المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - دمشق
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1430 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-360-8
ص: 1
ص: 2
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء السابع
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صيدلية دياب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 5
الحمدلله رب العالمين ،
وصلی اللّه علی سيد النبيين وآله ،
ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعين.
ص: 6
المؤمنين (عليه السلام) إماماً بعده (1).
وقالت السُنّة كافّة : إنّه مات بغير وصيّة ، ولم يستخلف أحداً ، وإنّ إمامة أبي بكر لم تثبت بالنصّ إجماعاً ، بل ببيعة عمر بن الخطّاب ، ورضا أربعة لا غير (2).
وقال عمر : «إنْ لم أستخلف ، فإنّ رسول اللّه لم يستخلف ، وإنْ أستخلف ، فإنّ أبا بكر استخلف» (3).
وهذا تصريح منه بعدم استخلاف النبيّ أحداً ، وقد كان الأَوْلى أن يقال : إنّه خليفة عمر ؛ لأنّه هو الذي استخلفه!
* * *
ص: 8
وقال الفضل (1) :
ما أجهلَ هذا الرجل باللغة! فإنّ الخليفةَ فعيلةٌ بمعنى الخالف ، وخليفة الرجل من يأتي خلفه ، ولا يتوقّف إطلاق الخليفة المضافة إلى شخص باستخلافه إيّاه.
فمعنى خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : الذي تولّى الخلافة بعده ، سواءً استخلفه أم لم يستخلفه.
فلو سلّمنا أنّ أبا بكر هو سمّى نفسه بهذا الاسم ، فإنّه لا يكون كذباً ؛ لِما ذكرنا.
ثمّ لا شكّ أنّ عليّاً خاطبه في أيّام خلافته بخليفة رسول اللّه ، ولو كان كذباً لَما تكلّم به ولا خاطبه به ، ولكن للشيعة في أمثال هذه المضايق سعة من التقيّة.
والظاهر ، أنّ القوم خاطبوه بذلك ، ولو أنّه سمّى نفسه بهذا صحّ ، كما ذكرنا ، فلا طعن.
ص: 9
الخلافة هي : الإمامة والولاية العامّة على الأُمّة ..
وبالضرورة : إنّ الولاية العامّة إنّما تكون بالأصالة لله تعالى ، وبالتَّبع والجعل للنبيّ ثمّ للإمام ، فلا تثبت الخلافة لأحد بدون النصب من اللّه ورسوله.
وإن شئتَ قلت : الخلافةُ نيابةٌ عن اللّه ورسوله في الأُمّة ، فلا تكون بدون إنابةِ مَن له الحكم والأمر.
واعترف بذلك صاحب «المواقف» وشارحها ، قالا في المقصد الثالث من مقاصد الإمامة : «وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد خلافاً للشيعة ، احتجّوا بوجوه :
الأوّل : الإمامة نيابة اللّه والرسول ، فلا تثبت بقول الغير ؛ إذ لو ثبتت بقوله لكان الإمام خليفةً عنه لا عن اللّه ورسوله.
قلنا : اختيار أهل البيعة للإمام دليلٌ لنيابة اللّه ورسوله.
وتلخيصه : إنّ البيعة عندنا ليست مثبتة للإمامة حتّى يتمّ ما ذكرتم ، بل هي علامة مظهرة لها ، كالأقيسة والإجماعات الدالّة على الأحكام» (1).
انتهى ملخّصاً.
فإنّك ترى أنّهما لم يُنكرا أنّ الإمام والخليفة لا يكون إلاّ
ص: 10
بالاستخلاف والنصب من اللّه ورسوله ، ولكنّهما ادّعيا حصول الاستخلاف من اللّه ورسوله بسبب البيعة من حيث كشفها عن الاستخلاف والاستنابة.
لكن عرفت في أوائل مبحث الإمامة بطلانَ الرجوعِ إلى الاختيار والبيعة في ثبوت الإمامة ، ولا سيّما بيعة الواحد والاثنين (1).
ويظهر أيضاً من ابن أبي الحديد الاعتراف بما قلنا ، إلاّ أنّه أجاب عن الإشكال (2) بما حاصله : إنّه سُمّي خليفة ؛ لاستخلاف النبيّ إيّاه على الصلاة.
وفيه - مع منع استخلاف النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له على الصلاة - : إنّه لو سُلّم لا يقتضي استخلاف النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له على الأُمّة ، كما مرّ (3).
ويظهر ذلك أيضاً من الرازي كما مرّ في الآية الرابعة والثمانين ، ولكنّه أجاب عنه بحصول الاستخلاف بالأمر بالاختيار ، وقد عرفت أنّه لا أمر بالاختيار (4).
وقد يُستدلّ للمدّعى بما رواه في «كنز العمّال» (5) ، عن ابن الأعرابي (6) ، قال : روي أنّ أعرابياً جاء إلى أبي بكر فقال : أنت خليفةُ
ص: 11
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟
قال : لا.
قال : فما أنت؟!
قال : أنا الخالِفَةُ بعده ؛ أي : القاعدةُ بعده.
أقول :
لم يذكر في «القاموس» من معاني الخالفةِ القاعدةَ ، بل ذكر له معاني أُخر ..
أحدها : كثير الخلاف.
ثانيها : غير النجيب ، ومَن لا خير فيه.
ثالثها : الأحمق (1).
ص: 12
فتدبّر!
ويدلّ على المدّعى أيضاً ما رواه ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ، قال : «قال : أبو بكر لقنفذ - وهو مولىً له - : إذهب فادع لي عليّاً!
فذهب إلى عليّ ، فقال [له] : ما حاجتك؟!
فقال : يدعوك خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال عليٌّ : لَسريع ما كذبتم على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ...» (1) .. الحديث.
ومنه يظهر بطلان ما زعمه الخصم من مخاطبة أمير المؤمنين له ب «خليفة رسول اللّه» ، ولو سُلّم فللتجوّز بابٌ واسعٌ يخرج منه عن الكذب تدعو إليه الضرورة.
كما إنّ التقيّة من دين اللّه ورسوله ، كما صرّح بها الكتاب (2)
ص: 13
والسُنّة (1).
وأمّا مخاطبة الناس له ، فلا ترفع الكذب عنه بتسمية نفسه وكتابته إلى الأطراف بقوله : «مِن خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» ، وقوله في عهده لعمر : «هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمّد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» (2)!
ص: 14
وقال الفضل (1) :
كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يبعث جيش أُسامة ؛ طلباً لقصاص زيد ؛ وليبلغ خبر قوّة الإسلام إلى ملوك الشام فلا يقصدوا المدينة بعد وفاته ، ولهذا كان يبالغ في بعث جيش أُسامة.
وأمّا قوله : «لعن اللّه من تخلّف عن جيش أُسامة» ، فهذا من ملحقات الروافض.
فلمّا بلغ أمر الخلافة إلى أبي بكر لم يكن ملائماً لأمر الإسلام أن يذهب الخليفة بنفسه ، سيّما وقد ارتدّ جميع العرب ، فأنفذ أبو بكر جيش أُسامة ؛ امتثالا لأمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو بنفسه قام لتجهيز باقي الجيوش وقتال أهل الردّة وحفظ الحوزة ، ومع ذلك استأذن من أُسامة - وهو الأمير - في التخلّف ، فأذن له.
فيا معشر المسلمين! من كان يعلم هذه الأحوال هل يجعل تخلّف الخليفة القائم بتعبئة الجيوش وجرّ العساكر وإقامة وظائف الدين ، طعناً فيه؟!
هذا ، وقد صحّ أنّ أبا بكر لم يكن في جيش أُسامة ، وقد قال الجزري : «من ادّعى أنّ أبا بكر كان في جيش أُسامة فقد أخطأ ؛ لأنّ النبيّ بعدما أنفذ جيش أُسامة قال : (مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) ، ولو كان مأموراً بالرواح مع أُسامة لم يكن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يأمره بالصلاة بالأُمّة».
ص: 16
لا ريب أنّ أبا بكر كان من جيش أُسامة كما صرّح به في «طبقات» ابن سعد (1) ، و «تهذيب تاريخ الشام» لابن عساكر (2) ، وفي «كنز العمّال» (3) عن ابن أبي شيبة عن عروة ، وفي «كامل» ابن الأثير (4).
وكلّهم صرّحوا بأنّ من جملة جيش أُسامة أبا بكر وعمر.
وقال الطبري في «تاريخه» (5) : «أوعب مع أُسامة المهاجرون الأوّلون».
وهو شامل بعمومه لأبي بكر ، بل هو أظهر من يُراد بهذا اللفظ عندهم.
بل الظاهر أنّ في العبارة سقطاً ، وهو : «ومنهم أبو بكر وعمر» ، كما في «كامل» ابن الأثير (6) ؛ لأنّه مأخوذ من «تاريخ» الطبري.
ونقل ابن أبي الحديد (7) ، عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب «السقيفة» ، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن : «أنّ
ص: 17
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في مرض موته أمَّر أُسامة على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجرّاح - إلى أن قال : - وقام أُسامة وتجهّز للخروج ، فلمّا أفاق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) سأل عن أُسامة والبعث ، فأُخبر أنّهم يتجهّزون ، فجعل يقول : «أنفِذوا بعث أُسامة ، لعن اللّه مَن تخلّف عنه» ، وكرّر ذلك - إلى أن قال : - فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان أُسامة إلى أن ماتا إلاّ بالأمير».
وبهذا عُلم أنّ لعن المتخلّف ثابت بأخبارهم.
كما ذكره أيضاً الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» ، عند بيان الاختلافات الواقعة في مرض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وبعد وفاته ، قال : «الخلاف الثاني في مرضه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : جهّزوا جيش أُسامة ، لعن اللّه مَن تخلّف عنه ، فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ...» (1) إلى آخره.
وحكى شارح «المواقف» في أوّل تذييل «المواقف» عن الآمدي ، أنّه ذكر الاختلافات الواقعة من المسلمين ، وعدّ منها الاختلاف في التخلّف عن جيش أُسامة ، قال : «قال قوم بوجوب الاتّباع ؛ لقوله : جهّزوا جيش أُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه.
وقال قوم بالتخلّف عنه ؛ انتظاراً لِما يكون من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في مرضه» (2).
ومثل هذا الكلام ، وكلام الشهرستاني ، دالاّن على أنّ لعن المتخلّف من الأُمور المسلّمة عندهم.
ولو سُلّم أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يلعن المتخلّف ، فاللّه سبحانه قد
ص: 18
لعنه ؛ لأنّ في التخلّف إيذاءً للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد لعن سبحانه من آذاه وأعدّ له عذاباً أليماً ، قال تعالى في سورة الأحزاب : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) (1).
وقال سبحانه في سورة التوبة : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2).
.. إلى غيرهما من الآيات (3).
واعلم أنّ رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أعظمُ الناسِ سياسةً ، وأفضلُهم حكمةً ، وأسدُّهم رأياً ، وأصوبُهم عملا ، وأظهرُهم عصمةً ، وقد أقدم على بعث أُسامة - وهو ابن سبع عشرة سنة - رئيساً على كبار الصحابة وشجعانهم ، ومَن مضت لهم التجربة في الحروب والرئاسة ، ولهم السنُّ والسمعة ، مع عظم الوجه الذي وجّهه فيه وأهمّيته وبُعد الشُقة ، حتّى إنّه لمّا قدّمه عليهم قالوا وتكلّموا ، فلم يمنعه طعنهم في إمرته ، وعزم على خلاف رغباتهم ومقاصدهم ، كما أمره اللّه تعالى بقوله : ( فإذا عزمتَ فتوكل على اللّه ) (4) (5).
ص: 19
فلا بُد أن يكون عمله - وهو سيّد الحكماء - عن حكمة تامة ، وغرض أعظم من رئاسة ذلك الجيش ، وهو التنبيه على عدم أهليّتهم للإمامة والخلافة ، وأنّهم أتباع لا متبوعون ، حتّى لعن المتخلّف ؛ كشفاً عن نفاقهم وأنّهم ينقلبون على أعقابهم ، كما ذكره سبحانه في كتابه
ص: 20
المجيد (1) ، وصرّحت به أخبار الحوض (2).
وإلاّ فلو خضع أُولئك القوم لسلطان اللّه وأمره بطاعة رسوله ونهيه عن مخالفته ، لَما تخلّفوا عن جيش أُسامة واحتملوا لعنة سيّد الأنبياء.
وقيل : إنّ النبيّ أراد تبعيدهم عن المدينة ؛ لتخلوَ لأمير المؤمنين وتصفوَ له الأُمور (3).
وأقول : هذا مما اعتقده أُولئك الصحابة ؛ فلذا أصرّوا على الخلاف واحتملوا اللعنة ، ونسبوه إلى الهجر (4).
ولكنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يعلم أنّ غاية أمرهم غصب خلافة وصيّه - وإنْ خرجوا عن المدينة - ، فأراد بيان حقائقهم لأُمّته وكشف حالهم للمسلمين على ممرّ الدهور.
ولكن أين مَن يقرّ له بالرسالة حقاً ، ويعرف أنّ أمره وحكمه من أمر اللّه وحكمه؟!
وأمّا ما استدلّ به الجزري (5) ، فقد عرفت بطلانه ؛ لأنّ الأمر بصلاة أبي بكر إنّما هو من ابنته صبح الاثنين ، وأنّ صلاته أوّل فتنة ونار
ص: 21
سُعّرت على الحق (1).
فاللازم أن يُعكس الأمر ويقال : إنّ كون أبي بكر من الجيش الذي لعن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مَن تخلّف عنه ، دليلٌ على أنّ صلاته لم تكن عن أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وكانت بدون علمه!
ص: 22
وقال الفضل (1) :
هذا ليس من روايات أهل السنة ، بل من روايات الروافض ، وإن سلّمنا صحّته فإنّ لكلّ إنسان شيطاناً ، كما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فسئل عنه : وأنت أيضاً يا رسول اللّه؟!
فقال : وأنا أيضاً ، إلاّ أنّه أعانني اللّه عليه فأسلم (2).
وهذا من باب إنصاف الصديق.
وأما طلب الرشاد ؛ فهو من طلب المشورة ، وقد أُمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بهذا في قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (3).
ولم يكن هذا استرشاداً ، بل استعانة في الرأي ، وتأليفاً لقلوب التابعين ؛ وكلام الصدّيق - إنْ صحّ الرواية - من هذا الباب.
ص: 24
عنهما في «كنز العمال» (1) ، ولفظهما هكذا :
«إنّ أبا بكر خطب فقال : أمَا واللّه ما أنا بخيركم - إلى أن قال : - أفتظنّون أنّي أعمل فيكم بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟! إذن لا أقوم بها! إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يُعصم بالوحي ، وكان معه ملَك ، وإنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني أن لا أُؤثّر في أشعاركم وأبشاركم».
ومنهم : الطبراني في «الأوسط» ، كما نقله عنه في «الكنز» أيضاً (2) ، إلاّ أنّه قال في حديثه : «إنّ لي شيطاناً يحضرني».
ومنهم : الزبير بن بكّار (3) ، كما حكاه عنه ابن أبي الحديد (4).
ويظهر من قاضي القضاة أنّ صدور هذا القول من أبي بكر مفروغٌ
ص: 26
عنه ، لكنّه أجاب عنه - كما في «شرح النهج» (1) - بأنّ هذا القول لو كان نقصاً فيه ، لكان قول اللّه في آدم وحوّاء : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ) (2) وقوله : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) (3) وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (4) يوجب النقص في الأنبياء ، وإذا لم يُوجب ذلك فكذا ما وصف به أبو بكر نفسه.
وإنّما أراد أنّه عند الغضب يُشفق من المعصية ، ويحذَر منها ، ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه ، وذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي.
وأورد عليه السيّد المرتضى طاب ثراه بما حاصله :
إنّ قول أبي بكر لا يشبه ما تلاه من الآيات ؛ لأنّ أبا بكر أخبر عن نفسه بطاعة الشيطان ، وأنّ عادته بها جارية ، وليس هذا بمنزلة من يلقي الشيطان في أُمنيّته ؛ أي : فكرته على سبيل الخاطر ، ولا يطيعه (5).
ص: 27
وقوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) معناه : أنّهما فعلا مكروهاً ؛ لأنّ الأنبياء لا يفعلون محرّماً ؛ للعصمة.
على أنّ القاضي يقول : إنّ هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحقّ عليها عقاباً ولا ذما ، وهي تجري - من بعض الوجوه - مجرى المباح ؛ لأنّها لا تؤثّر في أحوال فاعلها وحطّ رتبته.
فأين هي ممّا أخبر به أبو بكر عن نفسه ، من أنّ الشيطان يعتريه حتّى يؤثّر في الأشعار والأبشار على وجه الاعتياد ، وأنّه يأتي ما يستحقّ به التقويم؟!
ص: 28
ودعوى أنّ ذلك على وجه الإشفاق والخشية من المعصية ، لا تلائم قوله : «إنّ لي شيطاناً يعتريني ...» إلى آخره ؛ فإنّه قول مَن عرفَ عادته ، وأبانَ عن صفةِ طائش لا يملك نفسه.
انتهى.
وممّا ذكرنا يُعلم بطلان ما أجاب به الخصم من أنّ لكلّ إنسان شيطاناً ، فإنّ الإشكال ليس من حيث إنّ له شيطاناً فقط ، بل من حيث طاعته له على سبيل العادة ، كما يقتضيه كلامه.
وأما ما في أخبارهم من أنّ للنبيّ شيطاناً ؛ فكذب ، بل له ملَكٌ يسدّده ، كما دلّ عليه حديث ابن راهويه والهروي (1) ؛ ولإثباته محلّ آخر.
وبالجملة : قول أبي بكر طعنٌ به وبإمامته من وجوه :
الأوّل : ما دلّ عليه من أنّ له شيطاناً قريناً له ، وهو فرع العشوة عن ذِكر اللّه تعالى ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (2).
وبالضرورة أنّ من هو كذلك ، ولا سيّما إذا لم يُؤمَن على الأشعار والأبشار - كما صرّحت به الأخبار التي ذكرناها - لا يصلح للإمامة والولاية على رقاب الناس وأموالهم.
وما زعمه الخصم من أنّه من باب الإنصاف ؛ خطأٌ ؛ لأنّه صدّق قوله بفِعله ، فإنّه في أوّل إمارته فعل ذلك بعمر وهو أخصّ الناس به وأعظمهم
ص: 29
يداً ومنزلةً عنده ، فقد رووا أنّه أخذ بلحية عمر وقال له : «ثكلتك أُمك» (1) لمّا طلب منه استبدال أُسامة بغيره.
الثاني : إنّه دالٌّ على أنّه حادٌّ طائش ، وذو الحدّة والطيش لا يصلح للإمامة ، وقد أقرّ ابن أبي الحديد بحدّته بعد قول المرتضى : «إنّها صفة طائش لا يملك نفسه» ، قال : «لعمري ، إنّ أبا بكر كان حديداً ، وقد ذكره عمر بذلك ، وذكره غيره من الصحابة» (2).
روى في «الاستيعاب» بترجمة عليّ (عليه السلام) ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس : سُئل عن أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فوصف أبا بكر بالحدّة ، قال : مع حدة كانت فيه (3).
الثالث : إنّه طلب التقويم من رعيّته في هذه الخطبة ، وهو مناف لإمامته ؛ لحاجته إلى إمام آخر يقهره أو يرشده ، وحمله على طلب المشورة تأويل من غير دليل.
على أنّه أيضاً مناف للإمامة ؛ فإنّ الإمام أجلّ من أن يحتاج إلى مشورة أحد والاستعانة به ، وإلاّ لكان شريكاً له في الإمامة.
وأما أمر اللّه سبحانه نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالمشاورة ، فليس لنقصان فيه ،
ص: 30
بل للتأليف - كما سبق وجاءت به أخبارهم (1) - ، ودلّ عليه ظاهر الآية (2) ، وأقرّ به الرازي (3) ، والخصمُ نفسُه (4) ، وغيرُهما (5).
وليس أبو بكر كذلك ؛ لظهور حاجته إلى غيره ، وعليها اتّفقت الكلمة والآثار والأخبار.
ص: 31
وقال الفضل (1) :
لم يصحّ عندنا رواية هذا الخبر (2) ؛ وإنْ صحَّ كان تحذيراً من أن ينفرد الناس - بلا حضور العامة - بالبيعة ، ولهذا سمّاه بالفلتة ، وكان ذلك لضرورة داعية إليه ، وذلك أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) توفّي من غير استخلاف (3) ، وإنّما لم يستخلف النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ليُعلم أنّ نصب الإمام ليس من أُصول الشرائع ، بل هي من الواجبات على الأُمة (4).
فالواجب عليهم أنّ ينصبوا بعده ، ولهذا وَكَلَ أمرَها إليهم ، فلمّا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أراد الأنصار في سقيفة بني ساعدة أن ينصبوا بينهم أميراً منهم ، وكان هذا سبب الاختلاف الذي كان وقوعه سبباً لذهاب الإسلام ؛ لضعف القلوب وزيغها عن الإسلام بسبب وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وارتداد العرب ، فسارع أبو بكر وعمر إلى السقيفة لرفع الاختلاف ، ووقع (5) البيعة.
ولو كانا يؤخّران البيعة إلى حضور جميع الناس واتّفاق كلّ الآراء ، لكان يُخاف منه وقوع الفتنة والاختلاف ، فتسارعوا إلى عقد البيعة ، واكتفوا بإجماع أهل الحلّ والعقد ، وهم كانوا ذلك اليوم الأنصار ؛ لأنّهم كانوا
ص: 33
العسكر ، وأهل الحلّ والعقد في الخلافة هم العساكر وأُمراؤها.
فهذه الضرورة دعت إلى استعجال البيعة ؛ فلما تمّ هذا الأمر أراد عمر أن يبيّن للناس أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة دعت إليها الضرورة ، فلا تعادوا (1) إلى مثلها ، ولا تجعلوه دليلا ، فلا يتصوّر في هذا الكلام طعن ، لا في أبي بكر ولا في عمر.
وأمّا قوله : «يلزم خطأ أحد الرجلين ؛ لارتكاب أحدهما ما يوجب القتل» ..
فهذا كلام باطل ؛ لأنّ الارتكاب حال الضرورة لا ينافي تركه في غير حالها.
ص: 34
نقل ابن حجر هذا الكلام عن عمر في «الصواعق» (1) ، وأرسله إرسال المسلّمات.
وكذلك الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» (2).
ورواه البخاري في «باب رجم الحبلى» (3) ، ولكن لفظه هكذا :
«بلغني أنّ قائلا منكم يقول : واللّهِ لو مات عمر بايعت فلاناً! فلا يَغرَّنّ امرَأً أن يقول : إنّما كانت بيعةُ أبي بكر فلتةً وتمّت ؛ ألا وإنّها قد كانت كذلك ، ولكنّ اللّه وقى شرّها ، وليس منكم مَن تُقطَّع الأعناق إليه مثل أبي بكر ؛ مَن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يُبايَعُ هو ولا الذي بايعه تَغرّةَ (4) أن يُقتلا».
ثمّ قال في آخر خطبته مثل قوله الأخير ، إلاّ أنّه قال : «فلا يُتابَعُ» بالتاء المثنّاة.
ص: 35
وروى أحمد في «مسنده» هذه الخطبة (1) ، وقال في آخرها : «مَن بايع أميراً عن غير مشورة من المسلمين ، فلا بيعة له ولا بيعة للّذي بايعه ؛ تغرّة أن يُقتلا».
ونقله بعينه في «كنز العمال» (2) ، عن أحمد ، والبخاري ، وأبي عبيد في «الغرائب» ، والبيهقي.
ثمّ نقل عن ابن أبي شيبة ، أنّه خطب فقال في آخر خطبته : «كانت لعمري فلتة ، كما أعطى اللّه خيرها مَن وُقيَ شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه» (3).
وذكر أيضاً خطبته ابنُ أبي الحديد (4) ، نقلا عن الطبري ، ثمّ قال : «هذا حديث متّفق عليه من أهل السّير».
إلى أن قال : «فأمّا حديث الفلتة ، فقد كان سبقَ من عمر أن قال : إنّ بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
وهذا الحديث (5) الذي ذكرناه ... فيه حديث الفلتة ، ولكنّه منسوق على ما قاله أوّلا.
ص: 36
أَلا تراه يقول : (فلا يغرّنّ امرَأً أن يقول : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً ؛ فلقد كانت كذلك)!
فهذا يُشعر بأنّه قد كان قالَ مِن قَبلُ : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة» ؛ انتهى.
والمراد بالفلتة : إمّا الفتنة ؛ كما يظهر من الخصم (1) ، ونطقت بها رواية ابن الأثير في «كامله» (2) لمّا روى حديث السقيفة ، فإنّه رواها بلفظ «الفتنة» (3).
وهذا لا شكّ فيه ؛ فإنّ بيعة أبي بكر فتنةٌ وأيُّ فتنة؟! كانت أساس الفتن ورأسها.
وإمّا أن يُراد بها : الزلّة (4) والخطيئة ، كما هو ظاهر اللفظ ، وهي لعمري زلّة وخطيئة لا تُقال!
وإمّا أن يراد بها : الفجأة والبغتة ، كما زعمه بعض القوم إصلاحاً لهذه الفلتة (5).
وهو - لو سُلّم - لا ينفع بعدما حكم عمر بقتل من عاد لمثلها ، وأنّه
ص: 37
لا بيعة له ، وأنّ الشأن فيها أن يترتّب عليها الشرّ!
وأما اعتذار عمر بقوله : «وليس فيكم من تقطّع الأعناق إليه مثل أبي بكر» ..
فإن أراد به أنّ أبا بكر كان مسلّم الفضيلة ، بحيث يؤمن على بيعته الشرّ ، فهو مناف لقوله : «وقى اللّه شرّها» ؛ فإنّه صريح في أنّها غير مأمونة الشرّ.
وإن أراد به مجرّد أنّه مسلّم الفضيلة ، فهو - لو سُلّم - لا فائدة فيه بعدما كانت مخطورة الشرّ ، الذي هو المناط في فساد البيعة واستحقاق القتل عليها.
فقد اتّضح أنّ عمر قد طعن بخلافة أبي بكر بما لا يمكن معه الإصلاح!
ودعوى أنّ المعلوم من حاله إعظام أبي بكر ، والقول بإمامته - فلا يتصوّر منه القدح فيها ، ولا سيّما أنّ خلافته فرع من خلافته ، فلا بُد من تأويل كلامه - باطلة ..
فإنّه لو سُلّم إعظامه له واقعاً ، فطعنه في بيعته ليس بأعظم من طعنه بصلح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يوم الحديبية (1) ، ولا من نسبة الهجر إليه (2) ، أو نحو ذلك مما كان يفعله مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (3).
ص: 38
فإذا صدرت منه هذه الأُمور في حقّ سيّد المرسلين في حياته مواجهةً ، فكيف يُستبعد منه نحوه في حقّ أبي بكر بعد موته حتّى يلزم تأويل كلامه بما لا يتحمله اللفظ؟!
ومجرّد تفرّع خلافته عن خلافته لا يمنع من طعنه بها بعدما صار سلطاناً يُخشى ويُرجى ويمتنع عزله عادة ، ولا سيّما أنّ ما قاله معلوم للسامعين ، ووجوههم شركاؤه في هذه الفلتة.
فلا يستبعد منه أن يطعن بخلافة أبي بكر ؛ حذراً من أن تقع البيعة بعده لمن يكره بيعته ، وهو عليٌّ (عليه السلام) ، كما طعن برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالهجر ؛ لهذه العلّة!
نقل ابن أبي الحديد - بعد ذكر الخطبة المذكورة - ، عن الجاحظ ، أنّه قال : «إنّ الرجلَ الذي قال : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً ، عمّارُ بن ياسر ؛ قال : لو قد مات عمر بايعتُ عليا (عليه السلام).
فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به» (1).
ص: 39
وأما ما زعمه الخصم من الضرورة على النحو الذي قرّره ..
ففيه : منع كون الإمامة ليست من أُصول الشرائع (1) ، وأنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم ينصب إماما.
ولو سُلّم ، فلِمَ كانت بيعة سعد موجبة للاختلاف والفتنة لو قصد الشيخان وجه اللّه ونصر الإسلام؟!
وقد كان يمكنهما متابعة الأنصار فلا يقع اختلاف ولا فتنة ، ولا سيّما أنّ الأنصار - بقول الخصم - هم العساكر ، وأهل الحلّ والعقد!
وليست القُرشيّة شرطاً عند عمر ؛ ولذا تمنّى أن يكون معاذ (2) أو سالم مولى حذيفة حيا فيولّيه الأمر بعده (3).
وكذا ليست شرطاً عند الأنصار ؛ ولذا أرادوا الأمر لسعد ، وهم عدولٌ عند السنة.
ولو سُلّم لزوم مخالفة الأنصار ، بدعوى أنّ الخلافة لقريش - من حيث إنّها قريش - ، فلا معنى لتعيّن بيعة أبي بكر دون عليّ ، ولا سيّما أنّ بيعة عليّ (عليه السلام) دافعةٌ للشبهة عنهما ، وأقرب إلى منع الاختلاف ، ولو لقربه من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وزيادة اختصاصه به.
ص: 40
ولو أعرضنا عن ذلك ، فقد كان يمكنهم منع بيعة الأنصار والاختلاف الناشئ منها بأن يقول عمر : لا تجوز البيعة من دون مشورة المسلمين ؛ لأنّها فلتةٌ يُخاف شرُّها ، فانتظروا ريثما نفرغ من جهاز النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ويجتمع المسلمون ، فإنّ لهم حقاً في الرأي.
أترى أنّ ذلك لا يُرضي الأنصار ، ولم يكن أقرّ لعيونهم من بيعة أبي بكر رغماً على سعد وقومه؟!
بل تأخيرها إلى الاجتماع هو المتعيّن ؛ لأنّ مسارعتهم إلى بيعة أبي بكر في حال طلب الأنصار بيعة سعد أَوْلى بخوف الفتنة وذهاب الإسلام.
ثمّ إنّ ما ذكره الخصم من زيغ القلوب عن الإسلام ، لا وجه له ؛ لأنّ مَن حضر المدينة عدول كلّهم عند السنة ، ومَن لم يحضرها لم تُعلم حالهم عند وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، والقسم الوافر منهم من الصحابة ، وهم عدول ..
فمن أين عَلِمَ الشيخان زيغ القلوب حتّى ينشأ من الاختلاف حينئذ ذهابُ الإسلام؟!
ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه وقلنا بصحّة مسارعة عمر لبيعة أبي بكر ، فنهيه عن البيعة بعد موته من دون مشورة المسلمين خطأ ؛ لأنّ الحاجة حينئذ إلى المسارعة أشد ؛ لكثرة المسلمين ، وعدم تيسر اتّفاق آرائهم أو رؤسائهم ، فإذا وقعت البيعة لواحد وجب إتمامها على مذهب السنة ؛ لقولهم بانعقاد البيعة وثبوت الإمامة ولو بالواحد والاثنين (1).
ومنه تعلم أنّ إيجابَ عمرَ لضربِ عنقِ مَن يبايع فلتةٌ أُخرى ،
ص: 41
وحكمه بعدمِ انعقاد بيعته ظلمٌ له ، ومناف لقولهم بانعقادها ، ووجوبِ ضربِ عنقِ مَن نازعه ، ولزومِ الوفاءِ ببيعة الأوّل فالأوّل (1).
ولعمري ، إنّ من تأمّل الحقيقة ، ونظر بعين الإنصاف إلى تلك المسارعة في حال الاختلاف والنزاع الشديد بينهم وبين الأنصار ، عرف منهم عدم المبالاة بذهاب الإسلام في سبيل احتمال تحصيل الإمرة!
ثمّ إنّ الوجه في قول المصنّف لارتكاب أحدهما ما يوجب القتل ، ظاهر ؛ لأنّ حكم عمر بوجوب القتل وبطلان البيعة إنْ طابق الواقع ، كان أبو بكر مستوجبَ القتل غيرَ صحيح الإمامة ، وإلاّ كان عمر هو المستوجب للقتل ؛ لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2).
وحكمه ليس عن خطأ ، بل تبعٌ لهواه ، ولأنّه بايع أبا بكر على النحو الذي حكم هو بوجوب قتل المبايع!
* * *
ص: 42
وقال الفضل (1) :
إنْ صحّ هذا ، فهو من باب التواضع وتأليف قلوب التابعين ، وحقّ الإمام أن لا يُفضل نفسه على الرعيّة ولا يتكبّر عليهم.
وقد قيل : إنّه قال هذا بعدما شكا بعض أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) استئثاره للخلافة من غير انتظار لحضورهم ، فقال : أقيلوني ، فإنّي لا أُريد الخلافة ، وليس هي عندي شيء لا أقدر على طرحها ؛ وهذا من باب الاستظهار بترك الإيالة (2) والحكومة.
كما روي أنّ أمير المؤمنين كان يقول : لا تسوي الخلافة عندي نعلا مخصوفاً (3).
ومن حمل من أمثال هذه الكلام على خلاف ما ذكرناه وجعلها من المطاعن ، فهو جاهل بعرف الكلام.
* * *
ص: 44
تشكيكه في صحّة الرواية مناف لِما سيأتي منه من ثبوت القول المذكور في الصحاح (1) ، فقد حكاه عنها عند جوابه عن قول المصنّف : «ومنها : إنّه طلب هو وعمر إحراق بيت أمير المؤمنين (عليه السلام)» (2).
وقد روى نصير الدين (رحمه اللّه) في «التجريد» استقالة أبي بكر باللفظ الذي ذكره المصنّف (رحمه اللّه) ، ولم يناقش القوشجي في «الشرح» بصحّتها (3).
ورواها أبو عبد اللّه القاسم ، مصنّف كتاب «الأموال» ، كما نقل السيّد السعيد عنه (4).
وروى أيضاً استقالته جماعةٌ ..
منهم : ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ، لكن لم يذكر إلاّ قوله : «أقلتُكم بيعتي» (5) أو : «أقيلوني بيعتي» (6).
ومنهم : أبو نُعيم ، كما حكاه عنه في كتاب الخلافة من «كنز العمال» (7) ، ولفظه هكذا : «هي لكم ردٌّ ، ولا بيعةَ لكم عندي».
ص: 45
ومنهم : الطبراني في «الأوسط» ، كما حكاه عنه في «الكنز» أيضاً (1) ، ولفظه : «قد أقلتُكم رأيكم ، إنّي لستُ بخيركم».
ومنهم : العشاري ، كما نقله عنه في «الكنز» أيضاً (2) ، ولفظه : «قد أقلتُكم بيعتكم».
وقال ابن أبي الحديد (3) ، في شرح قول أمير المؤمنين (عليه السلام) من الخطبة الشقشقيّة : «فيا عجباً! بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته» ..
قال : «اختلف الرواة في هذه اللفظة ، فكثير من الناس رواها : أقيلوني! فلستُ بخيركم».
وذكرها ابن أبي الحديد أيضاً (4) ، في ما دار بين السيّد المرتضى وقاضي القضاة.
والإشكال فيها من وجهين :
الأوّل : في أصل استقالته.
الثاني : في قوله : «لستُ بخيركم».
فقد ذكره المصنّف في «منهاج الكرامة» ، قال : «لو كان إماماً لم يجز
ص: 46
له طلب الإقالة» (1).
وحكاه قاضي القضاة عن الشيعة ، كما ذكره ابن أبي الحديد في المقام الأخير (2).
وأجاب عنه القاضي وغيره من أصحابه بما حاصله ، أنّه لبيان الزهد في الإمارة (3).
وأجاب أيضاً ابن أبي الحديد عنه بمنع عدم جواز الاستقالة بناءً على أنّ الإمامة بالاختيار (4).
ويرد على الأوّل : إنّه خلاف الظاهر ، فلا يُصار إليه بغير دليل ، كيف؟! وقد علّل استقالته بما يقضي بعدم إمامته ؛ وهو قوله : «لستُ بخيركم» ، فلا يتّجه حمله على الزهد فيها!
وحينئذ فلا يقاس على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الصريح بالزهد فيها.
ويرد على الثاني : إنّ البناء على الاختيار إنّما هو في أصل انعقادها ، فإلحاق الحلّ به ممّا لا دليل عليه ، بل مخالف لقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5) ونحوه (6).
ص: 47
فهو الذي ذكره المصنّف هنا ، وحاصله :
إنّ أبا بكر إنْ كان صادقاً في أنّه ليس خيرهم ، لم يصلح للإمامة ؛ لاشتراطها بالأفضلية ، كما يقتضيه تعليل أبي بكر لاستقالته بنفي خيريّته.
وإنْ كان كاذباً لم يصلح لها أيضاً ؛ إذ لا أقلَّ من منافاة الكذب للعدالة التي هي شرط الإمامة عندهم ؛ لأنّ الكذب من الكبائر.
وأجاب ابن أبي الحديد باختيار الشقّ الأوّل ، وأنّه يجوز تقديم المفضول على الفاضل (1).
وفيه - مع ما حقّقناه في ما سبق من اشتراط الأفضلية (2) - : إنّه مناف لتعليل أبي بكر لاستقالته بنفي خيريّته.
وأجاب بعضهم باختيار الشقّ الثاني على أن يكون كذباً في الظاهر مقصود به التواضع ، وهو لا ينافي العدالة ؛ لعدم حرمته مع هذا القصد (3).
وفيه - مع عدم الدليل عليه - : إنّه مناف للحلف على عدم خيريّته في رواية الهروي وابن راهويه عن الحسن ، كما حكيناه عن «الكنز» قريباً ..
قال الحسن : إنّ أبا بكر خطب فقال : «أَمَا واللّه ما أنا بخيركم» (4) .. الحديث.
ص: 48
وكيف يُحمل على التواضع وقد قال في بعض الأخبار : «وعليٌّ فيكم»؟!
فإنّ عليا (عليه السلام) إنْ لم يكن معلومَ الفضل عليه ، فلا أقلّ من كونه محلَّ الشكّ ، فكيف يُصرف إلى التواضع؟!
والظاهر أنّه إنّما نصّ على عليّ (عليه السلام) عند استقالته ونفي خيريّته ؛ لأنّه يريد تهييج الرأي العامّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وتحريض أعوانه عليه ليبلغ أحد الأمرين :
إمّا انفراد عليّ (عليه السلام) ، أو قتله ؛ فيأمَن بذلك على مستقبله.
ثمّ إنّ إقراره بأنّه ليس بخيرهم لا يختصّ بمقام الاستقالة ، بل أقرّ به في مقام آخر ..
فإنّه خطب بأوّل ولايته فقال : «وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم» ، كما رواه الطبري في «تاريخه» (1) ، وابن الأثير في «كامله» (2).
وحكاه في «كنز العمال» (3) ، عن البيهقي ، عن الحسن.
وعن ابن إسحاق في «السيرة» (4) ، عن أنس ؛ وقال : ابن كثير : «إسناده صحيح».
ص: 49
وعن ابن سعد ، والخطيب ، والمحاملي في «أماليه» ، عن عروة (1).
وعن الهروي ، عن قيس بن أبي حازم (2).
ونقله في «الصواعق» (3) ، عن الخطيب ، وابن سعد أيضاً.
* * *
ص: 50
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : قوله عند موته : «ليتني كنت سألت رسول اللّه هل للأنصار في هذا الأمر حق؟» (2).
وهذا شكٌّ في صحّة ما كان عليه وبطلانه ، وهو الذي دفع الأنصار لمّا قالوا : «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله : «الأئمة في قريش» (3).
فإن كان الذي رواه حقاً ، فكيف حصل له الشكّ؟! وإلاّ فقد دفع بالباطل!
* * *
ص: 51
وقال الفضل (1) :
إنْ صحّ هذا فمن باب الاحتياط وزيادة الإيقان ، وأنّه لمّا دفع الأنصار عن الخلافة كان تقواه تدعو إلى طلب النصّ.
فأمّا حديث : «الأئمّة في قريش» فلم يروه أبو بكر ، بل رواه غيره من الصحابة ، وكان هو لا يعتمد على خبر الواحد ، وكان تمنّى أن يسمع هو بنفسه عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عدم حقّية الأنصار في الخلافة.
وهذا من غاية تقواه وحرصه على زيادة العلم والإيقان.
ص: 52
روى الطبري من طريقين (1) ، أنّ أبا بكر قال في مرض موته :
«لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتُهنّ ووددت أنّي تركتُهنّ ، وثلاث تركتُهنّ ووددت أنّي فعلتُهنّ ، وثلاث وددتُ أنّي سألتُ عنهن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فأمّا الثلاث التي وددتُ أنّي تركتُهنّ : فوددتُ أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب.
ووددتُ أنّي يوم السقيفة كنتُ قذفتُ الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - ، فكان أحدهما أميراً وكنتُ وزيراً.
إلى أن قال : ووددتُ أنّي سألتُ رسول اللّه لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد (2).
ووددتُ أنّي سألتُه : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟
ووددتُ أنّي كنتُ سألتُه عن ميراث ابنة الأخ والعمة ، فإنّ في نفسي منها شيئاً.
ونحوه في «الإمامة والسياسة» (3) ..
ص: 53
و «العقد الفريد» (1).
وكذا في «كنز العمال» (2) ، عن أبي عبيد في كتاب «الأموال» ، والعقيلي ، وخيثمة بن سليمان الطرابلسي ، والطبراني ، وابن عساكر ، وسعيد بن منصور ، قال : «وقال : إنّه حديث حسن».
فأنت تراه صريحاً في الشكّ والشبهة ؛ لتمنّيه السؤال وقوله : «إنّ في نفسي منها شيئاً».
وحمله على زيادة الإيقان يحتاج إلى صارف قويّ ، وهو مفقود.
فإن قلت : لا يصحّ حمل كلامه على الشكّ في خلافته ؛ إذ لا قائل بأنّ الخلافة مقصورة على الأنصار ؛ وإنّما الكلام في أنّها مخصوصة بقريش ، أو هي فوضى ، فتكون خلافته على كلا الأمرين صحيحة ولا يتصوّر الشكّ فيها.
هذا محصل كلام ابن أبي الحديد (3).
قلت : أصل الشكّ متعلّق بجهة دفعه للأنصار ، وهو يحصل على تقدير القول بأنّها فوضى ، ولا يتوقّف على القول باختصاصها بالأنصار.
فإذا شكّ في صحّة دفعه لهم ، كان شاكاً في صحّة خلافته ؛ لأنّها فرعٌ عن صحة دفع الأنصار.
ص: 54
ومن السخف قول الخصم : «و [أنّه] لمّا دفع الأنصار عن الخلافة كان تقواه تدعو إلى طلب النصّ» ؛ فإنّ من تدعوه تقواه إلى طلب النصّ ويتشوّق إلى معرفته ، كيف لا تدعوه إلى التوقّف عن الخلافة حدوثاً واستمراراً ، وعن تعيين عمر بعده؟!
وأمّا ما ذكره مِن أنّ حديث : «الأئمّة من قريش» لم يروه أبو بكر ..
فصحيح ؛ إذ لم يروه هو ولا غيره يوم السقيفة ، وإنّما قالوا : «إنّ قريشاً عشيرة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، والعرب لا تطيع سواهم ، ولا يصلح هذا الأمر إلاّ لقريش ؛ أو نحو ذلك ، من دون أن يرووه عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كما سبق بيانه في المبحث الثالث من مباحث الإمامة (1).
لكن لا ريب أنّ أبا بكر وأعوانه دفعوا الأنصار بشيء ، فإنْ كان حقاً فكيف حصل الشكّ؟!
وإنْ كان باطلا ، فقد دفع بالباطل ، كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه).
ودعوى عروض الشكّ له أخيراً في ما كان يراه حقاً تستدعي أن لا يستمرّ على الخلافة ، وأن لا يعقدها لعمرَ بعده.
وأمّا قوله : «وكان هو لا يعتمد على خبر الواحد» ..
فهو أَوْلى بتقريع أبي بكر ، فإنّه اعتمد على ما ليس حجّةً ، ودفع الأنصار عن دعواهم بلا برهان!
ص: 55
وقال الفضل (1) :
إنْ صحّ هذا فهو من باب التبرّي عن الإيالة والخلافة ، كما هو دأب العارفين باللّه ، ويكون تحذيراً لمن يأتي بعده ؛ ليعلموا أنّ أمر الخلافة صعب ، ولا يطمع فيه كلّ مهَوَّس (2) ، وهذا من باب الشفقة على الأُمّة ، سيّما الخلفاء وأرباب الرايات ، ولا يُتصوّر فيه طعن.
وأمّا ما ذكره من كشف بيت فاطمة ، فلم يصحّ بهذا رواية قطعاً.
ص: 57
كونه من باب التبرّي عن الإيالة غير صحيح ، وإلاّ لَما تمنّى منصباً آخر ، ولا سيّما ما هو قريب من الإمامة ، وهو الوزارة.
بل يدلّ على صعوبة أمر الخلافة عليه فتمنّى أنّه لم يتولّها ، كما فهمه قاضي القضاة ، ولكن قال : «لا ذمّ على أبي بكر فيه ؛ فإنّ من اشتدّ عليه التكليف فهو يتمنّى خلافه» (1).
واعترض عليه السيّد المرتضى (رحمه اللّه) بأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ومؤدّياً إلى الفتنة ، فالتمنّي لخلافها لا يكون إلاّ قبيحاً (2).
وأجاب عنه ابن أبي الحديد (3) بأنّ أبا بكر ما تمنّى أن يكون الإمام غيره مع استلزام ذلك للمفسدة ، بل تمنّى أن يليَ الأمر غيره وتكون المصلحة بحالها.
يَرِدُ عليه : إنّ التقييد بأن تكون المصلحة بحالها غير مفهوم من كلام أبي بكر ، وإنّما تمنّى أن يقذف الأمر بعنق أحد الرجلين على الحال
ص: 58
نفسها يوم السقيفة ؛ فيتمّ اعتراض المرتضى (رحمه اللّه).
وأما قول الخصم : «وهذا من باب الشفقة على الأُمّة ، سيّما الخلفاء وأرباب الرايات» ..
فباطل ؛ لأنّ من يريد تحذير هؤلاء ويشفق عليهم لا يختار الوزارة التي هي أقرب المناصب إلى الخلافة ، بل يختار العزلة.
وأمّا كشف بيت فاطمة (عليها السلام) ، فقد عرفت في المطلب السابق رواية الجماعة له (1) ، وسيأتي تفصيله قريباً إن شاء اللّه تعالى (2).
ص: 59
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يولّهِ شيئاً من الأعمال وولّى غيره ، وأنفذه لأداء سورة براءة ثمّ ردّه (2).
فمن لم يُستصلَح لأداء آيات ، كيف يُستصلَح للرئاسة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى عموم الرعايا في سائر البلاد؟!
ص: 60
وقال الفضل (1) :
دعوى عدم توليته دعوى زور باطل ، مخالف للمتواتر ؛ فإنّه لا نزاع بين أحد في أنّ أبا بكر كان وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يصدر في شيء ولا يقدم على أمر إلاّ عن رأيه ومشاورته.
وكان أمير المؤمنين عليٌّ يقول : كثيراً ما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر ، وجئتُ أنا وأبو بكر وعمر ، وقلتُ أنا وأبو بكر وعمر» (2).
فلا أمر في الإسلام ، ولا تولية ، ولا عزل ، إلاّ برأيهما ومشاورتهما.
ثمّ إنّه في معظم الغزوات كان أبو بكر صاحب راية المهاجرين ؛ وكان في غزوة تبوك ، آخر غزوة غزاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وما اجتمع له من العساكر في غزوة مثل ما اجتمع في هذه الغزوة ، وكان صاحب الراية الكبرى أبا بكر الصدّيق.
ثمّ إنّه تولّى الحجّ في سنة تسع من الهجرة.
وأمّا بعث عليّ بقراءة سورة براءة ونبذ العهود ، فقد ذكرنا سببه (3).
ثمّ نقول لهذا الرجل العامّيّ ، الجاهل بالأخبار والآثار :
ص: 61
كان أبو بكر يُستصلَح لإقامةِ الدين من أوّل نشوء الإسلام إلى آخره وإظهارِ آثار النبوّة ..
أتزعم أنّه لم يقدر على قراءة عشر من القرآن على العرب ، وهو أمير الحجّ ونائب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في الحجّ؟!
ومِن غاية جهلك بالأخبار أنّك تدّعي أنّه لمّا لحقه عليٌّ رجع قبل الحجّ!
فيا أيّها الجاهل! مَن حجَّ تلك السنة إنْ رجع أبو بكر؟!
أتدّعي أنّ عليا كان أمير الحاجّ تلك السنة وتخالف المتواتر ، أم تدّعي أنّه لم يحجّ في سنة تسع أحد؟!
وكل هذا من جهلك وبغضك!
أمَا تستحي مِن ناظر في كتابك يا سفيه البطاط (1)؟!
ثمّ من تولّى الإمامة والصلاة بالمسلمين أيام مرض
ص: 62
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
أتدّعي أنّه لم يصلِّ بالناس؟! أَوَلَمْ يأمره رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالصلاة في أيام المرض؟!
وكلّ هذا - ممّا يدّعيه - باطلٌ ومخالفٌ لصحاح الأخبار الجارية مجرى المتواترات.
وأيّ ولاية أتمُّ من ولاية الصلاة؟! وقد قال ابن عبّاس : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يصلِّ خلف أحد من أُمته - ما خلا عبد الرحمن بن عوف في ركعة من السفر (1) - إلاّ أبو بكر الصدّيق.
ثمّ إنّك لا تستصلحه لولاية أمر من الأُمور؟! أُفّ وويلٌ لك يا أعرابيّ ، الجافُّ الجاهل!
ص: 63
من الواضح أنّه لا يصحّ الاستدلال على خصم إلاّ بما هو حجةٌ عليه.
ولذا ترى المصنّف (رحمه اللّه) يستدلّ على القوم بأخبارهم ونحوها ممّا هو حجّة عليهم ، ولا يذكر شيئاً من أخبارنا ، مع أنّها أصرح في مطلوبه وأصحّ عنده.
وحينئذ : فما رواه الخصم من أعمال أبي بكر حقيق بالإعراض عنه.
على أنّ كلّ ما ذكره باطل في نفسه ..
أما دعوى عدم النزاع لأحد في أنّ أبا بكر كان وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فمهزأةٌ عند الشيعة ، وممنوعة عند كثير من السنة وأكثر علمائهم وأرباب صحاحهم ، فإنّهم لم يرووا حديث الوزارة ، ولو كان له نوعُ صحة عندهم لاهتمّوا بذِكره وصيّروه أصحّ الأخبار.
نعم ، رواه الترمذي - واستغربه - بلفظ ظاهر الكذب ؛ وهو أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «ما مِن نبيّ إلاّ وله وزيران من أهل السماء ، ووزيران من أهل الأرض ؛ فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبرئيل وميكائيل ، وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» (1).
ص: 64
ولا شكّ بكذبه ؛ لأمرين :
الأوّل : إنّه لم يُسمع أن تكون الملائكة وزراء للأنبياء - ولا سيّما على وجه الكلّية - ، ولو كان الأمر كذلك لاستفاض نقله ، وما خفي حاله ؛ لكونه من العجائب.
الثاني : إنّ صحاحهم جاءت بقول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لعليّ (عليه السلام) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؛ فيكون وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1).
فإذا خصّت رواية الترمذي الوزارة بالشيخين ، كانت كاذبةً جزماً ؛ لمعارضتها بالقطعي.
وأمّا قوله : «لا يصدر في شيء ولا يقدم على أمر إلاّ عن رأيه ومشورته» ..
فمن الكذب الظاهر أيضاً ، بل الموجب للكفر ؛ لإفادته النقص في سيّد النبيّين!
فأيّ نقص فيه أعظم من نسبته إلى الحاجة إلى أبي بكر حتّى يلقّنه في كلّ شيء ، ويوقفه على كلّ أمر؟!
على أنّ المنشأ في هذا الزعم إنْ كان هو دعوى الوزارة ، فقد عرفت منعها ، مع أنّها لا تقتضيه.
وإنْ كان ما رووه في نزول قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (2) بأبي بكر وعمر (3) ..
ص: 65
فمع أنّه لا يدلّ على مطلوبه ، قد مرّ مراراً أنّه للتأليف (1) ، وأنّه على ذمّهما أدلّ ، وكلّ مشورة تقع من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما تكون للتأليف ، والاستصلاح ، أو للتعليم والتأديب ، أو لاستعلام ما في نفس المستشار ، أو نحو ذلك (2).
وأما ما نقله عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ فهو أكذب من سوابقه ، ولا سيّما قوله : «وقلتُ أنا وأبو بكر وعمر» ، فإنّه من إضافات هذا الخصم على رواياتهم ، فهو كذبٌ على كذب ؛ إذ لا وجود له في أصل الرواية التي رواها البخاري ومسلم في مناقب عمر (3).
وكيف يمكن أن يقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ذلك على سبيل العادة ، إلاّ أن يكونا شريكين له في النبوّة ، أو قيّده نقصانُ رأيه بهما؟! حاشا عظيمِ مقامه!! (4).
ص: 66
ثمّ ما المراد بذهاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومجيئه معهما؟!
فإنْ كان هو التردّد في البلد ، الذي يصحبه فيه كلّ أحد ، فلا فضل لهما به.
وإنْ كان هو الكون معه في المقامات المهمّة ؛ كمصادمة الشجعان ومنازلة الأقران ، فهو ليس لهما ، بل كانا يفارقانه فيها ويفرّان بأنفسهما عنه (1).
وأما قوله : «ثمّ إنّ في معظم الغزوات كان أبو بكر صاحب راية المهاجرين» ..
فكذبٌ أيضاً ، وإنّما ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما بيّنّاه في المطلب المتعلّق بجهاده ، في الجزء الثاني (2).
ص: 67
وكيف يكون صاحب رايتهم في معظم الغزوات ، ولم يُحكَ أنّه أصاب أو أُصيب ، وأراق دماً أو أُريق منه دم؟!
ولا أدري من أين أخذ الخصم كونه صاحب الراية في معظم الغزوات ، وفي غزوة تبوك ، ولم تذكره كتب التاريخ والأخبار؟!
نعم ، أعطاه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الراية يوم خيبر ، فرجع منهزماً يُجبّن أصحابه ويجبّنونه ، كصاحبه عمر ، كما سبق (1).
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى حجّ أبي بكر وعزله بعليّ (عليه السلام) ؛ فقد تقدّم بيان الحق فيه في الحديث السادس من الأحاديث التي استدلّ بها المصنّف (رحمه اللّه) على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وذكرنا هناك جملة من أخبارهم المصرّحة برجوع أبي بكر عند لحاق أمير المؤمنين له (2).
وأما قوله : «كان أبو بكر يُستصلح لإقامة الدين ...» إلى آخره ..
فدعوى بلا بيّنة ، وحكمٌ بلا برهان!
وأما قوله : «أتزعم أنّه لم يقدر على قراءة عشر من القرآن؟!» ..
ففيه : إنّ المصنّف لم يزعم هذا ، وإنّما يقول : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاف على رسوله الوهنَ ؛ لجبنه ، أو الجهل بكثير ممّا يُسأل عنه ، أو الخيانة
ص: 68
ومصانعة الكفار.
وإنّما أرسله أوّلا - مع هذه الأحوال - ؛ ليظهر للناس أخيراً حاله ، ويعلمهم من عدم استصلاحه لذلك أنّه لا يصلح للرئاسة العامّة بالأولويّة ، ويبيّن لهم فضل أمير المؤمنين عليه ومحلّه منه ، ويعرّفهم أنّ مثل هذا الأمر إذا لم يصلح إلاّ له أو لمن هو منه - كما نطقت به الأخبار - فكيف بالإمامة؟!
وأما قوله : «أتدّعي أنّ عليا كان أمير الحاجّ في تلك السنة؟!» ..
ففيه : إنّه لا مانع من هذه الدعوى بعد نصبه للمطلب الأسنى ، وقيامه بالأمر بعد رجوع أبي بكر - لا سيّما وهو من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى - ، فإنّه مغن عن النصّ عليه بإمرة الحاجّ لو سلّمنا أنّه غير منصوص عليه.
وليست دعواهم كون أبي بكر أمير الحاجّ في تلك السنة إلاّ لاستلزامِ تركِ النبيِّ لنصبِ الأميرِ مخالفةَ عادتِه ، وعادةِ الرؤساء ، ومخالفةَ العقلِ في مثل هذه المواطن المحتاجة إلى أمير.
فليت شعري ، لِم أجازوا أن يترك أُمّته بعد موته بلا إمام مع انتشارِهم في الأرض ، وتشتّتِ أهوائهم ، وقربِ عهدهم بالكفر ، والفوضويّة؟!
ومجرّد قصد التشريع لا يتوقّف على الفعل ، بل يكفي فيه القول ، ولا سيّما أنّه لم يتّفق أنّ أحداً من ملوك الإسلام ترك رعيّته بلا نصبِ مَن يقوم بعده ، حتّى يهتمّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لبيان جواز عمله ، بل لا معنى للتشريع بعمل لم يتبعه عملُ مثلِه أصلا ، ولم يقتدِ به أحدٌ من الأُمّة أو غيرها.
ص: 69
وأما قوله : «وتخالف المتواتر» ..
فمناف لِما سبق منه ، من انحصار المتواتر في خبر أو خبرين (1).
وأمّا ما ذكره في ما يتعلق بالصلاة ، فقد سبق تحقيق الحقّ فيه قريباً ، وأنّ أبا بكر لم يتقدّم للصلاة إلاّ صبح الاثنين يوم وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأمر عائشة (2).
ولمّا علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عرف أنّهم انتهزوا الفرصة ، فتكلّف للخروج أشدّ التكلّف ، ونحّى أبا بكر وابتدأ في الصلاة ، دفعاً للتلبيس الذي صنعوه.
على أنّ الإمامة في الصلاة ليست من الأعمال التي تحتاج إلى تولية حتّى يذكرها الخصم في المقام ؛ فإنّها جائزة عندهم لكلّ مَن يَعرف القراءة ، وإنْ كان جاهلا فاسقاً.
فلو فرض أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمره بالصلاة في الناس ، لم تثبت له ولاية في الصلاة ولا غيرها.
وأمّا ما رواه عن ابن عبّاس فهو من الكذبات الواضحة ، حتّى منعه بعضهم ..
قال في «السيرة» (3) : «ومن خصائصه - أي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في ما حكى القاضي عياض - : أنّه لا يجوز لأحد أن يؤمّه ؛ لأنّه لا يصحّ التقدّم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها ، لا لعذر ولا لغيره ، وقد نهى اللّه
ص: 70
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه منع فاطمة إرثها ، فقالت : يا بن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟!
واحتجّ عليها برواية تفرّد هو بها عن جميع المسلمين ، مع قلّة رواياته ، وقلّة علمه ، وكونه الغريم ؛ لأنّ الصدقة تحلّ عليه ، فقال لها : إنّ النبيّ قال : «نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث ، ما تركناه صدقة» (2).
والقرآن مخالف لذلك ؛ فإنّ صريحه يقتضي دخول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيه بقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) (3).
وقد نصّ على أنّ الأنبياء يُورَثون ، فقال تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (4).
وقال عن زكريا : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (5).
ص: 72
وناقض فِعلُه - أيضاً - هذه الرواية ؛ لأنّ أمير المؤمنين والعبّاس ، اختلفا في بغلة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسيفه وعمامته ، وحكم بها ميراثاً لأمير المؤمنين (1).
ولو كانت صدقة لَما حلّت على عليّ (عليه السلام) ، وكان يجب على أبي بكر انتزاعها منه ، ولكان أهل البيت - الّذين حكى اللّه تعالى عنهم بأنّه طهّرهم تطهيراً - مرتكبين ما لا يجوز!
نعوذ باللّه من هذه المقالات الرديّة والاعتقادات الفاسدة!
وأخذ فدكاً من فاطمة (2) ، وقد وهبها إيّاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم يصدّقها ، مع أنّ اللّه قد طهّرها وزكّاها واستعان بها النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في الدعاء على الكفّار ، على ما حكى اللّه تعالى وأمرَه بذلك ، فقال تعالى : ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) (3).
فكيف يأمره اللّه تعالى بالاستعانة - وهو سيّد المرسلين - بابنته وهي كاذبة في دعواها ، غاصبة لمال غيرها؟!
نعوذ باللّه من ذلك!
فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، فشهد لها ، فلم يَقبل شهادته ، قال :
ص: 73
إنّه يجرّ إلى نفسه (1)!
وهذا من قلّة معرفته بالأحكام!
ومع أنّ اللّه تعالى قد نصّ في آية المباهلة أنّه نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة ، واستعان به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأمر اللّه في الدعاء يوم المباهلة ، أن يشهد بالباطل ويكذب ويغصب المسلمين أموالهم؟! نعوذ باللّه من هذه المقالة!
وشهد لها الحسنان (عليهما السلام) ، فردّ شهادتهما وقال : هذان ابناك! لا أقبل شهادتهما ؛ لأنّهما يجرّان نفعاً بشهادتهما.
وهذا من قلّة معرفته بالأحكام أيضاً!
مع أنّ اللّه قد أمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال : ( أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) ، وحكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة (2) ، فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور والكذب وغصب المسلمين حقهم؟! نعوذ باللّه من ذلك!
ثمّ جاءت بأُمّ أيمن ، فقال : امرأة لا يُقبَل قولها! مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «أُمّ أيمن من أهل الجنّة» (3).
فعند ذلك غضبت عليه وعلى صاحبه ، وحلفت أن لا تكلّمه ولا صاحبه حتّى تلقى أباها وتشكو إليه (4).
ص: 74
فلمّا حضرتها الوفاة أوصت أن تُدفن ليلا ، ولا يدع أحداً منهم يصلّي عليها (1) ، وقد رووا جميعاً أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (2).
ص: 75
وقال الفضل (1) :
لا بُد في هذا المقام من تحقيق أمر فدك ، ليتبيّن حقيقة الأمر ، فنقول :
كانت فدك قرية من قرى خيبر ، ولما فتح اللّه خيبر على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) جلا أهلُ فدك ففتحت ؛ فكان مما أفاء اللّه عليه من غير إيجاف (2) خيل ولا رِكاب ، فصار من أقسام الفيء ، وكان تحت يد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما يكون أموال الفيء تحت أيدي الأئمة.
وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ينفق منها على عياله وأهل بيته ، ثمّ يصرف ما يفضل عن نفقة عياله في السلاح والكرَاع (3).
فلمّا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وترك أزواجاً وأهل بيت ، ولم يكن يحلّ لأزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التزويج بعده ؛ لأنّهن كنّ أُمّهات المؤمنين ، ولم يكن سعةٌ في أموال الفيء حتّى ينفقَ الخليفةُ على أزواجه من سائر جهات الفيء ويترك فدك لفاطمة وأولادها ، فعمل أبو بكر في فدك مثل عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان ينفق منها على أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وفاطمة
ص: 76
وأولادها ، وما كان يفضل عن نفقتهنّ يصرفها في السلاح والكراع لسبيل اللّه ، كما كان يفعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فلمّا انتهى أمر الخلافة إلى عمر بن الخطّاب ، حصل في الفيء سعة ، وكثرت خُمسُ الغنائم وأموالُ الفيء والخراج ، فجعل عمر لكلّ واحد من أزواج النبيّ عطاءً من بيت المال ، وردّ سهم بني النضير إلى عليّ وعبّاس ، وجعلها فيهم ليعملوا بها كيف شاءُوا.
وقد ذكر في «صحيح البخاري» أنّ عليا وعبّاساً تنازعا في سهم بني النضير ، ورفعا أمرها إلى عمر بن الخطّاب ، فذكر أنّ أمركم كان هكذا ، ثمّ ذكر أنّه تركها لهم ليعملوا كيف شاءُوا (1).
هذا ما كان من أمر حقيقة فدك.
وأما دعوى فاطمة إرث فدك ، وأنّها منحولة لها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم يثبت في الصحاح ؛ وإنْ صحَّ ، فكلّ ما ذكر من المطاعن في أبي بكر - بحكمه في فدك - فليس بطعن.
أما ما ذكر أنّه احتجّ برواية الحديث وعارض به النصّ ، فإنّ الحديث إذا صحّ بشرائطه فهو يُخصّص حكم الكتاب.
وأما ما ذكر أنّ أبا بكر تفرّد برواية هذا الحديث من بين سائر المسلمين ، فهذا كذب صراح ؛ فإنّ عمر قال بمحضر عليّ وعبّاس وجمع من الصحابة : «أنشدكم باللّه ، هل سمعتم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نُورَث ما تركناه (2) صدقة.
ص: 77
فقالوا جميعاً : اللّهمّ نعم» ، كما رواه البخاري في «صحيحه» (1).
وروى - أيضاً - في «الصحيح» فقال : حدّثنا عبد اللّه بن يوسف ، قال : حدّثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا تقتسم ورثتي ديناراً ، وما تركت - بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي - فهو صدقة» (2) ؛ انتهى.
فكيف يقول هذا الفاجر الكاذب : إنّ أبا بكر تفرّد برواية حديث عدم توريث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فإن قيل : لا بُد لكم من بيان حجّية هذا الحديث ، ومن بيان ترجيحه على الآية.
قلنا : حجّية خبر الواحد والترجيح ممّا لا حاجة بنا إليه ها هنا ؛ لأنّ أبا بكر كان حاكماً بما سمعه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلا اشتباه عنده في سنده ، وعلم - أيضاً - دلالته على ما حمله عليه من المعنى ؛ لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها إليه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعياً مخصِّصاً للعمومات الواردة في بيان الإرث.
وأما ما ذكر أنّ أبا بكر لا يُسمع عنه هذا الخبر ؛ لأنّه كان غريماً ؛ لأنّ الصدقة تحلّ له ؛ فما أجهله بالفرق بين الشهادة والرواية ؛ فإنّ الشهادة لا تُسمع من الغريم الذي يجرّ النفع ، والرواية ليست كذلك ، وهذا معلوم عند العامة ومجهول عنده.
وأما ما ذكر من النصوص على أنّ الأنبياء يُورَثون ؛ لقوله تعالى :
ص: 78
( وورث سليمانُ داودَ ) (1) ؛ فالمراد : ميراث العِلم والنبوّة والحكمة.
وأمّا دعاء زكريّا ؛ فاتّفق العلماء أنّ المراد منه : النبوّة والحبورة (2) ، وإلاّ لم يُستجب دعاؤه ؛ لأنّ الإجماع على أنّ يحيى قُتل قبل زكريا ، فكيف يصحّ حمله على الميراث وهو لم يرث منه؟!
وأمّا ما ذكره أنّه ناقض فعله في توريث عليّ في السيف والعمامة ..
فالجواب : أنّه أعطاهما عليا ؛ لأنّه كان المصالِح ، والصدقة في هذا الحديث لا يُراد بها الزكاة المحرّمة على أهل البيت ، بل المراد : أنّها من جملة بيت مال المسلمين ، وقد يطلق الصدقة بالمعنى الأعمّ ، وهو كلّ مال يُرصد لمصالح المسلمين والجنود ، وبهذا المعنى يشمل خُمس الغنائم ، والفيء ، والخراج ، ومال من لا وارث له من المسلمين ، والزكوات ؛ وقد يُطلق ويُراد به : الزكوات المفروضة والصدقة المسنونة المتبرّع بها ، وهاتان الأخيرتان كانتا محرّمتين على أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعطى أبو بكر سيف رسول اللّه وعمامته عليا ؛ لأنّه كان من جملة مال من لا وارث له مِن المسلمين ، ولو كان ميراثاً لكان العبّاس وارثاً أيضاً ؛ لأنّه كان العمّ.
وأمّا قوله : «لكان أهل البيت - الّذين حكى اللّه عنهم بأنّه
ص: 79
طهّرهم ... (1) - مرتكبين ما لا يجوز» ..
فنقول : أهلُ البيت - على هذا التقدير - كانوا مدّعين لحقّهم ، والإمام يُفرض عليه أن يعامل الناس بالأحكام الشرعيّة ، ولو أنّ ملَكاً من الملائكة يدّعي حقاً له - مع وجوب عصمته ، وتيقّن صدقه - فليس للإمام أن يقول : هو صادق ولا يحتاج إلى البيّنة لعصمته من الكذب ؛ بل الواجب عليه أن يطلب الحجة في قوله.
أمَا سمعت أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ادّعى على يهودي عند شريح القاضي ، فطلب منه الحجّة ، فأتى بالحسن بن عليّ ، فما قبل شهادته وقال : إنّه فرع ؛ فقال أمير المؤمنين : لستَ أهلا للقضاء! ألا تعلم أنّ هذه الدعوى لحق بيت المال ، وها هنا تُسمع شهادة الفرع؟! (2).
والغرض : أنّ الإمام والقاضي يجب عليهما مراعاة ظاهر الشرع ، وهو أن لا يسمع قول المدّعي إلاّ بالحجّة وإن تحقّق عصمته عن الكذب ، فلو تمّ حجةٌ حكَم ، وإلاّ توقف.
ولو صحّ قصة مرافعة فدك ، فأبو بكر عمل فيه ما كان يجب عليه من طلب الحجة من المدّعي ، وإن اعتقد عصمته من الكذب.
وأمّا ما ذكر أنّ الحسنين شهدا لها ولم يسمع أبو بكر ، فإنْ صحّ فربّما كان لصغرهما ، ولعدم سماع شهادة الفرع كما فعل شريح ، وهذا لا طعن فيه كما ذكرنا ؛ لأنّه مراع لقواعد الشرع ، وشريح حكم بطلب
ص: 80
الحجة وإتمامها على وجه يرتضيه الشرع ، فلا طعن.
وأمّا عدم سماع شهادة أُمّ أيمن - إنْ صحّ - ؛ فلأنّها قاصرةٌ عن نصاب الشهادة ؛ فإنّها شهدت مع عليّ ، وهو من باب شهادة رجل وامرأة ، وكان لا بُد من التكميل ، ولا طعن على الحاكم إذا راعى ظاهر الشرع في الأحكام ، وأبو بكر ليس أقلّ قدراً من شريح - وقد عمل مع أمير المؤمنين في أيّام خلافته مثل هذا - وهو كان قاضياً لأمير المؤمنين ، فكيف يتصوّر الطعن؟!
فأما غضب فاطمة ، فهو من العوارض البشرية ، والبشر لا يخلو من الغضب ، والغاضب على الغير قد يغضب لغرض ديني ، لقصور المغضوب عليه في أداء حقّ اللّه ، وهذا الغضب من باب العداوة الدينية ، وما ذكر من الحديث : «إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة» فالظاهر أنّ المرادَ هذا الغضب.
ص: 81
ما زعمه من أنّ فدك قرية من قرى خيبر ، مخالف للضرورة ، ومناف - أيضاً - لأخبارهم.
روى الطبري في «تاريخه» ، بحوادث سنة سبع من الهجرة (1) ، من حديث قال فيه : «حاصر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أهل خيبر في حصنيهم الوَطيح (2) والسُّلالِم (3) ، حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يُسيّرهم ويحقن دماءهم ، ففعل.
وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد حاز الأموال كلّها : الشِّقّ (4) ونَطَاة (5)
ص: 82
والكتيبة (1) ، وجميع حصونهم ، إلاّ ما كان من ذَينِكَ الحصنَين ، فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يسألونه أن يسيّرهم ويحقن دماءهم ويخلّوا [له] لأموال ، ففعل ، - إلى أن قال : - فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللّه أن يعاملهم بالأموال على النصف ... فصالحهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على النصف ... وصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّهم لم يُجلِبوا عليها بخَيل ولا رِكاب» .. الحديث.
وروى الطبري أيضاً (2) ، قال : «كانت المقاسم على أموال خيبر على الشِّقّ ونَطَاة والكَتيبة ، فكانت الشِّقّ ونَطَاة في سُهْمان المسلمين (3) ، وكانت الكتيبة خمس اللّه وخمس النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسهم ذي القربى - إلى أن قال : - ولمّا فرغ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر قذف اللّه الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع اللّه بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول اللّه يصالحونه على النصف من فدك ... فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)
ص: 83
خاصة ؛ لأنّه لم يوجف عليها بخَيل ولا رِكاب».
وروى ابن الأثير في «الكامل» نحو هذين الخبرين (1) ، ثمّ قال (2) : «لمّا انصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر بعث ... إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ... فصالحوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على نصف الأرض ، فقبل منهم ذلك ، وكان نصف فدك خالصاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه لم يُوجف عليه بخَيل ولا رِكاب».
وروى البخاري (3) ومسلم (4) : «أنّ فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا نُورَث ما تركناه (5) صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال ؛ وإنّي واللّه لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللّه ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً» (6) .. الحديث.
وروى مسلم أيضاً (7) : «أنّ فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة
ص: 84
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يَقْسِم لها ميراثها ممّا ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ممّا أفاء اللّه عليه ؛ فقال لها أبو بكر : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا نُورَث ما تركناه (1) صدقة ...
وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال : لستُ تاركاً شيئاً كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يعمل به إلاّ عملت به ، إنّي أخشى إنْ تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
فأمّا صدقته بالمدينة ، فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس فغلبه عليها عليٌّ.
وأما خيبر وفدك ، فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كانتا لحقوقه التي تَعرُوه ونوائبِه ، وأمرُهما إلى مَن وَلِيَ الأمرَ.
قال : فهما على ذلك إلى اليوم».
ونحوه في «صحيح البخاري» (2) ، و «مسند أحمد» (3).
وذكر البخاري - في هذا الحديث - أنّها غضبت فهجرت أبا بكر ، ولم تزل مهاجرته حتّى توفّيت (4).
وذكر هو ومسلم - في الحديث الأوّل - أنّها وَجَدتْ (5) على أبي بكر
ص: 85
في ذلك فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها عليٌّ ليلا ، ولم يُؤْذِن بها أبا بكر ، وصلّى عليها (1).
فأنت ترى أنّ هذه الأخبار صريحة الدلالة على أنّ فدك غير خيبر ، ومثلها في أخبارهم كثير (2) ، فكيف زعم الخصم أنّها من قُراها؟!
وبهذه الأخبار التي ذكرناها يُعلم أنّ فدك وكلّ ما لم يُوجف عليه بخيل أو رِكاب ملكٌ لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاصة ..
فقول الخصم : «وكان تحت يد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما يكون أموال الفيء تحت أيدي الأئمة» (3) ، باطل ؛ فإنّ ظاهره أنّه للمصالح العامة لا للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاصّة ، وهو مخالف للأخبار السابقة وضرورة الإسلام.
ولعلّه أخذ هذه الدعوى من قول أبي بكر في الحديث الأوّل : «إنّي واللّه لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عن حالها التي كانت عليها ، ولأعملنّ فيها بما عمل» (4).
وقوله في الحديث الثاني : «لستُ تاركاً شيئاً كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يعمل به» (5).
ص: 86
فإنّ هذين القولين دالاّن على أنّ متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كانت صدقة في أيامه.
وفيه : إنّ كلام أبي بكر متناقضٌ ، فلا ينبغي أن يُعتمد عليه ؛ لأنّ متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنْ كانت من الصدقات في أيامه لم يكن محلٌّ لروايته أنّ الأنبياء لا يُورَثون ؛ إذ لا ميراث حتّى يحتاج لرواية هذا الحديث.
وإنْ كانت ملكاً لرسول اللّه ، كان خوف أبي بكر من مخالفة عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تقشّفاً كاذباً ؛ لأنّ عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حيث وقع كان بنحو الملك ، فلا يلزم أبا بكر أن يعمل كعمله ، وقد صارت بزعمهم صدقة من سائر صدقات المسلمين التي يجوز تخصيص بعضهم فيها ، كما خصّ هو عليا بسلاح النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وبغلته بعنوان الصدقة - كما ادّعاه الخصم (1) - ، وخصّ عمر عليا والعبّاس بصدقة المدينة.
وأما ما زعمه من أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان ينفق على عياله من فدك ، فيكذّبه ما رواه البخاري (2) ومسلم (3) ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان ينفق على أهله نفقة سنة من أموال بني النضير ، وما بقي يجعله في الكرَاع والسلاح.
ويكذّبه - أيضاً - الحديث الذي أشار إليه الخصم ، المشتمل على قصّة منازعة عليّ والعبّاس في مال بني النضير ؛ فإنّ عمر قال فيه : «كان
ص: 87
رسول اللّه ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال» (1).
وما رواه البغوي في «المصابيح» ، في باب الفيء ، من الحسان ، عن عمر ، قال : «كان لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث صَفايا (2) : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك.
فأما بنو النضير ؛ فكانت حبساً لنوائبه (3).
وأما فدك ؛ فكانت حبساً لأبناء السبيل.
وأما خيبر ، فجزّأها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ثلاثة أجزاء : جزءَين بين المسلمين ، وجزءاً نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين» (4).
فإنّ هذه الأخبار مُكذّبة لِما ادّعاه الخصم من أنّ نفقة عيال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من فدك ، كما أنّها متكاذبة فيما بينها ؛ لدلالة الخبرين الأوّلين على أنّها من بني النضير ؛ ودلالة خبر البغوي على أنّها من خيبر!
على أنّه لو كانت فدك محلّ نفقة عيال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في سنين ، لَما خفي ذلك على عياله والمسلمين ، ولا سيّما أنّ الفاضل عن نفقتهم - بزعم الخصم - يصرف في الكرَاع والسلاح ، فكيف يمكن لفاطمة (عليها السلام) دعوى
ص: 88
أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدك من يوم ملَكها ، ثمّ يشهد لها بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
وكيف لا تنعى عليها (1) عائشة هذه الدعوى نصرةً لأبيها؟!
وأمّا قوله : «ولم يكن سعةٌ في أموال الفيء حتّى ينفق الخليفة على أزواجه من سائر جهات الفيء ويترك فدك لفاطمة» ..
فعذرٌ بارد ؛ لأنّ الحقوق الشرعيّة لم تكن تضيق عن نفقة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي تعوّدن عليها في أيامه.
ولا أظنّ أنّها كانت في ذلك الوقت تبلغ ما أعطاه جابرَ بن عبد اللّه في أيّام وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا جاءه مال البحرين ، فإنّه أعطاه ألفاً وخمسمئة درهم ، كما رواه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، وأحمد في «مسنده» (4).
وكذا أعطى غيرَه نحو ذلك ..
ففي «كنز العمّال» (5) ، عن ابن سعد : «سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : مَن كانت له عِدَةٌ عند
ص: 89
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فليأت! فيأتيه رجالٌ فيعطيهم.
فجاءه أبو بشير المازني فقال : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال لي : إذا جاءنا شيء فأتنا ؛ فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً ، فوجدها ألفاً وأربعمئة».
بل لم تكن نفقة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ القليل ممّا وهبه أبو بكر لمعاذ بن جبل ..
روى في «الاستيعاب» - بترجمة معاذ - ، أنّه مكث باليمن أميراً ، وكان أوّل من اتّجر بمال اللّه ، فمكث حتّى أصاب ، وحتّى قُبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فلمّا قدم قال عمر لأبي بكر : أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيّشه وخذ سائره منه.
إلى أن قال : فقال أبو بكر : لا آخذ منك شيئاً ، قد وهبته لك (1).
ونحوه في «كنز العمال» (2) ، عن عبد الرزّاق ، وابن راهويه.
كما أنّ نفقتهنّ لا تبلغ إلاّ اليسير ممّا أعطاه لأبي سفيان ..
ففي «شرح النهج» (3) ، عن الجوهري في «كتاب السقيفة» ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعث أبا سفيان ساعياً ، فرجع من سعايته وقد مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال : مَن وليَ بعده؟ قيل : أبو بكر ؛ قال : أبو فَصيل (4)؟! قالوا : نعم.
ص: 90
إلى أن قال : فكلّم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدِم ، وإنّا لا نأمن شرّه ، فَدعْ (1) له ما في يده ؛ فتركه ، فرضيَ.
وأنت تعلم أنّ مال السعاية التي يوجّه بها أبو سفيان ، ويرشى به في أمر الخلافة ، ويرضيه ممّن ازدراه واستصغره ؛ لهو من أكثر الأموال!
فإذا وسع مال اللّه هذه العطيات ونحوها ، فكيف يضيق عن نفقة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
ولو فرض أنّه يضيق عنها ، فقد كان من شرع الإحسان وحفظ الذمام لسيّد المرسلين أن يضيّقوا على أنفسهم وينفقوا على الأزواج من مال اللّه ، أو يضمّ أبو بكر وعمر ابنتيهما إلى عيالهما ويطيّبوا نفس بضعة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بإعطائها فدك التي أفاء اللّه بها عليه ، ولا يلجِئُها إلى النزاع في تلك المقامات ويغضبوها حتّى الممات.
