نفحات الرحمن في تفسیر القرآن جلد 6

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

اشارة

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن ج6

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة لمؤسسة البعثة

ص: 2

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ص: 3

ص: 4

في تفسير سورة الحجرات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الفتح المبتدئة ببيان فتح مكّة و ألطاف اللّه على النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً (1) و المختتمة ببيان علوّ مقامه، و بيان فضائل أصحابه، و كونهم رحماء بينهم، اردفت بسورة الحجرات المبتدئة بايجاب حفظ احترام النبي صلّى اللّه عليه و آله و تعظيمه، و تعليم أدب حضوره، و بيان وظيفة المؤمنين و تعليم كيفية سلوك بعضهم مع بعض، و وجوب الاصلاح بينهم إذا تخاصموا و تنازعوا، و غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى حسب دأبه تعالى تعليما للعباد و تبرّكا بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ لمّا كانت السورة مشتملة على التكاليف الشاقة، ابتدأها بالنداء شفاهية للمؤمنين بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ليزيل التعب و العناء بلذّة النداء، و لينشّط قلوبهم بتوصيفهم بالايمان، و ليبين أن امتثالها من لوازمه، و أن الايمان باعث على المحافظة عليها، رادع عن الإخلال بها.

ثمّ شرع سبحانه في بيان وظائف المؤمنين مع النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: لاٰ تُقَدِّمُوا أنفسكم في المشي، أو أمر من الامور، و لا تقطعوه بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ و أمامهما، و ذكر ذاته المقدسة باسم الجلالة لتعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أو المراد بحضرتهما و في منظرهما، إلاّ بعد أن يحكما به و يأذنا فيه وَ اتَّقُوا اللّٰهَ العظيم الذي أنتم بين يديه و في منظره في جميع أقوالكم و أفعالكم إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم و أعمالكم، فيجازيكم عليها إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ.

قيل: نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قيل الصلاة، فانّ ناسا ذبحوا قبل صلاة النبي صلّى اللّه عليه و آله(2).

ص: 5


1- . الفتح: 2/48.
2- . تفسير روح البيان 62:9.

و عن البراء أنّه خطبنا النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم النحر، فقال: «إنّ أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثمّ نرجع و ننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، و من ذبح قبل أن نصلّي فانّما هو لحم عجّله لأهله، ليس من النّسك في شيء»(1).

و عن عائشة: أنّها نزلت في النهي عن صوم يوم الشكّ، و المعنى لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم(2).

و عن الحسن: لمّا استقرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة، أتته الوفود من الآفاق، فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا عن أن يبتدءوا بالمسألة حتى يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله هو المبتدئ(3) ، و الظاهر و الاعتبار مقتضي لأن يكون النهي عن كلّ ما يقدّم عليه سواء كان بالقول أو بالفعل، كالأكل و المشي و غيرهما.

كرّر النداء بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ازديادا لاظهار اللّطف بهم و الاهتمام بالمنادى له و استقلاله لاٰ تَرْفَعُوا و لا تعلوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ في تكلّمكم عنده تعظيما له و تأدّبا منه.

روى بعض العامة عن عبد اللّه بن الزبير: أنّ الأقرع بن حابس من بني تميم، قدم على النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، استعمله على قومه. فقال عمر: لا نستعمله يا رسول اللّه، بل استعمل القعقاع بن معبد. فتكلّما عند النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فنزلت الآية، فكان عمر بعد ذلك إذا تكلّم عند النبي صلّى اللّه عليه و آله لا يسمع كلامه حتى يستفهمه، و قال أبو بكر: آليت على نفسي أن لا اكلّم النبي صلّى اللّه عليه و آله إلاّ سرّا(4).

أقول: العجب من العامة القائلين بأفضلية الرجلين على أمير المؤمنين عليه السّلام، و روايتهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما طلعت شمس، و ما غربت على أحد بعد النبيين و المرسلين خير - أو أفضل - من أبي بكر»(5) مع أنّهم رووا نزول كثير من الآيات في ردع الرجلين عن زلاتهما، و لم يرو نزول آية في ردع أمير المؤمنين عليه السّلام عن زلّة، بل ما نزلت آية فيه إلاّ و فيها مدحة و بيان فضله.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ (2) ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن تعلية الصوت على صوت النبي صلّى اللّه عليه و آله حين مكالمته، نهى عن تسوية الصوت في الجهر لصوته بقوله: وَ لاٰ تَجْهَرُوا أيّها المؤمنون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله لَهُ بصوتكم

ص: 6


1- . تفسير روح البيان 62:9.
2- . تفسير روح البيان 62:9.
3- . تفسير روح البيان 62:9.
4- . تفسير روح البيان 63:9.
5- . تفسير روح البيان 62:9.

بِالْقَوْلِ إذا كلمتموه(1) و كلّمكم كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ بصوته عند مخاطبتكم لِبَعْضٍ آخر، بل أ جعلوا أصواتكم عند مكالمته أخفض من صوته، مراعاة لجلالته و عظمته، كما هو الدأب في مخاطبة العبد الذليل لسيده العظيم المهيب كراهة أَنْ تَحْبَطَ و تبطل أَعْمٰالُكُمْ فانّ عدم الاعتناء بشأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و تحقيره مؤدّ الى الارتداد الموجب لردّ الأعمال و عدم قبولها وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ بأنّ مخالفة هذا النهي مؤدّ إلى الكفر حبط الأعمال.

روى بعض العامة عن ابن عباس: أنّها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، فانّه كان في اذنيه و قرّ، و كان جهوري الصوت، و ربما كان يكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيتأذّى بصوته(2).

و عن أنس: أنّه لمّا نزلت هذه الآية فقد ثابت، فتفقّده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخبر بشأنه، فدعاه صلّى اللّه عليه و آله فسأله، فقال: يا رسول اللّه، لقد انزلت إليك هذه الآية، و إنّي رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط. فقال: «لست هناك، إنّك تعيش بخير، و تموت بخير، و إنّك من أهل الجنّة»(3).

قيل: إنّه قتل شهيدا يوم مسيلمة الكذّاب(4).

و قيل: إنّ الفرق بين النهيين، أنّ النهي عن رفع الصوت فيما إذا تكلّمتم و تكلّم النبي صلّى اللّه عليه و آله، فعلى المؤمنين أن لا يبلغوا بأصواتهم فوق الحدّ الذي يبلغ إليه صوت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أن يغضّوا من أصواتهم بحيث يكون صوت النبي عاليا على أصواتهم، و النهي عن الجهر فيما إذا كلّمه المؤمنون و هو ساكت، فنهي المؤمنين عن أن يبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينهم، بل يجب عليهم أن يلينوا القول لينا يقارب الهمس(5).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة، و كثر حوله المهاجرون و الأنصار، كثرت عليه المسائل، و كانوا يخاطبونه بالخطاب العظيم الذي لا يليق به، و لذلك قال اللّه تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ... الآية و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم رحيما، و عليهم

عطوفا، و في إزالة الآثام عنهم مجتهدا، حتى إنّه كان ينظر إلى من يخاطبه، فيعمد على أن يكون صوته مرتفعا على صوته، ليزيل عنه ما توعّده اللّه من حبط أعماله، حتى إنّ رجلا أعرابيا ناداه يوما من خلف حائط بصوت جهوري: يا محمد، فأجابه بأرفع من صوته، يريد أن لا يأثم الأعرابي بارتفاع

ص: 7


1- . في النسخة: تكلمتموه.
2- . جوامع الجامع: 456، تفسير روح البيان 64:9، تفسير الصافي 47:5.
3- . جوامع الجامع: 456، تفسير روح البيان 65:9، تفسير الصافي 48:5.
4- . تفسير روح البيان 65:9.
5- . تفسير روح البيان 64:9.

صوته»(1).

و عن القمي رحمه اللّه: نزلت في وفد من بني تميم، كانوا إذا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وقفوا على باب حجرته، و نادوا يا محمد، اخرج إلينا، و كانوا إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تقدّموه في المشي، و كانوا إذا كلّموه(2) رفعوا أصواتهم فوق صوته، و يقولون: يا محمد، يا محمد، ما تقول في كذا؟ كما يكلّمون بعضهم بعضا، فأنزل اللّه [الآية](3).

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ثمّ إنه تعالى بعد ترهيب المؤمنين من مخالفة نهية، رغّبهم في امتثاله بقوله تبارك و تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ و يخفضون أَصْوٰاتَهُمْ حين تكلّمهم عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ و في حضوره مراعاة للأدب، و خشية من مخالفته نهي اللّه عن رفع الصوت فوق صوته، و الجهر له بالقول أُولٰئِكَ المؤمنون هم اَلَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ و أخلصها لِلتَّقْوىٰ و وسعها له، أو مرّنها عليه لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةٌ و ستر كامل لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يسع البيان حسنه و قدره.

ثمّ ذمّ اللّه سبحانه الرافعين أصواتهم المسيئين للأدب بالنسبة إلى النبي بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ يا محمد مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ و خارج البيوت المسكونة لأزواجك حين استراحتك فيها أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ و لا يدركون قباحة سوء الأدب بالنسبة إلى من لا يدانيه أحد من الأولين و الآخرين في الجلالة و العظمة و وخامة عاقبته. و قيل: الأكثر هنا بمعنى الكلّ (4)

وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا و توقّفوا خارج الحجرات، و لم ينادونك حَتّٰى تَخْرُجَ من حجرتك متوجّها إِلَيْهِمْ لا إلى غيرهم، و اللّه لَكٰانَ ذلك الصبر و التّوقف، و ترك التعجيل و النداء خَيْراً لَهُمْ و أصلح و أنفع في الدنيا و الآخرة من التعجيل في لقائك، و رفع الصوت بندائك وَ اللّٰهُ غَفُورٌ لذنب أولئك المسيئين للأدب إن تابوا و ندموا على ما صدر منهم رَحِيمٌ بهم إن صلحوا.

قيل: إنّ الذين نادوا الرسول عيينة بن الحصين الفزاري، و الأقرع بن حابس التميمي، وفدا على

ص: 8


1- . التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام: 305/477، تفسير الصافي 48:5.
2- . في النسخة تكلموه.
3- . تفسير القمي 318:2، تفسير الصافي 47:5.
4- . تفسير روح البيان 68:9.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة، و هو راقد، فقالا: يا محمد، اخرج إلينا، فنحن الذين مدحنا زين و ذمّنا شين، فاستيقظ صلّى اللّه عليه و آله، فخرج و قال لهم: «ويحكم ذلكم اللّه»(1).

و روي أنّه سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم فقال: «هم جفاة بني تميم، لو لا أنّهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجّال، لدعوت اللّه أن يهلكهم، فنزلت الآية ذمّا لهم(2).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنّه بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سريّة إلى حي بني العنبر، و أمرّ عليهم عيينة بن الحصين، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم هربوا و تركوا عيالهم، فسباهم عيينة، و قدم بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجاء بعد ذاك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، فوافوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائلا في أهله، فلمّا رأتهم الذرارى أجهشوا إلى آبائهم يبكون، و كان لكلّ امرأة من نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله بيت و حجرة، فجعلوا ينادون: يا محمد، اخرج إلينا، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد، فادنا عيالنا. فنزل جبرئيل فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تجعل بينك و بينهم رجلا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ ترضون أن يكون بيني و بينكم سبرة بن عمرو، و هو على دينكم ؟» قالوا: نعم. قال سبرة: أنا لا أحكم بينهم و عمي شاهد، و هو أعور بن بشامة بن ضرار. فرضوا به.

فقال الأعور: فأنا أرى أن تفادي نصفهم، و تعتق نصفهم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قد رضيت» ففادى نصفهم، و أعتق نصفهم. و قال مقاتل: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ لأنّك كنت تعتقهم جميعا و تطلقهم بلا فداء(3).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ (6) ثمّ إنّه تعالى بعد تعليم المؤمنين الأدب مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله علّمهم كيفية معاملتهم مع سائر الناس، فابتدأ بكيفية معاملتهم مع الفسّاق بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ و أنبأكم فٰاسِقٌ من الفسّاق بِنَبَإٍ و أخبركم بخبر يعظم وقعه في القلوب، كالإخبار بإرادة قوم قتالكم فَتَبَيَّنُوا و تفحّصوا عن صدقه و كذبه حتى تظهر حقيقة الحال، و لا تعتمدوا على خبره، فانّ من لا يحترز عن الفسق لا يؤمن منه الكذب، فيكون في تحقيق الحال من الحذر أَنْ تُصِيبُوا أيّها المؤمنون و تضرّوا قَوْماً من المسلمين بِجَهٰالَةٍ و بسبب عدم العلم بواقع الحال، و عدم طريق عقلائي دالّ

ص: 9


1- . تفسير روح البيان 67:9.
2- . تفسير روح البيان 68:9.
3- . تفسير روح البيان 68:9.

عليه، أو بسفاهة و عدم رعاية حكم العقل فَتُصْبِحُوا و تصيروا بعد ظهور خطئكم عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ من الإضرار على القوم نٰادِمِينَ مغتمّين متمنّين عدم صدور ذلك الفعل منكم.

في بعض مطاعن

عثمان

روي أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان بن عفان لأمّه، بعثه النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم و يجبي زكاتهم، و كان بينه و بينهم إحنة(1) و حقد كامن في الجاهلية بسبب دم، فلمّا سمعوا بقدومه استقبلوه ركبانا، فحسب أنّهم مقاتلوه، فرجع هاربا منهم، و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّهم قد ارتدّوا، و منعوا الزكاة، و همّوا بقتلي، فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الظاهر بقتالهم، فنزلت الآية(2).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث إليهم خالد بن الوليد بعد رجوع الوليد بن عقبة عنهم في عسكر، و قال له:

اخف عنهم قدومك بالعسكر، و ادخل عليهم ليلا متجسّسا، هل ترى فيهم شعائر الاسلام و آدابه، فان رأيت منهم ذلك فخذ منهم زكاة أموالهم، و إن لم تر ذلك فافعل بهم ما يفعل بالكفّار، فجاءهم خالد وقت المغرب فسمع منهم أذان المغرب و العشاء، و وجدهم مجتهدين باذلين وسعهم و مجهودهم في امتثال أمر اللّه، فأخذ منهم صدقاتهم، و انصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [و أخبره الخبر فنزلت: أَنْ تُصِيبُوا... ](3).

أقول: من مطاعن عثمان أنّه ولّى هذا الوليد الفاسق الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلّى بالناس و هو سكران صلاة الفجر أربعا، ثمّ قال: هل أزيدكم ؟ و من الواضح أنّه لم يكن حاله خفيا على عثمان مع كونه أخاه.

و يدلّ على كون المراد من الفاسق هو الوليد بن عقبة ما روى في (الاحتجاج) عن الحسن المجتبى عليه السّلام - في حديث - أنه قال: «و أما أنت يا وليد بن عقبة، فو اللّه ما ألومك على ألومك على أن تبغض عليا و قد جلدك في الخمر ثمانين جلدة، و قتل أباك صبرا بيده يوم بدر، أم كيف لا تسبّه و قد سمّاه اللّه مؤمنا في عشر آيات من القرآن، و سمّاك فاسقا و هو قوله: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. .. الآية»(2).

و عن القمي رحمه اللّه: نزلت في عائشة حين رمت مارية القبطية، و اتّهمها بجريح القبطي، فأمر رسول اللّه بقتل جريح ليظهر كذبها، و ترجع عن ذنبها(3).

أقول: لعلّ المراد من النزول جريانها في حقّها.

في الاستدلال على

حجية خبر الواحد

ثمّ اعلم أن العامة و كثيرا من الخاصة استدلّوا بالآية المباركة على حجية خبر العدل

ص: 10


1- . الإحنة: الحقد و الضّغن. (2و3) . تفسير روح البيان 70:9.
2- . الاحتجاج: 276، تفسير الصافي 49:5.
3- . تفسير القمي 318:2، تفسير الصافي 49:5.

الواحد، حيث رتّب وجوب التبيين على كون المخبر فاسقا، و لو لم يجز قبول خبر العادل، لما كان للترتيب على خبر الفاسق فائدة، و تقريره أنّ تعليق وجوب التبيين على خبر الفاسق، يقتضي انتفاء الوجوب عند انتفاء الفسق في المخبر، و هو بكون المخبر عادلا، و حينئذ فإمّا نقول بعدم قبول خبره و لو مع التبيين، بمعنى كون التبيين لغوا في مورده، فيلزم كون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق، و هو باطل، مع أنّ التبيّن سبب لليقين بصدقه، و لا معنى لعدم قبول الخبر المتيقّن الصدق. و إمّا نقول بوجوب قبول خبره بلا تبيّن، فهو المطلوب، و فيه أنّ الاستدلال مبني على القول بحجيّة مفهوم الوصف، و تعليق الحكم عليه، و هو ممنوع، كما حقّق في محلّه.

نعم لو تمسّك بمفهوم الشرط، بأن يقال: إنّ الآية نظير قولك: إن جاءك زيد سائلا فأعطه درهما، فانّ مفهومه إن جاءك غير سائل فلا تعطه، و فيه: أن الشرط هنا لبيان تحقّق الموضوع، كقولك: إن رزقت ولدا فاختنه، و هذه القضية الشرطية لا مفهوم لها إلاّ أن يقال الموضوع هو النبأ، و المعنى: النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا، و إن جاء به غير الفاسق، و هو العادل، فلا تبيّنوا.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيٰانَ أُولٰئِكَ هُمُ الرّٰاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَ نِعْمَةً وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) ثمّ لمّا أخبر الوليد بقيام بني المصطلق لقتال المسلمين، رأى جمع من الأصحاب تجهيز الجيش و إصابتهم، و كانوا يتوقّعون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتّبع رأيهم، فردعهم عن هذا التوقّع بقوله:

ص: 11

إِلَيْكُمُ و أبغض لديكم اَلْكُفْرَ و الشّرك وَ الْفُسُوقَ و الكذب على ما روي عن الباقر عليه السّلام(1)وَ الْعِصْيٰانَ و مخالفة أحكام اللّه كافّة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الحبّ و البغض أ هو من الايمان ؟ قال: «و هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض» ثمّ تلا هذه الآية(2).

ثمّ مدح سبحانه المحبّين للايمان، المبغضين للكفر و العصيان بقوله: أُولٰئِكَ الموصوفون بتلك الصفتين الجليلتين هُمُ الرّٰاشِدُونَ و المهتدون إلى الطريق الموصل إلى قرب اللّه و جنّته التي وعد المتّقون، و إنّما ذلكم الحبّ و البغض يكون

فَضْلاً و إحسانا مِنَ اللّٰهِ وَ نِعْمَةً عظيمة منه تعالى وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بقابليات الأشخاص و حَكِيمٌ في أفعاله، لا يعطي أحدا إلاّ بالاستحقاق.

عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيٰانَ يعني الأول و الثاني و الثالث»(3).

أقول: تحقيقه أنّ حبّ الايمان عين حبّ أمير المؤمنين عليه السّلام، لكونه عليه السّلام مجسّمة الايمان، و بغض أعمال الثلاثة عين بغض الثلاثة الذين هم مجسّمتها.

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) ثمّ لمّا بيّن سبحانه عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق المورث لإثارة الفتنة بين المسلمين و وقوع القتال فيهم، بيّن حكم القتال الواقع بينهم، و رغّب في الإصلاح بقوله:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و جمعان منهم اِقْتَتَلُوا و تنازعوا في أمر من الأمور الدينية أو الدنيوية، و الجمع باعتبار الأفراد، فانّهم يقتتلون فَأَصْلِحُوا بالوعظ و النّصح و التهديد و بذل المال و غيرها بَيْنَهُمٰا حفظا لنفوسهما، و ردعا لهم عن المنكر.

بيان فضيلة الاصلاح

بين المؤمنين

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أ لا أخبركم بأفضل من الصيام و الصلاة و الصدقة ؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «إصلاح ذات البين»(4).

فَإِنْ بَغَتْ و تعدّت إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الطائفة اَلْأُخْرىٰ و لم ترتدع بالوعظ

ص: 12


1- . مجمع البيان 200:9، تفسير الصافي 49:5.
2- . الكافي 5/102:2، تفسير الصافي 50:5.
3- . تفسير القمي 319:2، الكافي 71/352:1، تفسير الصافي 50:5.
4- . تفسير روح البيان 73:9.

و النّصح و غيرهما فَقٰاتِلُوا أيّها المؤمنون الطائفة اَلَّتِي تَبْغِي و تتعدّى على الطائفة الأخرى حَتّٰى تَفِيءَ و ترجع الطائفة الباغية إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ جبرا، فَإِنْ فٰاءَتْ و انقادت لحكمه قهرا، من وجوب كفّ اليد عن قتال المؤمنين، و التحذّر عن البغي عليهم، فاذا انصرفوا عن القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ و الانصاف، و احسموا مادة النزاع و الفساد بإجراء حكم اللّه، و إحقاق حقّ المظلوم، و منع الظالم عن ظلمه، على كتاب اللّه و سنّة نبيه.

و لمّا كان بعد القتال مظنّة الحقد و الحيف، قيّد الصّلح بالعدل، و أكّده بقوله تعالى: وَ أَقْسِطُوا و اعدلوا في هذا الأمر و سائر الأمور إِنَّ اللّٰهَ عادل يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ و العادلين.

عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنّ النبي مرّ يوما على ملأ من الأنصار، فيهم عبد اللّه بن أبي المنافق، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله راكب على حماره، فوقف عليهم يعظهم، فبال حماره - أو راث - فأمسك عبد اللّه بن أبي بأنفه، و قال: نحّ عنا نتن حمارك. فقد آذيتنا بنتنه، فمن جاء منّا فعظه. فسمع ذلك عبد اللّه بن رواحة، فقال: أ لحمار رسول اللّه تقول هذا؟! و اللّه إن بول حمار رسول اللّه أطيب رائحة منك. فمرّ صلّى اللّه عليه و آله، و طال الكلام بين عبد اللّه بن ابي الخزرجي المنافق، و بين عبد اللّه بن رواحة الأوسي، حتى استبّا و تجالدا، و جاء قوم كلّ منهما من الأوس و الخزرج، و تجالدوا بالعصيّ، أو بالنعال و الأيدي، أو بالسيف، فنزلت الآية، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم، فقرأها عليهم و أصلح بينهم(1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل: من هو؟ قال: خاصف النّعل - يعني أمير المؤمنين عليه السّلام - فقال عمّار بن ياسر: قاتلت بهذه الراية مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا، و هذه الرابعة، و اللّه لو ضربونا حتى يبلغوننا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على الحقّ، و أنّهم على الباطل. و كانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه السّلام ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أهل مكّة يوم فتح [مكة]»(2).

عن الصادق عليه السّلام: «إنّما جاء تأويل الآية يوم البصرة، و هم أهل هذه الآية، و هم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان الواجب قتالهم و قتلهم حتى يفيئوا إلى أمر اللّه». إلى أن قال: «فكان الواجب على أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعدل فيهم، حيث كان ظفر بهم، كما عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أهل مكّة، إنّما منّ و عفا، و كذلك صنع أمير المؤمنين بأهل البصرة»(3).

ص: 13


1- . تفسير روح البيان 74:9.
2- . تفسير القمي 321:2، الكافي 2/11:5، التهذيب 230/137:6، تفسير الصافي 50:5.
3- . الكافي 202/180:8، تفسير الصافي 51:5.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين إلى الاصلاح بين المقاتلين و المنازعين منهم بقوله:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فقط إِخْوَةٌ و أشخاص متحابّون، كالمنتسبين إلى أب واحد و ام واحدة.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يشتمه، و من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته، و من فرّج [عن] مسلم كربة فرّج اللّه عنه بها كربة من كربات يوم القيامة، و من ستر مسلما ستره اللّه يوم القيامة»(1).

عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن أخو المؤمن لأبيه و امّه، لأنّ اللّه خلق المؤمنين من طينة الجنان، و أجرى في صوركم من ريح الجنة»(2).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن تفسير هذا الحديث: «المؤمن ينظر بنور اللّه» فقال: «إنّ اللّه خلق المؤمنين من نوره، و صبغهم في رحمته، و أخذ ميثاقهم لنا بالولاية على معرفته يوم عرّفهم نفسه، فالمؤمن أخ المؤمن لأبيه و امّه، أبوه النور، و امّه الرحمة، و إنّما ينظر بذلك النور الذي خلق منه»(3).

أقول: يمكن أن يكون وجه آخر لاخوّتهم، و هو أن ولادتهم الايمانية من الرسول و الوصي عليهما السّلام، كما قال: «أنا و عليّ أبوا هذه الامّة»(4).

و عنه عليه السّلام: المؤمن أخ المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه و لا يظلمه و لا يعيبه، و لا يعده عدة فيخلفه(5).

ثمّ رتّب سبحانه على أخوّتهم ما هو من لوازمها، و هو كون كلّ منهم مجدّا في تحصيل صلاح الآخر بقوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و ارفعوا التنازع منهم، و حصّلوا التوادّ و الرحمة فيهم وَ اتَّقُوا اللّٰهَ في جميع الامور التي منها ما امرتم به من الاصلاح و إيجاد التراحم بين المؤمنين لَعَلَّكُمْ من قبل ربّكم تُرْحَمُونَ على إحسانكم بهم و تقواكم من اللّه.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ (11) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان وظيفة المؤمنين بالنسبة إلى الظالم و المظلوم منهم، و وجوب إحقاق حقّ المظلوم، نهى عن إهانة المؤمن بذكر ما يوجب وهنه و تحقيره بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اعلموا

ص: 14


1- . مجمع البيان 200:9، تفسير روح البيان 78:9.
2- . الكافي 7/133:2، و تفسير الصافي 51:5، عن الباقر عليه السّلام.
3- . بصائر الدرجات: 2/100، تفسير الصافي 51:5.
4- . سعد السعود: 275، تفسير الصافي 52:5.
5- . الكافي 3/133:2، تفسير الصافي 51:5.

أنّ من وظائف الإيمان أن لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ و جمع من رجالكم مِنْ قَوْمٍ و جمع آخرين منهم، و يستهزئ بعضكم ببعض عَسىٰ و يرجى أَنْ يَكُونُوا اولئك المسخورون و المستهزءون بهم(1) أفضل من الساخرين، و خَيْراً مِنْهُمْ و أقرب عند اللّه وَ لاٰ تسخر نِسٰاءٌ منكم مِنْ نِسٰاءٍ أخر منكم، و لا تستهزئ بعض المؤمنات ببعض آخر عَسىٰ و يرجى أَنْ يَكُنَّ اولئك المسخورات و المستهزءات بهنّ(2) أفضل من الساخرات و المهزّءات(3) و خَيْراً مِنْهُنَّ عند اللّه، فانّ ملاك القرب و البعد عند اللّه مستور عنكم، ليس ممّا يظهر من الأشكال و الصّور، و لا الأوضاع و لا الأطوار التي يدور عليها أمر السّخرية غالبا، فليس لأحد أن يحقّر أحدا، فيكون قد حقّر من عظمة اللّه، و أهان من وقره اللّه، كإبليس الذي حقّر آدم فحقّره اللّه و طرده من رحمته، و لذا روي: أنّ اللّه تعالى قال: «أوليائي تحت قبابي، لا يعرفهم غيري»(4).

و إنّما لم يذكر سبحانه سخرية الرجال للنساء و بالعكس، لأنّهما نادران(5) و يحتمل أنّه تعالى أراد من (يكون) معنى (يصير) فالمعنى: أن يصيروا خيرا منهم، و يصرن خير منهنّ، فانّ الغنيّ الذي يستهزئ بالفقير لفقره، يحتمل ان يصير الغني المهزّئ(6) فقير، و يصير الفقير المهزّأ به(7) غنيا، و هكذا.

عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس، كان في اذنه و قرأ، فكان إذا أتى مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وسّعوا له حتى يجلس إلى جنبه، يسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم و قد فاتته ركعة من صلاة الفجر، فلمّا انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله من الصلاة اقبل نحو رسول اللّه يتخطّى رقاب الناس و هو يقول: تفسّحوا تفسّحوا، فجعلوا يتفسّحون حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينه و بينه رجل، فقال له: تفسّح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال له الرجل: إنا فلان بن فلان ؟ فقال: بل أنت ابن فلانة، يريد أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية، فخجل الرجل، و نكّس رأسه، فأنزل اللّه هذه الآية(8).

و روي أنّ عائشة قالت: إنّ امّ سلمة جميلة لو لا أنّها قصيرة(9).

و عن القمي: أنّها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أن عائشة و حفصة كانتا تؤذيانها و تشتمانها، و تقولان لها: يا بنت اليهودية، فشكت ذلك إلى رسول اللّه، فقال:

«أ لا تجيبيهما؟» فقالت: بما ذا يا رسول اللّه ؟ قال: قولي إنّ أبي هارون نبي اللّه، و عمّي موسى كليم اللّه، و زوجي محمد رسول اللّه، فما تنكران منّي ؟!» فقالت لهما، فقالتا: هذا ما علّمك رسول اللّه. فأنزل اللّه

ص: 15


1- . كذا، و الصواب: المسخور منهم، و المستهزأ بهم.
2- . كذا، و الصواب: المسخور منهنّ، و المستهزأ بهنّ.
3- . كذا، و الصواب: المستهزءات.
4- . تفسير روح البيان 80:9.
5- . في النسخة: نادر.
6- . كذا، و الصواب: المستهزئ.
7- . كذا، و الصواب: المستهزأ به. (8و9) . تفسير روح البيان 80:9.

في ذلك: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ. .. الآية(1).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ (11) ثمّ نهى سبحانه عن إيذاء المؤمنين و المؤمنات بالقول بقوله: وَ لاٰ تَلْمِزُوا و لا تعيبوا غيركم من المؤمنين، أو لا تطعنوهم فكأنّهم تعيبون أَنْفُسَكُمْ لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، فما يصيب واحدا منهم كأنّه يصيب جميعهم.

و قيل: إنّ المعنى لا تعيبوا غيركم، فانّه يكون سببا لأن يبحث من عبتموه عن عيوبكم فيعيبكم، فبالتعييب عبتم أنفسكم(2).

و قيل: إنّ المراد لا تفعلوا ما تعيبون به، فكأنّكم تعيبون أنفسكم(3).

وَ لاٰ تَنٰابَزُوا و لا يدعوا غيركم من المؤمنين بِالْأَلْقٰابِ السوء بِئْسَ الاِسْمُ و ساء الذكر المرتفع بين الناس اَلْفُسُوقُ و الذكر الذي يخرج المذكور من الايمان بَعْدَ كونهم داخلين في اَلْإِيمٰانِ.

في ذكر بعض

مطاعن عائشة

و حفصة

روت العامة أنّ الآية نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكية، فقالت: إنّ عائشة قالت لي: يا يهودية بنت اليهوديين، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هلا قلت إن أبي هارون، و عمّي موسى، و زوجي محمد؟!»(4).

أقول: انظروا إلى هذه البذيّة، كيف يطهّرها العامة من الذنوب و العيوب، و يفضّلونها على فاطمة المعصومة، ليت الرسول علّمها أن تقول لها: يا مشركة بنت المشركين، و في الحديث «من عيّر مؤمنا بذنب تاب منه» كان حقا على اللّه أن يبتليه به، و يفضحه بين الناس»(5).

أقول: قد حقّق مضمون الحديث في عائشة، فانّها عيّرت صفية بكفرها، فابتلاها اللّه بالقتال مع عليّ عليه السّلام الذي كان نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و هو كفر، أو بمنزلة الكفر.

ثمّ حثّ سبحانه الناس على التوبة من تلك المنهيات التي كلّها ظلم على المؤمنين بقوله: وَ مَنْ ارتكب تلك المعاصي و لَمْ يَتُبْ إلى اللّه تعالى منها فَأُولٰئِكَ العصاة هُمُ الظّٰالِمُونَ على ربّهم بخروجهم عن طاعته، و كفران نعمته، و تضييع حقوقه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك

ص: 16


1- . تفسير القمي 321:2، تفسير الصافي 52:5.
2- . تفسير الرازي 132:28.
3- . تفسير الرازي 132:28، تفسير روح البيان 81:9.
4- . تفسير روح البيان 82:9.
5- . تفسير روح البيان 82:9.

و العذاب.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ (12) ثمّ علّم سبحانه المؤمنين أدب العشرة بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا و احترزوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بالرسول و بالمؤمنين، و ابعدوا أنفسكم من الحسبان السوء، و الحسبان الذي لا تعلمون أنه حسن أو سيء، و هو كثير، و في مقابلة الظنّ الذي تعلمون أنّه حسن، و هو بالنسبة إلى غيره قليل، و ذلك إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ بهم، و هو ظنّ السوء إِثْمٌ و حرام تتبعه عقوبة و عذاب، فعليكم الاحتياط و التروّي حتى تعلموا من أي القبيل من الظنّ سوء أو حسن.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال «ظنّوا بالمؤمن خيرا»(1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك(2) منه، و لا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا، و أنت تجد لها في الخير محملا»(3).

وَ لاٰ تَجَسَّسُوا و لا تفتّشوا عن معايبهم المستورة، و زلاّتهم الخفية، و لا تبحثوا عن عوراتهم.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فانّه من تتبّع عثرات أخيه تتبّع اللّه عثرته، و من تتبّع اللّه عثرته يفضحه و لو في جوف بيته»(4). و رواه بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(5).

و رووا أن جبرئيل قال: يا محمد، لو كانت عبادتنا على وجه الأرض، لعملنا ثلاث خصال: سقي الماء للمسلمين، و إعانة أصحاب القتال، و ستر الذنوب على المسلمين(6).

في ذكر بعض

مطاعن عمر

و روى بعض العامة أنّ عمر يعسّ ذات ليلة، فنظر إلى مصباح من خلل باب، فاطّلع فاذا قوم على شراب لهم، لم يدر كيف يصنع، فدخل المسجد، فأخرج عبد الرحمن بن عوف، فجاء به إلى الباب، فنظر و قال له: كيف ترى أن نعمل ؟ فقال: أرى و اللّه أنّا قد أتينا إلى ما نهانا اللّه عنه، لأنّا تجسّسنا و اطّلعنا على عورة قوم ستروا دوننا، و ما كان لنا أن نكشف ستر اللّه. فقال عمر: ما أراك إلاّ و قد صدقت، فانصرفا(7).

ص: 17


1- . تفسير الرازي 134:28.
2- . في الكافي: يغلبك.
3- . الكافي 3/369:2، تفسير الصافي 53:5.
4- . الكافي 5/265:2، تفسير الصافي 53:5.
5- . تفسير روح البيان 86:9.
6- . تفسير روح البيان 86:9.
7- . تفسير روح البيان 87:9.

أقول: فيه طعن عظيم على عمر، حيث دلّ على أنّه أجهل الناس بأحكام الكتاب، و تكليف نفسه، و أرتكب كثيرا من المعاصي، و ليس ذلك ببعيد ممّن قال: كلّ الناس افقه من عمر حتى المخدّرات في الحجال.

وَ لاٰ يَغْتَبْ أيّها المؤمنون، و لا يذكر بالسوء بَعْضُكُمْ بَعْضاً في غيابه.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن الغيبة، فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فان كان فيه فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهتّه»(1).

في حرمة الغيبة

و أحكامها

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الغيبة، فقال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تبثّ أمرا ستره اللّه عليه، لم يقم عليه فيه الحدّ»(2).

و في رواية: «و أمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة و العجلة فلا»(3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، و من ذكره بما ليس فيه فقد بهته»(4).

و روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إياكم و الغيبة، فانّ الغيبة أشدّ من الزنا».

ثمّ قال: «إن الرجل يزني و يتوب، فيتوب اللّه عليه، و إن صاحب الغيبة لا يغفر له إلاّ أن يغفر له صاحبه». و عن ابن عباس: الغيبة أدام كلاب النار(5).

و روي «أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة، و إن لم يتب أول من يدخل النار»(6). إلى غير ذلك من الأخبار.

ثمّ شبّه سبحانه تناول عرض المؤمن بأكل لحمه بعد موته مبالغة في الزجر عنه بقوله: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ و يرغب في أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ جسد أَخِيهِ النسبي

حال كونه مَيْتاً و جيفة، و من الواضح أنكم إذا ابتليتم بأكل هذا اللحم فَكَرِهْتُمُوهُ و تنفر منه طباعكم، و اشمأزّت منه نفوسكم، و حكم بقبحه عقولكم، فكذا تناول عرض المؤمن الذي هو أخوكم في الايمان حال غيبته.

قيل: لمّا كان مجال توهّم أنّ اللّمز و النّبز حرامان، لاطلاع المؤمن عليهما و تألّمه بهما غايته، و أمّا الغيبة فلا وجه لحرمتها و قبحها، لعدم تألم المغتاب منها؛ لأنّه لا يطّلع عليها، دفعه سبحانه بأن أكل

ص: 18


1- . تفسير روح البيان 87:9.
2- . الكافي 3/266:2، تفسير الصافي 53:5.
3- . الكافي 7/267:2، تفسير الصافي 53:5.
4- . الكافي 6/266:2، تفسير الصافي 53:5.
5- . تفسير روح البيان 89:9.
6- . مصباح الشريعة: 205.

لحم الأخ الميت لا يؤلمه أيضا، مع أنّه في غاية القبح(1) ، لكونه في غاية البعد عن رعاية حقّ الأخوة(2).

و في الآية و الروايات دلالة واضحة على كونها من الكبائر، و لذا أكّد سبحانه حرمتها بقوله: وَ اتَّقُوا اللّٰهَ و احذروا عقابه في ارتكابها.

ثمّ حثّ سبحانه على التوبة منها بقوله: إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ سريع القبول لتوبة التائبين ممّا فرط منهم رَحِيمٌ بمن اتّقى ما نهى عنه، و متفضّل عليه بالثواب.

روى بعض العامة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا عزا أو سافر، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما و يتقدّمهما إلى المنزل، فيهيئ لهما طعامهما و شرابهما، فضمّ سلمان إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان إلى المنزل، فغلبته عيناه، فلم يهيّئ لهما شيئا، فلمّا قدما قالا له: ما صنعت شيئا؟ قال: لا، غلبتني عيناي. قالا له: انطلق إلى رسول اللّه و اسأله طعاما. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «انطلق إلى اسامة بن زيد، و قل له إن كان عنده فضل من الطعام فليعطك» و كان اسامة خازن رسول اللّه على رحله و طعامه، فأتاه فقال له اسامة: ما عندي شيء، فرجع سلمان إلى الرجلين فأخبرهما، فقالا: كان عند اسامة شيء، و لكن بخل به، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلمّا رجع قالوا: لو بعثناه إلى بئر سميحة(3) لغار ماؤها ثمّ انطلقا إلى اسامة يتجسّسان هل عنده ما أمر لهما به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الطعام، فلمّا جاءا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لهما: «ما لي أرى خرة اللحم في أفواهكما؟» قالوا: و اللّه يا رسول اللّه، ما تناولنا يومنا هذا لحما؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «ظللتما تأكلان لحم اسامة و سلمان» فأنزل اللّه الآية(4).

و قد عيّن الرجلين في رواية (الجوامع) فانّه روى أنّ أبا بكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى اسامة بن زيد، و كان خازن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رحله، فقال: ما عندي فعاد إليهما فقالا: بخل اسامة، و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثمّ انطلقا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لهما: «ما لي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما» قالا: يا رسول اللّه، ما تناولنا اليوم لحما. قال:

«ظللتم تفكّهون لحم سلمان و اسامة» فنزلت(5).

و عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم و صدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: هم الذين يأكلون لحوم الناس، و يقعون في

ص: 19


1- . في النسخة: الفتح.
2- . تفسير الرازي 135/28.
3- . سميحة: بئر بالمدينة غزيرة الماء.
4- . تفسير روح البيان 88:9.
5- . جوامع الجامع: 459، تفسير الصافي 54:5.

أعراضهم»(1) فظهر من ذلك أنّه لا يحرم ذكر مساوئ غير المؤمن و غير المميّز، بل غير البالغين، لانصراف الأخ في الآية و الأخبار إليهم، و إن الاحتراز أحوط، و كذا غير المتستّرين، فمن كان عيبه ظاهرا، أو بفسقه متجاهرا فلا غيبة له في عيوبه الظاهرة، و ما تجاهر به لتوصيف المذكور بما ستره اللّه عليه، و لمّا روي «أنّ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له»(2). بل إطلاق الرواية تدلّ على جواز غيبة المتجاهر بفسق في غير ما تجاهر به.

و كما أنّه تحرم الغيبة يحرم استماعها، لما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «المغتاب و المستمع شريكان في الاثم»(3).

و الظاهر منه و من غيره من الأخبار أنّ ذكر عيب شخص لا يكون غيبة إذا لم يكن له مستمع، فانّ الظاهر من الأدلة حرمة كشف العورة و هتك ما ستره اللّه، و منه يظهر اشتراط كون المغتاب بالفتح معروفا عند المستمع، فانّ ذكر عيبه لا يكون كشفا للمستور، إلاّ إذا كان معروفا بالتفصيل أو بالاجمال في المحصورين كالاثنين و الثلاث و نظائرهما، و كذا عدم اختصاصه بالذكر باللسان، بل يعم ذلك و الكتابة و الاشارة، و لا بالتصريح بل تعمّ التعريض و الكناية، و لا يعتبر في حرمتها قصد الازراء و التنقيص و الذمّ. نعم، إذا صدرت بتلك المقصود، كانت حرمتها أشدّ و آكد، و كذا لا فرق بين كون العيب المذكور في بدنه أو خلقه أو نسبه أو فعله أو قوله أو دينه أو امور دنياه حتى ثوبه أو داره، كلّ ذلك إذا لم يكن ظاهرا مكشوفا لمن رآه، أو للمستمع.

و إذا احتمل المستمع جواز الغيبة في حقّ المغتاب بالكسر، لظهور العيب أو للتجاهر أو لكونه مظلوما أو غير ذلك، كان عليه حمل فعله على الصحة و الجواز، فلا يحرم عليه استماعها، لتلازم جواز الغيبة و جواز استماعها، و كذا العكس، و إنّما صدّر الآية بالخطاب للمؤمنين تنبيها على أنّ امتثال الأحكام المذكورة من لوازم الايمان.

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن سوء الظّن بالمؤمنين و تنقيصهم بالظّن فضلا عن الشكّ و الترديد، و كان مجال أن يقول أحد: إذا ظننّا بهم سوء ان نتفحّص عن واقع أمرهم حتى نتيقّن بما ظننّا، ثمّ نقول فيهم باليقين، نهى سبحانه عن التجسّس و التفحّص عن معايبهم و زلاّتهم، و تحصيل العلم بها، ثمّ نهى عن ذكر ما علم اتفاقا أو حصّله عصيانا.

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا

ص: 20


1- . تفسير روح البيان 89:9.
2- . تفسير روح البيان 90:9.
3- . تفسير روح البيان 89:9.

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

ثمّ لمّا كان الاستهزاء بالغير و لمزه و نبزه و اغتيابه لتحقيره و التفاخر عليه، بيّن سبحانه أنّه لا تفاوت بين الناس في الشرف و الرفعة إلاّ من حيث الايمان و التقوى الذي أمر به بقوله:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ و أولدناكم مِنْ ذَكَرٍ و هو آدم وَ أُنْثىٰ و هي حوّاء، فليس لأحد أن يفتخر على أحد بالنسب؛ لأنّ جميعكم أبناء رجل و أب واحد، و امرأة و امّ واحدة.

و قيل: إنّ المراد من الذّكر الأب المتّصل، و من الانثى الامّ المتصلة، و المقصود أنّ كلّكم في الخلق سيّان، و من جنس واحد، حيث إنّ كلّ واحد منكم ولدكما ولد غيره، و خالقه خالق غيره، فلا مزيّة لأحد على أحد في أصله(1).

وَ جَعَلْنٰاكُمْ و صيّرناكم شُعُوباً و جماعات عظماء منتسبين إلى أب واحد وَ قَبٰائِلَ و طوائف منشعبة من كلّ شعب.

قيل: إنّ الشعوب جماعات لا يدري من يجمعهم كالعجم، و القبائل جماعات منتسبون إلى أب واحد معلوم كالعرب(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «الشعوب العجم، و القبائل العرب»(3).

و قيل: إنّ الشعوب داخلة في القبائل، فانّ القبيلة تحتها شعوب، و الشعوب تحتها بطون(4).

و إنّما كان ذلك الجعل لِتَعٰارَفُوا و يعرف بعضكم بعضا بحسب الأنساب، لا لتفاخروا بالآباء و القبائل، و تدّعون الشرف و التفاضل.

و قيل: لا لتناكروا بالسّخرية و اللّمز و النّبز و الغيبة، فانّ كلّ واحد منها يؤدّي إلى التناكر(5).

في فضيلة التقوى

و قيل: إنّ المعنى إنّا خلقناكم من ذكر و انثى لتعبدوا، و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا(6).

و اعلموا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ و اعلاكم شأنا عِنْدَ اللّٰهِ و في نظره أَتْقٰاكُمْ و أعلمكم بطاعته، و إن كان عبدا حبشيا.

روي أنّها نزلت حين أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بلالا بعد فتح مكّة ليؤذّن، فعلا ظهر الكعبة. فاذّن، فقال عتّاب بن اسيد، و كان من الطّلقاء: الحمد للّه الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، و لم يسمع هذا الصوت.

ص: 21


1- . تفسير الرازي 137/28، تفسير روح البيان 90/9.
2- . تفسير الرازي 138:28.
3- . تفسير القمي 322:2، و تفسير الصافي 54:5، و لم ينسباه إلى أحد.
4- . تفسير الرازي 138:28.
5- . تفسير الرازي 138:28.
6- . تفسير الرازي 138/28.

و قال الحارث بن هشام: أ ما وجد رسول اللّه سوى هذا الغراب الأسود(1).

و قيل: إنّ الآية نزلت في أبي هند من الصحابة، حين أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني بياضة أن يزوّجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللّه، نزوّج بناتنا موالينا(2).

و روي أنّ رسول اللّه مرّ في سوق المدينة، فرأى غلاما أسود يباع، و هو يقول: من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول اللّه: فاشتراه رجل، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراه عند كلّ صلاة فقعده فسأل عنه صاحبه، فقال: هو محموم فعاده، ثمّ سأل عنه بعد أيام فقيل! هو مشرف على الموت، فجاءه و هو في بقية حركة، فتولّى غسله و دفنه، فدخل على المهاجرين و الأنصار أمر عظيم، فنزلت(3).

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال يوم فتح مكّة: «إنّ اللّه قد أذهب عنكم بالاسلام نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها، إنّ العربية ليست بأب والد، و إنّما هو لسان ناطق، فمن تكلّم به فهو عربي، إلاّ أنكم من آدم، و آدم من التراب، و إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ ربّكم واحد، و أبوكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، و لا لعجمي على عربي، و لا أحمر على اسود، و لا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى»(5).

و إنّما ذكر سبحانه من أسباب التفاخر الدنيوي النسب، مع أن أسبابه كثيرة كالمال و الأولاد و غيرهما، لأنّ النسب أعلاها من حيث أنّه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل بخلاف غيره؛ و لأنّه كان بين العرب من أعظم أسباب الافتخار، و كان دأبهم الشائع الافتخار به.

روي أنّه سئل عيسى عليه السّلام: أي الناس أشرف ؟ فقبض قبضتين من التراب، ثمّ قال: أي هذين أشرف ؟ ثمّ جمعهما فطرحهما، و قال: الناس من تراب، و أكرمهم عند اللّه أتقاهم(6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «يقول اللّه يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه، و رفعتم أنسابكم، اليوم أرفع نسبي و أضع أنسابكم، أين المتّقون ؟ إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(7).

و عن أبي هريرة: أنّ الناس يحشرون يوم القيامة، ثمّ يوقفون، ثمّ يقول اللّه لهم: طالما كنتم تكلّمون و أنا ساكت، فاسكتوا اليوم حتى أتكلّم، إنّي رفعت نسبي و أبيتم إلاّ أنسابكم، قلت إنّ أكرمكم أتقاكم، و أبيتم أنتم، و قلتم: لا بل فلان بن فلان و فلان بن فلان، فرفعتم أنسابكم، و وضعتم نسبي، فاليوم أرفع

ص: 22


1- . تفسير روح البيان 90:9.
2- . تفسير روح البيان 90:9.
3- . تفسير روح البيان 91:9.
4- . تفسير القمي 322:2، تفسير الصافي 54:5.
5- . تفسير روح البيان 91:9.
6- . تفسير روح البيان 91:9.
7- . مجمع البيان 207:9، تفسير الصافي 54:5.

نسبي، و أضع أنسابكم، سيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتّقون(1).

و عن الصادق، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: اتقى الناس من قال الحقّ فيما له و عليه»(2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ قال: «أعملكم بالتقية»(3).

إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ بأنسابكم و أعمالكم خَبِيرٌ ببواطنكم و ضمائركم، لا يخفى عليه إسراركم.

قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لاٰ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمٰالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ثمّ لمّا كان التقوى متوقّفا على الايمان الراسخ في القلب بالتوحيد و رسالة الرسول، ردّ اللّه سبحانه دعوى مدّعى الايمان مع كون إيمانهم صوريا بقوله:

قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ و سكنة البوادي لك: آمَنّٰا بتوحيد اللّه و رسالتك قُلْ يا محمد لهم ردّا عليهم: لَمْ تُؤْمِنُوا عن صميم القلب، فلا تقولوا:

آمنا وَ لٰكِنْ لمّا أسلمتم و أظهرتم الشهادتين باللسان، و تركتم المقاتلة: قُولُوا أَسْلَمْنٰا و دخلنا في السلم و الانقياد مخافة أنفسنا و أعراضنا. كيف تقولون آمنا وَ الحال أنّه لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ بعد فِي قُلُوبِكُمْ و ما باشر اليقين بالتوحيد و رسالة الرسول أفئدتكم.

قيل: نزلت في نفر من بني أسد، قدموا المدينة في سنة جدب، فأظهروا الشهادتين، و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، و أتيناك باثقالنا و عيالنا و ذرارينا، و لم نقاتلك كما قاتلت بنو فلان، يريدون الصدقة(4) ، و يمنّون عليه ما فعلوا(5).

في بيان الاختلاف

في الفرق بين

الايمان و الاسلام

أقول: ذهب بعض العامة إلى أنّه لا فرق بين الاسلام و الايمان(6) ، و قال بعضهم:

الإسلام أعمّ من الايمان، فانّ الايمان لا يحصل إلاّ في القلب، و الاسلام يحصل باللسان(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «الايمان: هو الاقرار باللسان، و عقد القلب، و عمل بالاركان» إلى أن قال: «فقد

ص: 23


1- . تفسير روح البيان 92:9.
2- . من لا يحضره الفقيه 836/282:4، تفسير الصافي 55:5.
3- . اعتقادات الصدوق: 108، تفسير الصافي 55:5.
4- . في تفسير روح البيان: يرون الصدق.
5- . تفسير أبي السعود 123:8، تفسير روح البيان 92:9.
6- . تفسير الرازي 141:28.
7- . تفسير الرازي 142:28.

يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا، و لا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالاسلام قبل الايمان، و هو يشارك الايمان» الخبر(1).

و عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «الاسلام علانية، و الايمان في القلب» و أشار إلى صدره(2).

و في رواية: «الاسلام: هو الظاهر الذي عليه الناس، و هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حجّ البيت، و صيام شهر رمضان، فهذا الاسلام و الايمان: معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر، كان مسلما، و كان ضالا»(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الاسلام قبل الايمان، و عليه يتوارثون و يتناكحون، و الايمان عليه يثابون»(4) و لذا قال سبحانه: وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ عن الايمان الخالص و ترك النفاق لاٰ يَلِتْكُمْ و لا ينقصكم مِنْ اجور أَعْمٰالِكُمْ و ثوابها شَيْئاً يسيرا.

و قيل: إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الأعمال الحسنة المقرونة بالاخلاص و ترك النفاق، فهو تعالى يأتكم بما يليق بفضله من الجزاء، لا ينقص منه شيئا، نظرا إلى ما في حسناتكم من النّقصان و التقصير(5).

إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ و ستّار لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بهم و متفضّل عليهم بالثواب العظيم.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللّٰهَ بِدِينِكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ بَلِ اللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (17) إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (18) ثمّ وصف سبحانه حقيقة الايمان إرشادا للأعراب القائلين: آمنا بقوله:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذين يحقّ منهم دعوى الايمان، و يصدقون في دعواه، هم اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ بالتوحيد و الرسالة ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا و لم يشكّوا بسبب تشكيك المشكّك، و لم يختلج

ص: 24


1- . الكافي 1/23:2، تفسير الصافي 55:5.
2- . مجمع البيان 208:9، و تفسير الصافي 56:5، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.
3- . الكافي 4/20:2، تفسير الصافي 55:5.
4- . الكافي 4/132:1، تفسير الصافي 55:5.
5- . تفسير روح البيان 93:9.

ببالهم كذب الرسول في دعوى الرسالة و فيما أخبر عن اللّه وَ جٰاهَدُوا الكفّار و المنافقين بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وفدوهما فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و طلبا لمرضاته و ترويج شريعته أُولٰئِكَ الموصوفون بتلك الصفات الجليلة بِأَمْوٰالِهِمْ بالخصوص اَلصّٰادِقُونَ في دعوى الايمان لا غيرهم.

قيل: لمّا نزلت الآية جاءت الأعراب، و حلفوا أنّهم مؤمنون صادقون، فنزل (1)

قُلْ يا محمد لهم ردا عليهم: أيّها الأعراب أَ تُعَلِّمُونَ اللّٰهَ و تخبرونه بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه بقولكم: آمنا وَ اللّٰهُ باحاطته بجميع الموجودات و كلّ مخلوقاته يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ جليل و حقير، خفيّ أو أخفى عَلِيمٌ فكيف تخفى عليه ضمائركم حتى يحتاج في الاطّلاع عليها إلى إخباركم ؟! و فيه توبيخ لهم على اجتهادهم في إخفاء نفاقهم.

ثمّ لمّا أظهر الأعراب المنّة على الرسول بإسلامهم ن حيث قالوا: إنا أتيناك بأثقالنا و عيالنا و ذرارينا و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، و كان قولهم ذلك في غاية القبح و الشناعة، وبّخهم اللّه سبحانه عليه بقوله:

يَمُنُّونَ هؤلاء الأعراب، و يظهرون التفضّل عَلَيْكَ يا محمد أَنْ أَسْلَمُوا و حسبوا بجهلهم أنّ إسلامهم نعمة عليك قُلْ يا محمد لهؤلاء الجهّال: لاٰ تَمُنُّوا و لا تعدّوا النعمة عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ الظاهري المقرون بالنفاق، لأنّه ليس بنعمة عليّ، و لا منّة لي عليكم بدعوتكم إليه، لأنّي عملت بوظيفة رسالتي من قبل ربّي بَلِ اللّٰهُ المنّان يَمُنُّ و يتفضّل عَلَيْكُمْ بأعظم النّعم، و هو أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ و أرشدكم إليه بتبليغي و دعوتي، و وفّقكم لقبوله إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في دعوى الايمان.

عن القمي رحمه اللّه: أنّها نزلت في عثمان يوم الخندق، و قد ارتفع الغبار من الحفرة، فوضع عثمان كمّه على أنفه، فقال عمار:

لا يستوي من يعمر المساجدا فيصلي(2) فيها راكعا و ساجدا

و من يمرّ بالغبار حائدا يعرض عنه جاحدا معاندا

فالتفت عثمان إليه، و قال: يا ابن السوداء، إياي تعني ؟ ثمّ أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: لم ندخل معك لتسبّ أعراضنا؟ فقال رسول اللّه: «قد أقلتك إسلامك» فأنزل اللّه تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (3).

ثمّ أكّد اللّه سبحانه علمه بالمغيبات التي منها ما في ضمائر الناس من اعتقاد حقّانية الاسلام و عدمه

ص: 25


1- . تفسير روح البيان 96:9.
2- . كذا، و الظاهر: يصلّي.
3- . تفسير القمي 322:2، تفسير الصافي 56:5.

بقوله:

إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ بذاته غَيْبَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و خفياتها التي لا يعلم بها غيره أحد، فكيف يخفى عليه إسراركم و ما في ضمائركم من الكفر و الايمان وَ اللّٰهُ بَصِيرٌ بغير جارحة بِمٰا تَعْمَلُونَ بجوارحكم من الخيرات و الشرور و الطاعة و العصيان.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو كلّ يوم، كان من زوّار محمد صلّى اللّه عليه و آله»(1).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 26


1- . ثواب الاعمال: 115، مجمع البيان 193:9، تفسير الصافي 57:5.

في تفسير سورة ق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقٰالَ الْكٰافِرُونَ هٰذٰا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الحجرات ببيان منّة الأعراب على النبي صلّى اللّه عليه و آله باسلامهم الدالّ على عدم إيمانهم برسوله و كتابه و اليوم الآخر، نظمت بعدها سورة (ق) المبتدئة ببيان عظمة القرآن و جلالته، و بيان رسالة رسوله و أدلّة التوحيد، و تهديد مكذّبي رسوله بما نزل على الامم الماضية من العذاب، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذكر حرف

ق جلبا لتوجّه القلوب إلى ما يرد عليها فلا يفوتها حلاوة الكلمات الرائقة، و فهم المعاني الفائقة، و قدّ مرّ أنّ تلك الحروف رموز.

عن ابن عباس: هو اسم من اسماء اللّه، أقسم اللّه به(1).

و قيل: هو رمز عن كلّ اسم من الأسماء الحسنى المصدّرة بالقاف، كالقادر و القدير و القديم و القاهر و القهّار و القائم بالقسط و القاضي بالحقّ و القريب و القابض(2) و القدّوس نحوها(3) ، فانّ العرب قد ترمز عن كلمة بحرف.

و قيل: هو قسم بقوة قلب حبيبه(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا ق فهو جبل محيط [بالأرض] و خضرة السماء منه، و به يمسك اللّه الارض أن تميد بأهلها»(5).

و قال جمع من العامة: هو جبل محيط بالأرض كاحاطة بياض العين بسوادها، و هو أعظم جبال الدنيا، خلقه اللّه من زمرّد أخضر، أو زبرجد أخضر، منه خضرة السماء، و السماء ملتزقة به، و ليس

ص: 27


1- . تفسير روح البيان 99:9.
2- . في تفسير روح البيان: و القهّار و القريب و القابض و القاضي.
3- . تفسير روح البيان 99:9.
4- . تفسير روح البيان 100:9.
5- . معاني الاخبار: 1/22، تفسير الصافي 58:5.

مدينة من المدائن أو قرية من القرى إلاّ و فيها عرق من عروقه، و ملك موكّل به، واضع يديه على تلك العروق، فاذا أراد اللّه بقوم هلاكا أوحى إلى ذلك الملك فحرّك عرقا، فخسف بأهلها، و الشياطين ينطلقون إلى ذلك الزّبرجد، فيأخذون منه، فيبثّونه في الناس(1) ، و نسب ذلك القول إلى ابن عباس(2).

و الظاهر أن حرف (ق) رمز من كلمة قاف التي هي اسم للجبل، فلا يرد اعتراض الفخر الرازي أنّه لو كان اسما للجبل لكتب (قاف) بالألف و الفاء(3).

ثمّ عظّم القرآن بالحلف به و توصيفه بالعظمة بقوله: وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ و الكتاب العظيم لعظم فوائده و كونه من اللّه العظيم، و آية عظمته حيث عجز الخلق عن الإتيان بمثله.

و قيل: إنّ المجيد بمعنى الكريم، و توصيفه بكثرة الكرم، لأنّه لا يطلب أحد مقصودا منه إلاّ وجده، و لا يتمسّك به محتاج إلاّ أغناه(4). و إنّما لم يذكر قبل (ق) أداة القسم، قيل: لوكالة(5) دخول الحرف على الحرف(6).

و حاصل المفاد أقسم بالجبل العظيم الذي به بقاء دنياكم، و بالقرآن الذي به بقاء دينكم، أنّ محمدا رسول منذر من جانب اللّه، و العجب أنّ قريشا أنكروا رسالته مع دلالة المعجزات الباهرات على صدقه، و لم يكتفوا بالانكار

بَلْ عَجِبُوا لخبث ذاتهم و قلّة عقولهم من أَنْ جٰاءَهُمْ رسول مُنْذِرٌ مع كونه رجلا مِنْهُمْ يأكل الطعام، و يمشي في الأسواق، و ليس من جنس الملائكة فَقٰالَ اولئك اَلْكٰافِرُونَ لنعم ربّهم بعضهم لبعض عنادا و لجاجا: هٰذٰا الأمر الذي يدّعيه محمد من رسالته مع كونه بشرا شَيْءٌ عَجِيبٌ يحقّ أن يتعجّب منه، مضافا إلى أنه يقول بما لا يقبله العقلاء من أنّا نحيا بعد موتنا مرّة اخرى، أنصفوا أيّها العقلاء

أَ إِذٰا مِتْنٰا و اقبرنا وَ كُنّٰا بعد سنين تُرٰاباً نرجع إلى ما كنّا عليه من الحياة ؟ لا يكون ذلك أبدا، لأنّ ذٰلِكَ الرجوع الذي يدّعيه محمد رَجْعٌ و ردّ بَعِيدٌ عن العادة أو الإمكان و الصدق، لاختلاط أجزاء الموتى عند صيرورتهم ترابا بعضها ببعض، و عدم تميّز أجزاء كلّ ميت عن أجزاء الآخرين، فكيف يمكن جمعها و إعادة خلق كلّ ميت من أجزائه التي كانت له حال حياته ؟!

قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمٰاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا

ص: 28


1- . تفسير روح البيان 101:9.
2- . تفسير الجامع للقرطبي 2:17.
3- . تفسير الرازي 147:28.
4- . تفسير الرازي 148:28.
5- . كذا، و الظاهر: لركاكة.
6- . تفسير الرازي 146:28 فيه اشارة إلى هذا.

وَ زَيَّنّٰاهٰا وَ مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ (6) ثمّ ردّ سبحانه استبعادهم بأنّ عدم تميّز الأجزاء إنّما هو عندكم، لقصور علمكم، و أمّا نحن فانّا

قَدْ عَلِمْنٰا و ميّزنا كلّ ذرة من تراب مٰا تَنْقُصُ و تأكل اَلْأَرْضُ من أجزاء كلّ جسد مِنْهُمْ و تصيّر من لحومهم و عظامهم و تغيّرنا ترابا مع التفرّق في اقطارها و تخومها، و اختلاط بعضها مع بعض وَ مع ذلك عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ و مصون من الغلط و التغيير و السهو، فيه تفاصيل الأشياء كلّها جزءا جزءا، و هو اللوح المحفوظ.

و قيل: إنّ المراد تمثيل علمه تعالى بعلم من عنده كتاب مضبوط فيه تفاصيل جميع الموجودات في العالم(1) ، يعلم الناظر فيه بخصوصيات كلّ ذرّة منها، بحيث لا يشتبه عليه جزء بجزء، فكيف يستبعد ممّن كان علمه بهذه السّعة و الكمال رجعهم و إعادتهم أحياء؟ لا و اللّه ليس الإعادة عندهم بذلك البعيد

بَلْ كَذَّبُوا عنادا و لجاجا بِالْحَقِّ و رسالة محمد الثابتة بالمعجزات الباهرات، أو القرآن الثابت كونه كلام اللّه باشتماله على وجوه من الإعجاز لَمّٰا جٰاءَهُمْ من غير تفكّر و تأمّل في براهين صدقه فَهُمْ كائنون فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ قيل: إنّ المراد في رأي مختلف و قول مختلط، حيث قالوا تارة إنّه شاعر أو شعر، و تارة إنّه كاهن أو كهانة(2).

و قيل: يعني في حال مضطرب، فانّهم تارة يظهرون الشكّ في صدقه، و تارة يظهرون الظنّ بكذبه، و يتعجّبون من دعوته، و تارة يظهرون الجزم بكذبه(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال استبعادهم بقوله: قَدْ عَلِمْنٰا إلى آخره، استبعد منهم ذلك الاستبعاد مع ظهور قدرته بقوله:

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا قيل: إنّ التقدير أ كان المنكرون للبعث عميانا فلم ينظروا نظرا منهيا (4)إِلَى السَّمٰاءِ و هي ظاهرة عندهم غير غائبة عنهم حيث إنّها فَوْقَهُمْ فيروا أنّا كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا و رفعناها مع عظمتها بغير عمد؟! و من المعلوم أنّ بناءها أصعب من نباء أساس أبدانهم وَ كيف زَيَّنّٰاهٰا بزينة الكواكب مع أنّ تزيينها أصعب و أكمل من تزيين أبدانهم باللحم و الجلد و السمع و البصر وَ الحال أنّه مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ و فتوق و مسام و خلل، و لبدن الانسان خلل و مسامات، و من الواضح أنّ تأليف ما خلل له و لا مسامّ أصعب من تأليف ما له خلل و فرج و مسام، فكيف تستبعدون خلق الأبدان ثانيا مع كونه أهون ؟!

ص: 29


1- . تفسير البيضاوي 420:2، تفسير أبي السعود 126:8، تفسير روح البيان 105:9.
2- . تفسير الرازي 154:28.
3- . تفسير الرازي 154:28.
4- . تفسير روح البيان 106:9.

وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال على قدرته الموجب لرفع استبعاد المعاد بقوله تعالى:

وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا فوق الماء، و بسطناها كالفراش، كما رفعنا السماء كالسقف وَ أَلْقَيْنٰا في الأرض، كما تلقى الحصاة فِيهٰا جبالا رَوٰاسِيَ و ثوابت، لترسو الأرض، و تمنعها من الحركة و الاضطراب فوق الماء.

روي أنّه لمّا خلق اللّه الأرض جعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها، فأصبحت و قد ارسيت بالجبال (1)وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا بقدرتنا بعد يبسها و زلاقها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و صنف من النباتات بَهِيجٍ و ذي حسن و نظارة، و إنّما فعلنا تلك الأفعال البديعة، و خلقنا تلك الأشياء العجيبة، لتكون

تَبْصِرَةً و مسببا لمعرفة خالقهم، و منبّه بالتفكّر فيها وَ ذِكْرىٰ و عظة و داعية إلى شكرها للناس، و إنّما الانتفاع بها لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ و راجع إلى ربّه بالتفكّر في بدائع صنعه و نعمه الموجبة لشكره و أداء حقّه

وَ نَزَّلْنٰا برحمتنا مِنَ السَّمٰاءِ بالأمطار مٰاءً مُبٰارَكاً كثير النفع، حيث إنّه به حياة كلّ شيء من الأرض و النبات و الحيوان و الناس فَأَنْبَتْنٰا بِهِ في الأرض جَنّٰاتٍ و بساتين من حيث أشجارها المثمرة و غير المثمرة و أنبتنا وَ حَبَّ الزرع اَلْحَصِيدِ في كلّ سنة من البرّ و الشعير و الدّخن و غيرها.

وَ النَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبٰادِ وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ (11) ثمّ خصّ النخل بالذكر مع دخولها في الجنات، لكثرة منافعها و شرفها على سائر الأشجار المثمرة بقوله:

وَ انبتنا اَلنَّخْلَ التي تكون بٰاسِقٰاتٍ و طوالا، أو حوامل بالثمار لَهٰا طَلْعٌ و عنقود نَضِيدٌ و موضوع بعض الحبوب على بعض أكمامها، كسنبلة البرّ، فان كانت انثى تصير تلك الحبوب بسرا و تمرا، و هو من العجائب، فانّ الأشجار الطوال أثمارها بارزة متميزة بعضها من بعض، لكلّ واحد منها أصل يخرج منه، كالجوز و اللوز و غيرهما، و إنّما أنبتنا الحبوب و الثمار و النخل ليكون

رِزْقاً و معاشا لِلْعِبٰادِ.

ص: 30


1- . تفسير روح البيان 107:9.

و قيل: إنّ الرزق بمعنى الإنبات، و المعنى أنبتنا إنباتا للعباد(1).

و على أي تقدير إنّما علّل سبحانه خلق الثمار بكونها رزقا مع أنّ فيها أيضا تبصرة و ذكرى، لكون الارتزاق بها عند الناس أظهر فوائدها، و لأنّ اللّه تعالى بعد بيان كونه قادرا على خلق أجسادهم، بيّن نعمه عليهم المقتضية لغاية قبح تكذيبهم منعمهم.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على إحيائهم بعد خلق أجسادهم بقوله: وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً و أرضا يابسة جدبة لا نبات و لا نماء فيها، فتشقّقت و خرج منها بالمطر أنواع النبات و الأزهار كَذٰلِكَ الإحياء للأرض إحياؤكم في القبور، و كخروج النباتات اَلْخُرُوجُ منها للحشر و الحساب.

روي أنّ اللّه يمطر السماء أربعين ليلة كمنيّ الرجال، يدخل في الأرض، فينبت لحومهم و عروقهم و عظامهم، ثمّ يحييهم و يخرجهم من تحت الأرض(2).

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحٰابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوٰانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحٰابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و المنكرين للمعاد من كفّار قريش و غيرهم بما نزل من العذاب على أمثالهم من الامم الماضية بقوله:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ بالرسول و المعاد قَوْمُ نُوحٍ من بني شيث و بني قابيل وَ كذب أَصْحٰابُ الرَّسِّ.

في قصة أصحاب

الرّسّ

قيل: كان الرّسّ بئرا بعدن لامّة من بقايا ثمود، و كان لهم ملك عادل حسن السيرة، اسمه عليس، و كانت البئر كثيرة الماء بحيث تسقي المدينة و باديتها و جميع ما فيها من أهاليها و دوابّها و أنعامها، و لم يكن لهم ماء غيره، فطال عمر الملك، فلمّا مات ضجّوا جميعا بالبكاء، لمّا رأوا أن أمرهم قد فسد، ثمّ طلوا جسده بالدّهن لتبقى صورته، و لا يتغير، و اغتنم الشيطان ذلك منهم، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيام كثيرة فكلّمهم، و قال: إنّي لم أمت، و لكنّي تغيّبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي. ففرحوا أشدّ الفرح، و أمر خاصته أن يضربوا حجابا بينه و بينهم، و يكلّمهم من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته، فنصبوه صنما من وراء الحجاب، لا يأكل و لا يشرب، و أخبرهم أنّه لا يموت ابدا، و أنّه إلههم، و يتكلم الشيطان ذلك كلّه على لسانه، فصدّق كثير منهم، و ارتاب بعضهم، و كان المؤمن المكذّب أقلّ من المصدّق. فكلّما تكلّم ناصح

ص: 31


1- . تفسير الرازي 157:28 و 158.
2- . تفسير روح البيان 109:9.

منهم زجر و قهر، فاتّفقوا على عبادته، فبعث اللّه لهم نبيّاً كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، و كان اسمه حنظلة بن صفوان، فاعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له، و أنّ الشيطان فيه، و أنّ اللّه لا يتمثّل بالخلق، و أنّ الملك لا يكون شريكا للّه تعالى، و نصحهم و حذرهم سطوة ربّهم و نقمته، فآذوه و عادوه، و هو يبالغ في نصحهم و وعظهم، حتى قتلوه و طرحوه في بئر، و عند ذلك حلّت عليهم النقمة، و أصبحوا و البئر [قد] غار ماؤها، فصاحوا بأجمعهم، و ضجّ النساء و الولدان و البهائم عطشا حتى هلكوا، و تبدّلت اشجارهم المثمرة بالسّدر و الشوك(1).

و قيل: إنّ الرّسّ بئر قريب من اليمامة(2).

و قيل: بئر آذربايجان(3) ، أو اسم واد(2) ، و قد سبقت قصتهم في سورة الفرقان.

وَ كذّبت ثَمُودُ * وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ الذي كان مفتر و مستخفا بقومه فأطاعوه و اتّبعوه، و لذا لم يقل: قوم فرعون وَ إِخْوٰانُ لُوطٍ و إنّما عبّر سبحانه عن قوم لوط بإخوان، لأنّهم كانوا طائفة من قوم إبراهيم، لهم سابقة معروفة بلوط، و كذا قيل (3)

وَ أَصْحٰابُ الْأَيْكَةِ و الغيظة، و هم من قوم شعيب وَ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميري ملك اليمن كُلٌّ من أفراد هؤلاء الأقوام كَذَّبَ الرُّسُلَ المبعوثين إليهم، أو الرسل جميعا فيما ارسلوا به من التوحيد و البعث و الشرائع فَحَقَّ و ثبت، أو حلّ عليهم وَعِيدِ اللّه، و ما أنذروهم به من العذاب، و في الآية تسلية للرسول، لئلا يحزن بتكذيب قومه، و يصبر على أذاهم، كما صبر الرّسل على أذى قومهم، و يطمئنّ بالظّفر على أعدائه كما ظفروا.

أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد الآيات الآفاقية الدالة على التوحيد و صحّة البعث عاطفا بعضها على بعض بالواو لكون جميعها من جنس واحد، استدلّ بخلق أنفسهم عاطفا له بالفاء لتأخّره في الرّتبة عن تلك الآيات بقوله:

أَ فَعَيِينٰا و عجزنا عن خلقكم ثاني مرّة بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ و بسبب إيجادهم في الدنيا أو بخلق السماوات و الأرض ؟! لا و اللّه إنّهم لا ينكرون أنّا خلقنا السماوات و الأرض، و أنّا خلقناهم في الدنيا بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ و شكّ و شبهة مِنْ خَلْقٍ لهم جَدِيدٍ و ثاني مرة، لكونه على خلاف العادة في الدنيا، و يقولون: أ يكرّر و يجدّد خلقنا، و نرجع ثانيا أحياء؟! ذلك رجع بعيد.

قال بعض المتكلمين: إنّ ابن آدم في كلّ زمان متلبّس بخلق جديد، فإنّه تتحلّل أجزاؤه، و يخلق لها

ص: 32


1- . تفسير روح البيان 109:9. (2و3) . تفسير روح البيان 110:9.
2- . تفسير روح البيان 110:9.
3- . تفسير الرازي 161:28.

بدل ما يتحلّل، فهو في هذا العالم يتجدّد خلقه، و اللّه تعالى في كلّ يوم من خلقه، بل من خلق العالم في شأن، و عليه يكون معنى الآية أنّه لا يختصّ تجديد خلقهم بما بعد خروجهم من الدنيا، بل هم في هذه الدنيا متلبّسون في كلّ يوم بخلق آخر جديد(1).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تأويل ذلك أن اللّه تعالى إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم، و سكن أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار، جدّد اللّه عالما آخر غير هذا العالم، و جدّد خلقا من غير فحوله و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلّلهم، لعلك ترى أن اللّه إنّما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أنّ اللّه لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف عالم، و ألف ألف آدم، و أنت في آخر تلك العوالم، و اولئك الآدميين»(2).

