوابه - ((1)) :
ومنها : إن أبا بكر حلف أن لا يغير ما كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : كان أبو بكر يقسم خمس النبي صلی الله علیه و اله وسلم، غير غير أنّه لم يكن يعطي قرابة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم كما كان رسول الله يعطيهم((2)).
وهذا تغيير ، مع أنّه حلف أن لا يغيّر .
فلم لا غير مع فاطمة علیها السلام ويقضي فيها بعض حقوق نبينا صلی الله علیه و اله وسلم؟
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين ، قال : كتب عبد الله بن عباس إلى نجدة بن عامر الحروري في جواب كتابه ، وكتب : تسألني عن الخمس لمن هو ؟ وإنّا نقول : هو لنا ، وأبى علينا قومك ذلك((3)).
ص: 423
وقال الفضل ((1)) :
لم يثبت في الصحاح أن أبا بكر غيّر الخمس ، بل عمل فيه ما عمل رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، كما رواه البخاري في صحيحه ((2)) ، وإن ذكر في الصحاح أنّه غيّر الخمس فيعارض هذا الحديث ، فلا يعتبر حكمه .
وهذا الحديث الذي حلف فيه أبو بكر أرجح ، وهو مؤكد بالحلف ، وهو من قوله ، وذلك الحديث رووا عنه ، وهذا من أسباب الترجيح ؛ لأنّ الحلف بالفعل إذا كان قائلاً به أرجح من رواية الفعل ، كما ذكر في الترجيح .
ص: 424
وأقول :
أبو داود في صحيحه ((1)) نحو الحديثين من عدة طرق ((2)).
وروى النسائي في صحيحه ((3)) نحو الحديث الثاني من طريقين ((4)) .
أحمد في مسنده ((5)) نحو الحديث الأوّل عن جبير بن مطعم ((6)) ، ونحو الحديث الثاني ((7)) من عدة طرق عن ابن عبّاس ((8)).
وقال في بعضها : هو لنا لقربي رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قسمه رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لهم ، وقد كان عمر عرض علينا منه شيئاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليه .
ومثله ((9)) رواية أبي داود والنسائي(10).
فثبت برواية صحاحهم المذكورة ومسند أحمد أنّ أبا بكر غيّر الخمس ، وما عمل فيه بعمل رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فكان بيمينه كاذباً حانثاً ،ومخالفاً بعمله حكم الله ورسوله ، كما ذكرناه فيما يتعلق بفدك.
ص: 425
وما زعمه الفضل من المعارضة والترجيح فمن المضاحك ؛ لأنّ أبا بكر زعم أنّه لا يغير ، فقام شاهد عدل على أنه قد غيّر ، ودعوى المدعي لا تعارض شهادة الشاهد عليه ، على أن الترجيح بالحلف وبكونه من قوله سفسطة ظاهرة ، إذ لا دخل لهما في قوّة السند أو ظهور الدلالة في المقام ، كما هو واضح .
ص: 426
قال المصنّف - طاب مرقده - ((1)) :
ومنها إنّ أبا بكر أغضب فاطمة علیها السلام ، وأنها هجرته وصاحبه ستة أشهر حتى ماتت ،وأوصت أن لا يصلّيا عليها .
وقد روى مسلم في صحيحه قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: «إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها »((2)) في موضعين .
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال : «فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها فقد أغضبني »((3)).
وروى في الجمع بين الصحيحين هذين الحديثين(4).
وروى صاحب الجمع بين الصحاح الستة أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال :
«فاطمة بضعة منّى ، فمن أغضبها فقد أغضبني»((5)).
وأنّه قال : «فاطمة سيّدة نساء العالمين»((6)) .
ص: 427
وفيه أنّ رسول الله سأل فاطمة فقال :«ألا ترضين أن تكونى سيّدة نساء المؤمنين ، أو سيّدة نساء هذه الأمة »؟
فقالت : وأين مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ؟ .
فقال :«مريم سيّدة نساء عالمها ، وآسية سيدة نساء عالمها »((1)) .
وفي صحيح البخاري عن عائشة أن محمداً صلی الله علیه و اله وسلم قال : «يا فاطمة !ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، وسيدة نساء هذه الأمة »((2)) ؟
وروى الثعلبي في تفسير:«وإني سميتها مريم»((3)):أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال : « من آذى فاطمة أو أغضبها ، فقد آذى أباها وأغضبه»((4))
وقد قال الله تعالى :«إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة»((5)) ثم يشهدون ويصححون أن أبا بكر أغضبها وآذاها وهجرته إلى أن ماتت.
فإما أن تكون هذه الأحاديث عندهم باطلة فيلزم كذبهم في شهادتهم بصحتها ، أو يطعنوا في القرآن العزيز وهو كفر ، أو ينسبوا أبا بكر إلى ما لا يحلّ ولا يجوز .
ص: 428
وقال الفضل ((1)):
قد ذكرنا فيما سبق أن الغضب قد يكون في حقوق الله تعالى ، وهذا الغضب يتبعه غضب الله تعالى ، وقد يكون في الحقوق المتعلقة بالشخص وهذا لا يوجب غضب الله ، إلا أن يكون المغضب مبطلاً ظالماً في حقّ الغاضب.
وغضب فاطمة على أبي بكر في بحث شرعي عمل فيه أبو بكر بمقتضى علمه في الحكم الشرعي ، فغضبت عليه فاطمة فهذا لا يوج- غضب الله تعالى ، إلا أن يكون أبو بكر في حكمه ظالماً مبطلاً ، ولم يثبت هذا .
فإن قيل : هذا عام في حق الأُمّة ، فإنّ كل من غضب الله فالله يغضب لغضبه ، فما فائدة تخصيصه بفاطمة ؟ وأيّ منقبة لفاطمة تكون على هذا التقدير ؟
قلنا : فيه منقبة عظيمة لفاطمة ، وهي أنّها لم تغضب لنفسها ، بل إنّما تغضب لحقوق الله تعالى، فالله دائماً يغضب لغضبها ، وكذا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يغضب لغضبها ، ولكن الغضب غضبان، غضب يحصل من المخالفة لله ، وهو قهراً ينجرّ إلى المعاداة ، وغضب يحصل من عدم مراقبة المغضوب عليه حقّ الغاضب ، وعدم مراعاة خاطره ، وهذا في الحقيقة ليس بغضب ، بل هو تغيير خاطر وتألّم للقلب ولهذا يتبعه الهجرة ، وكثيراً ما كان
ص: 429
يغضب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على أصحابه مثل هذا الغضب ، ثمّ يرضى عنهم ، وهذا الغضب لا يستدعي إيذاء الغاضب حتى يدخل في وعيد قوله تعالى :
«إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة»((1))
ونحن نحكم بأنّ غضب فاطمة لأبي بكر كان تألّم الخاطر ، وهذا لا أن تتأذى منه ، حاشاها أن عن تغضب على وزير أبيها وصاحبه في الغار، والله تعالى يحكم بينهم ، ويرضي كلّهم بفضله ورحمته ، والأولى الإعراض عن هذه الحكايات الموحشة التي يتألم منها المؤمن ويفرح بها المنافق.
ص: 430
وأقول :
حاصل جوابه الذي بنى عليه أخيراً : أن ما حصل من فاطمة علیها السلام ليس بغضب في الحقيقة ، بل هو تغيير خاطر، وتألم قلب ، لأن الغضب ينجر إلى المعاداة قهراً ، ولا معاداة منها لأبي بكر .
وفيه - مع أنا لا نعرف وجه استلزام الغضب للمعاداة - أن المعاداة حاصلة منها لأبي بكر، إذ أيّ معاداة تطلب من المصونة الشريفة أكبر من مهاجرتها له ، وعدم تكلّمها معه إلى حين وفاتها، حتّى أدعى إلى عدم حضور الشيخين جنازتها والصلاة عليها ، فكأنّه لا يعرف من المعاداة إلا أن
تشهر عليهما الحرب ، وتسير بين الرجال من منهل إلى منهل ، ومن بلد إلى آخر.
على أن تألّم القلب مستلزم للأذية إن لم يكن عينها، فيكونون ممن آذى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بإيذائها ، ويدخلون في وعيد الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله من سورة الأحزاب ، وقوله سبحانه في سورة التوبة :«سورة التوبة : الذين یؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»((1)).
وأما قوله : « وكثيراً ما كان يغضب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على أصحابه ،ثم يرضى عنهم .
ففيه : إنّه لا يدلّ على عدم غضب الله تعالى عليهم حين غضب النبي صلی الله علیه و اله و سلم وعدم استحقاقهم بإيذائه لعنة الله وعذابه قبل رضا رسوله صلی الله علیه و اله و سلم.
ص: 431
نعم ، بعد رضاه يتوب الله عليهم، ولكنّ فاطمة ماتت وهي غضبى عليهما ، فلا رافع لغضب الله ورسوله وأذيّتهما عن الشيخين وأعوانهما .
وأما قوله : «حاشاها أن تغضب على وزير أبيها ...» .
ففيه : إن أبا بكر إن خالف حكم الله فلا معنى لمحاشاتها عن الغضب عليه ، وإن لم يخالف حكم الله تعالى بل جرى على حكمه، فما معنى تألمها منه وهجرانها له إلى الموت، ولقاء الله سبحانه ، وهي الطاهرة المطهرة من الرجس ؟
وقد روى مسلم في كتاب البر والصلة ((1)) عن أبي أيوب أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال :«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال»((2)) .
وروى نحوه - أيضاً - عن ابن عمر وأبي هريرة ((3)).
فهل يجوز أن تفعل سيدة النساء التي شهد الله سبحانه بطهارتها من الرجس ما لا يحل لها وتهجر أبا بكر إلى الموت ، وهي ترى أن أبا بكر لم يفعل إلا ما كلّفه الله به وأمره به رسوله صلی الله علیه و اله و سلم؟!
وأما قوله : الأولى الإعراض عن هذه الحكايات ، فخطأ ، إذ بها يعرف الحقِّ من الباطل ويفرح بها المؤمن، لأنّها تكون حجة لدينه الذي يلقى به ربه يوم العرض عليه ، ويتألم بها المنافق ؛ لأنّها تكشف عن نفاقه حيث إنّ الحجّة لزمته وخالفها.
ثمّ إنّ المصنف رحمه الله قال : وأوصت أن لا يصلّيا عليها ، وهذا ليس لفظ الحديث الذي ذكره، لكنّه اشتمل عليه معنى بلحاظ القرائن الدالة عليه ، فإنّ
ص: 432
الحديث صرّح بأنها وجدت على أبي بكر فهجرته حتى توفيت، وأن علياً دفنها ليلاً وصلى عليها ، ولم يؤذن بها أبا بكر .
فإنّ المفهوم عرفاً من ذلك أن عدم إيذانه له بالصلاة والدفن وإيقاعه لهما ليلاً ، إنّما هو لهجرانها له حتّى توفّيت .
وهذا الهجران له يستدعي كراهتها لحضوره ووصيّتها علیها السلام بعدم إيذانه ، مع يمتنع بدون وصيتها عليه أن يخالف أمير المؤمنين علیه السلام السنة النبوية بإعلام المؤمنين بموت المؤمن لتشييعه والصلاة عليه ، ويخالف العادة العرفية القاضية بإجلال سيّدة النساء بإحضار أصحاب أبيها وولاة الأمر بعده ووزرائه في حياته كما زعموا - فلا يمكن أن يدفنها ليلاً مخفياً أمرها عنهم بدون وصيّة منها .
فيا بأبي وأمي ! الناصرة للحقِّ الحكيمة المقيمة للحجة في حياتها وبعد وفاتها ، على ما يعرّف الناس ضلال من ضل ، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم ، فهي لم تنازع القوم طلباً للدنيا بل لإحياء شريعة أبيها ، وإظهار دين الله سبحانه.
وما صارت سيدة النساء إلا بالزهد بالدنيا وحطامها ، والرغبة بما عند الله تعالى وعبادته، لا بالنظر إلى النخيلات ومهاجرة المسلمين عليها حتّى الوفاة ، فالركن الأقوم للحق وإظهاره إنّما قام بها صلوات الله وسلامه عليها .
ص: 433
قال المصنّف - طاب ثراه - ((1)) :
على أن عمر ذكر عن عليّ والعباس ذلك .
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما : قال عمر للعباس وعلي : فلما توفي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله فجئتما أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها .
فقال أبو بكر : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم «نورث ما تركناه صدقة» فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق .
ثمّ توفّي أبو بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنّي لصادق بار راشد تابع للحق فولّيتها .
ثم جئتنی أنت وهذا - وأنتما - جميع وأمركما واحد - فقلتما : ادفعها إلينا»((2)) .
فلينظر العاقل إلى هذا الحديث الذي في كتبهم الصحيحة ، كيف يجوز لأبي بكر أن يقول أنا وليّ رسول الله وكذا لعمر ، مع أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم مات وقد جعلهما من جملة رعايا أسامة بن زيد ؟
وكيف استجاز عمر أن يعبر عن النبي بقوله للعباس : تطلب ميراثك من ابن أخيك ، مع أن الله تعالى كان يخاطبه بصفاته مثل:«يا أيها الرسول ، يا أيها النبي يا أيها المزمل يا أيها المدثر»، ونادى غيره
من الأنبياء بأسمائهم.
ص: 434
ولم يذكره باسمه إلا في أربعة مواطن ، شهد له فيها بالرسالة لضرورة تخصيصه وتعيينه بالاسم ؛ كقوله تعالى :«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل»((1)).
«وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين»((2)).
«برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد»((3)).
«محمّد رسول الله والذين معه»((4)).
ثمّ إنّ الله تعالى قال :«لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا»((5)) .
ثمّ عبّر عمر عن ابنته - مع عظم شأنها وشرف منزلتها - بقوله لأمير المؤمنين علیه السلام : ويطلب ميراث امرأته .
ثمّ إنّه وصف اعتقاد عليّ والعبّاس في حقه وحق أبي بكر بأنّهما كاذبان آثمان غادران خائنان .
فإن كان اعتقاده فيهما حقاً وكان قولهما صدقاً ، لزم تطرّق الدم إلى أبي بكر وعمر ، وأنهما لا يصلحان للخلافة.
وإن لم يكن كذلك ، لزم أن يكون قد قال عنهما بهتاناً وزوراً إن كان اعتقاده مخطئاً ، وإن كان مصيباً لزم تطرّق الدم إلى عليّ والعباس حيث اعتقدا في أبي بكر وعمر ما ليس فيهما .
ص: 435
فكيف استصلحوه للإمامة مع أنّ الله قد نزّهه عن الكذب وقول الزور ؟ ! مع أن البخاري ومسلماً ذكرا في صحيحيهما أن قول عمر هذا لعليّ والعبّاس بمحضر مالك بن أوس ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد ، ولم يعتذر أمير المؤمنين والعبّاس عن هذا الاعتقاد الذي ذكره عمر ، ولا أحد من الحاضرين اعتذر لأبي بكر وعمر .
ص: 436
وقال الفضل ((1)):
أما قول عمر : فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فكل من تولى الخلافة فهو ولي رسول الله ، والمراد بالوليّ ها هنا المتصرّف في أموره بعده ، وهذا وصف الخليفة ، ولا يلزم أن يجعله رسول الله وليه ، كما قدّمنا في معنى الخلافة ، وكذا قول عمر .
وأمّا جعل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لهما من عسكر أُسامة ، لا يقتضي ان يجعلهما رعيته ، فمن أمره صلی الله علیه و اله و سلم أن يذهب إلى عسكر في تحت راية لا يصير رعية لذلك الأمير الذي هو صاحب الراية .
وكان أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يذهبون تحت الرايات في زمانه وبعده وذلك بأمره ، فكانوا رعية الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لا لصاحب الراية ، فإن صاحب الراية من الرعايا ، وهذا طعن في غاية السماجة.
وأما قول عمر لعبّاس : تطلب ميراثك من ابن أخيك، فهذا على طريق محاورات العرب، وهو يتضمّن ذكر علّة طلب الميراث ، فإن علة الإرث كونه ابن أخيه ، وليس فيه إساءة أدب قطعاً .
ألا ترى أن عمر في صدر الحديث قال : فلما توفي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فذكره بلقبه الشريف ، ثمّ ذكره في عين هذا الكلام بما يفيد علة طلب الميراث ، وليس فيه أصلاً سوء أدب ، كما نقله أرباب المحاورات.
وعمر ما ذكر باسمه، فلم يقل : ثم جئت تطلب ميراث محمد ، حتى
ص: 437
يرد ما يقول ويستدلّ به من الآيات .
وكذا قوله لعليّ : وجاء هذا يطلب ميراث امرأته، فهو ذكر علة الإرث ، والأولى ترك ذكر النساء بأسمائهن في محضر الرجال ، فاستعمل الأدب في ترك ذكر فاطمة لا أنّه أساء الأدب .
ثمّ ما ذكره من اعتقاد عليّ والعباس فيهما ، إن كان حقاً لزم تطرّق الدم إلى أبي بكر وعمر ، وإن كان باطلاً لزم تطرّق الذم إلى عليّ والعباس .
فنقول : هذا كلام أدخله هذا الكاذب في الحديث الصحيح من رواية البخاري، فإنّ الصحيح من الرواية ما ذكره البخاري في صحيحه: «أن ابن الخطاب قال : ثم توفي النبي صلی الله علیه و اله و سلم فقال أبو بكر : فأنا ولي رسول الله وأنتما حينئذ - فأقبل على عليّ والعباس - تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان ، والله يعلم أنّه فيه صادق بار راشد تابع للحق .
ثمّ توفّى الله أبا بكر ، فقلت : أنا وليّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأبي بكر ، فقبضته سنتين من إمارتي، وأعمل فيه بما عمل فيه رسول الله وأبو بكر ، والله يعلم أنّي فيه صادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني كلاكما . . . »((1)).الحديث .
هذا لفظ الحديث على مانقله البخاري ، وليس فيه ما قال : فرأيتماه كاذباً غادراً خائناً حتّى يحتاج إلى الاعتذار .
ولو سلّم أنّه مروي ، فهذا كلام يفرضه الحاكم ويقوله على سبيل الفرض والتقدير والزعم ، وأمثال هذه كثيرة في المحاورات ، إن الحاكم إذا حكم بما لا يرضى به الخصم يقول له : تحسبني ظالماً ولست كذلك
ص: 438
والمراد : أنّ حكمي يقتضي أن يكون زعمك في هذا ؛ لأن الحكم لم يكن برضاك ، فهذا هو الظاهر المناسب بحالك ولم يرد حقيقة هذه النسبة .
ولهذا لم يعتذر عليّ ولا العباس ولا أحد من الحاضرين ، وأمثال هذه يعرفها أرباب المحاورات ، ولا يحملون هذا الكلام ألبتة على إرادة إثبات هذا الاعتقاد لهم ، ومن توغل في البغضاء والتعصب يجعل من كل ذرّة جبلاً .
ص: 439
وأقول :
نعم ، وليّ الشخص هو المتصرّف في أموره ، لكن لسلطانه عليه ولو في الجملة ، ولذا لا يصدق على وكيل الشخص أنّه وليه مع أنّه المتصرّف أموره ، ويصدق على المتصرّف فى أمور الطفل والغائب أنّه وليهما السلطانه عليهما ، لقصورهما فعلاً عن هذا التصرّف الخاص .
فإذا قال الشيخان : إنا وليا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فلا أقل من كونه إساءة أدب معه صلی الله علیه و اله و سلم، ولو سلّم عدم اعتبار السلطنة في معنى الولي فدعواهما - أيضاً - أنهما وليا رسول الله غير صحيحةٍ ؛ لأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يستصلحهما في حين وفاته إلا لأن يكونا في جملة رعايا أُسامة ، فيكف صلحا بعده للإمامة على الناس عامة ومنهم أسامة ؟ !
على أن إضافة الولي إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بناء على عدم اعتبار السلطنة في معنى الولي تقتضي ظاهراً أن تكون الولاية مجعولة من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لأنهما حينئذ من إضافة الصفة إلى الفاعل لا المفعول ؛ وذلك باطل بالاتفاق .
وأما ما أنكره على المصنف من دعوى كونهما من رعايا أُسامة ، فهو مناقشة لفظية لا تضر في مقصود المصنف رحمه الله من أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم جعلهم دون أسامة وتحت إمرته.
فكيف يزعمان أنهما أميرا الناس حتى أسامة ؟ !
على أنه قال في القاموس : الراعي : من ولي أمر قوم ، جمعه : رعايا ،
ص: 440
والقوم : رعيّة ((1)).
وروى البخاري في أوّل كتاب الأحكام : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : «كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... والرجل راع على أهل بيته وه-و مسؤول عن رعيّته»(2).
وأما ما ذكره من أن قول عمر لعلي والعباس كان على طريق محاورات العرب ، فهو ظلم للعرب ، بجعل محاوراتهم منافية للآداب ، إلا أن يريد بهم من ينادون النبي صلی الله علیه و اله و سلم من وراء الحجرات ((3)) ، ومنهم عمر ،فإنه نادى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم- وهو في بيته - : نام النساء والصبيان ((4)) .
ولو عقل الفضل لعرف أن معنى كلامه أن عمر ترك آداب الله تعالى للمؤمنين في كتابه الكريم اتباعاً لطريقة جهال العرب في سوء الأدب في المحاورات ، وهو مطلوب المصنف رحمه الله.
وأما قوله : وهو يتضمن ذكر علّة طلب الميراث ، فطريف ؛ إذ أيُّ حاجة إلى بيان العلة في المقام حتى ترك الأدب مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لأجلها.
أكانت مشتملة على نكتة شريفة ؟ أو لم يكن أمير المؤمنين والعباس
ص: 441
يعلمانها ، وهما يدّعيان الميراث ؟ !
أو كانت خفية على الحضور ؟ !
على أنه كان يمكنه الجمع بين بيان العلة وتعظيم الرسول صلی الله علیه و اله و سلم،فيقول مثلاً : جئت تطلب ميراث ابن أخيك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.
وأما ما ذكره من أن عمر قال: «لما توفي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فذكره بلقبه الشريف»، ففيه :
إن المصنف الله ، لم يدع أنّ عمر لم يذكره قطّ بألقابه الشريفة ، بل يقول : إنّه أساء الأدب معه واستخف واستخف به في ذلك الكلام ، كما يعرفه كلّ مدرك .
وقوله : « وعمر ما ذكره باسمه ... إلى آخره، صحيح ، لكن المصنّف رحمه الله لم يدّع أنّه ذكره باسمه ، بل يقول : إن الله تبارك وتعالى - مع كبريائه وعظيم سلطانه - لم يخاطب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلا بألقابه ، ولم يذكره باسمه إلا وقرنه بما يفيد تعظيمه وهو الرسالة ، عند وجود الضرورة الموجبة لذكره باسمه .