أترى أنّ من بنى لقومه بيت شرف ومجد ، وجعل لهم مملكة يزاحمون بها الممالك العظمى ، ثمّ مات وخلّف بينهم بنتاً واحدة ، ومالا يقوم بكفايتها ، فهل يحسن منهم أن ينتزعوا منها ذلك المال قهراً بحجة أنّه يعود إلى المملكة؟!
وهل ترى مَن يفعل ذلك معدوداً من حافظي حقّ الأب وذمامه ، أو معدوداً من المضيّعين لحقّه وأعدائه؟!
ص: 91
فكيف بسيّد النبيّين ، الذي بنى لهم شرف الدنيا والدين ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، وهداهم - لو آمنوا - إلى الصراط المستقيم ، وما خلّف بينهم إلاّ بنتاً وصفها بأنّها بضعته ، وأنّها سيّدة نساء العالمين ، وأنّها (1) يغضبه ما يُغضبها؟!
وأمّا قوله : «فعمل أبو بكر في فدك مثل عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان ينفق [منها] على أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وفاطمة وأولادها» ..
فكذب ظاهر ؛ إذ - مع أنّ نفقة الأزواج بحسب أخبارهم السابقة كانت من مال بني النضير أو خيبر - إنّ سيّدة النساء لم تقم بين أظهرهم إلاّ مدّة يسيرة ساخطة عليهم ، فمتى أخذت من أيديهم؟!
مضافاً إلى ما رواه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» ..
فإنّه لم يستثن إلاّ نفقة نساء النبيّ ومؤنة عامله ، فلا تكون نفقة فاطمة (عليها السلام) وأولادها منها!
والظاهر أنّ فدك صارت من مختصّات أبي بكر وعمر ، كما عن السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (4).
ويدلّ عليه ما رواه أبو داود في «سننه» في «باب صفايا رسول اللّه»
ص: 92
من «كتاب الخراج» ، عن أبي الطفيل ، قال : «جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها من النبيّ ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه يقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أطعم نبيا طُعمةً فهي للذي يقوم بعده» (1).
ونحوه في «كنز العمّال» (2) ، عن أحمد ، وأبي داود ، وابن جرير ، والبيهقي.
بل الظاهر أنّ خيبر أيضاً مختصّة بهما وصارت طعمة لهما ؛ لِما سبق عن البخاري ، ومسلم ، وأحمد ، أنّ عمر أمسك خيبر وفدك وقال : هما صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كانتا لحقوقه التي تعروه ، وأمرُهما إلى مَن وليَ الأمر (3) ..
فإنّه دالٌّ على أنّ عمر وأبا بكر قد اتّخذا فدك وخيبر لحقوقهما ونوائبهما طعمةً لهما ، وهو ممّا يزيد في اللوم والتقريع لهما في منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً وسهمها من خيبر.
وأمّا قوله : «فلمّا انتهى أمر الخلافة إلى عمر - إلى قوله : - ردّ سهم بني النضير إلى عليّ وعبّاس» ..
فمن الجهل الواضح ؛ لأنّه يدلّ على زعمه اتّحاد سهم بني النضير وفدك ؛ لأنّ كلامه في فدك وتحقيقِ أمرِها ، وهما بالضرورة مختلفان ،
ص: 93
والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فتح بني النضير في سنة أربع (1) ، وفدك في سنة سبع (2).
على أنّ عمر لم يردّ شيئاً من فدك وسهم بني النضير ، وإنّما زعموا أنّه ردّ صدقته بالمدينة ، كما سبق في حديث البخاري ومسلم وأحمد (3).
لكنّ الظاهر أنّ الخصم أخذ دعوى ردّ عمر لسهم بني النضير من الخبر المشتمل على منازعة أمير المؤمنين والعبّاس ، فإنّه دالٌّ على ذلك ، فيتناقض مع ما دلّ على أنّه إنّما ردّ صدقته بالمدينة!
فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما بيّنه الخصم في تاريخ فدك ، جهلٌ في كذب!
وهل هو أعلم بحقيقتها من الطاهرة العالمة؟!
وأمّا ما يظهر منه من التشكيك في دعوى فاطمة (عليها السلام) ، فمن الغرائب!
ليت شعري ، إذا لم تدع أحدهما ، فما هذا الذي وقع بينها وبين أبي بكر ، ممّا ملأ العالم ذِكرُه ، وشوّه وجه التاريخ أمرُه؟!
ولنتكلّم في الدعويين :
أمّا دعوى الإرث ، فقد اشتملت عليها صحاح أخبارهم ، وقد سمعت بعضها ، ولشهرتها ووضوحها لا نحتاج إلى تطويل الكلام بإثباتها ، ولمّا ادّعت الميراث ، ردّها أبو بكر بالحديث الذي رواه ، فكذّبته وقالت من خطبة طويلة : «يا بن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد
ص: 94
جئتَ شيئاً فريا» كما ذكره ابن أبي الحديد (1) ، واستدلّت (عليها السلام) بالآيات التي ذكرها المصنّف (رحمه اللّه).
كما استدلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً بآيتَي سليمان ويحيى (2) ، كما في «كنز العمّال» (3) ، عن ابن سعد.
وأمّا قوله : «الحديث إذا صحّ بشرائطه [فهو] يُخصّص حكم الكتاب» ..
فصحيحٌ ، لكنّ الكلام في حصول الشرائط - كما ستعرف - على أنّ آيتَي إرث سليمان ويحيى خاصّتان ، فلا يعارضهما الحديث وإنْ صحّ.
وأما تكذيبه للمصنّف في دعوى تفرّد أبي بكر ، فباطل ؛ لأنّ المصنّف لم يستبدّ بهذه الدعوى ، بل سبقته إليها عائشة ، وكانت أعلمَ بتفرّد أبيها!
فقد نقل في «كنز العمال» (4) ، في فضائل أبي بكر ، عن البغوي ، وأبي بكر في «الغيلانيّات» ، وابن عساكر ؛ عن عائشة ، قالت : «لمّا توفّي
ص: 95
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) اشرأبَّ (1) النفاق ، وارتدّت العرب ، وانحازت الأنصار ، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لَهاضها (2) ، فما اختلفوا بنقطة إلاّ طار أبي بغنائها وفصلها ؛ قالوا : أين يُدفن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علماً ؛ فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : ما من نبيّ يُقبض إلاّ دُفن تحت مضجعه الذي مات فيه.
واختلفوا في ميراثه ، فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة».
ونقله ابن حجر في «الصواعق» (3) عن هؤلاء الجماعة.
ويدلّ - أيضاً - على تفرّد أبي بكر ، ما رواه أحمد في «مسنده» (4) ، عن عمر ، قال في جملة كلامه : «حدّثني أبو بكر - وحلف بأنّه لصادق - أنّه سمع النبيّ يقول : إنّ النبيّ لا يورَث ، وإنّما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين».
وقال ابن أبي الحديد (5) : «أكثر الروايات أنّه لم يروِ هذا الخبر إلاّ أبو بكر وحدَه ، ذكر ذلك معظم المحدّثين ، حتّى إنّ الفقهاء أطبقوا على
ص: 96
ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد.
وقال شيخنا أبو عليّ : لا يُقبل في الرواية إلاّ رواية اثنين ، كالشهادة ، فخالفه المتكلّمون والفقهاء كلّهم ، واحتجّوا بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده : (نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث) ، حتّى إنّ بعض أصحاب أبي عليّ تكلّف لذلك جواباً ، فقال : قد رُوي أنّ أبا بكر يوم حاجّ فاطمة قال : أنشُد اللّه امرَأً سمع من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في هذا شيئاً؟
فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنّه سمعه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)»!
وأمّا استدلال الخصم لعدم تفرّد أبي بكر بقول عمر بمحضر عليّ والعبّاس وغيرهما ، فهو مما رواه البخاري (1) من طرق ، ومسلم (2) ، والألفاظ متقاربة ، وهو من الكذب الصريح ؛ لأُمور :
الأوّل : إنّه يصرّح بأنّ عمر ناشد القوم - ومن جملتهم عثمان - ، فشهدوا بأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا نُورَث» ، وهو مناف لِما رواه البخاري (3) عن عائشة ، أنّها قالت : «أرسل أزواجُ النبيّ عثمانَ إلى أبي بكر يسألنه ثُمنهنَّ ممّا أفاء اللّه على رسوله ، فكنت أنا أردّهُنّ» .. الحديث.
فإنّه يقتضي أن يكون عثمان جاهلا بذلك ، وإلاّ لامتنع أن يكون رسولا لهنّ إلاّ أن يظنّ القومُ فيه السوء!
الثاني : إنّه لو كان القوم الّذين ناشدهم عمر عالمين بما رواه أبو بكر ، لَما تفرّد أبو بكر بروايته عند منازعة فاطمة (عليها السلام) له.
ص: 97
فهل تراهم ذخروا شهادتهم لعمر ، وأخفوها عن أبي بكر وهو إليها أحوج؟!
الثالث : إنّ أحاديث البخاري صريحةٌ في أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والعبّاس طلبا من عمر الميراث ، حيث يقول في أحدها : «جئتماني وكلِمتكما واحدة ، [وأمركما واحد] ، جئتني يا عبّاس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا نورَث ما تركناه صدقة» (1).
وقريب منه ما في حديثيه الآخرَين (2).
فكيف يُتصوّر أن يطلبا من عمر الميراث وهما يعلمان أنّ النبيّ لا يُورَث؟!
وهو من الكذب الفظيع ؛ لمنافاته لدينهما وشأنهما ، وكونه من طلب المستحيل عادة ؛ لأنّ أبا بكر قد حسم أمره ، وكان أكبرَ أعوانِه عليه عمر ، فكيف يطلبان منه الميراث؟!
ومع ذلك ، فكيف دفع لهما عمر مال بني النضير ليعملا به عمله وعمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، وهما قد جاءاه يطلبان الميراث مخالفين لعلمهما ، غير مباليَين بحكم اللّه ورسوله - حاشاهما - ، فيكون قدحاً في عمر؟!
الرابع : إنّ أمير المؤمنين والعبّاس لو سمعا من النبيّ ما رواه أبو بكر حتّى أقرّا به لعمر ، فكيف يقول لهما عمر - كما في حديث مسلم - : «رأيتما أبا بكر كاذباً آثماً غادراً خائناً ؛ ورأيتماني كاذباً آثماً غادراً
ص: 98
خائناً» (1)؟!
الخامس : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لو سمع ذلك فلِمَ ترك بضعة الرسول أن تطالب بما لا حقّ لها فيه؟!
أأخفى ذلك عنها راضياً بأن تغصب مال المسلمين ، أو أعلمها فلم تُبالِ وَعَدتْ على ما ليس لها فيه حقّ ، فيكون الكتاب كاذباً أو غالطاً بشهادته لهما بالطهارة (2)؟!
فلا مندوحة لمن صدّق اللّه وكتابه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يقول بكذب هذه الأحاديث.
السادس : إنّه ذكر في حديث مسلم - ويعزُّ علَيَّ نقله ، وإنْ كان ناقل الكفر ليس بكافر - ، أنّ العبّاس قال لعمر : «اقضِ بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن» (3).
وهذا ممّا لا يتصوّر صدوره من العبّاس ؛ إذ كيف ينسب لعليّ الكذب والأثم والغدر والخيانة وهو يعلم أنّه نفس النبيّ الأمين (4) ، وأنّ اللّه سبحانه شهد له بالطهارة؟!
ص: 99
وكيف يسبه وقد علم أنّ من سبه سب اللّه ورسوله (1)؟!
اللّهمّ إلاّ أن يكون كافراً مخالفاً لِما عُلم وثبت بالضرورة! والعبّاس أجلّ قدراً وأعلى شأناً من ذلك ، فلا بُد أن يكون هذا القول مكذوباً على العبّاس من المنافقين الّذين يريدون سب الإمام الحقّ ، ووضعوا هذا الحديث لإصلاح حال أبي بكر وعمر من دون فهم ورويّة!
وأما حديث أبي هريرة - الذي استدلّ به الخصم - لعدم تفرّد أبي بكر ، فهو من الكذب المجمَع عليه ؛ لمخالفته لمذهبنا كما هو ظاهر ، ولمذهبهم ؛ لأنّهم يزعمون أنّ ما تركه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صدقةٌ كلُّه ، فلا وجهَ لاستثناء نفقة نسائه.
وليس هذا الكذب إلاّ من أبي هريرة ؛ تزلّفاً لأهل الخلاف بلا معرفة (2).
ص: 100
ص: 101
ص: 102
ص: 103
فإذا عرفت أنّ أبا بكر متفرّد بهذه الرواية ، عرفت أنّه لا يصحّ التعويل عليها ؛ إذ لا يمكن أن يُخفي نبيُّ الرحمة والهدى هذا الحكم عمّن هو محلُّ الابتلاء به - وهم ورثته - ، ويعرّف به أجنبيا واحداً ، حتّى يصير سبباً للفتنة والخلاف بين ابنته الطاهرة ومَن يلي أمر الأُمة إلى أن ماتت غضبى عليه ، وهو قد قال في حقّها : «إنّ اللّه يغضب لغضبها ، ويرضى لرضاها» (1) ..
و «يؤذيني ما يؤذيها» (2).
ص: 104
فكان هذا البيان لفضلها مع ذلك الإخفاء عنها ، سبباً لاختلاف أُمته والعداوة بينهم إلى الأبد ؛ لأنّهم بين ناصر لها وقاطع بصوابها ، وبين ناصر لأبي بكر وراض بعمله.
وكيف يُتصوّر أن يُخفيَ هذا الحكم عن أخيه (1) ، ونفسه (2) ، وباب مدينة عِلمه (3) ، ومَن عندَه عِلم الكتاب (4) ، ويُظهره لغيره (5)؟!
ليت شعري! ألم تكن لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رأفةٌ على بضعته فيعلمها حكمها ويصونها عن الخروج إلى المحافل مطالبة بما لا تستحقّ ، وتعود بالفشل راغمةً مهضومة؟!
ما أظنّ مؤمناً برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، عارفاً بشأنه ، يلتزم بصحة هذا
ص: 105
الخبر مع هذه المفاسد!
وأما ما أجاب به عن السؤال بقوله : «فإن قيل : لا بُد لكم من بيان حجّية هذا الحديث ، ومن بيان ترجيحه على الآية» ..
ففيه : إنّ دعوى الحكومة لأبي بكر في المقام خطأٌ ؛ فإنّه خصم بحت ؛ لاستحقاقه لهذه الصدقة ، وإنْ فُرض غناه ؛ لأنّها من الصدقات بالمعنى الأعمّ الذي ادّعاه الخصم.
بل أبو بكر أظهر الناس خصومةً ؛ لأنّه يزعم أنّ أمر صدقات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) راجعٌ إلى وليّ الأمر بعده ، وأنّه وليّه.
وليت شعري لِمَ صار أمير المؤمنين (عليه السلام) خصماً لليهودي في الرواية التي ذكرها الفضل ورجع إلى شريح ، وصار أبو بكر هو الحكَم في ما ادّعاه على الزكيّة الطاهرة؟!
ولو سُلّم أنّ له الحكومة وإنْ كان خصماً ، فالحديث الذي استند إليه في الحكم عليها ليس قطعيّ الدلالة ؛ لاحتمال أن يريد به النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : أنّا لا نترك شيئاً من المال يبقى بعدنا لورثتنا (1) ، بل نصرفه في وجوه البرّ ؛ إذ ليس من شأننا جمع المال كالملوك ، وما نتركه بعدنا إنّما هو من مال الصدقات التي لنا الولاية عليها.
وحينئذ لو اتّفق بقاء مال يملكه النبيّ لسبب يُرجح بقاءه (2) ، لا يمتنع أن يكون إرثاً لورثته.
ص: 106
وقول الخصم : «لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها إليه بقرينة الحال ...» إلى آخره ..
رجمٌ بالغيب ؛ إذ لا دليل على وجود قرينة الحال لولا حمل أبي بكر على الصحّة ، وهو ليس أَوْلى بالحمل على الصحّة من أهل البيت الملغين لحديثه!
نعم ، لا ينكر ظهور حديثه في مطلوبه ، لكنّه لو صحّ لا يصلح لمعارضة ظهور الآيات في توريث الأنبياء ، لا سيما ما تعرّض منها لإرث الأنبياء بخصوصهم.
وأمّا ما زعمه من الفرق بين الشهادة والرواية ..
فممنوعٌ إذا كانت الرواة لإثبات الحاكم مدّعاه بروايته ؛ إذ تلحقه التهمة بإرادة جرّ النفع إلى نفسه ، كالشاهد!
وأما ما أجاب به عن آية إرث سليمان ..
فمخالف للظاهر ، بل غير صحيح ؛ لأنّ سليمان كان نبيا في حياة أبيه ، فكيف يرث منه النبوّة؟!
وكذا العلم ؛ لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (1) .. الآية.
فإنّه دالٌّ على أنّ كلاًّ منهما قد أُوتي علماً بالأصالة ؛ ولذا قال سبحانه : ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) (2) ، فيدلّ قوله : ( وَوَرِثَ ) على أنّه ورث منه أمراً آخر غير العلم ، وينصرف إلى المال.
ص: 107
وإنّما بيّن سبحانه إرثه للمال ؛ للدلالة على أنّه بقيَ بعده ، وأنّ الأنبياء تُورِّث المالَ وترثُ منه.
وأما ما ذكره بالنسبة إلى دعاء زكريا (عليه السلام) ..
فيَرِدُ عليه أوّلا : منعُ اتّفاق العلماء على إرادة النبوّة والحبورة ؛ لمخالفة أهل البيت وشيعتهم جميعاً (1) ، وأكثر علماء التفسير من العامة (2) ..
قال الرازي في تفسير الآية : «اختلفوا في المراد بالميراث على وجوه :
أحدها : إنّ المراد بالميراث في الموضعين : هو وراثة المال ؛ وهذا قول ابن عبّاس والحسن والضحاك.
وثانيها : إنّ المراد في الموضعين : وراثة النبوّة ؛ وهو قول أبي صالح (3).
وثالثها : يرثني المال ، و [يرث] من آل يعقوب النبوّة ؛ وهو قول السدي ومجاهد والشعبي ، وروي أيضاً عن ابن عبّاس والحسن والضحاك (4).
ورابعها : يرثني العِلمَ ، ويرث من آل يعقوب النبوّة ؛ وهو مرويٌّ عن
ص: 108
مجاهد» (1).
وحكى السيوطي في «الدرّ المنثور» ، عن الفريابي ، أنّه أخرج عن ابن عبّاس ، قال : «كان زكريّا لا يُولد له ، فسأل ربّه فقال : ربّ هب ( لي من لَدنك وليا * يرثني ويرثُ من آل يعقوبَ ) (2).
قال : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة» (3).
ويَرِدُ عليه ثانياً : إنّ دعواه الإجماع على أنّ يحيى قُتل قبل أبيه باطلة ؛ لأنّها من قبيل دعوى الإجماع على خلاف ما أنزل اللّه تعالى ، قال سبحانه : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ... فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي ... ) (4).
فإنّه يستلزم بمقتضى استجابة دعاء زكريّا أن يكون يحيى قد بقيَ بعد أبيه ؛ لأنّ الوراثة تستدعي بقاء الوارث بعد الموروث.
وثالثاً : إنّه لا بُد من حمل الآية على ميراث المال لا النبوّة ؛ لأُمور :
الأوّل : إنّ يحيى (عليه السلام) كان نبيا في حياة أبيه وهو صبيّ ، فلا معنى لأن يكون وارثاً للنبوّة من أبيه ، مع أنّ النبوّة لا تحصل بالميراث إلاّ بالتجوّز ، وهو خلاف الظاهر.
الثاني : إنّ الموالي كانوا شرار بني إسرائيل ، كما في «الكشّاف» (5) ،
ص: 109
وغيره (1) ، فلا يجوز أن يرثوا النبوّة حتّى يخافهم من ورائه ، ويدعوَ أن يهب اللّه له وارثاً غيرَهم.
ولو فُرض إمكان نبوّتهم ، فلا وجه لخوفه من إرثهم للنبوّة إلاّ البخل بنعمة اللّه على الغير ، وهو كما ترى ، بل ينبغي سروره بذلك لخروجهم من الضلال إلى الهدى.
ودعوى أنّه ما خاف أن يرثوا النبوّة ، بل خاف أن يُضيّعوا الدين ويغيّروه ، فدعا ربّه أن يهب له ولداً حافظاً للدين ، مانعاً لهم عن الفساد ، ممنوعة ؛ لبعدها عن سوق الآيات وخصوصيّات الكلام ، التي منها أنّه طلب وليّاً ، وهو لا خصوصيّة له في تحصيل هذا الغرض ، وطلب أن يكون رضيّاً من دون قيد التمكّن من دفعهم عن الفساد.
الثالث : إنّه لو كان المراد : ولداً وارثاً للنبوّة ، لكان دعاؤه أن يجعله رضيا ، فضولا ؛ إذ لا تكون النبوّة إلاّ لرضيّ ، والحال أنّ ظاهره التقييد.
كما يشهد له ما حكاه السيوطي في «الدرّ المنثور» ، عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن محمّد بن كعب ، قال : «قال داود : يا ربّ! هبْ لي ابناً ؛ فوُلد له ابنٌ خرج عليه ، فبعث له داودُ جيشاً ..
إلى أن قال : ربّ إنّي سألت أن تهب لي ابناً ، فخرج علَيَّ؟!
قال : إنّك لم تستثنِ!
قال محمّد بن كعب : لم يقل كما قال زكريا : ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ
ص: 110
هذا ، ولا يُستبعد من زكريّا أن يطلب وارثاً لماله ، وإن لم يدخل المال تحت نظر الأنبياء ؛ لأنّه خاف أن يرث الموالي ماله فيستعينون به على معاصي اللّه تعالى.
ولا يُشكَل بأنّه إذا خاف ذلك أمكنه أن يتصدّق بماله فيحصل له ثواب الصدقة ويتمّ غرضه ؛ وذلك لأنّه لا يرجح أن يُفقِر الإنسانُ نفسَه باختياره ابتداءً منه ، وكلّما نال مالا أخرجه في آنه ، قال تعالى : ( وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) (3).
على أنّ طلب الولد الصالح الذي يتعاهد أباه بماله ونتائجه وعمله أَوْلى من الصدقة.
وأما ما أجاب به عن مناقضة فعل أبي بكر لروايته في توريث السيف والعمامة ، فيبتني ردّه على الإحاطة بأخبارهم الحاكية لكيفيّة وصول السيف والعمامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولم يتيسّر لي الآن ذلك (4).
ص: 111
ولكن لأبي بكر مناقضة أُخرى اطّلعتُ عليها في «مسند أحمد» (1) ..
فقد أخرج عن ابن عبّاس ، أنّه قال : «لمّا قُبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) واستُخلِف أبو بكر ، خاصم العبّاسُ عليا في أشياء تركها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فقال أبو بكر : شيء تركه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فلم يحرّكه ، فلا أُحرّكه» .. الحديث.
ومثله في «كنز العمّال» في أوّل كتاب الخلافة (2) ، عن أحمد والبزّار ، وقال : «حسن الإسناد».
فإنّ هذا الحديث صريح في أنّهما اختصما بأشياء من متروكات
ص: 112
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومقتضى رواية أبي بكر أن تكون هذه المتروكات من الصدقات ، فكيف كان على أبي بكر أن لا يحرّكها؟!
وأيُّ تحريك أكبر من حكم النبيّ بأنّها صدقة؟!
وأمّا قوله : «ولو كان ميراثاً لكان العبّاس وارثاً أيضاً ؛ لأنّه العمّ» ..
فمردودٌ بأنّ العمّ لا يرث مع البنت ؛ لبطلان التعصيب (1) على الأحقّ ، ولو سُلّم فقد زعم بنو العبّاس أنّهم ورثوا البردة والقضيب ، ولعلّهم يرون أنّهما كانا سهم العبّاس من الميراث.
هذا كلّه في دعوى الإرث.
وأمّا دعوى النِّحلة ، فلا ريب بصدورها من سيّدة النساء (عليها السلام) ، وهي مسلّمةٌ من الصدر الأوّل إلى الآن.
ص: 113
قال قاضي القضاة - في ما حكاه عنه ابن أبي الحديد (1) - : «أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح ، ولسنا ننكر صحة ما روي من ادّعائها فدك ، فأما أنّها كانت في يدها فغير مسلّم».
فأنت ترى أنّه لم ينازع إلاّ في كون فدك بيدها الذي هو محلّ الكلام في الصدر الأوّل ، ولم ينكر صحّة ما روي من ادّعائها النحلة.
وحكى ابن أبي الحديد ، عن كتاب «السقيفة وفدك» لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أخباراً كثيرة في ادّعائها نِحلة فدك (2).
وذكر في «المواقف» وشرحها ، في المقصد الرابع من مقاصد الإمامة ، أنّها ادّعت النحلة وشهد لها عليٌّ والحسنان ، وأضاف في «المواقف» : أُمَّ كلثوم ، وقال في شرحها : «الصحيح : أُمّ أيمن» (3).
ولم يناقش أحدهما في وقوع دعوى النحلة ، وصدور شهادة الشهود بها ، وإنّما أجابا بتصويب أبي بكر في ردّ شهادتهم!
وقال ابن حجر في «الصواعق» (4) : «ودعواها أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدكاً ، لم تأت عليها إلاّ بعليّ ، وأُمّ أيمن ، فلم يكمل نصاب البيّنة ؛ على أنّ في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافاً بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إمّا (لعلّه لكونه) (5) ممّن لا يراه ، ككثير من العلماء ، أو أنّها لم تطلب
ص: 114
الحلف مع مَن شهد لها.
وزعمهم أنّ الحسن والحسين وأُمّ كلثوم شهدوا لها ، باطل ؛ على أنّ شهادة الفرع والصغير غير مقبولة» ؛ انتهى.
فإنّه لم يُنكر صدور الدعوى منها وشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأُمّ أيمن لها ، وإنّما أنكر شهادة الحسنين وأُمّ كلثوم.
وقال الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» : «الخلاف السادس : في أمر فدك والتوارث عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ودعوى فاطمة وراثةً تارةً ، وتمليكاً أُخرى ، حتّى دُفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة» (1).
فإذا عرفت هذا فنقول : لا ريب عندنا أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدك ، وأنّ اليد لها عليها من يوم أفاء اللّه تعالى بها عليه ، وكان بأمر اللّه سبحانه حيث قال له : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (2).
وأنّ أبا بكر قبضها قهراً ، وطلب منها البيّنة على خلاف حكم اللّه تعالى ؛ لأنّه هو المدّعي.
وقد حاجّه أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك ، فما كان جوابهم إلاّ أن قال عمر : «لا نقوى على حجتك ، ولا نقبل إلاّ أن تُقيم فاطمة البيّنة» ، كما صرّحت به أخبارنا (3) ، وشهدت به أخبارهم (4) ..
ص: 115
قال السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) من سورة بني إسرائيل : «أخرج البزّار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخُدري ، قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة فأعطاها فدك» (1).
قال : «وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا نزلت : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) أقطع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً» (2).
ونقل السيوطي - أيضاً - الحديثين في «لباب النقول» ، وذكر أنّ الطبراني أخرج - أيضاً - الحديث الأوّل عن أبي سعيد ، لكن قال : «قال ابن كثير : هذا مُشكل ، فإنّه يُشعر بأنّ الآية مدنيّة ، والمشهور خلافه» (3).
وفيه - مع أنّه يكفينا موافقة البعض - : أنّ الشهرة لو سُلّمت إنّما هي على كون السورة مكّية ، وهو باعتبار أغلبها ، فلا يُنافي نزول آية منها بالمدينة.
وحكى في «كنز العمّال» (4) ، عن ابن النجّار ، والحاكم في «تاريخه» ، عن أبي سعيد ، قال : «لما نزلت : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) قال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : يا فاطمة! لكِ فدك».
ص: 116
وحينئذ ، فتكون مطالبة أبي بكر للزهراء بالبيّنة خلافَ الحقّ وظلماً محضاً ؛ لأنّها صاحبة اليد وهو المدّعي.
ويدلّ على أنّ اليد لها ، لفظُ الإيتاء في الآية ، والإقطاعُ والإعطاءُ في الأخبار المذكورة ، فإنّها ظاهرة فى التسليم والمناولة.
كما يشهد لكون اليد لها ، دعواها النِحلة - وهي سيّدة النساء وأكملهنّ (1) - ، وشهادةُ أقضى الأُمّة بها (2) ؛ لأنّ الهبة لا تتمّ بلا إقباض (3).
فلو لم تكن صاحبة اليد لَما ادّعت النِحلة ، ولردّ القوم دعواها بلا كلفة ، ولم يحتاجوا إلى طلب البيّنة.
ولو سُلّم عدم معلوميّة أنّ اليد لها ، فطلبُ أبي بكر منها البيّنةَ جورٌ أيضاً ؛ لأنّ أدلّة الإرث تقضي بملكيّتها لفدك ، ودعواها النِحلة لا تجعلها مدّعية لِما تملك.
بل مَن زَعَمَ الصدقة هو المدعي ، وعليه البيّنة ، ولا تكفي روايته في إثبات ما يدعي ؛ لأنّه الخصم - كما عرفت - ، كما لا يُقبل - أيضاً - حكم الخصم على خصمه.
على أنّ البيّنة طريق ظنّي مجعول لإثبات ما يحتمل ثبوته وعدمه ، فلا مورد لها مع القطع واليقين المستفاد في المقام من قول سيّدة النساء التي طهّرها اللّه تعالى وجعلها بضعةً من سيّد أنبيائه ؛ لأنّ القطع طريق
ص: 117
ذاتي إلى الواقع ، لا بجعل جاعل (1) ، فلا يمكن رفعُ طريقيّته ، أو جعلُ طريق ظاهريّ على خلافه.
ولذا كان الأمر في قصة شهادة خُزيمة (2) للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، هو ثبوت ما ادّعاه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بلا بيّنة مع مخاصمة الأعرابي له ، فإنّ شهادة خزيمة فرع عن قول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وتصديق له ، فلا تفيد أكثر من دعوى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
بل كان اللازم على أبي بكر والمسلمين أن يشهدوا للزهراء ، تصديقاً
ص: 118
لها ، كما فعل خزيمة مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأمضى النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فِعلَه.
ولكن يا للأسف! مَن اطّلع على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نحلها فدك أخفى شهادته ؛ رعايةً لأبي بكر ، كما في الأكثر ..
أو خوفاً منه ومن أعوانه ؛ لِما رأوا من شدتهم على أهل البيت (عليهم السلام) ..
أو عِلما بأنّ شهادتهم تُردّ ؛ لِما رأوه من ردّ شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، واجتهاد الشيخين في غصب الزهراء ؛ ولذا لم يشهد أبو سعيد وابن عبّاس ، مع أنّهم علموا ورووا أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة فدك.
ولا يبعد أنّ سيّدة النساء لم تطلب شهادة ابن عبّاس وأبي سعيد وأمثالهما ؛ لأنّها لم تُرِد - واقعاً - بمنازعة أبي بكر إلاّ إظهارَ حالِه وحالِ أصحابه للناس إلى آخر الدهر ، ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1).
وإلاّ فبضعة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أجلُّ قدراً وأعلى شأناً من أن تحرص على الدنيا ، ولا سيّما أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به.
ولو سُلّم أنّ قول الزهراء وحده لا يفيد القطع ، فهل يبقى مجال للشكّ بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
ولو سُلّم حصول الشكّ ، فقد كان اللازم على أبي بكر أن يعرض عليها اليمين - حينئذ - ولا يتصرّف بفدك قبله ؛ لوجوب الحكم بالشاهد
ص: 119
واليمين ، كما رواه مسلم في أوّل «كتاب الأقضية» ، عن ابن عبّاس ، قال : «قضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بيمين وشاهد» (1).
ونقل في «كنز العمّال» (2) ، عن ابن راهويه ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «نزل جبرئيل على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) باليمين مع الشاهد».
ونقل في «الكنز» - أيضاً (3) - ، عن الدارقطني ، عن ابن عمر (4) ، قال : «قضى اللّه في الحقّ بشاهدين ، فإن جاء بشاهدين أخذ حقّه ، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده».
ونقل - أيضاً (5) - ، عن البيهقي ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «اليمين مع الشاهد ، فإن لم تكن له بيّنةٌ فاليمين على المدّعى عليه» .. الحديث.
مع أنّهم قد رووا أنّ أبا بكر وعمر وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد ، كما نقله في «الكنز» - أيضاً (6) - ، عن الدارقطني والبيهقي ، عن
ص: 120
عبد اللّه بن عامر بن ربيعة.
ونقله - أيضاً (1) - ، عن البيهقي ، عن عليّ (عليه السلام).
فإذا كان الأمر كذلك ، فلِمَ أسقط حقّها من فدك وتصرّف فيها بمجرّد سكوتها عن طلب يمينها ما لم تُسقط حقّها في اليمين كسائر الحقوق؟!
ولو فُرض أنّ أبا بكر لا يرى الحكم بشاهد ويمين ، فقد كان اللازم عليه أن لا يمسك فدك إلاّ بيمينه ، أو تعفو عنه ؛ لأنّه الخصم المنكر.
ودعوى أنّها صدقة لا خصم بها ، ظاهرة البطلان ؛ لأنّ مستحقَّ هذه الصدقة ومدعيها خصمٌ فيها ، وأبو بكر من مستحقّيها ، وصاحبُ الولاية عليها بزعمه ، ومتظاهر في الخصومة بها.
ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه ، فقد زعم أبو بكر أنّ له الأمر على فدك وغيرها من متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حيث روى أنّ أمرها إلى من ولي الأمر (2) ، حتّى زعموا أنّه أعطى أميرَ المؤمنين (عليه السلام) عمامةَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسيفَه وبغلتَه (3) ، وأنّ عمر أعطاه والعبّاسَ سهمَ بني النضير أو صدقتَه بالمدينة (4).
فقد كان من شرع الإحسان أن يترك فدك لبضعة نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي لم
ص: 121
يخلف بينهم غيرها ؛ تطييباً لخاطرها ، وحفظاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيها.
أتراه يعتقد أنّ أبا سفيان ومعاذاً - وقد أعطاهما ما أعطاهما (1) - أَوْلى بالرعاية من سيّدة النساء وبضعة المصطفى؟!
أو أنّه يحلُّ له إعطاؤهما من مال الفيء دون الزهراء من مال أبيها؟!
أو أنّه يعتقد صدق جابر وغيره ممّن ادّعوا عِدَة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فأعطاهم (2) ، ولا يعتقد صدق الطاهرة البتول فمنعها؟!
أو أنّه عدوٌّ مكنه الدهر من عدوّه فاجتهد بأذاه ، ووجد سبيلا إلى إضعاف أمر سيّده ومولاه؟!
والمنصِف يعرف حقيقة الحال ، ويبني على ما اللّهُ تعالى سائله يوم تنتشر الأعمال.
فقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ أبا بكر لم يعامل سيّدة النساء بشرع الإسلام ، ولا شرع الإحسان والوفاء!
كما ظهر بطلان ما فعله شريح مع أمير المؤمنين (عليه السلام) (3) ؛ فإنّ الواجب عليه أن لا يطلب من أمير المؤمنين البيّنة ، بل عليه ، وعلى المسلمين أن يفعلوا فِعل خزيمة ؛ لعلمهم بأنّ علاّم الغيوب شهد بطهارته وعصمته.
ولكن لا عجب من شريح ؛ لأنّه ليس أهلا للقضاء ، كما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أراد عزله ، فقال كثير من أهل الكوفة : قاض نصبه
ص: 122
عمر لا يُعزل (1) ؛ وإنّما حضر أمير المؤمنين (عليه السلام) عنده لرفع التهمة عن نفسه.
وما نقله الخصم من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : «ألا تعلم أنّ هذه الدعوى لحقّ بيت المال وها هنا تُسمع شهادة الفرع؟!» ..
فكذبٌ ظاهر ؛ لدلالته على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يقول بسماع شهادة الفرع لحقّ الأصل ، وهو خلاف مذهبه ؛ ولذا رضي بشهادة الحسنين لأُمهما (عليها السلام).
نعم ، لا يرى أمير المؤمنين (عليه السلام) سماع شهادة الفرع على الأصل ، كما دلّت الأخبار عنه وعن أبنائه الطاهرين (2).
وأمّا قوله : «فلو تمّ حجة حكم ، وإلاّ توقف» ..
ففيه : إنّا لم نرَ أبا بكر توقف ، بل قبض فدك وتصرّف بها ساكن الجأش (3) ، مطمئنّ النفس ، كأنّه ورث مال أبيه.
ولعلّ الخصم يزعم أنّ الحجّة تمّت ظاهراً لأبي بكر فلا يبقى مجال لتوقّفه ، وهو خطأ ؛ إذ لا أقلّ من الحاجة إلى يمين أبي بكر ، أو امتناع الزهراء عن اليمين ، لو لم تتمّ لها الحجة إلاّ به.
وأما ما أجاب به عن شهادة الحسنين ..
ص: 123
فغير صحيح ؛ إذ لا يمكن أن يخفى ذلك على باب مدينة عِلم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1) ومَن عنده علم الكتاب (2) ويدور معه الحقّ حيث دار (3) ، ويظهر لهذا الخصم وأشباهه!
فلا ريب بجواز شهادة الفرع للأصل ؛ لرضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بها ، مع طلب سيّدة النساء (عليها السلام) لها.
كما أنّ صغرهما غير مانع ؛ لأنّ اللّه تعالى عرّف الأُمّة كمالهما وفضلهما على جميع الأُمّة ، حيث أمر سيّد أنبيائه بأن يجعلهما عوناً له في المباهلة ، وأمرهما بالتأمين على دعائه.
ولولا مضيّ شهادتهما مع صغرهما لَما رضي أمير المؤمنين بها.
وليت شعري ، أين منهم هذه المناقشات والتقشّفات (4) عن عائشة لمّا رأت أنّ الحجرة لها ، حتّى استأذنها عمر في دفنه - كما رووا (5) - ،
ص: 124
وكذا بقيّة أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حُجرهنّ وأثاثهنّ؟! فإنّا لم نسمع أنّهم سألوهنّ البيّنة على الملكيّة فأقمنها!!
وسيأتي لهذا تتمة في أواخر هذه المباحث.
وأما ما زعمه من أنّ غضب الزهراء على أبي بكر كان من العوارض البشرية ..
فحاصل مقصوده منه : أنّه غضب باطل خارج عن الغضب المقصود بقوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك».
وفيه : إنّه عليه يكون المراد بالحديث : إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة إذا كان غضباً بحقّ ، ومن باب العداوة الدينيّة ، فلا يدلّ على فضلها ؛ إذ كلّ مؤمن كذلك.
وهو مما لا يقوله ذو معرفة ، فلا بُد أن يكون المراد أنّها لا تغضب إلاّ بحقّ ، كما يقتضيه إطلاق غضبها في الحديث ، وسيأتي له زيادة تحقيق إن شاء اللّه تعالى.
وهذا الحديث قد رواه الحاكم في «المستدرك» ، وصحّحه (1).
وحكاه في «كنز العمّال» (2) ، عن أبي يعلى ، والطبراني ، وأبي نُعيم ، وابن عساكر.
وحكاه - أيضاً - ، عن الديلمي بلفظ : «إنّ اللّه عزّ وجلّ يغضب لغضب فاطمة ، ويرضى لرضاها» (3).
ص: 125
قد يُتساءل في أنّ المتقدّم هو دعوى النِحلة أو دعوى الميراث؟
ولا إشكال عندهم على تقدير تقدّم دعوى النحلة ، وإنّما الإشكال في العكس ؛ لأنّها إذا ادّعت الميراث أوّلا ، فقد أقرّت لزوماً بأنّ المال ليس لها ، بل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى حين وفاته ، فكيف تدعي - بعد هذا الإقرار - النِحلةَ والملكَ في حياته؟!
ويمكن الجواب عنه : بأنّها إنّما ادّعت استحقاق متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مطلقاً بالإرث ، أو ما عدا فدك ، فلا ينافي دعواها بعد ذلك استحقاق خصوص فدك بالنِحلة.
ولو سُلّم أنّها سمّت فدك في دعوى الميراث فلا بأس به ؛ لأنّ الشخص لا يلزم بالإقرار اللزومي ما لم يكن محلّ القصد في الإقرار ، وإلاّ فالإشكال وارد أيضاً على تقدير تقدّم دعوى النِحلة ؛ لأنّ دعوى النِحلة تستلزم إقرارها بأنّ فدك ليست من مواريث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأملاكه ، فكيف تدّعي بعد ذلك الميراث لها؟!
وهذا ممّا لا يقوله أحد ، فلا بُد من القول بأنّ الإقرار اللزومي غير مُعتبَر.
وبالجملة : لم تقصد سيّدة النساء (عليها السلام) في الدعويين إلاّ أنّ المال لها بلا خصوصيّة للأسباب ؛ إذ لا غرض لها يتعلّق بذوات الأسباب ، وإنّما ذكرتها آلة للتوصّل إلى ملكها ، فلا يضرّ ذِكرها وإن استلزم كلّ سبب منها
ص: 126
عدم مسبب الآخر ، كما في سببين متضادَّين.
على أنّها لمّا كانت اليد لها على فدك بوجه الملك بعدما كانت لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، لزم أن يكون انتقالها إليها بنِحلة أو نحوها ، فتتضمّن يدها دعوى النِحلة أو غيرها ، فإذا ادّعت الميراث كانت دعواها له متأخّرة عن دعوى النِحلة ذاتاً.
وبالجملة : إنّ فدك كانت بيد الزهراء ، ولمّا تُوفّي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قبضها أبو بكر بدعوى أنّها لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما قبض بقيّة مواريثه ؛ فقالت : إذاً ما هو له يكون لي إرثاً ، أترثُ أباك ولا أرثُ أبي؟! فردّها بأنّ الأنبياء لا يُورَثون ، فالتجأت إلى بيان وجه يدها على فدك ؛ وهو النِحلة ، واستشهدت لها بالشهود ، وذلك أقرب إلى ظواهر الأخبار.
وكيف كان! فقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ الزهراء في دعوى الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي قبضها أبو بكر ، بلا فرق بين فدك ، ومال بني النضير ، وسهمه من خمس خيبر ، وغيرها.
نعم ، في دعوى النِحلة إنّما طالبت بخصوص فدك ؛ لأنّها هي التي نحلها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وبها طال النزاع ، وكانت هي المظهِر لدعواها ؛ لتعلّق الدعويين بها ؛ وظهور اغتصابه لها ؛ لسبق يدها عليها.
إنّ لسيّدة النساء دعوىً ثالثةً تتعلّق بحقّها من خمس خيبر الذي ملكته في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو سهمها من الخمس الذي قسمه اللّه سبحانه بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
ص: 127
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ... ) (1) الآية.
وهو الذي عيّنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له ولذويه ، وميّزه عن سهام المحاربين ، وهو حصن الكتيبة - كما سبق في رواية الطبري (2) - ، فملكوه بأشخاصهم.
فللزهراء في خمس خيبر حقان : حق من حيث إنّها شريكةُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وحقٌّ من جهة ميراثها لحقه.
وقد استولى أبو بكر على خُمس خيبر كلّه ، فمنعها الحقَّين.
ونحن إن صحّحنا له روايته أنّ الأنبياء لا تورَث ، وسوّغنا له الاستيلاء على حقّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فما المسوّغ له الاستيلاء على حقّ غيره ، وقد ملكوه في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وعيّنه لهم ، وليس للحاكم أن يتولاّه كالصدقات إذا قبضها الفقراء؟!
ولكنّ أبا بكر روى في ذلك روايةً أُخرى جعلها حُجّةً لاستيلائه عليه ، فقد نقل في «الكنز» (3) ، عن أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي ، وغيرهم ، عن أبي الطفيل ، قال : «جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت : أنت ورثت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أم أهله؟!
قال : بل أهله.
ص: 128
قالت : فما بال الخُمس؟!
فقال : إنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إذا أطعم اللّه نبيّاً طُعمةً ، ثمّ قبضه ، كانت للذي بعده ؛ فلما وُلّيتُ رأيتُ أن أردّه على المسلمين ...» .. الحديث.
ونقل أيضاً (1) ، عن ابن سعد ، عن أُمّ هاني ، أنّ فاطمة قالت : يا أبا بكر! من يرثك إذا مِتّ؟
قال : ولدي [وأهلي].
قالت : فما شأنك ورثتَ رسول اللّه دوننا؟!
قال : يا ابنة رسول اللّه! ما ورثتُه ذهباً ولا فضّة ، ولا شاة ولا بعيراً ، ولا داراً ولا عقاراً ، ولا غلاماً ، ولا مالا.
قالت : فسهمُ اللّه الذي جعله لنا ، وصافيَتُنا التي بيدك؟!
فقال : إنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّما هي طُعمة أطعمنيها اللّه ، فإذا مِتّ كانت بين المسلمين.
ونحو الحديثين في «شرح النهج» (2) ، عن كتاب «السقيفة» للجوهري.
وهما ظاهران في أنّ الخُمس المعيّن في زمن النبيّ - كخُمس خيبر - قد زعم أبو بكر أنّه بعد النبيّ للمسلمين ، أو أنّه له وردّه على المسلمين ، وهو خطأٌ ؛ فإنّ هذا الخمس ليس طُعمةً لرسول اللّه خاصّةً حتّى يشمله
ص: 129
ما رواه هنا.
هذا ، وللزهراء (عليها السلام) دعوىً رابعةٌ تتعلّق بخمس الغنائم الحادثة بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنّ أبا بكر كما قبض الخمس الذي كان لأهل البيت في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كخمس خيبر ، منعهم خمس الغنائم الحادثة بعده ، فنازعته الزهراء في ذلك أيضاً ، والأخبار به كثيرة (1) ، وذكر ابن أبي الحديد (2) عدة أخبار في ذلك.
وقد اشتُهر النزاع بين الشيعة والسنة في أمر هذا الخمس ومستحقّه ، وللقوم فيه أقوال ليس هذا محلّ ذِكرها.
كما اشتُهر أنّ أبا بكر ومَن لحقه منعوا بني هاشم خُمسَهم ، وأنّهم عملوا بخلاف ما عمله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حتّى روى أحمد في «مسنده» (3) أنّ نجدةَ الحروريَّ سأل ابن عبّاس عن سهم ذي القربى ؛ فقال : هو لنا ؛ لقربى رسول اللّه ، قسمه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهم ، وكان عمر عرض علينا منه شيئاً دون حقّنا فرددناه عليه .. الحديث.
وروى أحمد (4) ، أنّ النبيّ لم يُقسم لعبد شمس ، ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً ، كما كان يقسم لبني هاشم وبني المطلب ، وأنّ أبا بكر لم يكن يُعطي قربى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما كان رسول اللّه يعطيهم ، وكان عمر يعطيهم وعثمان من بعده منه.
ص: 130
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه طلب هو وعمر إحراق بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفاطمة ، وابناهما ، وجماعة من بني هاشم ؛ لأجل ترك مبايعة أبي بكر (2).
ذكر الطبري في «تاريخه» ، قال : أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ ... فقال : «واللّه لَأُحرقنّ عليكم أو لَتخرُجنّ للبيعة!» (3).
وذكر الواقدي ، أنّ عمر جاء إلى عليّ في عصابة فيهم أُسيد ابن الحُضَيْر (4) ، وسلمة بن أسلم ، فقال : «اخرجوا أو لنحرقنّها
ص: 132
عليكم!» (1).
ونقل ابن حِنزابة (2) في «غُرره» : قال زيد بن أسلم : كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليٌّ وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا ، فقال عمر لفاطمة : «أَخرِجي مَن في البيت وإلاّ أحرقته ومَن فيه!
قال : وفي البيت عليٌّ (عليه السلام) ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ،
ص: 133
وجماعة من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالت فاطمة : تحرق على وُلدي؟!
فقال : إي واللّه! أو ليخرُجنّ وليبايِعنّ!» (1).
وقال ابن عبد ربّه - وهو من أعيان السنة - : فأمّا عليٌّ والعبّاس فقعدوا في بيت فاطمة ؛ وقال له أبو بكر : إنْ أبَيا فقاتلهما.
فأقبل بقبس من نار على أن يُضرم عليهما الدار ، فلقيته فاطمة ، فقالت : يا بن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟!
قال : نعم (2)!
ونحوه روى مصنّف كتاب «المحاسن وأنفاس الجواهر» (3).
فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له تقليد مثل هؤلاء إن كان هذا نقلهم صحيحاً ، وأنّهم قصدوا بيت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لإحراق أولاده على شيء لا يجوز فيه الانتقام ، ولا تحلُّ بسببه هذه العقوبة مع مشاهدتهم تعظيم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهم؟!
وكان ذات يوم يخطب فعثر الحسن - وهو طفل صغير - فنزل من منبره وقطع الخطبة وحمله على كتفه وأصعده المنبر ، ثمّ أكمل الخطبة (4).
ص: 134
وبال الحسين يوما في حجره وهو صغير فزعقوا به ، فقال : لا تُزْرِموا (1) على وَلدي بولَه» (2).
مع أنّ جماعةً لم يبايعوا ، فهلاّ أمر بقتلهم (3)؟!
ص: 135
وبأيّ اعتبار وجب الانقياد إلى هذه البيعة ، والنصُّ غيرُ دالّ عليها ولا العقلُ؟!
فهذا بعض ما نقله السنة من الطعن على أبي بكر ، والذنب فيه على الرواة من السنة.
ص: 136
وقال الفضل (1) :
من أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر ، وهو إحراقُ عمرَ بيت فاطمة.
وما ذكر أنّ الطبري ذكره في «التاريخ» ، فالطبري من الروافض ، مشهور بالتشيّع ، مع أنّ علماء بغداد هجروه ؛ لغلوّه في الرفض والتعصّب ، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره.
وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشكّ أنّه رافضيّ متعصّب يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب ؛ لأنّ العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذبٌ صُراحٌ وافتراءٌ بيّن ، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السلف ؛ وذلك لوجوه سبعة :
الأوّل : إنّ بيت فاطمة كان متّصلا ببيوت أزواج النبيّ ، ومتّصلا بالمسجد ، وقبر النبيّ.
وهل كان عمر يُحرق بيوت النبيّ والمسجد والقبر المكرّم؟!
نعوذ باللّه من هذا الاعتقاد الفاسد ؛ لأنّ بيوتهم كانت متّصلة ، معمولةً من الطين والسعف اليابس ، فإذا أخذ الحريق في بيت ، كان يحترق جميع البيوت والمسجد والقبر المكرّم.
أكان عمر يُقدِم على إحراق جميع هذا ، ولا يخاف لومة لائم
ص: 137
ولا اعتراض معترض؟!
من تأمل هذا عَلِمَ أنّه من المفتريات الصريحة.
الثاني : إنّ عيون بني هاشم ، وأشراف بني عبد مناف ، وصناديد قريش ، كانوا مع عليّ ، وهم كانوا في البيت وعندهم السيوف اليمانيّة ، وإذا بلغ أمرهم إلى أن يُحرَقوا في البيت ، أتراهم طرحوا الغيرة وتركوا الحميّة رأساً ، ولم يخرجوا بالسيوف المسَلّة فيقتلوا من قصد إحراقهم بالنار؟!
الثالث : دفعُ الصائلِ على النفس واجب ، وتركُ الدفعِ إثمٌ ، وأيُّ صولة على النفس أشدُّ من صولة الإحراق؟!
فكان يجب على عليّ أن يدفعه ، وإلاّ قدح في عصمته.
الرابع : لو صحّ هذا ، دلّ على عجز عليّ - حاشاه عن ذلك - ؛ فإنّ غاية عجز الرجل أن يُحرَقَ هو وأهلُ بيتِه وامرأتُه في داره ، وهو لا يقدر على الدفع ، ومثل هذا العجز يقدح في صحّة الإمامة.
الخامس : إنّ أُمراء الأنصار وأكابر الصحابة كانوا مسلمين منقادين محبّين لرسول اللّه ..
أتراهم سكتوا ولم يكلّموا أبا بكر في هذا ، وإنّ إحراق أهل بيت النبيّ لا يجوز ولا يحسن؟!
السادس : لو كان هذا أمراً واقعاً ، لكان أقبح وأشنع من قتل عثمان وقتل الحسين ، ولكان ينبغي أن يكون منقولا في جميع الأخبار ؛ لتوفّر العزائم والرغبات على نقل أمثال هذا.
وما رأينا أحداً روى هذا ، إلاّ أنّ الروافض ينسبونه إلى الطبري ،
ص: 138
ونحن ما رأينا هذا في تاريخه (1) ، وإنْ كان في تاريخه فلا اعتداد به ؛ لأنّه من الواقعات العظيمة المشهورة ، وفي أمثال هذا لا يُكتفى برواية واحد لم يوافقه أحد ، وأهل الحديث يحكمون بأنّ هذا منكَر شاذّ ؛ لأنّ الوقائع العظيمة يتوفّر الدواعي إلى نقلها وحكايتها.
فإذا نقل مثل هذه الواقعة أحدٌ من الناس ، أو جماعة من المجهولين المتعصّبين ، فهي غير مقبولة عند أهل الحديث.
السابع : إنّه ينافي هذا رواية الصحاح ؛ فإنّ أرباب الصحاح ذكروا في بيعة عليّ لأبي بكر ، أنّ بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر إلاّ بعد وفاة فاطمة ، ولم يتعرّض أبو بكر لهم وتركهم على حالهم ، وكانوا يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات والمصالح والمهمّات وتدبير الجيوش ، فلمّا توفّيت فاطمة بعث أمير المؤمنين على أبي بكر وقال : ائتني وحدك! فجاءه أبو بكر في بيته ، فجلسا وتحدّثا ، ثمّ قال عليّ لأبي بكر : إنّك استأثرت هذا الأمر دوننا ، ما كنّا نمنعك عن هذا الأمر ، ولا نحن نراك غير أهل لهذا ، ولكن كان ينبغي أن تؤخّره إلى حضورنا.
فقال أبو بكر : يا أبا الحسن! كان الأنصار يدّعون هذا الأمر لأنفسهم ، وكانوا يريدون أن ينصبوا أميراً منهم ، وكان يُخاف منهم الفتنة ، فتسارعت إلى إطفاء الفتنة وأخذت بيعة الأنصار ، وإن كان لك في هذا الأمر رغبةٌ فأنا أخطب الناس وأُقيل بيعتهم ، وأُبايعك والناس.
فقال أمير المؤمنين : الموعد بيني وبينك بعد صلاة الظهر.
فلمّا صلّوا الظهر رقى أبو بكر المنبر وقال : «أقيلوني فلستُ بخيركم
ص: 139
وعليٌّ فيكم».
فقام عليٌّ وخطب ، وقال : إنّ بيني وبين أبي بكر شيء (1) ؛ فإنّه استأثر هذا الأمر دوننا ، ولم يتوقّف بحضورنا ، وهو أَوْلى للخلافة.
ثمّ قال : ابسط يدك لأُبايعك!
فبايعه في محضر الناس ، وبايع بنو هاشم ، وتمّ الأمر.
هذا رواية الصحاح في بيعة عليّ لأبي بكر ، وهذا كان أطوار الصحابة ، وهم لم يكونوا للملك طالبين ، ولا في الحكومة راغبين ، وكان أميرهم كفقيرهم ، فإنّ أبا بكر لم ينصب نفسه إماماً ليأكل أموال الناس ، ويتنعّم باللذائذ.
فإنّ أصحاب الصحاح - من الروايات - اتّفقوا على أنّه لمّا وليَ الخلافة أصبح يمشي في السوق وعلى رقبته أثواب يبيعها ، فجاءه أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقالوا : يا خليفة رسول اللّه! أتدع الناس فوضى وتعمل في السوق؟!
فقال : إنّ لي عيالا ، ولو لم أعمل في السوق لضاعوا ، وإنّي مُصلّ بكم ، وأُقيم بأمر الخلافة ، وأعمل في السوق لقوت عيالي.
فجلس أمير المؤمنين عليٌّ وأكابر الصحابة ؛ كعمر بن الخطّاب وعبّاس وعثمان في المسجد ، قالوا : عيّنوا شيئاً لأبي بكر من بيت مال المسلمين ليبذله في عياله ويترك عمل السوق ؛ لئلاّ يضيع أمر المسلمين.
فعيّنوا له كلّ سنة ألفي درهم ، فأخذ في السنتين من أيّام خلافته أربعة آلاف درهم من بيت المال ، فلمّا قرب وفاته قال لعائشة : بيعوا جميع
ص: 140
ما في تحت يدي ، وأدّوا ما أخذت من بيت المال إلى عمر ليصرفه في مصالح المسلمين ؛ فإنّي لا أُريد أن آخذ بهذا العمل شيئاً.
فلمّا أدّى ما أخذه من بيت المال بعث إلى عمر إجّانة (1) ، وحِلْساً (2) ، وأثواباً عتيقة كانت عنده ، فلمّا رآها عمر بكى وقال : لقد أتعب مَن بعده (3).
وأوصى أبو بكر أن يكفّن في أثوابه التي لبسها أيّام حياته ، وقال : إنّ الحيّ بالجديد أجدر (4).
هكذا كان سيرتهم في الخلافة.
ثمّ إنّ ابن المطهّر الأعرابي أخذ يكتب لهم المطاعن ، فَلُعن من مشوم طاعن.
هذا ما ذكره من مطاعن الصدّيق وشيخ المهاجرين ، والحمد لله الذي وفّقنا لإبطال مطاعنه على وجه يرتضيه المؤمن الموافق ، ويتسلّمه المخالف المشاقق ؛ لظهور حجّته وبُهور (5) برهانه.
ص: 141
ثمّ بعد هذا يذكر مطاعن الفاروق ؛ ونحن على ما وعدنا قبل هذا ، نذكر أوّلا شيئاً يسيراً من فضائل أمير المؤمنين حيث ما ثبت في الصحاح ، فنقول وباللّه التوفيق (1) :
أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ... بن عديّ بن كعب بن لؤيّ ، ونسبه يتّصل برسول اللّه في كعب بن لؤيّ.
وهو كان قبل البعثة من أكابر قريش وصناديدها.
وأُمه كانت مخزوميّةً أُختَ وليد بن المغيرة.
وكان عمر - في الجاهلية - مهيباً معظّماً ، مقبول القول.
ورئاسة شُبّان قريش ، والاستيلاء والقوّة ، انتهت إلى عمر وأبي جهل وأبي الحكم بن هشام (2).
ولمّا بُعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) واستولى الكفّار على المسلمين ، وضعف أمر الإسلام ، واختفى رسول اللّه في بيت الأرقم ، مخافة سطوة الكفّار ، ولم يقدر أحد أن يُظهر الإسلام ، دعا رسول اللّه : اللّهمّ أعزّ
ص: 142
الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب (1).
فوقع الدعاء له ، فأسلم عمر صبيحة ليلة دعا فيها رسول اللّه ، ودخل على رسول اللّه وهو كمل الأربعين ؛ لأنّ بإسلامه تُكمِّل عدد المسلمين بأربعين (2) ؛ وقال لرسول اللّه : يا رسول اللّه! اللات والعزّى يُعبدان علانية ويُعبد اللّه سرّاً؟!
فخرج هو والنبيّ وسائر الأصحاب - ويقدمهم حمزة ، وعمر - ، حتّى دخلوا المسجد وصلّوا في الحرم وطافوا وخرجوا إلى بيتهم ، وقال أصحاب رسول اللّه : ما زلنا في عزّ منذ أسلم عمر.
ثمّ كان وزيراً لرسول اللّه طول حياته ، لا يصدر عن أمر إلاّ برأيه ومشاورته.
وكان ينطق السكينة على لسانه ، كما روي في الصحاح ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه : «وُضع الحقّ على لسان عمر وقلبه» (3).
وفي الصحاح ، عن عتبة بن عامر ، قال : قال النبيّ : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطّاب» (4).
ص: 143
وكان مهيباً يخافه المنافقون والكفّار وأرباب الفساد.
روي في الصحاح ، عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : «استأذن عمر ابن الخطّاب على رسول اللّه وعنده نسوة من قريش تكلِّمنهُ عالية أصواتُهُنّ.
فلمّا استأذن عمر قُمن فتبادرن الحجابَ ، فدخل عمر - ورسول اللّه يضحك - فقال : أضحك اللّه سنك يا رسول اللّه ، ممّ تضحك؟!
فقال النبيّ : عجبت من هؤلاء اللواتي كنّ عندي ، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.
قال عمر : يا عدوّاتِ أنفسهنّ! أتهَبنني ولا تهَبن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فقلن : نعم ، أنت أفظّ وأغلظ.
فقال رسول اللّه : يا بن الخطّاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلاّ سلك غير فجّك» (1).
وهذا حديث نقله جمهور أرباب الصحاح ، ولا شكّ في صحّته لأحد.
وهذا حجّة على الروافض حيث يقولون : إنّ بيعة أبي بكر كان باختيار عمر بن الخطّاب ..
فإنّه لو صحّ ما ذكروا أنّه باختياره ، فهو حقّ لا شكّ فيه بدليل هذا الحديث ؛ لأنّه سلك فجّاً يسلك الشيطان فجّاً غيره ، وكلّ فجّ يكون مقابلا ومناقضاً لفجّ الشيطان فهو فجّ الحقّ لا شكّ.
ص: 144
وهذا من الإلزاميات العجيبة ، التي ليس لهم جواب عن هذا ألبتّة.
وفضائله لا تُعدّ ولا تُحصى ، وقد كان راسخاً في العلم ، متصلّباً في الدين ، من الأشدّاء على الكفّار ، كما هو مشهور معلوم ، لا ينكره إلاّ الروافض الجهلة.
روي في الصحاح أنّه قال : «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون علَيَّ وعليهم قُمُص ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما دون ذلك ، وعُرض علَيَّ عمر بن الخطّاب وعليه قميص يجرّه.
قالوا : فما أوّلته يا رسول اللّه؟
قال : الدين» (1).
ثمّ إنّه أقدمُ بصحبة رسول اللّه ، وحضر معه في جميع غزواته ، وكان صاحب المشاورة ، وكثيراً ما كان يقول لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : افعل ، ولا تفعل ؛ وكان رسول اللّه يعمل برأيه ، وينزل القرآن على تصديقه.
روي في الصحاح ، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أنّه قال : «لقد كان في ما قبلكم من الأُمم محدَّثون ، فإن يك في أُمّتي أحد فإنّه عمر» (2).
وفي قصّة أُسارى بدر ، أنّه لمّا شاور رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أبا بكر ، فاختار الفداء ، وشاور عمر ، فاختار قتلهم ، فمال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى قول أبي بكر واختار الفداء وأنزل اللّه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ص: 145
فصار في المشاورة قول عمر مختاراً عند اللّه.
ثمّ إنّ الأعرابي ابن المطهّر لم يصوّب رأيه في اختيار خلافة أبي بكر.
ثمّ لمّا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يوافق أبي (3) بكر في تهيئة الجيوش ، وإقامة مراسم الدين والجهاد ، فلمّا انتهت إليه الخلافة قام بأعبائها عشر سنين ، وفتح جميع أقطار البلاد ، وأخذ المُلك من قيصر وكسرى ، وعمل ما هو أغنى من أن يُذكر.
ولولا عمر لم تكن قواعد الإسلام والسنة قائمة ، وسيرته في الخلافة غنيّة عن الذِكر والتعريف ، حتّى إنّ بعض العلماء قال : سِيَر عمر في الخلافة كثيرة ، وأجلّها أنّه لبث في الخلافة مدّة عشر سنين ، ولم يمرّ عليه يوم واحد إلاّ وقد فتح اللّه للمسلمين مدينة أو عسكراً ، فلم يمض يوم واحد جديد إلاّ عن فتح جديد وغنيمة جديدة.
ومع هذا لم يغيّر عمر سيرته وطريقته ، ولبس الخشن ، وأكل الخشن ، وكان كأحد من المسلمين في تواضعه ، وتردّده في الأسواق ، ولبسه الألبسة الخَلِقَةَ ، وكان يحمل الطعام على رقبته لأيامى الغزاة ، وأولاد الشهداء.
ص: 146
وبالجملة : الأخبار في هذا أكثر من أن تُحصى ، ثمّ جاء في آخر الزمان أعرابيّ سكودن (1) النجس ابن المطهّر فوضع عليه المطاعن ، وها نحن نجري على عادتنا في نقل كلامه والردّ عليه ، فنقول وباللّه التوفيق ، ومنه الإعانة وعليه التكلان.
ص: 147
من الصلف نسبة افتراء هذا الخبر إلى الشيعة ، مع رواية الكثير من علمائهم وثقاتهم له ، كالّذين نقله المصنّف (رحمه اللّه) عنهم وغيرهم ، ولكن لم يرووا الإحراق ، وإنّما رووا إرادة الإحراق ؛ ولذا قال المصنّف (رحمه اللّه) : «طلب هو وعمر إحراقه».
ولكنّ الخصم أراد بنسبة الإحراق تفظيع الخبر ؛ لِتُقرَّب إلى الأذهان استبعاداته التي ذكرها.
وممّن روى هذا الخبر - غير من حكاه المصنّف عنهم - : ابن أبي شيبة ، كما نقله عنه في «كنز العمّال» (1) ، قال : «أخرج عن أسلم ، أنّه حين بويع أبو بكر بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان عليٌّ والزبير يدخلون على فاطمة ويشاورونها ويرجعون في أمرهم ؛ فلمّا بلغ ذلك عمر خرج حتّى دخل على فاطمة ، فقال : ما من الخلق أحد أحبّ إليَّ من أبيك ، وما من أحد أحبَّ إلينا بعد أبيك منك ، وأيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يُحرق عليهم الباب.
فلمّا خرج عمر جاؤوها ، قالت : تعلمون أنّ عمر قد جاءني ، وقد حلف باللّه لئن عدتم ليحرقنّ عليكم الباب ، وأيم اللّه ليمضينّ لِما حلف عليه ، فانصرفوا راشدين» .. الحديث.
ص: 148
ومنهم : ابن قتيبة ، في كتاب «الإمامة والسياسة» ، قال في أوائل كتابه ، في كيفية بيعة عليّ : «إنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ ، فأبَوْا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لَتخرجوا أو لأُحرقنّها على مَن فيها.
فقيل له : يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة!
قال : وإنْ!» (1) .. الحديث.
ومنهم : النظّام - كما حكاه عنه الشهرستاني في «الملل والنحل» في الفرقة النظّامية - ، قال النظّام : «إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت المحسّن من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوها بمن فيها! وما كان في الدار إلاّ عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين» (2).
ومنهم : أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، في «كتاب السقيفة» - كما نقله عنه ابن أبي الحديد (3) - ، قال : «جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ، ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده! لتخرجنّ إلى البيعة أو لأُحرقنّ البيتَ عليكم!».
وأما ما زعمه من أنّ الطبري مشهور بالتشيّع ، مهجور الكتب والرواية ، فمناقضٌ لِما سيذكره قريباً في إخراج عثمان أبا ذرّ إلى الربذة ، من أنّه وابن الجوزي من أرباب صحة الخبر (4).
ص: 149
وكيف يُعدّ الطبري من الشيعة وهو من أعلام علماء السنة ، حتّى عدّه النووي في «تهذيب الأسماء» بطبقة الترمذي والنسائي ، وأثنى عليه ، كما نقله السيّد السعيد عنه (1)؟!
وقال ابن خلّكان بترجمته من «وفيات الأعيان» : «كان إماماً في فنون كثيرة ، وكان من المجتهدين ، لم يقلّد أحداً ، وكان ثقة في نقله ، وتاريخه أصحُّ التواريخ وأثبتها» (2). انتهى ملخّصاً.
وقال الذهبيّ في ترجمته من «ميزان الاعتدال» : «ثقة صادق ... من كبار أئمة الإسلام المعتمدين».
لكن قال الذهبيّ : «فيه تشيّع [يسير] وموالاة لا تضرّ» (3).
ولعلّ سببه جمعه لطرق حديث الغدير في كتاب سمّاه
ص: 150
«الولاية» (1) ، وإلاّ فلا أعرف للرجل عُلقة بالتشيّع ؛ واسمه : محمّد بن جرير بن يزيد ، وهو صاحب التاريخ والتفسير المشهورَين ، وتاريخه مطبوع بمصر ، وذكر فيه الحديث الذي نقله المصنّف عنه (2) ، قال : «حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب ، قال : أتى عمرُ بن الخطّاب منزلَ عليّ وفيه طلحة والزبير ، ورجال من المهاجرين ، فقال : واللّه لأُحرقنّ عليكم ، أو لتخرجُنّ إلى البيعة.
فخرج عليه الزبير مُصْلِتاً بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه».
كما إنّ ما نقله المصنّف (رحمه اللّه) عن ابن عبد ربّه موجود في كتابه (3).
وأما ما ذكره من الوجوه فغير تامة ..
أما الستّة الأُوَل ؛ فلأنّها مبنيّة على وقوع الإحراق ، وقد ذكرنا أنّ المرويَّ هو قصد الإحراق ، ولعلّ عمر إذا بلغ الأمر إلى الإحراق لم يفعل ؛ لجواز أن يكون قاصداً للتهديد فقط.
على أنّ إحراق بيت فاطمة (عليها السلام) لا يستلزم إحراق غيره ؛ لوجود الآجر والطين فيمكن الإطفاء قبل السراية.
ومن عرف سيرة عمر وغلظته مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قولا وفعلا ،
ص: 151
لا يستبعد منه وقوع الإحراق فضلا عن مقدّماته!
وقوله في الوجه الثاني : «أتُراهم طرحوا الغيرة وتركوا الحميّة؟! ...» إلى آخره ..
يَرِدُ عليه - مع ما عرفت من ابتنائه على وقوع الإحراق - : أنّ الزبير قد أراد قتالهم لكن لم يبلغ مراده ، وأمير المؤمنين (عليه السلام) مأمور بالصبر والسلم ..
أخرج أحمد في «مسنده» (1) ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «سيكون بعدي اختلافٌ أو أمرٌ ، فإنِ استطعتَ أن تكون السلمَ فافعل».
وأما بقيّة الهاشميّين فأَمرُهم تبعٌ لأمير المؤمنين ، وكذا مثل المقداد ، وسلمان ، وأبي ذرّ ، وعمّار ؛ ولا أدري مَن يعني بأشراف بني عبد مناف وصناديد قريش الّذين زعمهم مع عليّ (عليه السلام)؟!
وأما ما ذكره في الوجه الثالث ، من وجوب دفع الصائل ..
وفي الوجه الرابع ، أنّه يدلّ على العجز القادح في صحة الإمامة ..
فإنّما يَرِدان على عثمان حيث ألقى بيده ولم يدافع عن نفسه!
وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يبلغ الأمر معه إلى ذلك ، ولو بلغ لعلموا مَن العاجز! فإنّه إنّما أُمر بالسلم حيث يستطيعه.
وأما ما ذكره في الخامس ، من أنّ أُمراء الأنصار وأكابر الصحابة كانوا مسلّمين منقادين محبّين ... إلى آخره ..
ص: 152
فهو - لو سُلّم - غير وارد ؛ إذ لم يُعلم حضور أكثرهم ، ومن حضر كان على رأي الشيخين ، أو مضطرب الحال.
على أنّ الإحراق لو وقع ليس بأعظم من غصب الخلافة ، ومخالفة نصّ الغدير ، وغيره.
ولو سُلّم ، فقد تدرّج الأمر من غصب الخلافة ، إلى غصب ميراث بضعة الرسول ونحلتها ، إلى إحراق البيت ، فهانَ!
وبالجملة : إذا رأى الناسُ مقاومةَ أُولي الأمر لأهل البيت وشدّتهم عليهم وعلى أوليائهم ، لم يُستبعد سكوت الرعيّة ، ولا سيّما أنّ جُلّ الأُمراء والأكابر أعوانٌ لهم في الاعتداء على أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَن يتعلّق به ، والتجاهر في عداوتهم.
وأما ما ذكره في الوجه السادس ، فلو فُرض وقوع الإحراق لم يُستغرب ترك مؤرّخي السنة لذِكره ؛ إذ من المعلوم محافظتهم على شأن الشيخين ، بل وشؤون أنفسهم ، فإنّ رواية ما يُشعِر بالطعن بهما ، فضلا عن مثل هذا العمل الوحشي ، ممّا يوجب وهن الرجل وكتابه بأنظار قومه ، بل يوجب التغرير بنفسه وعرضه ، كما فعل هو نفسه بالطبريّ - كما رأيت - وهو ذو الفضيلة عندهم ؛ لمجرّد سماعه أنّه روى قصْدَ الإحراق!
وكما فعل الشهرستاني بالنظّام ، وهو من أكابر معتزلة السنة ؛ إذ نسبه إلى الميل إلى الرفض لتلك الرواية التي سمعتها (1)!
ولو قال القائل : إنّهم أحرقوا الباب لم يبعد عن الصواب ؛ لأنّ كثير الاطّلاع منهم ، الذي يريد رواية جميع الوقائع ، لم يسعه أن يهمل هذه
ص: 153
الواقعة بالكلّية ، فيروي بعض مقدّماتها ؛ لئلاّ يخلّ بها من جميع الوجوه ، وليحصل منه تهوين القضيّة كما فعلوا في قصّة بيعة الغدير (1) وغيرها (2).
وبالجملة : يكفي في ثبوت قصد الإحراق رواية جملة من علمائهم له ، بل رواية الواحد منهم له ، لا سيّما مع تواتره عند الشيعة (3) ، ولا يحتاج إلى رواية البخاري ومسلم وأمثالهما ، ممّن أجهده العداء لآل محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والولاء لأعدائهم ، ورام التزلّفَ إلى ملوكهم وأُمرائهم ، وحُسْنَ السمعة عند عوامّهم.
هذا كلّه في الوجوه الستّة.
وأمّا في السابع ؛ فلأنّ ما زعمه من المنافاة لرواية الصحاح كذب ؛ إذ ليس فيها ما ينافي قصد الإحراق أو وقوعه ، فإنّها لم تشتمل على أنّه لم يتعرّض لهم وتركهم على حالهم ، كما ادّعاه الخصم ، ولا على أنّهم يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات ، وتدبير الجيوش ، ولا عذر أبي بكر بخوف الفتنة من الأنصار ، ونحو ذلك.
راجع ما رواه البخاري في غزوة خيبر ، المشتمل على كيفيّة البيعة (4).
ص: 154
وما رواه مسلم في باب قول النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «لا نورَث ما تركناه صدقة» (1).
وظنّي أنّ غيرهما من صحاحهم لم يشتمل على ما ذكره ؛ إذ لم ينقله عنها ناقل بحسب التتبّع ، بل اشتمل حديث البخاري ومسلم على أنّ عمر خاف على أبي بكر من دخوله وحده على عليّ.
وهذا ممّا يقرّب وقوع الإساءة منهم إليه ، كقصد الإحراق ونحوه.
ومن الجفاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ما اشتمل عليه هذان الحديثان من أنّ المسلمين كانوا «إلى عليّ قريباً حين راجعَ الأمرَ بالمعروف» ؛ فإنّه دالٌّ على أنّه كان فاعلا للمنكر ، مخالفاً للشرع ، لمّا لم يبايع أبا بكر.
وهذا تكذيب لله سبحانه بشهادته له بالطهارة ، وتكذيب للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بشهادته له بأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور حيث دار.
فتبّاً لأُولئك المسلمين الّذين بعدوا عن سيّدهم ، وعبد اللّه حقّاً ، وأخي نبيّهم (عليه السلام) ، ووصيّه.
وما زال أُولئك المسلمون بُعداءَ عن ذلك الإمام الأعظم إلى زماننا هذا ، حتّى جاء شاعرهم المصري في وقتنا فافتخر بما قاله عمر من التهديد بإحراق بيت النبوّة وباب مدينة علم النبيّ وحكمته ، وقال [من البسيط] :
وقولة لعليّ قالها عمرُ *** أَكرِمْ بسامعها أَكرِمْ (2) بمُلقيها
ص: 155
أَحرقْتُ بابَك (1) لا أُبقي عليكَ بها *** إنْ لم تبايع وبنتُ المصطفى فيها
مَن كان مِثلُ (2) أبي حفص يَفوهُ بها *** أمامَ فارسِ عدنان وحاميها (3)
وقد ظنّ هذا الشاعر أنّ هذا من شجاعة عمر ، وهو خطأٌ ، أَوَلَمْ يعلم أنّه لم تثبت لعمر قدمٌ في المقامات المشهورة ، ولم تمتدَّ له يدٌ في حروب النبيّ الكثيرة؟! فما ذلك إلاّ لأمانهِ من عليّ (عليه السلام) بوصيّة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له بالصبر ، ولو هَمّ به لهام على وجهه واختطفه بأضعف ريشة.
وأمّا قول الخصم : «فإنّ أصحاب الصحاح اتّفقوا على أنّه لمّا وليَ الخلافة ...» إلى آخره ..
فالظاهر كذبه ؛ إذ لم أجده في ما اطلعت عليه من صحاحهم ، ولا نقله عنها ناقل!
بل المنقول عنها خلافه ..
فإنّ ابن حجر في «الصواعق» ، في آخر كلامه بخلافة أبي بكر نقل عن البخاري ، عن عائشة ، قالت : لمّا استُخلف أبو بكر قال : لقد علم قومي أنّ حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي ، وشُغِلتُ بأمر المسلمين ، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، ويحترف للمسلمين فيه (4).
ص: 156
ونقله أيضاً عنه وعن جماعة آخرين في «كنز العمال» (1).
فإنّه دالٌّ على أنّ أبا بكر هو المريد للأكل من مال المسلمين ، لا أنّ الصحابة أرادوا ذلك!
وأصرح منه في المدّعى ما رواه الطبري في «تاريخه» (2) - من حديث طويل - ، قال فيه أبو بكر : «لا واللّه ما تُصلح أُمور الناس التجارة ، وما يصلحهم إلاّ التفرّغ لهم ، والنظر في شأنهم ، ولا بُد لعيالي ممّا يُصلحهم.
فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم ويحجّ ويعتمر ، وكان الذي فرضوا له في كلّ سنة ستّة آلاف درهم ...» .. الحديث.
ومثله في «كنز العمّال» (3) ، عن ابن سعد ..
وفي «كامل» (4) ابن الأثير.
نعم ، في بعض أخبارهم أنّ عمر هو الذي منعه من التجارة ، وأراد الفرض له ففرض له أبو عبيدة ..
كالذي حكاه ابن حجر في المقام السابق ، عن ابن سعد (5).
ص: 157
وما حكاه في «كنز العمال» (1) ، عن البيهقي ، إلاّ أنّ عمر قال فيه : «نفرض بالمعروف» ولم يُعيّن من فرض له.
ثمّ قال الراوي : «فأنفق في سنتين وبعض أُخرى ثمانية آلاف درهم».
ولم أجد في شيء من أخبارهم أنّ أمير المؤمنين وأكابر الصحابة عيّنوا لأبي بكر ما ينفقه في عياله.
وأين أمير المؤمنين عنه حتّى يهتمّ لنفقته وهو مشغول بجهاز النبيّ وفقده ، وباتّفاق القوم على غصبه؟!
ليت شعري ، ما لأبي بكر أصبح مهتمّاً لأمر الدنيا - والنبيّ لم يُقبر - وهو عندهم موسِر ، حتّى أوصى بردّ جميع ما أخذه من بيت المال ؛ وهو ثمانية آلاف أو نحوها أو ما يزيد على اثني عشر ألفاً (2)؟!
ولم أجد في أخبارهم أنّ فرضَ أبي بكر كان ألفَي درهم فقط ، بل في بعض أخبارهم أنّهم جعلوا له ألفين ، فقال : «زيدوني! فإنّ لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة ؛ فزادوه خمسمئة».
كما نقله في «الصواعق» في المقام المذكور (3) ، وفي «كنز العمّال» (4) ؛ كلاهما عن ابن سعد ، عن ميمون بن مهران (5).
ص: 158
وأمّا قوله : «وأوصى أن يُكفّن في أثوابه التي لبسها في أيّام حياته ، وقال : إنّ الحيّ بالجديد أجدر».
فهو لو صحّ دلّ على جهل أبي بكر بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
روى مسلم (1) ، عن جابر : «أنّ النبيّ خطب يوماً فذكر رجلا من أصحابه قُبض فكُفّنَ بكفن غير طائل وقُبر ليلا ، فزجر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يُقبر الرجل بالليل حتّى يُصلّى عليه ، إلاّ أن يضطرّ إنسانٌ إلى ذلك ؛ وقال النبيّ : إذا كفّنَ أحدُكم أخاه فليحسن كفنه».
بل تدلّ وصيّة أبي بكر بتكفينه بالعتيق على طلب مخالفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ كُفّن بالجديد ، ولم يُوصِ بالتكفين بالعتيق.