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمٰالِ قَعِيدٌ (17) مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته و سعة علمه المبنيين لإمكان الخلق الجديد بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا بقدرتنا الكاملة اَلْإِنْسٰانَ في الدنيا من غير مثال سابق وَ نَعْلَمُ بذاتنا مٰا تُوَسْوِسُ و تحدّث بِهِ نَفْسُهُ و تخطر على قلبه من خير أو شر، أو خطرات السوء الحاصلة بإلقاء الشيطان وَ نَحْنُ أَقْرَبُ علما إِلَيْهِ من كلّ قريب حتى مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و العرق المتّصل بقلبه المخالط للحمه، و فيه مجاري روحه الحيواني، و هو كناية عن نهاية القرب، و المعنى أنّ اللّه تعالى أقرب إلى الانسان من روحه و نفسه

إِذْ يَتَلَقَّى و حين يتلقّن الملكان اَلْمُتَلَقِّيٰانِ و الآخذان من الانسان فعله و قوله، و كاتبان عليه كلّما يصدر منه، فليس توكيلهما عليه لكتابة أعماله للحاجة في الاطلاع على أعماله إلى ضبطهما و ثبتهما أعماله، لأنّا أقرب إليه من كلّ قريب، و أعلم بحاله من نفسه، بل لكونه بعد الاطلاع على أنّ عليه ملكين موكلين لكتابة أعماله، أدعى له إلى الطاعة، و أزجر له عن المعصية، و كلّ منهما عَنِ الْيَمِينِ من الانسان وَ عَنِ الشِّمٰالِ منه قَعِيدٌ و جالس.

مٰا يَلْفِظُ و ما يرمى به مِنْ قَوْلٍ و كلام خير أو شرّ إِلاّٰ لَدَيْهِ ملك رَقِيبٌ يراقب ذلك القول و يكتبه في صحيفته، و هو عَتِيدٌ و مهيأ لكتابته، أو هو حاضر عنده أينما كان، لا يفارقه و لا

ص: 33


1- . تفسير روح البيان 111:9.
2- . التوحيد: 2/277، تفسير الصافي 60:5.

يغفل عنه.

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «نقّوا أفواهكم بالخلال، فانّها مجلس الملكين الكريمين الحافظين، و إنّ مدادهما الرّيق، و قلمهما اللسان، و ليس عليهما شيء أمرّ من بقايا الطعام بين الأسنان»(1).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قال: «عند نابيه»(2).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، و كاتب السيئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات أمير و أمين على كاتب السيئات، فاذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، و إذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح و يستغفر»(3) و روى أصحابنا عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ ملائكة الليل و ملائكة النهار يصلّون معكم العصر، فتصعد ملائكة النهار و تمكث ملائكة الليل، فاذا كان الفجر نزل ملائكة النهار و يصلّون الصبح، فتصعد ملائكة الليل و تمكث ملائكة النهار، و ما من حافظين يرفعان إلى اللّه ما حفظا فيرى اللّه في أول الصحيفة خيرا و في آخرها خيرا إلاّ قال لملائكته: اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة»(5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تبارك و تعالى وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فاذا مات قال الملكان للذين يكتبان عمله: قد مات فلان، فتأذن لنا أن نصعد إلى السماء. فيقول اللّه تعالى: إنّ سمائي مملوءة من ملائكتي يسبّحون. فيقولان: فأين ؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فكبّراني و هلّلاني: و اكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة»(6).

و قيل: إنّ التلقّي بمعنى الاستقبال، و المعنى بناء عليه: أنّ لكل إنسان ملكين يستقبلان روحه حين موته، فيأخذان روحه من ملك الموت، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين، و ينقلها إلى دار السرور، و الآخر يأخذ أرواح الطالحين، و ينقلها الى الويل و الثبور، و عنده ملكان يكتبان أعماله، فاذا نزل المتلقيان يسألان الكاتبين أن الذي مات من الصالحين، أو من الصالحين، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور، و يرجع إلى الآخر مسرورا، و إن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب، و يرجع إلى الآخر محزونا»(7).

ص: 34


1- . تفسير روح البيان 116:9.
2- . تفسير روح البيان 116:9.
3- . جوامع الجامع: 461، تفسير الصافي 61:5، تفسير روح البيان 115:9.
4- . الكافي 4/313:2، تفسير الصافي 61:5.
5- . تفسير روح البيان 116:9.
6- . تفسير روح البيان 117:9.
7- . تفسير الرازي 163:28.

أقول: فيه أنّ الظاهر أنّ الآيتين بيان لحال الانسان قبل خروج روحه.

وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) ثمّ لمّا استبعدوا البعث بيّن سبحانه بعض أهوال النّزع و قيام الساعة بقوله:

وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ و شدّته المذهبة للعقول المزيلة للفطن الجاعلة للانسان كالسكران بِالْحَقِّ و الموت الثابت الذي لا محيص عنه.

نقل رواية عامية في

فضيلة علي عليه السّلام

و جهل عمر

كما حكى بعض العامة أنّ رجلا أتى عمر و قال: إنّي أحبّ الفتنة، و أكره الحقّ، و أشهد بما لم أره. فحبسه عمر، فبلغت قصّته أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: «يا عمر حبسته ظلما» فقال: كيف ذلك ؟ قال: «لأنّه يحبّ المال و الولد، و قال اللّه تعالى: إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ (1) و يكره الموت و هو الحقّ، قال تعالى: وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ و يشهد بأنّ اللّه واحد و هو لم يره» فقال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر(2) انتهى.

فيقول له ملك الموت، أو لسان حاله: يا إنسان ذٰلِكَ الموت الذي نزل بك هو مٰا كُنْتَ في الدنيا مِنْهُ تَحِيدُ و تميل و تهرب، بل تحسب أن لا ينزل عليك لانغمارك في شهوات الدنيا و حبّها، و التعبير بالماضي للإيذان بتحقّقه و قربه، و إسناد إتيان الموت إلى سكرته لبيان غاية شدّتها، فكأنّ شدّة حال النزع اقتضت الموت، و أمات ذلك الانسان.

و قيل: إنّ المراد بالحقّ الدين الذي جاء به الرسول(3) ، فانّ الانسان حال احتضاره يظهر له حقّانيته، فكنّى سبحانه عن ظهور الحقّ بالسّكرة باتيانها به، أو المراد من الحقّ العذاب المعدّ للكفّار، فإنّه ينزل عليه بالموت، أو يراه في حال الاحتضار و ميله عن الحقّ على التقديرين إنكاره إياه.

عن القمي رحمه اللّه، قال: نزلت في الأول(4).

أقول: يعني أنّه أظهر من تنطبق عليه الآية، روت العامة عن عائشة، أنّها قالت: أخذت أبا بكر غشية من الموت، فبكيت عليه، فأفاق أبو بكر، فقال: وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (5).

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَ قٰالَ

ص: 35


1- . التغابن: 15/64.
2- . تفسير روح البيان 118:9.
3- . تفسير الرازي 164:28.
4- . تفسير القمي 324:2، تفسير الصافي 61:5.
5- . تفسير روح البيان 118:9.

قَرِينُهُ هٰذٰا مٰا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ (24) مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيٰاهُ فِي الْعَذٰابِ الشَّدِيدِ (26) قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ وَ لٰكِنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ (27) قٰالَ لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مٰا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (29) ثمّ ذكر سبحانه أهوال البعث بعد الموت بقوله:

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الثانية، و هي نفخة البعث و النشور، فيقول لهم الملك تهويلا: ذٰلِكَ الوقت الذى بعثتم فيه يَوْمُ إنجاز اَلْوَعِيدِ الذي أوعدكم اللّه على لسان رسله به من العذاب و الأهوال

وَ جٰاءَتْ من القبور إلى المحشر كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرّة و الفاجرة و مَعَهٰا ملك سٰائِقٌ له يسوقه إلى المحشر، و إن اختلفت كيفية سوق المؤمن و الكافر، و المطيع و العاصي وَ ملك شَهِيدٌ على أعمالها أنّها خير تستحقّ بها الجنّة، أو شرّ تستحق بها النار.

و في (نهج البلاغة): «سائق يسوقها إلى المحشر، و شاهد يشهد عليها بعملها»(1).

قيل: إنهما الملكان الكاتبان(2). و قيل: ملك واحد يسوقها و يشهد على عملها(3). و قيل: السائق ملك، و الشهيد جوارحه(4).

ثمّ يقال لذلك المسوق:

لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا غائرا فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ هٰذٰا اليوم و ما فيه من الأهوال فَكَشَفْنٰا و أزلنا عَنْكَ غفلتك التي كانت غِطٰاءَكَ و حجابك الذي يمنعك عن اليقين بمجيء هذا اليوم، و يحتمل كون المراد من الغطاء الجهل و الشهوة و حبّ الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ لانكشاف الغطاء عنه حَدِيدٌ و نافذ، تبصر ما كنت منكره و تستبعده و تتعجّب ممّن يخبر به، و لكن لا ينفعك اليوم إبصار

وَ قٰالَ الملك الذي هو قَرِينُهُ في الدنيا يكتب أعماله، أو الملك الشهيد عليه، كما عنهما عليهما السّلام(3): هٰذٰا الكتاب الذي فيه أعمالك مٰا لَدَيَّ و هو الذي عندي عَتِيدٌ و حاضر، أو مهيّأ جميعا للعرض.

و قيل: إنّ المراد بالقرين الشيطان المقيّض له(4). يقول هذا الشخص العاصي الطاغي: ما لدي و الذي عندي و في ملكتي و مقدوري عتيد و مهيأ لورود جهنّم، قد هيأته له بإغوائي و إضلالي، فيقول اللّه تعالى للسائق و الشهيد، أو الملكين من خزنة النار:

أَلْقِيٰا أيّها الملكان فِي جَهَنَّمَ هذا الكافر

ص: 36


1- . نهج البلاغة: 116، الخطبة 85، تفسير الصافي 61:5.
2- . تفسير روح البيان 121:9. (3و4) . تفسير البيضاوي 422:2.
3- . مجمع البيان 220:9، تفسير الصافي 62:5.
4- . تفسير أبي السعود 131:9، و في النسخة: المقبض له.

و كُلَّ كَفّٰارٍ و كثير الطغيان على المنعم و مبالغ في التضييع لحقوقه بانكار توحيده و نعمه.

و قيل: يعني كلّ كافر حامل غيره على كفره(1) ، عنيد و مبغض للحقّ، أو منحرف عن الطاعة، أو معجب بما عنده.

و عن القمي: أنّه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام(2).

و عن السجاد عليه السّلام، عن أبيه، عن جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تبارك و تعالى إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد كنت أنا و أنت عن يمين العرش، ثمّ يقول اللّه تبارك و تعالى لي و لك: قوما فالقيا من أبغضكما و كذّبكما في النار»(3).

و في (المجمع) و (الأمالي) من طرق العامة مثله، و زادا: «و أدخلا في الجنّة من أحبكما، و ذلك قوله تعالى: أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ (4).

مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ و كثير البخل بالمال، الممتنع عن أداء حقوق اللّه من الزكاة و الخمس و غيرهما من الواجبات المالية.

و قيل: إنّ المراد بالخير الاسلام. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة لمّا منع بني أخيه منه، و كان يقول:

من دخل منكم في الاسلام لم أنفعه بخير ما عشت(5).

مُعْتَدٍ و مجاوز عن حدود العقل، ظالم على نفسه و على العباد، و معاند لآيات اللّه و لأهل الحقّ مُرِيبٍ و شاكّ في دين الاسلام، أو في البعث

اَلَّذِي جَعَلَ و اختلق من قبل نفسه و هواه مَعَ اللّٰهِ و أشرك به في العبادة إِلٰهاً آخَرَ و معبودا غيره من مخلوقاته، كالكواكب و الأصنام، فكلّ من كان من الناس بهذه الصفات فَأَلْقِيٰاهُ فِي الْعَذٰابِ الشَّدِيدِ هذا الأمر تأكيد لما سبق.

ثمّ قيل: إنّ الكفار يعتذرون إلى اللّه بأنّ الشيطان الذي كان قريننا في الدنيا أضلّنا و أطغانا، فهو المستحقّ للعذاب دوننا

قٰالَ الشيطان الذي هو قَرِينُهُ و مصاحبه في الدنيا رَبَّنٰا ما أضللته و مٰا أَطْغَيْتُهُ بالقهر و الجبر وَ لٰكِنْ كٰانَ هو لخبث ذاته و سوء أخلاقه مستقرا فِي ضَلاٰلٍ و انحراف ظاهر عن صراطك المستقيم بَعِيدٍ عن طريق الحقّ القويم، بحيث لا يرجى منه الرجوع إليه، و أنا أعنته على ضلاله و طغيانه بالإغواء و الدعوة لا عن قهر و إلجاء.

قٰالَ اللّه تعالى لاٰ تَخْتَصِمُوا و لا تنازعوا لَدَيَّ و في محضر عدلي و موقف حكومتي، إذ لا فائدة فيه، و لا عذر

ص: 37


1- . تفسير روح البيان 123:9.
2- . تفسير القمي 324:2، تفسير الصافي 62:5.
3- . تفسير القمي 324:2، تفسير الصافي 62:5.
4- . أمالي الطوسي: 563/290، مجمع البيان 220:9، تفسير الصافي 62:5.
5- . تفسير روح البيان 124:9.

مقبول وَ الحال أنّي قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ و أعلمتكم في دار الدنيا بتوسّط رسلي و كتبي بِالْوَعِيدِ و العذاب الشديد على الشرك و الطغيان، و أتممت الحجّة عليكم، و قطعت عذركم، فاليوم

مٰا يُبَدَّلُ و لا يغيّر اَلْقَوْلُ الذي قلته، و الوعيد الذي وعدته على الشرك و الكفر و الطغيان في كتابي بقولي: إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (1) و قولي: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ (2)فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (3).

لَدَيَّ بوقوع الخلف فيه وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ بتعذيبهم بغير استحقاق أشدّ العذاب مع كونهم أهلين للرحمة و العطوفة و إنّما نفى كثرة الظلم عن نفسه مع أنّه لا يصدر منه أقلّه؛ لأنّه لو عذّبهم بهذا العذاب الشديد بغير استحقاق، كان أكثر ظلما من كلّ ظالم.

قيل: إنّ كثرة الظلم المنفي باعتبار كثرة العبيد(4). و قيل: إنّ المبالغة راجعة إلى النفي، لا إن النفي وارد على صيغة المبالغة(5). و قيل: إنّ الظلاّم بمعنى الظالم، كالتمّار بمعنى التامر.

و قيل: إنّ الظلام تقديري، و المعنى أنّي لو ظلمت عبدي الضعيف المستحقّ لغاية الرحمة، لكان ذلك غاية الظلم، و ما أنا بذلك(6). و قيل: إنّ نفي كونه ظلاّما لا ينافي نفي كونه ظالما، و نفيه للعبيد لا ينافي عدم كونه ظالما لغيرهم(5).

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّٰابٍ حَفِيظٍ (32) و ذكر العبيد و التخصيص بهم لكونهم أقرب إليه، و كونه أقبح منه، كما أنّه لا ينافي نفي كونه ظالما في جميع الأزمنة تخصيص نفيه بيوم القيامة بقوله:

يَوْمَ و المعنى ما أنا بظلام للعبيد في يوم نَقُولُ في ذلك اليوم مع عظمتنا، طلبا(6) لتصديقنا في أخبارنا، و تحقيق وعدنا، و تقريع أهل العذاب لِجَهَنَّمَ و دار العذاب بعد إلقاء جميع الكفّار من الجنّ و الإنس فيها: هَلِ امْتَلَأْتِ بمن ألقينا فيك، و هل وفينا بوعدنا إيّاك أن نملأك من الجنّة و الناس ؟ وَ تَقُولُ جهنّم مجيبة لنا، و استكثارا لما القي فيها مع غاية سعتها و تباعد أقطارها و أطرافها: يا رب هَلْ مِنْ مَزِيدٍ و موضع يمكن أن يلقى فيه(7) زيادة على ما القي فيّ، لا و عزّتك لم يبق فيّ موضع يسع إبرة.

و قيل: إنّ الاستفهام لطلب الزيادة غيظا على الكفّار و العصاة، و كان السؤال قبل إدخال الكلّ فيها، أو

ص: 38


1- . النساء: 48/4 و 116.
2- . النساء: 48/4 و 116.
3- . البقرة: 81/2.
4- . تفسير روح البيان 126:9. (5و6) . تفسير الرازي 172:28.
5- . تفسير الرازي 173:28.
6- . في النسخة: طالبا.
7- . في النسخة: في.

كان بعد إدخال الكلّ، و هي تطلب الزيادة في سعتها و إلقاء الكفّار فيها(1).

و قيل: إنّه لا يكون سؤال و جواب، و إنّما ذكر اللّه سبحانه ذلك على سبيل التمثيل و التخيّل(2).

إظهارا لامتلاء جهنّم، و اشتياقها إلى الكفّار، و الحقّ أنّه بيان الحقيقة و الواقع، حيث إنّ جهنّم بل جميع ما في عالم الآخرة لها شعور و حياة و قوة نطق، كما دلّ عليه بعض الأخبار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان شدة غضبه و عذابه على الكفّار، بيّن كثرة لطفه و رحمته للمؤمنين المتقين بقوله:

وَ أُزْلِفَتِ و قربت اَلْجَنَّةُ في ذلك اليوم لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الشرك و الكفر و العصيان، بحيث يرونها من الموقف، و يطّلعون على ما فيها من المحاسن و البهجة و النّعم، ليزيد فرحهم و ابتهاجهم، و هي تكون شيئا غَيْرَ بَعِيدٍ عنهم، و فيه تأكيد لكمال قربها منهم و إكرامه لهم، و أيضا في صدر الآية دلالة على أنّ الجنة تقرب إليهم، لا أنّهم يقربون إلى الجنّة، و يحتمل أن يكون المراد بالقرب هنا كناية عن سهولة دخولهم فيها.

و عن القمي رحمه اللّه: أنّ المعنى زيّنت الجنّة للمتقين بسرعة(3).

ثمّ يقال لهم تفريحا لقلوبهم:

هٰذٰا الذي تشاهدونه من الجنّة و نعيمها مٰا كنتم في الدنيا تُوعَدُونَ و تبشّرون به على إيمانكم و طاعتكم، في كتابنا المنزل على لسان النبي المرسل. ثمّ ابدل سبحانه عن المتّقين بقوله: لِكُلِّ أَوّٰابٍ و رجّاع إلى ربّه بالتوبة و الاستغفار من ذنوبه حَفِيظٍ يحفظ توبته من النقض، و عهده مع اللّه بالطاعة من الرفض، و قيل: الرجّاع إلى اللّه بالفكر(4) و التوجّه بالقلب، شديد التحفّظ على طاعة أحكامه و أوامره و نواهيه.

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمٰنَ بِالْغَيْبِ وَ جٰاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ ذٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ فِيهٰا وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ (35) ثمّ بالغ سبحانه في توضيح المتّقين بقوله:

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمٰنَ و خاف من اللّه العظيم، مع كونه الرحمن المبالغ في الرحمة و العطوفة بعبده حال كونه بِالْغَيْبِ من خلقه لا يرونه بالحواسّ الظاهرة، أو خشى الرحمن من أن يعاقبه حال كون عقابه بالغيب لم يره بعينه وَ جٰاءَ ربه في الآخرة بِقَلْبٍ مُنِيبٍ و حضر عنده مع قلب سليم من الشرك و رذائل الأخلاق و الشكّ و النفاق.

ثمّ يقال لهم على رءوس الأشهاد من قبل اللّه تبارك و تعالى: أيّها المتقون، اذهبوا إلى الجنة التي

ص: 39


1- . تفسير الرازي 174:28.
2- . تفسير البيضاوي 424:2، تفسير أبي السعود 132:8، تفسير روح البيان 127:9.
3- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 63:5.
4- . تفسير الرازي 176:28.

ترونها و

اُدْخُلُوهٰا حال كونكم مكرمين بِسَلاٰمٍ من اللّه و ملائكته، أو متلبّسين بسلامة من العذاب و الآفات و زوال النعم و حلول النقم، آمنين منها ذٰلِكَ اليوم الذي أنتم فيه يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنّة و نعمها و البقاء فيها أبدا.

ثمّ بشّر اللّه سبحانه في الدنيا المتّقين بنعمه التي أعدّت لهم في الجنّة بقوله:

لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ و يشتهون فِيهٰا من المآكل اللذيذة، و الأشربة الطيبة، و الملابس الناعمة الفاخرة، و الحور و القصور، و السّرر المرفوعة، و النّمارق المصفوفة و غيرها في أيّ زمان و حال. و يحتمل أن يكون ذلك خطابا للملائكة الموكّلين بخدمتهم، و المراد اعلموا يا ملائكتي أن لهم ما يشاءون، فأحضروا عندهم ما يشتهون وَ لَدَيْنٰا على ذلك مَزِيدٌ ممّا لا يخطر ببالهم، و لا تقدرون أنتم عليه، و لا يندرج تحت مشيئتهم من أنواع اللّذات و الكرامات.

قيل: إنّهم يسألون اللّه حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاءوا، ثمّ يزيدهم من عنده ما لم يسألوه، و لم تبلغه أمانيهم(1).

قيل: إنّ السّحاب تمرّ بأهل الجنّة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال اللّه تعالى:

وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ (2) . و روي أنّ هذه الزيادة النظر إلى وجه اللّه تعالى(3). و عن القمي رحمه اللّه، قال: النظر إلى رحمة اللّه(2).

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاٰدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين المنكرين للبعث بعذاب الآخرة و أهوالها، و ترغيبهم إلى الايمان و التقوى ببيان حسن عاقبة المتّقين، هدّدهم بما نزل على أمثالهم من الامم الماضية من العذاب بقوله:

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا و كثيرا ما عذّبنا بعذاب الاستئصال قَبْلَهُمْ و في الأعصار السابقة على عصر قومك مِنْ قَرْنٍ و جماعات مقترنين في العصر هُمْ أَشَدُّ من قومك و أكثر مِنْهُمْ بَطْشاً و قوة في الجسم، كعاد و ثمود و غيرهم، لكفرهم و تكذيبهم الرسل و إنكارهم البعث فَنَقَّبُوا و بحثوا و تصرّفوا، أو جالوا فِي الْبِلاٰدِ و أذلّوا أهلها و قهروهم و استولوا عليهم، و هم قائلون حين نزول

ص: 40


1- . تفسير روح البيان 132:9. (2و3) . تفسير روح البيان 132:9.
2- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 64:5.

العذاب عليهم هَلْ مِنْ مَحِيصٍ و مفرّ أو ملجأ منه ؟ و لم يجدوه.

و قيل: إنّه من كلام اللّه تعالى مخاطبا لقوم النبي صلّى اللّه عليه و آله(1) ، و المعنى: أنّ الامم الماضية اهلكوا مع قوة بطشهم، فهل لكم يا قوم محمد من محيص و مهرب عن العذاب ؟

إِنَّ فِي ذٰلِكَ المذكور من إهلاك الامم لكفرهم و طغياهم، و اللّه لَذِكْرىٰ و عظة لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ يفقه به و يتفكّر فيما يرد فيها، و يدرك سوء عاقبة الكفر و الطغيان، أو لمن كان له عقل، كما عن الكاظم عليه السّلام. و عن ابن عباس (2)أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ و لم يمسكه عن سماع ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم وَ هُوَ شَهِيدٌ و حاضر بذهنه ليفهم معانيه، أو شاهد بصدقه فيتّعظ بظواهره و ينزجر بزواجره.

و قيل: يعني و المنذر الذي تعجّبتم منه شهيد، كما قال: إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً (3).

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ مٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ (40) وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنٰادِ الْمُنٰادِ مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ (41) ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على إمكان إعادة الخلق للحساب بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ السبع وَ الْأَرْضَ بطبقاتها وَ مٰا بَيْنَهُمٰا من الموجودات فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ و أوقات بلا استعانة بالغير وَ مٰا مَسَّنٰا و ما أصابنا بذلك شيء مِنْ لُغُوبٍ و تعب و نصب حتى نعجز من إعادة الخلق ثانيا، فانّ خلق كلّ منها بالارادة المعبّر عنها بأمر (كن) بلا حاجة إلى حركة و تحمّل كلفة و مشقّة، لاستحالة الحاجة في الواجب، و فيه أيضا ردّ على اليهود حيث زعموا أنّ اللّه بدأ خلق العالم يوم الأحد، و فرغ منه يوم الجمعة، و استلقى يوم السبت على العرش و استراح.

ثمّ لمّا كان شدّة إنكار المشركين رسالة الرسول و البعث و المعاد ثقيلا على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، أمره سبحانه بالصبر و تنزيهه تعالى عن العجز بقوله:

فَاصْبِرْ يا محمد عَلىٰ أذى المشركين و مٰا يَقُولُونَ في شأنك و شأن البعث من التعجّب من رسالتك و استبعاد البعث و الإعادة بعد الموت، كما

ص: 41


1- . تفسير الرازي 182:28.
2- . الكافي 12/12:1، تفسير الصافي 64:5، تفسير روح البيان 135:9.
3- . تفسير الرازي 183:28، و الآية من سورة الفتح: 8/48.

صبر اولو العزم من الرسل، فانّك تظفر على أعدائك كما ظفروا وَ سَبِّحْ و نزّه اللّه من العجز من تجديد الخلق و سائر الصفات الممكنات، و أقرن تسبيحه بِحَمْدِ رَبِّكَ على ما أنعم عليك من الرسالة و إصابة الحقّ في الوقتين قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ و هو وقت العصر، فأنهما أشرف الأوقات

وَ مِنَ أول اَللَّيْلِ أو بعضه فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ و أعقابه.

قيل: إنّ المراد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بإظهار عظمة اللّه و تنزيهه من العجز بالبرهان في مجامع العرب، و أن لا يسأم عن التبليغ بسبب أقاويلهم الباطلة، فانّ العرب كانوا يجتمعون في تلك الأوقات(1).

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، و قبل الغروب صلاة الظهر و العصر، و في بعض الليل أو أوله صلاة المغرب و العشاء، و بالتسبيح في أدبار السجود صلاة النوافل أدبار الفرائض(2).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ قال: «ركعتان بعد المغرب»(3).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «أربع ركعات بعد المغرب»(4).

و عن الصادق عليه السّلام «أنّه الوتر في آخر الليل»(5).

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح و التحميد قول: سبحان اللّه و الحمد للّه(6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تقول حين تمسي و حين تصبح عشر مرات: لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير»(7).

قيل: إنّ وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و آله هداية الخلق و عبادة الحقّ(8) ، و المراد من الآية إذا لم يهتدوا بهدايتك، فاشتغل بعبادة ربك

وَ اسْتَمِعْ يا محمد ما اوحي إليك، و لا تكن من المعرضين عنه، أو استمع النداء يَوْمَ يُنٰادِ الْمُنٰادِ بقوله: اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوٰاجَهُمْ (9) أو بقوله: أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ (10) و قوله للمتقين: اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ (11) أو بقوله: أَيْنَ شُرَكٰاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (12) و اعلم أنّ هذه الوجوه مبنية على كون المنادي هو اللّه عز و جلّ.

أو بقوله: ايتها العظام النخرة، اجتمعن و اتّصلن و احشرن للحساب، بناء على كون المنادي إسرافيل.

ص: 42


1- . تفسير الرازي 185:28.
2- . تفسير روح البيان 140:9.
3- . الكافي 11/444:3، تفسير الصافي 65:5.
4- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 65:5.
5- . مجمع البيان 225:9، تفسير الصافي 65:5.
6- . تفسير الرازي 185:28.
7- . مجمع البيان 225:9، تفسير الصافي 65:5.
8- . تفسير الرازي 185:28.
9- . الصافات: 22/37.
10- . سورة ق: 24/50.
11- . سورة ق: 34/50.
12- . الأنعام: 22/6.

قيل: إن إسرافيل يقوم على الصخرة و ينادي: أيتها العظام البالية، و الأوصال المتقطّعة، و اللحوم المتمزّقة، و الشعور المتفرّقة، إنّ اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء(1).

و قيل: إنّ جبرئيل ينادي بالحشر(2). مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ من جميع الناس يسمعه كلّهم على حدّ سواء.

يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرٰاعاً ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ (45) ثمّ بيّن سبحانه يوم نداء المنادي بقوله:

يَوْمَ يخرج جميع الناس من القبور و يَسْمَعُونَ من إسرافيل اَلصَّيْحَةَ و النفخة الثانية في الصّور، و هي مقرونة و متلبّسة بِالْحَقِّ و التحقّق، أو مصحوبة باليقين و القطع، لا بالظنّ و الشكّ، أو المراد بالصيحة بالحشر الذي هو الحقّ بقوله: يا عظام اجتمعي.

أقول: هذا التفسير لا يوافق سماع الناس تلك الصيحة.

ذٰلِكَ اليوم الذي تسمع فيه الصيحة يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور و السوق إلى المحشر و الحساب، ثمّ إلى الجنّة، أو النار.

و عن القمي يُنٰادِ الْمُنٰادِ باسم القائم و اسم أبيه (3)مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ بحيث [يصل] نداؤه إلى الكلّ سواء يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ قال: صيحة القائم من السماء ذٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (4).

و عنه، عن الصادق عليه السّلام قال: «هي الرجعة»(5).

أقول: هذا تأويل الآية لا تفسيرها.

ثمّ قرّر سبحانه دليل البعث و النشور بقوله:

إِنّٰا نَحْنُ بقدرتنا الكاملة نُحْيِي الناس جميعا في الدنيا وَ نُمِيتُ جميعهم فيها وَ بعد ذلك إِلَيْنَا لا إلى غيرنا اَلْمَصِيرُ و المرجع في الآخرة لحساب أعمالهم و جزائها، و ذلك الرجوع إلينا يكون

يَوْمَ يحيا الناس في قبورهم تَشَقَّقُ

ص: 43


1- . تفسير روح البيان 142:9.
2- . تفسير روح البيان 142:9.
3- . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 65:5، و في النسخة: و اسم اللّه. (4و5) . تفسير القمي 327:2، تفسير الصافي 65:5.

اَلْأَرْضُ و نكشف حجاب التّراب عَنْهُمْ و يخرجون من القبور سِرٰاعاً بلا ريث و بطء ذٰلِكَ الإحياء و الخروج حَشْرٌ و بعث عود، و هو عَلَيْنٰا يَسِيرٌ و هيّن لا عسر و صعب.

ثمّ سلّى سبحانه نبيه و حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

نَحْنُ أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمٰا يَقُولُونَ هؤلاء الكفّار من إنكار الرسالة، و استبعاد البعث بعد الموت، و تكذيب الآيات الناطقة به، و أنت لا تتعب نفسك بدعوتهم إلى الايمان بك و بكتابك و بالآخرة، لأنّك لا تكون عليهم رقيبا وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ تجبرهم على تصديقك، و تقهر على الاقرار بالمعاد و البعث، و إنّما عليك البلاغ و التذكير فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ الذي انزل إليك، المشتمل على أدلّة رسالتك بجهات إعجازه، و أدلّة قاطعة و براهين واضحة على صحة البعث و جزاء الأعمال، وعظ بما فيه من المواعظ الشافية و العبر الوافية مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ اللّه و تهديده بالعذاب الاخروي و الدنيوي، فانّهم المنتفعون بمواعظ اللّه و رسله، و أمّا من عداهم ففوّض أمرهم إلينا، فانّا نعاملهم بما يستحقّون، و نفعل بهم ما يستوجبون له.

قيل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخطب في كثير من الأوقات بسورة (ق) لاشتمالها على ذكر اللّه و الثناء عليه، و علمه بما توسوس به النفوس، و ما تكتبه الملائكة، و تذكير الموت و سكرته و شدّته، و تذكير القيامة و أهوالها، و الشهادة على الخلائق بأعمالهم، و تذكير الجنّة و النار و الصّيحة و النّشور و الخروج من القبور، و المواظبة على الصلوات(1).

و في الحديث: «من قرأ سورة (ق) هوّن اللّه عليه تارات الموت و سكراته»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أدمن في فرائضه و نوافله سورة (ق) وسّع اللّه عليه في رزقه، و أعطاه كتابه بيمينه، و حاسبه حسابا يسيرا»(3).

الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة، و أسأله التوفيق لإدمان قراءتها.

ص: 44


1- . تفسير روح البيان 145:9.
2- . تفسير روح البيان 145:9، و نقل عن حواشي سعدى المفتي، تارات الموت: إفاقاته و غشياته.
3- . ثواب الأعمال: 115، مجمع البيان 210:9، تفسير الصافي 66:5.

في تفسير سورة الذاريات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الذّٰارِيٰاتِ ذَرْواً (1) فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً (2) فَالْجٰارِيٰاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً (4) ثمّ لمّا ختمت سورة (ق) المصدّرة بالحلف على صدق رسالة رسوله و إثباته، و إثبات البعث، و تهديد المكذّبين بما نزل على قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون و قوم لوط، و إثبات التوحيد ببناء السماء و مدّ الأرض و غيرها من الآيات، اردفت بسورة الذاريات المصدّرة بالحلف على صدق المعاد، و تهديد المنكرين بما نزل على اولئك الامم مع شرذمة من تفصيل العذاب الواقع بهم، و اثبات التوحيد ببناء السماء و فرش الأرض، و بعض آخر من المطالب المهمة المربوطة بمطالب السورة السابقة.

قيل: لمّا بيّن اللّه الحشر بدلائله في السورة السابقة، و قال: ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ (1) و ذكر إصرار المشركين على الإنكار بقوله: وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ (2) لم يبق إلاّ اليمين، فنظمت بعدها سورة و الذاريات(3) ، المصدّرة بالحلف على المعاد، و صدق البعث و الحساب، فابتدأها بذكر الاسماء الحسنى، بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه بالحلف على صدق المعاد، فابتدأ بالحلف بالرياح التي تذرّ التراب و تفرّقه في أقطار الأرض بقوله:

وَ الذّٰارِيٰاتِ و المطيرات للتّراب و الأشياء الخفاف كالحشائش و التبن(4) في أطراف الأرض ذَرْواً و إطارة خاصة بها، و إنّما قدّم سبحانه الحلف بها لكونها أدلّ على كمال قدرته، ثمّ حلف بقطعات السّحاب الحاملات للأمطار بقوله:

فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً و حملا ثقيلا من الماء، و إنّما قدّمها لكونها أنفع للناس بعد الرياح، ثمّ حلف سبحانه بالسّفن الجارية بتوسّط الرياح

ص: 45


1- . سورة ق: 44/50.
2- . سورة ق: 45/50.
3- . تفسير الرازي 193:28.
4- . في النسخة التبين.

بقوله:

فَالْجٰارِيٰاتِ في البحار جريانا يُسْراً و سهلا. ثم حلف بالملائكة الذين يقسّمون الأمطار و الأرزاق بقوله:

فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً و المراد بالأمر جنسه، فيشمل جميع الأمور المنقسمة بين الخلائق.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «الذاريات هي الرياح، و الحاملات هي السّحاب، و الجاريات هي السّفن، و المقسمات هي الملائكة الذين يقسّمون الأرزاق»(1).

و عن القمي رحمه اللّه، عن الصادق عليه السّلام: «أن أمير المؤمنين سئل عن (الذاريات ذروا) قال: الريح، و عن (الحاملات وقرا) قال: السّحاب، و عن (الجاريات يسرا) قال: هي السّفن، و عن (المقسمات امرا) قال: الملائكة»(2). و عن (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه السّلام مثله(3).

و العجب من الفخر الرازي أنّه نقل هذا التفسير عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و مع ذلك اختار غيره، مع رواية العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا مدينة العلم، و عليّ بابها»(4) و أنّه مع الحقّ و الحقّ معه»(5).

قال الناصب: الأقرب أنّ هذه صفات أربع للرياح التي تنشئ السّحاب أولا، و الحاملات هي الرياح التي تحمل السّحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة، و هي أوقار أثقل من الجبال، و الجاريات هي الرياح التي تجري بالسّحب بعد حملها، و المقسمات هي الرياح التي تفرّق الأمطار على الأقطار(6).

و فيه مع أنّه تفسير بالرأي و من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار و مخالف لما فسّره به نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لسانه و عيبة علمه، على تقدير ثبوته، فاسد في نفسه لظهور أنّ الذاريات غير المنشئات، و السائقات غير الحاملات، و الجاريات غير المجريات، و المقسمات مطلق الأمر الشامل للأمطار و الأرزاق و غيرها، غير مقسمات خصوص المطر، فالمقسمات أمرا كالمدبرات أمرا، قيل:

هم أربعة: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و عزرائيل(7). و الظاهر أنّ هؤلاء عمد المدبّرات، و إلاّ فالمدبّرات أكثر.

قيل: إنّ هذه الامور دلائل التوحيد أخرجها بصورة القسم(8).

ص: 46


1- . تفسير الرازي 195:28.
2- . تفسير القمي: 327:2، تفسير الصافي 67:5.
3- . الاحتجاج: 259، تفسير الصافي 67:5.
4- . مستدرك الحاكم 126:3 و 127، جامع الاصول 6489/473:9، أسد الغابة 22:4، تاريخ بغداد 49:11 و 50.
5- . مناقب الخوارزمي: 57، ترجمة الامام علي عليه السّلام من تاريخ دمشق 1172/53:3.
6- . تفسير الرازي 195:28.
7- . تفسير روح البيان 148:9.
8- . تفسير الرازي 194:28.

قيل: إنّ الرياح في الدلالة على كمال القدرة أتمّ لكونها أسبابا للسّحب، و السّحب أتمّ دلالة عليه من السفن لكونها أغرب ماهية و أكثر نفعا، و هذه الثلاثة لكونها من المحسوسات غير القابلة للانكار أتمّ دلالة من الملائكة، لإمكان إنكار المنكر وجودهم، و لذا صدّر الثلاثة بالفاء(1).

و قيل: إنّ الترتيب المترقّي من الأضعف إلى الأقوى، فانّ السّحب أقوى دلالة على كمال القدرة من الرياح، لتألّفها من الأجزاء المائية و الهوائية. و قليل من الأجزاء الأرضية و النارية، و فيها غرائب من الآثار العلوية، و السّفن أقوى دلالة من السّحب، لتألفها [من] جميع العناصر على ما فيها من الصنعة البديعة و الامور العجيبة من حمل الأثقال مع خفّة الحامل، و قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير بهبوب الرياح العاصفة، و الأدلّ من الجميع إقداره الروحانيات مع لطافتهم على التصرّف في الجسمانيات مع كثافته، و لا اعتبار بانكار من لا عبرة به(2).

و قيل: إنّ وجه الترتيب كون حركة السّحاب و السفن من آثار الرياح، و بعد الحلف بما يكون سببا للرزق ذكر مقسّمات الأرزاق(3).

و قيل: إنّ المراد بالذاريات الكواكب السريعة في السير من ذرا يذرو، بمعنى أسرع. و قيل: إنّ المراد الملائكة. و قيل: إنّ التقدير: و ربّ الذاريات(4).

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَوٰاقِعٌ (6) وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ أيّها المشركون من البعث و الحشر و الحساب لَصٰادِقٌ و مطابق للواقع، لا مجال للشكّ فيه. قيل: إنّ الصادق بمعنى ذو صدق(5). و قيل: إنّ في وصف المصدر بما يوصف به الفاعل غاية المبالغة(6).

وَ إِنَّ الدِّينَ و جزاء الأعمال في الآخرة لَوٰاقِعٌ و كائن لا محالة.

ثمّ حكى سبحانه اختلاف طريقة المشركين في تكذيب الرسول و المعاد و القرآن، مؤكّدا بالحلف بقوله:

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْحُبُكِ و الطرائق المختلفة للكواكب، أو ذات الأشكال المختلفة بسبب النجوم.

و عن ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي(7).

ص: 47


1- . تفسير روح البيان 148:9.
2- . تفسير روح البيان 148:9.
3- . تفسير روح البيان 148:9.
4- . تفسير الرازي 195:28.
5- . تفسير الرازي 196:28.
6- . تفسير الرازي 196:28.
7- . تفسير أبي السعود 137:8، تفسير روح البيان 150:9.

إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ و متناقض في شأن الرسول، فتارة تقولون: إنّه ساحر، و تارة تقولون: إنّه كاهن، و تارة تقولون: إنّه شاعر، و تارة تقولون: إنّه مجنون، و مرّة تقولون: إنّه مجادل و نحن عاجزون من الجدل، و سادسة تقولون: إنّه أمين، و سابعة تقولون: إنّه كاذب.

و في شأن القرآن تارة تقولون: إنّه سحر، و تارة تقولون: إنّه شعر، و تارة تقولون: إنّه كهانة، و تارة تقولون: إنّه أساطير.

و في شأن المعاد تارة تقولون: إنّه متيقّن و الأصنام شفعاؤنا عند اللّه، و تارة تقولون: إنّه مظنون، و تارة تقولون: إنّه مشكوك، و تارة تقولون: إنّه مقطوع العدم.

و قيل: إنّ المراد أنّكم غير ثابتين على قول، و من يكون كذلك لا يكون متيقنا في اعتقاده(1).

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله:

يُؤْفَكُ عن الرسول، أو عن القرآن، أو عن القول بالحشر، و يصرف عَنْهُ مع كونه حقا يجب الايمان به مَنْ أُفِكَ و صرف عن كلّ خير و سعادة، إذا لا صرف أفظع و أشنع منه.

و قيل: إنّه مدح للمؤمنين، فإنّهم يصرفون عن القول المختلف [و يصرفون] من صرف عن كلّ باطل، و يرشدون إلى القول المستوي(2) ، و فيه ما لا يخفى من الضّعف.

قُتِلَ الْخَرّٰاصُونَ (10) اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سٰاهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيّٰانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النّٰارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) ثمّ أظهر سبحانه الغضب على منكري رسالة الرسول و القرآن بالدعاء عليهم بقوله:

قُتِلَ و لعن اَلْخَرّٰاصُونَ و المعتمدون على الحدس و التخمين في دينهم، و المتّبعون فيه لهوى أنفسهم، مع أنّ الدين لا بدّ فيه من اليقين و الاعتماد على البراهين.

ثمّ لمّا كانت توصيفهم بالخرص غير صريح في الذمّ، وصفهم بما فيه التصريح به بقوله:

اَلَّذِينَ هُمْ كائنون فِي غَمْرَةٍ و شدّة جهل و ضلال و سٰاهُونَ و غافلون عمّا يراد بهم، بل عن أنفسهم، أو عمّا امروا به من قبل ربّهم.

ثمّ حكى سبحانه ما يدلّ على شدّة جهالتهم و بغضهم للحقّ بقوله:

يَسْئَلُونَ أولئك المشركون عنك استهزاء بقولك: (انّ الدين لواقع) و يقولون: يا محمد أَيّٰانَ و متى يقع يَوْمُ الدِّينِ و وقت

ص: 48


1- . تفسير الرازي 197:28.
2- . تفسير الرازي 198:28.

جزاء الأعمال و ابتلائنا بالعذاب.

ثمّ لمّا كان غرضهم من السؤال الاستهزاء، هدّدهم بما يشبه الجواب و ليس بجواب بقوله:

يَوْمَ هُمْ فيه عَلَى النّٰارِ يُفْتَنُونَ و يعذّبون بها، كما يفتن الذهب بالنار و يحرق خبثه. قيل: يعني يعرضون على النار كعرض المجرّب للذهب المذهّب عليها(1) ، كأنّهم يجرّبون عليها، و تقول لهم خزنة جهنّم حين تعذيبهم:

ذُوقُوا أيّها المنكرون للحشر فِتْنَتَكُمْ و عذابكم، أو ما به امتحانكم و ابتلاؤكم في الدنيا من العقائد و الأعمال هٰذَا العذاب اَلَّذِي يتذوّقونه الآن ما كُنْتُمْ بِهِ في الدنيا تَسْتَعْجِلُونَ استهزاءً بالرسول و بإخبارنا به في كتابنا، و سخرية منه حيث كنتم تقولون: متى هذا الوعد، أو أيّان يوم الدين.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة المشركين و شدّة عذابهم في الآخرة، بيّن حسن عاقبة المتّقين و المجتنبين عن الشرك و الكفر و العصيان في الدنيا، المحترزين من عذاب اللّه في الآخرة بقوله:

إِنَّ المؤمنين اَلْمُتَّقِينَ عن الشرك و العصيان في الدنيا، متمكّنون في الآخرة فِي جَنّٰاتٍ و بساتين ذات قصور و بهاء و بهجة لا يمكن توصيفها وَ في ظلال عُيُونٍ غريزة، و أنهار جارية في أطرافهم بحيث يرونها و يفرحون بالنظر إليها حال كونهم

آخِذِينَ و قابلين مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ بفضله من النّعم الجسام، و راضين به لغاية جودته و كماله.

قيل: في قوله: مٰا آتٰاهُمْ بصيغة الماضي، دلالة على أنّ الإعطاء و التمليك كان في الدنيا، و القبول و الأخذ كان منهم في الآخرة(2).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه علّة الإنعام على المتّقين بتلك النّعم العظيمة الجسمية بقوله: إِنَّهُمْ كٰانُوا في العالم الذي كان قَبْلَ ذٰلِكَ العالم، و هو عالم الدنيا مُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم و أقوالهم، فأعطوا بذلك أحسن الجزاء، و كان من حسناتهم أنّهم

كٰانُوا في الدنيا مقدارا و زمانا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ و وقت نوم جميع الناس مٰا يَهْجَعُونَ و ينامون، و زمانا كثيرا منه يذكرون اللّه، و يصلّون و يعبدون.

ص: 49


1- . تفسير الرازي 199:28.
2- . تفسير الرازي 201:28.

قيل: إن كلمة (ما) في (ما يهجعون) زائدة مؤكّدة للقلّة(1). و قيل: إنّها مصدرية، و المعنى قليلا من الليل هجوعهم و نومهم(2).

قيل: نزلت في شأن الأنصار حيث كانوا يصلّون في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ يمضون إلى قبا، و بينهما ميلان(3). و قيل: إنّهم كانوا لا ينامون حتى يصلّون العشاء الآخرة(4).

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام، أنه قال: «من يهجع ما بين المغرب و العشاء حتى يشهد العشاء فهو منهم»(5).

و في (الكافي) عنه عليه السّلام: «كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان القوم ينامون، و لكن كلّما انقلب أحدهم قال: الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر»(4).

وَ بِالْأَسْحٰارِ و الثّلث الآخر من الليالي هُمْ على الدوام يَسْتَغْفِرُونَ ربّهم لذنوبهم. و قيل:

يعني بالأسحار يصلّون طلبا لمغفرة ذنوبهم(5).

* في فضيلة الاستغفار في الأسحار

روي أنّ اللّه تعالى قال: «إنّ أحبّ أحبّائي إليّ هم الذين يستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض شيئا ذكرتهم فصرفت بهم عنهم»(6).

قيل: يا رسول اللّه، كيف الاستغفار؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «قولوا: اللهمّ اغفر لنا، و ارحمنا، و تب علينا، إنّك أنت التواب الرحيم»(7).

وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19) وَ فِي الْأَرْضِ آيٰاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ (21) ثمّ إنّه تعالى بعد مدح المتّقين بعبادة ربّهم و تعظيمه، و شفقتهم على أنفسهم بطلب مغفرة ذنوبهم، مدحهم بشفقتهم على الخلق و إحسانهم إلى العباد بقوله:

وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ التي أعطاهم اللّه إياها، و خصّهم اللّه بها حَقٌّ عظيم و نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم لِلسّٰائِلِ و الفقير الذي يستعطيهم وَ الفقير اَلْمَحْرُومِ الذي لا يستعطيهم، بل يتعفّف عن السؤال و الطلب، بحيث يحسبه الناس غنيا فيحرم الصدقات.

ص: 50


1- . تفسير الرازي 201:28، تفسير روح البيان 153:9.
2- . تفسير الرازي 202:28، تفسير أبي السعود 138:8. (3-4-5) . تفسير روح البيان 153:9.
3- . الكافي 18/446:3، تفسير الصافي 69:5.
4- . التهذيب 1384/335:2، تفسير الصافي 69:5.
5- . تفسير الرازي 205:28، تفسير روح البيان 155:9.
6- . تفسير روح البيان 154:9.
7- . تفسير روح البيان 154:9.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «المحروم المحارف(1) الذي حرم كدّ يده من الشراء و البيع»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «المحروم الذي ليس بعقله بأس، و لا يبسط له الرزق، و هو محارف»(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عبادة المتقين و حسن أعمالهم و حسن جزائهم، بيّن استحقاقه للعبادة و الجهد في الطاعة و طلب مرضاته بقوله:

وَ فِي الْأَرْضِ سهلها و جبلها، و برّها و بحرها، و عيونها و أنهارها، و مسالكها و فجاجها، و نباتها و أشجارها، و أثمارها و معادنها، و ما رتّب فيها و دبّر لمنافعها لسكّانها آيٰاتٌ عظيمة، و دلائل واضحة على وجود صانعها و وحدانيته، و قدرته و علمه و حكمته، و إرادته و رحمته، و إنّما يكون الانتفاع بتلك الآيات لِلْمُوقِنِينَ بتوحيد اللّه، فانّهم لا يغفلون عنه في حال، و يرون له في كلّ شيء آية

وَ فِي أَنْفُسِكُمْ خصوصا آيات و دلائل على أن لها صانعا مستجمعا لجميع الكمالات، حيث إنّه انطوى في كلّ فرد منكم نظير كلّ موجود يكون في العالم، مع ما له من الأفعال البديعة و الصنائع المختلفة العجيبة، و العلوم الشريفة، و المعارف العالية، و الكمالات النفسانية الانسانية، أ أنتم عمون أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ تلك الآيات بعين البصيرة حتى تعتبروا و تستدلّوا بالصنعة على الصانع و بالنقش على النقّاش و كماله.

فى فضيلة

علي عليه السّلام

روى بعض العامة: أنّ عليا عليه السّلام صعد يوما على المنبر فقال: «سلوني عمّا دون العرش، فانّ ما بين جوانحي علم جمّ، هذا لعاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فمي، هذا ما رزقني اللّه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رزقا» و في رواية: «هذا ما رقّني رسول اللّه زقّا، فو الذي نفسي بيده، لو اذن اللّه للتوراة و الانجيل أن يتكلّما، فأخبرت بما فيهما لصدقاني».

و كان في المجلس رجل يماني، فقال: ادّعى هذا الرجل دعوى عريضة لأفضحنّه. فقام و قال: يا علي، أسأل ؟ قال «سلّ تفقّها و لا تسأل تعنّتا».

فقال: أنت حملتني على ذلك، هل رأيت ربّك يا علي ؟ قال: «ما كنت أعبد ربا لم أره». فقال: كيف رأيت ؟ فقال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن رأت القلوب بحقيقة الإيمان، ربّي واحد لا شريك له، أحد لا ثاني له، فرد لا مثل له، لا يحويه مكان، و لا يداوله زمان، و لا يدرك بالحواسّ، و لا يقاس بالقياس» فسقط اليماني مغشيا عليه، فلمّا أفاق، قال: عاهدت اللّه أن لا أسال تعنّتا(4).

وَ فِي السَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا

ص: 51


1- . المحارف: المحروم يطلب فلا يرزق.
2- . الكافي 12/500:3، تفسير الصافي 70:5.
3- . الكافي 12/500:3، و تفسير الصافي 70:5، عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.
4- . تفسير روح البيان 159:9.

أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرٰاغَ إِلىٰ أَهْلِهِ فَجٰاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهٰا وَ قٰالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قٰالُوا كَذٰلِكَ قٰالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قٰالَ فَمٰا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قٰالُوا إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجٰارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) ثمّ لمّا مدح اللّه سبحانه المتّقين بأنّ في أموالهم حقا معلوما، حثّ الناس على إنفاق أموالهم بقوله تعالى:

وَ فِي السَّمٰاءِ مكتوب و مقدّر رِزْقُكُمْ و ما يلزم لمعايشكم، و لو لا التقدير لما حصل لكم في الأرض حبّة قوت، و لو بذلتم في تحصيله غاية الجهد. و قيل: يعني أسباب رزقكم(1) من المطر و غيره وَ مٰا تُوعَدُونَ من خير و شرّ و رخاء و ثواب و عقاب.

و عن المجتبى عليه السّلام أنّه سئل عن أرزاق الخلائق، فقال: «في السماء الرابعة، تنزل بقدر و تبسط بقدر»(2).

فَوَ رَبِّ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ الذي يربّيهما و يربّي ما فيهما بإيصال ما يوجب بقاءها و كمالها إِنَّهُ لَحَقٌّ و صدق.

قيل: الضمير راجع إلى (يوم الدين) حيث قالوا: (ايان يوم الدين)(3).

و قيل: إنّه راجع إلى القرآن حيث قال سبحانه: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ و معنى المقسم عليه أنّه حقّ يكلّم به الملك من قبل اللّه، و ينطق(4) به مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ و تتكلّمون(5). و قيل: إنّه راجع إلى ما يوعدون من الجنّة(6). و المعنى كما أنّكم تتكلّمون و لا تشكّون في كلامكم.

و قيل: إنّه راجع إلى ما أخبر به من كون الأرزاق في السماء(5) ، و هو الأظهر.

في الحديث: «أبى ابن آدم أن يصدّق ربّه حتى أقسم له فقال: فَوَ رَبِّ السَّمٰاءِ» الآية(6).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «قاتل اللّه أقواما أقسم اللّه لهم بنفسه فلم يصدّقوه» انتهى(7).

ص: 52


1- . تفسير روح البيان 159:9.
2- . تفسير القمي 271:2، تفسير الصافي 71:5.
3- . تفسير الرازي 209:28.
4- . في النسخة: و نطق. (5-6) . تفسير الرازي 209:28.
5- . تفسير روح البيان 159:9.
6- . تفسير روح البيان 159:9.
7- . تفسير روح البيان 159:9.

قيل: لو أنّ يهوديا وعد لانسان رزقه، و أقسم به عليه، لاعتمد بوعده و قسمه، فقاتله اللّه كيف لا يعتمد على وعد اللّه و قسمه برزقه ؟!(1)

حكي أنّ هرم بن سنان قال لاويس القرني: أين تأمرني أن أكون ؟ فأومأ إلى الشام، فقال هرم: كيف المعيشة بها؟ قال اويس: أفّ لهذه القلوب التي قد خالطها الشك، فما تنفعها العظة(2).

قصة ضيف إبراهيم

و بشارتهم باسحاق

ثمّ شرع سبحانه في تهديد الكفّار بما نزل على الامم السابقة المهلكة، بكفرهم و طغيانهم من العذاب بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد و سمعت من أحد حَدِيثُ ضَيْفِ جدّك إِبْرٰاهِيمَ الذين كانوا عند اللّه من اَلْمُكْرَمِينَ و معظّمين بالعصمة و الاصطفاء و القرب، حيث كانوا من الملائكة الذين وصفهم اللّه بأنّهم عباد مكرمون.

و قيل: يعني كانوا مكرمين عند إبراهيم عليه السّلام حيث خدمهم بنفسه بحسبان أنّهم ضيف(3). قيل: لم يكذّبه اللّه في حسبانه إكراما له(4).

إِذْ دَخَلُوا و حين وردوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا بعد دخولهم تأدّبا و تحية له: نسلّم عليك سَلاٰماً فردّ إبراهيم تحيّتهم و قٰالَ سَلاٰمٌ عليكم. قيل: إنّه عليه السّلام لمّا ردّ عليهم قال في نفسه: هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ غير معروفين في هذا البلد، حيث كان أهله كفّارا، و لم تكن تحيتهم السّلام(5).

و قيل: إنّه عليه السّلام قال لهم: أنتم قوم منكرون، لم أر مثلكم في حسن الصورة و القامة، فعرّفوني أنفسكم. قالوا: نحن أضيافك(6).

فَرٰاغَ و ذهب إِلىٰ أَهْلِهِ و زوجته سارة خفية من أضيافه، لئلا يمنعوه من إتيان الطعام و تحمّل الكلفة فَجٰاءَ إليهم بِعِجْلٍ و ولد بقر سَمِينٍ كثير اللحم مشويّ؛ لأنّه كان عامة ماله البقر

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ و وضعه بين أيديهم ليأكلوا منه، فلم يمدّوا أيديهم إليه، و لم يأكلوا منه قٰالَ إبراهيم حثّا لهم على الأكل: أَ لاٰ تَأْكُلُونَ من اللحم المشوي ؟

روي أنّهم قالوا: لا نأكل منه بغير ثمن. قال إبراهيم: كلوا و أعطوا ثمنه. قالوا: و ما ثمنه ؟ قال إبراهيم:

إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه، و إذا فرغتم فقولوا: الحمد للّه، فتعجّبوا من قوله، ثمّ أنّهم مع ذلك لم يأكلوا منه

فَأَوْجَسَ و أضمر في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً لتوهّمه أنهم أعداؤه جاءوا بالشرّ، لكون العادة أنّ من يجيء بالشرّ ما كان يأكل من طعام من يريد إضراره(7). و قيل: وقع في نفسه أنّهم ملائكة ارسلوا

ص: 53


1- . تفسير روح البيان 160:9.
2- . تفسير روح البيان 160:9.
3- . تفسير روح البيان 161:9.
4- . تفسير الرازي 210:28.
5- . تفسير روح البيان 162:9.
6- . تفسير روح البيان 162:9.
7- . تفسير روح البيان 162:9.

للعذاب(1) ، فلمّا أحسّوا بخوفه قٰالُوا يا إبراهيم لاٰ تَخَفْ من شرّنا و ضرّنا، إنّا رسل ربّك. قيل:

مسح جبرئيل العجل بجناحه فقام يمشى حتى لحق بامّه، فعرفهم و أمن منهم(2).

وَ بَشَّرُوهُ تطييبا لقلبه بِغُلاٰمٍ و ولد ذكر عَلِيمٍ من سارة عقيمة لم تلد له

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة على أهلها لمّا سمعت البشارة، و هي فِي صَرَّةٍ و صيحة تقول: يا ويلتا. و عن الصادق عليه السّلام:

«في جماعة(3) من نسائها» فَصَكَّتْ و لطمت وَجْهَهٰا تعجّبا من قولهم، كما هو عادة النساء إذا أنكرن و تعجّبن من شيء وَ قٰالَتْ استبعادا لما بشّرت به بحكم العادة: كيف ألد الآن و أنا عَجُوزٌ قد بلغت من العمر تسعا و تسعين سنة، على ما قيل(4): عَقِيمٌ لم ألد مدّة عمري قطّ؟ فأجابها الملائكة و

قٰالُوا لها ردعا لها عن الاستبعاد و التعجّب: ما قلنا ذلك من قبل أنفسنا، بل كَذٰلِكَ الذي بشّرناك قٰالَ رَبُّكِ الذي خلقك بقدرته، و بلّغك برحمته إلى المرتبة العالية من الكمالات الجسمانية و الروحانية، و نحن أخبرناك بما قال إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في فعاله اَلْعَلِيمُ بأحوال عباده، فلا محالة يكون حقا، و فعله محكما، فليس لك أن تقولي: لم يعطيني الولد في شبابي، و بشّرني به في زمان كبري و عجزي.

روي أنّ جبرئيل قال لها: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعة مورقة و مثمرة، فأيقنت(5).

قيل: لمّا عرف إبراهيم الرسل و أنس بهم، استعجلوا في الخروج من عنده

قٰالَ لهم: فَمٰا خَطْبُكُمْ و أي الأمر العظيم عجّل بكم بعد هذا الانس (6)أَيُّهَا الملائكة اَلْمُرْسَلُونَ لبشارتي ؟

قٰالُوا ما ارسلنا لبشارتك فقط، بل إِنّٰا أُرْسِلْنٰا من جانب ربّك إِلىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ و مصرّين على الكفر و الطّغيان، و هم قوم لوط

لِنُرْسِلَ و نمطر عَلَيْهِمْ من السماء حِجٰارَةً مخلوقة مِنْ طِينٍ متحجّر مطبوخ بنار جهنّم، على ما قيل(7) ، فلا يتوهّم أنّها من برد، كما قيل(8) إنّ الحجارة قد تطلق عليه، و تلك الحجارة تكون

مُسَوَّمَةً و معلّمة كلّ واحدة منها باسم من يقتل بها، أو المراد مخلوقة لتعذيبهم عِنْدَ رَبِّكَ و بقدرته، لا للانتفاع بها كسائر الأحجار، أو مرسلة في علم اللّه لِلْمُسْرِفِينَ و لإهلاك المجاوزين عن الحدّ في الفجور.

ص: 54


1- . تفسير أبي السعود 140:8، تفسير روح البيان 162:9.
2- . تفسير أبي السعود 140:8، تفسير روح البيان 162:9.
3- . مجمع البيان 238:9، تفسير الصافي 71:5، تفسير القمي 330:2، لم ينسبه إلى أحد.
4- . تفسير روح البيان 163:9.
5- . تفسير أبي السعود 140:8، تفسير روح البيان 163:9.
6- . تفسير الرازي 216:28.
7- . تفسير روح البيان 164:9.
8- . تفسير الرازي 217:28، تفسير روح البيان 164:9.

عن ابن عباس: أي للمشركين، فانّ الشّرك أسرف الذنوب و أعظمها(1).

فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنٰا فِيهٰا آيَةً لِلَّذِينَ يَخٰافُونَ الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ (37) وَ فِي مُوسىٰ إِذْ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلّٰى بِرُكْنِهِ وَ قٰالَ سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عٰادٍ إِذْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مٰا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّٰ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتّٰى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّٰاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطٰاعُوا مِنْ قِيٰامٍ وَ مٰا كٰانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً فٰاسِقِينَ (46) ثمّ أخبر اللّه سبحانه بلطفه بلوط بقوله:

فَأَخْرَجْنٰا قبل نزول العذاب على القرى الخمسة، أو السبعة مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن قلنا للوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ (2).

فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا أهلا للنجاة من العذاب غَيْرَ أهل بَيْتٍ واحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ و هم لوط و أهله، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(3) ، قيل: أهله بنتاه(4) ، و قيل: كانوا ثلاثة عشر سوى امرأته الكافرة(5) ،

وَ تَرَكْنٰا بتعذيب أهل القرى فِيهٰا آيَةً عظيمة و دلالة واضحة على التوحيد و بطلان الشرك، و هي تلك الحجارة المسوّمة، أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم لِلَّذِينَ يَخٰافُونَ الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ فانّهم يرون آثار العذاب آية، و يعتبرون بها، لسلامة فطرتهم، و تنوّر قلوبهم، و قوّة بصيرتهم دون من عداهم.

وَ فِي حديث مُوسىٰ بن عمران عليه السّلام أيضا آية و عبرة - و قيل: إنّه عطف على قوله: وَ فِي الْأَرْضِ آيٰاتٌ (6)- إِذْ أَرْسَلْنٰاهُ من جانب الطور الأيمن إِلىٰ فِرْعَوْنَ ملك مصر مستدلا على رسالته بِسُلْطٰانٍ و معجز باهر مُبِينٍ كالعصا و اليد و البيضاء و غيرهما

فَتَوَلّٰى فرعون، و أعرض عن دعوة موسى عليه السّلام بِرُكْنِهِ و جانبه، و لم يقبل دعوته، و لم يعتن به. و قيل: يعني و تقوّى على معارضة موسى بقومه و جنده(7) ، أو تصدّى لدفع(8) موسى بقوّة نفسه حيث قال: ذروني أقتل

ص: 55


1- . تفسير روح البيان 164:9.
2- . هود: 81/11.
3- . علل الشرائع: 5/550، تفسير الصافي 72:5.
4- . مجمع البيان 238:9، تفسير روح البيان 164:9.
5- . تفسير أبي السعود 141:8، تفسير روح البيان 165:9.
6- . تفسير روح البيان 165:9.
7- . تفسير روح البيان 166:9.
8- . في النسخة: دفع.

موسى و من معه قٰالَ لقومه في حقّ موسى عليه السّلام: إنّه سٰاحِرٌ يفعل ما يفعل من خوارق العادات بالسحر و الشّعبذة، أَوْ هو مَجْنُونٌ فاقد العقل حيث يقول قولا لا يقبله(1) منه عاقل، مع أن فيه هلاك نفسه و قومه.

قيل: إنّ الساحر و المجنون كلاهما يستعينان بالجنّ، و الفرق أنّ الساحر يأتي الجنّ باختياره، و المجنون يأتيه الجنّ بغير اختياره، و غرضه من الترديد صيانة كلامه من الكذب(2).

و قيل: إنّه لغاية جهله طعن على موسى عليه السّلام بالمتضادين، حيث إنّ السحر مستلزم للعقل و جودة الذهن و كمال الحذاقة و الجنون هو زوال العقل و عدم الفهم و الدراك، و هما ضدّان(3).

و قيل: إنّ كلمة (أو) بمعنى الواو؛ لأنّه نسبه إليهما جميعا(4) ، و على أي تقدير عصى فرعون و طغى

فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ بذنبهم، كما يأخذ أحدكم الحصيات الصغار بكفّه فَنَبَذْنٰاهُمْ و طرحناهم فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ و مستحق للملامة عند العقلاء و عند نفسه بما ارتكب من معارضة موسى عليه السّلام و طغيانه بالكفر و العصيان.

وَ فِي قصّة قوم عٰادٍ الذين عارضوا هود آيات و عبر للناس إلى يوم القيامة إِذْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ عقوبة على كفرهم و طغيانهم و معارضة رسولهم هود اَلرِّيحَ الْعَقِيمَ و الصّرصر العاتية التي لم تلد خيرا من إنشاء مطر أو تلقيح شجر، و كيف يتوقّع منها الخير؟ و قيل: وصفت بالعقيم لأنّها قطعت دابرهم(3) ، فشبّهت بالنساء العقيمات اللاتي لا يلدن، لأنّها كانت سبب قطع الأرحام من الولادة بإهلاكهم، و الحال أنّها

مٰا تَذَرُ و ما تترك مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ و جرت عَلَيْهِ من انفسهم و أموالهم و أبنيتهم و مواشيهم إِلاّٰ جَعَلَتْهُ و صيّرته لشدّتها كَالرَّمِيمِ و مثل الحشيش اليابس المتفتّت.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الرياح خمسة: الريح العقيم، فتعوّذوا باللّه من شرّها»(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ للّه جنودا من الريح، يعذّب بها من عصاه»(5).

وَ فِي حديث قوم ثَمُودَ و هم قوم صالح آيات أو آية إِذْ قِيلَ لَهُمْ و القائل صالح بعد عقرهم ناقة اللّه: تَمَتَّعُوا و انتفعوا أيّها القوم بالحياة حَتّٰى حِينٍ و إلى وقت نزول العذاب، و هو آخر ثلاثة أيام، أو إلى انقضاء آجالكم المقدّرة، فإن أحسنتم حصل لكم التمتّع في الدارين، و إلاّ فما لكم في الآخرة من نصيب

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ و طغوا على خالقهم و نبيّهم، و لم يعتنوا بإنذاره،

ص: 56


1- . في النسخة: لا يقبل.
2- . تفسير الرازي 221:28. (3-4) . تفسير روح البيان 166:9.
3- . تفسير روح البيان 167:9.
4- . من لا يحضره الفقيه 1527/345:1، تفسير الصافي 73:5.
5- . الكافي 63/91:8، من لا يحضره الفقيه 1525/344:1، تفسير الصافي 73:5.

حيث قال لهم صالح: تصبح غدا وجوهكم مصفرّة، و بعد غد محمرّة، و في اليوم الثالث مسوّدة، ثمّ يصبّحكم العذاب.

قيل: لمّا رأوا وجوههم كما قال صالح، عمدوا إلى قتله، فنجّاه اللّه إلى ارض فلسطين، و لمّا كان اليوم الرابع تحنّطوا و تكفّنوا (1)فَأَخَذَتْهُمُ الصّٰاعِقَةُ و النار النازلة من السماء وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها حين نزولها.

و قيل: انّ المراد بالصاعقة صيحة جبرئيل مجازا، و يحتمل أنّه كانت الصاعقة مع الصيحة، فانّ الصيحة لا ينظر إليها، بل تسمع بالاذن(2).

و قيل: هو من الانتظار، و المعنى: هم ينتظرون ما أوعدوا به من العذاب، حيث شاهدوا علامات نزوله(3).

و قيل: إنّ معنى ينظرون يتحيّرون(4) ، فاهلكوا جميعا

فَمَا اسْتَطٰاعُوا شيئا قليلا مِنْ قِيٰامٍ و ما قدروا عليه، فضلا عن الهرب، أو المراد ما قدروا على قليل من المقاومة و الثّبات له وَ مٰا كٰانُوا حينئذ مُنْتَصِرِينَ بغيرهم في دفع العذاب، أو ما كانوا مدافعين عن أنفسهم، أو ممّن له شائبة الدفاع.

وَ أهلكنا قَوْمَ نُوحٍ بالغرق، أو اذكرهم مِنْ قَبْلُ و في عصر سابق على أعصار هؤلاء المهلكين، ثمّ ذكر سبحانه سبب إهلاكهم بقوله: إِنَّهُمْ كٰانُوا حال حياتهم قَوْماً فٰاسِقِينَ و خارجين عن طاعة اللّه و رسوله، و في ذكر القضايا الخمسة تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله، كيلا لا يشقّ عليه كفر و عنادهم، فانّ البلية إذا عمّت طابت.

وَ السَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ وَ إِنّٰا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْنٰاهٰا فَنِعْمَ الْمٰاهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللّٰهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لاٰ تَجْعَلُوا مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات الحشر و تهديد منكريه، شرع في إثبات التوحيد بالموجودات بقوله:

وَ السَّمٰاءَ المرفوعة التي ترونها لهذا العام و الدار الدنيا سقفا محفوظا، لا شكّ في أنّه ما بنتها الكواكب التي فيها، و لا الأصنام التي تنحتونها، بل نحن بَنَيْنٰاهٰا و رفعناها بِأَيْدٍ و قوة و قدرة لنا

ص: 57


1- . تفسير أبي السعود 142:8، تفسير روح البيان 169:9. (2-3-4) . تفسير روح البيان 169:9.

وَ إِنّٰا لَمُوسِعُونَ ها بحيث تحيط بجميع كرات العناصر، بل كلّها بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، أو لموسعون الرزق على الخلق منها، أو المراد لقادرون على خلق أمثالها

وَ الْأَرْضَ البسيطة التي تسكنونها، نحن فَرَشْنٰاهٰا و بسطناها تحتكم، لتستقرّوا عليها، و مهدناها لكم كالفراش، تنامون و تتقلبون عليها فَنِعْمَ الْمٰاهِدُونَ نحن، أو ماهدها.

وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و جنس من الاجناس خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ و نوعين، أو صنفين، كالجوهر و العرض، و المجرّد و المادي، و الجماد و النامي، و المدرك و النبات، و الناطق و الصامت، و الذكر و الانثى، إلى غير ذلك، و إنّما فعلنا جميع ذلك لَعَلَّكُمْ أيّها الناس تَذَكَّرُونَ و تتنبّهون أنّ ربكم قادر على كلّ شيء، و فرد لا زوج له، و أنّه خلق للدنيا زوجا، و هو الآخرة، و أنّه مستحق للعبادة، و متفرّد في الالوهية، فقل يا محمد إذا ظهر لكم أنّ الامر كذلك:

فَفِرُّوا و اهربوا من العذاب، و من كلّ ما تخافون منه إِلَى اللّٰهِ القادر المنعم عليكم وحده، و اسرعوا في الايمان بتوحيده و التسليم لأحكامه، و بادروا إلى عبادته، كي تنجوا من عقابه، و تفوزوا بثوابه إِنِّي لَكُمْ يا عباد اللّه مِنْهُ نَذِيرٌ و مخوّف من عذابه على الشرك مُبِينٌ و ظاهر رسالتي عنه ببرهان قاطع و معجز باهر، لا عذر لكم في تكذيبي و عدم اتّباع قولي.

ثمّ أكّد الأمر بالتوحيد بالنهي عن الشرك بقوله:

وَ لاٰ تَجْعَلُوا بهوى أنفسكم مَعَ اللّٰهِ الواحد الأحد في الالوهية و الربوبية و المعبودية إِلٰهاً و معبودا آخَرَ من مخلوقاته، كالكواكب و الأصنام و غيرهما، و لا تدعوا معه غيره إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.

كَذٰلِكَ مٰا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ قٰالُوا سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَوٰاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمٰا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ثمّ لمّا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّما دعا قومه إلى التوحيد و الايمان بالبعث بعد الموت، قالوا إنّه مجنون و كلّما أتى بالمعجزات قالوا: إنّه ساحر، و كان يتأثّر قلبه الشريف من ذلك، سلاّه سبحانه بالإخبار بأنّ سائر الأمم كان دأبهم ذلك بقوله:

كَذٰلِكَ أمر سائر الامم، فانّه مٰا أَتَى الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ من زمان نوح مِنْ رَسُولٍ مبعوث لهدايتهم إِلاّٰ قٰالُوا في حقّه إذا أتاهم بمعجزة:

إنّه سٰاحِرٌ أَوْ إذا دعاهم إلى التوحيد و المعاد: إنّه مَجْنُونٌ فلا تحزن على ما قال قومك في حقّك.

و العجب من اتّفاق جميع الامم على هذا القول الشنيع في حقّ رسلهم

ص: 58

بعضهم مع بعض أن يقولوا هذا القول، لا ليس توافقهم عليه لتوصيتهم بذلك، لبعد زمانهم، و عدم تلاقيهم في وقت بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ مشركون في عداوة اللّه و الإعراض عن الحقّ، فاشتركوا في التفوّه بتلك الكلمة الشنيعة

فَتَوَلَّ يا محمد و أعرض عَنْهُمْ فإنّك قد بالغت في دعوتهم، و أتعبت نفسك في نصحهم و وعظهم، و أتممت الحجّة عليهم فَمٰا أَنْتَ بعد ذلك بِمَلُومٍ في تركهم و الإعراض عنهم، فان كنت رحيما و عطوفا بهم، و لا تريد أن تدعهم بالكلية

وَ ذَكِّرْ وعظ الناس فَإِنَّ الذِّكْرىٰ و العظة و بيان العلوم و المعارف و امور الآخرة تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ حيث إنّها تنوّر قلوبهم، و تزيد في إيمانهم و رغبتهم إلى الطاعة و العبادة.

عنهما عليهما السّلام قالا: «إنّ الناس لمّا كذبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله همّ اللّه بإهلاك أهل الأرض إلاّ عليا فما سواه بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمٰا أَنْتَ بِمَلُومٍ ثمّ بدا له فرحم المؤمنين، ثمّ قال لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «لمّا نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لم يبق أحد منّا إلاّ أيقن بالهلكة، فلمّا نزل وَ ذَكِّرْ. .. الآية طابت أنفسنا»(2).

وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (56) ثمّ لمّا كان ازدياد المعرفة و رغبة المؤمنين في العبادة من منافع التذكير، بيّن سبحانه أنّ معرفته و عبادته هو الغرض من الخلقة بقوله:

وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ أولا و هم أعمّ من الملك وَ الْإِنْسَ بعدهم لغرض من الأغراض و حكمة من الحكم إِلاّٰ ليعرفون ربّهم بالوجود و الحكمة و القدرة و سائر الصفات الجمالية و الجلالية و لِيَعْبُدُونِ خالقهم، فيستكملوا بالعلم و العبادة، و يستعدّوا للنيل بالفيوضات الأبدية، و يستأهلوا للحياة الدائمة و النّعم الباقية، و الكرامات الفائقة غير المتناهية.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «خرج الحسين بن علي عليه السّلام على أصحابه، فقال: أيّها الناس، إنّ اللّه ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فاذا عرفوه عبدوه، و إذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه» فقال رجل: يا ابن رسول اللّه، بأبي أنت و أمّي، فما معرفة اللّه ؟ قال: «معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته»(3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» قيل: قوله تعالى: وَ لاٰ

ص: 59


1- . الكافي 78/103:8، تفسير الصافي 74:5.
2- . مجمع البيان 243:9، تفسير الصافي 75:5.
3- . علل الشرائع: 1/9، تفسير الصافي 75:5.

يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ؟ قال: «خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون رحمته [فيرحمهم]»(1).

تحقيق في الجمع

بين الروايات

أقول: بعد ما بينا أنّ معرفة اللّه مستلزمة لعبادته، و عبادته مستلزمة لاستحقاق رحمته، و الغرض من الخلق أن يستكملوا أنفسهم و تترقّى من حضيض الحيوانية إلى كمال الانسانية حتى تستأهل للرحمة الدائمة و الفيوضات الأبدية، صحّ أن يقال: خلقهم اللّه لمعرفته و لعبادته، و لمّا كان حصول العبادة متوقّفا على أمر اللّه و نهيه، و تعليمه كيفية عبادته، كتوقّفه على معرفته، صحّ أن يقال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، للتنبيه على أنّ العبادة التي هي المقصودة من الخلق، هي العبادة الاختيارية لا الجبرية و الاضطرارية، فظهر ممّا ذكر صحّة تعليل الخلق بكلّ من المعرفة و الأمر بالعبادة، و العبادة و الرحمة، و لمّا كان ظاهر الآية المباركة كون العبادة غاية الغايات، بيّن سبحانه بقوله: وَ لِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ أنّ غاية الغايات نيلهم بالرحمة و النعم لا نفس العبادة، و من ذلك يصحّ إطلاق الناسخ على الآية الثانية، كما ورد في حديث «أنّ الآية منسوخة بقوله: وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (2) فلا تنافي بين الروايات.

مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحٰابِهِمْ فَلاٰ يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) ثمّ لمّا كانت الآية موهمة لحاجته تعالى إلى عبادة خلقه، صرّح سبحانه بأنّ الغرض استكمال الخلق لا استكمال نفسه بقوله:

مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ شيئا مِنْ رِزْقٍ و مال يكتسبون لي لأنظم به أمور معيشتي، كما يريد الموالي من عبيدهم ذلك وَ مٰا أُرِيدُ منهم أقلّ من ذلك، مثل أَنْ يطبخوا لي طعاما يُطْعِمُونِ و حاصل مفاد الآية و اللّه أعلم: إنّي لا اريد منهم مالا ارتزق به، أو عملا أقضي به حاجتي

إِنَّ اللّٰهَ الذي هو خالق كلّ شيء هُوَ الرَّزّٰاقُ لعباده، فكيف يريد منهم الرزق و هو ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ و الشديد على جميع خلقه، فكيف يحتاج إلى عملهم له ؟

و إذا علم أنّ خلق الثقلين للعبادة

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا و لم يعتنوا بالغرض الذي خلقوا له، و وضعوا عبادتهم في غير موضعها، بأن عبدوا غير اللّه، و وضعوا مكان تصديق النبي صلّى اللّه عليه و آله تكذيبه، أو ضيّعوا

ص: 60


1- . علل الشرائع: 10/13، تفسير الصافي 75:5.
2- . تفسير القمي 331:2، تفسير الصافي 75:5، و الآية من سورة هود: 118/11.

حقّ أنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم ذَنُوباً و نصيبا وافرا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحٰابِهِمْ و أنصباء نظرائهم من الامم المهلكة، أو المراد أنّ لهم تبعات من العذاب مثل تبعات أضرابهم من الطّغاة الذين أستأصلهم العذاب فَلاٰ يَسْتَعْجِلُونِ و لا يسألون سرعة مجيئه بقولهم: فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا (1) أو مَتىٰ هٰذَا الْوَعْدُ (2) فانّه نازل بهم في الوقت المعيّن عندنا.

ثمّ عظّم سبحانه ذلك العذاب الموعود تهويلا لهم بقوله:

فَوَيْلٌ أي ويل لِلَّذِينَ استحقّوا أشدّ العذاب، لأنّهم كَفَرُوا باللّه و رسوله مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ بعد خروجهم من الدنيا من يوم القيامة، أو زمان الرجعة، فوافق أوّل السورة آخرها، حيث قال في أولها: إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ (3) و في آخرها: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة و الذاريات في يومه أو ليلته، أصلح اللّه له معيشته، و آتاه برزق واسع، و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة»(4).

ص: 61


1- . الأعراف: 70/7.
2- . الأنبياء: 38/21.
3- . الذاريات: 5/51.
4- . ثواب الأعمال: 115، مجمع البيان 228:9، تفسير الصافي 76:5.

ص: 62

في تفسير سورة الطور

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الطُّورِ (1) وَ كِتٰابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) ثمّ لمّا ختمت سورة و الذاريات المبتدئة بأربعة أيمان على أنّ وعد اللّه بالعذاب و الحشر صادق، و بيان كون يوم القيامة يوم يفتنون على النار، المتضمّنة بسوء عاقبة الكفار، و حسن عاقبة المتّقين، المختتمة بذكر الويل للكافرين، اردفت بسورة الطور المبتدئة بخمسة أيمان على أنّ العذاب في القيامة واقع لا محالة، و بيان كون القيامة فيه أهوال عظيمة، و ذكر الويل للمكذّبين بيوم الدين، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك و تعالى:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ لمّا كان العرب يتحرّزون عن الأيمان الكاذبة، و أنّ الشخص العظيم لا يحلف إلاّ على الأمر العظيم الذي لا يرتدع(1) المنكر بالبرهان لنسبته إلى الجدل، أكّد سبحانه البرهان على الحشر بالأيمان بقوله:

وَ الطُّورِ و هو على ما قيل: الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى بن عمران، أو طور سينين، أو مطلق الجبل(2). و عن ابن عباس: الطور كلّ جبل ينبت(3).

وَ كِتٰابٍ كريم مَسْطُورٍ و مكتوب على وجه الانتظام. قيل: هو التوراة المكتوب في الألواح(4). و قيل: هو القرآن(5) المكتوب

فِي رَقٍّ و جلد رقيق مَنْشُورٍ و مبسوط و قيل: هو اللّوح المحفوظ(6). و قيل: هو صحائف الأعمال(7) المبسوطة للناس يوم القيامة، أو مفتوحة له لا ختم عليها(4).

وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الذي يكون تحت العرش، أو في السماء السابعة، أو الرابعة بحيال الكعبة، و عمرانه بطواف الملائكة، يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملك، و يصلّون فيه، و لا يعودون إليه أبدا،

ص: 63


1- . كذا، و الظاهر لا يردع.
2- . تفسير الرازي 239:28.
3- . تفسير روح البيان 184:9. (4و5) . تفسير روح البيان 185:9. (6و7) . جوامع الجامع: 466.
4- . تفسير روح البيان 185:9.

و حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه وضع تحت العرش أربع أساطين، و سمّاهن الضّراح، و هو البيت المعمور، و قال للملائكة: طوفوا به، ثم بعث ملائكة، و قال: ابنوا في الارض بيتا بمثاله و قدره، و أمر [من] في الأرض أن يطوفوا بالبيت»(1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث المعراج: «أنّه في السماء السابعة»(2). و عن القمي: أنّه في السماء الرابعة(3). و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في رواية: «أنّه في السماء»(4). و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه في السماء الدنيا»(5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «البيت الذي في السماء يقال له الضّراح، و هو بفناء البيت الحرام، لو سقط لسقط عليه، يدخله كلّ يوم ألف ملك لا يعودون فيه أبدا»(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «و يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون اليه أبدا»(7). و قيل:

إنّ المراد منه بيت اللّه الحرام(8).

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ عن الأرض، و هو السماء، أو العرش، و في إرداف السقف بالبيت ما لا يخفى من الحسن

وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ و المملوء من الماء. قيل: هو البحر المحيط الذي هو مادة سائر البحار(9).

و روى بعض العامة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو بحر تحت العرش، عمقه كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين، فيه ماء غليظ، يقال له بحر الحيوان، و هو بحر مكفوف، يمطر منه على الموتى ماء كالمنيّ بعد النّفحة الاولى أربعين صباحا، فينبتون في قبورهم»(10).

و قيل: هو بحر في السماء الدنيا، لولاه لأحرقت الشمس الدنيا(11). و قيل: المسجور بمعنى الموقد، لما روي أن اللّه تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا، يسجّر بها نار جهنّم(12).

إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ لَوٰاقِعٌ (7) مٰا لَهُ مِنْ دٰافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمٰاءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ

ص: 64


1- . مجمع البيان 389:1، تفسير الصافي 77:5.
2- . تفسير القمي 9:2، تفسير الصافي 77:5.
3- . تفسير القمي 331:2، تفسير الصافي 77:5.
4- . الجامع للقرطبي 59:17، مجمع البيان 247:9.
5- . مجمع البيان 247:9، تفسير الصافي 77:5.
6- . مجمع البيان 247:9، تفسير الصافي 77:5، عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
7- . مجمع البيان 247:9، تفسير الصافي 77:5.
8- . تفسير الرازي 239:28.
9- . تفسير روح البيان 186:9.
10- . تفسير روح البيان 186:9.
11- . تفسير روح البيان 186:9.
12- . تفسير الصافي 78:5، تفسير روح البيان 186:9.

اَلْجِبٰالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) اَلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلىٰ نٰارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ لَوٰاقِعٌ و نازل لا محالة، و في لفظ (ربّك) تأمين للرسول منه.

قيل: إنّ الحلف بالطّور و البيت المعمور الذي هو ملاذ الملائكة، و بالسماء و البحر، مع أن وجود كلّ منها و بقائه بقدرة اللّه، مشعر بأن لا مهرب من ذلك العذاب(1) ، كما صرح به سبحانه بقوله:

مٰا لَهُ مِنْ دٰافِعٍ حيث إنّ التحصّن منه إما بالذّهاب إلى شاهق الجبل، أو بالتحصين في البيت، أو بالصعود إلى السماء، أو بالغوص في البحر، و من المعلوم أنّ كلّها تحت قدرة اللّه و إحاطته، حيث وصف زمان وقوع ذلك العذاب بقوله:

يَوْمَ تَمُورُ السَّمٰاءُ و تضطرب، و تجيء و تذهب مَوْراً و اضطرابا شديدا عجيبا. قيل: تدور السماء كما تدور الرّحى، و تتكفّأ بأهلها تكفّؤ السفينة (2)

وَ تَسِيرُ الْجِبٰالُ كالريح كما عن القمي(3) ، أو كالسّحاب كما عن بعض العامة (4)سَيْراً سريعا، ثمّ تصير كالعهن، و ذلك لانقضاء الدنيا، و عدم انتفاع بني آدم بها، و عدم عودهم إليها، فاذا كان الأمر كذلك

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بتوحيد اللّه و رسله.

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله:

اَلَّذِينَ هُمْ مستقرّون فِي خَوْضٍ و اندفاع عجيب عظيم، و انغماس في الأباطيل و الأكاذيب، كما يغاص في الماء و يَلْعَبُونَ و يلهون بالدنيا و يتشاغلون بما يصرفهم عمّا فيه خيرهم و سعادتهم الأبدية، ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم الذي فيه الويل للمكذبين بقوله:

يَوْمَ كأنّه قال ذلك اليوم يكون يوم يُدَعُّونَ و يدفع المكذّبون بالعنف و الشّدّة إِلىٰ نٰارِ جَهَنَّمَ دَعًّا و دفعا شديدا حتى يصلون فيها على وجوههم و أقفيتهم. و قيل: إنّ اليوم بدل عن قوله: يَوْمَ تَمُورُ أو ظرف للقول المقدّر فيما بعد(5).

هٰذِهِ النّٰارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا أَمْ أَنْتُمْ لاٰ تُبْصِرُونَ (15) اِصْلَوْهٰا فَاصْبِرُوا أَوْ لاٰ تَصْبِرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَعِيمٍ (17) فٰاكِهِينَ بِمٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ عَذٰابَ

ص: 65


1- . مجمع البيان 248:9.
2- . تفسير أبي السعود 147:8، تفسير روح البيان 189:9.
3- . تفسير القمي 332:2، تفسير الصافي 78:5.
4- . تفسير روح البيان 189:9.
5- . تفسير أبي السعود 147:8، تفسير روح البيان 189:9.

اَلْجَحِيمِ (18) ثمّ يقول لهم خازن النار تقريعا و توبيخا:

هٰذِهِ النّٰارُ التي تصلونها هي النار اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا بالنبي الذي كان يهدّدكم بِهٰا تُكَذِّبُونَ و تستهزءون، و كنتم تنسبون القرآن الناطق به إلى السّحر

أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا الذي ترون أَمْ أَنْتُمْ عمي لاٰ تُبْصِرُونَ النار التي وعدتم بها، كما كنتم في الدنيا عميا عن معجزات الرسول و آيات التوحيد و المعاد. فلمّا ثبت أنها نار في الواقع و لا خلل في أبصاركم، ذوقوا حرّها و ألمها

اِصْلَوْهٰا فَاصْبِرُوا أيّها المكذّبون على النار و شدائدها أَوْ لاٰ تَصْبِرُوا لا خلاص لكم منها أبدا سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ الأمران الصبر و الجزع، لا الصبر ينجيكم منها، و لا الجزع يدفعها عنكم.

و اعلموا أنّ تعذيبكم بها ليس ظلما عليكم، بل هو ما اخترتم لأنفسكم بأعمالكم إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ و ترتكبون من الكفر و العصيان، بلا زيادة و لا نقصان.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفار المكذّبين للآيات في الآخرة، بيّن حسن حال [المتقين بقوله

: إِنَّ] الْمُتَّقِينَ من الكفر و العصيان، و المصدّقين بالرسول و المعاد، يومئذ طوبى لهم، فانّهم حين ابتلاء الكفّار بعذاب النار في جهنّم، متمكّنون فِي جَنّٰاتٍ وَ بساتين عديدة، و مستغرقون في نَعِيمٍ دائم لا نهاية له حال كونهم

فٰاكِهِينَ و متلذّذين بِمٰا آتٰاهُمْ و أعطاهم رَبُّهُمْ اللطيف بهم من خزائن رحمته، و مسرورين به، وَ بأنّه وَقٰاهُمْ و حفظهم رَبُّهُمْ عَذٰابَ الْجَحِيمِ و الاحتراق بالنار الجاحمة(1).

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلىٰ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) ثمّ يقول له خازن الجنة أو خالقها إذنا و اباحة و إكراما لهم:

كُلُوا أيّها المؤمنون المتّقون من أيّ مأكول اشتهيتم وَ اشْرَبُوا من أيّ مشروب أحببتم، أكلا و شربا هَنِيئاً سائغا لا تكدير فيه من التّخم و السّقم و المرض و النّكب و خوف الانقطاع بِمٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الايمان و الأعمال الصالحة و ترك المشتهيات المحرّمة، فان اللّه لا يضيع أجر المحسنين، و يكون أكلهم و شربهم حال كونهم

مُتَّكِئِينَ و مستندين كالسلاطين على نمارق و وسائد موضوعة عَلىٰ سُرُرٍ و عروش متعدّدة مَصْفُوفَةٍ و مصطفّة متصلة بعضها ببعض. قيل: طول كلّ سرير في السماء

ص: 66


1- . النار الجاحمة: الشديدة الحرّ، و في النسخة: الماحجة.

مائة ذراع، إذا أراد المؤمن الصعود عليه اتّضع له، فاذا قعد عليه ارتفع إلى أصل حاله(1). و قيل: إنّ المصفوفة بمعنى المزيّنة بالذهب و الفضة و الجواهر(2).

وَ زَوَّجْنٰاهُمْ و قرنّاهم بِحُورٍ و نساء يحار الناظر في حسنهنّ عِينٍ واسعات الأحداق، و فيه إظهار غاية اللطف بهم، حيث نسب تزويجهم إلى نفسه، و بيّن أنّه المتصدّي له، ثمّ وصف أزواجهم بغاية الحسن، فانّ أحسن الأعضاء الوجه، و أحسن ما في الوجه العين، و أحسن العيون العين الواسعة. قيل: إنّ سعة العين سبب كثرة الروح المصوّبة(3) إليها(4).

فبيّن سبحانه إتمام النّعم على المتّقين، فانّ أول ما يحتاج إليه المسكن، ثمّ المأكول و المشروب، ثمّ الفرش و البسط، ثمّ الأزواج، فذكر سبحانه جميعها على الترتيب، و وصف كلاّ منها بغاية الكمال.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ (21) ثمّ لمّا كان شفقة المؤمنين في الآخرة على الأولاد كشفقتهم في الدنيا عليهم، طيّب سبحانه قلوب المؤمنين بأنّه يجمع بينهم في الجنّ بقوله:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بل إنّه عطف على قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ و قيل: على قوله: بِحُورٍ عِينٍ و المعنى: و قرنّاهم بحور عين و بالذين آمنوا (5)وَ اتَّبَعَتْهُمْ و وافقتهم ذُرِّيَّتُهُمْ و أولادهم بِإِيمٰانٍ حكمي كما في غير المميز، أو حقيقي كما في المميّز، و لو كان قليلا و ضعيفا أَلْحَقْنٰا بِهِمْ و جعلنا في درجتهم ذُرِّيَّتُهُمْ يتنعّمون بما يتنعمون به آباؤهم وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ و ما أنقصنا بالحاق أولادهم بهم مِنْ ثواب عَمَلِهِمْ في الدنيا مِنْ شَيْءٍ قليل، بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم، بل لا يكون رفعهم إلى درجة آبائهم إلاّ بالاحسان و التفضّل عليهم، لكون فطرتهم فطرة الاسلام، و التفضّل عليهم تفضيل على والديهم.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يرفع ذرية المؤمن في درجته، و إن كانوا دونه، لتقرّ بهم عينه» ثمّ تلا هذه الآية(6).

و روي أنّه سألت خديجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ولدين لها ماتا في الجاهلية، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هما في النار» فكرهت. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت: فالذي منك ؟ قال: «في الجنة، إن

ص: 67


1- . تفسير روح البيان 191:9.
2- . تفسير روح البيان 191:9.
3- . في النسخة: المصبوبة.
4- . تفسير الرازي 249:28.
5- . تفسير الرازي 251:28.
6- . تفسير الصافي 79:5، تفسير روح البيان 192:9.

المؤمنين و أولادهم في الجنّة، و إنّ المشركين و أولادهم في النار»(1).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة»(2).

و عنه عليه السّلام: «قصرت الأبناء عن عمل الآباء، فألحقوا(3) الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم»(4).

و عنه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعال كفّل إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين، يغذونهم بشجرة في الجنّة، لها أخلاف كأخلاف البقر، في قصر من درّة، فاذا كان يوم القيامة البسوا و طيّبوا و اهدوا إلى آبائهم، فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم، و هذا قول اللّه: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ» الآية(5).

أقول: الظاهر أنّ الوعد لا يختصّ بالآباء المؤمنين، بل إذا كانت الامّ مسلمة، و لحق بها الولد في الدنيا، لحق بها في الآخرة أيضا.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لحقوق الأولاد بآبائهم في درجة الجنة، و إن لم يكن لهم إيمان حقيقي و عمل صالح، بل إيمان تبعيّ و حكميّ، بيّن سبحانه أنّ الايمان الحقيقي و العمل الصالح لا يطلب إلاّ ممّن بلغ مبلغ الرجال بقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ و رجل بالغ بِمٰا كَسَبَ من الايمان و العمل الصالح رَهِينٌ و محتبس عند اللّه، فان أدّى ما عليه من الاحسان و صالح الأعمال فك و خلّص من الرهانة و الحبس و دخل الجنة، و كذا المرأة، دون الصبي و الصبية، فانّهما يدخلان الجنّة بعمل الآباء و الامّهات.

وَ أَمْدَدْنٰاهُمْ بِفٰاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمّٰا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنٰازَعُونَ فِيهٰا كَأْساً لاٰ لَغْوٌ فِيهٰا وَ لاٰ تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمٰانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ (25) قٰالُوا إِنّٰا كُنّٰا قَبْلُ فِي أَهْلِنٰا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْنٰا وَ وَقٰانٰا عَذٰابَ السَّمُومِ (27) إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) ثمّ لمّا ذكر سبحانه عدم تنقيص ثواب أعمال المؤمنين بالحاق أولادهم بهم، بيّن أنّه لا يقتصر على إعطاء ثواب أعمالهم، بل يزيدهم آنا فآنا من فضله بقوله:

وَ أَمْدَدْنٰاهُمْ و زدناهم على ما ذكر من النّعم بأن نتفضّل عليهم بِفٰاكِهَةٍ كثيرة طيبة دائمة من ثمار الجنة وَ لَحْمٍ كثير طيب، و هما أرفع

ص: 68


1- . تفسير روح البيان 193:9.
2- . تفسير القمي 332:2، مجمع البيان 251:9، تفسير الصافي 79:5.
3- . في التوحيد و من لا يحضره الفقيه: فألحق اللّه عزّ و جلّ.
4- . التوحيد: 7/394، من لا يحضره الفقيه 1537/316:3، الكافي 5/249:3، تفسير الصافي 79:5.
5- . من لا يحضره الفقيه 1536/316:3، تفسير الصافي 79:5.

أنواع المأكولات للمتنعّمين، و لا يقتصر على نوع خاص، بل يعطون مِمّٰا يَشْتَهُونَ و يرغبون إليه من أنواع الفواكه و اللحوم. روي أنّ المؤمن إذا اشتهى الطير يخرّ بين يديه مشويا (1)

يَتَنٰازَعُونَ و يتعاطون فِيهٰا بنحو التجاذب و التلاعب كَأْساً مملوءة من خمر الجنة، لكن لاٰ لَغْوٌ و كلام باطل و واه فِيهٰا كما يكون في شرب خمر الدنيا وَ لاٰ يكون فيها تَأْثِيمٌ و فعل قبيح من السبّ و الفحش، كما هو لازم السّكر في الدنيا، بل لا يتكلّمون إلاّ بأحاسن الكلام، و لا يفعلون إلاّ ما يفعله الكرام، لعدم حصول نقص في عقولهم، فضلا من زوالها. و قيل: لا يكون في شربها إثم و عصيان(2).

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ و يدور حولهم لخدمتهم، أو بكئوسهم غِلْمٰانٌ و خدم حسان الوجوه، مخلوقون لَهُمْ في الجنّة كَأَنَّهُمْ في البياض و الصفاء لُؤْلُؤٌ رطب مَكْنُونٌ و مصون في الصّدف عن الغبار و مسّ الأيدي، أو مخزون فانّه لا يخزن إلاّ الثمين الغالي القيمة.

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا لخادم، فكيف المخدوم! فقال: «و الذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(3).

و روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إن أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه، فيجيبه ألف ببابه: لبيك لبيك»(4).

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ آخر، و توجّه إليه، و هم يتحادثون و يَتَسٰاءَلُونَ تلذّذا و تفكّها و استئناسا، و يتذاكرون أحوالهم و أعمالهم في الدنيا، و بأنّه نالوا الكرامة في الآخرة

قٰالُوا جوابا للسائلين عن أحوالهم: يا إخواننا إِنّٰا كُنّٰا في زمان حياتنا قَبْلُ و في دار الدنيا فِي أَهْلِنٰا و أقاربنا مُشْفِقِينَ و خائفين من مخالفة أحكام اللّه و سوء عاقبتنا و أهوال الآخرة

فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْنٰا بالتوفيق لطاعته وَ وَقٰانٰا بذلك و حفظنا به من عَذٰابَ السَّمُومِ و الاحتراق بالنار الحارة النافذة في منافذ الجسد، كالريح الحارة النافذة فيها

إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ و في دار الدنيا نعبد اللّه و نَدْعُوهُ أن يقينا من العذاب، فوقانا و استجاب دعاءنا، و أدخلنا في جنته و رحمته إِنَّهُ تعالى هُوَ الْبَرُّ و المحسن بعباده اَلرَّحِيمُ بمن آمن به و أطاعه، الكثير الرحمة على من أقبل إليه.

فَذَكِّرْ فَمٰا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكٰاهِنٍ وَ لاٰ مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شٰاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ

ص: 69


1- . تفسير روح البيان 195:9.
2- . مجمع البيان 251:9.
3- . مجمع البيان 251:9، تفسير الصافي 80:5.
4- . تفسير أبي السعود 149:8، تفسير روح البيان 196:9.

رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاٰمُهُمْ بِهٰذٰا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ (32) ثمّ لمّا أمر سبحانه في آخر السورة السابقة بتذكير الخائفين من الوعيد، و ذكر هنا حال الخائفين من عذابه، أمره بوعظهم و تذكيرهم بقوله تعالى:

فَذَكِّرْ يا محمد وعظ الخائفين من اللّه بآيات الكتاب الكريم، و لا تعتن بما يقوله الكفار من أنّ محمدا كاهن أو مجنون فَمٰا أَنْتَ بحمد اللّه و بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي أنعمها عليك من كمال العقل و منصب الرسالة بِكٰاهِنٍ و مخبر بالغيب بتوسّط الجنّ وَ لاٰ مَجْنُونٍ و فاسد العقل.

ثمّ وبّخهم سبحانه على بعض أقاويلهم الشنيعة تعجّبا منها بقوله:

أَمْ يَقُولُونَ اولئك الطّغاة إذا سمعوا القرآن: إنّ محمدا شٰاعِرٌ و ملفّق الكلمات الموزونة المزينة المموّهة(1) لطلب المال، و لا نعارضه خوفا من أن يغلبنا بقوة شعره، أو يهجونا، بل نَتَرَبَّصُ و ننتظر بِهِ في خلاصنا من شرّه رَيْبَ الْمَنُونِ و حوادث الدهر، أو موته و هلاكه

قُلْ يا محمد، لهؤلاء المعاندين: تَرَبَّصُوا و انتظروا هلاكي بحوادث الدهر فَإِنِّي مَعَكُمْ أيضا متربص مِنَ جملة اَلْمُتَرَبِّصِينَ لهلاككم بالعذاب النازل عليكم من اللّه أو بأيدينا.

ثمّ وبّخهم سبحانه على ضعف عقولهم بقوله:

أَمْ تَأْمُرُهُمْ و تبعثهم أَحْلاٰمُهُمْ و عقولهم بِهٰذٰا القول الشنيع، و إلى التكلّم بالمتناقضات، حيث إنّ لازم الكهانة الفطنة و العقل و الدقّة في الامور، و لازم الجنون عدم الفهم و اختلال الفكر، و لازم الشاعر القدرة على الكلام الموزون المتّسق المخيّل بقوة الفكر، و لا يمكن اجتماع الثلاثة في شخص واحد، لا و اللّه لا يجوّز العقل التكلّم بها أَمْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ و هل هم إلاّ طائفة معاندون للّه و لكلّ حقّ و صواب، يبعثهم عنادهم إلى التكلّم بالخرافات التي لا تصدر من ذي شعور، و المكابرة بالتفوّه بكلّ كلام باطل لإطفاء الحقّ مع ظهوره.

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاٰ يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخٰالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ (38)

ص: 70


1- . في النسخة: المموّهمة.

ثمّ وبّخهم سبحانه على الطعن على القرآن الذي فيه وجوه من الاعجاز بقوله:

أَمْ يَقُولُونَ: إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل مما تَقَوَّلَهُ محمد، و اختلقه من قبل نفسه، و ينسبه كذبا إلى اللّه ؟ لا و اللّه ليس كذلك، و لا يعتقدون ذلك بَلْ هم قوم ختم اللّه على قلوبهم، فهم لاٰ يُؤْمِنُونَ بآية من الآيات، و لا يصدّقون معجزة من المعجزات، فان كان القرآن ممّا تقوّله محمد كما يقولون الكفّار

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ و كلام مركّب مِثْلِهِ في الفصاحة و البلاغة و حسن الاسلوب، و الاشتمال على العلوم و المعارف، من عند أنفسهم إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ في ما يقولون من أنّه كلام البشر، مع أنّهم مهرة الكلام و فرسان ميدان الفصاحة و البلاغة، و طول ممارستهم الخطب و الأشعار، و كثرة مزاولتهم لأساليب النّظم و النثر، و شدّة اهتمامهم بحفظ الوقائع و الأيام و لا يمكنهم الإتيان بسورة منه فضلا عن جميعه.

ثمّ إنّه تعالى بعد توبيخ المشركين على الطعن على رسوله و كتابه، وبّخهم على إنكار اللّه تعالى بقوله:

أَمْ خُلِقُوا قيل: إنّ التقدير أ ما خلقوا أصلا(1) ، أم خلقوا و قدّروا و وجدوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يكون خالقهم و مقدّرا و موجدا لهم أَمْ لهم موجد و خالق، و لكن هُمُ أنفسهم اَلْخٰالِقُونَ لأنفسهم ؟ و كل الصور الثلاث باطل بالبداهة، لتحقّق خلقهم، و امتناع وجود المخلوق بغير خالق، و امتناع كون أنفسهم خالقا لهم.

و قيل: إنّ المراد من قوله: خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير حكمة، و عبثا لا لشيء(2). و قيل: يعني خلقوا من غير أب و أمّ(3).

و قيل: في وجه ارتباط الآية: إنّه لمّا كذّبوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و نسبوه إلى الكهانة و الجنون و الشعر، ذكر الدليل على صدقه(4) ، حيث إنّه يدّعي التوحيد و الرسالة و الحشر، و دليل كلّ منها ظاهر في أنفسهم، أمّا دلالة وجودهم على التوحيد فظاهر، و أما دلالته على الحشر فلأنّ الخلق الأوّل دليل على الخلق الثاني، و المراد: أ ما خلقوا أصلا، فينكرون التوحيد لانتفاء الايجاد، و ينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول، أم يقولون: إنّهم ما خلقوا لشيء فلا إعادة، أو ما خلقوا من تراب و ماء أو من نطفة حتى يخفى عليهم أنّ لهم خالقا و يقولون: إنّ خلقنا كان اتّفاقيا، أم هم الخالقون للموجودات، فيعجزون بكثرة العمل عن الخلق الثاني مرّة، كما أن الإعياء(5) دأب الانسان ؟

ص: 71


1- . تفسير الرازي 260:28.
2- . تفسير الرازي 260:28.
3- . تفسير الرازي 260:28، تفسير روح البيان 202:9.
4- . تفسير الرازي 259:28.
5- . في النسخة الأعباء.

أَمْ هم خَلَقُوا بقدرتهم اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ فلا يستدلّون بهما على وجود الصانع القادر الحكيم ؟ لا و اللّه لا يقولون بأنّهم خالقهما بَلْ يشكّون في خالقهما و لاٰ يُوقِنُونَ بالنظر إلى الآيات الآفاقية و الأنفسية المذكورة بأنّ اللّه خالقهما و خالق كلّ شيء، و إلاّ لما أعرضوا عن عبادته، و ما أنكروا قدرته على البعث

أَمْ عِنْدَهُمْ و تحت تصرّفهم خَزٰائِنُ رحمة رَبِّكَ حتى يعطوا النبوة من شاءوا و يمنعوها عمّن شاءوا؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ و الغالبون على من له الخزائن حتى يجبروه على الاعطاء و المنع على وفق إرادتهم و هوى أنفسهم ؟

أَمْ لا يحتاجون إلى الرسول، بل لَهُمْ سُلَّمٌ يصعدون فيه إلى السماء، و يَسْتَمِعُونَ من الملائكة ما يحتاجون إلى العلم به من الأحكام و سائر الأمور حال كونهم صاعدين فِيهِ؟ فان كانوا يدّعون ذلك فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ من الملائكة بصعوده إلى السماء بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ و برهان واضح على استماعه و صدقه في دعواه.

أَمْ لَهُ الْبَنٰاتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِ سُبْحٰانَ اللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (43) ثمّ وبّخ جماعة من قريش على قولهم: إنّ الملائكة بنات اللّه، و عبادتهم إياهم لكونهم أولاده بقوله:

أَمْ لَهُ الْبَنٰاتُ اللاتي هنّ أخسّ الأولاد عندكم وَ لَكُمُ أيّها السّفهاء اَلْبَنُونَ الذين هم أشرف الأولاد؟ قيل: إنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد و التوبيخ(1). قيل: فيه إيذان بأنّ من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء فضلا من أن يرقى إلى السماء و يطّلع على الأسرار الغيبية(2).

ثمّ لمّا كان ظهور نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله بحيث لم يبق لأحد مجال الشكّ و الانكار، أعرض سبحانه عن المشركين، و وجّه خطابه للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

أَمْ تَسْئَلُهُمْ و تطلب منهم على تبليغ الرسالة أَجْراً و جعلا من المال فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ و مال ألزمتهم بأدائه إليك مُثْقَلُونَ و متقاعدون عن الايمان بك و اتّباعك، الثقل أجرك عليهم ؟ و فيه تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله و إظهار عدم تقصيره في أداء وظيفته

أَمْ لا يحتاجون إلى الرسول؛ لأنّ عِنْدَهُمُ اللوح المحفوظ الذي فيه اَلْغَيْبُ و ما لا يعلم به إلاّ بإعلام اللّه فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه ليبقى في حفظهم، و يراجعون إليه عند نسيانهم شيئا منه، و لذا لا يتّبعونك ؟ أ يكتف المشركون بتلك التّرّهات و لا أقاويل الباطلة

أَمْ يُرِيدُونَ مع ذلك

ص: 72


1- . تفسير أبي السعود 151:8.
2- . تفسير أبي السعود 151:8.

كَيْداً و إساءة إليك في الخفاء منك، كالقتل و الحبس و الاخراج من البلد، أو حيلة و تدبير سوء في إطفاء نورك و الاخلال في أمر رسالتك ؟

فَالَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا رسالتك هُمُ الْمَكِيدُونَ و مستحقّون لما ينزل بهم من العذاب غفلة و بغتة، أو هم الذين يعود إليهم وبال مكرهم و كيدهم من القتل و العذاب بعلّة كفرهم، لا من يريدون أن يكيدوه، فانّه المنصور من اللّه قولا و فعلا و حجّة و سيفا، أو هم المغلوبون في الكيد، ألهم صبر على ما ينزل عليهم من العذاب

أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِ يحرسهم منه ؟ سُبْحٰانَ اللّٰهِ و ننزّهه (عن) شركة ما يُشْرِكُونَ به، أو عن إشراكهم.

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمٰاءِ سٰاقِطاً يَقُولُوا سَحٰابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لاٰ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذٰاباً دُونَ ذٰلِكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (47) ثمّ بيّن كيفية نزول العذاب عليهم غفلة و بغتة بقوله تعالى:

وَ إِنْ يَرَوْا حين انقضاء مدّة إمهالهم كِسْفاً و قطعة من العذاب، نازلا عليهم مِنَ السَّمٰاءِ أو قطعة منها، سٰاقِطاً عليهم يَقُولُوا من فرط الغفلة: هذا الذي نرى سَحٰابٌ غليظ مَرْكُومٌ و منضم بعضه ببعض، أو ملقى بعضه فوق بعض يمطرنا الساعة.

و قيل: إنّه بيان لغاية لجاجهم و عنادهم، و المراد أنّهم في اللّجاج و العناد بحيث لو أسقطنا عليهم قطعة من السماء حسبما قالوا: (أو تسقط علينا كسفا من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم) و لم يصدّقوا أنّه كسف من السماء ساقط عليهم لتعذيبهم(1). فاذا كان لجاجهم و عنادهم إلى هذا الحدّ

فَذَرْهُمْ و اتركهم على حالهم، و لا تتعب نفسك بالاصرار على دعوتهم حَتّٰى يُلاٰقُوا و يعاينوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ و يهلكون بالعذاب، أعني

يَوْمَ لاٰ يُغْنِي و لا يكفي في دفع العذاب عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ و مكرهم و تدبيرهم شَيْئاً من الإغناء وَ لاٰ هُمْ من جهة الغير يُنْصَرُونَ و يحفظون من العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يقتصر في حقّ المصرّين على العناد و اللّجاج على عذاب الآخرة، بل لهم في الدنيا عذاب أخف من عذاب الآخرة بقوله:

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالإصرار على الكفر و العناد، و على اللّه تعالى بتضييع حقّ ربوبيته و نعمته، و على الرسول بتكذيبه و كفران نعمة هدايته.

ص: 73


1- . تفسير الصافي 82:5، تفسير الكشاف 415:4.

القمي: ظلموا آل محمد (1)عَذٰاباً أليما في الدنيا دُونَ ذٰلِكَ العذاب الموعود في الآخرة و قبله، أو أخفّ منه. عن القمي: عذاب الرجعة بالسيف(2). و قيل: يعني عذابا أخفّ قيل العذاب بالقتل، و هو العذاب بالقحط(3). و قيل: يعني وراء عذاب الدنيا، و هو عذاب الآخرة(4).

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لفرط جهلهم و عنادهم لاٰ يَعْلَمُونَ ذلك، و إنّما يعلمه أقلّهم، و هم الذين آمنوا. و قيل: يعني أنّهم في أكثر أحوالهم - و هو حال اشتغالهم بالدنيا - لا يعلمون، و في أقلها - و هو حال احتضارهم - يعلمون. و قيل: إنّ أكثر هنا بمعنى الكلّ(5).

وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ (49) ثمّ لمّا ذكر سبحانه عناد القوم و كيدهم في شأن رسوله، سلاّه بقوله:

وَ اصْبِرْ يا محمد، على عناد القوم و أذاهم لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى اليوم الموعود، و لا يضيق صدرك بما يقولون، و لا تخف من كيدهم فَإِنَّكَ محفوظ من الآفات جميعها بِأَعْيُنِنٰا و في مرآنا، أو بحفظنا و في حمايتنا.

و جمع العين لجمع الضمير، و للإيذان بغاية الاعتناء بحفظه و بكثرة أسبابه.

و لا تدع على أعدائك، و لا تشغل قلبك بالتفكّر في سوء فعالهم و أقوالهم، بل فرّغه للعبادة وَ سَبِّحْ اللّه و نزّهه عن النقائص الإمكانية، و اقرن تسبيحك بِحَمْدِ رَبِّكَ على نعمه عليك حِينَ تَقُومُ من النوم لصلاة الليل، كما عن القمي(6). أو تقوم من النوم في أيّ وقت، كما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يسبّح بعد الانتباه(7). أو تقوم من مجلسك، لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهمّ و بحمدك، أشهد أنّ لا إله إلاّ أنت، استغفرك و أتوب إليك، كان كفارة لما بينهما»(8). أو تقوم إلى الصلاة، لمّا روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قمت إلى الصلاة، فقل:

سبحانك اللهمّ و بحمدك، و تبارك اسمك، و تعالى جدّك، و لا إله غيرك»(9).

أقول: أو في جميع تلك الأوقات المذكورة في الروايات.

وَ بعضا مِنَ اللَّيْلِ أوله، أو آخره فَسَبِّحْهُ فانّه أفضل أوقات العبادة. و قيل: القدر الذي

ص: 74


1- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
2- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
3- . تفسير أبي السعود 152:8، تفسير روح البيان 205:9.
4- . تفسير الرازي 273:28، تفسير أبي السعود 153:8، تفسير روح البيان 105:9.
5- . تفسير الرازي 274:28.
6- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
7- . تفسير الرازي 275:28.
8- . تفسير روح البيان 207:9.
9- . تفسير الرازي 275:28.

يكون فيه يقظان(1). و عن القمي: صلاة الليل(2). وَ كذا إِدْبٰارَ النُّجُومِ و حين يخفى ضياؤها و هو وقت الصبح. و قيل: إنّ المراد من التسبيح في الليل صلاة العشاءين، و من التسبيح إدبار النجوم صلاة الفجر(3). و قيل: إنّه ركعتان قبل الفجر(4).

و عنهما عليهما السّلام: «وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ يعني الرّكعتين قبل صلاة الفجر»(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الطور جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة»(6).

الحمد للّه الذي وفقني لتفسيرها.

ص: 75


1- . تفسير الرازي 276:28.
2- . تفسير القمي 333:2، تفسير الصافي 83:5.
3- . تفسير أبي السعود 153:8، تفسير روح البيان 208:9.
4- . تفسير روح البيان 208:9.
5- . مجمع البيان 257:9، تفسير الصافي 83:5.
6- . ثواب الأعمال: 116، عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، مجمع البيان 245:9، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 83:5.

ص: 76

في تفسير سورة النجم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ (1) مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ (2) وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (4) ثمّ لمّا ختمت سورة الطّور المتضمّنة لبيان إنعام اللّه على النبي بنعمة الرسالة، و ردّ من قال إنّه صلّى اللّه عليه و آله كاهن أو مجنون أو شاعر، و من قال بأنّ القرآن اختلقه محمد صلّى اللّه عليه و آله، و توبيخ المشركين على إنكارهم توحيد اللّه، و قولهم بأنّ له البنات و لهم البنون، و ردّ قولهم بعدم حاجتهم إلى الرسول بأنّهم لا يعلمون الغيب حتى لا يحتاجوا إلى المبلّغ عن اللّه، و أمر الرسول بالاعراض عن المصرّين على الكفر بقوله:

فَذَرْهُمْ حَتّٰى يُلاٰقُوا (1) نظمت سورة النجم المتضمّنة لإثبات نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و نفي الضلالة و الغواية عنه، و أنّ ما يقوله ليس إلاّ ما يوحى إليه، و أنّ ما يعلمه ليس إلاّ ما علّمه اللّه بتوسّط جبرئيل لا بالكهانة، و إثبات التوحيد و نفي الوهية اللات و العزى و سائر الأصنام، و توبيخ المشركين على قولهم بأنّ لهم الذكر و له الانثى، و إنكار كونهم عالمين بالغيب حتى لا يحتاجون إلى الرسول بقوله: أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ (2) ، و أمر الرسول بالإعراض عن المعرضين عن ذكر اللّه، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بالحلف على صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في الرسالة بقوله:

وَ النَّجْمِ قيل: هو الثّريا، و الحلف به لكونه أحسن النجوم عند قريش و أظهرها للرائي، لأنّه له علامة لا يلتبس بغيره(3) ، و تخصيص الحلف بحال هويه بقوله: إِذٰا هَوىٰ و سقط و مال إلى الغروب؛ لأنّه يهتدي الساري به حين الزوال، كما يهتدى بالنبي بخفض جناحه و لين جانبه.

قيل: لمّا كان بعض المشركين يعبدونه، فقرن سبحانه تعظيمه بالحلف به بما يدلّ على عدم قابليته

ص: 77


1- . الطور: 45/52.
2- . النجم: 35/53.
3- . تفسير الرازي 279:28.

للعبادة، لكونه هاويا آفلا، كما قال إبراهيم: لاٰ أُحِبُّ الْآفِلِينَ (1).

و قيل: إنّ المراد بالنجم جنسه الثابت في السماء للاهتداء(2).

و قيل: جنس النجوم المنقضّة التي هي رجوم للشياطين(3) ، كما أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله منجي المؤمنين من همزات الشياطين.

و قيل: إنّ الحلف بربّ النجم، و التقدير: و ربّ النجم(4) و عن ابن عباس: قال: يقول: و خالق النجم(5).

و قيل: إنّ المراد بالنجم النباتات التي لا ساق لها(6) ، و هواه سقوطه على الأرض(7) ، و هو سجوده.

و قيل: إنّه نجوم القرآن(8) ، و الحلف به استدلال بأعظم معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله على صدقه.

ثمّ ذكر سبحانه المحلوف عليه بقوله:

مٰا ضَلَّ و ما عدل عن الصراط المستقيم الموصل إلى كلّ خير، و ما انحرف عن طريق القرب إلى اللّه و النيل بنعم الآخرة لنقص عقله محمد صلّى اللّه عليه و آله الذي هو صٰاحِبُكُمْ و معاشركم من أول عمره إلى الآن، و ما رأيتم منه كذبا و لا خيانة. و قيل: يعني سيدكم(9) و مالك اموركم وَ مٰا غَوىٰ و ما وقع في أمر باطل و فاسد باغواء الشياطين

وَ مٰا يَنْطِقُ بشيء و لا يتكلم بكلمة صادرة عَنِ الْهَوىٰ و ميل نفسه و شهوته.

و قيل: إنّه دليل على عدم ضلالته، و المراد أنّه كيف يضلّ و يغوي و هو لا ينطق عن الهوى ؟ و إنّما يضلّ من اتّبع الهوى، كما قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ لاٰ تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ (10).

و قيل: إنّ كلمة (عن) بمعنى باء، و المعنى لا ينطق بسبب الهوى(11).

إِنْ الذي ينطق به، و ما هُوَ شيء إِلاّٰ وَحْيٌ من اللّه تعالى يُوحىٰ إليه حقيقة بواسطة جبرئيل لا مجازا، و ما هو بكاهن و لا شاعر و لا مجنون.

ذكر فضيلة

لعلي عليه السّلام و نصّ

الامامة

و قال العلامة رحمه اللّه في (نهج البلاغة): روى الجمهور عن ابن عباس، قال: كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، إذ انقض كوكب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصيّ من بعدي» فقام فتية من بني هاشم فنظروا، فإذا الكواكب انقضّ في منزل علي بن أبي طالب عليه السّلام. فقالوا: يا رسول اللّه، غويت في حبّ علي.

ص: 78


1- . تفسير الرازي 280:28، و الآية من سورة الأنعام: 76/6.
2- . تفسير الرازي 279:28.
3- . تفسير الرازي 279:28.
4- . تفسير روح البيان 209:9.
5- . أمالي الصدوق: 893/660، تفسير الصافي 84:5.
6- . تفسير روح البيان 211:9.
7- . تفسير روح البيان 211:9.
8- . جوامع الجامع: 468، تفسير الرازي 279:28.
9- . تفسير الرازي 280:28.
10- . تفسير الرازي 280:28، و الآية من سورة ص: 26/38.
11- . تفسير روح البيان 213:9.

فأنزل اللّه تعالى: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ (1).

و عن (المجالس) عن ابن عباس، قال: صلّينا العشاء الآخرة مع رسول اللّه، فلمّا سلّم أقبل علينا بوجهه ثمّ قال: «سينقضّ كوكب من السماء مع طلوع الفجر، فيسقط في دار أحدكم، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي و خليفتي و الامام بعدي» فلمّا قرب الفجر، جلس كلّ أحد منا في داره، و كان أطمع القوم في ذلك أبي العباس بن عبد المطلب، فلمّا طلع الفجر انقضّ الكوكب من الهواء، فسقط في دار علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي: «يا علي، و الذي بعثني بالنبوة، لقد وجبت لك الوصية و الخلافة و الامامة بعدي». فقال المنافقون عبد اللّه بن ابي و أصحابه: لقد ضلّ محمد في محبّة ابن عمّه و غوى، و ما ينطق في شأنه إلاّ بالهوى. فأنزل اللّه تبارك و تعالى: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ في محبّة علي بن أبي طالب وَ مٰا غَوىٰ * وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ في شأنه إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2). و روى ما يقرب منه عن الصادق عليه السّلام(3).

و روي عن الباقر عليه السّلام قال: «ما ضلّ في عليّ و ما غوى، و ما ينطق فيه عن الهوى، و ما كان ما قاله فيه إلاّ بالوحي الذي اوحي إليه»(4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّ رضى الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، و كيف يسلمون ممّا لا يسلم منه أنبياء اللّه و رسله و حجج اللّه... أ لم ينسبوا نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمّه عليّ عليه السّلام حتى كذّبهم اللّه فقال تعالى: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ» (5).

و عن الرضا عليه السّلام في تأويل الآية: «النجم رسول اللّه»(6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أقسم اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و آله(7) إذا قبض مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ لتفضيله أهل بيته وَ مٰا غَوىٰ * وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ يقول: ما يتكلّم بفضل أهل بيته بهواه، و هو قول اللّه: إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ» (8).

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلىٰ (7) ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى (8) فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ (9) فَأَوْحىٰ إِلىٰ عَبْدِهِ مٰا أَوْحىٰ (10) مٰا كَذَبَ الْفُؤٰادُ

ص: 79


1- . نهج الحق: 193.
2- . أمالي الصدوق: 893/659، تفسير الصافي 84:5.
3- . أمالي الصدوق: 894/660، تفسير الصافي 85:5.
4- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 85:5.
5- . أمالي الصدوق: 163/164، تفسير الصافي 85:5.
6- . تفسير القمي 333:2، و لم ينسبه إلى أحد، تفسير الصافي 85:5.
7- . في الكافي: أقسم بقبض محمد، في تفسير الصافي: أقسم بقبر محمد.
8- . الكافي 574/380:8، تفسير الصافي 85:5.

مٰا رَأىٰ (11) ثمّ لمّا كان بعض المشركين يقولون: إنّما علّم محمدا ما ينطق و ما يقول من العلوم بعض أهل الكتاب في أسفاره إلى الشام، ردّهم اللّه سبحانه بقوله:

عَلَّمَهُ جبرئيل الذي هو شَدِيدُ الْقُوىٰ في العلوم و الأعمال، لا البشر الذي هو ضعيف القوة و قليل العلم، و ذلك الملك

ذُو مِرَّةٍ و كمال في الجسم و العقل و الدين و حسن الأخلاق و استحكام الأركان فَاسْتَوىٰ ذلك الملك و استقام متوجّها إلى تعليم محمد صلّى اللّه عليه و آله، و استقر على صورته الأصلية التي خلق عليها، أو استقرّ محمد صلّى اللّه عليه و آله على التعلّم منه، كما عن القمي(1).

و قيل: إنّ فاعل (علّمه) اللّه، و المعنى علّمه اللّه الذي هو شديد القوى في العلوم، و ما بعده أوصاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المعنى: أنّ الرسول ذو مرّة، فاستوى: و استقام للتعلّم من اللّه(2).

عن الرضا عليه السّلام: «ما بعث اللّه نبيا إلاّ صاحب مرّة سوداء صافية»(3).

وَ هُوَ متمكّن بِالْأُفُقِ الْأَعْلىٰ أو المقام الأرفع من الكمالات الانسانية، و المرتبة الأسنى من الفضائل الجسمانية و الروحانية بحيث لا يدانيه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل

ثُمَّ دَنٰا رسول اللّه و قرب من اللّه بالعلم و الكمال الصفاتي فَتَدَلّٰى اللّه و قرب منه.

عن الكاظم عليه السّلام، قال: «هذه لغة قريش، إذا أراد الرجل أن يقول: سمعت، يقول: تدلّيت، و إنّما التدلّي: الفهم»(4).

أقول: و عليه يكون المعنى: ثمّ دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسمع و فهم من اللّه.

فَكٰانَ مقدار المسافة بين اللّه و بين رسوله قٰابَ قَوْسَيْنِ و قدر ما بين سية(5) القوس إلى رأسها، كما عن الصادق عليه السّلام(6). و قيل: مقدار ما بين الوتر و القوس(7). و هو حدّ الفصل في مجالسة الأحبّاء المتأدّبين(8).

قيل: مثل لغاية القرب، و أصله أنّ الحليفين كانا إذا أراد عقد الصفاء أخرجا قوسيهما، فألصقا بينهما، و هو إشارة إلى كونهما متظاهرين يحامي كلّ منهما عن صاحبه(9).

و قيل: إن الكبيرين من العرب إذا اصطلحا و تعاهدا، أخرجا قوسيهما، و وتر كلّ واحد منهما طرف

ص: 80


1- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 85:5.
2- . تفسير القمي 234:2.
3- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 85:5.
4- . الاحتجاج: 387، تفسير الصافي 87:5.
5- . سية القوس: ما عطف من طرفيها.
6- . الكافي 13/368:1، تفسير الصافي 87:5.
7- . تفسير روح البيان 217:9.
8- . تفسير روح البيان 218:9.
9- . تفسير روح البيان 217:9.

قوسه بطرف قوس صاحبه(1). فجعل سبحانه نفسه و نبيه صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة أميرين كبيرين اجتمعا للتعاهد و التصافي و التعاضد.

في (الامالي) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لمّا عرج بي إلى السماء دنوت من ربي عز و جلّ حتى كان بيني و بينه قاب قوسين أو أدنى، فقال: يا محمد، من تحبّ من الخلق ؟ قلت: يا ربّ، عليا. قال: فالتفت يا محمد. فالتفت عن يساري، فاذا علي بن أبي طالب»(2).

و عن السجاد صلّى اللّه عليه و آله: «أنا بن من علا فاستعلى، فجاز سدرة المنتهى، فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى»(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش، فدنا بالعلم فتدلّى، فدنا له من الجنّة رفرف أخضر، و غشي النور بصره، فرأى عظمة اللّه بفؤاده، و لم يرها بعينه، فكان قاب قوسين بينهما و بينه أو أدنى»(4).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام، قال: «و كان كما قال اللّه قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ قيل: ما قاب قوسين ؟ قال: «ما بين سيتها إلى رأسها» قال: «فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق - و لا أعلمه إلاّ و قد قال: زبرجد - فنظر في مثل سمّ الإبرة إلى ما شاء اللّه من نور العظمة، فقال اللّه تعالى: يا محمد، قال:

لبيك ربّي. قال: من لامّتك من بعدك ؟ قال: اللّه تعالى أعلم. قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، و سيد المسلمين، و قائد الغرّ المحجّلين».

ثمّ قال الصادق عليه السّلام: «ما جاءت ولاية عليّ عليه السّلام من الأرض، و لكن جاءت من السماء مشافهة»(5).

أقول: الظاهر أنّ أول حضوره في الحضرة كان قربه قاب قوسين، ثمّ صار أقرب، و لذا أضرب سبحانه عن الحدّ الأول بقوله تعالى: أَوْ أَدْنىٰ و أقرب. عن الصادق عليه السّلام في رواية: «و كان من اللّه عزّ و جلّ كما قال: قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ أي بل أدنى»(6).

و قيل: كلمة (او) للترديد، و المعنى: أو أقرب على تقديركم أيّها المخاطبون، كما في قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ (7) فالترديد و الشكّ من جهة العباد، لا من اللّه، لامتناع الشكّ(8).

و قيل: إنّ المعنى فدنا من جبرئيل فتدلّى و استرسل جبرئيل نفسه من الافق الأعلى، و هو مطلع

ص: 81


1- . تفسير الرازي 286:28.
2- . أمالي الطوسي: 727/352، تفسير الصافي 86:5.
3- . الاحتجاج: 311، تفسير الصافي 86:5.
4- . الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 87:5.
5- . الكافي 13/368:1، تفسير الصافي 87:5.
6- . تفسير الصافي 86:5.
7- . الصافات: 147/37.
8- . تفسير روح البيان 218:9.

الشمس، كما أنّ افق المغرب الأدنى، فدنا من النبي صلّى اللّه عليه و آله(1).

و قيل: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أحبّ أن، يرى جبرئيل في صورته التي خلق عليها، و كان صلّى اللّه عليه و آله بجبل حراء، المسمى بجبل النور في قرب مكة، فقال جبرئيل: إنّ الارض لا تسعني، و لكن انظر إلى السماء، فطلع له جبرئيل من المشرق، فسدّ الأرض من المغرب، و ملأ الافق، فخرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما خرّ موسى في الطور، فنزل جبرئيل في صور الأدميين، فضمّه إلى نفسه، و جعل يمسح الغبار عن وجهه(2).

و قيل: إنّ اللّه تعالى نزّل جبرئيل و النبي صلّى اللّه عليه و آله في لقائهما منزلة كبيرين من الناس، إذا قربا للتعاهد و التعاضد، ثمّ لمّا كان جبرئيل بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة الرعية إذا أراد أن يبايع السلطان، فانّه يقرب منه و يمدّ يده ليضعها في كفّ السلطان، فانّه يقرب منه بقدر الباع، و هو أقصر من القوسين(3).

و قيل: إنّ البعد المقدّر بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و جبرئيل هو بعد البشرية عن حقيقة الملكية، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و إن تنزّه عن نقائص البشرية [و زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك] من الشهوة و الغضب و الجهل و البعد عن اللّه و غيرها من الرذائل [لكن بشريته باقية]، و جبرئيل [و ان ترك الكمال و اللطف الذي يمنع الرؤية و الاحتجاب، لكن لم يخرج عن كونه ملكا، فارتفع النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى بلغ الافق الأعلى من البشرية و جبرئيل] تدلّى إلى الافق الأدنى من الملكية، فتقاربا و لم يبق بينهما إلاّ [اختلاف] حقيقتهما(4).

قيل: إنّ معنى الآيات: علّم النبي صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل الذي هو كامل القوى للتعليم، و ذو حصافة(5) في العقل، فاستوى محمد صلّى اللّه عليه و آله و تكامل للرسالة، أو استقام جبرئيل على صورته الأصلية في حال كان محمد صلّى اللّه عليه و آله في الافق الأعلى من مراتب كمال الانسانية، و هو مرتبة النبوة، ثم دنا من جبرئيل و تخلّع بخلعة الرسالة، ثمّ تدلى إلى امّته بالرفق و اللين(6).

عن السجاد عليه السّلام - في رواية - «فتدلّى فنظر في تحته ملكوت الأرض حتى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى»(7).

فَأَوْحىٰ اللّه بلا واسطة جبرئيل إِلىٰ عَبْدِهِ محمد، أو جبرئيل إلى رسول اللّه و عبده مٰا أَوْحىٰ من عظائم الأمور التي لا تسعها العبائر على الأوّل، أو ما أوحى اللّه إلى جبرئيل على الثاني.

قيل: إنّ ما أوحى هو الصلاة(8).

ص: 82


1- . تفسير أبي السعود 155:8.
2- . تفسير أبي السعود 155:8، تفسير روح البيان 214:9.
3- . تفسير الرازي 286:28 و 287.
4- . تفسير الرازي 287:28.
5- . الحصافة: استحكام العقل و جودة الرأي.
6- . تفسير الرازي 286:28.
7- . علل الشرائع: 1/132، تفسير الصافي 86:5.
8- . تفسير الرازي 287:28.

و عن (الاحتجاج): هو آية لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ. .. الآية(1).

و قيل: كلّما جاء به جبرئيل(2).

و يحتمل أنّه الولاية، عن القمي: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك الوحي، فقال: «أوحى اللّه إلي أنّ عليا سيد المؤمنين، و إمام المتّقين، و قائد الغرّ المحجلين، و أول خليفة يخلفه خاتم النبيين»(3).

مٰا كَذَبَ و ما أخطأ الفؤاد الذي لمحمد مٰا رَأىٰ محمد صلّى اللّه عليه و آله من نور عظمة اللّه في العرش، كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(4) ، أو جبرئيل في الأرض على صورته الأصلية(5).

و عن الرضا عليه السّلام: «ما رأت عيناه [ثمّ أخبر بما رأى] فقال: لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ الْكُبْرىٰ فآيات اللّه غير اللّه(6).

و قيل: ما رأى فؤاد محمد صلّى اللّه عليه و آله بحقيقة الايمان هو ربّه(7) ، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم أعبد ربّا لم أره»(8).

عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل: هل رأى رسول اللّه ربّه عزّ و جلّ؟ فقال «نعم، بقلبه رآه، أ ما سمعت اللّه يقول: مٰا كَذَبَ الْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ؟ ما رآه بالبصر، و لكن رآه بفؤاده»(9).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله رأى ربّه بفؤاده»(10).

أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهىٰ (14) ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على مجادلتهم رسوله فيما أخبر به من رؤيته جبرئيل بقوله:

أَ فَتُمٰارُونَهُ و تجادلونه أيّها المشركون عَلىٰ مٰا يَرىٰ من جبرئيل على صورته.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخبر برؤيته جبرئيل تعجّبوا منه و أنكروا(11).

و عن القمي: بعد الإخبار بما قال اللّه في عليّ عليه السّلام دخل القوم في الكلام، فقالوا: أ من اللّه، أو من رسوله ؟ فقال جلّ ذكره لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: قل لهم: مٰا كَذَبَ الْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ ثمّ ردّ عليهم فقال:

ص: 83


1- . الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 88:5، و الآية من سورة البقرة: 284/2.
2- . تفسير الرازي 288:28.
3- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 89:5.
4- . مجمع البيان 265:9، تفسير الصافي 89:5.
5- . مجمع البيان 266:9.
6- . الكافي 2/75:1، التوحيد: 9/111، تفسير الصافي 89:5.
7- . تفسير الرازي 290:28، تفسير روح البيان 222:9.
8- . التوحيد: 1/305، و: 2/308، أمالي الصدوق: 560/423.
9- . التوحيد: 17/116، تفسير الصافي 89:5.
10- . مجمع البيان 264:9، تفسير الصافي 89:5.
11- . تفسير روح البيان 218:9.

أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ (1) .

و قيل: إنّ المعنى: كيف توردون الشكّ على ما يراه بعين اليقين، و لا شكّ بعد الرؤية، و أنتم تقولون أصابه الجنّ(2).

ثمّ أكّد سبحانه رؤية محمد صلّى اللّه عليه و آله ربّه بقوله:

وَ لَقَدْ رَآهُ محمّد صلّى اللّه عليه و آله نَزْلَةً و مرّة أُخْرىٰ حين رجوعه من العرش، فانّ له نزولات و عروجات لسؤال التخفيف على ما قيل(3). و عن كعب: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله رأى ربّه مرّتين (4)

عِنْدَ شجرة سِدْرَةِ كانت في السماء السادسة أو السابعة اَلْمُنْتَهىٰ إليها صعود الملائكة و أعمال العباد، و هو مقام جبرئيل بحيث لا يمكنه التجاوز، و لذا تخلّف عن النبي صلّى اللّه عليه و آله حين عروجه إلى العرش، و قال: لو دنوت أنملة لاحترقت.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «فلمّا انتهى إلى سدرة المنتهى تخلّف عنه جبرئيل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، في مثل هذا الموضع تخذلني ؟ فقال: تقدّم أمامك، فو اللّه لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق [اللّه] قبلك، فرأيت من نور ربّي، و حال بيني و بينه السّبحة، قيل: و ما السّبحة ؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض، و بيده إلى السماء، و هو يقول: جلال ربّي، جلال ربّي، ثلاث مرات»(5).

و عنه عليه السّلام، قال: «وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهىٰ يعني عندها وافى به جبرئيل حين صعد إلى السماء، فلمّا انتهى إلى محلّ السّدرة وقف جبرئيل دونها، و قال: يا محمد، إنّ هذا موقفي الذي وضعني اللّه عزّ و جلّ فيه، و لم أقدر على أن أتقدّسه، و لكن أمض أنت أمامك إلى السّدرة، فوقف عندها» قال: «فتقدّم رسول اللّه إلى السّدرة، و تخلّف جبرئيل».

قال: «إنّما سمّيت سدرة المنتهى؛ لأنّ أعمال أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محلّ السدرة، و الحفظة الكرام البررة دون السّدرة يكتبون ما يرفع إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض». قال: «فينتهون بها إلى محلّ السّدرة».

قال: «فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأى أغصانها تحت العرش و حوله، فتجلّى لمحمد صلّى اللّه عليه و آله نور الجبّار عزّ و جلّ، فلمّا غشي النور محمد صلّى اللّه عليه و آله شخص بصره، و ارتعدت فرائصه» قال: «فشدّ اللّه عزّ و جلّ لمحمد صلّى اللّه عليه و آله قلبه، و قوّى له بصره حتى رأى من آيات ربّه ما رأى، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهىٰ.

ص: 84


1- . تفسير القمي 334:2، تفسير الصافي 89:5.
2- . تفسير الرازي 290:28.
3- . تفسير روح البيان 224:9.
4- . تفسير روح البيان 225:9، و لم ينسبه إلى أحد.
5- . تفسير القمي 243:2، تفسير الصافي 90:5.

إلى أن قال: «و إنّ غلظ السدرة لمسيرة مائة عام من أيام الدنيا، و إنّ الورقة منها تغطّى أهل الدنيا»(1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «رأيت على كلّ ورقة منها ملكا قائما يسبّح اللّه»(2).

و قيل: إنّها شجرة طوبى(3) ، و قيل: إنّها في منتهى الجنة(4). و قيل: ينتهي إليها ما يهبط من فوقها من الأحكام، و يصعد من تحتها من الآثار(5).

و عن أبي هريرة: لمّا اسرى بالنبي صلّى اللّه عليه و آله انتهى إلى السّدرة، فقيل له صلّى اللّه عليه و آله: هذه السّدرة ينتهي إليها كلّ أحد من أمّتك مات على سنّتك(6).

و عن كعب الأحبار: أنّها سدرة في أصل العرش على رءوس حملة العرش، و إليها ينتهي الخلائق، و ما خلفها غيب لا يعلمه إلاّ اللّه(7).

و قيل: إنّه منتهى العلوم(8).

و قيل: إنّ ضمير (رآه) راجع إلى جبرئيل و المعنى: و اللّه لقد رأى محمد صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل بصورته الأصلية مرة اخرى من نزوله(9).

نقل عن عائشة أنّها قالت: أنا سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، فقال: «رأيت جبرئيل نازلا في الافق على خلقته و صورته»(10).

عِنْدَهٰا جَنَّةُ الْمَأْوىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ (16) مٰا زٰاغَ الْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ (17) لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ الْكُبْرىٰ (18) ثمّ عظّم سبحانه السّدرة بقوله:

عِنْدَهٰا جَنَّةُ هي اَلْمَأْوىٰ و المرجع و المقرّ للمتّقين و الشهداء و الصالحين: أو مأوى آدم و حوّاء.

ثم بالغ سبحانه في تعظيم السّدرة ببيان وقت رؤية النبي صلّى اللّه عليه و آله ما رأى من نور عظمة اللّه، أو جبرئيل، بقوله:

إِذْ يَغْشَى قيل: معناه لقد رآه حين يغطّي و يستر (11)اَلسِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ و يغطّيها ما لا يفي البيان كيفا و لا كمّا من نور عظمة اللّه. قيل: لمّا وصل النبي صلّى اللّه عليه و آله إليها تجلّى ربّه لها، كما تجلّى للجبل، و لمّا كانت أقوى من الجبل، و قلب محمد صلّى اللّه عليه و آله أربط من قلب موسى عليه السّلام لم تندكّ السّدرة، و لم

ص: 85


1- . علل الشرائع: 1/277، تفسير الصافي 90:5.
2- . مجمع البيان 265:9، تفسير الصافي 90:5.
3- . تفسير روح البيان 225:9.
4- . تفسير أبي السعود 156:8، تفسير روح البيان 224:9.
5- . تفسير روح البيان 224:9.
6- . تفسير روح البيان 225:9.
7- . تفسير روح البيان 225:9.
8- . تفسير روح البيان 225:9.
9- . تفسير روح البيان 224:9.
10- . تفسير روح البيان 225:9.
11- . تفسير روح البيان 227:9.

يتزلزل محمد صلّى اللّه عليه و آله. كما اندكّ الجبل، و خرّ موسى صعقا(1).

و عن القمي رحمه اللّه، لمّا رفع الحجاب بينه و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غشي نوره السّدرة(2).

و قيل: غشّتها الملائكة(3).

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «رأيت السّدرة يغشّيها فراش من ذهب، و رأيت على كلّ ورقة منها ملكا قائما يسبّح اللّه»(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يغشّيها رفرف من طيور خضر»(5).

و قيل: يغشّيها جبرئيل(6).

و هو صلّى اللّه عليه و آله ما شاهد هناك من الامور المحيّرة

مٰا زٰاغَ و ما مال منه اَلْبَصَرُ أدنى ميل عمّا رآه من العجائب، و ما التفت إلى يمين و شمال لعظمة الهيبة وَ مٰا طَغىٰ محمد صلّى اللّه عليه و آله و ما جاوز عن حدّ الاستقامة و الثبات، و لم يتوجّه إلى شيء سواه، بل استغرق في التوجّه إلى الحقّ و اسمائه و صفاته و تجلّياته، أو إلى عجائب مبدعاته باللّه

لَقَدْ رَأىٰ محمد صلّى اللّه عليه و آله في عروجه إلى السماء مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ الآية اَلْكُبْرىٰ أو آيات هنّ أكبر الآيات. عن الباقر عليه السّلام: «يعني أكبر الآيات»(7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال بعد ذكر الآية: «رأى جبرئيل في صورته مرّتين، هذه المرة، و مرة اخرى، و ذلك أنّ خلق جبرئيل عظيم، و هو من الرّوحانيين الذين لا يدرك خلقهم و صفتهم إلاّ اللّه ربّ العالمين»(8).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «رأى جبرئيل على ساقة الدّرّ، مثل القطر على البقل، له ستمائة جناح، قد ملأ ما بين السماء و الأرض»(9).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما للّه آية أكبر منّي»(10).

عن القمي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال لعلي: «يا علي، إنّ اللّه أشهدك معي في سبعة مواطن، أمّا أوّل ذلك فليلة اسري بي إلى السماء، قال لي جبرئيل: أين أخوك ؟ فقلت: خلّفته ورائي. قال: ادع اللّه فليأتك به. فدعوت اللّه، فاذا مثالك معي، و إذ الملائكة وقوف صفوف، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هم

ص: 86


1- . تفسير الرازي 293:28.
2- . تفسير القمي 338:2، تفسير الصافي 91:5.
3- . الرازي 293:28، تفسير البيضاوي 439:2، تفسير أبي السعود 157:8.
4- . تفسير أبي السعود 157:8، تفسير روح البيان 227:9.
5- . تفسير أبي السعود 157:8، تفسير روح البيان 227:9.
6- . مجمع البيان 266:9.
7- . علل الشرائع: 1/278، تفسير الصافي 90:5.
8- . التوحيد: 5/263، تفسير الصافي 91:5.
9- . التوحيد: 18/116، تفسير الصافي 91:5.
10- . الكافي 3/161:1، تفسير الصافي 92:5.

الذين يباهيهم اللّه بك يوم القيامة فدنوت فنطقت بما كان و ما يكون إلى يوم القيامة، و الثاني حين اسر بي في المرّة الثانية، فقال لي جبرئيل: أين أخوك ؟ قلت: خلّفته ورائي. قال: ادع اللّه فليأتك به.

فدعوت اللّه، فاذا مثالك معي، فكشط لي عن سبع سماوات حتى رأيت سكّانها و عمّارها و موضع كلّ ملك منها» الخبر(1).

أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّٰتَ وَ الْعُزّٰى (19) وَ مَنٰاةَ الثّٰالِثَةَ الْأُخْرىٰ (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثىٰ (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ (22) إِنْ هِيَ إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدىٰ (23) ثمّ لمّا قرّر سبحانه النبوّة، ذكر بطلان الشّرك الذي هو أهم ما يكون الرسول مأمورا بتبليغه، بإظهار سفه القائلين بألوهية الأصنام المعروفة بقوله تعالى:

أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّٰتَ و هي صنم ثقيف في الطائف وَ الْعُزّٰى و هي صنم، أو سمرة عبدتها قبيلة غطفان

وَ مَنٰاةَ و هي صخرة يعبدها هذيل و خزاعة، أو صنم للأوس و الخزرج، و هي تكون اَلثّٰالِثَةَ للأوّلين اَلْأُخْرىٰ و الأدون و الأذلّ منهما بنات اللّه و أهلات للعبادة، أو إنّكم رأيتم حقارتها، فكيف تشركون بها مع اللّه تعالى مع كمال عظمته ؟

عن القمي رحمه اللّه: اللات رجل، و العزّى امرأته، و مناة صنم بالمسلك الخارج عن الحرم على ستة أميال(2).

قيل: إنّ كون مناة أذلّ من الأولين؛ لأنّ اللات على صورة الآدمي، و العزّى على صورة نبات، و مناة على صورة صخرة، و الجماد أدون و أذل من الآدمي و النبات، و متأخّر رتبة منهما(3).

و قيل: إنّ المعنى أ فرأيتم اللات و العزّى المعبودين بالباطل و مناة الثالثة المعبودة الاخرى(4).

ثمّ لمّا كان محال أن يقول المشركون: نحن نعترف بأنّ اللّه تعالى أعظم من كلّ شيء، و لكن لمّا كانت الملائكة بنات اللّه صوّرنا لهنّ صورا نعبدها تعظيما لهنّ، فوبّخهم اللّه على ذلك القول الشنيع بقوله:

أَ لَكُمُ أيّها الجهّال الولد اَلذَّكَرُ الذي هو أشرف الاولاد و أكملهم و أنفعهم مع كونكم مخلوق اللّه و عبيده وَ لَهُ تعالى مع كمال عظمته و قدرته الولد اَلْأُنْثىٰ الذي هو أخسّ الأولاد و أنقصهم(5) بحيث إذا بشّر أحدكم به ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم

تِلْكَ القسمة أو نسبة البنات إلى اللّه مع اعتقادكم أنّهنّ ناقصات، و اختياركم البنين مع اعتقادكم أنّهم كاملون إِذاً و في حال كونكم

ص: 87


1- . تفسير القمي 335:2، تفسير الصافي 91:5.
2- . تفسير القمي 338:2، تفسير الصافي 92:5.
3- . تفسير الرازي 296:28.
4- . تفسير الرازي 296:28.
5- . في النسخة: و أنقصه.

في غاية النقص و الحقارة، و كون اللّه تعالى في نهاية الكمال و العظمة قِسْمَةٌ ضِيزىٰ و جائرة، حيث إنّ العقل حاكم بأنّ اللّه لا يلد، و على فرض الولادة لا يختار لنفسه إلاّ الولد الكامل

إِنْ الالفاظ التي تديرونها على ألسنتكم من قولكم: إنّ الملائكة بنات اللّه و شفعاؤكم، و إنّ الأصنام آلهة، و ما هِيَ في الواقع و الحقيقة إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ لا مسمّيات لها، و الألفاظ لا معنى تحتها سَمَّيْتُمُوهٰا و وضعتموها أَنْتُمْ تقليدا لآبائكم، وَ وضعها آبٰاؤُكُمْ تبعا لكبرائهم، و الحال أنّه مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ و حجة و برهان تتمسكون به و تعتمدون عليه.