وقد نهى عزّ وجلّ عباده المسلمين أن يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضاً، وعمر قد خالف الله في تعظيمه ولم يتأدب بما أدب به المسلمين .
نعم، حمله عبد الرزاق على الحمق، فقد ذكر الذهبي في «ميزان الاعتدال» بترجمة عبد الرزاق أنه قرأ لجماعة هذا الحديث ، فقال : انظروا إلى هذا الأنوك ((1)) يقول : ابن أخيك، من أبيها، لا يقول رسول الله
ص: 442
صلی الله علیه و اله و سلم(1)!
ولكن ياللعجب ! ! كان هذا وبالاً على عبد الرزاق وسبباً لتوهينه ،حتى خرق زيد بن المبارك كتبه عنه((2)).
فكان عندهم عمر أحق بالانتصار من سيّد الرسل ، ومحمولاً منه كل فعل وقول ، حتى بالنسبة إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وصفوته من خلقه.
وأما قوله : « وكذا قوله لعليّ : وجاء هذا يطلب ميراث امرأته ، فهو ذكر العلة» .
فخطأ ؛ لأن كلام المصنف رحمه الله هنا في التعبير عن سيدة النساء بامرأته وهو لادخل له في علة الميراث ، إذ لم يطلب أمير المؤمنين علیه السلام ميراثه من الزهراء حتى يكون قوله «امرأته» بياناً لعلّة الإرث، بل كان ميراث الزهراء من أبيها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كما صرح به الحديث، فيكون قوله «امرأته» إساءة أدب مع سيدة النساء بلا بيان للعلة لو كان ثمة حاجة إليها.
وقوله : « الأولى ترك ذكر النساء بأسمائهن ...» إلى آخره .
صحيح ، لكن المصنف رحمه الله لم يشكل على عمر بعدم ذكرها باسمها ، بل يقول : لِمَ لم يعبّر عنها بما تقتضيه الآداب، كأن يقول : بضعة الرسول ، أو بنت النبي صلی الله علیه و اله و سلم أو سيدة النساء ، أو نحو ذلك ؟ !
واعلم أنّ عمر لم يخل بالآداب مع النبي وبضعته فقط ، بل أخل بها مع مولاه ومولى المؤمنين ، إذ عبّر عنه باسم الإشارة ، بلا إشارة إلى جهة من جهات عظمته.
وأما ما ذكره من أن المصنف رحمه الله أدخل فى حديث البخاري ماليس
ص: 443
منه ، ففيه :
إن المصنّف نقل الحديث عن مسلم والبخاري ؛ لاتفاقهما في المعنى ((1)) ، ذكره بلفظ مسلم الذي رواه في باب حكم الفيء من كتاب الجهاد» ؛ لأنّ به تفصيل ما أجمله البخاري، فإن قول البخاري :«وأنتما تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان» بمعنى قول مسلم : «فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً»بقرينة المقابلة بين قوله تقولان ، وقوله : والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحقِّ .
وكذا قول عمر في حديث البخاري :«والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحقِّ» يدلّ على أنّهما يقولان بخلافه الذي صرّح به حديث مسلم .
ومثل هذا لا ربط له بالإدخال ، كما زعمه الخصم، ولذا استمرت طريقة علماء القوم على نقل الأحاديث المتفقة في المعنى ، بل المتقاربة فيه بلفظ أحدها ، كما يعرفه كل من اطلع على كتبهم الجامعة للأخبار، «كالدر المنثور» ، وكنز العمال، ونحوهما .
وهذا الحديث الذي ذكره الخصم قد رواه البخاري في باب حديث بني النضير من كتاب المغازي(2).
وله حديث آخر رواه في أول كتاب النفقات ، وذكر فيه عن عمر أنّه قال : وأنتما تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا ((3)) ، وهو أقرب للدلالة على المقصود .
وأما ما زعمه من أن قول عمر كان على سبيل الفرض والتقدير
ص: 444
فتأويل مضحك ، إذ كيف لا يكون على سبيل الحقيقة وأمير المؤمنين علیه السلام والعباس يتنازعان عنده في ميراث النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعد سبق رواية أبي بكر وحكمه على الزهراء عليها السلام ؟ !
فإن هذا النزاع بينهما لا يتم إلا بتكذيبهما لأبي بكر في حديثه، وحكمهما بأنّه آثم غادر خائن ، على وجه يعلمان أن عمر عالم بكذب حديث أبي بكر ، وأن موافقة عمر له في السابق لسياسة دعته إلى الموافقة
وإلا فلو لم يعلما ذلك، فكيف تداعيا عنده في الميراث ؟
أمن الجائز أن يتداعيا عنده في رجوع إرث النبي لأيهما ليقضي بينهما فيه على الحق ، وهما يعرفان تصديقه لأبي بكر حقيقة ، وأنه يعتقد صحة حكمه ؟ !
فلا بد أن يكون قول عمر : رأيتماه ورأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً كان على سبيل الحقيقة لا الفرض والتقدير، ولذا لم يعتذرا من عمر ، إذ لا يمكن اعتذارهما عن أمر لا يتم فعلهما إلا به .
وبهذا يعلم أنّ المتعيّن من الاحتمالات الثلاثة التي ذكرها المصنف رحمه الله في قول عمر هو الاحتمال الأوّل أو الثالث ، بل المتعين الأوّل ، عملاً بشهادة الله سبحانه لعلّي علیه السلام، بالطهارة من الرجس.
وأما قوله :«ولهذا لم يعتذر عليّ ولا العبّاس ...»إلى آخره ، فخطأ ، إذ لا يحسن السكوت منهما في مقام فرض الإساءة منهما ، بل اللازم على من لم يسىء أن يتنصل عما نسب إليه وينكره أشدّ الإنكار ، لا سيما مع تعلّق الإساءة في الطعن بكبار الخلفاء بما يسقط دينهم ومروءتهم .
ص: 445
قال المصنّف - أعلى الله مقامه - ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أراد أن يشتري موضع المسجد من بني النجار فوهبوه له ، وكان فيه نخل وقبور المشركين ، فقلع النخل وخرّب القبور (2)، وقد قال الله تعالى :«لا تدخلوا بيوت النبي إلّا أن يؤذن لكم»((3)).
ومن المعلوم أنّ عائشة لم يكن لها ولا لأبيها دار بالمدينة ولا أثرها ، ولا بيت ولا آثره لواحد من أقاربها، وادعت حجرة أسكنها فيها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم،فسلّمها أبوها إليها ، ولم يفعل كما فعل بفاطمة عليها السلام.
ص: 446
وقال الفضل ((1)) :
قد ثبت أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قد جعل كل حجرة ملكاً لصاحبتها ،الساكنة فيها من أزواجه ، وهذا أمر كان مقرراً في زمن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فی حال حياته ، فلا يحتاج إلى طلب البينة بعد الوفاة ، بخلاف فدك ، فإنّها كانت تحت يدي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كسائر أموال الفيء، ولم تكن في تصرّف فاطمة ، فكان الواجب على أبي بكر طلب البينة.
على أنا قد أثبتنا قبل أن حديث دعوى فاطمة النَّحْلةَ وإقامة البينة لم يصح ، لأنّه صح فى البخاري أنّ فاطمة طلبتها من أبي بكر ميراثاً ، فلم يكن لها أن تطلبها نحلة، وقد صح الأوّل فسقط الثاني ، لأنّه غير مذكور في الصحاح ، والله أعلم .
وقد وجدت في كتاب «أعلام الحديث في شرح البخاري» لأبي سليمان الخطابي ((2)) أنه قال:«بلغني عن سفيان بن عيينة ، أنّه كان يقول : أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم في معنى المعتدات، إذ كن لا يجوز لهنّ أن ينكحْنَ
ص: 447
أبداً ، فجرت لهنّ النفقة ، وتركت حُجَرُهنّ لهن يسكنها »((1)) انتهى.
فعلى هذا فهو في حكم الملك.
ص: 448
وأقول :
ما أسهل الدعوى على القوم بلا دليل، فليت شعري ، بم ثبت التمليك الذي زعمه والتقرر الذي التزمه ؟
وغاية ما استدلوا به للتمليك قوله تعالى :«وقرن في بيوتكن»((1))
حيث أضاف البيوت إليهنّ ، وهو خطأ، لأنّ إضافة البيوت إلى النساء ، لا تفيد إلا الاختصاص من جهة السكني ، كما قال تعالى في حق المطلقات :
«ولا تُخرِجوهُنّ من بيوتهن»((2))
على أنه معارض بقوله تعالى :«ولا تدخلوا بيوت النبي»((3)) ،وهو أدل على ملك النبي صلی الله علیه و اله و سلم؛ إذ شأن الرجال ملك مساكنهم ، كما هو الغالب بخلاف النساء ، ولا سيما ذوات الأزواج .
والأمر الأعجب أنّ الخصم بعد تلك الدعوى الخالية عن الدليل ادعى أن فدك لم تكن في تصرف فاطمة علیها السلام ، مع قيام أدلتهم عليه !
فقد عرفت في الطعن على أبي بكر بأمر فدك أن أخبارهم مصرحة بأنه لما نزل قوله سبحانه:«وآتِ ذا القربى حقه»((4)) أعطى رسول الله فاطمة علیها السلام فدك وأقطعها ، إيَّاها ، مضافاً إلى امتناع أن تدعي سيدة النساء النّحلة ، ويشهد بها أقضى الأمة ، وباب مدينة علم الرسول صلی الله علیه و اله و سلم، من دون
ص: 449
أن تكون لها اليد في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لأن الهبة بلا إقباض خالية الأثر .
وأعجب من ذلك إنكاره صحة دعوى الزهراء علیها السلام النحلة مع أنها من أوّل المسلّمات كما سبق وبيّنا بطلان ما استنده إليه في الإنكار .
وأعجب من ذلك كله قوله : « فكان الواجب على أبي بكر طل طلب البينة» .
إذ كيف يجب ، وقد كان له أن يعطيها فدك، كما أعطى جابراً وأبابشير ومعاذاً وأبا سفيان تلك الأموال الجسيمة بعد النبي بأيام يسيرة من دون دعوى ، أو بدعوى العدة بلا بينة ، كما سبق ؟ ! بل اللازم عليه إعطاؤها وفاءً لحق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ورعاية لحرمته وقضاء بشرع الإحسان .
وأما ما نسبه إلى أبي سليمان الخطابي ، فمن أدلّ الأمور على عدم وجود دليل عندهم على تمليك النبي صلی الله علیه و اله و سلم لأزواجه حُجَرهُنَّ ، وإلا فما الداعي له إلى نقل سفسطة ابن عيينة ؟ وأي سفسطة أعظم منها ؟!
فإنّه لو سلّم أن شبيه الشيء في الجملة بحكمه ، فكونهن في معنى المعتدّات لا يوجب أن يكون لهنّ النفقة والسكنى، فإنّ الاعتداد ليس سبباً ذلك ، ولذا لا يجب الإنفاق والسكنى للبائنة ، والمتوفى عنها زوجها ، على أن حق الإسكان إنّما يكون للمرأة على الزوج ، والحُجَرُ بعد النبي ليست له ، بل لورثته أو للمسلمين ، مضافاً إلى أن الكلام ليس في مجرّد السكنى ، بل في إجراء جميع أحكام الملك ؛ كدفن عائشة أباها وصاحبه في بيت النبي صلی الله علیه و اله و سلم بغير إذنه ، ولا إذن ورثته ، ولا المسلمين.
وكمنعها الحسن الزكي علیه السلام عن دفنه عند جده صلی الله علیه و اله و سلم وقد جاءت راكبة على بغل ، وحولها بنو أمية ومروان ، فقال لها ابن عباس :
ص: 450
تجملتِ تبغلْتِ ولَوْ عِشْتِ تَفَيَلْتِ *** لك التسعُ من الثَّمْنِ وبالكل تملكتِ ((1))
وقد ذكر بعض أخبار القوم ركوبها على بغل ، لكن بقصة أخرى كاذبة ، فقد ذكر بن حجر في «تهذيب التهذيب» بترجمة عبد الله بن بن عبد الرحمن ابن أبي بكر ، أنّه قال الزبير بن بكار : أخبرني عبد الله بن كثير بن جعفر : « أنّ عائشة ركبت بغلة وخرجت تصلح بين غلمان لها ولابن عباس ، فأدركها ابن أبي عتيق فقال : يعتق ما يملك إن لم ترجعي ، ، فقالت : ما حملك على هذا ، قال : ما انفض عنا يوم الجمل حتى يأتينا يوم البغلة ((2)).
والظاهر : أنّ الراوي لم ينقل القصّة على حقيقتها ، فإن الإصلاح بين الغلمان لا يحتاج إلى خروجها بنفسها، وركوبها على بغلة ، بحيث خاف منه ابن أبي عتيق أن يكون كيوم الجمل .
ثمّ إنّ الحديث الذي أشار إليه المصنف رحمه الله في أمر مسجد النبی صلی الله علیه و اله و سلم قد رواه البخاري على نحو ورقة من آخر الجزء الثاني من صحيحه ،
ص: 451
ورواه مسلم في باب ابتناء مسجد النبي صلی الله علیه و اله و سلم من كتاب المساجد ((1)).
ص: 452
قال المصنّف - زاد الله في أجره - ((1)) :
وخرجت عائشة إلى قتال أمير المؤمنين علیه السلام، ومعلوم أنها عاصية بذلک.
أمّا أوّلاً : فلأن الله تعالى قد نهاها عن الخروج وأمرها بالاستقرار في منزلها ، فهتكت حجاب الله ورسوله صلی الله علیه و اله و سلم وتبرّجت ، وسافرت في جحفل عظيم ، وجم غفير ، يزيد على سبعة عشر ألفاً ((2)).
وأما ثانياً : فلأنها ليست وليّ الدمّ حتّى تطلب به ولا لها حكم الخلافة ، فبأي وجه خرجت للطلب ؟!
وأمّا ثالثاً : فلأنها طلبته من غير مَنْ عليه الحق ؛ لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يحضر قتله ولا أمر به ولا واطأ عليه ، وقد ذكر ذلك كثيراً .
وأمّا رابعاً : فلأنها كانت تحرّض على قتل عثمان وتقول ، اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ((3)) ، فلما بلغها قتله فرحت بذلك .
فلما قام أمير المؤمنين بالخلافة أسندت القتل إليه وطالبته بدمه ؛ لبغضها له وعداوتها معه ، ثمّ مع ذلك تبعها خلق عظيم ، وساعدها عليه
ص: 453
جماعة كثيرة ألوفاً مضاعفة.
وفاطمة علیها السلام لما جاءت تطالب بحق إرثها الذي جعله الله لها في كتابه العزيز - وكانت محقة فيه - لم يتابعها مخلوق ولم يساعدها بشر.
ص: 454
وقال الفضل(1):
قد سبق أن من خرج على عليّ في أيام خلافته فهو باغ ، والباغي : - عند الشافعي - من يخرج على الإمام لشبهة ، وهؤلاء خرجوا على عليّ - وهو الإمام - بشبهة أنّ في عسكره قتلة عثمان ، لا أنّهم يطلبون دم عثمان من عليّ .
وهذا الرجل فيما مرّ من الكلام أثبت اعتراف علي بقتله عثمان ، وقد أبطلناه ، فما ذكره هنا من تبرئة عليّ من دم عثمان مناقض لما ذكره هناك . وما ذكر أن عائشة كانت عاصية ، فعند أصحاب الشافعي أنّ البغي ليس اسم الذم ، ولا هو من العصيان بشيء ، لأنه خروج بالشبهة ، فصاحبه مجتهد مخطىء ، والمجتهد المخطىء ليس بعاص .
وأما ما ذكر أنّ الله تعالى نهاها عن الخروج ، فذلك النهي مخصوص بالخروج مع التبرّج ، لا كل خروج ، والخروج بالتبرج كان من دأب نساء الجاهلية أن يتبرجن بالحُلي ، فيخرجن لإراءة التبرّج والحلي للناس ، فيطمع الناس فيهنّ ، هذا تبرج الجاهلية .
ولو كان الله تعالى أمرهنّ بترك الخروج مطلقاً ، لكان يحرّم عليهن الخروج للحج والجماعة ، وهذا باطل إجماعاً ، فالنهي مخصوص بالخروج بالتبرج .
وأما ما ذكر :«أنّها ليست وليّ الدّم حتّى تطالب به ، ولا لها حكم
ص: 455
الخلافة».
فجوابه : أنّها خرجت محتسبة ؛ لأنّ قتلة عثمان قتلوا الإمام ، وهتكوا حرمة الإسلام فخرجت تريد الاحتساب ، وأخطأت في هذا الخروج مع الاجتهاد ، فيكون الحق مع عليّ وهي لم تكن عاصية للاجتهاد.
وأما قولها : اقتلوا نعثلاً ، فهذا شيء لم يصح في الصحاح ، وإن صح فنعثل لم يكن من أسماء عثمان ، وربّما أرادت شخصاً آخر.
وما ذكر أنّها كانت عدوة لأمير المؤمنين ؛ فهذا كذب وزور ، وباطل بل ذكر أرباب الأخبار أنّ بعد الفراغ عن وقعة الجمل دخل علي على عائشة ، فقالت عائشة : ما كان بيني وبينك إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها .
فقال أمير المؤمنين : والله ، ما كان إلا هذا ((1)).
وهذا يدلّ على نفي العداوة ، بل هذا من مقاولات ((2)) وأحوال يكون بين المرأة والأحماء ، ولا يسميه الناس عداوة .
وأما ما ذكر أن عائشة ساعدها الناس الكثير .
فالجواب : إنّهم يطلبون بدم ،عثمان ، فتابعوها ؛ لأن قتلة عثمان كانوا في عسكر علي .
وأما قوله : ولم يساعد أحد فاطمة
فنقول ؛ لأن دعوى الإرث ، والرفع إلى الحاكم لا يحتاج إلى جرّ العساكر والمساعدة ، فإنّ هذا دعوى وبيّنة وجواب من الحاكم ، مع أثبتنا أنّ دعوى فاطمة النِّحْلَةَ وإقامة البيئة غير صحيحة .
ص: 456
وأقول :
لا عبرة بالاصطلاحات والعنديّات، وإنّما المدار على الدليل ، مع ان هذا الاصطلاح الذي نسبه إلى الشافعي مخالف حتى لأهل اللغة ، قال في القاموس : بغى عليه : عدا وظلم، وعدل عن الحق ، ثمّ قال : وفئة باغية : خارجة عن طاعة الإمام العادل»((1)).
وكيف لا يكون الباغي عاصياً، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنّة ((2)).
وفي رواية : يدعوهم إلى الله ، ويدعونه إلى النار ((3)) ؟ !
فجعل صلی الله علیه و اله و سلم الباغين دعاة النار .
ووال بل لا إشكال بأن الباغي على أمير المؤمنين علیه السلام مهدور الدم ، فضلاً عن كونه عاصياً ؛ لأمور:
الأول : قوله تعالى :«فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ...»((4))
روى الحاكم في «المستدرك» بمناقب علي علیه السلام، وصححه مع الذهبي على شرط الشيخين ، عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر :
ص: 457
«أنّه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إني والله لقد حرصت أن أتسمت بسمتك ، وأقتدي بك في أمر فرقة الناس ، وأعتزل الشرّ ما استطعت، وإنّي أقرأ آية من كتاب الله محكمة قد أخذت بقلبي ، فأخبرني عنها ، أرأيت قول الله عزّ وجل :«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى ...» الآية ؟ أخبرني عن هذه الآية .
فقال عبد الله : مالك ، ولذلك ؟ انصرف عني .
فانطلق حتى توارى عنا سواده ، وأقبل علينا عبد الله بن عمر فقال : ما وجدت في نفسي من شيء في أمر هذه الآية ، ما وجدت في نفسي إنّي لم أقاتل هذه الفئة الباغية ، كما أمرني الله عزّ وجلّ .
ثمّ قال الحاكم: هذا باب كبير قد رواه عن عبد الله بن عمر جماعة من التابعين(1)...
وروى في الاستيعاب من عدة طرق بترجمة ابن عمر أنّه قال : ما أسى على شيء فاتني إلا أني لم أقاتل مع على الفئة الباغية.
وفي بعضها : أنّه قال ذلك حين حضرته الوفاة ((2)).
ولا ريب أن البغي على علي علیه السلام لم يختص بمعاوية ، بل هو شامل للناكثين والمارقين ، والآية عامة للجميع .
الثاني : الأخبار المستفيضة أو المتواترة القائلة : إن علياً علیه السلام يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على تنزيله ((3)) ، فإنها دالة
ص: 458
على أنّ القتال معهما بحكم واحد واجب من الله سبحانه.
الثالث : الأخبار التي قال فيها رسول الله لعلي: «حربك حربي وسلمك سلمي»((1))، فإنها دالة على وجوب حرب من حارب علياً علیه السلام، كما يجب حرب من حارب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأن المحارب لهما بحكم واحد في وجوب قتله وهدر دمه .
الرابع : الأخبار الآمرة لأمير المؤمنين علیه السلام بحرب الناكثين والقاسطين والمارقين ، وأنه بعهد من النبي صلی الله علیه و اله و سلم.
روى الحاكم في المستدرك» بمناقب علي علیه السلام((2)) عن عقاب بن ثعلبة ، قال : حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب قال : أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ((3)).
وروى الحاكم أيضاً عن أبي أيوب قال : سمعت النبي صلی الله علیه و اله و سلم يقول العلي لعليّ بن أبي طالب : تقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ((4)).
وحكى في كنز العمال في كتاب الفتن عن البزار ، وأبي يعلى عن
ص: 459
عليّ بن أبي ربيعة ، قال : سمعت علياً على المنبر - وأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! مالي أراك تستحل الناس استحلال الرجل إبله ؟ أبعهد من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، أو شيئاً رأيته-؟
قال : والله ، ما كذبت ولا كُذبت، ولا ضللت ولا ضُلّ بي ، بل عهد من رسول الله عهده إلي ، وقد خاب من افترى ، عهد إلي النبي صلی الله علیه و اله و سلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ((1)).
ونقل - أيضاً - في كتاب الفتن عن ابن جرير في «تهذيب الآثار» عن مخنف بن سليم عن أبي أيوب ، وعن ابن عساكر ، عن أبي صادق ، عن أبي أيوب نحو ماسبق ((2)).
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي بهذا المضمون .
الخامس : الأخبار العامه الآمرة بقتل من خرج على إمام زمانه ، ونازعه ؛ كالذي رواه مسلم ((3)) عن عبد الرحمن بن عبد ربه قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص ... إلى أن قال : «فقال: اجتمعنا إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ، وذكر كلاماً لرسول الله من جملته : ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، فَلْيُطِعْهُ إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر .
فدنوت منه فقلت له : أنشدك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم؟
فأهوى إلى أُذنيه : نيه وقلبه بيديه ، وقال : سمعته أذناي ، ووعاه قلبي.
ص: 460
فقلت له : هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله يقول :«يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما»((1)).
قال : فسكت ساعة، ثمّ قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله(2).
أقول : نعمت الشهادة هذه في حق معاوية ، فأي عذر لهم يبقى بعد في موالاته والأخذ عنه في صحاحهم؟ !
وأما ما أجاب به الخصم عن عائشة ، وطلحة والزبير، من أنّهم خرجوا على عليّ بشبهة أن في عسكره قتلة عثمان ، فباطل ؛ لوجوه :
الأول : إنّهم إنما خرجوا على أمير المؤمنين علیه السلام قبل أن يكون له عسكر ، وإنّما اتخذ العسكر لخروجهم عليه ، فأين القتلة الذين في عسكره حتى خرجوا عليه لأجلهم ؟!
ولو سلّم فالمراد بقتلة عثمان إما من باشر قتله ، أو الأعم منهم وممّن أعان عليه.
فإن أريد الأوّل ، لم يجز الخروج على أمير المؤمنين علیه السلام لأجلهم إبتداء ، بل لا بُدّ أوّلاً من إحضار ولي الدم ، أو نيابتهم عنه ، ثمّ محاكمة قاتليه إلى أمير المؤمنين علیه السلام، فإن ثبت قتلهم له وأنّه بغير حق طلبوا من أمير المؤمنين علیه السلام أن يقتص منهم، فإن فعل، فقد كفى الله المؤمنين
ع القتال ، وإن أبى ، كان لهم عذر في الخروج عليه ، ونحن ما عرفنا أن عائشة
ص: 461
وصاحبيها فعلوا ذلك.
وإن أريد الثاني ، فهم أظهر من أعان على عثمان ، لا سيما عائشة وطلحة ، كما سبق وستعرف.
فاللازم عليهم أن يقودوا أولياء عثمان بأنفسهم قبل حرب أمير المؤمنين ، ولا ينتظروا أن يتربص مروان بهم الفرص ، ويقتل طلحة عند الهزيمة .
الثاني : إنّه لا وجه لجواز القاح الفتنة، وشقّ عصا المسلمين ، والخروج على إمام الزمان وإيقاعه في محلّ الهلكة ، وتعريضه للقتل ؛ لأجل الطلب بدم إمام آخر من شخص أو أشخاص في عسكره لعل له عذراً في إيوائهم .
الثالث : إنّ الذين باشروا قتل عثمان لم يكونوا بالبصرة ، فاللازم عليهم أن يطلبوهم بمصر أو الكوفة ، لا أنّهم يخرجون إلى البصرة من دون أن تكون ممهدة لهم ، ويلقحوا الفتنة فيها ، ويخلعوا أمير المؤمنين علیه السلام، ويقتلوا جمعاً كثيراً من المسلمين الأبرياء، وينتهبوا بيت المال، ويفعلوا الأفعال الشنيعة ، ويكون ذلك كله بشبهة أن في عسكر أمير المؤمنين قتلة عثمان ، سبحانك اللهم ! هذا بهتان عظيم .
الرابع : الأخبار المتعلقة ببيعة الناس لأمير المؤمنين ، وبيعة طلحة والزبير له ، وسبب خروجهما وعائشة عليه ، وسيرتهم أيام الخروج عليه إلى انتهاء الحرب .
فإنّها كاشفة عن أن خروجهم للدنيا والرئاسة والعداوة ، لا للطلب بدم عثمان ، وبشبهة أنّهم في عسكر أمير المؤمنين علیه السلام.
ولنقتصر على القليل ، فإنّ الكثير لا يتحمله هذا الكتاب ، فنقول في
ص: 462
تاريخ ذلك.
روى الطبري في تأريخه ((1)) - وكلّ ماننقله عنه هنا من هذا الجزء -: أنّه لما قتل عثمان دخل أمير المؤمنين علیه السلام،منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ولا بُدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ...
فقال : لا تفعلوا، فإنّي أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً .
فقالوا : لا والله، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك .
قال : ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً ، قال ابن عباس لقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبى إلا المسجد ، فلمّا دخل ، دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ، ثم بايعه الناس»((2)).
وقال الحاكم في المستدرك »((3)):«أصح الروايات أنه امتنع عن البيعة إلى أن دفن عثمان ، ثمّ بويع على منبر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ظاهراً ، وكان أوّل من بايعه طلحة ، فقال : هذه بيعة تنكث»((4)) .
وروى الحاكم فيه ((5)) عن سفيان بن عيينة قال : «سألت عمرو بن دينار قلت : يا أبا محمد ! بايع طلحة والزبير علياً.
قال : أخبرني حسن بن محمد - ولم أر أحداً قط أعلم منه - أنهما صعدا فبايعاه وهو في علية ثم نزلا»((6))
ص: 463
وروى ابن أبي الحديد ((1))« أنّه لما بويع كتب إلى معاوية يأمره بالبيعة له ، وأن يوفد إليه أشراف الشام.
فكتب معاوية إلى الزبير : «العبد الله الزبير أمير المؤمنين .
سلام عليك ، أما بعد ..
فإنّي قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله بعدك ، فأظهرا الطلب بدم
عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير.. ».
فلما وصل الكتاب إلى الزبير سُرّ به ، وأعلم به طلحة ، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي .
جاء الزبير وطلحة إلى عليّ ، فقالا : قد رأيت ماكنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان ، وقد ولاك الله الخلافة بعده ، فولّنا بعض أعمالك.
فقال لهما : ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي ، واعلما أني لا أشرك في أمانتي ، إلا من أرضى بدينه وأمانته ، ومن عرفت دَخِيلَتَهُ .
فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس .
ثم ذكر أنّهما طلبا أن يولّيهما البصرة والكوفة فامتنع ، فاستأذناه العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، وإنّما تريدان الغدرة ونكث البيعة.
فحلفا بالله ما الخلاف عليه ، ولا نكث البيعة يريدان .
قال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق ، فأذن لهما ((2)).
ص: 464
وقد ذكر ابن أبي الحديد في تتمة الكلام ما فيه نفع ، فراجع ((1)).
وروى الطبري عن ((2)) الزهري : أنّ الزبير وطلحة سألا أمير المؤمنين أن يؤمّرهما على الكوفة والبصرة ، فقال : تكونان عندي أتجمّل بكما ((3)) .
وروى الطبري ((4)) وابن الأثير في كامله ((5)) :« أنّ عائشة خرجت من مكة تريد المدينة فانتهت إلى سرف ((6)) ، فلقيها عبيد ابن أُمّ كلاب ، فقالت له : مهيم .
قال : قتل عثمان .
قالت : فصنعوا ماذا ؟
قال : اجتمعوا على عليّ .
فقالت : ليت هذه انطبقت على هذه ، إن تمّ الأمر لصاحبك رُدّوني . فانصرفت إلى مكة ، وهي تقول : قتل - والله - عثمان مظلوماً ، والله ، لأطلبن بدمه .
فقال لها : ولِمَ ؟ والله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .
قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقولي الأخير خيرٌ من قولي
ص: 465
الأوّل .
فقال لها ابن أُمّ كلاب :
فمنكِ البداة ومنكِ الغِيّر *** ومنكِ الرّياحُ ومنكِ المطر
وأنتِ أمرت بقتل الإمام *** وقلت لنا: إنّه قد كفر
فهبنا أطعناكِ في قتله *** وقاتله عندنا من أمر
إلى أبيات أُخر .
قالا - واللفظ للطبري - :
«فانصرفت إلى مكة ، فنزلت على باب المسجد ، فقصدت للحجر ، فسترت واجتمع إليها الناس، فقالت: أيها الناس ! إنّ عثمان قتل مظلوماً والله لأطلبن بدمه»((1)) .
وروی نحوه ابن قتيبة في كتاب«السياسة والإمامة»((2)).
وقال ابن أبي الحديد ((3)) كل من صنف في السير والأخبار ، روى أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان ، حتّى إنّها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته .
قالوا : أوّل من سمّى عثمان نعثلاً عائشة ، والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلاً ، قتل الله نعثلاً».
ثمّ نقل ابن أبي الحديد عن المدائني في كتاب «الجمل» قال : «لما
ص: 466
قتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها وهي بشراف ((1)) ، فلم تشك في أنّ طلحة هو صاحب الأمر .
وقالت : بعداً لنعثل وسحقاً ! إيه ذا الإصبع ! إيه أبا شبل ! إيه يا ابن عم ؛ لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له ، حنّوا الإبل ودعدعوها ((2)).
قال : وكان طلحة حين قتل عثمان أخذ مفاتيح بيت المال ، وأخذ نجائب كانت لعثمان في داره ، ثمّ فسد أمره فدفعها»((3)).
ثم ذكر ابن أبي الحديد من نحو هذا كثيراً ، وأنها لما بلغها قتل عثمان قالت : أبعده الله ، حتى جاءها خبر البيعة لعلي ، قالت : لوددت أن السماء
ص: 467
انطبقت على الأرض ((1)).
وروى الطبري ((2)) « أنّ عائشة انصرفت راجعة إلى مكة، حتى إذا دخلتها أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال : ماردك يا أم المؤمنين ؟
قالت : ردني أن عثمان قتل مظلوماً ... فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام .
فكان أوّل من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي ، وذلك أوّل ما تكلمت بنو أُمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم، وقام معهم سعيد بن العاص،والوليد بن عقبة ، وسائر بني أمية .
وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة ، ويعلى بن أُميّة من اليمن ، وطلحة والزبير من المدينة ، واجتمع ملؤُهم بعد نظر طويل في أمرهم على البصرة .
ثم قال : «حتى استقام لهم الرأي على البصرة، وقالوا: يا أُمّ المؤمنين ! دعي المدينة، فإنّ من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها ، واشخصي معنا إلى البصرة ؛ فإنّا نأتي بلداً مضيّعاً، وسيحتجون علينا ببيعة علي بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة»((3)) .
وروی نحوه ابن الأثير في كامله ((4)).
وروى الطبري ((5)) عن الزهري : « أنّ الزبير وطلحة ظهرا بمكة بعد قتل
ص: 468
عثمان بأربعة أشهر، وابن عامر بها يجر الدنيا ، وقدم يعلى بن أُميّة معه بمال كثير ، فاجتمعوا في بيت عائشة ، فأداروا الرأي فقالوا : نسير إلى عليّ فنقاتله.
فقال بعضهم : ليس لكم طاقة بأهل المدينة ، ولكنا نسير حتى ندخل البصرة والكوفة .
فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى البصرة وإلى الكوفة ، فأعطاهم ابن عامرمالاً كثيراً وإبلاً ، فخرجوا في سبعمئة رجل ...، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل ، فبلغ علياً مسيرهم، فأمر على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، وخرج فسار حتى نزل ذاقار ومعه جماعة من أهل المدينة»((1)).
ثمّ روى الطبري ((2)) وابن الأثير ((3)) ، « أنّه أذن مروان حين فصل من مكة ، ثمّ جاء حتى وقف عليهما فقال : فعلى أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة ؟
فقال عبد الله بن الزبير : على أبي عبدالله.
وقال محمد بن طلحة على أبي محمد .
فأرسلت عائشة إلى مروان ، فقالت : مالك ؟ أتريد أن تفرّق أمرنا ؟ ليصل ابن أُختي... ،
فكان معاذ بن عبيد يقول : والله لو ظفرنا لاقتتلنا ، ما خلى الزبير بين
ص: 469
طلحة والأمر ، ولا خلّى طلحة بين الزبير والأمر»((1)).
وروى ابن الأثير والطبري أيضاً : « أنّهم لما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها، فقال: أين تذهبون وتتركون تأركم على أعجاز الإبل وراءكم ؟
قال ابن الأثير - يعني عائشة وطلحة والزبير : عائشة وطلحة والزبير - : اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم .
فقالوا : نسير ، فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً .
فخلا سعيد بطلحة والزبير ، فقال : إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر ؟أصدقاني .
قالا : لأحدنا أينا اختاره الناس.
قال : بل اجعلوه لولد عثمان ، فإنّكم خرجتم تطلبون بدمه.
فقالا : ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم»((2)).
وروى في كنز العمال في كتاب الفتن ((3)) عن ابن أبي شيبة ونعيم بن حماد عن عائشة :«أنّ النبي صلی الله علیه واله وسلم قال لأزواجه : أيتكُن التي تنبحها كلاب الحوأب؟
فلما مرّت عائشة ببعض مياه بني عامر ليلاً ، نبحت الكلاب عليها ، فسألت عنه ، فقيل لها، هذا ماء الحوأب ، فوقفت وقالت ما أظنّني إلا راجعة ، إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم قال ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب .
ص: 470
قيل لها : يا أُمّ المؤمنين ! إنما تصلحين بين الناس»((1))
وروى الحاكم نحوه في مناقب عليّ علیه السلام ((2)).
ليت شعري، أي فتنة بالبصرة مضت تصلحها ؟! وهل الخلاف والفتنة إلا منها ؟ !
وهل بعد تحذير النبي صلی الله علیه واله وسلم محل للإصلاح ؟ !
وأصرح منه في التحذير - مع تعلقه بخصوص عائشة ونهيها - مارواه في «المستدرك» قبل الحديث المذكور بقليل ، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها ، قالت : « ذكر النبي صلی الله علیه واله وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت»((3))!
وما رواه في الكنز - أيضاً - عن نعيم بن حماد في الفتن وصححه عن طاووس : «أنّ رسول الله صلی الله علیه واله وسلم قال لنسائه : أيتكنّ تنبحها كلاب كذا وكذا ؟ إيّاك يا حميراء »((4))!.
ولو لا صراحة كلام النبي صلی الله علیه واله وسلم في التحذير والنهي لما أرادت عائشة الرجوع ، كما سمعت.
وروى الطبري - أيضاً ((5)) - وابن الأثير ((6)) قصة نباح كلاب الحوأب على عائشة ، وأنّها لما عرفت الموضع صرخت بأعلى صوتها ، وقالت : أنا
ص: 471
والله صاحبة كلاب الحوأب ، فأناخت وأناخوا يوماً وليلة ، فجاءها ابن الزبير فقال : النَّجا النجا ، قد أدرككم عليُّ بن أبي طالب فارتحلوا ((1)).
فما أدري مع اليوم غرور لتابعيها ؟ وهل في يومنا محلّ لدعوى ثبوت الشبهة لها بقول هذه الأحوال ، واتضاح الحال ، هل يكون في ذلك مواليها ؟
ولنعد إلى ما نحن فيه من التاريخ، روى الطبري وابن الأثير ما ملخصه:
أنّ عائشة ومن معها لما كانوا بفناء البصرة ، أرسلت عبد الله بن عامر إلى البصرة ، وكتبت إلى رجال من أهلها، فبلغ ذلك عثمان بن حنيف عامل علیه السلام، عليها ، فأمر عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي بالانصراف إلى عائشة ليعلما علمها وعلم من معها ، فعاد أبو الأسود فقال :
یا ابن حُنَيْفٍ قَدْ أُتيتَ فالفر *** وطاعن القوم وجالد واصْبِرِ
وابْرُزس لَهُمْ مُستلئماً وشَمِّرِ
فقال عثمان : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة.
وأقبلت عائشة بمن معها حتى انتهوا إلى المزيد ((2))، فلقيهم عثمان
ص: 472
هناك ، فافترق الناس فرقتين ؛ فرقة له ؛ وفرقة لعائشة ، فتحاتوا وتحاصبوا وأرهجوا ((1)).
ثمّ قال الطبري ، وابن الأثير ما لفظه : « وأقبل جارية بن قدامة ، فقال : يا أم المؤمنين ! والله ، لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضةً للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنّه من رأى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس»((2)) .
ثمّ قال الطبري : « وأقبل غلام من جهينة على محمّد طلحة - وكان محمد رجلاً عابداً ، فقال : أخبرني عن قتلة عثمان ؟
فقال نعم ، دم عثمان ثلاثة أثلاث : ثلث على صاحبة الهودج - يعني عائشة - وثلث على صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة - وثلث على عليّ ابن أبي طالب .
فضحك الغلام وقال : لا أراني على ضلال ، ولحق بعلي غلیه السلام، وقال في ذلك شعراً :
سألت ابن طلحة عن هالك *** بجوف المدينة لم يقبر
فقال : ثلاثة رهط هم *** أماتوا ابن عفان فاستعبر
فثلثٌ على تلك في خدرها *** وثلث على راكب الأحمر
وثلث على ابن أبي طالب *** ونحن بدوية قرقر
ص: 473
فقلت صدقت على الأولين *** وأخطأت في الثالث الأزهر(1)
وروى الحاكم ((2)) عن إسرائيل بن موسى ، قال : سمعت الحسن يقول : جاء الزبير وطلحة إلى البصرة ، فقال لهم الناس : ما جاء بكم ؟
قالوا : نطلب بدم عثمان .
قال الحسن : يا سبحان الله ! فما كان للقوم عقول فيقولون : والله ، ما قتل عثمان غيركم ...»((3)).
وروى الطبري ((4)) عن الزهري : أنّه لمّا بلغ طلحة والزبير منزل عليّ : بذي قار، انصرفوا إلى البصرة، فأخذوا على المنكدر ... إلى أن قال : فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف ، فقال لهم : ما نقمتم على صاحبكم ؟
فقالوا : لم نره أولى بها منا ، وقد صنع ما صنع .
قال : فإن الرجل أمرني ، فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم له، على أن أصلي بالناس حتى يأتينا كتابه ، فوقفوا عليه وكتب ، فلم يلبثوا إلا يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه ... فظهروا ، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله ، ثمّ خشوا غضب الأنصار ، فنالوه في شعره وجسده .
فقام طلحة والزبير خطيبين، فقالا يا أهل البصرة ! توبة بحوبة ((5)) ،إنّما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ، ولم نرد قتله ، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه .
ص: 474
فقال الناس لطلحة : قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا ((1)) ثم ذكر قيام رجل ، قال ما حاصله : إنّ المهاجرين أوّل من أجاب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فلمّا توفّي بايعوا رجلاً منهم من غير مشورة منا فرضينا وسلّمنا ، ثمّ مات واستخلف رجلاً منكم ، فلم تشاورونا فرضينا وسلّمنا ، فلما توفي جعل الأمر إلى سنّة ، فاخترتم عثمان وبايعتموه من غير مشورة منا ، ثمّ أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه من غير مشورة منا ((2)).
ثمّ قال مالفظه : ثم بايعتم عليّاً عن غير مشورة منا ، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحق ، أو عمل شيئاً تنكرونه ، فنكون معكم عليه ، وإلا فما هذا ؟ فهموا بقتل ذلك الرجل ، فقام من دونه عشيرته ، فلمّا كان من الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه فقتلوا سبعين ((3)).
ومثله في كامل ابن الأثير ((4)).
وروى الطبري ((5)) وابن الأثير ((6)) واللفظ للثاني ، قال : وبلغ حكيم بن جبلة ما صُنع بعثمان بن حنيف ؟ فقال : لست أخاف الله إن لم أنصره ،فجاء في جماعة .... فقال له عبد الله بن الزبير : مالك يا حكيم ؟
قال : نريد ... أن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي علیه السلام ، وأيم الله ، لو أجد أعواناً ما رضيت بهذه منكم حتّى أقتلكم بمن قتلتم ، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم ،
ص: 475
أما تخافون الله ؟! بم تستحلون الدم الحرام ؟
قال : بدم
عثمان .
قال : فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان ، أما تخافون مقت الله ؟
فقال له عبد الله : لا نُخلي سبيل عثمان حتى يخلع عليّاً .
فقال حكيم : اللهم ! إنّك حَكَم عَدْلٌ فاشهد . ! إِنَّكَ حکم عدل فاشهد.
وقال لأصحابه : لستُ لستُ في شك من قتال هؤلاء القوم ، فمن كان في شك فلينصرف، وتقدّم فقاتلهم»((1)).انتهى مع حذف بعض الزوائد ، كما في كثير من الأخبار السابقة.
ثمّ قال ابن الأثير : ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف ، فقال لهم : أما إن سهلاً بالمدينة ، فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله فقصد علياً»((2)) .
وروى الطبري ((3)) عن عوف قال : «جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما في المسجد بالبصرة ، فقال : نشدتكما الله في مسيركما ، أعهد إليكما فيه رسول الله شيئاً ؟
فقام طلحة ولم يجبه ، فناشد الزبير ، فقال : لا ! ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها»((4)).
ونقل ابن أبي الحديد نحوه ((5)) عن قاضي القضاة في كتاب
ص: 476
«المغني»(1)وعن أبي مخنف (2)، إلا أن أبا مخنف ذكر هذا القول لطلحة والزبير معاً(3).
وروى الطبري وابن الأثير بعد ما سبق: «أنّه لمّا بايع أهل البصرة الزبير وطلحة ؛ قال الزبير : ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله قبل أن يصل إلينا ؟ فلم يجبه أحد
فقال : إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدّث عنها، فقال له :مولاه :أتُسميها فتنة وتقاتل فيها ؟
قال : ويحك ! إنا نبصر ولا نبصر ما كان أمر قط إلا علمتُ موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ، فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر ؟ ((4)).
ثمّ روى الطبري : « أنّه لما قدمت عائشة كتبت إلى زيد بن صوحان :«من عائشة بنت أبي بكر ، أم المؤمنين ، حبيبة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم إلى ابنها الخالص زید بن صوحان.
أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم ، فانصرنا على أمرنا هذا، فإن لم تفعل ، فخذل الناس عن عليّ».
فكتب إليها : «أما بعد ، فأنا ابنكِ الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك ، وإلا فأنا أوّل من نابذك» .
قال زيد بن صوحان رحم الله أمّ المؤمنين ، أمرت أن تلزم بيتها ،
ص: 477
وأُمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أُمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما أُمرنا به ، ونهتنا عنه »((1)).
وروى الطبري ((2)) عن قتادة قال : نزل علي الزاوية ((3)) ، وأقام أياماً»، ... إلى أن قال : «فأقاموا ثلاثة أيّام لم يكن بينهم قتال ، يرسل إليهم عليّ ،ويكلمهم ويردعهم(4).
قال ((5)) سار علي من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة ، وساروا من الفرضة ((6)) يريدون عليّاً ، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 ، يوم الخميس .
فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه السلاح، فقيل لعليّ : هذا الزبير ! أما إنّه أحرى الرجلين إن ذكر بالله أن يذكر، وخرج طلحة ، فخرج إليهما علي علیه السلام فدنا منهما حتى اختلف أعناق دوابهم . فقال على علیه السلام: لعمري ، لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتها عند الله عذراً ، فاتقيا الله سبحانه ، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي، وأحرّم دماءكما ، فهل من حدث أحل لكما دمي .