ففي «كنز العمّال» (2) - عند ذِكر وفاة أبي بكر - ، عن أبي يعلى ، وأبي نُعيم ، والدغولي ، والبيهقي ، بأسانيدهم عن عائشة ، قالت - في حديثها عن موت أبيها - : قال : [في] كم كفّن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟
قلت : كفنّاه في ثلاثة أثواب سُحُوليّة (3) بيض جُدد ...
ص: 159
فقال : اغسلوا ثوبي [هذا] - وبه رَدْعٌ (1) من زعفران - ، واجعلوا معه ثوبين جديدين.
فقلت : إنّه خَلِقٌ.
فقال : الحيُّ أحوجُ إلى الجديد من الميّت ، إنّما هو للمُهْلة (2).
وأقول : لو أوصى أن يُدفن عارياً لكان أَوْلى بمراعاة الأحياء ، مع أنّ الكفن للمهْلة والصديد!
وأمّا ما ذكره من أنّ عمر كان من أكابر قريش وصناديدها ؛ فمحلُّ نظر ..
قال عمرو بن العاص - كما في أوائل «العقد الفريد» (3) - : «قبّح اللّه زماناً ، عمرُو بن العاص لعمرَ بنِ الخطّاب [فيه] عامل ، واللّهِ إنّي لأعرف الخطّاب يحمل فوق رأسه حُزمة حطب وعلى ابنه مِثلُها ، وما منهما إلاّ في نَمرة (4) لا تبلغ رُسغيه».
ص: 160
وقريب منه في «كنز العمال» (1).
وقال ابن الأثير في «كامله» (2) : «قال ابن المسيّب : حجّ عمر ، فلمّا كان بضَجَنان (3) قال : كنت أرعى إبل الخطّاب في هذا الوادي في مِدْرَعة صوف ، وكان فظّاً ، يُتعبني إذا عملتُ ، ويضربني إذا قصّرتُ».
ونحوه في «تاريخ الطبري» (4).
وفي «الاستيعاب» بترجمة عمر (5).
ونقل ابن أبي الحديد (6) ، عن أبي عبيد في «غريب الحديث» ، أنّ عمر قال : «لقد رأيتُني وأُختاً لي نرعى على أبوينا ناضحاً (7) لنا ، قد ألبستنا أُمّنا نُقبَتَها (8) ، وزوّدتنا يَمنتَيْها هَبيداً (9) ، فنخرج بناضحنا ،
ص: 161
فإذا طلعت [الشمس] ألقيتُ النقبة إلى أُختي وخرجت أسعى عرياناً ، فنرجع إلى أُمّنا وقد جعلت لنا لَفيتة (1) من ذلك الهَبيد ، فيا خِصْباه (2)!».
فمَن هذا حاله وحال أبيه ، ويحمل حزمة الحطب على رأسه ، كيف كان صنديداً كبيراً؟!
وكيف كان في الجاهليّة مهيباً معظّماً مقبولَ القول ، وله ولأبي جهل رئاسةُ شبّانِ قريش والاستيلاءُ والقوّةُ؟!
وأمّا قوله : «وأُمه مخزوميّة أُخت وليد بن المغيرة» ..
فخلاف قول أصحابه ؛ فإنّها على هذا بنت المغيرة ، وأصحابه اختلفوا في أنّها بنت هشام بن المغيرة ، أو هاشم بن المغيرة كما في «الاستيعاب» ، وصوّب أنّها بنت هاشم (3).
ص: 162
وحكى السيّد السعيد ، عن ابن شهرآشوب وغيره ، أنّ هاشماً وجد حنتمة مرميّة في الطريق ، فأخذها وربّاها ، ثمّ زوّجها الخطّاب (1).
وهو الأقرب ؛ فإنّ الخطّاب أقلُّ نفساً وبيتاً من أن يتزوّج بنت هاشم الصُّلبية (2) ، ولا سيّما أنّ أُمّ الخطّاب - أو جدته لأبيه - «نفيل» ، أَمةٌ زنجيّة (3) ؛ والعرب تأنف من الزنوج (4) ، وإنّما نُسبت إلى هاشم بالتبنّي والتربية ، كما هو عادة العرب.
وأما ما زعمه من اختفاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في بيت الأرقم ..
فكذب ظاهر ؛ لأنّ عمّه أبا طالب (عليه السلام) أقوى على حفظه ، ويواسيه بنفسه وأولاده ؛ ومن يقدر على قتله وعمه في الحياة؟!
روى الحاكم في «المستدرك» (5) ، وصحّحه على شرط الشيخين ، عن عائشة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «ما زالت قريش كاعةً (6) حتّى
ص: 163
توفّي أبو طالب».
وأما ما زعموه من دعاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأن يُعزّ الإسلام بعمر أو أبي جهل ..
فمن الغرائب ؛ فإنّ الإسلام إذا لم يعزّ بأبي طالب وبنيه وحمزة وذويه ، فكيف يعزّ بعمر وهو حطّاب ذليل؟!
وأيُّ نسبة في الشرف والعزّ بينه وبين أبي جهل حتّى يُعادل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بينهما؟!
وأعجب من هذا جعلُه من أقران حمزةَ أسدِ اللّه ورسوله ، حتّى يتقدّم معه المسلمون ويُصلّوا في الحرم ويطوفوا بحمايته!
وأين منه هذه الشجاعة يوم الخندق ، وخيبر ، وأُحد ، وحنين؟!
وكيف تجتمع هذه الدعاوى مع ما رواه البخاري (1) ، عن ابن عمر ، قال : بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص ... فقال له : ما بالك؟!
قال : زعم قومك أنّهم سيقتلونني إن أسلمت.
قال : لا سبيل إليك ، بعد أن قال : أمِنْتُ.
فخرج العاص فلقي الناس ، فقال : أين تريدون؟!
فقالوا : نريد ابنَ الخطّاب الذي صبا.
فقال : لا سبيل إليه ؛ فكرَّ الناس»؟!
وروى أيضاً عن ابن عمر ، قال : «لمّا أسلم عمر اجتمع الناس عند داره ، وقالوا : صبا عمر - وأنا غلام فوق ظهر بيتي - ، فجاء رجل عليه
ص: 164
قَباء (1) من ديباج ، قال : قد صبا فما ذاك؟! فأنا له جار.
قال : فرأيت الناس تصدّعوا عنه ، فقلت : من هذا الرجل؟
قالوا : العاص بن وائل» (2).
وأمّا قوله : «كان وزيراً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، لا يصدر عن أمر إلاّ برأيه ومشاورته» ؛ فقد سبق مثله في حقّ أبي بكر ، وعرفت الكلام فيه (3).
وأما قوله : «كان ينطق السكينة على لسانه ، كما روي في الصحاح ...» إلى آخره ..
ففيه : إنّ هذا - وسائر ما يذكره من أخبارهم - إن أراد به البيان لأصحابه ، فهم في غنىً عنه ؛ لعلمهم بها.
وإنْ أراد به الاستدلال علينا ، فهو خطأ ؛ لأنّا نعتقد كذبها ؛ إذ هي - مع ما عرفت من حال رواتها - قد قامت الضرورة والأدلّة الواضحة على كذبها ؛ إذ كيف تصحّ دعوى نطق السكينة ووضع الحقّ على لسان عمر وقلبه ، وقد شكّ يوم الحديبية (4) ، وأنكر على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بما أنكر (5) ، ونسب إليه الهجر (6) ، فسببَ كلّ ضلال وقع ويقع إلى يوم القيامة؟!
وكيف تُحتمل الصحّة في ما رووه : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر»؟!
ص: 165
فإنّ الإيمانَ مطلقاً - أو بعد البلوغ - شرطُ النبوّة ، وعمر قضى أكثر عمره في الكفر!!
وكيف تُقبل دعوى فرار الشيطان منه ، ولم يفرّ - بزعمهم - من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتّى ألقى على لسانه كلمة الكفر ، ولا عن آدم وغيره من الأنبياء (1)؟!
وهو - أيضاً - قد استزلّه الشيطان وأشباهه يوم أُحد ، ففرّوا عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ ) (2) (3).
وقد قال أبو بكر : «إنّ لي شيطاناً يعتريني» (4) ، وهو عندهم خيرٌ من عمر ، ورَوَوْا : «إنّ لكلّ إنسان شيطاناً» (5).
وليت شعري ، ما الذي يخافه الشيطان من عمر حتّى يفرّ منه ، ولا يسلك فجه ولا سلطانَ له عليه؟!
ومن المضحك أن يجعل هذا الخبر من الإلزاميات العجيبة لنا ، مع ما عرفت من حاله ، وأنّه من أخبارهم.
وأظرف منه استشهاده به ؛ لكون المنافقين وأهل الفساد يخافون من عمر ، فإنّه لم يظهر من النسوة شيء من النفاق والفساد ، وإلاّ فكيف سكت
ص: 166
عنهنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، اللّهمّ إلاّ على روايتهم أنّ النبيّ يحبّ الباطل دون عمر؟!
وأظرف من الجميع جعل ذلك دليلا على هيبة عمر ، والحال أنّ النسوة قُلنَ له بوجهه : «إنّك أفظُّ وأغلظ» ، ولو قال : إنّه دليل على فظاظته ؛ لكان أَوْلى (1).
وأما ما رواه من تأويل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لقميصه المجرور بالدِّين ..
فغريب ؛ لأنّ جرّ القميص يدلّ على التبختر والبطر ، فكيف يؤوّل بالدين؟!
وما زعمه من حضوره في جميع الغزوات ..
فغير بعيد ، ولكن لا فائدة به مع عدم القتال ، والهزيمةِ عند مصادمة الرجال!
وأمّا ما ذكره من أنّ القرآن ينزل على تصديقه ، فقد سبقه إليه ابن حجر في «صواعقه» ، وعدّ من موافقة القرآن له تكلّمه بجملة من الآيات قبل نزولها (2) ، وحينئذ فلا معجزة في القرآن ، أو هو سارق من عمر!!
وعدّ أيضاً من موافقاته له ما نقله عن «مسند أحمد» ، ورأيته أنا فيه (3) : «إنّ عمر جامع زوجته بعد الانتباه ليلة الصيام - وقد كان حراماً في أوّل الإسلام - فنزل : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ... ) (4) الآية.
ص: 167
وروى - أيضاً - أحمد ما يدلّ على ذلك (1).
وأنت تعلم أنّ عدّ هذا بالموافقات غريب ؛ فإنّه بالمخالفات أشبه ؛ لأنّه من فعل الحرام والمخالفة لله ورسوله!
غاية الأمر أنّه سبب نسخ الحكم ، وهو ليس من الموافقة في شيء ، إلاّ أن يكون عمر أراد بفعله الحرام نسخ حكم اللّه ، فنُسخ تبعاً له ؛ فتأمّل!
إلى غير ذلك من الموافقات التي لا ربط لجملة منها بالموافقة ، وينبغي عدّ كثير منها في الهزليّات ؛ فراجع (2)!
ثمّ إنّ ما ذكره في كيفيّة الموافقة في قصّة أسرى بدر ، دالٌّ على أنّ اللّه سبحانه أنزل في النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر : ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) (3) ، وقوله تعالى : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (4) ؛ فيكون النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) طالباً لعرض الدنيا ومستحقاً لأنْ يمسّه عذاب عظيم ، ومجوّزاً لأخذ الفداء من عند نفسه لا من اللّه تعالى ، وهذا هو الكفر والتكذيب لقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (5).
كما إنّه يوجب التناقض بين أقوال اللّه سبحانه ، فإنّه يقول : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (6) ، ثمّ يؤنّبهم على أخذ الفداء ، وهو عن إذن
ص: 168
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وإيتائه.
ويشهد لكون تجويز أخذ الفداء من اللّه تعالى ما رواه في «الدرّ المنثور» ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، أنّهما أخرجا عن أبي عبيدة ، قال : «نزل جبرئيل على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر فقال : إنّ ربّك يُخيّرك إنْ شئت أن تقتل هؤلاء الأسرى ، وإنْ شئت أن تفادي بهم ويُقتل من أصحابك مثلهم.
فاستشار أصحابه ، فقالوا : نُفاديهم فنقوى بهم ويُكرم اللّه بالشهادة من يشاء» (1).
ومِن هذا يُعلم أنّ المراد بما أخذه في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) إلى قوله : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2) ليس هو أخذ الفداء على الأسرى ؛ فإنّه برخصة اللّه وإذن نبيّه.
على أنّ الأسر وأخذ الفداء على الأسرى لم يكونا قبل الإثخان في الأرض ؛ إذ أيُّ إثخان أعظمُ من قتل أعيان المشركين وغلبتهم ، الذي سمّاه تعالى ذات الشوكة وقطعاً لدابر الكافرين بقوله سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) (3)؟!
فلا بُد أن يُراد بما أخذوه ما جنوْه من مخالفةِ رغبةِ
ص: 169
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حرب النفير وطلبهم غنيمة العير وأسر مَن فيها.
رُوي في «الكشّاف» وغيره ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) استشار أصحابه فقال : العيرُ أحبُّ إليكم أم النفير؟
فقالوا : العِيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوّ.
فتغيّر وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ ردّد عليهم فقال : العير قد مضت إلى ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل.
فقالوا : يا رسول اللّه! عليك بالعير ودعِ العدوّ (1).
ونقل السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير قوله تعالى من سورة الأنفال - أيضاً - : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ... ) (2) الآية ، عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي أيّوب الأنصاري - من حديث قال فيه - : إنّ النبيّ قال : ما ترون في القوم ، فإنّهم قد أُخبروا بمخرجكم؟
فقلنا : يا رسول اللّه! لا واللّه! ما لنا طاقة بقتال القوم ، إنّما خرجنا للعير.
ثمّ قال : ما ترون في قتال القوم؟
فقلنا مثل ذلك.
فقال المِقداد (3) : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى :
ص: 170
( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) (1) (2) .. الحديث.
وروى مسلم (3) : «أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان ، فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر فأعرض عنه».
ومثله في «مسند أحمد» (4) من طريقين.
وروى السيوطي في «الدرّ المنثور» ، أنّهما قالا (5) : «إنّها قريش وخُيلاؤها (6) ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ، فتأهّب لهم يا رسول اللّه!» (7).
ونقل السيوطي - أيضاً - ، عن ابن أبي شيبة وابن مردويه ، أنّه خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى بدر ، حتّى إذا كان بالرَّوْحاء خطب الناس ، فقال : كيف تَرَوْن؟
فقال أبو بكر : يا رسول اللّه! بلغنا أنّهم كذا وكذا.
ثمّ خطب الناس فقال : كيف تَرَوْن؟
فقال عمر مثل قول أبي بكر (8) .. الحديث.
وبهذين الحديثين ونحوهما يُعلم أنّ إعراض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عن
ص: 171
الشيخين - المذكور في حديث مسلم - ، إنّما هو لتخذيلهما عن حرب النفير ؛ لا لأنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يريد جواب الأنصار.
كما يشهد له سرورُه بكلام المقداد - وهو ليس من الأنصار - حتّى أشرق وجه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من قوله.
وقال ابن مسعود : «لأنْ أكون صاحبَه أحبُّ إليَّ ممّا عُدِل به» ، كما رواه البخاري (1).
فقد ظهر أنّ قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ... ) (2) الآية ، إنّما هو تقريع لعمر وكلّ مَن أراد العِيرَ ، وأسرَ مَن فيها ، ومجانبة النفير.
فالآية قريبة من الآية التي سبقت عليها بأوّل السورة وهي قوله تعالى : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ... ) (3) الآية.
ولو سُلّم أنّ قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ) الآية ، توبيخ على الأسر في حرب النفير ، بناءً على أنّه قبل الإثخان في الأرض ، فلا ريب أنّه لا بأس على النبيّ فيه ؛ لأنّه ليس بإذنه ، بل فعله المسلمون من تلقاء أنفسهم طلباً لعرض الدنيا ، وإنّما أجاز لهم اللّه ورسوله أخذ الفداء تأليفاً لهم - حيث رغبوا فيه - ، ورعايةً للمصلحة الوقتيّة.
ص: 172
وحينئذ ؛ فالمراد بما أخذوه في قوله تعالى : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1) ، هو اتّخاذهم للأسرى بدون إذن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ طلباً لعرض الدنيا.
وبالجملة : لا بأس على رسول اللّه في أصل الأسر ؛ لأنّه من دون إذنه ، ولا في أخذ الفداء ؛ لأنّه برخصة اللّه تعالى.
فما زعمه الفضل من نزول الآية توبيخاً للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ظلمٌ له ، وكذبٌ على اللّه عزّ وجلّ.
ولعلّ سببه ما قاله لهم عمر مِن موافقة اللّه له ، ومخالفته للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الأسرى.
ويكذِّبُه - بعد امتناع أن يستبيحَ النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمراً ويقولَ من غير وحي - ما رواه الطبري في «تاريخه» (2) ، عن محمّد بن إسحاق ، قال : «لما نزلت هذه الآية ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) ، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : لو نزل عذاب من السماء لم ينجُ إلاّ سعد بن معاذ ؛ لقوله : يا نبيّ اللّه! كان الإثخانُ في القتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال».
وهو قد قال ذلك - كما في رواية الطبري (3) - لمّا رأى المسلمين يأسرون المشركين ، وهو على باب العريش.
وإنّما جعلناه مكذّباً لدعوى عمر ؛ لأنّه لو كان ممّن يريد قتلهم - كما زعمه - لاستُثني مع سعد في رواية ابن إسحاق.
ص: 173
هذا ، ومن العجيب إشارة عمر على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - بحسب ما رواه القوم - أن يمكّن من العبّاسِ حمزةَ ومن عقيل عليا (1) ، والحال أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نهى عن قتل العبّاس خاصة وبني هاشم عامة - كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما (2) - ؛ لأنّهم أُخرجوا كرهاً ، وكان بعضهم من المسلمين ؛ فإنّ هذا من أعظم الصلافة وأشد المخالفة للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأكبر الإيذاء له ، مع أنّه أمر بما نهى اللّه عنه من قتل المسلمين!
وأمّا ما ذكره من موافقة عمر لأبي بكر في الجهاد ، وأنّه فتح الفتوح بعده ، فمسلّم ، لكن تلك الفتوح ناشئةٌ ممّا عوّدهم عليه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من الجهاد والفتوح والغنائم ، ومتفرّعة عن بشارته يوم الخندق بفتح بلاد كسرى وقيصر (3) ، وكلُّ أحد لو ولي بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - وعلم تلك البشارة - لقام بما قاموا به.
ولو سُلّم أنّهم فتحوا تلك الفتوح بتدبيرهم وحزمهم ، فإنّما يكون مدحاً إذا كان لله تعالى ، لا للإمرة والسلطان ، وهو محلّ نظر!
ص: 174
وقد فتح الأُمويّون والعبّاسيّون وغيرُهم الفتوح ، ومصّروا الأمصار ، طلباً للمُلك والعزّ.
أخرج أحمد في «مسنده» (1) ، عن أبي بكرة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى سيؤيّد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم».
وروى البخاري (2) : أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «إنّ اللّه يؤيّد الدين بالرجل الفاجر».
ودعوى أنّه أقام قواعد السنة ممنوعة ؛ لِما رأيناه من تبديله إيّاها ، وتشريعه خلاف ما جاء به الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على حسب ما تهواه نفسه ، وتقتضيه سياسته - كما ستعرف - وإنّما أقام قواعد مُلكه ، وحاط الدين ما درّت محالبه.
وقوله : «وسيرته في الخلافة غنيّة عن الذِكر» ..
لعلّه يريد به ما كان يصنعه مع الناس من الإهانة والتحقير ، والجفاء والضرب ، بلا موجب (3).
ص: 175
ومثل تسيير نصر بن حجاج (1) بلا استحقاق.
وعمله مع عمّاله بلا ميزان شرعيّ (2) ، فإنّهم إن كانوا من الأُمناء ،
ص: 176
فكيف غرّمهم؟! وإلاّ فكيف ردّهم إلى أعمالهم؟!
ولو كانت سيرته في الخلافة على النهج الشرعيّ ومرضيّة لله سبحانه ، لقبل أميرُ المؤمنين بيعةَ ابنِ عوف بشرط أن يسير بسيرة الشيخين (1).
وأما لبسه الخشن ؛ فلو كان للآخرة ، لتناسقت جميعُ أفعاله ، واتّبع وصيّة النبيّ في بضعته وآله.
وكم زاهد في الدنيا للدنيا ، ومتواضع في الناس للرفعة!
* * *
ص: 177
ص: 178
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
نقل الجمهور عن عمر مطاعن كثيرة ..
منها : قوله عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا طلب في حال مرضه دواةً وكتفاً (2) ليكتب فيه كتاباً لا يختلفون بعده ، وأراد أن ينصّ حال موته على ابن عمّه عليّ (عليه السلام) ، فمنعهم عمر وقال : إنّ نبيّكم ليهجر!
فوقعت الغوغاء (3) وضجر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال أهله : لا ينبغي عند النبيّ هذه الغوغاء.
ص: 179
فاختلفوا ، فقال بعضهم : أحضروا ما طلب ، ومنع آخرون.
فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ابعدوا!
هذا الكلام في صحيح مسلم (1).
وهل يجوز مواجهة العامّي بهذا السفه ، فكيف بسيّد المرسلين (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
ص: 180
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث مذكور في الصحاح ، ولكنّه ألحق شيئاً وغيّره.
والصحيح أنّه لمّا طلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الدواة والكتف ، قال عمر : إنّ رسول اللّه قد غلبه الوجع ، وعندنا كتاب اللّه.
فقال بعضهم : أحضروا ما طلب ؛ وقال بعضهم : لا تُحضروا ؛ ووقع الاختلاف.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : قوموا عنّي ، فلا ينبغي عندي التنازع (2).
وأما قوله : «إنّ نبيّكم ليهجر» ، فليس في «البخاري».
وإنْ سلّمنا صحّة الرواية ، فالهجر : هو الكلام الذي يقوله المريض ، فيكون المعنى موافقاً لِما هو في بعض الصحاح.
والمراد : أنّه يتكلّم بكلام المرضى وهو متوجّع ، فلا إساءة أدب في هذا.
وأما منع عمر عن كتابة الكتاب ، فقال العلماء :
إنّ عمر خاف أن يكتب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً لا يفهمه المنافقون ؛ لغلبة وجعه ، فيقع الاختلاف بين المسلمين (3).
ص: 181
وقال بعضهم : إنّ رسول اللّه تكلّم بكلام المرضى ، لا أنّه يريد الكتابة ، كما يقول المريض : ناولوني فلاناً وفلاناً وهو لا يريد (1).
والأوّل أظهر ؛ لأنّ عمر في أيّام صحّة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كثيراً ما يقول له : إفعل فلاناً ولا تفعل فلاناً ؛ وكان رسول اللّه يوافقه في رأيه (2).
فكان له هذا المنصب والمقام عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أيام الصحة ، فجرى على عادته ؛ لأنّ الكتابة لم تكن من رأيه كما ذكرنا.
ومَن علم أحوال عمر مع رسول اللّه طول صحبته لم يتعجّب من هذا.
ثمّ ما ذكر أنّه أراد أن ينصّ حال موته على خلافة عليّ ؛ فهذا من باب الإخبار بالغيب.
ولِمَ لا يريد أن ينصّ بخلافة أبي بكر؟! وقد وافق هذا ما روينا عن عائشة ، أنّه قال : ادعي لي أبا بكر أباك حتّى أكتب له كتاباً (3).
ثمّ هذا مناقض لِما ادّعاه من النصّ في غدير خُمّ ؛ فإنّه يدّعي النصّ في ذلك المشهد ، ثمّ يقول : إنّه أراد أن ينصّ.
وهذا نِعمَ اعتراف منه بعدم النصّ.
* * *
ص: 182
قد جاء في بعض أخبارهم نسبة الهجر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنحو الجزم والإخبار ، كما في «صحيح مسلم» (1) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : «يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثمّ جعل تسيل دموعه حتّى رأيتُ على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقالوا : إنّ رسول اللّه يهجر».
وهذا هو الذي أراده المصنّف (رحمه اللّه).
ومثله في «مسند أحمد» (2).
بل روى البخاري الحديث بلفظ الإخبار بالهجر في باب «جوائز الوفد» (3) ، عن ابن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : «يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثمّ بكى حتّى خضب دمعُه الحصباء ، فقال : اشتدّ برسول اللّه
ص: 183
وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازعٌ ، فقالوا : هَجَرَ رسول اللّه!
قال : دعوني! فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه.
وأوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفدَ بنحو ما كنتُ أُجيزهم ، ونسيت الثالثة».
ومن أوضح الأُمور أنّ نسبةَ الهجر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إساءةُ أدب معه ، بل كفرٌ بمقامه ؛ فإنّه مخالف للعقل والشرع.
أما العقل ؛ فلأنّ الهَجْرَ : هو الهَذَيان ؛ يقال : هَجَرَ النائمُ : إذا هَذَى ، كما في «القاموس» (1).
وهذا ممتنع عقلا على النبيّ في صحّته ومرضه ؛ لأنّ من جاز عليه الهجر ولم يُؤمَنْ عليه الهذيان والخطأ ، أمكن التشكيك في كثير من أقواله وأفعاله ، فلا يكون قوله وفعله حجة ، وهو مناف لمنزلة النبوّة ، وناف لفائدة البعثة.
وأما الشرع ؛ فلقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (2) ..
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (3) ..
ص: 184
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) ..
فإنّ هذه الآيات أطلقت وجوب طاعته والأخذ منه ، ومنعت من مخالفة مطلق ما قضى به.
ومن الواضح : أنّ صدور الهجر يستدعي خلاف ذلك الوجوب والمنع ، وينافي ذلك الإطلاق.
ولقوله تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ..
فإنّه دالٌّ على أنّ كلّ ما ينطق به من أمر أو منع إنّما هو عن وحي اللّه تعالى ، وهو لا يجامع الهجر.
ولقوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إلى قوله : ( ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) (3) ..
فإنّه ناف للهجر عنه ؛ لأنّ من جاز عليه الهجر ، لم يكن أميناً ، ومَن وقع منه الهجر ، كان مجنوناً ؛ لأنّ الجنون حالة في الإنسان يُستر فيها عقلُه.
غاية الأمر : أنّ من يهجر في حالة خاصّة ليس جنونُه مستحكماً.
ولو سُلّم أنّ الهجر هو الهذيان الحاصل من غير الجنون - كما هو الأقرب - فهو بحكمه ؛ لأنّ المقصود بالآية ليس هو نفي الجنون من حيث هو ، بل لِما يترتّب عليه من الهذيان ، فينتفي عن النبيّ كلّ هذيان.
وممّا ذكرنا يُعلم أنّه لا فائدة في ما قصدوا به إصلاح هذه
ص: 185
الفرْطة (1) ؛ إذ بدّلوا في بعض أخبارهم لفظ «الهجر» بقولهم : «غلبه الوجع» (2) ؛ فإنّ النتيجة بهما واحدة ؛ وهي إثبات الهذيان للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حاشاه (3)!
وأما ما نسبه إلى بعض علمائهم من أنّ عمر خاف أن يكتب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يفهمه المنافقون ، فيقع الاختلاف بين المسلمين ؛ فهو أشبه باللغو ؛ إذ كيف يقع - بسبب عدم فهم المنافقين لمراد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - الاختلاف بين المسلمين الّذين يفهمون مراده ، ويعتقدون أنّ ما يكتبه رافعٌ للضلال أبداً.
مع أنّ عمر - على هذا - قد دفع القبيح بالأقبح ؛ لأنّه خاف الاختلاف فأوقعه بالمخالفة للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أوحش وجه وأكذبه ؛ وهو
ص: 186
نسبة الهذيان إلى النبيّ!
وليت شعري ، ما عسى أن يفعل المنافقون - وهم الأقلّون - أكثر من ذلك لمجرّد كتابة النبيّ ما لا يفهمونه.
على أنّه كيف يُتصوّر أن يصف النبيّ كتابه بأنّهم لا يضلّون بعده أبداً ، ثمّ يكتب ما لا يُفهم فيسبب به الاختلاف والضلال على خلاف ما ضَمِنه كتابه؟!
فهل تجويز هذه الكتابة إلاّ تجويز للهجر بوجه آخر؟!
مضافاً إلى أنّ عمر لو كان قاصداً لذلك ، لكان الواجب عليه أنّ يُنبّه النبيّ بعبارة جميلة طالباً فيها توضيح مقصوده ، لا أنّه يمنعه عن أصل الكتاب الرافع للضلال إلى آخر الأبد.
وأيضاً : فقد زعم القوم عدالة الصحابة كلّهم واقعاً إلاّ النادر الخفيّ الحال من المنافقين ، فمن أين يقع الاختلاف بين المسلمين العدول بسبب عدم فهم القليلين المنافقين للكتاب؟!
وما أدري إذا كان الأمر على ما قاله ذلك البعض ، فما الذي أبكى ابن عبّاس حتّى بلّت دموعه الحصباء ، وعدّه الرزيّة كلّ الرزيّة؟!
ألم يكن له عِلم بمقصود عمر ، كما علمه هذا البعض بعد حين ، فيسترّ لهذه المقاصد الشريفة؟!
وأمّا ما زعمه الخصم من أنّ عمر كان يقول للنبيّ : إفعل ولا تفعل ..
فهو كذبٌ وإزراءٌ بحقّ سيّد المرسلين وشأن الرسالة ، كما سبق (1).
ولو سُلّم ، فإنّما يجوز ذلك في مقام الاستشارة ، لا في مقام يقضي
ص: 187
به النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ويعزم ، كما في المورد ، فإنّه ليس لأحد فيه الخيَرة ، كما صرّحت به الآية السابقة (1).
وأما قوله : «ومن علم أحوال عمر مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وطول صحبته لم يتعجّب من هذا» ..
فصحيحٌ ؛ لِما نعهده من سوء أدبه مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومخالفته له في كثير من المقامات التي يقضي فيها ، وتدخّله في ما ليس له ، كما في الصلاة على ابن أُبَيّ ، والصلح يوم الحديبية ، وغيرهما (2) ، فيُعرض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عنه ، أو يجيبه بما يقتضيه حُسن خُلُقه وعظيم تأليفه ، وإلاّ فالنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أعلى شأناً ، وأرفع مكاناً ، وأظهر عصمة ، وأكبر تأييداً من أن يحتاج إلى الآراء الناقصة ، ويتّبع من لا طريق له إلاّ الظنّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
ثمّ إنّ بعض الرواة قد تصرّف في الحديث فصوّره بصورة الاستفهام ؛ تقليلا للاستهجان ، فروى أنّهم قالوا : «ما شأنُه؟! أَهَجَر؟! استفهموه!» كما رواه البخاري (3) ، ومسلم (4) (5).
وفي لفظ آخر : «ما باله (6)؟! أَهَجر؟! استفهموه!» كما رواه
ص: 188
البخاري أيضاً (1).
وليت شعري ، كيف يُستفهم عن الهجر من احتُمِل في حقّه الهجر؟!
وكيف يكون عمر مستفهماً وهو يقول : «حسبنا كتاب اللّه» ، الذي هو كلامُ معارِض لا مستفهِم ، حتّى لو حُمل استفهامه على الإنكار كما زعمه بعضهم؟!
وهل يُجامع الإنكارَ قولُه : «أَهَجَر؟! استفهموه!»؟! فإنّه لو أُريد به الإنكار على قائل لتعلّق به الاستفهام الإنكاري لا بالنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولَمَا كان مورد لقوله : «حسبنا كتاب اللّه»!
على أنّه لم يسبق أحد عمرَ إلى نسبة الهجر إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتّى يُنكر عمرُ عليه ، بدليل ما رواه البخاري (2) ومسلم (3) ، عن ابن عبّاس ، قال : «لمّا حُضِرَ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال : هلُمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده.
قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب اللّه!
واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول اللّه كتاباً لن تضلّوا بعده ؛ ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا
ص: 189
اللغط (1) والاختلاف عند النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : قوموا عنّي!».
وروى أحمد في «مسنده» (2) ، عن جابر ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتاباً لا يضلّون بعده ، فخالف عمر بن الخطّاب حتّى رفضها.
ومن العجب شدّة تحفّظهم على شأن عمر ؛ فإنّهم إذا رووا لفظ «الهجر» لم يُعيّنوا قائله (3) ، وإذا عيّنوا عمر قالوا : «قال : غلبه الوجع» (4) ، أو : «خالف حتّى رفضها» (5).
وإذا تُليت عليهم الأدلّة الواضحة على امتناع وصمة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالهجر والهذيان ردّوها بجدّهم ، وخذلوا رسولَ اللّه ونصروا عمرَ بجهدهم ، وأساؤوا القول في مَن ينتقده ؛ وإنْ آذى نبيّهم وأغضبه وغمه ، وسبب
ص: 190
كلّ ضلال إلى يوم القيامة.
فقد روى أحمد الحديث في «مسنده» (1) ، وقال فيه : «فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف وغُمّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : قوموا عنّي!».
وحكى ابن أبي الحديد (2) ، عن الجوهري ، رواية الحديث ، وقال فيه : «فلمّا أكثروا اللغط واللغو والاختلاف غضب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال : قوموا عنّي! لا ينبغي لنبيّ أن يُختلف عنده هكذا ؛ فقاموا» .. الحديث.
ويا هل ترى ، إنّا لو قلنا : «إنّ عمر يهجر» في قبال قوله للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «يهجر» ، أكانوا يرضون منّا بدون القتل؟!
والحال أنّ قولنا لو كان حراماً وضلالا لكان بسبب عمر ؛ لمنعه للكتاب الرافع للضلال إلى يوم القيامة ، فكان أَوْلى بما يستحلّونه منّا!
وأعجب من ذلك أنّهم - مع نسبة الهجر عندهم إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - يستدلّون على استحقاق أبي بكر الخلافة ؛ بدعوى أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمره بالصلاة في الناس!
والحال أنّ أمره بها - على زعمهم - كان في حال شدّة المرض بحيث يُغمى عليه مرّةً ويفيق أُخرى ، كما في بعض روايات البخاري (3) ، ومسلم (4) ، وغيرهما (5).
ص: 191
وكانت صلاته أيضاً في الناس - على زعمهم - سبع عشرة صلاة أو نحوها (1) ، وهي بعدُ أمرِ الكتاب ؛ لأنّه كان يوم الخميس والنبيّ توفّي يوم الاثنين ، فكيف كان أمره بالكتاب هجراً ، وأمره بالصلاة دليلا على الخلافة؟!!
بل أعجب من ذلك أنّهم يروون أنّ أبا بكر أمر عثمان أن يكتب : أما بعد ؛ ثمّ أُغمي عليه ، فكتب عثمان : أمّا بعد ، فقد استخلفت عليكم عمرَ بن الخطّاب ولم آلُكُم (2) خيراً.
ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ! فقرأ عليه.
فقال : أراك خِفْتَ أن يختلف الناس.
قال : نعم ؛ وأقرّها أبو بكر.
رواه الطبري في «تاريخه» (3) ، وابن الأثير في «كامله» (4).
فأنت ترى أنّ أبا بكر قد كتب وأمضى وهو في حال يُغشى عليه ، فلم يقولوا : «يهجر»! وسيّد النبيّين (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر بالكتابة قبل وفاته بخمسة أيّام ، ولم تكن حاله في الشدّة كحال أبي بكر ، وقالوا : «يهجر»!
فهل الفرق بينهما إلاّ مخالفة وصيّة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهوى أُولئك
ص: 192
الصحابة ، وموافقة وصيّة أبي بكر لهواهم؟!
وهل تتصوّر أمراً لا تهواه أنفسهم ، ويخالفون النبيّ فيه بالصراحة ، ويجدون في منعه كلّ الجدّ بأقبح المنع ، غير الوصيّة لعليّ (عليه السلام) بالإمامة؟!
أو هل تتوهّم أنّ أمراً يُبكي ابن عبّاس فواتُه حتّى يخضب الحصباءَ ، ويتذكّره بعد طول المدّة ، ويجعل الحيلولة دونه كلّ الرزيّة ، غير خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
أو هل تحتمل أنّ أمراً يتضمّنه الكتاب الصغير يكون مؤمناً من الضلال والاختلاف إلى آخر الأبد ، غير النصّ على أئمّة حفظة للدين ، عِلماً وعملا ، إلى يوم القيامة؟!
وما هم غير عليّ وأولاده الطاهرين ؛ لأنّ الحفظ كذلك لا يتمّ إلاّ بالعصمة ، ولا قائل بعصمة غيرهم.
ولو كان ذلك الحفظ يحصل بأبي بكر وأمثاله لَما وقع الضلال ، وهو واقع بكثرة ساحقة للهدى في طول السنين.
ويشهد لإرادة أئمّتنا (عليهم السلام) قوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّي مخلّف فيكم الثِّقلَين ، إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً» (1).
فإنّ مرمى الحديثين واحد ، سوى إنّه يريد أن يكتب بهذا الكتاب تفصيل ما أجمله في حديث الثِّقلَين ، ويذكر الأئمّة بأسمائهم ؛ لتحصل فيه فائدة جديدة.
لكنّ القوم عرفوا مراده فمنعوه - كما اعترف به عمر في ما دار بينه
ص: 193
وبين ابن عبّاس - كما ذكره ابن أبي الحديد (1) ، ففاجأوه بكلمة جفاء لم تكن في الحُسبان اضطرّته إلى العدول عمّا أراد ؛ إذ لا تبقى بعدها فائدة في كتابه.
ولو أصرّ على مطلوبه لدامت الفتنة والاختلاف في أنّه هجر أو لا؟ و ( لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (2).
وقد علم أنّ شيعة الحقّ غنيّون - عن المضيّ عليه - بنصّه يوم الغدير (3) ونصّ القرآن المجيد (4) ، كما زادهم بصيرة في أضداد خليفته ووصيّه ، فقضت الحكمة أن يعدل بعد ذلك عن الكتاب.
فيا لهف نفسي! يريد نبيُّ الرحمة حياتنا إلى الأبد ، ويطلب أن يكتب لنا كتاباً حقيقياً بأن تتشوّق إليه قلوب المؤمنين ، وتتشوّف إليه عيون المهتدين ، فلا يُتّبع!
ويريد أبو بكر أن يوصي إلى عمر ، ويظهر الشكّ في أمره بما يدعو المسلم العاقل إلى النفرة عنه ، فيُتّبع! ..
قال : «إنّي أستخلف عليكم عمر ، فإن عدل فذلك ظنّي به ، وإن
ص: 194
بدّل فلكلّ امرئ ما اكتسب ، ولا أعلم الغيب».
كما ذكره في «الصواعق» (1).
ورواه جماعة ؛ كابن قتيبة (2) ، وابن عبد ربّه (3) ، وغيرهما (4).
ويا بأبي وأُمّي ، الشفيق على أُمّته! أيّةُ كلمة ودّعوه بها ، وهو في فراش الموت بينهم؟! وأيّةُ إساءة أساؤوه بها وهو يريد الإحسان إليهم؟!
فقد ثبت بما بيّنّا أنّ مراد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالكتاب : هو النصّ على أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين.
وقول الخصم : «هذا من باب الإخبار بالغيب» ..
خطأٌ ؛ فإنّه من باب اتّباع الدليل - كما عرفت (5) - مع القرائن القاضية به ؛ كسبق النصوص عليه في الكتاب والسنة ؛ فيكون هذا الكتاب من باب تأكيد النصّ ، فما زعمه الخصم من مناقضة مقاصد المصنّف ساقط ؛ إذ أيُّ عارف يقول : إنّ في تأكيد النصّ مناقضة؟!
كما تحقّق ممّا بيّنّا أنّه لا يمكن أن يريد النصّ على أبي بكر ، ولو أدركه عمر لكتب الكتاب بيده ، وعجّل إليه في يومه قبل غده ، واستغنى عن التزوير يوم السقيفة ، والهجوم على دار فاطمة الشريفة.
وقد ظهر من الأحاديث أنّهم لم يأتوا بمجرّد إساءة الأدب مع
ص: 195
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بل آذوه أيضاً ، وأغضبوه ، وغموه ، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) وقوله سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) (2).
وأيضاً خالفوا أمر اللّه عزّ وجلّ بطاعة نبيّه الكريم (3) ، ونهيه عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض (4) ، وسببوا كلّ ضلال إلى يوم القيامة.
وما أعجب قول عمر : «حسبُنا كتاب اللّه!» ؛ فإنّه من أكذب القول ؛ ضرورةَ عدمِ علمهم منه بكلّ ما تحتاج إليه الأُمة ؛ ولذا قرنه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعترته فقال : «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي».
وروى الترمذي في «صحيحه» (5) ، وحسنه ، عن أبي الدرداء ، قال : «كنّا مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فشخص ببصره إلى السماء ، ثمّ قال : هذا أوانٌ يُختلس العلمُ من الناس حتّى لا يقدروا منه على شيء.
فقال زياد بن لبيد الأنصاري (6) : كيف يُختلس العلمُ منّا وقد قرأنا
ص: 196
القرآن؟! فواللّه لنَقرأنّه ولنُقرئنّه نساءنا وأبناءنا.
قال : ثكلتك أُمّك يا زياد! إنْ كنتُ لاََعُدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا تُغني عنهم؟!».
ونحوه في «مسند أحمد» (1) ، عن أبي أُمامة.
وروى أبو داود في «صحيحه» (2) ، عن العرباط (3) ، من حديث قال النبيّ فيه : «أيحسب أحدُكم متّكئاً على أريكته قد يَظنّ أنّ اللّه لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في القرآن ، ألا وإنّي قد وعظت ، وأمرت ، ونهيت عن أشياء ، إنّها لمثل القرآن أو أكثر».
وروى أبو داود أيضاً (4) ، عن أبي رافع ، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال :
ص: 197
«لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته ، يأتيه الأمرُ من أمري ، ما أمرتُ به أو نهيتُ ، عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدناه في كتاب اللّه اتّبعناه!».
ومثله في «صحيح الترمذي» ، وحسنه (1).
وعن الحاكم في «مستدركه» ، وابن ماجة ، وابن حبّان في «صحيحيهما» (2).
.. إلى نحوها من الأحاديث الكثيرة (3).
فكيف يردّ عمر أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالكتابة ويقول : «حسبنا كتاب اللّه»؟!
فيا عجباً!! أكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يعلم بمكان كتاب اللّه منهم ، أو أنّهم أعلم منه بما فيه وبفوائده ، حتّى يزيّف عمر طلبه للكتاب بقوله : «حسبنا كتاب اللّه» كما يزيّف أحدُنا رأيَ مثلِه؟!
ثمّ إنّ المصنّف (رحمه اللّه) أشار بقوله : «فقال أهله : لا ينبغي عند النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) هذه الغوغاء» إلى أخبار رواها القوم تدلّ على ذلك ..
منها : ما رواه أحمد في «مسنده» (4) ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس ، قال : «لمّا حُضِر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : ائتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي.
ص: 198
فأقبل القوم في لغطهم ، فقالت المرأة : وَيحكمْ! عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!».
ومنها : ما في كتاب الشمائل في «كنز العمّال» (1) ، عن ابن سعد ، بسنده عن عمر ، قال : «كنّا عند النبيّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : اغسلوني بسبع قِرَب ، وائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقالت النسوة : ائتوا رسولَ اللّه بحاجته.
فقلتُ : اسكتن! فإنّكنّ صواحبُه ، إذا مرض عصرتُنّ أعينكُنّ ، وإذا صحّ أخذتُنّ بعنقه.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : هنّ خير منكم».
ومنها : ما في كتاب «الخلافة والإمارة» من «الكنز» أيضاً (2) ، عن الطبراني في «الأوسط» ، عن عمر ، قال : «لمّا مرض النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.
قال النسوة من وراء السِتر : ألا تسمعون ما يقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فقلتُ : إنّكنّ صويحبات يوسف ، إذا مرض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عصرتُنّ أعيُنكنّ ، وإذا صحّ ركبتنّ عُنقه.
فقال رسول اللّه : دعوهنّ! فإنّهنّ خير منكم».
ص: 199
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إيجاب بيعة أبي بكر على جميع الخلق ، ومخاصمته على ذلك (2) ، وقصد بيت النبوّة ، وذرّيّة الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - الّذين فرض اللّه مودّتهم ، وأكّد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عدّة مرار موالاتهم ، وأوجب محبّتهم ، وجعل الحسن والحسين ودائع الأُمة ، فقال : اللّهمّ هذان وديعتي عند أُمّتي (3) - بالإحراق بالنار (4).
وكيف يحلّ إيجاب شيء على جميع الخلق من غير أن يوجبه اللّه ، أو نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أو يأمران به؟!
أترى عمر كان أعلم منهما بمصالح العباد؟!
أو كان قد استناباه في نصب أبي بكر إماماً؟!
أو فوّضت الأُمة بأسرها إليه ذلك وحكّموه على أنفسهم؟!
فليرجع العاقل المنصف من نفسه ، وينظر : هل يستجيز لنفسه
ص: 200
المصير إلى هذه الاعتقادات الرديّة؟!
مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان أشرف الأنبياء (عليهم السلام) ، وشريعته أتمّ الشرائع ، وقنع من اليهود بالجزية ، ولم يُوجب عليهم متابعته قهراً وإجباراً ، وكذا من النصارى والمجوس ، ولم يعاقبهم بالإحراق!
فكيف استجاز هؤلاء الصحابة قصد أهل البيت بذلك؟!
مع أنّ مسألة الإمامة عندهم ليست من أُصول العقائد ، ولا من أركان الدين ، بل هي ممّا يتعلّق بمصالح العباد في أُمور الدنيا (1).
فكيف يعاقب من يمتنع من الدخول فيها؟!
وهلاّ قصدوا بيوت الأنصار وغيرهم ، مثل : سلمان ، وأبي ذرّ ، والمقداد ، وأكابر الصحابة لمّا امتنعوا من البيعة؟!
وأُسامة بن زيد لم يبايع إلى أن مات ، وقال : «إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمّرني عليكم فمن أمّرك علَيَّ يا أبا بكر؟!» (2).
* * *
ص: 201
وقال الفضل (1) :
قد عرفت أنّ إمامة أبي بكر ثبتت بالإجماع ، وكلّ إجماع فإنّ مبدأه يكون شخصاً أو أشخاصاً ، ثمّ يتتابع الناس في الموافقة والقبول حتّى يتمّ (2).
وإجماع خلافة أبي بكر كان مبدأَه عمرُ وأبو عبيدة ، وهما كانا من أهل الحلّ والعقد ، ومن أكابر الصحابة.
وعمر كان من المحدثين (3) ، وكان وزير رسول اللّه (4) ..
وأبو عبيدة كان من الأُمناء ، وقال فيه رسول اللّه : «أمين هذه الأُمّة أبو عبيدة بن الجرّاح» (5) ..
فكانا مبدأ الإجماع ، وليس هو الموجب ، وهذا ظاهر.
وما ذكره من إحراق بيت أهل البيت ، فقد بيّنّا أنّه من موضوعات الرفَضة بوجوه عقليّة ونقليّة (6).
ص: 202
قد أنكر المصنّف (رحمه اللّه) على عمر إيجاب بيعة أبي بكر ومخاصمته عليها في حين لا إجماع ، فلا يرتبط بالجواب عنه قول الخصم : «إنّ مبدأ الإجماع عمر وأبو عبيدة ، وإنّ إمامة أبي بكر ثبتت بالإجماع».
على أنّ دعوى الإجماع ظاهرة الكذب ، كما سبق (1).
وقوله : «ثمّ يتتابع الناس في الموافقة والقبول» ..
لا ينطبق على بيعة أبي بكر ؛ لأنّ عمر لم يترك الناس على رسلهم ، بل استكره الناس وخاصمهم على بيعة أبي بكر ، فلا موافقة ، ولا إجماع بالاختيار - لو سُلّم الإجماع - كما مرّ في مبحث تعيين الإمام (2).
وأمّا ما ذكره في فضل عمر وأبي عبيدة ..
فهو من مزعوماتهم وأخبارهم ، وهي غير حجّة علينا ، بل ولا عليهم ؛ لِما عرفت من حالها في المقدّمة وغيرها (3).
وأمّا قوله : «وليس هو الموجب» ..
أي لبيعة أبي بكر ؛ فهو من إنكار الضروريات ، كما يعرفه مَن عرف طرفاً ممّا جرى في السقيفة وما بعدها.
ولا يمكن أن يجاب عن عمر باحتمال أنّه ممن يرى انعقاد
ص: 203
الإمامة ببيعة الواحد والاثنين ؛ فلذا خاصم في إتمام بيعة أبي بكر بعدما بايع هو وجماعة ؛ وذلك لأنّ عمر ليس على هذا الرأي ، فإنّه قال في خطبته : «إنّ بيعة أبي بكر فلتة ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، ولا بيعة له ولا لمن بايعه» ، كما سبق في مآخذ أبي بكر (1).
على أنّه لو كان يرى ذلك ، فغاية ما يلزم أنّه لا تجوز البيعة لغيره ، لا أنّه يجب على جميع الخلق بيعتُه.
وأما إنكار الخصم لإحراق بيت آل محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فصحيحٌ ، لكنّ المصنّف (رحمه اللّه) ادّعى قصدَ الإحراق ، وهو مستفيض في أخبارهم ، كما سبق (2).
هذا ، واعلم أنّ المصنّف (رحمه اللّه) نقض على القوم بأنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قنع بالجزية من أهل الذمة ، ولم يوجب عليهم متابعته ، فكيف استجاز هؤلاء الصحابة قصد أهل البيت بالإحراق لأجل متابعة أبي بكر؟!
ويمكن أن يجيب القومُ عنه بالنقض ؛ بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل معاوية لأجل المتابعة ..
وفيه : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل معاوية لعلمه بفساده وإفساده للدين ؛ ولعهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إليه بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (3) ،
ص: 204
ولم يقاتله لمجرّد طلب المتابعة ، وإلاّ فقد كان يمكنه أن يقرّه والياً وينال متابعته ثمّ يعزله ، كما أُشير عليه بذلك ، فامتنع وقال : «واللّه لا أُداهن في ديني ، ولو أقررتُه ( كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) (1)» (2) ، كما سنذكره إن شاء اللّه في مطاعن معاوية.
ويشهد لكون قتاله لا لمجرّد المتابعة ، أنّه لم يقهر سعداً وابنَ عمر وغيرَهما على متابعته (3).
ص: 205
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه قد بلغ من قلّة المعرفة ، أنّه لم يعلم أنّ الموت يجوز على النبيّ ، بل أنكر ذلك لمّا قالوا : مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
فقال : واللّه ما مات محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتّى يقطع أيدي رجال وأرجلهم.
فقال له أبو بكر : أما سمعت قول اللّه تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (2) ، وقوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ... ) (3)؟!
فقال : أيقنت بوفاته ، وكأنّي لم أسمع هذه الآية (4).
ومَنْ هذه حالُه ، كيف يجوز أن يكون إماماً واجب الطاعة على جميع الخلق؟!
ص: 206
وقال الفضل (1) :
في «الصحاح» ، أنّ رسول اللّه لمّا توفّي قام عمر في المسجد ، وقال : إنّ أُناساً يزعمون أنّ رسول اللّه توفّي ، وإنّه ذهب يناجي ربّه كما ذهب موسى يناجي ربّه في الطور ، وسيعود ويقطع أيدي رجال وأرجلهم بما قالوا : إنّه مات.
فدخل أبو بكر وقال لعمر : اجلس! فما جلس ، وكان يتكلّم بمثل ذلك الكلام ، حتّى قام أبو بكر في ناحية أُخرى من المسجد ، فقال : أيّها الناس! من كان يعبد محمّداً ، فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فهو حيٌّ باق لا يموت ؛ ثمّ قرأ هذه الآية : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ... ) (2) الآية.
فلمّا سمع عمر هذه المقالة رجع إلى قول أبي بكر وقال : كأنّي لم أسمع هذه الآية (3).
واختلفوا في ذلك الحال الذي غلبه حتّى حكم بأنّ النبيّ لم يمت ..
فقال بعضهم : أراد أن لا يستولي المنافقون ، وخاف أن لو اشتهر موت النبيّ قبلَ البيعةِ لخليفة تشتّت أمر الإسلام ، فأراد أن يُظهر القوّة
ص: 207
والشوكة على المنافقين ؛ ليرتدعوا عمّا همّوا به من إيقاع الفتنة والإيضاع خِلال (1) المسلمين كما كان دأبهم.
وقال بعضهم : كان هذا الحال من غلبة حُكم المحبّة وشدّة المصيبة أنّ قلبه كان لا يأذن له أن يحكم بموت النبيّ.
وهذا كان أمرٌ عمَّ جميع المؤمنين بعد النبيّ حتّى جُنّ بعضهم ، وعمي بعضهم من كثرة الهمّ ، واختلّ بعضهم (2) ، فغلب عمر شدّة حال المصيبة ، فخرج من حال العلم والمعرفة ، وتكلّم بعدم موته ، وأنّه ذهب إلى مناجاة ربّه ؛ وأمثال هذا لا يكون طعناً.
ص: 208
كِلا العذرين بارد باطل.
أما الأوّل ؛ فلأنّه لو كان عمر خائفاً من تشتّت أمر الإسلام واستيلاء المنافقين قبل البيعة ، فلِمَ ترك مقالته لقول أبي بكر؟! والحال أنّ البيعة لم تقع ، بل كان عليه أن يشير إلى أبي بكر بالسكوت ويعرّفه غرضه ، ويشتغلا بالبيعة!
على أنّه كيف يتصوّر أن يبقى المنافقون تحت الرهبة من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى أن تحصل البيعة؟! والحال أنّ الاشتغال بالبيعة إنّما يترتّب عند المسلمين أنفسهم على موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
أو كيف يرتدع المنافقون الّذين لم يؤمنوا بأصل نبوّة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمجرّد قول عمر : ما مات ، وذهب إلى المناجاة ؛ وهم يرونه بينهم ميّتاً ساكن الحركات؟!
بل يعدّون هذا القول من عمر - والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مسجّىً بينهم - من الهذيان والخرافات!
مضافاً إلى أنّ أهل السنة يرون أنّ الصحابة كلّهم عدول ، وأنّ المنافق بينهم قليلٌ مخفيُّ الحال ، فكيف يستولي المنافقون ، أو يُخاف منهم - بأسرع وقت - تشتّت أمر الإسلام؟!
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ عمر لو خرج من حال المعرفة بمجرّد سماع قولهم : «مات النبيّ» ، للزم أن يزول عقله بالكلّية لمّا تحقّق عنده موت النبيّ بقول أبي بكر ، فلا يذهب إلى السقيفة بوقته ويزوّر بنفسه ما يزوّر ،
ص: 209
ويفعل ما يفعل ، فيها وفي خارجها.
وكيف تلائم تلك المحبّة المدّعاة إعراضه - كصحبه - عن تجهيز النبيّ ودفنه إلى ثلاثة أيام؟!
أو كيف تجتمع مع إيذائه حال المرض المُشجي بنسبة الهجر إليه ومنعه عمّا أمر به؟!
ثمّ إنّي لستُ أذهب إلى ما قاله المصنّف (رحمه اللّه) ، إنّ صدور ذلك القول من عمر من قلّة المعرفة ؛ فإنّ مثل عمر الذي يبتدع الشورى وكيفيّتها لا يجهل جواز موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
كيف؟! والنبيّ نعى نفسه الشريفة إليهم مراراً (1) ، ونطق الكتاب العزيز بموته (2)!
وما تخلّفَ عمر عن جيش أُسامة إلاّ ارتقاباً لموته!
ولا قال : «حسبنا كتاب اللّه» إلاّ بناءً على وفاته!
وما نسبهَ إلى الهجر إلاّ طعناً برأيه في ما يوصي به لِما بعد الموت!
فكيف يَجهل موته وقد فارقت روحُه الدنيا ، أو يَحتمل ذهابه إلى
ص: 210
المناجاة وهو مسجّىً بينهم؟!
بل لا أرى ذلك منه إلاّ مكراً وكيْداً ؛ فإنّه يعلم أنّ الهاشميّين وبعض الصحابة كسلمانَ ، والمقدادِ ، وأبي ذرّ ، وعمار ، وحذيفة ، ونحوهم (1) ، يريدون بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فخاف أن يبايعوه ويتّبعهم الناس ؛ لسبق أمر الغدير ، فادّعى أنّ النبيّ ما مات ؛ ليشغل الناس وقتاً ما بهذا الكلام ، فيحصل لبيعة عليّ (عليه السلام) تأخير حتّى يأتي أبو بكر من منزله بالسنح (2) ؛ ليُعمِلا رأيهما ، ويَمضيا على ما أبرماه وأصحابهما في الصحيفة من منع أمير المؤمنين (عليه السلام) خلافته.
ولمّا حضر أبو بكر لم يسعه العدول من مقالته دفعةً ، بل بقي يتكلّم إلى أن قرأ أبو بكر قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) الآية ، فأظهر المغلوبيّة ، وزعم كأنّه لم يسمع الآية (3)!
ص: 211
والحال أنّ الآية لا تدلّ على بطلان ما زعمه من ذهاب النبيّ إلى المناجاة ؛ فإنّها لا تدلّ على موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في هذا اليوم الذي مات فيه!
ومَن أنصف وعرف بعض أحوال عمر صدّق بما قلناه.
ثمّ إنّ عدم حضور أبي بكر عند وفاة النبيّ - وهو يعلم أنّه على خطر الموت - مُستغرَبٌ بحسب العادة ، ولكن لا غرابة فيه عند مَن عرف الحقيقة ، بل يجعله قرينةً على ما حقّقناه سابقاً ، من أنّ أبا بكر قد صلّى بالناس صبح الاثنين يوم وفاة النبيّ بغير رضاه ، فلما علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خرج يجرّ رجليه من المرض ونحاه (1).
فذهب أبو بكر إلى منزله بالسُّنح (2) ؛ فراراً من مواجهة النبيّ له بما يكره.
ولمّا صلّى رسول اللّه لم يجده ، وقال : «سُعّرت (3) الفتن» ، كما سبق
ص: 212
في رواية الطبري (1) ، فلذلك كان عند وفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنزله في السُّنح.
ولمّا سمع بوفاة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أسرعَ الكرّة واجتمع بعمر ، وذهبا بأنصارهما إلى السقيفة ، وفعلا ما فعلا!
* * *
ص: 213
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه أمر برجم امرأة حامل ، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : إن كان لك عليها سبيل ، فليس لك على ما في بطنها سبيل.
فقال : لولا عليٌّ لهلك عمر (2).
ومنها : إنّه أمر برجم مجنونة ، فنبّهه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال : القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق.
فقال : لولا عليٌّ لهلك عمر (3).
وهذا يدلّ على قلّة معرفته ، وعدم تنبّهه لظواهر الشريعة.
ص: 214
وقال الفضل (1) :
الأئمةُ المجتهدون قد يَعرض لهم الخطأُ في الأحكام ؛ إما لغفلة ، أو نسيان ، أو عروض حالة تدعو إلى الاستعجال في الحكم ؛ والإنسان لا يخلو عن السهو والنسيان ، والعلماء وأرباب الفتوى يرجعونهم إلى حكم الحق.
ولهذا يُستحبّ للحاكم أن يشاور العلماء ، ولا يحكم إلاّ بمحضر أهل الفتوى.
وإنْ صحّ ما ذكر من حكم عمر في الحامل والمجنونة ، فربّما كان لشيء مما ذكرناه ، ولا يكون هذا طعناً.
وكيف يصحّ لأحد أن يطعن في علم عمر ، وقد شاركه النبيُّ في علمه ، كما ورد في «الصحاح» عن ابن عمر ، قال : «سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : بَيْنا أنا نائمٌ أُتيت بقدح لبن فشربت حتّى إنّي لأرى الرِّيَّ (2) يخرج في أظفاري ، ثمّ أعطيتُ فضلي عمرَ بن الخطّاب.
قالوا : فما أَوّلته يا رسول اللّه؟
قال : العلم» (3)؟!
ص: 215
سبق أنّ الإمام لا بُد أن يكون معصوماً من الخطأ ، محيطاً بأحكام الشريعة ، فلا يجوز أن يجهل حكماً ، أو يُخطئ فيه ، ولا سيّما واضحات الشريعة كهذه الأحكام ، وخصوصاً في ما يتعلّق بالدماء ونحوها ، ولا سيّما مع الاستعجال ، وإلاّ كان أضرّ الناس على الأُمّة والشريعة ، فتمتنع إمامته (1).
وقد أنصف القاضي الأُرموي (2) في ما نقل عنه السيّد السعيد (رحمه اللّه) ، حيث قال القاضي في «لباب الأربعين» : «لا يقال : عمر لم يتفحّص عن حالها ، ولم يعلم كونها حاملا ، فلمّا نبّهه عليٌّ ترك رجمها ؛ لأنّ هذا يقتضي أنّ عمر ما كان محتاطاً في سفك الدماء ، وهو شرٌّ من الأوّل» (3).
ص: 216
وأمّا قوله : «وإن صحّ ما ذكر ...» إلى آخره ..
فهو من التشكيك في البديهيات ؛ فإنّ ابن تيميّة - مع عناده وتهتّكه في العصبيّة - أقرّ في ردّه ل «منهاج الكرامة» بصحة خبر المجنونة (1).
ورواه الحاكم في «المستدرك» (2) ، وصحّحه مع الذهبيّ على شرط الشيخين.
ونقله في «كنز العمّال» (3) ، عن عبد الرزّاق ، والبيهقي.
ورواه البخاري باختصار (4) ، قال : قال عليّ لعمر : «أمَا علمتَ أنّ القلم رُفع عن المجنون حتّى يُفيق ، وعن الصبي حتّى يُدرِك ، وعن النائم حتّى يستيقظ؟!».
ورواه في «الاستيعاب» بترجمة عليّ ، قال : «كان عمر يتعوّذ باللّه من معضلة ليس لها أبو حسن.
وقال في المجنونة التي أمر برجمها ، وفي التي وضعت لستّة أشهر [فأراد عمر رجمها] ، فقال له : إنّ اللّه يقول : ( وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثلاثونَ شَهراً ) (5) .. الحديث.
ص: 217
وقال له : إنّ القلم رُفع عن المجنون ... الحديث.
فكان عمر يقول : لولا عليٌّ لهلك عمر» (1).
ونقل أيضاً في «كنز العمّال» (2) حديث التي وضعت لستّة أشهر ، عن البيهقي ، وعبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
وأما حديث الحامل ..
فقد عرفت تسليمه في كلام القاضي الأُرموي (3).
ورواه الحاكم بعد الحديث السابق (4) ، ولكن ذكر فيه أنّ المرأة كانت مجنونة حُبلى ، فأراد عمر أن يرجمها فقال له عليٌّ : أَوَما علمت أنّ القلم رُفع عن ثلاث ...؟! .. الحديث.
ورواه نصير الدين في «التجريد» ، ولم يناقش القوشجي بصحّته (5).
وسيأتي نقل المصنّف (رحمه اللّه) له عن «مسند أحمد» (6).
ص: 218
وذكره ابن أبي الحديد (1) ، وذكر جواب قاضي القضاة عنه من دون أن يناقش في سنده ، لكن ذكر فيه أنّ معاذاً نبّه عمر على ذلك فقال : «لولا مُعاذ لهلك عمر».
وهو أَوْلى بالطعن على عمر ونقصه.
وأمّا استنكار الخصم للطعن في عمر ، مستدلاًّ بما روي عن ابنه ..
فمن الظرائف ؛ لأنّه استدلّ على علمه بروايتهم - وهي ليست حُجةً علينا - عن ابنه ، وهو محلّ التهمة ، وترك ما يشاهده الناس من كثرة جهله.
على أنّ الخصم سيُصرّح في أنّ رؤيا الأنبياء من الخياليات كرؤيا سائر الناس ، فلا عبرة بها!
ص: 219
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
ومنها : أنّه منع من المغالاة في المهر ، وقال : «من غالى في مهر ابنته جعلته في بيت المال» ؛ بشبهة أنّه رأى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) زوّج فاطمة (عليها السلام) بخمسمئة درهم.
فقامت امرأة إليه ونبّهته بقوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) (2) على جواز ذلك.
فقال : كلُّ الناس أفقهُ من عمر ، حتّى المخدّرات في البيوت (3).
واعتذار قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك المغالاة والتواضع في قوله : «كلّ الناس أفقه من عمر» ، خطأٌ ؛ فإنّه لا يجوز ارتكاب المحرّم ؛ وهو أخذ المهر وجعله في بيت المال لأجل فعل مستحبّ (4).
ص: 220
والرواية منافية ؛ لأنّ المرويّ أنّه حرّمه ومنعه حتّى قالت المرأة : «كيف تمنعنا ما أحلّ اللّه لنا في محكم كتابه؟!» (1).
وأما التواضع ؛ فإنّه لو كان الأمر كما قال عمر لاقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ ، ولو كان العذر صحيحاً ، لكان هو المصيب والمرأة مخطئة!
ص: 221
وقال الفضل (1) :
شأن أئمّة الإسلام وخلفاء النبوّة أن يحفظوا صورة سنة رسول اللّه في الأُمة ، فأمرهم بترك المغالاة ، والإجماع على أنّ الإمام له أن يأمر بالسنة أن يحفظوها ، ولا يختصّ أمره بالواجبات ، بل له الأمر بإشاعة المندوبات.
وهذا ممّا لا نزاع فيه ، كما أجاب قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك المغالاة والتواضع في قوله.
وأمّا تخطئة قاضي القضاة في جوابه ، فخطأٌ بيّنٌ ؛ لأنّه لم يرتكب المحرّم ، بل هدّد به ، وللإمام أن يُهدد ويُوعد بالقتل والتعزير والاستصلاح ، فأوعد الناس وهددهم بأخذ المال إن لم يتركوا المغالاة ، فلا يكون ارتكاب محرّم.
ولم يرووا أنّه أخذ شيئاً من المهور الغالية ووضعها في بيت المال ، ولو فعله لارتكب محرّماً على زعمه.
ثمّ قال : «والرواية منافية ؛ لأنّ المرويّ أنّه حرّمه».
فهذا غير مسلّم ، ولمّا كان ظاهر أمره ينافي ما ذكرته المرأة من جواز المغالاة بنصّ الكتاب رجع وتواضع بقوله : «كلّ الناس أفقه من عمر».
وقد كان عمر رجّاعاً إلى أحكام اللّه ، وقافاً عند كتاب اللّه.
وكان متواضعاً غاية التواضع والخشوع عند ذِكر اللّه ، حتّى إنّه قيل :
ص: 222
قال له رجل : اتّقِ اللّه ، فوضع خده على الأرض (1).
وهذا من كمال تواضعه.
وأمّا قوله : «لو كان الأمر كما قال عمر ، لاقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ» ، فهذا كلامٌ بيّنُ البطلان ؛ فإنّ عمر تواضع بقوله : «كلّ الناس أفقه من عمر».
وهذا التواضع لا يقتضي إظهار القبيح ، ولا تصويب الخطأ ، لا أنّه تواضع بترك الحقّ والصحيح ، وأخذ الباطل وتقريره ، حتّى يلزم ما يقول.
ص: 223
لا ريب بحسن الحثّ من كلّ مسلم على سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والترغيب بها ، ولكنّ الكلام في تحريم ما أحلّ اللّه ورسوله كما فعل عمر في المقام.
ودعوى أنّه لم يُحرّم المغالاة وإنْ هدّد عليها ، باطلة ؛ لأنّ صريح ما وقع منه التحريم ، بشهادة ما نقله في «كنز العمّال» (1) ، عن سعيد بن منصور ، والبيهقي ، عن الشعبي ، قال : «خطب عمر بن الخطّاب ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وقال : ألا لا تُغالوا في صداق النساء ، وإنّه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول اللّه ، أو سيق إليه ، إلاّ جعلت فضل ذلك في بيت المال.
ثمّ نزل ، فعرضت له امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين! لَكتابُ اللّهِ أحقُّ أن يتّبع أم قولُك؟!
قال : كتاب اللّه ؛ فما ذاك؟!
قالت : نهيتَ الناس آنفاً أن يتغالوا في صداق النساء ، واللّه تعالى يقول في كتابه : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) (2).
فقال عمر : كلّ أحد أفقه من عمر - مرّتين أو ثلاثة -.
ص: 224
ثمّ رجع إلى المنبر فقال للناس : إنّي كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء ، فليفعل رجلٌ في ماله ما بدا له».
ثمّ نقل في «الكنز» نحوه ، عن سعيد بن منصور ، وأبي يعلى ، والمحاملي ، عن مسروق (1).
ثمّ نقل عن عبد الرزّاق ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن السُلمي ، قال : «قال عمر : لا تُغالوا في مهور النساء!
فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر! إنّ اللّه يقول : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) من ذهب.
قال : وكذلك هي قراءة ابن مسعود.
فقال عمر : إنّ امرأة خاصمت عمر فخصمته» (2).
ثمّ نقل في «الكنز» أيضاً ، عن الزبير بن بكّار في «الموفّقيّات» ، وابن عبد البرّ في «العلم» ، عن عبد اللّه بن مصعب ، قال : «قال عمر : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقيّة! فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقالت امرأة : ما ذاك لك!
قال : ولِمَ؟!
قالت : لأنّ اللّه تعالى يقول : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) الآية.
ص: 225
فقال عمر : امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ» (1).
ونحو ذلك في «شرح النهج» (2).
وروى في «الدرّ المنثور» هذه الأحاديث وغيرها في تفسير الآية ، وقال في حديث مسروق : «سنده جيّد» (3).
وهي صريحة في تحريم عمر للمغالاة وإقراره بالخطأ.
وقد ادّعى الحاكم في «المستدرك» (4) تواتر الأسانيد الصحيحة بخطبة عمر ؛ قال : «وفي هذا الباب لي مجموعٌ في جزء كبير».
فقد ظهر أنّه لا وجه لحمل عمر على طلب الاستحباب والتواضع بعد صراحة الأخبار في التحريم ، والإقرار بالخطأ.
مع أنّ حمله على الاستحباب لا يلائم التهديد بارتكاب الحرام ؛ وهو جعل المهر في بيت المال ؛ فإنّه لا يصحّ تهديد شخص على ترك نافلة الليل والصدقة المستحبّة بأنّه لو ترك النافلة لَقتَلَه وأخَذَ ماله.
بل لا يصحّ التهديد على ترك الواجب وفِعل الحرام ، إلاّ بما يسوّغه الشرع من الحدود والتعزيرات ونحوها.
فلا يجوز أن يُهدد تاركُ الصلاة أو شاربُ الخمر بأن يُزنى بأُمه ، أو يُقتل أخوه ، أو يؤخذ مالُه ؛ ضرورة أنّ التهديد إنّما يصحّ بما يمكن للفاعل أن يفعله ويسوغ له شرعاً إذا كان مقيّداً بالشرع.
ص: 226
وهذا هو مراد المصنّف في تخطئة القاضي.
ولا تتوقف تخطئتُه على ارتكاب عمر للحرام وأخذ شيء من المهور ووضعه في بيت المال ، كما تخيّل الخصم أنّه مراد المصنّف (رحمه اللّه).
وأيضاً : لو كان عمر مريداً للاستحباب أوّلا والتواضع أخيراً ، لكان بتواضعه بإظهار خطأ نفسه مُظهراً للقبيح ؛ وهو إرادة التحريم والتهديد على مخالفته ، ومصوِّباً لخطأ المرأة في حملها له على التحريم ؛ وهذا ليس من أفعال العقلاء!
وأمّا قوله : «كان عمر رجّاعاً إلى أحكام اللّه ، وقّافاً عند كتاب اللّه» ..
فمحلُّ نظر ؛ بشهادة مخالفته للكتاب في أمر الخمس (1) ، والزكاة (2) ، والمتعتين (3) ، وغيرها (4) ، وعدم رجوعه إلى حكمه.
ص: 227
نعم ، كان يرجع في كثير من المسائل عمّا يراه إلى رأي آخر ؛ لتسرّعه وتحيّره ؛ كما في أحكام الإرث (1) ، والحدود (2) ..
وربّما يرجع نادراً إلى حكم اللّه - كما في المقام - ؛ لاتّضاح خطئه وافتضاح رأيه ، وعدم المقتضي لإصراره على الخطأ ..
ومع ذلك هو مُصرٌّ حيث يسعه ..
فقد حكى في «كنز العمّال» - قبل الأحاديث التي ذكرناها سابقاً - ،
ص: 228
عن ابن أبي شيبة ، عن نافع ، قال : «تزوّج ابن عمر [صفيّة] على أربعمئة درهم ، فأرسلتْ إليه أنّ هذا لا يكفينا ؛ فزادها مئتين سرّاً من عمر» (1).
وأما قوله : «كان متواضعاً غاية التواضع» ..
فمحلُّ نظر أيضاً ، بدليل كثرة إهانته للناس ، وتحقيره لهم ، وضربه لهم بالدرّة بلا سبب شرعي (2).
* * *
ص: 229
قال المصنّف - رفع اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه تسوّر على قوم ، ووجدهم على منكَر ، فقالوا : أخطأتَ من جهات :
تجسّست ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (2) ..
ودخلت الدار من غير الباب ، واللّه تعالى يقول : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (3) ..
ودخلت بغير إذن ، وقد قال اللّه تعالى : ( لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) (4) ..
ولم تسلّم ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) (5).
فلحقه الخجل (6).
ص: 230
أجاب قاضي القضاة بأنّ له أن يجتهد في إزالة المنكر ، ولحقه الخجل ؛ لأنّه لم يصادف الأمر على ما قيل له (1).
وهذا خطأ ؛ لأنّه لا يجوز للرجل أن يجتهد في محرّم ومخالفة الكتاب والسنة ، خصوصاً مع عدم علمه ، ولا ظنّه ؛ ولذا ظهر كذب الافتراء على أُولئك (2).
ص: 231
وقال الفضل (1) :
جواب قاضي القضاة صحيح ، وتخطئته خطأ ظاهر ؛ لأنّ هذا ليس من الاجتهاد في الحرام ؛ فإنّ الاجتهاد في الحرام فيما لم يكن للحكم الحرام معارِض ، وها هنا ليس كذلك ؛ لأنّ إزالة المنكر على المحتسب والإمام واجب بقدر الوسع والإمكان ، فهذا يجوّز التجسّس ؛ لأنّه من جملته ، ومع الإزالة.
فكان التجسّس لإزالة المنكر خارجاً عن حكم مطلق التجسّس ، فيجوز فيه الاجتهاد.
ألا يرى أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحمير الأهليّة (2) - مع أنّ الكسر إتلاف مال الغير - وهو حرام ؛ للنصّ والإجماع ، ومع ذلك أمر به ؛ لأنّ إزالة المنكر كانت تدعو إلى ذلك.
فإزالة المنكر إذا دعت إلى أمر لا يتيسر الإزالة إلاّ به ، يجوز للمحتسب (3) الإقدام عليه.
ص: 232
أَما سمعت أنّ المحتسب له أن يكسر الدِّنان (1) التي فيها الخمر إذا لم يتيسر الإهراق بدون الكسر.
ويجوز أنّ عمر اجتهد ؛ فدخل الدار وتجسّس على ما ذكرنا ، ثمّ لما ذكّروه القرآنَ تغيّر اجتهاده فتركهم وخرج.
وأمثال هذه الأُمور لا يبعد عن أئمة العدل.
ص: 233
لا يخفى أنّ النهي عن المنكر لا يتحقّق إلاّ مع إحراز وجود المنكر ، أو إحراز العزم عليه ؛ وبخلافه التجسّس ، فإنّه لا يتحقّق إلاّ مع الشكّ في ما يُتجسّس عنه.
فحينئذ إذا قام دليلٌ على وجوب النهي عن المنكر ، ودليلٌ على حرمة التجسّس ، لم يقع بينهما تزاحم أصلا ، لتباين موضوعيهما ، فلا وجه لدعوى خروج التجسّس لإزالة المنكر عن حكم مطلق التجسّس.
ولو سُلّمت المزاحمة ، فالمقتضي لحرمة التجسّس أهمّ وأقوى من مقتضى وجوب النهي عن المنكر ، فيلزم القول بحرمة التجسّس تقديماً لها على وجوب النهي عن المنكر المحتمل.
ويدلّ عليه ما حكاه في «كنز العمّال» (1) ، عن عبد الرزّاق ، والحاكم ، والبيهقي ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وغيرهم ، عن ابن
ص: 234
مسعود ، من حديث طويل رواه عنه ابن (1) أبي ماجد الحنفي ، قال : «أوّلُ رجل قُطع من المسلمين رجلٌ من الأنصار ، أُتي به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فكأنّما أُسِفَّ (2) في وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رمادٌ.
فقالوا : يا رسول اللّه! كأنّ هذا شقّ عليك؟!
فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم ، إنّ اللّه عفوٌّ ، يحبُّ العفو ، وإنّه لا ينبغي لوال أن يؤتى بحدّ إلاّ أقامه ؛ ثمّ قرأ : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) (3)».
ونقل أيضاً نحوه عن الديلمي ، عن ابن عمر (4).
و (5) عن عبد الرزّاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب.
ونقل أيضاً (6) ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قام بعد أن رجم الأسلمي ، فقال : «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى اللّه عنها ، فمن ألَمّ بشيء منها
ص: 235
فليستَتِرْ».
إلى غير ذلك من الأحاديث الناهية عن الفضيحة وطلب الستر (1).
بل نقل في «الكنز» (2) ، عن عبد الرزّاق ، وهناد ، وابن عساكر ، عن أبي الشعثاء ، قال : «استعمل عمر بن الخطّاب ، شُرَحْبيل بن السِّمْط (3) على مَسْلَحة (4) دون المدائن ، فقام شرحبيل فخطبهم ، فقال : أيّها الناس! إنّكم في أرض ، الشرابُ فيها فاش ، والنساءُ فيها كثيرٌ ، فمَن أصاب
ص: 236
منكم حداً فليأتنا ، فلنقم عليه الحد ؛ فإنّه طَهورُه.
فبلغ ذلك عمر فكتب إليه : لا أُحلّ لك أن تأمر الناس أن يهتكوا سترَ اللّه الذي سترهم».
فليت شعري ، إذا لم يُحلّ عمر ذلك ، فما باله يتجسّس هو ويهتك ستر اللّه؟!
وكيف صار التجسّس عند الخصم راجحاً لإزالة المنكر ، وقد أمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالستر ، وقال لمن جاؤوا بالسارق : «أنتم أعوان الشيطان»؟!
وممّا ذكرنا يُعلم عدم صحّة قياس ما نحن فيه على كسر الدِّنان إذا توقّف إهراق الخمر عليه ؛ فإنّ التكليف بإتلاف الخمر معلومٌ على قوله ، فتجب مقدّمته وهي كسر الدِّنان ، بخلاف التكليف بالنهي عن المنكَر المحتمل ؛ فإنّه غير معلوم ، بل محكوم بالعدم ، فكيف يجب التجسّس مقدّمةً لإزالته؟!
على أنّ إتلاف الخمر أهمّ في نظر الشارع من حفظ الدِّنان ، بخلاف النهي عن المنكَر في المقام ، فإنّ الستر على الناس أهمُّ منه ، فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.
وأمّا ما رواه من أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحُمر الأهليّة ، فكذب ؛ إذ لو سُلّم حرمة أكل لحمها ، فترك الأكل لا يتوقّف على كسر القدور ، فكيف يأمر به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ويُتلف المال بلا مقتض؟!
ولو سُلّم صحّة الرواية ، وتوجيهها بأنّ الأمر بالكسر لبيان الاهتمام بحرمة أكل الحمير ، فقياسُ ما نحن فيه على كسر القدور خطأ ؛ ضرورة أنّ الاهتمام في المقام إنّما هو بالستر على الناس ، لا بالنهي عن المنكر ،
ص: 237
حتّى يُستباح لأجله التجسّس (1).
هذا ، ومن المضحك قوله : «إنّ عمر اجتهد فدخل الدار وتجسّس ، ثمّ لما ذكّروه القرآن تغيّر اجتهاده».
فإنّ هذا في الحقيقة تسليم لجهل عمر - أوّلا - بالأُمور الواضحة المخالفة للكتاب والسنة ، وهو المطلوب.
ولا أدري كيف يكون مجتهداً مَن يجهل صريح القرآن ولا يعرفه إلاّ بتذكير بعض جهّال الرعيّة وعصاة البريّة؟!
ثمّ إنّ قول قاضي القضاة : «ولحقه الخجل ؛ لأنّه لم يصادف الأمر على ما قيل له» ، خلاف المرويّ من الواقعة ، فإنّهم رووا أنّه تسوّر فصادف ما صادف ابتداءً من دون أن يسبق له من أحد قول بذلك.