إِنْ هِيَ إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدىٰ (23) أَمْ لِلْإِنْسٰانِ مٰا تَمَنّٰى (24) فَلِلّٰهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولىٰ (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰاوٰاتِ لاٰ تُغْنِي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّٰهُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَرْضىٰ (26) ثمّ أعرض سبحانه عنهم إيذانا بسقوطهم عن قابلية الخطاب بسفههم، و وجّه الخطاب إلى العقلاء بقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ هؤلاء السّفهاء في تسمية الملائكة الذين هم عباد اللّه المكرمون بنات اللّه، و اللات و العزّى و مناة اللاتي كلّهن عجزة و غير شاعرات بالآلهة إِلاَّ الظَّنَّ السيئ و الحسبان الباطل وَ مٰا تَهْوَى و تشتهي اَلْأَنْفُسُ الأمّارة بالسوء وَ الحال أنّه باللّه لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ جانب رَبِّهِمُ اللطيف بهم اَلْهُدىٰ و أسباب الرّشاد إلى الحقّ من رسول عليم كريم و كتاب حكيم، و هم لكثرة جهلهم و عنادهم كذبوهما و استهزءوا بهما.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم اتّباع الهوى و اشتهاء الأنفس بقوله:

أَمْ لِلْإِنْسٰانِ و هل له مٰا تَمَنّٰى و تشتهيه من القول بأنّ الملائكة بنات اللّه و الشفعاء عنده، و أنّ الاصنام آلهة، لا و اللّه لا يحصل لهم ما يشتهونه.

و يحتمل أن لا تكون كلمة (أم) منقطعة، بل متّصلة، و المعنى: اللّه القادر على كلّ شيء ما أراد، أم للانسان العاجز عن كلّ ما يشتهيه، فاذا كانوا متّبعين لهواهم و ظنونهم

فَلِلّٰهِ وحده الدار اَلْآخِرَةُ وَ الْأُولىٰ يعاقبهم فيهما على مخالفتهم للّه.

قيل: إنّ الآية بيان العلّة لانتفاء أن يكون للانسان ما تمنّاه(1) ، و المعنى: ليس للانسان ما تمنّاه، لاختصاص امور العالمين به، فيعطي من أيّهما ما يريد لمن يريد، و ليس لأحد أن يحكم عليه في شيء منهما.

ص: 88


1- . تفسير أبي السعود 159:8، تفسير الصافي 236:9.

ثمّ أقنطهم سبحانه عن الطمع في شفاعة الملائكة فضلا عن الأصنام بقوله تعالى:

وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ و كثير من الروحانيين الساكنين فِي السَّمٰاوٰاتِ السبع لاٰ تُغْنِي و لا تنفع شَفٰاعَتُهُمْ عند اللّه لأحد شَيْئاً من الإغناء و النفع، و في وقت من الأوقات إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّٰهُ لهم في الشفاعة لِمَنْ يَشٰاءُ أن يشفعوا له وَ يَرْضىٰ عنه بتديّنه بالدين المرضي عنده، و هو الاسلام.

و قيل: يعني من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة، و لا يؤذن لهم إلاّ في الشفاعة لأهل الايمان بالتوحيد(1) و رسالة خاتم النبيين، فانّهم آهلين للشفاعة دون الكفّار و المشركين، هذا حال أعظم المخلوقات عند اللّه، فكيف حال الأصنام اللاّتي هنّ أخسّها؟

إِنَّ الَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثىٰ (27) وَ مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّٰى عَنْ ذِكْرِنٰا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (29) ذٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدىٰ (30) ثمّ ذمّ سبحانه القائلين بانوثة الملائكة بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب و خلوص النية بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء لَيُسَمُّونَ الْمَلاٰئِكَةَ الذين هم عباد الرحمن تسمية تشبه تَسْمِيَةَ الْأُنْثىٰ و يقولون لهم بنات اللّه.

قيل: إن القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه، لم يكونوا معتقدين بالمعاد و دار الجزاء، بل كانوا يقولون لا حشر و لا بعث(2) ، و لو فرض تحقيقه كانت الملائكة و الأصنام شفعاءنا، و لذا اجترءوا على هذا القول

وَ الحال أنّه مٰا لَهُمْ بِهِ شيء مِنْ عِلْمٍ و أقلّ مرتبة من اليقين، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ و لا يوافقون في قولهم هذا إِلاَّ الظَّنَّ و الحسبان، كما لم يتّبعوا في القول بألوهية الأصنام إلاّ ذلك وَ إِنَّ الظَّنَّ مطلقا، أيّ ظنّ كان لاٰ يُغْنِي و لا يكفي مِنْ الوصول إلى اَلْحَقِّ و الواقع في العقائد شَيْئاً يسيرا من الاغناء و الكفاية. قيل: إنّ المعنى: لا يغني الظنّ شيئا من الحقّ، فانّ الحقائق لا تدرك إلاّ بالعلم(3).

فلمّا رأيتهم لا يصغون إلى البرهان، و لا يعتنون بالقرآن، و لا ينصرفون عن اتّباع الظنّ و الحسبان

فَأَعْرِضْ يا محمد عَنْ دعوتهم إلى الحقّ بالحكمة و الموعظة الحسنة، لعدم التأثير في

ص: 89


1- . تفسير أبي السعود 160:8، تفسير روح البيان 237:9.
2- . تفسير الرازي 308:28، تفسير روح البيان 237:9.
3- . تفسير أبي السعود 160:8، تفسير روح البيان 238:9.

قلوبهم، فانّهم (1)مَنْ تَوَلّٰى و أعرض بقلبه عَنْ ذِكْرِنٰا و المنبّهات النازلة منّا من القرآن الذي فيه تبيان كلّ شىء، و البراهين المتقنة المثبتة للحقّ وَ ذلك لأنّه لَمْ يُرِدْ و لم يطلب إِلاَّ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا و مشتهياتها، فأغفلته شدّة طلبها و الانهماك في لذّاتها عن التفكّر في مآلها و تبعاتها، و الاعتقاد بعالم الآخرة و دار الجزاء، و من غفل عن الآخرة و ترك التفكّر فيها، لا يخاف العقوبة على سيئاته، و لا يرجع عمّا هو عليه من الباطل

ذٰلِكَ المذكور من حياة الدنيا و شهواتها المحسوسة مَبْلَغُهُمْ و حدّ ما وصلوا إليه مِنَ الْعِلْمِ و الادراك، لا يكاد يجاوزونه إلى المعقولات حتى ينفعهم التعليم و الارشاد إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ خبثت طينته، و قلّ عقله، و ساءت أخلاقه من كلّ عالم لو فرض وجوده، و لذا ضَلَّ و انحراف عَنْ دين اللّه الذي هو سَبِيلِهِ المؤدّي إلى قربه و رحمته ضلالا أبديا بحيث لا يرجى أن يرجع إليه وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ طابت طينته، و تنوّر قلبه، و انشرح صدره، و حسنت اخلاقه، و لذا اِهْتَدىٰ إلى دين الحقّ، و سلك سبيله، و نال خير الدنيا و الآخرة، و في تكرير قوله: وَ هُوَ أَعْلَمُ زيادة التقرير و الايذان بتباين المعلومين.

قيل: إنّ معنى (أعلم) هنا العالم الذي لا عالم مثله(2) ، و إنّما قدّم سبحانه بيان علمه بضلال الضالين؛ لأنّ المقصود تهديدهم و تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله.

وَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا بِمٰا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ فَلاٰ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ (32) ثمّ لمّا لم يكن العلم بالضلال مرعبا إلاّ مع القدرة على العقوبة، بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله:

وَ لِلّٰهِ تعالى وحده مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ إيجادا و إعداما و تصرّفا، و من الواضح أنّه لم يكن خلقهما عبثا، بل إنّما خلق جميع ذلك لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السوء بِمٰا عَمِلُوا في الدنيا. و قيل: إنّ التقدير بعقوبة ما عملوا (3)وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا و أطاعوا ربّهم بِالْحُسْنَى و المثوبة العظيمة، و هي الجنّة و النّعم الدائمة. و قيل: يعني بالأعمال الحسنى(4).

ثمّ بيّن سبحانه المحسنين بقوله تعالى:

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ الأفعال التي تكون كَبٰائِرَ الْإِثْمِ و عظائم المعاصي من حين بلوغهم أو اسلامهم إلى الموت سواء كانت ترك الواجبات أو إتيان

ص: 90


1- . في النسخة: فان هم.
2- . تفسير الرازي 3:29.
3- . تفسير أبي السعود 161:8.
4- . تفسير الرازي 6:29.

المحرّمات. و يحتمل أن تكون الجملة لبيان اشتراط قبول الحسنات بالاجتناب عن المعاصي الكبيرة.

و قيل: إنّه لمّا بيّن سبحانه حال المسيئين و حال المحسنين، بيّن حال من لم يأت بالحسنات و لم يرتكب المحرّمات الكبيرة (1)وَ الْفَوٰاحِشَ و القبائح الشديدة القبح، كالشرك و الزنا و اللواط و قتل النفس المحترمة و سبّ النبي أو أحد من المعصومين، فانّها أكبر الكبائر إِلاَّ اللَّمَمَ و ما يفعله مرّة و اتّفاقا من غير عادة و لا استمرار عليه.

عن ابن عباس، قال: معناه إلاّ أن يلمّ بالفاحشة مرّة ثمّ يتوب، و لم يثبت عليه، فانّ اللّه يقبل توبته(2).

عن الصادق عليه السّلام. قال: «الفواحش: الزنا و السرقة، و اللّمم: الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر اللّه منه»(3).

أقول: يلمّ بالذنب. أي يقربه و يرتكبه و لا يقيم عليه.

و عنه عليه السّلام: «ما من ذنب إلاّ و قد طبع عليه المؤمن، يهجره الزمان ثمّ يلمّ به و هو قول اللّه تعالى:

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» قال: «اللّمّام: العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب، ليس بسليقته» أي من طبعه(4).

أقول: «و قد طبع عليه المؤمن» أي يرغب إليه بطبعه و قوله: «ثمّ يلمّ به» أي يرتكبه و يقع فيه اتفاقا، و قوله «يلمّ بالذنب بعد الذنب» أي يقربه مرة بعد مرة من باب الاتفاق لا للعادة كما عن بعض، قال:

اللّمم و الإلمام: ما يعمله الانسان الحين بعد الحين، و لا يكون له عادة و لا إقامة عليه(5).

أقول: على ذلك يكون الاستثناء متّصلا، و قيل: إنّ كلمة (إلاّ) بمعنى غير، و المعنى و الفواحش غير اللّمم(6). و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المراد باللّمم المعاصي الصغيرة(7).

و روي أنّ نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر، فقال لها: ادخلي الحانوت، فعانقها و قبّلها، فقالت المرأة: خنت أخاك و لم تصب حاجتك، فندم و ذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت(8).

أقول: نزول الآية في مورد الصغيرة الواقعة من باب الاتفاق، لا ينافي شمولها لكبيرة الاتفاقية، و دلالة الآية على قبول التوبة من جميعها، بل مغفرته بلا توبة إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لا تضيق مغفرته عن ذنوب جميع الخلق، إلاّ أنّه تعالى أوجب التوبة و وعد بقبولها.

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ فَلاٰ

ص: 91


1- . تفسير الرازي 6:29.
2- . تفسير روح البيان 242:9.
3- . الكافي 7/212:2، تفسير الصافي 94:5.
4- . الكافي 5/320:2، تفسير الصافي 94:5.
5- . تفسير روح البيان 242:9.
6- . تفسير الرازي 8:29. (7و8) . تفسير روح البيان 242:9.

تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ (32) ثمّ قرر سبحانه علمه بأعمال عباده و أحوالهم بقوله: هُوَ تعالى أَعْلَمُ من كلّ أحد بِكُمْ أيّها الناس و بأحوالكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ و حين خلقكم في ضمن خلق أبيكم آدم مِنَ تراب اَلْأَرْضِ ثمّ من نطفة وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ و وقت كونكم أولادا مستورين و متمكّنين فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ و ظلمات أرحامهنّ على أطوار مختلفة، فاذا كان الأمر كذلك فَلاٰ تُزَكُّوا و لا تنزّهوا أَنْفُسَكُمْ من الضلالة و المعصية و ذمائم الأخلاق هُوَ تعالى أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمَنِ اتَّقىٰ و أحترز من الضلالة و الشرك و المعاصي قبل أن يخرجه من صلب آدم. قيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة، ثمّ يقولون: صلاتنا و صيامنا و حجّنا، فنزلت الآية(1).

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «لا يفخر أحدكم بكثرة صلاته و صيامه و زكاته و نسكه؛ لأنّ اللّه يقول: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «قول الانسان: صليت البارحة، و صمت أمس، و نحو هذا» ثمّ قال: «إنّ قوما يصبحون فيقولون: صلينا البارحة، و صمنا أمس، فقال عليّ: لكنّي أنام الليل و النهار، و لو أجد بينهما شيئا لنمته»(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لو لا ما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين، و تمجّها آذان السامعين»(4).

قيل: لمّا نزل فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّٰى قال لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: قد علم اللّه كونك و من معك على الحقّ، و كون المشركين على الباطل، فأعرضوا(5) عنهم، و لا تقولوا: نحن على الحقّ و أنتم على الضلال؛ لأنّهم يقابلونكم بمثل ذلك، و فوّض الأمر إلى اللّه فانّه أعلم بمن اتقى و من طغى(6).

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلّٰى (33) وَ أَعْطىٰ قَلِيلاً وَ أَكْدىٰ (34) ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتولّي عن المتولّين عن ذكره، أظهر العجب من غاية شقاء بعض المتولّين عن ذكره بقوله:

أَ فَرَأَيْتَ يا محمد، الكافر اَلَّذِي تَوَلّٰى و أعرض عن ذكرنا حتى تتعجّب من أنّه كيف تولّى توليا فظيعا، و أعرض إعراضا شنيعا

وَ أَعْطىٰ شيئا قَلِيلاً من ماله

ص: 92


1- . تفسير أبي السعود 162:8، تفسير روح البيان 244:9.
2- . علل الشرائع: 81/610، تفسير الصافي 94:5.
3- . معاني الأخبار: 1/243، تفسير الصافي 94:5.
4- . الاحتجاج: 177، تفسير الصافي 95:5.
5- . في تفسير الرازي: فأعرض.
6- . تفسير الرازي 10:29.

لغيره، ليتحمّل عنه وزره و عذاب الآخرة وَ أَكْدىٰ و بخل بإعطاء باقي ما شرط إعطاءه فخالف حكم العقل؛ لأنّه أعطى ليحمل الوزر، و هو لا يحصل له، و خالف العرف لأنّه خالف عهده.

ذكر طعن في عثمان

و ردّ الفخر

الرازي

حكى الفخر الرازي عن بعض المفسرين: أنّها نزلت في الوليد بن المغيرة، قالوا: إنّه جلس عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و سمع و عظة، فأثّرت الحكمة فيه تأثيرا قويا، فقال له رجل:

لم تترك دين آبائك ؟ ثمّ قال له: لا تخف أعطني كذا و أنا أتحمّل أوزارك، فأعطاه بعض ما التزمه، و تولّى عن الوعظ و سماع الكلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال الفخر: و قال بعض المفسرين: نزلت في عثمان، كان يعطي من ماله عطاء كثيرا، فقال له أخوه من امّه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح: يوشك أن يفنى مالك، فأمسك. فقال عثمان: إنّ لي ذنوبا أرجو أن تغفر لي بسبب العطاء فقال له أخوه: أنا اتحمّل عنك ذنوبك على أن تعطيني ناقتك مع كذا.

فأعطاه ما طلب، و أمسك يده عن العطاء، فنزلت.

ثمّ قال الفخر: و هذا قول باطل؛ لأنّه لم يتواتر ذلك، و لا اشتهر، و ظاهر حال عثمان يأبى ذلك(1).

أقول: ظاهر حال عثمان من شدّة حماقته مؤيد لصدق الرواية، لوضوح أنّ عثمان كان أشدّ حمقا من الوليد بن المغيرة الذي كان عند قريش مشهورا بالعقل و الرّزانة و الفطنة، فكيف يقبل هذا العمل من الوليد، و لا يقبل من عثمان مع صدور ما هو أقبح منه، حيث إنّ السّدّي الذي كان من قدماء المفسرين و عظمائهم روى في تفسير قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنٰا ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ إلى آخر الآيات أنّه نزلت في عثمان بن عفان، قال: لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني النّضير، فقسّم أموالهم، فقال عثمان لعلي: ائت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اسأله أرض كذا و كذا، فانّ أعطاكها فأشركني فيها، و أنا آتيه و أساله، فأنت شريكي فيها، فسأله عثمان أولا فأعطاه إياها، فقال علي عليه السّلام: «أشركني» فأبى عثمان، فقال: بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأبى أن يخاصمه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقيل له: لم لا تنطلق معه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله ؟ فقال: هو ابن عمّه، فاخاف أن يقضي له، فنزلت وَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلى قوله أُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ الخبر(2).

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرىٰ (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ (36) وَ إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى (37) أَلاّٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ (40) ثُمَّ يُجْزٰاهُ الْجَزٰاءَ الْأَوْفىٰ (41) وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ (42)

ص: 93


1- . تفسير الرازي 11:29.
2- . و الآيتان من سورة النور: 47/24 و 48.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم اعتقادهم، بتحمّل الغير وزرهم بقوله:

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ من أنّه يحمل الغير وزره يوم القيامة مع أنّه غائب عنهم فَهُوَ يَرىٰ بقلبه و يعتقد بجنانه أنّه يتخلّص من العقوبة على سيّئاته بتحمّلها غيره

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ و لم يخبر بتوسّط النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو غيره من أهل الكتاب بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ و أسفار التوراة أو ألواحها

وَ بما في صحف إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى بما عاهد اللّه، و بالغ في العمل بأوامره. و قيل: يعني وفّى و أتمّ ما ابتلي به من الكلمات(1).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل ما عنى بقوله: وَ إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى ؟ قال: «كلمات بالغ فيهنّ» قيل: و ما هنّ؟ قال: «كان إذا أصبح قال: أصبحت و ربّي محمود، أصبحت لا اشرك باللّه شيئا، و لا ادعو مع اللّه إلها، و لا أجد من دونه وليا - ثلاثا - و إذا أمسى قال ثلاثا»(2).

و روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أ لا اخبركم لم سمّى اللّه الخليل الذي وفّى ؟ كان يقول إذا أصبح و أمسى: فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ * وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ» (3).

ثمّ بيّن سبحانه ما في صحفهما بقوله:

أَلاّٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ و لا يعاقب أحد بذنب غيره

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ ثواب و أجر إِلاّٰ ثواب مٰا سَعىٰ و له جدّ في تحصيله، فلا يثاب أحد على عمل غيره، و أما إثابتهم على عمل من ناب عنهم، فان كانت النيابة باستدعاء المناب عنه فهو ثواب على عملهم، و إن كان عمل النائب تبرعا و بغير الاستدعاء فهو من آثار إيمانهم المكتسبة بسعيهم.

و عن ابن عباس و عكرمة: أنّه منسوخ في شريعة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله، فانّ المؤمنين يثابون بصدقات إخوانهم المؤمنين و عباداتهم عنهم في هذه الشريعة(4).

و قيل: إنّ الاثابة في المورد و أمثاله بالتفضل(5) ، فلا نسخ على هذا و على الأول.

وَ فيها أَنَّ سَعْيَهُ و عين ما عمله محفوظ عند ربّه و سَوْفَ يُرىٰ و يعاين ذلك العمل بصورته الواقعية في القيامة

ثُمَّ يُجْزٰاهُ و يثاب عليه في ذلك اليوم اَلْجَزٰاءَ الْأَوْفىٰ و الثواب الأكمل الأوفر الذي لا يمكن أكمل و لا أوفر منه

وَ فيها أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ يا محمد، أو أيها العاقل، لا إلى غيره اَلْمُنْتَهىٰ أو المصير لجميع الخلائق بعد الموت و حين البعث، فيجازي كلا منهم على

ص: 94


1- . تفسير روح البيان 246:9.
2- . الكافي 38/388:2، تفسير الصافي 95:5.
3- . تفسير روح البيان 246:9، و الآيتان من سورة الروم: 17/30 و 18.
4- . تفسير روح البيان 247:9.
5- . تفسير روح البيان 248:9.

حسب أعمالهم، إنّ خيرا فخير، و إنّ شرا فشرّا.

و قيل: إنّ المراد أنّ منتهى جميع الممكنات في الوجود إلى الواجب، و لو بالوسائط، لوضوح أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات(1).

و عن ابي بن كعب: أنّه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ لا فكرة في الربّ»(2).

و عن أنس، عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «إذا ذكر الربّ فانتهوا» أي اقطعوا التكلّم فيه(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه يقول: وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ فاذا انتهى الكلام إلى اللّه فأمسكوا»(4).

و عن الباقر عليه السّلام: قيل له: إن الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة، فما تقول ؟ قال: «مكروه، أ ما تسمع اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ تكلّموا دون ذلك»(5).

أقول: يعني النظر في ذاته و صفاته، فانّه لا تزيد إلاّ تحيّرا لقصور العقول بالغة ما بلغت عن إدراكها بكنهها، فاذا انتهى النظر إليها فقفوا.

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَمٰاتَ وَ أَحْيٰا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرىٰ (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنىٰ وَ أَقْنىٰ (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرىٰ (49) وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عٰاداً الْأُولىٰ (50) وَ ثَمُودَ فَمٰا أَبْقىٰ (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغىٰ (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوىٰ (53) فَغَشّٰاهٰا مٰا غَشّٰى (54) ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته الموجبة لإرعاب القلوب بقوله:

وَ أَنَّهُ هُوَ تعالى بقدرته الكاملة أَضْحَكَ الانسان وَ أَبْكىٰ روي عن عائشة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّ على قوم يضحكون، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، و لضحكتم قليلا» فنزل جبرئيل فقال: إنّ اللّه يقول: وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ فرجع صلّى اللّه عليه و آله إليهم، فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبرئيل فقال: ائت هؤلاء القوم، فقل لهم: إنّ اللّه يقول: هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ (6).

قيل: أي أضحك الأرض بالنبات و الأشجار و الأنوار، و أبكى السماء بالأمطار، كما عن القمي(7). فمن قدر على إيجاد الضدّين، لا نهاية لقدرته ؟

ص: 95


1- . تفسير الرازي 17:29.
2- . تفسير الرازي 17:29.
3- . تفسير الرازي 17:29.
4- . الكافي 2/72:1، التوحيد: 9/456، تفسير الصافي 96:5.
5- . التوحيد: 18/457، تفسير الصافي 96:5.
6- . تفسير روح البيان 254:9.
7- . تفسير القمي 339:2، تفسير الصافي 96:5.

وَ أَنَّهُ تعالى وحده هُوَ أَمٰاتَ الأحياء وَ أَحْيٰا الموتى، و لا يقدر عليهما غيره

وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ و الصنفين من كلّ حيوان اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ مع كونهما متضادّين

مِنْ نُطْفَةٍ و ماء متكوّن في الصّلب إِذٰا تُمْنىٰ و تدفق في الرّحم، أو تتحوّل من الدم مع اتخاذ صورتها. و قيل: معنى (إذا تمنى) إذا قدّر منها الولد(1).

وَ أَنَّ اللّه يجب عَلَيْهِ بحكم العقل و بمقتضى الحكمة أن يوجد اَلنَّشْأَةَ الْأُخْرىٰ و يعيد الخلق فيها تارة اخرى، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى.

و قيل: إنّ المراد من النشأة الاخرى نفخ الروح الانساني في الجسد(2) بعد خلقه و تكميل أجزائه و صورته، كما قال سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ (3).

وَ أَنَّهُ تعالى هُوَ أَغْنىٰ الانسان، و أعطاه جميع ما يحتاج إليه في تعيّشه وَ أَقْنىٰ و أعطاه القنية و الأموال المدّخرة الباقية كالإبل و البقر و الغنم و المرعى الطيّب و الرياض النّضرة.

و عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في هذه الآية. قال: «أغنى كلّ إنسان بمعيشته، و أرضاه بكسب يده»(4).

وَ أَنَّهُ تعالى هُوَ بالخصوص رَبُّ الكوكب اَلشِّعْرىٰ قيل: إنّه كوكب يطلع خلف الجوزاء، تعبده خزاعة(5).

و عن القمي رحمه اللّه، قال: نجم في السماء يسمّى الشّعرى، و كانت قريش و قوم من العرب يعبدونه، و هو نجم يطلع في آخر الليل(6). و المعنى: اعبدوا الربّ دون المربوب.

و قيل: في النجوم شعريان: إحداهما شامية، و الاخرى يمانية، و كان العرب يعبدون اليمانية(7).

وَ أَنَّهُ تعالى أَهْلَكَ بالعذاب عٰاداً الْأُولىٰ و هم قوم هود، قدّم ذكرهم و وصفهم بالاولى؛ لأنّهم أولى الامم هلاكا بعد قوم نوح. و قيل: إنّ عادا الاخرى من نسلهم، و هي التي قاتلها موسى بأريحا(8).

وَ أهلك ثَمُودَ بالصيحة فَمٰا أَبْقىٰ على وجه الأرض منهم، أو من الفريقين أحدا، لكفرانهم نعم ربّهم، و طغيانهم عليه بعد إغنائهم و إقنائهم

وَ إنّه أهلك قَوْمَ نُوحٍ بالطّوفان و الغرق مِنْ قَبْلُ و في العصر السابق على أعصار سائر الامم المهلكة إِنَّهُمْ كٰانُوا على نبيّهم

ص: 96


1- . تفسير روح البيان 255:9.
2- . تفسير الرازي 21:29.
3- . المؤمنون: 14/23.
4- . تفسير القمي 339:2، معاني الأخبار: 1/214، تفسير الصافي 97:5.
5- . تفسير روح البيان 257:9.
6- . تفسير القمي 339:2، تفسير الصافي 97:5.
7- . تفسير الرازي 23:29، تفسير روح البيان 257:9.
8- . تفسير روح البيان 257:9.

نوح هُمْ أَظْلَمَ من الفريقين، حيث كانوا يؤذونه و يضربونه حتى لا يبقى له حراك وَ أَطْغىٰ عليه، أو على ربّهم منهم. قيل: كانوا ينفّرون الناس عنه، و يحذّرون صبيانهم من أن يقربوا منه و يستمعوا وعظه(1).

وَ أهلك القرى

اَلْمُؤْتَفِكَةَ و المنقلبة بأهلها بحيث جعل عاليها سافلها، و هي قرى قوم لوط، فانّ اللّه أَهْوىٰ و أسقطها إلى الأرض بعد رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل. و قيل: يعني ألقاها في الهاوية(2). و قيل: كانت بيوتهم مرتفعة، فأهواها اللّه بالزّلزلة، و جعل عاليها سافلها(3).

و قيل: إنّ المراد من المؤتفكة كلّ قوم انقلبت مساكنهم، و خربت منازلهم(4) ، و هو خلاف الظاهر، بل الظاهر أنّ المراد القرى المعهودة لقوم لوط.

فَغَشّٰاهٰا و احاط بها مٰا غَشّٰى ها، و أحاط بها من أنواع العذاب، و في إبهام عذابهم ما لا نهاية له من التهويل.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكَ تَتَمٰارىٰ (55) هٰذٰا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولىٰ (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهٰا مِنْ دُونِ اللّٰهِ كٰاشِفَةٌ (58) ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد نعمه على الانسان من خلق الذكر و الانثى، و إغنائه و إقنائه، و إهلاك الظّلمة و الطّغاة، و نصرة انبيائه و رسله، نبّه على أنّه لا مجال للشكّ في نعمه بقوله تعالى:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكَ و نعمه أيّها الانسان تَتَمٰارىٰ و تشكّ أو تجادل إنكارا له.

و قيل: إنّ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله من باب التعريض بالغير(5) على طريقة: إياك أعني و اسمعي يا جارة.

قيل: إنّ اللّه عدّ النّقم التي ذكرها قبل الآلاء نعما من أجل أنّها عبر للمعتبرين، و نصرة للأنبياء و المرسلين و المؤمنين(6).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه إهلاك الامم المكذّبة لرسلهم أشار إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

هٰذٰا الشخص الشريف الذي يدعوكم أيّها الناس إلى التوحيد و دين الحقّ، و يرشدكم إلى سعادة الدارين نَذِيرٌ لكم من اللّه تعالى، و رسول مبعوث من قبله مِنَ جملة اَلنُّذُرِ الْأُولىٰ و من قبيل الرسل السابقة، فلا تكذّبوه فانّه يصيبكم ما اصاب الامم المكذّبة لرسلهم.

ص: 97


1- . تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 258:9.
2- . تفسير روح البيان 258:9.
3- . تفسير الرازي 24:29.
4- . تفسير الرازي 24:29.
5- . تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 258:9.
6- . تفسير البيضاوي 443:2، تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 258:9.

عن الصادق عليه السّلام - في رواية -: أنّه سئل عن الآية، فقال: «يعني محمدا»(1).

و قيل: إنّ كلمة (هذا) إشارة إلى القرآن، و المعنى أنّ هذا القرآن الذي تشاهدونه و تسمعونه إنذار من قبيل الانذارات المتقدّمة التي سمعتم عاقبتها(2) ، فان اتّعظتم به فهو خير لكم و سعادتكم، و إلاّ فلو فرض أنّا لا نعذّبكم في الدنيا نعذّبكم بالعذاب الشديد في القيامة، فانّه قد

أَزِفَتِ و قربت تلك القيامة التي هي اَلْآزِفَةُ و القريبة منكم كل يوم و كلّ ساعة بحيث تتضيق عليكم وقت التدارك لها و

لَيْسَ في عالم الوجود لَهٰا مِنْ دُونِ اللّٰهِ و من قبل غيره نفس كٰاشِفَةٌ و مخبرة عنها كما هي و متى يكون وقتها، أو المعنى: ليس لها نفس قادرة على ردّها و إزالتها عند وقوعها في الوقت المقدّر لها إلاّ اللّه.

أَ فَمِنْ هٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لاٰ تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ وَ اعْبُدُوا (62) ثمّ أنكر سبحانه على المشركين المستهزئين بالقرآن، أو بالأخبار بقرب القيامة بقوله تبارك و تعالى:

أَ فَمِنْ هٰذَا القرآن الذي هو أحسن اَلْحَدِيثِ أو من حديث قرب القيامة، أو ممّا تقدّم من الأخبار، كما عن الصادق عليه السّلام(3).

أنتم تَعْجَبُونَ إنكارا

وَ تَضْحَكُونَ سخرية و استهزاء وَ لاٰ تَبْكُونَ على سوء حالكم و وخامة عاقبتكم و قرب ابتلائكم بالعذاب و الشدائد

وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ و غافلون عن نتائج أعمالكم القبيحة، أو مستكبرون عن الايمان بالرسول و القرآن و الحشر، مع أن الحقّ أن تبكوا كثيرا، و تضحكوا قليلا، و تؤمنوا به سريعا، و تخشع له قلوبكم، و تخضع له جوارحكم.

روى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ير ضاحكا بعد نزول هذه الآية(4).

عن أبي هريرة: لمّا نزلت الآية بكى أهل الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حنينهم بكى معهم، و بكينا لبكائه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا يلج النار من بكى من خشية اللّه، و لا يدخل الجنّة مصرّ على معصية اللّه».. الخبر(5).

سجدة واجبة

ثمّ لمّا وبّخ سبحانه المشركين على التعجّب من كون القرآن من جانب اللّه تعالى، و على استهزائهم به، أمر المؤمنين بأداء شكر نعمة نزوله عليهم بقوله:

فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ أيّها المؤمنون

ص: 98


1- . تفسير القمي 340:2، تفسير الصافي 98:5.
2- . تفسير أبي السعود 165:8، تفسير روح البيان 259:9.
3- . مجمع البيان 277:9، تفسير الصافي 98:5.
4- . تفسير روح البيان 260:9.
5- . تفسير روح البيان 260:9.

شكرا على هدايتكم بالقرآن وَ اعْبُدُوا اللّه خالصا مخلصا له الدين، و لا تعبدوا غيره.

قد حكى كثير من الأصحاب وجوب السجود على من تلاها، أو استمع تلاوتها، و دلت عليه الأخبار المعتبرة.

عن الصادق عليه السّلام: «من كان يدمن قراءة سورة النجم في كلّ يوم، أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين الناس، و كان مغفورا له(1) و محبوبا بين الناس، أو عند اللّه تعالى»(2).

ص: 99


1- . في ثواب الاعمال: موفورا له.
2- . ثواب الاعمال: 116، مجمع البيان 258:9، تفسير الصافي 98:5، في ثواب الاعمال إلى كلمة: الناس، و في تفسير الصافي: الناس إن شاء اللّه.

ص: 100

في تفسير سورة القمر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اِقْتَرَبَتِ السّٰاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1)

ذكر معجزة شقّ

القمر

ثمّ لمّا ختمت سورة النجم المختتمة باثبات النبوة، و الإخبار بقرب القيامة، و توبيخ المشركين على إنكارها، نظمت سورة القمر المبدوءة بالإخبار بقرب يوم القيامة، و الاستدلال عليه بانشقاق القمر باعجاز النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي هو من أشراط الساعة، و توبيخ المشركين على إنكار بنوّته، و نسبة معجزاته إلى السحر و اتّباعهم هوى أنفسهم، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بالإخبار بقرب القيامة بقوله:

اِقْتَرَبَتِ السّٰاعَةُ و دنت القيامة، و قرب قيامها و وقوعها.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أنا و الساعة كهاتين»(1) و ضمّ و جمع بين سبابته و وسطاه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه جعل الدنيا قليلا، فما بقي منها قليل من قليل»(2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «مثلي و مثل الساعة كفرسي رهان»(3).

ثمّ لما كان انشقاق القمر من أشراط الساعة، قرن سبحانه الإخبار به باقترابها بقوله: وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ و صار فلقتين، و حصلت آية اقترابها.

روي أنّه خطب حذيفة بن اليمان بالمدائن، و كان من خطبته: ألا إنّ الساعة قد اقتربت، و إنّ القمر قد انشقّ على عهد نبيّكم(2).

و عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: أنّه اجتمع المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم: «إن فعلت تؤمنوا؟» فقالوا: نعم. و كانت ليلة بدر، فسأل ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فرقتين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينادي: «يا فلان، يا فلان، اشهدوا»(3).

ص: 101


1- . تفسير الرازي 29:29 و 30. (2و3) . تفسير روح البيان 262:9.
2- . تفسير روح البيان 263:9.
3- . مجمع البيان 281:9، تفسير الصافي 99:5.

و في رواية: فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إصبعه، و أمر القمر بأن ينشقّ نصفين، فانفلق فلقتين: فلقة ذهبت عن موضع القمر، و فلقة بقيت في موضعه(1).

و عن جبير بن مطعم: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى صار فرقتين على هذا الجبل، فقال ناس: سحرنا محمد. فقال رجل: إن كان سحركم، فلم يسحر الناس كلّهم(2).

و في رواية، قال كفّار قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن كان محمد سحر القمر بالنسبة إليكم، فانّه لا يبلغ من سحره أن يسحر جميع أهل الأرض، فاسألوا من يأتيكم من البلاد، فسألوا أهل الآفاق فأخبروا كلّهم بذلك(3).

و عن ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر(4).

قال بعض العامة: عليه عامة الصحابة و جلّ المفسّرين(5).

و عن (شرح المواقف): أنّ خبر انشقاق القمر متواتر(6).

في ردّ التشكيك في

صحّة شقّ القمر

اقول: كفى في ثبوته اشتهاره بين المسلمين من قديم الدهر، بحيث كان من المسلّمات، و التشكيك فيه بأنّه لو كان واقعا لنقله جميع الفرق و أهل التواريخ من سائر الأديان، لكونه من عظائم الامور، و توفّر الدواعي إلى نقله، ساقط عن الاعتبار، لوضوح عدم التفات كثير من الناس إلى الأوضاع الفلكية، كما نرى أنّ كثيرا ما لا يلتفتون إلى كسوف القمر، كما أنّه يمكن وقوعه في وقت كان أكثر الناس نياما، أو اختفاؤه(7) عن قوم دون قوم بسبب الغيم و اختلاف الافق، و اقتضاء حكمته تعالى صرف كثير من الناس عن التوجّه إليه، لتتمّ الحجّة على الحاضرين و المقترحين، و يقع الاختلاف في غيرهم، مع اخبار اللّه به في كتابه و نقل الثقات إياه.

وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ فَمٰا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدّٰاعِ إِلىٰ شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدّٰاعِ يَقُولُ الْكٰافِرُونَ هٰذٰا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

ص: 102


1- . تفسير روح البيان 264:9.
2- . مجمع البيان 282:9، تفسير الصافي 99:5.
3- . تفسير روح البيان 264:9.
4- . تفسير أبي السعود 167:8، تفسير روح البيان 264:9.
5- . تفسير روح البيان 263:9.
6- . تفسير روح البيان 263:9.
7- . في النسخة: و اختفاؤه.

ثمّ إنّه تعالى بعد إخباره بهذه الآية العظيمة و المعجزة الباهرة، وبّخ الكفّار على إنكاره و نسبتها إلى السّحر بقوله:

وَ إِنْ يَرَوْا بأعينهم آيَةً و معجزة عظيمة دالة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله كشقّ القمر، و حنين الجذع اليابس، و الإخبار بالمغيبات و غيرها يُعْرِضُوا عن التأمّل فيها، و لا يعتنوا بها عنادا و لجاجا وَ يَقُولُوا دفعا لدلالتها على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله: هذه الخوارق للعادات التي يعجز الناس عن الاتيان بمثلها سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ و مطّرد يأتي به محمد على مرّ الزمان بحيث يتبع بعضه بعضا، أو سحر قويّ محكم بحيث يؤثر في السماويات و الفلكيات، أو سحر مارّ ذاهب لا بقاء له، و ذلك القول لأنّهم أنكروا نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله عنادا و لجاجا

وَ كَذَّبُوا ه في دعوى رسالته، أو في إخباره بقرب الساعة، أو كذّبوا معجزاته و نسبوها إلى السحر و الكهانة وَ اتَّبَعُوا في تكذيبه أَهْوٰاءَهُمْ و شهوات أنفسهم على عادتهم القديمة وَ كُلُّ أَمْرٍ من الخير و الشرّ مُسْتَقِرٌّ و ثابت منته بالآخرة(1) إلى خذلان و نصرة في الدنيا و شقاوة و سعادة في الآخرة.

ثمّ لمّا حثّهم سبحانه إلى الايمان و العمل ببيان اقتراب الساعة و إقامة الدليل عليه بوقوع انشقاق القمر، و هو من أشراط الساعة، و توبيخهم على إنكار المعجزات و تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتباعهم هوى أنفسهم، بيّن سبحانه غاية خبثهم و عدم تأثّرهم بالمواعظ بقوله:

وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ في القرآن و سائر الكتب السماوية مِنَ الْأَنْبٰاءِ الموحشة و الأخبار العظيمة الهائلة من ابتلاء الامم الماضية بأنواع العذاب في الدنيا على تكذيبهم الرسل مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ و رادع عن التكذيب و العصيان، و مانع عن السوء و الطّغيان، و صارف عن اتّباع الهوى، و من الواضح أنّ تلك الامور التي فيها عظة، أو الأنباء التي في القرآن

حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ غايتها لا خلل فيها، أو بالغة غاية الإنذار و الوعظ فَمٰا تُغْنِ و لا تفيد هداية النفوس الخبيثة و القلوب القاسية اَلنُّذُرُ و الرسل و المواعظ و التخويفات شيئا.

و قيل: إنّ كلمة (ما) استفهامية إنكارية، و المعنى أيّ إغناء و فائدة في النذر إذا خالفوا و كذّبوا(2) ، و عاندوا و لجّوا، إذن لا تتعب نفسك الشريفة بالاصرار في دعوتهم إلى الايمان و الاتّعاظ

فَتَوَلَّ و أعرض عَنْهُمْ و لا تعتن بهم، و انتظر يَوْمَ يَدْعُ إسرافيل الذي هو اَلدّٰاعِ لجميع الخلق بنفخة في الصّور إِلىٰ المحشر و شَيْءٍ نُكُرٍ و فظيع لا سابقة لهم به، و هو أهوال يوم القيامة، و هم يجيبونه في حال كونهم

خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ و أذلّة جوارحهم عند رؤية العذاب، و إجابتهم له بأنّهم يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ و القبور انقيادا له، و ينتشرون في الأرض، و يتفرّقون في أقطارها كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ و متفرّق فيها كثرة و تفرّقا و هم مع ذلك يكونون

مُهْطِعِينَ و مسرعين في

ص: 103


1- . أي في آخر الأمر.
2- . تفسير روح البيان 269:9.

المشي إِلَى جهة اَلدّٰاعِ مادّين أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه غير قالعين أبصارهم عنه، و عند ذلك يَقُولُ الْكٰافِرُونَ باللّه و الرسول و اليوم الآخر: هٰذٰا اليوم الذي ابتلينا به يَوْمٌ عَسِرٌ و صعب علينا، شديدة أهواله لنا، و أمّا المؤمنون فانّهم يقولون: هذا يوم يسير.

عن السجّاد عليه السّلام، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث - يذكر [فيه] أهوال يوم القيامة:

«فيشرف الجبّار تبارك و تعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة، فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق، أنصتوا و استمعوا منادي الجبار» قال: «فيستمع آخرهم كما يستمع أولهم فتنكسر أصواتهم عند ذلك، و تخشع أبصارهم، و تضطرب فرائصهم، و تفزغ قلوبهم، و يرفعون رءوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي قال: «فعند ذلك يقول الكافرون: هذا يوم عسر»(1).

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنٰا وَ قٰالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعٰا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ بِمٰاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمٰاءُ عَلىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْنٰاهُ عَلىٰ ذٰاتِ أَلْوٰاحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْنٰاهٰا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) ثمّ لمّا ذكر سبحانه المشركين نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و نسبتهم معجزاته إلى السّحر، ذكر حال الامم المهلكة الذين كانوا قبل كفّار مكّة تهويلا لهم و تسلية لحبيبه محمد صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ بالرسل و الآيات قَوْمُ نُوحٍ في دعوى رسالته و توحيد اللّه، كما كذّبت قومك رسالتك و آية انشقاق القمر فَكَذَّبُوا لتكذيبهم جميع الرسل عَبْدَنٰا و رسولنا نوح في دعوى رسالته مع علوّ شأنه، و بالغوا في تكذيبه حتى رموه بزوال العقل وَ قٰالُوا إنّه مَجْنُونٌ حيث يتكلّم بما لا يتكلّم به عاقل، و يدعوا إلى ما لا يقبله أحد وَ ازْدُجِرَ و منع عن تبليغ رسالته بالشتم و الضرب و أنواع الأذى، حين يئس من إيمانهم، و ترك دعوتهم. و قيل: إنّه من كلام القوم، و المعنى: ازدجره الجنّ، و تخبّطه و أفسدته(2).

فَدَعٰا رَبَّهُ بعد يأسه عن إيمانهم، و كان دعاؤه أَنِّي يا ربّ مَغْلُوبٌ من جهة قومي، و لا أقدر على دفعهم و منعهم عن إيذائي، و عيل صبري فَانْتَصِرْ إذن لعبدك(3) نوح، و انتقم له من أعدائه، أو انتصر لنفسك من أعدائك، فاستجبنا دعاءه

فَفَتَحْنٰا لاهلاك قومه أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ

ص: 104


1- . الكافي 79/104:8، تفسير الصافي 100:5.
2- . تفسير روح البيان 271:9.
3- . في النسخة: عبدك.

و طرقها من طرف المجرّة على ما روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) و كان فتحها بِمٰاءٍ كثير مُنْهَمِرٍ و منصبّ على الأرض انصبابا شديدا، فصار صبّ الماء كالمفتاح للأبواب. قيل: كان القوم يطلبون المطر سنين، فكأنّ مطلوبهم جاء إلى الباب ففتحه(2) ، أو المراد فتحنا الأبواب مقرونة بماء منصبّ(3)

وَ فَجَّرْنَا و شققنا اَلْأَرْضَ بحيث صارت كلّها عُيُوناً تجري منها الماء.

فَالْتَقَى الْمٰاءُ النازل من السماء، و الماء النابع من الأرض، و اتّصلا و اختلطا، فصارا عَلىٰ أَمْرٍ و حال قَدْ قُدِرَ من جانب اللّه لإهلاك القوم، أو على حال صار كلّ من الماءين بقدر الآخر، أو على قدره لا يعلم مقداره كانا متساويين، أو أحدهما أزيد من الآخر.

فلمّا غرقت الأرض بدعاء نوح نجيناه

وَ حَمَلْنٰاهُ و من آمن معه عَلىٰ سفينة ذٰاتِ أَلْوٰاحٍ و صاحبة قطعات من الخشب، وَ ذات دُسُرٍ و مسامير، فهي مع سهولة انفكاكها

تَجْرِي و تسير في الطّوفان بِأَعْيُنِنٰا و حفظنا، أو بمرأى منّا، و إنّما كان ذلك الحمل و النجاة من الغرق، أو حفظ السفينة من الانفكاك و الغرق، أو إجابة دعائه و فتح أبواب السماء، أو جميع ما ذكر جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ وجوده و بعثه في الخلق نعمة عظيمة من اللّه تعالى، ثمّ كُفِرَ ذلك الشخص بترك إطاعته، و القيام بعداوته، و التظاهر على إيذائه، فصبر على جميع ذلك، فنصر على أعدائه بغرقهم، و إنجائه بوسيلة السفينة.

وَ لَقَدْ تَرَكْنٰاهٰا و أبقيناها على وجه الأرض دهرا طويلا، لتكون آيَةً و عبرة يعتبر بها من نظر إليها. قيل: بقيت إلى أوائل هذه الامّة(4). و قيل: يعني جعلناها آية عظيمة يعتبر بها من يقف على خبرها (5)فَهَلْ في الناس مِنْ مُدَّكِرٍ و معتبر بالعبر و متّعظ بالمواعظ الإلهية، فيخاف من اللّه المنتقم، و يترك عصيانه.

فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عٰادٌ فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (18) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النّٰاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (21)

ص: 105


1- . تفسير روح البيان 272:9.
2- . تفسير الرازي 37:29.
3- . تفسير الرازي 37:29.
4- . تفسير أبي السعود 170:8، تفسير روح البيان 273:9.
5- . تفسير أبي السعود 170:8، تفسير روح البيان 273:9.

ثمّ أظهر سبحانه عظمة عذابه، و التعجّب منه، و من كيفية إنذاراته بقوله:

فَكَيْفَ كٰانَ يا محمد، أو أيّها الناس بعد اطّلاعهم على غرق أهل الأرض عَذٰابِي في العظمة و الشدّة وَ نُذُرِ ي و مواعظي التي أنزلتها إليكم في الكثرة و الكمال، أو رسلي في عظمة الشأن، و الصبر على أذى قومهم، و صدق مواعيدهم، فاصبر أنت يا محمد، فانّ عاقبة أمرك كعاقبة أولئك الرسل وَ تاللّه

لَقَدْ يَسَّرْنَا و سهّلنا اَلْقُرْآنَ النازل عليكم، بأن جعلناه بلسانكم، و صرفنا فيه من أنواع المواعظ و الوعيد لِلذِّكْرِ و الاتّعاظ، حيث أتينا فيه بكلّ حكمة، أو للحفظ على ظهر القلب فَهَلْ منكم مِنْ مُدَّكِرٍ و متعظ بالقرآن، أو حافظ له.

ثمّ وعظ سبحانه بذكر قصّة قوم عاد بقوله تعالى:

كَذَّبَتْ قوم هود، و اسمهم عٰادٌ بجميع الرسل، و إنّما لم يذكر سبحانه هنا تكذيبهم هودا للاختصار، و إنّما ذكر فيما قبل اسم نوح و تكذيبه(1) لبيان شأنه، و طول مدّة دعوته، و تحمّله أذى قومه، كذا قيل(2).

ثمّ سأل سبحانه عن كيفية تعذيبهم، توجيها للسامعين إلى إصغاء ما يلقى إليهم بقوله فَكَيْفَ كٰانَ أيّها المستمعون عَذٰابِي النازل عليهم وَ نُذُرِ ي لهم، و تخويفاتي إياهم ؟ ثمّ كأنّه قيل: بيّن لنا يا رب كيف كان عذابهم، فقال:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا و سلّطنا عَلَيْهِمْ غضبا و سخطا رِيحاً صَرْصَراً شديدة الصوت و الهبوب، أو باردة فِي يَوْمِ نَحْسٍ و شؤم مُسْتَمِرٍّ شؤمه عليهم، أو إلى آخر الدهر، و هو آخر أربعاء من الشهر. عن ابن عباس: آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه كان في يوم الأربعاء، في آخر الشهر لا يدور»(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأربعاء يوم نحس مستمر؛ لأنّه أول يوم و آخر يوم من الأيام التي قال اللّه عزّ و جلّ: سَخَّرَهٰا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيٰالٍ وَ ثَمٰانِيَةَ أَيّٰامٍ حُسُوماً» (5).

و كانت شدّة تلك الريح بحيث

تَنْزِعُ النّٰاسَ و تقلعهم من الأرض، و تضرعهم موتى كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ و اصوله مُنْقَعِرٍ و منقلع عن مغرسه، أو ذاهب في قعر الأرض.

روى الكلبي(6): أنّه كان طول كلّ واحد سبعين ذراعا، فاستهزءوا حين ذكر لهم الريح، فخرجوا إلى الفضاء، و ضربوا بأرجلهم و غيبوها في الأرض إلى قريب من الرّكبة، فقالوا لهود: قل للريح حتى ترفعنا، فجاءت الريح، فدخلت تحت الأرض، و جعلت ترفع كلّ اثنين، و تضرب أحدهما بالآخر

ص: 106


1- . أي تكذيبهم إياه.
2- . تفسير الرازي 43:29.
3- . تفسير روح البيان 275:9.
4- . مجمع البيان 287:9، تفسير الصافي 102:5.
5- . علل الشرائع: 2/381، تفسير الصافي 101:5، و الآية من سورة الحاقة: 7/69.
6- . في النسخة: الكليني.

بعد ما ترفعهما في الهواء، ثمّ تلقيهما على الأرض، و الباقون ينظرون إليهما، حتى رفعتهم كلّهم، ثمّ رمت بالرّمل و التّراب عليهم(1).

و قيل: شبّهت أجسادهم بالنخل لطول قامتهم، و لأنّ الريح كان تقلعهم و تصرعهم على رءوسهم، فتدقّ رقابهم، فتبين الرءوس من أجسادهم، فتبقى أجسادا بلا رءوس(2).

ثمّ كرّر سبحانه قوله:

فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ تهويلا لهما، و تعجيبا من أمرهما(3). و قيل: إنّ الأول في الدنيا، و الثاني في العقبى(4).

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقٰالُوا أَ بَشَراً مِنّٰا وٰاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنّٰا إِذاً لَفِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ (24) ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن أكمل المذكّرات و أوفى المواعظ بتكرار قوله:

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

ثمّ ذكر سبحانه طغيان قوم صالح بقوله:

كَذَّبَتْ ثوم صالح، اسمهم ثَمُودُ بِالنُّذُرِ و المواعظ التي استمعوها من صالح، أو بالرسل جميعا من صالح و من قبله من الرسل، لانكارهم صلاحية:

البشر للرسالة، كما حكاه سبحانه بقوله:

فَقٰالُوا إنكارا و استعجابا أَ بَشَراً مِنّٰا و إنسانا كائنا من جنسنا مع كونه وٰاحِداً منّا، لا فضيلة له علينا، حيث إنّه يأكل و يمشي في الأسواق، أو واحدا لا تبع له، و منفردا لا أحد من الملائكة معه نَتَّبِعُهُ و نطيعه في أوامره و نواهيه، و نقتدي به في عقائده و أعماله إِنّٰا مع كثرتنا و شوكتنا إِذاً و على تقدير انقيادنا له و اتّباعنا إياه مع تفرّده في الرأي و الاعتقاد، و كونه مثلنا في البشرية و الحاجة لَفِي ضَلاٰلٍ و انحراف عن طريق الصلاح و الصواب وَ سُعُرٍ و نيران الذلّ و الهوان. قيل: كان صالح يقول لهم: إن لم تتّبعوني تكونوا في ضلال عن الحقّ في الدنيا، و نيران في الآخرة، فعكسوا عليه عتوا و قالوا: إن اتّبعناه كنّا في ضلال و سعر(3) ، أو المراد كنّا في سعر و جنون، لكون اتّباعه خلاف حكم العقل.

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنٰا بَلْ هُوَ كَذّٰابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّٰابُ الْأَشِرُ (26) إِنّٰا مُرْسِلُوا النّٰاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمٰاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنٰادَوْا صٰاحِبَهُمْ فَتَعٰاطىٰ فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كٰانَ

ص: 107


1- . تفسير روح البيان 276:9.
2- . تفسير روح البيان 275:9. (3و4) . تفسير روح البيان 276:9.
3- . تفسير أبي السعود 171:8، تفسير روح البيان 277:9.

عَذٰابِي وَ نُذُرِ (30) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَكٰانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (30) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَكٰانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) ثمّ بالغوا في إنكار رسالته بقولهم:

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ و انزلت الرسالة و الوحي عَلَيْهِ و انتخب لهذا المنصب الجليل مِنْ بَيْنِنٰا و فينا من هو فوقه في الشرف و أحقّ به ؟ لا و اللّه ليس كما يقول بَلْ هُوَ كَذّٰابٌ و مصرّ على القول بخلاف الواقع و الدعوى الباطل، و أَشِرٌ و بطرفي كذبه حمله عليه حبّ الترفع و الرئاسة علينا، لا ضرورة و حاجة، أو متجبّر.

ثمّ هدّدهم سبحانه حين قولهم ذلك بالوحي إلى صالح بقوله:

ص: 108

و سهلنا لكم فهمه، بأن جعلناه بلسانكم أيّها العرب لِلذِّكْرِ و الاتّعاظ، أو للحفظ على ظهر القلب فَهَلْ فيكم مِنْ مُدَّكِرٍ و متّعظ فيرتدع عن الكفر و العصيان، و في التكرار تأكيد و مبالغة في التّذكار.

قيل: إنّ اللّه تعالى أطال قصة صالح من بين القصص الخمس التي ذكرها في هذه السورة، لكون معجزة صالح - و هي إخراج الناقة العظيمة من الجبل، أو الصخرة غير القابلة للحياة - أعجب من معجزات سائر الأنبياء، كما أنّ شقّ القمر الذي هو معجزة نبينا صلّى اللّه عليه و آله، و المصدّرة به السورة أعجب من معجزاتهم، حيث إنّ جميع معجزاتهم كانت أرضية، و معجزة نبينا صلّى اللّه عليه و آله كانت سماوية، مع أنّ المشركين و الفلاسفة قائلون بامتناع تصرّف أحد في السماويات، و استحالة الشقّ و الخرق فيها، فأشبه حال صالح حال نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، فكان تسلية ببيان حال صالح أتمّ و أكمل فأطاله(1).

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ حٰاصِباً إِلاّٰ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنٰاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنٰا فَتَمٰارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ رٰاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ (37) ثمّ ذكر سبحانه قصة قوم لوط، و إلطافه به، و ابتلائهم بالعذاب بقوله تعالى:

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ و التخويفات و المواعظ الإلهية، أو بالمنذرين و الرسل.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية تعذيبهم بقوله:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ غضبا و انتقاما منهم عذابا أو ريحا حٰاصِباً و راميا لهم بالحجارة الصغار إِلاّٰ آلَ لُوطٍ و أهله، فانّا نَجَّيْنٰاهُمْ من العذاب بِسَحَرٍ من الأسحار، و إنّما كان إنجاؤهم

نِعْمَةً عظيمة كائنة مِنْ عِنْدِنٰا و تفضلا عليهم من قبلنا لايمانهم و طاعتهم لنا، كما أنّ تعذيب القوم كان عدلا منّا، و أداء لما يستحقّون علينا كَذٰلِكَ الإنجاء من العذاب الذي كان نعمة نَجْزِي في الدنيا مَنْ شَكَرَ نعمنا بالايمان و الطاعة من أيّ قوم و أية أمّة كان.

و قيل: يعني كما نجّيناهم من عذاب الدنيا، نجزي من آمن بالنجاة من عذاب الآخرة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ عذابهم كان بعد إتمام الحجة عليهم و طغيانهم بقوله:

وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ و خوّفهم لوط بَطْشَتَنٰا و أخذتنا الشديدة بالعذاب فَتَمٰارَوْا اولئك الطّغاة و كذّبونا بِالنُّذُرِ

ص: 109


1- . تفسير الرازي 52:29.

و التخويفات بالعذاب الدنيوي و الاخروي، مع كونهم شاكّين فيه.

ثمّ إنّ القوم لمّا سمعوا بورود شبّان حسان الوجوه على لوط ضيفا له، و طمعوا في أن يمكّنهم لوط من عمل الفحشاء بهم

وَ تاللّه لَقَدْ رٰاوَدُوهُ و طالبوه عن تمكينهم عَنْ ضَيْفِهِ و هم الملائكة أن يفجروا بهم و معهم جبرئيل فَطَمَسْنٰا و مسحنا أَعْيُنَهُمْ و سوّيناها كسائر وجوههم بحيث لم ير لها شقّ، بضرب جبرئيل جناحه عليها، أو باشارته إليها، أو بضرب كفّ من البطحاء على وجوههم، و قلنا لهم بلسان الملائكة: إذا بلغ طغيانكم إلى هذا الحدّ فَذُوقُوا أيّها الطّغاة عَذٰابِي و هو الطّمس وَ نُذُرِ ي، و مآل تخويفاتي بلسان لوط إيّاكم، لا خلاص لكم منه بالصّراخ و الضّراعة.

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذٰابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَ لَقَدْ جٰاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا كُلِّهٰا فَأَخَذْنٰاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) قيل: إنّ المراد بمآل الانذارات عذاب الآخرة، فانّ أوّله متصل بآخر عذاب الدنيا، فهما كالواقع في زمان واحد(1).

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر العذاب الخاصّ بالداخلين على لوط المراودين له عن ضيفه، ذكر العذاب العام لجميع القوم بقوله تبارك و تعالى:

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ و جاءهم حين طلوع الفجر بُكْرَةً من البكر، أو أوّل طلوعه بلا تأخير عَذٰابٌ عام مُسْتَقِرٌّ و ثابت و دائم عليهم، متّصل بعذاب الآخرة، أو ثابت لا مدفع له، أو ثابت عليهم لا يتعدّى غيرهم، و هو جعل أعلى قريتهم أسفلها، و إمطار الحجارة عليهم، و قلنا لهم تشديدا لعذابهم: إذن

فَذُوقُوا أيّها الكفرة الطّغاة عَذٰابِي على كفركم و طغيانكم وَ نُذُرِ ي و إيعاداتي.

ثمّ بالغ سبحانه في التنبيه على كون القرآن المشتمل على تلك القصص أكمل المواعظ بتكرار قوله:

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ و العظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فانّ في التكرير مبالغة في التنبيه و الايقاظ، و تقريرا للمعاني في الأسماع و القلوب، و تثبيتا لها في الصدور، و كلّما زاد ازدادت للامور المذكورة.

ثمّ ذكر سبحانه شدّة طغيان فرعون و قومه، و ابتلاءهم بالعذاب بقوله:

وَ لَقَدْ جٰاءَ آلَ فِرْعَوْنَ و أشراف قومه الذين شاركوه في الطّغيان و إضلال الناس اَلنُّذُرُ و الإيعادات و التخويفات من قبل

ص: 110


1- . تفسير الرازي 61:29.

اللّه على لسان موسى، أو المنذرون و الرسل كموسى و هارون.

ثمّ كأنّه قيل: فما فعلوا حينئذ؟ فأجاب سبحانه بقوله:

كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا و معجزات رسلنا كُلِّهٰا عنادا و لجاجا فَأَخَذْنٰاهُمْ بالعذاب بسبب تكذيبهم أَخْذَ ملك عَزِيزٍ و قاهر لا يقهر و مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء.

أَ كُفّٰارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرٰاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السّٰاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السّٰاعَةُ أَدْهىٰ وَ أَمَرُّ (46) ثمّ لمّا بيّن سبحانه ابتلاء مكذّبي الرسل بأنواع العذاب، وجّه الخطاب إلى كفّار العرب، أو المكذّبين لخاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله من قريش و أهل مكّة، و بيّن أنّهم في استحقاق العذاب كمن تقدّمهم من الامم المهلكة المكذّبة للرسل بقوله تعالى:

أَ كُفّٰارُكُمْ أيّها العرب المصرّون على تكذيب رسولنا، أو يا أهل مكّة خَيْرٌ عند اللّه، و أقلّ استحقاقا للعذاب مِنْ أُولٰئِكُمْ الطّغاة الذين اهلكوا بما سمعتم من أنواع العذاب حتى تأمنوا منه أَمْ لا تكونون خيرا منهم، و لكن لَكُمْ من جانب اللّه بَرٰاءَةٌ و أمان من عذاب اللّه مكتوب فِي الزُّبُرِ و الكتب السماوية التي نزلت على الرسل إن أصررتم على الكفر و تكذيب الرسل، فلذا تصرّون على الشرك و تكذيب محمد صلّى اللّه عليه و آله و تجترءون على المعاصي، و لا تخافون من نزول العذاب عليكم، و أن يكون حالكم حال الامم الذين كانوا قبلكم، لا و اللّه ليس لكم تلك البراءة في كتاب من الكتب السماوية فضلا عن جميعها.

ثمّ أعرض سبحانه عن خطابهم إيذانا بعدم قابليتهم للخطاب لغاية الجهل، و وجّه خطابه إلى العقلاء بقوله:

أَمْ يَقُولُونَ أولئك الجهّال الحمقاء: إن نزل العذاب فانّا نَحْنُ جَمِيعٌ و كثير متّفقون على دفعه مُنْتَصِرٌ و متعاون بعضنا مع بعض(1) ، أو ممتنع بقوّتنا عن الابتلاء به، و إنّما أفرد لفظ المنتصر إمّا باعتبار لفظ (الجميع)، و المعنى نحن جميع جنس منتصر، أو باعتبار أنّ (جميع) بمعنى كلّ واحد، و المعنى كلّ واحد منّا منتصر يغلب محمدا، أو يدفع عن نفسه العذاب.

ثمّ ردّ اللّه قولهم الفرضي(2) بقوله تعالى:

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ و تنكسر البتة شوكتهم وَ يُوَلُّونَ و ينصرفون في حرب محمد صلّى اللّه عليه و آله اَلدُّبُرَ و إفراده لإرادة الجنس، كما وقع يوم بدر.

عن عمر بن الخطاب، قال: لمّا نزلت (سيهزم الجمع) كنت لا أدري أي جمع، فلمّا كان يوم بدر

ص: 111


1- . في النسخة: ببعض.
2- . في النسخة: الفرضية.

رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلبس الدّرع و يقول: (سيهزم الجمع)(1).

و قال ابن عباس: كان بين نزول الآية و بين يوم بدر سبع سنين(2). و هذا من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله، حيث أخبر عن الغيب، فكان كما أخبر.

و قيل: إنّ الدّبر بملاحظة كلّ واحد، أو لتنزيل فرار جميعهم منزلة فرار شخص واحد، و المراد أنّهم في التولية كنفس واحد لا يتخلّف أحدهم من الجميع(3).

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه ليس ذلك تمام عقوبتهم بقوله تعالى:

بَلِ السّٰاعَةُ و يوم القيامة مَوْعِدُهُمْ و وقت عذابهم، و هذا العذاب في الدنيا من طلائعه وَ السّٰاعَةُ أَدْهىٰ و أعظم فظيعة وَ أَمَرُّ و أشدّ عذابا من يوم بدر و أدوم.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّٰارِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (49) ثمّ بيّن سبحانه حال المشركين المعارضين للنبي صلّى اللّه عليه و آله في ذلك اليوم بقوله:

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ و الطّغاة في ذلك اليوم مستقرّون فِي ضَلاٰلٍ و هلاك، أو بعد من طريق الوصول إلى الرحمة و الجنة وَ في سُعُرٍ و نيران موقدة. و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين المجرمين في الدنيا في ضلال و جنون لا يعقلون و لا يهتدون إلى الحقّ، و في الآخرة في سعر و نيران(4).

و يقال لهم

يَوْمَ يُسْحَبُونَ و يجرّون فِي النّٰارِ بعنف عَلىٰ وُجُوهِهِمْ أيّها المجرمون ذُوقُوا و أدركوا أكمل الإدراك مَسَّ سَقَرَ و لمس نار جهنم و ألمها.

قيل: إنّ سقر علم لجهنّم(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ في جهنم لواديا [للمتكبرين] يقال له سقر، شكا إلى اللّه شدّة حرّه، و سأله أن يأذن له أن يتنفّس، فتنفس فأحرق جهنّم»(6).

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته لتهويل العباد بقوله تعالى:

إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ و موجود في عالم الأجسام و الأرواح و الملك و الملكوت من الجواهر و الأعراض نحن خَلَقْنٰاهُ و أوجدناه بِقَدَرٍ و حدّ معين اقتضته الحكمة، مكتوب في اللّوح المحفوظ قبل وجوده.

ص: 112


1- . تفسير أبي السعود 174:8، تفسير روح البيان 282:9.
2- . تفسير روح البيان 282:9.
3- . تفسير الرازي 68:29.
4- . تفسير الرازي 71:29.
5- . تفسير أبي السعود 174:8، تفسير روح البيان 283:9.
6- . عقاب الأعمال: 222، تفسير روح البيان 104:5.

في الحديث: «كتب اللّه مقادير الخلائق كلّها قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة، و عرشه على الماء»(1).

و قيل: إنّ المراد بالقدر القدر المستعمل في جنب القضاء و القضاء علمه بصلاح إيجاد الموجودات المكتوب في اللّوح المحفوظ و القدر إرادة إيجاد كلّ موجود(2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه بعثت بالحقّ، و يؤمن بالبعث، و يؤمن بالقدر خيره و شرّه»(3).

أقول: الظاهر أنّ المراد الايمان بأنّ كلّ ما يوجد بإرادة اللّه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «القدر خيره و شرّه من اللّه»(4).

قيل: إنّ أكثر المفسرين اتّفقوا على أنّ آية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ نزلت في القدرية(5).

و عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في القدر، فانزل اللّه تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (6).

و عن عائشة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «مجوس هذه الامة القدرية» و هم المجرمون الذين سمّاهم اللّه تعالى في قوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ (7).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ القدرية مجوس هذه الامّة، و هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه عن سلطانه، و فيهم نزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ إلى قوله: بِقَدَرٍ (5).

و سئل عن الرّقى(6) أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: «هي من القدر»(7).

و عنه عليه السّلام قال: «ما أنزل اللّه هذه الآيات إلاّ في القدرية إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله: بِقَدَرٍ (8).

و عن الباقر عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في القدرية ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ» (9).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «وجدت لأهل القدر اسما في كتاب اللّه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلى قوله:

بِقَدَرٍ» قال: «فهم المجرمون»(10).

أقول: مقتضى قول الصادق عليه السّلام: «هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه» كون

ص: 113


1- . تفسير روح البيان 284:9.
2- . تفسير روح البيان 284:9.
3- . تفسير روح البيان 284:9.
4- . تفسير روح البيان 284:9. (5-6) . تفسير الرازي 69:29.
5- . التوحيد: 29/382، تفسير الصافي 105:5.
6- . الرّقى: جمع رقية، و هي العوذة التي يرقى بها.
7- . بحار الأنوار 24/98:5.
8- . عقاب الأعمال: 212، تفسير الصافي 105:5.
9- . عقاب الأعمال: 213، تفسير الصافي 105:5.
10- . تفسير القمي 342:2، تفسير الصافي 105:5.

المعتزلة القائلين بأنّ العبد مستقل في أفعاله، و لا يقدر اللّه على منعه منها و صرفه عنها، هم القدرية، لأنّهم اشركوا باللّه خلقه في افعالهم.

و مقتضى حديث أمير المؤمنين عليه السّلام مع الشيخ الذي منعه عن المسير إلى الشام - حيث قال: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أ لقضاء(1) من اللّه و قدر؟ فقال علي عليه السّلام: «يا شيخ، ما علوتم تلعة، و لا هبطتم بطن واد، إلاّ بقضاء من اللّه و قدر».

فقال الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي.

فقال علي عليه السّلام: «و تظنّ أنّه قضاء حتم، أو قدر لازم، لا إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب، و الأمر و النهي، و الزجر من اللّه، و سقط معنى الوعد و الوعيد، فلم تكن لائمة من اللّه للمذنب، و لا محمدة للمحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، و خصماء الرحمن، و قدرية هذه الأمّة»(2) - أن الأشاعرة القائلين بأن افعال العباد مخلوقة للّه.

و قال بعض الأفاضل: «تلك مقالة عبدة الأوثان» إشارة إلى الأشاعرة. و قوله: «قدرية هذه الامّة» إشارة إلى المعتزلة(3).

و قال بعض الأجلّة: «القدرية هم المنسوبون إلى القدر، و يزعمون أنّ كلّ عبد خالق فعله، و لا يرون الكفر و المعاصي بتقدير اللّه و مشيئته، فنسبوا إلى القدر لأنّه بدعتهم و ضلالتهم(4).

و قال شارح (المواقف): قيل: القدرية هم المعتزلة لاسنادهم أفعالهم إلى قدرتهم.

و في الحديث: «لا يدخل الجنّة قدريّ، و هو الذي يقول: لا يكون ما شاء اللّه، و يكون ما شاء إبليس».

وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلاّٰ وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا أَشْيٰاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله:

وَ مٰا أَمْرُنٰا لشيء إذا نريد إيجاده إِلاّٰ كلمة وٰاحِدَةٌ لا تكرار فيها، و هي كلمة (كن) التي يعبّر بها عن الإرادة التكوينية، فاذا يكون الشيء المراد وجوده و يوجد بسرعة و يسير كَلَمْحٍ و نظر سريع بِالْبَصَرِ.

قيل: لمّا اشتملت الآيات السابقة على وعيد الكفار بالاهلاك عاجلا و آجلا، و الوعد للمؤمنين

ص: 114


1- . في الاحتجاج: أ بقضاء.
2- . الاحتجاج: 208.
3- . تفسير الرازي 70/29.
4- . تفسير الرازي 69/29.

بالانتصار منهم جيء بقوله: إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ تأكيدا للوعيد و الوعد، يعني أنّ الوعيد و الوعد حقّ و صدق، و الموعود مثبت في اللوح المحفوظ، مقدّر عند اللّه، لا يزيد و لا ينقص، و ذلك على اللّه يسير، لأنّ قضاءه في خلقه أسرع من لمح البصر(1).

وَ تاللّه لَقَدْ أَهْلَكْنٰا بأنواع العذاب في الأعصار السابقة أَشْيٰاعَكُمْ و أشباهكم في الكفر و الطّغيان من الامم الذين كانوا أقوى منكم فَهَلْ فيكم أيّها الكفّار الحاضرون مِنْ مُدَّكِرٍ و متّعظ بما نزل عليهم

وَ كُلُّ شَيْءٍ و عمل من الكفر و العصيان فَعَلُوهُ في الليل و النهار و الخلوة و الجلوة مكتوب فِي الزُّبُرِ و دواوين الحفظة الكرام البررة

وَ كُلُّ صَغِيرٍ من أعمالهم و أعمال غيرهم في مدّة أعمارهم وَ كَبِيرٍ منها، كلّ بتفاصيلها مُسْتَطَرٌ و مثبوت في كتاب لا يترك كتب عمل صغير لصغره، و لا كبير للاعتقاد بعدم نسيانه.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ضرب لصغائر الذنوب مثلا، و قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ مثل محقّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض، و حضر جميع القوم، فانطلق كلّ واحد منهم يحطب، فجعل الرجل يجيء بالعود و الآخر بالعود حتى جمعوا سوادا، و أججوا نارا، فشووا خبزهم، و إنّ ذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه، إلاّ أن يغفر اللّه، اتّقوا محقّرات الذنوب، فانّ لها من اللّه طالبا»(2).

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة، و أنّهم يسحبون على وجوههم في النار، بيّن حسن حال المتقين و المحترزين من الكفر و العصيان بقوله تعالى:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ و المعرضين عن الكفر و العصيان في الدنيا مستقرّون في الآخرة فِي جَنّٰاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار، لا يوصف حسنها و نظارتها و نعمها وَ في خلال نَهَرٍ أعظم الأنهار و أصفاها، جار من الكوثر على قول، أو من عين الرضوان على آخر(3).

و قيل: إنّ المراد من النهر جنسه، و إفراده لرعاية الفواصل(4).

و هو قاعد

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ و مجلس صالح مرضيّ، أو مجلس حقّ لا لغو فيه و لا تأثيم، و كائن عِنْدَ مَلِيكٍ و سلطان عظيم الشأن، و في قرب من مالك الملوك مُقْتَدِرٍ لا نهاية لقدرته و ملكه و سلطانه، فأيّ منزلة أكرم من تلك المنزلة، و أجمع للغبطة و السعادة، و ألذّ و اشرف منها.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة (اقتربت) أخرجه اللّه من قبره على ناقة من نوق الجنة»(5).

ص: 115


1- . تفسير روح البيان 284:9.
2- . تفسير روح البيان 285:9.
3- . تفسير الرازي 79:29.
4- . تفسير أبي السعود 175:8، تفسير روح البيان 285:9.
5- . ثواب الأعمال: 116، مجمع البيان 279:9، تفسير الصافي 105:5.

ص: 116

في تفسير سورة الرحمن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اَلرَّحْمٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسٰانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ (4) ثمّ لمّا ختم سبحانه سورة القمر المبتدئة باظهار المهابة بالإخبار باقتراب الساعة، و ذكر أعظم معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو انشقاق القمر، و تكرار ذكر تسهيل نعمة القرآن للذّكر و الاتعاظ به، و تكرار شدّة عذابه و كثرة إنذاره بقوله تعالى: فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ (1) مرّة بعد مرة، و تعداد ما نزل على الامم السالفة من أنواع العذاب، و ختمها بذكر أسمائه الدالّة على كمال عظمته و اقتداره المشعر بشدّة انتقامه، نظمت سورة الرحمن المبتدئة باظهار كمال رحمته، و ذكر أعظم المعجزات العقلية لنبينا، و هو تعليم القرآن الذي فيه صفاء القلوب و شفاء الصدور، و تكرار تذكير آلائه و نعمه بقوله: فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (2) و تعداد تفصيل نعمه الدنيوية و الاخروية على المؤمنين، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أعلن برحمته الواسعة لجميع الموجودات بقوله تعالى:

اَلرَّحْمٰنُ و الذات العطوف على جميع الخلق بالايجاد أولا، و الرزق و تهيئة أسباب البقاء ثانيا، و موجبات السعادة و الهداية ثالثا.