ص: 478
قال طلحة : ألبت الناس على عثمان .
قال علي :«يومئذٍ يُوفّيهم الله دينهم الحقِّ ويعلمون أنّ الله هو الحق المبين»((1)).
يا طلحة ! تطلب بدم عثمان ، فلعن الله قتلة عثمان .
يا زبير : أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في بني غنم ، فنظر إلى فضحك وضحكت له ، فقلت ، لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «صه ، إنّه ليس به زهو ، ولتقاتلته وأنت له ظالم» فقال : اللهم ! نعم ، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا والله لا أقاتلك أبداً .
فانصرف علي علیه السلام إلى أصحابه ، فقال : أما الزبير فقد أعطى الله عهداً ألا يقاتلكم .
ورجع الزبير إلى عائشة ، فقال لها : ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا .
قالت : فما تريد أن تصنع ؟
قال : أريد أن أدعهم وأذهب .
فقال له ابنه عبد الله : جمعت بين هذين الغارين ((2)) ، حتى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب ، أحسست رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد.
قال : إني حلفت أن لا أقاتله، وأحفظه ما قال له ، فقال : كفّر عن يمينك وقاتله ، فدعا بغلام له يقال له : مكحول فأعتقه ، فقال عبد الرحمن
ص: 479
ابن سليمان التميمي :
لم أرَ كاليوم أخا إخوان *** أعجب من مكفّر الأيمان
بالعتق في معصية الرحمن ((1))
وروى ابن الأثير نحوه ((2)) ، ولم يذكر المصراع الأخير، ولعله لما إظهار فضيحة الزبير ((3)).
وروى الطبري ((4)) عن الزهري ، قال : لما تواقفوا خرج عليّ على فرسه فدعا الزبير فتواقفا ، فقال عليّ للزبير : ما جاء بك ؟
قال : أنت ، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ، ولا أولى به منا.
فقال عليّ : لستُ له أهلاً بعد عثمان ؟ ! قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك السوء ففرق بيننا وبينك ، وعظم عليه أشياء ، فذكرأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم مر عليهما فقال لعلي : ما يقول ابن عمتك ؟ ليقاتلنك وهو لك ظالم .
فانصرف عنه الزبير ، وقال : إنّي لا أقاتلك ، ثم ذكر قصته مع ابنه عبد الله وتكفيره عن يمينه
ثمّ قال : وكان علي قال للزبير : أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته ؟! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره .
وقال عليّ : يا طلحة ! جئت بعرس رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت ...!
ص: 480
ثم قال : فقال عليّ لأصحابه : أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه ، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى ، وإن قطعت أخذه بأسنانه ؟
قال فتى شاب : أنا ، فطاف على على أصحابه يعرض ذلك عليهم فلم يقبله إلا ذلك الفتى .
فقال له عليّ : أعرض عليهم هذا ، وقل : هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره ، والله في دمائنا ودمائكم .
فحمل الفتى وفي يده المصحف ، فقطعت يداه ، فأخذه بأسنانه حتى قتل.
فقال عليّ : قد طاب لكم الضّراب فقاتلوهم(1).
وروى الطبري - أيضاً ((2)) - نحوه بطريق آخر ، وابن الأثير ((3)) ، وزاد -فيه أن أُمّ الفتى قالت :
نهم(4) إن مسلماً دعاهم *** يتلو كتاب الله لا يخشاهم
وأُمّهم قائمة تراهم *** يأتمرون الغي لا تنهاهم
قد خَضِتْ مِنْ عَلَقٍ لِحَاهُمُ
وفي رواية ابن الأثير للمصراع الرابع : «تأمرهم بالقتل لا تنهاهم»((5)).
وروى الحاكم في «المستدرك»((6)):«أنّه لمّا كان يوم الجمل نادى عليّ في الناس : لا ترموا أحداً بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا
ص: 481
بسيف ، ولا تطلبوا القوم، فإنّ هذا مقامٌ مَنْ أفلح فيه فلح يوم القيامة ، تواقفنا ... إلى أن قال : «ثمّ إنّ الزبير قال الأساورة ((1)) كانوا معه : ارموهم برشق ، وكأنّه أراد أن ينشب القتال .
فلما نظر أصحابه إلى الأنتشاب، لم ينتظروا وحملوا ، فهزمهم الله ، ورمى مروان طلحة بسه فشك ساقه بجنب فرسه ... ، فالتفت مروان إلى أبان بن عثمان - وهو معه - فقال : لقد كفيتك أحد قتلة أبيك»((2)).
وهذا الحديث كغيره يكذب ما جاء في بعض أخبارهم : أن الذين حرّشوا الحرب هم قتلة عثمان ، خوفاً من وقوع الصلح بين الفريقين فيقتلونهم .
وكيف يخافون القتل ، وعائشة وطلحة والزبير أعظم منهم حرباً ؟ !
وإذا فرض توبة هؤلاء الثلاثة عن جناية قتل عثمان ، فالباقون يمكنهم إظهار التوبة اقتداءً بالثلاثة .
وروى الطبري ((3)) قال : «لما انهزم الناس في صدر النهار، نادى الزبير : أنا الزبير .. هلموا إلي أيها الناس ! ومعه مولى له ينادي : أعن حواري رسول الله صلی الله علیه واله و سلم تنهزمون ؟! وانصرف الزبير نحو وادي السباع .
قال : ومرّ القعقاع في نفر بطلحة ، وهو يقول : إلي عباد الله ! الصبر الصَّبْرَ.
فقال له : يا أبا محمد ! إنك لجريح ، وإنّك عما تريد لعليل ، فادخل
ص: 482
الأبيات .
فقال : یا غلام ! أدخلني وابغني مكاناً.
فأدخل البصرة ، ومعه غلام ،ورجلان ، فاقتتل الناس بعده ،فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة، فلما رأوا الجمل أطافت به مضرُ ، عادوا قلباً كما كانوا ... وعادوا إلى أمر جديد»((1)).
وروى الطبري - أيضاً - قبل هذا عن السَّرِي ، قال ما ملخصه : «أقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة ، فقال : أدركي فقد أبى القوم إلا القتال فركبت ، وألبوا هودجها الأدراع ، ثم بعثوا جملها .... فلما برزت من البيوت .... فوالله ما فجأها إلا الهزيمة ، فمضى الزبير من سننه في وجهه ، فسلك وادي السباع ، وجاء طلحة سهم غرب يخلّ ركبته بصفحة الفرس . فلما امتلأ موزجه ((2)) دماً ثقل وقال لغلامه : أردفني وامسكني وابغني مكاناً أنزل فيه ، فدخل البصرة وهو يتمثل مَثَلَهُ ومَثَل الزبير :
فإن تكن الحوادث أقصدتني *** وأخطأهن سهمي حين أرمي
فقد ضيعت حين تبعت سهماً *** سفاهاً ما سفهت وضل حلمي
ندمت ندامة الكسعي لما *** شریت رضا بني سهم برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأي *** فألقوا للسباع دمي ولحمي(3)
ونحوه في كامل ابن الأثير ((4)).
ولنكتفِ بهذا القدر فإنّ الكثير لا يحتمله الكتاب ، وهو كما تراه
ص: 483
صريح في أنّهم إنّما أقدموا خلافاً لأمير المؤمنين ، وطلباً للإمرة والمال ، حتى ماتوا على الخلاف وعدم التوبة .
وقد أظهروا الطلب بدم هم أراقوه، وسيلة لأغراضهم الردية، ولا شبهة لهم من أوّل الأمر إلى آخره بأمر يمكن أن يكون لهم عذراً .
ولينظر المنصف أنّه لو كان الناس بايعوا في أوّل الحال طلحة أو الزبير، أكانت عائشة تخرج طالبة بدم عثمان ؟
ولو أنّ الزبير وطلحة بلغا زينة الدنيا من أمير المؤمنين علیه السلام، أكانا ينكثان البيعة ويتجشمان هذه المهالك ؟
وهذا غير خفي على من عذرهم، ولكن التعصب داء لا دواء له .
ولنعد إلى المناقشة مع الفضل في كلماته...
فأما ما نسبه إلى المصنف رحمه الله من الاعتراف بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام قتل عثمان ، فقد سبق ما فيه ؛ لأن المصنّف إنّما نقل أن أمير المؤمنين علیه السلام قال : إن الله قتله وأنا معه ، وفسّره بأنّ الله تعالى حكم بقتله ، وأنا أحكم بما حكم به، وهذا لا دخل له بالاعتراف المدعى .
وأما ما ذكره من اختصاص النهي بالخروج مع التبرج.
ففيه : إن مراد المصنّف هو الاستدلال بقوله تعالى : الاستدلال بقوله تعالى :«وَقَرْنَ في بيوتكنّ»((1)) الدال على وجوب القرار عليهن في بيوتهن ، على خلاف ما فعلته عائشة ، لا بقوله تعالى :«ولا تبرجن تبرج الجاهليّة الأولى» (2)على أن معنى التبرّج هو إظهار الزينة ، كما في القاموس ((3)) لا الخروج
ص: 484
بالزينة .
وقد فهمت من الآية وجوب القرار عليها في بيتها، وحرّمة هذا المسير عليها شريكتها في خطاب الآية أُم سلمة سلام الله عليها.
فقد روى الحاكم في المستدرك في مناقب علي علیه السلام وصححه مع الذهبي على شرط البخاري ومسلم عن عمرة بنت عبد الرحمن ، قالت :
«لما سار علي علیه السلام إلى البصرة ، دخل على أم سلمة يودعها.
فقالت : سر في حفظ الله وفي كنفه ، فوالله إنّك لعلى الحق والحق معك ، ولو لا أنّي أكره أن أعصي الله ورسوله، فإنّه أمرنا أن نقرّ في بيوتنا لسرت معك ، ولكن - والله - لأرسلن معك من هو أفضل عندي ، وأعزّ عليّ من نفسي ، ابني عمر»((1)).
وقد أقرها أمير المؤمنين علیه السلام على مافهمت ، فأي عبرة بكلام الخصم وأشباهه ؟!
وقد فهم ذلك أيضاً زيد بن صوحان ، حيث قال - كما سبق - : أُمِرَت أن تلزم بيتها ، وأُمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أُمِرَت به ... إلى آخره ((2)) .
فأما قول الخصم : ولو كان الله أمرهنّ بترك الخروج مطلقاً ، لكان يحرم عليهنّ الخروج للحج والجماعة ، وهذا باطل إجماعاً.
ففيه : إن الإجماع دليل مقيد للآية ، فيُتبَعُ بمقداره ، ويبقى إطلاق الآية محكماً في غيره ، ولو حلّ لهنّ مثل هذا الخروج الشنيع في الأرض البعيدة بين الجماهير ، فأي خروج بعده يحرم ؟!
وأما ما زعمه من أنّها خرجت محتسبة ؛ لأنّ قتلة عثمان قتلوا الإمام
ص: 485
وهتكوا حرمة الإسلام، فطريف ، إذ لا جهاد على النساء ، مع أن خروجها على تلك الحال أعظم هتكاً لحرمة الإسلام وحرمة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم .
وهل هو إلا جرح على جرح ، وفساد فوق الفساد ، وسعي في قتل إمام آخر، وقتل ما لا يعد من النفوس البريئة ؟ !
ولو جاز الاحتساب في ذلك ، لجاز لكلّ أجنبي عن المقتول أن يقتل قاتله ، فلم يبق وجه لتخصيص وليّ الدم على أن الذين سعوا في قتل عثمان هم أكثر الصحابة ، وهم يعتقدون أنّ في قتله نصر الإسلام لا هتك حرمة الإسلام ، وهم أقرب إلى الصواب من الخصم .
وكيف تحتسب عائشة في قتلهم وقتل من أخذ بقولهم ، وقد كانت هي وطلحة والزبير أعظم الساعين في قتله ؟! ولئن زعمت توبتها فلعل غيرها قد تاب، ولا يشترط في التوبة الحرب .
وأما ما نسبه إليها من الاجتهاد في حرب أمير المؤمنين علیه السلام، فأطرف من سابقه ، إذ أيّ محل للاجتهاد في حربه بعد نباح كلاب الحوأب ، وإقرار الزبير بحديث رسول الله ، فضلاً عن أمر الله تعالى لها بالقرار في بيتها ؟!
وما أبعد بين ما يراه الخصم من احتسابها وأجرها واجتهادها ، وبين ما يراه أمير المؤمنين علیه السلام في حربه لهم !
روى الحاكم في المستدرك في مناقب علي علیه السلام((1)) عن طارق بن شهاب من حديث قال فيه أمير المؤمنين علیه السلام:«والله لقد ضربت هذا الأمر ،فما وجدت بُداً من قتال القوم ، أو الكفر بما أنزل على محمد صلی الله علیه واله وسلم»((2))
وليت شعري هل كان الخصم أعرف باحتسابها واجتهادها من
ص: 486
عمار ، حيث حكم بأن طاعتها خلاف طاعة الله تعالى ؟ !
فقد روى البخاري على ثلثي كتاب الفتن : أنّ عمّاراً صعد المنبر ،فقال : إن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيَّاه تطيعون ، أم هي ((1))؟
ولكن يا للعجب ! قد زاد الراوي في كلام عمار شيئاً أثبت به المناقضة لعمار وضعف الرأي .
قال :« قال إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنّها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة ، ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم ...»((2)) إلى آخرما ذكرنا .
فإنّها إذا كانت طاعتها خلاف طاعة الله تعالى في هذا المقام العظيم ،كيف تنال تلك المنزلة الجليلة وتكون زوجة خير خلق الله في الجنّة ، ولا سيما بعد مانهاها وأعلمها بنباح كلاب الحوأب ؟ !
وكيف يتصوّر من عمار أنّه في مقام دعوة الناس إلى الخروج إلى حربها يقدّم هذه المقدمة المخذلة عن حربها ؟ !
وأما ما زعمه الخصم من أن قولها: «اقتلوا نعثلاً لم يصح في الصحاح» .
ففيه : إنّه لا يشترط في التاريخ أن يكون من رواية صحاحهم الستة ، وإلا لأسقطنا علم التاريخ إلا النادر .
وأقوى ما عندهم فى التاريخ كتابا الطبري وابن الأثير ، وهما قد ذكرا ذلك ، بل استفاض نقله عندهم((3)).
ص: 487
وقوله :« وإن صح ، فنعثل لم يكن من أسماء عثمان ، وربّما أرادت شخصاً آخر».
خطأ ظاهر ، لأنّ إطلاقه عليه لا يتوقف على التسمية ، بل تكفي فيه المشابهة ، وهو من المشهورات، حتى قال في القاموس : «النعثل : الرجل الأحمق ، ويهودي كان بالمدينة ، ورجل لحياني كان يُشبه به عثمان إذا نيل منه»(1).
مضافاً إلى ما سبق في الأخبار من صراحة إرادتها لعثمان ، ولشهرة هذا الإطلاق عليه جاء في شعر حرب الجمل - كما رواه الطبري ((2)) - عن هانىء الخطابي قال :
أبت سيوف مذحج وهمدان *** بأن تردّ نعثلاً كما كان ((3))
وأمّا إنكاره لعداوتها لأمير المؤمنين علیه السلام فمن إنكار الضروريات ، وأية علامة للعدواة أكبر من عدولها عن السرور بقتل عثمان إلى دعوى الطلب بثأره ، بمجرّد أن عرفت بيعة الناس لأمير المؤمنين علیه السلام، وتمنت أن السماء انطبقت على الأرض ، ثمّ ساقت الجيوش، وألقحت الفتنة في بلاد الإسلام المطمئنة ؟ !
وما رواه عنها من أنّها قالت: «ما كان بيني وبينك إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ((4)) .
أشبه بالهزل ، فإنّه إذا كانت الحرب الضروس من نحو ما يقع بين
ص: 488
المرأة ،وأحمائها ولم تدلّ على العداوة ولا تسمّى بها ، فما العداوة وما الذي يقع بين الأعداء ؟ !
وأما قوله : «إنّ الناس كانوا يطلبون بدم عثمان فتابعوها ...» إلى آخره .
ففيه : إنّ الأمر لو كان كذلك ، فلم لم ينصروه حين أطالوا عليه الحصار حتى قتلوه ؟ .
وأين هم عن قتلة عثمان قبل دعوة عائشة ، وبعضهم بين أظهرهم وهم الأقلون فيهم ، بل عائشة والزبير وطلحة من أظهر مطلوبهم وأكبر ثأرهم؟!
وأما قوله : «إن دعوى الإرث والرفع إلى الحاكم لا تحتاج إلى جرّ العساكر» .
ففيه : إن المصنف رحمه الله لم يُرِدْ أنهم ما ساعدوها على الحرب ، بل أراد أنّهم ما ساعدوها بشيء أصلاً حتى بالقول، فما تبعها منهم أحد في ردّ أبي بكر ، مع وضوح حجتها، ولا تظلم لها بشر ، مع أنّها بضعة نبيهم ، ولم يخلف فيهم غيرها، وما ترفق بها إنسان ، فقال : يا أبا بكر ! .. هَبْ أنّ المال
تب للمسلمين ، فنحن نرعى حرمة نبينا، ونحفظ غيبته بإعطاء ماخلفه ، وكان يملكه لها.
على أنه لو أراد المصنف رحمه لله عدم المساعدة بالحرب، فهو في محله ، لأنّهم رأوا أبا بكر خالف حكم الكتاب العزيز، وبدل الشريعة الأحمدية جهراً، وانتزع ما تحت يدها قسراً ، وجعل نفسه حاكماً وهو الألد ، فآذاها وآذى الله ورسوله بإيذائها ، وبالضرورة : إن حكم من فعل ذلك هو العزل ولو بالحرب .
ص: 489
وبالجملة : إنّا رأينا المسلمين علموا أن عائشة أعظم المحرضين على عثمان ، ولما دعتهم باسم الطلب بثأره إلى حرب إمامهم وأخي نبيهم ومولاهم الذي أوجب عليهم التمسك به كالقرآن ، أطاعوها وحاربوه.
وعلم المسلمون أن أبا بكر عدا على بضعة نبيهم وسيدة النساء ،وقبض ما في يدها ، وطلب منها البينة ، على خلاف حكم الله تعالى .
ثمّ ردّ شهادة من شهد الله لهم بالطهارة ، وحكم عليها - وهو الخصم -وخالف صريح الكتاب في ميراث الأنبياء .
وقد كان الواجب عليه لو لم يكن الحق لها أن لا يمنعها ماطلبت ، حفظاً لنبيهم في بضعته ، وتفادياً عن إيذاء الله ورسوله بإيذائها ، ومع ذلك لم يساعدها المسلمون بكلمة ، وقد استغاثت بهم واستنصرتهم .
فهل ترى ذلك إلا لانقلابهم على أعقابهم ؟! وكما قال الشاعر :
ما المسلمون بأمةٍ لِمُحمّد *** كلا ولكن أُمّةٌ لعتيق
جاءتهم الزهراء تطلب إرثها *** فتقاعدوا عنها بكل طريقِ
وتواثبوا لقتال آل محمّد *** لما دعتهم ابنة الصديق
فقعودهم عن هذه وقيامهم *** مع هذه يغني عن يغني عن التحقيق ((1))
ص: 490
قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :
ثمّ إنّها جعلت بيت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم مقبرة لأبيها ولعمر، وهما أجنبيان عن النبي صلی الله علیه واله وسلم.
فإن كان هذا البيت ميراثاً ، كان من الواجب استئذان جميع الورثة.
وإن كان صدقة للمسلمين ، يجب استئذانهم .
وإن كان ملكاً لعائشة ، كذَّبهم ما تقدّم من أنها لم يكن لها بيت ولا مسكن ولا دار بالمدينة ((2)).
وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم قال : ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ((3)).
وروى الطبري في تاريخه أن النبي صلی الله علیه واله وسلم قال : إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ((4)).
ص: 491
وقال الفضل ((1)) :
قد سبق أن البيت كان لعائشة بتمليك رسول الله صلی الله علیه واله وسلم إياها ((2)) ، وأما نسبة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم البيت إلى نفسه الشريفة ، فلأن البيت له ، وهو مسكنه ،و مضجعه، وعائشة زوجته، ومن يفارق بين المرء والزوجة ؟ ! ولكلّ منهما نسبة البيت إلى نفسهما ، وليس بين المرء والزوجة في البيت والمسكن افتراق واستقلال ، ولكلّ منهما أن يقول : : بيتي .
وأما قولهم : إن عائشة لم يكن لها بيت ولا دار بالمدينة».
فالمراد غير هذه الدار التي ملكها رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.
ثمّ نقول : لو لم يكن البيت لها ، لكان ينبغي أن ينتزع ((3)) عنها أمير المؤمنين في أيّام خلافته ، سيما بعد ما قابلته وغلب عليها، وإلا لكان مقصراً في حق بيت المال إن كان صدقة ، وفي حق أولاده إن كان ميراثاً ، ولكان ينبغي أن ينبش أبا بكر وعمر ، لأنّهما دفنا في الأرض المغصوبة .
ثم إن أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم قد تصرفوا في بيوتهن في حياتهن تصرف الملاك ، ثمّ بعدهنّ تصرّف الورثة فيها تصرّف الملك ، حتى اشتراها عمر ابن عبد العزيز أيام وليد بن عبد الملك ، وجعلها من المسجد ، ولو كان البيت الرسول الله صلی الله علیه واله وسلم، لكان عمر بن عبد العزيز يردّها إلى أولاد فاطمة ويشتري منهم ، كما زعموا أنّه عمل في فدك مثل هذا، وأمثال هذه
ص: 492
الاعتراضات من باب الهذيانات .
ص: 493
وأقول :
قد عرفت قريباً أن دعوى التمليك كاذبة، ولا أثر له في رواية أصلاً ((1)) ، وغاية ما استدلوا به قوله تعالى :«وقرن في بيوتكن»((2)).
وقد سبق أن الإضافة فيه ظاهرة فى الاختصاص من جهة السكني ، بخلاف إضافة البيت إلى النبي صلی الله علیه واله وسلم فإنها ظاهرة في الملك ، كما هو شأن الرجال والغالب ، فمجرد إضافة البيوت إليهنّ لا تستوجب الانتقال إليهن .
وأما قوله : المراد غير هذه الدار ، فتحكّم ، وإنما لم ينتزع أمير المؤمنين علیه السلام البيت من عائشة ، فلئلا يتخذه معاوية وأشباهه وسيلة للطعن عليه ، وخوفاً من زيادة الفتن، على أنّه لا يبعد أن عائشة لم تكن ساكنة البيت بعد دفنهما فلا محلّ لانتزاعه منها .