فقد ذكر الغزّالي في «إحياء العلوم» (2) ، أنّ عمر سمع وهو يعسُّ بالمدينة صوت رجل يتغنّى في بيته ، فوجد عنده امرأة وعنده خمر ، فقال : يا عدوَّ اللّه! أظننت أنّ اللّه يسترك وأنت على معصيته؟!
فقال : إن كنتُ - أنا - عصيتُ اللّه في واحدة ، فقد عصيتَه أنت في ثلاث ؛ قال اللّه تعالى : ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (3) وقد تجسّست.
ص: 238
وقال : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) (1) ، وقد تسوّرت.
وقال : ( لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ... ) (2) الآية ، وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام.
فقال عمر : هل عندك من خير إن عفوت عنك؟
قال : نعم ؛ فتركه وخرج».
ومثله في «شرح النهج» (3).
ثمّ إنّ لعمر خطأً آخر ، وهو أنّه لم يُهرق الخمر وترك الرجل على حال لا تؤمَن منه المعصية ، بل على حال المعصية إن كانت المرأة أجنبيّة!
وأيضاً : إن كان موجب الحدّ والتعزير والنهي صادراً ، لم يجز له العفو ، وإلاّ فلا محلّ له!
هذا ، ويظهر من أخبارهم أنّ لعمر قصّة أُخرى تجسّس بها ، رواها ابن الأثير في «الكامل» (4) ، قال : «إنّ عمر وعبد الرحمن بن عوف أتيا السوق ، فقعدا على نشز (5) من الأرض يتحدّثان ، فرُفع لهما مصباح ، فقال عمر : ألم أنهَ عن المصابيح بعد النوم؟!
فانطلقا فإذا قوم على شراب لهم ، قال : انطلق فقد عرفتُه ؛ فلمّا
ص: 239
أصبح أرسل إليه ، قال : يا فلان! كنتَ وأصحابك البارحة على شراب.
قال : وما علمُك؟
قال : شيءٌ شهدتُه.
قال : أَوَلمْ ينهك اللّه عن التجسّس؟! فتجاوز عنه».
ومثله في «تاريخ الطبري» (1).
وليت شعري ، كيف لم ينهه وأصحابَه بعد التجسّس والاطّلاع؟! وما وجه تجاوزه عن الحد بعد العلم؟!
* * *
ص: 240
قال المصنّف - قدّس سرّه - (1) :
ومنها : إنّه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز ، حتّى إنّه أعطى عائشة وحفصة في كلّ سنة عشرة آلاف درهم (2).
وحرّم على أهل البيت خُمسَهم (3).
وكان عليه ثمانون ألف درهم لبيت المال (4).
ومنع فاطمة (عليها السلام) إرثها ، ونِحلَتها التي وهبها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لها (5).
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه يجوز أن يُفضل النساء (6).
ص: 241
وهو خطأ ؛ لأنّ التفضيل إنّما يكون لسبب يقتضيه ؛ كالجهاد وغيره (1).
ص: 242
وقال الفضل (1) :
قد سبق أنّ عمر لمّا كثرت الغنائم واتّسع الفيء والخراج ، جعل لكلّ من أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عشرة آلاف ، وكان ذلك بمشاورة الصحابة ، وفيهم عليّ.
وأعاد فدك على بني هاشم ليعملوا فيها كيف شاؤوا.
فإعطاءُ النساء - اللاتي هنّ أُمّهاتُ المؤمنين ، ولم يجز لهنّ التزويج بحال - ممّا لا يجوز الطعن فيه ، سيّما إذا كانت الغنائم وأموال المصالح كثيرة.
وأمّا تفضيل بعضهنّ فممّا لا نقل فيه صحيح ؛ وإنْ صحَّ ، فله التفضيل ، كما قال قاضي القضاة (2).
والسبب المقتضي لا ينحصر في الجهاد ؛ لأنّ بعضهنّ ربّما كان أكثر مؤنةً من بعض.
وأمّا قوله : «كان عليه ثمانون ألف درهم لبيت المال».
فهذا ظاهر البطلان ؛ لأنّ الناس يعلمون أنّ عمر لم يكن يتّسع في معاشه ، بل كان يعيش عيش فقراء الحجاز ، فكيف أخذ من بيت المال هذا؟!
وإن أخذه فربّما صرفه في الجهات التي تدعو إلى الصرف فيها
ص: 243
مصالح الخلافة.
وأما منع فاطمة إرثها ونحلتها ؛ فإنّ فاطمة لم تكن حيّةً في زمان خلافته ، وقد سمعت في ما مضى تفصيل قصّة فدك ، وإنّ عمر ردّها إلى بني هاشم (1).
* * *
ص: 244
لا يجوز إعطاء نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من غير تركته بمقتضى وصيّته المذكورة بأخبارهم ، كالذي رواه البخاري (1) ومسلم (2) ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي ، فهو صدقة».
ولو سُلّم عدم دلالة مثل هذا الخبر على تعيّن نفقة نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ممّا ترك ، فلا وجه لتفضيل نسائه على الرجال.
فإنّ التفضيل إن كان بالفضل ، فأمير المؤمنين ، وجملة من الصحابة أفضل منهنّ.
وإن كان بالقرب من النبيّ ، فعليٌّ وأبناء فاطمة أقرب إليه منهنّ.
وإن كان بالجهاد والنفع في الإسلام ، فلا جهاد لهنّ ، وكون غيرهنّ أنفع ؛ لأنّهنّ مأمورات بأن يَقرْنَ في بيوتهنّ ، ولا يتبرّجن للرجال (3).
وإن كان بكثرة المؤنة ، فكثير من الرجال أكثر منهنّ مؤنة ، وقد كنّ في أيّام النبيّ يَعِشنَ بأبسط عيش ، وكونهنّ أُمّهات المؤمنين أَوْلى بأن يساوين أبناءهنّ ، وأَوْلى بأن يساوين أيامى المؤمنين ؛ ليكنّ أُسوةً لغيرهنّ
ص: 245
كما كنّ في حياة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أُسوةً للغير.
فما بال عمر يريد أن يُدخلهُنّ في زيّ أهل الثراء وأُبّهة الملوك وترفهم ، ويُدخل الحسرة في قلوب الفقراء والأيامى؟!
كما أنّ تحريم التزويج عليهنّ لا يقتضي أكثر من الإنفاق عليهنّ بنحو ما تعوّدنه ، لا ذلك الإنفاق العظيم ، ولا سيّما مع إمكان أن تدخل حفصة في عياله ، وكذا جملة من نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى أهاليهنّ.
وهذا التفضيل قد رواه جماعة من القوم ، منهم الطبري في «تاريخه» (1) ، وابن الأثير في «كامله» (2) ، وذكرا أنّ فرضَ نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ضعفُ فرضِ أهل بدر ، وفرضُهم خمسة آلاف درهم ، ثمّ تدرّج الفرض في النقصان إلى مئتين.
ومثله في «شرح النهج» (3) ، عن أبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ الجوزي في «أخبار عمر وسيرته».
وأما قوله : «كان هذا بمشاورة الصحابة ومنهم عليّ».
فكذب ظاهر ؛ لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يرى التفضيل في العطاء ، وكان يَقسِم بالسويّة.
وقسمته (عليه السلام) بالسويّة - بعد تفضيل عمر - هي التي أوجبت خروج طلحة والزبير عليه ؛ إذ علّمهم عمر الترف ، وغرس في قلوبهم حبّ المال وجمعه ، فكان التفضيلُ أحدَ أسباب الفتن.
ص: 246
وإنّما أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يزيد على غير أهل بدر ؛ لأنّه بعض حقه من الخمس ، وكذا الحسنان (عليهما السلام).
وبالجملة : تفضيل عائشة وحفصة وباقي نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على كبار المسلمين - كأمير المؤمنين وغيره - لا وجه له سوى الهوى والحيف ، ولا سيّما مع منع أهل البيت خمسهم ، ومنع سيّدة النساء إرثها ونحلتها ، بمشاركته لأبي بكر في منعها حينما كانت حيّة ، وباستمراره عليه بعد وفاتها ؛ إذ لم يرجعه إلى ورثتها ، فكان مانعاً لها بمنعهم.
ولا يخفى أنّ تفضيل نساء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على الرجال هو محلّ كلام المصنّف (رحمه اللّه) ، لا تفضيل بعضهنّ على بعض ليشكّك الخصم في صحّته.
على أنّ الحاكم في «المستدرك» (1) قد روى تفضيل بعضهنّ على بعض ، وصححه على شرط الشيخين ، عن سعد ، قال : «كان عطاء أهل بدر ستّة آلاف ستّة آلاف ، وكان عطاء أُمّهات المؤمنين عشرة آلاف عشرة آلاف لكلّ امرأة منهنّ ، غير ثلاث نسوة ..
عائشة ؛ فإنّ عمر قال : أُفضّلها بألفين ؛ لحبّ رسول اللّه إيّاها.
وصفية وجويرية ، سبعة آلاف سبعة آلاف».
وروى الحاكم - أيضاً - ، عن مصعب بن سعد ، أنّ عمر فرض لأُمّهات المؤمنين عشرة آلاف ، وزاد عائشة ألفين (2).
وأما إنكاره لاقتراض عمر من بيت المال ، فلا وجه له بعدما
ص: 247
استفاضت روايته عندهم.
فقد رواه في «كنز العمّال» ، في وفاة عمر ، عن عثمان بن عروة (1) ، وجابر (2).
ورواه أيضاً الطبري في «تاريخه» (3) ، وابن الأثير في «كامله» (4) ، لكنّهما لم يعيّنا قدر ما اقترضه.
وتعليله لعدم صحّة الاقتراض بأنّه لم يكن يتّسع في معاشه ، وكان يعيش عيش فقراء الحجاز ، خطأ ؛ فإنّا لا نسلّم له إلاّ الزهد في الظاهر!
كيف؟! والزاهد - الصادق في زهده - حقيق بأن يطلب لابنته ما يطلب لنفسه ، لا سيّما وقد اعتادت في أيّام النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على جشوبة (5) العيش! فما باله أعطاها ما أعطاها من مال المسلمين - وهي واحدة - ويمكن أن تدخل في جملة عياله؟!
وأمّا قوله : «وإن أخذه فربّما صرفه في الجهات التي تدعو إلى الصرف فيها مصالح الخلافة».
فإنْ أراد به المصالح العامة ، فلا وجه له ؛ لأنّها من بيت المال.
وإنْ أراد به الخاصّة به ، فلا وجه لدخلها بمصالح الخلافة.
وأما ما زعمه من أنّ عمر ردّ فدك لبني هاشم ، فقد أوضحنا لك
ص: 248
كذبه في مآخذ أبي بكر ، وبيّنّا أنّ رواياتهم مختلفة في أنّه ردّ صدقة النبيّ بالمدينة أو سهم بني النضير (1).
ص: 249
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّه عطّل حدّ اللّه تعالى في المغيرة بن شعبة لمّا شُهِد عليه بالزنا ، ولَقنَ الشاهدَ الرابع الامتناع من الشهادة ، وقال له : أرى وجهَ رجل لا يفضح اللّه به رجلا من المسلمين!
فلَخلَخَ (2) في شهادته ؛ اتّباعاً لهواه ، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وفضحهم.
فتجنّب أن يفضح المغيرة ، وهو واحد قد فعل المنكر ووجب عليه الحدّ ، وفضح ثلاثة ، مع تعطيله حكم اللّه ، ووضعه الحدّ في غير موضعه (3).
ص: 250
أجاب قاضي القضاة بأنّه أراد صرف الحد عنه ، واحتال في دفعه (1).
قال السيّد المرتضى : كيف يجوز أن يحتال في صرف الحدّ عن واحد ويوقع ثلاثة فيه وفي الفضيحة؟! مع أنّ عمر كان كلّما رأى المغيرة يقول : قد خفت أن يرميني اللّه بحجارة من السماء! (2).
ص: 251
وقال الفضل (1) :
قصة المغيرة على ما ذكره المعتمَدون من الرواة ، أنّه كان أميراً بالكوفة ، وكان الناس يُبغضونه ، فأخذوا عليه الشهود أنّه زنى ، وأتوا عمر ، فأحضره من الكوفة.
فشهد عليه واحدٌ منهم ، فقال عمر لمغيرة : قد ذهب ربعك!
فلمّا شهد اثنان ، قال : قد ذهب نصفك!
فلمّا شهد الثالث ، قال : قد ذهب ثلاثة أرباعك!
فلمّا بلغ نوبة الشهادة إلى الرابع ، أدّى الشهادة بهذه الصفة : إنّي رأيته مع المرأة في ثوب ملتحفَين به ، وما رأيت العضوَ في العضو كالمِروَد في المِكحَلة.
فسقط الحد عن المغيرة.
فقال المغيرة : يا أمير المؤمنين! انظر كيف كذبوا علَيَّ!
فقال له عمر : اسكت! فلو تمّ الشهادة لكان الحجر في رأسك.
هذا رواية الثقات ، ذكره الطبري في «تاريخه» بهذه الصورة ، وذكره البخاري في «تاريخه» ، وابن الجوزي ، وابن خلّكان ، وابن كثير ، وسائر المحدّثين ، وأرباب التاريخ في كتبهم.
وعلى هذا الوجه هل يلزم طعن؟!
وأما على روايته ، فليس فيه طعن أيضاً ؛ لأنّه لوّح إلى الشاهد
ص: 252
بترك الشهادة ، فهذا مندوب إليه ؛ لأنّ الإمام يجب عليه دَرْء الحدّ بالشبهات ، وله أن يندب الناس بإخفاء المعاصي.
كيف لا؟! وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ... ) (1) الآية.
وأما تفضيح الثلاثة ؛ لأنّهم فضحوا أميراً من أُمراء الإسلام ، وكان عمر يعرف غرضهم ، ومع ذلك أجرى عليهم حدّ القذف ، فلا طعن.
ص: 253
قبحُ الكذب عقليٌّ وشرعيٌّ ، ولا سيّما في مقام تحقيق المذهب الحقّ الذي يَسأل اللّهُ العبدَ عنه ، وأقبحُ منه عدمُ المبالاة به ، وعدمُ الحياء ممّن يطلع عليه.
أنت ترى هذا الرجل يفتعل قصّة وينسبها إلى كتب معروفة ، وما رأيناه منها خال عن أكثر هذه القصّة ؛ ك «تاريخ الطبري» ، و «وفيات الأعيان».
ويشهد بكذبه ، وأنّه لم يرَ هذه الكتب وغيرها ، ما نسبه إلى المعتمَدين ، من أنّ المغيرة كان أميراً بالكوفة ، وهو خلاف ما ذكره عامّة المؤرّخين ، مِن أنّه كان أميراً بالبصرة ، وأوقع هذه الواقعة فيها.
ولنذكر ما في «تاريخ الطبري» ، و «وفيات الأعيان» ؛ لتعلم كذبه في ما نسبه إليهما ، وتستدلّ به على كذبه في ما نسبه إلى غيرهما.
قال الطبري في حوادث سنة سبع عشرة (1) : «وفي هذه السنة ولّى عمرُ أبا موسى البصرة ، وأمره أن يُشخِص إليه المغيرةَ في ربيع الأوّل.
فشهد عليه - في ما حدّثني معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيّب - :
ص: 254
قال : وحدّثني محمّد بن يعقوب بن عتبة ، عن أبيه ، قال : كان يختلف إلى أُمّ جميل (1) ، امرأة من بني هلال ... فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه.
فخرج المغيرة يوماً حتّى دخل عليها ، وقد وضعوا عليها الرصد ، فانطلق القوم الّذين شهدوا جميعاً فكشفوا الستر وقد واقعها».
ثمّ ذكر الطبري ، ومثله ابن الأثير في «كامله» (2) - واللفظ غالباً للطبري - ، أنّ المغيرة كان ينافره أبو بكرة عند [كلّ] ما يكون منه ، [وكانا بالبصرة ،] وكانا متجاورين وبينهما طريق ، وكانا في مَشربتين متقابلتين لهما في داريهما ، في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأُخرى.
فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدّثون في مشربته ، فهبّت ريح ففتحت باب الكوّة ، فقام أبو بكرة ليصفقه ، فبصر بالمغيرة - وقد فتحت الريح باب كوّة مشربته - وهو بين رِجْلَي امرأة.
ص: 256
فقال للنفر : قوموا فانظروا!
فقاموا فنظروا ..
ثمّ قال : اشهدوا!
قالوا : ومَن هذه؟!
قال : أُمّ جميل!
وكانت غاشيةً للمغيرة ، وتغشى الأُمراء والأشراف.
فقالوا : إنّما رأينا أعجازاً ، ولا ندري ما الوجه؟
ثمّ إنّهم صمّموا حين قامت» (1).
وقال ابن الأثير : «فلمّا قامت عرفوها» (2).
إلى أن قالا : «ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود ، فقدموا على عمر» (3).
إلى أن قالا : «فبدأ بأبي بكرة ، فشهد أنّه رآه بين رِجْلَي أُمّ جميل ، وهو يُدخله ويُخرجه كالميل في المكحلة.
قال : كيف رأيتهما؟
قال : مستدبرهما.
قال : فكيف استثبتّ رأسها؟!
قال : تحاملت.
وشهد شبل ونافع مثل ذلك.
وأمّا زياد ، فإنّه قال : رأيته جالساً بين رِجْلَي امرأة ، فرأيت قدمين
ص: 257
مخضوبتين ، واستَين (1) مكشوفتين ، وسمعت حفزاً (2) شديداً.
قال : هل رأيت كالميل في المكحلة؟
قال : لا.
قال : هل تعرف المرأة؟
قال : لا ، ولكن أُشبّهها.
قال : فتنحّ! وأمر بالثلاثة فجُلدوا الحدّ» (3).
انتهى ملخّصاً.
وإليك ما ذكره في «وفيات الأعيان» ، في آخر ترجمة يزيد بن زياد ابن ربيعة بن مُفرّغ ، ولنذكر ملخّصه ، قال : إنّ عمر رتّب المغيرة أميراً على البصرة ، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار ، وكان أبو بكرة يلقاه ويقول : أين يذهب الأمير؟
فيقول : في حاجة.
فيقول : إنّ الأمير يُزار ولا يزور.
قالوا ، وكان يذهب إلى امرأة يقال لها : أُمّ جميل ، زوجها الحجّاج بن عتيك (4).
فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته نافع ، وزياد ، وشبل بن معبد ،
ص: 258
أولاد سميّة ، وكانت أُمّ جميل في غرفة أُخرى قُبالة هذه الغرفة ، فضربت الريح باب غرفة أُمّ جميل ففتحته ، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع.
فقال أبو بكرة : هذه بليّة قد ابتُليتم بها ، فانظروا!
فنظروا حتّى أثبتوا» (1).
ثمّ ذكر حضورهم عند عمر للشهادة ، وشهادة الثلاثة بنحو ما ذكره الخصم ... إلى قول عمر : ذهب ثلاثة أرباعك.
ثمّ ذكر تلويح عمر لزياد - الذي أنكره الخصم - ، قال : قال عمر لمّا رأى زياداً مُقبلا : إنّي أرى رجلا لا يُخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين ؛ ثمّ رفع رأسه إليه فقال : ما عندك يا سَلْحَ الحُبارى (2)؟! (3).
ثمّ ذكر نحو ما سننقله عن أبي الفرج في كيفيّة شهادة زياد ... إلى قول عمر : ما رأيتك إلاّ خفتُ أن أُرمى بحجارة من السماء (4).
وذكر أيضاً أنّ عمر بن شبّة : قال في كتاب «أخبار البصرة» : «إنّ أبا بكرة لمّا جُلد أمرت أُمّه بشاة فذُبحت وجعلت جلدها على ظهره ، فكان
ص: 259
يقال : ما ذاك إلاّ من ضرب شديد» (1).
وذكر ابن أبي الحديد (2) - نقلا عن أبي الفرج الأصبهاني - كيفيّة الواقعة بنحو ما عرفت ، وقال في آخرها : «فلمّا رأى عمر زياداً مقبلا قال : إنّي لأرى رجلا لن يُخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين.
ثمّ قال أبو الفرج : وفي حديث أبي زيد عمر بن شبّة (3) ، عن السريّ ، عن عبد الكريم بن رشيد ، عن أبي عثمان النهدي ، أنّه لمّا شهِد الأوّل عند عمر ، تغيّر لذلك لون عمر.
ثمّ جاء الثاني ، فشهِد ، فانكسر انكساراً شديداً.
ثمّ جاء الثالث ، فشهِد ، فكأنّ الرماد نُثر على وجه عمر.
فلما جاء زياد ، جاء شابّاً يَخطرُ (4) بيديه ، فرفع عمر رأسه إليه ، وقال : ما عندك أنت يا سَلْحَ العُقاب؟!
وصاح أبو عثمان النهدي صيحةً تحكي صيحة عمر.
قال عبد الكريم : لقد كدتُ أن يُغشى علَيَّ لصيحته».
إلى أن قال : «قال : يا أمير المؤمنين! أمّا أنْ أُحِقَّ ما حقَّ القوم ،
ص: 260
فليس عندي ؛ ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً ، وسمعت نَفَساً حثيثاً وانبهاراً (1) ، ورأيتُه متبطنها.
فقال : أرأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة؟
قال : لا.
قال أبو الفرج : وروى كثير من الرواة أنّه قال : رأيته رافعاً برجليها ، ورأيت خصيتيه متردّدتين بين فخذيها ، وسمعت حفزاً شديداً ، وسمعت نفَساً عاليا.
فقال عمر : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟
قال : لا.
فقال عمر : اللّه أكبر! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم»!
إلى أن قال : «وأعجبَ عمرَ قولُ زياد ، ودرأ الحدّ عن المغيرة.
فقال أبو بكرة بعد أن ضُرب : أشهد أنّ المغيرة فعل كذا وكذا.
فهمَّ عمر بضربه ، فقال عليٌّ : إنْ ضربته رجمتُ صاحبَك! ونهاه عن ذلك.
قال أبو الفرج : يعني : إنْ ضربته تصير شهادته شهادتين ، فيوجب بذلك الرجمَ على المغيرة».
إلى أن قال : «فلمّا ضُربوا الحدّ قال المغيرة : اللّه أكبر! الحمد لله الذي أخزاكم.
فقال عمر : اسكت! أخزى اللّه مكاناً رأَوْكَ فيه».
ص: 261
إلى أن قال : «وحجّ عمر بعد ذلك مرّةً ، فوافق الرقطاء بالموسم فرآها ، وكان المغيرة يومئذ هناك ، فقال عمر للمغيرة : ويحك! أتتجاهل علَيّ؟! واللّه ما أظنّ أنّ أبا بكرة كذَب عليك ، وما رأيتُك إلاّ خِفتُ أن أُرمى بحجارة من السماء.
قال : وكان عليٌّ بعد ذلك يقول : إنْ ظفرتُ بالمغيرة لأُتبعنّه الحجارة».
ثمّ إنّ رواية الطبري وابن الأثير ، وإن لم تشتمل على تلويح عمر إلى زياد بترك الشهادة ، لكنّها لا تنافي الروايات الكثيرة المصرّحة بتلويحه ، وقد سمعتَ بعضها.
ومنها : ما نقله في «كنز العمال» (1) ، عن البيهقي ، عن قَسَامة (2) ابن زهير ، قال : لمّا كان من شأن أبي بكرة والمغيرة الذي كان ، ودعا الشهود فشهِد أبو بكرة ، وشهِد ابن معبد ، ونافع ، فشقّ على عمر حين شهِد هؤلاء الثلاثة.
فلمّا قام زياد قال عمر : [إنّي] أرى غلاماً كيساً لن يشهد إن شاء اللّه إلاّ بحق.
قال زياد : أما الزنا فلا أشهد به ، ولكن قد رأيت أمراً قبيحاً.
ص: 262
قال عمر : اللّه أكبر! حُدوهم!
فجلدوهم ؛ فقال أبو بكرة : أشهد أنّه زان.
فهمّ عمر أن يُعيد عليه الحدّ فيها ، فنهاه عليٌّ وقال : إنْ جَلَدتَهُ فارجم صاحبَك ؛ فتركه ولم يجلده».
ومنها : ما نقله في «الكنز» أيضاً (1) ، عن عبد الرزّاق ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : «شهد أبو بكرة ، ونافع ، وشبل بن معبد على المغيرة ، أنّهم نظروا إليه كما يُنظَرُ المِرودُ في المكحلة.
فجاء زياد ، فقال عمر : جاء رجلٌ لا يشهد إلاّ بحقّ.
فقال : رأيت مجلساً قبيحاً ، وابتهاراً ؛ فجلدهم عمر الحدّ».
ونحوه في «الإصابة» بترجمة شبل بن معبد (2).
فهذه الأخبار ونحوها صريحة الدلالة على أنّ عمر لوّح لزياد بترك الشهادة ، بل أخافه ؛ لهواه في المغيرة ، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : «صاحبك».
ودلّ عليه تغيّر حال عمر من شهادتهم ، حتّى كأنّ الرماد نُثر على وجهه.
ولو كان طالباً للحقّ وإزالة المنكر ، لجعل المغيرة عبرةً للأُمراء الّذين بهم قوامُ الدينِ وحِفظُه.
وقول الخصم : «إنْ لوّح ... فهذا مندوب إليه» ..
ص: 263
خطأٌ ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد حظر كتمان الشهادة مع طلب إقامتها (1) ، فيحرم التلويح والدعوة إلى الكتمان حينئذ ؛ لأنّه من الدعوة إلى الحرام ، بلا فرق بين أن تكون الشهادة في موجبات الحدود وغيرها (2).
نعم ، يُندب الستر على الناس في غير مقام إقامة الشهادة ، وقبل طلبها من الشاهد ، ويُندب أن يلوّح الحاكم إلى المقرّ بالرجوع عن إقراره قبل الثبوت به (3) ، وهو غير ما نحن فيه.
وأما قوله : «إنّ الإمام يجب عليه درء الحدّ بالشبهات» ..
فممّا لا ربط له بالمقام ؛ لأنّ المراد به : أنّ الفاعل إذا ادّعى شبهةً جائزةً في حقه ؛ كما لو وطأ أجنبية في مكان مظلم من داره ، وادّعى أنّه كان يراها زوجته ، فإنّه حينئذ يُدرأ عنه الحدّ ؛ لجواز الاشتباه في حقه واحتمال صدقه.
وهذا لا يقتضي ندب أن يلوّح الحاكم للشاهد بترك شهادته بما شاهده وحقّقه ، وإن كان الأمر مشتبهاً عند الحاكم.
ومن الظريف تعليله لقوله : «فهذا مندوب إليه» بقوله : «لأنّ الإمام يجب عليه درء الحد بالشبهات» ؛ فإنّ الوجوب لا يكون علّة للندب ،
ص: 264
بل للوجوب (1).
وأما قوله : «وله أن يندب الناس بإخفاء المعاصي» ..
فمسلّم في غير مقام إقامة الشهادة ، وفي غير مقام الجرح والتعديل (2).
واستدلاله على ذلك بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ... ) (3) الآية ، خطأٌ ظاهر ، وإلاّ لانسدَّ باب الشهادة في الحدود ، وباب الجرح.
ولو استدلّ بهذه الآية على ما كان يعمله عمر من التجسّس لكان أصوب!
وقوله : «وأمّا تفضيح الثلاثة ؛ لأنّهم فضحوا أميراً من أُمراء الإسلام» ..
خطأٌ آخر ؛ لأنّهم لم يفضحوه ، بل هو فضح نفسه ، وفضح الإسلام بعمله.
وفضيحتهم له بالشهادة موافقةٌ لقانون الإسلام ، فلا إنكار عليها بوجه.
وأما قوله : «وكان عمر يعرف غرضهم» ..
فمِن الرجم بالغيب!
نعم ، ذكر القوم أنّ بين بعضهم - وهو أبو بكرة - وبين المغيرة
ص: 265
منافرة عند ما يكون منه (1).
وهي - لو صحت - إنّما كانت لأعمال المغيرة المنكَرة ، التي ينبغي أن ينافره عليها كلّ مسلم.
وبالجملة : إنّ عمر قد دعا إلى كتمان الشهادة في مقام طلب إقامتها ، وهو ممّا حرّمه اللّه تعالى ؛ وفضَحَ جماعةً من المسلمين - يعلم هو وكلُّ من اطّلع على ذِكر الواقعة بصدق شهادتهم ، وعدم استحقاقهم للفضيحة - مراعاةً للمغيرة ، فتجنّبَ أن يفضح مستحقاً للفضيحة ، وفضح وضرب غير مستحقّين ؛ ولذا كان يقول إذا رأى المغيرة : «خفت أن أُرمى بحجارة من السماء» (2).
وهل يشكّ عاقل في أنّ زياداً إنّما ترك الشهادة لأجل عمر؟!
أتراه جاء من البصرة إلى المدينة ، وقطع تلك الفيافي الشاسعة لأجل أداء تلك الشهادة التي أقامها؟!
أو أنّ أصحابه عزموا على الشهادة ، وجاؤوا بصحبته حتّى أدّوا شهادتهم في الملأ ، وهم لم يعلموا أنّه يشهد بما شهدوا به ، وغرّروا بأنفسهم؟!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فلا ريب أنّه قد ثبت عند عمر - بشهادة الأربعة - أنّ المغيرة جلس من المرأة مجلس الفاحشة ، وأنّه تبطنها وجلس بين فخذيها ، وحفز عليها ، إلى نحو ذلك ، فهلاّ ضمّ إلى جلد الثلاثة تعزير المغيرة ، ولو بخفيف التعزير؟!
ص: 266
وهو - أعني عمر - قد حد الصائم حد شارب الخمر ، معلّلا بجلوسه مع السكارى ، كما نقله في «كنز العمّال» (1) ، عن أحمد بن حنبل ، في الأشربة ، فلِمَ لا عزّر المغيرة بفعله الشنيع كما فعل عليّ (عليه السلام)؟!
نقل في «الكنز» (2) ، عن عبد الرزّاق ، عن أبي الضحى ، أنّه شهد ثلاثة نفر على رجل وامرأة بالزنا ، وقال الرابع : رأيتهما في ثوب واحد ؛ فجلد عليٌّ الثلاثة وعزّر الرجل والمرأة.
وهذا التعزير واجب عند أحمد بن حنبل ؛ لأنّه يرى وجوب التعزير في كلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة ، كما حكاه عنه الشعراني في باب التعزير من كتاب «الميزان» (3).
فيكون عمر عاصياً بترك تعزير المغيرة بمذهب أحمد ، بل وبمذهب الشافعي أيضاً ؛ فإنّ الشعراني وإن نقل عنه عدم الوجوب ، لكن قال بعد ذلك : «هو خاصٌّ برعاع الناس» (4).
بل وبمذهب مالك وأبي حنيفة أيضاً ؛ لأنّهما قالا كما في «الميزان» بوجوب التعزير إذا غلب على ظنّ الحاكم أنّه لا يصلح العاصي إلاّ الضرب (5) ؛ كما هو كذلك في المغيرة ؛ لأنّه فاجر عند عمر.
فقد روى ابن عبد ربّه في أوائل «العقد الفريد» ، تحت عنوان : «اختيار السلطان لأهل عمله» ، أنّه لمّا قدم رجالٌ [من الكوفة] على عمر
ص: 267
يشكون سعد بن أبي وقّاص ، قال : مَن يعذرني من أهل الكوفة؟! إنْ ولّيتهم التقيّ ضعّفوه ، وإنْ ولّيتهم القويّ فجّروه!
فقال له المغيرة : إنّ [التقيّ] الضعيف له تقواه وعليك ضعفه ، والقويّ الفاجر لك قوّته وعليه فجوره.
قال : صدقت ، فأنت القوي الفاجر ، فاخرج إليهم!
فلم يزل عليهم أيام عمر (1).
وبالجملة : لا ريب بمعصية عمر في ترك تعزير المغيرة ولو ببعض المذاهب السنيّة!
ولو سُلّم عدم وجوب تعزيره ، فلا شكّ برجحانه ، ولا أقلّ من رجحان إهانته!
فما لعمر أبقى المغيرة في محلّ الكرامة عنده ، وهو يعلم فجوره حتّى ولاّه البصرة ثانياً بعد عتبة ، وأبي موسى ، كما ذكره الطبري - قولا - في آخر حوادث سنة سبع عشرة (2) ، وابن الأثير (3)؟!
ولو فرض أنّه لم يُعده إلى البصرة ، فلا ريب أنّه ولاّه الكوفة إلى أن مات ، كما سمعته في رواية ابن عبد ربّه.
وذكره ابن حجر في «الإصابة» بترجمة المغيرة (4).
وقال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، بترجمة المغيرة أيضاً : «لمّا شُهِد عند عمر عزله عن البصرة وولاّه الكوفة ، فلم يزل عليها إلى أن قُتل
ص: 268
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : إنّه كان يتلوّن في الأحكام ، حتّى روي عنه أنّه قضى في الجدّ بسبعين (2) قضيّة ، وروي مئة قضيّة (3).
وإنّه كان يفضّل في الغنيمة (4) والعطاء ، وقد سوّى اللّه بين الجميع (5).
وإنّه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظنّ (6).
ص: 270
وقال الفضل (1) :
أمّا تلوّنه في الأحكام ؛ فلو صحّ فإنّه من باب تغيّر الاجتهادات ، وهو كان إماماً ، ولم تتقرّر الأحكام الاجتهادية بعدُ في زمانه ، وقد عُلم علماً يقينيا أنّه كان لا يعمل برأي إلاّ بمشاورة الصحابة.
وأمير المؤمنين عليٌّ كرّم اللّه وجهه قد كان يتغيّر اجتهاده ، كما في أُمّ الولد أنّه قال : «اجتمع رأيي ورأي عمر في أُمّ الولد ، أن لا تباع ، وأنا اليوم أقول ببيعهنّ» (2).
والمجتهدون لا يخلون عن هذا.
وأمّا التفضيل في العطاء ؛ فهذا أمر يتعلّق برأي الإمام ، والنبيّ أعطى صناديد العرب في غنائم حُنين مئة ، واعترض عليه ذو الخويصرة الخارجي (3) كما يعترض هذا الرافضيُّ على عمر.
وأمّا الأحكام من جهة الرأي والحدس والظنّ ؛ فهو من شأن المجتهد ، والفقه من باب الظنون.
* * *
ص: 271
حكى في «كنز العمّال» (1) ، عن ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وابن سعد ، وعبد الرزّاق ، عن عبيدة السلماني ، قال : «لقد حفظت من عمر في الجد مئة قضيّة مختلفة [كلّها ينقض بعضها بعضاً]».
وأما رواية السبعين ، فقد ذكرها ابن أبي الحديد (2) ، ولم يُنكر صحتها هو ولا قاضي القضاة!
وهذا ممّا يدلّ على عدم تورّعه في الفتيا ، وأنّه لم يرجع فيها إلى ركن وثيق ، بل يقول مِن غير علم ، كما يشهد له ما في «الكنز» قبل الحديث المذكور ، عن عبد الرزّاق ، والبيهقي ، وأبي الشيخ - في الفرائض - ، عن سعيد بن المسيّب ، عن عمر ، قال : «سألت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كيف قسم الجد؟
قال : ما سؤالك عن ذلك يا عمر؟! أظنّك تموت قبل أن تعلم ذلك!
قال سعيد : فمات عمر قبل أن يعلم ذلك» (3).
ص: 272
وبالضرورة أنّ من يسمع هذا من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - فضلا عمّا يجده من جهل نفسه ، وكان عنده أدنى حرمة للدين - لم يحكم في الجدّ بقضيّة واحدة فضلا عن مئة قضيّة مختلفة.
ويشهد لعدم عنايته بالدين والأحكام ، ما في «الكنز» في قرب الخبر الأوّل ، عن (عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ،) (1) عن عبيدة السلماني ، قال : «كان عليٌّ (2) يُعطي الجدّ مع الإخوة الثلث ، وكان عمر يُعطيه السُدس.
فكتب عمر إلى عبد اللّه : إنّا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجدّ ، فأعطه الثُلث» (3).
ونحوه عن ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وسعيد بن منصور ، عن عبيد ابن نضلة (4).
فأنت ترى أنّ هذا لمجرّد التشهّي والاستحسان ، من غير ابتناء على دليل ، فكأنّ اللّه تعالى قد أوكل الأحكام إلى رغبته ولم يبعث بها رسولا ، أو بعث بها رسولا لكن قدّم هوى عمر!
ومن هذا الباب ما في «الكنز» أيضاً (5) ، عن ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : «إنّ أوّل جدّ وَرثَ في الإسلام عمرُ بن
ص: 273
الخطّاب ، فأراد أن يَحتازَ المالَ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين! إنّهم شجرةٌ دونك ؛ يعني : بني بنيه».
وليس ميراث الجدّ أوّل جهالاته وعدم مبالاته في الحكم ، بل له أمثال ذلك ..
ففي «الكنز» (1) ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن الحكم بن مسعود ، قال : «قضى عمر في امرأة توفّيت ، وتركت زوجها ، وأُمّها ، [وإخوتَها لأُمّها ،] وإخوتَها لأبيها وأُمّها ، فأشرك عمر بين الإخوة للأُمّ والإخوة للأب والأُمّ في الثلث.
فقال له رجل : إنّك لم تشرك بينهما عامَ كذا وكذا.
فقال عمر : تلك على ما قضينا يومئذ ، وهذا على ما قضيناه».
وفيه أيضاً (2) : عن سعيد بن منصور ، عن إبراهيم ، «أنّ رجلا عرف أُختاً له سبيت في الجاهلية ، فوجدها ومعها ابن لها لا يُدرى مَن أبوه ، فاشتراهما ثمّ أعتقهما.
وأصاب الغلام مالا ثمّ مات ، فأتوا ابن مسعود فذكروا له ذلك ، فقال : ائتِ أمير المؤمنين عمر فسَلْه عن ذلك ، ثمّ ارجع فأخبرني بما يقول لك.
فأتى عمر فذكر ذلك له ، فقال : ما أراك عُصبةً ، ولا بذي فريضة.
ص: 274
فرجع إلى ابن مسعود فأخبره ، فانطلق ابن مسعود حتّى دخل على عمر فقال : كيف أفتيتَ الرجل؟
قال : لم أره عصبةً ، ولا بذي فريضة.
فقال عبد اللّه : لم تُورِّثه مِن قِبل الرحم ، ولا ورّثته مِن قِبل الولاء!
قال : ما ترى؟!
قال : أراه ذا رحم ، ووليَّ النعمة ، وأرى أن تورّثه.
فورّثه».
وفيه أيضاً (1) : عن عبد الرزّاق ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : «جاء ابنَ عبّاس رجلٌ فقال : رجلٌ توفّي وترك ابنته وأُخته - إلى أن قال : - فقال الرجل : إنّ عمر قضى بغير ذلك ، قد جعل للأُخت النصف ، وللبنت النصف.
فقال ابن عبّاس : أأنتم أعلمُ أم اللّه؟!
قال طاووس : قال ابن عبّاس ، قال اللّه تعالى : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) (2) ، فقلتم أنتم : لها النصف وإنْ كان له ولد».
ولأجل هذا ونحوه قال ابن عبّاس - كما في «الكنز» أيضاً عن سعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق - : «وددت أنّي وهؤلاء الّذين يخالفوني
ص: 275
في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ، ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين ، ما حَكَمَ اللّه بما قالوا» (1).
وأفضح من ذلك جهل عمر بمعنى الكلالة (2) ، وقوله فيها بغير علم ..
فقد نقل في «الكنز» (3) ، عن سعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والدارمي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن الشعبيّ ، قال : سُئل أبو بكر عن الكلالة ، فقال : إنّي أقول فيها برأيي ، فإن كان صواباً ، فمِن اللّه وحده لا شريك له ، وإن كان خطأً ، فمنّي ومن الشيطان ، واللّه منه بريء ؛ أراه ما خلا الوالد والولد.
فلما استُخلِف عمر قال : الكلالة ما عدا الولد - وفي لفظ : مَن لا ولد له -.
فلمّا طُعن عمر قال : إنّي لأستحيي من اللّه أن أُخالف أبا بكر ، أرى أنّ الكلالة ما عدا الوالد والولد».
فانظر إلى هذه الملاعب في الدين ، والتقوّل في أحكام ربّ العالمين ، لمجرّد الهوى والميل النفسي ، فكأنّ اللّه سبحانه أوكل إلى
ص: 276
رغبات نفوسهم أحكامه ، وإلى جهالاتهم وآرائهم الناقصة نظامه ، مع إقرارهم بالجهل وعدم المعرفة كما سمعت.
وحكى في «الكنز» (1) ، عن ابن راهويه ، وابن مردويه - وقال : هو صحيح - ، أنّ عمر سأل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كيف يُورَثُ الكلالة؟
قال : أَوَليس قد بيّن اللّه ذلك؟! ثمّ قرأ : ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً ... ) (2) الآية.
فكأنّ عمر لم يفهم ، فأنزل اللّه : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ) (3) الآية.
فكأنّ عمر لم يفهم ، فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول اللّه طيب نفس فاسأليه عنها.
فقال : أبوكِ ذكر لكِ هذا؟! ما أرى أباك يعلمها أبداً!
فكان يقول : ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما قال».
فليت شعري ، إذا علم أنّه لا يعلم الكلالة أبداً ، فكيف خالف أبا بكر مرّةً ووافقه أُخرى؟!
ولِمَ لم يرجع إلى مَن عنده عِلمُ الكتاب وقرينه؟!
وأظهر من ذلك في الحكم على حسب الهوى ، ما في «الكنز» أيضاً (4) ، عن سعيد بن المسيّب ، «أنّ عمر بن الخطّاب لم يورِّث أحداً
ص: 277
من الأعاجم إلاّ أحداً وُلِدَ في العرب».
وأعجب من عمر أولياؤه حيث يسمّون ذلك اجتهاداً!
فهل من الاجتهاد عندهم القول بما يخالف ضرورة الدين؟!
أو أنّ للمجتهد التلوّن الفاحش في الأحكام من دون علم ورويّة؟!
أو أنّ اللّه سبحانه لم يُكمل دينه ، وأرسل الرسول بدين ناقص ، واعتمد على عمر وأشباهه في إكمال الدين على حسب أهوائهم ، وسمّاه أصحابه اجتهاداً؟!
ألم يقل اللّه تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (1).
وما سدّ اللّه باب العلم بدينه ؛ لأنّه نصب إليه دليلا ، وهو نبيّه وثِقلاه اللذان خلّفهما في أُمّته ، وأمر بالتمسّك بهما.
ثمّ ذمّ سبحانه على اتّباع الظنّ ، فضلا عن الوهم والشكّ ، والقول بمجرّد الهوى ، فقال : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (2).
وقال سبحانه : ( إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (3).
وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إيّاكم والظنَّ! فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث» ، كما رواه البخاري (4).
ومن أعجب العجب قوله : «ولم تتقرّر الأحكام الاجتهادية بعد في زمانه»!
فإنّه دالٌّ على أنّها تقرّرت بعد في أيام مذاهبهم الأربعة!
ص: 278
فلا أدري أكانوا أعلم بالكتاب والسنة مِن ثِقل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وصحبه ، أو جاءتهم نبوّةٌ جديدةٌ تقرّرت بها أحكامهم؟!
أو أباح اللّهُ لهم أن يُشرّعوا أحكاماً من عند أنفسهم ، ويستبدلوا عن أحكام اللّه ما شاءته أوهامهم واستحسنته آراؤهم ، ثمّ لا يجوز ذلك لأحد بعدهم؟!
وبما سمعته من الأخبار المذكورة ونحوها ، تعلم بطلان قول الخصم : «وقد عُلم علماً يقينياً أنّه كان لا يعمل برأي إلاّ بمشاورة الصحابة».
فإنّ تلك الأخبار صريحة في استبداده في الأحكام ، وتشريعه لها بمحض الهوى والتشهّي ، ولو أردنا استقصاء ما شرّعه لضاق به الكتاب ، وسيأتي بعضها إن شاء اللّه تعالى.
وأما ما ذكره من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد كان يتغيّر اجتهاده ، كما في أُمّ الولد ... إلى آخره ..
فكذب ظاهر ؛ إذ لا يجوز هذا في حقّ بابِ مدينة علم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأحد الثِّقلَين ، وقرينِ الكتاب ، فإنّ الخطأ والأخذ بالظنّ والوهم شأن غيره من أهل الآراء الناقصة.
وروايتهم - مع اختلافها ومخالفتها لِما نعلمه من مذهبه ومنزلته (عليه السلام) - لا يمكن أن نحتمل فيها الصحّة ، وهي من الموضوعات التي أحدثوها ؛ حفظاً لشؤون أصحابهم.
وأمّا ما زعمه من أنّ التفضيل في العطاء أمر يتعلّق برأي الإمام ..
فباطل ؛ لمخالفته لعمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) المنوط بأمر اللّه تعالى.
ويا هل تُرى أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف الجهات التي تصوّرها
ص: 279
عمر في تفضيل عائشة وحفصة على وجوه المسلمين ، وتفضيل بعضهم على بعض؟!
وأمّا قياسه على عمل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في إعطاء صناديد قريش من غنائم حنين دون غيرهم ..
فخطأٌ ؛ لأنّه ليس من التفضيل ، بل من التخصيص للتأليف في قضيّة خاصة.
وأمّا ما زعمه أنّ الأحكام من جهة الحدس والظنّ من شأنّ المجتهد ..
فمسلّمٌ إذا كان الظنّ ناشئاً من الأدلّة الشرعيّة ، وأمّا إذا نشأ من استحسانات العقول الناقصة والتخمين والهوى ، فهو مرتبة تشريعيّة فوق مرتبة النبوّة ، فإنّ النبيّ مع عظيم مقامه لا ينطقُ عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى (1) ..
وقال تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (2) ..
فكيف يجوز لعمر التقوّل والحكم من عند نفسه بما يقتضيه استحسانه ويرتضيه خياله؟!
وحقاً أقول : لو تمسّك الناس بالثِّقلَين لَما احتاجوا إلى الحدس والتخمين ، بعد أن أكمل اللّه دينه وأطلع عليه نبيّه ، ووصيّه وباب مدينة علمه.
ص: 280
فإنّ اللّه سبحانه لا يُشرّع ديناً ناقصاً يستعين بخلقه على إكماله ، أو يكمله ويتركه بلا هاد إليه محفوظ لديه ، وإلاّ كان تشريعه لغواً.
لكنّ القوم نبذوا الثِّقلَين وراء ظهورهم ، فحرموا أنفسهم والأُمّة فوائد الدين الحقّ ، وسدّوا علينا باب العلم واليقين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ص: 281
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه قال : «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما» (2).
وهذا يقدح في عدالته حيث حرّم ما أباحه اللّه تعالى.
وكيف يسوغ له أن يُشرّع الأحكام وينسخها ، ويجعل اتّباعه أَوْلى من اتّباع الرسول الذي لا ينطق عن الهوى؟!
فإنّ حكم هاتين المتعتين إن كان من عند الرسول لا من قبل اللّه ، لزم تجويز كون كلّ الأحكام كذلك ، نعوذ باللّه تعالى!
ص: 282
وإن كان من عند اللّه ، فكيف يحكم بخلافه؟!
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه قال ذلك كراهة للمتعة ، وأيضاً يجوز أن يكون ذلك برواية عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1).
واعترضه المرتضى : بأنّه أضاف النهي إلى نفسه وقال : «كانتا على عهد رسول اللّه» ، وهو يدلّ على أنّه كان في جميع زمانه حتّى مات عليهما.
ولو كان النهي من الرسول كان أبلغ في الانتهاء ، فلِمَ لم يقل ذلك على سبيل الرواية (2)؟!
وقد رُوي عن ابنه عبد اللّه إباحتها ، فقيل له : إنّ أباك يحرّمها؟! فقال : إنّما ذلك عن رأي رآه (3).
وقد روى السنة في «الجمع بين الصحيحين» ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : «تمتّعنا مع رسول اللّه ، فلمّا قام عمر ، قال : إنّ اللّه كان يُحلُّ لرسوله ما يشاء بما يشاء ، وإنّ القرآن قد نُزّل منازلَه ، فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم اللّه ، وإيّاكم (4) ونكاح هذه النساء ، فلن أُوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة» (5).
ص: 283
وهذا نصٌّ في مخالفة كتاب اللّه والشريعة المحمّديّة ؛ لأنّا لو فرضنا تحريمها لكان فاعلها على شبهة ، والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ادرأُوا الحدودَ بالشبهات» (1).
فهذه رواياتهم الصحيحة عندهم تدلّ على ما دلّت عليه ..
فلينظر العاقل ، وليخف الجاهل!
وفي الصحيحين ، عن جابر - من طريق آخر - ، قال : «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، حتّى نهى عمر بن الخطّاب ، لأجل عمرو بن حرَيث (2) لمّا استمتع» (3).
ص: 284
وفي «الجمع بين الصحيحين» - من عدة طرق - إباحتها أيام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأبي بكر ، وبعض أيام عمر (1).
روى أحمد بن حنبل في «مسنده» ، عن عمران بن حصين ، قال : «نزلت متعة النساء في كتاب اللّه تعالى ، وعملناها مع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم ينزل القرآن بحرمتها ، ولم ينه عنها حتّى مات» (2).
وفي «صحيح الترمذي» ، قال : سُئل ابن عمر عن متعة النساء فقال : هي حلال.
وكان السائل من أهل الشام ، فقال له : إنّ أباك قد نهى عنها؟!
فقال ابن عمر : إن كان أبي قد نهى عنها ، وصنعها رسول اللّه ، نترك السنة ونتّبع قول أبي؟! (3).
قال محمّد بن حبيب البختري (4) : «كان ستّة من الصحابة وستّة من التابعين يفتون بإباحة المتعة للنساء» (5).
ص: 285
وقد روى الحميدي ومسلم في «صحيحيهما» ، والبخاري أيضاً ، من عدّة طرق ، جواز متعة النساء ، وأنّ عمر هو الذي أبطلها بعد أن فعلها جميع المسلمين بأمر النبيّ إلى حين وفاته وأيام أبي بكر (1).
ص: 286
وقال الفضل (1) :
قال الشافعي : «ما علمتُ شيئاً حُرّم مرّتين وأُبيح مرّتين إلاّ متعةَ النساء» (2).
هذا كلامه.
والسرّ في ذلك أنّ العرب كانوا لا يصبرون على ترك النكاح إذا طال العهد ، وكانوا يرخّصون في المتعة في الغزوات لطول العهد من الأزواج ، ثمّ تقرّر الأمر إلى الحرمة ، ولا خلاف في هذا بين أكثر العلماء.
وأيضاً : نصُّ الكتاب يقتضي حرمة المتعة ؛ لأنّه تعالى يقول : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (3).
[والمتعة ليست بالمملوكة ولا بالزوجة ، فالمتمتّع ملوم فيها.
وأمّا أنّها ليست بمملوكة ، فظاهر] (4).
وأما أنّها ليست بزوجة ؛ لأنّها ليست وارثة ولا موروثة للمتمتّع بها ، وقد قال تعالى : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ) (5).
ص: 287
وأمّا ما ذكر من الأحاديث ، فهي مرويّة عن جماعة لم يعلموا أنّ الأمر تقرّر على الحرمة في آخر الأمر.
ونحن نقول : لو كان الأمر على ما يذكره الشيعة ، وإنّ تحريم المتعة كان من قِبَل عمر ، فَلِمَ لم يُحلّلهُ أمير المؤمنين في أيّام خلافته ، وهو كان الإمام المتبوع؟!
ولِمَ لَمْ يعترض علماء الصحابة على عمر؟!
والشافعي كان أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ ؛ لأنّه كان قرشياً حجازياً عالماً بجميع الناسخ والمنسوخ ، ولو كان كذلك (1) لم يختر حرمته.
وكذا مالك ، كان عالم المدينة ، ولو كان مِن قِبَل عمر ، وكان تلميذ ابن عمر ، وكان ابن عمر يقول بالحلّية ، فلِمَ لَمْ يختره؟!
وكذا أبو حنيفة هو تلميذ عبد اللّه بن مسعود ، ولو كان النهي من عمر [فلِمَ] (2) لَمْ يختر الحلّية؟!
وإجماعُ أكثرِ علماء الإسلام على الحرمة يدلُّ على أنّ الأمر تقرّر على الحرمة.
وأمّا ما ذكر أنّ عمر قال : «أنا أنهى عنهما» ، فالمراد أنا أُخبركم بالنهي وأُوافق رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
وأمّا قوله : «كانتا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» لا يلزم أن يكون دائماً ، والمفهوم لا يخالف هذا ، كما ادّعاه المرتضى (3).
ص: 288
وإنّما الكلام في نسخ حلّية متعة النساء ..
فذهب إليه أكثرُ القوم (1).
والحقّ عدم النسخ ، وأنّ التحريم للمتعتين من عمر لا من اللّه ورسوله ، كما تواترت به أخبارنا (2) ، وكذا أخبارهم (3).
أمّا متعةُ الحجِّ ، فستعرف إن شاء اللّه تعالى أخبارهم المصرّحة بحلّيّتها إلى الأبد ، فلا بُد أن يكون تحريمها من عمر ، وكذا متعة النساء ؛ لأنّ تحريمه لهما بلفظ واحد ، ويدلّ عليه - أيضاً - ما لا يحصى من أخبارهم ..
منها : ما رواه البخاري (4) ، عن عبد اللّه ، قال : «كنّا نغزو مع
ص: 290
النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك ، فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوّج المرأة بالثوب ، ثمّ قرأ علينا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) (1).
ورواه مسلم (2) من عدّة طرق عن عبد اللّه ، وقال فيه : «ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل».
فإنّ استشهاد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالآية ظاهر في أنّ الامتناع من المتعة من تحريم طيّبات ما أحلّ اللّه ، فلا يصلح لتعلّق النسخ به ، فيكون التحريم من عمر.
ومنها : ما رواه مسلم (3) ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّامَ على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرِو بن حرَيث».
فإنّه صريحٌ في استمرار الحلّية أيّام النبيّ وأبي بكر ، بل وأيّام عمر ، إلى أن نهى من عند نفسه لقضيّة ابن حرَيث.
ومنها : ما رواه مسلم (4) ، عن أبي نضرة ، قال : «كنت عند جابر بن عبد اللّه ، فأتاه آت ، فقال : ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين! فقال جابر : فعلناهما مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعدْ لهما».
ص: 291
وهو صريحٌ في أنّ النهي إنّما هو من عمر بعدما استمرّت الحلّية إلى زمانه ، وأنّهم تركوهما اتّقاءً من عمر ؛ بشهادة أنّ متعة الحجِّ مما اتّفقت كلمةُ المسلمين على حلّيتها ، فلولا التقيّة لم يمتنعوا عنها.
ومنها : ما رواه مسلم أيضاً (1) ، عن عطاء ، قال : «قدم جابر بن عبد اللّه معتمراً ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثمّ ذكروا المتعة ، فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول اللّه ، وأبي بكر ، وعمر».
ومثله في «مسند أحمد» (2) ، بسند حديث مسلم ، وزاد فيه : «حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر».
وهو صريح في بنائهم على الحلّية في هذه الأوقات ، وليس بجائز أن يخفى النسخُ على المسلمين إلى أن ينهى عمر!
ومنها : ما رواه مسلم (3) ، عن عروة بن الزبير : «أنّ عبد اللّه بن الزبير قام بمكّة ، فقال : إنّ ناساً أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة ؛ يعرّض برجل.
فناداه ، فقال : إنّك لَجِلفٌ جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتّقين ؛ يريدُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك ، فواللّه لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك».
فإنّ قوله «تُفعل على عهد إمام المتّقين» ظاهرٌ في الاستمرار إلى حين وفاته (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وإلاّ لم يكن ردّاً لابن الزبير.
ص: 292
والمراد بالرجل : هو ابن عبّاس ، ولا يخفى لطفُ قوله : «إمام المتّقين» ، فإنّ فيه إشارةً إلى أنّ من لم يُفتِ بالحلّية ليس من المتّقين ، وخارجٌ عن اتّباع النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ومنها : ما رواه مسلم أيضاً (1) ، عن أبي نضرة ، قال : «كان ابنُ عبّاس يأمر بالمتعة ، وكان ابنُ الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر ابن عبد اللّه ، فقال : على يديَّ دار الحديث ، تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلمّا قام عمر قال : إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وإنّ القرآن قد نزَلَ منازله ، فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم اللّه ، وأبتُّوا نكاحَ هذه النساء ، فلن أُوتى برجل نكح امرأةً إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة».
وقريب منه في «مسند أحمد» (2).
وكذا في صحيح مسلم ، وقال فيه : «فافصلوا حجَّكم من عُمرتكم ؛ فإنّه أتمُّ لحجكم وأتمُّ لعُمرتكم» (3).
وهو صريح في أنّ اللّه تعالى أحلّ لرسوله المتعة بإقرار عمر ، لكنّ عمر أمر من نفسه ببتِّ النكاح ؛ استبداداً برأيه.
وهذا الحديث قد ذكره المصنّف (رحمه اللّه) (4) ، واعترض عليه - أيضاً - بما تغافل الخصمُ عن جوابه ؛ وهو أنّه لو فُرض حرمةُ المتعة لكان فاعلها على شبهة ، والنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ادرأُوا الحدودَ بالشُبهات» (5) ..
إذ لو فُرض روايةُ عمر للتحريم عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فهو مختصٌّ بهذه
ص: 293
الرواية ، وعملُ المسلمين على خلاف رأيه وروايته إلى حين خطبته ، فلا محالة تحصل الشبهة للعامل ، ولا أقلّ من احتمالها في حقه ، فبِمَ يستحقّ الرجم؟!
ومنها : ما رواه البخاري (1) ، عن عمران بن حصين ، قال : «أُنزلت آية المتعة في كتاب اللّه ، ففعلناها مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم ينزل قرآن يُحرّمها ، ولم ينه عنها حتّى مات ، قالٌ رجلٌ برأيه ما شاء».
ونحوه في «مسند أحمد» (2) ، لكنّه لم يذكر قوله : «قال رجلٌ برأيه ما شاء».
وهو كما تراه نصٌّ في عدم نسخ الحلّية بالكتاب والسنة ، وأنّ عمر حرّمها برأيه ، ونسخ إباحتها بإشاءته.
ولكن يُحتمل أن يُراد هنا بالمتعة : متعةُ الحجِّ (3) ، إلاّ أنّه عليه - أيضاً - يتمّ المطلوب ؛ لأنّ المتعتين من باب واحد ، وقد حرّمهما عمر بلفظ واحد.
ومنها : ما رواه مسلم (4) ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : «قال أبو ذرّ : لا تصلح المتعتان إلاّ لنا خاصة.
يعني : متعة النساء ومتعة الحجّ».
فإنّه دالٌّ على أنّ المتعتين من خواصّ المسلمين ؛ وذلك لأنّ متعة
ص: 294
النساء كانت محرّمة قبل الإسلام (1) ، ومتعة الحجِّ كانت من أفجر الفجور في أشهر الحجّ إلى أن ينسلخ صفر ، كما رواه مسلم (2) والبخاري (3).
بَيْد أنّ عمر أراد إعادة تلك السنة القديمة ، فحرّم المتعتين!
ولا يتّجه أن يريد أبو ذرّ بقوله : «لنا خاصّة» خصوص الصحابة ؛ للإجماع على صلاح متعة الحجّ لمطلق المسلمين.
ومنها : ما رواه أحمد في «مسنده» (4) من طرق صحيحة ، عن عبد الرحمن الأعرجي ، قال : سأل رجلٌ ابنَ عمر عن المتعة - وأنا عنده - متعة النساء ، فقال : واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) زانين ولا مسافحين ؛ ثمّ قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيحُ الدجّالُ وكذّابون ثلاثون أو أكثر».
وهو صريحٌ في إباحة متعة النساء طولَ عهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّ مَن حرّمها أحدُ الكذّابين المذكورين!
ولا يُستبعد ذلك من ابن عمر لمّا خالف التحريمَ عملُه ورأيُه ، ورأى فشوّ البدعة وتغيير حكم اللّه ورسوله علناً ، ولا سيّما قد صدر منه ذلك حال الغضب ، كما صُرّح به في بعض هذه الأخبار (5) ، فأبدى
ص: 295
الحقيقة من دون التفات لأبيه ، لا سيّما مع عدم ذِكره في كلامه وكلام السائل (1).
ومنها : ما رواه أحمد أيضاً (2) ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : «كنّا نتمتّع على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالثوب».
وهو دالٌّ على أنّه كان سيرةَ المسلمين على عهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كلّه.
ومنها : ما رواه أحمد - أيضاً (3) - ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : «كنّا نتمتّع على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر حتّى نهانا عمر أخيراً ؛ يعني النساء».
وهذا من أصرح الأخبار في المدّعى.
ومنها : ما رواه أحمد - أيضاً (4) - ، عن جابر ، قال : «متعتان كانتا على عهد النبيّ ، فنهانا عنهما عمر فانتهينا».
وهو صريح الدلالة على أنّ النهي من عمر ، لكنّهم انتهوا خوفاً وتقيّة ؛ لِما عرفتَ من أنّ متعة الحجِّ حلالٌ بلا ريب حتّى عند القوم ، فليس النهيُ فيها إلاّ من عمر ، وليس الانتهاءُ عنها إلاّ تقيّة!
ومنها : ما رواه أحمد - أيضاً (5) - ، عن عمران بن حصين ، قال : «تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم ينهنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعد ذلك عنها ،
ص: 296
ولم ينزل من اللّه فيها نهيٌ».
ومنها : ما رواه ابن جرير الطبريُّ في «تفسيره» بسند صحيح ، عن شعبة ، عن الحكم ، قال : «سألته عن هذه الآية ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) إلى هذا الموضع : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (1) أمنسوخة هي؟
قال : لا.
قال الحكم : وقال عليٌّ : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ» (2).
ونقله السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير آية المتعة من سورة النساء ، عن ابن جرير ، وعبد الرزّاق ، وأبي داود في «ناسخه» (3).
وقال أيضاً : أخرج عبد الرزّاق وابنُ المنذر ، من طريق عطاء ، عن ابن عبّاس ، قال : «يرحم اللّه عمر ، ما كانت المتعة إلاّ رحمة من اللّه رحم بها أُمة محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولولا نهيُه عنها ما احتاج [إلى] الزنا إلاّ شَفىً» (4).
ونحوه في «نهاية» ابن الأثير ، في مادّة «شفا» بالفاء (5).
ص: 297
وحكى في «كنز العمّال» (1) ، عن عبد الرزّاق ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» ، وأبي داود في «ناسخه» ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطّاب لأمرتُ بالمتعة ، ثمّ ما زنى إلاّ شقيٌّ».
وأنت ترى أنّ هذه الأخبار الأخيرة ، نسبت النهي إلى عمر وإلى رأيه ، لا إلى روايته ، فيكون النهي منه ، لا من اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا سيّما أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في الرواية الأخيرة : «لولا ما سبق من رأيه لأمرتُ بالمتعة» ؛ فإنّه (عليه السلام) لا يأمر بها إلاّ وهي حلالٌ من اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
وهذا دليلٌ على أنّ المانع لأمير المؤمنين (عليه السلام) عن الأمر بها هو التقيّة ، وكراهة إظهار مخالفة عمر ؛ لئلا يتّخذها أعداؤه سبيلا للخلاف عليه.
وكيف يصحُّ نسخُ إباحتها وهي رحمة من اللّه للأُمّة ، كما قاله ابن عبّاس (2)؟! إذ لا أقلّ في مصلحتها أنّها سببٌ لتقليل الزنا!
ومنها : ما نقله في «الكنز» (3) ، عن ابن جرير في «تهذيب الآثار» ، عن أُمّ عبد اللّه ابنة أبي خيثمة ، أنّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال :
ص: 298
إنّ العزْبة (1) قد اشتدّت علَيَّ فابغيني امرأةً أتمتّع معها.
قالت : فَدلَلتُهُ على امرأة ، فشارطها ، وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء اللّه أن يمكث ، ثمّ إنّه خرج ، فأُخبر عن ذلك عمر بن الخطّاب ، فأرسل إليّ فسألني : أحقٌّ ما حُدثت؟!
قلت ، نعم.
قال : فإذا قدم فآذنيني به.
فلمّا قدم أخبرته ، فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟!
قال : فعلتُه مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ لم ينهنا عنه حتّى قبضه اللّه ، ثمّ مع أبي بكر ، فلم ينهنا عنه حتّى قبضه اللّه ، ثمّ معك ، فلم تُحْدِث لنا فيه نهيا.
فقال عمر : أمَا والذي نفسي بيده ، لو كنتُ تقدّمتُ في نهي لرجمتُك ، بيِّنوا حتّى يُعرف النكاح من السفاح».
وهو صريحٌ في أنّ النهي إحداثٌ من عمر بلا سبق من اللّه ورسوله ، وأنّها حلالٌ في عهد صاحب الشرع إلى حين نهي عمر.
ولا أدري ، ما يطلب عمر بقوله : «بيِّنوا حتّى يعرف النكاح من السفاح»؟!
فإنّها إذا كانت حلالا من صاحب الشريعة ، كانت حلالا بيّناً ، وامتازت عن السفاح ، وأيُّ بيان يطلب فوق معرفتها موضوعاً وحكما؟!
ص: 299
ومنها : ما حكاه في «الكنز» (1) ، عن الطحاوي وكاتب الليث ، عن عمر ، قال : «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه ، أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ؛ متعة النساء ؛ ومتعة الحجّ».
وقد ذكره الرازي في «تفسيره» محتجاً به على حرمة المتعة (2).
وحكى في «الكنز» - أيضاً (3) - ، عن ابن جرير في «تهذيب الآثار» وابن عساكر ، عن أبي قلابة ، أنّ عمر قال : «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه ، أنا أنهى عنهما وأضرب فيهما».
وروى القوشجي في «شرح التجريد» ، آخر «مبحث الإمامة» ، أنّ عمر صعد المنبر وقال : «أيّها الناس! ثلاثٌ كنّ على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أنا أنهى عنهنَّ وأُحرِّمهُنَّ وأُعاقب عليهنَّ ؛ وهي : متعةُ النساء ، ومتعةُ الحجِّ ، وحيَّ على خير العمل» (4).
وهو من أصرح الأخبار في المطلوب ؛ لأُمور :
الأوّل : إنّه نسب النهي إلى نفسه ، ولو كان روايةً عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لكان اللازم أنّ ينسبه إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه أبلغ في الانتهاء ، كما ذكره المرتضى (5).
الثاني : إنّ الرواية لا تناسب قوله : «كانتا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» ؛ فإنّه ظاهرٌ في جوازه الواقعي على عهده ، فلا يصلح
ص: 300
أن يكون توطئة لرواية النهي عنه ، بل ينافيها ، وإنّما يناسب أن يكون توطئةً للنهي من نفسه.
الثالث : إنّ إرادة الرواية ممتنعة ؛ لأنّه قرن بين المتعتين ، ومن المعلوم من دين النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حلّية متعة الحجّ إلى آخر الأبد ، كما تواترت به الأخبار (1).
ولأجل صراحة قول عمر في التشريع خلافاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال المأمون - وهو يحكي كلامه - : «مَن أنت يا جُعَل (2) حتّى تنهى عمّا فعله
ص: 301
رسول لله (صلى اللّه عليه وآله وسلم)»؟! كما ذكره ابنُ خلّكان في ترجمة يحيى بن أكثم (1).
فقد اتّضح بما بيّنّا أنّ عمر قد حرّم ما أحلّه اللّه ورسوله ، وشرّع خلاف حكمهما ، وأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبرارَ الصحابة إنّما سكتوا تقيّةً ، مع علمهم بحلّية المتعتين.
ولا يمكن إنكار الخصم لهذا في متعة الحجّ ، فمثلها متعةُ النساء ، فلا معنى لقوله : «لم يعلموا أنّ الأمر تقرّر على الحرمة في آخر الأمر».
وكيف يمكن أن لا يعلم أميرُ المؤمنين ، وابنُ عبّاس ، وجابر ، وغيرهم من أكابر الصحابة وأصاغرهم ، ثمّ يبقى خفيّاً عليهم إلى أن يُظهره عمرُ في آخر خلافته ، وهو ممّا وقع الاتّفاق على جهله أو عمده في متعة الحجّ؟!
وما باله لم يُظهر ما علم في أوّل خلافته أو خلافة أبي بكر؟! فلا بُد أن يكون مشرِّعاً مستبدّاً عن اللّه ورسوله.
ولا أدري ، ما معنى التقرّر على الحرمة في آخر الأمر؟! فهل هو
ص: 302
بمعنى ثبوتها بنبوّة جديدة لعمر؟! أو أنّ له تخطئةَ اللّهِ والرسولِ والحكمَ بما تهواه نفسه؟!
وأمّا استدلال الخصم على حرمة متعة النساء بقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) الآية (1) ..
فخطأٌ ظاهر ؛ لأنّ عدم التوريث لا ينافي الزوجيّة ، وكذا عدم بعض الآثار الأُخر ؛ كعدم النفقة ؛ والليلة لها ؛ وذلك لأنّ الكافرةَ وقاتلةَ الزوج لا ترثانه وهما زوجتان (2) ، والناشزة لا تستحقّ النفقةَ والليلةَ وهي زوجةٌ (3).
ولو سُلّم أنّ المتمتّع بها ليست زوجةً ، فآية الحفظ مخصّصةٌ بآية المتعة ؛ وهي قوله تعالى من سورة النساء : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (4) ، فإنّها خاصة ، وآية الحفظ عامةٌ (5).
كما إنّ آيةَ الحفظ مخصَّصةٌ بأَمةِ الغير التي أذن لغيره في وطئها ، فإنّها ليست بزوجة ، ولا مملوكة ليمين الواطئ ، ولا يلزم حفظُ الفرج عنها بالإجماع (6).
ص: 303
ولو سُلّم عدم التخصيص وقلنا بلزوم النسخ ، فالمتعيّن نسخُ آية الحفظ ؛ لأنّها مكّية (1) ، وآية المتعة مدنيّةٌ (2) ؛ ولِما سبق من الأخبار المصرّحة بهذا (3).
فإن قلت : روى الترمذيُّ (4) أنّ آية الحفظ هي الناسخة ؛ لروايته عن ابن عبّاس أنّه قال : «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدةَ ليس له بها معرفةٌ ، فيتزوّج المرأةَ بقدر ما يرى أنّه يقيم ، فتحفظ له متاعه ، وتصلح له شيئَه ، حتّى إذا نزلت الآية ( إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) (5) قال ابن عبّاس : فكلُّ فرج سواهما فهو حرام».
قلتُ : لا ريب بكذب هذه الرواية ؛ لِما سبق ؛ ولمخالفتها للمعلوم من قول ابن عبّاس بالحلّية ، وللمعروف من كماله ، فإنّ من له أدنى معرفة لا يدّعي أنّها ليست بزوجة لمجرّد انتفاء بعض الآثار عنها ، أو بزعم عدم صدق الزوجة عليها ، والحال أنّها إنّما تُستباحُ بعقد النكاح.
على أنّ هذه الرواية ضعيفةٌ عند القوم أنفُسِهم ؛ لاشتمال سندها على موسى بن عبيدة الذي عرفتَ بعض ترجمته في مقدّمة الكتاب (6) ، فلا تقاوم الأخبار المصرّحة بأنّ آية المتعة غيرُ منسوخة ، مع أنّ ظاهر الرواية إنّما يناسب كثرةَ المسلمين في أوّل الإسلام ، وحاجتهم إلى المتعة ،
ص: 304
وهو خلاف الواقع ؛ لندرتهم.
واعلم أنّه لا ريب بإرادة متعة النساء من قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ... ) (1) الآية ؛ للإجماع (2) ..
وللزوم التكرار لو أُريد به النكاح الدائم ؛ لأنّه تعالى قد بيّن بالآيات التي قبلها حكم النكاح الدائم ، قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (3) إلى قوله تعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (4).
ولِما استفاض عند القوم عن ابن عبّاس وأُبَيّ بن كعب ، من أنّ الآية هكذا : «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى» ..
قال الرازي في تفسير الآية : «روي عن أُبَيّ بن كعب أنّه كان يقرأ : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنَّ أُجورهنَّ ..
قال : وهذا - أيضاً - قراءة ابن عبّاس ، والأُمّة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة ، فكان ذلك إجماعاً من الأُمّة على صحّة هذه الرواية» (5).
وروى الحاكم في كتاب التفسير من «المستدرك» (6) ، عن أبي نضرة ، قال : قرأت على ابن عبّاس ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) .
قال ابنُ عبّاس : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) إلى أجل مسمّى.
قال أبو نضرة : فقلتُ : ما نقرأها كذلك!
ص: 305
فقال ابن عبّاس : واللّهِ لأََنزلها اللّهُ كذلك!
ثمّ قال الحاكم : هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم».
ونقلهُ السيوطيُّ في «الدرّ المنثور» ، عن الحاكم ، قال : «وصحّحه من طرق عن أبي نضرة» (1).
ونقله - أيضاً - عن عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في «المصاحف» ، ثمّ قال : «وأخرج ابن أبي داود في (المصاحف) ، عن سعيد بن جبير ، قال : في قراءة أُبَيّ بن كعب : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّىً» (2).
ونقل مثله عن عبد بن حميد وابن جرير ، عن قتادة ، في قراءة أُبَيّ (3).
.. إلى غير ذلك ممّا ذكره السيوطيُّ من الأخبار (4).
هذا ، وقد استدلّ القومُ على نسخ حلّية متعةِ النساء بأخبار رووها ؛ وهي أقسامٌ :
الأوّل : عن سبرة ، أنّ النبيّ حرّمها عام الفتح قائلا : أيّها الناس! إنّي كنتُ أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء ، وإنّ اللّه قد حرّم ذلك
ص: 306
إلى يوم القيامة (1).
وفي بعض الروايات عن سبرة ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال ذلك وهو قائمٌ بين الرُكن والمقام (2).
الثاني : عن سلمة ، أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) رخّص فيها عام أَوْطاس (3) ثلاثاً ، ثمّ نهى عنها (4).
ويمكن إرجاع هذا القسم إلى الأوّل ؛ لأنّ عام أَوْطاس هو عامُ
ص: 307
الفتح (1).
الثالث : عن عليّ ، أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حرّمها يومَ خيبر (2).
الرابع : عن [ابن] أبي عمرة ، أنّها رخصةٌ في أوّل الإسلام لمن اضطرّ إليها ، كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ثمّ أحكم اللّه الدينَ ونهى عنها (3).
وهذه الأقسام الأربعة رواها مسلم في باب نكاح المتعة (4).
الخامس : عن سبرة ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر بها وحرّمها في حجّة الوداع ؛ رواه أحمد (5) ، وذكر فيه أنّ تحريمه لها وهو يخطب.
كما رواه كذلك في «كنز العمّال» (6) ، عن ابن جرير من طريقين له عن سبرة.
السادس : إنّها ما حلّت قطُّ إلاّ في عُمرة القضاء ثلاثة أيّام ، لا قبلها
ص: 308
ولا بعدها ؛ رواه في «كنز العمّال» (1) ، عن عبد الرزّاق عن الحسن.
وهذه الأخبار - كما تراها - مختلفة في تعيين وقت التحريم ، بحيث لا يمكن الجمع بينها ، وهو دليل الكذب ، ولا سيّما الأوّل والخامس ؛ فإنّ راويهما واحدٌ ، وهو سبرة.
كما إنّ تحديد الحِلّ في بعضها بثلاثة أيّام مناف للأخبار السابقة وغيرها ، حتّى روى البخاريّ (2) ، عن سلمة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «أيّما رجل وامرأة توافقا ، فَعِشرةُ ما بينهما ثلاثُ ليال ، فإنْ أحبّا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا».
على أنّ التأمّل في نفس كلّ من هذه الأقسام يدلُّ على كذبه ..
أمّا الأوّل والخامس ؛ فلأنّه لا يمكن أن يُعلِنَ النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحرمةَ بمكّة يومَ الفتح ، وفي حجّة الوداع - ولا سيّما وهو يخطب - ولا يطّلع عليها غيرُ سبرةَ ، حتّى يُحلّها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) من غير علم ، وابنُ عبّاس ، وابنُ مسعود ، وجابر ، وعمران ، وأبو ذرّ ، وأبو سعيد ، وابنُ عمر ، وغيرهم.
مع أنّه لم يروِها عن سبرة غيرُ ابنه الربيع (3) ، مع كثرة الابتلاء بها ، ووجود داعي السؤال عنها بعد أن حرّمها عمرُ.
وأمّا القسم الثاني ؛ فإنْ أُريد به ما يرجع إلى الأوّل ، فالكلامُ الكلامُ.
ص: 309
غايةُ الأمر أنّه يكون سلمةُ راوياً له مع سبرة ، وهو لا يرفع الإشكال.
وإنْ أُريد به ما لا يرجع إليه ، كفى في العلم بكذبه تحديدُه الحِلَّ بالثلاث.
وبهذا يُعلم كذبُ الأخير أيضاً.
وأمّا الثالث ؛ فلأنّه مرويٌ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومعلومٌ أنّه خلاف مذهبه ، وكيف يرويه وهو يقول : «لولا ما سبق من رأي عمر لأمرتُ بها ، ثمّ ما زنى إلاّ شقيّ» (1)؟!
أو كيف يرويه عنه ابنُ عبّاس ، ثمّ يبقى مُصِرَّاً على الحلّية حتّى يلقى من ابن الزبير ما يلقى (2)؟!
وأما الرابع ؛ فلأنّ المتعة إذا كانت كالميتة والدم ولحم الخنزير ، كانت حراماً مطلقاً (3) ؛ لأنّ الرخصة للضرورة لا تجعلها من قسم الحلال حتّى تُنسخ.
ولا يمكن إرادةُ نسخ الرخصة الناشئة من الاضطرار ؛ للعلم بثبوت
ص: 310
الرخصة في مقام الضرورة ، وأنّ اللّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما اضطرّوا إليه ، كما دلّ عليه الكتابُ والسنة (1) ؛ ولذا تُباح الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير عند الضرورة.
على أنّ أدلّة حلّية المتعة - ولو في زمن خاصّ - واضحةُ الدلالةِ على جوازها اختياراً ، وهو مجمعٌ عليه (2).
هذا كلّه مع قطع النظر عن أسانيد هذه الأخبار ، وإلاّ فالكلام فيها واسعُ المجال.
ثمّ إنّ من أدلّة النسخ ما حكاه في «كنز العمّال» (3) ، عن سعيد بن منصور وتمّام وابن عساكر ، أنّه لمّا وليَ عمر بن الخطّاب فقال : «إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أذن لنا في المتعة ثلاثاً ، ثمّ حرّمها ، واللّه لا أعلم أحداً
ص: 311
تمتّع وهو محصنٌ إلاّ رجمتُه بالحجارة ، إلاّ أن يأتيني بأربعة يشهدون أنّ رسول اللّه أحلّها بعدَ إذ حرّمها ، ولا أجد رجلا من المسلمين متمتّعاً إلاّ جلدته مئة جلدة ، إلاّ أن يأتيني بأربعة شهداء أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أحلّها بعدَ إذ حرّمها».
وهو أيضا ظاهر الكذب ؛ لأنّه إنّما حرّم المتعتين معاً بلفظ واحد ، وكان التحريم في أواخر خلافته ، وقال : «أنا أنهى عنهما» من دون أن يستند إلى قول النبيّ ؛ ولأنّ اعتبار الشهود الأربعة على التحليل ممّا لم يدعه مسلمٌ ، ولِما سبق من مخالفة الحكم بالحِلِّ في خصوص ثلاثة أيام لصحاحهم (1) ..
فلا بُد أن يكون هذا الحديث كذباً من أحد جُهّالهم ، كسائر أحاديث التحريم.
هذا ، ولا عبرة بذهاب الشافعيّ وغيره إلى الحرمة ؛ لاستنادهم إلى هذه الأخبار ، وكونهم إلى تسديد رأي عمر أميل.
وكان اللازم على الشافعي أن يحكم بحرمتها وحلّيتها مراراً ، لا مرّتين فقط ؛ لتلك الأخبار المختلفة ، حتّى يكون الدين لعباً!
واستدلال الخصم على أعلميّته بالناسخ والمنسوخ ؛ بدعوى أنّه عالمٌ بهما ، طريفٌ ، والعِلم لا يستدعي العمل به.
وقوله : «كان مالك تلميذَ ابن عمر» ، باطلٌ ؛ لأنّ ابن عمر مات في
ص: 312
آخر سنة 73 (1) ، أو في أوّل ما بعدها (2) ، ووُلد مالك سنة 93 (3).
وكذا قوله : «كان أبو حنيفة تلميذ ابن مسعود» ، فإنّ ابن مسعود مات سنة 32 (4) ، وقيل : في ما بعدها (5).