و إنّما خصّ هذا الاسم الاعظم بذاته المقدّسة بحيث لا يجوز إطلاقه على غيره، لكون سائر أسمائه تحت هذا الاسم، و لا يكون أحد قابلا لتسميته به، كاسم اللّه الدالّ على الذات، و المستجمع لجميع الصفات الكمالية، و لذا أقرنهما في قوله: قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ (3).

ثمّ شرع سبحانه في تعداد نعمه الدنيوية و الاخروية و الجسمانية و الروحانية اللاتي كلّها من شئون الرحمانية، و لمّا كان أعظمها قدرا و أرفعها شأنا القرآن الذي هو مدار السعادة الدنيوية و الاخروية، و مظهر لحقائق الكتب السماوية، و مناط لكون سائر النّعم نعما، بدأ بإظهار المنّة بتعليمه بقوله:

عَلَّمَ بتوسّط جبرئيل محمدا صلّى اللّه عليه و آله، و بتوسّطه غيره اَلْقُرْآنَ العظيم الشأن.

ص: 117


1- . القمر: 16/54.
2- . الرحمن: 13/55.
3- . الإسراء: 110/17.

قيل: يعني الذي علّم آدم الأسماء و فضّله بها على الملائكة، هو الذي علّمكم القرآن، و فضّلكم به على جميع الامم(1).

و قيل: إنّ المعنى جعل القرآن علامة لنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و معجزة له، كما جعل شقّ القمر الذي أخبر به في أوّل السورة السابقة علامة لنبوته و معجزة له(2).

و قيل: إنّ المراد أنّه تعالى علّم القرآن أولا ملائكته المقرّبين(3) ، ثمّ بيّن أنّه علّمه ثانيا الانسان بقوله تعالى:

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ. قيل: إنّ المراد جنسه(4) ، و قيل: إنّ المراد محمد(5). و

عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ و هو القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيء.

و قيل: إنّه تعالى ذكر أولا أعظم النّعم، و هو تعليم القرآن(6) ، و لم يذكر من علمه لعظم نعمة التعليم، ثمّ بيّن من علمه بقوله: خَلَقَ الْإِنْسٰانَ ثمّ بيّن كيفية تعليمه بقوله: عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ و طريق كشف ما في الضمير بالنّطق و فهمه، و الحقّ أنّ المراد تعداد عظائم نعمه على الانسان و مطالبته بالشكر فذكر أولا أعظم النّعم التي(7) لا نعمة لأحد مع فقدها، ثمّ أعظم النّعم الداخلية بعدها، و هو نعمة وجود الانسان، ثمّ أعظم النّعم بعد نعمة الوجود، و هو نعمة البيان و المنطق، فانّه به يمتاز عن غيره من الحيوانات.

اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدٰانِ (6) ثمّ ذكر بعد النعمتين الداخلتين نعمتين خارجتين ظاهريتين سماويتين بقوله:

اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بجريانهما بِحُسْبٰانٍ و حركات مقدّرة في برجهما و منازلهما، آتيين لها في فلكيهما، بحيث ينتظم بها امور العالم السّفلى، و تختلف الفصول و الأوقات، و يعلم بها السنون و الشهور، مع أنّ لوجودهما و كونهما فوق الأرض منافع مهمّة لا تحصى، كزوال الظّلمة، و تربية الأجسام، و تنمية النباتات و الأشجار، و تربية المعادن و الزراعات، و نضج الثّمار و غير ذلك.

ثمّ بيّن نعمتين ظاهرتين أرضيتين، بهما بقاء الانسان و الحيوان و معاشهما بقوله:

وَ النَّجْمُ و هو النبات الذي لا ساق له، كالبقول و الحشيش و العشب المنبسطة على الأرض وَ الشَّجَرُ و هو النبات الذي له ساق كالحنطة و الشعير و الشجر و النخل و غيرها يَسْجُدٰانِ و ينقادان لأمره تعالى و إرادته

ص: 118


1- . تفسير روح البيان 288:9.
2- . تفسير الرازي 82:29.
3- . تفسير الرازي 84:29.
4- . تفسير الرازي 85:29، تفسير روح البيان 289:9.
5- . تفسير الرازي 85:29.
6- . تفسير الرازي 85:29.
7- . في النسخة: الذي.

انقياد الساجد، و قيل: إنّ المراد من سجودهما سجود ظلالهما. و قيل: غير ذلك(1).

و إخلاء الجملة الاولى عن العاطف، لكون النظر فيها إلى تعداد النعم، و ذكره في هذه الجملة لتناسبها مع سابقتها من حيث التقابل؛ لأنّ الشمس و القمر علويان، و النجم و الشجر سفليان، و كون فعل الجميع من الجريان و السجود من باب الانقياد لأمر اللّه، و إنّما قدّم النجم لمناسبته اللفظية مع الشمس و القمر، و لأنّ حال السجود فيه أظهر لانبساطه على الأرض، كما أنّ تقديم الشمس على القمر لأشرفيتها منه، و لأنّ الحساب فيها أظهر.

وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ (7) أَلاّٰ تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لاٰ تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ (9) ثمّ ذكر واحدا من نعمه المهمة السماوية بقوله:

وَ السَّمٰاءَ المطلّة رَفَعَهٰا و خلقها فوق الأرض، لتكون سقفا محفوظا. و قيل: اريد من رفعها رفع رتبتها، لكونها محلّ ملائكته، و منشأ اقضيته، و متنزّل أوامره و أحكامه(2).

ثمّ ذكر واحدا من نعمه المهمة الأرضية بقوله: وَ وَضَعَ في الأرض، و جعل فيها اَلْمِيزٰانَ لتعيين الحقوق و تسويتها، و لولاه لوقع بين الناس العداوة و البغضاء، فانّ العدل سبب لبقاء عمارة العالم، و أخص أسبابه الميزان، و لذا عدّه من النّعم العظيمة، فكأنّه قال: نشر سبحانه العدل الذي أخصّ أسبابه الميزان، و إنّما جعل ذلك لأجل

أَلاّٰ تَطْغَوْا و لا تجاوزوا عن الحدّ الواجب من الحقوق فِي الْمِيزٰانِ بأن لا تنقصوا من(3) حقّ الغير، و لا تتعدّوا على(4) الغير بأخذ الزائد عن حقّكم.

ثمّ قرّر سبحانه ذلك بقوله:

وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ و داروا معرفة قدر الحقوق بِالْقِسْطِ و العدل وَ لاٰ تُخْسِرُوا و لا تنقصوا اَلْمِيزٰانَ قيل: لا تنقصوا الموزون في الميزان، و إنّما كرّر لفظ الميزان تشديدا للوصية به، و حثّا على استعماله(3).

و قيل: إنّ لفظ (ميزان) اريد به فى كلّ آية معنى، ففي الآية الاولى اريد به الآلة أو العدل، و في الثانية اريد به الوزن أو الآلة، و في الثالثة اريد به الموزون(4).

و عن الرضا عليه السّلام - في تأويل الآيات و بيان بطنها في رواية - قيل له: خَلَقَ الْإِنْسٰانَ؟ قال: «ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام» قيل: عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ؟ قال: «علّمه بيان كلّ شىء يحتاج إليه الناس».

ص: 119


1- . تفسير الرازي 89:29.
2- . تفسير أبي السعود 177:8، تفسير روح البيان 29:9. (3و4) . في النسخة: عن.
3- . تفسير أبي السعود 177:8.
4- . تفسير الرازي 90:29.

قيل: اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ قال: «هما بعذاب اللّه». قيل: الشمس و القمر يعذّبان ؟ قال:

«سألت عن شيء فأتقنه، إنّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه تجريان بأمره، مطيعان له، ضوؤهما من نور عرشه، و حرّهما من جهنم، فاذا كانت القيامة عاد إلى العرش نورهما، و عاد إلى النار حرّهما، فلا يكون شمس و لا قمر، و إنّما عناهما لعنهما اللّه، أو ليس قد روى الناس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال «الشمس و القمر نوران في النار» قيل: بلى. قال: «أ ما سمعت قول الناس: فلان و فلان شمسا هذه الامّة و نورهما؟ فهما في النار، و اللّه ما عنى غيرهما».

قيل: اَلنَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدٰانِ؟ قال: «النجم: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد سمّاه اللّه في غير موضع فقال: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ (1) و قال: وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (2) فالعلامات الأوصياء، و النجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله». قيل: يَسْجُدٰانِ؟ قال: «يعبدان».

قيل: وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ؟ قال: «السماء: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، رفعه اللّه إليه، و الميزان:

أمير المؤمنين عليه السّلام، نصبه في خلقه».

قيل: أَلاّٰ تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ؟ قال: «لا تعصوا الامام». قيل: وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ؟ قال:

«أقيموا الامام بالعدل». قيل: وَ لاٰ تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ؟

قال: «لا تخسروا الإمام حقّه و لا تظلموه» الخبر(3).

وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا لِلْأَنٰامِ (10) فِيهٰا فٰاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذٰاتُ الْأَكْمٰامِ (11) ثمّ بعد المنّة بذكر وضع الميزان منّ سبحانه على الناس بذكر وضع الأرض بقوله تعالى:

وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا و بسطها لتكون مهادا و فراشا لِلْأَنٰامِ من الجنّ و الانس على قول(4). و عن الرضا عليه السّلام قال: «للناس»(5). و قيل: إنّ الأرض موضوعة لكلّ ما عليها، و إنّما خصّ الانسان بالذكر، لأنّ انتفاعه بها أكثر(6).

قيل: كلّما كان من النّعم العظام مختصّا بالانسان، قدّم سبحانه الفعل بالآية كقوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسٰانَ * عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ * وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ و كلّما لم يكن مختصا بالانسان، أو لم يكن نفعه عظيما كثيرا، قدّم الاسم كقوله: اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ إلى قوله: وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا لِلْأَنٰامِ فانّ نفع الأرض مشترك بين الانسان و سائر الحيوانات(7).

ص: 120


1- . النجم: 1/53.
2- . النحل: 16/16.
3- . تفسير القمي 343:2، تفسير الصافي 107:5.
4- . تفسير روح البيان 291:9.
5- . تفسير القمي 343:2، تفسير الصافي 108:5.
6- . تفسير الرازي 92:29.
7- . تفسير الرازي 92:29.

فِيهٰا فٰاكِهَةٌ و أشجار كثيرة تلتذّ النفوس بثمارها الطيبة وَ فيها اَلنَّخْلُ بأصنافها، و إنّما نكّر الفاكهة لإظهار قلّة نفعها بالنسبة إلى النخل، أو للاشارة إلى كثرة أنواعها، و إنّما ذكر الفاكهة دون شجرها بخلاف النخل فانّ منافعها كثيرة جدا.

ثمّ نبّه سبحانه على تكميل نعمة النخل بتوصيفها بقوله: ذٰاتُ الْأَكْمٰامِ و الأوعية للتمر، فانّ في جعل ثمارها في الأوعية سهولة جمعها و الانتفاع بها، حيث إنّ النخل شجرة عظيمة لا تسقط ثمارها بهزّها، فلا بدّ من قطفها، فلو كان حبّات ثمرها متفرّقة لصعب قطفها واحدة بعد واحدة(1) ، فجعله اللّه في وعاء إذا اقتطف ذلك الوعاء و الكمّ اقتطف قدر كثير من الرّطب و التمر.

و قيل: إنّ الكمّ بالضمّ: كلّما يغطّي النخل من ليف و سعف و غيرهما(2) ، فانه ينتفع به كما ينتفع بجذوعهما.

وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحٰانُ (12) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (13) ثمّ ذكر سبحانه بعد نعمة الأشجار نعمة الزرع، ارتقاء من النّعمة الأنزل و هي الفاكهة و النخل إلى النّعمة الأعلى بقوله:

وَ الْحَبُّ من البرّ و الشعير و الأرز و غيرهما ممّا يقتات به أو يؤدم به ذُو الْعَصْفِ و التبن، كما عن الرضا عليه السّلام(3). وَ الرَّيْحٰانُ قيل: إنّ الريحان هنا بمعنى الرزق، كما عن ابن عباس(4). و قيل: إنّه الحبّ المأكول(5). و قيل: إنّه كلّما طابت رائحته من النباتات(6). و قيل: هو الريحان المعروف، فانّ بزره من الأدوية النافعة، فالعصف علف الدواب و الريحان دواء الانسان(4).

ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد نعمه طالب من الثقلين الإقرار بنعمه و الشّكر عليها بقوله تعالى:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيّها الجنّ و الانس، و بأيّ النعم الظاهرة و الباطنة التي أنعم عليكما مالككما و مربّيكما تُكَذِّبٰانِ و تكفران ؟ عن الصادق عليه السّلام - في تأويل الآية - «فبأيّ النّعمتين تكفران ؟ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله أم بعلي عليه السّلام»(5). و في رواية (الكافي): «أبا لنبي، أم بالوصيّ»(6).

عن جابر، أنّه قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سورة الرحمن حتى ختمها، ثمّ قال: «ما لي أراكم سكوتا؟ فانّ الجنّ أحسن منكم ردّا ما قرئت عليهم هذه الآية مرة فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ إلاّ قالوا: لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فللّه الحمد»(7).

ص: 121


1- . في النسخة: واحدا بعد واحد.
2- . تفسير أبي السعود 178:8.
3- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5. (4-5-6) . تفسير روح البيان 292:9.
4- . تفسير الرازي 94:29.
5- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5.
6- . الكافي 2/169:1، تفسير الصافي 108:5.
7- . تفسير روح البيان 293:9، و فيه: فلك الحمد.

و قيل: إنّ الخطاب للعدوّ و الولي بقوله فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ. و قيل: إنّ الخطاب للذكر و الانثى. و قيل: غير ذلك(1).

قيل: كرّرت الآية في هذه السورة المباركة إحدى و ثلاثين مرة، ثمان منها بعد تعداد عجائب خلق اللّه و بدائع صنعه و مبدأ الخلق و معادهم مبالغة في الحثّ على الشكر، ثمّ سبع منها عقيب آيات فيها ذكر النار و شدائدها بعدد أبواب جهنّم، و ذكر الآلاء عقيبه؛ لانّ في التخويف بها و البعث على دفعها نعمة توازى النّعم المذكورة، أو لأنّ ابتلاء الأعداء بها نعمة على المؤمنين، ثمّ ثمان منها بعد ذكر الجنات و نعمها على عدد أبواب الجنة، و ثمان منها بعد ذكر الجنّتين اللتين دونها و نعمها(2).

و قيل: إنّما التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب، لكونه أبلغ في التقريع و الزجر عن الكفران و التكذيب، حيث إنّه تعالى نبّه المكذّب الغافل على أنّه كالواقف بين يدي ربّه، و هو يقول له: إنّي أنعمت عليك بكذا و كذا، فكيف تكذّب نعمائي ؟ و لا شكّ أن المكذّب يكون عند ذلك أشدّ استحياء(3) ، و إنّما وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالربوبية في الآية، لكونه المناسب لتعداد نعمائه التي من شئون ربوبيته.

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ كَالْفَخّٰارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مٰارِجٍ مِنْ نٰارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (16) ثمّ لمّا ذكر سبحانه نعمة خلق الانسان و بسط الأرض لانتفاع الجنّ و الانس، ذكر مبدأ خلقهما إظهارا لكمال قدرته، و بيانا لاتمام نعمته بقوله:

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ أولا و في البدو مِنْ صَلْصٰالٍ و طين نتن أو يابس، له صليل و صوت إذا وقع بعضه على بعض كَالْفَخّٰارِ و الطين المطبوخ بالنار، فانّ مبدأ خلق آدم من تراب جعله طينا، ثمّ صيّره حمأ مسنونا، ثمّ صيّره صلصالا

وَ خَلَقَ الْجَانَّ و هو أبو الجنّ، أو جنسه مِنْ مٰارِجٍ و خالص مِنْ نٰارٍ لا يخالطها دخان، أو من مختلط منها بالدخان، أو الهواء. قيل: خلق الجن من عنصرين: النار و الهواء، و خلق الانسان من عنصرين: التّراب و الماء(4).

و عن مجاهد: المارج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر و الأصفر و الأخضر الذي يعلو النار(5).

ص: 122


1- . تفسير الرازي 95:29.
2- . تفسير روح البيان 293:9.
3- . تفسير الرازي 96:29.
4- . تفسير روح البيان 294:9.
5- . تفسير روح البيان 294:9.

ثمّ أنكر سبحانه عليهما الكفران لنعمه بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيّها الجنّ و الانس تُكَذِّبٰانِ و تكفران ؟

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ (19) بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (20) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ (22) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (23) ثمّ من المعلوم أنّ الربّ الذي له هذه المرتبة من القدرة لا يختصّ ربوبيته بكما، بل هو

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الصيف و مشرق الشتاء، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) ، أو مشرق الشمس و مشرق القمر.

و عن الصادق عليه السّلام: «تأويل المشرقين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام»(2).

وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ لكلّ من المشرقين، و عنه عليه السّلام: «المغربين الحسن و الحسين عليهما السّلام»(3).

و من المعلوم أنّ لازم ربوبيته لها ربوبيته لجميع ما بينها من الموجودات و النّعم التي لا تحصى

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا و نعمه أيّها الثقلان تُكَذِّبٰانِ و أيّها تنكران ؟

ثمّ لمّا ذكر الشمس و القمر اللذين لهما جريان، ذكر نعمة البحر الذي له جريان بقوله:

مَرَجَ و أرسل اَلْبَحْرَيْنِ بحر السماء و بحر الأرض، أو بحر العذب و بحر الملح الاجاج، أو بحر الروم و بحر فارس أحدهما إلى الآخر بحيث يَلْتَقِيٰانِ و يتماسّ سطحاهما، أو بحيث يكون من شأنهما الالتقاء و الاختلاط، و مع ذلك

بَيْنَهُمٰا في الواقع من الأرض أو غيرها بقدرة اللّه بَرْزَخٌ و حاجز و مانع من الاختلاط.

قيل: إنّ الماء ينجذب بعضه إلى بعض كأجزاء الزئبق(4). و لذا لا يكون له إلاّ حيّز و مكان واحد، فلذا من طبع البحرين و شأنهما أن يلتقيا و يختلطا، و مع ذلك يبقى كلّ في مكان متميّز لمانع جعله اللّه بقدرته الكاملة، و قد روي في صورة جريان الماء العذب في الماء المالح أو بالعكس، و في جريان الماء الصافي في الماء المختلط بالطين و بالعكس، لا يختلطان في مقدار من الزمان أو مطلقا، لمانع جعله اللّه بينهما بقدرته، كقطعة من الأرض لاٰ يَبْغِيٰانِ و لا يتجاوزان حدّيهما حتى يمتزجا أو يغرقا ما بينهما من الأرض، و لا يطلبان غير ما قدر لهما.

ص: 123


1- . الاحتجاج: 259، تفسير الصافي 108:5.
2- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5.
3- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 108:5.
4- . تفسير الرازي 100:29.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع أنّه ليس شيء ممّا ذكر قابلا للتكذيب لظهوره و ظهور منافعه

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ و هو الكبار من الدّرّ وَ الْمَرْجٰانُ و هو صغاره، أو الخرز الأحمر.

قيل: إنّ المشهور بين الغواصين أنّهما يخرجان من البحر الاجاج، من الموضع الذي يقع فيه النهر من الماء العذب(1).

و عن ابن عباس: أنّه يكون اللؤلؤ و المرجان في البحر بنزول المطر، لأنّ الصّدف تفتح أفواهها للمطر(2).

و عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا قال: «من ماء السماء، و من ماء البحر، فاذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها [في البحر] فيقع فيها من ماء المطر، فيخلق اللؤلؤ، الصغير من القطرة الصغيرة، و اللؤلؤ الكبير من القطرة الكبيرة»(3).

أقول: و يؤيد ذلك ما أشتهر من أنّه إذا أجدبت السنة هزلت الحيتان و قلّت الأصداف و الجواهر.

ذكر منقبة على

و فاطمة و ابنيهما عليهم السّلام

و عن الصادق عليه السّلام في بيان بطن الآية قال: «علي و فاطمة عليهما السّلام بحران يلتقيان، لا يبغي أحدهما صاحبه يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ» قال: «الحسن و الحسين عليهما السّلام»(4).

و قال العلامة في (نهج الحق) روى الجمهور عن ابن عباس، أنه قال: البحران علي و فاطمة عليهما السّلام الحسن و الحسين، و لم

ص: 124


1- . تفسير روح البيان 295:9.
2- . تفسير روح البيان 296:9.
3- . قرب الاسناد: 485/137، تفسير الصافي 109:5.
4- . تفسير القمي 344:2، تفسير الصافي 109:5.

خديجة بفاطمة كانت فاطمة عليها السّلام تحدّثها من بطنها، و تؤنسها في وحدتها، و كانت تكتم ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدخل النبي صلّى اللّه عليه و آله يومان فسمع خديجة تحدّث فاطمة، فقال لها: «يا خديجة، لمن تحدثين ؟» قالت: احدّث الجنين الذي في بطني، فانّه يحدّثني و يؤنسني. قال: «يا خديجة، أبشري فانّها انثى، و إنّها النسلة الطاهرة الميمونة، فانّ اللّه تعالى قد جعلها من نسلي، و سيجعل من نسلها خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه».

فما برح ذلك النور يعلو، و أشعته في الآفاق تنمو، حتى جاءه الملك فقال: يا محمد، أنا الملك المحمود، و إنّ اللّه بعثني أن أزوّج النور من نور. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ممّن» قال: علي من فاطمة، فانّ اللّه قد زوّجها من فوق سبع سماواته، و قد شهد ملاكها جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في سبعين ألفا من الكروبيين، و سبعين ألفا من الملائكة الكرام الذين إذا سجد أحدهم سجدة لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، أوحى اللّه تبارك و تعالى إليهم: أن ارفعوا رءوسكم، و اشهدوا ملاك عليّ بفاطمة، فكان الخاطب جبرئيل، و الشاهدان ميكائيل و إسرافيل.

ثمّ أمر اللّه عزّ و جلّ بحور العين أن يحضرن تحت شجرة طوبى، و أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما فيك، فنثرت ما فيها من جوز و لوز و سكّر، فاللّوز من درّ، و الجوز من ياقوت، و السّكّر من سكّر الجنّة، فالتقطته حور العين، فهو عندهنّ في الاطباق يتهادينه، يقلن: هذا من نثار تزويج فاطمه بعلي.

فعند ذلك أحضر النبي أصحابه، و قال: «أشهدكم أنّي زوّجت فاطمة من علي» فلما التقى البحران:

بحر ماء النبوة من فاطمة، و بحر ماء الفتوّة من علي كرم اللّه وجهه، هناك مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ * بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ برزخ التقوى، لا يبغي علي عليه السّلام على فاطمة بدعوى، و لا فاطمة على علي عليه السّلام بشكوى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ اللؤلؤ الحسن، و المرجان: الحسين عليهما السّلام، فجاء السبطين شهيدين حبيبين إلى سيد الكونين، فهما روحاه و ريحانتاه، كلّما راح عليهما و ارتاح إليهما يقوله: «هذان ريحانتاي من الدنيا» و كلّما اشتاق إليهما يقول: «ولداي هذان سيدا شباب أهل الجنّة، و أبوهما خير منهما و فاطمة بضعة منّي يريبني ما رابها، و يؤذيني ما يؤذيها، و يسرّني ما يسرّها قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ (1)».

ثمّ قال القاضي رحمه اللّه: و به ظهر أيضا وجه كون النبي صلّى اللّه عليه و آله برزخا بينهما، فانّ وجوده صلّى اللّه عليه و آله مؤكّد لعصمتها و عدم صدور خلاف الأولى من أحدهما على الآخر(2).

ص: 125


1- . الشورى: 23/42.
2- . إحقاق الحق 277:3.

و قال شارح (نقش الفصوص في شرح كلمة حكمة إلهية في كلمة آدمية) على ما حكاه القاضي رحمه اللّه قالوا: الانسان الكامل البرزخ بين البحرين، و الحاجز بين العالمين، و إليه الاشارة بقوله سبحانه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ * بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (1).

و قال إسماعيل حقي في (تفسير روح البيان) قيل: البحران علي و فاطمة رضي اللّه عنهما، و البرزخ النبي صلّى اللّه عليه و آله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، انتهى(2).

ثمّ طالب سبحانه بعد ذكر النعمة العظيمة الشكر عليها، و أنكر الكفران بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

وَ لَهُ الْجَوٰارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ (24) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ (26) وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاٰلِ وَ الْإِكْرٰامِ (27) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (28) ثمّ بعد ذكر نعمة البحر ذكر سبحانه نعمة السّفن بقوله:

وَ لَهُ تعالى السّفن اَلْجَوٰارِ و السائرات و اَلْمُنْشَآتُ و المخلوقات لنفع العباد، أو مرفوعات الشّرع، أو المرفوعات على الماء فِي الْبَحْرِ و هنّ في الارتفاع و العظمة كَالْأَعْلاٰمِ و الجبال الطوال، فالسفن في البحر كالجبال، كما أنّ الابل في البرّ كالسّفن في البحر.

ثمّ لمّا كان في خلق مواد السّفن و أجزائها، و الإرشاد إلى تركيبها و صنعها، و إجرائها في البحر بقطع المسافات البعيدة في الأوقات القليلة، و حمل الأشياء النافعة الكثيرة إلى البلاد النائية، و تيسير المعاملات و التجارات بسببها، نعم عظيمة لا مدخل لغير اللّه تعالى فيها، حثّ الثقلين على الإقرار بها و شكرها بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه البحر الذي هو من المهالك للبشر؛ و نبّه على أنّ النجاة منه بالسّفن من نعم اللّه تعالى، نبّه سبحانه على أنّه ليس لأحد أن يغترّ بالنجاة من المهالك في مدّة عمره المقدّر له، فانّ مآل كلّ أحد إلى الفناء و الموت بقوله:

كُلُّ مَنْ تمكّن في الأرض، و استقرّ عَلَيْهٰا من الموجودات:

العقلاء و غيرهم فٰانٍ و زائل من وجه الأرض لا محالة، فلا يغترّ العاقل ببقائه في الدنيا و بقاء ماله من الصحة و العزّ و الغنى و المال و الولد، فانّ الذي يدوم

وَ يَبْقىٰ و لا يزول و لا يفنى وَجْهُ رَبِّكَ أيّها الانسان و ذاته المقدّسة عن الحاجة و النقائص الامكانية، و وجوده المنزّه عن شوب العدم

ص: 126


1- . احقاق الحق 276:3.
2- . تفسير روح البيان 296:9.

و العوارض الجسمانية و الروحانية، المتّصف بصفة الربوبية التي من شئونها الإنعام على خلقه، و الاحسان على عباده، فذلك الباقي بعد فناء كلّ شيء، و المنعم على ما سواه، و هو ذُو الْجَلاٰلِ و العظمة التي لا نهاية لها وَ ذو اَلْإِكْرٰامِ و الفضل الذي لا حدّ له و لا إحصاء، فعلى الخلق أن يخضعوا له و يتضرّعوا إليه.

عن الجواد عليه السّلام في حديث: «و إذا أفنى اللّه الأشياء أفنى الصّور و الهجاء و التقطيع(1) ، و لا يزال من لم يزل عالما»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ نحن وجه اللّه»(3).

و عن السجاد عليه السّلام: «نحن وجه اللّه الذي يؤتى منه»(4).

قيل: إنّ وصفه بالوصفين مرتب على الأمرين السابقين، فذو الجلال مرتّب على فناء ما في الأرض، و ذو الإكرام مرتّب على بقائه بعد فناء كلّ شيء، فيوجد من يريد و يفيض عليه بعد إعادته أنواع رحمته و نعمه(5).

ثمّ لمّا كان الموت و الخروج من الدنيا الدنية، و التنبيه على ذلك، و الإعلام ببقاء ذاته المقدّسة و غاية عظمته و إفضاله من النّعم العظام، حثّ سبحانه على الإقرار بنعمه و شكرها بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (30) ثمّ بيّن سبحانه سعة كرمه و إنعامه و كمال قدرته و جوده و غناه بقوله:

يَسْئَلُهُ و يطلب منه مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ السبع من الملائكة و سائر الموجودات التي فيها وَ من في اَلْأَرْضِ من الانس و الجنّ و سائر الحيوانات و الموجودات بلسان الحال و المقال جميع ما يحتاجون إليه في بقائهم و كمالهم فيعطيهم ما يسألونه من خزائن كرمه.

عن ابن عباس: فأهل السماوات يسألونه المغفرة، و أهل الارض يسألونه الرزق و المغفرة(6) ، فهو كُلَّ

ص: 127


1- . في النسخة: و ينقطع، و في التوحيد: و لا ينقطع، و ما أثبتناه من الكافي، و المراد صور الحروف و هجاؤها و تقطيعها، كما في صدر الرواية.
2- . الكافي 7/91:1، التوحيد: 7/193، تفسير الصافي 110:5.
3- . مناقب ابن شهرآشوب 272:3، تفسير الصافي 110:5.
4- . تفسير القمي 345:2، تفسير الصافي 110:5.
5- . تفسير الرازي 107:29.
6- . تفسير روح البيان 299:9.

يَوْمٍ و آن كائن هُوَ فِي شَأْنٍ من شئون رحمانيته و ربوبيته و فيّاضيته، و لا يشغله شأن عن شأن.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الربّ لينظر إلى عباده كلّ يوم ثلاثمائة و ستين نظرة، يخلق و يرزق و يحيي و يميت» و يعزّ و يذلّ، و يفعل ما يشاء، فذلك قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (1).

و في الحديث: «من شأنه أن يغفر ذنبا، و يفرّج كربا، و يرفع قوما، و يضع آخرين»(2).

عن مقاتل، قال: نزلت الآية في اليهود حين قالوا: إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا، ففيها رد لهم(3).

و قيل: إنّ قوله: هُوَ فِي شَأْنٍ صفة اليوم، و المعنى: أنّ في كلّ يوم هو في شأن، يسأله من في السماوات و الأرض، لا اليوم الذي فيه في شأن، و هو اليوم الذي يهلك جميع الموجودات، و يقول:

لِمَنِ الْمُلْكُ (4) فانّ فيه لا يبقى أحد يسأله، فهو السائل و هو المجيب(5).

أقول: الظاهر أنّه إخبار بعد إخبار. ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر إفاضته إلى جميع الخلق بنعمه التي لا تحصى، طالبهم بالإقرار و الشّكر بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاٰنِ (31) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (32) ثمّ لمّا أخبر سبحانه بتوجّهه في الدنيا إلى شئون خلقه، أخبر بأنّه في الآخرة يصرف عن تلك الشئون الدنيوية و بتوجّه إلى شئونهم من الحساب و جزاء الأعمال بقوله:

سَنَفْرُغُ لَكُمْ و عن قريب نتجرّد عن الاشتغال بامور دنياكم لحساب أعمالكم و مجازاتكم عليها أَيُّهَ الثَّقَلاٰنِ و سنقصدكم أيّها الجنّ و الإنس.

و إنّما سمّيا بالثّقلين لرزانة رأيهما على قول، أو لعلو قدرهما في الموجودات على آخر، أو لتشبيه الأرض بالحمولة، و جعل الإنس و الجنّ أثقالا محمولة عليها على ثالث(6).

و عن الصادق عليه السّلام: «سمّيا ثقلين لأنّهما يثقلان بالذنوب»(7).

و قيل: إنّ الكلام مسوق للتهديد(8) بشدّة الاهتمام بأمرهم، و ليس المقصود حقيقة الفراغ، فانّ السيّد يقول عند الغضب لعبده: سأفرغ لك، مع كونه فارغا جالسا لا يمنعه شغل(9).

ثمّ لمّا كان تعذيب الكفّار في القيامة، و صرفه عن المؤمنين نعمة عظيمة عليهم، و التنبيه عليهما

ص: 128


1- . مجمع البيان 306:9، تفسير روح البيان 300:9.
2- . مجمع البيان 306:9، تفسير الصافي 110:5، تفسير روح البيان، 300:9.
3- . مجمع البيان 306:9، تفسير الصافي 110:5، تفسير روح البيان، 300:9.
4- . غافر: 16/40.
5- . تفسير الرازي 109:29.
6- . تفسير روح البيان 301:9.
7- . تفسير روح البيان 301:9.
8- . تفسير الرازي 110:29.
9- . تفسير الرازي 111:29.

نعمة عظيمة اخرى، حثّ الناس على الإقرار بها و الشكر عليها بقوله:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطٰارِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاٰ تَنْفُذُونَ إِلاّٰ بِسُلْطٰانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (34) ثمّ بيّن سبحانه لطفا بالعباد بعض أهوال القيامة و شدائدها بقوله:

يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و أيتها الجماعة العظيمة من الجنسين إِنِ اسْتَطَعْتُمْ و قدرتم أَنْ تَنْفُذُوا و تخرجوا مِنْ أَقْطٰارِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و جوانبهما و أطرافهما فرارا من عذاب اللّه و نكاله، و تهربوا من ملك اللّه و سلطانه فَانْفُذُوا أو اخرجوا فارّين منه، و من الواضح أنّكم لاٰ تَنْفُذُونَ و لا تخرجون منهما و لا تتخلّصون من أخذ اللّه و عذابه إِلاّٰ بِسُلْطٰانٍ و قوّة و قهر، و أنى لكم ذلك ؟ و إنّما قدّم الجنّ على الإنس لكونهم أقدم خلقا، و أقوى نفوذا، و أشد بطشا من الإنس.

روي أنّ الملائكة تنزل و تحيط بجميع الخلائق، فيهرب الإنس و الجنّ، فلا يأتون وجها إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به، فيقول لهم الملائكة ذلك(1).

و عن (المجمع): قد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار، ثمّ ينادون: يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إلى قوله: شُوٰاظٌ مِنْ نٰارٍ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه العباد في صعيد واحد، و ذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا: أن اهبطي بمن فيك، فيهبط اهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ و الإنس و الملائكة، فلا يزالون كذلك حتى يهبط(3) أهل سبع سماوات، فيصير الجنّ و الإنس في سبع سرادقات من الملائكة، ثمّ ينادي مناد يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الآية، فينظرون فإذا أحاط بهم سبع أطواق(4) من الملائكة»(5).

ثمّ لمّا ذكر قال سبحانه:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ من التنبيه و التحذير و المساهلة و العفو مع كمال القدرة.

يُرْسَلُ عَلَيْكُمٰا شُوٰاظٌ مِنْ نٰارٍ وَ نُحٰاسٌ فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ (35) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمٰاءُ فَكٰانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهٰانِ (37)

ص: 129


1- . تفسير روح البيان 302:9.
2- . مجمع البيان 311:9، تفسير الصافي 111:5.
3- . في النسخة: يحيط.
4- . في مجمع البيان: سرادقات.
5- . مجمع البيان 311:9، تفسير الصافي 111:5.

ثمّ يقول المنادي لهم تهويلا في ذلك اليوم:

يُرْسَلُ عَلَيْكُمٰا يا عصاة الجنّ و الإنس شُوٰاظٌ و لهب عظيم بلا دخان متصاعد مِنْ نٰارٍ ليسوقكم إلى المحشر، كما عن ابن عباس(1).

و قيل: إنّ الشواظ هو اللّهب المختلط بالدّخان (2)وَ نُحٰاسٌ و قطر مذاب يصبّ من فوق رءوسهم.

و قيل: إنّه الدّخان الخالص (3)فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ و لا تمتنعان من العذاب.

و قيل: إنّ قوله: لاٰ تَنْفُذُونَ إشارة إلى أنّه لا مهرب لهم من العذاب قبل نزوله(4). و قوله: فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ إشارة إلى أنّه لا ناصر و لا منج لهم منه بعد نزوله.

ثمّ لمّا كان بيان عاقبة الكفر و العصيان و التحذير عنها من الالطاف العظيمة و النّعم الجسيمة قال سبحانه:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب القلوب بقوله:

فَإِذَا انْشَقَّتِ و انصدعت اَلسَّمٰاءُ و انفكّ بعضها من بعض لعدم الحاجة إليها و الدلالة على انقراض الدنيا المحتاجة إلى السقف و الكواكب، أو لنزول الملائكة فَكٰانَتْ و صارت حمراء تشبه وَرْدَةً حمراء - و الزهرة المعروفة التي تشم - في اللون قيل: إنّ السماء لونها في الواقع الحمرة، و إنّما ترى زرقاء للبعد(5). و قيل: يعني تتقلّب حمراء بعد أن كانت صفراء كَالدِّهٰانِ، أو صارت كلون الورد تتلوّن كالادّهان المختلفة. و قيل: يعني تصير حمراء كالورد من حرارة جهنّم، و تذوب و تجري كالدّهن المذاب(6). و جواب (إذا) محذوف، و المعنى: إذا صارت السماء كذلك، يكون من الأحوال و الأهوال ما لا تحيط به دائرة المقال، أو رأيت أمرا عظيما هائلا.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لاٰ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاٰ جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمٰاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوٰاصِي وَ الْأَقْدٰامِ (41) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (42) هٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهٰا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (45) و لمّا كان الإخبار بما ذكر من الزواجر التي هي أعظم النّعم، قال سبحانه:

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا

ص: 130


1- . تفسير روح البيان 302:9.
2- . تفسير الرازي 114:29، تفسير أبي السعود 182:8.
3- . تفسير أبي السعود 182:8، تفسير روح البيان 302:9، و فيهما: اللهب الخالص.
4- . تفسير الرازي 114:29. (5و6) . تفسير روح البيان 302:9.

تُكَذِّبٰانِ مع غاية ظهورها

فَيَوْمَئِذٍ و حينئذ لاٰ يُسْئَلُ أحد من قبل اللّه أو غيره عَنْ ذَنْبِهِ الذي ارتكبه في الدنيا، لا إِنْسٌ وَ لاٰ جَانٌّ لأنّ العصاة معروفون بسيماهم، فلا يحتاج عرفانهم إلى السؤال عن ذنبهم. قيل: لا يسألون في أول حشرهم إلى الموقف، و يسألون حين المحاسبة. عن ابن عباس: لا يسألهم: هل عملتم كذا و كذا؟ فانّه أعلم بذلك، و لكن يسألهم لم عملتم كذا و كذا؟(1) و عنه أيضا: لا يسألون سؤال شفاء و راحة، و إنّما يسألون سؤال تقريع و توبيخ(2).

عن الرضا عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «من اعتقد الحقّ ثمّ أذنب و لم يتب في الدنيا عذّب [في البرزخ و يخرج يوم القيامة و ليس له ذنب يسأل عنه]» (3)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم السؤال من الجن و الإنس عن ذنبه بقوله:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ و العصاة في ذلك اليوم بِسِيمٰاهُمْ و علامة الذنب الظاهرة في وجوههم من السواد و زرقة العين و الغبرة و القترة و الحزن و النكاية فَيُؤْخَذُ اولئك العصاة بِالنَّوٰاصِي و شعور مقدّم رءوسهم وَ الْأَقْدٰامِ قيل: يأخذ الملائكة بشعر رءوسهم و أقدامهم، فيقذفونهم في النار(4). أو المراد تسحبهم الملائكة و تجرّهم إلى النار تارة بالأخذ بنواصيهم و تارة بالأخذ بأقدامهم (5)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ من المواعظ و الزواجر مع كون منافعها في غاية الظهور؟ ثمّ يقال لهم توبيخا و تقريعا

هٰذِهِ النار التي ترونها و تدخلونها هي جَهَنَّمُ الَّتِي وعد اللّه بها العصاة في الدنيا على لسان رسله، و كان يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ و المصرّون على الكفر و العصيان، فانظروا اليوم إلى المكذّبين أنّهم

يَطُوفُونَ و يدورون بَيْنَهٰا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ و ماء حارّ آنٍ و بالغ منتهى الحرارة و أقصاها، يصبّ عليهم، أو يسقون منه.

عن كعب الأحبار: أنّ واديا من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار، فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثمّ يخرجون منه، و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا، فيلقون في النار(6). و من الواضح أنّ الإخبار بهذه الامور العظام من نعم اللّه على الأنام

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيها الثقلان تُكَذِّبٰانِ و قيل: يعني فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا ممّا عددناه من أوّل السورة تُكَذِّبٰانِ فتستحقّان هذا العذاب الشديد(7).

ص: 131


1- . تفسير روح البيان 303:9.
2- . تفسير روح البيان 303:9.
3- . مجمع البيان 312:9، تفسير الصافي 112:5.
4- . تفسير روح البيان 303:9.
5- . تفسير الرازي 121:29، تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 303:9.
6- . تفسير روح البيان 303:9 و 304.
7- . تفسير الرازي 121:29.

وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ (46) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (47) ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (49) ثمّ لمّا حذّر اللّه العصاة بذكر سوء عاقبتهم و عذاب عصيانهم، زجرا لهم عمّا هم عليه، بيّن سبحانه حسن عاقبة المؤمنين الخائفين من عصيانه، ترغيبا لهم إلى طاعته بقوله:

وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ و حين الحضور في موقف فصل قضائه في القيامة، و ظهور آثار قدرته و سطوته و سلطانه، و هتك السور، و كشف حقائق الامور، و قيام الأشهاد، فاجتنب لخوفه ذلك مخالفته و عصيانه في الدنيا جَنَّتٰانِ قيل: جنة لتركه المعاصي و الشهوات، و جنّة لفعل الطاعات(1). و قيل: جنّة لإيمانه، و جنّة لعمله(2) ، و أمّا الجنتان فجنّة عدن، و جنّة نعيم(3). و قيل: جنة داخل القصر، و جنّة خارجة(4). و قيل: جنّة لسكونته، و جنّة لسكونة أزواجه و خدمه(5). و قيل: جنّة من ذهب، و جنّة من فضة(6) ، يطوف بينهما كما يطوف المجرم بين جهنّم و حميم، و إنّما لم يقل يطوف بينهما الخائفون، لوضوحه و لإظهار أنّهم ملوك يطاف عليهم احتراما لهم و إكراما في حقّهم، و لا يطاف بهم.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «من علم أنّ اللّه يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر، فحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربّه [و نهى النفس عن الهوى]»(3).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة اللّه، حرّم اللّه عليه النار، و آمنه من الفزع الأكبر، و أنجز له ما وعده في كتابه في قوله تعالى: وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ» (4).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من نعم الدنيا و الآخرة تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ وصف سبحانه الجنّتين بقوله:

ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ و صاحبتا أغصان منشعبة من الشجرة، عليها أوراق عجيبة، و أثمار طيبة من غير سوق غلاظ، مانعة عن التردّد فيها كيف شاء، كذا قيل(5). و قيل:

يعني صاحبتا أنواع من الأشجار المثمرة

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من الآلاء الدنيوية و الاخروية تُكَذِّبٰانِ.

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ تَجْرِيٰانِ (50) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (51) فِيهِمٰا مِنْ كُلِّ فٰاكِهَةٍ زَوْجٰانِ (52) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلىٰ فُرُشٍ بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى

ص: 132


1- . تفسير الرازي 123:29، تفسير روح البيان 304:9.
2- . تفسير روح البيان 304:9، و فيه: لعقيدته، بدل لإيمانه. (3-4-5-6) . مجمع البيان 314:9.
3- . الكافي 10/57:2، تفسير الصافي 113:5.
4- . من لا يحضره الفقيه 1/7:4، تفسير الصافي 113:5.
5- . تفسير الرازي 124:29.

اَلْجَنَّتَيْنِ دٰانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (55) ثمّ وصف سبحانه الجنتين بغاية الصفاء و النّزاهة بقوله:

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ من ماء غير آسن تَجْرِيٰانِ من جبل من مسك على ما قيل(1) ، و عن ابن عباس: تجريان بالماء الزّلال، إحداهما التّسنيم، و الآخر السّلسبيل(2). قيل: تجري في كلّ جنة عين(3) ، كما قال تعالى: فِيهٰا عَيْنٌ جٰارِيَةٌ (2).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ لمّا وصف الجنتين بغاية النّزاهة التي هي الأهمّ في نظر المتنعّمين، وصفها باستجماعهما لجميع الفواكه بقوله:

فِيهِمٰا مِنْ كُلِّ نوع من فٰاكِهَةٍ متصوّرة من الفواكه زَوْجٰانِ و صنفان: حلو و حامض، أو رطب و يابس، أو معهود و غير معهود.

عن ابن عباس: ما في الدنيا حلوة و لا مرّة إلاّ و هي في الجنّة حتى الحنظل، إلاّ أنه حلو (3)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بيّن سبحانه حال استراحة الخائفين في الجنّة بقوله:

مُتَّكِئِينَ و معتمدين كالملوك حال جلوسهم عَلىٰ فُرُشٍ مبسوطة تحتهم بعضها على بعض، و تلك الفرش بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ و ديباج ثخين، فما ظنكم بظهائرها التي لا بدّ أن تكون أعلى و أشرف من البطائن قيل: إنّ ظهائرها من سندس(6) و حرير رقيق، و قيل: من نور (7)وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ و ثمارها التي تقطف دٰانٍ و قريب بحيث يجتنى في كلّ حال بلا كلفة القيام و المشي و استعمال الآلة.

عن ابن عباس. قال: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي اللّه، إن شاء قائما، و إن شاء قاعدا و إن شاء مضطجعا (8)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

فِيهِنَّ قٰاصِرٰاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيٰاقُوتُ وَ الْمَرْجٰانُ (58) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (59) هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلاَّ الْإِحْسٰانُ (60) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (61) ثمّ وصف سبحانه أزواجهم في الجنة بقوله:

فِيهِنَّ قٰاصِرٰاتُ الطَّرْفِ على أزواجهن، لا تتجاوز أعينهنّ إلى غيرهم، و لا ينظرن إلى سواهم لشدّة حبّهن لهم. قيل: تقول كلّ منهنّ لزوجها: و عزّة ربّي

ص: 133


1- . تفسير أبي السعود 184:8، تفسير روح البيان 306:9. (2و3) . تفسير أبي السعود 184:8، تفسير روح البيان 306:9.
2- . الغاشية: 12/88.
3- . تفسير روح البيان 306:9 و 307. (6-7-8) . تفسير أبي السعود 185:8، تفسير روح البيان 307:9.

ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد للّه الذي جعلك زوجي، و جعلني زوجك(1).

و عن القمي: الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها(2). و قيل: إنّ قصر الطّرف كناية عن الحياء و الدّلال(3). و قيل: إنّ المراد أنّهن مانعات أبصارهنّ عند الخروج عن النظر إلى اليمين و الشمال لغاية عفّتهن(4).

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ و لم يمسّهن، أو لم يفضضهنّ إِنْسٌ غير أزواجهنّ قَبْلَهُمْ في الجنّة وَ لاٰ جَانٌّ بل هن باكرات غير ملموسات

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ بيّن سبحانه كمال جمالهنّ بقوله:

كَأَنَّهُنَّ في الصّفاء و الحسن اَلْيٰاقُوتُ الأحمر وَ الْمَرْجٰانُ و اللؤلؤ الصّغار الأبيض، فانّه أصفى من اللؤلؤ الكبار.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ المرأة من أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة و مخّها، إنّ اللّه يقول: كَأَنَّهُنَّ الْيٰاقُوتُ وَ الْمَرْجٰانُ (5)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ أكّد سبحانه وعده المؤمنين بالجنّة و النّعم المذكورة ببيان حكم العقل بوجوب كون جزاء المحسن هو الاحسان بقوله:

هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إلى الغير بحكم العقل السليم أيّها العقلاء إِلاَّ الْإِحْسٰانُ إلى المحسن، لا و اللّه لا يكون جزاء المحسن على إحسانه إلاّ الاحسان إليه، فلا بدّ من أن يجازي المؤمن المحسن بعمله من اللّه بالجنّة و النّعم الدائمة.

عن أنس، قال: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ... الآية، ثمّ قال: «هل تدرون ما قال ربّكم ؟» قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال: «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي و توحيدي إلاّ أن اسكنه جنّتي و حظيرة قدسي برحمتي»(6).

و عن الحسن بن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «هل جزاء من قال لا إله إلاّ اللّه إلاّ الجنّة»(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن هذه الآية جرت في الكافر و المؤمن و البرّ و الفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، و ليس المكافأة أن تصنع كما صنع حتى تربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء»(8).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من النّعم العقلانية و النفسانية و الروحانية و الجسمانية تُكَذِّبٰانِ.

ص: 134


1- . مجمع البيان 315:9، تفسير روح البيان 307:9.
2- . تفسير القمي 346:2، تفسير الصافي 113:5.
3- . تفسير روح البيان 308:9.
4- . تفسير الرازي 129:29.
5- . تفسير روح البيان 309:9.
6- . تفسير روح البيان 309:9.
7- . علل الشرائع: 8/251، تفسير الصافي 114:5.
8- . مجمع البيان 316:9، تفسير الصافي 114:5.

وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ (62) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (63) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان جزاء الخائفين المقرّبين بأنّ لهم جنتين موصوفتين بأعلى مراتب الحسن، بيّن جزاء من دونهم في القرب بقوله:

وَ مِنْ دُونِهِمٰا و أنزل منهما شرفا و حسنا جَنَّتٰانِ اخريان لمن دون الخائفين رتبة و منزلة عند اللّه.

قال بعض المفسرين: من دون الجنتين الأوليين جنتان اخريان من فضّة آنيتهما و ما فيهما، و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما(1).

و روى (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ما يقرب منه(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تقولنّ الجنّة واحدة، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ و لا تقولن واحدة، إن اللّه يقول: (درجات بعضها فوق بعض)(3) إنّما تفاضل القوم بالأعمال»(4).

و عنه عليه السّلام قيل له: الناس يتعجّبون منّا، كنّا إذا قلنا يخرج قوم من النار فيدخلون الجنّة، فيقولون لنا:

فيكونون مع اولياء اللّه في الجنّة ؟ فقال عليه السّلام: «إنّ اللّه يقول: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ لا و اللّه ما يكونون مع اولياء اللّه»(5).

و قيل: إنّ الجنّتين الأدنيين(4) لذرّيتهم الذين ألحقهم بهم و لأتباعهم، و إنّما جعلهما اللّه لهم إنعاما على المؤمنين، كأنّه يقول اللّه لهم: هاتان الأخريان لكم، أسكنوا فيهما من تريدون(5).

و قيل: إنّ لكلّ من المؤمن و المؤمنة أربع جنات عن يمين و يسار، و قدّام و خلف، ليتضاعف له السرور بالانتقال من جنة إلى جنة، فإنّه ابعد من الملل فيما طبع عليه من البشرية(6).

و عن القمي، عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن قوله تعالى: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ قال: «خضراوان في الدنيا يأكل المؤمنون منهما حتى يفرغوا من الحساب»(7).

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من الآلاء الاخروية و الجنّات العديدة تُكَذِّبٰانِ.

مُدْهٰامَّتٰانِ (64) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (65) فِيهِمٰا عَيْنٰانِ نَضّٰاخَتٰانِ (66) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (67) فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا

ص: 135


1- . تفسير روح البيان 310:9، و في النسخة: أبنيتهما و ما فيهما، و جنتان أوليان من ذهب أبنيتها.
2- . مجمع البيان 318:9، تفسير الصافي 114:5.
3- . في سورة الانعام: 165/6 وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ. (4و5) . مجمع البيان 318:9، تفسير الصافي 115:5.
4- . في النسخة: الأدونين.
5- . تفسير الرازي 133:29.
6- . تفسير روح البيان 310:9.
7- . تفسير القمي 345:2، تفسير الصافي 115:5.

تُكَذِّبٰانِ (69) ثمّ وصف سبحانه الجنّتين الادنيين(1) بصفات أدون من صفات الجنتين الاوليين، حيث وصف الاوليين بقوله: ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ و وصف الأخريين بقوله:

مُدْهٰامَّتٰانِ و مخضرّتان غاية الخضرة بحيث تضربان الى السواد.

قيل: هذا الوصف يدلّ على أنّ الاخريين دون الاوليين مكانا(2) ، فالمؤمنون إذا نظروا إلى فوقهم يرون الأفنان و الأغصان تظلّهم، و إذا نظروا إلى تحتهم يرون أرضا مخضرة

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من خضرة نباتات هاتين الجنّتين، فتتمتع أبصاركم بهما، و انتفاع انوفكم بشمّ رياحينهما تُكَذِّبٰانِ.

ثمّ وصف سبحانه نزاهتهما و صفائهما بقوله: تعالى:

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ نَضّٰاخَتٰانِ و فوّارتان إلى جهة الفوق بالماء. و قيل: بالخير و البركة(3). و عن ابن عباس: بالمسك و العنبر (4)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا من ربّكم بالشراب، و التذاذكم بنزهة الجنّتين تُكَذِّبٰانِ.

في مدح الرّمان

ثمّ وصف سبحانه المأكول فيهما بقوله:

فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ كثيرة، و ما يتلذّذ به من ثمار الأشجار، ثمّ خصّ النوعين منهما بالذكر بقوله: وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ لفضلهما على سائر الفواكه، فانّ الرّطب و التمر فاكهة و غذاء، و الرمان فاكهة و دواء. قيل: إنّ الفواكه أرضية و شجرية، فالأرضية كالبطّيخ داخلة في قوله: مُدْهٰامَّتٰانِ و الشجرية كالتفاح و السّفرجل و العنب و غيرها(3) ، هي المراد من الآية.

عن ابن عباس: نخل الجنة جذوعها من زمرّد أخضر، و كربها من ذهب أحمر، و سعفها كسورة لأهل الجنّة، و ثمرها أمثال القلال(4) أو الدّلا، أشدّ بياضا من اللّبن، و أحلى من العسل، و ألين من الزّبد، ليس له عجم(5) ، كلّما نزعت ثمرة عادت مكانها اخرى(8).

و عنه: ما لقحت رمّانة قطّ إلاّ بحبّة من الجنّة(9).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا أكلتم الرمان، فكلوه ببعض شحمه، فانّه دباغ للمعدة، و ما من حبّة منه تقيم في جوف مؤمن إلاّ أنارت قلبه، و أخرجت شيطان الوسوسة منه أربعين يوما»(10).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من أكل رمانا أنار اللّه قلبه أربعين يوما»(6).

ص: 136


1- . في النسخة: الأدونين.
2- . تفسير روح البيان 311:9. (3و4) . تفسير روح البيان 311:9.
3- . تفسير الرازي 134:29.
4- . القلال: جمع قلّة، و هي إناء من الفخّار يشرب منه.
5- . العجم: جمع عجمة، و هي نواة التمر أو الرمان أو العنب و غيرها. (8-9-10) . تفسير روح البيان 312:9.
6- . تفسير روح البيان 312:9.

و عن الصادق عليه السّلام: «الفاكهة مائة و عشرون لونا، سيّدها الرّمّان»(1).

و عنه عليه السّلام: «خمس من فواكه الجنّة في الدنيا: الرّمّان الإمليس» (2)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ.

فِيهِنَّ خَيْرٰاتٌ حِسٰانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (71) حُورٌ مَقْصُورٰاتٌ فِي الْخِيٰامِ (72) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (73) ثمّ وصف سبحانه المنكوحات في الجنتين بقوله:

فِيهِنَّ خَيْرٰاتٌ أخلاقهن حِسٰانٌ وجوههنّ. عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أي نساء خيرات الأخلاق، حسان الوجوه»(3).

و قيل في تفسير الخيرات: لسن بدمرات و لا بخرات و لا متطلّعات و لا متشوّفات و لا ذربات و لا سليطات و لا طمحات و لا طوّافات في الطرق(4). و في تفسير الحسان: حسان الخلق و الخلق(5).

عن الصادق عليه السّلام: «هن صوالح المؤمنات العارفات»(6).

و عنه عليه السّلام: «الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا، و هنّ أجمل من حور العين»(7).

روى بعض العامة: أن حور العين يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كنّا له؛ فاذا قلن هذه [المقالة] أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصلّيات و ما صليتنّ، و نحن الصائمات و ما صمتنّ، و نحن المتصدقات و ما تصدّقتنّ، فغلبنهنّ، و اللّه غلبنهنّ(8).

و قيل: إنّ المراد من الخيرات الحور العين (9)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ و قد أنعم اللّه عليكم بالخيرات الحسان.

ثمّ بالغ سبحانه في وصف نساء الجنة بقوله:

حُورٌ و نساء بيض مَقْصُورٰاتٌ و مخدّرات فِي الْخِيٰامِ و الخدور، أو مستورات في الحجال، لا يظهرن لغير أزواجهن، و لا يخرجن من سورهنّ لغاية عظمتهنّ و عفّتهن على ما قيل(10).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «الحور هنّ البيض، و المقصورات المخدّرات في خيام الدّرّ و الياقوت

ص: 137


1- . الكافي 2/352:6، تفسير الصافي 115:5.
2- . الكافي 1/349:6، تفسير الصافي 115:5، و في النسخة: الأملس، و الرمان الإمليس، أو الإمليسي، هو رمان حلو طيب لا عجم له.
3- . مجمع البيان 319:9، تفسير الصافي 116:5.
4- . تفسير روح البيان 312:9، و الدمر: النتن، و البخر: النتن في الفم و الابط و غيرهما، و الذرية: السليطة اللسان، و الطمحات، يقال: طمح بصره إليه، كمنع: ارتفع، و الطوافات في الطرق: دوارات.
5- . تفسير روح البيان 312:9.
6- . الكافي 147/156:8، تفسير الصافي 116:5.
7- . من لا يحضره الفقيه 1432/299:3، تفسير الصافي 116:5.
8- . تفسير روح البيان 313:9.
9- . تفسير الطبري 91:27.
10- . مجمع البيان 320:9.

و المرجان، لكلّ خيمة أربعة أبواب، على كلّ باب سبعون ملكا، حجّابا لهنّ، و تأتيهنّ في كل يوم كرامة من اللّه عزّ ذكره، يبشّر اللّه عز و جلّ بهن المؤمنين»(1).

و عن ابن مسعود: لكلّ زوجة خيمة طولها ستون ميلا(2).

و قيل: إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة عرضها ستون ميلا، في كلّ زاوية منها أهلون لا يرون إلاّ حين يطوف عليهنّ المؤمنون (3)

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع أنّه خلق لكما من النساء المقصورات المحبوسات.

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسٰانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (77) تَبٰارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاٰلِ وَ الْإِكْرٰامِ (78) ثمّ بيّن سبحانه أنّ أزواج المؤمنين كأزواج المقرّبين في البكارة و عدم مسّ غير أزواجهنّ بقوله:

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ و لم يمسّهنّ، أو لم يفتضّهن غير أزواجهن، لا إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ أحد جَانٌّ بل كلّهن باكرات غير ملموسات

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع إنعامه عليكما بأعلى النّعم.

ثمّ بيّن سبحانه راحة المؤمنين في الجنّتين بقوله:

مُتَّكِئِينَ و معتمدين فيهما عَلىٰ رَفْرَفٍ و فرش مرتفعة، كما عن بعض(4) ، أو مجالس(5) ، كما عن ابن عباس، أو مرافق(6) و مساند خُضْرٍ لكونه أحسن الالوان وَ عَبْقَرِيٍّ و فرش حِسٰانٍ أو بسط موشّاة(4) ، أو فيها صور، و هي على كلّ تقدير في غاية الجودة

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مع أنّه قد هيّأ لكم ما به نهاية الراحة و الكرامة.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه نعمه الدنيوية و الاخروية التي كلّها من شئون رحمانيته و فيّاضيته على جميع الموجودات، وصف ذاته بعلوّ الشأن أو بكثرة الخير و البركة بقوله:

تَبٰارَكَ و تعالى شأنا، أو كثر خيرا، أو دام اِسْمُ رَبِّكَ و ما يحكي عن ذاته كالرحمن الذي افتتحت به السورة المباركة، فكيف بذاته المقدّسة، فانّ عظمة الاسم دالة على عظمة المسمّى.

ثمّ إنّه تعالى بعد تعداد النّعم الدنيوية و التنبيه على فناء العالم أخبر ببقاء ذاته، و عبّر عنها بالوجه، و المراد به وجوده الواجب غير القابل للعدم و الزوال، و بعد تعداد نعمه الدائمة الاخروية أخبر بدوام اسمه المبارك في ألسنة الذاكرين في الجنّة، أو كثرة خيراته و بركاته، أو علوّ شأنه اللازم لتوجّه الخلق

ص: 138


1- . الكافي 147/156:8، تفسير الصافي 116:5.
2- . مجمع البيان 320:9، تفسير روح البيان 313:9.
3- . تفسير روح البيان 313:9. (4-5-6) . مجمع البيان 320:9.
4- . في النسخة: موشّى.

إليه و تعظيمه.

و قيل: إنّ المراد بالاسم صفته الرحمانية و الرحيمية(1). و قيل: إنّ المراد ذاته المقدسة(2).

و في كلا الموضعين نبّه على جلالته، و تنزّهه عن النقائص، و وفور كرمه، و نهاية كبريائه بقوله:

ذِي الْجَلاٰلِ وَ الْإِكْرٰامِ إرعابا للقلوب، لمكان الجلال، و إيناسا لها به لمكان الإكرام، ففي هذين الوصفين تربية للخوف و الرجاء.

قيل: من اللطائف أنّه تعالى ختم السورة السابقة ببيان سعة ملكه و كمال قدرته بقوله تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (3) و ختم هذه السورة ببيان نهاية جلالته التي من آثار سعة ملكه، و نهاية إكرامه التي من آثار كمال قدرته.

عن الباقر عليه السّلام - في هذه الآية - «نحن جلال اللّه و كرامته التي أكرم اللّه تبارك و تعالى العباد بطاعتنا و محبّتنا»(4).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الرحمن فقال عند كلّ آية فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ لا بشيء من آلائك ربّ أكذّب، فان قرأها ليلا ثمّ مات مات شهيدا، و إن قرأها نهارا ثمّ مات مات شهيدا»(5).

قيل: إن آيات أوّل هذه السورة المباركة أول ما قرئ من القرآن على قريش(6).

ص: 139


1- . تفسير روح البيان 315:9.
2- . مجمع البيان 320:9.
3- . تفسير الرازي 137:29، و الآية من سورة القمر: 55/54.
4- . تفسير القمي 346:2، تفسير الصافي 117:5.
5- . ثواب الأعمال: 116، تفسير الصافي 118:5.
6- . تفسير روح البيان 315:9.

ص: 140

في تفسير سورة الواقعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهٰا كٰاذِبَةٌ (2) خٰافِضَةٌ رٰافِعَةٌ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الرحمن المبتدئة بالاعلان بسعة الرحمة، ثمّ عظمة القرآن المحتوية لبيان النّعم الدنيوية و الاخروية، و بيان فناء الموجودات الجسمانية، و أهوال القيامة، و كون الناس فيها فرقا ثلاث: المجرمين، و المقرّبين، و المؤمنين الأبرار، نظمت بعدها سورة الواقعة المبتدئة بإظهار المهابة ببيان أهوال القيامة، و بيان فناء الدنيا و خرابها فيها، و كون الناس فيها فرقا ثلاث: السابقين المقربين، و أصحاب اليمين، و أصحاب الشمال، و غير ذلك من المطالب المربوطة بالسورة السابقة، فابتدأها بذكر أسمائه الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه فيها ببيان أهوال القيامة الموجبة للخوف عن مقامه و إرعاب القلوب من مهابته بقوله:

إِذٰا وَقَعَتِ القيامة التي هي اَلْوٰاقِعَةُ لا محالة، أو هي الواقعة العظيمة التي من عظمتها و شدائدها لا يتصوّر لها نظير، أو الزلزلة التي تضع لهو لها كلّ ذات حمل حملها. قيل: إنّ جواب (إذا) محذوف، و التقدير: تكون أهوال و شدائد(1).

لَيْسَ لِوَقْعَتِهٰا و حدوثها نفس كٰاذِبَةٌ و منكرة إيّاها لشهودها و شهود أهوالها، أو لا يوجد نفس كاذبة لأجل شدّتها و أهوالها، و من عظمتها أنّها

خٰافِضَةٌ لأقوام، و رٰافِعَةٌ لآخرين عن ابن عباس: تخفض أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا، و ترفع أقواما كانوا متّضعين فيها(2).

و عن السجاد عليه السّلام: «إِذٰا وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ يعني القيامة خٰافِضَةٌ خفضت و اللّه بأعداء اللّه إلى النار رٰافِعَةٌ رفعت و اللّه أولياء اللّه إلى الجنّة»(3).

و قيل: إنّه بيان لنفي وجود الكاذب في ذلك اليوم(4) ، و المعنى: ليس فيها نفس كاذبة تغيّر الكلام

ص: 141


1- . تفسير الرازي 140:29، تفسير أبي السعود 188:8.
2- . مجمع البيان 324:9، تفسير روح البيان 316:9.
3- . الخصال: 95/64، تفسير الصافي 119:5.
4- . تفسير الرازي 141:29.

و تخفض كلمة أو ترفعها، أو المراد أنّ تلك الواقعة تخفض بعض الأشياء، و ترفع بعضا، تحطّ الأشقياء، و ترفع السّعداء، و تزيل الأجرام عن مقارّها بنثر الكواكب و إسقاط السماء كسفا، و تسيير الجبال في الجو كالسّحاب، و صيرورتها بعد الرفع عن الأرض [كثيبا] مهيلا منبسطا، و صيرورة الأرض كثيبا مرتفعا، و إنّما قدّم الخفض للتشديد و التهويل.

إِذٰا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَ بُسَّتِ الْجِبٰالُ بَسًّا (5) فَكٰانَتْ هَبٰاءً مُنْبَثًّا (6) وَ كُنْتُمْ أَزْوٰاجاً ثَلاٰثَةً (7) فَأَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ مٰا أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ مٰا أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَ السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ (10) أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ثمّ بيّن سبحانه وقت كون القيامة خافضة رافعة بقوله:

إِذٰا رُجَّتِ و زلزلت اَلْأَرْضُ رَجًّا و زلزالا عظيما، و حرّكت تحريكا شديدا بحيث لا يبقى فوقها بناء

وَ بُسَّتِ و فتّتت اَلْجِبٰالُ أو سيقت و سيّرت من أماكنها بَسًّا و تفتينا عجيبا، أو سوقا و سيرا سريعا

فَكٰانَتْ و صارت جميع الجبال بسبب ذلك التفتت أو السوق هَبٰاءً أو غبارا مرتفعا، أو كالذرّات التي ترى في شعاع الشمس، أو ما يتطاير من شرر النار، أو ما ذرّت الريح من الأوراق مُنْبَثًّا و متفرّقا و منتشرا في الجوّ.

قيل: إنّ اللّه تعالى يبعث ريحا، فتحمل الأرض و الجبال، و تضرب بعضها ببعض، و لا تزال كذلك حتى تصير غبارا(1).

وَ كُنْتُمْ أيّها الناس، من الأولين و الآخرين في ذلك اليوم أَزْوٰاجاً و أصنافا ثَلاٰثَةً حسب اختلاف عقائدهم و أعمالهم في الدنيا، أما الصنف الأول

فَأَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ و البركة و السعادة، أو أهل المنزلة الرفيعة، أو ذوي الصحائف التي يعطونها بأيمانهم، أو الجماعة الذين(2) يقومون عن يمين العرش، أو كانوا على يمين آدم في عالم الذّر و يوم الميثاق، و ما تدرون أيّها العقلاء مٰا أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ و أيّ شيء هم في الفخامة و علوّ الرّتبة ؟ فتتعجبون من حسن حالهم، لكونهم مؤمنين صالحين، و إن كان لهم تبعات يقومون بها للحساب

وَ الصنف الثاني وَ أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ و الشرّ و الشقاوة، و أهل الذّلة و الشراسة و النّكبة و الدّناءة و مٰا تدرون ما أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ و أيّ شيء هم في سوء الحظّ و حطّ المنزلة ؟ فتتعجبون من سوء حالهم لكونهم كفّارا طغاة مستحقّين للعذاب

وَ الثالث اَلسّٰابِقُونَ و المبادرون إلى الايمان و الطاعة، و المسارعون إلى الخيرات، و هم اَلسّٰابِقُونَ و المبادرون إلى الجنة بغير حساب، و المسارعون إلى الدرجات العاليات.

ص: 142


1- . تفسير روح البيان 317:9.
2- . في النسخة: التي.

و قيل: إنّ المراد أنّ (السّٰابِقُونَ) هم السابقون المعروفون بحسن الحال(1). أو هم الذين لا يمكن الإخبار عن عظمتهم إلاّ بأن يقال: هم السابقون، لكون حسن حالهم و علوّ مقامهم فوق أن يحيط به علم البشر(2). و قيل: إنّ (السّٰابِقُونَ) الثاني تأكيد للأول(3). و قيل: إنّ المعنى: السابقون ما السابقون ؟ فحذفت كلمة (ما) لدلالة الجملتين السابقتين عليها(4). و قيل: إنّ (السابقون) الثاني مبتدأ، و خبره قوله:

أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (5) إلى اللّه بأعلى درجات القرب الذي يكون للبشر، أو المقربون إلى العرش، لأنّ درجاتهم فوق درجات غيرهم في الجنّة التي سقفها عرش الرحمن، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فانّه أوسط الجنّة و أعلاها، و فوقه عرش الرحمن»(4).

و قيل: إنّهم مقربون إلى الجنّة حين كون أصحاب الميمنة في مقام الحساب(5).

قيل: قدّم سبحانه عند ذكر الأصناف أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة، لأنّهم الذين ينفعهم ذكر أهوال القيامة دون السابقين الذين لا يختلف حالهم بالخوف و الرجاء(6).

نقل كلام بعض

العامة و ردّه

قال بعض العامة: السابقون اربعة: سابق امّة موسى عليه السّلام و هو جزبيل(7) أو حزقيل مؤمن آل فرعون، و سابق امّة عيسى و هو حبيب النجار صاحب أنطاكية، و سابقا امّة محمد و هما أبو بكر و عمر(8).

أقول: هذا القول مما تضحك به الثكلى، لوضوح أنّ الرجلين لا سبق لهما لا في الإيمان و لا في الطاعة، للاتفاق على أنّ إسلام أبي بكر كان بعد إسلام ثلاثة أو أربعة(9) ، و إسلام عمر كان بعد إسلام تسعة و ثلاثين أو أربعين من الصحابة، مع أنّه روى الجمهور عن ابن عباس، أنّه قال: سابق هذه الامة علي بن أبي طالب عليه السّلام(10).

و قال فضل بن روزبهان الناصب: جاء في رواية أهل السنّة: «سباق الامم ثلاثة: مؤمن آل فرعون، و حبيب النجّار، و علي بن أبي طالب»(11). و فيما رواه الفخر الرازي: «هو أفضلهم»(12).

ص: 143


1- . تفسير أبي السعود 190:8.
2- . تفسير الرازي 145:29.
3- . تفسير الرازي 146:29، تفسير روح البيان 318:9، و في النسخة: تأكيد الأول. (4و5) . تفسير روح البيان 318:9.
4- . تفسير روح البيان 318:9.
5- . تفسير الرازي 146:29.
6- . تفسير الرازي 142:29
7- . في تفسير روح البيان: خربيل.
8- . تفسير روح البيان 318:9.
9- . و روى الطبري مسندا عن محمد بن سعد، قال: قلت لأبي: أ كان أبو بكر أولكم إسلاما؟ فقال: لا، و لقد أسلم قبله أكثر من خمسين. تاريخ الطبري 316:2.
10- . نهج الحق: 13/181، مناقب ابن المغازلي: 365/320، الصواعق المحرقة: 29/25، ينابيع المودة: 60، مناقب الخوارزمي: 20، شواهد التنزيل 924/213:2-931.
11- . إحقاق الحق 121:3.
12- . تفسير الرازي 57:27.

و عن الباقر عليه السّلام: «السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، و سابق امّة موسى و هو مؤمن آل فرعون، و سابق امّة عيسى و هو حبيب النجّار، و السابق في امّة محمد و هو علي بن أبي طالب عليه السّلام»(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «اَلسّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ * أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فيّ نزلت»(2).

و عنه عليه السّلام قال: «خلق اللّه الناس على ثلاث طبقات، و أنزلهم ثلاث منازل، و ذلك قول اللّه:

(اصحاب الميمنة و اصحاب المشأمة و السابقون) و أمّا السابقون فهم أنبياء مرسلون و غير مرسلين، جعل اللّه فيهم خمسة أرواح: روح القدس، و بها بعثوا أنبياء مرسلين و غير مرسلين، و بها علموا الأشياء، و روح الايمان و بها عبدوا اللّه، و لم يشركوا به شيئا، و روح القوّة و بها جاهدوا عدوّهم و عالجوا معاشهم، و روح الشهوة و بها أصابوا لذيذ الطعام، و نكحوا الحلال من شباب النساء، و روح البدن و بها دبّوا و درجوا، و أمّا أصحاب الميمنة، و هم المؤمنون حقّا، جعل اللّه فيهم أربعة أرواح: روح الايمان، و روح القوة، و روح الشهوة، و روح البدن - إلى أن قال - وَ أَصْحٰابُ الْمَشْئَمَةِ فهم اليهود و النصارى... جحدوا ما عرفوا، فسلبهم اللّه تعالى روح الايمان»(3) و روي عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه(4).

و عن (الامالي) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «قال جبرئيل: ذلك عليّ و شيعته هم السابقون إلى الجنّة، المقربون الى اللّه بكرامته [لهم]»(5).

و عن الباقر عليه السّلام - في حديث -: «نحن السابقون السابقون إلى الجنّة، و نحن الآخرون»(6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال أبي لاناس من الشيعة: أنتم شيعة اللّه، و أنتم أنصار اللّه، و أنتم السابقون الأولون، و السابقون الآخرون، و السابقون في الدنيا إلى ولايتنا، و السابقون في الآخرة إلى الجنّة»(7).

فِي جَنّٰاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهٰا مُتَقٰابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوٰابٍ وَ أَبٰارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لاٰ يُصَدَّعُونَ عَنْهٰا وَ لاٰ يُنْزِفُونَ (19) ثمّ قدّم سبحانه ذكر حال السابقين بقوله:

فِي جَنّٰاتِ و التقدير: هم كائنون أو مستقرّون في جنات مشتملة على اَلنَّعِيمِ و أنواع اللذات الجسمانية و الروحانية، و هم

ثُلَّةٌ و جماعة عظيمة

ص: 144


1- . مجمع البيان 325:9، تفسير الصافي 120:5.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 288/65:2، تفسير الصافي 120:5.
3- . الكافي 16/214:2.
4- . الكافي 1/213:1، تفسير الصافي 120:5.
5- . أمالي الطوسي: 104/72، تفسير الصافي 120:5.
6- . كمال الدين: 20/206، تفسير الصافي 120:5.
7- . الكافي 259/213:8، تفسير الصافي 120:5.

مِنَ المؤمنين اَلْأَوَّلِينَ من لدن آدم عليه السّلام إلى بعث الخاتم

وَ قَلِيلٌ مِنَ المؤمنين اَلْآخِرِينَ من أمّة خاتم النبيين، كلّهم قاعدون في الجنّة

عَلىٰ سُرُرٍ و مجالس مرتفعة من الأرض معدّة لحال السرور، و تجعل للملوك مَوْضُونَةٍ و منسوجة بعضها على بعض، أو منسوجة بالحرير، أو باليواقيت و الجواهر، أو بالذهب.