وأما ما رواه من اشتراء عمر بن عبد العزيز من ورثة أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم فمحل ريب عندي في صدقه ، لكثرة ما رأيته منه من الكذب ،كما كذب في المقام بدعوى التمليك.
ولو صح مارواه ، ففعل ابن عبد العزيز ليس حجّة علينا ، على أنّه إنّما ردّ فدك لثبوت النحلة عنده ، فلا يلزم ردّ البيوت من جهة الميراث ،لاحتمال أنه یری أن ما تركه النبي صلی الله علیه واله وسلم، صدقة ، فتنطبق على أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم وورثتهن .
ص: 494
قال المصنّف - ضاعف الله أجره - ((1)):
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن عائشة قالت ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلی الله علیه واله وسلم مثلما غرتُ على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي صلی الله علیه واله وسلم يكثر ذكرها ، وربّما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربّما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا أمرأة إلا خديجة !! فيقول : إنها كانت ، وكانت ، وكان لي منها ولد ((2)) .
قالت عائشة : وأمره ربّه أو جبرئيل أن يبشرها ببيت في الجنّة من قصب(3).(4)
وأجمع المسلمون على أن خديجة من أهل الجنة ، وعائشة قاتلت أمير المؤمنين ، بعد الإجماع على إمامته ، وقتل بسببها نحو من ستة عشر صحابي وغيره من المسلمين ((5)) ، وأفشت سر رسول الله، كما حكاه الله تعالى ((6)).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين: أن عمر خليفة أبيها شد
ص: 495
عليها بذلك ((1)).
ونقل الغزالي سوء صحبتها لرسول الله صلی الله علیه واله وسلم ، فقال : إن أباها - أبا بكر - دخل يوماً على النبي ، وقد وقع منها في حق النبي صلی الله علیه واله وسلم أمر مكروه ، فكلّفه النبي صلی الله علیه واله وسلم أن يسمع ماجرى ويدخل بينهما ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :تتكلمين أو أتكلم ؟ فقالت : بل تكلم ولا تقل إلا حقاً ((2)).
فلينظر العاقل إلى هذا الجواب ، وهل كان عنده إلا الحق ؟ وينظر في الفرق بين خديجة وعائشة .
وقد أنكر الجاحظ من أهل السنّة في «كتاب الإنصاف» غاية الإنكار على من يساوي عائشة بخديجة ، أو يفضّلها عليها ((3)).
ص: 496
وقال الفضل ((1)) :
أما فضائل خديجة فهي كثيرة لا تحصى ، ووصفها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وقال : «إنّ لخديجة بيتاً من قصب ، لا فيها هم ولا نصب »((2)) .
ومساعيها في خدمة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كثيرة ، وهكذا لكل واحدة من أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم الفضيلة.
وليس لنا ولأمثالنا أن ندخل في الفرق بين أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وما كان لنا أن نتكلم في شأنهنّ بما يشبه طعناً أو قدحاً ، فإن هذا يرجع إلى عرض رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، والتعرض لحرمه ، وهتك سترهن بعد السنين المتطاولة ، وكلّ هذا فيه خطر الكفر نعوذ بالله من هذا .
وما ذكر من إفشاء سر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فهذا منسوب إلى حفصة بلا خلاف بين المفسّرين والمحدثين ، فإنّ الإجماع منهم على أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم دخل في بيت حفصة مارية القبطية ، فغارت حفصة فحرمها على
ص: 497
نفسه مراعاة لخاطر حفصة، واستكتمها السر فأفشته عند عائشة.
وأما ما ذكر من الغزالي أن عائشة قالت لرسول الله : تكلّم ولا تقل إلا حقاً.
فإنّ عائشة كانت من أعلم الناس بأنّ رسول الله لم يقل إلا حقاً ،ولكن هذا كلام يعرض للنساء عند مجادلة الرجل .
فتقوله من الغيرة ، ولم يذكر تتمة الحديث أنّها لما قالت هذا الكلام ضربها أبو بكر ، وقال : أتقولين لرسول الله هذا ؟! وهل يقول غير الحقِّ ؟!
فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: دَعْها ((1)) .
فعلم أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان يعلم أن هذا الكلام منها من فرط الغيرة ، ومن كلام مباحثات النساء مع الرجال، لا أنها ذكرته معتقدة أن رسول الله قد يقول غير الحق .
وأما التفضيل بين عائشة وخديجة ، فليس يتعلق بشيء من أمور الدين ، والله أعلم بحقيقته .
ص: 498
وأقول :
روى البخاري الحديث الأول في باب تزويج النبي صلی الله علیه و اله و سلم خديجة ،أواخر الجزء الثاني(1).
وروى في هذا الباب أحاديث كثيرة في غَيْرة عائشة من خديجة ، منها : ما أخرجه عن عائشة قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك .
فقال : اللهم ! هالة
قالت : فغرتُ ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيراً منها »((2))؟ !
ومثله في صحيح مسلم في باب فضائل خديجة ((3)).
وروی أحمد فی مسنده ((4)) عن عائشة قالت : «كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذا ذکر خديجة أثنى عليها أحسن الثناء ، فغرتُ يوماً ، فقلت : ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق ، قد أبدلك الله بها خيراً منها ؟
قال : ما أبدلني الله عزّ وجلّ خيراً منها ، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني إذ حرمني الناس ، ورزقني الله تعالى ولدها إذ حرمني أولاد الناس» ((5)).
ص: 499
وروى مسلم في الباب المذكور أحاديث كثيرة - أيضاً - في غيرة عائشة من خديجة.
ومنها : عن عائشة قالت : ما غرتُ على نساء النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلا على خديجة ، وإنّي لم أدركها .
قالت : وكان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إذا ذبح الشاة يقول : أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة .
قالت : فأغضبته يوماً ، فقلت : خديجة !
فقال : إنّي رُزقت حُبّها ((1)).
وهذه الأخبار ونحوها دلّت على مطاعن في عائشة.
منها : أنّها أغضبت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ((2)).
ومنها : أنّها ذمّت خديجة وشتمتها بقولها : حمراء الشدقين ((3)).
جَدَ اللهُ عَل وقد روى البخاري ومسلم في كتاب الإيمان عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال :
«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ((4)).
ورويا أيضاً : أنه صلی الله علیه و اله و سلم قال : «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر»((5)).
وعائشة قد اختارت للسبّ خير النساء ، وللقتال خير الأوصياء .
ومنها : أنّها اغتابت خديجة علیها السلام بذلك اللفظ إن صدقت فيه ، وبَهَتَتْها إن كذبت فيه ، وكلاهما حرام .
ص: 500
روى مسلم ((1)) عن أبي هريرة أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : أتدرون ما الغیبة؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ذكرك أخاك بما يكره .
قيل ، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟
قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يكن فيه فقد بهته (2).
ومنها : إنّها حسدت خديجة ، والحسد حرام .
قال رسول الله : « لا تحاسدوا » ، كما رواه البخاري ((3)) ومسلم ((4)) .
وقد وصف الله به الكافرين ، قال:«سبحانه كفاراً حسداً»((5)).
وأثبت فيه الشرّ فقال :«ومن شر حاسد إذا حسد»((6)) ، فإنّ غيرة النساء من حسد بعضهن البعض.
قال في القاموس : حسده تمنّى أن تتحوّل إليه نعمته وفضيلته ، أو يسلبهما ((7)).
وعائشة قد غارت من خديجة وحسدتها على ثناء النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليها وحبه لها ، ففعلت حراماً .
ص: 501
وقد صرّحت رواية الترمذي بلفظ الحسد، فإنّه روى في فضل خديجة عن عائشة قالت : ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة وما تزوجني رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلا بعد ما ماتت وذلك أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بشرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، ثمّ قال هذا حدیث حسن صحيح ((1)) ، وهو دالّ على حسدها لها لبشارة النبي صلی الله علیه و اله و سلم إيَّاها بالجنّة وهو أقبح من سابقه وأسوء أصناف الحسد وقد غارت عائشة من صفيّة أيضاً بما يدل على النقصان الكامل .
روى أحمد في مسنده ((2)) عن عن عائشة قالت : بعثت صفية إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بطعام صنعته له وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رِعْدَةٌ حتى استقلّني أفكل ، فضربت القصعة فرميت بها .
قالت : فنظر إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فعرفت الغضب في وجهه.
فقلت : أعوذ برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يلعنني اليوم ، قال : أولى ...»
الحديث ((3)).
وروى نحوه البخاري ((4)) ، لكنّه لم يصرّح باسم عائشة احتشاماً لها، وهو مشتمل على منكرات أُخر غير الغيرة ، كإتلاف الإناء بما فيه وهو حرام في نفسه مع كونه مال الغير، وفيه إهانة نعمة الله تعالى ، وكإغضاب النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وعدم المبالاة به إذ فعلت الحرام بمرأى منه ، وذلك دال على انحطاط رتبتها عن أداني النساء ، فكيف تقاس بخديجة إحدى أفاضل
ص: 502
النساء وسيداتهنّ الأربع ؟
وقوله : « وليس لنا ولأمثالنا أن ندخل في الفرق بين أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم».
خطاً وتقشف بارد ؛ إذ لسن أفضل من الأنبياء والملائكة ، وقد وقع البحث في أنّ أيّهم أفضل ، ووقع البحث في أفضلية أي الخلفاء .
كما أن قوله : «وما لنا أن نتكلم في شأنهن بما يشبه طعناً أو قدحاً». خطأ آخر ، فإنّ هداية الناس أفضل الطاعات.
وأولى منه بالخطأ قوله : فإنّ هذا يرجع إلى عرض رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم،والتعرّض لحرمه ، وهتك سترهن بعد السنين المتطاولة ... إلى آخره .
فإنّه لو تمّ كانوا هم المتعرّضين لذلك ، لروايتهم له في كتبهم المعتبرة عندهم ، مع أنه سبحانه قال :«لا تزر وازرة وزر أخرى»((1))
وليس العمل غير الصالح من رسول الله ، ولا يلحق به ، قال تعالى :
«إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح»(2).
وقد تعرّض الله سبحانه لامرأة نوح وامرأة لوط ((3))، وضرب بهما المثل ، وهتك سترهما بعد السنين المتطاولة ، وأبقاه ثابتاً على ممر الأيام .
كما فعل ذلك بالتي نحن في الكلام بها ، وبيّن عدم أمانتها وصاحبتها بقوله سبحانه :« وإذ أسرّ النبي ... » الآية ((4)).
ص: 503
وهتك سترهما ببيان عصيانهما ؛ إذ قال :«إن تتوبا»((1)).
وببيان تظاهرهما على وجه أفصح به عن عظم كيدهما ، حيث قال :«وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه ...»((2)) الآية .
إذ لولا أنّ كيدهما ممّا تنشق الأرض منه ، وتخرّ الجبال هداً ، لما هدّدهما بهؤلاء الأنصار ، الذين لا يقوم لهم أحد .
وما اكتفى سبحانه بهذا الهتك لهما، حتّى ضرب لأجلهما المثل بأمرأتي نوح ولوط ، فأبان أنهما من أهل النار ، فقال تعالى :«ضرب الله مثلاً .. »إلى قوله عزّ من قائل :«فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين»((3)).
وأما ما زعمه من عدم الخلاف بين المفسرين والمحدثين في أن التي أفشت سرّ رسول الله حفصة .
فممنوع ، لما في الدرّ المنثور في تفسير سورة التحريم عن ابن مردويه عن ابن عباس أنه صلی الله علیه و اله و سلم أسر إلى عائشة في أمر الخلافة بعده ، فحدثت به حفصة ((4)).
وهو غير بعيد ؛ إذ كما أخبر النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليا بأن الأمة تغدر به ويغصبه الثلاثة ، يمكن أن يخبر به عائشة.
وأما ما ادعاه من الإجماع على أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم دخل بيت حفصة ...إلى آخره .
ص: 504
فباطل ، للخلاف بينهم في أنّ الذي حرمه النبي صلی الله علیه و اله و سلم هو مارية أو شرب العسل ، وكثير من أخبارهم على الثاني .
وسيذكر المصنف في البحث الآتي حديثاً به عن الجمع بين الصحيحين ، وهو ما رواه البخاري في كتاب الطلاق ((1)) ، والنسائي - أيضاً - في كتاب الطلاق بتأويل الآية ، ومسلم في كتاب الرضاع ((2)) عن عائشة،قالت : « إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً ، فتواصیت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل عليها النبي صلی الله علیه و اله و سلم فلتقل : إني لأجد منك مغافیر(3)»(4)
الحديث الآتي في كلام المصنف رحمه الله ، ورواه البخاري في تفسير سورة التحريم ،وفي كتاب الأيمان والنذور في باب : إذا حرم طعامه ((5)).
وهو صريح في كذبهما ، والكذب كبيرة ، لا سيما على النبي صلی الله علیه و اله و سلم حتى حرمتا عليه ما يحبّه.
وما أعجب من هاتين المرأتين ، كيف لم تتأدبا بآداب الله ورسوله ، مع طول الصحبة ، ولم يرعيا لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حرمة حتى آذتاه وتظاهرتا عليه ، فاعتزل نساءه وطلق حفصة كما في مسند أحمد» ((6)) ؟!
ص: 505
وأما ما ذكره من أن عائشة كانت من أعلم الناس بأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يقل إلا حقاً ، فدعوى بلا دليل ، وظاهر كلامها دليل الخلاف.
وأما قول النبي صلی الله علیه و اله و سلم: «دعها » ، فلا شاهد به للخصم ، لجواز كونه من باب:«وأعرض عن الجاهلين»((1)) مع أنها لو كانت عالمة لكانت أحق بالضرب ، لا أن يمنع النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن ضربها ، فإن العالم العامد أولى بالعقوبة ، ولا سيّما نساء النبي صلی الله علیه و اله و سلم اللاتي جعل عذاب المذنبة منهنّ ضعفين .
فباجترائها على رسول الله ، وإظهارها الشك في أمره ، مع علمها بأنّه لا يقول إلا حقاً تكون من أسوأ العالمين المخالفين، بل تدخل ظاهراً في زمرة غير المؤمنين.
ص: 506
قال المصنّف - قدس الله نفسه - ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن ابن الزبير دخل على عائشة في مرضها ، فقالت له : «إنّي قاتلت فلاناً - وسمت المقاتل برجل قاتلته عليه - وقالت : لوددت أني كنت نسياً منسياً»(2).
ومنه عن عائشة :«أنّ النبي كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً ، فاليت أنا وحفصة أن أيّتنا متى دخل عليها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير .
فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك .
فقال : بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت :«يا أيها النبي لِمَ تحرّم ما أحل الله لك»((3)) إلى قوله «إن تتوبا إلى الله»- لعائشة وحفصة -«فقد صغت قلوبكما»((4))«وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً»((5))لقوله : «بل شربت عسلاً»(6).
ص: 507
وقال البخاري في صحيحه : وقال إبراهيم بن موسى عن هشام :«ولن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً »((1)) .
وهذا يدل على نقصها في الغاية
وفيه : أن عائشة حدثت : أنّ عبد الله بن الزبير قال في بيع أو أو عطاء أعطته : والله ، لتنتهينّ عائشة أو لأحجرنّ عليها ((2)).
ولم ينكر عليه أحد ، وهو يدلّ على ارتكابها ما ليس بسائغ .
وفيه عن ابن عباس : قال : لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهنی ((3)).
وهذا يدلّ على استحقاقها الهجران .
وفيه : عن نافع عن ابن عمر قال : قام النبي صلی الله علیه و اله و سلم خطيباً فأشار إلى مسكن عائشة وقال: «هاهنا الفتنة ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان »((4)).
وفيه : قال : خرج النبي من بيت عائشة فقال : رأس الكفر من هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان»(5).
ص: 508
وقال الفضل ((1)) :
ماروى عن عائشة أنّها قالت : إنّي قاتلت فلاناً ، فهذا اعتراف منها وندامة على الخروج، وهذا يدل على منقبتها ، وأنّها رجعت وندمت في حياتها عن الخروج.
فإن كان الخروج ذنباً ، فقد صحت توبتها عنه ، وإلا فلا عليها شيء من الخروج ؛ لأنها عملت بالاجتهاد .
وأما ماذكره من حديث العسل ، فكان هذا من باب غيرة النساء بعضهنّ على بعض ، وهل يؤاخَذْنَ بها ؟!
وأمّا حمل السرّ الذي أفشاه النساء على شرب العسل ؛ فبعيد ولم يذكره المفسّرون ، نعم ، ذكروا ذلك الحديث في هذا المبحث ، بل حملوه على وقوع رسول الله على مارية في بيت حفصة ، كما ذكرنا.
وأما قوله : فهذا يدل على بغضها في الغاية ، فهذا مخالفة لما علم بالضرورة من الدين ، وهو أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يحبّ عائشة حبّاً شديداً ، ولا يحبّ أحداً من النساء مثل حبّها ، وهذا معلوم من ضروريات الأخبار الدينية ، فكيف يثبت أنّه يبغضها ؟
وأما قول ابن الزبير : لأحجرنّ عليها ، فهذا يدلّ على غاية كرمها وعطائها حتى إن ابن الزبير فقد حجرها، لكثرة عطائها ، وبسط يدها في العطية ، وقد أنكرت عائشة على قوله حتى هجرته .
ص: 509
وأما قوله إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أشار إلى حجرة عائشة ، وقال : «هاهنا الفتنة».
فما أجهله بمعاني الأحاديث، وما أردأ فهمه في تلقي معاني الأخبار كانت حجرة عائشة في جانب الشرق من المنبر، وأشار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلى الشرق ، كما يفسره باقي الأحاديث ، وهو أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أشار إلى الشرق ، وقد فسره رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بقوله : «حيث يطلع قرن الشيطان» ؛ والمراد منه : الشرق ، لأنه جاء في حديث آخر : إن الشمس حين تطلع بين قرني الشيطان .
فبهذا فسّر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، إشارته ، وأنه يريد جانب الشرق ولو كان المراد : حجرة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم التي كانت لعائشة ، فكيف يقال : إن قرن الشيطان يطلع من حجرته المقدّسة ؟
والحال أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يطلع من الحجرة، وهذا غاية الجرأة الموجبة لصحة تكفير ابن المطهر النجس ، وأنّى لابن المطهر إساءة الأدب لأهل حرم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والتكلم فيهم ؟ !
فهل هذا إلا جرأة على الله ورسوله ، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يوم الإفك : «من يعذرني فيمن آذاني في أهل بيتي »((1))؟!
وهذا الرجل يؤذي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وقد قال رسول الله في شأن عائشة ذلك اليوم على المنبر :«وما علمت على أهلى إلا خيرا»(2).
ثمّ إنّ ابن المطهر جاء في آخر الزمان وأثبت في أهل بيت رسول الله
ص: 510
صلی الله علیه و اله و سلم الشر والفساد ، وسمّى بيت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و محل قبره المكرّم :
مطلع قرن الشيطان .
وجزاء هذا أنّ أحداً من ملوك الإسلام يعمد إلى قبر ابن المطهر ،فيخرجه من حفرته ويحرقه، فهناك قرن الشيطان ومغرب لعنة الرحمن .
ص: 511
وأقول :
لا دليل في قول عائشة : «لوددت أني كنت نسياً منسيّاً» على توبتها ، لاحتمال إرادتها الأسف من أنّها لم تشف فؤادها ، ولم تبرد غليلها من أمير المؤمنين علیه السلام بقرينة خطابها مع ابن الزبير، إذ يبعد أن تظهر التوبة في خطابه عن أمر يكون طعناً فيه وفي أبيه ، مع إقامته على العداوة الشديدة لولي المؤمنين علیه السلام.
ولو سلّم ، فهذا القول وحده لا يكفي في التوبة مالم تخرج عمّا أراقته من دماء المسلمين وما نهبته من أموالهم، فإن السبب هنا أقوى من المباشر ، والتوبة من ظلم الناس لا تحصل بدون أداء الحقوق لأهلها.
واحتمال معذوريتها وعملها بالاجتهاد مخالف لحالها، من يوم استعدادها لحرب أمير المؤمنين إلى انتهائه، كما مرّ بيانه ، على أن الاجتهاد لا يسقط حقوق الناس ، لا سيما بعد ظهور الخطأ .
وأما ما زعمه في قصة العسل من : أنّ النساء لا يؤاخذن على الغيرة ، فمن الجهل الواضح ؛ إذ لو فرض أنهن لا يؤاخَذْنَ على نفس الغيرة، فكيف لا يؤاخذن على ما أدّت إليه من المحرمات ، كإيذاء رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والكذب عليه ، والتظاهر على الكيد به ؟!
وأما استبعاده لحمل السرّ على شرب العسل أو تحريمه، فقوي جداً ، لكن لا يضرّ في طعن المصنف رحمه الله على عائشة بما أقرت به على نفسها من التواصي على النبي صلی الله علیه و اله و سلم والكذب عليه ، وتسبيب أن على نفسه ما يحبّه أي أمر كان .
ص: 512
على أنّ قوله «لم يذكره المفسّرون ، خطأ، لأن بيان سبب نزول الآي إنّما يؤخذ من الأخبار، فكل ما يذكرونه من الروايات يكون بياناً لسبب النزول .
ولذا نقل السيوطي في لباب النقول بعد ذكر طائفتي الأخبار في سورة التحريم عن ابن حجر أنّه قال : يحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معاً ((1)).
وأما ما نقله عن المصنف رحمه الله من قوله : وهذا يدلّ على بغضها في الغاية .
فخطأ ؛ لأنّ النسخة الصحيحة هي : «نقصها» بدل «بغضها»، وبالضرورة أن من تغار لذلك الأمر اليسير حتى ترتكب الحرام، وتكيد سيد المرسلين عمّا يحبّه لأشدّ النساء نقصاً وأقلهن شأناً .
على أنه بناء على نسخته فالمقصود بغضها للنبي صلی الله علیه و اله و سلم لمنعها له عما يحبّ ، إذ ليس هو من شأن المحبّ ، وليس المقصود بغض النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها ، إذ لا ربط له بالحديث .
ودعوى : « أنّه صلی الله علیه و اله و سلم يحبها حباً شديداً ولا يحبّ من النساء مثلها»كاذبة بشهادة عدم مكثه عندها كما يمكث عند زينب وأم سلمة ، وغيرتها من خديجة لإكثار ذكرها .
والأخبار التي استدلوا بها على حبّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها أكثرها من حديثها ، حتى إن مسلماً لم يرو عند ذكر فضائلها حديثاً في حبّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها إلا عنها .
ص: 513
وأكثر الأخبار التي استفادوا حب النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها إنما كانت من قبيل ما أخبرت به من لعبها بالبنات في دار النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعلمه ، واستماعه إلى لعب الجواري لها في بيته، وإيناسه لها بالنظر إلى لعب الحبشة في المسجد وخدها على خده ((1)) إلى غيرها من الأمور المنكرة المنافية للشرع والغيرة وشرف الرسالة .