ووُلد أبو حنيفة سنة 80 ؛ لأنّه مات سنة 150 وله سبعون سنة ، كما ذكر ذلك في «التقريب» (6).
اللّهمّ [إلاّ] (7) أن يريد التلمذة بالواسطة!
على أنّ التلمذة - حتّى لو كانت بدون واسطة - لا تستوجب الموافقة ، ولا سيّما في هذه المسألة التي اهتمّ عمر للتحريم فيها.
الأوّل : إنّ المصنّف (رحمه اللّه) نقل عن الترمذي ، أنّه سئل ابن عمر عن متعة النساء فقال : هي حلال ... إلى آخره (8).
والذي وجدته في «صحيح الترمذي» ، في الحجّ ، في «باب ما جاء بالتمتّع» ، أنّه سأل ابنَ عمر شاميٌّ عن متعة الحجّ ، فقال : هي حلالٌ.
ص: 313
فقال الشامي : إنّ أباك قد نهى عنها.
فقال : أرأيتَ إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أمرُ أبي يُتّبَع ، أم أمرُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
فقال الرجل : بل أمرُ رسول اللّه.
فقال : لقد صنعها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (1).
ثمّ قال الترمذيّ : هذا حديثٌ حسنٌ ، صحيحٌ (2).
ولم يذكر الترمذيُّ مثل هذا الحديث في نكاح المتعة ، فلعلّه قد سقط من نسخة «صحيحه» المطبوع في هذا الزمان ، أو وقع الاشتباه من المصنّف (رحمه اللّه).
وعلى تقدير الاشتباه ، فالحديث نافعٌ لنا في إفادته أنّ عمر هو المشرّع لتحريم متعة الحجّ خلافاً لله ورسوله ، فمثلُها متعة النساء ؛ لأنّ تحريمه لهما بلسان واحد وبلفظ الإنشاء ، لا الرواية في واحدة والإنشاء في الأُخر.
الثاني : إنّ جواب قاضي القضاة بأنّ عمر قال ذلك كراهةً للمتعة (3) ، مأخوذٌ من جواب عمر لأبي موسى بالنسبة إلى تحريم متعة الحجّ ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (4).
وأنت تعلم أنّه جوابٌ منكرٌ ؛ فإنّا نعلم أنّ اللّه جلّ وعلا لم يُنِطْ
ص: 314
أحكامه بكراهة أحد وإرادته.
وهل هذا إلاّ التشريع المحرّم ، والجرأة على مخالفة اللّه ورسوله بلا عناية بقول اللّه وحكمه؟! (1).
ص: 315
إعلم أنّ متعة الحجّ المسمّاة بالعُمرة ، كانت حراماً بأشهر الحجّ في الجاهليّة ..
ثمّ أحلّها اللّه ورسوله في الإسلام إلى آخر الأبد بهذه الأشهر ، بل فرَضا وقوعها فيها قبلَ الحجِّ على البعيد.
ثمّ حرّمها عمر في إمارته ، فأعاد حكمها الجاهلي!!
فها هنا ثلاث دعاوى ..
أمّا الأُولى : فيدلّ عليها ما سبق في البحث السابق من أنّ البخاري ومسلماً رويا عن ابن عبّاس ، أنّهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور (1).
وأمّا الثانية : فيدلّ عليها من الكتاب العزيز قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) إلى قوله سبحانه : ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (2) ..
دلّ على أنّ فرض البعيد أن يتمتّع بالعمرة قبل الحجّ ، وموصولةً به ، بأن يكونا في أشهر الحجّ بعام واحد.
ويدلّ عليها من السنة ما هو متواترٌ ؛ ولنذكر منها بعض ما صرّح بأنّ ذلك إلى الأبد ، وإلى يوم القيامة ..
ص: 318
روى مسلم (1) ، عن جابر خبراً طويلا قال فيه : «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : مَن كان منكم ليس معه هديٌ فليَحِلّ ، وليجعلها عُمرةً.
فقام سراقة بن مالك ، فقال : يا رسول اللّه! ألِعامنا هذا أم لأبد؟
فشبَّك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أصابعَه واحدةً في أُخرى ، وقال : دخلت العُمرةُ في الحجّ مرّتين ، لا بل لأبدِ أبد».
وروى مسلم - أيضاً (2) - ، عن جابر ، قال : «أهللنا أصحابَ محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالحجّ خالصاً وحده ؛ فقدم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صبحَ رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نَحلَّ ، قال : أحلّوا وأصيبوا النساء ...
فقلنا : لم يكن بيننا وبين عرفة إلاّ خمس ، أمرنا أن نُفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنيّ ... فقام النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فينا ، فقال : قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ، ولولا هديي لحللتُ كما تَحلّون ، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لم أَسُقِ الهَديَ ...
فقدم عليٌّ (عليه السلام) من سعايته ، فقال : بم أهللت؟
قال : بما أهلّ به النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : فأهدِ وامكث حَراماً.
قال : وأهدى له عليٌّ هدْياً.
فقال سراقة : يا رسول اللّه! ألِعامنا هذا أم لأبد؟
قال : لأبد».
ص: 319
ونحوه في «صحيح البخاري» (1) و «مسند أحمد» من طرق (2) ، قال في بعضها : «فشبك رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أصابعه ، وقال : للأبد ؛ ثلاث مرّات ، ثمّ قال : دخلت العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» (3).
والأخبار المشتملة على قوله : «دخلت العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» كثيرة ، روي جملةً منها في «المسند» (4).
وأمّا الدعوى الثالثة : فقد سبق في البحث المتقدّم جملةٌ من الأخبار الدالّة عليها (5).
وروى البخاري (6) ، عن عمران ، قال : «تمتّعنا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فنزل القرآن ، قال رجلٌ برأيه ما شاء».
ويحتمل أن يراد بهذا الحديث : متعةُ النساء.
وروى مسلم (7) ، عن عمران ، قال : «إعلم أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) جمع بين حجّة وعمرة ، ثمّ لم ينزل فيها كتابٌ ولم ينهنا عنها ، قال فيها رجلٌ برأيه ما شاء».
وروى مسلم - أيضاً - ، عن مطرّف ، قال : «بعث إليَّ عمران بن
ص: 320
حصين في مرضه الذي تُوفّي فيه ، فقال : إنّي محدّثك بأحاديث لعلّ اللّه أن ينفعك بها بعدي ، فإن عشتُ فاكتم عنّي ، وإن مُتُّ فحدّث بها - إن شئت - إنّه قد سُلّم علَيَّ ، واعلم أنّ نبيّ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد جمع بين حجّ وعُمرة ثمّ لم ينزل فيها كتابُ اللّه ، ولم ينه عنها نبيُّ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال فيها رجلٌ برأيه ما شاء» (1).
وفي رواية أُخرى لمسلم نحوها ، قال فيها محمّد بن حاتم - بعد قول عمران : ارتأى رجلٌ برأيه ما شاء - : «يعني عمر» (2).
.. إلى نحو ذلك ممّا رواه مسلم في باب واحد ، بأسانيد تبلغُ العشرة أو تزيد (3).
ويا عجباً! كيف بلغ الحال في تقيّة الصحابة وخوفهم أن يأمر أحدهم بكتمان ما يحدِّث به من حكم اللّه الذي نزل به كتابه وأعلن به الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
وروى مسلم (4) ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : «قدمت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو منيخ بالبطحاء ، فقال : بم أهللت؟
قلت : بإهلال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
قال : هل سقت من هَدي؟
قلت : لا.
قال : فطفْ بالبيت وبالصفا والمروة ، ثمّ حِلّ.
ص: 321
فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثمّ أتيتُ امرأةً من قومي فمشطتني وغسلت رأسي.
فكنت أُفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر ، فإنّي لقائمٌ بالموسم إذ جاءني رجلٌ فقال : إنّك لا تدري ما أحدث أميرُ المؤمنين في شأن النُّسُك» إلى أن قال : «فلمّا قدم قلت : ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟!
قال : إنْ نأخذ بكتاب اللّه ؛ فإنّ اللّه قال : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (1) ، وإنْ نأخذ بسنة نبيّنا ؛ فإنّ النبيّ لم يَحِلّ حتّى نحر الهَديَ».
وروى مسلم معه حديثين آخرين بمعناه (2) ، وروى نحوه البخاري (3) والنسائي (4) ، وأحمد في مسنده (5).
وهذا الاستدلال من عُمَر أشبهُ بالأغاليط ؛ فإنّ الآية التي ذكرها لا تدلُّ على مدّعاه بوجه ؛ لأنّ فِعل العُمرةِ مع الحجّ لا يستوجب نقصان شيء منهما.
وقد صرّح ابنُ عمر بتمام العُمرة ، كما في «مسند أحمد» (6) ، عن الزهري ، عن سالم ، قال : «سُئل ابنُ عمر عن متعة الحجّ ، فأمر بها وقال : أحلّها اللّه ، وأمر بها رسول اللّه.
قال الزهري : وأخبرني سالم أنّ ابن عمر قال : العُمرة في أشهر الحجّ
ص: 322
تامةٌ ، عمل بها رسول اللّه ، ونزل بها كتابُ اللّه».
وليت شعري ، هل يرى عمر أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يعرف معنى الآية؟!
أو أنّه عرفه وخالف عمداً في أمر أصحابه بالمتعة في حجّة الوداع؟!
وأمّا دعوى عمر أنّه يأخذُ بسنة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعجب من ذلك ؛ فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما بقي على إحرامه في تلك الحجة ؛ لأنّه ساق هدياً - كما صرّحت به الأخبار (1) - ، فكيف يأخذ عمر بفعله الخاصّ به وببعض أصحابه في تلك الحجّة ، ويترك قوله الصريح بدخول العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة؟!
وروى مسلم (2) ، عن أبي موسى : «أنّه كان يُفتي بالمتعة ، فقال له
ص: 323
رجل : رويدك! ... فإنّك لا تدري ما أحدث أميرُ المؤمنين في النسك بعدُ ؛ حتّى لقيه بعدُ فسأله ، فقال عمر : قد علمتُ أنّ النبيّ قد فعله وأصحابُه ، ولكن كرهتُ أن يظلّوا مُعرِّسين بهنّ في الأراك ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم».
ونحوه في «صحيح النسائي» (1) و «مسند أحمد» (2).
وهو أقبحُ من الحديث السابق ؛ فإنّه لو جاز تغيير الأحكام بالكراهة والرضا لَما بقي للإسلام رسمٌ ، ولا كان لله على عباده مزيةٌ ، ولا سيّما إذا جاز تغيير ما صرّح النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأنّه إلى الأبد!
وليت شعري ، إذا غضب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أصحابه لتردّدهم في ما أمر به من الإحلال في حجّة الوداع - كما رواه مسلم (3) وأحمد (4) عن عائشة - ، فكيف حالُه لو سمع أنّ عمر غيّر حكمه وحكم اللّه في كتابه المجيد ، وهدد على طاعتهما ومعصيته؟!
وروى الترمذي - وصحّحه (5) - ، عن محمّد بن عبد اللّه : «أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس وهما يذكران التمتّع بالعُمرة إلى الحجّ ، فقال الضحّاك : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه.
فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي!
قال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك.
ص: 324
فقال سعد : قد صنعها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وصنعناها معه».
ومثله في التمتّع من «صحيح النسائي» (1) ، وفي ما جاء في التمتّع من «موطأ مالك» (2).
وروى النسائي - أيضاً - في التمتّع ، عن ابن عبّاس ، قال : «سمعتُ عمر يقول : واللّهِ إنّي لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب اللّه ، ولقد فعلها رسول اللّه ؛ يعني العُمرة في الحجّ» (3).
وروى مالك في ما جاء في العُمرة من «موطئه» ، عن ابن عمر ، أنّ عمر قال : «افصِلوا بين حجّكم وعُمرتكم ، فإنّ ذلك أتمّ لحجِّ أحدكم ، وأتمّ لعُمرته ؛ أن يعتمر في غير أشهر الحجّ» (4).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تُحصى (5) ..
ومنها يُعلم ما في قول الفضل : «ولم يصحّ عنه روايةٌ في منعها ؛ وإنْ صحَّ ، فيمكن أن يكون سمع من رسول اللّه شيئاً»!!
ولا أدري ، ما هذا الذي يحتمل سماعه وقد صرّح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أنّها إلى الأبد وإلى يوم القيامة؟!
وأعجب من ذلك قوله : «والمسائل المخلتف فيها لا اعتراض فيها على المجتهدين» ؛ فإنّ المسألة إجماعيّة لا خلافيّة ، كما أقرّ به الخصم ، فقال : «متعةُ الحجّ جوّزها العلماء وذهبوا إليه».
ص: 325
نعم ، قد يريد أنّ اللّه ورسوله مجتهدان ، وعمر مجتهدٌ في عرضهما ، فلا اعتراض عليه وإنْ قالَ لمجرّد الكراهة والهوى ، ناسخاً أيضاً قوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) ، وفي آية أُخرى : ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) (3).
ثمّ إنّ عثمان أراد ترويج هذه الفتوى المخالفة للكتاب والسنة والإجماع ، مع اطّلاعه على ذلك ، وحضوره حجّة الوداع ، وسماعه من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما سمعه المسلمون ..
فقد روى البخاري (4) ، عن مروان بن الحكم ، قال : «شهدتُ عثمان وعليا ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يُجمَع بينهما ، فلمّا رأى عليٌّ أَهَلَّ بهما ... قال : ما كنت لأدعَ سنة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لقول أحد».
ونحوه في القِران من «صحيح النسائي» (5).
وروى البخاري - أيضاً (6) - ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : «اختلف عليٌّ وعثمان - وهما ب «عُسْفان» (7) - في المتعة ، فقال عليٌّ : ما تريد إلاّ أن
ص: 326
تنهى عن أمر فعله النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فلمّا رأى ذلك عليٌّ أهلّ بهما جميعاً».
ونحوه في «مسند أحمد» (1) ، وزاد فيه : «فقال عثمان : دعنا منك».
وكذا في «صحيح مسلم» (2).
وروى أحمد (3) ، عن أبي حرملة (4) ، قال : سمعت سعيداً قال : «خرج عثمان حاجّاً ، حتّى إذا كان ببعض الطريق قيل لعليّ : إنّه نهى عن التمتّع بالعُمرة إلى الحجّ ؛ فقال لأصحابه : إذا ارتحل فارتحلوا.
فأهلّ عليٌّ وأصحابه بعُمرة ، فلم يكلّمه عثمان في ذلك ، فقال له عليٌّ : ألم أُخبَر أنّك نهيت عن التمتّع بالعُمرة؟!
فقال : بلى.
قال : فلم تسمع من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تمتّع؟!
قال : بلى».
ومثله في التمتّع من «صحيح النسائي» (5).
ص: 327
.. إلى غير ذلك من أخبارهم (1).
وقد أصرّ - أيضاً - عروة بن الزبير على بقاء هذه البدعة حتّى اجترأ على ابن عبّاس ، فقال ابن عبّاس - بعد كلام دار بينهما - كما في «مسند أحمد» (2) : «أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ويقول : نهى أبو بكر وعمر!».
واعلم أنّ اتّفاق علمائهم على ثبوت متعة الحجّ دليلٌ على أنّ الحكم بلغ من الضرورة ما لا يمكن افتعال خلافه ؛ إذ مجرّد مخالفة عمر للكتاب والسنة لا يمنعهم من وضع صورة الأدلّة لتسديد أمره ، كما فعلوا في متعة النساء!
وكيف يمكنهم وضعها ، وقد كان حكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالتمتّع إلى الحجّ ، ودوامه إلى الأبد ، من المشاهدات لأكثر الأُمة في حجّته الواقعة في آخر أيّامه ، ورتّب على حكمه العمل؟! وليس هناك للناس بعد موتِ عمر داع إلى مخالفة ذلك الحكم الضروري!
على أنّ اللّه سبحانه أراد بيان حال عمر ، فحال بينهم وبين وضع الأدلّة هنا ، فيظهر أمره في منع متعة النساء ، وفي سائر أفعاله!
ص: 328
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه (1) - :
ومنها : قصة الشورى ، وقد أبدع فيها أُموراً ..
فإنّه خرج بها عن الاختيار والنصّ جميعاً ، وحصرها في ستّة ..
وذمّ كلَّ واحد منهم ، بأن ذكر فيه طعناً لا يصلح معه للإمامة ، ثمّ أَهّله بعد أن طعن فيه ، وجعل الأمر إلى ستّة ، ثمّ إلى أربعة ، ثمّ إلى واحد وصفه بالضعف والقصور!
وقال : «إنِ اجتمع عليٌّ وعثمان ، فالقول ما قالاه ، وإنْ صاروا ثلاثة وثلاثة ، فالقول للّذين فيهم عبد الرحمن» ؛ وذلك لعلمه بأنّ عليا وعثمان لا يجتمعان ، وأنّ عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختَنه (2) وابنِ عمه (3).
وأنّه أمر بضرب أعناقهم إن تأخّروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام.
ص: 329
وأنّه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم ، أو الّذين ليس فيهم عبد الرحمن (1).
وروى الجمهور ، أنّ عمر لمّا نظر إليهم قال : قد جاءني كلُّ واحد منهم يهز عفريته يرجو أن يكون خليفةً.
أمّا أنت يا طلحة! أفلستَ القائل : إنْ قُبض النبيُّ لننكحنَّ أزواجه من بعده ، فما جعل اللّه محمّداً أحقّ ببنات عمِّنا منّا ؛ فأنزل اللّه فيك : ( وما كان لكم أن تُؤذوا رسولَ اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه مِن بعده أبداً ) (2)؟!
وأمّا أنت يا زبير! فواللّه ما لانَ قلبك يوماً ولا ليلة ، وما زلتَ جِلْفاً جافياً ، مؤمنَ الرضا ، كافرَ الغضب ، يوماً شيطان ، ويوماً رحمان ، شحيح.
وأمّا أنت يا عثمان! لروثةٌ خيرٌ منك ، ولئن وليتها لتحملنّ بني أبي معَيط على رقاب الناس ، ولئن فعلتها لتُقتلَنَّ ؛ ثلاث مرّات.
ص: 330
وأمّا أنت يا عبد الرحمن! فإنّك رجلٌ عاجزٌ ، تحبّ قومكَ جميعاً.
وأمّا أنت يا سعد! فصاحب عصبيّة وفتنة ، ومِقْنَب (1) وقتال ، لا تقوم بقرية لو حمِّلتَ أمرَها.
وأمّا أنت يا عليّ! فواللّه لو وُزن إيمانُك بإيمان أهل الأرض لرجحهم.
فقام عليٌّ مولّياً يخرجُ ، فقال عمر : واللّه إنّي لأعلم مكانَ الرجلِ لو ولّيتموه أمرَكم حملكم على المحجة البيضاء.
قالوا : من هو؟!
قال : هذا المولّي عنكم (2) ، إنْ ولّوها الأجلح (3) سلك بكم الطريق المستقيم.
قالوا : فما يمنعك من ذلك؟!
قال : ليس إلى ذلك سبيل!
قال له ابنه عبد اللّه : فما يمنعك منه؟!
قال : أكره أن أتحمّلها حيا وميّتاً (4)!
ص: 331
وفي رواية : لا أجمعُ لبني هاشم بين النبوّة والخلافة (1).
وكيف وصف كلَّ واحد بوصف قبيح - كما ترى - زعمَ أنّه يمنع من الإمامة ، ثمّ جعل الأمر في مَن له تلك الأوصاف؟!
وأيُّ تقليد أعظم من الحصر في ستّة ، ثمّ تعيين من اختاره عبد الرحمن ، والأمر بضرب رقاب مَن يخالف منهم؟!
وكيف أمرَ بضرب أعناقهم إنْ تأخّروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيّام؟!
ومن المعلوم أنّهم لا يستحقّون ذلك ؛ لأنّهم إن كُلّفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام ، فربّما طال زمانُ الاجتهاد ، وربّما نقص ، بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فكيف يسوغ الأمرُ بالقتل إذا تجاوزت الثلاثة؟!
ثمّ أمر بقتل مَن يخالف الأربعة ، ومَن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن ، وكلّ ذلك ممّا لا يُستحقّ به القتل!
ومن العجب اعتذار قاضي القضاة ، بأنّ المرادَ : القتلُ إذا تأخّروا على طريق شقِّ العصا وطلبوا الأمر من غير وجهه (2) ؛ فإنّ هذا مناف لظاهر الخبر ؛ لأنّهم إذا شقّوا العصا وطلبوا الأمر من غير وجهه ، فمن أوّل الأمر وجب قتالُهم (3).
* * *
ص: 332
وقال الفضل (1) :
إنّ أمر الشورى أوّل الدلائل على تقوى عمر وخوفه من اللّه تعالى ؛ لأنّه احتاط فيه كمال الاحتياط.
وأصلُ حكاية الشورى - كما ذكره أرباب الصحاح - ، أنّ عمر لمّا جُرح قال له الناس : استخلف.
فقال : أنا لا أحمل هذا الأمر حيّاً وميّتاً ، إنّ هؤلاء النفر الستّة كلّهم من قريش ، وقد جمعوا شرائط الخلافة ، وقد علمتم أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا توفّي كان عنهم راضياً ، فأنا أجعلُ هذا الأمر بينهم (2).
وهذا من كمال الاحتياط ، وتركه الأغراض الخاصّة ، ونظر مصلحة العامة بلا غرض لنفسه.
وأمّا ما ذكر أنّه ذكر معائب كلّ واحد بالأُمور القادحة في الخلافة في حضورهم ، فهذا أمرٌ باطل لا شكّ فيه ، وصاحبُ هذه الرواية جاهلٌ بالأخبار ، كذّاب لا يعلم الوضع.
فإنّ وضع الأخبار ينبغي أن يكون على طريقة لا يعلم الناس أنّها موضوعة ، ووضوح وضع هذا الخبر أظهرُ من أن يخفى على أحد ، فإنّ الرجل مجروح ، وهؤلاء كانوا أكابرَ قريش وأقرانه في الحسب والنسب!
أتُراه يأخذ في أعينهم ويشتمهم عند الموت ، وهو يريد استخلافهم؟!
ص: 333
ويقول لزبير وهو شيخ المهاجرين بمحضر الناس : إنّك جاف جِلفٌ ؛ ويقول لطلحة كذا ، ولسعد كذا؟!
فهذا معلومٌ من أطوار الصحابة وحكاياتهم أنّه من الموضوعات ؛ واللّه أعلم.
ولقد سألتُ من الشيخ برهان الدين إبراهيم البغدادي (1) ، في تبريز ، سنة قدم تبريز ، عن هذا ، وذكرت ذلك له - والشيخ المذكور كان أُستاذ الشيعة وإمامهم في زمانه - ، فصدّقني ، وقال : هذا كذبٌ صُراح ؛ بل الحقُّ أنّ عمر قبل أن يُجرح بأيّام قلائل تأوّه يوماً ، فقال له ابن عبّاس في الخلوة : لِمَ تتأوّه يا أمير المؤمنين؟!
قال : ذهب عمري وأنا متفكِّرٌ في هذا الأمر .. أُوَلّيها لمن؟!
فقال ابنُ عبّاس : قلت : أينَ لك من عثمان؟!
قال : أخاف أن يولِّي بني أُميّة على الناس ، ثمّ لم يلبث العربُ إلاّ أن يضربوا عنقه ، واللّه لو فعلتُ لفعل ، ولو فعل لفعلوا.
فقلت : أين لك من طلحة؟!
قال : نعوذ باللّه من زَهْوه (2).
قلت : أين لك من الزبير؟!
قال : شجاعٌ جاف.
قلت : أين لك من سعد؟!
ص: 334
قال : قائد عسكر ، ولا يصلح للخلافة.
قلت : أين لك من عبد الرحمن؟!
فقال : ضعيف.
قلت : أين لك من عليّ بن أبي طالب؟!
قال : فيه دعابة ، وإذاً يحملهم على الحقِّ الذي لا يُطيقونه.
ثمّ ما مرّ عليه أُسبوعٌ حتّى ضربه أبو لؤلؤة.
هكذا سمعتُ منه.
ثمّ بعد هذا رأيتُ في «الأحكام السلطانية» ، لأقضى القضاة الماوردي (1) ، ذَكَرَ على نحو ما سمعته من الشيخ برهان الدين البغدادي.
ثمّ إنّا لو فرضنا صحّة ما ذكر ، فإنّه لم يذكر المعائب القادحة للإمامة ، بل هذا من مناصحة الناس ، فذكر ما كان من العيوب.
ولو صدق ، فلا اعتراض على عمر ، فإنّه - على ما ذكره - أشار إلى خلافة عليّ إشارةً جليّةً لا تخفى ، بل هو قريبٌ من التنصيص ، ورغبته في خلافته من هذا الكلام ظاهرةٌ ، فلا اعتراض عليه.
وأمّا ما ذكره من ترتيب الستّة ، ثمّ الأربعة ، ثمّ اثنان ، فهذا من اجتهاداته في اختيار الإمام ، والأمرُ إليه ، ولا اعتراض عليه.
وأمّا ما ذكره من القتل بعد الثلاثة إن لم يقرّوا الأمرَ ، فهذا من باب التوعيد والتهديد ، وشدّة الاهتمام بعدم التأخير ؛ لأنّ التأخير كان مظنّة لقيام الفتن وعروض الحوادث.
وأمّا جواب قاضي القضاة - بأنّ الأمر بالقتل إذا طلبوا الأمر من غير
ص: 335
وجهه ، وعلى طريق شق العصا - ، فجوابٌ صحيح.
وما اعترض عليه بقوله : «إذا شقّوا العصا فطلبوا الأمر من غير وجهه من أوّل يوم وجب قتالُهم» ، فباطلٌ ؛ لأنّ شقّ العصا يظهر بعد الثلاثة ؛ فإنّ الثلاثة كانت من عند الإمام السابق ، فمَن خالف وطلب الأمرَ مِن غير وجهه في الأيّام الثلاثة لم يُحكم عليه بشيء ؛ لأنّ وقت المشورة باق ولعلّه يرجعُ ، وأمّا بعد الثلاثة فقد طال الأمرُ ، وتحتّم طلبُ الأمر للمخالف من غير وجهه.
* * *
ص: 336
روى الطبري في «تأريخه» (1) ، عن عمرو بن ميمون خبراً طويلا ، قال في جملته : «إنّ عمر قال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة! إنّ اللّه عزّ وجلّ طالما أعزّ الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلا من الأنصار ، فاستحِثّ هؤلاء الرهط حتّى يختاروا رجلا منهم ...».
إلى أن قال : «فإنِ اجتمع خمسة ورَضُوا رجلا وأبى واحد ، فاشدخْ (2) رأسه - أو : اضرب رأسه - بالسيف!
وإنِ اتّفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان ، فاضرب رؤوسهما!
فإنْ رضي ثلاثة رجلا منهم ، وثلاثة رجلا منهم ، فحكِّموا عبد اللّه بن عمر ، فأيّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلا!
فإنْ لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إنْ رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس!
فخرجوا ، فقال عليٌّ لقوم كانوا معه من بني هاشم : إنْ أُطيعَ فيكم قومكم لم تؤمَّروا أبداً.
وتلقاه العبّاس ، فقال : عُدِلَت عنّا.
فقال : وما علمك؟!
قال : قرَنَ بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر ، فإنْ رضي رجلان
ص: 337
رجلا ، ورجلان رجلا ، فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
فسعد لا يخالف ابنَ عمّه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهرُ عثمانَ ، لا يختلفون ، فيولّيها عبد الرحمن عثمانَ ، أو يولّيها عثمانُ عبد الرحمن.
فلو كان الآخران معي لم ينفعاني ؛ بَلهَ (1) ، إنّي لا أرجو إلاّ أحدهما».
ثمّ أتى على القصّة .. إلى أن قال : «دعا عبد الرحمن عليا فقال : عليك عهد اللّه وميثاقه لتعملنّ بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.
قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.
ودعا عثمانَ ، فقال له ما قال لعليّ ، قال : نعم.
فبايعه.
فقال عليٌّ : حبوتَه حبوَ دهر ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (2).
واللّهِ ما ولّيتَ عثمانَ إلاّ ليردّ الأمر إليك ، واللّهُ كلَّ يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن : يا عليّ! لا تجعل على نفسك سبيلا!».
إلى أن قال : «قال عليٌّ : إنّ الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر
ص: 338
إلى بنيها فتقول : إنْ وُلِّيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم» .. الحديث (1).
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (2) ، وكذا في «العقد الفريد» (3) ، وذكر فيه (4) أنّ عليا قال : «أعمل بمبلغ علمي وطاقتي» ولم يذكر قوله : «أرجو أن أفعل» ولا قوله : «إنّ الناس ينظرون إلى قريش ...» إلى آخره.
ص: 339
وروى ابن قتيبة في كتاب «السياسة والإمامة» (1) ، عند التعرّض لأمر الشورى (2) ، قصّة عهد عمر ، وقال فيها : سأستخلف النفر الّذين توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو عنهم راض ؛ فأرسل إليهم فجمعهم - وذكر الستّة - فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين! إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً ، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ...
إلى أن قال : إنِ استقام أمر خمسة وخالف واحد ، فاضربوا عنقه!
وإنِ استقام أربعة واختلف اثنان ، فاضربوا أعناقهما!
وإنِ استقام ثلاثة واختلف ثلاثة ، فاحتكموا إلى ابني عبد اللّه ، فلأيّ الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم ، فإن أبى الثلاثة الأُخر فاضربوا أعناقهم!
فقالوا : قل فينا يا أمير المؤمنين مقالةً نستدلّ فيها برأيك ونقتدي به!
فقال : واللّه ما يمنعني أن استخلفك يا سعد ، إلاّ شدّتك وغِلظتك مع أنّك رجلُ حرب.
وما يمنعني منك يا عبد الرحمن ، إلاّ أنّك فرعون هذه الأُمة.
وما يمنعني منك يا زبير ، إلاّ أنّك مؤمن الرضا ، كافر الغضب.
وما يمنعني من طلحة ، إلاّ نخوتُهُ وكبرُهُ ، ولو وليَها وضع خاتمه في إصبع امرأته.
وما يمنعني منك يا عثمان ، إلاّ عصبَتُكَ ، وحبّك قومك.
وما يمنعني منك يا عليّ ، إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن
ص: 340
وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم».
وبهذا يُعلم أنّ القوم هم الّذين طلبوا من عمر أن يبيّن فيهم رأيه ، فلا يُستبعد منه أن يقول فيهم السوء.
كما لا يُستبعد منه الابتداء به في وجوههم ؛ لغلظته المعروفة وغرور الإمرة ، وكونهم في محلّ الرجاء للزعامة العامّة التي يسهل عليهم في سبيلها كلّ صعب.
وروى في «الاستيعاب» ، بترجمة عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، عن ابن عبّاس ، قال : «بينا أنا أمشي مع عمر يوماً إذ تنفّس نفَساً ظننت أنّه قد قُضِبَت (1) أضلاعه ، فقلت : سبحان اللّه! واللّهِ ما أخرج منك هذا إلاّ أمر عظيم!
فقال : ويحك يا ابن عبّاس! ما أدري ما أصنع بأُمة محمّد؟!
قلت : ولِمَ وأنت قادر أن تضع ذلك مكان الثقة؟!
قال : إنّي أراك تقول : إنّ صاحبك أَوْلى الناس بها؟! يعني عليا.
قلت : أجل ، واللّهِ إنّي لأقول ذلك في سابقته وعلمه وقرابته وصهره.
قال : إنّه كما ذكرت ، ولكنّه كثير الدعابة.
قلت : فعثمان؟!
قال : فواللّهِ لو فعلتُ لحمل بني أبي مُعيط على رقاب الناس يعملون فيهم بمعصية اللّه ، واللّه لو فعلتُ لفعل ، ولو فعل لفعلوه ، فوثب الناس عليه فقتلوه!
فقلت : طلحة بن عبيد اللّه؟!
ص: 341
قال : الأُكيسع (1)؟! هو أزهى من ذلك ، ما كان اللّه ليراني أُولّيه أمر أُمة محمّد وهو على ما هو عليه من الزَّهْو!
قلت : الزبير بن العوّام؟!
قال : إذاً يُلاطم الناس في الصاع والمُد (2)!
قلت : سعد بن أبي وقّاص؟!
قال : ليس بصاحب ذلك ، ذاك صاحب مِقنَب يقاتِل به!
قلت : عبد الرحمن بن عوف؟!
قال : نِعم الرجل ذكرتَ ، ولكنّه ضعيف عن ذلك ، واللّهِ يا ابن عبّاس ما يصلح لهذا الأمر إلاّ القويّ في غير عنف ، الليّن في غير ضعف ، الجواد
ص: 342
في غير سَرَف ، والمُمسِك في غير بخل» (1).
ثمّ قال في «الاستيعاب» : «وفي حديث آخر ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر ذكر له أمر الخلافة واهتمامه بها ، فقال له ابن عبّاس : أين أنت عن عليّ؟!
قال : فيه دُعابة.
قال : فأين أنت والزبير؟!
قال : كثير الغضب ، يسير الرضا.
فقال : طلحة؟!
قال : فيه نخوة ؛ يعني كبْراً.
قال : سعد؟!
قال : صاحب مِقنَبِ خيْل.
قال : فعثمان؟!
قال : كَلِف بأقاربه.
قال : عبد الرحمن؟!
قال : ذاك الرجل ليّن - أو قال : ضعيف -.
ثمّ قال : وفي رواية أُخرى قال في عبد الرحمن : ذلك الرجل لو ولّيته جعل خاتمه في إصبع امرأته» (2).
ونقل في «كنز العمّال» (3) نحو حديث «الاستيعاب» الأوّل عن أبي
ص: 343
عبيد في «الغريب» ، والخطيب في «رواة مالك» ، ووصف فيه عليا بالدُّعابة ، والزبير بأنّه وَعْقةٌ لَقِسٌ (1) ، يلاطم على الصاع بالبقيع.
ونقل - أيضاً - عن ابن راهويه ، عن أبي مجلز ، قال : قال عمر : مَن تستخلفون بعدي؟
فقال رجل من القوم : الزبير.
قال : إذاً تستخلفونه شحيحاً غَلِقاً ؛ يعني : سيّئ الخلق ...
إلى أن قال : فقال رجل : نستخلف عليا.
فقال : إنّكم - لعمري - لا تستخلفونه ، والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ وإن كرهتم.
فقال الوليد بن عقبة : قد علمنا الخليفة من بعدك.
فقعد ، فقال : مَن؟!
قال : عثمان.
قال : وكيف بحبّ عثمان المال ، وبرّه لأهل بيته؟!» (2).
ونقل في «الكنز» أيضاً (3) ، عن ابن عساكر ، عن أبي بحرية ، أنّه
ص: 344
خرج عمر على مجلس فيه هؤلاء الستّة ، فقال : «كُلّكم يحدّث نفسه بالإمارة بعدي - إلى أن قال : - أفلا أُحدِّثكم عنكم؟!
قال الزبير : فحدّثنا ، ولو سكتنا لحدّثتنا.
ثمّ ذكر فيه أنّه قال للزبير : إنّك كافرُ الغضب ، مؤمنُ الرضا ، يوماً تكون شيطاناً ، ويوماً تكون إنساناً ، أفرأيتَ يوم تكون شيطاناً ، مَن يكون الخليفة يومئذ؟!
وقال لطلحة : مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وإنّه عليك لعاتب».
وفي «الكنز» أيضاً (1) ، عن ابن سعد ، عن سماك ، أنّه ذكر عهد عمر بالشورى ، ثمّ قال : «وقال للأنصار : أَدخِلوهم بيتاً ثلاثة أيّام ، فإن استقاموا وإلاّ فادخلوا عليهم واضربوا أعناقهم».
ونقل ابن أبي الحديد في المجلّد الثالث (2) ، نفس الحديث الذي ذكره المصنّف.
ونقل نحوه في المجلّد الأوّل (3).
فهذه الأحاديث ونحوها موجبة للطعن في عمر بأُمور :
الأوّل : إنّه خرج بالشورى عن النصّ والاختيار ؛ لأنّه لم ينصّ على واحد بعينه ، ولم يُرجع الأُمة إلى اختيارها ، ولا تثبت الإمامة عندهم إلاّ بأحد الطريقين (4) ، فوَضعُ طريق ثالث بدعةٌ.
ص: 345
وقول الخصم : «هذا من اجتهاداته ، والأمر إليه» ..
تحكّمٌ ظاهر ؛ فإنّ الاجتهاد بلا دليل إبداعٌ ، بل على مذهبهم في انعقاد البيعة ولو بواحد ، لو بايع أحدٌ أحداً ولو من غير هؤلاء الستّة كانت بيعته لازمةً ، ولا سيّما أنّه بعد موته لا إمامة له ، فما وجه تعيينه للستّة وتحكّمه في رقاب المسلمين؟!
وقد يُستدلّ على صحة عمله ومضيّه ؛ بأنّ المسلمين قد التزموا ببيعة أحد الستّة بعينهم بلا نكير ، ودخل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى بلا قهر ، فكان إجماعاً.
وفيه : إنّ الإجماع لا يثبت إلاّ مع تحقّق الرضا والاختيار ، وهو محلّ نظر ؛ لخروج أكثر المسلمين عن المدينة وهم لا يستطيعون المخالفة بعد انعقاد البيعة ؛ لعدم الجامع لهم ، فلم يُعلم رضاهم ، بل لا يستطيع من في المدينة المخالفة ؛ لأنّ السيف على رؤوس أعاظمهم ، وهم لا يقدرون على الدفع والمعارضة ، فكيف بسائر الناس؟!
الثاني : إنّه أمر بضرب أعناقهم على النهج الذي ذكره ، وبالضرورة أنّهم لا يستحقّون القتل بذلك.
ودعوى أنّ المراد : التهديدُ ، باطلة ؛ لأنّ الأمر بعد موته يخرج عن يده وعلمه ، فما يؤمنه مِن قتلهم وقد حكم به حكماً باتّاً؟!
وأما ما أجاب به القاضي ، فتخمينٌ لا يرتبط ظاهراً بكلام عمر ، كالجواب بالحمل على التهديد ، مع أنّ شقّ العصا إنّما هو بالخروج على إمام الزمان ، ولا إمام قبل بيعة أحدهم ، على أنّهم إذا شقّوا العصا فمن أوّل يوم يجب قتالهم.
ص: 346
وقول الخصم : «شقّ العصا يظهر بعد الثلاثة» ..
تخصيص من غير مخصّص ، ومجرّد كون الثلاثة من الإمام لا يقتضي التخصيص ، ولا سيّما أنّه لا إمامة له بعد موته ، كما أنّ احتمال الرجوع لا يختصّ بالثلاثة.
وبالجملة : شقّ العصا المدّعى إمّا أن يوجب القتل بمجرّد وقوعه ، أو بشرط عدم رجاء الرجوع.
وعلى الوجهين لا يختلف الحال بين الثلاثة وما بعدها ، فلا معنى لإيجاب قتل شاقِّ العصا بعدها مطلقاً ، وعدم إيجابه فيها مطلقاً.
وليت شعري ، هل مِن شقّ العصا مجرّد كون الثلاثة من غير حزب عبد الرحمن ، أو عدم الرضوخ (1) إلى رأي عبد اللّه الذي لا يُحسن طلاق زوجته (2)؟!
الثالث : إنّه حصر الأمر في الستّة ، وعابهم قبل جرحه وبعده - كما سمعته في الأخبار (3) - بما زعم أنّه مناف للإمامة ، وأكثرها مناف لها إجماعاً ؛ كالضعف ، والبخل ، والغلظة ، وكفران الغضب ، وحمل الأقارب على رقاب الناس ؛ فقول الخصم : «لم يذكر المعائب القادحة
ص: 347
للإمامة» باطلٌ.
كيف ، وعمر بنفسه قد صرّح بمنافاتها لها ، وأقرّ علماؤهم بمنافاة أكثرها لها (1)؟!
وقوله : «بل هذا من مناصحة الناس» ..
غلطٌ ؛ فإنّ المناصح لا يؤهّل مَن لا يستحقّ الإمامة ويحصر الأمر بهم.
ودعوى أنّه أشار إلى خلافة عليّ (عليه السلام) ، غير نافعة ؛ لأنّه لم يذكر إلاّ ما علِمه القومُ مثله.
على أنّه أزال أثر هذه الإشارة بجعلهم أقران عليّ ، وإطماعِه لهم بالزعامة العامة.
وظنّي أنّ عمر إنّما وصف عليا بأنّه يسلك بهم الطريق المستقيم تحذيراً لهم ، وتنبيهاً على لزوم معارضته ؛ لأنّه يحول بينهم وبين مقاصدهم وشهواتهم ، وهم عبيد الدنيا.
ولذا قال عمر في بعض الأخبار السابقة : «لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ ، وإن كرهتم» (2).
وليت شعري ، كيف صحّ لعمر أن يؤهّل الزبير للإمامة وولاية أمر الأُمة ، وهو قد منعه الغزو خوفاً من إفساده؟!
روى الحاكم في «المستدرك» (3) - وصحّحه هو والذهبيّ - ، عن قيس
ص: 348
ابن أبي حازم ، قال : «جاء الزبير إلى عمر يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : إجلس في بيتك! فقد غزوتَ مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فردّد ذلك عليه ، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليها : أُقعد في بيتك! فواللّه [إنّي] لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمّد».
الرابع : إنّه زعم أنّه لا يتحمّلها حيا وميّتاً ، اعتذاراً من عدم إسناده الأمر إلى عليّ (عليه السلام) ، بعدما أقرّ أنّه يسلك بهم الطريق المستقيم ، كما في بعض الأخبار السابقة (1).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة عمر : «ومن أحسن شيء يروى في مقتل عمر وأصحّه» (2) ، وذكر حديثاً قال فيه عمر : «إنْ ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم ؛ يعني عليا ...
فقال له ابن عمر : ما يمنعك أن تُقدّم عليا؟!
قال : أكره أن أحملها حيا وميّتاً» (3).
ونحوه في «كنز العمّال» (4) ، عن ابن سعد ، والحارث ، وأبي نعيم ، وغيرهم ، ثمّ قال : «وصُحّح».
فإنّ عمر إذا علم أنّ عليا كذلك ، كان الواجب عليه تعيينه ، ولا يُغرّر ويخاطر بالأُمّة بتأهيل غيره معه ممّن عابهم ، حتّى آل الأمر إلى أحدِ مَن
ص: 349
عابهم فوقعت الأُمة في البلاء والفتنة العظمى بقتله.
على أنّ هذا العذر كذب صريح ؛ ضرورة أنّه بتعيين الستّة ثمّ بعضهم بالنحو الذي قرّره قد تحمّلها ألبَتّةَ ، بل تحمّلها أقبح تحمّل ؛ لأمره بقتل مَن خالف ترتيبه ممّن زعم أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مات وهو عنهم راض ، ولا سيّما أنّه قد يُقتل أخو النبيّ ونفسُه ومَن يسلك بالأُمّة الطريق المستقيم.
الخامس : إنّ مجموع ترتيبه كاشفٌ عن إرادة قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) ، أو تصغير شأنه في حياته مع حرمانه ؛ ضرورة أنّ عليا وعثمان لا يتّفقان ، وأنّه لا ينضمّ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثةٌ منهم ؛ إذ لا يُرجى له إلاّ موافقة الزبير ، كما كشفت عنه الواقعة.
ولمّا كان عمر يحتمل بعيداً تبعيّة طلحة للزبير في موافقة عليّ (عليه السلام) ، جعل القول للّذين فيهم عبد الرحمن ؛ علما منه بأنّ عبد الرحمن لا يختلف مع ختَنه عثمان ، وابن عمه سعد ؛ كما صرّح به أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الأخبار السابقة (2).
ص: 350
كما أنّه جعل الحكم في بعض الأخبار إلى ابنه عبد اللّه (1) ؛ لعلمه بانحرافه عن أمير المؤمنين عند الحقائق ؛ ولذا لم يبايعه لمّا كانت البيعة له بعد عثمان ، وبايع بعده معاويةَ ويزيد (2).
فهل يرى عمر أنّ ابنه وعبد الرحمن أحقّ بالنظر لمصلحة الأُمّة من أمير المؤمنين ، الذي قال فيه سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (3) الآية ، فَحَصَرَ الولايةَ على المؤمنين به جلّ وعلا وبرسوله وأخيه؟!
ومع ذلك فقد صغّر مقامه العظيم بهذا ، وبجعله قريناً لهؤلاء الخمسة ، مع إخراجه عن الإمامة بهذا الترتيب.
وبالجملة : يدور أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بين أن لا يدخل في الشورى ، فينال عمر مقصوده من عزل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخلافة حتّى في الاستقبال - كما ستعرف - ، ويكون اللوم ظاهراً على أمير المؤمنين ، وبين أن يدخل فيها فيُقرَن بتلك النظائر ، ويؤول الأمر إلى غيره ، فيحيا متأسّفاً ، أو يُقتل مظلوماً ؛ ولذا قال في خطبته الشِّقشِقية : «فيا للهَ وللشورى ...» (4).
لكنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) آثر الدخول معهم ؛ لجهات كثيرة ..
منها : إنّه لو تجنّب الدخول في الشورى لخاف ، أو علم اتّفاق
ص: 351
الخمسة على أن يتداولوا الخلافة بينهم فلا تصل إليه ، والواجب عليه التوصّل إليها ولو بعد حين ؛ طلباً لحفظ الشريعة بالممكن.
ومنها : إنّه أراد تذكيرهم بما يعيّنه للخلافة في مورد يحسن فيه التذكير ويُصغى فيه إليه ، ويمكن عودُ الحقّ فيه إلى نصابه ، فلا يبقى لأحدهم عذر في المخالفة حتّى تيسّر له أن يصرّح بنصّ الغدير.
فإنّ سيّدنا الشريف المرتضى (رحمه اللّه) في «الشافي «استدلّ على صحّة خبر الغدير بما تظاهرت به الرواية من احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) به في الشورى على الحاضرين ، في جملة ما عدّده من فضائله ومناقبه ، وما خصّه اللّه به ، حين قال : «أَنشدكم اللّه هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بيده فقال : مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ؛ غيري؟!
فقال القوم : اللّهمّ لا» (1)!
وقد خلا ما رأيته من رواياتهم في احتجاجه (عليه السلام) يوم الشورى عن ذِكر خبر الغدير (2) ، وهو - لو صحّ - فلعلّه لكون ذِكره مبطلا بصريحه لخلافة مَن تقدّم ، وهو لا يسعه.
ومنها : إنّه (عليه السلام) أراد تضليل إمرة الشيخين ، وتهجين أعمالهما ؛ ليعتبر من له قلب.
وقد فعل ذلك لمّا عرض عليه عبد الرحمن البيعة بشرط أن يسير
ص: 352
بسيرتهما فأبى ، ولا سيّما بعد أن شهد له عمر بأنّه يسلك الطريق المستقيم ؛ إذ لو كانت سيرتهما صحيحة ومن الطريق المستقيم لوافقت عمله وقَبِل الشرط.
وقد سمعت في بعض الأخبار السالفة إباءَهُ عن قبول البيعة بالشرط (1).
وروى أحمد في «مسنده» (2) ، عن أبي وائل ، قال : «قلت لعبد الرحمن بن عوف : كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟!
قال : ما ذنبي؟! قد بدأتُ بعليّ فقلت : أُبايعك على كتاب اللّه وسنة رسوله ، وسيرة أبي بكر وعمر ؛ فقال : في ما استطعت.
قال : ثمّ عرضتُها على عثمان فقبِلها».
فإنّ الحديث وإن لم ينطق بالحقيقة - كما هي - حفظاً لشأن الشيخين ، لكنّه دالٌّ على أنّه لا يستطيع العمل بسيرة الشيخين ؛ ضرورة استطاعته العمل بالكتاب والسنة ؛ لأنّه قرينُ الكتاب (3) وبابُ
ص: 353
السنة (1).
وليس عدم استطاعته للعمل بسيرتهما لعجزه عن العمل بالحقّ ؛ لأنّ الحقّ يدور معه حيث دار (2) ، بل لعدم كونها على الحقّ والصراط المستقيم ، ولذا جعلها عبد الرحمن مغايرةً للكتاب والسنة.
ومن الواضح أنّ ما خرج عنهما ليس من الدين ، ولا على الصراط المستقيم.
وأظهر من هذا الحديث في المدعى ما في «شرح النهج» (3) ، أنّ عبد الرحمن قال لعليّ : «أُبايعك على كتاب اللّه ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.
فقال : بل على كتاب اللّه وسنة رسوله واجتهاد رأيي.
فعدل عنه إلى عثمان ، فعرض ذلك عليه ، فقال : نعم.
فعاد إلى عليّ ، فأعاد قوله ؛ فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً ، فلمّا رأى عليا غيرُ راجع عمّا قاله ، وأنّ عثمان يُنْعِمُ له بالإجابة ، صَفَق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين!
فيقال : إنّ عليا قال له : واللّهِ ما فعلتَها إلاّ لأنّك رجوتَ منه ما رجا صاحبُكما من صاحبه ، دقَّ اللّهُ بينكما عِطرَ منشِم (4).
ص: 354
قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلّم أحدُهما صاحبَه حتّى مات عبد الرحمن» ؛ انتهى.
فقد ظهر ممّا سمعتَ أنّ أمير المؤمنين وعبد الرحمن عالمان بمخالفة سيرة الشيخين للكتاب والسنة ودين اللّه تعالى ، حتّى إنّ عبد الرحمن توسّل إلى دفع الأمر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بتلك الحيلة المصطنعة.
ومِن تلك الجهات ونحوِها ممّا أوجب عليه الدخول في الشورى ، يُعلم أنّ دخوله فيها لا يدلّ على إقراره بأنّه غير منصوص عليه - كما قيل (1) - ، بل احتمال تلك الجهات كاف في رفع الدلالة.
واعلم أنّ الشورى هي التي أطمعت طلحة والزبير بالخلافة وغرّتهما بأنفسهما حتّى حاربا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة ، وهي التي أيقظت بغي معاوية وغيره.
روى في «العقد الفريد» (2) ، «أنّ زياداً أوفد ابن حصين على
ص: 355
معاوية ، فقال له معاوية : أخبرني ما الذي شتَّت أمرَ المسلمين وملأَهم ، وخالف بينهم؟
قال : نعم ، قتلُ الناسِ عثمانَ.
قال : ما صنعتَ شيئاً.
قال : فسيرُ عليّ إليك.
قال : ما صنعتَ شيئاً.
(قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتالُ عليّ إياهم.
قال : ما صنعتَ شيئاً) (1).
قال : ما عندي غير هذا.
قال : أنا أُخبرك ؛ لم يشتّت بين المسليمن ، ولا فرّق أهواءهم ، إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة ، فلم يكن رجلٌ منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه ، ولو أنّ عمر استخلف عليهم ما كان في ذلك اختلاف» ؛ انتهى ملخّصاً.
هذا ، وقد ذكر المصنّف (رحمه اللّه) أنّ عمر أجاب في رواية : «لا أجمع لبني هاشم بين النبوّة والخلافة» ، ولم أجدها في ما يحضرني الآن من كتبهم ، لكن رأيت ما يدلّ على صحّتها ..
فقد روى ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (2) ، عن ابن عبّاس ، قال : ماشيت عمر بن الخطّاب يوماً ، فقال لي : يا ابن عبّاس! ما يمنع قومكم منكم ، وأنتم أهل البيت خاصة؟!
ص: 356
قلت : لا أدري.
قال : لكنّني أدري ؛ إنّكم فَضَلْتموهم بالنبوّة ، فقالوا : إنْ فَضَلُوا بالخلافة مع النبوّة لم يُبقوا لنا شيئاً».
وروى الطبري في «تاريخه» (1) ، عن ابن عبّاس ، قال : «خرجت مع عمر في بعض أسفاره - إلى أن قال : - قال : يا ابن عبّاس! ما منع عليا من الخروج معنا؟!
قلت : لا أدري.
قال : يا ابن عبّاس! أبوك عمّ رسول اللّه ، وأنت ابن عمّه ، فما منع قومكم منكم؟!
قلت : لا أدري.
قال : لكنّي أدري ؛ يكرهون ولايتكم لهم.
قلت : لِمَ ونحن لهم كالخير؟!
قال : اللّهمّ غفراً! يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فتكونوا بَجَحاً بَجَحاً».
وروى - أيضاً (2) - عن ابن عبّاس نحو ذلك بقصّة لطيفة ، تقدّم نقلها في المبحث الرابع من مباحث الإمامة ، فراجع (3).
ص: 357
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : إنّه أبدع في الدين ما لا يجوز ؛ مثل : التراويح (2) ؛ ووضع الخراج على السواد (3) ؛ وترتيب الجزية (4).
وكلّ هذا مخالف للقرآن والسنة ..
لأنّه تعالى جعل الغنيمة للغانمين ، والخمس لأهل الخمس (5).
والسنة تنطق بأنّ الجزية على كلّ حالم دينار (6) ، وأنّ الجماعة إنّما
ص: 358
تجوز في الفريضة (1).
أجاب قاضي القضاة ، بأنّ قيام رمضان جاز أن يفعله النبيّ ويتركه (2).
واعترضه المرتضى ، بأنّه لا شبهة في أنّ التراويح بدعةٌ ؛ لأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «أيّها الناس! إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعةً بدعةٌ ، [وصلاة الضحى بدعة ،] ألا فلا تجمعوا في شهر رمضان في النافلة ، ولا تُصلّوا صلاة الضحى ؛ فإنّ قليلا من سنة خيرٌ من كثير من بدعة ، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالة سبيلُها إلى النار (3).
وخرج عمر في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ،
ص: 359
فقال : ما هذا؟
فقيل له : إنّ الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع.
فقال : بدعةٌ ، ونِعمَت البدعة.
فاعترف - كما ترى - بأنّها بدعة (1) ، وقد شهد الرسول بأنّ كلّ بدعة ضلالة (2).
وسأل أهلُ الكوفة من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن ينصب لهم إماماً يُصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، فزجرهم ، وعرَّفهم أنّ ذلك خلاف السنة ، فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم وقدّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) فدخل المسجد ومعه الدرّة (3) ، فلما رأَوْهُ تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه (4)!
ص: 360
وقيام شهر رمضان أيّامَ الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ثابتٌ عندنا ، لكن على سبيل الانفراد ، وإنّما أنكرنا الاجتماع على ذلك ، ومدّعيه مكابرٌ ؛ لم يقل به أحد ، ولو كان كذلك لم يقل عمر : إنّها بدعة.
فهذه البدع بعض ما رواه الجمهور ، فإنْ كانوا صادقين في هذه الروايات ، فكيف يجوز الاقتداء بمن طُعن فيه بهذه المطاعن؟!
وإن كانوا كاذبين ، فالذنب لهم والوزر عليهم ، وعلى مَن يقلّدهم ، حيث عَرفَ كذبَهم ونَسب رواياتهم إلى الصحّة ، وجعلوها واسطة بينهم وبين اللّه تعالى.
ص: 361
وقال الفضل (1) :
ذكر من مطاعنه في هذا الفصل ثلاثة أشياء :
الأوّل : إنّه أبدع في الدين ما لا يجوز ؛ مثل التراويح ؛ والجماعةُ إنّما تكون في الفريضة.
فنقول : قد ثبت في «الصحاح» ، عن زيد بن ثابت : «أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) اتّخذ حجرة في المسجد من حصير ، فصلّى فيها ليالي حتّى اجتمع إليه ناس ، ثمّ فقدوا صوته ليلة ، وظنّوا أنّه قد نام ، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم ، فقال : ما زال بكم والذي (2) رأيتُ من صنيعكم حتّى خشيت أن يُكتب عليكم ، ولو كُتب عليكم ما قمتم به ، فصلّوا - أيّها الناس - في بيوتكم ؛ فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاةُ المكتوبةُ» (3).
وعن أبي هريرة ، قال : «كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ، فيقول : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
فتوفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك
ص: 362
في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر» (1).
وعن أبي ذرّ ، قال : «صمنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتّى بقي سبع ، فقام بنا حتّى ذهب شطر الليل ، فقلت : يا رسول اللّه! لو نفلتنا قيامَ هذه الليلة؟
فقال : إنّ الرجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف حُسب له قيامُ ليلة.
فلمّا كانت الرابعة ، لم يقم حتّى بقي ثلث الليل ، فلمّا كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح - يعني : السحور - ثمّ لم يقم بنا بقيّة الشهر» (2).
هذه الأخبار كلّها في «الصحاح» ، وهذا يدلّ على أنّ رسول اللّه كان يصلّي التراويح بالجماعة أحياناً ، ولم يداوم عليها ؛ مخافة أن تُفرض على المسلمين فلم يطيقوا ، فلمّا انتهى هذه المخافة جمعهم عمر وصلّى التراويح.
وأمّا قوله : «اعترف بأنّها بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة» ..
فنقول : البدعة قد تقال ويراد بها : ما ابتُدِع من الأعمال التي لم يكن خصوصها في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وإن كانت موافقةً للقواعد ، مأخوذةً من الأُصول الشرعيّة التي تقرّر في زمانه.
مثلا : عمل المؤذّن (3) بدعة مستحبّة - وإن لم يكن في زمن
ص: 363
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّ أصله - وهو الإعلان بالأذان وتشهيره - مأخوذٌ من استحباب الشرع ، وموافقٌ للأُصول الدينية.
وهذه البدعة قد تكون مستحبّة ، وقد تكون مباحة ، كما صرّح به العلماء (1).
فقول عمر : «بدعةٌ ونِعْمَتِ البدعةُ» ؛ أراد به : أنّه لم يتقرّر أمرها في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا لا ينافي كونها معمولة في بعض الأوقات ، فاندفع اعتراضُ المرتضى عن قاضي القضاة.
وأمّا ما ذكره من أنّ أمير المؤمنين منعه في أيّام خلافته في الكوفة ، فإن صحّ جازَ أن يؤدّي اجتهاده إلى المنع ؛ لأنّ المقام مقام الاجتهاد ، ولا اعتراض على المجتهد إذا خالف مجتهداً آخر.
الثاني : إنّه أبدع وَضْعَ الخراج ، ورسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يضعِ الخراجَ.
والجواب : إنّ الخراج إنّما يوضَع على الأراضي التي فُتحت صُلحاً ، ولم يُفتح في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مدينة من المدائن صلحاً ، بل أسلم أهلها ، أو فُتح عنوةً ، فلهذا لم يوضع الخراج ، ولم يتقرّر أمره.
ثمّ لمّا فتح بلاد كسرى - وكان عمل الملوك فيها الخراج - اقتضى رأيه الخراج ، فشاور الأصحاب وأجمعوا عليه ، فعمل بالخراج ؛ للإجماع.
وكان أمير المؤمنين من أهل ذلك الإجماع ، ولم يقدر أحد أن يروي أنّ أمير المؤمنين اعترض على عمر في وضع الخراج ، بل رضي به ، ولو كان غيرَ صالح لكان يعترض عليه ، كما اعترض عليه في حدّ الحامل (2) ،
ص: 364
والمجنون (1).
وأيضاً عمل به أمير المؤمنين في زمان خلافته ، وأخذ الخراج من سواد العراق ، ولو كان باطلا في الدين أبطله وأفسده ، وكذا قرّره سائر خلفاء الإسلام.
وقام الدين بالخراج ، وكلّ الناس عيال على الخراج ، والأمر الذي مرّ عليه جميع المجتهدين وأئمّة الإسلام واستحسنوه ، وأيّدوه بالقرآن في قوله تعالى : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (2) ، قيل : أُريد به الخراج (3).
ثمّ جاء البوّالُ الأعرابيُّ - الذي سواءٌ قوله وبوله - يعترض على إمام الإسلام ، والمُلهَم بالصواب في كلّ مقام!
الثالث : إنّه أبدع ترتيب الجزية ، والسنة تنطق في أنّ الجزية على كلّ حالم دينار.
فالجواب : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخذ من كلّ حالم ديناراً ، على ما رواه معاذ بن جبل ، قال : «بعثني النبيّ إلى اليمن ، فأمر أن نأخذ من كلّ حالم ديناراً» (4).
وهذا لا يدلّ على نفي الزيادة ، ففي الزيادة مساغٌ للإمام ، وربّما كان أهلُ اليمن فقراءَ ، أخذ منهم أقلّ الجزية.
وأمثال هذا ممّا لا طعن فيه ؛ لأنّ سائر الخلفاء الراشدين بعده تبعوه
ص: 365
في هذا.
ولو كان الأمر على خلاف السنة لخالفوه الراشدون بعده ، سيّما أمير المؤمنين عليّ ، وإلاّ لكان يقدح في عصمته على رأيهم.
وأمّا ما ذكر ، أنّ مطاعن عمر رواه الجمهور ..
فإن أراد بالجمهور : أصحابه ، فلا يبعد أن يكون صادقاً.
وإن أراد به : أهل السنة ، فلم يروِ واحدٌ من العلماء من أهل السنة والجماعة طعناً في عمر.
وما ذكره من المطاعن ، فقد عرفتَ جواب كلّ واحد على وجه يرتضيه كلُّ عاقل مؤمن ، وينقاد له كلُّ منافق ؛ لظهور حجّته وصحّة بيّنته ، والحمد لله على ذلك.
ثمّ بعد هذا يشرع في مطاعن عثمان بن عفّان ، ونحن قبل المطاعن - على ما وعدنا - نذكر شَمةً (1) من مناقبه وفضائله ، فنقول : أمير المؤمنين عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف ، يتّصل نسبه برسول اللّه في عبد مناف.
وكان في الجاهلية من أشراف قريش وصناديدها ، وصاحب الأموال الجمّة ، والعشائر الوافرة.
أسلم في أوائل البعثة ، وهو من أهل السابقة في الإسلام وقدماء المهاجرين ، وزوّجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنته رقيّة ، وهاجر إلى الحبشة ،
ص: 366
ثمّ هاجر إلى المدينة ، وبذل أمواله في سبيل اللّه ، فهو صاحب الهجرتين ، ومصلّي القبلتين ، وزوج النورين (1).
ثمّ لمّا توفّى [اللّهُ] رقيّة ، زوّجه أُمَّ كلثوم بنت رسول اللّه (2).
واتّفق جميع أهل الأعصار أنّ هذه فضيلة لم تحصل لأحد من أولاد آدم ، أن يجتمع عنده بنتا نبيّ ، سيّما سيّد النبيّين.
ثمّ لمّا هاجر رسول اللّه ، هاجر عثمان من الحبشة إلى المدينة ، وبذل أمواله في سبيل اللّه.
رُوي في «الصحاح» ، عن طلحة بن عبيد اللّه ، أنّه قال : قال النبيّ : «لكلّ نبيّ رفيق ، ورفيقي في الجنّة عثمان» (3).
وعن عبد الرحمن بن خبّاب ، قال : «شهدت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وهو يحثّ على جيش العسرة ، فقام عثمان فقال : يا رسول اللّه! علَيَّ مئة بعير بأحلاسها (4) وأقتابها (5) في سبيل اللّه.
ثمّ حضَّ ، فقام عثمان فقال : يا رسول اللّه! علَيَّ مئتا بعير بأحلاسها
ص: 367
وأقتابها في سبيل اللّه.
ثمّ حضَّ ، فقام عثمان فقال : علَيَّ ثلاثُمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل اللّه.
فأنا رأيت رسول اللّه ينزل من على المنبر وهو يقول : ما على عثمان ما عمل بعد هذه» (1).
وعن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : «جاء عثمان إلى النبيّ بألف دينار في كمّه حين جهّز جيش العسرة ، فنثرها في حجره ، فرأيت النبيّ يقلّبها في حجره ، ويقول : ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ؛ مرّتين» (2).
وعن أنس ، قال : لمّا أمرنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ببيعة الرضوان ، كان عثمانُ رسولَ رسولِ اللّه إلى مكّة ، فبايع الناس.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ عثمان في حاجة اللّه وحاجة رسوله ؛ فضرب بإحدى يديه على الأُخرى ، وكانت يد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خيراً من أيديهم أنفسهم» (3).
والأخبار في فضائله كثيرة ، وقد ذكرنا يسيراً منها ..
ثمّ نشرع في دفع المطاعن التي رواها هذا الرافضيّ الضالّ عن شيوخه الضالِّين ، على دأبنا.
ص: 368
يرد على ما أجاب عن الطعن الأوّل أُمور :
الأوّل : إنّ الاستدلال بحديث زيد بن ثابت باطلٌ لجهتين :
الأُولى : دلالته على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول شيئاً ويفعل خلافه ، ويأمر ولا يأتمر ؛ لأنّه يقول فيه : «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة».
ويتّخذ حجرةً من حصير في المسجد يُصلّي بها النافلة ، وهذا ممتنع على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فيكون الحديث كاذباً.
ودعوى أنّه أراد التشريع بفعله ، غير صحيحة ؛ لإغناء بيانه القولي عن الفعل المرجوح.
ولو سُلّم صحّة مثل هذا التشريع بالفعل ، كفى فيه أن يصلّي صلاة واحدة ، فكيف يصلّي لياليَ؟!
ثمّ إنّه إذا فُرض أنّ صلاة المرء في بيته أفضل ، فكيف يفرض عليهم المفضول لمجرّد صنيعهم له بوجه الندب؟!
الجهة الثانية : إنّ هذا الحديث غيرُ تامِّ الدلالة ؛ لأنّ اجتماع الناس إليه أعمّ من صلاتهم بصلاته ومنفردين ؛ ولعدم دلالة الحديث على علم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بصلاتهم معه جماعة حينما صلّى.
ولذا قال البخاري في هذا الحديث - عندما رواه - في باب «صلاة الليل» : «فلمّا علم بهم جعل يقعد» (1).
ص: 369
ولا يخفى ما في قوله : «ولو كُتب عليكم ما قمتم به» من الذمّ لهم ، على خلاف ما يراه القوم من عدالتهم.
وأَوْلى منه في ذمّهم ما رواه مسلم في باب «استحباب صلاة النافلة في بيته» ، عن زيد بن ثابت ، قال في حديثه : «فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول اللّه مُغْضَباً ...» (1) .. الحديث.
ورواه البخاري - أيضاً - في كتاب «الأدب» ، في «باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه عزّ وجلّ» (2).
الأمر الثاني : إنّ حديث أبي هريرة لا دلالة فيه على مدّعى الخصم ، بل هو دالٌّ على الخلاف ؛ لأنّ المراد بترغيب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في قيام رمضان : هو الترغيب في قيامه فرادى ؛ إذ لا يمكن أن يُرغِّب في قيامه جماعةً في المسجد وهو يقول : «أفضل صلاة المرء في بيته» ، فإنّهما متضادّان.
فإذا توفّي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك إلى صدر من إمارة عمر ؛ كان عمر بأمره في قيام رمضان في المسجد جماعةً مُبدعاً ، وهو المطلوب!
الثالث : إنّ ما حمل عليه لفظ البدعة ، غير صحيح ؛ لأنّه إذا زعم أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يصلّي بهم أحياناً ، لم يصحّ منه القول بأنّ خصوصها لم يكن في زمان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، إلاّ أن يريد أنّها لم تكن متعارفة في زمانه وإنْ ثبت أصلها ، لكن لا يحتاج حينئذ إلى القول بأنّها مأخوذة من
ص: 370
الأُصول الشرعيّة ؛ لفرض ثبوت أصلها وأنّ النبيّ صلاّها.
وبالجملة : إن قلنا : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صلاّها ورغّب فيها ، كان أصلها وخصوصها ثابتاً ، ولم يكن معنىً لإطلاق عمر عليها البدعة.
وإنْ لم نقل ذلك ، منعنا موافقتها للقواعد ؛ إذ لا نعرف قاعدة تقتضي جواز أن تُصلّى النافلة جماعةً ، بل القاعدة المنع ؛ لأنّها تستلزم تفويت القراءة بلا دليل.
وكيف كان ، لا يمكن إنكار دلالة جملة من الأخبار على أنّها من مبتدعات عمر التي لم تكن في زمن النبيّ.
وما دلَّ على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فعلها أحياناً في المسجد غير حجّة ؛ لأنّه - مع الغضّ عن سنده - إنّما هو من رواية الخصوم ، ومحلّ التهمة في حقّ عمر ، ولمعارضته بما هو حجة عليهم.
وكيف يمكن أن يدّعي أنّها ليست من مبتدعاته ، وقد عدّها أولياؤه من أوّلياته ، كما في «تاريخ الطبري» (1) ، و «كامل» ابن الأثير (2) ، و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي (3) ، وعن ابن سعد (4) ، وابن الشحنة (5)؟!
وقال في «الاستيعاب» بترجمة عمر : «هو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الإشفاع» (6).
ص: 371
إلى غيرهم من المؤرّخين والمترجمين (1).
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، كفى في إبداع عمر جعلها في المساجد سنةً ، وتفضيلها على الفرادى في البيوت ، خلافاً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إذ يقول : «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة» (2).
وقد روي في «كنز العمّال» (3) ، أنّ «فضل صلاة التطوّع في البيت على فِعلها في المسجد كفضل الجماعة على المنفرد».
وأمّا ما أجاب به عن الطعن الثاني ، ففيه :
أوّلا : إنّ قوله : «إنّ الخراج إنّما يوضع على الأراضي التي فُتحت صُلحاً» ، مناف لمطلوبه ، ومصحِّحٌ للطعن في عمر ؛ لأنّه وضع الخراج على سواد العراق ونحوه ممّا فتح عنوةً لا صُلحاً (4).
ثانياً : إنّ قوله : «لم يُفتح في زمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مدينةٌ من المدائن صلحاً» ، خطأٌ واضح ؛ لِما سبق من فتح فدك وغيرها صلحاً ؛ ولذا كانت من الأنفال المختصة به (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (5).
وثالثاً : إنّ قوله : «اقتضى رأيه الخراج» ، مسلّم ؛ لكنّ الكلام في صحة رأيه ومشروعيّة حكمه.
كيف ، وقد رووا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قسّم حصون خيبر التي فتحها
ص: 372
عنوة بعدما أخذ منها الخمس ، كما سبق في مسألة منع الزهراء إرثها (1)؟!
وروى البخاري (2) ، أنّ عمر قال : «لولا آخرُ المسلمين ما فَتحتُ قريةً إلاّ قسَمتُها كما قسَم النبيُّ خيبر».
وقوله : «شاوَر الأصحاب وأجمعوا عليه» ..
ممنوعٌ ، وهل هو إلاّ كدعوى المشاورة على تغيير حكم اللّه ومخالفة كتابه الموجِب للخمس في الغنيمة؟!
وقوله : «لم يقدر أحد أن يروي أنّ أمير المؤمنين اعترض على عمر ...» إلى آخره ..
لو سُلّم ، فوجهُه ظاهر ، كما في سائر الأحكام السياسيّة التي يراعيها عمر في ملكه ، بل والغالب من غيرها.
أتُرى أنّ أمير المؤمنين يعترض على عمر ويقول له : سلّم إلينا الخمس ولا تأخذ الخراج ؛ وهو يعلم أنّه قد قبض هو وأبو بكر قبله خمس خيبر الذي قسمه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لهم ، فكيف يعطيهم ما فتحه هو ويمتنع من أخذ الخراج؟!
وإنّما أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الخراج ؛ لعدم تيسّر مخالفة عمر ؛ فإنّه لو أخذ الخمس واختصّ به هو وأهله وترك الخراج ، لأدّى الحال إلى الهرج والمرج ، وانتقض عليه أمره.
وقد كان (عليه السلام) غير مستقرّ الأمر ، ولم يتمكّن من تغيير غالب مبتدعات
ص: 373
عمر التي ليست في الأهمّية مثل هذا ، فكيف يقدر على تغييره والناس كما قال الخصم : «عيال على الخراج»؟!
على أنّ النقض علينا بفِعل أمير المؤمنين (عليه السلام) غير صحيح ؛ لأنّا نرى أنّه الإمام الحقّ ، وأنّ كلّ ما غنمه المسلمون بغير إذنه هو له خاصّة.
فحينئذ إذا أخذ الخراج من سواد العراق ونحوه ، فقد أخذ بعض حقّه وما إليه أمرُه ، فلا نقضَ.
وأمّا بقيّة السلاطين فلا عبرة بهم ؛ لأنّهم أمثال عمر ، وعنه أخذوا ؛ كعلمائهم ، وبه أكلوا وتملّكوا.
وأمّا ما أيّد به مطلوبه من قوله تعالى : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (1) ..
فليس في محلّه ؛ لأنّه إن أُريدَ فيه بالخراج ما هو محلّ الكلام ، فقد دلّت الآية على أخذ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له وارتزاقه منه ، فكانت دليلا لا مؤيِّداً ، وهو خلاف الواقع بالاتّفاق.
وإنْ أُريدَ به الرزق ، لم تصلح الآية للتأييد ؛ لعدم ارتباطها حينئذ بمحلّ الكلام ؛ حيث إنّ المعنى : أم تسألهم أجراً على ما جئتهم به ، فأجر ربّك ورزقه خير.
وأمّا جوابه عن الطعن الثالث ، بأنّ حديث معاذ «لا يدلّ على نفي الزيادة» ، فممنوع ؛ لظهوره في أنّ الجزية خصوص الدينار على كلّ حالم ؛ لمساواة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بين الجميع فيه ، ويمتنع عادة أن لا يكون فيهم غنيٌّ ولا متوسّطُ الحال.
ص: 374
ولو سُلّم عدم ظهوره في ذلك ، فاستباحةُ الزائد على الدينار محتاجةٌ إلى دليل ، وهو مفقود عندهم.
ولو سُلّم جوازه بمقتضى القاعدة ، فقوله : «ففي الزيادة مساغٌ للإمام» ، ظاهر في أنّ للإمام الحكمَ بما يشاء ، ولا يتقيّد بكتاب وسنة ، كما جرت به سيرة عمر ، وقضى به اعتذارهم عنه بالاجتهاد الذي يريدون به هذا المعنى في كثير من الموارد ، وهو التشريعُ المحرّمُ والنبوّةُ الجديدة!
ولو سُلّم عدم التشريع منه في ذلك ، فهناك مطاعنُ أُخرُ غيرُه كثيرةٌ ..
منها : إنّه أبدع وضع العشور ..
روى في «الكنز» (1) ، عن أبي عبيد ، وابن سعد ، عن أنس ، قال : بعثني عمر وكتب لي أن آخذ من أموال المسلمين ربعَ العُشر ، ومن أموال أهل الذمّة إذا اختلفوا بها للتجارة نصف العُشر ، ومن أموال أهل الحرب العُشر».
وروى - أيضاً - عن الشافعي ، وأبي عبيد ، والبيهقي ، عن ابن عمر : «أنّ عمر كان يأخذ من النبَط (2) نصف العُشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل
ص: 375
إلى المدينة ويأخذ من القبَطة (1) العُشر» (2).
وروى عن الشافعي ، وأبي عبيد ، عن السائب ، قال : «كنتُ عاملا على سوق المدينة زمنَ عمر ، فكنّا نأخذ من النّبط العشر» (3).
وعن أبي عبيد ، عن الشعبي ، قال : «أوّلُ من وضع العُشر في الإسلام عمر» (4).
ونحوه ، عن عبد الرزّاق ، عن ابن جريج (5).
إلى غير ذلك ممّا في «الكنز» (6) ، وغيره (7).
ص: 376
ومنها : إنّه أوجب الزكاة في الخيل وهي غيرُ واجبة ..
حكى في «كنز العمّال» (1) ، عن البيهقي ، وأبي عاصم النبيل ، عن يعلى ، قال في جملة حديثه : «قال عمر : إنّا نأخذ من كلّ أربعين شاةً ، شاةً ، ولا نأخذ من الخيل شيئاً ، خذ من كلّ فرس ديناراً.
قال : فضرب على الخيل ديناراً ، ديناراً».
وحكى أيضاً عن ابن جرير ، عن عمر ، قال : «يا أهل المدينة! إنّه لا خير في مال لا يُزكّى ؛ فجعل في الخيل عشرةَ دراهم ، وفي البراذين ثمانية» (2).
وذكر السيوطي في «تاريخ الخلفاء» ، في أوّليات عمر ، أنّه أوّل من أخذ زكاة الخيل (3).
ويدلّ على عدم الوجوب ما رواه البخاري (4) ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ليس على المسلم صدقةٌ في عبده ولا فرسه».
ورواه مسلم بعدة طرق (5).
ص: 377
وروى الحاكم في «المستدرك» (1) ، وصحّحه مع الذهبيّ ، عن حارثة ابن مضرب ، قال : «جاء ناس من أهل الشام إلى عمر ، فقالوا : إنّا قد أصبنا أموالا ؛ خيلا ورقيقاً ، نُحبّ أن تكون لنا فيها زكاةٌ وطهورٌ.
قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله.
فاستشار عمر عليا في جماعة من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال عليٌّ : هو حسن إن لم يكن جزيةً يؤخذون بها راتبةً».
ومثله في «الكنز» أيضاً (2) ، عن جماعة ، منهم ابن جرير ، قال : «وصحّحه».
فكيف جاز لعمر جعلها راتبةً لازمةً وهم مخيّرون؟!
وقد أبدع عمر - أيضاً - الزكاةَ في الأُدُم (3) ..
حكى في «الكنز» (4) ، عن الشافعي ، وعبد الرزّاق ، وأبي عبيد ،
ص: 378
والبيهقي ، والدارقطني ، قال : «وصحّحه» ، عن حِماس ، قال : «كنت أبيع الأُدُم والجِعاب (1) فمرّ بي عمر بن الخطّاب ، فقال : أدِّ صدقة مالك!
فقلت : يا أمير المؤمنين! إنّما هو الأُدُم.
قال : قوِّمه ، وأخرِج صدقته!».
مع أنّه قد روى الحاكم (2) - وصحّحه مع الذهبيّ على شرط الشيخين - ، عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال : «إنّما آخذ الصدقة من الحنطة ، والشعير ، والزبيب ، والتمر».
ثمّ روى الحاكم - أيضاً - ، وصحّحه مع الذهبيّ ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا تأخذوا الصدقة إلاّ من هذه الأربعة ؛ الشعير ، والحنطة ، والزبيب ، والتمر» (3).
[ومنها :] (4) وأبدع عمر - أيضاً - الزكاةَ في الحُلِيّ ، مع أنّه لا زكاة في الذهب والفضة إلاّ من النقدين ؛ لدليلهما الخاصّ (5).
حكى في «الكنز» (6) ، عن البخاري في «تاريخه» ، والبيهقي ، عن
ص: 379
شعيب بن يسار ، أنّ عمر كتب أن يُزكّي الحُليّ.
ثمّ نقل عن البيهقي ، أنّه روى عن شعيب ، قال : «كتب عمر إلى أبي موسى أن مرْ مَن قبَلك من نساء المسلمين أن يصَّدّقن من حُليِّهنّ» (1).
ومنها : إنّه أسقط سهم المؤلّفة قلوبُهم الذي فرضه اللّه سبحانه في كتابه العزيز ، وأعطاهم إيّاه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مدّة حياته.
قال تعالى في سورة التوبة : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (2).
دلّت الآية على أنّ سهمَ المؤلّفة فرضُ اللّه تعالى ، وأنّه على مقتضى العلم والحكمة ؛ فإنّ الحكمة تقتضي تأليفهم وترغيبهم وغيرهم في الإسلام.
وذكر السيوطي في «الدرّ المنثور» ، أنّه أخرج أبو داود ، والبغوي في «معجمه» ، والطبراني ، والدارقطني ، عن زياد بن الحارث ، قال : قال رجل : يا رسول اللّه! أعطني من الصدقة.
فقال : إنّ اللّه لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتّى حكم فيها ، فجزّأها ثمانية أجزاء ، فإن كنتَ من تلك الأجزاء أعطيتُك حقك» (3).
ص: 380
وروى السيوطي - أيضاً - نحوه ، عن ابن سعد (1).
فإذا كان اللّه سبحانه لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره حتّى جزّأها بنفسه المقدّسة ، فكيف جاز لعمر أن يُسقط سهم المؤلّفة؟!
قال في كتاب «الجوهرة النيّرة على مختصر القدوري في الفقه الحنفي» (2) : «إنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤوا بعد النبيّ إلى أبي بكر ليكتب لهم بعادتهم ، فكتب لهم بذلك ، فذهبوا بالكتاب إلى عمر ليأخذوا خطّه على الصحيفة ، فمزّقها ، وقال : لا حاجة لنا بكم ، فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن أسلمتم وإلاّ فالسيف بيننا وبينكم!
فرجعوا إلى أبي بكر ، فقالوا له : أنت الخليفة أم هو؟!
فقال : بل هو إن شاء اللّه ؛ وأمضى ما فعله عمر».
وهذا القول من عمر جهلٌ بوجه الحكمة ، وعمدٌ في مخالفة اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ أعطاهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقد فشا الإسلام وعزّ أهلُه فوق العزّ يومَ منعهم عمر وأبو بكر.