قيل: قوائمها من الجواهر، و أرضها من الذهب(1). عن ابن عباس: ألواحها من الذهب، مكلّلة بالزّبرجد و الدّرّ و الياقوت، مرتفعة ما لم يجئ صاحبها، فاذا أراد صاحبها الجلوس عليها تواضعت حتى يجلس عليها، ثمّ ترفع إلى موضعها(2).

حال كونهم

مُتَّكِئِينَ و معتمدين عَلَيْهٰا كالملوك، و كونهم مُتَقٰابِلِينَ و متوجّهين بعضهم إلى بعض و مستأنسين بعضهم ببعض

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ و يدور حولهم للخدمة وِلْدٰانٌ و غلمان مُخَلَّدُونَ و مبقون على شكلهم و طراوتهم أبدا.

قيل: إنّهم مخلوقون [للخدمة] في الجنة(3) ، و المخلّدون بمعنى مقرّطون، أو مسوّرون(4).

و قيل: إنّهم أطفال المشركين(5) ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة»(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هم أولاد أهل الدنيا»(7).

و يكون طوافهم

بِأَكْوٰابٍ و أوان - لا عروة لها و لا خرطوم - من الذهب و الجواهر. و قيل: إنّها الأقداح الكبيرة (8)وَ أَبٰارِيقَ و أوان لها عرى و خرطوم تبرق من صفائها وَ كَأْسٍ مملوء من خمر جارية مِنْ مَعِينٍ و منبع في الجنّة.

و قيل: إنّ المعنى كأس مملوء من خمر ظاهره يعاين بالأبصار(9) ، و جمع الأكواب و الأباريق للدلالة على الكثرة، و إفراد الكأس لعدم حاجة شخص واحد إلى أكثر من واحد.

قيل: إنّه يصبّ الخمر من الأكواب في الأباريق، و من الأباريق في الكأس(10).

ثمّ وصف سبحانه خمر الجنة بقوله:

لاٰ يُصَدَّعُونَ و لا يصيبهم وجع الرأس المسبّب منها الصادرة عَنْهٰا كما يصيبهم ذلك من خمر الدنيا وَ لاٰ يُنْزِفُونَ و لا يسكرون.

عن ابن عبّاس: في الخمر أربعة خصال: السّكر، و الصّداع، و القيء، و البول، و ليست في خمر

ص: 145


1- . تفسير الرازي 149:29.
2- . تفسير القرطبي 202:17.
3- . مجمع البيان 327:9.
4- . تفسير روح البيان 321:9.
5- . مجمع البيان 327:9، تفسير الصافي 121:5، تفسير روح البيان 321:9.
6- . تفسير روح البيان 321:9.
7- . مجمع البيان 327:9، تفسير الصافي 121:5.
8- . مجمع البيان 327:9، تفسير الرازي 150:29.
9- . تفسير روح البيان 322:9.
10- . تفسير الرازي 150:29.

الجنّة، بل هي لذّة بلا أذى(1). و قيل: (لا ينزفون) بمعنى لا يفقدون الشراب(2).

وَ فٰاكِهَةٍ مِمّٰا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّٰا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثٰالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (24) ثمّ لمّا كان دأب شاربي خمر الدنيا أكل شيء بعد الشرب من فاكهة أو لحم أو غيرهما، ممّا يغيّر الذائقة، و ساقي الخمر يأتي للشارب بعد الشّرب بأحد الاشياء اللذيذة، عطف سبحانه على قوله:

بِأَكْوٰابٍ وَ أَبٰارِيقَ بقوله

وَ فٰاكِهَةٍ و ثمار لذيذة مِمّٰا يَتَخَيَّرُونَ و يختارون، مع أنّ كلّها خيار

وَ لَحْمِ طَيْرٍ من طيور الجنّة مِمّٰا يَشْتَهُونَ و تميل إليه طباعهم مشويا أو مطبوخا

وَ عندهم حُورٌ و نساء بيض، أو شديد بياض عيونهنّ(3) و سوادها عِينٌ و واسعات الأحداق و هنّ في الصفاء و البياض

كَأَمْثٰالِ اللُّؤْلُؤِ و الدّر اَلْمَكْنُونِ و المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي، و لم تره الأعين، أو المصون ممّا يضرّ بصفاته و شدّة بياضه، و إنّما ننعم عليهم بتلك النّعم العظام لكونها

جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة الصالحة.

لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ تَأْثِيماً (25) إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً (26) وَ أَصْحٰابُ الْيَمِينِ مٰا أَصْحٰابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ مٰاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَ فٰاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاٰ مَقْطُوعَةٍ وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ إِنْشٰاءً (35) فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً (36) عُرُباً أَتْرٰاباً (37) لِأَصْحٰابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) ثمّ ذكر سبحانه ما تلتذ به اسماعهم في الجنّة بقوله:

لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً و باطلا، و كلاما لا ينتفع و لا يعتدّ به وَ لاٰ تَأْثِيماً و كلاما فيه نسبتهم إلى الباطل و المعصية، كقول: أنت فاسق أو سارق، أو شارب خمر محرّم، كما قيل(4).

و عن ابن عباس، قال: لا يقول بعضهم لبعض: أثمت(5).

و عن القمي: يعني الفحش و الكذب [و الغناء](6).

و الحاصل أنّه ليس في الجنة كلام لغو و لا مؤلم لا محقّقا و لا فرضا

إِلاّٰ قِيلاً و كلاما مفروض

ص: 146


1- . تفسير روح البيان 322:9.
2- . تفسير الرازي 152:29، تفسير روح البيان 322:9.
3- . في النسخة: شديدة بياض عيونهم.
4- . تفسير الرازي 158:29 و 159.
5- . مجمع البيان 328:9.
6- . تفسير القمي 348:2، تفسير الصافي 122:5.

اللغوية على الفرض المحال، و هو قول بعض لبعض عند الملاقاة في الجنة، أو حين التوجه، أو قول الملائكة لهم: سلّمت سَلاٰماً أو سلّمك اللّه سَلاٰماً.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن يسمعون سلاما بعد سلام(1) من اللّه، كما قال سبحانه سَلاٰمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (2) أو من الملائكة، كما قال تعالى: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ * سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ بِمٰا صَبَرْتُمْ (3) أو بعضهم على بعض، كما قال تعالى: فَسَلاٰمٌ لَكَ مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ (4) أو المراد أنّهم يفشون السّلام، أو لا يسمع المسلّم و المسلّم عليه إلاّ السّلام بدءا و ردّا(5).

ثمّ شرع سبحانه في بيان حسن حال اصحاب الميمنة بقوله تعالى:

وَ أَصْحٰابُ الْيَمِينِ و ما تدرون مٰا أَصْحٰابُ الْيَمِينِ و أيّ اشخاص هم في العظمة و الكرامة عند اللّه ؟ هم يوم القيامة متمكّنون

فِي جنة ذات سِدْرٍ و شجر نبق، و هو عزيز عند العرب، ورقه في غاية الصّغر، و ثمره محبوب عندهم، و لكن يخالف سدر الدنيا في أنّ له شوكا كثيرا يكسر ورقه، و لولاه لكان أصفى الشجر عند العرب لكثرة أوراقه، و دخول بعضها في بعض، و سدر الجنة بلا شوك، و هو معنى مَخْضُودٍ على ما قيل(6). و قيل: إنّ معنى مخضود منعطف الأغصان إلى الأسفل لكثرة ثمره(7).

وَ ذات طَلْحٍ و شجر موز ورقه في غاية الكبر و مَنْضُودٍ بعضه فوق بعض بحيث لا يكون فصل بين أوراقه. و قيل: منضود حمله و راكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه، ليس له ساق بارز(8).

و قيل: الطلح: شجر أمّ غيلان، له أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة، تقصد العرب منه النّزهة و الزّينة(9).

و عن مجاهد: كان لأهل الطائف واد معجب، فيه الطّلح و السّدر، فقالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية(10).

وَ ذات ظِلٍّ مَمْدُودٍ عريض لا ينتقص أبدا، كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

روى أنّ أوقات الجنة كغدرات الصيف لا يكون فيه حر و لا برد(6).

و في الحديث: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها»(7).

و عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث يصف أهل الجنة قال: «و يتنعمون في جنّاتهم في ظلّ ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و أطيب من ذلك»(8).

ص: 147


1- . تفسير روح البيان 323:9.
2- . يس: 58/36.
3- . الرعد: 23/13 و 24.
4- . الواقعة: 91/56.
5- . تفسير أبي السعود 192:8، تفسير روح البيان 324:9. (6-7-8-9-10) . تفسير روح البيان 324:9.
6- . مجمع البيان 330:9.
7- . تفسير روح البيان 325:9.
8- . الكافي 69/99:8، تفسير الصافي 123:5.

و قيل: إنّ الظّل الممدود كناية عن الراحة الدائمة(1).

وَ ذات مٰاءٍ كثير مَسْكُوبٍ و مصبوب من فوق أينما شاء، و كيفما أراد، فانّ العرب لم يكن لهم مياه ساكبة من العيون التي في الجبال، بل كان مياههم في الآبار و البرك.

و قيل: إن المسكوب بمعنى الجاري في غير اخدود(2). و قيل: إنّه كناية عن الكثرة(3) ، لأنّ الماء لعزّته عند العرب لا يسكب و لا يراق، بل يحفظ و يشرب.

وَ ذات فٰاكِهَةٍ دائمة مبذولة كَثِيرَةٍ * لاٰ مَقْطُوعَةٍ و معدومة في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا صيفيها لا يكون في الشتاء، و شتويها لا يكون في الصيف وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ عن أهلها بسبب من الأسباب.

و في الحديث: «ما قطعت ثمرة من ثمار الجنّة إلاّ أبدل اللّه مكانها ضعفين»(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لمّا دخلت الجنة رأيت في الجنة شجرة طوبى أصلها في دار علي، و ما في الجنة قصر و لا منزل إلاّ و فيها فنن [منها] عليها(5) أسفاط حلل من سندس و استبرق، يكون للعبد المؤمن ألف ألف سفط، و في كلّ سفط مائة حلّة، و ما فيها حلّة تشبه الاخرى، على ألوان مختلفة، و ثياب أهل الجنّة وسطها ظلّ ممدود في عرض الجنة، و عرض الجنة كعرض السماء و الأرض اعدّت للذين آمنوا باللّه و رسله، يسير الراكب في ذلك الظلّ مسيرة مائتي عام فلا يقطعه، و ذلك قوله تعالى: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ و أسفلها ثمار أهل الجنة و طعامهم متدل في بيوتهم، يكون في القضيب منها مائة لون من الفاكهة ممّا رأيتم في دار الدنيا و ممّا لم تروه و ما سمعتم به و ما لم تسمعوا مثلها(6) ، و كلّما يجتنى منها شيء نبتت مكانها اخرى لا مقطوعة و لا ممنوعة»(7).

وَ ذات فُرُشٍ و بسط مَرْفُوعَةٍ القدر على السرر، أو بعضها على بعض من الحرير و الدّيباج، بألوان مختلفة، و حشوها المسك و العنبر و الكافور، رواه في (الكافي)(8) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث صفة أهل الجنّة.

و قيل: ارتفاعها كما بين السماء و الأرض(9).

ص: 148


1- . تفسير روح البيان 325:9.
2- . مجمع البيان 330:9، تفسير أبي السعود 193:8، تفسير روح البيان 325:9.
3- . تفسير الرازي 164:29، تفسير روح البيان 325:9.
4- . تفسير روح البيان 325:9.
5- . في النسخة: و فيها قتر عليها، و في تفسير القمي: و فيها فرع منها أعلاها.
6- . في تفسير الصافي: تسمعوه منها.
7- . تفسير القمي 336:2، تفسير الصافي 123:5.
8- . الكافي 69/97:8، تفسير الصافي 318:4، و 124:5.
9- . تفسير روح البيان 325:9.

و قيل: إنّ الفرش كناية عن الأزواج(1) ، و ارتفاعهنّ كونهنّ على الأرائك، أو رفعتهنّ في الجمال و الكمال، و يؤيده إرجاع الضمير إليهنّ في قوله تعالى:

إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ و خلقناهنّ بغير ولادة إِنْشٰاءً و خلقا عجيبا.

و قيل: إن الفرش بمعناه(2) ، و لمّا كان الفرش التي هي المضاجع دليلة بالالتزام على الأزواج، ذكر أوصافهنّ بلا تصريح بذكرهنّ إشعارا بصونهن و تخدّرهن.

و قيل: إنّ المراد بهنّ حور العين، كما عن القمي و بعض مفسري العامة(3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل من أي شيء خلقن الحور العين ؟ قال: «من تربة الجنّة النورانية»(4).

و قيل: إنّ المراد نساء الدنيا، و المراد من إنشائهنّ إعادة خلقهنّ في الآخرة، لقوله تعالى

فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً (5) و لو كان المراد حور العين كان ذلك الوصف توضيح الواضح.

و في الحديث: «هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهن اللّه بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا»... الخبر(6).

و روى أنّه قالت عجوز من بني عامر: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يدخلني الجنّة. فقال صلّى اللّه عليه و آله مزاحا: «يا امّ فلان، إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز» فولّت و هي تبكي، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أخبروها أنّها لست يومئذ بعجوز» و قرأ: فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً (7).

عُرُباً متحنّنات إلى أزواجهنّ، و متحبّبات إليهم.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن العروبة(8) فقال: «هي الغنجة الرضية الشهية»(9).

و عن القمي، قال: يتكلّمن بلسان العربية(10). و قال به بعض مفسري العامة(11).

أَتْرٰاباً و مستويات في السنّ لأزواجهن، أو بعضهم لبعض، لا تفاوت بينهنّ بصغر و لا كبر، كلّهنّ بنات ثلاث و ثلاثين سنة، أو متماثلات في النّظر إليهنّ. و قيل: يعني متساويات في السن(12)

لِأَصْحٰابِ الْيَمِينِ كما ذكرنا لا يعيّرون ازواجهنّ بكبر السنّ و على التفسيرين الأولين قوله:

لِأَصْحٰابِ الْيَمِينِ متعلق بقوله: إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ و المعنى خلقناهنّ لأصحاب اليمين.

ص: 149


1- . تفسير أبي السعود 193:8، تفسير روح البيان 325:9.
2- . تفسير روح البيان 325:9.
3- . تفسير القمي 348:2، تفسير الصافي 124:5.
4- . تفسير القمي 82:2، تفسير الصافي 124:5.
5- . تفسير روح البيان 326:9.
6- . جوامع الجامع 478، تفسير روح البيان 325:9.
7- . تفسير روح البيان 326:9.
8- . في النسخة: العربي.
9- . تفسير الصافي 124:5.
10- . تفسير القمي 348:2، تفسير الصافي 124:5.
11- . تفسير روح البيان 326:9.
12- . تفسير الرازي 166:29، تفسير أبي السعود 194:8.

ثمّ لمّا نزل قوله في السابقين السابقين

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ بكى بعض الصحابة و قال: يا نبي اللّه، نحن آمنا بك صدّقناك، و لا ينجو منّا إلا قليل! فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (1).

قيل: إنّ الثّلّتين من أمّة نبينا صلّى اللّه عليه و آله، الثلة الاولى الذين كانوا في زمانه، و الثلّة الاخرى الذين جاءوا بعد زمانه(2).

و في الحديث: «أ ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة ؟» قالوا: نعم قال: «أ ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟» قالوا: نعم، قال: «و الذي نفس محمد بيده إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة»(3).

و في رواية عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ جميع الثّلّتين من أمّتي»(4).

أقول: الأظهر أنّ المراد من الأولين امم الأنبياء السابقين من آدم إلى زمان خاتم النبيين، و من الآخرين امّة نبينا صلّى اللّه عليه و آله، كما قلنا أولا، لوضوح أنّ في سائر الامم أصحاب اليمين أيضا، كما أنّ فيهم السابقين، و لدلالة قوله: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» و لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة» ثمّ تلا هذه الآية»(5) ، لوضوح أنّ النصف الآخر و الشطر الآخر لا بدّ أن يكون من سائر الامم.

وَ أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ مٰا أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لاٰ بٰارِدٍ وَ لاٰ كَرِيمٍ (44) ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الفرقة الثالثة الذين عبّر سبحانه عنهم أولا بأصحاب المشأمة، لأنّ فساد الدنيا إنّما هو لشؤم كفرهم و عصيانهم، و عبّر عنهم هنا بقوله:

وَ أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ قيل: لكونهم في شمال العرش(6). و قيل: في شمال المحشر. و قيل: لإعطاء كتاب أعمالهم بشمالهم(7) فيه.

و ما تدرون مٰا أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ و أيّ شيء هم في الذلّة و سوء العاقبة و الحال في الآخرة و شدّة العذاب ؟ أولئك الملعونون في القيامة مستقرّون

فِي سَمُومٍ و نار نافذ في ثقب أجسادهم و منافذ أبدانهم. و قيل: إنّ السّموم ريح حارة عفنة قتّالة وَ في حَمِيمٍ و ماء بالغ منتهى الحرارة

وَ في ظِلٍّ و فيء مِنْ جنس يَحْمُومٍ و دخان أسود كالفحم، أو ظلّ ناشئ من نار

ص: 150


1- . تفسير روح البيان 320:9.
2- . تفسير روح البيان 327:9.
3- . تفسير روح البيان 320:9.
4- . مجمع البيان 331:9، تفسير الصافي 125:5.
5- . مجمع البيان 332:9، تفسير الصافي 125:5، تفسير روح البيان 327:9.
6- . لم نعثر عليه.
7- . مجمع البيان 333:9، تفسير أبى السعود 194:8، تفسير الرازي 168:29.

سوداء. و قيل: إنّ يحموم من أسماء جهنّم(1).

و لمّا كان الظلّ مطلوبا لبرده و استفادة الراحة فيه، وصف الظلّ بضدّ ما يكون مطلوبا له بقوله:

لاٰ بٰارِدٍ ذلك الظلّ وَ لاٰ كَرِيمٍ و نافع و مريح من أذى الحرّ.

قيل: لمّا كان المترفون و المتنعمون يطلبون أحسن الأهوية، و أعذب المياه و أبردها(2) ، القعود في الظلال، بيّن سبحانه أنّهم إذا طلبوا الهواء الطيب يهبّ عليهم السّموم، و إذا أرادوا دفع حرقته بالماء البارد كان ماؤهم حميما، و إذا أرادوا أن يستكنوا و يدفعوا عن أنفسهم السّموم يكونون في ظلّ من يحموم.

و قيل: إنّ السموم يحرقهم فيعطشون، فيشربون من الحميم فيقطّع أمعاءهم، و يستظلّون منه، فيكون ظلّهم من يحموم(3).

إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَ كٰانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كٰانُوا يَقُولُونَ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ آبٰاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّٰالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشٰارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشٰارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) ثمّ بيّن سبحانه سبب استحقاقهم ذلك العذاب بقوله:

إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ اليوم في الدنيا مُتْرَفِينَ و متنعّمين بالنّعم الدنيوية فألهتهم عن ذكر اللّه و كفروا نعمه

وَ كٰانُوا مع ذلك يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ و الذنب اَلْعَظِيمِ و هو الشّرك باللّه العظيم، و يكذّبون الأنبياء الذين يدعونهم إلى التوحيد و الإقرار بالمعاد

وَ كٰانُوا يَقُولُونَ إنكارا لهم و استبعادا لقولهم بالبعث بعد الموت: أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا بعد الموت تُرٰاباً وَ عِظٰاماً نخرة بالية أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ من القبور، و مخرجون منها أحياء؟

أَ وَ يبعث آبٰاؤُنَا الْأَوَّلُونَ و أجدادنا السابقون بعد تفرّق أجزاء ترابهم في أقطار الأرض، و اختلاطها بغيرها من التراب ؟ و في إعادة الاستفهام مبالغة في الإنكار.

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله:

قُلْ يا محمد لهم: نعم إِنَّ الامم اَلْأَوَّلِينَ و السابقين من لدن آدم إلى زمانكم هذا وَ الامم اَلْآخِرِينَ الذين يأتون إلى يوم فناء الدنيا

ص: 151


1- . مجمع البيان 333:9، تفسير أبى السعود 194:8، تفسير الرازي 168:29.
2- . مجمع البيان 333:9، تفسير أبى السعود 194:8، تفسير الرازي 168:29.
3- . تفسير الرازي 168:29.

لَمَجْمُوعُونَ بعد الاحياء في المحشر، و مبعوثون لا محالة إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ و وقت واحد معين مَعْلُومٍ عند اللّه لا يعلمه غيره، و هو يوم القيامة.

ثُمَّ بعد الإحياء و البعث إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّٰالُّونَ عن طريق الحقّ و المنحرفون عن مسلك الصواب اَلْمُكَذِّبُونَ للرسل إخبارهم بالبعث بعد الموت، و اللّه

لَآكِلُونَ بعد البعث و الجمع و دخول جهنّم مِنْ شَجَرٍ من أشجار جهنّم، أعني مِنْ شجر زَقُّومٍ و هو شجر كريه المنظر، مرّ الطعم، حار في اللّمس منتن في الرائحة، و لا يقنع منه بالأكل من تلك الأشجار و الثمار، بل يجبرون على الإكثار من أكلها

فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا كرها اَلْبُطُونَ أو لشدّة الجوع، فيعطشون من حرارة الزّقّوم و حرقته

فَشٰارِبُونَ أنتم بعد أكله عَلَيْهِ شرابا مِنَ الْحَمِيمِ و الماء الحار البالغ منتهى الحرارة

فَشٰارِبُونَ أنتم منه كرها و جبرا شُرْبَ الْهِيمِ و الجمال التي بها داء الاستسقاء، لا تروي من الماء حتى تموت، أو مثل شرب الرمال التي لا تتماسك.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الهيم، قال: «الابل»(1) و في رواية: «إنّه الرّمل»(2).

و حاصل المعنى على ما قيل: أنّه يسلّط عليكم أيّها الضالّون من الجوع ما يضطرّكم إلى أكل الزقّوم الذي هو كالمهل، فاذا ملأتم منه بطونكم، و هو في غاية المرارة و الحرارة، سلّط عليكم من العطش ما يضطرّكم إلى شرب الحميم الذي يقطّع أمعاءكم ثمّ يلزمونكم على أن تشربوا منه، و لا يكون شربكم شربا معتادا، بل يكون شربكم مثل شرب الجمل الذي به مرض العطاش، أو مثل شرب كثيب الرّمل.

هٰذٰا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنٰاكُمْ فَلَوْ لاٰ تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخٰالِقُونَ (59) ثمّ بيّن سبحانه أن ما ذكر ليس جميع عذابهم، بل هو أوّل ما يلقونه يوم القيامة بقوله:

هٰذٰا المذكور نُزُلُهُمْ و أوّل ما يهيّأ لهم يَوْمَ الدِّينِ و وقت الجزاء على الضلال و تكذيب الرسل و البعث، و بعد ما استقروا في الجحيم أشدّ و أشقّ، و فيه من التهكّم ما لا يخفى، فانّ النّزل ما يعدّ تكرمة للضيف أوّل وروده.

ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على صحّة البعث و صدق الرسل في إخبارهم به بقوله:

نَحْنُ

ص: 152


1- . المحاسن: 32/576-34، معاني الأخبار: 3/150، تفسير الصافي 126:5.
2- . المحاسن: 36/577، معاني الأخبار: 3/150، تفسير الصافي 126:5.

بقدرتنا خَلَقْنٰاكُمْ أوّل مرة، فاذا علمتم ذلك فَلَوْ لاٰ تُصَدِّقُونَ الرسل في قولهم بالبعث، و هلا تقرّون بخلقكم ثاني مرّة ؟ مع أنّه في نظركم أهون و أسهل، و إن أنكرتم أنّكم مخلوقون بقدرتنا، و قلتم: إنّا موجودون من المنيّ بتأثير الطبيعة أو الكواكب فيه، نقول:

أَ فَرَأَيْتُمْ و أخبروني عن مٰا تُمْنُونَ و تدفقون من المنيّ في ارحام النساء، فانّه لا بدّ له من خالق يخلقه في أصلابكم

أَ أَنْتُمْ بقدرتكم تَخْلُقُونَهُ في أصلابكم أَمْ نَحْنُ الْخٰالِقُونَ لذلك المنيّ من غير دخل شيء في خلقه و تقديره في الأصلاب و أطواره و تصويره في الأرحام ؟ لا مجال لأحد إلاّ القول بأنّا خالقه، و إلا لتسلسل، فمن خلقه و صوّره في ظلمات ثلاث و أحياه، قادر على إحيائكم ثانيا بعد موتكم.

نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثٰالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولىٰ فَلَوْ لاٰ تَذَكَّرُونَ (62) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أن الخلق بقدرته، لا دخل لأحد فيه، أثبت أنّ الموت أيضا بقدرته، ليس قدرته على الخلق و الإحياء فقط، بل الحياة و الموت كلاهما بقدرته و إرادته بقوله:

نَحْنُ قَدَّرْنٰا و جعلنا، أو قسّمنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ بقدرتنا و مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة وَ مٰا نَحْنُ في آن من الآنات بِمَسْبُوقِينَ و غير قادرين

عَلىٰ أَنْ نعدمكم و نميتكم و نُبَدِّلَ منكم أَمْثٰالَكُمْ و نخلق عوضا منكم في مكانكم أشباهكم في الخلق.

و قيل: قوله: عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ (1) و المعنى: نحن قدّرنا بينكم الموت، لكن لا بأن نهلككم دفعة واحدة، بل قدّرنا بأن نميتكم و نجعل بدلكم في الأرض مثلكم مدّة طويلة ثم نهلككم جميعا وَ نُنْشِئَكُمْ و نخلقكم ثانيا فِي مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ من الوقت و الزمان و فيه تحريص على الايمان و العمل الصالح، و الإعداد ليوم لا يعلم وقوعه في أي وقت.

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولىٰ و الخلق الأول في دار الدنيا، حيث إنّه خلقكم أولا من تراب، ثمّ من نطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من مضغة ثمّ جعلكم عظاما، ثمّ كسا العظام لحما، ثمّ جعلكم خلقا ذا حياة و قوة و قدرة و شعور فَلَوْ لاٰ و هلاّ تَذَكَّرُونَ و تعتبرون أنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى و الخلق الآخر؟

في الخبر: «عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الآخرة، و هوى يرى النشأة الاولى»(2). و عن

ص: 153


1- . تفسير الرازي 179:9.
2- . تفسير روح البيان 331:9.

السجاد عليه السّلام ما يقرب منه(1).

أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ (64) ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال على المعاد بقدرته على الخلق الأول، استدلّ بقدرته على خلق ما يحتاجون إليه في بقائهم من المأكول بقوله:

أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ و أخبروني عمّا تبذرون من الحبوب كالحنطة و الشعير و نحوهما

أَ أَنْتُمْ بقدرتكم تَزْرَعُونَهُ و تنبتونه من الأرض، و تبلغونه إلى الثمر المقصود أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ و المنبتون له من الأرض، و المبلغون له إلى الثمر بحيث تنتفعون به و تأكلونه ؟

في الحديث «لا يقولنّ أحدكم: زرعت، بل يقول: حرثت، فانّ الزارع هو اللّه تعالى»(2).

قيل: يستحبّ لمن ألقى في الأرض بذرا أن يقرأ بعد الاستعاذة: أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ إلى قوله:

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (3) ثمّ يقول اللّه الزارع و المنبت و المبلغ اللهم صلّ على محمد و آل محمد، و ارزقنا ثمره، و اجنبنا ضرره، و اجعلنا لأنعمك من الشاكرين فانّ الدعاء أمان لذلك الزرع من جميع الآفات(4).

و حاصل الآية أنّ من قدر على إنبات الزرع من الأرض، قادر على خلق الانسان من النّطفة المستديرة الباقية في القبر.

لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰاهُ حُطٰاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشٰاءُ جَعَلْنٰاهُ أُجٰاجاً فَلَوْ لاٰ تَشْكُرُونَ (70) ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على حفظ الزرع إلى بلوغ الثمر بقوله:

لَوْ نَشٰاءُ بعد إنبات الزرع و استوائه على سوقه لَجَعَلْنٰاهُ و صيّرناه حُطٰاماً و يابسا منكسرا متفتّتا فَظَلْتُمْ و بقيتم بسبب فساد زرعكم تَفَكَّهُونَ و تتحدّثون بعجيب ما رأيتم من فساد الزرع بعد ما كان على أحسن الحال من النمو و الاشراف على الثمر، أو تندمون على ما انفقتم فيه، و ما بذلتم فيه من غاية الجهد، و تقولون:

يا قوم

إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ و متضرّرون بفساد زرعنا أو مهلكون بهلاك رزقنا

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ من

ص: 154


1- . الكافي 28/258:3، تفسير الصافي 127:5.
2- . مجمع البيان 337:9، تفسير الصافي 127:5، تفسير روح البيان 332:9.
3- . الواقعة: 67/56.
4- . تفسير روح البيان 332:9.

حظّنا، و ممنوعون من رزقنا.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته الكاملة بإنزال ما يشربونه من الماء العذب بقوله:

أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ و أخبروني عنه

أَ أَنْتُمْ بقدرتكم أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ و السّحاب المتّصل بالماء أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ له بقدرتنا لشربكم الذي هو أهمّ منافعكم، و به بقائكم ؟

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته بقوله:

لَوْ نَشٰاءُ عدم استقائكم جَعَلْنٰاهُ و صيّرناه أُجٰاجاً و مرّا من شدّة الملوحة، فلا يمكنكم شربه فَلَوْ لاٰ و هلاّ تَشْكُرُونَ اللّه على إكمال نعمة مأكولكم بنعمة مشروبكم ؟ قيل: تصدير جزاء الشرطية الأولى باللام للدلالة على أن سلب نعمة المأكول أشدّ على [الانسان من سلب] نعمة المشروب، لكون الحاجة إلى المشروب تبع للحاجة إلى المأكول(1).

عن ابن عباس: أنّ تحت العرش بحر تنزل [منه] أرزاق الحيوانات ن يوحي اللّه إليه ما شاء من السماء إلى السماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ثمّ يوحي اللّه إلى سماء الدنيا أن غربليه فتغربله، فليس من قطرة تقطر إلاّ و معها ملك يضعها موضعها، و لا تنزل من السماء قطرة إلاّ بكيل معلوم و وزن معلوم، إلاّ ما كان من يوم الطّوفان، فانّه نزل بغير كيل و وزن(2).

أَ فَرَأَيْتُمُ النّٰارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْنٰاهٰا تَذْكِرَةً وَ مَتٰاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) ثمّ استدلّ سبحانه بالنار المنقدحة من الزّناد بقوله:

أَ فَرَأَيْتُمُ النّٰارَ الَّتِي تُورُونَ و أخبروني عن البرقة التي تقدحونها و تخرجونها من عودين يحك أحدهما بآخر

أَ أَنْتُمْ أيّها العرب أَنْشَأْتُمْ و أوجدتم بقدرتكم شَجَرَتَهٰا التي منها الزّند و الزّندة، و هي المرخ و العفار(3) ؟ و قيل: اريد مطلق الشجر الذي يصلح للإيقاد (4)أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ و الموجدون لها بقدرتنا؟

ثمّ بيّن سبحانه منافع النار بقوله:

نَحْنُ بقدرتنا و حكمتنا جَعَلْنٰاهٰا تَذْكِرَةً و منبها لصحة البعث، حيث إنّ من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر، قادر على أن يخلق في بدن الميت حرارة غريزية يحيا بها الميت، أو تذكرة لنار القيامة، فيخشى العاقل من عذاب ربّه إذا رأى النار الموقدة وَ مَتٰاعاً و منفعة مهمة لِلْمُقْوِينَ و المسافرين الذين ينزلون البوادي و القفار، فانّهم اشدّ

ص: 155


1- . تفسير روح البيان 334:9.
2- . تفسير روح البيان 334:9.
3- . المرخ: شجر سريع الوري يقتدح به. و العفار: شجر يتّخذ منه الزّناد.
4- . تفسير الرازي 184:29.

حاجة بالنار لحفظهم من السباع و دفع البرد و غير ذلك. و قيل: يعني للذين أوقدوها و قوّوها(1) ، أو للذين خلت بطونهم، أو مزاودهم(2) من الطعام، و في تقديم التذكرة إشعار بأهمية المنافع العقلية من المنافع الجسمانية.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ثمّ لمّا أثبت سبحانه التوحيد و المعاد، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتنزيهه عن الشريك و ترك إعادة الخلق للحساب بقوله تعالى:

فَسَبِّحْ يا محمد بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ و ذاته المقدسة عمّا لا يليق به من الشريك، و خلق العالم عبثا، و عدم إعادة الخلق للحساب و الجزاء، و في إضافة التسبيح إلى اسمه دلالة على نهاية عظمة المسمّى، و الظاهر أنّ المراد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتسبيح اللّه و إقران تسبيحه بذكر اسم ربّه العظيم، بأن يقول: سبحانه ربّي العظيم.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا نزلت الآية قال: «اجعلوها في ركوعكم»(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و المعاد بالأدلة القاطعة، و كان ذلك دليلا على صحّة نبوة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و صدق القرآن، و لم يبق مجال للاستدلال عليهما لوضوحهما، أقسم سبحانه عليهما بقوله:

فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ التي في السماء و مساقطها. قيل: هي مشارقها و مغاربها، أو مغاربها وحدها، أو منازلها و بروجها، أو مساقطها في اتّباع الشياطين، أو في القيامة حين انتشارها(4).

و قيل: إنّ المراد بالنجوم معاني الآيات و أحكامها التي وردت فيها.

قيل: إن كلمة (لا) زائدة يجاء بها لتأكيد القسم(5). و قيل: إنّ الأصل لأقسم بلام التأكيد، اشبعت فتحتها فصارت (لا)(6) و قيل: إنّها نافية على أصلها(7) ، و المنفي محذوف، و التقدير: فلا صحة لقول الكفار من انكار البعث، أو كون القرآن كلام البشر، اقسم عليه بمواقع النجوم: و قيل: إنّ المعنى لا اقسم لظهور الأمر و وضوحه(5) ، و إلا لكنت اقسم بمواقع النجوم، و فيه دلالة بناء عليه على ظهور الأمر و الحلف عليه. و عن الصادق عليه السّلام قال: «كان أهل الجاهلية يحلفون بها، فقال اللّه عزّ و جلّ: فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ (6).

ص: 156


1- . تفسير الرازي 184:29.
2- . المزاود: جمع مزود: وعاء الزاد.
3- . مجمع البيان 339:9، تفسير الصافي 128:5.
4- . تفسير الرازي 188:29. (5-6-7) . تفسير الرازي 187:29.
5- . تفسير أبي السعود 199:8، تفسير روح البيان 336:9.
6- . الكافي 4/450:7، تفسير الصافي 128:5.

و عنهما عليهما السّلام: «أن مواقع النجوم رجومها للشياطين، فكان المشركون يقسمون بها، فقال سبحانه:

فلا اقسم بها»(1).

و قال الطريحي: في الحديث يعني به اليمين بالبراءة من الأئمة عليهم السّلام، يحلف بها الرجل، يقول: إنّ ذلك عند اللّه عظيم(2) ، و هو قوله:

وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (3) .

قيل: إنّ المعنى: ليس تركي للقسم بمواقع النجوم لأجل أنّه ليس بقسم(4) ، أو ليس بقسم عظيم، بل لأنّي أريد بتركي القسم به أن اقسم بأعظم منه لغاية جزمي بصحّة المقسم عليه(5) ، و إنّ القسم بمواقع النجوم عظيم لو تعلمون عظمته، أو لو كنتم من أهل العلم لصدّقتموني(6).

و لمّا كان المقسم به - و هو اختلاف مواقع النجوم و مغاربها - دليلا على كمال قدرة اللّه، استدلّ بها بصورة القسم، كأنّ المعنى: لو تعلمون أنّ اختلافها ليس إلاّ لكونها تحت قدرة القادر المختار الحكيم، لاعترفتم بمدلوله، و هو توحيد اللّه و قدرته على كلّ شيء، و منه حشر الأجساد البالية.

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ (78) لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ (80) أَ فَبِهٰذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه، و هو كون القرآن كلام اللّه بقوله:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ متلوّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله من جانب اللّه، و هو كَرِيمٌ و ذو فضل عميم و نفع عظيم في الدنيا و الآخرة، لاشتماله على اصول العلوم و صلاح المعاش و المعاد، أو حسن مرضيّ من الكتب، أو ذو كرامة عند اللّه، و لذا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو مكتوب

فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ و مصون عن أن تناله أيدي الثقلين، أو محفوظ عن التغيير و التبديل، أو مستور عن أعين غير المقرّبين من الملائكة، و هو اللّوح المحفوظ، و فيه ردّ على المشركين القائلين بأنّه كلام البشر، أو شعر أو سحر و كهانة.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان عظمة شأنه عنده بقوله:

لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ من الأخباث و الأحداث، و هم الملائكة المنزهون عن الادناس الجسمانية، و المؤمنون المنظفون عن الأحداث البشرية.

ص: 157


1- . مجمع البيان 341:9، تفسير الصافي 128:5.
2- . من لا يحضره الفقيه 1123/237:3، تفسير الصافي 128:5.
3- . مجمع البحرين 1961:3 - وقع -
4- . تفسير الرازي 190:29.
5- . تفسير الرازي 190:29.
6- . تفسير الرازي 189:29.

عن الكاظم عليه السّلام قال: «المصحف لا تمسّه على غير طهر و لا جنبا، و لا تمسّ خيطه، و لا تعلّقه، إنّ اللّه تعالى يقول: لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» (1).

و في (الاحتجاج): لمّا استخلف عمر سأل عليا عليه السّلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرّفوه فيما بينهم، فقال: يا أبا الحسن، إن جئت بالقرآن الذي جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه ؟ فقال عليه السّلام:

«هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنّما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجّة عليكم، و لا تقولوا يوم القيامة:

إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: ما جئتنا به، فانّ القرآن الذي عندي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، و هم الأوصياء من ولدي. فقال عمر: فهل لإظهاره وقت معلوم ؟ فقال: نعم، إذا قام القائم من ولدي يظهره و يحمل الناس عليه، فتجري السنة به»(2).

أقول: المراد من التحريف تغيير ما كتبه أمير المؤمنين من التفسير و التأويل، لا تغيير ألفاظ الآيات التي نزلت من السماء، و من و قوله (لا يمسّه إلاّ المطهّرون و هم الأوصياء) بيان تأويله و بطنه لا تنزيله.

و قيل: إنّه وصف الكتاب المكنون، و هو اللوح المحفوظ(3) ، و الأصحّ الأول، لقوله:

تَنْزِيلٌ و منزّل هذا القرآن مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ و في نسبة تنزيله إلى ذاته مع توصيفها بربّ العالمين دلالة على غاية عظمة القرآن المنزّل منه، و كونه من شئون ربوبيته لجميع الموجودات.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على إهانتهم بهذا الكتاب العظيم بقوله:

أَ فَبِهٰذَا الْحَدِيثِ الذي هو أحسن الحديث، و هذا القرآن الذي هو أعظم الكتب السماوية أَنْتُمْ ايّها المشركون مُدْهِنُونَ و تكذّبون، أو تهينون

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ و معاشكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ محمدا و كتابه، أو المراد تجعلون شكر رزقكم و نعم ربّكم تكذيبكم بمن أنزله عليكم و رزقكم نعمه بأن تنسبونها إلى الأنواء.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قرأ الواقعة فقال: (تجعلون شكركم أنّكم تكذّبون) فلمّا انصرف قال:

«إنّي قد عرفت أنّه سيقول قائل: لم قرأ هكذا قرأتها، لأني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرؤها كذلك، و كانوا إذا امطروا قالوا: امطرنا بنوء كذا، فأنزل اللّه تعالى: (تجعلون شكركم أنكم تكذبون)(4).

و عن الصادق عليه السّلام في الآية قال: (و تجعلون شكركم)(5).

أقول: في الرواية العلوية دلالة واضحة على اشتهار قراءة وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ في الصدر الأول، فيمكن أن تكون قراءة (? شكركم) تفسيرا للآية، كما فسّرها به كثير من المفسّرين، أو يكون نزول

ص: 158


1- . التهذيب 344/127:1، تفسير الصافي 129:5.
2- . الاحتجاج: 156، تفسير الصافي 129:5.
3- . تفسير الرازي 192:29.
4- . تفسير القمي 349:2، تفسير الصافي 129:5.
5- . تفسير القمي 350:2، تفسير الصافي 130:5.

الآية على النحوين (رزقكم) و (شكركم).

و الذي يهوّن الخطب أن الروايتين لا حجّية فيهما، لكونهما أخبار آحاد، و غير قطعيتين، و عدم ترتّب عمل عليهما، بل عدم جوازه، لوضوح عدم حرمة مسّ (شكركم) إذا كتب بدل (رزقكم) و عدم جواز قراءته في الصلاة، أو في غير الصلاة بقصد القرآنية.

و من المعلوم أنّ هذا النحو من الحذف و الوصل كثير في القرآن المجيد، و قد ورد أنّ الآية توبيخ لمن نسب الأمطار و الأرزاق إلى الأنواء، و هي منازل القمر، أو النجوم التي يسقط واحد منها عند طلوع الفجر في جانب المغرب، و يطلع رقيبه من ساعته في جانب المشرق، و كانت العرب تنسب الأمطار و الرياح إلى الساقط أو إلى الطالع منها، و هو الشّرك باللّه العظيم، و تكذيب لقوله: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ (1) و قوله: أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (2) إلى غير ذلك.

فَلَوْ لاٰ إِذٰا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لٰكِنْ لاٰ تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لاٰ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (87) ثمّ بيّن سبحانه أنّهم لا يبقون على ذلك التكذيب و القول بالأنواء عند الموت و حين انكشاف حقائق الامور بقوله:

فَلَوْ لاٰ و هلاّ تقولون أيّها المشركون هذه الأقوال الشنيعة إِذٰا بَلَغَتِ أرواحكم اَلْحُلْقُومَ و مجرى النفس، و تداعت إلى الخروج من أبدانكم

وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إلى ما أنتم فيه من غمرات الموت، و لو كان ما تقولونه لكان الواجب أن تقولنه في ذلك الوقت الذي هو زمان ظهور الواقعيات و رفع حجاب الجهل و الشّبهات.

و قيل: إنّ الخطاب للحاضرين عند المحتضر(3) ، و المعنى و الحال أنّكم في ذلك الوقت حاضرون عند من بلغت الروح حلقه، و تنظرون إلى ما هو فيه من سكرات الموت، و تعطفون عليه غاية العطوفة، و تشتاقون إلى أن تنجونه من الموت و الهلاك

وَ مع كمال قربكم منه نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ في تلك الحال، و في جميع الأحوال علما و قدرة و تصرفا، حيث إنّا متولّون لجميع أحواله وَ لٰكِنْ لاٰ تُبْصِرُونَ و لا تدركون قربنا إليه و إحاطتنا به، و كونه بشراشر وجوده تحت قدرتنا و تصرفنا.

ص: 159


1- . الشورى: 28/42.
2- . الواقعة: 68/56.
3- . تفسير البيضاوي 464:2، تفسير الصافي 130:5، تفسير روح البيان 339:9.

ثمّ أكّد سبحانه تحضيضهم بتكرار كلمة التحضيض بقوله:

فَلَوْ لاٰ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ و غير مملوكين و مقهورين تحت قدرتنا، أو غير مجزيين بأعمالكم في الآخرة، تعيدون أنفسكم و

تَرْجِعُونَهٰا إلى الدنيا كما كنتم في الدنيا مختارين في الذهاب، و الإياب و القعود في الأماكن، و حاصل المعنى، و اللّه أعلم: إنّ كنتم غير مملوكين و مخلوقين لنا، أو غير مجزيين في دار الآخرة، أو غير مقيمين فيها لاستيفاء جزاء الأعمال، لم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا، لوضوح أنّه لو لا المقهورية تحت قدرتنا، أو إرادتنا بقاءكم في الآخرة للجزاء، لكنتم مختارين في الرجوع إلى الدنيا، أو إرجاع أنفسكم بعد بلوغها إلى الحلقوم إلى ابدانكم، كما كنتم مختارين في الرجوع إلى أيّ مكان تريدون، أو أي عمل تهوون إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في دعوى كونكم غير مخلوقين للّه، أو غير مجازين في الآخرة، أو غير مقيمين في العذاب، كما قالت اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودَةً.

فَأَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحٰانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلاٰمٌ لَكَ مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّٰالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات الحشر، و ذكر حال النّزع، بيّن حال الفرق من الناس بعد خروج روحهم، أو في المحشر بقوله تعالى:

فَأَمّٰا إِنْ كٰانَ الذي بلغت روحه حلقومه، أو حشر في المحشر مِنَ الْمُقَرَّبِينَ من اللّه، السابقين إلى الإيمان و الطاعة في الدنيا

فَرَوْحٌ و راحة دائمة، أو رحمة أبدية، أو فرح بسبب لقاء اللّه وَ رَيْحٰانٌ و رزق طيب مرضيّ، أو ورق، أو زهر طيب الرائحة وَ جَنَّةُ الخلد التي ذات نَعِيمٍ لا يوصف.

عن الصادق عليه السّلام قال: «فَرَوْحٌ وَ رَيْحٰانٌ يعني في قبره وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ يعني في الآخرة»(1).

وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ المتوفّى مِنْ جملة أَصْحٰابِ الْيَمِينِ و أهل اليمن و السعادة، أو الواقفين عن يمين العرش، أو يمين المحشر، أو الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم

فَسَلاٰمٌ و أمان ابدي من جميع الآفات و المكروهات لَكَ يا صاحب اليمن و السعادة و الكرامة مِنْ أَصْحٰابِ الْيَمِينِ.

قيل: إنّ المراد أنّ اصحاب اليمين كلّ يبشّر الآخر بالسلامة من المكاره، كما دلّ عليه قوله تعالى: لاٰ

ص: 160


1- . تفسير القمي 350:2، أمالي الصدوق: 455/365 و: 753/561، تفسير الصافي 130:5.

يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ تَأْثِيماً إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً (1) أو المراد سلام التحية، و المقصود أنّ أصحاب اليمين يسلّم بعضهم على بعض(2).

و قيل: إنّ خطاب (لك) إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و المراد بيان عدم حاجتهم إلى الشفاعة، و المعنى: فسلام لك يا محمد لا يهمّك أمرهم، فانّهم في سلامة و عافية(3). أو المراد أنّ أصحاب اليمين يسلّمون عليك يا محمد، و فيه دلالة على عظمتهم، فانّ العظيم لا يسلم عليه إلاّ العظيم - كذا قيل - (4) و على أنّ أصحاب اليمين و إن كان مكانهم دون المقرّبين، إلاّ أنه لا ينقطع بينهم التسليم و المكالمة، كما أنّهم يسلمون عليك.

وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ المتوفّى مِنَ الكفار اَلْمُكَذِّبِينَ للرسل في دعوى الرسالة و التوحيد و البعث من جهة كونهم من اَلضّٰالِّينَ و المنحرفين عن طريق الحق و الهدى، أو الواقفين عن شمال العرش، أو المحشر، المؤتين كتابهم(5) بشمالهم.

عن الباقر عليه السّلام: «فهولاء المشركون»(6).

فَنُزُلٌ و ما أعد لهم حين ورودهم علينا، كائن مِنْ حَمِيمٍ و ماء متناه في الحرارة تقطّع به أمعاءهم. قيل: هذا في قبره

وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ و إلقاء في النار، و هذا في الآخرة، كما عن الصادق عليه السّلام(7).

إِنَّ هٰذٰا المذكور في هذه السورة المباركة، أو أصناف الناس و جزاؤهم في الآخرة، و اللّه لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ و الثابت الذي لا ريب فيه(8) ، و الثابت المتيقن أو حقّ الخبر(9) اليقين، أو الثابت الذي لا يطرأ عليه التبديل و التغيير. و قيل: يعني يقين حق اليقين(10).

ثمّ لمّا كان حقّية ما في السورة الكريمة ممّا يوجب تنزّهه تعالى عن الشرك و الكذب و سائر ما لا يليق بربوبيته تعالى، رتّب على بيان ما في السورة أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتسبيحه و تنزيهه بقوله تعالى:

فَسَبِّحْ يا محمد بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ و قد مرّ تفسيره أو المراد فسبّح شكرا لما أنزلت إليك من المطالب العالية التي ما نزلت على غيرك من الرسل.

و قيل: لمّا بيّن سبحانه الحقّ، و امتنع الكفّار عن قبوله، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتسبيحه و تنزيهه(11) ، و المراد إن امتنع الكفّار من قبول ما فصّل في السورة، فلا تتركهم و لا تعرض عنهم، و سبّح ربّك في نفسك، و ما

ص: 161


1- . تفسير الرازي 202:29، و الآية من سورة الواقعة: 25/56.
2- . تفسير روح البيان 341:9.
3- . تفسير الرازي 202:29.
4- . تفسير الرازي 202:29.
5- . في النسخة المؤتون كتابتهم.
6- . الكافي 1/25:2، تفسير الصافي 131:5.
7- . تفسير القمي 350:2، امالي الصدوق: 455/366، و: 753/561، تفسير الصافي 131:5.
8- . في النسخة: التي لا ريب فيها.
9- . في النسخة: بالخبر.
10- . تفسير روح البيان 342:9.
11- . تفسير الرازي 204:29.

عليك إن صدّقوك أو كذّبوك.

روي أنّ عثمان بن عفان عاد عبد اللّه بن مسعود في مرض موته، فقال له: ممّا تشتكي ؟ قال: أشتكي من ذنوبي. قال: عثمان: ما تشتهي ؟ قال: رحمة ربّي. قال: أ فلا تدعو الطبيب ؟ قال: الطبيب أمرضني.

قال: أ فلا آمر لك بعطائك ؟ قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه، تعطينيه و أنا مستغن عنه! قال: أجعل عطاءك بعدك لبناتك ؟ قال: لا حاجة لهن فيه؛ لأنّي علمتهنّ سورة الواقعة يقرأنها بعد العشاء، و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ سورة الواقعة بعد العشاء لم تصبه فاقة»(1).

و في رواية، قال: «من قرأ سورة الواقعة [في كل ليلة] لم تصبه فاقة أبدا»(2).

و في حديث آخر: «من داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبدا»(3).

و عن الغزالي: أنّ قراءة هذه السورة عند الشدّة في أمر الرزق و الخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن الصحابة(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ الواقعة كلّ ليلة قبل أن ينام لقي اللّه عزّ و جلّ و وجهه كالقمر ليلة البدر»(5).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسيرها، و أسأله التوفيق لتلاوتها.

ص: 162


1- . مجمع البيان 321:9، تفسير روح البيان 343:9.
2- . مجمع البيان 321:9، تفسير البيضاوي 465:2، تفسير أبي السعود 202:8.
3- . تفسير روح البيان 344:9.
4- . تفسير روح البيان 344:9.
5- . ثواب الأعمال: 117، مجمع البيان 321:9، تفسير الصافي 131:5.

في تفسير سورة الحديد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لأحوال الفرق الثلاثة المقرّبين، و أصحاب اليمين، و المكذّبين الضالين، المختتمة بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتسبيح، نظمت سورة الحديد المتضمّنة لأحوال الفرق الثلاث المؤمنين المخلصين، و المنافقين، و الكفّار، المبدوءة ببيان تسبيح الموجودات، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ثمّ شرع فيها ببيان تسبيح جميع الموجودات بقوله:

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ كأنّه قال تعالى: سبّح يا محمد باسم ربك العظيم، كما أنّ جميع الموجودات سبّحته خالصة(1) له بلسان الحال و المقال، كما سمع حنين الجذع، و ذكر بعض الجمادات. و قيل: إنّ المراد بما في السماوات و الأرض الموجودات الأحياء العقلاء، كالملائكة و حملة العرش و الجنّ و الإنس(2).

ثمّ بيّن سبحانه صفاته الموجبة لتسبيحه و تنزيهه عن النقائص الإمكانية بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، و لا يغلبه شيء اَلْحَكِيمُ و العالم بجميع مصالح الأشياء و مفاسدها، و الفاعل لما هو الأصلح و الأصوب بنظام العالم

لَهُ خاصة مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و السلطنة التامة المطلقة على جميع الممكنات، و التصرّف الكلّي، و نفوذ الإرادة فيها إيجادا و إعداما، و تغييرا و تقلّبا، و من آثار سلطنته أنّه يُحْيِي الميت وَ يُمِيتُ الحيّ، كما تشاهدون في حياة النّطف و موت الحيوانات.

ثمّ نبّه على عدم اختصاص قدرته بالاحياء و الاماتة بقوله: وَ هُوَ تعالى عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء المتصوّرة و غير المتصوّرة، و كلّ فعل من الأفعال الممكنة قَدِيرٌ بذاته، بلا حاجة إلى

ص: 163


1- . في النسخة: سبّحه خالصا.
2- . تفسير الرازي 207:29.

معاون و معاضد و إله و مادة و مدة، و من المعلوم أنّ من له هذه القدرة الكاملة و العلم الشامل، و الغناء و السلطان الدائم، مستحقّا للتنزيه عن العجز و الجهل و الحاجة و الفقر بحكم العقل.

هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّٰاهِرُ وَ الْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1) ثمّ وصف سبحانه ذاته بالأزلية و الأبدية المساوقتين لوجوب الوجود بقوله:

هُوَ تعالى الموجود اَلْأَوَّلُ الذي لا أول له، و السابق الذي لم يسبقه شيء في الوجود، و الكائن الذي لا كينونية لشيء قبل كينونيّته وَ الْآخِرُ الذي لا آخر له و لا متأخّر عنه، و الباقي الذي لا فناء له و لا زوال وَ الظّٰاهِرُ و المشهود بالصفات و الآثار وَ الْبٰاطِنُ و الخفيّ بالذات و الكنه.

قيل: يعني هو الأول في سلسلة الموجودات، و الآخر لها بحيث ينتهي إليه كلّ شيء، و الظاهر يعني الغالب على كلّ شيء، و الباطن يعني العالم ببواطن كلّ شيء(2).

و قيل: إنّه أول لأنّه قبل كلّ شيء، و إنّه آخر لأنّه بعد كلّ شيء(3) ، و إنّه ظاهر بحسب الدلائل، و إنّه باطن لأنّه لا يدرك بالحواس.

روي أنّ فاطمة الزهراء عليها السّلام دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألته خادما فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لا أدلّك على ما هو خير لك من ذلك ؟» قالت: «نعم». قال: «قولي: اللهم ربّ السماوات السبع و رب العرش العظيم، و ربّنا و ربّ كلّ شيء، منزل التوراة و الانجيل و الفرقان، فالق الحبّ و النّوى، أعوذ بك من شرّ كلّ ذي شرّ أنت آخذ بناصيته - أو من شرّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها - أنت الأول فليس قبلك شيء، و أنت الآخر فليس بعدك شيء، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، و أنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّي الدين، و أغنني من الفقر»(3).

و في رواية: «صلّ على محمد و آله، و اقض عنّي الدين، و أغنني من الفقر، و يسّر لي كلّ الأمر برحمتك يا أرحم الراحمين»(4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «الذي ليس لأوّليته نهاية، و لا لآخريته حدّ و لا غاية» و قال: «الذي بطن من خفيّاته الامور، و ظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير»(5).

و قيل: يعني هو الأول بالأزلية، و الآخر بالأبدية، و الظاهر بالأحدية، و الباطن بالصّمدية(6) ، و حاصل الجميع أنّه لا ابتداء لوجوده، و لا اختتام له، لاستحالة عدمه بدوا و ختما، و كلّ شيء منه بدأ و إليه

ص: 164


1- . تفسير روح البيان 347:9.
2- . تفسير الرازي 204:29.
3- . تفسير روح البيان 346:9.
4- . بحار الأنوار 406:95.
5- . الكافي 7/109:1، تفسير الصافي 132:5.
6- . مجمع البيان 347:9، تفسير روح البيان 349:9.

يعود، و الظاهر الواضح للالوهية و الربوبية بالآثار و الدلائل، و الباطن المحتجب كنهه عن العقول و الأوهام.

قيل: يجب أن ينعدم جميع ما يكون من الجنّة و النار و أهلها حتى يصحّ كونه آخرا(1). و فيه: أنه بعد ثبوت بقاء الموجودات الاخروية، مع حكم العقل بإمكانه، لا بدّ من حمل آخريته على معنى اختصاص شأنيتها به تعالى، و إن لم يقع انعدام غيره بقدرته، أو آخريته بعد فناء الدنيا.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ ظاهره و باطنه عَلِيمٌ لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء، إذ ما من موجود إلاّ و هو بشراشره مخلوقه و مصنوعه.

قيل: من قرأ هذه الآية بعد صلاة ركعتين خمسا و أربعين مرّة قضى اللّه حاجته(2).

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ السَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللّٰهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهٰارِ وَ يُولِجُ النَّهٰارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (6) ثمّ بيّن سبحانه علّة كون جميع الموجودات ملكا له تعالى و تحت سلطانه بقوله:

هُوَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ و أوجدهما بقدرته الكاملة و حكمته البالغة فِي مدّة مقدّرة ب سِتَّةِ أَيّٰامٍ من أيام الدنيا، أولها يوم الأحد، و آخرها يوم الجمعة، ليتعلم العباد التأنّي في الامور ثُمَّ اسْتَوىٰ و استولى بالعلم و القدرة عَلَى الْعَرْشِ المفسّر في آية الكرسيّ.

ثمّ صرّح سبحانه بإحاطته العلمية بقوله: يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ و يدخل فِي الْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ السَّمٰاءِ إلى الأرض وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا و ما يصعد من الأرض إليها، و قد مرّ تفسيرها في سورة سبأ (3)وَ هُوَ بذاته مَعَكُمْ بالاحاطة و القدرة أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ و في أيّ مكان تمكّنتم من الأرض، تحتها أو فوقها، خلوتها أو جلوتها وَ اللّٰهُ العظيم حسب الوهيته بِمٰا تَعْمَلُونَ من الطاعة و العصيان بَصِيرٌ و شهيد، فيجازيكم عليه بالثواب الجزيل و العقاب الشديد.

ثمّ أعاد سبحانه بيان سلطنته التامة المطلقة على جميع الموجودات بقوله:

لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ

ص: 165


1- . تفسير الرازي 212:29.
2- . تفسير روح البيان 350:9.
3- . تقدّم في سورة سبأ: 2/34.

وَ الْأَرْضِ تمهيدا لإثبات المعاد بقوله: وَ إِلَى اللّٰهِ القادر على كلّ شيء تُرْجَعُ و تردّ اَلْأُمُورُ كلّها من الأعمال الصالحة و الطالحة، فيجازيكم عليها، فاستعدّوا للقائه باختيار الأعمال الصالحة و أحسنها عنده.

ثمّ استدلّ سبحانه على إعادة الخلق بإعادة كلّ من الليل و النهار إلى ما كانا عليه بعد إذهاب جزء من الليل و جعله من النهار و بالعكس بقوله:

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهٰارِ بجعل ساعات منه جزءا من النهار حتى يصير خمس عشرة ساعة وَ يُولِجُ النَّهٰارَ فِي اللَّيْلِ بجعل ساعات منه جزءا من الليل حتى يصير خمس عشرة ساعة، و يعود كلّ منها إلى ما كان عليه قبل الادخال، فمن كان قادرا على إذهاب ساعات من الليل حتّى يصير تسع ساعات، ثمّ إعادة تلك الساعات الذاهبة حتّى يصير الليل مثل ما كان قبل و بالعكس، قادر على إعادة خلق الانسان بعد صيرورته ترابا.

ثمّ بعد إحاطته سبحانه بالأعمال الجوارحية، بيّن إحاطته بالأعمال الجوانحية بقوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ و محيط غاية الإحاطة بِذٰاتِ الصُّدُورِ و المخفيّات في القلوب من العقائد الفاسدة، و النيات السيئة، و المكنونات القبيحة.

عن ابن عباس: اسم اللّه الأعظم في ستّ من أول سورة الحديد، فإذا علّقت على المقاتل في الصفّ لم ينفذ إليه حديد(1).

آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَ مٰا لَكُمْ لاٰ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثٰاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ثمّ لمّا بيّن سبحانه دلائل توحيده و قدرته و علمه، و كونه مبدأ للخلق و معادهم، دعاهم إلى الايمان به و برسوله بقوله:

آمِنُوا أيّها الناس بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ عن صميم القلب ثمّ دعاهم إلى أهمّ الأعمال بقوله تعالى: وَ أَنْفِقُوا في سبيل اللّه مِمّٰا أعطاكم اللّه من فضله، و جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ و نائبين عنه في التصرّف فِيهِ من غير أن تملكوه حقيقة، فلا ينبغي أن يشقّ عليكم إنفاق ما هو في أيديكم بعنوان النيابة و الوكالة عن مالكه الحقيقي، كما لا يشقّ على أحد إنفاق مال الغير إذا أذن له فيه، أو المراد جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم، حيث إنّ ما بأيديكم من الأموال كان لغيركم زمانا، ثمّ انتقل إليكم بالإرث و غيره، فإذا بخلتم به ينتقل منكم إلى غيركم، كما انتقل من غيركم إليكم، فلا يبقى

ص: 166


1- . تفسير روح البيان 353:9.

لكم عينه و لا منافعه، و أما إذا انفقتم في سبيل اللّه يبقى لكم إلى الأبد، بل يربو و يضاعف أضعافا كثيرة بشرط الإيمان الحقيقي، كما نبّه سبحانه عليه بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [إيمانا] خالصا للّه وَ أَنْفِقُوا في سبيله و طلبا لمرضاته بعنوان الزكاة أو غيرها من الوجوه البرّية لَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ كَبِيرٌ و ثواب عظيم.

قيل: نزلت الآية في غزوة تبوك(1).

ثمّ وبّخ سبحانه على ترك الايمان مع تأكّد مقتضياته بقوله:

وَ مٰا لَكُمْ و أيّ فائدة أو عذر في ترك الايمان تتصوّرون، و لذا لاٰ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ مع حكم العقل و العقلاء بوجوبه ؟ وَ الرَّسُولُ المرسل من جانب اللّه لدعوتكم إلى الايمان يَدْعُوكُمْ إليه، و يبعثكم عليه بالحجج و المواعظ الحسنة لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ اللطيف بكم، المنعم عليكم وَ قَدْ أَخَذَ اللّه مِيثٰاقَكُمْ و العهد الأكيد منكم على الايمان به في عالم الذرّ، على ما قاله جمع من المفسرين(2) ، أو بإقامة الحجج و البراهين القاطعة على توحيده، و نصب الدلائل الواضحة، و تمكينكم من النظر فيها، و ذلك أوثق من الحلف و العهد اللفظي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشيء لأجل الدليل عليه، فتوحيد اللّه شيء لا يساويه شيء في كثرة الدليل عليه.

و قيل: يعني إن كنتم مصدّقين بالميثاق(3).

هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلىٰ عَبْدِهِ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللّٰهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَ مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ لِلّٰهِ مِيرٰاثُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قٰاتَلَ أُولٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّٰهُ الْحُسْنىٰ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) ثمّ بيّن سبحانه دليل ربوبيته و رسالة رسوله و رجوع(4) فائدة الايمان إليهم بقوله:

هُوَ الرب اللطيف اَلَّذِي يُنَزِّلُ من قبله، أو من اللّوح المحفوظ عَلىٰ عَبْدِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله بتوسّط جبرئيل آيٰاتٍ عظيمة الشأن بَيِّنٰاتٍ و واضحات الدلالات على كلّ حقّ و حقيقة، و إنّما فعل ذلك لِيُخْرِجَكُمْ أيّها الناس، أو العرب، أو الحاضرين في مكّة بسبب ذلك مِنَ الظُّلُمٰاتِ ظلمة

ص: 167


1- . تفسير روح البيان 353:9.
2- . تفسير الرازي 217:29.
3- . تفسير روح البيان 354:9.
4- . كذا الظاهر، و الكلمة غير واضحة في النسخة.

الكفر، و ظلمة الجهل، و ظلمة الأخلاق السيئة إِلَى النُّورِ نور العلم، و نور الايمان في الدنيا، و نور الرحمة و المغفرة و الرضوان في الآخرة وَ إِنَّ اللّٰهَ بِكُمْ أيّها الناس لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لا يرضى بضلالكم و حرمانكم من الخيرات الدنيوية و الاخروية، بل يحبّ أن يهديكم إلى الكمالات النفسانية و المقامات العالية العلمية و الأخلاقية في الدنيا، و الدرجات العالية في الجنّة و النّعم الدائمة في الآخرة.

ثمّ لا مهم سبحانه على ترك الانفاق في سبيله مع كثرة فوائده الدنيوية و الاخروية بقوله:

وَ مٰا لَكُمْ أيّها المؤمنون، و أيّ عذر تتصوّرون في أَلاّٰ تُنْفِقُوا و لا تصرفوا بعض أموالكم التي هي في الواقع ليست لكم فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و تحصيل مرضاته، وَ الحال أنّ اَللّٰهِ وحده مِيرٰاثُ أهل اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ أهل اَلْأَرْضِ بعد موتهم، فانّه ينتقل بموتهم جميع ما في أيديهم إلى اللّه، فإذا علم أنّه لا تبقى هذه الأموال في ملككم و تحت تصرّفكم، بل تخرج من أيديكم لا محالة بالموت، كان إخراجها بالانفاق الموجب للمدح و الثواب العظيم خير في حكم العقل و العقلاء من ترك الانفاق و إبقائها حتّى تخرج قهرا من ملككم بالموت فتستحقّون اللعن و العقاب، أو المراد إنّ أمركم بالانفاق ليس لحاجة اللّه إلى أموالكم، فانّ للّه جميع ما لأهل السماوات و الأرض، ينقل إليه بموتهم، أوله ما يرثونه من الأموال في زمان حياتهم، و إنّما يأمركم بالانفاق لحاجتكم إليه في الآخرة، و كون فوائده لكم.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وجوب الانفاق و فضيلته، بيّن أفضلية المبادرة إليه حين ضعف الاسلام بقوله:

لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ أيّها المؤمنون في الفضيلة مَنْ أَنْفَقَ من أمواله في سبيل اللّه و نصرة دين الاسلام مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ قيل: يعني فتح مكة(1). و قيل: فتح الحديبية (2)وَ من قٰاتَلَ أعداء اللّه، و من أنفق من بعد الفتح و قاتلهم أُولٰئِكَ المؤمنون المنفقون و المقاتلون من قبل الفتح، و في زمان ضعف الاسلام أَعْظَمُ دَرَجَةً و أرفع منزلة، و أعلى رتبة عند اللّه في الدنيا و الآخرة مَنْ المؤمنين اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا و جاهدوا بأنفسهم في حال قوة الاسلام و كثرة المسلمين وَ كُلاًّ من الفريقين وَعَدَ اَللّٰهِ المثوبة اَلْحُسْنىٰ و الدرجة العليا في الجنّة.

ثمّ لمّا كان الوفاء بالوعد موقوفا على العلم بالأعمال و خصوصياتها، أخبر سبحانه بعلمه بجميع أعمال العباد بقوله: وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الأعمال ظاهرة و باطنة و مزاياه و خصوصياته خَبِيرٌ

ص: 168


1- . تفسير الرازي 218:29، مجمع البيان 350:9، تفسير روح البيان 356:9.
2- . مجمع البيان 350:9، تفسير روح البيان 356:9.

و بصير، فيجازيكم بحسبه.

روي أنّ جماعة من الصحابة أنفقوا نفقات كثيرة حتّى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرا من كلّ من أنفق قديما، فنزلت الآية(1) ، و بيّن سبحانه أنّ النفقة قبل فتح مكة أعظم أجرا.

روى الفخر الرازي عن الكلبي أنّه قال: نزلت هذه الآية في فضل أبي بكر؛ لأنّه أول من أنفق المال على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سبيل اللّه. قال عمر: كنت قاعدا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده أبو بكر، و عليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال، فنزل جبرئيل فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خلّلها في صدره، فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح(2) ،... انتهى.

في نقد كلام بعض

العامة في فضيلة

أبي بكر و ردّه

أقول: ليث شعري من أين علم الكلبي أنّ أبا بكر أول من أنفق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لم يعلم له مال، بل علم فقره، فانّه كان معلم أطفال، و كان أبوه من فقراء مكّة، بل المعلوم أنّ أول من أنفق ماله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خديجة ثم أبو طالب.

و قول عمر - على فرض صدقه - لا يدلّ على نزول الآية في فضل خصوص أبي بكر، بل يدلّ على أنّ أبا بكر كان من المنفقين من قبل الفتح، و من المعلوم أنّ المنفقين قبل الفتح كثير من الصحابة، و ليس في الرواية أنّ الآية نزلت حين قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه أنفق قبل الفتح.

و أعجب من ذلك أنّ الفخر حكى عن الواحدي أنّه قال: إنّ أبا بكر كان أوّل من قاتل على الاسلام، و ذلك لأنّ عليا في أول ظهور الاسلام كان صبيا صغيرا، و لم يكن صاحب قتال، و أما أبو بكر فإنّه كان شيخا مقدّما، و كان يذبّ عن الاسلام حتى ضرب بسببه ضربا أشرف [به] على الموت(3)... انتهى.

فإنّه حين كان عليّ عليه السّلام صبيا لم يكن قتال، و لم يكن ذبّ أبي بكر - على تقدير التسليم - إلاّ باللسان، و ضربه حتى أشرف على الموت لا يدلّ على قتاله، بل يدلّ على ضعفه و عدم قدرته على الدفاع عن نفسه، فضلا عن القتال، كما أن قتل والد عمار لا يدلّ على قتاله.

و أعجب العجائب أنّهم يتمسّكون بهذه الترّهات على فضيلة أبي بكر، و يغمضون على الروايات المتواترة الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السّلام على جميع الصحابة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يؤولون الروايات الناصّة على خلافته و إمامته.

ثمّ اعلم أنّ تقديم ذكر من أنفق قبل الفتح على من قاتل لا يدلّ على تقدّم صاحب الانفاق على صاحب القتال، كما ادّعاه الفخر الرازي؛ لأنّ الكلام في الحثّ على الانفاق، و إنّما ذكر صاحب القتال

ص: 169


1- . تفسير روح البيان 356:9.
2- . تفسير الرازي 219:29.
3- . تفسير الرازي 219:29.

هنا لأهميته و شدّة الاعتناء به، فما قال الفخر - من أنّ صاحب الانفاق أبو بكر، و صاحب القتال عليّ عليه السّلام، و في تقديم صاحب الإنفاق إيماء إلى تقديم أبي بكر - من ترّهات الكلام.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ بُشْرٰاكُمُ الْيَوْمَ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الانفاق في نصرة المسلمين و مواساة فقرائهم بقوله:

مَنْ ذَا الَّذِي ينفق ماله في سبيل اللّه رجاء أن يأخذ عوضه، فإنّه كمن يُقْرِضُ اللّٰهَ ماله قَرْضاً حَسَناً و خالصا لوجه اللّه، أو يقرض اللّه مالا حسنا، و هو المال الحلال الطيب فَيُضٰاعِفَهُ اللّه، و يزيد ذلك المال أمثاله اَللّٰهَ من فضله وَ لَهُ مضافا إلى ذلك أَجْرٌ كَرِيمٌ و ثواب مرضيّ لا يوصف بالبيان.

في فضيلة الانفاق

في سبيل اللّه

روي أنه لمّا نزلت الآية جعل أبو الدّحداح يتصدّق بنصف كلّ شيء يملكه في سبيل اللّه، حتى إنّه خلع إحدى نعليه، ثمّ جاء إلى امّ الدّحداح فقال: إنّي بايعت ربّي فقالت:

ربح بيعك. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كم من نخلة مدلاّة عذوقها في الجنّة لأبي الدّحداح»(1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى لم يسأل خلقه من حاجة به إلى ذلك، و ما كان للّه من حقّ فإنّما هو لوليّه»(2).

و عن الكاظم عليه السّلام: «نزلت في صلة الإمام»(3).

ثمّ عيّن سبحانه يوم تأدية ذلك القرض بقوله:

يَوْمَ تَرَى يا محمد، أو يا من له شأنية الرؤية اَلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ في ذلك اليوم إذا خرجوا من قبورهم، يسعون إلى المحشر و يَسْعىٰ و يسير سريعا نُورُهُمْ الحاصل لهم بإيمانهم، و معرفتهم باللّه، و أعمالهم الصالحة بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و في قدّامهم وَ بِأَيْمٰانِهِمْ لأنّهم أصحاب اليمين، و يكون مسيرهم إلى الجنّة من جانب اليمين، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أنّ كلّ مثاب يحصل له النور على قدر عمله»(4). و قيل: إنّ المراد بالنور ما يهتدى به إلى الجنّة(5).

و يقول لهم الملائكة: أيّها المؤمنون بُشْرٰاكُمُ و الخبر الذي يسرّ قلوبكم، هو أنّ لكم اَلْيَوْمَ

ص: 170


1- . تفسير روح البيان 359:9.
2- . الكافي 3/451:1، تفسير الصافي 134:5.
3- . الكافي 4/451:1، تفسير الصافي 134:5. (4و5) . تفسير الرازي 222:29.

جَنّٰاتٌ كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ حال كونكم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أبدا، لا تخرجون منها طرفة عين ذٰلِكَ الثواب العظيم الذي أعدّه اللّه لكم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و النّيل بأعلى المطالب و أقصى المقاصد.

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونٰا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرٰاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بٰابٌ بٰاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظٰاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذٰابُ (13) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين المخلصين، بيّن سوء حال المنافقين بقوله:

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ لمّا رأوا أنفسهم في ظلمة لا يمكنهم المشي فيها، و رأوا المؤمنين تتلألأ وجوههم نورا يمشون بنورهم كالبرق الخاطف لِلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب: يا أيّها المؤمنون اُنْظُرُونٰا و استقبلونا بوجوهكم، أو انتظرونا نَقْتَبِسْ و نستضيء مِنْ نُورِكُمْ و نمشي فيه معكم قِيلَ تخييبا(1) لهم و تهكّما بهم من جهة المؤمنين: أو الملائكة أيّها المنافقون و المنافقات، ليس لكم من النور الذي حصّلناه في الدنيا بالايمان الخالص و الأعمال الحسنة حظّ و نصيب، فإن أردتم النور اِرْجِعُوا إلى الدنيا التي خلّفتموها وَرٰاءَكُمْ إن أمكنكم الرجوع إليها فَالْتَمِسُوا و حصّلوا لأنفسكم بالايمان الخالص و العلم و المعرفة نُوراً كنورنا تمشونا فيه.