وهل يحسن من عاقل أن يصدّق امرأة تخبر بملء فمها بلا حياء : أنّها دخلت بها أمها على النبي صلی الله علیه و اله و سلم عند زواجه بها ، فإذا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم جالس على سرير وعنده رجال ونساء ، فأجلستها في حجره فوثب الرجال والنساء ، كما رواه أحمد في مسنده ((2)).
وأما ما أجاب به عن إرادة ابن الزبير للتحجير عليها، فلا يرفع الإشكال ؛ لأن بسط يدها في العطية لو سلّم لا تستحق به التحجير إذا كان على النحو السائغ ، فينبغي أن تكون ارتكبت ما لا يجوز ، أو أمراً سفيهاً سواء كان بيعاً أم عطاء ، ولذا هدّدها ابن الزبير بالتحجير، ولم ينكر عليه أحد ، وإنكار عائشة نفسها لا يرفع الإشكال .
على أن المرأة لا تمدح على الكرم ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام خيار خصال الرجال شرار خصال النساء ؛ الشجاعة ، والكرم ((3)).
فإن المرأة إذا كانت شجاعة غررت بنفسها كما فعلته عائشة يوم الجمل، وإذا كانت كريمة خانت بيت وليّها .
وظنّي أنّ عائشة لم تفعل ما تستحق به هذا القول من ابن الزبير،
ص: 514
ولكن بخله الشديد دعاه إلى هذه المقالة ؛ إذ لم تكن خازنة وممسكة لكلّ ما في يدها ليبقى إرثاً له .
فالأولى الإيراد على عائشة بأمور أخر يشتمل عليها الحديث ،فلنذكره بتمامه ، لتعرف صحة ماقلنا ، فنقول :
روى البخاري في كتاب الأدب ((1)): «أنّ عائشة حدثت عن عبد الله بن الزبير قال : - في بيع أو عطاء أعطته عائشة - والله ، لتنتهين عائشة أو لأحجرنّ عليها .
فقالت : أهو قال هذا ؟
قالوا : نعم .
قالت : هو الله عليّ نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً .
فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة .
فقالت : لا والله ! لا أشفع فيه أبداً ، ولا أتحنّث إلى نذري .
فلما طال ذلك على ابن الزبير كلّم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن ابن الأسود ، وقال لهما : أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة ، فإنّها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي.
فأقبل به المسوّر وعبد الرحمن حتى استأذنا على عائشة ، قالت :ادخلوا .
قالوا : كلّنا ؟
قالت : نعم .... ولم تعلم أنّ معهما ابن الزبير ، فلما دخلوا دخل ابن الزبير عليها الحجاب ، فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق
ص: 515
المسوّر وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلّمته وقبلت منه ، ويقولان : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم نهى عما قد عملت من الهجرة ، فإنّه لا يحل لمسلم أن يهجر تر أخاه فوق ثلاث ليال.
فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول : إنّي نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلّمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة ، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل خمارها»((1)).
ففي هذا الحديث جهات من الطعن :
الأولى : ما أشار إليه المسوّر وعبد الرحمن ؛ وهو أنها هجرت ابن الزبير فوق ثلاث ، وقد صرّحت أخبارهم بحرمته ، كما رواه المسوّر وعبد الرحمن في هذا الحديث .
ورواه البخاري ((2)) عن أنس وأبي أيوب ((3)).
ورواه مسلم من طرق ((4)) .
الثانية : أنّها قطعت الرحم ، وهو حرام آخر بلا خلاف ، وقد روى مسلم ((5)) أن رسول الله قال: «لا يدخل الجنّة قاطع رحم»((6)).
ص: 516
وروی نحوه البخاري أيضاً ((1)).
الثالثة : أنّها نذرت المعصية وأصرت على إمضائه ، وهو خلاف الشريعة بروايتها ، فقد أخرج البخاري عنها ((2)) أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»(3).
ومثله في مسند أحمد ((4)).
وروی مسلم ((5)) : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : « لا نذر في معصية الله»((6)).
وفي رواية أخرى قال صلی الله علیه و اله و سلم«لا وفاء لنذر في معصية »((7)).
وهذا هو الذي أشار إليه ابن الزبير في قوله السابق : لا يحل لها أن تنذر قطيعتي»، ولا يصح حملها على التأديب ؛ إذ لا يصح التأديب بنذر المعصية وهجران الدهر وقطيعة الرحم ، ولا سيّما أنّه لم يعلم ارتكابه حراماً ، وإنّما اجترأ عليها وأساء الأدب فقط.
أن التأديب لا يناسب قولها بعد أن استشفع إليها : «لا والله ، لا أشفع فيه أبداً ، ولا أتحنّث إلى نذري».
فإنّ هذا القول أنسب بالغل والحقد لا التأديب ، كما أن إرادة التأديب المباح لا تقتضي أن تذكر نذرها وتبكي حتى تبل خمارها .
والظاهر أنّ بعض خصوصيات هذا الحديث من كذبات بعض الرواة ،
ص: 517
كزعم عتقها أربعين رقبة ، فإنّه ليس كفارة لحلف النذر ولا تعلّق له بها أصلاً، على أنّه نذر باطل في نفسه ، لكونه في معصية ، ولو بكت ذلك البكاء ليوم الجمل ، لكان أولى لها .
هذا ، واعلم أنّ الفضل لم يتعرّض لحديث ابن عباس الدال على استحقاقها الهجران ، فلعله غفل عنه ، وإلا فهم لا يعجزون عن المكابرة والتأويلات السوفسطائية .
وأما ما أجاب به عن حديثي : «قرن الشيطان» ، بقوله : أشار رسول الله إلى الشرق ، كما يفسره باقي الأحاديث.
ففيه ، إنّه لا موجب للحمل ؛ إذ ربّما أشار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في باقي الأحاديث إلى الشرق ، وفي هذين الحديثين إلى مسكن عائشة كما ه-و ظاهر الطائفتين ، وفهمه البخاري من أوّل الحديثين المشتمل على لفظ : مسكن عائشة ، فإنّه رواه بعينه في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم من كتاب الجهاد ((1)).
فيقتضي أن يكون فهم منه الإشارة إلى بيت عائشة لتحسن روايته في هذا الباب .
وأيضاً لو أراد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم الإشارة إلى الشرق ، لما قال الراوي : فأشار إلى نحو مسكن عائشة ؛ إذ لم يقع وحده في الشرق من بيوت أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم وغيرها .
ولما أشار النبي صلی الله علیه و اله و سلم بلفظ : «هاهنا» التي هي للإشارة إلى القريب ، بل يلزم أن يقول : هناك ، كما في حديث البخاري في كتاب الفتن الذي
ص: 518
أشار فيه إلى نجد ، فقال صلی الله علیه و اله و سلم: هناك الزلازل والفتن»(1).
هذا تعلم الكلام في ثاني الحديثين ، فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أشار فيه بإشارة القريب ، فيقتضي أن يريد به بيت عائشة ، مع أن السَّوْق يقتضيه .
وقوله : كيف يقال : إن قرن الشيطان يطلع من حجرته المقدّسة».
طريف ؛ اذ أيُّ مانع منه إذا أراد به النبي صلی الله علیه و اله و سلم الكناية عن عائشة ؟ !
ولا ينافي شأنه صلی الله علیه و اله و سلم طلوعه من الحجرة التي تطلع منها عائشة ، كما في نوح ولوط وزوجتيهما .
ولا أدري أي جرأة من المصنف رحمه الله وأي إساءة أدب منه ، وهو إنما نقل كلام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم المروي في كتبهم ؟!
أيرى الخصم أنّ التنبيه على الموجود فيها ، وإظهاره لطالب معرفة الحق جرأة وإساءة أدب ، فعليه لا يجوز للإنسان أن يقرأ قوله تعالى :«إن تتوبا»وقوله :«وإن تظاهرا عليه»((2)) ؟ !
ولو كان مثل هذا جرأة على الله ورسوله لما ضرب الله تعالى لكشف حال عائشة وحفصة مثلاً بامرأتي نوح ولوط ، فإنّه جرأة على ثلاثة من الأنبياء بفضيحة أربع من نسائهم.
وأما ما ذكره من أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال يوم الإفك : «من يعذرني فيمن آذاني في أهل بيتي وقال : ما علمت على أهلى إلا خيراً»
ففيه : - مع أنه من رواية عائشة وهي متهمة في إرادة جلب الفضل لنفسها - أن ظاهره إرادة الإيذاء بنسبة الفاحشة إليها ، وأنه ما علم منها إلا أنّها ليست محلّ الفاحشة ، وهو حق لكنه لا ينافي كونها ذات فتنة ، كما دلّ عليه
ص: 519
الحديث ، وصدّقه الوجدان .
وأما ما أفتى به ودعا إليه قومه من نبش قبر المصنف رحمه الله وحرق جثته الزكيّة ؛ فهو من قبيل اجتهاد عائشة وصاحبيها في نتف لحية عثمان بن حنيف ، وقتل النفوس البريئة .
وكيف يستحق المصنّف رحمه الله ذلك ، وهو إنّما طعن بها بعصيان أمر الكتاب العزيز بالقرار في بيتها وطعن بأنّها صاحبة فتنة ، كما دلّت عليه الأخبار، وشهد به الوجدان ؟ !
فإن أصاب أو أخطأ فهو مثاب لاجتهاده، ولا يوجب ذلك نقصاً رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كما لا يوجب النقص فيه قوله تعالى :«تبَّتْ يدا أبي لهب ...»((1)) ولا سيّما أنّ الزوجة أجنبية ، وكم من زوجة لنبي عاصية ذمّها الله وأولياؤه .
فيا عجباً ! يرون عائشة قد آذت حبيب الله وسيّد النبيين وتظاهرت مع صاحبتها عليه ودعت إلى قتل عثمان ، وسبّبت ذبحه وهتكه ، وحاربت إمام ،زمانها، وشقت عصى المسلمين ولفت الصفوف بالصفوف ، وقتلت الألوف والألوف ، ومع ذلك يعظمونها، ولا يرون عذراً لمن عرف منها ذلك وطعن فيها بسببه ، بل يستبيحون قتله ونبش قبره !
فالله هو الحكم بيننا وبينهم ، وهو أحكم الحاكمين .
ص: 520
قال المصنّف - أعلى الله درجته - ((1)) :
أفلا ينظر العاقل بعين الإنصاف ويجتنب التقليد واتباع الهوى ، والاستناد إلى أتباع الدنيا ، ويطلب الخلاص من الله تعالى ، ويعلم أنه محاسب غداً على القليل والكثير والفتيل والنقير ((2)) ؟ !
فكيف يترك اعتقاده ويتوهم أنه يترك سدى ، أو يعتقد بأن الله تعالى قدر علي هذه المعصية وقضاها فلا أتمكن من دفعها عني فيبريء نفسه قولاً لا فعلاً ؟! فإنّه لا ينكر صدور الفعل من الإنسان إلا مكابر جاحد للحق ، أو مريض العقل بحيث لا يقدر على تحصيل شيء البتة .
ولو كان الأمر كما توهموه ، لكان الله تعالى قد أرسل الرسل إلى نفسه وأنزل الكتب على نفسه، فكل وعد ووعيد جاء به يكون متوجهاً إلى نفسه ؛ لأنه إذا لم يكن فاعل سوى الله تعالى فإلى من أرسل الأنبياء ، وعلى أنزل الكتب ، ولمن تهدّد ووعد وتوعد ؟ ! ولمن أمر ونهى ؟!
أعجب الأشياء وأغربها أنّهم يعجزون عن إدراك استناد أفعالهم أنه إليهم، مع معلوم للصبيان والمجانين والبهائم، ويقدرون على تصديق الأنبياء والعلم بصحة نبوّة كلّ مرسل ، مع استناد الفساد والضلال والتلبيس
ص: 521
وتصديق الكذابين ، وإظهار المعجزات على أيدي المبطلين ، إلى الله تعالى .
وحينئذ لا يبقى علم ولا ظن بشيء من الاعتقادات ألبتة ، ويرتفع الجزم بالشرائع والثواب والعقاب ، وهذا كفر محض.
قال الخوارزمي : حكى قاضي القضاة عن أبي علي الجبائي أن المجبّر كافر، ومن في كفره فهو كافر، ومن في كفر من شك في كفره فهو كافر ((1))
وكيف لا يكون كذلك ، والحال عندهم ما تقدم، وأنه يجوز أن يجمع الله الأنبياء والرسل وعباده الصالحين في أسفل درك الجحيم ليعذبهم دائماً ، ويخلّد الكفار والمنافقين وإبليس وجنوده في الجنة والنعيم أبد الآبدين ؟ !((2))
وقد كان لهم في ذمّ غير الله متّسع ، وفي من عداه مقنع .
وهلا حكى الله اعتذار الكفار في الآخرة ؛ بأنك خلقت فينا الكفر
والعصيان ، بل اعترفوا بصدور الذنب عنهم ؟! وقالوا :
«ربنا أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل»(3).
«ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون»(4).
«وحتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت»(5).
ص: 522
«أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله»(1).
«ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً»(2).
«ربّنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا»(3).
«وما أضلنا إلا المجرمون»(4)
ثمّ إنّ الشيطان اعترف بأنه استغواهم، وشهد الله تعالى بذلك ، فحكى عن الشيطان :
«إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم»(5).
وقال تعالى :«الشيطان سوّل لهم وأملى لهم»(6).
فردوا شهادة الله تعالى واعتراف الشيطان ، ونزّهوه وأوقعوا الله في اللوم والذم .
ص: 523
وقال الفضل ((1)) :
كرّر في هذا الفصل إجمالاً ما ذكره تفصيلاً ، فهو يكرّر الكلام إجمالاً وتفصيلاً.
وقد أجبنا عن كل ماذكره فيما سبق من الكلام ((2)) ، ولمّا كرّر الكلام ألجأنا إلى التكرار في الجواب .
فنقول : ما ذكر أنّه لا ينكر صدور الفعل عن الإنسان إلا مكابر جاحد .
فالجواب : إنّا نقول أيضاً هذا ، فإنّ إنكار صدور الفعل عن الإنسان مكابرة ، وليس هذا محل النزاع ، بل محل النزاع أن الخلق والتأثير غير المباشرة والكسب، أو هما شيء واحد ، وليس هذا من الضروريات .
وأما قوله :«ولو كان كما توهموه لكان الله تعالى أرسل الرسل إلى نفسه».
فالجواب عنه : إن نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالى لا توجب أن يكون مرسلاً إلى نفسه ؛ لأنّ إرسال الرسل إلى مباشر الأعمال السيئة والحسنة ، لا إلى خالق الأعمال، فإنّ خلق الشيء ليس بقبيح بالنسبة إلى الخالق ، وإن كان قبيحاً بالنسبة إلى المباشر والمخلوق ، فلا يلزم ماذكر .
وأما قوله :«من أعجب الأشياء أنّهم يعجزون عن إدراك استناد أفعالهم إليهم، مع أنه معلوم للصبيان والمجانين والبهائم، ويقدرون على تصديق الأنبياء والعلم بصحة نبوّة كل نبي مرسل ...»إلى آخر كلامه.
ص: 524
فحاصله : أن قول الأشاعرة أنّ الأفعال مخلوقة لله تعالى يوجب إسناد الضلال إلى الله تعالى .
والجواب عنه ما ذكرناه مراراً : أن هذا الإيجاب ممنوع ؛ لأنّ الفساد والضلال مستند إلى مباشر الفعل وكاسبه ؛ لأنّه محلّ الفساد والضلال ، لا إلى الخالق ، والفرق بينهما ظاهر.
وقوله : «وحينئذ لا يبقى علم ولاظن بشيء من الاعتقادات».
قلنا : إذا أسند الفساد والضلال إلى الله تعالى ؛ بمعنى أنّه - حاشاه تعالى عن ذلك - فاسد ضال،لارتفع الجزم بالشرائع والثواب ، ولا كلّ من خلق ما يعد فساداً وضلالاً بالنسبة إلى المخلوق لا بالنسبة إليه فهوفاسد.
وهذا الفرق ظاهر ، فكيف يصح أن يقال : إن قائل هذا كافر، وهذا كفر محض ، وقد قال الله تعالى في مواضع عديدة من كتابه :«يضل من يشاء ويهدي من يشاء»(1) «وأضل الله أعمالهم»(2) «وأضله الله على علم»(3) «ليضل الله من يشاء»(4)؟!
فصرائح الآيات تدلّ على نسبة الإضلال إلى ذاته ، فكيف من قال بصرائح القرآن يكون قوله كفراً ؟ !
ولولا أن مذهب الشيخ الأشعري عدم تكفير أحد من أهل القبلة ((5)) ،لكان يجب تكفير ابن المطهر بهذا التكفير !
ص: 525
ولكن ذهب الفقهاء إلى أنّ من جعل جهة الإسلام كفراً فهو كافر ((1)).
وهذا الرجل جعل جهة الإسلام، وهو نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالى - لدلالة صرايح النصوص عليه - كفراً ، فهو مكفّر بهذا التكفير.
ثمّ ما نقل عن الجبّائي أنّ المجبّر كافر ، إن أراد بالمجبّر : أهل السنّة والجماعة من الأشاعرة ، فيجب تكفير الجبائي ، لأنه ذهب كثير من أصحابنا إلى أنّ من يكفّرنا فنحن نكفّره .
وأما قوله :«ومن شك في كفره فهو كافر، يدلّ على غاية تعصب هذا القائل ، وأنّه لم يكفّر لأجل الخطأ في الاعتقاد ، بل يكفّر لأجل التعصب المفرط ، لأنّ الشك في كفر من لم يصرّح الله تعالى بكفره بالخصوص ليس بكفر ، سيما من كان من أهل القبلة ومن المصلين ، كيف يكون الشاك في كفره كافراً ؟ وهذا غاية الجهل والتعصب.
ولا يبعد من المعتزلة المنسوبة إلى المجوس، من كل عابد نار منحوص، أن يكفّروا من شك في كفر أهل القبلة ، ولنعم ما قلت فيهم قبل هذا شعراً :
العصابة تركوا الجماعة وارتموا *** في الإعتزال لهم نفوس بالهة
في خلق أعمال الورى قد أشركوا *** مثل المجوس تفوّهوا بالآلهة
وأما قوله : إنّه يجوز على مذهبهم أن يجمع الله تعالى الأنبياء والرسل في الجحيم، ويجمع الكفّار والشياطين في النعيم .
فالجواب : إنّه لا يلزم من القول بعدم وجوب شيء على الله تعالى أن يفعل هذا، فإنّه جرى عادة الله على إثابة المطيع وعقوبة العاصي بعد أداء
ص: 526
الأعمال ، ولم يجب عليه شيء، وهذا لا يوجب أن يكون العاصي منعماً والمطيع معذباً ، كما يجوز أن لا يخلق الله الشبع عقيب الأكل ، وإن جرى عادة الله تعالى على خلقه، وهي لا تتخلّف .
وبئس المذهب مذهباً يجعل فيه الأشياء واجبة لازمة على الله تعالى ، كما يجب الأشياء للعبيد وينصب الإنسان يوم القيامة نفسه خصماً الله تعالى ويقول : إنّي عملت كذا وكذا ، ويجب عليك أن تعطيني كذا وكذا ، وإلا كنت آئماً خائناً ، لأنك ما أديت حقي ، ولا تفضّل لك عليَّ ، بل كل ما أناله فهو
من عملي وسعيي !
ولو أنّ جميع أعمال الإنسان العابد ألف سنة تقابل نعمة بصره ، لا توازيها ولا تعادلها ، فكيف يجوز رفع التفضّل والقول بوجوب الجزاء ؟
وأما قوله : هلا حكى الله تعالى اعتذار الكفار في الآخرة بأنك خلقت فينا الكفر والعصيان ؟ !
فنقول في جوابه : هذا دليل على أن خلق الأعمال لا يوجب العذر، وإلا اعتذروا به ، فلم يذكر عذرهم ، وبهذا علم أنه ليس يصح أن يكون عذراً ، فإنّ الآخرة منزل انكشاف الأشياء ، ولو كان يصح بوجه لاعتذروا به بل الملامة والعذاب في الآخرة لمباشرة العمل ، وبهذا اعتذروا بذنوبهم ، كما ذكره في الآيات.
ص: 527
وأقول :
الإجمال بعد التفصيل ربّما يكون حسناً في الكلام الواحد لاشتماله على فائدة ، فكيف إذا كان في في المقام ظاهرة ، وهي كلامين ، وفائدته زيادة التنبيه على الحق ، وتأكيد الحجّة ؟ !
وقد عرفت أنّ كلّ مدرك يعلم ببديهته أنّه موجد لفعله ومؤثر فيه ، لا أنه محل لفعل غيره ، كما يزعم القوم ((1)) ، وعرفت - أيضاً - أن الكسب الأشعري خال عن المعنى ((2)) ، على أنه إن كان للعبد تأثير في الكسب فقد وقع الأشاعرة فيما فروا منه ، وإلا فلا فائدة في إثباته ، كما أنه لا معنى لإرسال الرسل إلى المباشر والمحل الذي لا تصرّف له في العمل ، وإنّما يتصوّر إرسالهم إلى من له الأثر في الأعمال ، ولا معنى - أيضاً - لعدم قبح الفعل ممّن أوجده ، وقبحه ممن لم يوجده ، ولم يؤثر فيه أصلاً وإنما كان محلاً صرفاً .
وأمّا جوابه عن تعجّب المصنف رحمه الله فتكرير لمورد التعجب ؛ إذ كيف يستند الضلال إلى من لا أثر له فيه لمحض كونه محلاً له ، ولا يستند إلى موجده ومؤثره ، وهل هذا إلا سفسطة ؟!
وأما قوله : « ولا كلّ من خلق ما يعد فساداً وضلالاً فهو فاسد»، فصحيح ، لكنه لا بد أن يكون مفسداً ومضلاً، فلا يبقى وثوق بشرائعه ، ولا علم ولاظنّ بشيء من الاعتقادات، وهذا محض الكفر وليس من جهة
ص: 528
الإسلام ، ولذا ورد أن القدرية مجوس هذه الأُمّة(1).
والآيات التي ذكرها الخصم لا يراد بها ظاهر معناها ، بقرينة حكم العقل ببطلانه ، وقيام الأدلة على خلافه ، كقوله تعالى :
«الرحمن على العرش استوى»(2) «وخلقتُ بيدي»(3) «وجاء ربِّك والملك»(4)، إلى كثير من الآيات.