وروى الطبري في «تفسيره» ، عن حبّان بن أبي جبلة ، قال : «قال عمر - وقد أتاه عُيينة بن حِصن (3) - : ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
ص: 381
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (1) ؛ أي ليس اليوم مؤلّفة» (2).
والعجب من السنة ، كيف اتّبعوا عمر في ذلك مع علمهم بما ذكرنا؟!
ولم أجد منهم مَن يظهر منه خلاف عمر سوى النادر ؛ كالطبري في «تفسيره» ؛ فإنّه نقل القول ببقاء سهم المؤلّفة عن إمامنا أبي جعفر (عليه السلام) وأظهر الموافقة له (3).
وكالرازي في «تفسيره» ، قال عند ذكر المؤلّفة : «إنّ هذا الحكم غير منسوخ» ، ثمّ قال : «لا دليل على نسخه ألبتّة» (4) الآية (5).
ومنها : إنّه أسقط مع أبي بكر سهمَ أهلِ البيت من الخمس ، وقد جعله اللّه تعالى لهم في كتابه المجيد ، قال عزّ وجلّ : ( واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمُسَهُ وللرسول ولذي القربى ... ) (6).
وأعطاهم إياه رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
ص: 382
فاغتصبهم أبو بكر ، ومنعهم هو وعمر ما أعطاهم النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنعاهم - أيضاً - خمس الغنائم الحادثة ، كما سبقت الإشارة إليه في غصب فدك (1) ، وسيأتي - إن شاء اللّه تعالى - تمام الكلام.
ومنها : إنّه جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات ، كما ذكره السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (2) ، وابن الشحنة في «روضة الناظر» (3) ، وابن الأثير في «كامله» (4) ، وعدّوه جميعاً من أوّليّات عمر.
ونقل في «الكنز» (5) ، عن الطحاوي ، عن سليمان بن يسار ، قال : «جمع عمر الناس على أربع تكبيرات في الجنازة».
ونقل - أيضاً - نحوه ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن أبي وائل (6).
وهو خلاف سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) (7).
ويدلّ عليه جملة من أخبار القوم :
روى أحمد في «مسنده» (8) ، عن عبد الأعلى ، قال : «صلّيت
ص: 383
خلف زيد بن أرقم على جنازة ، فكبّر خمساً ، فقام إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده ، فقال : نسيت؟!
قال : لا ، ولكن صلّيت خلف أبي القاسم خليلي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فكبّر خمساً ، فلا أتركها أبداً».
وروى النسائي في «صحيحه» (1) ، عن [ابن] أبي ليلى : «أنّ زيد بن أرقم صلّى على جنازة فكبّر عليها خمساً ، وقال : كبّرها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)».
وسينقل المصنّف (رحمه اللّه) في مسائل الفقه ، عن الديلمي ، والخطيب في «تاريخه» ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يصلّي على الميّت بخمس تكبيرات (2).
وروى مسلم (3) ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : «كان زيد يصلّي على جنائزنا أربعاً ، وإنّه كبّر على جنازة خمساً ، فسألته فقال : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يكبّرها».
ومثله في «صحيح الترمذي» (4).
فإنّه ظاهرٌ في أنّ عمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسنته هو التكبير خمساً (5) ، كما استظهره الترمذي أيضاً ، فقال بعد ذِكر الحديث : «وقد
ص: 384
ذهب بعض أهل العلم إلى هذا ، من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وغيرِهم ؛ رأوا التكبير على الجنازة خمساً» (1).
فيكون تكبير زيد أربعاً ؛ للتقيّة.
ولو فُرض استفادة التخيير بين الأربع والخمس من هذا الحديث ، كان عمر بتعيين الأربع مشرّعاً!
ومنها : تحريمه البكاء على الميّت ، حتّى عاقب عليه واستباح المحرّمات ، وهتك الحُرمات لأجله ، مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نهاه مراراً عن منع البواكي ، وفعله النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه الشريفة ، وطلبه مراراً (2).
أمّا تحريم عمر له ، فقد ذكره البخاري في «باب البكاء عند المريض» من «أبواب الجنائز» ، قال : «وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب» (3).
وروى الطبري في «تاريخه» ، عند ذكِر موت أبي بكر في حوادث
ص: 385
سنة 13 (1) ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : «لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر حتّى قام ببابها ، فنهاهنّ عن البكاء ، فأبَيْنَ أن ينتهين.
فقال عمر لهشام بن الوليد : ادخل فأخرج لي ابنة أبي قحافة ، أُخت أبي بكر.
فقالت عائشة لهشام : إنّي أُحرّج عليك بيتي.
فقال عمر : أُدخل ، فقد أذنتُ لك!
فدخل ، فأخرج أُمّ فروة أُخت أبي بكر إلى عمر ، فعلاها بالدِّرّة ، فضربها ضربات ، فتفرّق النوح».
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (2).
وكذا في «كنز العمّال» (3) ، عن ابن سعد ، عن سعيد بن المسيّب.
ثمّ نقل - أيضاً - نحوه ، عن ابن راهويه ، عن سعيد ، وقال : «هو صحيح» ، وذكر فيه أنّ عمر قال لهشام : «أخرِج النساء ... إلى أن قال : فجعل يُخرجُهنّ امرأةً امرأةً وهو يضربُهنّ بالدِّرّة» (4).
ونقل أيضاً في «الكنز» ، عن عبد الرزّاق ، عن عمرو بن دينار ، قال : «لمّا مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين ، فجاء عمر - ومعه ابن عبّاس - ومعه الدِّرّة ، فقال : يا عبداللّه! ادخل على أُمّ المؤمنين
ص: 386
فأْمُرها فلتحتجب وأَخرجهنّ علَيَّ.
فجعل يُخرجهُنّ عليه وهو يضربهنّ بالدِّرّة ، فسقط خمار امرأة منهنّ ، فقالوا : يا أميرَ المؤمنين! خمارُها!
فقال : دعوها! فلا حُرمة لها!
وكان يعجبُ من قوله : لا حرمة لها» (1)!
ونقل أيضاً في «الكنز» ، عن عبد الرزّاق ، عن نصر بن أبي عاصم ، «أنّ عمر سمع نوّاحةً بالمدينة ليلا ، فأتاها ، فدخل عليها ففرّق النساء ، فأدرك النائحة فجعل يضربها بالدِّرّة ، فوقع خمارها ، فقالوا : شعرُها يا أميرَ المؤمنين!
فقال : أجل ، لا حرمة لها» (2).
.. إلى غير ذلك من أخبارهم (3).
وأمّا نهي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لعمر عن منع البواكي (4) ، فقد رواه النسائي في «صحيحه» (5) ، عن أبي هريرة ، قال : «مات ميّت من آل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فاجتمع النساء يبكين عليه ، فقام عمر ينهاهن ويطردُهن ، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : دعهنّ يا عمر! فإنّ العينَ دامعةٌ ، والقلبَ مصابٌ ، والعهدَ قريبٌ».
ص: 387
ونحوه في «مسند أحمد» ، عن ابن عبّاس (1) ، وأبي هريرة (2).
وأمّا ما يدلّ على فعل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) للبكاء (3) ، فأخبار مستفيضة ، روى جملة منها البخاري في «أبواب الجنائز» (4) ، ومسلم في كتاب «الجنائز» (5) ، وكتاب «الفضائل» (6).
وفي بعض أخبارهما ، أنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بكى على صبيّ مات لإحدى بناته ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول اللّه؟!
قال : هذه رحمةٌ جعلها اللّه في قلوب عباده ، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء (7).
وبكى (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على ولده إبراهيم - كما في رواية البخاري - ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول اللّه؟!
قال : يا ابن عوف! إنّها رحمة ؛ ثمّ أتبعها - يعني : عبرته - بأُخرى ، فقال : إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون (8).
ص: 388
وقال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» بترجمة حمزة (عليه السلام) : «لمّا رأى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حمزة قتيلا بكى ، فلمّا رأى ما مثل به شهق» (1).
وروى أحمد في «مسنده» من روايات بكاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يُحصى (2).
وأمّا ما يدلّ على طلبه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) للبكاء على الميّت ، والنوح عليه ، ورغبته فيهما ، فكثير أيضاً ..
روى أحمد (3) ، عن ابن عمر ، «أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا رجع من أُحد ، فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قُتل من أزواجهنّ ، فقال رسول اللّه : ولكنّ حمزة لا بواكيَ له.
قال : ثمّ نام ، فاستنبه وهنّ يبكين حمزة ، فهنّ اليوم إذا يبكين يندبنَ حمزة».
ونحوه في «الاستيعاب» بترجمة حمزة (عليه السلام) (4).
وقال في «تاريخ الطبري» (5) : إنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مرّ بدار من دور الأنصار ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاها ، فذرفت عينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فبكى ، ثمّ قال : لكنّ حمزة لا بواكيَ له ؛ فلما رجع سعد وأُسيد ، أمرا نساءهم أن يتحزّمنَ ثمّ يذهبنَ فيبكينَ على عمّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ص: 389
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (1) ، وفي «السيرة الحلبية» (2).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة جعفر بن أبي طالب : «لمّا أتى النبيَّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) نَعْيُ جعفر (عليه السلام) ، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها ...
ودخلت فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي وتقول : وا عماه!
فقال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : على مثل جعفر فلتبكِ البواكي» (3).
فمع هذا كلّه ونحوه ، كيف ساغ لعمر منع البكاء على الميّت والعقاب عليه؟!
نعم ، قد يُعتذر له بما رواه هو وابنه ، من أنّ الميّت يُعذّب ببكاء أهله ..
وهو غير صحيح ؛ وإلاّ فكيف بكى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على حمزة ، وجعفر ، وزيد ، ورضي بالبكاء عليهم وعلى شهداء أُحد ، وغيرهم (4)؟!
ص: 390
وقد أنكرتْ عائشة وابن عبّاس عليهما في هذه الرواية ، واحتجّت بقوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (1) (2) ؛ أي : لو كان البكاء وزراً ، وإلاّ فإنّها بكت أباها واستبكت عليه (3).
فلا عذر لعمر إلاّ القسوةُ ، وعدمُ الرحمة ، وإمضاءُ رأيه يوم نهى عن البكاء بمحضر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فردعه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (4)!
ومنها : تأخيره مقام إبراهيم (عليه السلام) إلى موضعه اليوم ، وكان ملصَقاً بالبيت ، كما ذكره ابن أبي الحديد (5) ، والسيوطي في «تاريخ الخلفاء» (6) ،
ص: 391
وعن ابن سعد في «طبقاته» (1) ، والدميري في مادّة «الديك» من «حياة الحيوان» (2).
ومنها : توسعةُ المسجد الحرام بإضافة دور جماعة أبَوْا بيعها ، فهدمها عليهم ، ووضع أثمانها في بيت المال حتّى أخذوها ، كما في حوادث سنة 17 من «تاريخ الطبري» (3) ، و «كامل» ابن الأثير (4).
ومثل ذلك وقع من عثمان ، كما في «تاريخ الطبري» (5) ، و «كامل» ابن الأثير (6) أيضاً.
ومنها : إنّه قاسَمَ عمّاله أموالهم وأبقاهم في أعمالهم ، كما ذكره جماعة ممّن بيّن أحوال عمر ..
قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» : «أخرج ابن سعد ، عن ابن عمر ، أنّ عمر أمر عمّاله فكتبوا أموالهم ، منهم سعد بن أبي وقّاص ، فشاطرهم عمر في أموالهم ، فأخذ نصفاً وأعطاهم نصفاً» (7).
ونقل في «كنز العمّال» (8) ، عن ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أنّه قاسمهم نصف أموالهم.
ص: 392
ونقل عن ابن عبد الحكم - أيضاً - قصّة مقاسمته لابن العاص ، كما سبق طرفٌ منها (1).
ولا حاجة لإطالة الكلام في مقاسمته لهم ، فإنّها غنيّة عن البيان (2) ..
فهو إن كان يعلم خيانتهم بمقدار ما أخذه منهم ، فكيف ائتمنهم ثانيا؟!
على أنّ علمه بخصوص النصف بالنسبة إليهم جميعاً ، مقطوع بخلافه!
وإن كان لم يعلم خيانتهم ، فكيف استباح أخذ أموالهم ، ولا سيّما مثل سعد الذي زعموا أنّه أحد المبشّرين بالجنّة (3) ، وجعله عمر أحد الستّة في الشورى ، وأَهّله لإمامة الأُمّة والاستيلاء على رقابهم وأموالهم؟!
ومنها : حكمه على اليمانيَّين بدِيَة أبي خراش الهذلي الشاعر (4) ؛ إذ
ص: 393
باتوا ضيوفاً عنده فذهب يستقي لهم ، فمات من حيّة نهشته في الطريق ، كما ذكره في «الاستيعاب» بترجمة أبي خِراش من كتاب الكنى (1).
ومنها : حكمه على غيلان (2) بخلاف الشرع.
روى أحمد في «مسنده» (3) ، عن ابن عمر ، أنّ غيلان بن سلمة طلّق نساءه ، وقسّم أمواله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر - إلى أن قال : - فقال : وأيمُ اللّه لتراجعنّ نساءك ولترجعنّ في مالك ، أو لأُورّثهنّ منك ، ولآمرنّ بقبرك فيرجم كما رُجم قبر أبي رِغال (4).
ومثله في «الكنز» (5) ، عن عبد الرزّاق ، عن ابن عمر.
ص: 394
وأنت ترى أنّ هذا خلاف السنة ؛ فإن الطلاق بيد من أخذ بالساق (1) ، ولا يجب في الشريعة الرجوع بهنّ (2) ، كما إنّ الناس مسلّطون على أموالهم (3) ، بل بعد الإقباض لا يجوز الرجوع في هبة الرحم (4).
وليت شعري ، ما وجه توريثهنّ منه إن لم يرجع بهنّ وبماله؟!
وكيف يستحقّ أن يُرجم قبره ويُهتك ، حتّى يحلف على ذلك ، وغاية ما صنع أنّه فعل مكروها؟!
ومنها : حكمه في الرِّكاز (5) بخلاف السنة ، فإنّ الركاز إنّما فيه الخمس والباقي لواجده (6).
ص: 395
وهو قد خالفه ..
حكى في «كنز العمّال» في «كتاب الزكاة» (1) ، عن ابن عبد الحكم ، أنّ ابن العاص كتب إلى عمر عن عبد وجد جرّةً من ذهب مدفونةً ؛ فكتب إليه عمر : أن أَرْضِخْ (2) له منها بشيء ، فإنّه أحرى أن يؤدّوا ما وجدوا.
ص: 396
ونقل في «الكنز» أيضاً (1) ، عن الخطيب ، عن السائب : «أنّ عمر استعمله على المدائن ، فبينما هو جالس في إيوان كسرى نظر إلى تمثال يشير بإصبعه إلى موضع ؛ قال : فوقع في رُوعي أنّه يشير إلى كنز ، فاحتفرت ذلك الموضع فاستخرجت كنزاً عظيماً ، فكتبت إلى عمر أُخبره ، وكتبت : إنّ هذا شيء أفاءه اللّه علَيَّ دون المسلمين.
قال : فكتب إليَّ : إنّك أمير من أُمراء المسلمين فاقسمه بين المسلمين».
ومنها : إنّه حدَّ مَن لم يشرب الخمر ؛ لجلوسه مع من شربها.
حكى في «الكنز» (2) ، عن أحمد بن حنبل في «الأشربة» : «أنّ عمر أُتي بقوم أُخذوا على شراب ، فيهم رجل صائم ، فجلَدَهم ، وجلَدَه معهم.
قالوا : إنّه صائم!
قال : لِمَ جلس معهم؟!».
وأنت تعلم أنّه لا حدّ عليه ، كما أنّ تعزيره بمقدار حدّ الشرب - لو أراد التعزير - خلاف السنة.
روى مسلم (3) ، عن أبي بُردة : أنّه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلاّ في حدّ من حدود اللّه».
ص: 397
ونحوه في «صحيح الترمذي» (1) ، و «صحيح البخاري» (2) من طرق ، وذكر في بعضها أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «لا عقوبةَ فوق عشر ضربات إلاّ في حدّ من حدود اللّه» (3).
ومنها : ما فعله مع ضبيع (4) التميمي من الضرب المبرّح ، والنفي ، وتحريم المجالسة (5) ، لمّا سأله عن معنى قوله تعالى : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) (6) ..
قال ابن أبي الحديد (7) : «جاء رجل إلى عمر ، فقال : إنّ ضبيعاً
ص: 398
التميمي لقيَنا فجعل يسألُنا عن تفسير حروف من القرآن.
فقال : اللّهمّ أمكنّي منه!
فبينا عمر يوماً جالس يُغدّي الناس إذ جاءه ضبيع ، وعليه ثياب وعمامة ، فتقدّم فأكل ، حتّى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين! ما معنى قوله تعالى : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ) (1)؟
قال : ويحك! أنت هو؟!
فقام إليه فحسر عن ذراعيه ، فلم يزل يجلده حتّى سقطت عمامته ، فإذا له ضفيرتان ، فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك.
ثمّ أمر به فجُعل في بيت ، ثمّ كان يخرجه كلّ يوم فيضربه مئة ، فإذا برأ أخرجه فضربه مئة أُخرى.
ثمّ حمله على قَتَب وسيّره إلى البصرة ، وكتب إلى أبي موسى أن يحرّم على الناس مجالسته ، وأن يقوم في الناس خطيباً ، ثمّ يقول : إنّ ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه.
فلم يزل وضيعاً في قومه وعند الناس حتّى هلك ، وقد كان من قبل سيّد قومه».
وليت شعري كيف يستحقّ من أخطأ طريق العلم هذا العمل الوحشي الفرعوني ، الذي اشتمل على أنواع المنكَرات وأعظم الموبِقات؟!
فإنّ غاية ما يُفرض أنّه يباح له تعزيره وتأديبه ، وقد عرفتَ أنّه
ص: 399
لا يجوز التعزير بأكثر من عشر ضربات.
وكيف صار ممّن ابتغى العلم فأخطأه لولا جهل المسؤول؟!
وهلاّ أرشده إلى الطريق لو عَلِمه ، وهو بنفسه قد سُئل عن الأبِّ ، ثمّ قال : إنّ هذا لَهُوَ اللّهْو (1) ، وما عليك يا بن الخطّاب أن لا تدري ما الأبُّ؟! كما في «شرح النهج» (2).
فهلاّ أدّب نفسه ببعض ما أدّب التميميّ؟!
ومنها : نفيه ربيعة (3) خلافاً للسنة ؛ روى النسائي في آخر «صحيحه» ، في باب «تغريب شارب الخمر» ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : «غرّب عمرُ ربيعةَ بن أُميّة في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهِرَقلَ فتنصر» (4).
ص: 400
ومنها : نفيه نصر بن حجّاج إلى البصرة ؛ إذ تغنّت به امرأة في دارها ، وكان في غاية الحسن والجمال ، كما هو مستفيض ، وذكره في «شرح النهج» (1).
وليت شعري ، كيف استحقّ نصر النفي بمجرّد أن تغنّت به امرأة ، وما استحقّ المغيرة شيئاً من الإهانة ، وقد شهد عليه ثلاثة بالزنا ، وشهد الرابع بأنّه جلس منها مجلس الفاحشة رافعاً رجليها ، وخصيتاه متردّدتان بين فخذيها ، وسمع له حفزاً شديداً ونَفَساً عالياً (2)؟!!
وأما ما ذكره الفضل بالنسبة إلى نسب «عثمان» ، وأنّه يتّصل برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في عبد مناف ..
فمحلّ ريب عندنا ؛ لِما روي أنّ أُميّة كان عبداً روميا تبنّاه عبد شمس ، وكان ذلك من عادة العرب ، بحيث لا يُنسب عندهم اللحيق إلاّ إلى المستلحِق ، ويتوارثان ، وتترتّب عليه جميع آثار البنوّة (3).
كما نُسب ذكوان إلى أُميّة إذ تبنّاه ، وكان عبداً له ، كما ذكره في «الاستيعاب» بترجمة الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط بن ذكوان ، لكن جعله
ص: 401
قولا (1).
ويشهد لذلك قول أبي طالب (عليه السلام) في بني أُميّة [من الطويل] :
قديماً أبوهم كان عبداً لجدّنا
بنو أَمَة شهلاءَ جاشَ بها البحرُ
من أبيات ذكرها ابن أبي الحديد (2) ، لكن استفاد منها صحّة ما يروى أنّ عبد المطّلب (عليه السلام) استعبد أُميّة لرهان بينهما (3) ، وهو خطأ ، وإلاّ لقال : عبداً لأبينا.
ويؤيّد المدّعى معروفيّتهم ببني أُميّة لا بني عبد شمس ، والحال أنّ عبد شمس أظهر في الشرف من أُميّة ، وإنّما عرف عتبة وشيبة ببني عبد شمس (4).
ص: 402
ويُحتملُ أن يكون أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أشار إلى استلحاق أُميّةَ وبنيه بعبد شمس بقوله في كتابه إلى معاوية : «وليس الصريحُ كاللصيق (1)» (2) جواباً عمّا كتبه معاويةُ إليه : «إنّا وأنتم من بني عبد مناف» (3).
ويحتملُ - أيضاً - أنّه (عليه السلام) أشار إلى المعروف من كون معاويةَ ابنَ زنا ولحيقاً بأبي سفيان (4).
ويحتملُ أنّه (عليه السلام) أشار إلى الأمرين.
وأما ما زعمه من تزويجه ابنتَي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فمحلّ إشكال أيضاً ؛ لِما قيل : إنّهما ربيبتاه ؛ فنُسبتا إليه للتربية ؛ بل قيل : إنّهما ابنتا أُخت خديجة (5).
ولو سُلّم أنّهما ابنتاه حقيقةً - كما هو الأقربُ (6) - ، فالظاهر أنّ
ص: 403
رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما زوّجه للتأليف ، كما يشهد له ما ذكره ابنُ الأثير في «نهايته» بمادّة «أبَر» ، بالباء الموحّدة من تحت ..
قال : «في حديث أسماء بنت عميس : قيل لعليّ : ألا تتزوّجُ ابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟ فقال : ما لي صفراء ولا بيضاء ، ولستُ بمأبور في ديني فيُوَرّي (1) بها رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عنّي ، إنّي لأوّل مَن أسلم».
ثمّ قال : «يعني : لستُ غيرَ صحيحِ الدينِ ، ولا المتّهَمَ في الإسلام فيتألّفني عليه بتزويجها إيّايَ».
قال : «ويروى بالثاء المثلّثة ، وسيُذكر» (2).
ثمّ ذكره في هذه المادّة ، وقال : «أي : لستُ ممّن يؤثَر عنّي شرٌّ وتهمةٌ في ديني» (3).
فإنّه دالٌّ على أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد يزوّج الرجلَ للتأليف ، والمتعيّن له عثمانُ ؛ لأنّ من عداه من أصهار النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إمّا مؤمنٌ حقّاً وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أو كافرٌ معاند!
وأما ما تعرّض له من أخبارهم في فضل عثمان (4) ، فقد عرفتَ في
ص: 404
ما ذكره في فضل الشيخين (1) ، أنّ ذِكرَ أخبارهم في مثل المقام لغوٌ ، لا يفيد أصحابه علماً ، ولا يكون علينا حجة (2).
على أنّها لا تعارض أخبارَ الطعن المتّفق عليها بين الفريقين (3).
مضافاً إلى ظهور ضعف أسانيدها عندهم ؛ ولذا لم يروها البخاريُّ ومسلم ، وإنّما رواها الترمذيُّ ، وقال في الأوّل منها (4) : «هذا حديثٌ غريبٌ ، وليس إسناده بالقويّ ، وهو منقطعٌ» (5) ؛ انتهى.
فإنّه رواه عن أبي هشام الرفاعيِّ - وهو : محمّد بن يزيد - ، عن يحيى بن يَمان ، عن شيخ من بني زهرة ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب ..
وهو كما ترى ؛ فإنّ الشيخ مجهول (6) ، ومَن عداه ضعافٌ (7) ، كما عرفتَ بعض ترجمة الرفاعيِّ ويحيى في المقدّمة (8) ، وعليه فَقِس بقيّة الأحاديث.
على أنّ الحديثين اللذين زعموا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال فيهما : «ما
ص: 405
ضرّ عثمان ما عمل بعد» (1) كاذبان جزماً ؛ لأنّه إذا آمنه العقوبة ، فقد سهّل له المعصية.
ولا يمكن أن يقع مثله من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حقّ من ليس بمعصوم أو شبهه ، فكيف يقولُه في حق مَن يجعلُ مال اللّه سبحانه طعمة للوزغ (2) وبنيه ، وينتهكُ حرمات الصحابة الأبرار ، كأبي ذرّ وعمار وأشباههما (3)؟!
على أنّه كيف يتصدّق بهذه الصدقة الكثيرة وقد أشفق أن يقدّم في النجوى الصدقة القليلة الواجبة (4)؟!
ولِمَ سلّم وقوعُ تلكَ الصدقة منه؟! فمَن يُشفقُ مِن تقديم الصدقة القليلة الواجبة ، حقيقٌ بأن يكون وقوع الصدقة الكثيرة المندوبة منه للسمعة والرياء وطلب الثناء!
هذا حالُ ما انتخبه من أخبارهم ، فكيف حالُ غيرها؟!
ص: 406
ولو رأيتَ ما رواه البخاريُّ ومسلمُ في فضل عثمان لبان لك على صفحاتها أثرُ التصنّع والكذب (1) ؛ ولذا عدل الخصمُ عنها إلى هذه الأخبار ، مع رواية الترمذي للجميع (2) ؛ فخصّها لزعمه أنّها أقربُ إلى القبول.
وأما قوله : «التي رواها عن شيوخه الضالّين» ..
فصحيحٌ ؛ لأنّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يروِ هذه المطاعن إلاّ عن الشيوخ الضالّين ؛ لإثبات ضلالهم المبين.
ص: 407
ص: 408
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
فاستعمل الوليدَ بن عُقبة (1) حتّى ظهر منه شربُ الخمر (2) ..
وفيه نزل قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ) (3) ، المؤمن : عليٌّ ، والفاسق : الوليدُ بن عُقبةَ ، على ما قاله المفسّرون (4) ..
ص: 410
وفيه نزل : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (1) ..
وكان يصلّي حالَ إمارته وهو سكران ، حتّى تكلّم فيها والتفتَ إلى مَن خلفه وقال : أزيدكم في الصلاة؟ فقالوا : لا ، قد قضينا صلاتنا (2).
واستعمل سعيدَ بن العاص (3) على الكوفة ، وظهرت منه أشياء
ص: 411
منكَرة ، وقال : إنّما السواد (1) بستانٌ لقريش ، تأخذُ منه ما شاءت ، وتتركُ منه ما شاءت! حتّى قالوا له : أتجعلُ ما أفاء اللّه علينا بستاناً لكَ ولقومك (2)؟!
وأفضى الأمر إلى أن منعوه من دخولها ، وتكلّموا فيه وفي عثمان كلاماً ظاهراً ، حتّى كادوا يخلعون عثمانَ ، فاضطرّ حينئذ إلى إجابتهم
ص: 412
وعزله قهراً لا باختيار عثمان (1).
وولّى عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح (2) مصراً ، وتكلّم فيه أهل مصر ، فصرفه عنهم بمحمّد بن أبي بكر.
ثمّ كاتبه بأن يستمرّ على الولاية ، فأبطن خلافَ ما أظهر ، فأمره بقتل محمّد بن أبي بكر وغيره ممّن يَرِدُ عليه ، فلمّا ظفر محمّد بذلك الكتاب كان سببَ حصره وقتله (3).
ص: 413
وقال الفضل (1) :
معظم ما يطعنون على عثمان هو تولية بني أُميّة على الممالك ؛ وذلك لأنّه رأى أُمراء بني أُميّة أُولي رشد ونجابة وعلم بالسياسات.
وكان إذ ذاكَ اتّسعَ عرصةُ الإسلام وبَعُد الممالك ، واختلف سيرُ الناس ؛ لاختلاط الأعجام بالعرب ، واختلاف العرب واستيلائهم ، فلا بُد من الأُمراء الّذين يكونون ذوي بأس وقوّة واستيلاء.
وكانوا بنو أُميّة على هذه النعوتِ ، فكان عثمانُ يختارهم للإمارة ، وكلّما ظهر منهم شيءٌ يعزلهم ، كما روي في الصحاح ، أنّه لمّا علم عثمان أنّ الوليد بن عقبة شرب الخمرَ عزله عن إمارة الكوفة ؛ كما ذكر.
ولا طعنَ في الإمام إذا نصبَ من رآه عدلا أهلا للإمارة ، ثمّ يظهر منه خلاف هذا فيعزله ، فإنّه حال النصب علمه أهلا للإمارة ، ولو كان حال النصب يعلم أنّه ليس بأهل للإمارة ثمّ ينصبه لكان طعناً ، ولم يثبت هذا فلا طعنَ.
ص: 414
ليس هذا إلاّ اليسيرَ ممّا يطعن به على عثمان ، فإنّ له ما هو أكثرُ وأعظمُ ؛ كتغييره أحكام اللّه تعالى وسنة نبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) واستهزائه بالشريعة (1) ، وإحراقه المصحف المجيد (2).
وأمّا قوله : «لمّا رأى بني أُميّة أُولي رشد ونجابة ...» إلى آخره ..
فمن عدم المبالاة بالكذب ، وقلّة الحياء منه ؛ فإن الشجرة الملعونة في القرآن (3) لا يمكن أن تثمر الرشد والنجابة والهدى ، وإنّما تثمرُ المكرَ والفسقَ والخنا.
ولا أدري ، أيُّ رشد لهم وعلم بالسياسة وقد أتوا من صنوف التهتّك والجور ما رأته كلُّ عين ، حتّى أهاجوا الرأي العامَّ ، وقُتل بسببهم عثمان؟!
وأيّةُ نجابة لهم وما فيهم إلاّ خمّارٌ ، أو زان ، أو ابنُ زنا؟!
ويكفيك أنّ إمامهم وأنجبهم معاوية ، وهو لحيقٌ بأبي سفيانَ (4) مستلحِقٌ لزياد (5)!
ص: 415
لكن الدنيا أقبلت عليهم ، وجرت المقاديرُ باستيلائهم ، فحسب بعضُ الناس أنّ ذلك من سياستهم ، وكان بعضهم - كمعاوية - صاحبَ مكر وخديعة وحيلة ، فتخيّل أولياؤهم أنّ لهم رشداً.
ولو سُلّم أنّهم كانوا كذلك ، فلا ريبَ أنّ عثمان لم يقدِّمهم لرشدهم ونجابتهم ؛ لوجود مَن هو أرشد وأنجب وأعلم بالسياسة منهم في صحابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ولو كان الداعي له هو ذلك ، لجعلهم في البلاد البعيدة الواقعة في الثغور ، المحتاجة لذوي القوّة والرشد والسياسة ، لا في البلاد الآمنة المطمئنّة حتّى ألحقوا بها الفتن ، وألحقوا بها العناءَ ، وشوّهوا وجه الإسلام.
ولا أدري من أين عرف عثمانُ رُشدَ عبد اللّه بن عامر (1) وعِلمَه بالسياسة ، حتّى جمع له بين كور البصرة وفارس وهو ابنُ أربع أو خمس وعشرينَ سنةً ، لم يتولّ شيئاً من الولايات قبلها (2)؟!
ص: 416
نعم ، أراد أن يطعمه مال القطرين ويرفع قدره ، فولاّه إيّاهما ..
روى الطبريُّ في «تاريخه» (1) : «أنّ غيلان بن خرَشة (2) قال لعثمان : أمَا منكم خسيس فترفعوه؟! أمَا منكم فقيرٌ فتجبروه؟! يا معشر قريش! حتّى متى يأكل هذا الشيخُ الأشعري هذه البلاد؟! فانتبه لها الشيخ ، فولاّها عبد اللّه بن عامر».
ومثله الكلام في سعيد بن العاص ؛ فإنّه ولاّه الكوفة ولم يبلغ الثلاثين ، وما تولّى قبلها عملا (3).
وكذا الوليد بن عقبة ؛ فإنّه لم يتولّ بلاداً ، وما عرف سياسة ، وإنّما ولاّه عثمان الكوفة طعمة ..
فقد ذكر في «شرح النهج» (4) ، عن الأغاني ، أنّ سبب إمارة الوليد على الكوفة أنّه لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلاّ العبّاس وأبو سفيان والحكم والوليد ، ولم يكن سريره يسع معه إلاّ واحداً ، فأقبل الوليد يوماً فجلس ، فجاء الحكم ، فأومأ عثمان إلى الوليد ، فرحل (5) له عن مجلسه ، فلمّا قام الحكم قال الوليدُ : لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما
ص: 417
حين آثرت عمكَ على ابن أُمكَ.
فقال عثمان : إنّ الحكَم شيخُ قريش ، فما البيتان؟!
فقال [من الطويل] :
رأيتُ لِعمِّ المرءِ زُلفى قرابة *** دُوَيْنَ أخيه حادثاً لم يكن قِدْما
فأمّلتُ عَمْراً أن يَشِبَّ وخالداً *** لكي يَدعُواني يومَ نائبة عَمّا
يعني : عَمْراً وخالداً ابنَي عثمان.
قال : فرَقّ له عثمان وقال : قد ولّيتكَ الكوفة ، فاخرج إليها!
وقال ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» تحت عنوان «ما أنكر الناسُ على عثمان» : «أنّه اجتمع ناسٌ من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمانُ من سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ... وما كان من هبة خمس إفريقيّة لمروان - إلى أن قال : - وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني أُميّة أحداث وغلمة ، لا صحبة لهم من الرسول ، ولا تجربة لهم بالأُمور» (1).
وقال في «العقد الفريد» (2) : «لمّا أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجِلّة (3) من أصحاب محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قيل لعبد الرحمن : هذا عملك! قال : ما ظننتُ هذا! ثمّ مضى ودخل عليه وعاتبه ، وقال : حابيتَ أهلَ بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين ... لله علَيَّ أن لا أُكلِّمك أبداً.
ص: 418
فلم يكلّمه حتّى مات.
ودخل عليه عثمان عائداً له في مرضه ، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلّمه» ؛ انتهى ملخّصاً.
وأمّا قوله : «وكلّما يظهر منهم شيءٌ يعزلهم» ..
فكذبٌ ظاهرٌ ؛ وإلاّ فلماذا اجتمع عليه الناسُ من الأطراف النائية حتّى حصروه وقتلوه؟!
وهو لم يعزل من هؤلاء المعلنين بالفسق إلاّ سعيد بن العاص والوليد ابن عقبة ، ولم يعزلهما باختياره.
أمّا سعيد ، فلِما رواه الطبري في «تأريخه» (1) ، أنّه اجتمع ناسٌ من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلّمه ويخبره بإحداثه ، فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللّه التميمي (2) ، فأتاه ، فقال : إنّ ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أُموراً عظاماً ، فاتّق اللّه وتب إليه وانزع عنها!
إلى أن قال : فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى عبد اللّه ابن سعد بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد اللّه بن عامر ، فجمعهم ليشاورهم في أمره ، وما طلب إليه ، وما بلغه عنهم.
فلمّا اجتمعوا عنده قال لهم : إنّ لكل امرئ وزراء ونصحاء ، وإنّكم
ص: 419
وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناسُ ما رأيتم ، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون.
إلى أن قال : فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم ، وأمرهم بالتضييق على مَن قِبلهم ، وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ، وعزم على تحريم أُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
وردّ سعيد بن العاص أميراً على الكوفة ، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح ، فتلقّوه فردّوه ، فقالوا : لا واللّه لا يلي علينا حُكماً ما حملنا سيوفنا.
ومثله في «كامل» ابن الأثير (1).
وقال في «الاستيعاب» - بترجمة سعيد - : «ردّه أهلُ الكوفة ، وكتبوا إلى عثمان : لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك» (2).
وأمّا الوليد ، فنحن نذكر لك بعضَ ترجمته في «شرح النهج» من تتمّة كلامه السابق ، نقلا عن «الأغاني» ؛ لتعرفَ أنّه ما عزله باختياره ، وملخّصه :
إنّ الوليد اختُصّ بساحر يلعب بين يديه ، وكاد أن يفتن الناس ، فجاء جندب (3) فقتل الساحر ، قياماً بواجب الشريعة ، فحبسه الوليدُ ، فمضى
ص: 420
دينار بن دينار إليه فأخرجه من الحبس ، فأرسل الوليد إلى دينار فقتله (1).
وكان الوليد ينادم أبا زُبيد الطائي النصراني ، حتّى كان يمرّ إليه في المسجد الشريف ويسمُر عنده ويشرب معه الخمر ، ويرجع ويشُقّ المسجدَ سكران (2).
وشرب الوليد مرّة الخمرَ وصلّى بالناس الصبح أربع ركعات ، فقال : أزيدكم؟ وتقيا في المحراب بعد أن قرأ في الصبح رافعاً صوته [من مجزوء الرَّمل] :
علِق القلبُ الرَّبابا *** بعدما شابَتْ وشابا (3)
فخرج رهطٌ من الكوفة إلى عثمان شاكين ، فأراد أن ينكّل بهم ، فاستجاروا بعائشة ، فرفعت نعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقالت : تركَ سنة صاحب هذا النعل!
فتسامع الناسُ واختلفوا وتضاربوا بالنعال.
ودخل رهطٌ من الصحابة على عثمان ، فقالوا له : اتّق اللّه ولا تُعطّل الحدود ، واعزل أخاك عنهم! ففعل (4).
انتهى ملخّصاً.
وكيف يقال : إنّ عثمان يعزل من يظهرُ منه شيءٌ وهو لم يبال باتّضاح فسقهم لكلّ أحد ، وقد تحمّل الإهانة والسبّ ثمّ القتل في سبيل إمرتهم؟!
روى الطبريُّ في «تاريخه» (5) ، أنّ «عثمان مرّ على جبلة بن عمرو
ص: 421
الساعدي (1) وهو جالسٌ في نَدِيِّ (2) قومِه وفي يد جبلة جامعةٌ ، فلمّا مرّ عثمانُ سلّم ، فردّ القومُ ، فقال جبلة : لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا؟!
ثمّ أقبل على عثمان ، فقال : واللّه لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه!
قال عثمان : أيُّ بطانة؟! فواللّه إنّي لأَتخيّر (3) الناس.
فقال : مروان تخيّرتَه ، ومعاوية تخيّرتَه ، وعبد اللّه بن عامر تخيّرتَه ، وعبد اللّه بن سعد تخيّرتَه ؛ منهم من نزل القرآن بذمّه ، وأباح رسول اللّه دمه.
فانصرف عثمان ، فما زال الناسُ مجترئين عليه إلى هذا اليوم».
وروى أيضاً (4) حديثاً طويلا ، قيل لعثمان في آخره : «اعزل عنّا عمّالك الفسّاق ... واردد علينا مظالمنا!
قال عثمان : ما أراني في شيء إن كنتُ أستعمل من هويتم ، وأعزل من كرهتم».
وسيأتي أيضاً في المقام ما يدلّ على المطلوب.
ص: 422
وأمّا قوله : «ولا طعن في الإمام إذا نصب من رآه عدلا أهلا للإمارة ...» إلى آخره ..
فصحيحٌ ، لكن لا يصحُّ في أكثر ولاة عثمان!
ليت شعري ، كيف كان الوليد عدلا عند عثمان وقد شهد اللّه سبحانه في كتابه العزيز بفسقه مرّتين (1)؟!
وكان من أشهر الناس في الفسق ، وأوضحهم حالا في سوء الأعمال ، حتّى قال له سعد بن أبي وقّاص لمّا عزله عثمان بالوليد : ما أدري ، أصَلَحتَ بعدنا أم فسدنا بعدك؟! كما في «شرح النهج» عن «الأغاني» (2).
وذكر أيضاً أنّه قال له في رواية : ما أدري ، كِستَ (3) بعدنا أم حَمُقْنا بعدك؟!
فقال : لا تجزعنّ! فإنّه المُلكُ ، يتغدّاه قومٌ ويتعشّاه آخرون.
فقال سعدٌ : أراكم واللّه ستجعلونه مُلكاً (4).
ومثله في «الاستيعاب» بترجمة الوليد (5) ، وفي «كامل» ابن الأثير (6).
وقال له ابن مسعود - كما في هذين الكتابين - : ما أدري ، أصَلَحتَ بعدنا أم فسد الناس (7)؟!
ص: 423
وقال في «الاستيعاب» بترجمته أيضاً : «وله أخبارٌ فيها نكارةٌ وشناعةٌ تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله».
وقال أيضاً : «أخباره في شرب الخمر ، ومنادمته أبا زبيد الطائي ، مشهورةٌ».
وقال : «خبرُ صلاته بهم وهو سكران ، وقوله : أزيدكم؟! بعد أن صلّى الصبح أربعاً ، مشهورٌ من رواية الثقات من نقلة أهل الحديث وأهل الأخبار».
ثمّ قال : «وقد روي في ما ذَكر الطبري : أنّه تعصّب عليه قومٌ من أهل الكوفة بغياً وحسداً ، وشهدوا عليه زوراً أنّه تقيا الخمر ؛ وذكر القصّة وفيها : إنّ عثمان قال له : يا أخي اصبر! فإنّ اللّه يؤجرك ويبوء القوم بإثمك (1).
وهذا الخبرُ من نقل أهل الأخبار ، لا يصحّ عند أهل الحديث ، ولا له عند أهل العلم أصلٌ» (2).
وأنت إذا تلوْتَ تراجم عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح ، وسعيد بن العاص ، وعبد اللّه بن عامر ، وأمثالهم من ولاة عثمان ، عرفت أنّهم ليسوا بأقلّ ظهوراً في الفسق ، والطيش ، وعدم الخبرة بالولاية والسياسة ، من الوليد ؛ فكيف يزعم الخصم أنّ عثمان رآهم عدولا وأهلا للإمارة فنصبهم؟!
وأمّا ما نقله عن «الصحاح» ، من عزله الوليد عن الإمرة بعدما شرب الخمر ، فلم أجده فيها بعد التتبّع ، ولعلّه استفاد عزله من أمره بأن يجلد
ص: 424
الحدّ ، كما رواه البخاري (1) ، عن عروة بن الزبير : «أنّ عبيد اللّه بن عَدِيّ أخبره أنّ المِسْوَر بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا له : ما يمنعك أن تكلّم خالك عثمان في أخيه الوليد بن عقبة؟! وكان أكثرَ الناسُ في ما فعل به.
قال عبيد اللّه : فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة ، فقلت له : إنّ لي إليك حاجةً ، وهي نصيحةٌ.
فقال : أيّها المرءُ! أعوذ باللّه منك.
فانصرفت ، فلمّا قُضِيَتِ [الصلاةُ] جلستُ إلى المِسْوَر ، وإلى ابن عبد يغوث ، فحدّثتهما بالذي قلتُ لعثمان وقال لي ، فقالا : قد قضيتَ الذي كان عليك.
فبينما أنا جالسٌ معهما إذ جاءني رسول عثمان ، فقالا لي : قد ابتلاك اللّه! فانطلقت حتّى دخلتُ عليه ، فقال : ما نصيحتك؟ ...
قال : فتشهّدت ، ثمّ قلت : إنّ اللّه بعث محمّداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل عليه الكتاب ، وكنتَ ممّن استجاب لله ورسوله ، وآمنتَ به ، وهاجرتَ الهجرتين ، وصحبتَ رسول اللّه ، ورأيتَ هديه ، وقد أكثرَ الناسُ في شأن الوليد ، فحقٌّ عليك أن تقيم عليه الحدّ ...
إلى أن قال : فأمّا ما ذكرتَ من شأن الوليد ، فسنأخذ فيه بالحقِّ إن شاء اللّه.
فجلدَ الوليدَ أربعين جلدةً».
وهذا الحديث شاهدٌ بأنّ عثمان عطّل حدَّ اللّه في الوليد ، إلى أن أكثرَ
ص: 425
الناسُ عليه الإنكار ، وخاف عاقبة أمره.
وغيره من الأحاديث صريحٌ في ذلك (1).
كما إنّ هذا الحديث دليلٌ على صحّة إنكار ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» على ما ذكره الطبريُّ ، وقد عرفتَه (2).
ثمّ إنّ المصنّف (رحمه اللّه) نقل في طيّ كلامه ، أنّ سعيد بن العاص قال : «إنّما السواد بستانٌ لقريش» ، وهو قد رواه القومُ ..
منهم : ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، بترجمة سعيد (3) ..
ومنهم : الطبريُّ في «تأريخه» (4) ..
وابن الأثير في «كامله» (5).
وقد تعرّض المصنّف (رحمه اللّه) أيضاً لولاية ابن أبي سرح - وهو أخو عثمان من الرضاعة - ، وطلب المصريّين عزله مجملا (6).
ولنذكر بعض تفاصيله ، وإنكار المسلمين تأميره ..
قال ابن الأثير في «الكامل» (7) : «فكان أوّل ما تكلّم به محمّد بن أبي حذيفة ومحمّد بن أبي بكر ، في أمر عثمان ، في هذه الغزوة ، وأظهرا
ص: 426
عيبه وما غيّر وما خالف به أبا بكر وعمر ، ويقولان : استعملَ عبد اللّه بن سعد رجلا كان رسول اللّه قد أباح دمه ، ونزل القرآن بكفره ، وأخرج رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قوماً [و] (1) أدخلهم ، ونزع أصحابَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، واستعمل سعيدَ بن العاص وابنَ عامر».
ومثله في «تاريخ الطبري» (2).
وقال في «العقد الفريد» (3) : «كان كثيراً ما يولّي بني أُميّة ممّن لم يكن له من رسول اللّه صحبة ، وكان يجيء من أُمرائه ما ينكره أصحاب محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان يُستعتبُ فيهم فلم يعزلهم.
فلمّا كان في الحِجج الآخرة استأثر ببني عمّه فولاّهم ... وولّى عبد اللّه بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين ، فجاء أهلُ مصر يشكونه ويتظلّمون منه - إلى أن قال : - فكتب إليه عثمان يتهدّده ، فأبى ابنُ أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان ، وضرب رجلا ممّن أتى عثمانَ ، فقتله.
فخرج من أهل مصر سبعمئة رجل إلى المدينة ، فنزلوا المسجد ، وشكوا إلى أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما صنع ابن أبي سرح ..
فقام طلحة بن عبيد اللّه فكلّم عثمان بكلام شديد ..
وأرسلت إليه عائشة : قد تقدّمَتْ إليك أصحابُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وسألوك عزل هذا الرجل فأبيتَ أن تعزله ، فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصِفهم مِن عاملك.
ص: 427
ودخل عليه عليٌّ - وكان متكلّم القوم - ، وقال : إنّما سألوك رجلا مكانَ رجل ، وقد ادّعوا قبَله دماً ، فاعزله عنهم ، واقضِ بينهم ، [وإنْ وجَبَ عليه حقٌّ فأنصِفهم منه]».
ثمّ ذكر ما حاصله ، أنّه أرسل محمّد بن أبي بكر عاملا ومعه جمع من الصحابة ، فلمّا كانوا على مسيرة ثلاثة أيّام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير ، ففتّشوه وأخرجوا منه كتاباً من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيه بقتلهم ، فرجعوا به إلى المدينة.
فاغتمّ أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من ذلك ، ودخل عليٌّ وجماعة على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير.
ثمّ قال ما لفظه : «قال له عليٌّ : هذا الغلام غلامكُ؟ قال : نعم ؛ والبعير بعيرك؟ قال : نعم ؛ والخاتم خاتمك؟ قال : نعم ، قال : فأنت كتبتَ الكتابَ؟! قال : لا.
إلى أن قال : فعرفوا أنّه خطّ مروان ... وسألوه أن يدفع إليهم مروان ، فأبى».
وقال الطبريّ في «تاريخه» (1) ، في حوادث سنة 35 : «قدم المصريّون القدْمة الأُولى ، فكلّم عثمانُ محمّد بن مَسلمة ، فخرج في خمسين راكباً من الأنصار ... فردّهم.
ورجع القومُ حتّى إذا كانوا بالبُوَيْب (2) وجدوا غلاماً لعثمان معه كتاب إلى عبد اللّه بن سعد ، فكرّوا ، فانتهوا إلى المدينة ، وقد تخلّف بها
ص: 428
من الناس الأشتر وحكيم بن جبلة ، فأتوا بالكتاب ، فأنكر عثمان أن يكون كتبه ... قالوا : فالكتاب كتابُ كاتبك؟!
قال : أجل ، ولكنّه كتبه بغير أمري.
قالوا : فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتابَ غلامُك؟!
قال : أجل ، ولكنّه خرج بغير إذني.
قالوا : فالجمل جملك؟!
قال ، أجل ، ولكنّه أُخذ بغير علمي.
قالوا : ما أنت إلاّ صادقٌ أو كاذبٌ ، فإن كنتَ كاذباً فقد استحققتَ الخلع ؛ لِما أمرتَ به من سفك دمائنا بغير حقّها ، وإن كنتَ صادقاً فقد استحققت أن تُخلع ؛ لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ؛ لأنّه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا مَن يُقتطَع مثلُ هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته.
وقالوا له : إنّك ضربتَ رجالا من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك ، فأَقدْ مِن نفسك مَن ضربته وأنت له ظالمٌ.
فقال : الإمام يخطئُ ويصيبُ ، فلا أَقيدُ من نفسي ؛ لأنّي لو أَقدتُ كلّ مَن أصبته بخطأ آتي على نفسي.
قالوا : إنّك أحدثتَ أحداثاً عظاماً فاستحققتَ بها الخلع ، فإذا كُلّمتَ فيها أعطيتَ التوبة ثمّ عدتَ إليها وإلى مثلها.
ثمّ قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحقّ ، ولامنا فيك محمّد بن مسلمة ، وضمن لنا ما حدث من أمر ، فأخفرته (1) ، فتبرّأ منك
ص: 429
وقال : لا أدخل في أمره.
فرجعنا أوّل مرّة لنقطع حجّتك ونبلغ أقصى الإعذار إليك ، نستظهر باللّه عزّ وجل عليك ، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب ، وزعمت أنّه كُتبَ بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتَمك!
فقد وقعت عليك بذلك التهمةُ القبيحة ، مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم ، والأثرة في القَسْم ، والعقوبة للأمر بالتبسُّط من الناس والإظهار للتوبة ، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة.
ولقد رجعنا عنك ، وما كان لنا أن نرجع حتّى نخلعك ونستبدل بك مِن أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مَن لم يُحدِث مثل ما جرّبنا منك.
إلى أن قال : وأرسل إلى محمّد بن مسلمة أن يردّهم ، فقال : واللّه لا أكذبُ في سنة مرّتين».
وقريب منه في «كامل» ابن الأثير (1).
ولعمري ، لو كان عثمان بريئاً من أمر الكتاب ، لأظهر الاهتمام الكبير بالبحث عمّن زوّره ، وضيّق على الرسول ليعرّفه به ، وتنمّر لمروان وأشباهه.
كما إنّ حجج القوم عليه لأثبات استحقاقه للخلع وعدم أهليّته للخلافة واضحةٌ قويّةٌ ، ولا سيّما ما يتعلّقُ بأمر الكتاب ؛ لاستلزامه ضعفه الشديد أو فسقه العظيم ؛ لأَِمْره بسفك دماء المسلمين بغير حقّها ، الّذين ما طلبوا منه إلاّ عزلَ عامله الجائر.
ص: 430
ولو فُرض أنّه غيرُ جائر ، لكان حقاً عليه أن يعزله ؛ تأليفاً لهم ، ودفعاً للفتنة ، وحقناً لدمه.
فالعجب ممّن يروي هذا الحديث ويتّخذه إماماً!
وأعجبُ منه أنّهم يرونَه خليفة حقّ ، وأفضل من أخي النبيّ ونفسه! وهو بمقتضى أخبارهم لا يجد رائحة الجنّة ..
روى البخاريُّ (1) ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ما من عبد استرعاه اللّهُ رعيّةً ، فلم يَحُطْها بنصيحة ، إلاّ لم يجد رائحةَ الجنّةِ».
ونحوه في «صحيح مسلم» (2).
وبالضرورة أنّ عثمان لم يحط المسلمين نصحاً بعزل أصحاب النبيّ واستبدالهم بالوليد الفاسق وابن عامر ، ولا بنصب ابن أبي سرح وسعيد ابن العاص وأشباههما.
وفي ما ذكرناه كفايةٌ لمن اعتبر!
ص: 431
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
ومنها : إنّه ردّ الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ، وهو طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كان قد طرده وأبعده عن المدينة ، وامتنع أبو بكر من ردّه (2) ، فصار عثمان بذلك مخالفاً للسنة ، ولسيرة من تقدّمه ، مدّعياً على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، عاملا بدعواه من غير بيّنة!
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه قد نُقل أنّ عثمان لمّا عوتب على ذلك ذكر أنّه استأذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) (3).
اعترضه المرتضى ، بأنّ هذا قول قاضي القضاة لم يُسمع من أحد ، ولا نُقل في كتاب ، ولا نعلم من أين نقله القاضي ، أو في أيِّ كتاب وجده؟! فإنّ الناس كلّهم رووا خلافه.
قال الواقدي - من طرق مختلفة - ، وغيره : إنّ الحكم بن أبي العاص
ص: 432
لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى الطائف ، وقال : لا يساكنني في بلد أبداً ؛ لأنّه كان يتظاهر بعداوة رسول اللّه والوقيعة فيه ، حتّى بلغ به الأمر إلى أنّه كان يعيب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في مشيه ، فطرده النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأبعده ولعنه ، ولم يبق أحد يعرفه إلاّ بأنّه طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فجاء عثمان إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وكلّمه فيه فأبى ، ثمّ جاء إلى أبي بكر وعمر في زمن ولايتهما فكلّمهما فيه ، فأغلظا عليه القول وزبراه ؛ وقال له عمر : يخرجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وتأمرني أن أُدخله؟! واللّهِ لو أدخلته لم آمن من قول قائل : غيّر عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)! وكيف أُخالف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟! فإيّاك يا ابن عفّان أن تعاودني فيه بعد اليوم!
فكيف يحسن من القاضي هذا العذر؟!
وهلاّ اعتذر به عثمان عند أبي بكر وعمر وسلِم من تهجينهما إيّاه ، وخلص من عتابهما عليه؟!
مع أنّه لمّا ردّه جاءه عليٌّ (عليه السلام) وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف وعمار بن ياسر ، فقالوا : إنّك أدخلت الحكم ومن معه ، وقد كان النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخرجهم ، وإنّا نذكّرك اللّهَ والإسلامَ ومعادَكَ ، فإنّ لك معاداً ومنقلباً ، وقد أبت ذلك الولاة قبلك ، ولم يطمع أحدٌ أن يكلِّمهما فيهم ، وهذا شيء نخاف اللّه فيه عليك.
فقال عثمان : إنّ قرابتهم منّي ما تعلمون ، وقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أخرجه لكلمة بلغته عن الحكم ، ولن يضرّكم مكانهم شيئاً ، وفي الناس من هو شرٌّ منهم.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا أحد شرٌّ منه ولا منهم.
ص: 433
ثمّ قال : هل تعلم عمر يقول : واللّه ليحملنّ بني أبي مُعَيط على رقاب الناس ، واللّه لئن فعل ليقتلنّه؟!
فقال عثمان : ما كان منكم أحدٌ ليكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه ، وينال في المقدرة ما نلتُ ، إلاّ كان سيدخله ، وفي الناس من هو شرٌّ منه.
فغضب عليٌّ وقال : واللّه لتأتينا بشرّ من هذا إن سَلمتَ ، وسترى يا عثمان غِبّ (1) ما تفعل (2).
فهلاّ اعتذر عند عليّ ومَن معه بما اعتذر به القاضي؟!
* * *
ص: 434
وقال الفضل (1) :
روى أرباب «الصحاح» ، أنّ عثمان لمّا قيل له : لِمَ أدخلت الحكم بن أبي العاص؟!
قال : استأذنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في إدخاله فأذن لي ، وذكرتُ ذلك لأبي بكر وعمر فلم يصدّقاني ، فلمّا صرت والياً عملتُ بعلمي في إعادتهم إلى المدينة (2).
وهذا مذكور في «الصحاح».
وإنكار هذا النقل من قاضي القضاة (3) ، إنكارٌ باطلٌ لا يوافقه نقلُ «الصحاح».
ويؤيّد هذا ما ذكر في «الصحاح» ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أمر يوم الفتح بقتل عبد اللّه بن أبي سرح ، فجاء عثمان واستأمن منه فلم يؤمّنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأتى من اليمين واليسار والقدّام والخلف ، وفي كلّ هذه المرّات كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يقبل منه ، وهو يبالغ ، حتّى قبل في آخر الأمر (4).
ص: 435
وكان هذا من حرص عثمان على صلة الرحم.
فإذا صحّ الخبرُ أنّه استأذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في إدخال الحكم بن أبي العاص ، وأدخله بعلمه بإذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فلا مخالفة ولا طعن.
* * *
ص: 436
لا أثر لهذا الخبر في «صحاحهم» بحسب التتبّع ، ولم أجد من نقله عنها.
ولو كان موجوداً فيها فلِمَ لَم يعيّن الكتابَ ومحلَّ ذِكره منه بعد إنكار المرتضى (رحمه اللّه) ، حتّى لا يحتاج إلى التأييد بذِكر الخبر المتعلّق بابن أبي سرح (1).
ولو سُلّم وجوده فيها أو في غيرها ، فعلى القوم أن يكذّبوا عثمان تبعاً للشيخين ؛ لأنّهما أعرفُ به ، أو يكذّبوا الخبر ؛ لأنّ عثمان عدلٌ عند الشيخين ، فكيف لا يصدّقانه؟!
ولأنّه يلزم منه الطعنُ على عمر ، حيثُ لم يصدّق عثمان في هذا الأمر اليسير ويؤهّله في الشورى للأمر الخطير!
على أنّه كيف يُتصوّر أن ياذن النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لعثمان في إدخاله ، ولا يدخله ولا يخبر أحداً بإذنه له إلى أن يتوفّى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد كان عثمان بذلك الحرص على إدخاله؟!
فإن قلتَ : لعلّ إذن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حال شدّة مرضه بحيثُ لا يسعُ الوقتُ إدخاله ، ولا يتحمّل المجال الإخبار بالإذن ؛ إذ لا هَمّ للناس إلاّ تعرُّف حال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لشدّة مرضه والوجل عليه.
قلتُ : لو اتّجه هذا الاحتمالُ ، فللمعارض أن يجيب بما قال عمر :
ص: 437
«إنّ النبيّ - وحاشاه - يهجرُ» (1)!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فتلك الروايةُ على تقدير وجودها معارَضةٌ بالروايات التي ذكرها المصنّف (رحمه اللّه) ، الدالّة على عدم استئذانه من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وعدم إذنه أصلا ، وهي أكثر.
وقال في «العقد الفريد» (2) : «لمّا ردّ عثمان الحكم بن أبي العاص طريدَ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وطريدَ أبي بكر وعمر إلى المدينة ، تكلّم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس منّي؟! إنّي وصلت رحماً ، وأقررتُ عيناً!».
فإنّه لو كان عذرُ عثمان إذنَ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له لَذَكرَه!
وبالجملة : إنّا رأينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) طرد الحكم وحرّم دخوله المدينة ، فكلّ مَن خالفه مطعونٌ فيه حتّى يقيم العذر والحجّة ، ولا حجّة لعثمان بالضرورة ؛ ولذا فشا الطعن عليه بين الصحابة من حين إدخاله إلى المدينة إلى أن قُتل عثمان.
وهو بإدخاله له قد خالف سيرة الشيخين قبله ، فينبغي أن يقول أهل السنة بسقوطه عن الخلافة ؛ لمخالفته - بذلك - لشرط عبد الرحمن ؛ فإنّه بايعه على أن يسير بسيرتهما (3).
ولو سُلّم إذن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له وتحقّق العذر له ، فلا ريب أنّ الحَكَم من أعداء اللّه وأعداء رسوله ، حتّى لعنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومَن يخرج مِن
ص: 438
صلبه إلى يوم القيامة ، كما استفاض في أخبار الفريقين (1) ، حتّى روى في «الاستيعاب» لَعْنَ النبيِّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) له من طريقين (2) ، وذكر أنّ عبد الرحمن ابن حسّان بن ثابت (3) قال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه [من الكامل] :
إنّ اللعينَ أبوك فارمِ عظامَه *** إنْ تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجاً (4) مجنونا
يُمسي خميصَ البطنِ من عمل التُقى *** ويظلُّ من عمل الخبيثِ بطينا (5)
فكان اللازم على عثمان أن يعاديه بعداوة اللّه ورسوله ، وأن يعادي ابن أبي سرح ولا يؤويه يوم الفتح بعدما أهدر النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) دمه ، إذ
ص: 439
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ) (1) ، لا أنّه يحرص على أمان ابن أبي سرح ، وعلى الإذن للحكم ، ثمّ يدخله المدينة ، ويعزّه ويفضّله في الإكرام والعطاء على وجوه المهاجرين والأنصار ..
فقد كان لا يجلسُ معه على سريره إلاّ أربعةٌ ، أحدُهم الحَكمُ ، كما ذكرناه في البحث السابق (2).
وأعطاه مئة ألف ..
قال في «العقد الفريد» (3) : «وممّا نقمَ الناسُ على عثمانَ أنّه آوى طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحكمَ بن أبي العاص ، ولم يُؤوه أبو بكر و [لا] عمر ، وأعطاه مئة ألف».
ومثله في «شرح النهج» (4).
ثمّ جعل بطانته وخاصّته الخصيصة ابنه مروان ، اللعين في صلب أبيه ، وولاّه زمام أمر المسلمين ، ووهبه ما لا يُعَد من أموالهم ، وقدّمه على وجوه الصحابة (5).
* * *
ص: 440
قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :
ومنها : إنّه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي اعتُدت للمسلمين ..
دفع إلى أربعة من قريش وزوّجهم ببناته أربعمئة ألف دينار (2).
وأعطى مروان مئة ألف دينار (3).
أجاب قاضي القضاة ، بأنّه ربّما كان من ماله (4).
اعترضه المرتضى (رحمه اللّه) ، بأنّ المنقول خلاف ذلك ، فقد روى الواقديُّ أنّ عثمان قال : «إنّ أبا بكر وعمر كانا يتأوّلان من هذا المال [ظَلَْفَ (5)] ذوي أرحامهما ، وإنّي تأوّلتُ منه صلة رحمي» (6).
ص: 441
وروى الواقديُّ ، أنّه بعث إليه أبو موسى الأشعري بمال عظيم من البصرة ، فقسّمه عثمان بين وُلده وأهله بالصِّحاف (1).
وروى الواقديُّ - أيضاً - ، قال : قدمت إبل من إبل الصدقة ، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص (2).
وولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ، ثلاثمئة ألف ، فوهبها له (3).
وأنكر الناس على عثمان إعطائه سعيد بن العاص مئة ألف (4).
ص: 442
وقال الفضل (1) :
لا خلاف بين المسلمين أنّ عثمان كان صاحب أموال كثيرة ، حتّى جهّز ثلثَ جيش العسرة في زمن رسول اللّه (2) ، وكان ذلك زمن الضيق والشدّةِ ، ولم يتّسع الأموال بعد.
فلمّا اتّسع الأموالُ ، فلا شكّ أنّ المرء العالم بتحصيل الأموال - سيّما إذا استُخلِف - تزيد أمواله بالتجارات والمعاملات.
فربّما كان من ماله ما أعطى أقرباءه ، كما أجاب قاضي القضاة.
ومَن كان يفرّق بين أمواله وأموال الفيء؟! لأنّ كلَّ هذا كان تحت يده.
أكان المرتضى وابن المطهّر من حسّاب أمواله ومن خزّانها ، حتّى يعلموا أنّه أعطى من ماله أو من مال الفيء؟!
والأصل أن يُحمل أعمال الخلفاء الراشدين على الصواب ، فالأصل أنّه أعطى من ماله ، فلا طعن.
وإن فرضنا أنّه أعطى من مال الصدقات ، فربّما كان لمصالح لا يعلمُه إلاّ هو ، كما أعطى رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أشراف العرب من غنائم حنين
ص: 443
ذكر الفضل هنا أُموراً أشبه بالخيالات والخرافات ..
الأوّل : زعم أنّه جهّز ثلثَ جيش العسرة ، وهو قد روى سابقاً أنّه تبرّع بستّمئة بعير (1) ، فكيف تكون الستّمئة ثلث جهاز الجيش البالغ خمسة وعشرين ألفاً ، كما ذكره المؤرّخون (2)؟! اللّهم إلاّ أن يكون الاختلاف بلحاظ اختلاف أخبارهم!
وليت شعري ، مَن تسمح نفسه بذلك المقدار الكثير - كيفما بلغ - ، كيف أشفق مِن تقديم صدقة النجوى الواجبة القليلة (3)؟!
وكيف يجتمع لمن يكون بهذا الكرم ، تلك الأموال العظيمة التي يعطي منها أقاربه تلكَ العطايا الجسيمة؟!
الثاني : زعم أنّ العالِم بتحصيل الأموال - لا سيّما إذا استُخلِف - تزيد أمواله بالتجارة ، وهو خلاف الضرورة ؛ لأنّ الخليفة يشتغل بأُمور الناس والإسلام عن التجارة.
وقد رووا - كما مرّ - أنّ أبا بكر لمّا استُخلِف اشتغل عن التجارة
ص: 445
واستنفق من بيت المال (1) ؛ فكيف يقوم عثمان بأُمور الخلافة مع اتّساع المملكة أضعافاً كثيرةً ، ويتّجر بأمواله التي بعضها تلك العطايا؟!
ولكن قد يوجّه بما سيأتي عن «السيرة الحلبية» ، من أنّ عثمان منع أن يشتري أحدٌ قبل وكيله ، وأن تسير سفينة في غير تجارته (2)!
فإنّه على هذا لا تحتاج تجارته وزيادة أمواله إلى صرف وقت كثير ؛ لاستعانته بالوكلاء والاحتكار!
ويشكل : بأنّه مع هذا الجور والنهمة في جمع المال ، يمتنع أن يعطي عثمان من أمواله تلك العطايا ويده مبسوطة على مال المسلمين ، فيبطل قول الفضل : «فربّما كان من ماله ما أعطى أقرباءه».
على أنّه لو كان من أهل العطاء لهم من ماله ، لأعطاهم قبل أن يستخلف بعض هذه العطايا ؛ ولم يحكِه التاريخ أصلا!
الثالث : قوله : «ومَن كان يفرّق بين أمواله وأموال الفيء ...» إلى آخره ..
فإنّ الفرق واضح لكلِّ أحد ؛ لأنّ لبيت المال خزّاناً مخصوصين.
نعم ، لا فرقَ بينهما في أيّام معاوية إلى قرون من الهجرة ؛ لأنّهم اتّخذوا مال اللّه من أملاكهم ، وصرفوه في شهواتهم ومصالح دنياهم.
وأظرفُ من هذا قوله : «أكان المرتضى وابن المطهّر من حسّاب أمواله ...» إلى آخره ..
فإنّهما استدلاّ على ذلك بأخبارهم المصرّحة بهبته لهم مال البصرة
ص: 446
وإبل الصدقة وصدقات قضاعة ، ونحوها ، كخمس إفريقية وغيره ، ممّا سيمرّ عليك ، ولم يتكلّما بالتخمين ، كالقاضي (1) وهذا القائل.
على أنّ المرتضى وابن المطهّر لم يختصّا بهذا الطعن ، بل طعن به قبلهم عامّةُ الصحابة ؛ لِما شاهدوه من إعطاء عثمان أقاربه من بيت المال.
أيظنّ الفضلُ أنّ الصحابةَ كلَّهم فسقةٌ يطعنون بما لا يشهدون ولا يعلمون؟!
ومنه يعلم ما في قوله : «والأصل أن يُحمل أعمال الخلفاء الراشدين ...» إلى آخره ؛ إذ لا مورد للأصل مع الدليل واليقين ، مع أنّ الأصل هو ذلك في أعمال الخلفاء الراشدين ، وكلامنا في أنّ عثمان منهم.
الرابع : قوله : «وإن فرضنا أنّه أعطى من مال الصدقات ، فربّما كان لمصالح لا يعلمه إلاّ هو ، كما أعطى رسول اللّه ...» إلى آخره ..
فإنّ وجه الحكمة لا يمكن أن يخفى - حتّى الآن - بحيث لا يدركه أحدٌ ممّن شاهد الحال أو تأخّرَ ، ولا اعتذر به عثمان وأولياؤه لمّا كثر الطعن عليه.
والفرق بينه وبين إعطاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لأشراف العرب ظاهر ؛ فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد قصد تأليف المنافقين ، وعُلم من حاله ، وصرّح به (2).
ص: 447
ولعلّ الخصم يرى أنّ بني أُميّة - ومنهم بطانة عثمان وعمّاله في أعظم بلاد الإسلام - كانوا منافقين ، وملّكهم مالَ اللّه ورقابَ عباده تأليفاً لهم ، حتّى تحمّل الأذى والضرّ والقتل في سبيل تأليفهم ؛ فانظر واعتبر!
هذا ، ولنُضِفْ إلى ما ذكره المرتضى (رحمه اللّه) من الأخبار ما اطّلعنا عليه من روايات القوم ..
قال الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» ، في الخلاف التاسع : «أخذوا عليه أحداثاً ، منها : ردُّه الحكمَ إلى المدينة بعد أن طرده النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان يسمّى طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بعد أن تشفّع إلى أبي بكر وعمر فما أجاباه ، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً ..
ومنها : نفيه أبا ذرّ إلى الربذة ..
وتزويجه مروانَ بن الحكم بنته ، وتسليمه خمس غنائم إفريقية ، وقد بلغ مئتي ألف دينار ..
ومنها : إيواؤه ابنَ أبي سرح بعد أن أهدر النبيُّ دمه ، وتوليته إيّاه مصر بأعمالها ..
وتوليته عبد اللّه بن عامر البصرة حتّى أحدث فيها ما أحدث ..
.. إلى غير ذلك مما نقموا عليه» (1).
وقال في «العقد الفريد» (2) : «وممّا نقم الناسُ على عثمان أنّه آوى
ص: 448
طريدَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الحكمَ بن أبي العاص ولم يؤوِه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مئة ألف ..
وسيّر أبا ذرّ إلى الربذة ..
وسيّر عامرَ بن عبد قيس من البصرة إلى الشام ..
وطلب منه عبد اللّه بن خالد بن أسيد صلةً ، فأعطاه أربعمئة ألف ..
وتصدّق رسولُ اللّه بمهزور (1) - موضع سوق بالمدينة - على المسلمين ، فأقطعها الحارثَ بن الحكم أخا مروان ..
وأقطع مروان فدك ، وهي صدقة لرسول اللّه ..
وافتتح إفريقية ، وأخذ خمسها فوهبه لمروان».
وقال ابن الأثير في «الكامل» (2) ، عند ذِكر ولاية ابن أبي سرح : «كان قد أمره عثمان بغزو إفريقية سنة 25 ، وقال له عثمان : إنْ فتح اللّه عليك فلك من الفيء خمسُ الخمس نفلا - إلى أن قال : - ثمّ إنّ عبد اللّه بن سعد عاد من إفريقية إلى مصر ... وحمل خمس إفريقية إلى المدينة ، فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمئة ألف دينار ، فوضعها عنه عثمان ، وكان هذا ممّا أُخذَ عليه.
وهذا أحسنُ ما قيل في خمس إفريقية ، فإنّ بعض الناس يقول : أعطى عثمانُ خمسَ إفريقية عبد اللّه بن سعد ، وبعضهم يقول : أعطاه
ص: 449
مروانَ بن الحكم ، وظهر أنّه أعطى عبد اللّه خمسَ الغزوة الأُولى ، وأعطى مروانَ خمسَ الغزوة الثانية التي فُتحت فيها جميع إفريقية».
وذكر الطبريُّ في «تأريخه» (1) قصّة إعطاء عثمان خمسَ الخمس لعبد اللّه ، ثمّ ذكر أنّ الذي صالحهم عليه عبد اللّه ثلاثمئة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم.
وروى - أيضاً (2) - أنّه «قدمت إبلٌ من إبل الصدقة على عثمان ، فوهبها لبعض بني الحكم ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف ، فأرسل إلى المِسْوَر وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، فأخذاها ، فقسّمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار».
وقال في «السيرة الحلبية» ، عند بيان فتنة قتل عثمان (3) : «وسببُ هذه الفتنة أنّهم نقموا عليه أُموراً ..
منها : عزلهُ لأكابر الصحابة ممّن ولاّه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنهم من أوصى عمر بأن يبقى على ولايته ، وهو أبو موسى ، فعزله عثمان وولّى ابن خاله عبد اللّه بن عامر محلّه.
وعزلَ عمرو بن العاص عن مصر ، وولاّها ابن أبي سرح.
وعزلَ المغيرة عن الكوفة ، وعزل ابن مسعود عنها - أيضاً - وأشخصه إلى المدينة.
وعزلَ سعد بن أبي وقّاص عن الكوفة ، وولاّها أخاه لأُمّه الوليد بن
ص: 450
عقبة ، الذي سمّاه اللّه تعالى فاسقاً (1) ، وصار الناس يقولون : بئس ما صنع ، عزل الليّن الهيّن الورع ، وولّى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر.
ولعلّ مستندهم في ذلك ما رواه الحاكم في صحيحه : مَن ولّى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة مَن هو أرضى لله منه ، فقد خان اللّه ورسوله والمؤمنين (2).
ومنها : إنّه أدخل عمّه الحكَمَ [المدينة] ، وكان يقال له : طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولعينه ، وقد كان (صلى اللّه عليه وآله وسلم) طرده إلى الطائف ، ومكث به مدّة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومدّة أبي بكر ، بعد أن سأله عثمانُ في إدخاله المدينة [فأبى] ، فقال له عثمان : عمّي! قال : عمّك إلى النار ، هيهات هيهات أن أُغيّر شيئاً فعله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فلمّا تُوفّي أبو بكر وولي عمر ، كلّمه عثمان [في ذلك] ، قال له : ويحك يا عثمان! تتكلّم في لعين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وطريده ، وعدوِّ اللّه وعدوِّ رسوله؟!
فلمّا ولي عثمان ردّه إلى المدينة ، فاشتدّ ذلك على المهاجرين والأنصار ، فأنكر ذلك عليه أعيانُ الصحابة ، فكان من أكبر الأسباب على القيام عليه ...
إلى أن قال : ومن جملة ما انتُقمَ (3) به على عثمان ، أنّه أعطى ابنَ عمه مروانَ مئةَ ألف وخُمس إفريقية.
وأعطى الحارثَ عُشرَ ما يباع في سوق المدينة.
ص: 451
وأنّه جاء إليه أبو موسى بحلية ذهب وفضّة ، فقسّمها بين نسائه وبناته.
وأنّه أنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره.
وأنّه حَمى لنفسه دون إبل الصدقة.
وأنّه حبس عطاء عبد اللّه بن مسعود وهجره.
وحبس عطاء أُبَيّ بن كعب.
ونفى أبا ذرّ إلى الربذة.
وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لمّا شكاه معاوية.
وضرب عمّار بن ياسر.
وكعب بن عبيدة ، ضربه عشرين سوطاً ، ونفاه إلى بعض الجبال.
وقال لابن عوف : إنّك منافقٌ.
وأنّه أقطعَ أكثر أراضي بيت المال.
وأمر أن لا يشتري أحدٌ قبل وكيله.
وأن لا تسير سفينةٌ في البحر إلاّ في تجارته.
وأنّه أحرق الصحف التي فيها القرآن.
وأنّه أتمّ الصلاة بمنى ولم يُقصّرها لمّا حجّ بالناس.
وأنّه ترك قتل عبيد اللّه وقد قتل الهُرمزان».
وذكر هذا كلّه في «الصواعق» ، في آخر كلامه بخلافة عثمان (1).
وقريبٌ منه في «شرح النهج» (2).
ص: 452
.. إلى غير ذلك ممّا رواه علماؤهم (1).
ومعه ، كيف يصحّ للفضل أن يقول : «ربّما كان من ماله ما أعطى أقرباءه»؟!
وقد أطلنا بنقل هذه الكلمات لفائدتها في ما يذكره المصنّف (رحمه اللّه) من مطاعن عثمان.
ص: 453
سبق من كلام علمائهم ما يُصرّح بأنّه حمى لنفسه (1).
وذكر ابن أبي الحديد (2) ، أنّ عثمان كان يحمي الشّرَف (3) لإبله ، وكانت ألف بعير ، ولإبل الحكَم بن أبي العاص ..
ويحمي الربذة لإبل الصدقة ..
ويحمي النقيع (4) لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أُميّة.
ولو سُلّم أنّه إنّما حمى لإبل الصدقة ، فهو حرامٌ لغير رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لِما رواه البخاري (5) ، عن الصعب بن جَثّامة ، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا حمى إلاّ لله ورسوله.
ثمّ قال : «بلغنا أنّ النبيّ حمى النقيع ، وأنّ عمر حمى الشرف والربذة».
ص: 456
وأيضاً ، فقد جعل النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين سواءً في الماء والكلأ (1) ، فلا يجوز لأحد أن يحمي الكلأ عن المسلمين ولو لإبل الصدقة.
فقول الفضل : «الحمى الذي منعه رسول اللّه ، هو أن يحمي الإمام لنفسه» ، تقييدٌ من غير دليل ، وما ادّعاه من الإجماع كاذبٌ لا مستندَ له إلاّ الهوى ونصرة المذهب.
نعم ، يجوز الحمى لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاصةً ؛ للخبر الأوّل (2) وغيره (3).
وممّا ذكرنا يُعلم أنّ الطعن واردٌ أيضاً على عمر ، فلا فائدة في ذِكر الفضل له إلاّ زياده الطعن على أئمته!
* * *
ص: 457
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :
ومنها : إنّه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلةَ وغيرهم (2) ، وهذا ممّا لا يجوز في الدين.
أجاب القاضي : يجوز أن يكون قد اجتهد (3).
واعترضه المرتضى (رحمه اللّه) بأنّ المال الذي جعل اللّه له جهةً مخصوصةً لا يجوز أن يُعدَل به عن جهته بالاجتهاد.
ولو جاز ، لبيّنه اللّه تعالى لنبيّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه أعلمُ بمصالح العباد (4).
ص: 458
وقال الفضل (1) :
إنْ صحَّ الرواية ، فلا شكّ أنّه عمل فيها بالاجتهاد ، كما أجاب قاضي القضاة.
واعتراض المرتضى مندفعٌ ؛ بأنّ التغيير لا يجوز بالاجتهاد في غير محلِّ الضرورة ، كما فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في غنائم حنين.
وأيضاً ، ربّما كان عثمان سمع جوازه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فيكون عاملا بعلمه البيّن عنده ، ويكون حجّته في العمل.
* * *
ص: 459
تشكيكه في صحّة الرواية ليس في محلّه ؛ فإنّ القاضي أعلم منه بالأخبار ولم يناقش في صحّتها ، بل ظاهره تسليمُ الصحّة ، كما لا يخفى على من راجع كلامه المحكيّ في «شرح النهج» (1).
ودعوى الخصم جواز التغيير بالاجتهاد في محلِّ الضرورة ، صحيحة إنْ أراد التغيير في العمل ؛ للضرورة التي يباح معها فعل المحرّمات ، كأكل الميتة.
لكنّ زمن عثمان زمان السعة ، كما أقرّ به الخصم (2) ، ولذا أعطى أقرباءه ما أعطى.
وقوله : «كما فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في غنائم حنين» ..
قياسٌ مع الفارق ؛ فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إنّما فضّل بعض المقاتلة على بعض بالغنائم ، ولم يعطهم من الصدقة ، وهذا لا ربط له بجعل المال المختصّ بجهة لغيرها.
وأمّا قوله : «ربّما كان عثمان سمع جوازه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» ..
فعذرٌ غيرُ مسموع ؛ إذ لا يصحُّ الاعتذار عن مخالفة الدليل إلاّ بإقامة دليل آخر ، وإلاّ لَما جازت مؤاخذة صحابيّ أو غيره بشيء يفعله ،
ص: 460
لجواز أن يكون سمع أو روى عن رسول اللّه جوازه ، ولو لنفسه خاصةً.
وحينئذ فَلِمَ لم يعذروا قتلة عثمان ، لجواز أن يكونوا سمعوا أو رووا جواز قتله أو وجوبه؟!
بل يمكن أن يعذر الصحابيُّ بشرب الخمر ، لجواز أنّه سمع من النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تجويزه له خاصةً ؛ وهذا باللغو أشبه!