قيل: إنّ الناس يكونون في ظلمة شديدة، ثمّ المؤمنون يعطون الأنوار، فإذا أسرع المؤمن في الذّهاب، قال المنافقون: انظرونا نقتبس من نوركم. فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. و هي خدعة خدع بها المنافقون. كما قال اللّه تعالى: يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ (2) فيرجعون إلى المكان الذي قسّم فيه النور، فلا يجدون شيئا فينظرون إليهم(3).

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ و بين المؤمنون بِسُورٍ و حائط عريض مرتفع، كسور البلد لَهُ بٰابٌ يدخل فيه المؤمنون، و داخل ذلك السّور الذي يلي المؤمنين و بٰاطِنُهُ و جوّه (4)فِيهِ الرَّحْمَةُ الالهية، و هي الجنّة وَ ظٰاهِرُهُ و خارجه الذي يلي المنافقين مِنْ قِبَلِهِ يأتيهم اَلْعَذٰابُ و حاصله: أنّ بين الجنّة و النار سورا و حائطا، قيل: هو حجاب الأعراف، له باب يدخل المؤمنون من ذلك الباب الجنة،

ص: 171


1- . في النسخة: تجنيتا.
2- . النساء: 142/4.
3- . تفسير الرازي 235:29، تفسير روح البيان 361:9.
4- . جوّ كلّ شيء: باطنه و داخله.

و المنافقون يمنعون من الدخول، و يبقون في العذاب و النار(1).

يُنٰادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قٰالُوا بَلىٰ وَ لٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمٰانِيُّ حَتّٰى جٰاءَ أَمْرُ اللّٰهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّٰهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاٰ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوٰاكُمُ النّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15) فلمّا رأى المنافقون أنّ المؤمنين يدخلون الجنّة

يُنٰادُونَهُمْ و يقولون لهم: أيها المؤمنون أَ لَمْ نَكُنْ في الدنيا مَعَكُمْ في العبادات و المساجد و الصلوات و الغزوات ؟ فأجابهم المؤمنون و قٰالُوا بَلىٰ كنتم معنا في إظهار الايمان، و الاشتغال بالعبادات وَ لٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ و أضررتم أَنْفُسَكُمْ بالكفر و ارتكاب المعاصي، وَ تَرَبَّصْتُمْ بالتوبة، و أخّرتموها، كما عن ابن عباس(2) ، أو تربّصتم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله الموت، و قلتم: يوشك أن يموت محمد فنستريح منه(3). أو دائرة السوء، فتلتحقوا بالكفار، و تتخلّصوا من النفاق (4)وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و صحّة البعث و القيامة، و صدق وعيد اللّه بالعذاب وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمٰانِيُّ و شغلتكم أباطيل الدنيا و شهواتها، و خدع الشيطان حَتّٰى جٰاءَ كم أَمْرُ اللّٰهِ و قضاؤه بموتكم وَ غَرَّكُمْ و خدعكم بِاللّٰهِ و أطمعكم في عفوه الشيطان اَلْغَرُورُ الخداع

فَالْيَوْمَ الذي تكونون فيه أيّها المنافقون هو يوم القيامة لاٰ يُؤْخَذُ و لا يقبل مِنْكُمْ فِدْيَةٌ و مال تدفعون به العذاب عن أنفسكم وَ لاٰ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا بل مَأْوٰاكُمُ و مرجعكم اَلنّٰارُ و مسكنكم جهنّم هِيَ مَوْلاٰكُمْ و مصيركم، كما عن ابن عباس(5). أو أولى بالتصرّف فيكم، و السّكونة لكم وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و ساء المنقلب لكم.

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّٰهِ وَ مٰا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لاٰ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلُ فَطٰالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (16)

ص: 172


1- . تفسير الرازي 226:29.
2- . تفسير الرازي 226:29.
3- . تفسير الرازي 226:29، مجمع البيان 355:9، تفسير روح البيان 362:9.
4- . تفسير الرازي 226:29.
5- . تفسير الرازي 227:29.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة حثّ المؤمنين على الخشية و الخشوع للّه بقوله:

أَ لَمْ يَأْنِ و أ ما حان لِلَّذِينَ آمَنُوا بعد أن عمّروا طويلا في الايمان، و شاهدوا آثار عظمة اللّه، و علموا عظم عصيانه و شدّة عقابه أَنْ تَخْشَعَ و تضرع و ترقّ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّٰهِ و التنبيه لعظمته، فيسارعوا إلى طاعته بلا توان و فتور، أو لموعظته وَ مٰا نَزَلَ مِنَ القرآن اَلْحَقِّ و الصدق، فيبادرون إلى العمل بما فيه من الأحكام التي منها الانفاق في سبيل اللّه.

روي أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكة، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق و النعمة، ففتروا عمّا كانوا عليه من الخشوع، فنزلت(1).

و قيل: إنّه لمّا بدا في الصحابة شيء من المزاح فنزلت(2).

عن ابن عباس: أنّ اللّه استبطأ خشوع قلوب فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة من نزول القرآن(3).

و عن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين(4).

وَ لم يأن أن لاٰ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلُ كاليهود و النصارى فَطٰالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ و الزمان الذي بينهم و بين أنبيائهم فَقَسَتْ و صلبت قُلُوبُهُمْ و ذهب عنهم الخوف ورقة القلب التي كانت تأتيهم بتلاوة التوراة و الانجيل وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ اليوم لشدّة قساوة قلوبهم فٰاسِقُونَ و خارجون عن حدود دينهم، و رافضون لما في كتبهم من الأحكام، و فيه إشعار بأنّ عدم الخشوع في أوّل الأمر يفضي إلى الفسق و الخروج من الدين في الآخر.

اِعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقٰاتِ وَ أَقْرَضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الخشوع، بتمثيل القلوب في إحيائها بالخشوع بالأرض الميتة التي تحيا بالمطر بقوله:

اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اللّٰهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالمطر الذي ينزل من السماء بَعْدَ مَوْتِهٰا و يبسها، فكذلك القلوب تحيا بالخشوع و الذكر و تلاوة القرآن بعد موتها بالقساوة.

و قيل: رغّب سبحانه في الخشوع و الخضوع بالتذكير بإحياء الأرض ببعث الأموات (5)قَدْ بَيَّنّٰا و أوضحنا لَكُمُ أيّها الناس اَلْآيٰاتِ التي فيها بيان موجبات سعادتكم في الدارين لَعَلَّكُمْ

ص: 173


1- . تفسير أبي السعود 208:8، تفسير روح البيان 363:9.
2- . تفسير روح البيان 364:9.
3- . تفسير أبي السعود 208:8، تفسير روح البيان 364:9.
4- . تفسير روح البيان 364:9.
5- . تفسير الرازي 230:29، تفسير روح البيان 365:9.

تَعْقِلُونَ و تفهمون ما فيها، و تعملون به، و تفوزون بالدرجات العالية، و الراحة الأبدية، و النّعم الدائمة و قيل: يعني كي تكمل عقولكم(1).

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الانفاق لوجهه بقوله:

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ و المنفقين أموالهم في وجوه الخير وَ الْمُصَّدِّقٰاتِ و المنفقات وَ هم أَقْرَضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً و سلّموا أموالهم إلى اللّه بإنفاقهم في سبيله برجاء العوض و الأجر يُضٰاعَفُ ذلك المال المنفق لَهُمْ و يتزايد مقداره في ميزانهم على ما كان في الدنيا مرّات وَ لَهُمْ مع التضاعف أَجْرٌ و ثواب كَرِيمٌ مرضيّ.

و قيل: إنّ المصدّقين بمعنى الذين تصدّقوا، و لذا صحّ عطف الجملة الفعلية عليه(2).

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدٰاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ (19) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المؤمنين و المنافقين، بيّن حال المؤمنين و الكفّار المتظاهرين بالكفر بقوله تبارك و تعالى:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بِاللّٰهِ وَ بجميع رُسُلِهِ من آدم إلى الخاتم أُولٰئِكَ العالون في الشأن و المنزلة هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدٰاءُ و الكاملون في الايمان، أو بمنزلة المستشهدين في سبيل اللّه في عظمة الأجر عِنْدَ رَبِّهِمْ و في حكمه و نظره.

عن السجاد عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام، قال: «ما من شيعتنا إلاّ صديق شهيد. قيل: أنّى يكون ذلك، و عامّتهم يموتون على فرشهم ؟ فقال عليه السّلام: أ ما تتلو كتاب اللّه في الحديد وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدٰاءُ قال: «لو كان الشهداء كما يقولون، كان الشهداء قليلا»(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد و اللّه مع القائم بسيفه» ثمّ قال: «بل و اللّه كمن جاهد مع رسول اللّه بسيفه» ثم قال الثالثة: «بل و اللّه كمن استشهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في فسطاطه، و فيكم آية من كتاب اللّه.

قيل: و أيّة آية ؟ قال: «قول اللّه: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ... الآية» ثمّ قال: «صرتم و اللّه الصديقون و الشهداء عند ربكم»(4).

أقول: حاصل الروايات أنّ المؤمن بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و منه الولاية بمنزلة الصدّيقين و الشّهداء في المعركة لنصرة الإسلام لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ الموعودان لهم المعروفان بالعظمة و الكمال.

ص: 174


1- . تفسير الصافي 135:5.
2- . تفسير أبي السعود 209:8.
3- . المحاسن: 115/163، تفسير الصافي 136:5.
4- . مجمع البيان 359:9، تفسير الصافي 136:5.

ثمّ بيّن حال الكفّار بقوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسله وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا المنزلة أُولٰئِكَ البعداء عن الرحمة أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ و ملازمو النار، لاخلاص لهم منها.

اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ الْغُرُورِ (20) ثمّ لمّا كان الكفر و النفاق بسبب حبّ الدنيا و شهواتها، أخبر سبحانه بحقارتها و سرعة زوالها بقوله:

اِعْلَمُوا أيّها الناس أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا و مشتهياتها التي لا يراد بها التوصّل إلى السعادة الاخروية لَعِبٌ و عمل يتعب الانسان نفسه فيه بغير غرض عقلاني، كعمل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم فيه بغير فائدة وَ لَهْوٌ و اشتغال باللذائذ السريعة الزوال، السيئة العاقبة، و الوخيمة المآل، الموجبة للحسرة و الندامة، كاشتغال الشّبّان التي ليس غرضهم منها إلاّ التذاذ النفس مع الغفلة عن وخامة عاقبتها وَ زِينَةٌ و تحسين للظاهر في الأوهام مع عدم حقيقة و واقعية له، كلبس الملابس الفاخرة، و ركوب المراكب الفارهة، و السكونة في المساكن البهية الحسنة، و نظائرها كتزيين النّسوان صورهنّ للرجال وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالمزايا الجسمانية الزائلة بالأمراض و الموت، كالقوة و القدرة و الجمال و النسب و الرئاسة و نظائرها وَ تَكٰاثُرٌ و تزايد فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ.

و من الواضح أنّ هذه الامور الجامعة للمشتهيات النفسانية الدنيوية، ممّا يستحقرها العقل السليم، و لا يعتني به العاقل الفهيم، لسرعة زوالها، و عدم فائدة مهمة لها، مع استلزام توجّه النفس إليها فوات فوائد عظيمة باقية.

ثمّ أكّد سبحانه حقارة المشاغل الدنيوية السريعة الزوال، المفوّتة للمنافع الاخروية بضرب مثل لسرعة زوال الدنيا بقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ و نظير مطر نافع أنبت بنزوله من الأرض اليابسة النباتات النافعة بحيث أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ و الزارعين الذين يكفرون و يسترون البذور بالتّراب نَبٰاتُهُ و ما يخرج من الأرض بسببه.

و قيل: إنّ المراد بالكفار الكافرون باللّه، فانّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا(1). بل إعجابه مختصّ بهم، لأنّ نظرهم إلى المحسوسات، و أمّا المؤمنون فإنّهم لا يعجبهم نموّه و خضرته، و إنّما يعجبهم قدرة

ص: 175


1- . تفسير الرازي 234:29، تفسير البيضاوي 470:2.

خالقهم و ربّهم.

ثُمَّ بعد النمو و الخضرة و النّظارة يَهِيجُ و ييبس و تزول خضرته و نظارته فَتَرٰاهُ أيّها الرائي بعد مدّة قليلة مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا مونقا ثُمَّ يَكُونُ بعد اصفراره و يبسه حُطٰاماً و منكسرا و متفتّتا وَ يكون فِي الْآخِرَةِ لمن أعجبه الدنيا و أقبل عليها، و لم يطلب بها الآخرة عَذٰابٌ شَدِيدٌ لا يقادر قدره وَ لمن طلب الآخرة بها مَغْفِرَةٌ عظيمة كائنة مِنَ اللّٰهِ العظيم الغفور وَ رِضْوٰانٌ منه تعالى، المستلزم لدخول الجنّة و التنعّم بالنّعم الدائمة.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة شرح المشاغل الدنيوية و حاصل المثل الذي ضرب للدنيا وَ زينتها بقوله:

أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا و لذائذها إِلاّٰ مَتٰاعُ الْغُرُورِ و انتفاع يخدع الانسان الجاهل به، و فيه غاية تحقير الدنيا، و الحثّ على الإعراض عنها، و تعظيم الآخرة.

سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ ذٰلِكَ فَضْلُ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ثمّ حثّ على الجدّ في تحصيل ما ينتفع به فيها بقوله:

سٰابِقُوا أيّها المؤمنون، و اجتهدوا في التقدّم على الأقران، و سارعوا مسارعة السابقين في المضمار إِلىٰ موجبات مَغْفِرَةٍ عظيمة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ و خالقكم اللطيف بكم، و إتيان الأعمال الموجبة للدخول في بستان وَ جَنَّةٍ وسيعة عَرْضُهٰا و سعتها كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ و سعتهما إذا بسطا أُعِدَّتْ و هيئت تلك الجنّة من قبل اللّه تعالى لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ جميعا، و لا يقول: نؤمن ببعض، و نكفر ببعض.

عن ابن عباس: إنّ الجنان أربعة، قال اللّه تعالى: وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ (1) ثمّ قال: وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ (2) فذكر اللّه هنا تشبيه واحدة من الجنات الأربع في العرض بالسماوات السبع(3).

و عنه أيضا: أنّ لكلّ من المطيعين جنّة بهذه الصفة(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن أدنى أهل الجنّة منزلا من لو نزل به الثقلان الجنّ و الانس لوسعهم طعاما و شرابا»(5).

ذٰلِكَ الثواب العظيم المذكور فَضْلُ اللّٰهِ و إنعامه يُؤْتِيهِ و يعطيه مَنْ يَشٰاءُ إعطاءه إياه

ص: 176


1- . الرحمن: 46/55.
2- . الرحمن: 62/55.
3- . تفسير الرازي 235:29.
4- . تفسير الرازي 234:29.
5- . تفسير القمي 82:2، تفسير الصافي 137:5.

من عباده المؤمنين وَ اللّٰهُ العظيم ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و الإحسان الجسيم.

في الرّد على

الأشاعرة

ثمّ لا يخفى أنّ استحقاق الأجر بالعمل لا يوجب على اللّه إعطاء الجنة بهذه الصفة، فإعطاؤها فضل من اللّه، مع أنّ الفضل لا يكون إلاّ في المحلّ القابل، و المراد بالاستحقاق القابلية التي لا يجوز البخل مع وجودها، و بالوجوب على اللّه كونه مقتضى الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه، فظهر أنّ استدلال الاشاعرة بالآية على عدم استحقاق العبد على اللّه شيئا - و أنّ كلّما يعطي اللّه بإزاء العمل تفضّل منه تعالى، يجوز له في حكم العقل منعه و البخل به - فاسد جدّا.

مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اللّٰهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ وَ اللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ (23) ثمّ لمّا كان الحزن على الامور الدنيوية و الفرح بها شاغلا للقلب عن الإقبال على العبادة و التوجّه إلى الآخرة، نبّه سبحانه على أنّ الحوادث كلّها بتقدير اللّه بقوله:

مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ و لا حدث عن حادث فِي الْأَرْضِ من قحط أو فساد وَ لاٰ عارضة فِي أَنْفُسِكُمْ من(1) المرض و الجرح و الصحّة و الغنى و الفقر و غيرها إِلاّٰ و هو مكتوب فِي كِتٰابٍ مكنون و لوح محفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نخلق هذه الحوادث و نَبْرَأَهٰا و نوجدها. و قيل: يعني من قبل أن نوجد الأنفس، أو نوجد الأرض(2).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ ملك الأرحام يكتب كلّ ما يصيب الانسان في الدنيا بين عينيه، فذلك قول اللّه عز و جلّ: مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية(3).

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «كتابه في السماء علمه [بها]، و كتابه في الأرض علومنا في ليلة القدر و في غيرها»(4).

إِنَّ ذٰلِكَ المذكور من كتب الحوادث من الخير و الشرّ قبل إيجادهما عَلَى اللّٰهِ العالم بالامور يَسِيرٌ و سهل، و ذلك التقدير و كتب المقدرات قبل وجودها و الإخبار بها

لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا و لأجل أن لا تحزنوا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ و لم يقبل إليكم، أو ذهب منكم من النّعم الدنيوية كالمال و الجاه

ص: 177


1- . زاد في النسخة: الفقر و.
2- . تفسير الرازي 237:29.
3- . علل الشرائع: 4/95، تفسير الصافي 138:5.
4- . تفسير القمي 351:2، تفسير الصافي 137:5.

و الصحّة و الأمان و نظائرها وَ لاٰ تَفْرَحُوا و لا تسرّوا بِمٰا آتٰاكُمْ اللّه و أعطاكم منها، فانّ من علم أنّ إقبال الدنيا و إدبارها بتقدير اللّه لا بسعي الانسان و كدّه، لا يشتدّ جزعه على إدبارها، لعلمه بكونه لصلاح أنفع منه، و لا فرحه بإقبالها لتجويزه ذهابه في أسرع وقت، أو كونه امتحانا و استدراجا.

و عن بعض الحكماء: لا التأسّف يردّ فائتا، و لا الفرح يقرّب معدوما و يديم آتيا(1).

و عن ابن مسعود: لأن أمسّ جمرة أحرقت ما أحرقت و أبقت ما أبقت، أحبّ إلي من أن أقول لشيء لم يكن ليته كان(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الزّهد كلّه بين كلمتين في(3) القرآن قال اللّه تعالى: لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ و من لم يأس على الماضي، و لم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزّهد بطرفيه»(4).

و عن السجاد عليه السّلام: «ألا إنّ الزّهد في آية من كتاب اللّه» ثمّ تلا هذه الآية(5).

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الأسى المذموم هو المانع عن التسليم لأمر اللّه، و الفرح المبغوض هو الفرح الموجب للاختيال و الفخر بقوله: وَ اللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ بل يبغض كُلَّ شخص مُخْتٰالٍ و متكبّر فَخُورٍ و متطاول على عباده، فانّ من عظمت عنده الحظوظ الدنيوية و فرح بها، اختال و افتخر بها لا محالة، و أمّا الفرح بنعمة اللّه و الشّكر عليها فغير مذموم.

عن ابن عباس، قال: ليس أحد إلاّ و هو يفرح و يحزن، و لكن اجعلوا للمصيبة صبرا، و للخير شكرا(6).

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) ثمّ لمّا كان التكبّر و التطاول على الناس بالأموال و كثرة النّعم الدنيوية لعظمتها في نفسه و شدّة حبّه لها ملازما للبخل بها، وصف سبحانه المختال و الفخور بقوله:

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم، و لا

ص: 178


1- . تفسير روح البيان 376:9.
2- . تفسير روح البيان 376:9.
3- . في نهج البلاغة: من.
4- . نهج البلاغة: 439/553، تفسير الصافي 138:5.
5- . الكافي 4/105:2، الخصال: 26/437، تفسير الصافي 138:5.
6- . تفسير الرازي 239:29.

ينفقونها على الفقراء، و في سبيل اللّه، لحبّهم لها، و لعزّتها عندهم، ثمّ لا يقنعون ببخلهم، بل يبعثون وَ يَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبُخْلِ بأموالهم و إمساكها و عدم صرفها في وجوه الخير، و هذا غاية الذمّ وَ مَنْ يَتَوَلَّ و يعرض عن الإنفاق، أو عن إطاعة أوامر اللّه و نواهيه فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن إنفاقهم و طاعتهم لا يضرّه بخلهم و عصيانهم، و لا ينفعه إنفاقهم و شكرهم و طاعتهم اَلْحَمِيدُ في ذاته، المحمود في فعاله التي منها فتح أبواب نعمه على البخلاء، لأنّ فيه نظام العالم، و امتحان الخلق، و وبال بخلهم عائد إليهم.

ثمّ لمّا كان نظام العالم بالعلم و القواعد المقرّرة لحفظ النظام و قيام العدل و قوّة دفاع الظالمين، بيّن سبحانه إتمام نعمه على الناس حثّا لهم على طاعته بقوله:

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إليكم أيّها الناس أَرْسَلْنٰا في كلّ عصر و قرن، مستدلّين على رسالتهم من قبلنا بِالْبَيِّنٰاتِ و المعجزات الظاهرات، و الحجج الباهرات، لئلا يشكّ أحد في صدق دعواهم الرسالة وَ أَنْزَلْنٰا إتماما للّطف مَعَهُمُ الْكِتٰابَ السماوي الذي فيه بيان كلّما يحتاجون إليه من العلوم المربوطة بمعاشهم و معادهم. عن الصادق عليه السّلام:

«الكتاب الاسم الأكبر الذي يعلم به علم كلّ شيء الذي كان مع الأنبياء...» الخبر(1). وَ الْمِيزٰانَ و ما يعيّن به الحقوق. روي أنّ جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح، و قال: مر قومك يزنوا به(2). و قيل: إنّ المراد بالميزان العدل و الانصاف(3). القمي، قال: الميزان الامام(4).

لِيَقُومَ النّٰاسُ في معاملاتهم و حقوقهم بِالْقِسْطِ و العدل، و لا يظلم أحدا في إيفاء حقوقهم و استيفائها، كما أنّه تعالى قائم في عباده بالقسط و العدل، فوفاهم حقوقهم بلا حيف وَ أَنْزَلْنٰا من السماء اَلْحَدِيدَ عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني السلاح»(5) الذي فِيهِ بَأْسٌ و عذاب شَدِيدٌ على من لم يعمل بالكتاب و أخسر الميزان.

و قيل: يعني قوّة شديدة عليهم، فان آلات الحرب كلّها من حديد(6).

عن ابن عمر: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ اللّه تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض؛ أنزل الحديد، و النار، [و الماء]، و الملح»(7).

ص: 179


1- . الكافي 3/232:1، تفسير الصافي 138:5.
2- . جوامع الجامع: 482، تفسير الصافي 139:5، تفسير الرازي 241:9، تفسير أبي السعود 212:8.
3- . تفسير جوامع الجامع: 482.
4- . تفسير القمي 274:2 و 352، تفسير الصافي 139:5.
5- . التوحيد: 266، تفسير الصافي 139:5.
6- . تفسير روح البيان 380:9.
7- . مجمع البيان 363:9، تفسير الرازي 242:29، تفسير الصافي 139:5، و تفسير روح البيان 380:9، و لم ينسباه إلى أحد من الرواة.

و عن ابن عباس: نزل آدم من الجنة و معه خمسة أشياء من الحديد: السّندان، و الكلبتان، و الميقعة(1) أو المقمعة - و المطرقة، و الإبرة(2).

و قيل: إنّ الإنزال التهيئة(3). و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنزاله خلقه»(4).

وَ فيه مع ذلك مَنٰافِعُ كثيرة لِلنّٰاسِ كافة، فانّ انتظام العالم و مصالحه بالزراعة و الحياكة و البناء و السلطنة، و لا يتمّ شيء منها إلاّ بالحديد، فلو لم يكن الحديد لاختلّ جميع مصالح العالم، و لذلك جعله اللّه تعالى بجوده و رحمته سهل الوجدان كثير الوجود ليستعملوه وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ و يميّز في الخارج مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ و من يحامي عن دينه و أنبيائه بالسيوف و السّنان و النّبال، مع أنّه تعالى بِالْغَيْبِ و الستر عن نظر ذلك الناظر، و هو مؤمن به بالدلائل و اَلْمِيزٰانَ كان اَللّٰهُ العظيم لا يحتاج إلى نصرتكم و حمايتكم عن دينه و رسله؛ لأنّه قَوِيٌّ بذاته شديد البطش عَزِيزٌ و غالب غير مغلوب، و إنّما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه، و عود نفعه إليكم في العاجل و الآجل.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتٰابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ بِرُسُلِنٰا وَ قَفَّيْنٰا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنٰاهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنٰا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبٰانِيَّةً ابْتَدَعُوهٰا مٰا كَتَبْنٰاهٰا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اللّٰهِ فَمٰا رَعَوْهٰا حَقَّ رِعٰايَتِهٰا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (27) ثمّ لمّا أمر بنصرة رسله، ذكر عظمة شأن بعض اولى العزم منهم بقوله:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً الذي هو أول اولي العزم من الرسل وَ إِبْرٰاهِيمَ الذي هو الثاني منهم وَ جَعَلْنٰا و قرّرنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا و نسلهما طبقة بعد طبقة اَلنُّبُوَّةَ وَ الْكِتٰابَ و لم يك نبي إلاّ من نسلهما، و لم ينزل كتاب إلاّ إليهم فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ إلى الحقّ مؤمن بالكتاب وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ و خارجون عن طاعة اللّه؛ إما بالكفر، و إمّا بالعصيان

ثُمَّ لمّا مات نوح و إبراهيم قَفَّيْنٰا و اتّبعنا عَلىٰ آثٰارِهِمْ و أعقابهم بِرُسُلِنٰا كهود و صالح و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أضرابهم واحدا بعد واحد حتّى انتهى إلى زمان عيسى عليه السّلام وَ قَفَّيْنٰا و اتبعناهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ و هو آخر أنبياء بني إسرائيل وَ آتَيْنٰاهُ

ص: 180


1- . الميقعة: خشبة القصّار يدقّ عليها، و المسنّ الطويل يحدّد به، و المطرقة.
2- . تفسير الرازي 241:29، تفسير أبي السعود 212:8، و تفسير روح البيان 379:9، و قد نسباه إلى القيل.
3- . تفسير الرازي 242:29.
4- . الاحتجاج: 250، تفسير الصافي 139:9.

و أعطيناه اَلْإِنْجِيلَ الذي فيه هدى و نور وَ جَعَلْنٰا فِي قُلُوبِ المؤمنين اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في دينه بهدايته و تربيته رَأْفَةً و مودّة للمؤمنين وَ رَحْمَةً و عطوفة عليهم وَ رَهْبٰانِيَّةً و إعراضا عن الدنيا و لذائذها، و لكن ما أوجبناها عليهم، و إنّما اِبْتَدَعُوهٰا و أحدثوها من عند أنفسهم مٰا كَتَبْنٰاهٰا عَلَيْهِمْ و ما شرّعناها لهم لطريق النّدب على ما قيل (1)إِلاَّ ابْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اللّٰهِ و طلبا للقرب منه. قيل: إنّ الاستثناء منقطع(2) ، و المعنى: ما أوجبناها عليهم في كتابهم و لسان رسوله لهم، و لكن التزموها لابتغاء مرضاة اللّه.

عن ابن عباس: أنّ في أيام الفترة بين عيسى و محمد صلّى اللّه عليه و آله غيّر الملوك التوراة و الإنجيل، فساح قوم في الأرض و لبسوا الصّوف(3).

و عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يا ابن مسعود، أ ما علمت أنّ بني إسرائيل تفرّقوا ثلاث و(4) سبعين فرقة كلّها في النار، إلاّ ثلاث فرق؛ فرقة آمنوا بعيسى عليه السّلام و قاتلوا أعداء اللّه في نصرته حتى قتلوا، و فرقة لم يكن لها طاقة بالقتال، فأمروا بالمعروف، و نهوا عن المنكر، و فرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين، فلبسوا العباء، و خرجوا إلى القفار و الفيافي، و هو قوله تعالى: وَ جَعَلْنٰا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ... الآية»(5).

و قيل: إنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السّلام فقاتلوا ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلاّ قليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرّهبانية في قلل الجبال، فارّين بدينهم، مخلصين أنفسهم للعبادة، منتظرين للبعثة النبوية التي وعدها عيسى عليه السّلام(6).

و روي أنّ اللّه لمّا أغرق فرعون و جنوده؛ استاذن الذين كانوا آمنوا من السّحرة موسى عليه السّلام في الرجوع إلى الأهل و المال بمصر، فأذن لهم، و دعا لهم، فترهّبوا في رءوس الجبال، فكانوا أول من ترهّب، و بقيت طائفة منهم مع موسى عليه السّلام حتى توفّاه اللّه، ثمّ انقطعت الرّهبانية بعدهم حتّى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السّلام(7).

فَمٰا رَعَوْهٰا و لم يحفظوها قيل: يعني المقتدين بهم بعدهم (8)حَقَّ رِعٰايَتِهٰا و كمال حفظها، بل خلطوها و أفسدوها بالقول بالتثليث، و أكل الخنزير، و شرب الخمر، و قصد الرياء و السّمعة، و الكفر

ص: 181


1- . تفسير جوامع الجامع: 483.
2- . تفسير الرازي 246:29، تفسير البيضاوي 471:2، تفسير روح البيان 382:9.
3- . تفسير الرازي 245:29.
4- . (ثلاث و) ليست في تفسير الرازي.
5- . تفسير الرازي 245:29.
6- . تفسير أبي السعود 213:8، تفسير روح البيان 282:9. (7و8) . تفسير روح البيان 382:9.

بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «من آمن بي و صدّقني، فقد رعاها حقّ رعايتها، و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون»(1).

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا برسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذي يليق بهم على رهبانيتهم و إيمانهم بالرسول، و هو المغفرة و الجنّة و الرضوان وَ الأسف أنّه كَثِيرٌ مِنْهُمْ و هم الذين ابتدعوها ثمّ ضيّعوها، و كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله فٰاسِقُونَ و خارجون عن حدّ الاتّباع و العقل.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاّٰ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتٰابِ أَلاّٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ الذين آمنوا من أتباع عيسى عليه السّلام بمحمد صلّى اللّه عليه و آله اتوا أجرهم و كثير منهم لم يؤمنوا، دعاهم سبحانه إلى الايمان به بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى و سائر الرسل اِتَّقُوا اللّٰهَ و احذروا عقابه وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ النبي الامّي يُؤْتِكُمْ اللّه بإزاء إيمانكم بسائر الرسل و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله كِفْلَيْنِ و نصيبين من الأجر مِنْ رَحْمَتِهِ و فضله و جوده وَ يَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً من بين أيديكم و أيمانكم تَمْشُونَ بِهِ في ظلمات العرصة إلى الجنّة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ جميع ذنوبكم التي ارتكبتموها في حياتكم الدنيا وَ اللّٰهُ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بعباده المؤمنين.

عن ابن عباس: أنّه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أسلموا، فجعل اللّه لهم أجرين(2).

روي أنّ أهل الكتاب افتخروا بذلك على المسلمين(3).

و عن الصادق عليه السّلام كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، قال: «الحسن و الحسين عليهما السّلام و نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني إماما تاتمّون به»(4) و في رواية، قال: «و النور علي»(5).

ثمّ أنّه تعالى بعد دعوة أهل الكتاب بالايمان بنبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا يدّعون أنّ النبوة و الرسالة

ص: 182


1- . مجمع البيان 366:9، تفسير الصافي 140:5، تفسير روح البيان 382:9.
2- . تفسير الرازي 247:29.
3- . تفسير أبي السعود 214:8، تفسير روح البيان 387:9.
4- . تفسير القمي 352:2، الكافي 86/356:1، تفسير الصافي 140:5.
5- . مناقب ابن شهرآشوب 381:3، تفسير الصافي 140:5.

مختصة بهم، لكونهم أهل النسب الشريف، و العلم بالكتاب، بيّن سبحانه أنّ جعل الرسالة لمحمد صلّى اللّه عليه و آله الذي ليس من بني إسرائيل، و وعد الأجر الجزيل على الايمان به، و نصيبين من الأجر على إيمان أهل الكتاب به

لِئَلاّٰ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتٰابِ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله لعدم كونه من بني إسرائيل، و المشهور زيادة (لا) و المعنى لأن يعلموا أَلاّٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ نيل شَيْءٍ قليل مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ و إحسانه، أو تخصيصه و حصره في أقوام معيّنين وَ يعلموا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّٰهِ و بقدرته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ و قيل: إنّ (لا) نافية، و ضمير يَقْدِرُونَ راجع إلى الرسول و أصحابه(1) ، و المعنى: لئلا يعتقدوا أهل الكتاب أنّ محمدا و أصحابه لا يقدرون على شيء من فضل اللّه، فقد علموا أنّهم يقدرون عليه، و المراد تعظيم النبي صلّى اللّه عليه و آله في نبوته و شرعه و كتابه، و ليعتقدوا أنّ الفضل بيد اللّه و في تصرّفه و سلطانه وَ اللّٰهُ العظيم ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فانّ العظيم لا يكون فضله إلاّ عظيما.

روي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ التسبيحات قبل أن يرقد و يقول: «إنّ فيهن آية أفضل من ألف آية»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة فريضة [و أدمنها]، لم يعذّبه اللّه حتّى يموت أبدا، و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا، و لا خصاصة في بدنه»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام، لم يمت حتى يدرك القائم، و إن مات كان في جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(4).

الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 183


1- . تفسير الرازي 248:29.
2- . مجمع البيان 345:9، تفسير روح البيان 387:9.
3- . ثواب الاعمال: 117، مجمع البيان 345:9، تفسير الصافي 141:5.
4- . مجمع البيان 345:9، تفسير الصافي 141:5.

ص: 184

في تفسير سورة المجادلة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الحديد المتضمّنة لبيان ابتداع الرّهبانية التي من أركانها ترك التزوّج و العشرة مع الناس في دين المسيح، و المختتمة بدعوة الناس إلى الايمان بخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله الناسخ للرّهبانية بقوله: «لا رهبانية في الاسلام»(1) و الآمر بالتزويج حيث قال: «النكاح سنّتي، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»(2) الباعث إلى مصادقة الناس و المعاشرة معهم، نظمت سورة المجادلة المتضمّنة لبيان بعض أحكام الأزواج و المباشرة التي يكون الالتزام بها من شئون الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و التحذير عن موادة الكفار، فابتدأها بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذكر مقدّمة نسخ حكم الظهار بين الزوج و الزوجة بقوله:

قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ المرأة اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ و تكالمك يا محمد فِي شأن زَوْجِهٰا و تراجعك بالكلام فيه وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّٰهِ ممّا لقيته من ظهار زوجها وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا و تخاطبكما فيه إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ لكلّ مقال بَصِيرٌ بكلّ حال.

في بيان شأن

نزول آيات الظهار

روي أنّ خولة بنت ثعلبة(3) بن مالك بن خزاعة الخزرجية كانت حسنة البدن، رآها زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة و هي تصلّي، فاشتهى مواقعتها، فلمّا سلّمت راودها فأبت، فغضب أوس، و كان به خفّة، و قال: أنت عليّ كظهر امّي، ثمّ ندم و قال لها: ما أظنّك إلاّ و قد حرمت عليّ، فشقّ ذلك عليها، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عائشة تغسل شقّ رأسه عليه السّلام فقالت: يا رسول اللّه، إنّ زوجي أوس بن الصامت أبو ولدي و ابن عمّي و أحبّ الناس إليّ،

ص: 185


1- . النهاية لابن الأثير 280:2.
2- . جامع الاخبار: 737/271.
3- . في النسخة: تغلب، و ما في المتن من مجمع البيان، راجع: اسد الغابة 442:5.

ظاهر منّي و ندم(1). و في رواية قالت: إنّ أوسا تزوّجني و أنا شابة مرغوب فيّ، فلمّا علا سنّي و كثر ولدي جعلني كامّه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله لها: «ما عندي في أمرك شيء»(2). و في رواية قال: «حرمت عليه» فقالت: لا تقل ذلك يا رسول اللّه، إنّ لي صبية صغار إن ضممتم إليّ جاعوا، و إن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا.

فأعاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوله الأول فجعلت تراجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقالتها الاولى، و كلّما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوله الأول هتفت و قالت: أشكو إلى اللّه ممّا لقيت من زوجي حال فاقتي و وحدتي، و قد طالت معه صحبتي، و نفضت له بطني. و كانت ترفع في كلّ ذلك رأسها إلى السماء و تقول: اللهمّ أنزل على لسان نبيّك صلّى اللّه عليه و آله، فقامت عائشة تغسل الشّقّ الآخر من رأسه و هي ما زالت في مراجعة الكلام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بثّ الشكوى إلى اللّه حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات الأربع(3).

و في رواية: كلّما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «حرمت عليه» هتفت و شكت إلى اللّه، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآيات(4) ، و قريب من الروايتين مروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و الصادقين عليهما السّلام(5).

اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلاَّ اللاّٰئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (4) ثمّ بيّن اللّه بطلان حكم الجاهلية في امرأة ظاهر منها زوجها أنها تصير حراما أبديا على زوجها، و نسخه بقوله:

اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ أيّها المسلمون، و يقولون لأزواجهم: أنت عليّ كظهر أمّي، اجتنابا مِنْ نِسٰائِهِمْ و أزواجهم، لا يحرمن على أزواجهنّ بجهة الامومة، و مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ لا حقيقة و لا تنزيلا من اللّه إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ الحقيقية، و ما والداتهم الواقعية إِلاَّ النساء اَللاّٰئِي

ص: 186


1- . تفسير روح البيان 388:9، مجمع البيان 371:9.
2- . تفسير الرازي 249:29.
3- . تفسير روح البيان 388:9.
4- . تفسير الرازي 249:29.
5- . تفسير القمي 353:2، الكافي 1/152:6، من لا يحضره الفقيه 1641/340:3، تفسير الصافي 143:5.

وَلَدْنَهُمْ و وضعنهم من بطنهنّ على الأرض وَ إِنَّهُمْ الأزواج لَيَقُولُونَ بقولهم: إنّهنّ كامّهم في الحرمة الأبدية مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ و مخالفا للشرع و العقل من الكلام وَ زُوراً و باطلا وَ إِنَّ اللّٰهَ لَعَفُوٌّ و كثير التجاوز عن الذنوب التي منها هذا القول، إن تاب أو إن لم يتب غَفُورٌ و ستّار للمعاصي بجوده و كرمه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم تأثيره [في] تأييد حرمة الزوجة على الزوج، بيّن ما يترتّب عليه في دين الاسلام بقوله:

وَ الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ و يقولون لهنّ هذا القول المنكر ثُمَّ يندمون و يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا من الظّهار، و يرجعون عمّا عزموا عليه من الاجتناب من الزوجة بقولهم ذلك إلى إلغائه و الاستمتاع منها. و قيل: يعني يعودون إلى ما حرّموا على أنفسهم بلفظ الظّهار من الاستمتاع(1) ، و عليه نزّل القول منزلة المقول فيه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و اعتاق إنسان مملوك من قيد الملكية واجب عليه، سواء أ كان المملوك ذكرا أو انثى، صغيرا أو كبيرا، مؤمنا أو كافرا، و لا بدّ أن يكون التحرير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا و يتلاقيا بشهوة و استمتاع ذٰلِكُمْ التحرير أيّها المؤمنون ليس لتعريضكم للثواب بالتحرير، بل الغرض إنّكم تُوعَظُونَ و تنزجرون رَقَبَةٍ ممّا ارتكبتم من القول المنكر و الزّور، و ترتدعون عنه، أو تؤمرون به وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الظّهار و التكفير و نحو ذلك من القليل و الكثير خَبِيرٌ و مطّلع، و مجازيكم عليه

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ من المظاهرين الرقبة بأن لا يملكها و لا يمكنه تملّكها بالعوض لفقره، أو لعدم وجودها(2) في بلده و نواحيه حين إرادة التكفير فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ هلاليين مُتَتٰابِعَيْنِ واجب عليه بأن يصوم شهرا هلاليا و يوما من الشهر الآخر متواليين بلا فصل بين الأيام، ثمّ يتمّ الشهر الآخر متواليا أو متفرقا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا و يتجامعا(3) و يتقاربا بشهوة فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صيام شهرين بالكيفية المذكورة، و لم يطق ذلك لضعف البنية أو للهرم أو للمرض أو لخوفه فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً و إشباع هذا العدد من الفقراء بالإباحة أو بتمليك كلّ واحد مدّا من الطعام قبل أن يتماسّا، و إنّما جعلنا ذٰلِكَ الحكم الموافق للحكمة بالبيان المعجز لِتُؤْمِنُوا و تصدّقوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ و لا تستمرّوا على حكم الجاهلية، من القول بأنّ الظّهار أشدّ أنواع الطلاق، و كونه محرّما أبديا للزوجة وَ تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللّٰهِ و شرائعه المقرّرة في دينه الذي هو مرتضيه(4) ، لا بدّ من إطاعتها و العمل بها وَ لِلْكٰافِرِينَ و المنكرين لها في الآخرة عَذٰابٌ أَلِيمٌ و موجع غايته.

ص: 187


1- . تفسير الرازي 256:29، تفسير أبي السعود 216:8.
2- . في النسخة: وجوده.
3- . في النسخة: يجامعا.
4- . في النسخة: مرضيّة.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أرسل إلى أوس بن الصامت، و قال: «ما حملك على ما صنعت ؟» فقال الشيطان:

فهل من رخصة ؟ فقال: نعم. و قرأ عليه الأربع آيات، و قال له: هل تستطيع العتق ؟ فقال: لا و اللّه(1). و في رواية: قال: إذن يذهب جلّ مالي.

فقال: «هل تستطيع الصوم ؟» فقال: لا و اللّه، لو لا إنّي كل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري و لظننت أني أموت(2). و في رواية قال: فصيام شهرين متتابعين ؟ قال: يا رسول اللّه، إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري، و خشيت أن تعشو عيني.

فقال له: «هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، إلاّ أن تعينني منك بصدقة، فأعانه بخمسة عشر صاعا، و أخرج أوس من عنده مثله(3). و في رواية: قال صلّى اللّه عليه و آله: «اعينك بخمسة عشر صاعا، و أنا أدعو لك بالبركة» و تلك البركة بقيت في آله(4).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ امراة من المسلمات أتت النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، إنّ فلانا زوجي، و قد نثرت له بطني(3) ، و أعنته على دنياه و آخرته، لم ير منّي مكروها، أشكوه إلى اللّه و إليك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: ممّا تشتكيه ؟ قال: إنّه قال أنت عليّ كظهر امّي، و قد أخرجني من منزلي، فانظر في أمري.

فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا أقضي فيه بينك و بين زوجك، و أنا أكره أن أكون من المتكلّفين، فجعلت تبكي و تشتكي ما بها إلى اللّه عز و جلّ، و إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و انصرفت.

قال: «فسمع اللّه مجادلتها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زوجها، و ما شكت إليه، فأنزل اللّه عز و جلّ ذلك قرآنا: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا يعني محاورتها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زوجها إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ... الآية».

قال: «فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المرأة فأتته، فقال لها: جيئيني بزوجك، فأتته به، فقال له: اقلت لامرأتك هذه أنت عليّ كظهر امّي ؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قد أنزل اللّه تبارك و تعالى فيك و في امرأتك قرآنا، فقرأ عليه ما أنزل اللّه قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ إلى قوله: لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

ص: 188


1- . تفسير الرازي 249:29.
2- . تفسير الرازي 249:29، تفسير روح البيان 395:9. (3و4) . مجمع البيان 371:9، تفسير روح البيان 395:9.
3- . نثرت المرأة بطنها: كثر ولدها.

ثمّ قال: فضمّ إليك امرأتك، فانّك قد قلت منكرا من القول و زورا، و قد عفا اللّه عنك و غفر لك و لا تعد. قال: فانصرف الرجل و هو نادم على ما قاله لامرأته.

و كره اللّه ذلك للمؤمنين بعد، و أنزل اللّه اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا يعني ما قال الرجل الأوّل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. قال: فمن قال بعد ما عفا اللّه و غفر للرجل الأول، فانّ عليه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا يعني مجامعتها ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فجعل اللّه عقوبة من ظاهر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله هذا، ثمّ قال: ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ قال: هذا حدّ الظهار».

ثمّ قال: «لا يكون ظهار في يمين و إضرار، و لا في غضب، و لا يكون ظهار إلاّ على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين»(1).

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمٰا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا أَحْصٰاهُ اللّٰهُ وَ نَسُوهُ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) ثمّ لمّا كان تغيير حكم الجاهلية ثقيلا على المشركين، و سببا لشدّة عداوتهم، هدّد سبحانه المعاندين للرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و يعاندونهما، أو يضعون حدودا و أحكاما غير حدودهما و أحكامهما كُبِتُوا و اخزوا و اذلّوا في الدنيا كَمٰا كُبِتَ و اخزي و اذلّ الأقوام اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ بمعاندتهم لرسلهم استكبارا عليهم، كقوم نوح و عاد و ثمود وَ الحال إنّا قَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ و دلائل واضحات على صدق الرسول و صحّة ما جاء به من الأحكام و الحدود وَ لِلْكٰافِرِينَ باللّه و الرسول و المنكرين لأحكامهما أو الكافرين بتلك الآيات في الآخرة عَذٰابٌ مُهِينٌ و مذلّ يذهب بعزّهم و كبرهم.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله:

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ و يخرجهم من القبور أحياء جَمِيعاً لا يترك منهم أحدا، أو مجتمعين في حالة واحدة فَيُنَبِّئُهُمْ اللّه في ذلك اليوم، و ينبّههم على رءوس الأشهاد تخجيلا و توبيخا لهم و تشهيرا لحالهم بِمٰا عَمِلُوا في الدنيا و ارتكبوا فيها من الكفر و معاندة الرسول و غيرهما من العصيان الذي أَحْصٰاهُ اللّٰهُ و أحاط به من الكمية و الكيفية و الزمان

ص: 189


1- . الكافي 1/152:6، تفسير الصافي 143:5.

و المكان و سائر مشخّصاته وَ هم نَسُوهُ استحقارا له و تهاونا به وَ اللّٰهُ العظيم الخالق لكلّ شيء عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الموجودات و مخلوقاته و أحوالها، و على جميع أحوال عباده و أفعالهم و ضمائرهم و المكتومات في خواطرهم شَهِيدٌ و مطّلع لا تخفى عليه خافية.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ وَ لاٰ خَمْسَةٍ إِلاّٰ هُوَ سٰادِسُهُمْ وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْثَرَ إِلاّٰ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مٰا كٰانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَنٰاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذٰا جٰاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمٰا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّٰهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لاٰ يُعَذِّبُنَا اللّٰهُ بِمٰا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهٰا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) ثمّ أكّد سبحانه سعة علمه بقوله:

أَ لَمْ تَرَ أيّها الرائي، و لم تعلم علما يكون كالمشاهدة أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ بالذات مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ السبع وَ مٰا فِي الْأَرْضِ من الحقير و الجليل، و النّقير و القطمير، و المحسوس و غير المحسوس.

عن ابن عباس، قال: نزلت في ربيعة و حبيب ابني عمرو، و صفوان بن امية، كانوا يوما يتحادثون فقال أحدهم: أ ترى أنّ اللّه يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر: يعلم بعضا و قال الثالث: إنّ كان يعلم بعضه فهو يعلم كلّه، و صدق لأنّ من يعلم بعض الأشياء بغير سبب، فقد علمها كلّها؛ لأنّ كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كلّ معلوم، فنزلت(1).

مٰا يَكُونُ و ما يوجد مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ من الأشخاص و مسارّتهم في حال من الأحوال إِلاّٰ في حال هُوَ تعالى رٰابِعُهُمْ و حاضر عندهم و مشارك معهم في الاطّلاع عليها وَ لاٰ نجوى خَمْسَةٍ من الأشخاص إِلاّٰ هُوَ تعالى سٰادِسُهُمْ في العلم و الاطلاع.

قيل: تخصيص العددين بالذكر لخصوص الواقعة(2) ، فإنّ المجتمعين في النجوى كانوا مرة ثلاثة، و مرة خمسة، أو لكون العدد الوتر أشرف من الزوج(3) فاكتفى بذكر الوترين الأولين، أو لكون الغالب في التشاور يكون من ثلاثة إلى الستة، ليكونوا أقلّ لفظا، و أجدر رأيا، و اكتم سرّا.

ص: 190


1- . تفسير الرازي 265:29، تفسير روح البيان 398:9.
2- . تفسير روح البيان 398:9.
3- . تفسير الرازي 265:29.

ثمّ عمّم الحكم بقوله: وَ لاٰ أَدْنىٰ و أقلّ مِنْ ذٰلِكَ العدد كالاثنين و الواحد وَ لاٰ أَكْثَرَ منه كالستة و ما فوقها إِلاّٰ هُوَ تعالى مَعَهُمْ بالعلم و الاحاطة لا يخفى عليه نجواهم أَيْنَ مٰا كٰانُوا و في أيّ مكان اجتمعوا و تناجوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ و يخبرهم بِمٰا عَمِلُوا من خير أو شرّ، و طاعة أو عصيان يَوْمَ الْقِيٰامَةِ تفضيحا للعصاة، و توبيخا لهم، و تشهيرا لفضل المطيعين، و تبشيرا لهم بالكرامة إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء و الأعمال الجليات و الخفيّات عَلِيمٌ و محيط.

ثمّ روي أنّ اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، و يجتمعون ثلاثة و خمسة، و يتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيضوهم، فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ عادوا لمثل فعلهم(1) ، فوبّخهم اللّه سبحانه على ذلك بقوله:

أَ لَمْ تَرَ يا محمد، و لم تنظر إِلَى الَّذِينَ نُهُوا من جانب اللّه عَنِ النَّجْوىٰ و المكالمة سرّا ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا نُهُوا عَنْهُ من النجوى و يكرّرونه.

ثمّ بيّن سبحانه النجوى التي نهوا عنها(2) بقوله: وَ يَتَنٰاجَوْنَ و يسارون بينهم بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ للمؤمنين من المكر بهم أو بشيء يسوؤهم وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ في نهيه عن النجوى وَ إِذٰا جٰاؤُكَ يا محمّد حَيَّوْكَ بِمٰا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّٰهُ قيل: كانوا يقولون: السام عليك، و يريدون بالسام الموت أو القتل بالسيف، و يوهمون أنّهم يقولون: السّلام عليك(3). و قيل: كانوا يقولون: أنعم صباحا، و هو تحية الجاهلية، و تحية اللّه للمرسلين هي السّلام(4). وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ و فيما بينهم إذا خرجوا من عندك: لَوْ لاٰ يُعَذِّبُنَا اللّٰهُ و هلاّ يبتلينا بالعقوبة بِمٰا نَقُولُ من الدعاء بالشرّ، أو تحيّة الجاهلية ؟

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: حَسْبُهُمْ و كافيهم جَهَنَّمُ في التعذيب، فانّهم يوم القيامة يَصْلَوْنَهٰا و يدخلونها بعنف و يقاسون حرّها لا محالة فَبِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع لهم جهنّم.

روي أنّ عائشة سمعت قول اليهود، فقالت: عليكم السام و الذامّ و اللعن. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «يا عائشة، ارفقي فانّ اللّه يحبّ الرّفق في كلّ شيء، و لا يحبّ الفحش و التفحّش، أ لا سمعت ما رددت عليهم، قلت: عليكم، فيستجاب لي منهم»(5).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلاٰ تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ

ص: 191


1- . تفسير البيضاوي 475:2، تفسير روح البيان 400:9.
2- . في النسخة: الذي نهوا عنه.
3- . تفسير روح البيان 400:9.
4- . تفسير البيضاوي 475:2، تفسير روح البيان 400:9.
5- . تفسير روح البيان 400:9 و 401.

اَلرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ عَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ عَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) ثمّ أمر سبحانه المؤمنين المخلصين بالعمل بخلاف ما يعمله اليهود و المنافقون بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتكم و قلوبكم إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلاٰ تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ و القبيح الذي يخصّكم وَ الْعُدْوٰانِ و العمل الذي يؤدّي إلى الظّلم بالغير وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ و مخالفته، و لا تسلكوا في نجواكم مسلك المنافقين وَ لكن تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ و الاحسان إلى أنفسكم و إلى إخوانكم المؤمنين وَ التَّقْوىٰ و ترك المعاصي و القيام بالطاعة وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ بعد خروجكم من القبور تُحْشَرُونَ و إلى مقام عدله تساقون، فيجازيكم حسب أعمالكم.

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن النجوى بما ذكر من الامور القبيحة بقوله:

إِنَّمَا النَّجْوىٰ بتلك الأمور تصدر مِنَ تسويلات اَلشَّيْطٰانِ و تزيينه في أنظاركم لِيَحْزُنَ قلوب اَلَّذِينَ آمَنُوا حيث توهمهم النجوى أنّ المتناجين بلغهم قتل أقربائهم و إخوانهم المؤمنين الذين خرجوا إلى الجهاد، أو هزمهم(1) العدوّ أو أصابتهم نكبة وَ لَيْسَ الشيطان، أو التناجي بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً قليلا و قدرا يسيرا إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ و إرادته و مشيئته. قيل: بأن يبيّن لهم كيفية مناجاة الكفّار حتّى يزول غمّهم (2)وَ عَلَى اللّٰهِ وحده لا على غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و إليه فليفوّضوا امورهم، و لا يبالوا بنجوى المنافقين.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فانّ ذلك يحزنه»(3).

و قيل: إنّ المراد بالنجوى في الآية الأخيرة الأحلام التي يراها الانسان في نومه فتحزنه(4).

في ذكر رؤيا

فاطمة عليها السّلام و ما

يدفع به ضرر رؤيا

السوء

روى بعض العامة أنّ فاطمة عليها السّلام رأت كأنّ الحسن و الحسين أكلا من أطيب جزور بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهما فماتا، فلمّا غدت سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و سأل هو جبرئيل، و سأل جبرئيل ملك الرّؤيا فقال: لا علم لي به، فعلم أنّه من الشيطان(5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «سبب نزول الآية أنّ فاطمة عليها السّلام رأت في منامها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله همّ أن يخرج هو و فاطمة و علي و الحسن و الحسين عليهم السّلام من المدينة، فخرجوا حتى جازوا حيطان المدينة، فعرض لهم طريقان، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين حتى انتهى إلى موضع فيه

ص: 192


1- . في النسخة: انهزمهم.
2- . تفسير الرازي 268:29.
3- . مجمع البيان 377:9، تفسير الصافي 146:5، تفسير روح البيان 402:9.
4- . مجمع البيان 377:9، تفسير الصافي 146:5.
5- . تفسير روح البيان 402:9.

نخل و ماء، فاشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاة دراء - و هي التي في أحد اذنيه نقط بيض - فأمر بذبحها، فلمّا أكلوا [منها] ماتوا [في] مكانهم، فانتبهت فاطمة عليها السّلام باكية ذعرة، فلم تخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك.

فلمّا أصبحت جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحمار، فأركب عليه فاطمه عليها السّلام و أمر أن يخرج أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها السّلام في نومها، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة، عرض لهم طريقان، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين حتّى انتهى إلى موضع فيه نخل و ماء، فاشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاة درّاء، كما رأت فاطمة، فأمر بذبحها فذبحت و شويت، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة و تنحّت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا، فطلبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى وقع عليها و هي تبكي فقال: ما شأنك يا بنيّة ؟ قالت: يا رسول اللّه، رأيت البارحة كذا و كذا في نومي، و قد فعلت أنت كما رأيته، فتنحّيت عنكم لئلا أراكم تموتون.

فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين، ثمّ ناجى ربّه، فنزل جبرئيل، فقال: يا محمد، هذا شيطان يقال له الزهّار، هو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا، و يؤذي و يري المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به، فجاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: أنت الذي أريت هذه الرؤيا، فقال: نعم يا محمد، فبزق عليه ثلاث بزقات قبيحة في ثلاثة مواضع.

ثمّ قال جبرئيل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله يا محمد، إذا رأيت شيئا في منامك تكرهه، أو رأى أحد من المؤمنين يقول: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون و أنبياء اللّه المرسلون و عباده الصالحون من شرّ ما رأيت من رؤياي، و يقرأ الحمد، و المعوذتين، و قل هو اللّه أحد، و يتفل عن يساره [ثلاث] تفلات فانّه لا يضرّه ما رأى، فأنزل اللّه عز و جلّ على رسوله: إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ... الآية(1).

و عنه عليه السّلام: «إذا رأى الرجل منكم ما يكره في منامه فليتحوّل من شقّه الذي كان عليه نائما، و ليقل:

إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ إلى قوله: إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ ثمّ ليقل: عذت بما عاذت به ملائكة اللّه المقرّبون و أنبياؤه المرسلون و عباده الصالحون من [شرّ ما رأيت و من] شرّ الشيطان الرجيم»(2).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجٰالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّٰهُ لَكُمْ وَ إِذٰا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

ص: 193


1- . تفسير القمي 355:2، تفسير الصافي 146:5.
2- . الكافي 106/142:8، تفسير الصافي 147:5.

ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن النجوى التي توجب(1) التباغض و شدة الاتّصال في المجلس، أمر عباده بما يوجب التودّد و التحابب بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب إِذٰا قِيلَ لَكُمْ [سواء أ] كان القائل قريبا أو بعيدا، أو وضيعا أو شريفا: يا إخواني تَفَسَّحُوا و توسّعوا فِي الْمَجٰالِسِ و الأماكن التي تجلسون فيها على المؤمنين الواردين عليكم فَافْسَحُوا و وسّعوا عليهم حتّى يجلسوا بينكم، فإذا تفسّحتم و وسّعتم في المكان على الواردين يَفْسَحِ اللّٰهُ و يوسّع لَكُمْ فيما تريدون التوسعة فيه من الصدور و الرزق و القبر و غيرها.

في فضيلة أهل

العلم

قيل: إنّ المراد مجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان الأصحاب يتضامّون فيه تنافسا على القرب منه، و حوصا على استماع الكلام(2).

عن ابن عباس: دخل ثابت بن قيس بن الشمّاس في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد أخذ القوم مجالسهم، و كان يريد القرب من النبي صلّى اللّه عليه و آله للوقر الذي كان في اذنه، فوسّعوا له حتى قرب، ثمّ ضايقه بعضهم، و جرى بينه و بينهم كلام، فوصف للرسول صلّى اللّه عليه و آله محبّة القرب منه ليستمع كلامه، و أن فلانا لم يفسح له، فنزلت هذه الآية، فأمر القوم بأن يوسّعوا و لا يقوم أحد لأحد(3).

و قيل: إنّ الأصحاب كانوا يحبّون القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان الرجل يكره أن يضيّق عليه، فربما سأله [أخوه] أن يفسح له فيأبى، فأمرهم اللّه بأن يتعاطفوا و يتحمّلوا المكروه، و كان فيهم من يكره أن يمسّه الفقراء، و كان أهل الصّفّة يلبسون الصوف و لهم روائح(4).

و عن مقاتل: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يوم الجمعة في الصّفّة، و في المكان ضيق، و كان صلّى اللّه عليه و آله يكرم أهل بدر من المهاجرين و الأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، و قد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال النبي صلّى اللّه عليه و آله ينتظرون أن يوسّع لهم، فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يحملهم على القيام، و شقّ ذلك على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقال لمن حوله من أهل بدر: «قم يا فلان، قم يا فلان» فلم يزل يقيم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه، فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه، و عرفت الكراهة في وجوههم، و طعن المنافقون في ذلك، و قالوا: و اللّه ما عدل على هؤلاء، إنّ قوما أخذوا مجالسهم، و أحبّوا القرب منه فأقامهم و أجلس من أبطأ عنه، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة(3).

و قيل: إنّ المراد من التفسّح و التوسّع في مقاعد القتال، و كان الرجل يأتي الصفّ فيقول: تفسّحوا

ص: 194


1- . في النسخة: الذي يوجب.
2- . تفسير روح البيان 403:9. (3و4) . تفسير الرازي 269:29.
3- . تفسير الرازي 268:69.

فيأبون حرصا على الشهادة(1) ، و الحقّ عموم الآية لجميع الأشخاص و المجالس، فانّ مورد النزول لا يخصّص العموم.

و قيل: إنّ المراد بالقائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانّه كان إذا دخل المسجد يقوم له الناس، فنهاهم اللّه عن أن يقوموا له، و قال: تفسّحوا له في المجالس(2).

وَ إِذٰا قِيلَ انْشُزُوا و قوموا من مكانكم للتوسعة على الوارد، أو انهضوا من مجلس الرسول، و لا تطيلوا الجلوس عنده فتملّوه، أو انهضوا إلى الصلاة و الجهاد و غيرهما من الأعمال الخيرية فَانْشُزُوا و انهضوا و قوموا طاعة للأمر، و تواضعا للمؤمنين، و توسعة للاخوان، و مسارعة للخيرات، إذن يَرْفَعِ اللّٰهُ بالنصر و حسن الذكر و كمال النفس في الدنيا و الإيواء في غرف الجنان في الآخرة اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بايمانهم و عملهم الصالح وَ يرفع اَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ خاصة لجهة علمهم المقارن للعمل دَرَجٰاتٍ رفيعة عالية في الفضل و الإكرام في الدنيا و الآخرة مراتب سامية في الروض و الرضوان.

ذكر فضيلة العلماء

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «بين العالم و العابد مائة درجة، بين كلّ درجة حضر(3) الجواد المضمر سبعين سنة»(4).

و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله: «فضل العالم على العابد كفضلي على امّتي»(5).

و في اخرى: «كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «فضل العالم على الشهيد درجة، و فضل الشهيد على العابد درجة، و فضل النبي على العالم درجة، و فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، و فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم»(7).

و عن الباقر عليه السّلام: «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(8).

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على الطاعة بقوله: وَ اللّٰهُ بكلّ شيء بِمٰا تَعْمَلُونَ أيّها المؤمنون من امتثال أوامره و الانزجار عن معاصيه خَبِيرٌ و مطّلع، فيجازيكم على الطاعة بأفضل الثواب،

ص: 195


1- . جوامع الجامع: 485، تفسير الرازي 269:29.
2- . تفسير القمي 356:2، تفسير الصافي 148:5، و فيهما: فقال: تفسحوا، أيّ وسّعوا له في المجلس.
3- . الحضر: عدوّ ذو وثب.
4- . جوامع الجامع: 485، تفسير الصافي 148:5، تفسير روح البيان 404:9.
5- . تفسير روح البيان 404:9.
6- . جوامع الجامع: 485، تفسير الصافي 148:5، تفسير روح البيان 404:9.
7- . مجمع البيان 380:9، تفسير الصافي 148:5.
8- . الكافي 8/25:1، تفسير الصافي 148:5.

و يعذّبكم على عصيانه بأسوء العذاب.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً ذٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقٰاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تٰابَ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (13) ثمّ لمّا علّم اللّه المؤمنين ما يتناجون به من البرّ و التقوى، عظّم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نجواه بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ و كالمتموه سرّا في بعض شئونكم كما عن بعض(1) ، أو في استفسار حال رؤياكم كما عن آخر (2)فَقَدِّمُوا و أعطوا المستحقّين بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ و قبلها صَدَقَةً و مقدارا ما من المال تقرّبا إلى اللّه ذٰلِكَ التصدّق خَيْرٌ لَكُمْ أيّها المؤمنون في دينكم من تركه وَ أَطْهَرُ لأنفسكم من رجس المعاصي و دنس البخل.

عن ابن عباس: لمّا أكثر المسلمون السؤال على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى أسأموه و أملّوه، أراد اللّه أن يخفّف عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت الآية، و أمرهم اللّه بتقديم الصدقة عند نجواه، فكفّ كثير من الناس عن المناجاة و شحّوا(3).

قيل: أراد سبحانه بهذا الأمر تعظيم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و نفع الفقراء، و الزجر عن الإفراط في السؤال، و تمييز المخلص عن المنافق، و محبّ الآخرة عن محبّ الدنيا، إذ لم يناجه أحد من أصحابه عشرة أيام إلاّ عليّ عليه السّلام(4).

أقول: و أراد سبحانه تفضيح أغنياء الصحابة كأبي بكر على ما ادّعاه شيعته من أنّه كان غنيا، و عمر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف و أضرابهم، و ظهور فضيلة أمير المؤمنين و خلوصه في الايمان، و حبّه للآخرة و مناجاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

روى بعض العامة عن علي عليه السّلام أنّه قال: «إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد قبلي، و لا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله تصدّقت بدرهم»(5).

ص: 196


1- . تفسير روح البيان 404:9.
2- . تفسير روح البيان 405:9.
3- . تفسير الرازي 271:29.
4- . تفسير جوامع الجامع: 485.
5- . تفسير الرازي 271:29، تفسير البيضاوي 476:2، تفسير أبي السعود 221:8، تفسير روح البيان 405:9.

و روى الفخر الرازي عن كثير من مفسري العامة، عن ابن عباس: أنّ المسلمين نهوا عن مناجاة النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى يتصدّقوا، فلم يناجه أحد إلاّ علي عليه السّلام تصدّق بدينار، ثمّ نزلت الرّخصة(1).

و رووا عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: كان لعلي عليه السّلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحبّ إلي من حمر النّعم: تزويجه فاطمة عليها السّلام، و إعطاؤه الراية يوم خيبر، و آية النجوى(2).

في ردّ قول القاضي

و بيان فساد قول

الفخر الرازي

و قال القاضي أبو بكر: و الأكثر في الروايات أنّه تفرّد بالتصدّق قبل مناجاته، ثمّ ورد النسخ، و إن كان قد روي أيضا أنّ أفاضل الصحابة وجدوا الوقت و ما فعلوا ذلك(3).

و العجب إنّه لتوغّله في الضلال، و تعصّبه لمذهبه الباطل، تردّد فيما اتفقت عليه روايات العامة و الخاصة من إطاعة عليّ عليه السّلام أمر اللّه و عصيان مشايخه و أئمّته، و همّ بدفع الطعن عنهم بقوله: «و إن ثبت أنّه اختصّ بذلك، فلأنّ الوقت لم يتّسع لهذا الفرض، و إلاّ فلا شبهة أنّ أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله»(4).

أقول: فيه أنّ دعوى ضيق الوقت بعد رواياتهم بأن الحكم كان باقيا عشرة أيام ممّا تضحك به الثكلى، و أمّا أفاضل الصحابة كسلمان و أبي ذرّ و المقداد و عمّار و حذيفة و أضرابهم، كانوا لفقرهم خارجين عن هذا الحكم بقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدّقون به لا يجب عليكم فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ للمذنبين رَحِيمٌ بالمؤمنين، لا يكلّفهم بما لا يطيقون.

و الحاصل إنّ أفاضل الصحابة الذين اتفقنا على فضلهم و خلوص إيمانهم كانوا فقراء غير متمكّنين من التصدّق، و أمّا غيرهم فقد بخلوا بالتصدّق لعدم اشتياقهم إلى صحبة النبي صلّى اللّه عليه و آله و مناجاته و لم يسو عندهم صحبة النبي صلّى اللّه عليه و آله بدرهم، و لذا صار تركهم الصدقة من أكبر المطاعن عليهم، و تصدّق أمير المؤمنين عليه السّلام بعشرة دراهم من أعظم فضائله، و لا يصغى إلى قول القاضي بأن الصحابة ما وجدوا الوقت(5).

و بذلك يظهر فساد ما ذكره الفخر الرازي من أنّه على تقدير أنّ الصحابة وجدوا الوقت و لم يفعلوا، فهذا لا يجرّ إليهم طعنا؛ لأنّ ذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق به قلب الفقير، فانّه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، و يوحش قلب الغنيّ، فانّه لمّا لم يفعل الغني و فعله غيره، صار ذلك الفعل سببا للطعن فيمن لم يفعل، فهذا الفعل لمّا كان سببا لحزن الفقراء و وحشة الأغنياء، لم يكن في تركه كبير

ص: 197


1- . تفسير الرازي 271:29 و 272.
2- . تفسير روح البيان 406:9.
3- . تفسير الرازي 272:29.
4- . تفسير الرازي 272:29.
5- . تفسير الرازي 272:29.

مضرّة، لأنّ الذي يكون سببا للألفة أولى ممّا يكون سببا للوحشة(1).

و العجب أنّه يظهر من آخر كلامه أنّ ترك الصدقة كان أولى من التصدّق، و هو مناف للروايات الدالة على فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام بالعمل بالآية و التصدّق قبل مناجاته النبي صلّى اللّه عليه و آله، و توبيخ اللّه سبحانه تاركي التصدّق بقوله:

أَ أَشْفَقْتُمْ أيّها المسلمون و خفتم من أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ و قبل مسارّتكم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله صَدَقٰاتٍ قيل: إفراد الصدقة أولا لكفاية شيء قليل منها، و إتيانها بصيغة الجمع هنا لكثرة التناجي و المناجي(2).

ثمّ لمّا ظهر حال المؤمن الصادق في إيمانه المشتاق إلى مكالمة النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل أمير المؤمنين عليه السّلام، و المنافق غير المشتاق، نسخ سبحانه الحكم بقوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما امرتم به، و بخلتم و شقّ عليكم بذل أقلّ قليل من أموالكم لدرك مكالمة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تحصيل علم دينكم، و هو ذنب، رفع ذلك الحكم وَ تٰابَ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ و قبل ندامتكم، و عفا عنكم فَأَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فيما يكلّفانكم(3) من فعل سائر الواجبات و ترك المحرّمات وَ اللّٰهُ العالم بكلّ شيء خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ.

قال أبو مسلم الأصفهاني من مفسّري العامة: إنّ الآية ليست ناسخة، فانّ المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، و إن قوما تركوا النفاق و آمنوا ظاهرا و باطنا، فأراد اللّه أن يميّزهم، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمّن بقي على نفاقه، و إذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدّرة بذلك الوقت، لا جرم يقدّر هذا التكليف بذلك الوقت(4).

في ردّ أبي مسلم

الأصفهاني

أقول: حاصل قوله: إنّ مصلحة التكليف بالصدقة قبل النجوى، كانت في الواقع و في علم اللّه مقدّرة بغاية مخصوصة، فوجب انتهاء التكليف عند انتهاء مقتضيه إلى الغاية، و مقتضى كلامه أنّ غير أمير المؤمنين عليه السّلام من أغنياء الصحابة كانوا منافقين، لامتناعهم عن التصدّق، و بعد ظهور حالهم ارتفع التكليف.

ثمّ اعلم أنّه لا معنى للنسخ عندنا إلاّ إطلاق الحكم في الظاهر و تقييده في الواقع بوقت معين، و إلاّ يلزم البداء، و لذا توافقت الروايات العامة و الخاصة في كون الآية ناسخة لإيجاب الصدقة.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مٰا هُمْ مِنْكُمْ وَ لاٰ مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ

ص: 198


1- . تفسير الرازي 272:29.
2- . تفسير روح البيان 406:9.
3- . في النسخة: يكلفونكم.
4- . تفسير الرازي 272:29.

عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (15) اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ فَلَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (17) ثمّ لمّا افتضح المنافقون بيّن سبحانه سوء حال المنافقين، و أظهر التعجّب من سوء صنيعهم بقوله تعالى:

أَ لَمْ تَرَ يا من يعقل، أو يا محمد، و لم تنظر إِلَى المنافقين اَلَّذِينَ ي تَوَلَّوْا ن، و توادّوا قَوْماً من اليهود، مع أنّهم قوم غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ و لعنهم حيث ينقلون أسرار المؤمنين إليهم، و العجب أنّ هؤلاء المنافقين مذبذبين مٰا هُمْ مِنْكُمْ و ليسوا من زمرتكم، لكفرهم في الباطن وَ لاٰ مِنْهُمْ لعدم اعتقادهم بدين اليهود، و إذا لقوكم قالوا: إنّا مسلمون، أو المراد إنّهم يشتمون اللّه و رسوله، و يكيدون المسلمين، و إذا قيل لهم: إنّكم فعلتم كذا و كذا، أو قلتم كذا و كذا، قالوا: و اللّه ما فعلنا ذلك و ما قلنا ذلك وَ يَحْلِفُونَ و يقسمون باللّه عَلَى ادّعائهم اَلْكَذِبِ تحفّظا على أنفسهم من القتل، و على أموالهم من النّهب وَ هُمْ يَعْلَمُونَ كذب ما حلفوا عليه، و هذا الحلف في غاية الشناعة و القباحة.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله:

أَعَدَّ اللّٰهُ و هيّأ لَهُمْ في القبر على قول بعض، أو في الآخرة عَذٰاباً شَدِيداً لا يمكن تحديد شدّته و توصيفها، لأجل إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر باللّه و رسوله، و موادّة اليهود و اليمين الغموس(1).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان في حجرة من حجراته، فقال لأصحابه: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، و ينظر بعين الشيطان» فدخل عبد اللّه بن نبتل، و كان أرزق، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «على م تشتمني أنت و أصحابك ؟ فحلف باللّه ما فعل. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فعلت» فانطلق بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبّوه، فنزلت الآيات(2).

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله:

اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ الفاجرة حين الخوف من المسلمين جُنَّةً و ترسا يحفظون به أنفسهم من سيوف المسلمين، و أموالهم من النّهب فَصَدُّوا و منعوا الناس عَنْ الدخول في دين الاسلام، و سلوك سَبِيلِ اللّٰهِ و العمل بما يوجب قربهم إليه في خلال أمنهم و سلامتهم، بإدخال الشّبهات في القلوب، و ذكر المطاعن للاسلام، و تعييب المسلمين فَلَهُمْ في

ص: 199


1- . اليمين الغموس: الكاذبة، تغمس صاحبها في الإثم.
2- . تفسير روح البيان 408:9.

الآخرة بسبب كفرهم و صدّهم طلبا للعزّ عند الكفّار، و تكبّرا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله عَذٰابٌ مُهِينٌ لهم غاية الهوان، و مذلّ لهم أشدّ الذّلّ

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ و لن تكفيهم للوقاية، و لا تنفعهم أبدا أَمْوٰالُهُمْ التي جمعوها في الدنيا وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ الذين يفتخرون بهم مِنَ عذاب اَللّٰهِ إذا دخلوا النار شَيْئاً قليلا من الإغناء و النفع أُولٰئِكَ البعيدون من ساحة رحمة اللّه أَصْحٰابُ النّٰارِ و ملازموها أو مالكوها: لأنّهم اكتسبوها بأعمالهم في الدنيا هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ و مقيمون أبدا، لا نجاة لهم منها.

روي أن واحدا منهم قال: إن كان ما يقول محمد حقا لندفعنّ العذاب من أنفسنا بأموالنا و أولادنا، فنزلت الآية تكذيبا له(1).