فلا بد من حمل الآيات التي ذكرها على إرادة فعل المقدمات التي لا يزول معها الاختيار والقدرة ، مضافاً إلى أن لفظ «الإضلال» مشترك لفظاً معان كثيرة ، منها الإهلاك ، والتدمير ، والتعذيب ، والخذلان .
وأما قوله : «ولو لا أن مذهب الشيخ الأشعري عدم تكفير ...» إلى آخره، فهو كلام من يرى أنّ مرتبة الأشعري فوق مرتبة الأنبياء، فإنّهم أجازوا لعمر أن يخالف النبي صلی الله علیه و اله وسلم بالاجتهاد ، ولم يجيزوا لأحد مخالفة الأشعري بالاجتهاد.
وأما تعليله لوجوب تكفير الجبائي بذهاب الكثير من أصحابهم إلى تكفير من يكفرهم ، فمضحك ؛ لأن الاعتبار بالدليل لا بقولهم كلاً أو بعضاً ، ونسبة الجبائي في المقام إلى التعصب خطأ ؛ لأنّه بعد فرض أن القول بالجبر مخالف لضرورة العقل والدين، وأنّ القول بما يخالف ضرورة الدين كفر
ص: 529
بضرورة الدين، يكون الشاك في كفر من حكمت ضرورة الدين بكفره كافر، وهكذا الكلام في كفر الشاك بكفر الشاك.
وأما ما أشار إليه في كلامه وشعره من إشراك المعتزلة ، فغير بعيد لأنهم فوضوا الأفعال إلى العبد وجعلوه مستقلاً تاماً في إيجادها بمقدّماتها كما يستقل الله سبحانه في أفعاله.
وأما نحن فنقول - كما قال إمامنا الصادق علیه السلام - :«لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين »(1).
كما سبق في مسألة خلق الأفعال في الجزء الأول(2).
ولو كان مجرد تأثير العبد في شيء شركاً ، لكان القول بالكسب - أيضاً - شركاً ، إن كان للعبد أثر فيه، وإلا كان تطويلاً لمسافة الجبر بلا فائدة .
وأمّا قوله : «فالجواب إنّه لا يلزم من القول بعدم وجوب شيء على الله تعالى أن يفعل هذا».
ففيه : إن المصنف رحمه الله لم يدّع لزوم أن يفعل ، وإنّما ادّعى لزوم تجويز أن يفعل ، وبالضرورة أن القول بجواز أن يخلّد الله في النار أنبياءه وعباده الصالحين ، ويخلّد في الجنّة أعداءه من الكفرة والشياطين ، مخالف للدين .
ودعوى العادة من الله على خلاف ذلك غير نافعة ، بعد عدم وجوب الالتزام بعادة على الله سبحانه ، إذ لا يجب عليه شيء عندهم، بل غير مسموعة أصلاً ممن لم يشاهد يوم القيامة ، ولم يعرف عادة الله تعالى فيه
ص: 530
ودعوى العلم بها من وعد الله ووعيده باطلة ، إذ لا يجب عليه الوفاء بما وعد وتوعد ، لأنّه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء .
وأما قوله : «بئس المذهب مذهباً يجعل فيه الأشياء واجبة على الله تعالى ، كما يجب الأشياء للعبد...»إلى آخره .
ففيه : ماسبق من الفرق بين الوجوبين، بإنّما الوجوب على العبد إنّما هو من مولاه ، والوجوب على الله تعالى إنّما هو من عدله ونفسه ، فيجب عليه بعدله جزاء ما كلّف عبده به ، والعادل لا يتخلف عما يجب عليه ، ولا يحتاج العبد إلى أن ينصب نفسه خصماً الله تعالى ، ولا إلى أن يخاطبه بذلك الخطاب الذي تشدّق به الفضل ، ولا يخاطب به إلا الجائرون الظالمون .
ولو امتنع أن يجب على الله تعالى شيء ، فكيف كتب على نفسه الرحمة ، وقال :«وكان حقاً علينا نصر المؤمنين»(1) ؟ !«وعلى الله قصد السبيل»((2)) ؟ !
وقوله : « ولو أنّ جميع أعمال الإنسان العابد ...» إلى آخره .
مسلّم لا ريب فيه ، وكيف يقدر العبد على جزاء أقل نعم ربّه ، وكلّ شيء من بدنه وماله نعمة من نعم الله تعالى ؟ !
ولو قام العبد عمر الدنيا بالعبادة لما أدى شكر أقل القليل من نعمه سبحانه ، إذ كيف يؤدي العبد الذليل شكر عناية المولى الجليل به ولو بأدنى النعم ؟ !
ولكنه تعالى جلّت آلاؤه لما ابتدأنا بالنعم تفضّلاً، ورحمة - والجواد أجل من أن يطلب من عبده جزاء ما تفضّل به عليه ، بل يقبح منه ذلك
ص: 531
لغناه - كان تكليفه لنا وإلحاقه المشقة بنا خارجاً عن جزاء نعمه ، فكأنه تعالى كلّفنا ولم يسبق له حق علينا، فلا بد أن نستحق بما كلّفنا به جزاء ، وإلا قبح تكليفه لنا وإدخاله المشقة علينا .
وهو مع ذلك يزيدنا من فضله، فما يسديه إلينا بعضه عدل ، لأنه جزاء ،عملنا وبعضه فضل ، بل كلّه فضل ؛ لأنّ تكليفه لنا بأمر نستحق، بالطاعة فيه الجزاء ، لطف منه وفضل ، فما أظهره الخصم من استلزام قولنا إنكار التفضّل من الله عزّ وجلّ كذب ظاهر .
ومجرد وجوب شكر النعم - عقلاً - بطاعته وعبادته لا ينافي استحقاق الأجر من حيث التكليف منه .
وأما قوله : «هذا دليل على أن خلق الأعمال لا يوجب العذر ...» إلى آخره .
فمن العجائب ، ومكابرة العقل والضرورة ؛ لأنّ خلق العمل في العبد قهراً عليه إذا لم يكن صالحاً للعذر له، فكيف يمكنه أن يعتذر بإضلال السادات والكبراء والشياطين له ؟! والحال أن إضلالهم له ليس بفعلهم وتأثيرهم ، فيترك الإنسان - وهو أكثر شيء جدلاً - العذر القوي الواضح ،ويعتذر بالعذر الضعيف الساقط .
وكيف يتصوّر أن يطلبوا الرجوع لأن يعملوا صالحاً ويقولون : إن عدنا فإنا ظالمون ، وهم يعلمون أنّه لا أثر لهم في العودة، كما في السابق ؟ ! أو كيف يتحسّرون على تفريطهم وهم يعرفون أن الأثر لغيرهم؟!
ص: 532
قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين قال : قدم على رسول الله فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي ، فأخذته فالزقته ببطنها فأرضعته.
فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: أتَرَوْنَ هذه المرأة طارحةً ولدها في النار ؟
قلنا : لا والله !
قال : الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها(2).
وفيه : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : إن الله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها يعطف الوحش على ولدها ، فأخّر الله تسعاً وتسعين رحمة ، يرحم بها عباده يوم القيامة ((3)) .
وفيه : عن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : « إن الله يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني .
قال : ياربِّ ! كيف أعودك وأنت ربّ العالمين ؟
قال : أما علمت أنّ فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟
ص: 533
يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني.
قال : يا ربّ! كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين ؟
قال : إنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟!
يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني
قال ياربِّ ! كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين ؟
قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ؟»((1))
وفيه : عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول : الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوّية مهلكة ففقد راحلته فطلبها ، حتى اشتدّ عليه الحر والعطش ما شاء الله تعالى . قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه ، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ((2)) .
وقد صرّح الله تعالى في كتابه في عدة مواضع برحمته وإحسانه وتفضّله ، وكيف يتحقق ذلك ممّن يخلق الكفر في العبد ويعذبه عليه ويخلق الطاعة في العبد ويعاقبه - أيضاً - عليها ؟
فهذه أصولهم الدينية التي يدينون الله تعالى بها.
فيجب على العاقل أن ينظر لنفسه هل يجوز المصير إلى شيء منها ؟ !
ص: 534
وهل يحل له القول ببعضها ؟
ص: 535
وقال الفضل ((1)) :
ما ذكره في هذا الفصل أن الأحاديث دلّت على فضل الله تعالى ورحمته وترحمه على عباده ، وهذا لا يجتمع مع خلق الكفر فيهم والعقوبة عليه.
والجواب : إنّ الله تعالى كما هو رحيم على عباده المؤمنين ، قهار منتقم من عباده الكافرين، فالرحمة واللطف لمن خلقه مؤمناً في الأزل ، والقهر والانتقام لمن خلقه كافراً في الأزل ، والذي خلق فيه الكفر جعله من أهل القهر والذي خلق فيه الإيمان جعله من أهل اللطف ، وهذه الأشياء جرت في الأزل ،«لا تبديل لكلمات الله»(2).
ألم تسمع ما ورد في الحديث : «إنّ الله خلق الجنّة ، وخلق النار،فخلق لهذه أهلاً ، ولهذه أهلاً وهم في أصلاب آبائهم»((3))؟
فما ورد من أخبار الرحمة والشفقة فهي للمؤمنين ، وليس للكافر الذي خلق للنار من هذا نصيب.
وأما خلق الكفر والعقوبة عليه ، فقد مرّ جواب هذا ((4)) ، وهو أنّه تعالى ليس بظالم في هذا التصرف لأنه ملكه وله أن يتصرّف في ملكه ما يشاء ، يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد،«ولا يسأل عما يفعل وهم
ص: 536
يسألون»(1).
هذا مذهب أهل الحق ، وما ذهب إليه هذا الرجل وأمثاله ، بدعة باطلة ناشئة من أُصول فاسدة، كما علمت فسادها بحمد الله في هذا الكتاب مفصلاً .
ص: 537
وأقول :
حاصل جوابه : أنّ الله سبحانه رحيم ببعض العباد ، غير رحيم ببعض آخر ، فإنّه خلق الكافر وليس له من الرحمة نصيب.
وعليه فلا تكون رحمة الله سبحانه ذاتية وثابتة له من حيث هو ، بل يرحم من يشاء لمحض الرغبة والتشهي، وهي على هذا صورة رحمة لا حقيقة لها، وهذا هو الكفر المحض المخالف للكتاب والسُنّة وضرورة الدين .
وأما قوله : إنه تعالى ليس بظالم في هذا التصرّف لأنه ملكه .... إلى آخره .
فَلَغو آخر تقدّم جوابه ((1)) ، وهو أنّه ليس من شأن الملكية التصرّف فى المملوك كيف كان ، وإن أضر به وعذبه بلا سبب ، بل هذا مخالف لشأن الملكية ، فإنّ شأنّها رعاية المملوك ورحمته ، فمن عذب مملوكه بلا ،موجب ، وأضرّ به بلا داع، فقد خالف مقتضى الملكية ، وأساء بالضرورة ، وما يدري الإنسان بم يكلّم هؤلاء وقد بنوا مذهبهم على خلاف الضرورة؟!
ص: 538
قال المصنّف - أعلى الله درجته - ((1)) :
المسألة السادسة في المعاد :
هذا أصل عظيم وإثباته من أركان الدين، وجاحده كافر بالإجماع ، ومن لا يثبت المعاد البدني ولا الثواب والعقاب وأحوال الآخرة فإنّه كافر إجماعاً ، ولا خلاف بين أهل الملل في إمكانه ؛ لأنه تعالى قادر على ك-لّ مقدور ، ولاشك في أن إيجاد الجسم بعد عدمه ممكن ، وقد نص الله تعالى عليه في قوله:
«أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى ..»(2).
وقال تعالى :«من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكل خلق عليم»(3).
والقرآن مملوء من ذكر المعاد وإن اختلفوا في كيفية الإعادة والإعدام،وتفاصيل ذلك ذكرناها في كتبنا الكلامية ((4)) ، لكن البحث هاهنا عن شيء
ص: 539
واحد ، وهو أن القول بإثبات المعاد البدني الذي هو أصل الدين وركنه ، إنّما يتم على مذهب الإمامية، أما على مذهب أهل السنة فلا؛ لأن الطريق إلى إثباته ليس إلا السمع ((1)) ، فإنّ العقل إنّما يدلّ على إمكانه ، لا على وقوعه .
وقد بيّنا أن العلم بصحة السمع وصدقه إنّما يتم على قواعد الإمامية القائلين بامتناع وقوع القبيح من الله تعالى ((2)) ؛ لأنّه إذا جاز أن يخبرنا بالكذب ، أو يخبر بما لايريده ولا يقصده، فحينئذ يمتنع الاستدلال بإخباره تعالى على إثبات المعاد البدني ، والشك في ذلك كفر فلا يمكنهم حينئذ الجزم بالإسلام ألبتة .
نعوذ بالله من هذه المقالات التي توجب الشك في الإسلام .
ص: 540
وقال الفضل ((1)) :
قد سمعت فيما مرّ مراراً أن إجماع جميع واقع على امتناع وقوع القبيح من الله تعالى ، وامتناع الكذب عليه تعالى عن ذلك.
لكن المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة وغيرهم أسندوا امتناع القبح والكذب عليه ، بالحسن والقبح العقليين .
والأشاعرة أسندوهما إلى لزوم النقص في صفاته، ولا نزاع في المدعى ، إنّما النزاع في طريق إثباتها.
فالأشاعرة يثبتون من طريق لزوم النقص وهو محال ، والمعتزلة والشيعة يثبتون من طريق الحسن و القبح العقليّين ((2)).
وقد عرفت - أيضاً - أنّ كلّ الدلائل التي أقام هذا الرجل على امتناع فعل القبيح من الله تعالى ، كلها من باب إقامة الدليل على غير محل النزاع ، ثمّ يكرّر في هذا المقام ويأتي بكلامه المفترى ويرتب عليه المفاسد .
ص: 541
وأقول :
نعم ، قال الأشاعرة : إن الله سبحانه لا يفعل القبيح ((1)) ، لكن من حيث إنه لا يقبح منه شيء ، فهو - سبحانه - موجد عندهم للقبائح : من الكفر والفساد ، والزنا، واللواط والسرقة ، ونحوها ، ولكن لا تكون قبيحةً منه ،وهو غير معقول(2).
وأما ما زعمه من أنّهم يقولون : بامتناع الكذب عليه للزوم النقص في صفاته.
ففيه : إنّه لو تمّ فإنّما يتم في إثبات امتناع الكذب في كلامه النفسي الذي يقولون به ؛ لأنّه من الصفات(3).
وأما بالنسبة إلى كلامه اللفظي الذي يخلقه في شجرة أو على ألسنة رسله من الملائكة والأنبياء فلا يوجب هذا الدليل امتناع الكذب فيه ؛ لأنّه من الأفعال لا من الصفات(4).
والمدار في إثبات المعاد الجسماني على لزوم صدق هذا الكلام اللفظي ؛ لأن الإخبار عن المعاد إنما وقع بهذا الكلام.
وقد تقدّم تمام الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب ، فراجع(5).
ص: 542
وما زعمه أنّ الدلائل التي أقامها المصنف رحمه الله كلها من إقامة الدليل على غير محل النزاع ، باطل .
ويكفي في معرفة بطلانه أن يعير العاقل تلك الأدلة أذناً واعية ، وينظرها بنظرة من نظرات الإنصاف ، والله ولي التوفيق .
ص: 543
قال المصنّف - شرف الله خاتمته - ((1)) :
ومنعت الأشاعرة من استحقاق الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ((2)) ، وخالفوا في ذلك نص القرآن ، وهو قوله تعالى :«فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره»(3).
وقال تعالى:«اليوم تجزى كل نفس بما كسبت»(4) «اليوم تجزون ما كنتم تعملون»(5) «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»(6).
والقرآن مملوء من ذلك .
وخالفوا - أيضاً - المعقول ، وهو قبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض ((7)) ؛ لأنّه تعالى غني عن ذلك ، ولولا العقاب لزم الإغراء بالقبيح ؛ لأن لنا ميلاً إليه ، فلولا الزجر بالعقاب لزم الإغراء به ، والإغراء بالقبيح قبيح ، ولأنّه لطف ، إذ مع العلم يرتدع المكلف من فعل المعصية ،وقد ثبت وجوب اللطف(8).
فلينظر العاقل وينصف من نفسه، ويعتبر هذه المقالات التي هي
ص: 544
أصول الدين، وعليها تبتني القواعد الإسلامية ، هل يجوز المصير إليها والاعتماد عليها ؟
وهل يرضى العاقل لقاء الله سبحانه باعتقاد أنه ظالم خالق للشر، مكلف بما لا يطاق ، قاهر للعبد ، مكذب لما ورد في القرآن العزيز من قوله تعالى :«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»(1) «ولا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها»(2) «وما ربّك بظلام للعبيد»(3)، إلى غير ذلك من الآيات ! ! ؟
وما وجه اعتذاره عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وغيره من الأنبياء المتقدّمين اعتقاد أنّهم غير معصومين ، وأنه يجوز عليهم الخطأ والغلط والسهو والمعصية ((4)) ؟ !
وأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم وقع منه في صلاته حيث قال :
تلك الغرانيق العُلا *** منها الشفاعة ترتجى ((5))
وأنّه بال قائماً ((6)) ، وأنّه قال : إن إبراهيم كذب ثلاث مرات ((7)) ؟ !
فإن ارتضى لنفسه ذلك كفاه خزياً وعاراً .
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطنا.
ص: 545
وقال الفضل ((1)) :
قد سمعت في ما سبق تفاصيل أجوبة ما ذكر هنا ((2)) ، وكرّر الكلام على دأبه ونقول - متجسّسمين زحمة التكرار -:
إن قوله : منعت الأشاعرة من استحقاق الثواب والعقاب ، مجاب بما ذكر سابقاً ، إنّ القول : بعدم الوجوب على الله تعالى لا يوجب القول : بمنع استحقاق الثواب والعقاب.
فإنّ قول الأشاعرة : إنّه لا يجب عليه شيء، بل كل ما يعطي من الثواب فبفضله، وما يعمل من العقاب فتصرف في ملكه بعدله في عباده ، لكن جرت عادته تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح، والعقاب عقيب العمل السيىء ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، ولا يجب عليه الإعطاء ، لكن جرت عادته بهذا،«ولن تجد لسنة الله تبديلا»(3) ،«ولن تجد لسُنّة الله تحويلا»(4).
فعلى هذا كيف يخالف مذهبهم نصوص القرآن على ما ادعاه هذا الجاهل ؟ !
فإن سائر النصوص المذكورة مثل قوله تعالى :«فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره»((5))«واليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت»(6) يدلّ على
ص: 546
وجود الجزاء وتحققه في الآخرة، وهذا عين مذهب أهل السنّة ، ولا تدلّ النصوص على وجوب الجزاء على الله تعالى .
وأما ما ذكر أنّهم «خالفوا المعقول ، وهو قبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض فكلام غير معقول ؛ لأنّ العوض إذا كان مفقوداً يلزم هذا القبح ، إلا أن العوض كان غير واجب ، والكلام في عدم الوجوب . وأيضاً لا يلزم الإغراء على من قال : كل الخبز تشبع ، مع أن وجود الشبع عقيب أكل الخبز ليس بواجب .
وأما وجوب اللطف ، فهو ممنوع ، كما علمت أنه لا يجب عليه شيء.
ثمّ ما ذكر من الطامات ، وجرى على دأبه في ميدان المزخرفات ،فنقول مجيباً له على طرزه :
فلينظر العاقل المتبصر هل يرضى العاقل لنفسه لقاء الله تعالى باعتقاد أنه يجب عليه حقوق العباد ، وهو مديون لهم ، وله شركاء في الخلق ، مغلول اليد، ليس له التكليف ، إلا بما يرضى به العبد ، كاذب في قوله :«وعصى آدم ربَّه»((1)) ، وكاذب في قوله :«إنّه لا يخاف لديّ المرسلون *إلا من ظلم ثمّ بدّل من بعد سوء حسناً»((2)) ؟ !
وما عذره عند الله في نسبة الكذب إليه في كلامه ، وأن محمداً صلی الله علیه و اله و سلم جاء للهداية ولم يهد إلا سبعة عشر رجلاً ، وشرذمة قليلة في كل عهد ؟!
وما عذره عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إذ يشتم أزواجه ، ويشتم أصحابه ،
ص: 547
ويكفرهم ، ويقول لبيت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم : إنه مطلع قرن الشيطان ، وغيره من المزخرفات والعقائد الباطلة التي ذهب إليها الرافضة المتسمية بالإمامية ؟ !
والحمد لله الذي فضحهم وأهرق دماءهم بسنان قلمنا في آخر الزمان ، وأبقى ذلّهم وبطلان مذهبهم على صحائف الملوان .
وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وأصحابه وعترته أجمعين ،والحمد لله ربّ العالمين .
وقع الفراغ من ذبّ هذا الشيطان المبتدع من العقائد الإسلامية الأصولية المسماة : بعلم الكلام .
والآن نشرع في إبداء أباطيله في علم أصول الفقه ، وليعلم أن ما ذكره الأئمّة أُصول الفقه مما هو محل خلاف الأئمة ، إن وافق كلام أحد في الأربعة ، فلا نتكلّم عليه إلا إذا أساء الأدب ، ونسبهم إلى مخالفة النصوص ؛لأن جميع المذاهب الأربعة في هذا الأمر واحد ؛ لأنّ كلّها مذهب أهل السنة ، فإن وافق واحداً منهم ، فلا علينا أن نعارضه فيه ، فإنّ السنة ق-د قامت ، وليس لنا عند معارضة خصم أهل السنة أن نرجح بعض أقاويل علمائها على بعض ، بل علينا قطع رقبة ابن المطهر بالمقضاب المشهر، وهذا يحصل إذا وافق أحداً من أهل السنّة.
وأما الترجيح في أقوالهم ومذاهبهم ، فليطلب من مصنفاتنا في أصول الفقه ، وإن خالفت المذاهب الأربعة فنقطع رقبته إن شاء الله بالبرهان القاطع ، والبيان الساطع .
ونسأل الله التوفيق في كل حال وهو الموفق والمعين .
ص: 548
وأقول :
قد سبق وجه التكرار ((1)) ، واعلم أنه متى قيل : باستحقاق الإنسان الثواب على عمله ، لزم القول بوجوبه ، وإلا لم يكن حقاً على العمل ، فلا وجه لقوله : «إنّ القول بعدم الوجوب على الله تعالى لا يوجب القول بمنع استحقاق الثواب . . . » .
والظاهر أن غرض الأشاعرة إنكار أصل الاستحقاق في الثواب والعقاب، مدعين أنّ الثواب تفضّل محض ، وأنّ العقاب من باب التصرّف ملكه ، ولكن جرت عادة الله تعالى بهما .
وفيه : ما عرفت من أن دعوى العادة في المغيبات غير صحيحة ؛ لعدم الإطلاع على الغيب ((2)).