واعلم أنّ الصدقة الزكويّة يجوز أن يدفع منها سهم سبيل اللّه إلى الغزاة (1) ، فلا بُد أن يكون الكلام في صدقة مخصوصة بغيرهم ؛ ولذا احتاج القومُ إلى الجواب بأنّه يجوز التغيير بالاجتهاد ، ونحو ذلك.
هذا ، ولا يخفى أنّ عثمان قد أعطى من الغنيمة غير الغانمين والمقاتلين ، بعكس ما فعله هنا ، فطعن المصريّون عليه به أيضاً.
روى الطبريُّ في «تأريخه» (2) حديثاً احتجّ به المصريّون على عثمان ، وذكر فيه أنّهم أخذوه بأُمور ما عنده منها مخرج ، فعرفها ، فقال : «أستغفر اللّه وأتوب إليه ...
إلى أن قال : فقال لهم : ما تريدون؟
قالوا : نريد أن لا يأخذ أهل المدينة عطاءً ؛ فإنّ هذا المال لمن قاتل عليه ، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ...
إلى أن قال : فقام فخطب ، فقال : إنّي ما رأيتُ واللّه وفداً في الأرض
ص: 461
هم خير لحوْباتي (1) من هؤلاء الوفد ...
إلى أن قال : فغضب الناس وقالوا : هذا مكر بني أُميّة .. الحديث.
وإنّما ذكروا الشيوخ مع المقاتلة مع عدم قتالهم ؛ لرضا هؤلاء المقاتلة بمشاركتهم لهم في غنيمتهم ، وإباحتهم لهم من حقهم ، وإلاّ فهم لا يستحقّون منها بدون قتال.
* * *
ص: 462
قال المصنّف - رحمة اللّه عليه - (1) :
ومنها : إنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود حتّى كسر بعض أضلاعه.
وعَهِدَ عبد اللّه بن مسعود إلى عمّار أن لا يُصلّي عثمان عليه.
وعاده عثمان في مرض الموت ، فقال له : ما تشتكي؟
قال : ذنوبي.
قال : فما تشتهي؟
قال : رحمةَ ربي.
قال : ألا أدعو لك طبيباً؟
قال : الطبيب أمرضني.
قال : أفلا آمر لك بعطائك؟!
قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينيه وأنا مستغن عنه؟!
قال : يكون لولدك.
قال : رزقهم على اللّه تعالى.
قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.
قال : أسأل اللّه أن يأخذ لي منك حقّي (2).
ص: 463
وقال الفضل (1) :
ضربُ عثمان عبد اللّه بن مسعود ممّا لا رواية فيه أصلا إلاّ لأهل الرفض ، وأجمع الرواة من أهل السنة أنّ هذا كذبٌ وافتراء.
وكيف يضرب عثمانُ عبد اللّه بن مسعود وهو من أخصّ أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومن علمائهم؟!
نعم ، من جملة ما ذكره صحّ في «الصحاح» ، أنّ عبد اللّه بن مسعود لمّا مرض عاده عثمان فقال له : أجعلُ عطاءكَ بعدك لبناتك.
قال : لا حاجة لهنّ فيه علّمتهنَّ سورة الواقعة يقرأنها بعد العشاء ، وإنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : «من قرأ سورة الواقعة بعد العشاء لم تصبه فاقة» (2).
ص: 464
من المسلّمات وجود الرواية عندهم بضربه لابن مسعود ، لكنّهم يتعلّلون عنها ببعض الأجوبة ؛ كمنع صحّتها ، وكون ضربه للتأديب ، ونحو ذلك.
قال نصيرُ الدين (رحمه اللّه) في «التجريد» : «ضرب ابن مسعود حتّى مات ، وأحرق مصحفه» (1).
وقال القوشجي في شرحه : «وأُجيب بأنّ ضربَ ابنِ مسعود إن صحّ فقد قيل : إنّه لمّا أراد عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد ويرفع الاختلاف بينهم في كتاب اللّه ، طلب مصحفه [منه] ، فأبى - إلى أن قال : - فأدّبه عثمان لينقاد ؛ ولا نسلّم أنّه مات من ذلك» (2).
وقال ابن أبي الحديد (3) : «الطعنُ السادس : إنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود حتّى كسر بعض أضلاعه.
قال قاضي القضاة : قال شيخنا أبو عليّ : لم يثبت عندنا ، ولا صحّ عندنا ما يقال من طعن عبد اللّه عليه ، وإكفاره له ، والذي يصحّ من ذلك أنّ عبد اللّه كره منه جمعَه الناسَ على قراءة زيد بن ثابت ، وإحراقه
ص: 465
المصاحف.
قال (1) : وقيل : إنّ بعض موالي عثمان ضربه لمّا سمع منه الوقيعة في عثمان.
ولو صحّ أنّه أمر بضربه ، لم يكن بأن يكون طعناً في عثمان بأَوْلى من أن يكون طعناً في ابن مسعود ؛ لأنّ للإمام تأديبَ غيره ، وليس لغيره الوقيعة فيه إلاّ بعد البيان».
ثمّ نقل ابن أبي الحديد عن المرتضى أنّه اعترض هذا الكلام ، فقال : «المعلوم المرويُّ خلاف ما ذكره ، ولا يختلف أهلُ النقل في طعن ابن مسعود على عثمان ، وقوله فيه أشدّ الأقوال وأعظمها ... وقد روى كلُّ من روى السيرة من أصحاب الحديث - على اختلاف طرقهم - أنّ ابن مسعود كان يقول : ليتني وعثمان برملِ عالج (2) ، يحثو علَيَّ وأحثو عليه حتّى يموتَ الأعجزُ منّي ومنه».
إلى أن قال المرتضى : «وقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة ، أنّه كان يقول : ما يزن عثمان عند اللّه جناح ذباب».
ثمّ ذكر المرتضى (رحمه اللّه) وصيّة عبد اللّه لعمّار أن لا يصلّي عليه عثمان ، وذكر عيادة عثمان لعبد اللّه وما قاله كلٌّ منهما للآخر بعين ما رواه المصنّف (رحمه اللّه) هنا.
إلى أن قال المرتضى : «فأمّا قوله : إنّ عثمان لم يضربه ، وإنّما ضربه
ص: 466
بعض مواليه لمّا سمع وقيعته فيه ..
فالأمر بخلاف ذلك ، وكلُّ مَن قرأ الأخبار عَلم أنّ عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه ، وبأمره جرى ما جرى عليه ، ولو لم يكن بأمره ورضاه ، لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه ، ويعتذر إلى من عاتبه على فعله».
ثمّ ذكر المرتضى (رحمه اللّه) كثيراً من الأخبار الدالّة على أنّه بأمره ، وقال : «وقد روى محمّد بن إسحاق ، عن محمّد بن كعب ، أنّ عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطاً في دفنه أبا ذرّ.
وهذه قصة أُخرى ...».
ثمّ قال : «فأمّا قوله : إنّ ذلك ليس بأن يكون طعناً في عثمان بأَوْلى من أن يكون طعناً في ابن مسعود ..
فواضح البطلان ؛ لأنّه لا خلاف بين الأُمّة في طهارة ابن مسعود ، وفضله ، وإيمانه ، ومدح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وثنائه عليه ، وأنّه مات على الجملة المحمودة منه ، وفي جميع هذا خلافٌ بين المسلمين في عثمان».
وأما قول القاضي : «للإمام تأديبُ غيره ، وليس لغيره الوقيعة فيه إلاّ بعد البيان» .. فتحكمٌ ظاهر!
وهل هو إلاّ فتحُ باب الجور لأئمّتهم ، وإطلاق عنان الهوى لهم ، مع علمهم بأنّ أكثرهم من الفاسقين؟!
ثمّ أيُّ بيان يُطلب أكثرُ من إحراق المصاحف الكريمة ، وهتك
ص: 467
حرمتها العظيمة ، وجمع الناس قهراً على قراءة شخص لم يتّفق عليها الصحابة ، ويرى بعضهم أنّ الصواب في خلافها؟!
وذكر ابن حجر في «الصواعق» ، في تتمّة خلافة عثمان ، أجوبة المطاعن عليه ، وأشار في أثنائها إلى رواية ضربه لابن مسعود ، فقال : «إنّ حبسه لعطاء ابن مسعود وهجره له ؛ فلِما بلغه عنه ممّا يوجب ذلك ، لا سيّما وكلٌّ منهما مجتهدٌ ، فلا يُعترض بما فعله أحدُهما مع الآخر.
نعم ، زعم أنّ عثمان أمر بضربه ، باطلٌ ، ولو فُرضت صحّته لم يكن بأعظم من ضرب عمر لسعد بن أبي وقّاص بالدرّة على رأسه ، حيث لم يقم له ، وقال له : إنّك لم تهب الخلافة ، فأردت أن تعرف أنّ الخلافة لا تهابك.
ولم يتغيّر سعد من ذلك ، فابن مسعود أَوْلى ؛ لأنّه كان يجيب عثمان بما لا يبقي له حرمةً ولا أُبّهةً أصلا.
بل رأى عمر أُبيّاً يمشي وخلفه جماعةٌ ، فعلاه بالدرّة وقال : إنّ هذا فتنةٌ لك ولهم ؛ فلم يتغيّر أُبَيّ.
على أنّ عثمان جاء لابن مسعود وبالغ في استرضائه ، فقيل : قبله واستغفر له ، وقيل : لا.
وكذلك ما وقع له مع أبي ذرّ ؛ فإنّه كان متجاسراً عليه بما يخرم أُبّهةَ ولايته ، فما فعله معه ومع غيره إنّما هو صيانةٌ لمنصب الشريعة وحمايةٌ لحرمة الدين» (1).
ص: 468
إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة في وجود الرواية عندهم بضرب عثمان لابن مسعود (1) ، وغايةُ ما عندهم التشكيك في صحّتها ، أو رميها بالبطلان!
ولا ريب بصحتها ؛ لموافقتها لأخبارنا (2) ؛ وللعلم الضروريّ بأنّهم إلى الستر على عثمان أميلُ.
فإذا وردت روايةٌ واحدةٌ عندهم - فضلا عن الروايات بضرب عثمان لابن مسعود - علمنا صحّتها.
هذا ، ولا شيء أعجب ممّا لفّقه ابن حجر في هذا الكلام ، فإنّ أُولئك الصحابة لم يتجاسروا على عثمان إلاّ لِما رأوه من إحداثه وعدم إقلاعه عنها ، وأكله وقومه المال بالباطل ، وتوليته مثل الوليد الفاسق وابن أبي سرح الفاجر على رقاب الأُمة ، وإحراقه المصاحف المحترمة ، إلى غير ذلك من أفعاله التي ما صان بها منصب الشريعة ، ولم يرع معها حرمة الدين ، ولم يبق لأجلها عند الصحابة محلٌّ لحمل عثمان على الصحّة ، أو حمله على الاجتهاد الذي زعمه ابنُ حجر.
أترى أنّ ابن حجر أعرفُ بعثمان واجتهاده الذي يعذر فيه ، من أبي ذرّ وعمّار وابن مسعود وسائر الصحابة والتابعين الّذين شاهدوا عثمان وأفعاله ، حتّى قُتل بينهم لأجلها وشاركوا في قتله؟!
ويشهد لِما قلنا ما رواه مسلم (3) ، عن شقيق ، عن أسُامة بن زيد ،
ص: 469
قال : «قيل له : ألا تدخلُ على عثمان فتكلّمه؟!» ..
وفي رواية : «عن أبي وائل ، قال : كنّا عند أُسامة ، فقال له رجلٌ : ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلّمه في ما يصنع؟!
فقال : أترون أنّي لا أُكلّمه إلاّ أُسمِعكم؟! واللّهِ لقد كلّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أُحبُّ أن أكون أوّل من فتحه.
ولا أقول لأحد يكون علَيَّ أميراً : إنّه خيرُ الناس ، بعدما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : يؤتى بالرجل يومَ القيامة فيلقى في النار فتندلق (1) أقتاب (2) بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى ، فيجتمع إليه أهلُ النار فيقولون : يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول : بلى ، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه».
ونحوه في «صحيح البخاري» ، في «كتاب بدء الخلق» (3) ، وفي كتاب «الفتن» (4) ، لكنّه لم يصرّح في المقامين باسم عثمان ؛ حفظاً لشأنه! وإنْ علم كلُّ أحد من الرواية أنّه المرادُ.
فإذا كان هذا رأيُ أُسامةَ وغيره في عثمان ، فكيف جاء ابنُ حجر بعد القرون المتطاولة وزعم اجتهاد عثمان ، وطلبه صيانة منصب الشريعة ، ورعاية حرمة الدين ، بهتك حرمة صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الأقربين ،
ص: 470
وتولية المردة الفاسقين ، وإعطائهم مال فقراء المسلمين ، مع أنّ أُولئك الصحابة لم يأتوا بشيء إلاّ أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وأن يتَّبع سبيل الرشاد؟!
وأما ما تعرّض له من ضرب عمر لسعد ، فلا فائدة به إلاّ إكثارُ الطعن على أئمّتهم ؛ ضرورة أنّ ضرب عمر لسعد - بمجرّد عدم قيامه له - حرامٌ خارجٌ عن حكم الشريعة.
وإلاّ فلو جاز ضربُ سعد لذلك ، لوجب قتلُ عمر في قوله : «إن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ليهجر» (1) حتّى سبب ضلالَ الأُمة إلى يوم الدين ، وفي جذبه لثوب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وقيامه في صدره عندما أراد الصلاة على عبد اللّه ابن أُبَيّ (2).
فإنّ أُبّهة النبوّة فوق أُبّهة الخلافة بمراتب لا تُحصى ، وإساءةُ سعد دون إساءة عمر بجهات لا تستقصى!
وأما ضربُ عمر لأُبَيّ فأشنع من ضربه لسعد ، وقد كان يكفي عمر
ص: 471
نهيُ أُبَيّ عن عمله ، فإذا أبى ضربه لو جوّزناه له.
هذا ، وإنّ أعظم ما جاء به عثمان في أمر ابن مسعود ، إحراقه لمصحفه وسائر المصاحف ، كما رواه البخاريُّ (1) ؛ إذ لا شيء أعظم منه في الجرأة على اللّه ورسوله ، والاستخفاف بالكتاب العزيز ، والتمادي في الغيِّ.
فإنّه لو أراد - كما زعموا - تحصين القرآن وقطع الاختلاف فيه ، لاكتفى بمحو ما خالف المصحف الذي أمر بجمعه.
على أنّ الاختلاف الواقع إن كان في القراءات السبع ، فهو الذي طلبه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بحسب أخبارهم ، وأجابه اللّه سبحانه إليه وقال : «أيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» ، كما رواه مسلم (2).
فلا يجوز لعثمان المنع عنه ، فضلا عن إحراق ما اشتمل عليه!
وإنْ كان في غير السبع ، فقد كان الواجب على عثمان أن يخصّ المنع به ، ويجمع الناس على السبع لا على قراءة واحدة ، وهي قراءة أُبَيّ.
ولو رأيتَ ما ورد عندهم في قراءة ابن مسعود ، وأمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأخذ القرآن منه (3) ، لعرفتَ أنّ الحقّ مع ابن مسعود في الطعن على
ص: 472
عثمان وإكفاره.
* * *
ص: 473
قال المصنّف - عطّر اللّه مرقده - (1) :
ومنها : إنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود على دفن أبي ذرّ أربعين سوطاً (2) ..
لأنّ أبا ذرّ لمّا مات بالربذة وليس معه إلاّ امرأته وغلامه ، وعهد إليهما أن غسّلاني وكفّناني ، ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمرّون بكم قولوا : هذا أبو ذرّ صاحبُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعينونا على دفنه.
فلمّا مات فعلوا ذلك ، وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين ، فلم يَرُعْهم إلاّ الجنازةُ على قارعة الطريق ، وقد كادت الإبلُ أن تطأها ، فقام إليهم العبدُ فقال : هذا أبو ذرّ صاحبُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فأعينونا على دفنه.
فقال ابن مسعود : صدق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال له : تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك.
ثمّ نزل هو وأصحابه ووارَوه (3).
ص: 474
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من ضرب عثمان ابن مسعود لدفنه أبا ذرّ ، فباطلٌ بيّن البطلان ؛ لأنّ السفهة من المغول والتركمان ، والأجلاف من الأعراب والأكراد ، لا يضربون أحداً من الناس للإعانة على دفن يهوديّ ، فكيف برجل يسلّمون أنّه من أصحاب الرأي ، حتّى سلّمه عمرُ ورآه أهلا للشورى في الخلافة؟!
هل من شأنه أن يضرب رجلا من مفتي الصحابة وعلمائهم وقرّائهم وصاحب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن قدماء المهاجرين ، ومصلّي القبلتين ، وصاحب الهجرة ، ومن أهل بدر ، وكان سببُ الضرب أنّك دفنت رجلا من أعدائي ، إن صحّت الرواية؟!
فهذا كلامٌ لو سمعه العالم بالأخبار للعنَ على المفتري كما يلعنُ مسيلمة الكذّاب.
ثمّ ما رواه من قصّة أبي ذرّ ، فباطلٌ مخالفٌ للنصوص من أهل التاريخ ، فقد ذكر جميع أرباب التواريخ في موت أبي ذرّ : «أنّه لمّا مرض بالربذة ، وكان أيّام الحجّ ، بكت امرأته ، فقال أبو ذرّ : ما يُبكيك؟!
قالت : إنّك تموت ، ولا بُد أن ندفنك ، وليس لك ثوبٌ تكفّن فيه.
فقال أبو ذرّ : لا تبكي! فإنّي سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّك تموت بأرض فلاة وحدك ، ويحضر موتك فئة من الناس يحبّهم اللّه
ص: 475
تعالى.
إذ كما قال : فقومي وانظري هل ترين أحداً؟ فقامت وصعدت تَلعةً (1) كانت هناك ، فرأت جماعة على المطايا تسير بهم كالنسور ، فلوّحت بثوبها ، فطاروا إليها ، فقالوا : هل لك حاجة؟
فقالت : هل لكم في أبي ذرّ صاحب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يموت.
ففدوه بآبائهم وأُمّهاتهم ، وكان في الركب مالك بن الحارث الأشتر ، فلمّا حضروا عنده قال : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عهد إليّ أنّي أموت بأرض فلاة ، يحضرني فئةٌ يحبّهم اللّه تعالى ، فأبشروا أنّكم حضرتم.
ثمّ قال : أيّكم لم يُولّ شيئاً من الإمارة والجباية ، أو شيئاً من أُمور الولاية؟
ولم يكن في القوم أحدٌ إلاّ وقد تولّى بعض ذلك ، ما خلا شابّاً قال : أنا ما وليتُ شيئاً ممّا ذكرتَ.
قال : فأنت كفنّي بثوبك.
فمات ، وكفنوه ودفنوه» (2).
هذا حكاية موت أبي ذرّ ، وذكره جميع أرباب التواريخ ، ولم يذكر أحدٌ أنّ عبد اللّه بن مسعود حضر موته ولا دفنه ، فهذا من مفتريات الرفضة ، عصمنا اللّه عن الكذب والعصبيّة.
ص: 476
سبق في المبحث السابق نقل ضرب ابن مسعود لدفنه أبا ذرّ (رضي اللّه عنه) عن محمّد بن إسحاق (1).
وأمّا استبعاد الخصم له فليس في محلّه ؛ فإنّ هذا ونحوه غيرُ بعيد من الأعداء ؛ لأنّ الأُمويّين - الّذين مدحهم الخصمُ سابقاً بالرشد والنجابة - لمّا قتلوا حُجراً وأصحابه - وهم من خيار المؤمنين وعباد اللّه الصالحين - حملوا رؤوسهم إلى الشام (2).
ولمّا توفّي أميرُ المؤمنين وأخو النبي الأمين ، لعنوه - لعنهم اللّه - على منابرهم سنين متطاولة (3).
ص: 477
ولمّا قتلوا سيّد شباب أهل الجنّة ، داسوا بخيولهم صدره وظهره ، وتركوه وأصحابه منبوذين بالعراء بلا دفن ، وسيّروا رؤوسهم إلى الشام ، وسبوا نساء الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) سبي الترك والديلم (1).
وأيضاً : فإنّ المسلمين ألقوا عثمان بعد قتله على المزبلة ثلاثة أيّام ، وأرادوا منع دفنه ، كما في «الاستيعاب» وغيره (2).
وتتبّع العبّاسيّون قبور الأُمويّين ونبشوها وأحرقوا ما وجدوا بها من عظامهم المسودّة (3).
إلى غير ذلك ممّا امتلأت به صفحات التاريخ من أفعال الأعداء بأعدائهم (4).
ص: 478
فكيف يُستبعد ذلك من عثمان وحمقه الذي أرداه وأورده القتل؟!
وأمّا جعل عمر له في الشورى ، فليس لحسن رأيه فيه ، كيف وهو قد تفرّس فيه أنّه يحمل أقرباءه على رقاب الناس ، وأنّه يُقتل لذلك (1)؟! ..
بل لسعي عمر في توهين الإمام الحق ، وصرف الأمر عنه بطريق لا يُنتقد في الظاهر عليه!
ثمّ إنّ الخصم إنّما أنكر الرواية التي نقلها المصنّف (رحمه اللّه) ، وصحّح غيرها ؛ طلباً لدفع الطعن عن عثمان بضربه لابن مسعود على دفن أبي ذرّ ، وما درى أنّه كالمستجير من الرمضاء بالنار ؛ فإنّ الرواية التي اختارها قد اشتملت على أنواع المطاعن ..
منها : دلالتها على فقر أبي ذرّ بحيث لا كفن له ، مع ملاءة بيت المال وإسراف عثمان وبني أُميّة فيه ، ودلالتها على غربته وأهله وشدّة محنة زوجته بحيث لا أنيس ولا معين ، وكلُّ ذلك بسبب عثمان.
فهل ترى أنّ اللّه سبحانه أحلّ ماله للوزغ الطريد وأبنائه ، وحرّمه على أبي ذرّ وأهله؟!
ومنها : إنّ قول أبي ذرّ : «أيّكم لم يُولّ شيئاً من الإمارة أو الجباية أو شيئاً من أُمور الولاية» ، دليلٌ على جور أُولئك الولاة ، وبطلان تلك الولايات ، وأنّ أُجورهم على الولاية حرامٌ ، وأموالهم من أموال الظلمة ،
ص: 479
فتبطل إمامة عثمان وأمثاله!
أترى أنّ أبا ذرّ يمتنع أن يكفَّن من أموالهم لو كانوا ولاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
وفي خبر آخر ذكره في «الاستيعاب» بترجمة أبي ذرّ : «أنشدكم أن لا يكفّنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً (1) أو بريداً (2) أو نقيباً» (3).
ومثله في «مستدرك الحاكم» من طريقين ، في مناقب أبي ذرّ (4).
ومنها : إنّ تلك الرواية صرّحت بأنّ أُولئك الركب ممّن يُحبّهم اللّه تعالى ، وبأنّ الأشتر منهم (5).
كما صرّحت بأنّ الأشتر وحُجراً منهم إحدى روايتي الحاكم (6).
فيكون الأشتر ممّن شهد له النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ اللّه يحبّه.
وأنت تعلم كيف كان اعتقاده بعثمان وحاله معه ؛ فإنّه كان يراه مهدور الدم ، حتّى كان أعظم المجلبين عليه ، وأكبر المسببين لقتله ، بل قيل إنّه هو الذي قتله (7).
كما إنّ حُجراً ممّن باشر قتله ، فطعنه تسع طعنات ، كما سيأتي إن
ص: 480
شاء اللّه.
فكيف يجتمع حبُّ اللّهِ لقاتل عثمان ، مع القول بإمامته وظلم قاتليه؟!
وقال ابن الأثير في «كامله» ، في حوادث سنة 32 (1) : «وفيها مات أبو ذرّ ، وكان قال لابنته : استشرفي هل تريْنَ أحداً؟ قالت : لا ؛ قال : فما جاءت ساعتي بعد - إلى أن قال : - إنّه سيشهدني قومٌ صالحون.
ونحوه في «تاريخ الطبري» (2).
ثمّ قال ابنُ الأثير : «وكان الّذين شهدوه : ابن مسعود ... وعلقمة بن قيس ومالك الأشتر ، النخعيّين» ، وعَد جماعة (3).
وروى أحمد في «مسنده» (4) ، والحاكم في إحدى روايتيه - المشار إليهما - ، وابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، أنّ أبا ذرّ قال : «إنّي سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول لنفر أنا منهم : ليموتنَّ رجلٌ منكم بفلاة من الأرض ، يشهده عصابةٌ من المؤمنين».
ومثله في «كنز العمّال» (5) ، عن ابن سعد ، وابن حبّان في «صحيحه» ، والضياء في «المختارة».
ص: 481
وروى في «الاستيعاب» من حديث آخر ، أنّه «صلّى عليه عبد اللّه بن مسعود ، صادفه وهو مقبلٌ من الكوفة مع نفر فضلاء من الصحابة ، منهم : حُجر بن الأدبر ، ومالك بن الحارث الأشتر» (1).
قال ابن أبي الحديد (2) - بعد نقل الحديثين المذكورين عن «الاستيعاب» - : «قلت : حُجر بن الأدْبَر ، [هو حُجْر بن عَدِيّ] الذي قتله معاوية ، وهو من أعلام الشيعة وعظمائها.
وأمّا الأشتر ، فهو أشهر في الشيعة من أبي الهُذَيل في المعتزلة.
قُرئ كتاب (الاستيعاب) على شيخنا عبد الوهّاب بن سُكَينة (3) المحدِّث - وأنا حاضرٌ - ، فلمّا انتهى القارئ إلى هذا الخبر ، قال أُستاذي عمرُ بن عبد اللّه الدبّاس - وكنت أحضرُ معه سماع الحديث - : «لِتقُل الشيعة بعد هذا ما شاءت ، فما قال المرتضى والمفيد إلاّ بعض ما كان حُجر والأشتر يعتقدانه في عثمان ومَن تقدّمه!
فأشار الشيخ إليه بالسكوت ، فسكت» ؛ انتهى.
ومن العجب أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يشهد للأشتر ، بالإيمان والصلاح وحبّ
ص: 482
اللّه له ، وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ، بما ليس فوقه غاية ، وابن حجر في «الصواعق» عبّر عنه بالمارق ، عند الجواب عن الطعن على عثمان بأنّه انتهك حرمة الأشتر ، قال : «وما فعله بالأشتر معذورٌ فيه ؛ فإنّه رأسُ فتنة في زمان عثمان ، بل هو السبب في قتله ، بل جاء أنّه هو الذي باشر قتله بيده.
فأعمى اللّه بصائرهم ، كيف لم يذمّوا فعل هذا المارق ، وذمّوا فعل من شهد له الصادق أنّه الإمام الحقُّ ، وأنّه يُقتل مظلوماً ، وأنّه من أهل الجنّة؟!» (1) ؛ انتهى.
ولعمري ، إنّ أعمى البصيرة من لا يتبصّر في أفعال عثمان الخارجة عن قانون الشريعة ، ولا يبصر فضل الأشتر وغيره من الآمرين بالمعروف ، الناهين عن المنكر.
وأعمى البصيرة مَن لا يعرف أنّ أخبار أصحابه في فضل أوليائهم ، لا تكون حجّةً لهم على خصومهم ، وأنّ المتّفَق على رواية فضله ليس بمنزلة المختلَف فيه ، مع كثرة الأدلّة على كذب ما رواه في فضل عثمان ، وضعف رواتها.
وكيف يصفُ الأشتر بالمارق ، وهو سيف أمير المؤمنين (عليه السلام) على البغاة الّذين قاتلهم على تأويل القرآن ، وقال في حقّه : «كان لي كما كنتُ لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)» (2)؟!
وما بال ابن حجر لم يصف عائشةَ وطلحة والزبير وابن العاص بالمروق ، وهم مثلُ الأشتر أو أعظم منه في التأليب على عثمان؟!
ص: 483
نعم ، يفترقان عند ابن حجر بأنّ مالكاً ناصرٌ للإمام الحقِّ وشيعةٌ له ، وهؤلاء محاربوه وأعداؤه ، فنِعم الحكمُ اللّه ، والزعيمُ محمّد ، وعند الساعة يخسرُ المبطلون.
وأما إنكار الخصم رواية حضور ابن مسعود لدفن أبي ذرّ ..
فقد ظهر لك أمره من الأخبار المتقدّمة (1) ، مضافاً إلى ما رواه الحاكم في «المستدرك» (2) ، عن خليفة بن خياط ، قال : «مات أبو ذرّ [بالربذة] سنة 32 ، وصلّى عليه عبد اللّه بن مسعود».
ثمّ روى الحاكم رواية أُخرى في ذلك أشرنا إليها سابقاً (3).
وقال في «الاستيعاب» - مع ما نقلناه عنه سابقاً بترجمة أبي ذرّ ، بعنوان «جندب بن جنادة» - ، قال : «وفي خبر غيره ، أنّ ابن مسعود لمّا دُعي إليه وذُكر له بكى بكاءً طويلا» ..
ثمّ قال : «وقد قيل : إنّ ابن مسعود كان مقبلا من المدينة إلى الكوفة فَدُعي للصلاة عليه - إلى أن قال : - وكانت وفاته بالربذة سنة 32 ، وصلّى عليه ابن مسعود» (4).
وقال فى «الاستيعاب» أيضاً ، بترجمة أبي ذرّ ، في «باب الكنى» : «توفّي أبو ذرّ سنة 31 أو سنة 32 ، وصلّى عليه ابن مسعود» (5).
ثمّ روى عن الحَلْحَال ، قال : «خرجنا حجّاجاً مع ابن مسعود سنة
ص: 484
أربع وعشرين ، ونحن أربعة عشر راكباً ، حتّى انتهينا إلى الربذة ، فشهدنا أبا ذرّ ، فغسّلناه وكفنّاه ودفنّاه هناك» (1).
وروى الطبريّ في «تاريخه» (2) ، في حوادث سنة 32 ، خبرين يشتملان على حضور ابن مسعود دفن أبي ذرّ.
.. إلى غير ذلك من أخبارهم التي يطول ذِكرها (3).
وبهذا تعلم حال هذا الخصم في نفيه وإثباته ومكابراته!
* * *
ص: 485
قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :
ومنها : إنّه أقدم على عمّار بن ياسر بالضرب ، حتّى حدث به فتقٌ.
وكان أحدَ مَن ظاهرَ المتظلّمين من أهل الأمصار على قتله ، وكان يقول : قتلناه كافراً.
وسبب قتله : أنّه كان في بيت المال بالمدينة سفط (2) فيه حليٌ وجوْهَرٌ (3) ، فأخذ منه عثمان ما حلّى به أهله ، فأظهر الناسُ الطعن عليه في ذلك ، وكلّموه بالرديء حتّى أغضبوه ، فقال : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام.
فقال أمير المؤمنين : إذاً تُمنع من ذلك ، ويُحال بينك وبينه.
فقال عمّار : أُشهد اللّهَ أنّ أنفي أوّل راغم من ذلك.
فقال عثمان : أعلَيَّ يا ابن سميّة تجترئ؟! خذوه!
ودخل عثمان ، فدعا به ، وضربه حتّى غُشي عليه ، ثمّ أُخرج ، فحُمل
ص: 486
حتّى أُدخل بيت أُمّ سلمة ، فلم يصلِّ الظهر والعصر والمغرب ، فلمّا أفاق توضأ وصلّى ...
وكان المقداد وعمار وطلحة والزبير ، وجماعة من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كتبوا كتاباً عدّدوا فيه أحداث عثمان ، وخوّفوه ، وأعلموه أنّهم مواثبوه إن لم يُقلع ، فجاء عمّار به ، فقرأ منه صدراً.
وقال : أعلَيَّ تقدِم مِن بينهم؟!
ثمّ أمر غلمانه فمدّوا يديه ورجليه ، ثمّ ضربه عثمان على مذاكيره ، فأصابه فتقٌ ، وكان ضعيفاً كبيراً فغُشي عليه (1).
وكان عمّار يقول : ثلاثةٌ يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) (3).
وقيل لزيد بن أرقم : بأيّ شىء أكفرتم عثمان؟
فقال : بثلاث ؛ جعل المال دولةً بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنزلة من حارب اللّه ورسوله ، وعمل بغير كتاب اللّه (4).
وكان حذيفة يقول : ما في عثمان بحمد اللّه أشكّ ، لكنّي أشكّ في قاتله ، لا أدري أكافر قتل كافراً ، أو مؤمن (خلص إليه النية) (5) حتّى قتله ،
ص: 487
هو أفضل المؤمنين إيماناً (1)؟!
مع أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان يقول : عمار جلدة ما بين العين والأنف (2).
وقال : ما لهم ولعمّار؟! يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار (3).
وقال : من عادى عمّاراً عاداه اللّه ، ومن أبغض عمّاراً أبغضه اللّه (4).
وأيُّ ذنب صدر من عمّار ، وأيُّ كلام غليظ وقع منه استوجب به هذا الفعل؟! وقد كان الواجب إقلاع عثمان عمّا كان يؤخذ عليه فيه أو يعتذر بما يُزيل الشبهة عنه!
* * *
ص: 488
وقال الفضل (1) :
ذكر في هذا الفصل من المزخرفات ما يشهد السماءُ والأرضُ على كذبه ، وضربُ عمّار بن ياسر ممّا لا رواية به في كتاب من الكتب.
ونحنُ نقول في جملته : أنّ هذه الأخبار وقائع عظيمةٌ يتوفّر الدواعي على نقلها وروايتها.
أترى جميع أرباب الروايات سكتوا عنه إلاّ شرذمةٌ يسيرةٌ من الروافض؟!
ولقد صدق مأمون الخليفة حيث قال : «أربعةٌ في أربعة ، الزهد في المعتزلة ، والمروّة في أصحاب الحديث ، وحبُّ الرياسة في أصحاب الرأي ، والكذب في الروافض» (2).
وكَذِب ما ذكره بَيّنٌ!
ولِمَ لَم ينسب هذه المزخرفات - التي لا يجري فيها تأويل ألبتّة - إلى صحاحنا ، مع أنّه يدّعي أنّه يروي كلَّ شيء من صحاحنا؟!
ثمّ ما ذكر من كلام حذيفة وزيد بن أرقم في تكفير عثمان بعد قتله ، فنقول :
اتّفق جميع أرباب التواريخ ، أنّ عثمان في الليلة التي قُتل في صبيحتها ختم القرآن في الركعتين.
ص: 489
فلمّا فرغ من صلاة الصبح أخذ يقرأ من المصحف ، فلمّا قتلوه وقع قطرةٌ من دمه على قوله تعالى : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (1).
أترى حذيفة وزيد بن أرقم يُكفّران مَن هذه عبادته؟!
ثمّ إنّهم سمعوا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على المنبر مراراً : «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم» (2) ، فعُلم أنّ كلّ ما ذكره في تكفيره كذبٌ صراحٌ.
عاقبه اللّه بكذبه على الخلفاء!
* * *
ص: 490
روى ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» بعنوان : «ما أنكر الناس على عثمان» : «أنّه اجتمع ناسٌ من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ...
إلى أن قال : وكان ممّن حضر الكتاب عمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود ، وكانوا عشرة ... والكتاب في يد عمّار ...
إلى أن قال : فدخل عليه وعنده مروان وأهله من بني أُميّة ، فدفع له الكتاب ، فقرأه ...
إلى أن قال : قال عثمان : اضربوه!
فضربوه ، وضربه عثمان معهم ، حتّى فتقوا بطنه ، فغُشيَ عليه ، فجرّوه حتّى طرحوه على باب الدار» (1).
وذكر في «السيرة الحلبيّة» من مطاعن عثمان ، أنّه ضرب عمّاراً ، كما سبق (2).
وأقرّ القوشجي في «شرح التجريد» بضربه له (3) ، وأجاب بما سيأتي.
وقال في «العقد الفريد» (4) تحت عنوان «ما نقم الناس على عثمان» :
ص: 491
«كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة ، فقالوا : من يذهب بها إليه؟.
قال عمّار : أنا.
فذهب بها إليه - إلى أن قال : - فقام إليه فوطأه ، حتّى غُشيَ عليه».
وعدَّ ابنُ حجَر في «الصواعق» ، بآخر كلامه بخلافة عثمان ، ضرب عثمان لعمّار في ما نُقِمَ عليه ، وإن أجاب بأنّه لم يضربه وإنّما ضربه عبيده (1).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة عمّار رضوان اللّه عليه : «كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان ، حين نال من عمّار غلمانُ عثمان ما نالوا من الضرب ، حتّى انفتق له فتقٌ في بطنه ، وكسروا ضلعاً من أضلاعه.
فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : واللّه لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان» (2).
إلى غير ذلك من رواياتهم وكلماتهم ، التي أُرسل فيها ضربُ عمّار إرسال المسلّمات ، وإنْ زعم بعضُهم - تقليلا للطعن - أنّ الضارب له غلمانه خاصّة ، وترقّى بعضهم فقال : إنّه بغير إذنه (3).
وهو باطلٌ بالضرورة ، وإلاّ لانتقم منهم لعمّار ، وقاده منهم.
بل الحقّ أنّه بأمره ومشاركته ، كما سبق في بعض ما سمعت ،
ص: 492
وصرّحت به أخبار أُخر ذكرها في «شرح النهج» (1).
وأجاب القوشجيُّ عنه بقوله : «وضربُ عمّار كان لِما روي أنّه دخل عليه وأساء له الأدب ، وأغلظ له في القول ، ممّا لا يجوز الاجتراء بمثله على الأئمة.
وللإمام التأديب لمن أساء الأدب إليه ، وإن أفضى ذلك إلى هلاكه ، [فلا إثم عليه] ؛ لأنّه وقع من ضرورةِ فعلِ ما هو جائز له.
كيف؟! وأنّ ما ذكره لازمٌ على الشيعة ، حيث رووا أنّ عليا قتل أكثر الصحابة في حربه ، فإذا جاز القتلُ لمفسدة ، جاز التأديب بالطريق الأَوْلى» (2).
إنّ التأديب إنّما يجوز إذا كانت الإساءة بغير حقّ.
وأما الإساءة التي أوجبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يجوز التأديب لأجلها ، وإلاّ لَما جاز معارضة الملوك بكلِّ منكَر فعلوه ؛ وهو كما ترى.
على أنّه لا إساءة من عمّار إلاّ كونه رسولا من جماعة من أكابر الصحابة عدّوا على عثمان أحداثه.
فإن كانت واقعة ، كان الواجب على عثمان الإقلاع عنها ، وإلاّ لزمه الاعتذار منها ، لا أنّه يصنع معه صنيع الجبّارين المتهوّرين ، حتّى أنكر عليه
ص: 493
الصحابة ولم يعذروه.
وإنّما عذره مَن جاؤوا بعد حين - كالقوشجي وأشباهه - زاعمين ضلال مَن أنكروا عليه ، ومنهم الصحابة!
ولا يقاس بقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابة ؛ لأنّهم من البغاة الخارجين على إمام زمانهم.
مع أنّ رسول اللّه قد عهد إليه أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين (1).
وقال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» (2) يعني عليا (عليه السلام).
ص: 494
فكيف يقاس به عثمان إذ ضرب عمّاراً ؛ لنهيه له عن المنكر بأمر أجلاّء الصحابة؟! ..
وقد ورد في حقه عند أهل السنة ، أنّه قد أجاره اللّه من الشيطان ، وأنّه مُلِئ إيماناً إلى مُشاشه (1) ، وأنّه ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما ؛ إلى غير ذلك من فضائله ..
فقد روى البخاري (2) ، عن أبي الدرداء : «أنّ عمّاراً أجاره اللّه على لسان رسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من الشيطان».
ورواه الحاكم - أيضاً - في «المستدرك» ، في مناقب عمّار (3) ، وصحّحه هو والذهبي.
وروى الحاكم - أيضاً - ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مُلِئ عمار إيماناً إلى مُشاشه» (4) ، وصحّحه مع الذهبي على شرط الشيخين.
ص: 495
وروى - أيضاً - ، عن ابن مسعود ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «ما عُرض عليه أمران قطُّ إلاّ أخذ بالأرشد منهما» (1).
وعن عائشة ، أنّه قال : «ما خُيّر عمّارُ بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما» (2).
ومثل الأخير في مناقب عمّار من «جامع الترمذي» (3) ، وفي «مسند أحمد» (4).
ونقله باللفظين في «كنز العمّال» ، عن أحمد في «مسنده» ، عن ابن مسعود (5).
وروى الحاكم - أيضاً - ، عن عليّ (عليه السلام) ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال لعمّار : مرحباً بالطيّب المطيَّب (6).
ص: 496
وروى - أيضاً - ، عن خالد بن الوليد ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مَن يسب عمّاراً يسبه اللّه ، ومَن يعادِ عمّاراً يعاده اللّه» (1).
وفي رواية أُخرى له ، عن خالد ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مَن يسابّ عمّاراً يسبّه اللّه ، ومَن يعاد عمّاراً يعاده اللّه ، ومَن يحقّر عمّاراً يحقّره اللّه» (2).
وفي رواية أُخرى له عنه ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «مَن يسبّ عمّاراً يسبّه اللّه ، ومَن يبغض عمّاراً يبغضه اللّه ، ومَن يسفّه عمّاراً يسفّهه اللّه» (3).
.. إلى نحو ذلك ممّا رواه الحاكم ، من طرق صحّحها هو والذهبيُّ (4).
ص: 497
وروى أكثرها في «الاستيعاب» بترجمة عمّار (1) ، وزاد أنّه نزل فيه : ( أَوَمَن كان ميْتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) (2) (3).
وأنّه أحد من اشتاقت إليهم الجنّة (4) ، كما رواه الحاكم - أيضاً - في مناقب عليّ (عليه السلام) (5).
ونقل في «كنز العمّال» (6) ، عن ابن مسعود : «إذا اختلف الناس كان ابن سُميّة على (7) الحقِّ».
وعن ابن عساكر ، عنه : «عمّارُ يزول مع الحقّ حيثُ يزول» (8).
ونقل - أيضاً - ، عن عليّ (عليه السلام) : «عمّار خُلِطَ الإيمانُ بلحمه ودمه ، يزول مع الحقِّ حيثُ زال» (9).
وأخبار فضائله كثيرةٌ عند السنة ، فهل ترى أن الطيّب المطيّب ، الذي أجاره اللّه تعالى من الشيطان ، ولا يختار إلاّ الأرشد ، ويزول مع الحقِّ حيث زال ، وجعل اللّه له نوراً يمشي به في الناس ، يقول في عثمان ما ليس
ص: 498
بحقّ ، ويأتي إليه ما لا يرضاه اللّه تعالى ، حتّى يستحقّ به من عثمان ذلك الفعل الشنيع؟!
وهل ترى أنّ اللّه سبحانه إذا سب من سب عمّاراً ، وعادى من عاداه ، وحقّر من حقّره ، كيف يفعل بمن فعل به تلك الأفعال الفظيعة لمجرّد أنّه نهاه عن إحداثه ، وأراد منه أن يتّبع سبيلَ الرشاد؟!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، وسوّغنا لعثمان تأديب عمّار وتعزيره ، فقد سبق في مآخذ عمر أنّه لا عقوبة فوق عشر ضربات في غير حدّ من حدود اللّه تعالى (1) ، فكيف جاز لعثمان كسر ضلع عمّار ، وفتق بطنه ، وضربه الضرب المبرِّح؟!
ولا أقّل من إغضائه على هذا العمل الوحشي الخاسر ..
وليس هو بأعظم من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد سمع نسبة الهجر إليه بأُذنيه (2) ، وقيل له : اعدل (3)! فلم ينتصف لنفسه.
ولا أعظم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد سمع من الخوارج الكلمات القارصة (4) ، فأغضى عنها.
وأما ما حكاه الخصمُ عن المأمون - ولا أظنُّ الخصم صادقاً في النقل - ، ففيه :
ص: 499
إنّ المأمون إن لم يكن من الشيعة ، فلا عبرة بتكذيبه لهم ؛ لأنّ قول العدوّ بعدوّه غيرُ مقبول من دون حجة.
وإن كان منهم ، فالرواية عنه كاذبةٌ ؛ إذ يمتنع أن يكذب الشخصُ في نقص أهل مذهبه من دون ضرورة.
نعم ، إذا أراد المأمون بالروافض من رفض الحقّ ، وهم السنة ، كان صواباً ؛ فإنّ الموضوعاتِ جلُّ أخبارِهم ، والكذبةَ أكثرُ رواتِهم ، كما عرفته في مقدّمة الكتاب من أحوال خير رجالهم ، وهم رجال صحاحهم الستّة (1).
وقد قالوا : «إنّ الحديث الصادق في الحديث الكاذب ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» (2).
ويكفيك في معرفة كذبهم ، مشاهدة كذبات هذا الرجل سابقاً ولاحقاً وفعلا.
وقد اتّضح ممّا ذكرناه في جميع المباحث ، أنّ المصنّف (رحمه اللّه) إنّما ينقل مثالب أئمتهم من كتبهم ، فإن كان المنقول كذباً فهو منهم وعليهم ، وإن كان صدقاً ، ثبت المطلوب!
ومجرّد كونه لا يقبل التأويل لا يقتضي كذبه ، بل هو ألزم لهم وأَوْلى بتقريعهم!
ثمّ إنّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يدّع أنّه لا ينقل إلاّ عن صحاحهم ، حتّى يطالبه الخصم به.
ص: 500
نعم ، هو أَوْلى بالاحتجاج عليهم لو تعلّقت صحاحهم الستّةُ بالسيرة بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنّما تتعلّق بالأحكام ، وبالسيرة النبويّة في الجملة.
وأما دعواه اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ عثمان ختم في الليلة التي قُتل في صبيحتها القرآنَ في الركعتين ..
فمن كذباته ، فإنّي لم أجده في تاريخ!
على أنّه كيف يختم القرآن في صلاة الصبح - كما يظهر من كلامه - والوقت لا يتّسع ، وكذا لو أراد ركعتين من صلاة الليل؟!
نعم ، لو أراد ركعتين قطع بهما الليل كان ممكناً ؛ كما روى في «الاستيعاب» ، عن امرأة عثمان : «أنّه كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن» (1).
لكنّه كذبٌ أيضاً ؛ لأنّ عثمان لو كان يحفظ القرآن لجمع الناس على مصحفه ولم يلتجئ إلى زيد بن ثابت وغيره (2).
مع أنّه كان كعمر ، ممّن حكي عنه سوء الحفظ ، وكثرة النسيان (3) ؛ ولذا كان قليل العلم والرواية على طول أيامه.
كما لا ريب بوضعِ سقوطِ قطرة من دمه على قوله : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ
ص: 501
اللَّهُ ) (1) ، كما صرّح به ابن حجر (2) نقلا عن الذهبي.
ولو صحّ سقوطها عليها ، فالأَوْلى أن يكون بشارةً لقاتله ؛ لأنّه هو الذي كفاه اللّه إياه بقتله.
فإذا علمت أنّ تلك العبادة مكذوبة ، ارتفع وجه استبعاد الفضل لتكفير حذيفة وزيد إياه.
على أنّه لا دليل على علمهم بها لو وقعت ، فكيف يستبعد تكفيرهم له لأجلها؟!
ولو فرض أنّهم رأوا منه تلك العبادة في ليلة قتله ، فلعلّهم يعرفون منه المكيدة لسبق إحداثه وتوبته منها بلا حقيقة ، كما علم مكيدته محمّد ابن أبي بكر عندما دعاه إلى العمل بالقرآن لمّا دخل عليه لقتله ، فقال له محمّد : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (3) (4).
وكيف يستبعد من حذيفة وزيد تكفير عثمان وقد كفّره ابن مسعود ، كما سمعت الرواية فيه (5)؟!
وكفّره عمّار ، الطيّبُ ، الذي يزول مع الحقّ حيث يزول ، ولم ينازع في وجود رواية تكفير عمّار له قاضي القضاة وأبو عليّ في كلامهما الذي
ص: 502
نقله في «شرح النهج» (1).
نعم ، استبعد أبو عليّ تكفير عمّار لعثمان ، فقال : «وممّا يبعّد صحّة ذلك أنّ عمّاراً لا يجوز أن يكفّره ولمّا يقع منه ما يستوجب به الكفر ؛ لأنّ الذي يكفَّر به الكافر معلومٌ ؛ ولأنّه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أَوْلى بذلك ، ولوجب أن يجتمعوا على خلعه ، ولوجب أن لا يكون قتله لهم مباحاً ، بل يجب أن يقيموا إماماً ليقتله ...
إلى أن قال : وقد روي أنّ عمّاراً نازع الحسن بن عليّ ، فقال عمّار : قُتل عثمان كافراً ؛ وقال الحسن : قُتل مؤمناً ؛ وتعلّق بعضهما ببعض ، فصارا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال : ماذا تريد من ابن أخيك؟!
فقال : إنّي قلتُ كذا ، وقال كذا.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : أتكفر بربّ كان يؤمن به عثمان؟!
فسكت عمّار».
وقد يجاب بأنّ عثمان لم يكفر كفراً صريحاً مشهوراً بين الناس حتّى يجتمع المسلمون على تكفيره وخلعه ، وإنّما اتّفق مَن بالمدينة مِن أهل الأمصار والصحابة على خلعه ؛ لأحداثه الموجبة للخلع وجور ولاته ، وإن لم يُخلع قتل ، فقتلوه.
ولكن قال بعض الصحابة بكفره ، كعمّار ، فإنّ المرويّ أنّه كفّره لحكمه بغير ما أنزل اللّه تعالى ، واستشهد بقوله سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
ص: 503
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (1) (2).
وما رواه أبو عليّ من تنازع الحسن وعمّار ، فهو غيرُ دافع لتكفير عمار لعثمان ، بل هو دليلٌ له.
وهو - أيضاً - لا يدلّ على عدم تكفير أمير المؤمنين (عليه السلام) له ؛ لأنّ الكفر لا ينحصر بإنكار اللّه تعالى (3).
بل عدول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن التصريح بإيمان عثمان إلى قوله : «أتكفر بربّ كان يؤمن به عثمان؟!» شاهدٌ بصحّة قول عمّار ، وإنّما لم يوافقه ظاهراً لجهة راعاها ، وهي التي دعت الحسن (عليه السلام) إلى خلاف عمّار ، وقد فهمها عمّار فسكت ، وإلاّ فهو إنّما يقول بكفره ؛ لأنّه يحكم بغير ما أنزل اللّه ، لا لأنّه لم يؤمن باللّه حتّى يردّه كلامُ أميرِ المؤمنين (عليه السلام)!
وأما ما ذكره الخصم من رواية : «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم» ..
فليست حجةً علينا ، وقد عرفتَ بطلانها معنىً ، وضعفها سنداً ، عندما ذكرها الخصمُ في فضائله (4).
ص: 504
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
ومنها : إنّه أقدم على أبي ذرّ رحمه اللّه تعالى - مع تقدّمه في الإسلام - حتّى ضربه ، ونفاه إلى الربذة (2).
أجاب قاضي القضاة باحتمال أنّه اختار لنفسه ذلك (3).
اعترضه المرتضى بأنّ المتواتر من الأخبار خلاف ذلك ؛ لأنّ المشهور أنّه نفاه أوّلا إلى الشام ، فلما اشتكى معاوية منه استقدمه إلى المدينة ، ثمّ نفاه منها إلى الربذة.
وروي أنّ عثمان قال يوماً : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال ، فإذا أيسر قضى؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك.
فقال له أبو ذرّ : يا ابن اليهودية! أتعلّمنا ديننا؟!
فقال عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي ، إلحق بالشام!
ص: 505
فأخرجه إليها.
فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية بثلاثمئة دينار ، فردّها عليه.
وكان أبو ذرّ يقول : واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، واللّه ما هي في كتاب اللّه ولا سنة نبيّه.
واللّه إنّي لأرى حقّاً يُطفأ ، وباطلا يُحيا ، وصادقاً مكذَّباً ، وأثرةً بغير تقى ، وصالحاً مستأثَراً عليه.
فقال حبيب بن مسلمة الفهري (1) لمعاوية : إنّ أبا ذرّ لَمُفسدٌ عليكم الشام ، فتدارك أهلَه إن كان لك فيه حاجة.
فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ، فاحمل جُندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره.
فوجّهه مع مَن سار به ليلا ونهاراً ، وحمله على بعير ليس عليه إلاّ قتبٌ ، حتّى قدم المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
فبعث إليه عثمان ، وقال له : إلحق بأيّة أرض شئت!
فقال أبو ذرّ : بمكة؟
قال : لا.
قال : ببيت المقدس؟
ص: 506
قال : لا.
قال : بأحد المصرين (1)؟
قال : لا ، ولكن سر إلى الربذة!
فلم يزل بها حتّى مات (2).
وروى الواقديُّ : أنّ أبا ذرّ لمّا دخل على عثمان قال له : لا أنعم اللّه بك عيناً يا جُنيدب!
فقال أبو ذرّ : أنا جُنيدب! وسمّاني رسول لله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عبد اللّه ، فاخترتُ اسمَ رسول اللّه الذي سمّاني به على اسمي.
فقال عثمان : أنت الذي تزعم أنّا نقول : إنّ يد اللّه مغلولةٌ ، وأنّ اللّه فقيرٌ ونحن أغنياء.
فقال أبو ذرّ : لو كنتم لا تزعمون ، لأنفقتم مال اللّه في عباده ، ولكنّي أشهدُ لَسمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا ، وعباده خولا ، ودين اللّه دخلا (3).
فقال للجماعة : هل سمعتم هذا من رسول اللّه؟!
فقال عليٌّ والحاضرون : سمعنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : ما أظلّت
ص: 507
الخضراءُ ، ولا أقلّت الغبراءُ ، من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ (1).
فنفاه إلى الربذة (2).
وروى الواقديُّ ، أنّ أبا الأسود الدؤلي قال : كنتُ أُحبُّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة فقلتُ له : ألا تخبرني خرجتَ من المدينة طائعاً ، أم أُخرِجت؟
فقال : كنتُ في ثغر من ثغور المسلمين أُغني عنهم ، فأُخرجت إلى المدينة ، فقلتُ ، أصحابي ودارُ هجرتي ، فأُخرجت منها إلى ما ترى.
ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائمٌ في المسجد إذ مرّ بي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائماً في المسجد؟!
قلتُ : بأبي أنت وأُمي ، غلبتني عيني فنمتُ فيه.
فقال : كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟
قلت : إذاً ألحقُ بالشام ، فإنّها أرضٌ مقدّسةٌ ، وأرضُ بقيّة الإسلام ، وأرض الجهاد.
فقال ، كيف تصنع إذا أخرجوك منها؟
ص: 508
قلت : أرجع إلى المسجد.
فقال : كيف إذا أخرجوك منه؟
قلت : آخذ سيفي فأضربُ به.
فقال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ألا أدلّك على خير من ذلك؟! إنسق معهم حيثُ ساقوك ، وتسمع وتطيع.
فسمعتُ وأطعتُ ، وأنا أسمعُ وأُطيع ، واللّهِ (ليقتُلَنّ اللّهُ عثمانَ) (1) وهو آثمٌ في جنبي (2).
فكيف يجوز - مع هذه الروايات - الاعتذار بما قال القاضي؟!
* * *
ص: 509
وقال الفضل (1) :
خروج أبي ذرّ على ما ذكره أرباب «الصحاح» ، وذكره الطبريُّ ، وابن الجوزيّ ، من أرباب صحّة الخبر ، أنّه ذهب إلى الشام ، وكان مذهبُ أبي ذرّ أنّ قوله تعالى : ( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ) (2) محكَم غير منسوخ ، وكنز الذهب والفضة حرامٌ وإن أخرجوا زكاته.
ومذهب عامة الصحابة والعلماء أنّها منسوخةٌ بالزكاة (3).
فكان أبو ذرّ تقرّر مذهبه ، واتّفق أنّه حضر عند معاوية ، وكان كعبُ الأحبار حاضراً عند معاوية - وكان أبو ذرّ تقرّر مذهبه في الآية - ، فقال كعب الأحبار : هذه منسوخةٌ بالزكاة.
فأخذ لَحْيَ (4) بعير وضرب به رأس كعب الأحبار ، فشجّه مُوضِحةً (5).
فكتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذرّ ، فكتب عثمان إلى أبي ذرّ
ص: 510
يطلبه إلى المدينة.
فجاء أبو ذرّ إلى المدينة ، ونصحه عثمان بحسن العشرة مع الناس ، وأنّ الناس اليوم ليسوا كزمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وفيهم البَرُّ والفاجرُ اليوم.
فقال أبو ذرّ : إنّي أستأذن منك أن ألحق بفلاة من الأرض.
فخرج من المدينة حاجّاً أو معتمراً ، فلمّا قضى نسكه رجع وسكن بالربذة.
هذا حكاية سكون أبي ذرّ بالربذة ، ولا اعتراض فيه على عثمان.
واتّفق أهل «الصحاح» من التواريخ على ما ذكرنا ، فتمّ اعتذار القاضي ؛ لأنّه جرى على ما ذكره عامةُ المؤرّخين.
ومخالفة الواقدي في بعض المنقول لا يقدح في ما ذهب إليه العامةُ.
* * *
ص: 511
نِعْمَ المَثلُ قول القائل : «الكذوب لا حافظة له» (1) ؛ فإنّ الفضل زعم سابقاً - كما تقدّم ص 46 من هذا الجزء (2) - أنّ الطبريّ رافضيٌّ مشهورٌ بالتشيّع ، حتّى هجره علماء بغداد وهجروا كتبه ورواياته ؛ والآن يجعله من أرباب صحة الخبر!
ولا شكّ أنّه لم ير «تاريخ الطبريّ» ، وإنّما سمع شيئاً فزاد فيه ولفّقه ، ونسبه إلى الطبريّ وغيره!
فإنّه ادّعى خروج أبي ذرّ إلى الحجّ أو العمرة ، ولا أثر له في «تاريخ الطبريّ» ، وإنّما جاء في بعض الأخبار خروج الركب الّذين دفنوا أبا ذرّ إلى الحجّ أو العمرة (3).
وزعم - أيضاً - حضور كعب الأحبار عند معاوية ، والموجود في «تاريخ الطبريّ» (4) حضوره عند عثمان ..
قال الطبريُّ ، حكاية عن السَّرِيّ ، في روايته عن شعيب ، عن سيف ،
ص: 512
عن محمّد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : «كان أبو ذرّ يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة ، وكان يحبُّ الوحدة والخلوة ، فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار ، فقال لعثمان : لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتّى يبذلوا المعروف ، وقد ينبغي للمؤدّي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتّى يُحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات.
فقال كعب : مَن أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه.
فرفع أبو ذرّ محجنه ، فضربه ، فشجّه» .. الحديث.
واعلم أنّ الطبريّ إنّما اقتصر على هذا الحديث ونحوه ، لا لصحّتها عنده ، بل لكراهة أن يذكر ما فيه طعنٌ بعثمان ومعاوية ؛ فإنّه قال في ابتداء كلامه : «وفي هذه السنة - أعني سنة 30 - كان ما ذُكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية ، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أُمورٌ كثيرةٌ ، كرهتُ ذِكر أكثرها.
فأمّا العاذرون معاوية في ذلك ، فإنّهم رووا في ذلك قصّةً كتب إليّ بها السَّرِيّ».
ثمّ قال في آخر كلامه : «وأمّا الآخرون ، فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة ، وأُموراً شنيعةً ، كرهت ذِكرها» (1).
كما أشار إليها ابن الأثير في «كامله» (1) ، قال : «وفي هذه السنة [يعني سنة 30] كان ما ذُكر في أمر أبي ذرّ ، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة.
وقد ذُكر في سبب ذلك أُمورٌ كثيرةٌ ، من سبّ معاوية إيّاه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لا يصحّ النقل به ، ولو صحّ ، لكان ينبغي أن يُعتذر عن عثمان ؛ فإنّ للإمام أن يؤدِّب رعيّته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه ؛ كرهتُ ذِكرها.
وأمّا العاذرون ، فإنّهم قالوا ...» ، ثمّ ذكر ما نقله الطبريُّ عن السَّرِيّ ، وسمعتَ بعضه.
والكلام هنا يقع في أمرين :
الأوّل : في ما نسبوه إلى أبي ذرّ رضوان اللّه عليه ، من أنّه يرى حرمة كنز الذهب والفضة وإن أُخرجت زكاتهما ، أي : حرمة إبقاء ما يفضل على الحاجة ، وعدم إنفاقه على الفقراء.
وهذه النسبة ظاهرةُ الكذب ؛ لجهات :
الأُولى : إنّ أبا ذرّ أتقى لله ، وأطوع لرسوله ، من أن يخالف أحكامهما ؛ فإنّه رأى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعينه ، وبقي معه إلى حين وفاته ، ورأى وجود الأغنياء من المسلمين في أيّامه ، من دون أن يوجب في أموالهم من الصدقات غير الزكاة ، فكيف يصدر من أبي ذرّ الحكم المخالف لِما وجد عليه الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
ص: 514
الثانية : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يرى هذا الرأي ، بإقرار الخصوم (1) ، فهل يمكن أن يترك هداية أبي ذرّ (رضي اللّه عنه) إلى حكم اللّه ورسوله حتّى يقع في ما وقع فيه؟!
أو يمكن أن يكون أبو ذرّ لا يسمع من أمير المؤمنين (عليه السلام) هدايتَه وتعليمَه ، وهو أشدّ الناس اتّباعاً له ، وأعرفهم بمنزلته؟!
الثالثة : إنّ الغنى لم يحدث في الناس أيّام عثمان ، بل كان من أيّام النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وتضاعف في أيّام أبي بكر ، وفاضت الأموال في أيّام عمر (2) ، ولم تصدر من أبي ذرّ - في وقت - إشارةٌ إلى تلك الفتوى التي نسبوها إليه (3).
فهل كان مدّخراً لها إلى أيام عثمان ، فرواها لنا العاذرون لعثمان ومعاوية؟!
تاللّه ليس الأمر كذلك ، ولكنّ أبا ذرّ رأى نهمة بني أُميّة في مال اللّه ، فجعل يتلو تلك الآية الكريمة في الطرقات ، إنكاراً على جعلهم مال اللّه وفيء المسلمين كنوزاً لهم ، ودولةً بين الأغنياء والجبابرة.
فكانت ثورته عليهم ، لا على الأغنياء ، كما هو واضحٌ لمن أنصف.
الرابعة : إنّ السنة وجّهوا الخلاف بين أبي ذرّ وغيره - كما ذكره الخصم - بالنسخ وعدمه ، فزعموا أنّ أبا ذرّ لا يرى آية تحريم الكنز منسوخة بالزكاة ، وأنّ غيره يرى أنّها منسوخهٌ بها.
ص: 515
وهذا من السخف ؛ إذ لا معنى لنسخ الآية بالزكاة ؛ لعدم التنافي بينهما ؛ إذ يمكن أن تجب الزكاة والزائد على الحاجة معاً بلا منافاة ..
كما قد تجب الزكاة دون الزائد ؛ لتعلّقها بمال الفقير ..
أو يجب الزائد دون الزكاة ؛ لعدم كون مال الغنيّ من الزكويّات ..
فما معنى النسخ؟!
وهل يصحّ وقوع الخلاف فيه بين الصحابة؟!
الخامسة : إنّه كيف يمكن أن يضرب أبو ذرّ كعبَ الأحبار ، فيشجّه موضِحةً ، لمجرّد مخالفته له في فتوى اتّفق عليها كلُّ الصحابة؟!
وهذا ليس من سيماء العدالة ، ولا من أخلاق عيسى ، الذي شبّهه به رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كما رواه في «الاستيعاب» و «المستدرك» ، ونقله في «كنز العمّال» عن جماعة (1).
فلا بُد أن يكون ضربه له لإفتائه بما يخالف الدين والملّة ، كإحلاله للخليفة مال اللّه باسم القرض ، أو أخذ الزائد - من بيت المال - على عطاء المسلمين ، كما في بعض الأخبار (2).
فيكون كعبُ الأحبار مبيحاً لعثمان وبني أُميّة أن يجعلوا مال اللّه دولا وكنوزاً ، فاستحقّ من أبي ذرّ الضرب.
السادسة : إنّ الأخبار التي رواها الطبريُّ ، واتّخذها السنةُ سنداً
ص: 516
لهم ، لا دلالة فيها على ما نسبوه إلى أبي ذرّ من إيجاب بذل الأغنياء أموالهم إلى الفقراء ؛ إذ غايةُ ما تدلُّ عليه رجحانُ عدم اقتصار الأغنياء على الزكاة ، وهو مما لا ريب فيه لكلّ مسلم.
فكيف صار به أبو ذرّ مخالفاً للأُمّة ، وخاف منه بنو أُميّة على مملكتهم ، واقتُضي تسييره؟!
ولو سُلّم ظهورها في الوجوب ، وحرمة كنز الزائد على الزكاة والحاجة ، فهي من روايات السَّرِيّ ، وهو - على الظاهر - : ابنُ عاصم بن سهل ، مؤدّبُ المعتزِّ باللّه ، وهو من النواصب المعاندين ، كما تشهد به رواياته التي يكتب بها إلى الطبريّ في «تأريخه» ، وكان - أيضاً - من الكذّابين (1) ..
فقد حكى الذهبيّ في «ميزان الاعتدال» تكذيبه عن ابن خِراش ، وحكى عن ابن عديّ أنّه وهّاه وقال : يسرق الحديث (2).
مع أنّه قد روى تلك الأخبار عمّن هو أسوأ منه ، كسيف (3)
ص: 517
على أنّها معارضة بما هو أكثر عدداً ، وأقوى سنداً ، وأقربُ إلى الاعتبار صحّةً ، ولو من حيث إنّه مِن رواية مَن لا يُتّهم على عثمان ومعاوية ، بخلاف روايات السَّرِيّ وأشباهه ، من المتّهمين في إرادة تبرئتهما وعذرهما.
الأمر الثاني : في أنّ خروج أبي ذرّ عن المدينة ليس باختياره ، بل قهراً من ولاة الأمر ؛ لأنّ ما دلّ عليه أكثرُ وأصحُّ وأبعدُ عن التهمة ، ممّا دلّ على خروجه باختياره ورغبته ، حتّى أرسله علماء العامّة إرسال المسلّمات ، كالشهرستاني في «الملل والنحل» (3) ، وعليّ بن برهان الدين الحلبي في «السيرة الحلبيّة» (4) ، وابن حجر في «الصواعق» (5) ، كما سبقت كلماتهم (6).
وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة أبي ذرّ - باسمه - : «استقدمه عثمان بشكوى معاوية ، وأسكنه الربذة ، فمات بها» (7).
ص: 518
قال ابن الأثير في «أُسد الغابة» ، بترجمة أبي ذرّ - بكنيته - : «فضربَ الدهرُ ضربةً ، وسُيّر أبو ذرّ إلى الربذة» (1).
.. إلى غير ذلك من كلمات علمائهم (2).
بل أرسل القوشجيُّ في «شرح التجريد» ضرب عثمان لأبي ذرّ إرسال المسلّمات (3).
وكيف يحتمل في أبي ذرّ أن يترك جوار النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وصحبة الوصيّ باختياره؟!
وقال ابن أبي الحديد (4) : «إعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السير ، وعلماء الأخبار والنقل ، أنّ عثمان نفى أبا ذرّ أوّلا إلى الشام ، ثمّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية ، ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام». ثمّ ذكر ما نقله المصنّف هنا عن المرتضى (رحمه اللّه) (5).
ونقل عن الجاحظ في «كتاب السفيانية» قول معاوية لأبي ذرّ : «يا عدوّ اللّه وعدوّ رسوله! لو كنتُ قاتلَ رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك!».
وقول أبي ذرّ لمعاوية : «ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت
ص: 519
وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ودعا عليك مرّات أن لا تشبع».
إلى أن قال الجاحظ : «فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل إليّ جندباً على أغلظ مركب وأوعره.
فوجّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (1) ليس عليها إلاّ قتبٌ ، حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحمُ فخذيه من الجَهْد.
فلمّا قدم بعث إليه عثمان : إلحق بأيّ أرض شئت!
قال : بمكّة.
قال : لا.
قال : ببيت المقدس.
قال : لا.
قال : بأحد المصرين.
قال : لا ، ولكنّي مسيّرك إلى الربذة.
فسيّره إليها ، فلم يزل بها حتّى مات» (2).
وروى أحمد في «مسنده» (3) ، عن أبي ذرّ ، «قال : أتاني نبيّ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأنا نائمٌ في مسجد المدينة ، فضربني برجله ، فقال : لا أراك نائماً فيه؟!
قلت : يا نبيّ اللّه! غلبتني عيني.
ص: 520
قال : كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟!
قلت : آتي الشام الأرض المقدّسة المباركة.
قال : كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟!
قلت : ما أصنع؟! اضرب بسيفي!
فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : ألا أدلّك على ما هو خيرٌ لك من ذلك وأقرب رشداً؟! تسمع وتطيع ، وتنساق لهم حيثُ ساقوك».
ونحوه في أوّل أحاديث أبي ذرّ (1).
وكذا عن أسماء بنت يزيد (2) ، إلاّ أنّ في هذه الرواية أنّ أبا ذرّ لمّا قال : آخذ سيفي فأُقاتل ؛ كَشَرَ (3) إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقال : «ألا أدلّك على خير من ذلك؟!
قال : بلى.
قال : تنقاد لهم حيث قادوك ، وتنساق لهم حيث ساقوك ، حتّى تلقاني وأنت على ذلك».
وهذه الأخبار التي حكيناها عن أحمد ، كما تدلّ على نفي أبي ذرّ وسوقه بغير اختياره من المدينة إلى الشام ، ومنه إليها ، ومنها إلى الربذة ، تدلّ على ظلم من نفاه ، واستحقاقه القتل ، كما فهمه أبو ذرّ ، وقال : «أضربُ بسيفي» ، ولم ينكر عليه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بل كشَرَ إليه.
لكنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لمّا علم أنّه لا يقدر على الدفع عن نفسه ، وأنّه
ص: 521
يُقتل لو امتنع من الانقياد لهم ، دلّه على ما هو خيرٌ له وأقربُ إلى الرشد ، وهو أن ينساق لهم حيث ساقوه ، حتّى يلقاه يومَ القيامة مظلوماً ، فيكون نفيهم له حجّةً دائميّةً ظاهرةً على ضلال الإمارة التي ناوأته وناوأها ، وأنكر عليها ..
ولو قاتلهم وحده وقتلوه ، لجعلوا قتله - هم وأتباعُهم - واجباً من باب دفع الصائل عن النفس.
ويدلّ - أيضاً - على تسيير أبي ذرّ إلى الربذة قهراً ، ما في «مستدرك الحاكم» (1) ، عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : «كنتُ مع أبي الدرداء ، فجاء رجلٌ من قبل المدينة ، فسأله ، فأخبره أنّ أبا ذرّ مسيّرٌ إلى الربذة.
فقال أبو الدرداء : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، لو أنّ أبا ذرّ قطع لي عضواً أو يداً ما هجتُه (2)» .. الحديث.
ونحوه في «الاستيعاب» ، بآخر ترجمة أبي ذرّ (3).
وفي «المستدرك» - أيضاً (4) - حديثٌ آخر يتعلّق بغزوة تبوك ، قال النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في آخره : رحم اللّه أبا ذرّ ، يمشي وحده ، ويموت وحده.
قال ابن مسعود : فضرب الدهرُ ضربةً ، فسُيّر أبو ذرّ إلى الربذة».
وهو دالُّ أيضاً على نفيه إلى الربذة.
كما يدلّ على نفيه من الشام إلى المدينة وتسييره قهراً ، ما في «مسند أحمد» (5) ، أنّه لمّا بلغ أبا الدرداء تسييرُ أبي ذرّ من الشام إلى
ص: 522
المدينة ، قال بعد أن استرجع قريباً من عشر مرّات : ( ارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ) (1) ، كما قيل لأصحاب الناقة» .. الحديث.
وهو صريح في أنّ من نفاه إلى المدينة مستحقّ للعذاب ، كقوم صالح.
ثمّ إنّ الحاكم في «كتاب الفتن» من «المستدرك» (2) ، روى طرفاً من أوّل حديثَي الواقدي ، اللذين نقلهما المرتضى (رحمه اللّه) (3) ، وصحّحه هو والذهبيُّ على شرط مسلم ، عن حلاّم بن جندل الغفاري ، قال : «سمعت أبا ذرّ يقول : سمعت رسول اللّه يقول : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، اتّخذوا مال اللّه دولا ، وعباد اللّه خولا ، ودين اللّه دغلا.
قال حلاّم : فأُنكر ذلك على أبي ذرّ ، فشهد عليُّ بن أبي طالب : إنّي سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : ما أظلّت الخضراءُ ، ولا أقلّت الغبراء ، على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».
وروى الحاكم - أيضاً - بعده حديثين نحوه ، عن أبي سعيد الخدري (4).
وحكى في «كنز العمّال» ، في كتاب الفتن (5) ، نحوه ، عن أبي يعلى وأحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد.
ص: 523
وأيضاً (1) ، عن أبي يعلى وابن عساكر ، عن أبي هريرة.
ولا يخفى أنّ أبا العاص هو جدّ عثمان ، ووالد الحكم ، فلهذا استشهد أبو ذرّ بالحديث ، وأنكره عثمان ..
فيكون عثمان ممّن اتّخذ مال اللّه دولا ، ودينه دغلا ، وعباده خولا!
فلا يصحّ الاعتذار عنه بأنّه إمام ، وللإمام أن يؤدّب رعيّته ، كما سمعته من ابن حجر ، وابن الأثير (2) ، واعتذر به القوشجيُّ عن ضرب عثمان لأبي ذرّ (3).
وليت شعري ، كيف يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر مسيئاً ، ويعد نفيه وضربه على نهيه عن المنكر تأديباً له؟!
والحال ، أنّ مجرّد جعل مال اللّه دولا مصحِّحٌ لقتال الجاعل ، فضلا عمّا لو اتّخذ دين اللّه دغلا ، وعباده خولا.
كما يدلّ عليه ما في «مسند أحمد» (4) ، عن أبي ذرّ ، قال : «قال (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : كيف أنت وأئمةٌ من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟!
قال : قلتُ : إذاً والذي بعثك بالحقِّ أضعُ سيفي على عاتقي ، ثمّ أضرب به حتّى ألقاك ، أو ألحقَ بك.
ص: 524
قال : أَوَلا أدلّك على ما هو خيرٌ لك من ذلك؟! تصبر حتّى تلقاني».
ورواه - أيضاً - بعده بطريق آخر ، عن أبي ذرّ ، بلفظ قريب منه (1).
فإنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم ينكر عليه استحقاقهم للضرب بالسيف ، وإنّما أمره بالصبر ؛ لأنّه الأصلح.
ولذا سكت أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ، وتولّى قتلَ عثمان غيرُه!
* * *
ص: 525
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
ومنها : إنّه عطّل الحدّ الواجبَ على عبيد اللّه بن عمر بن الخطّاب ، حيث قتل الهرمزان مسلماً ، فلم يَقدْه به (2) ، وكان أميرُ المؤمنين يطلبه لذلك (3).
قال القاضي : إنّ للإمام أن يعفو ، ولم يثبت أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه ليقتله ، بل ليضع من قدره (4).
أجاب المرتضى (رحمه اللّه) ، بأنّه ليس له أن يعفوَ ، وله جماعةٌ من فارس لم يقدموا خوفاً ، وكان الواجب أن يؤمِّنهم عثمان حتّى يقدموا ويطلبوا بدمه.
ثمّ لو لم يكن له وليُّ لم يكن لعثمان العفو.
أمّا أوّلا : فلأنّه قتل في أيّام عمر ، وكان هو وليّ الدم ، وقد أوصى
ص: 526
عمر بأن يُقتل عبيد اللّه إن لم تقم البيّنة العادلة على الهرمزان وجُفَينة أنّهما أمرا أبا لؤلؤة - غلام المغيرة بن شعبة - بقتله ، وكانت وصيّته إلى أهل الشورى (1).
فلمّا مات عمر ، طلب المسلمون قتل عبيد اللّه كما أوصى عمر ، فدافع وعلّلهم ، وحمله إلى الكوفة وأقطعه بها داراً وأرضاً ، فنقم المسلمون منه ذلك ، وأكثروا الكلام فيه (2).
وأمّا ثانياً : فلأنّه حقٌّ لجميع المسلمين ، فلا يكون للإمام العفو عنه.
وأميرُ المؤمنين (عليه السلام) إنّما طلبه ليقتله ؛ لأنّه مرّ عليه يوماً ، فقال له أمير المؤمنين : أمَا واللّه لئن ظفرت بك يوماً من الدهر لأضربنّ عنقك!
فلهذا خرج مع معاوية [عليه] (3).
* * *
ص: 527
وقال الفضل (1) :
قصة الهرمزان وعبيد اللّه قبل أن يصيب عمر بأيام ، أنّه مرّ على باب دار الهرمزان ، فرآه جالساً على باب داره ، وعنده العُلوج (2) من الأعاجم ، ومنهم أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
فقام الهرمزان لعبيد اللّه ، فوقع من حجره المِغْول (3) الذي قتل أبو لؤلؤة به عمر ، وكان مِغولا ذا رأسين ، فسأل عبيد اللّه الهرمزانَ عن ذلك المِغْول ، فقال : هو من سلاح الحبشة.
فلمّا قُتل عمر ، وجدوا ذلك المِغْول بيد أبي لؤلؤة ، وبه ضرب عمر.
فلمّا رجعوا من دفن عمر ، عاد عبيد اللّه إلى دار الهرمزان بالسيف فقتله ؛ لأنّه كان يتّهمه بالمشاركة في القتل.
هذا ما كان من أمر الهرمزان على ما ذكره أرباب صحاح التواريخ.
ونقله الطبريُّ وغيره ، واتّفقوا أنّ قتل عبيد اللّه الهرمزانَ كان بعد دفن عمر ، بلا خلاف بين أرباب التواريخ.
ص: 528
فتمَّ جواب قاضي القضاة ، بأنّ للإمام أن يعفو (1) ، فعفا عثمان عن عبيد اللّه ؛ لأنّه كان وليَّ الدم.
وأمّا ما ذكر أنّ الواجب كان أن يؤمِّن أولياء دم الهرمزان حتّى يطلبوا دمه ، فإنّ من المعلوم أنّ الهرمزان لم يكن له وليٌّ ؛ لأنّه كان ملك الأهواز ، وكان غريباً بالمدينة كسائر العلوج.
وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه ليقتله ، فالجواب ما أجاب القاضي ، أنّه لم يثبت أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه للقتل ، بل للإيذاء والتعزير والتعنيف.
وما ذكر المرتضى أنّ أمير المؤمنين كان يطلبه ، بدليل أنّه قال له : «لئن ظفرت بك يوماً لأضربنّ عنقك» ، فهذا كلامٌ يجوز أن يذكره أميرُ المؤمنين للتعنيف والزجر - الذي كان يطلبه لأجله - لئلاّ يعود على مثل ذلك الفعل.
وأمثال هذه الأُمور ناجزةٌ من زمان طويل ، والأصل حمله على الصحة ؛ لأنّ العلماء قالوا : الأصل أنّ ما جرى لم يجر إلاّ بحقّ.
* * *
ص: 529
عجباً لهذا الرجل ، من عدم حيائه من الكذب وعدم مبالاته به ؛ فإنّه نسب ما ذكره في قصّة الهرمزان إلى الطبريّ وغيره!
وقد نظرتُ «تاريخ الطبريّ» ، وغيره ممّا حضرني من كتبهم ، فلم أجد بها أنّ عبيد اللّه مرّ بدار الهرمزان ، وقام له ، وأنّه شاهد مِغْولا عنده ، بل لم يُذكر فيها المِغْول أصلا ، وهو - أيضاً - غير الخنجر المذكور فيها!
فقد ذكر الطبريُّ (1) ما حاصله ، أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة طعن عمر : رأيتُ عشيّة أمس الهرمزانَ وأبا لؤلؤة وجُفينة وهم يتناجون ، فلمّا رأوني ثاروا ، وسقط منهم خنجر له رأسان ، نصابه في وسطه.
فسمع بذلك عبيد اللّه فأتى الهرمزان ، فقتله ، فلمّا عضّه السيفُ قال : لا إله إلاّ اللّه ؛ ثمّ مضى فقتل جُفينة.
ومثله في «كامل» ابن الأثير (2).
وقال في «أُسد الغابة» ، بترجمة عبيد اللّه : «قيل لعبيد اللّه : قد رأينا أبا لؤلؤة والهرمزان نجيّاً ، والهرمزان يقلّب هذا الخنجر بيده - إلى أن قال : - فعدا عليهم بالسيف ، فقتل الهرمزان وابنته وجُفينة» (3).
وأما دعواه اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ قتل عبيد اللّه الهرمزانَ
ص: 530
كان بعد دفن عمر ..
فغير معتمدة ؛ لِما علمنا من كذبه وجهله مراراً ، وخلوِّ ما رأيناه من كتب التاريخ عن ذلك (1) ، والسيّد المرتضى (رحمه اللّه) أحقُّ منه بالصدق والدراية.
وأما ما زعمه أنّه لا وليّ للهرمزان ..
فممنوعٌ ؛ لِما في «أُسد الغابة» ، بترجمة عبيد اللّه ، وفي «الكامل» و «تاريخ الطبري» ، من أنّ له ولداً يسمّى القماذبان (2) ، كما ستسمع.
ولو سُلّم أن لا ولدَ له بالمدينة ، فمن المجزوم به عادةً أنّ له وليّاً معلوماً بالأهواز ؛ لأنّ مَن هو مثله من الملوك لا يخلو عادةً مِن وليّ معلوم.
فمن المضحك تعليلُ الفضل - للعِلم بعدم الوليّ له - بأنّه كان ملكاً وغريباً بالمدينة.
ولو سُلّم عدم الجزم بوجود وليّ له ، فلا أقلّ من احتماله ، فلا بُد من طلبه إلى أن يتحقّق اليأس ، لتثبت حينئذ ولايةُ عثمان.
ولو سُلّم أن لا وليّ له ليكون عثمان وليّ الدم ، فليس معنى ولايته إلاّ أنّ له ولاية المطالبة به ، لا أنّ له العفو عنه ؛ إذ لا دليلَ عليه ، ولا سيّما بعد كون الحقّ في الدم للمسلمين جميعاً ، ولم يسعهم مشورةً ، بل طلب كثيرٌ منهم قتله ..
ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى قتل عبيد اللّه ، كما هو معلوم ، حتّى إنّ ابن الأثير في «الكامل» ، بعدما ذكر رواية عفو عثمان ، ورواية
ص: 531
أُخرى في عفو ابن الهرمزان ، قال : «والأوّل أصحّ ؛ لأنّ عليا لمّا ولي الخلافة أراد قتله ، فهرب إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر وليّ الدم لم يتعرّض له عليٌّ» (1).
ونحوه في «أُسد الغابة» (2).
وروى في «الاستيعاب» ، بترجمة عبيد اللّه ، عن الحسن : «أنّ عبيد اللّه بن عمر قتل الهرمزان بعد أن أسلم ، وعفا عنه عثمان ، فلمّا وليَ عليٌّ خشيَ على نفسه ، فهرب إلى معاوية ، فقُتل بصِفّين» (3).
ولا يخفى أنّ طلب أمير المؤمنين (عليه السلام) لقتل عبيد اللّه ، ظاهرٌ في الطعن بعثمان وعفوه ، وكفى به حجّةً على من عذر عثمان ، فإنّ الحقّ مع عليّ ، يدور معه حيثُ دار (4).
كما إنّه حجةٌ على كذب ما رواه السَّرِيّ ، من عفو ابن الهرمزان ، ولا سيّما مع كونه بالهزليات الملفّقة أشبه!
ففي «تاريخ الطبريّ» (5) : «كتب إليَّ السَّرِيّ ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي منصور ، قال : سمعت القماذبان يُحدّث عن قتل أبيه ، قال : كانت العجمُ بالمدينة يَستَرْوِح بعضُها إلى بعض ، فمرّ فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان ، فتناوله منه وقال : ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟!
فقال : آنسُ به.
ص: 532
فرآه رجلٌ ، فلمّا أُصيب عمر قال : رأيتُ هذا مع الهرمزان ، دفعه إلى فيروز.
فأقبل عبيد اللّه ، فقتله ، فلمّا ولي عثمان دعاني ، فأمكنني منه ، ثمّ قال : يا بنيّ! هذا قاتل أبيك ، وأنت أَوْلى به منّا ، فاذهب فاقتله.
فخرجت به ، وما في الأرض أحدٌ إلاّ معي ، إلاّ أنّهم يطلبون إليّ فيه ، فقلت لهم : ألي قتلُه؟!
قالوا : نعم ؛ وسبوا عبيد اللّه.
فقلت : أفلكم أن تمنعوه؟!
قالوا : لا ؛ وسبوه.
فتركته لله ولهم ، فاحتملوني ، فواللّه ما بلغت المنزل إلاّ على رؤوس الرجال وأكفّهم».
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (1).
وليت شعري ، أهذه الأقاصيصُ الكاذبة ، والخيالاتُ المخالفة للضرورة ، ممّا يحسن أن يُسوّد بها العاقلُ شيئاً من كتابه الذي يطلب اعتماد الأجيال اللاحقة عليه؟!
وكلُّ أخبار السَّرِيّ من هذا القبيل!
وأمّا دعوى الفضل - تبعاً للقاضي - أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يطلبه للإيذاء والتعزير ..
فباطلةٌ ؛ لأنّه إذا فرض أنّ لعثمان الولاية ، وأنّ عفوهَ وحده كاف ، فليس لأحد سبيلٌ على عبيد اللّه ، بالتعزير وغيره ؛ إذ لم يجعل اللّه عليه من
ص: 533
الحقّ سوى القصاص ، وقد سقط بالعفو فرضاً.
وتأويله لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) - مع عدم مناسبته له - لا يجامع طلبَ أمير المؤمنين (عليه السلام) قتله بعد ولايته ، كما سبق في رواية ابن الأثير (1).
بل ولا خشية عبيد اللّه منه ، كما عرفت في رواية «الاستيعاب» (2).
وأمّا قوله : «وأمثال هذه الأمور ناجزةٌ من زمان طويل ، والأصل حمله على الصحة ؛ لأنّ العلماء ...» إلى آخره ..
ففيه :
أوّلا : إنّا لسنا أوّل من طعن على عثمان بذلك ، بل طعن عليه الصحابة ، حتّى قال زياد بن لبيد الأنصاري مخاطباً لعثمان - كما رواه الطبريُّ وابن الأثير (3) - [من الوافر] :
أبا عمرو! عبيد اللّه رَهْنٌ *** فلا تَشْكُكْ بقتلِ الهُرمزانِ
فإنّك إنْ عفوتَ الجرمَ منه *** وأسبابُ الخَطا فرَسا رهانِ
أتعفو إذ عفوتَ بغير حقّ؟! *** فما لكَ بالذي تَحكي يَدانِ
وثانياً : إنّه لا محلّ للحمل على الصحّة مع اتّضاح الحال ومخالفة العفو لقواعد الشريعة ؛ ولذا أراد أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قتله (4).
وكان العفوُ عنه أوّلَ أمر طعن به الصحابةُ والمسلمون على عثمان (5).
ص: 534
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : إنّ الصحابة تبرّأوا منه ؛ فإنّهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيّام لم يدفنوه (2) ..
ولا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار ، بل أسلموه ..
ولم يدافعوا عنه ، بل أعانوا عليه ..
ولم يمنعوا من حصره ، ولا من منع الماء عنه ، ولا من قتله ، مع تمكّنهم مِن ذلك كلّه (3).
(وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «اللّه قتله ، وأنا معه» (4) ، أي : أنا مع اللّه ، أحكم بما حكم به اللّه) (5).
ص: 535
وروى الواقدي ، أنّ أهل المدينة مَنعوا من الصلاة عليه ، حتّى حُمل بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته غيرُ مروانَ وثلاثة من مواليه ، ولمّا أحسّوا بذلك رموه بالحجارة ، وذكروه بأسوأ الذِكر.
ولم يقع التمكّن من دفنه إلاّ بعد أن أنكر أمير المؤمنين (عليه السلام) المنعَ من دفنه (1).
* * *
ص: 536
وقال الفضل (1) :
أمّا قوله : «إنّ الصحابة تبرّأوا منه» ، فهذا أمرٌ غيرُ ثابت ؛ لأنّ أكبر الصحابة كان أمير المؤمنين ، وقد اتّفق جميع أرباب التواريخ أنّ أمير المؤمنين - حين حاصروا عثمان - بعث إليه بالحسن والحسين ومحمّد ابن الحنفيّة وأولاد جعفر شاكِين بالسلاح (2) ، ليعينوه ، فطلبهم عثمان وأنشدهم باللّه أن يرجعوا ، وقال لهم : إنّ النبيّ عهد إليّ أنّي أدخل الجنّة على بلوىً أُصيبها ، وأنا أصبرُ وأحتسب (3) ، فارجعوا.
كما روي في «الصحاح» ، عن أبي سهلة ، قال : «قال لي عثمان يوم الدار : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد عهد إليّ عهداً ، وأنا صابرٌ عليه» (4).
فكيف يقال : إنّ الصحابة أسلموه إلى مَن جلب عليه مِن أهل الأمصار ، ولم يدفعوا عنه؟!
وقد ثبت أنّ أمير المؤمنين أعانه بأولاده وأفلاذ كبده ، وهذا ممّا اتّفق عليه الرواة.
ولا شكّ أنّ عثمان كان إماماً مظلوماً شهيداً ، وهو كان على الحقّ وأعداؤه على الباطل.
ص: 537
كما روي في «الصحاح» ، عن مرّة بن كعب ، قال : «سمعتُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وذكر الفتن فقرّبها ، فمرّ رجلٌ متقنّع في ثوب ، فقال : هذا يومئذ على الحقّ ؛ فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفّان.
قال : فأقبلتُ عليه بوجهه فقلتُ : هذا؟!
قال : نعم» (1).
وروي في «الصحاح» ، عن ثمامة بن حزن القشيري ، قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان ، فقال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ، فقال : من يشتري بئر رومة ويجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير منها في الجنّة؟
فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتّى أشرب من ماء البحر؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّ المسجد ضاق بأهله ، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : من يشتري بقعة فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنّة؟
فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أُصلّي فيه ركعتين؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
ص: 538
قال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّي جهّزت جيش العسرة من مالي؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : أنشدكم اللّه والإسلام! هل تعلمون أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان بثَبير (1) مكّة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرّك الجبلُ حتّى تساقطت حجارته بالحضيض ، فركضه برجله ، قال : أسكن ثبيرُ! فإنّما عليك نبيٌّ وصديقٌ وشهيدان؟!
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : اللّه أكبر! شَهِدوا ، وإنّي شهيدٌ وربّ الكعبة ؛ ثلاثاً» (2).
هذا روايات «الصحاح» ..
وقد ثبت من نصوص رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أنّ عثمان شهيد (3) ، ثمّ جاء البوّال الذي استوى قوله وبوله ، فيجعله كالكفّار ، ولا يقبل دفنه مع المسلمين ، أُفّ له وتُفّ ، والصفع على رقبته بكلّ كفّ.
وأعجب من هذا أنّه يتّهم على أمير المؤمنين ، أنّه شارك في قتل عثمان ، وقد ذكر صاحب كتاب «نهج البلاغة» في مواضع من كلامه أنّه كان يتبرّأُ من قتل عثمان غاية التبرّي (4).
وكان أشدّ الأشياء على أمير المؤمنين أن يشركه أحدٌ في قتل عثمان ،
ص: 539
حتّى إنّه قال : «لو أنّي أعلم أنّه يذهب من صدور بني أُميّة الوهج من مشاركتي في قتل عثمان ، لحلفت لهم بين الركن والمقام خمسين حلفة أنّي ما شاركت في قتل عثمان ، ولا رضيتُ به ، ولا أمرتُ به» (1).
وهذا كان من مبالغة أمير المؤمنين في عدم مشاركته في قتل عثمان ، وهو ينسبه إلى المشاركة ، فأمير المؤمنين وسائر الأنبياء والمرسلين خصوم ذلك الرجل في ما ادّعاه.
وأمّا ما ذكر أنّه لم يصلّ عليه أحدٌ إلاّ مروان وبعض الموالي ، فإنّه كاذبٌ في هذا الكلام ؛ فإنّ كلّهم اتّفقوا على أنّ مروان جرح يوم الدار جراحةً عظيمة ، حتّى خاف انقطاع رقبته ، فهرب إلى الشام وهو مجروح (2) ، فكيف حضر في جنازة عثمان؟!
وأما عدمُ صلاة الصحابة على عثمان ، فإنّه كان في أيّام الهرج ، وأجلاف الأمصار استولوا على المدينة ، وهم قتلوا عثمان ، وكان الصحابة يخافون منهم أن يحضروا جنازة عثمان ، حتّى إنّ أمير المؤمنين هرب منهم والتجأ إلى حائط من حوائط المدينة ، كما هو مذكور في التواريخ.
ص: 540
مَن تصفّح أخبار القوم ، فضلا عن أخبارنا ، علم أنّه لا ناصر لعثمان من الصحابة إلا النادرُ ، وعرف أنّ الصحابة شركاء في قتله ، ولو بالرضا.
فيا هل ترى أنّ من استباح الصحابةُ قتله ، وباشره بعضُهم ، وشهدوا بجوره وفسقه ، وهم عدول جميعاً عند القوم ، كيف يكون حاله؟! وهل يصحّ عدّه من الأئمة؟!
ولنذكر شيئاً ممّا في «تاريخ الطبري» ، الذي أقرّ الخصمُ بصحّته (1) ؛ لتعرف صدق ما قلنا ..
فقد روى عن الواقدي (2) ، أنّ «أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كتب بعضهم إلى بعض أن أقدموا ، فإنْ كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد ؛ وكثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول اللّه يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحدٌ ينهى ولا يذبُّ إلاّ نفيْر ؛ زيد بن ثابت ، وأبو أُسَيد الساعدي ، وكعب بن مالك ، وحسّان بن ثابت».
وروى أيضاً (3) ، بسنده عن عثمان بن الشريد ، قال : «مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي (4) ، وهو بفناء داره ومعه جامعةٌ ، فقال :
ص: 541
يا نعثل! واللّه لأقتلنّك ولأحملنّك على قَلوص (1) جرباء ، ولأُخرجنّك إلى حرّة النار.
ثمّ جاءه مرّةً أُخرى وعثمان على المنبر ، فأنزله عنه».
ثمّ روى بسنده ، عن أبي حبيبة ، أنّ عثمان خطب ، فقام إليه جَهْجاه الغِفاري (2) ، فصاح : يا عثمان! إنّ هذه شارفٌ قد جئنا بها ، عليها عباءةٌ وجامعةٌ ، فانزل ، فلنُدرِّعكَ العباءة ، ولنطرحك في الجامعة ، ولنحملك على الشارف ، ثمّ نطرحك في جبل الدخان.
فقال عثمان : قبّحك اللّه ، وقبّح ما جئتَ به!
قال أبو حبيبة : ولم يكن ذلك منه إلاّ عن ملإ من الناس ، وقام إلى عثمان خيرتُه وشيعته من بني أُميّة ، فحملوه وأدخلوه الدار (3).
وروى - أيضاً - بسنده ، عن عبد الرحمن بن يسار ، أنّه قال : «لمّا رأى الناس ما صنع عثمانُ ، كتب مَن بالمدينة من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى مَن بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرّقوا في الثغور - : إنّكم إنّما خرجتم
ص: 542
أن تجاهدوا في سبيل اللّه ، تطلبون دين محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فإنّ دين محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قد أُفسِد مِن خلفكم وتُرِك ، فهلموا فأقيموا دين محمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
فأقبلوا من كلّ أُفق حتّى قتلوه» (1).
ثمّ ذكر ابن يسار ، أنّ عثمان كتب إلى ابن أبي سرح عامله على مصر - حين تراجع الناس [عنه] ، وزعم أنّه تائبٌ - كتاباً يأمره فيه بقتل بعض الّذين شخصوا من مصر ، وعقوبة بعضهم في أنفسهم وأموالهم ، منهم نفرٌ من الصحابة ، ومنهم قومٌ من التابعين.
وقال في آخره : «فلمّا رأوا ذلك ، رجعوا إلى المدينة ، فبلغ الناس رجوعهم والذي كان من أمرهم ، فتراجعوا من الآفاق كلّها ، وثار أهلُ المدينة» (2).
وروى - أيضاً - حديثاً ، عن الكلبيّ ، قال فيه : «فلمّا رأى عثمان ما نزل به ، وما قد انبعث عليه من الناس ، كتب إلى معاوية : أمّا بعد ، فإنّ أهل المدينة كفروا ، وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إليّ مَن قِبَلك مِن مقاتلة أهل الشام ، على كلّ صَعب وذَلول.
فلمّا جاء معاوية الكتابُ ، تربّص به ، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) - وقد علم اجتماعهم - ، فلمّا أبطأ أمره على عثمان ، كتب إلى يزيد بن أسد بن كرْز (3) ، وإلى أهل الشام ، يستنفرهم - إلى أن قال : -
ص: 543
وكتب إلى عبد اللّه بن عامر ، أن اندُب إليّ أهلَ البصرة» (1) .. الحديث.
ثمّ روى بعده حديثاً ، أخرجه عن عبد اللّه بن الزبير ، عن أبيه ، قال فيه : «وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجّون ويقسمون له باللّه لا يُمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه ، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ اللّه تعالى» (2).
إلى غير ذلك ممّا رواه الطبريُّ وغيره ، من الأخبار الدالّة على استباحة الصحابة لقتله ، ومشاركتهم فيه يداً أو لساناً أو بالرضا (3) ، التي منها ما أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) من أنّهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام (4).
أخرج الطبريُّ (5) ، عن أبي بشير العابدي ، قال : «نُبذ عثمان ثلاثة أيام لا يدفن ، ثمّ إنّ حكيم بن حزام القرشيّ وجبير بن مطعم بن عديّ كلّما عليا في دفنه ، وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك ، ففعل ، وأذِن لهم عليٌّ.
فلمّا سمع الناس بذلك ، قعدوا له في الطريق بالحجارة ، وخرَج به ناسٌ يسيرٌ من أهله ، وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له : حشُّ كوكب (6) ، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم.
ص: 544
فلمّا خُرِجَ به على الناس ، رجموا سريره ، وهمّوا بطرحه ، فبلغ ذلك عليا ، فأرسل إليهم يعزم عليهم لَيكفنَّ عنه ، فانطلقوا به حتّى دُفن في حشّ كوكب» (1).
وأخرج - أيضاً - ، عن أبي كريب (2) - عامل بيت مال عثمان - ، قال : «دُفن عثمان بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته إلاّ مروان وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة ، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه.
وأخذ الناس الحجارة وقالوا : نعثلٌ ، نعثلٌ ؛ وكادت تُرجم ، فقالوا : الحائط ، الحائط ؛ فدُفن في حائط خارجاً» (3).
ثمّ أخرج (4) عن عبد اللّه بن ساعدة ، قال : «لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ، ثمّ حمله أربعةٌ» وذكرهم ، وقال : «فلمّا وضع ليُصلّى عليه ، جاء نفرٌ من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه ، فيهم أسلم ابن أوس وأبو حبّة المازني ، في عدة ، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع - إلى أن قال : - فقالوا : لا واللّه ، لا يُدفن في مقابر المسلمين أبداً!
فدفنوه في حشّ كوكب».
وأخرج - أيضاً - ، عن عبد اللّه بن موسى المخزومي ، قال : «لمّا قُتل عثمان أرادوا حزّ رأسه ، فوقعت عليه نائلة وأُمّ البنين فمنعنهم ،
ص: 545
وصِحن ، وضربن الوجوه ، فقال ابن عُديس (1) : اتركوه! فأُخرج عثمان - ولم يغسَّل - إلى البقيع ، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنازة ، فأبت الأنصار» (2).
وأخرج - أيضاً - ، عن أبي عامر ، قال : «كنتُ أحدَ حملة عثمان حين قتل ، حملناه على باب وإنّ رأسه ليقرع الباب لإسراعنا به ، وإنّ بنا من الخوف لأمراً عظيماً ، حتّى واريناه في قبره في حشّ كوكب» (3).
ثمّ نقل الطبريُّ روايتين - في ما كتبه إليه السَّرِيُّ - أنّه صلّى عليه مروان (4).
وروى في «الاستيعاب» ، بترجمة عثمان ، أنّه لمّا قُتل أُلقيَ على المزبلة ثلاثة أيّام ، فلمّا كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلا ، فاحتملوه.
فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ، ناداهم قومٌ من بني مازن : واللّه لئن دفنتموه ها هنا لنخبرنّ الناس غداً.
ص: 546
فاحتملوه ، وكان على باب ، وإنّ رأسه على الباب ليقولنّ : طق .. طق .. حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب ، فاحتفروا له (1).
فهذه الأخبار - ونحوها - دالّةٌ على أنّ الصحابة تبرّأوا منه ، وأرادوا قتله ، وأعانوا عليه.
بل جملةٌ منها دالّةٌ على قول كثير منهم بكفره ، وأنّه مفسِد لدين النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيجبُ قتاله ؛ ولذا باشر بعضهم قتله ، ومنعوا من الصلاة عليه ، ومنعت الأنصار من دفنه في مقابر المسلمين ، حتّى دُفن في مقبرة اليهود «حشّ كوكب».
وحتّى خرجوا - كما في إحدى روايتَي السَّرِيّ - بجيفتَي عبديْن له قتلا في الدار ، وجرّوا بأرجلهما ، ورُمي بهما على البلاط ، فأكلتهما الكلاب (2).
وأما ما زعمه الخصمُ ، من اتّفاق المؤرّخين على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بعثَ الحسن والحسين وابن الحنفيّة وأولاد جعفر ..
فمِن كذباته الواضحة!
وغاية ما ذكره الطبريُّ وابنُ الأثير وابنُ عبد البرّ ، دفاع الحسن (عليه السلام) عنه (3).
وزاد ابن حجر في «الصواعق» : الحسين (عليه السلام) ، وأنّ الحسن خضب بالدماء ، وأنّه لمّا بلغ أمير المؤمنين والزبير وطلحة وسعداً قتل عثمان خرجوا وقد ذهبت عقولهم ، وأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسنين (عليهما السلام) :
ص: 547
كيف قُتل وأنتما على الباب؟! ورفع يده ولطم الحسن (عليه السلام) ، وضرب صدر الحسين (عليه السلام) ، وشتم محمّد بن طلحة وعبد اللّه بن الزبير ، ناقلا ذلك كلّه عن ابن عساكر (1).
وهو من الكذب الصريح ؛ لأنّ الحسن (عليه السلام) إذا دافع حتّى خُضب بالدم - كما ذكره ابن عبد البرّ أيضاً (2) - ، لم يستحقّ - بأبي وأُمّي - من أبيه اللطمة.
ولأنّ طلحة أعظم المجلِبين على عثمان ، حتّى قتله به مروان يومَ الجمل (3) ، فكيف يذهب عقله بسماع خبر قتله؟!
وكيف يبعث ابنه للدفاع عنه ، وهو - أيضاً - ممّن جدّ في منعه الماء (4)؟!
ولو كانت عقولهم تذهبُ بمجرّد سماع خبر قتله ، فما بالُهم لم يدافعوا عنه وتركوه على المزبلة ثلاثة أيّام ، وما صلّوا عليه ، ولا أمروا بالصلاة عليه ودفنه؟!
أتراهم لو اتّفقوا - وهم وجوه المسلمين - على الدفاع عنه ، أو على دفنه والصلاة عليه ، يقدرُ أحدٌ مخالفتهم ومنعهم؟!
ص: 548
وقد روى في «العقد الفريد» (1) ، عن العتبي ، قال : «قال رجلٌ من بني ليث : قدمت المدينة ، فلقيت سعد بن أبي وقّاص ، فقلت : يا أبا إسحاق! من قتل عثمان؟
قال : قتله سيفٌ سلّته عائشةُ ، وشحذه طلحة ، وسمّه عليٌّ.
قلت : فما حالُ الزبير؟
قال : أشار بيده ، وصمت بلسانه».
وحكى في «كنز العمّال» (2) ، في فضائل عثمان ، عند بيان حصره وقتله ، عن ابن أبي شيبة ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «مَن كان سائلا عن دم عثمان ، فإنّ اللّه قتله وأنا معه».
ورواه ونحوه ابنُ أبي الحديد (3) ، في شرح قوله (عليه السلام) : «لو أمرتُ به لكنتُ قاتلا ، أو نهيتُ عنه لكنتُ ناصراً ، غير إنّ مَن نصره لا يستطيع أن يقول : خذله مَن أنا خيرٌ منه ، ومَن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره مَن هو خيرٌ منّي» (4).
وفسّر ابنُ أبي الحديد كلامه الأخير ، فقال : «معناه أنّ خاذليه كانوا خيراً من ناصريه ؛ لأنّ الّذين نصروه كان أكثرهم فسّاقاً ، كمروان وأضرابه ، وخذله المهاجرون والأنصار» (5).
ص: 549
بل معناه فوق ذلك ؛ لإرادته له - مع بيان كونه واضحاً ظاهراً - بحيث لا يستطيع الناصرُ والخاذلُ القول بخلافه.
ثمّ إنّا لا ندّعي مشاركة أمير المؤمنين (عليه السلام) في قتل عثمان ، ولا قاله المصنّف (رحمه اللّه) كما زعم الخصمُ ..
ولكن نقول : إنّه لم يره معصومَ الدم محرّمَ القتل ، وإلاّ لنهى ودافع عنه ؛ قياماً بواجب النهي عن المنكر ، بل قال (عليه السلام) : «اللّه قتله وأنا معه».
ومعناه - كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) - : «اللّه حكم بقتله ، وأنا أحكم بحكمه».
ونحو هذا كثيرٌ في كلامه (عليه السلام).
وإنّما لم يتظاهر بالإعانة عليه لموانع كثيرة.
وكان (عليه السلام) يصدر منه الكلام الكثير في عدم تخطئة قاتليه (1).
ولو خطأهم ، لجفاهم ولم يجعلهم أخصّ أصحابه وأقربهم منه ، كعمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، ومحمّد بن أبي بكر ، وعمرو بن الحَمِق الخزاعي ، الذي هو أحدٌ الأربعة الّذين دخلوا على عثمان الدار ، كما في ترجمة عمرو من «الاستيعاب» (2) و «أُسد الغابة» (3).
وهو الذي وثب عليه ، وجلس على صدره ، وطعنه تسع طعنات ،
ص: 550
وقال - كما في «تاريخ الطبريّ» (1) و «كامل» ابن الأثير (2) - : «أمّا ثلاثٌ منهنّ فإنّي طعنتُهنّ إيّاه لله ، وأمّا ستٌّ فلِما في صدري عليه».
وأمّا ما نقله عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «لو أنّي أعلمُ أنّه يذهبُ من صدور بني أُميّة ...» إلى آخره ..
فظاهر البهتان ؛ لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم أنّ بني أُميّة يعلمون عدم مشاركته في دم عثمان ، ويعلمُ أنّ الوهج في صدورهم ليس لقتله ؛ بل للعداوة الدينيّة ، وطلبهم الدنيا بنسبة المشاركة له.
هذا ، وممّا ذكرناه من الأخبار يُعلم أنّ مروان كان حاضراً دفن عثمان ، وبعضها مصرّحٌ بأنّه صلّى عليه - كروايتَي السَّرِيّ اللتين أشرنا إليهما (3) - ، فلا كذب من المصنّف (رحمه اللّه) ، كما رماه به الخصمُ.
على أنّ المصنّف لم يروِ صلاة مروان ، بل حضوره لجنازته ..
ومن الجهل إحالتُه لصلاة مروان وحضوره ، بدعوى أنّه جُرح جراحة عظيمة فهرب إلى الشام ؛ فإنّ هذا لو منع من حضوره وصلاته ، لمنعه من الهرب إلى الشام بطريق أَوْلى.
على أنّه لم يهرب ، بل بقيَ بالمدينه وبايع أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ثمّ ذهب إلى مكّة ونكث مع مَن نكث يومَ البصرة ، ثمّ ولّى إلى الشام (4).
وأما اعتذاره عن عدم صلاة الصحابة على عثمان ..
فواه جدّاً ؛ لأنّ الأخبار السابقة ونحوها ، صرّحت بأنّ الأنصار منعوا
ص: 551
من الصلاة عليه ، بل يُستفاد منها اتّفاق عامّة الصحابة على المنع منها ولو بالرضا.
وكيف يتركون الصلاة والدفن الواجبين خوفاً من أهل الأمصار ، وهم أكثرُ منهم وأعزّ شأناً؟!
وما ذكره من هرب أمير المؤمنين (عليه السلام) خوفاً منهم ..
فمن الكذب المضحك ، وقد تركتُ القول فيه لقارئه!
بقيَ شيءٌ ، وهو ما يتعلّق بالأخبار التي استدلّ بها الخصم لإثبات مظلوميّة عثمان وحسن حاله ..
أمّا أوّلا ؛ فلأنّها من أخبارهم ، وقد عرفت مراراً أنّ ذِكرها في مقام المحاجة معنا عبثٌ ؛ لأنّها ليست حجةً علينا (1).
وأما ثانيا ؛ فلأنّ الرواية الأُولى ، الدالّة على صبر عثمان وعهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إليه (2) ، كاذبةٌ جزماً ، وإلاّ لأعلم النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) الصحابةَ بمظلوميّته ؛ لئلاّ يقترفوا فيه الأُمور العظام ، وليدفعوا عنه شرّ الأنام ، فإنّهم أعدل العدول عند القوم.
مع أنّها معارضة بما يدلّ على عدم صبره ، وأنّه لو كان له ناصرٌ لفعل الأفاعيل ..
كالرواية المتقدّمة المصرّحة بكتابته إلى معاوية وابن عامر ويزيد بن أسد وأهل الشام ، يستفزّهم لحرب أهل المدينة ، وقال : إنّهم كفروا ، وأخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة (3).
ص: 552
وكالرواية التي رواها الطبريُّ ، عن الزبير (1) - ومرّ طرفٌ منها (2) - ، قال - بعدما ذكر مسير المصريّين وكتابهم إليه - : «وكتب أهلُ المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجّون ويقسمون له باللّه لا يُمسكون عنه أبداً حتّى يقتلوه ، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ اللّه.
فلمّا خاف القتل ، شاور نصحاءه وأهل بيته ، فقال لهم : قد صنع القوم ما رأيتم ، فما المَخرج؟
فأشاروا عليه أن يُرسل إلى عليّ بن أبي طالب ، فيطلب إليه أن يردّهم عنه ، ويعطيهم ما يرضيهم ، ليطاولهم ، حتّى يأتيه إمداده».
إلى أن قال : «وكتب بينهم كتاباً ... ثمّ أخذ عليه في الكتاب أعظمَ ما أخذ اللّه على أحد من خلقه من عهد وميثاق ، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار ، فكفّ عنه المسلمون ورجعوا ... ، فجعل يتأهّبُ للقتال ، ويستعدّ بالسلاح ، وقد كان اتّخذ جنداً عظيماً من رقيق الخُمسِ ، فلمّا مضت الأيّام الثلاثة - وهو على حاله لم يغيّر شيئاً ممّا كرهوه ، ولم يعزل عاملا - ، ثار به الناس» .. الحديث.
ونحوه في «كامل» ابن الأثير (3).
.. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة (4).
هذا ، مع ضعف تلك الرواية ؛ فإنّ الترمذي أخرجها بجماعة (5) ،
ص: 553
منهم سفيان بن وكيع ، الذي سبق بعض ما قيل فيه في مقدّمة الكتاب (1).
وأما الرواية الثانية - وهي رواية مرّة بن كعب ، ورواها الترمذيُّ أيضاً (2) - ، فهي مع ضعف سندها بجماعة - منهم : محمّد بن بشّار ، الذي سبق بعض ترجمته في المقدّمة (3) - ، قد روى الترمذيُّ عن مرّة أنّه رواها عندما قامت الخطباء بالشام (4).
وأنت تعلم أنّ هناك محلّ الكذب والتهمة!
مع أنّه يمتنع عادة أن يجتاز عثمانُ على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه ولا يسلّم عليهم وهو بقربهم ؛ إذ لو سَلّم عليهم لعرفه مُرّة ، ولم يحتجْ إلى أن يقوم إليه ليعرفه ؛ ولو كان بعيداً ، لَما جرى التخاطب بين النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ومرّة.
وأثرُ التصنّع من الراوي باد على ذلك التقنّع.
وأمّا الثالثة - وهي رواية ثمامة ، ورواها الترمذي أيضاً (5) - ، فيرِدُ عليها : إنّها ضعيفة السند بجماعة ، منهم : يحيى بن أبي الحجّاج المنقري ، الذي قال فيه ابنُ معين : ليس بشيء (6).
وثانياً : إنّ الترمذي ذكر في صدر الرواية ، أنّ عثمان أشرف يومَ الدار وقال : ائتوني بصاحبيكم اللذين ألّباكم علَيَّ!
ص: 554
قال : فجيء بهما كأنّهما جملان ، أو كأنّهما حماران ، فقال : أنشدكم اللّه ... (1) .. الحديث.
وظاهره : أنّ المنشود هو الصاحبان ، ولا بُد أن يكونا صحابيّين ، ومن قدماء الصحابة ، لتصحّ مناشدتهما بهذه الأُمور.
ولا ريب أنّ أحدهما طلحة ؛ لأنّه أظهرُ مَن ألّب على عثمان من الصحابة (2).
فحينئذ ، إن جاز عند القوم أن يكون طلحةُ - مع شهادته بهذه الأُمور العظيمة - يسعى بقتل عثمان ومنعه الماء ، كان مِن أفسق الفاسقين ، وهم لا يقولونه.
وإن لم يجز ذلك عندهم ، كذبت الرواية.
ولو فرض أنّ المنشود هو عموم الصحابة ، فالرواية أَوْلى بالكذب ، وإلاّ كان الأمر أشنعَ وأفظع!
ولا أدري ما وجه قوله : «حتّى أشرب من ماء البحر» (3) ، ولا بحر عنده؟! إلاّ أن يريد به ماءً مالحاً في بئر بداره ، فيكون مجازاً ، وهو تكلّفٌ!
* * *
ص: 555
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
ومنها : إنّه كان يستهزئ بالشرائع ، ويتجرّأ على المخالفة لها (2) ..
في «صحيح مسلم» ، أنّ أمرأةً دخلت على زوجها ، فولدت لستّة أشهر ، فذُكر ذلك لعثمان بن عفّان ، فأمر بها أن تُرجَم ، فدخل عليه عليٌّ فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) (3) ، وقال أيضاً : ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) (4).
ص: 556
قال : فواللّه ما كان عند عثمان إلاّ أن بعث إليها ، فرُجمَت (1).
كيف استجاز أن يقول هذا القول ، ويُقدِم على قتل امرأة مسلمة عمداً من غير ذنب ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) (2)؟!
وقال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (3) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (4) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (5).
وفي «الجمع بين الصحيحين» ، أنّ عثمان وعليا حجّا ، ونهى عثمانُ عن المتعة ، وفعلها أمير المؤمنين ، وأتى بعمرة التمتّع.
فقال عثمان : أنهى الناسَ وأنت تفعله؟!
فقال أمير المؤمنين : ما كنت لأدع سنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بقول أحد (6).
ص: 557
وفي «الجمع بين الصحيحين» ، أنّ النبيَّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صلّى صلاة المسافر بمنى وغيرها ركعتين ، وكذا أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في صدر خلافته ، ثمّ أتمّها أربعاً (1).
وفيه : عن عبد اللّه بن عمر ، قال : «صلّى بنا رسول اللّه بمنى ركعتين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان صدراً من خلافته ، ثمّ إنّ عثمان صلّى بعد أربعاً» (2).
وروى الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» ، من عدّة طرق ، أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) صلّى في السفر دائماً ركعتين (3).
فكيف جاز لعثمان تغييرُ الشرع وتبديله؟!
وفي تفسير الثعلبي ، في قوله تعالى : ( إنْ هذان لَساحران ) (4) ، قال عثمان : إنّ في المصحف لحناً ، واستسقمه (5) العربُ بألسنتهم.
فقيل له : ألا تُغيّره؟!
فقال : دعوه! لا يُحلّلُ حراماً ولا يُحرِّمُ حلالا (6)!
وفي «صحيح مسلم» ، أنّ رجلا مدح عثمان ، فجثا المِقداد على
ص: 558
ركبتيه - وكان رجلا ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصى (1).
مع أنّ المِقداد كان عظيم الشأن ، كبير المنزلة ، حسن الرأي (2) ، قال فيه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : «قدَّ مِنّي قدّاً» (3).
ص: 559
وهذا يدلُّ على سقوط مرتبة عثمان عنده ، وأنّه لا يستحقّ المدحَ ، مع أنّ الصحابة قد كان يمدح بعضُهم بعضاً من غير نكير.
* * *
ص: 560
وقال الفضل (1) :
ما ذكر أنّ عثمان كان يستهزئ بالشريعة ، فهذا كذبٌ باطلٌ لا دليل عليه.
وأمّا ما ذكر أنّه أمر برجم المرأة ، ولم يسمع ما ذكره أميرُ المؤمنين ، فهذا لا يدلّ على أنّه استهزأ بالشريعة ، وربّما كان له فيه اجتهاد اقتضى رجمها.
فهو عملَ بعلمه واجتهاده ، واختلاف المجتهدين لم يكن من باب الاستهزاء على الشريعة.
وأمّا ما ذكر من أمر متعة الحجّ ، فهذا محلُّ الاختلاف ، وكلٌّ عمل باجتهاده ، ولا اعتراض للمجتهد على المجتهد.
وأما أنّه صلّى بمنى أربعاً ، فقد اعترضوا عليه حين اجتمع عليه أهل الأمصار ، فأجاب : إنّ رسول اللّه وأبو بكر وعمر كانوا إذا حجوا لم يكن لهم بمكة بيوتٌ ومنازلُ ، ولم يكونوا عازمين على السكون.
وإنّي كان لي منازلُ وبيوت في مكّة ، فنويتُ الإقامة في تلك الأيّام فأتممتُ الصلاة ؛ لأنّ مكّة كان منزلي ووطني (2).
وأمّا عدمُ تصحيح لفظ القرآن ؛ لأنّه كان يجب عليه متابعةُ صورة
ص: 561
الخطّ ، وهكذا كان مكتوباً في المصاحف ، ولم يكن التغيير له جائزاً ، فتركه ؛ لأنّه لغة بعض العرب.
وأمّا عملُ مقداد وحثوه الحصى على وجه مادح عثمان ؛ فلأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : «احثوا على وجه المدّاحين التراب» (1) ، فعمل مِقداد بالحديث.
وربّما كان المادح طاعناً في المدح مفرطاً ، فحثا على وجهه الحصى ؛ لأنّ عمله كان منافياً للسنة.
* * *
ص: 562
لا أعرف من أين يحتمل تعويل عثمان على الاجتهاد في قصّة الرجم؟!
أمن دلالة الآيتين اللتين استدلّ بهما أميرُ المؤمنين على جواز كون الحمل ستّة أشهر ، فيلزم درء الحدِّ عن المرأة؟!
أم من ظاهر حال عثمان من العجز عن الجواب ، حتّى أقسم الراوي وقال : «فواللّه ما عند عثمان إلاّ أن بعث إليها ، فرُجمت»؟!
وهلاّ ذكر الخصم وجهاً لاجتهاد عثمان في قبال آي الكتاب؟!
مع أنّ الحمل لو كان من زنى ، فلا بُد أن يكون الزنى قبل إحصان المرأة وتزويجها ، فيكون عليها الحدُّ بالجلد لا الرجم ، فَلِمَ أمر بها فرُجمت؟!
وقد وقع نظيرُ ذلك لعليّ (عليه السلام) مع عمر ، كما نقله في «كنز العمّال» (1) ، عن جماعة بأسانيدهم ، عن الأسود الدؤلي ، ولكن لم يذكر فيه ما صنع عمرُ بعد نهي أمير المؤمنين (عليه السلام) له (2).
ومثله الكلام في متعة الحجّ ؛ فإنّه لو كان لعثمان وجهٌ ، لردّ به على أمير المؤمنين ، إذ رماه بمخالفة رسول اللّه بقوله : «ما كنت لأدع سنة رسول اللّه بقول أحد».
بل لم يكن عند عثمان إلاّ أن قال : «دعنا منك!» ، كما رواه
ص: 563
وهل يمكن الاجتهاد بمنعها ، وقد شرّعها النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى الأبد ، كما مرّت أخبارها عند الكلام في متعة الحجّ (3)؟!
لكنّ اجتهادهم من غير دليل ليس بعزيز ، بارك اللّه لهم في هذا الاجتهاد الذي استباحوا به نسخ الكتاب والسنة ومسخ الشريعة!
وأمّا إتمام عثمان بمنى ، فالأمر فيه كأخواته ؛ لأنّ القصر في السفر ضروريٌّ لا يمكن الاجتهاد بخلافه ، ولذا قال ابن عمر : كما في «الكنز» (4) ، عن الديلمي ، عنه : «صلاة المسافر ركعتان ، من ترك السنة فقد كفر».
وجعل ابنُ عمر - أيضاً - القصرَ بمنى ، من لوازم معرفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
فقد روى أحمد في «مسنده» (5) ، عن داود بن أبي عاصم ، قال : «سألتُ ابنَ عمر عن الصلاة بمنى؟
قال : هل سمعتَ بمحمّد (صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟!
قلت : نعم ، وآمنتُ به.
قال : فإنّه كان يُصلّي بمنى ركعتين».
ومن ثمّ أنكر الصحابة على عثمان إتمامه بمنى ، وشقّ عليهم ..
ص: 564
روى أحمد (1) - من حديث - ، أنّه قيل لأبي ذرّ : «إنّ عثمان صلّى أربعاً! فاشتدّ ذلك على أبي ذرّ وقال قولا شديداً».
وروى البخاري (2) ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : «صلّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد اللّه بن مسعود ، فاسترجع ، ثمّ قال : صلّيتُ مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمنى ركعتين ، وصلّيتُ مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصلّيتُ مع عمر بمنى ركعتين ، فليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان».
ومثله في «صحيح مسلم» (3).
وروى الطبري في «تأريخه» (4) ، عن ابن عبّاس ، قال : «أوّلُ ما تكلّم الناسُ في عثمان ظاهراً ، أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين ، حتّى إذا كانت السنة السادسة أتمّها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
حتّى جاءه عليٌّ (عليه السلام) في مَن جاءه ، فقال : واللّه ما حدث أمرٌ ، ولا قدم عهدٌ ، ولقد عهدت نبيّك (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يُصلّي ركعتين ، ثمّ أبا بكر ، وعمر ، وأنت صدراً من ولايتك!
فما درى ما يرجع إليه ، فقال : هذا رأيٌ رأيتُه!».
ومثله في «كامل» ابن الأثير (5).
ص: 565
ولا نعرف ما هذا الرأيُ ، إلاّ عدم المبالاة بالدين ، والاجتهاد بالخروج عن الشريعة!
والعجبُ من عائشة أنّها زادت في الطنبور نغمةً ، فصلّت في السفر مطلقاً أربع ركعات!
روى البخاريُّ (1) ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : «الصلاة أوّل ما فُرضت ركعتين ، فأُقرّت صلاةُ السفر ، وأُتِمّت صلاةُ الحضر.
قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تُتِمُّ؟!
قال : تأوّلتْ ما تأوّل عثمان».
ومثله في «صحيح مسلم» (2).
وليت شعري ، ما هذا التأوّل؟!
ولعلّ مراد عروة أنّ الإشكال كما يَرِدُ عليها ، يَرِدُ على عثمان قبلها ، فهي ليست أوّل مخالف للسنة الواضحة حتّى تُختصَّ بالانتقاد.
وأمّا ما رواه الفضلُ من اعتذار عثمان ، فمع اضطرابه أنّه لو كان عذراً تاما ، فلِمَ قصّر في صلاته السنين السابقة؟!
مع أنّه لو تمّ عذره ، فإنّما يكون عذراً في الإتمام بمكّة لا بمنى.
وأهل مكّة أنفسهم إذا خرجوا إلى منى قصّروا ، فكيف بغير المقيم بها؟!
قال مالك في «موطّئه» تحت عنوان : «صلاة منى» ، من كتاب الحجّ :
ص: 566
«أهلُ مكّة يصلّون بمنى إذا حجّوا ركعتين ركعتين ، حتّى ينصرفوا إلى مكة» (1).
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فالعذر إنّما يأتي في عثمان نفسه ، فما باله حمل الناس جميعاً على الإتمام حتّى صلّى بهم أربعاً؟!
وخيف من خلافه ، وصارت الأربعُ سنةً لبني أُميّة ..
روى مسلم (2) ، أنّ ابن عمر كان إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً ، وإذا صلاّها وحده صلّى ركعتين.
بل يظهرُ من بعض الأخبار أنّ عثمان ، كما جعل الإتمامَ بمنى سنةً ، جعلَه سنةً بمكة على الناس عامّة ، سواء نووا الإقامة بمكّة عشرة أيام أم لا!
فقد روى أحمد في «مسنده» (3) ، عن عبّاد بن عبد اللّه بن الزبير ، قال : «لمّا قدم علينا معاوية حاجّاً ، قدمنا معه مكّة ، فصلّى بنا الظهر ركعتين - إلى أن قال : - نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، فقالا له : ما عاب أحدٌ ابنَ عمّك بأقبح ما عبتَه به.
فقال لهما : وما ذاك؟!
فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟!
فقال لهما : ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع أبي بكر ، وعمر.
ص: 567
قالا : فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّها ، وإنّ خلافك إيّاه له عيبٌ.
قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً».
فانظر وتدبّر في هذه الملاعب ، والتهتّك في خلاف الشريعة ، تعرف ما هم عليه من الضلال ، وأنّه ليس للمؤمن أن يعدّهم من المسلمين ، فضلا عن عدّهم في صفوف الأئمة الّذين يجب اتّباعهم!
هذا ، وقد روى الطبريُّ - أيضاً - أنّ عثمان اعتذر عن إتمامه بمنى بعذر ردّه عبد الرحمن بن عوف ..
قال بعدما أنكر عليه عبد الرحمن : «يا أبا محمّد! إنّي أُخبرتُ أنّ بعض مَن حجّ مِن أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان ، هذا إمامكم يصلّي ركعتين.
وقد اتّخذتُ بمكّة أهلا ، فرأيت أن أُصلّي أربعاً ؛ لخوف ما أخاف على الناس ، وأُخرى قد اتّخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مالٌ ، فربّما اطّلعتُه (1) فأقمتُ فيه بعد الصَّدر (2).
فقال عبد الرحمن : ما مِن هذا شيء لك فيه عذر ..
أمّا قولك : (اتّخذتُ أهلا) ، فزوجتك بالمدينة ، تخرجُ بها إذا
ص: 568
شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنّما تسكن بسكناك.
وأمّا قولك : (لي مالٌ بالطائف) ، فإنّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال ، وأنت لستَ من أهل الطائف.
وأما قولك : (يرجع [مَن حجَّ] مِن أهل اليمن وغيرهم فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين وهو مقيمٌ) ، فقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ينزل عليه الوحيُ ، والناسُ يومئذ الإسلامُ فيهم قليل.
ثمّ أبو بكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلامُ بِجِرانه (1) ، فصلّى بهم عمر حتّى مات ركعتين.
فقال عثمان : هذا رأيٌ رأيتُه.
فخرج عبد الرحمن ، فلقي ابنَ مسعود ، فقال : أبا محمّد! غيرُ ما يُعلم.
قال : لا.
قال : فما أصنع؟!
قال : اعملْ بما تعلم.
فقال ابن مسعود : الخلاف شرٌّ» (2).
ومثله في «كامل» ابن الأثير (3).
وليت شِعري ، ما معنى الرأي بعد انقطاع الحجة؟! وما الداعي
ص: 569
للشرِّ بعد اتّضاح المحجة؟!
ويَرِدُ على عثمان - أيضاً - : أنّ الكلام في صلاته بمنى أربعاً ، وهي لا تتفرّع على اتّخاذه بمكة أهلا وإقامته بها ، كما عرفت (1).
وكيف يمكن أن يستدلّ أهلُ اليمن وغيرُهم بصلاة عثمان بمنى ركعتين ، على كون حكم المقيم الصلاة ركعتين ، وهو غير مقيم بها؟!
وكيف تكون صلاته أربعاً رافعةً لوهمهم ، وليست منى محلَّ إقامته؟!
ولو جاز له التمامُ ، فكيف يصحُّ جمع الناس على الأربع لمجرّد ذلك الوهم ، وهم بين مقيم وغير مقيم ، فأبطلَ عملَ الأكثر؟!
ولعمري ، إنّ لسان العذر عن عثمان وبني أبيه لكليلٌ!
فما ضرّ أهل السنة لو اتّبعوا سبيل الإنصاف ، وأقرّوا بالحق لينفعهم ( يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ) (2) ، ويوم يبرأ المتبوع من التابع (3)؟!
وأمّا ما أجاب به الخصمُ عن مسألة اللحن ، فلا ربط له بإشكال المصنّف (رحمه اللّه) ؛ لأنّ مراد المصنّف : أنّ عثمان نسب اللحن إلى القرآن ، وهو جرأةٌ على اللّه تعالى ، وإثباتُ نقص له ولكتابه ، وفي ذلك خروجٌ عن الإسلام ، وليس مراده أنّه لِمَ لَمْ يغيّر القرآن؟ فإنّ هذا ليس من وظيفة عثمان.
ص: 570
ومن هنا يُعلم أنّ قول الخصم : «لأنّه لغةُ بعض العرب» ، يكون ردّاً لعثمان ، لا جواباً عنه.
وأمّا جوابه عن عمل المِقداد بما رواه عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، فهو مذكورٌ في تتمّة الحديث الذي نقله المصنّف (رحمه اللّه) عن مسلم ..
فإنّه رواه في «كتاب الزهد» (1) ، وذكر فيه أنّ المِقداد لمّا حثا الحصباء على وجه مادح عثمان ، قال له عثمان : ما شأنك؟!
قال : «إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قال : إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب».
لكنّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يعتنِ بذِكر هذه التتمّة ؛ لعدم صلوحها لدفع الطعن عن عثمان ..
فإنّها إنْ أُبقيت على ظاهرها ، كانت كذباً ؛ لأنّ المدح للنبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولأصحابه بينهم كان شائعاً في زمن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بالشعر وغيره ، وكان النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يرضى به ويسمعه.
وإنْ صُرفت عن ظاهرها - بتقييد المدّاحين بمدّاحي الفسّاق ، أو المدّاحين كذباً ؛ لتجاوزهم في المدح قدر الممدوح - كانت مؤكّدة للطعن في عثمان.
أمّا على التقييد الأوّل ؛ فظاهر.
أمّا على الثاني ؛ فلأنّ الواجب على عثمان أن يفعل فِعل المِقداد ، بل هو أَوْلى منه ، فحيثُ لم يفعل ، كان مخالفاً لأمر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
على أنّه ما عسى أن يقول المادح لعثمان أكثر من أن يجعله إماماً
ص: 571
هادياً مهديا أو نحوه؟!
فإذا أنكر المِقداد بهذا الانكار ، ثبت الطعن في عثمان ؛ لأنّ المِقداد مُسلَّمُ الفضل وعُلُوِّ المنزلة في الدين ، حتّى جاء في صحاح أخبارهم ، أنّه أحدُ الأربعة الّذين يحبّهم اللّه تعالى ، وأمر نبيّه بمحبّتهم (1) ، وأنّه أحدُ الوزراء النجباء (2).
.. إلى غير ذلك مما ورد في فضله (3).
* * *
ص: 572
[جرأة عثمان على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)] (1)
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (2) :
ومنها : جرأته على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ..
روى الحميدي في تفسير قوله تعالى : ( وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا ) (3) ..
قال السُدّي (4) : لمّا توفّي أبو سَلَمة (5) وخُنيس بن حُذافة (6) ،
ص: 573
وتزوّج النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) امرأتيهما أُمَّ سلمة وحفصة ، قال طلحة وعثمان : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ، ولا ننكح نساءه إذا مات؟!
واللّهِ لو قد مات ، لقد أَجْلَبنا (1) على نسائه بالسهام!
وكان طلحة يريد عائشة ، وعثمان يريد أُمّ سلمة.
فأنزل اللّه تعالى : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ اللّه ولا أن تنكِحوا أزواجَه مِن بعدِه أبداً إنّ ذلكم كان عند اللّه عظيماً ) (2) ..
وأنزل : ( إنْ تُبدوا شيئاً أو تُخفوه ... ) (3) ..
وأنزل : ( إنّ الّذين يؤذون اللّهَ ورسولَه لعنهمُ اللّهُ في الدنيا والآخرة وأَعدّ لهم عذاباً مهيناً ) (4) (5).
ص: 574
وقال الفضل (1) :
إن صحّ ما رواه ، فإنّهم كانوا لا يعلمون أنّ أزواج النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لا يُنكَحن مِن بعده.
ومن عادة العرب أن يتكلّموا في النساء ، وفي التزوّج بعد الرجال مثل هذا ، وليس فيه قصدُ إيذاء النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، بل ذكروا هذا الكلام على سبيل عادة العرب ، فأعلمهم اللّه تعالى بعدم جواز هذا.
وأمّا نزول قوله تعالى : ( الّذين يؤذون اللّه ورسوله ) ، فهو في شأن المنافقين بلا كلام ، وهو يفتري أنّها نزلت فيهما.
ص: 575
قوله : «كانوا لا يعملون ...» إلى آخره ..
رجمٌ بالغيب ، والظاهر علمهم ؛ لأنّ الاستفهام في قولهما : «أينكحُ محمّد نساءنا ، ولا ننكح نساءه؟!» للإنكار بالضرورة ، وهو يقتضي معروفية المنع من نكاح أزواجه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، إمّا من سنته (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أو من قوله تعالى : (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (1).
فحينئذ يكون قولهما ردّاً لحكم اللّه ، وجرأةً على رسوله (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فأراد اللّه جلّ وعلا تسجيل هذا الحكم بنصّ الكتاب العزيز ، ردعاً لهم ، وبياناً لكون نكاحهنّ من بعده عند اللّه عظيماً.
ولو سُلّم أنّ الحكم لم يكن معلوماً قبل نزول هذه الآيات ، فلا شكّ بدلالتها على أنّ تعريضَهم بنكاح أزواجه إيذاءٌ له ، وأنّ مَن آذاه ملعونٌ
ص: 576
في الدنيا والآخرة.
قال الرازي : «المراد : أنّ إيذاء الرسول حرامٌ ، والتعرّض لنسائه في حياته إيذاءٌ له ، فلا يجوز» (1).
على أنّ قولهما المذكور دالٌّ على استيائهما من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّهما يريدان الانتقام منه ، ولذا عبّرا عنه باسمه ، لا بوصفه بالرسالة ، أو نحوها من صفات الكرامة ، وهذا كاف في الإساءة إليه وإيذائه.
وما ذَكره من عادة العرب ، ممنوعةٌ ، ولو سُلّمت لم تدفع فظاعة قولهما وظهوره في ما ذكرنا.
واعلم أنّه لا ريب بنزول الآية في طلحة ، منفرداً أو منضمّاً إلى عثمان.
ويدلّ على نزولها بطلحة ما سبق في قصة الشورى ، من قول عمر لطلحة : «مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو عليك عاتبٌ ؛ للكلمة التي قلتها» (2).
وما نقله السيوطي في «لباب النقول» و «الدرّ المنثور» ، عن ابن سعد ، عن أبي بكر [بن] محمّد بن عمرو بن مخزوم ، أنّها نزلت في طلحة (3).
وفيهما - أيضاً - ، عن ابن أبي حاتم ، عن السُدّي ، أنّها نزلت فيه (4).
ص: 577
وزاد في «الدرّ المنثور» مثله ، عن عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة (1).
ونقل السيوطي - أيضاً - ، عن جماعة ، أنّها نزلت في رجل قال : «لو توفّي النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) تزوّجتُ فلانة» (2).
وسمّى بعضهم عائشة (3) ، وذكر بعضهم : أنّها ابنة عمّ الرجل (4).
والظاهر : أنّ الرجل هو طلحة ؛ لأنّه هو الذي ذكرها في الروايات السابقة ، وقال : «لو توفّي تزوّجتُ عائشة» ، وهو ابن عمّها أيضاً.
ويحتمل أن يراد بالرجل في الرواية التي لم تسمِّ الرجل ولا المرأة : عثمان ؛ فإنّه أحد الرجلين اللذين نزلت فيهما الآية ، برواية السُدّي القويّة عندنا (5) ؛ لموافقتها لأخبارنا (6) ، وإنْ تركَ أكثرُ أخبارِ القوم ذِكرَ عثمان ستراً عليه ، ويكفينا نزولها في طلحة ، فإنّه من أركانهم.
وأمّا ما ذكره الفضل ، من أنّه لا كلام في نزول الآية الأخيرة بالمنافقين ..
ص: 578
فمع أنّه مردود بما نقله الحميدي عن السُدّي ، لا يجديه نفعاً ؛ لأنّ لفظ الآية عامٌّ ، فيؤخذ بعمومه وإنْ كان سبب النزول هو المنافقين ، ويدخل فيه طلحة برواية الكثير ، وعثمان برواية السُدي.
فيكون قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ... ) (1) الآية ، مثبتاً لصغرى هي : أنّ طلحة ، أو هو مع عثمان ، ممّن آذى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
ويكون قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... ) (2) الآية ، كبرى لتلك الصغرى ، فينتج منهما ما لا يخفى عليك!
* * *
ص: 579
[إنّ عثمان مطعون في القرآن] (1)
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (2) :
ومنها : ما رواه السُدي من الجمهور ، في تفسير قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ... ) (3) الآيات.
قال السُدي : «نزلت هذه في عثمان بن عفّان ؛ قال : لما فتح رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بني النضير ، فغنم أموالهم ، قال عثمان لعليّ : ائت رسولَ اللّه فسَلْهُ أرضَ كذا وكذا ، فإنْ أعطاكها فأنا شريكك فيها ، وآتيه أنا فأسأله إيّاها ، فإنْ أعطانيها فأنت شريكي فيها.
فسأله عثمان أوّلا ، فأعطاه إياها.
فقال له عليٌّ : أشركني؟ فأبى عثمان.
فقال : بيني وبينك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)!
فأبى أن يخاصمه إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقيل له : لِمَ لا تنطلق معه إلى النبيّ؟!
فقال : هو ابنُ عمّه ، فأخاف أن يقضي له!
فنزل قوله تعالى : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (4) إلى قوله تعالى :
ص: 580
( أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1).
فلمّا بلغ عثمان ما أنزل اللّه فيه ، أتى النبيَّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فأقرّ لعليّ بالحق» (2).
* * *
ص: 581
وقال الفضل (1) :
هذه الكلمات والمفتريات من تفاسير الشيعة.
وأمّا المفسّرون من أهل السنة ، ذكروا أنّها نزلت في شأن المنافقين ، لمّا لم يرضوا بحكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وقالوا للزبير - عند المخاصمة والرفع إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وحكم النبيّ للزبير - : إنّه كان ابنَ عمّتك! فأنزل اللّه هذه الآيات.
وآثار الكذب والافتراء على هذه الكلمات لائحٌ لمن له أدنى درية في معرفة الحديث والأخبار.
* * *
ص: 582
لا محلّ لكلامه بعد كون السُدي من مشاهير مفسّريهم وقدمائهم ، كما ستعرف (1).
وأمّا ما نسبه إلى مفسّريهم ، فالظاهر أنّه كاذبٌ فيه ؛ لأنّ الرازي لم يذكره في تفسيره ، الذي هو أجمع كتبهم لأقوالهم ، ولا سيّما إذا تعلّقت بمكرمة أحد أوليائهم.
وإنّما نقل فيه ثلاثة أقوال ، عن مقاتل ، والضحّاك ، والحسن ، وليس هذا منها (2).
كما لم يذكره السيوطي في «الدرّ المنثور» ، وهو أجمع تفاسيرهم للأخبار (3).
ويقرِّب كذبَ الخصم اضطرابُ الأمر عليه ، فقال : «إنّه كان ابن عمتك».
ولو صحّ الحديث ، لقالوا للزبير : إنّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان ابنَ خالك ، أو : كنتَ ابنَ عمته!
* * *
ص: 583
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
ومنها : ما رواه السُدِّي في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ) (2) الآية.
قال السُدِّي : «لمّا أُصيب النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بأُحد ، قال عثمان : لألحقنَّ بالشام ، فإنّ لي به صديقاً من اليهود ، فلآخذنّ منه أماناً ، فإنّي أخافُ أن يدالَ علينا اليهود.
وقال طلحة بن عبيد اللّه : لأخرجَنّ إلى الشام ، فإنّ لي به صديقاً من النصارى ، فلآخذنّ منه أماناً ، فإنّي أخاف أن يدال علينا النصارى.
قال السُدي : فأراد أحدُهما أن يتهود ، والآخر أن يتنصّر.
قال : فأقبل طلحة إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وعنده عليٌّ ، فاستأذنه طلحةُ في المسير إلى الشام ، وقال : إنّ لي بها مالا ، آخذه ثمّ أنصرف.
فقال له النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : عن مثلها مِن حال تخذلنا ، وتخرج وتدعنا؟!
فأكثر على النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من الاستئذان ، فغضب عليٌ (عليه السلام) ، وقال : يا رسول اللّه! ائذن لابن الحضرميّة ؛ فواللّه لا عزَّ مَن نصرَهُ ، ولا ذلَّ من خذله.
ص: 584
فكفّ طلحةُ عن الاستئذان عند ذلك ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) (1) يعني : أُولئك (2).
يقول : إنّه يحلف لكم أنّه مؤمنٌ معكم ، فقد حبط عمله بما دخل فيه من أمر الإسلام حتّى نافق فيه» (3).
ص: 585
وقال الفضل (1) :
اتّفق جميعُ أهل التفسير ، أنّ الآية نزلت في عبادة بن الصامت ، وعبد اللّه بن أُبَيّ بن سلول ، حين قال عبادة لعبد اللّه - وكان عبادةُ مؤمناً خالصاً ، وكان عبد اللّه منافقاً - : إنّي تركت كلّ مودّة وموالاة كانت لي مع اليهود ، ونبذت كلّ عهد لي كان معهم.
وقال عبد اللّه : لا أترك مودّة اليهود وموالاتهم وعهدهم ؛ فإنّي أخشى الدوار ، وينفعني موالاتهم.
فأنزل اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ) (2) الآية (3).
فأخذ الروافض هذا وجعلوه في حقّ كبار الصحابة ، وقد أنزله اللّه في شأن المنافقين ؛ كالخوارج الّذين جعلوا الآيات التي نزلت في شأن اليهود والنصارى ، حجّةً على الخروج على الإمام وأَوّلوه في أهل القِبلة.
وكلُّ ذلك خطأٌ.
وأمّا ما ذكره في شأن نزول الآية ، أنّها نزلت في عثمان وطلحة ،
ص: 586
فكذبه ظاهرٌ في غاية الظهور ؛ لأنّ طلحة في غزوة أُحد ابتُلي بلاءً حسناً ، حتّى إنّ يده شُلّت لمّا جعلها فداءً لوجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) حين تفرّق الأصحاب ، فحمى طلحةُ وجهَ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من السيف بيده ، وقطعت يده.
ومن المقرَّرات أنّه ابتُلي يوم أُحد بما لم يبتل به أحدٌ من المسلمين.
ثمّ إنّه يذكر طلحةَ كان يريد الفرار إلى الشام ليتنصّر ، أُفّ له من كذّاب مفتر.
وأمّا عثمان ، فإنّه كان مزوَّجاً بابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، كان يترك بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بعد سوابق الإسلام ، ويريد التهوّد من إدالة اليهود على الحجاز؟!
وأيُّ ملك كان يهودياً في الشام ، حتّى يستولي على الحجاز؟!
ثمّ إنّه لِمَ لَم يرجع إلى أبي سفيان ويستأمن منه ، وهو ابن عمّه ، وكان كلُّ المخافة - التي يدّعيها - من أهل مكّة ، وكان أبو سفيان رئيس قريش ، وسيّد الوادي؟!
والغرض : إنّ هذا الجاهل بالأخبار وأضرابه - من السُدي ، وغيره من رفضَة حِلّة - لا يعلمون الوضع ، ولا يخافون الافتضاح عند العلماء.
والحمد لله الذي فضح ابن المطهّر في مطاعنه ، بما وفّقنا من ردّ ما ذكرَ من المطاعن ، بالدلائل العقليّة ، والبراهين النقليّة ، بحيث لا يرتاب أحدٌ ممّن ينظر في هذا الكتاب ، أنّه على الباطل ، وأنّنا على الحقِّ الأبلج ، وصار مطاعنه ملاعنه.
ونِعمَ ما قلتُ شعراً [من الوافر] :
ص: 587
أَجَبنا عن مطاعنِ رافضيّ *** على الأخلافِ والأصحابِ طاعنْ
فَيَلْعَنُهُ الذَّكيُّ إذا رآهُ *** فصيّرْنا مطاعِنهُ ملاعنْ
والحمد لله على هذا التوفيق.
ص: 588
عُبادةُ هذا : عَقَبيٌّ بدريٌّ أُحديٌّ شَجَريٌّ (1) ، شهد المشاهد كلّها مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، قال في «أُسد الغابة» : شهد العقبة الأُولى والثانية ، وشهد بدراً ، وأُحداً ، والخندق ، والمشاهدَ كلّها.
وكان أحد نقباء الأنصار ، بايع رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أن لا يخاف في اللّه لومة لائم» (2).
وروى الحاكم - وصحّحه مع الذهبيِّ - على شرط الشيخين ، في مناقب عبادة (3) ، عن عبادة ، قال : «بايعنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) على أن لا نخاف في اللّه لومة لائم».
وكأنّه لوفائه بهذه البيعة رُويت عنه القصّة التي ذكرها الخصمُ.
وأنكر على معاوية منكَراته ، في أيّام عمر وبعده ..
روى الحاكم (4) ، عن قبيصة بن ذؤيب ، أنّ عبادة أنكر على معاوية
ص: 589
أشياء ، ثمّ قال له : لا أُساكنك بأرض ؛ فرحل إلى المدينة.
فقال له عمر : ما أقدمك إليّ؟! لا يفتح اللّه أرضاً لستَ فيها أنت وأمثالك ، انصرف لا إمرة لمعاوية عليك!
وروى أحمد في «مسنده» (1) ، أنّ عبادة قال لأبي هريرة : «يا أبا هريرة! إنّك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، إنّا بايعناه على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ... وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في اللّه ولا نخاف لومة لائم فيه ، وأن ننصر النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ... ، ولنا الجنّةُ.
فهذه بيعةُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) التي بايعنا عليها ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما بايع عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وفّى اللّه بما بايع عليه نبيّه.
فكتب معاوية إلى عثمان : إنّ عبادة بن الصامت قد أفسد علَيَّ الشام وأهله ، فإمّا تكنّ إليك عبادة ، وإمّا أُخلّي بينه وبين الشام.
فكتب إليه أن رحل عبادة - إلى أن قال : - فلم يفجأ عثمانُ إلاّ وهو قاعدٌ في جنب الدار ، فالتفت إليه ، فقال : يا عبادة بن الصامت! ما لنا ولك؟!
فقام عبادةُ بين ظهريّ الناس ، فقال : سمعتُ رسول اللّه أبا القاسم محمّداً (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنّه سيلي أموركم بعدي رجالٌ يُعرِّفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى اللّه ، فلا تعتلوا بربّكم».
ص: 590
وروى الحاكم ، عن عبادة ، نحو هذا الخبر الذي أخبر به عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بين ظهريّ الناس (1).
فيا رحمَ اللّه عبادة ، ولقّاه رحمةً ورضواناً ، كأنّه أبو ذرّ في إنكاره المنكَر ، وابتلائه ببني أُميّة.
لكنّه نال في الجملة من عمر أن لا إمرة لمعاوية عليه ، وإن لم يعزل معاوية عن سلطانه الذي تسلّط به على المنكَرات ، وعزّ على عبادة مساكنته معها ، وكان حقاً على عمر أن يعزل معاوية لأجلها.
وقد أراد عبادةُ بروايته المذكورة عن النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، أنّ عثمان ومعاوية من الولاة الذي يأمرون بالمنكَر ، وينكرون المعروف ، وأنّهم عصاة لله لا طاعة لهم ؛ وهذا من أكبر الطعن بعثمان.
كما أنّ قول عثمان : «ما لنا ولك؟!» ، دالٌّ على أنّ إنكار عبادة للمنكَر مناف لسلطانه ، ومضرٌّ بشؤونه!
ثمّ إنّ دعوى الخصم اتّفاق جميع المفسّرين على نزول الآية في عبادة وابن سلول ..
كاذبةٌ ؛ لِما في «الدرّ المنثور» ، عن ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة - الذي هو من أكبر مفسّريهم - أنّه قال في جملة كلام له في تفسير الآية : «كان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام» (2).
وفيه - أيضاً - ، عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السُدِّي ، نحو ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) ، إلاّ أنّه لم يسمّ الرجلين اللذين خافا أن يدال اليهود
ص: 591
والنصارى ، وأراد أحدهما التهود ، والآخر التنصر (1).
والظاهر أنّه من إرادة الراوي عن السُدِّي السترَ على الرجلين ، وإلاّ فقد نقل المصنّف (رحمه اللّه) ، أنّه سمّاهما.
وبالجملة : طلحةُ في قول عكرمة والسُدِّي ممّن نزلت فيه الآية ، واختلفا في الآخر ، فقال عكرمة : هو الزبير ، وقال السُدِّي : هو عثمان ، على ما حكاه المصنّف (رحمه اللّه) عنه.
وأمّا ما استدلّ به الخصم على كذب نزولها في طلحة ، من أنّه ابتُلي بلاءً حسناً حتّى شُلّت يده ..
فباطلٌ ؛ لِما عرفت في مطلب جهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ كثيراً من أخبارهم دالّةٌ على فرار طلحة ، فأيُّ ابتلاء له لولا دعواه؟!
وعرفتَ أنّ الشلل - وما هو أعظم منه - قد يقع حال الهزيمة (2).
ومن المضحك أنّه مرّة يقول : «شُلّت يده» ، وأُخرى يستحقر ذلك فيقول : «قُطعت يده» ، مع عدم وروده في شيء من أخبارهم ، وقد ورد فيها أنّه شُلّ إصبعه (3).
وزعم أيضاً : أنّه وقى وجه النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) من السيف ؛ ليكون أمكن في مدح طلحة وشجاعته.
ولم أجد في أخبارهم ذِكر السيف ، وإنّما رووا عنه أنّه وقاه من
ص: 592
السهم (1).
وأما ما استدلّ به على عدم نزولها بعثمان ..
فليس في محلّه أيضاً ؛ لأنّ تزويجه ببنت النبيّ أو ربيبته ، لا يمنعه من التوسّل إلى حفظ نفسه العزيزة جبناً ؛ ولذا فرّ ، ولم يعد إلاّ بعد ثلاثة أيام وحصول الأمان (2).
وقوله : «أيُّ يهودي كان ملِكاً بالشام؟!» ..
خطأٌ نشأ من عدم فهم الرواية ، فإنّ معناها : أنّه أراد أن يأخذ أماناً من صديقه اليهودي ؛ ليتّخذه وسيلة عند يهود الحجاز ، وذلك لا يستدعي كونه ملِكاً ، بل يكفي أن يكون وجيهاً مرعيَّ الجانب عند يهود الحجاز ، الّذين خاف عثمان أن تكون لهم الدولة.
وطلب ابن سلول - مع شرفه - مودّتهم خشية الدوار ، كما ذكره الخصمُ.
وأما قوله : «لِمَ لم يرجع إلى أبي سفيان ...» إلى آخره ..
ففيه : إنّ الرجوع إليه لا يمكن إلاّ بالمجاهرة بعداوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؛ إذ لا علّة له في الذهاب إلى مكّة ، كما يتعلّل بالمال والتجارة لو ذهب إلى الشام ، كما تعلّل به طلحة.
ولو جاهر بعداوة النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، خاف أن تكون له الدولة فتناله العقوبة!
ص: 593
على أنّه يجوز أن يكون عثمان يعلم أنّ أبا سفيان لم يقبله بأوّل وهلة ، فيناله التحقيرُ الكثير ، فاختار أيسر الطريقين.
وأما ما نسبه إلى السُدي من الرفض ..
ففيه : أنّ السُدِّي ، وهو : إسماعيل بن عبد الرحمن ، من قدماء مفسِّريهم ومشاهيرهم (1) ، ولا تخلو تفاسيرهم من أقواله ، إلاّ ما يضرُّ بشؤون خلفائهم.
وقد روى عنه جميع أرباب صحاحهم الستّة ، إلاّ البخاريّ.
وقال ابنُ حجر في «التقريب» : صدوق (2).
وقال في «تهذيب التهذيب» : قال العجليُّ : ثقةٌ ، عالمٌ بالتفسير ، راويةٌ له.
وقال أحمد : ثقة.
وقال يحيى بن سعيد القطّان : ما رأيت أحداً يذكره إلاّ بخير ، وما تركه أحد.
وقال ابنُ عديِّ : هو عندي مستقيم الحديث ، صدوق (3).
وذكر أكثر هذا في «ميزان الاعتدال» ، وقال : رُميَ بالتشيّع (4).
ص: 594
لا يبعد أنّ المنشأ في هذا الرمي ، روايتُه لبعض تلك المطالب في خلفائهم ، وبعض فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما رموا الحاكم والنسائيّ وغيرهما بالتشيّع (1) ؛ لأنّهم يجدون لهم إنصافاً في الجملة ، وهو خلاف طريقتهم ؛ إذ لا يقنعهم من الرجل إلاّ أن يروا عليه أثر النصب في جميع أقواله وأفعاله ، وأن لا يتعرّض لرواية شيء من مساوئ خلفائهم وأوليائهم ، حتّى لو وقعت منه صدفةً ، وكان ما رواه مشهوراً.
ولو فُرضَ أنّ السُّدِّي من الشيعة ، فما ضرّه بعدما احتجّ به أهلُ صحاحهم ، ووثّقه علماؤهم ، كما عرفت.
وأما قوله : «لا يعلمون الوضع» ..
فصحيحٌ ؛ فإنّا بحمد اللّه لا نستحلّه ولا نألفه ، ولا ننقل شيئاً عنهم إلاّ بعد أن نراه ، وقد أوقفناك على محالِّ النقل من كتبهم ، فإنْ صدقوا في روايتها ، فهو المطلوب ، وإنْ كذبوا ، فالذنب منهم وعليهم ، ولسنا مثلهم نختلقُ ما لا أصلَ له ، كما عرفته من هذا الخصم مراراً.
وما زالوا يكذبون على الشيعة ، وينسبون إليهم ما لا أثر له في كتبهم ، ولا يمرُّ على بال أحد منهم (2)!
ص: 595
* * *
ص: 596
المطلب الأوّل
في المطاعن التي رواها السُنّة في أبي بكر
1 - تسمية أبي بكر بخليفة رسول اللّه... 7
ردّ الفضل بن روزبهان... 9
ردّ الشيخ المظفّر... 10
2 - أبو بكر في جيش أُسامة... 15
ردّ الفضل بن روزبهان... 16
ردّ الشيخ المظفّر... 17
3 - قول أبي بكر : إنّ لي شيطاناً يعتريني... 23
ردّ الفضل بن روزبهان... 24
ردّ الشيخ المظفّر... 25
4 - قول عمر : بيعة أبي بكر فلتة... 32
ردّ الفضل بن روزبهان... 33
ردّ الشيخ المظفّر... 35
5 - قول أبي بكر : أقيلوني... 43
ردّ الفضل بن روزبهان... 44
ردّ الشيخ المظفّر... 45
6 - تشكيك أبي بكر في حقّ الأنصار بالخلافة... 51
ردّ الفضل بن روزبهان... 52
ردّ الشيخ المظفّر... 53
7 - تمنّيات أبي بكر... 56
ردّ الفضل بن روزبهان... 57
ردّ الشيخ المظفّر... 58
8 - النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يُوَلِّ أبا بكر شيئاً من الأعمال... 60
ردّ الفضل بن روزبهان... 61
ردّ الشيخ المظفّر... 64
9 - منع فاطمة (عليها السلام) إرثها... 72
ردّ الفضل بن روزبهان... 76
ص: 597
ردّ الشيخ المظفّر... 82
10 - طلب إحراق بيت الإمام عليّ (عليه السلام)... 132
ردّ الفضل بن روزبهان... 137
ردّ الشيخ المظفّر... 148
المطلب الثاني
في المطاعن التي نقلها السنة عن عمر بن الخطّاب
1 - قصة الدواة والكتف... 179
ردّ الفضل بن روزبهان... 181
ردّ الشيخ المظفّر... 183
2 - إيجابه بيعة أبي بكر بالقوّة ، وقصد بيت النبوّة بالإحراق... 200
ردّ الفضل بن روزبهان... 202
ردّ الشيخ المظفّر... 203
3 - إنكار موت النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)... 206
ردّ الفضل بن روزبهان... 207
ردّ الشيخ المظفّر... 209
4 - قول عمر : لولا عليٌّ لهلك عمر... 214
ردّ الفضل بن روزبهان... 215
ردّ الشيخ المظفّر... 216
5 - عمر يمنع من المغالاة في المهور... 220
ردّ الفضل بن روزبهان... 222
ردّ الشيخ المظفّر... 224
6 - قصة تسوّر عمر على جماعة... 230
ردّ الفضل بن روزبهان... 232
ردّ الشيخ المظفّر... 234
7 - أُعطيات عمر من بيت المال... 241
ردّ الفضل بن روزبهان... 243
ردّ الشيخ المظفّر... 245
8 - تعطيل حد المغيرة بن شعبة... 250
ردّ الفضل بن روزبهان... 252
ردّ الشيخ المظفّر... 254
9 - مفارقات عمر في الأحكام... 270
ص: 598
ردّ الفضل بن روزبهان... 271
ردّ الشيخ المظفّر... 272
10 - تحريم عمر متعة النساء... 282
ردّ الفضل بن روزبهان... 287
ردّ الشيخ المظفّر... 289
11 - تحريم عمر متعة الحجّ... 316
ردّ الفضل بن روزبهان... 317
ردّ الشيخ المظفّر... 318
12 - قصة الشورى... 329
ردّ الفضل بن روزبهان... 333
ردّ الشيخ المظفّر... 337
13 - مخترعات عمر... 358
ردّ الفضل بن روزبهان... 362
ردّ الشيخ المظفّر... 369
المطلب الثالث
في المطاعن التي رواها الجمهور عن عثمان
1 - ما رواه الجمهور في حقّ عثمان... 409
ردّ الفضل بن روزبهان... 414
ردّ الشيخ المظفّر... 415
2 - إيواؤه الحكم بن أبي العاص... 432
ردّ الفضل بن روزبهان... 435
ردّ الشيخ المظفّر... 437
3 - إيثار عثمان لأهل بيته بالأموال العظيمة... 441
ردّ الفضل بن روزبهان... 443
ردّ الشيخ المظفّر... 445
4 - ما حماه عن المسلمين من الماء والكلأ... 454
ردّ الفضل بن روزبهان... 455
ردّ الشيخ المظفّر... 456
5 - صرفه للصدقة في غير وجهها... 458
ردّ الفضل بن روزبهان... 459
ردّ الشيخ المظفّر... 460
ص: 599
6 - ضربُه لعبد اللّه بن مسعود... 463
ردّ الفضل بن روزبهان... 464
ردّ الشيخ المظفّر... 465
7 - ضربُه لابن مسعود على دفنه لأبي ذرّ... 474
ردّ الفضل بن روزبهان... 475
ردّ الشيخ المظفّر... 477
8 - ضربُه لعمار بن ياسر... 486
ردّ الفضل بن روزبهان... 489
ردّ الشيخ المظفّر... 491
9 - نفيُه لأبي ذرّ... 505
ردّ الفضل بن روزبهان... 510
ردّ الشيخ المظفّر... 512
10 - تعطيل عثمان لحدّ ابن عمر... 526
ردّ الفضل بن روزبهان... 528
ردّ الشيخ المظفّر... 530
11 - براءة الصحابة من عثمان يوم الدار... 535
ردّ الفضل بن روزبهان... 537
ردّ الشيخ المظفّر... 541
12 - مخالفات عثمان للشريعة... 556
ردّ الفضل بن روزبهان... 561
ردّ الشيخ المظفّر... 563
13 - جرأة عثمان على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)... 573
ردّ الفضل بن روزبهان... 575
ردّ الشيخ المظفّر... 576
14 - إنّ عثمان مطعون في القرآن... 580
ردّ الفضل بن روزبهان... 582
ردّ الشيخ المظفّر... 583
15 - أراد عثمان أن يتهود... 584
ردّ الفضل بن روزبهان... 586
ردّ الشيخ المظفّر... 589
الفهرس المحتويات... 597
ص: 600