ودعوى استفادتها من الوعد والوعيد ، ونحوهما غير سديدة ؛ لأنّ الله - سبحانه - يمحو ما يشاء ويثبت، مع أنه لا أنّه لا يجب عندهم الوفاء بوعده ووعيده ، إذ لا يجب عليه شيء ((3)) .
ولا يلزم بمقتضى قواعدهم صدق كلامه اللفظي، كما أن تصرف المولى بملكه بالعذاب بلا ذنب مناف لشؤون الملكية والعدل، كما سبق ((4)).
ص: 549
وأما ما زعمه من أنّ الآيات تدلّ على وجود الجزاء ، لا على وجوبه .
ففيه : إنها إذا دلّت على وجوده ، فقد دلّت على وجوبه إذا كان ثواباً .
وعلى كونه حقاً جائز الاستيفاء إذا كان عقاباً ؛ لأن عنوان الجزاء للشخص إنّما يكون على الحق ، له أو عليه ، وإلا كان في الثواب تفضلاً محضاً لا جزاء ، وفي العقاب ظلماً صرفاً لا جزاء .
وإذا ثبت الحقِّ للعبد على المولى في الثواب ، وجب جزاؤه وكان تركه ظلماً.
وإذا ثبت الحق للمولى على العبد في العقاب كان له استيفاؤه منه والعفو عنه ، وتكون الزيادة عليه ظلماً.
قال سبحانه :«من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلّا مثلها وهم لا يظلمون»(1).
وقال تعالى :«ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون»((2)).
وقال تعالى :«فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون»(3).
وقال تبارك وتعالى :«وتوفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون»((4))ز
وقال سبحانه:«وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون»((5))
ص: 550
إلى كثير من الآيات الكريمة .
وبالجملة : قد دلّت الآيات التي ذكرها المصنف رحمه الله على ان الثواب جزاء للعبد عمّا عمل من الخير فيكون حقاً له.
والعقاب جزاء له على ماعمل من الشرّ فيكون حقاً عليه، فيثبت استحقاق العبد للثواب والعقاب.
ودلّت الآيات الأخر التي أشرنا إليها على أنه لو لم يوف العبد ثوابه بمنعه أو نقصه ، كان ظلماً له ، وأنه لو زيد في عقابه على ما يستحقه ، كان ظلماً له .
وقد خالف الأشاعرة نصوص الكتاب، فأنكروا استحقاق الثواب والعقاب ، كما خالفوا العقل أيضاً((1)).
أما بالنسبة إلى الثواب ، فلحكم العقل بقبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض ؛ لأنّ المولى لا يكلّف عبده عوضاً عمّا أنعم عليه ، لقبح طلب الجواد الغني جزاء نعمه من عبده .
وحينئذ فلو كلّفه ، لزم أن يجعل له عوضاً، وإلا فقد أدخل عليه المشقة بلا عوض ، وهو قبيح وظلم ، كما نطقت به الآيات.
وأجاب الفضل بما حاصله : أنّه يكفي في رفع القبح وجود العوض وإن لم يجب .
وهو خطأ ؛ لأنه إذا سُلّم توقف ارتفاع القبح على وجود العوض ، فقد لزمه القول بوجوبه ؛ لأن ما يتوقف عليه زوال قبح التكليف يكون واجباً مع التكليف لا محالة .
ص: 551
وأمّا بالنسبة إلى العقاب ؛ فلأن المولى إذا لم يجعل العقاب على المعاصي ، يلزم الإغراء بالقبيح - وهو المعاصي؛ لأن لنا ميلاً إليها ، فلو آمننا المولى من العقاب عليها فقد أغرانا بالقبيح ، ولأن جعل العقاب لطف ،إذ مع العلم به يرتدع المكلّف المعصية ، واللطف واجب.
وأجاب الفضل عن الأوّل : بمنع الإغراء ، مستدلاً بأنه لا إغراء في قولنا : كل الخبز تشبع مع عدم وجوب الشبع .
وفيه : إنّه غير مرتبط بالمدعى فإنّ المدعى حصول الإغراء مع عدم جعل العقاب على المعصية، والفضل يجيب بعدم الإغراء مع حصول الثواب بدون وجوبه ، وهو خبط.
وأجاب عن الثاني : بمنع وجوب اللطف ، إذ لا يجب على الله شيء ،وقد أبطلناه مراراً ((1)) .
وأما ما زعمه من معارضة المصنف رحمه الله ببيان معتقدات الإمامية فكذب ، أو تهويل بالألفاظ المجردة .
أمّا قوله :«يجب عليه حقوق العباد وهو مديون لهم» فهو بمنزلة التعبير عن قوله تعالى :«كتب ربِّكم على نفسه الرحمة»((2)) بأن للعباد عليه حق الرحمة، وهو مديون لهم ، وأي بأس فيه ، لو لا التهويل الصوري ؟ ! والوجوب عليه سبحانه كما يكون بكتابة الشيء على نفسه يكون بمقتضى عدله.
وأما قوله : « وله شركاء في الخلق» ، فكذب ظاهر ؛ إذ لو لزم الشرك بمجرّد نسبة الفعل إلى العبد ، لزم - أيضاً - بالقول : بالكسب ، بناءً على أن
ص: 552
للعبد أثراً فيه وللزم بنسبة العلم والقدرة إلى العبد بالأولية ؛ لأن دعوى انصاف العبد بنحو صفات الله سبحانه ، أقرب إلى الشرك من نسبة الفعل إلى العبد .
وأما قوله : «مغلول اليد»، فكذب قبيح نشأ من عدم مبالاة الخصم بالله تعالى في سبيل أغراضه ؛ إذ أي ربط لغل اليد بقولنا : يمتنع على الله سبحانه فعل القبيح وعقاب عبده بلا جرم ، لأنّه منزّه عن القبح والظلم ، وإن كان قادراً عليهما ؟ !
وأما قوله : «ليس له التكليف بما لا يرضى به العبد» فطريف ؛ لأنّ قولنا : لا يكلف إلا بالحسن لقبح التكليف بالقبيح لا يجعل التكليف منوطاً برضى العبد ، كيف وأكثر العبيد لا يرضون إلا بالقبيح ؛ كالكفر ، والزنا ، واللواط ، ونحوها .
وأما قوله : كاذب في قوله :«وعصى آدم ربه»((1))...» إلى آخره ، فأطرف من سابقه ؛ لأنّ إرادة خلاف الظاهر في الكتاب العزيز كثير ، وهي لا تستلزم الكذب .
كيف وهم قد خالفوا في آرائهم ما لا يحصى من الآيات ، كالآيات الدالة على أنّ العبد هو الفاعل ؟ ! على أن (إلا) في قوله تعالى :«إلّا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء»((2)) للاستدراك ؛ بمعنى لكن ، كما في «الكشاف» وغيره ((3)).
ص: 553
والمعنى ؛ - والله أعلم - : لا يخاف لديّ المرسلون لعدم الظلم منهم ، لكن من ظلم من غيرهم ثمّ بدّل حُسناً بعد سوء يكون محل الخوف ورجاء المغفرة .
واعلم أن الآية من سورة النمل ، وهي هكذا :«ثم بدل حسناً بعد سوء».
وقد أخطأ الفضل فيها فذكرها هكذا«ثم بدل من بعد سوء حسناً ».
فإن قلت : على ما ذكرته يكون الصدق والكذب عبارة عن موافقة المراد للواقع ومخالفته له ، لا عن موافقة الظاهر للواقع ومخالفته.
وحينئذ فلا يصح من المصنف رحمه الله نسبة القوم إلى تكذيب الله سبحانه في قوله :« لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»((1)).
قلت : إنّما صحت النسبة من المصنف رحمه الله ؛ لأنه لم يدع أحد أن المراد بالآية غير ظاهرها ، فهما واحد ، ولا شك أنّ ظاهرها كذب بمقتضى مذهب الأشاعرة ؛ لأنّ كلّ ما كلّف الله تعالى به عباده إنما هو من فعله عندهم ((2)) ولا وسع للعبد فيه فعلاً وتركاً، فيلزم تكذيبهم لهذه الآية ونحوها .
وأما قوله : إن محمداً جاء للهداية ، فمسلّم ، لكن لا يستلزم هداية الكل أو الأكثر ، كما هو كذلك في الأنبياء السابقين ، ولذا قال تعالى :«وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»((3)).
ص: 554
على أنه صلی الله علیه و اله و سلم قد اهتدى به الكثير ، واستشهد منهم الجم الغفير ، ثمّ بقي بعده قوم قال الله تعالى وأخبر في كتابه العزيز أنهم ينقلبون على أعقابهم(1).
وأخبر رسول الله بأنّهم يرتدون على أدبارهم القهقرى، ويدخلون النار إلا مثل همل النعم ، كما سبق في رواية البخاري ((2)).
وأخبر - أيضاً - بأنّهم يتبعون سنن من كان قبلهم حذو النعل بالنعل ((3)) فانقلبوا كما انقلب قوم موسى وصالح وقد جاءا للهداية .
وأما قوله : « يشتم أزواجه وأصحابه» .
ففيه : إن المصنف رحمه الله ما شتمهم ولكن شتمهم الكتاب العظيم وأخبارهم ، فقد روى القوم أنفسهم أن بيت عائشة مطلع قرن الشيطان ، ومنه الفتنة ((4)) ، فما ذنب المصنف رحمه الله إذا نقله إذا نقله عنهم ؟ !
وأما قوله : «فإن وافق واحداً منهم فلا علينا أن نعارضه فيه».
فخطأ ؛ لأنّ المصنف رحمه الله إذا بين مخالفة كلّ واحد منهم للكتاب والسُنّة والعقل، بحيث يعلم منه أنّهم لا يقفون على دليل ، ولا يبنون مذهبهم على أساس ، فكيف يحسن السكوت عن جوابه ؟ !
وأمّا بقيّة كلماته فنحن نمرّ عليها كراماً .
ص: 555
والحمد لله الذي وفقنا لجعل ما زخرفه كرماد اشتدت به الريح في یوم عاصف ، وله الشكر على أن جعلنا من شيعة آل محمد صلی الله علیه و اله و سلم، وهداناللتمسك بهم اتِّباعاً لأمر نبيّه ، والصلاة والسلام عليه وعليهم، وعلى جميع النبيين والصالحين إلى يوم الدين .
وليقف إلى هنا جواد القلم ، فإن أصول الدين هي الأصل فإن وفق الله تعالى الناظر في هذا الكتاب لاتباع الحق فهو في غنى عن الكلام في أصول الفقه وفروعه ، وإلا فهو بعيد عن الهداية ، وعسانا إذا سنحت الفرصة تتم الكتاب والله الموفق .
وقد وقع الفراغ من تأليفه في اليوم التاسع والعشرين من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1350 ه- خمسين بعد الثلاثمئة والألف هجرية بيد مؤلفه محمد حسن بن الشيخ محمّد مظفر غفر الله تعالى له ولوالديه وللمؤمنين إنّه أرحم الراحيم.
ص: 556
ص: 557
المطلب الرابع :
ما رواه الجمهور في مطاعن معاوية...5
ردّ الفضل بن روزبهان ...7
ردّ الشيخ المظفر ...10
نسب معاوية واستلحقاقه لزياد...23
ردّ الفضل بن روزبهان ...25
ردّ الشيخ المظفّر ...29
دعاء النبي صلی الله علیه و اله و سلم على معاوية...35
ردّ الفضل بن روزبهان ...38
ردّ الشيخ المظفر ...40
مخاصمة معاوية لعلي علیه السلام ...43
طعن معاوية في خلافة عمر ...46
ردّ الفضل بن روزبهان ...48
ص: 558
رد الشيخ المظفر ...49
قول النبي صلی الله علیه و اله و سلم: إنه يموت على غير سنتي ولعنه إياه...64
ردّ الفضل بن روزبهان ...65
ردّ الشيخ المظفر ...66
لعن النبي صلی الله علیه و اله و سلم معاوية ...67
ردّ الفضل بن روزبهان ...68
رد الشيخ المظفر ...69
سب معاوية لسيّد الكونين ...70
ردّ الفضل بن روزبهان ...71
رد الشيخ المظفر ...72
سم معاوية للحسن علیه السلام وجنايات ابنه وأبيه وأمه...75
ردّ الفضل بن روزبهان ...76
ردّ الشيخ المظفر ...77
الشجرة الملعونة في القرآن...80
ردّ الفضل بن روزبهان ...81
رد الشيخ المظفر...82
نسب معاوية أيضاً ...85
ردّ الفضل بن روزبهان...86
ردّ الشيخ المظفر...87
قتل معاوية للمهاجرين والأنصار ونسب ابن العاص...88
ردّ الفضل بن روزبهان ...91
ص: 559
ردّ الشيخ المظفر...92
ما رواه الجمهور في حق الصحابة...95
ردّ الفضل بن روزبهان ...96
ردّ الشيخ المظفر ...100
إحداث الصحابة بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...113
ردّ الفضل بن روزبهان ...112
رد الشيخ المظفر ...113
ارتداد الصحابة بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...117
رد الفضل بن روزبهان ...122
رد الشيخ المظفر ...123
قرار الصحابة من الزحف وذم القرآن لهم صلی الله علیه و اله و سلم...125
ردّ الفضل بن روزبهان ...126
ردّ الشيخ المظفر ...123
ترك الصحابة الصلاة مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وذم القرآن لهم...125
ردّ الفضل بن روزبهان ...134
ردّ الشيخ المظفر ...135
لمز الصحابة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في الصدقات وذم القرآن لهم...142
رد الفضل بن روزبهان ...144
ردّ الشيخ المظفّر ...146
قصة الافك ...152
ردّ الفضل بن روزبهان...154
ص: 560
ردّ الشيخ المظفر...155
اتهام الأنصار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عند فتح مكة...160
رد الفضل بن روزبهان ...162
رد الشيخ المظفر ...163
ذم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لبعض أصحابه...166
ردّ الفضل بن روزبهان ...166
ردّ الشيخ المظفر ...167
مخالفة الصحابي للنبي صلی الله علیه و اله و سلم فيما لا يضره...169
ردّ الفضل بن روزبهان ...170
رد الشيخ المظفر...171
ذم النبي صلی الله علیه و اله و سلم لجماعة من أصحابه ...173
ردّ الفضل بن روزبهان...174
ردّ الشيخ المظفر ...175
تهاون الصحابة في أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والإعراض عن مطالبه...178
ردّ الفضل بن روزبهان ...180
ردّ الشيخ المظفر
براءة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من فعل خالد...182
ردّ الفضل بن روزبهان ...183
رد الشيخ المظفر ...184
عدم صلاحية أبو بكر لتبليغ سورة براءة...187
ردّ الفضل بن روزبهان ...189
ص: 561
ردّ الشيخ المظفر...190
اظهار النبي صلی الله علیه و اله و سلم لفضل علي علیه السلام يوم خيبر...193
ردّ الفضل بن روزبهان ...194
رد الشيخ المظفر ...195
تألم أمير المؤمنين علیه السلام من الصحابة والشقشقية...198
ردّ الفضل بن روزبهان...201
رد الشيخ المظفر...202
منازعة على علیه السلام لطلحة والزبير ...209
ردّ الفضل بن روزبهان ....211
رد الشيخ المظفر...212
اخبار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بغدر الأمة بعلي علیه السلام من بعده..215
ردّ الفضل بن روزبهان...216
ر الشيخ المظفر...217
مخالفة أبي بكر وعمر لأمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...220
ردّ الفضل بن روزبهان...223
رد الشيخ المظفر ...224
قول : عمر إن النبي ليهجر...228
ردّ الفضل بن روزبهان...231
ردّ الشيخ المظفر...233
اعتراضات عمر على النبي صلی الله علیه و اله و سلم...236
ردّ الفضل بن روزبهان...241
ص: 562
ردّ الشيخ المظفر...244
رفع عمر صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم...255
ردّ الفضل بن روزبهان...256
رد الشيخ المظفر...257
رد عمر على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...258
ردّ الفضل بن روزبهان...259
ردّ الشيخ المظفر ...260
سوء أدب عمر مع أزواج رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...264
ردّ الفضل بن روزبهان...265
رد الشيخ المظفر...266
النبي صلی الله علیه و اله و سلم شيء الرأي في عمر..271
ردّ الفضل بن روزبهان...272
رد الشيخ المظفر...266
عدم مشاورة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أبا بكر وعمر في غزوة بدر...274
ردّ الفضل بن روزبهان...276
ردّ الشيخ المظفر ...278
اعتقاد عمر جواز وقوع الفاحشة من النبي صلی الله علیه و اله و سلم في الجنة ...284
ردّ الفضل بن روزبهان...285
رد الشيخ المظفر ...286
قول عمر ما مات محمد ولا يموت...287
ردّ الفضل بن روزبهان...289
ص: 563
ردّ الشيخ المظفر...290
استحسان عمر لما ابتدع من البدع...290
ردّ الفضل بن روزبهان...295
ردّ الشيخ المظفر...296
منع عمر لمتعة النساء...297
رد الفضل بن روزبهان...299
ردّ الشيخ المظفر ...300
تخطئة النبي صلی الله علیه و اله و سلم لعمر...301
ردّ الفضل بن روزبهان...302
رد الشيخ المظفر...303
انحطاط منزلة عمر عند عمرو بن العاص...305
ردّ الفضل بن روزبهان...306
رد الشيخ المظفر...307
أمر النساء عمر بالتقوى والخوف من الله...308
ردّ الفضل بن روزبهان...309
رد الشيخ المظفر ...310
رواية العامة القدح في نسب عمر...311
ردّ الفضل بن روزبهان...312
ردّ الشيخ المظفر ...313
قول عمر : كلّ أحد أعلم من عمر حتى النساء...314
رد الفضل بن روزبهان...315
ص: 564
ردّ الشيخ المظفر...316
اقدام عمر على قتل النفس المحترمة...317
ردّ الفضل بن روزبهان ...318
ردّ الشيخ المظفر ...319
تعوذ عمر من معضلة ليس لها أبو الحسن علیه السلام...320
ردّ الفضل بن روزبهان ...321
ردّ الشيخ المظفر ...322
مخالفة عمر للنبي صلی الله علیه و اله و سلم في مسألة الطلاق...323
ردّ الفضل بن روزبهان ...324
رد الشيخ المظفر ...325
جهل عمر بوجوب التيمم لفاقد الماء...331
رد الفضل بن روزبهان ...333
رد الشيخ المظفر...334
اعتراض عمر على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...338
ردّ الفضل بن روزبهان ...339
رد الشيخ المظفر ...340
جهل عمر بحد شارب الخمر...343
ردّ الفضل بن روزبهان ...344
رد الشيخ المظفر ...345
جهل عمر بما كان يقرأ للنبي صلی الله علیه و اله و سلم في صلاة العيد...347
ردّ الفضل بن روزبهان ...348
ص: 565
ردّ الشيخ المظفر...349
خفاء الواضحات من الأحكام على عمر...350
ردّ الفضل بن روزبهان ...351
ردّ الشيخ المظفر ...352
زيادة عمر في الأذان...355
ردّ الفضل بن روزبهان ...357
رد الشيخ المظفر ...358
اعتراف عمر حال احتضاره بصدور ما يوجب المؤاخذة منه...364
ردّ الفضل بن روزبهان ...366
رد الشيخ المظفر ...367
اعتراف عبدالله بن عمر بلزوم الاستخلاف...369
ردّ الفضل بن روزبهان...371
رد الشيخ المظفر ...372
اعتراف معاوية بأنّ الشورى شتت أمر المسلمين...374
ردّ الفضل بن روزبهان ...375
رد الشيخ المظفر...376
مناقضة عمر لنفسه...378
ردّ الفضل بن روزبهان...379
رد الشيخ المظفر ...380
مثالب المخاصمين لعلي علیه السلام...384
ردّ الفضل بن روزبهان ...386
ص: 566
ردّ الشيخ المظفر...388
عمر أوّل من استأثر بالحق على أهله...392
ردّ الفضل بن روزبهان ...393
ردّ الشيخ المظفر...394
غصب فدك وسخط فاطمة علیهاالسلام أبي بكر وعمر...396
ردّ الفضل بن روزبهان ...399
ردّ الشيخ المظفر ...400
تجويز بعضهم الكذب على فاطمة الزهراء علیهاالسلام...401
ردّ الفضل بن روزبهان ...402
ردّ الشيخ المظفر ...403
رد دعوى فاطمة علیهاالسلام وقبول دعوى بني صهيب...406
ردّ الفضل بن روزبهان ...408
ردّ الشيخ المظفر...409
دعوى مخالفة النبي صلی الله علیه و اله و سلم لأمر الله تعالى...411
ردّ الفضل بن روزبهان ...412
ردّ الشيخ المظفر ...413
نسبة قلة المعرفة بالأحكام إلى أهل البيت علیهاالسلام...415
رد الفضل بن روزبهان ...416
رد الشيخ المظفر...417
دعوى عدم شفقة النبي صلی الله علیه و اله و سلم على أهل بيته علیهاالسلام...419
ردّ الفضل بن روزبهان...420
ص: 567
ردّ الشيخ المظفر...421
تغيير أبي بكر لما كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...422
ردّ الفضل بن روزبهان ...423
ردّ الشيخ المظفر ...424
غضب فاطمة علیها السلام أبي بكر وعمر...426
رد الفضل بن روزبهان ...428
ردّ الشيخ المظفر ...430
دعوى أبي بكر أنه ولي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...433
ردّ الفضل بن روزبهان ...436
رد الشيخ المظفر ...439
ادعاء عائشة حجرتها...445
ردّ الفضل بن روزبهان ...446
ردّ الشيخ المظفر ...448
خروج عائشة على أمير المؤمنين علیه السلام...452
ردّ الفضل بن روزبهان...454
ردّ الشيخ المظفر ...456
جعل عائشة بيت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم مقبرة لأبيها...490
ردّ الفضل بن روزبهان ...491
ردّ الشيخ المظفّر ...493
افشاء عائشة لسر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...494
ردّ الفضل بن روزبهان ...496
ص: 568
ردّ الشيخ المظفر...498
الأخبار التي تدل على مخالفات عائشة...506
ردّ الفضل بن روزبهان ...508
ردّ الشيخ المظفر ...511
تهجين مذهب المجبرة...520
رد الفضل بن روزبهان ...523
رد الشيخ المظفر ...527
خلق الله الكفر فى العبد وتعذيبه عليه...532
رد الفضل بن روزبهان ...535
ردّ الشيخ المظفر ...537
المسألة السادسة في المعاد ...538
ردّ الفضل بن روزبهان ...540
ردّ الشيخ المظفر ...541
مذهب الأشاعرة في استحقاق الثواب والعقاب...543
ردّ الفضل بن روزبهان ...545
ردّ الشيخ المظفر ...548
فهرست الموضوعات...557
ص: 569