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلىٰ شَيْءٍ أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ الْكٰاذِبُونَ (18) ثمّ بيّن سبحانه وقت ابتلائهم بالعذاب و خلودهم في النار بقوله:

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ و يخرجهم من القبور أحياء، و يسوقهم جَمِيعاً إلى المحشر. و قيل: المعنى: و اذكر يا محمد يوم يبعثهم اللّه جميعا(2)فَيَحْلِفُونَ هؤلاء المنافقون في ذلك اليوم حين حضورهم في مقام عتاب اللّه اَللّٰهُ كذبا بقولهم:

و اللّه ربّنا ما فعنا كذا و كذا، و ما كنا مشركين كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ أيّها المسلمون في الدنيا كذبا بقولهم:

و اللّه إنّا منكم، و ما هم منكم وَ يَحْسَبُونَ و يتوهّمون أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الكاذبة عَلىٰ شَيْءٍ من جلب نفع أو دفع ضرر، كما كانوا في الدنيا عليه حيث كانوا يدفعون بالأيمان الكاذبة عن أنفسهم و أموالهم ضرر المسلمين، و يجلبون إليهم فوائد أَلاٰ تنبّهوا أيّها العقلاء إِنَّهُمْ هُمُ الْكٰاذِبُونَ و المصرّون على الكذب إلى حدّ لا يتصوّر فوقه، حيث كانوا يتجاسرون عليه بين يدي علاّم الغيوب، و زعموا أنّ الحلف يروّج(3) به الكذب لديه، كما يروّجه عند الغافلين.

قيل: إنّ ذكر أَلاٰ التنبيهية مشعر بتوغّلهم في النّفاق و تعوّدهم به بحيث لا ينفكّون عنه في الدنيا و لا في الآخرة(4).

اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطٰانُ فَأَنْسٰاهُمْ ذِكْرَ اللّٰهِ أُولٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطٰانِ هُمُ الْخٰاسِرُونَ (19)

ص: 200


1- . تفسير روح البيان 409:9.
2- . تفسير روح البيان 397:9.
3- . روّج السلعة: أنفقها، و روّج الكلام: زيّنه، أو أبهمه فلا تعلم حقيقته.
4- . تفسير روح البيان 409:9.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إصرارهم على مخالفة اللّه و عصيانه بقوله:

اِسْتَحْوَذَ و استولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطٰانُ و ملك قلوبهم بحيث يسوقهم إلى طاعته فيما يريد منهم فَأَنْسٰاهُمْ ذِكْرَ اللّٰهِ و أغفلهم عن التوجّه إليه بحيث لا يخطر ببالهم تصوّر أنّهم مخلوقه و مربوبه أُولٰئِكَ البعيدون عن اللّه و عن كلّ خير حِزْبُ الشَّيْطٰانِ و جنده و أتباعه أَلاٰ أيّها العقلاء اعلموا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطٰانِ و جنده هُمُ الْخٰاسِرُونَ و المتضرّرون بغاية الضرر في الدنيا و الآخرة، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المؤبّد، و أبدلوه بالعذاب المخلّد.

عن القمي، قال: نزلت في الثاني، لأنّه مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو جالس عند رجل من اليهود، يكتب خبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا... الآية. فجاء الثاني إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رأيتك تكتب من اليهود، و قد نهى اللّه عزّ و جلّ عن ذلك ؟» فقال: يا رسول اللّه، كتبت عنه ما في التوراة من صفتك. و أقبل يقرأ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو غضبان. فقال رجل من الأنصار: ويلك أ ما ترى غضب النبي صلّى اللّه عليه و آله عليك ؟ فقال: أعوذ باللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، إنّي إنّما كتبت ذلك لما وجدت [فيه] من خبرك. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا فلان، لو أنّ موسى بن عمران فيهم قائما، ثمّ أتيته رغبة عمّا جئت به، لكنت كافرا بما جئت به».

و هو قوله: اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً * أي حجابا بينهم و بين الكفار، و أيمانهم إقرارهم باللسان خوفا من السيف و دفع الجزية.

و قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ قال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الذين غصبوا آل محمد حقّهم، فيعرض عليهم أعمالهم، فيحلفون له إنّهم لم يعملوا منها شيئا، كما حلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الدنيا حين حلفوا أن لا يردّوا الولاية في بني هاشم، و حين همّوا بقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة، فلمّا أطلع اللّه نبيه و أخبره حلفوا إنّهم لم يقولوا ذلك، و لم يهمّوا به حين أنزل اللّه على رسوله: يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ (1). قال: إذا عرض اللّه عزّ و جلّ ذلك عليهم [في القيامة] ينكرون و يحلفون له، كما حلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيعاً... * الآية(2).

أقول: الظاهر تطبيق الآية على أعمالهم، لا أنّه شأن نزولها.

ص: 201


1- . إلى هنا في تفسير القمي.
2- . تفسير القمي 357:2، تفسير الصافي 150:5.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الكفار و المنافقين الذين هم حزب الشيطان هم الخاسرون، بيّن سبحانه أنّهم أذلّ خلق في الدنيا و الآخرة، و أنّ العزّة و الغلبة للّه و لرسوله بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ و يعارضون اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و يعاندونهما من الكفّار و المنافقين، أُولٰئِكَ البعيدون من كلّ خير كائنون فِي زمرة اَلْأَذَلِّينَ من خلق اللّه، فانّ ذلّ أحد الخصمين على حسب عزّ الخصم الآخر، و من الواضح أنّ عزّ اللّه لا نهاية له، فلا بدّ أن يكون ذلّ خصومه لا نهاية له.

ثمّ بيّن سبحانه عزّ المؤمنين الذين هم حزبه بقوله:

كَتَبَ اللّٰهُ في اللّوح المحفوظ، و قدّر في علمه و المكتوب فيه هو: و اللّه لَأَغْلِبَنَّ على الأعداء المجادلين و المعارضين أَنَا وَ رُسُلِي بالحجّة لدى المحاجّة، و بالسيف لدى المنازعة.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تلك الغلبة بقوله: إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ لا يتصوّر فيه الضعف، قدير لا يطرؤه العجز(1).

عَزِيزٌ و غالب على جميع الموجودات، لا يمنعه مانع عن إنفاذ إرادته.

عن مقاتل: انّه قال المؤمنون: لئن فتح اللّه لنا مكة و الطائف و خيبر و ما حولهنّ، رجونا أن يظهرنا اللّه على فارس و الروم. فقال عبد اللّه بن ابي رئيس المنافقين: أ تظنّون الروم و فارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، و اللّه إنهم لأكثر عددا و أشدّ بطشا من أن تظنّوا فيهم ذلك، فنزل قوله: كَتَبَ اللّٰهُ...

الآية(2).

لاٰ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ثمّ لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين، و أنّهم يتولّون اليهود و أهل الكتاب، بيّن حال المؤمنين المخلصين بقوله:

لاٰ تَجِدُ يا محمّد، و لا يمكن أن ترى قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ عن صميم القلب و الخلوص من شوب النفاق يُوٰادُّونَ و يحابّون مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و يعاندونهما، كأهل الكتاب و المشركين وَ لَوْ كٰانُوا هؤلاء المعاندون آبٰاءَهُمْ الذين هم أكرم

ص: 202


1- . كذا، و الظاهر لا يطرأ عليه العجز.
2- . تفسير روح البيان 410:9.

الناس عندهم، أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ الذين هم أحبّ الناس إليهم أَوْ إِخْوٰانَهُمْ الذين هم أعزّ الناس لديهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و أقرباءهم الذين هم أولى الناس بموادّتهم، لامتناع اجتماع حبّ اللّه و رسوله في القلب مع محبّة أعدائهما.

أُولٰئِكَ العظماء الذين تصلّبوا في دينهم، و لا يوادّون أعداء اللّه كَتَبَ اللّه و أثبت فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ و رسّخه فيها وَ أَيَّدَهُمْ و قوّاهم على القيام بوظائف الايمان بِرُوحٍ حاصل مِنْهُ تعالى، و هو نور القرآن على قول(1) ، أو الايمان كما عن (الكافي) عنهما عليهما السّلام(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما من أحد إلاّ و لقلبه اذنان في جوفه؛ اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، و اذن ينفث فيها الملك، فيؤيّد اللّه المؤمن بالملك، فذلك قوله: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كلّ وقت يحسن فيه و يتّقي، و تغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه و يعتدي، فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه، و تسيخ في الثرى عند إساءته...» الخبر(4).

و عن الباقر عليه السّلام في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا زنى الرجل فارقه روح الايمان». قال: «قوله تعالى:

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (5) .

وَ يُدْخِلُهُمْ في الآخرة برحمته جَنّٰاتٍ و بساتين ذوات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أبدا، و الأعلى و الأعظم من جميع النّعم أنه رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ بسبب إيمانهم و أعمالهم وَ رَضُوا عَنْهُ بسبب وفور إنعامه عليهم و إكرامه لهم في الدنيا و الآخرة.

ثمّ لمّا بيّن أنّ الكفّار و المنافقين حزب الشيطان، جعل المؤمنين الخلّصين حزبه بقوله: أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ و جنده و أنصاره أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و الفائزون بجميع الخيرات الدنيوية و الاخروية، كما أنّ حزب الشيطان هم الخاسرون المحرومون عن جميع الخيرات.

قيل: نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين أخبر أهل مكة بمسير النبي صلّى اللّه عليه و آله إليهم لمّا أراد فتحها(6).

قد سبق في آخر سورة الحديد ثواب تلاوتها. الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 203


1- . تفسير روح البيان 413:9.
2- . الكافي 2:2 و 1/13 و 5، تفسير الصافي 151:5.
3- . الكافي 3/206:2، تفسير الصافي 152:5.
4- . الكافي 1/206:2، تفسير الصافي 152:5.
5- . الكافي 11/213:2، تفسير الصافي 152:5.
6- . تفسير الرازي 277:29.

ص: 204

في تفسير سورة الحشر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ مِنْ دِيٰارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة المجادلة المختتمة ببيان كون الكفّار و المنافقين حزب الشيطان، و كون المؤمنين المخلصين حزب اللّه، و أنّ الغلبة للّه و لرسوله، و ذمّ المنافقين على موادّتهم لليهود، نظمت سورة الحشر المبتدئة ببيان عظمة اللّه، و كونه غالبا غير مغلوب، و بيان غلبته على الكفّار و ذلّتهم، و بيان موالاة المنافقين لهم، فابتدأها بذكر أسمائه الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

ثمّ عظّم ذاته المقدّسة ببيان تسبيح جميع الموجودات له بقوله:

سَبَّحَ لِلّٰهِ و نزّهه عن كلّ ما لا يليق به جميع مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ ذاتا و حالا و مقالا على حسبهم، كما قال سبحانه:

وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ و قال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل(1).

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بيانا لاستحقاقه التسبيح بالعزّة بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ و الغالب القاهر على كلّ شيء، و بالحكمة البالغة بقوله: اَلْحَكِيمُ و توطئته لبيان غلبته على أهل الكتاب و إذلالهم، الذي هو من آثار عزّته، و بيان إجلائهم الذي هو من مقتضيات حكمته بقوله::

هُوَ العزيز الغالب اَلَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ و هم طائفة بني النّضير مِنْ دِيٰارِهِمْ و أوطانهم في الوقت المقدّر لِأَوَّلِ الْحَشْرِ و الإخراج من مكانهم إلى الشام.

حكي أنّ بني النّضير و بني قريضة و بني قينقاع كانوا من أولاد هارون أخي موسى بن عمران، نزلوا بيثرب، و استوطنوا فيها انتظارا لبعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله الموعود في التوراة، فلمّا هاجر النبي صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى المدينة، عاهدهم على أن لا يكونوا له و لا عليه، فلمّا ظهر صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر قالوا فيما بينهم: هذا النبيّ إلى المدينة، عاهدهم على أن لا له و لا عليه، فلمّا ظهر صلّى اللّه عليه و له يوم بدر قالوا فيما بينهم: هذا النبيّ الموعود الذي نعته في التوراة أنه لا تردّ له راية، فلمّا انكسر جيش النبي صلّى اللّه عليه و آله في احد، شكّوا و نكثوا

ص: 205


1- . تفسير روح البيان 415:9.

العهد.

فخرج كعب بن أشرف - أحد رؤساء بني النّضير - في أربعين راكبا إلى مكة، و حالفوا قريشا على قتال النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا رجع كعب إلى المدينة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أخبره بنقض بني النّضير عهدهم، و تعاهدهم قريشا على قتاله، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله محمد بن مسلمة الأنصاري، و كان أخا كعب بن أشرف من الرّضاعة أن يقتله غيلة، فأتاه ليلا فاستخرجه من بيته، و قال: إنّي أتيتك لاستقرض منك شيئا من التمر، فخرج إليه فقتله، و رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخبره، ففرح به، لأنّه أضعف قلوبهم(1).

و في بعض الأخبار: أنّه صلّى اللّه عليه و آله ذهب إلى بني النّضير في نفر من أصحابه، للاستعانة منهم في دية، فقالوا: نعم يا أبا القاسم حتّى تطعم و ترجع بحاجتك، و كان صلّى اللّه عليه و آله جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض و قالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل تلك الحالة، فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحّاش - أحد ساداتهم -: أنا لذلك. فقال لهم سلاّم بن مشكم - أحد ساداتهم -: لا تفعلوا، و اللّه ليخبرنّ بما هممتم به، إنّه لنقض للعهد الذي بيننا و بينه. فلمّا صعد الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام صلّى اللّه عليه و آله مظهرا أنّه يقضي حاجته، و ترك أصحابه في مجالسهم، و رجع مسرعا إلى المدينة، و لم يعلم من كان معه من أصحابه، فلمّا استبطئوه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه فقال: رأيته داخل المدينة.

فأقبل أصحابه حتّى انتهوا إليه، فأخبرهم بما أرادت بنو النّضير، فندم اليهود، و قالوا: قد اخبر بما أردنا، فأرسل محمد بن مسلمة إليهم: أن اخرجوا من بلدي - و هم كانوا في قرية زاهرة من أعمال المدينة - فلا تساكنوني بها، فلقد هممتم بما هممتم من الغدر. فسكتوا و لم يقولوا حرفا، فأرسل إليهم المنافقون أن أقيموا في حصونكم فإنّا نمدّكم.

فأرسل حيي بن أخطب - أحد رؤسائهم - إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّا لا نخرج من ديارنا، فافعل ما بدا لك. اغترارا بقول المنافقين، فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه إليهم راكبا على حمار مخطوم بليف، و حمل رايته علي بن أبي طالب صلّى اللّه عليه و آله حتى نزل بهم و صلّى العصر بفنائهم، و قد تحصّنوا و قاموا على حصنهم يرمون بالنّبال و الحجارة، و زرّبوا(2) على الأزقّة و حصّنوها، فحاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إحدى

ص: 206


1- . تفسير روح البيان 416:9.
2- . أي اتخذوا الزرائب، جمع زريبة: الحفرة. و لعلّه تصحيف (و درّبوا) على ما سيأتي لا حقا عن تفسير الرازي.

و عشرين ليلة.

فلمّا قذف في قلوبهم الرّعب، و أيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصّلح، فأبى عليهم إلاّ الجلاء، على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم إلاّ السلاح، فحملوا ستمائة بعير، و ضربوا الدّفوف، و أظهروا السّرور إظهارا للجلادة، و عبروا من سوق المدينة، و ذهبوا إلى الشام إلى أريحا من فلسطين، و إلى أذرعات من دمشق، إلاّ أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق، و آل حيي بن أخطب، فانّهم لحقوا بخيبر، و لحقت طائفة منهم بالحيرة من قرى الكوفة، و لم يسلم من بني النّضير إلاّ رجلان، و كان هذا الحشر و الإخراج لأهل الكتاب أول إخراج لم يكن قبله إخراج لهم من مكان(1).

و قيل: هذا أول حشرهم، و آخره إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام حين بلغه الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يبقينّ دينان في جزيرة العرب»(2).

و قيل: آخر حشرهم يوم القيامة(3). و قيل: يكون في الرجعة(4).

و عن ابن عباس: قال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اخرجوا» قالوا: إلى أين ؟ قال: «إلى أرض المحشر»(5).

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ مِنْ دِيٰارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ (2) وَ لَوْ لاٰ أَنْ كَتَبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاٰءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابُ النّٰارِ (3) ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللّٰهَ فَإِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ (4) مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا فَبِإِذْنِ اللّٰهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفٰاسِقِينَ (5) ثمّ بيّن سبحانه غاية قوّتهم بقوله تعالى: مٰا ظَنَنْتُمْ و ما رجوتم في حقّ بني النّضير أَنْ يَخْرُجُوا من المدينة و ما حولها، لشدّة بأسهم و منعتهم و غاية عزّتهم و شوكتهم وَ ظَنُّوا هؤلاء الكفرة أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ و حافظتهم حُصُونُهُمْ المنيعة مِنْ بأس اَللّٰهِ و قهره فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ بإذلالهم و خذلانهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا و من سبب لم يتوهّموا، و هو قتل كعب بن أشرف غيلة هُوَ بذلك قَذَفَ و ألقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و الخوف الشديد، و كان حالهم حين الرّعب

ص: 207


1- . تفسير روح البيان 217:9.
2- . تفسير روح البيان 418:9.
3- . جوامع الجامع: 486، تفسير أبي السعود 225:8، تفسير روح البيان 418:9.
4- . تفسير الصافي 153:5، و فيه: في الرجفة.
5- . مجمع البيان 387:9، تفسير الصافي 153:5.

أنهم يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ و مساكنهم بِأَيْدِيهِمْ ليسدّوا بأخشابها و حجارتها أبواب الأزقّة، أو لئلا تبقى بعد جلائهم للمسلمين، أو لينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. قيل:

إنّهم كانوا يخربون بيوتهم من داخل، و المسلمون من خارج(1).

و قيل: إنّهم درّبوا(2) على الأزقّة و حصّنوها، أ فنقضوا بيوتهم و جعلوها كالحصون على أبواب الأزقّة، و كان المسلمون يخربون سائر جوانبها(3).

و قيل: إنّ المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، و اليهود لمّا أيقنوا بالجلاء يخربون البيوت، لينزعوا الأخشاب و الأبواب و غيرها من الآلات الحسنة، و يحملوها معهم(4).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء عاقبة الغدر و الكفر، و إبادته شوكة اليهود و كسر قوّتهم، أمر أهل البصيرة بالاعتبار بقوله: فَاعْتَبِرُوا و اتّعظوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ فلا تغدروا، و لا تعتمدوا على غير اللّه في أمر من الامور. عن ابن عباس: يريد يا أهل اللّب و العقل و البصائر(3).

:

وَ لَوْ لاٰ أَنْ كَتَبَ اللّٰهُ في حقّ بني النّضير، و قدّر عَلَيْهِمُ بمقتضى حكمته البالغة اَلْجَلاٰءَ الخروج من أوطانهم لَعَذَّبَهُمْ بالقتل و الأسر، أو بعذاب الاستئصال فِي الدُّنْيٰا على كفرهم و غدرهم وَ لَهُمْ مع الجلاء فِي الْآخِرَةِ بعد خروجهم من الدنيا عَذٰابُ النّٰارِ لا نجاة لهم منه:

ذٰلِكَ الجلاء بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و عاندوهما، و خالفوا عهدهما وَ مَنْ يُشَاقِّ اللّٰهَ كائنا من كان، يعاقبه اللّه أشدّ العقاب فَإِنَّ اللّٰهَ على من شاقّه و خالفه شَدِيدُ الْعِقٰابِ.

ثمّ روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر بقطع نخيل اليهود و إحراقها، فجاءوا إليه، و قالوا: يا محمد، إنّك قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخيل و تحريقها؟ و كان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت(4)::

مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ و نخلة كريمة قصيرة طيبة الثمرة، أو أيّ نخل من نخيلهم بأنواعها أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا كما كانت، و لم تقطعوها فَبِإِذْنِ اللّٰهِ و أمره لمصلحة ازدياد غيظ الكفّار و تضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزّ أموالهم وَ لِيُخْزِيَ و يذلّ اليهود اَلْفٰاسِقِينَ الخارجين عن طاعة اللّه، فانّ في كلّ من القطع و الترك حكمة و مصلحة.

وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاٰ رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

ص: 208


1- . تفسير الرازي 280:29.
2- . درّب الجنديّ: صبر في الحرب وقت الفرار. (3و4) . تفسير الرازي 280:29.
3- . تفسير الرازي 282:29.
4- . تفسير الرازي 283:29، تفسير روح البيان 423:9.

ثمّ بيّن سبحانه حكم ما بقي منهم من أموالهم بقوله::

وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ و ردّه عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ من الأملاك و الأموال فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أيّها المسلمون، و لا أسرعتم السير في تحصيله مِنْ خَيْلٍ و جماعة أفراس وَ لاٰ رِكٰابٍ و جماعة الإبل، و لا تحمّلتم مشقة عظيمة، و لا قتالا شديدا، و ما قطعتم مسافة بعيدة.

قيل: إنّ قرى بني النّضير كانت على ميلين من المدينة، لم يركب أحد في مسيرهم إليهم إلاّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، فانّه ركب حمارا مخطوما باللّيف، أو جملا على ما قاله بعض(1).

و الحاصل أنّه لم تحصل هذه الغنيمة بقتالكم وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على حسب سنّته الجارية عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ تسليطه عليه من أعدائه بغير الأسباب الظاهرية، فلا حقّ لكم في أموالهم، بل هي مختصّة به، مفوّض أمرها إليه، يضعها حيث يشاء وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

قيل: نزلت حين طلب الصحابة من الرسول صلّى اللّه عليه و آله قسمة أموالهم عليهم، كما قسّم الغنيمة بينهم، فبيّن اللّه الفرق بين الغنيمة و الفيء، فانّ الغنيمة فيما أتعب المسلمون أنفسهم في تحصيله، و أوجفوا عليه بخيل و ركاب، بخلاف الفيء فانّه ما لم يتحمّل [المسلمون] في تحصيله تعبا شديدا(2).

و قيل: إنّ أموال بني النّضير اخذت بالقتال و المحاصرة أياما، فلم تكن فيئا، و إنما نزلت الآية في فدك، لأنّ أهل فدك جلوا عنه، فصارت تلك القرى و الأموال في يد الرسول صلّى اللّه عليه و آله من غير حرب(3).

مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ (7) ثمّ أكّد سبحانه حكم الفيء في أموال بني النّضير ببيان حكم كلّي الفيء بقوله تعالى::

مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ و ردّه عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أموال أَهْلِ الْقُرىٰ و البلدان بغير حرب و قتال فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ أشرك ذاته المقدّسة مع رسوله تشريفا له وَ لِذِي الْقُرْبىٰ و أرحام الرسول صلّى اللّه عليه و آله من بني هاشم و بني عبد المطّلب وَ الْيَتٰامىٰ منهم وَ الْمَسٰاكِينِ و الفقراء منهم وَ ابْنِ السَّبِيلِ و المسافرين المنقطعين عن أموالهم منهم.

روى بعض العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقسّم الفيء خمسة أسهم، و يتصرّف في أربعة أخماس كيف يشاء، و يقسّم الخمس الباقي خمسة أسهم، و يأخذ لنفسه خمس الخمس، و يقسّم أربعة أخماس

ص: 209


1- . تفسير روح البيان 426:9. (2و3) . تفسير الرازي 284:29.

الباقية إلى الأصناف الأربعة من بني هاشم(1).

و عن أمير المؤمنين: «نحن و اللّه الذين عنى اللّه بذي القربى الذين قرنهم اللّه بنفسه و بنبيه صلّى اللّه عليه و آله فقال: مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ منّا خاصة، و لم يجعل لنا سهما في الصدقة، كرّم اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أكرمنا من أوساخ أيدي الناس»(2).

و عن السجّاد عليه السّلام قال: «قرباؤنا، و مساكيننا، و أبناء سبيلنا»(3).

ثمّ ذكر سبحانه علّة اختصاص الفيء بهذه الأصناف المعينة في الآية بقوله: كَيْ لاٰ يَكُونَ الفيء الذي حقّه أن يكون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و فقراء أقربائه دُولَةً و شيئا متداولا و دائرا بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ و ذوي الثروة مِنْكُمْ أيّها الناس يتكاثرون به، كما كان يتداول بين الأغنياء في الجاهلية، و ينتقل من غنيّ إلى غنيّ، و يحرم منه الفقراء وَ مٰا آتٰاكُمُ و أعطاكم اَلرَّسُولُ من الأمر فيئا كان أو حكما فَخُذُوهُ و اقبلوا منه وَ مٰا نَهٰاكُمْ و ردعكم عَنْهُ من إتيان عمل أو التصرف في مال فَانْتَهُوا و ارتدعوا عنه وَ اتَّقُوا اللّٰهَ في مخالفته رسوله إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ فيعاقب من خالفه و عصاه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عز و جلّ أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه، فقال: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلى رسوله فقد فوّضه إلينا»(4).

و في رواية: «فوّض إلى نبيه أمر خلقه، لينظر كيف طاعتهم» ثمّ تلا هذه الآية(5).

و عن ابن مسعود: أنّه رأى رجلا محرما و عليه ثيابه، فقال: انزع هذا عنك. فقال الرجل: اقرأ بهذا عليّ آية من كتاب اللّه. قال: نعم وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (6).

لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ (8) ثمّ بيّن سبحانه على ما قيل الأصناف الثلاثة الأخيرة في الآية في خصوص فيء بني النّضير(7) بقوله تعالى::

لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ من مكّة إلى المدينة، و من دار الحرب إلى دار السّلام، ثمّ وصفهم

ص: 210


1- . تفسير الرازي 285:29.
2- . الكافي 1/453:1، تفسير الصافي 155:5.
3- . مجمع البيان 391:9، تفسير الصافي 156:5.
4- . الكافي 9/210:1، تفسير الصافي 156:5.
5- . الكافي 208:1 و 3/209 و 5، تفسير الصافي 156:5.
6- . تفسير روح البيان 429:9.
7- . تفسير البيضاوي 481:2، تفسير روح البيان 430:9.

بقوله: اَلَّذِينَ لم يهاجروا اختيارا و بميل أنفسهم، بل أُخْرِجُوا و اضطرّوا إلى الهجرة من قبل الكفّار مِنْ دِيٰارِهِمْ و مساكنهم التي كانت لهم بمكّة وَ من أَمْوٰالِهِمْ حال كونهم يَبْتَغُونَ و يطلبون رزقهم الذي يكون فَضْلاً و إحسانا مِنَ اللّٰهِ في الدنيا وَ يطلبون رِضْوٰاناً منه في الآخرة وَ يَنْصُرُونَ بهجرتهم اَللّٰهِ بإعلاء دينه وَ رَسُولَهُ ببذل الأنفس في حفظه و ترويج شريعته أُولٰئِكَ المهاجرون هُمُ الصّٰادِقُونَ في دعوى الايمان بشهادة أعمالهم على ضمائرهم.

في نقل استدلال

بعض العامة على

خلافة أبي بكر

و إمامته، و ردّه

قال الفخر الرازي: يعني أنّهم لمّا هجروا لذّات الدنيا، و تحمّلوا شدائدها لأجل الدين، ظهر صدقهم في دينهم. ثمّ قال: تمسّك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر، فقال: هؤلاء الفقراء من المهاجرين و الأنصار كانوا يقولون لأبي بكر: يا خليفة رسول اللّه، و اللّه يشهد على كونهم صادقين، فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم: يا خليفة رسول اللّه، و متى كان الأمر كذلك، وجب الجزم بصحّة إمامته(1).

أقول: هذا الاستدلال ممّا تضحك به الثكلى، فانّ المقام قرينة على كون المراد الصدق في دعوى الايمان لا في كلّ ما يتكلّمون به، كقوله تعالى: بَلِ اللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2) أي في دعوى الايمان، لا في جميع الامور، مع أنّا نعلم أنّهم كانوا كاذبين في هذا الخطاب إن كان المراد أنّه استخلفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نصبه للامامة، و لم يدّعه غالب أشياعه و أتباعه، و إن كان المراد بالخليفة الجالس في مجلسه، و لو بالغصب و القهر، فنحن نقول بخلافته، و لا يحتاج إلى الاستدلال بالآية، و لا يدلّ الخطاب على إمامته من جانب اللّه و وجوب طاعته، كما يقوله العامّة.

ثمّ اعلم أنّه بناء على مذهبنا من اختصاص الفيء بالرسول و الأئمة بعده، كما ذكره اللّه في فيء بني النّضير، لا بدّ من حمل الآية على استحباب صرفهم الفيء المختصّ بهم في المصارف المعينة.

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ وَ الْإِيمٰانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ثمّ مدح سبحانه الأنصار بقوله::

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ دار الهجرة، و هي المدينة وَ الْإِيمٰانَ و تمكّنوا فيهما أشدّ التمكّن في زمان سابق على هجرة المهاجرين إليهم، و مِنْ قَبْلِهِمْ.

ص: 211


1- . تفسير الرازي 286:29.
2- . الحجرات: 17/49.

قيل: إنّ المعنى تبوّءوا المدينة، و أخلصوا الايمان من قبل هجرتهم(1). و قيل: إنّ المراد من الايمان هو المدينة، لظهور الايمان و قوّته فيها(2).

و هم يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين، لمحبّتهم الايمان باللّه و برسوله وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ و لا يدركون في أنفسهم حٰاجَةً و إقبالا إلى شيء مِمّٰا أُوتُوا و اعطوا اولئك المهاجرون من الفيء وَ يُؤْثِرُونَ و يقدّمون المهاجرين عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ في الفيء و غيره ممّا يرتبط بالمعاش جودا و حبّا لهم وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ و شدّة حاجة.

عن ابن عباس: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم و أموالكم، و قسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم، و إن شئتم كان لهم الغنيمة و لكم دياركم و أموالكم» فقالوا:

لا، بل نقسم لهم من ديارنا و أموالنا، و لا نشاركهم في الغنيمة، فنزلت الآية(3).

قيل: إن من كان له امرأتان يفارق إحداهما و يزوّجها واحدا منهم(4).

في إيثار المؤمنين

إخوانهم على

أنفسهم

أقول: كان الايثار من صفات الكاملين في الايمان، فانّ المؤمن الحقيقي يؤثر أخاه المؤمن على نفسه.

عن (الامالي): أنّه جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجل فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيوت أزواجه، فقلن: ما عندنا إلاّ الماء، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من لهذا الرجل الليلة ؟» فقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: «أنا له يا رسول اللّه» فأتى فاطمة عليه السّلام و قال لها: «ما عندك يا ابنة رسول اللّه ؟» فقالت: «ما عندنا إلاّ قوت العشيّة(5) ، لكنّا نؤثر ضيفنا». فقال: «يا ابنة رسول اللّه، نوّمي الصّبية، و أطفئ المصباح» فلمّا أصبح غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل اللّه: وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ... الآية(6).

و عن أنس: أنّه اهدي إلى رجل من الأنصار رأس [شاة] و كان مجهودا، فوجّه به إلى جار له زاعما أنّه أحوج إليه منه، فوجّه جاره أيضا إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتّى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول(7).

و عن حذيفة العدوي، قال: انطلقت في غزوة أطلب ابن عمّ لي و معي شيء من الماء قاصدا أنّه إذا كان به رمق سقيته، فاذا أنا به فقلت له: أسقيك ؟ فأشار إليّ برأسه أن نعم، فاذا برجل يقول: آه آه،

ص: 212


1- . تفسير الرازي 287:29، تفسير أبي السعود 229:8، تفسير روح البيان 432:9.
2- . تفسير الرازي 287:29.
3- . تفسير الرازي 287:29.
4- . تفسير البيضاوي 481:2، تفسير روح البيان 433:9.
5- . في المصدر: الصبية.
6- . أمالي الطوسي: 309/185، تفسير الصافي 157:5.
7- . تفسير روح البيان 433:9.

فأشار إلى ابن عمّي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه فجئت إليه فاذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فاذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فاذا هو قد مات(1).

و قال بعض العامة: إنّ الآية قد نزلت في أبي طلحة الأنصاري حين نزل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضيف، و لم يكن عنده ما يضيفه به، فقال: «ألا رجلا يضيف هذا رحمه اللّه ؟» فقام أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله، و قال لامرأته: أكرمي ضيف رسول اللّه، فنوّمت الصّبية، و أطفأت السّراج، و جعل الضيف يأكل و هما يريان أنّهما يأكلان معه و لا يأكلان، فنزلت(2).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ سعادة الدارين لمن يحفظ نفسه عن البخل، فكيف بمن يؤثر غيره على نفسه بقوله: وَ مَنْ يُوقَ و يحفظ شُحَّ نَفْسِهِ و حرصها على البخل بالمال بتوفيق اللّه و إعانته فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و الفائزون بأعلى المقاصد من خير الدنيا و الآخرة و سعادتهما.

وَ الَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نٰافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوٰانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاٰ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ (11) ثمّ مدح سبحانه المؤمنين التابعين للمهاجرين و الأنصار في الايمان و الصلاح بقوله::

وَ الَّذِينَ جٰاؤُ حين مات المهاجرون و الأنصار، و وجدوا مِنْ بَعْدِهِمْ من المؤمنين الصالحين إلى يوم القيامة يحبّون السابقين منهم بالايمان، و يدعون لأنفسهم و لهم و يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا ذنوبنا وَ لِإِخْوٰانِنَا في الدين اَلَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ من المهاجرين و الأنصار و غيرهم وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ و حقدا و عداوة لِلَّذِينَ آمَنُوا بك و برسولك لمكان الاخوّة الدينية رَبَّنٰا إِنَّكَ بعبادك المؤمنين رَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا ترضى - برأفتك بنا - باستيلاء الشيطان علينا، و لا تردّ برحمتك دعاءنا.

ثمّ لمّا أرسل عبد اللّه بن ابي بن(3) سلول رأس المنافقين سرا إلى بني النضير: أن اثبتوا في أماكنكم،

ص: 213


1- . تفسير روح البيان 434:9.
2- . تفسير روح البيان 434:9.
3- . زاد في النسخة: أبي، راجع: الأعلام للزركلي 65:4.

و قاتلوا محمدا إن قاتلكم، فانّا ننصركم، و إن أخرجكم بالقهر لنخرجنّ معكم. ذمّهم سبحانه على قولهم و نفاقهم، و أكذبهم في وعدهم الموافقة و النّصرة بقوله::

أَ لَمْ تَرَ يا محمد، أو يا من يعقل، و لم تنظر إِلَى الكفار اَلَّذِينَ نٰافَقُوا المسلمين في المدينة حتى تتعجّب منهم، فانّهم يَقُولُونَ سرا لِإِخْوٰانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ الموافقون لهم في عداوة الرسول و المؤمنين المشاركين معهم في الكفر: يا إخواننا، و اللّه لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم قسرا و اضطرارا بأمر محمد و جور أصحابه لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ من المدينة البتة. و نصاحبنكم حيثما ذهبتم أداء لحقّ الصداقة و الاخوة وَ لاٰ نُطِيعُ فِيكُمْ و لا نوافق في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم أَبَداً و في وقت من الأوقات، و إن طال الزمان وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ و حاربكم محمّد و أصحابه لَنَنْصُرَنَّكُمْ و لنعاوننّكم على قتالهم و لا نخذلنكم وَ اللّٰهُ العالم بالضمائر و السرائر يَشْهَدُ و يخبر عن علم إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ في وعدهم و غارّون لهم، مع تأكيدهم إياه باليمين الغموس.

لَئِنْ أُخْرِجُوا لاٰ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاٰ يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ (12) ثمّ أنّه تعالى بعد تكذيبهم الإجمالي كذّبهم تفصيلا بقوله::

لَئِنْ أُخْرِجُوا من ديارهم و أموالهم قهرا و جبرا و إذلالا، و اللّه لاٰ يَخْرُجُونَ من المدينة مَعَهُمْ لشدّة علاقتهم بدورهم و وطنهم وَ لَئِنْ قُوتِلُوا و حوربوا من طرف النبي صلّى اللّه عليه و آله لاٰ يَنْصُرُونَهُمْ لشدّة حبّهم أنفسهم وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض و التقدير، و اللّه لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبٰارَ و ليفرّن من القتال أفظع الفرار، لضعف قلوبهم، و تحفّظا على أنفسهم ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ اولئك المنافقون بعد ذلك من قبل أحد، أو لا ينصرون اولئك اليهود، و على أيّ تقدير لا ينفعهم نصرة المنافقين.

قيل: إنّ عبد اللّه بن ابي أرسل إلى بني النّضير سرّا: أنّ معي ألفين من قومي و غيرهم من العرب يدخلون حصنكم و يموتون عن آخرهم قبل أن يصل إليكم محمد، و تمدّكم بنو قريظة و حلفاؤهم من غطفان، فطمع بنو النّضير فيما قاله اللعين و [هو] جالس في بيته، حتى قال أحد سادات بني النّضير - و هو سلاّم بن مشكم لحيي بن أخطب الذي هو المتولّي لأمر بني النّضير -: و اللّه يا حيي إنّ قول ابن ابي لباطل، و ليس بشيء، و إنّما يريد أن يورّطك في الهلكة حتى تحارب محمّد فيجلس في بيته و يتركك. فقال حيي: نأبى إلاّ عداوة محمد و إلاّ قتاله. فقال سلاّم فهو و اللّه جلاؤنا من أرضنا،

ص: 214

و ذهاب أموالنا و شرفنا، أو سبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا، فكان ما كان(1).

و فيه دلالة واضحة على صحّة نبوة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و إعجاز القرآن من حيث إخباره بالغيب و وقوع المخبر به موافقا لإخباره.

لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّٰهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ (13) لاٰ يُقٰاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّٰ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرٰاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّٰى ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطٰانِ إِذْ قٰالَ لِلْإِنْسٰانِ اكْفُرْ فَلَمّٰا كَفَرَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخٰافُ اللّٰهَ رَبَّ الْعٰالَمِينَ (16) فَكٰانَ عٰاقِبَتَهُمٰا أَنَّهُمٰا فِي النّٰارِ خٰالِدَيْنِ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ الظّٰالِمِينَ (17) ثمّ بيّن سبحانه علّة خلفهم الوعد و غدرهم بإخوانهم الكافرين بقوله تعالى::

لَأَنْتُمْ أيّها المسلمون أكثر رعبا في قلوب المنافقين، و أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّٰهِ.

قيل: يعني أنّهم يظهرون لكم في العلانية الرّهبة و الخوف من اللّه، و أنتم في صدورهم أشدّ رهبة منه تعالى (2)ذٰلِكَ المذكور من كون رهبتكم أشدّ من اللّه بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ شيئا حتّى يعلموا عظمة اللّه و كمال قدرته و شدّة عقابه، فيخافوه حقّ المخافة. ثمّ بيّن سبحانه شدّة خوفهم من المسلمين بقوله::

لاٰ يُقٰاتِلُونَكُمْ و لا يجترئون على حربكم حال كونهم جَمِيعاً و متّفقين في موطن واحد إِلاّٰ فِي قُرىً و قلاع مُحَصَّنَةٍ محكمة بالدّروب و الخنادق و ما أشبه ذلك أَوْ مِنْ وَرٰاءِ جُدُرٍ و عقيب الحيطان، و لا يبارزونكم في الميدان، و ليس ذلك لضعف قلوبهم و قوّتهم، و جبنهم و وهن أعضائهم، بل بَأْسُهُمْ و سطوتهم و بطشتهم بَيْنَهُمْ و في قبال أقرانهم شَدِيدٌ و إنّما ضعفهم و جبنهم منكم لما قذف اللّه في قلوبهم من الرّعب، مع أن الشّجاع يجبن، و العزيز يذلّ عند محاربة اللّه و رسوله.

و قيل: إنّ المراد انّهم إذا اجتمعوا يقولون: لنفعلنّ كذا و كذا، فهم يهدّدون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان و الحصون، و يحترزون عن الخروج للقتال، فبأسهم فيما بينهم شديد لا فيما بينهم و بين المؤمنين(3).

ص: 215


1- . تفسير روح البيان 439:9.
2- . الكشاف 507:4، تفسير روح البيان 440:9.
3- . تفسير الرازي 290:29.

و عن ابن عباس: معناه أنّ بعضهم عدو للبعض(1) ، و يدلّ عليه قوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً و متّفقين و مؤتلفين و متحابّين في الظاهر وَ قُلُوبُهُمْ شَتّٰى و متفرقة لا الفة بينهم، لأنّ لكلّ واحد منهم مذهبا غير مذهب الآخرين، و لذا بينهم في الواقع عداوة شديدة.

ذٰلِكَ التشتّت بين قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْقِلُونَ و لا يدركون أنّ تشتّت القلوب يوهن قوّتهم، و تقلّ به حظوظهم، أو لا يعقلون شيئا حتّى يعرفوا الحقّ فيتّبعوه و تتّحد كلمتهم. اعلموا أنّ مثل هؤلاء اليهود و المنافقين و حالهم العجيبة:

كَمَثَلِ الكفّار اَلَّذِينَ حاربوا الرسول في بدر، أو كمثل بني قينقاع على ما قيل من أنّهم كانوا أشجع اليهود و أكثرهم أموالا، فلمّا كانت وقعة بدر أظهروا البغي و الحسد، و نبذوا العهد كبني النّضير، فأخرجهم رسول اللّه(2) من المدينة إلى الشام (3)مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً من زمانهم. قيل: قبل ستة أشهر من قضية بني النّضير(4) ، أو قيل: سنة(3). فانّهم ذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ و رأوا سوء عاقبة كفرهم في الدنيا وَ لَهُمْ في الآخرة عَذٰابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره، و مثل المنافقين الذين غرّروا اليهود و وعدوهم النصر ثمّ خذلوهم:

كَمَثَلِ الشَّيْطٰانِ الغويّ إِذْ قٰالَ لِلْإِنْسٰانِ إغراء و إغواء: اُكْفُرْ باللّه و برسوله فَلَمّٰا كَفَرَ الانسان بإغوائه و حلّ به العذاب في القيامة - و قيل: إنّ المراد بالانسان أبو جهل(6) ، و معنى (اكفر) دم على كفرك، فلمّا كفروا جاء إلى بدر، و ابتلى بالقتال - قٰالَ الشيطان له، إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ و منقطع عنك إِنِّي أَخٰافُ اللّٰهَ رَبَّ الْعٰالَمِينَ من أن يعذّبني بأشدّ العذاب. قيل: هذا من كذبات اللّعين(7). و قيل: إنّه قال ذلك استهزاء (8)، و لو كان صادقا لم يستمرّ على عصيان اللّه:

فَكٰانَ مآل كفر الانسان و الشيطان المغوي له و عٰاقِبَتَهُمٰا في الآخرة أَنَّهُمٰا فِي النّٰارِ التي سجّرها الجبّار بغضبه حال كونهما خٰالِدَيْنِ و مقيمين فِيهٰا لا خلاص لهما منها أبدا وَ ذٰلِكَ العذاب المقيم جَزٰاءُ الظّٰالِمِينَ على أنفسهما العاصين للّه، و كذلك كان عاقبة اليهود و المنافقين.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (18) وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ (19)

ص: 216


1- . تفسير الرازي 290:29.
2- . في النسخة: فأخرجوا بالرسول. (3و4) . تفسير روح البيان 442:9.
3- . تفسير روح البيان 443:9. (6-7) . تفسير روح البيان 443:9.

ثمّ شرع سبحانه في وعظ المؤمنين بقوله::

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ و خافوا عذابه على عصيانه، و احترزوا عن مخالفته وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ أيّ نفس كانت مٰا قَدَّمَتْ و أيّ عمل هيّأت و ادّخرت لِغَدٍ و يوم عظيم في القرب بمنزلة اليوم البعد، و هو يوم القيامة.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالتقوى التي هي(1) أقوى سبب النجاة من العذاب و الفوز بالنّعم الأبدية بقوله:

وَ اتَّقُوا اللّٰهَ أيّها المؤمنون فيما تأتون و ما تذرون.

ثمّ هدّد العصاة بقوله: إِنَّ اللّٰهَ العالم بكلّ شيء خَبِيرٌ و عليم بِمٰا تَعْمَلُونَ من المعاصي فيعاقبكم عليه أشدّ العقاب:

وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّٰهَ و ذهبوا عن عظمته و حقوقه باشتغالهم بلذّات الدنيا و زخارفها، و لم يراعوا أوامره و نواهيه حقّ الرّعاية فَأَنْسٰاهُمْ اللّه بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ و أذهلهم عن خيرها و ما فيه نجاتها من المهالك، و فوزها بما فيه حياتها الدائمة و تنعّمها و راحتها الأبدية أُولٰئِكَ الناسون هُمُ الْفٰاسِقُونَ و الخارجون عن طاعة العقل و الشرع، و في تخصيص الفسق بهم إشعار بأنّ فسق غيرهم كالمعدوم لأنّهم كفّار.

لاٰ يَسْتَوِي أَصْحٰابُ النّٰارِ وَ أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفٰائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ثمّ لمّا نهى سبحانه عن مماثلة الكفّار، بيّن عدم أهلية الكفّار لأن يماثلهم و يساويهم أحد من المؤمنين بقوله::

لاٰ يَسْتَوِي و لا يماثل الكفّار الذين هم أهل العذاب و أَصْحٰابُ النّٰارِ في الآخرة، و المؤمنون الذين هم أهل الرحمة وَ أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ فانّ أصحاب النار هم الخاسرون و أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفٰائِزُونَ بأعلى المقاصد و أسنى المطالب.

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلا هذه الآية، فقال: أصحاب الجنة من أطاعني و سلّم لعليّ بن أبي طالب بعدي و أقرّ بولايته، و أصحاب النار من سخط الولاية و نقض العهد»(2).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض المواعظ الموجبة لرقّة القلب و الخشوع، مدح القرآن بغاية التأثير، و ذمّ قلوب الكفار بغاية القساوة بقوله::

لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن، الذي فيه المواعظ الشافية و التهديدات الكثيرة عَلىٰ جَبَلٍ و كان المقصود بالمواعظ و الانذارات التي فيه وعظه و إنذاره، و اللّه

ص: 217


1- . في النسخة: الذي هو.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 22/280:1، تفسير الصافي 159:5.

لَرَأَيْتَهُ يا محمد مع غاية صلابته و عدم تأثّره ممّا يصادفه خٰاشِعاً و ضارعا و منقادا و مُتَصَدِّعاً و متشقّقا مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ و خوف عقوبته و عذابه، فانّ إدراك الجمادات عظمة خالقها و مهابة ربّها و شعورها بشدّة(1) عذابه ممّا ثبت بالآيات كقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (2) و قوله: وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ (3) و غيرهما من الآيات و الروايات الكثيرة كرواية بكاء الجبل من خوف أن يكون من حجارة جهنّم(4) و غيرها، فلا وجه لما قيل: من أنّ الآية من باب التمثيل و التخييل(5) ، و المعنى لو جعل في الجبل حياة و عقل، كما جعل فيكم، ثمّ أنزل عليه القرآن بمواعظه و إنذاراته لصار خاشعا، و لم تتأثّر قلوب الكفار، فهي أشدّ قسوة من الحجارة وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ و البيانات العجيبة نَضْرِبُهٰا و نبيّنها لِلنّٰاسِ كافة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيها، فيتّعظون بها.

هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاٰمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّٰارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللّٰهُ الْخٰالِقُ الْبٰارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) ثمّ لمّا كان عظمة القرآن و قوّة تأثيره منوطا بمعرفة عظمة اللّه و كمال قدرته، شرع سبحانه في بيان صفاته الجليلة الدالة على كمال عظمته بقوله::

هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ و لا معبود بالحقّ سواه في عالم الوجود، و هو عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ المطّلع على المعدومات و الموجودات أو على ما غاب عن الحواسّ و ما يدرك بها، أو على السرّ و العلانية، أو على الدنيا و الآخرة، و هُوَ وحده اَلرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ قد تكرّر في السابق تفسيره:

هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ الْمَلِكُ و السّلطان المطلق في جميع عوالم الوجود اَلْقُدُّوسُ و البليغ في النزاهة عن العيوب في ذاته اَلسَّلاٰمُ قيل: يعني السالم عن الآفات لا يطرؤه(6) نقص في ذاته و صفاته(7) و قيل: يعني معطي السلامة للموجودات(8). و قيل: يعني المسلّم على المؤمنين في الجنة(7).

ص: 218


1- . في النسخة: شدّة.
2- . الإسراء: 44/17.
3- . البقرة: 74/2.
4- . الخرائج و الجرائح 259/169:1.
5- . جوامع الجامع: 488، تفسير البيضاوي 483:2، تفسير أبي السعود 233:8.
6- . كذا، و الظاهر: لا يطرأ عليه. (7و8) . تفسير روح البيان 459:9.
7- . تفسير روح البيان 459:9.

اَلْمُؤْمِنُ و المصدّق للأنبياء بإجراء المعجزات على أيديهم، أو معطي الأمان لأوليائه من العذاب، أو لمن توكّل عليه من الآفات و المضارّ. و عن ابن عباس: هو الذي آمن الناس من ظلمه، و آمن من آمن من عذابه(1).

اَلْمُهَيْمِنُ و المسلّط على ما سواه، و الرقيب عليهم، و الحافظ لهم. و قيل: يعني القائم على خلقه بأعمالهم و أرزاقهم و آجالهم(2).

اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، أو الخطير الذي لا مثل له، أو معطي العزّ لكلّ ذي عزّ اَلْجَبّٰارُ و القهّار لخلقه على ما أراد، أو المصلح لأعمالهم. و عن ابن عباس: الملك العظيم(3).

اَلْمُتَكَبِّرُ و العظيم، أو البليغ في الكبرياء، الذي كلّ شيء دونه، و مفتقر إليه، و خاضع لديه. عن ابن عباس: الذي تكبّر بربوبيته، فلا شيء مثله(4).

سُبْحٰانَ اللّٰهِ و تنزّه (عن) إشراك (ما) يُشْرِكُونَ به من الأصنام و الأوثان و الكواكب و غيرها، كما أشرك به الجاهلون.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن تفسير سُبْحٰانَ اللّٰهِ فقال: «هو تعظيم جلال اللّه و تنزيهه عمّا قال فيه كلّ مشرك، فإذا قالها العبد صلّى عليه كلّ ملك»(3).

و عن [عبد اللّه بن] عمر قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما على هذا المنبر في المدينة، و هو يحكي عن ربّه تعالى فقال: «إنّ اللّه عز و جلّ إذا كان يوم القيامة جمع السماوات و الأرضين في قبضته تبارك و تعالى» ثمّ قال هكذا، و شدّ قبضته ثمّ بسطها «ثمّ يقول: أنا اللّه، أنا الرحمن، أنا الرحيم، أنا الملك، أنا القدّوس، أنا السّلام، أنا المؤمن، أنا العزيز، أنا الجبّار أنا المتكبّر، أنا الذي بدأت الدنيا و لم تك شيئا، أنا الذي أعدتها، أين الملوك، أين الجبابرة»(4).

:

هُوَ اللّٰهُ تعالى وحده اَلْخٰالِقُ و المقدّر لكلّ شيء على مقتضى حكمته و وفق مشيئته اَلْبٰارِئُ و الموجد للأشياء بعد تقديرها اَلْمُصَوِّرُ لها بعد إيجاد موادّها.

ثمّ أشار سبحانه إلى سائر أسمائه إجمالا بقوله: لَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنىٰ و الصفات العليا، و لذا يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ من الموجودات الناطقة و الصامتة، و ينزّهه عمّا لا يليق بالوهيته بلسان الحال و المقال.

ص: 219


1- . تفسير روح البيان 460:9.
2- . تفسير روح البيان 462:9. (3و4) . تفسير الرازي 294:29.
3- . التوحيد: 1/312، تفسير الصافي 160:5.
4- . تفسير روح البيان 464:9.

ثمّ لمّا كان جميع صفاته راجعة إلى القدر و العلم، ختم تمجيد ذاته المقدّسة بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و القدير العليم.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة الحشر، لم يبق جنّة و لا نار و لا عرش و لا كرسيّ و لا حجاب و لا السماوات السبع و الأرضون السبع و الهواء و الريح و الطير و الشجر و الجبال و الدوابّ و الشمس و القمر و الملائكة إلاّ صلّوا عليه، و استغفروا له، و إن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا»(1).

الحمد للّه على ما أنعم عليّ من التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 220


1- . ثواب الأعمال: 117، مجمع البيان 384:9، تفسير الصافي 160:5.

في تفسير سورة الممتحنة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمٰا جٰاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهٰاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ السَّبِيلِ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الحشر المتضمّنة لبيان خذلان الكفّار و المنافقين و ذمّهم، و نصرة المسلمين، و المواعظ الشافية، اردفت بسورة الممتحنة المتضمّنة لنهي المؤمنين عند موادّة الكفّار، و بيان حكم أزواجهم إذا هاجرن إلى المسلمين، و أخذ الرسول البيعة منهنّ على العمل بأحكام الاسلام، و بيان المواعظ الشافية، فابتدأها سبحانه بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع في نصح المؤمنين و النهي عن موادّة الكفار بقوله::

ص: 221

و ترسلون إِلَيْهِمْ خفية أخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله بِالْمَوَدَّةِ و بسبب المحبّة و النصيحة وَ الحال أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ في قلوبكم من مودّتكم، أو من الناس من كتابكم إليهم وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ و أظهرتم للرسول من الاعتذار من إظهار المودّة لهم وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ و خالف نهيي عن موادّتهم و اتّخاذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ و أخطأ سَوٰاءَ السَّبِيلِ و وسط طريق الحقّ و الصواب الموصل إلى السعادة الأبدية و القرب من اللّه. عن ابن عباس: أنّه عدل عن قصد الايمان في اعتقاده(1).

روى بعض العامة: أنّ حاطب بن أبي بلتعة - و كان من المهاجرين و البدريين و المبايعين بيعة الرضوان - لمّا تجهّز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغزوة الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، كتب إلى أهل مكّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريدكم فخذوا حذركم، فانّه توجّه إليكم بجيش كالليل: و أرسل الكتاب مع سارة مولاة بني عبد المطّلب، و أعطاها عشرة دنانير و بردة، و كانت سارة قدمت من مكة، و كانت مغنية، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لما ذا جئت ؟» قالت: جئت لتعطيني شيئا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما فعلت بعطائك من شبّان قريش ؟» قالت: مذ قتلتهم ببدر لم يصل إليّ شيء إلاّ قليل، فأعطاها شيئا، فرجعت إلى مكّة و معها كتاب حاطب، فنزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا و عمّارا و طلحة و الزبير و المقداد و مرثد بن أبي مرثد، و قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - و هو موضع بين الحرمين - فانّ بها ضعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكّة، فخذوه منها، فان أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها ثمّة فجحدت، فسلّ عليّ عليه السّلام سيفه، فأخرجته من عقائصها.

فاستحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاطبا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول اللّه، ما كفرت منذ أسلمت، و ما غششتك منذ نصحتك، و لكنّي كنت امرأ ملصقا(2) في قريش، و لم أكن من أنفسهم، و من معك من المهاجرين كان له فيهم قرابات يحمون أهاليهم و أموالهم، و ليس فيهم من يحمي أهلي، فأردت أن آخذ عندهم يدا، و لم أفعله كفرا و ارتدادا عن ديني، و قد علمت أنّ كتابي لا يغني عنهم. فصدّقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قبل عذره. فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: «يا عمر، إنّه شهد بدرا، و ما يدريك لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر(3).

أقول: في ذيل الرواية من القدح في عمر - من جرأته على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إظهار مخالفته له - ما لا يخفى.

و عن القمي، قال: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة - إلى أن قال -: كان سبب ذلك أنّ حاطب بن أبي

ص: 222


1- . تفسير الرازي 298:29.
2- . أي حليفا.
3- . تفسير روح البيان 472:9.

بلتعة كان أسلم و هاجر إلى المدينة، و كان عياله بمكّة، فكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصاروا إلى عيال حاطب، و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمد صلّى اللّه عليه و آله و هل يريد أن يأتي مكة، فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد ذلك، و دفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة، فوضعته في قرونها فمرّت، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بذلك، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير بن العوّام في طلبها، فلحقوها فقال أمير المؤمنين صلّى اللّه عليه و آله: «أين الكتاب ؟» فقالت: ما معي شيء. ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئا. فقال الزبير: ما نرى معها شيئا. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه ما كذّبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا كذّب رسول صلّى اللّه عليه و آله على جبرئيل، و لا كذّب جبرئيل على اللّه جلّ ثناؤه، و اللّه لئن لم تظهري الكتاب لأردّن رأسك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» فقالت: تنحّ عنّي حتى اخرجه. فأخرجت الكتاب من قرونها.

فأخذه أمير المؤمنين عليه السّلام و جاء به إلى رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا حاطب، ما هذا؟» فقال حاطب: يا رسول اللّه، ما نافقت و لا غيّرت و لا بدّلت، و إنّى أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه حقا، و لكن أهلي و عيالي كتبوا إليّ بحسن صنع قريش إليهم، فأحببت أن اجازي قريشا بحسن معاشرتهم. فأنزل اللّه عزّ و جلّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية(1).

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحٰامُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) ثمّ بيّن سبحانه شدّة عداوة الكفّار للمؤمنين، و إن ألقوا إليهم بالمودّة بقوله:

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ و يظهر الكفّار عليكم، و يتمكّنوا منكم أيّها المؤمنون يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً متجاهرين في العداوة و البغض، و مظهرين ما في قلوبهم من الغيظ و الحقد وَ يَبْسُطُوا و يمدّوا إِلَيْكُمْ من غيظهم أَيْدِيَهُمْ بالضرب و القتل و الإيذاء وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ من الشّتم و السبّ و اللّعن وَ وَدُّوا و تمنّوا في جميع الأوقات قبل الظفر و الظهور عليكم و بعده لَوْ تَكْفُرُونَ و أن ترجعوا إلى دينهم، و تعبدوا آلهتهم، و أن توادّوهم أيّها المؤمنون لرعاية أهلكم و أرحامكم، فاعلموا أنّه

لَنْ تَنْفَعَكُمْ بجلب خير أو دفع ضرّ أَرْحٰامُكُمْ و أقاربكم وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ و ذراريكم يَوْمَ الْقِيٰامَةِ فانّه يوم يَفْصِلُ اللّه و يفرّق بَيْنَكُمْ و بين أرحامكم و أولادكم و أصدقائكم، لأنّه لا همّ لأحد فيه إلاّ نجاة نفسه من

ص: 223


1- . تفسير القمي 361:2، تفسير الصافي 161:5.

الأهوال و العذاب وَ اللّٰهُ الخالق لشراشركم و جميع أجزائكم بِمٰا تَعْمَلُونَ من الموادّة للكفار و إرسال الكتاب إليهم و سائر معاصيكم و زلاّتكم الجلية و الخفية بَصِيرٌ لأنّ جميعها بمنظر منه و مرآة، كأنّه يدرك جميعها بحسن البصر.

قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قٰالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّٰا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ كَفَرْنٰا بِكُمْ وَ بَدٰا بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةُ وَ الْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مٰا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّٰهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنٰا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنٰا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) ثمّ بيّن سبحانه أنّ وظيفة الايمان التبرّي من الأهل و الأقارب إذا كانوا مشركين، كما تبرأ إبراهيم عليه السّلام و المؤمنون به من أقاربهم بقوله:

قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أيّها المؤمنون بمحمد صلّى اللّه عليه و آله أُسْوَةٌ و قدوة و تبعة حَسَنَةٌ مرضية كاملة فِي عمل إِبْرٰاهِيمَ وَ الَّذِينَ آمنوا باللّه و شاركوا مَعَهُ في التوحيد من سائر الأنبياء و الأولياء و المؤمنين إِذْ قٰالُوا لِقَوْمِهِمْ و أقاربهم المشركين إِنّٰا بُرَآؤُا و متنفّرون مِنْكُمْ لشرككم وَ مِمّٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ من الأصنام و الأوثان و الكواكب و غيرها و أعداؤكم و أعداؤها.

ثمّ بالغوا في تبرّيهم منهم بقولهم: كَفَرْنٰا بِكُمْ و تبرّأنا منكم، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) ، أو أنكرنا دينكم وَ بَدٰا و ظهر بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ لاختلافنا في الدين اَلْعَدٰاوَةُ و طلب الشرّ و الضرّ لكم وَ الْبَغْضٰاءُ و الغضب عليكم أَبَداً دائما حَتّٰى تتركوا الشّرك و تُؤْمِنُوا عن صميم القلب بِاللّٰهِ وَحْدَهُ فحينئذ تنقلب العداوة و البغضاء بالصداقة و المحبّة و الالفة، فعليكم أيّها المؤمنون الاقتداء بإبراهيم عليه السّلام في أقواله إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ إشفاقا لِأَبِيهِ آزر المشرك برجاء إيمانه، و لموعدة وعدها إياه لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يا أبه، فانّ الاستغفار هو الذي أقدر عليه وَ مٰا أَمْلِكُ لَكَ و ليس في قدرتي مِنْ دفع عذاب اَللّٰهِ عنك مِنْ شَيْءٍ يسير إن دمت على الشرك، و إنّما وعده الاستغفار لكونه راجيا إيمانه بالتوحيد، فليس لكم أيّها المؤمنون أن تتأسّوا و تقتدوا بإبراهيم في استغفاره للمشرك بأن تستغفروا للمشركين، لأنّه موادّة و لغو، لعدم إمكان المغفرة لهم،

ص: 224


1- . التوحيد: 5/260، تفسير الصافي 162:5.

و كذا لكم أيّها المؤمنون الأسوة في إبراهيم عليه السّلام و من معه في دعائهم بقوله: رَبَّنٰا و مليكنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا و اعتمدنا في جميع امورنا وَ إِلَيْكَ يا ربّ أَنَبْنٰا و رجعنا من ذنوبنا و معاصينا بالتوبة و الطاعة وَ إِلَيْكَ وحدك اَلْمَصِيرُ و المرجع بعد الموت و حين الخروج من القبر

رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا و لا تصيّرنا في الدنيا فِتْنَةً و امتحانا و بلاء لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن تسلّطهم علينا، فيظنّون بذلك أنّهم على الحقّ، كما عن ابن عباس(1).

و قيل: إنّ المعنى لا تعذّبنا بأيديهم و لا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحقّ لما أصابهم ذلك (2)وَ اغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا و استر ذنوبنا في الدنيا و الآخرة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ و القادر على إنفاذ إرادتك، فلا تذلّ من لجأ إليك اَلْحَكِيمُ في فعاله، فلا يصدر منك إلاّ ما فيه الصلاح الأتمّ.

لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللّٰهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عٰادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللّٰهُ قَدِيرٌ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) ثمّ أكّد سبحانه وجوب التأسّي بإبراهيم عليه السّلام و من معه بقوله تعالى:

لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ أيّها المؤمنون بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أعني لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ و يأمل النيل بثوابه، و يؤمن بلقائه وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ و يصدّق به، لوضوح أنّ من يؤمن باللّه و بيوم الجزاء لا يترك التأسّي بإبراهيم عليه السّلام وَ مَنْ يَتَوَلَّ و يعرض عن الاقتداء بهم، و عن مواعظ اللّه فَإِنَّ اللّٰهَ وحده هُوَ الْغَنِيُّ بالذات عنه و عن جميع خلقه، و طاعتهم و نصرتهم لدينه اَلْحَمِيدُ و المحمود في ذاته و صفاته، أو المستحقّ للحمد و إن لم يكن حامدا

عَسَى اللّٰهُ و الرجاء منه أَنْ يَجْعَلَ و يوجد بَيْنَكُمْ أيّها المؤمنون وَ بَيْنَ الكفّار اَلَّذِينَ عٰادَيْتُمْ و باغضتم مِنْهُمْ بسبب اختلاف الدين مَوَدَّةً و محبّة بأن يوفّقهم للاسلام و يوافقهم معكم في الدين، كما جعل باسلام جميع أهل مكة و مخالطتهم أصحاب الرسول و مناكحتهم فيهم وَ اللّٰهُ قَدِيرٌ على تقليب قلوبهم و تغيير سوء أخلاقهم إلى حسنها وَ اللّٰهُ غَفُورٌ لمن أسلم، أو لمن فرط منكم في موالاتهم من قبل رَحِيمٌ بالمؤمنين.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه أمر نبيه و المؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفارا، فقال: لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قطع اللّه ولاية المؤمنين منهم، و أظهروا لهم العداوة، ثمّ قال: عَسَى اللّٰهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عٰادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً فلمّا أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 225


1- . تفسير الرازي 302:29.
2- . تفسير الرازي 302:29.

و ناكحوهم، و تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب»(1).

لاٰ يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المؤمنين بالانقطاع عن الكفّار و ترك موالاتهم، رخّص سبحانه في مواصلة الذين لم يظهروا العداوة و لم يضرّوهم بقوله تعالى:

لاٰ يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ و لا يمنعكم أيّها المؤمنون عَنِ الكفّار اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ و لم يقدموا على حربكم لاطفاء نور اللّه وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ و أوطانكم من أَنْ تَبَرُّوهُمْ و تحسنوا إليهم بتطييب قلوبهم، و حسن عشرتهم، و بذل المال لهم وَ تُقْسِطُوا و تؤدّوا حقوقهم إِلَيْهِمْ و لا تظلموهم إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ و العادلين في معاملاتهم.

قيل: إنّ المراد من هذا القسم من الكفار، هم الذين عاهدوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله على ترك القتال و المظاهرة في العداوة، و هم خزاعة، فانّهم عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا يقاتلوه و لا يخرجوه، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالوفاء إلى مدّتهم و البرّ بهم، كما عن ابن عباس(2).

و عنه: أنّهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوهم يوم بدر كرها(3). و قيل: هم الذين آمنوا بمكة و لم يهاجروا(4). و قيل: إنّهم النّسوان و الصبيان(5). و قيل: إنّ المسلمين استأمروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أقربائهم من المشركين(6).

و عن ابن الزبير: أنّ فتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها و هي مشركة بهدايا، فلم تقبلها، و لم تأذن لها في الدخول، فنزلت الآية، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أن تدخلها و تقبل منها و تكرمها و تحسن إليها(3).

إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ (9) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلاٰ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّٰارِ لاٰ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاٰ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذٰا

ص: 226


1- . تفسير القمي 362:2، تفسير الصافي 163:5.
2- . تفسير الرازي 303:29. (3-4-5-6) . تفسير الرازي 304:29.
3- . تفسير الرازي 304:29.

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ وَ سْئَلُوا مٰا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا مٰا أَنْفَقُوا ذٰلِكُمْ حُكْمُ اللّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) ثمّ بيّن سبحانه أنّ النهي عن تولّي عتاة المشركين و الكفّار بقوله:

إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ و يمنعكم أيّها المؤمنون عَنِ الكفار اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ و نازلوكم لإطفاء نوره وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ و أوطانكم كجبابرة أهل مكّة وَ ظٰاهَرُوا و عاونوا قريشا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ من مكّة عن أَنْ تَوَلَّوْهُمْ و توادّوهم وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و يتودّد معهم فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ على أنفسهم بعصيان اللّه و بوضع الودّ موضع العداوة.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم معاملة المؤمنين مع الفريقين من الكفّار، بيّن سبحانه حكم النساء اللاتي يأتين المؤمنين مظهرات للايمان بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ النساء اللاتي يدّعين أنّهن اَلْمُؤْمِنٰاتُ بألسنتهنّ حال كونهنّ مُهٰاجِرٰاتٍ إليكم من أوطانهنّ، و لم تعلموا صدقهنّ في دعوى الايمان فَامْتَحِنُوهُنَّ و اختبروهن اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ الحقيقي، لعلمه بسرائر الخلق، و أنتم لا تعلمون إلاّ بالأمارات و الامتحان.

قيل: إنّ من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى محمد(1).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقول للتي يمتحنها: «باللّه الذي لا إله إلاّ هو، ما خرجت عن بغض زوجي، باللّه ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، باللّه ما خرجت التماس دنيا، باللّه ما خرجت حبّا لرجل من المسلمين، باللّه ما خرجت لحدث احدثه، باللّه ما خرجت إلاّ رغبة في الاسلام و حبّا للّه و لرسوله»(2).

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ بعد الامتحان اَلْمُؤْمِنٰاتُ صادقات في دعوى الايمان فَلاٰ تَرْجِعُوهُنَّ و لا تردّوهن إِلَى أزواجهن من اَلْكُفّٰارِ لأنّه لاٰ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ لانقطاع علقة الزوجية بينهما بالإيمان وَ لاٰ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لوضوح ارتفاع الزوجية من الجانبين لا من جانب واحد.

و قيل: إنّ الجملة الاولى لبيان زوال النكاح الأول، و الثانية لبيان امتناع النكاح الجديد(3) ، أو للتأكيد، و أعطو أزواجهنّ الكفرة (4)وَ آتُوهُمْ من مال المؤمنات، أو من بيت المال مٰا أَنْفَقُوا عليهنّ و دفعوا إليهنّ من المهور.

روي أنّ صلح الحديبية كان على أنّ من أتى المسلمين من الكفّار ردّوه إليهم، فجاءت سبيعة بنت

ص: 227


1- . تفسير روح البيان 482:9.
2- . تفسير الرازي 305:29، تفسير روح البيان 482:9.
3- . تفسير روح البيان 483:9.
4- . تفسير الرازي 305:29، تفسير روح البيان 483:9.

الحارث الأسلمية مسلمة، و النبي صلّى اللّه عليه و آله بالحديبية، فأقبل مسافر المخزومي زوجها طالبا لها، فقال: يا محمد، اردد عليّ امرأتي فانّك قد شرطت أن تردّ علينا من أتاك منّا، فنزلت الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الشرط كان في الرجال دون النساء» فاستحلفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق(1).

و عن القمي رحمه اللّه: إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف باللّه إنّه لم يحملها على اللّحوق بالمسلمين بغض زوجها الكافر، و لا حبّ أحد من المسلمين، و إنّما حملها على ذلك الاسلام، فاذا حلفت على ذلك قبل إسلامها و أتوهم ما أنفقوا، يعني تردّ المسلمة على زوجها الكافر صداقها [ثم يتزوجها المسلم](2).

وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أيّها المسلمون فَإِنْ تتزوّجوا المهاجرات و تَنْكِحُوهُنَّ لخلوهنّ عن الزوج بالاسلام إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ و حين أعطيتموهنّ أُجُورَهُنَّ و التزمتم مهورهنّ، فانّه لا يكفي ما أعطى الزوج عن المهر وَ لاٰ تُمْسِكُوا و لا تعتدّوا بِعِصَمِ النساء اَلْكَوٰافِرِ و نكاحهنّ لبطلانه بسبب الاختلاف في الدين.

عن ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه(3) ، يعني لا يعدّها من الأربع، بل يجوز تزويج غيرها و نكاح اختها.

عن الباقر عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «يقول: من كانت عنده امرأة كافرة - يعني على غير ملة الاسلام - و هو على ملّة الاسلام، فليعرض عليها الاسلام، فان قبلت فهي امرأته، و إلاّ فهي بريئة منه، فنهى اللّه أن يمسك بعصمتها»(4).

و عنه عليه السّلام قال: «لا ينبغي نكاح أهل الكتاب» قيل: و أين تحريمه ؟ قال: «قوله: لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ» (5).

أقول: يعارضه أخبار معتبرة، فلا بدّ من حملها على الكراهة وَ سْئَلُوا أيّها المؤمنون من الكفّار، و اطلبوا منهم مٰا أَنْفَقْتُمْ من مهور نسائكم إذا لحقن بهم وَ لْيَسْئَلُوا اولئك الكفّار، و يطلبوا منكم مٰا أَنْفَقُوا و أعطوا من مهور نسائهم، إذا لحقن بكم ذٰلِكُمْ الأحكام حُكْمُ اللّٰهِ الذي يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ و بين الكفّار وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ يشرّع ما تقتضيه حكمته.

ص: 228


1- . تفسير أبي السعود 239:8، تفسير روح البيان 483:9.
2- . تفسير القمي 362:2، تفسير الصافي 164:5.
3- . تفسير أبي السعود 239:8، تفسير روح البيان 485:9.
4- . تفسير القمي 363:2، تفسير الصافي 164:5.
5- . الكافي 7/358:5، تفسير الصافي 165:5.

وَ إِنْ فٰاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ إِلَى الْكُفّٰارِ فَعٰاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوٰاجُهُمْ مِثْلَ مٰا أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) ثمّ لمّا حكم اللّه تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا ذهبت إليهم، و يسأل الكفار من المسلمين مهر نسائهم إذا جاءت إليهم مسلمة، أقرّ المسلمون بحكم اللّه، و أبى المشركون العمل به، بيّن سبحانه حكم ذلك بقوله تبارك و تعالى:

وَ إِنْ فٰاتَكُمْ و انفلت منكم أيّها المسلمون شَيْءٌ واحد مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ و ذهبت إِلَى الْكُفّٰارِ و لم يمكنكم إرجاعها.

قيل: إطلاق الشيء على أحد للتحقير(1). و قيل: للإشباع في التعميم(2). و قيل: يعني شيء من مهور أزواجكم(3) و نسائكم فَعٰاقَبْتُمْ و غنمتم من الكفّار كما عن ابن عباس(1) أو جاءت نوبتكم من أداء المهر و تزوّجتم باخرى عقيبها فَآتُوا و أعطوا المسلمين اَلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوٰاجُهُمْ إلى الكفّار من الغنيمة، أو من مهر المرأة المسلمة التي جاءت إلى المسلمين مِثْلَ مٰا أَنْفَقُوا على أزواجهم الفائتة من المهر وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ في العمل بأحكامه و لا تخالفوه، فانّ الايمان مقتضي لذلك.

قيل: نزلت الآية في عمر بن الخطاب، كانت عنده فاطمة بنت أبي امية ابن المغيرة، فكرهت الهجرة، و أقامت مع المشركين، فنكحها معاوية بن أبي سفيان، فأمر اللّه تعالى رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها(2).

و قيل: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ستّ نسوة، فأعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أزواجهم مهور نسائهم من الغنيمة(3).

و عنهما عليهما السّلام: سئلا ما معنى العقوبة هنا؟ قال: «إنّ الذي ذهبت امرأته، فعاقب على امرأة اخرى غيرها - يعني تزوّجها - فاذا هو تزوّج امرأة اخرى غيرها فعلى الامام أن يعطيه مهر امرأته الذاهبة».

فسئلا كيف صار المؤمنون يردّون على زوجها المهر بغير فعل منهم في ذهابها، و على(4) المؤمنين أن يردّوا على زوجها ما أنفق عليها ممّا يصيب المؤمنون ؟ قال: «يردّ الامام عليه، أصابوا من الكفّار أو لم يصيبوا، لأنّ على الامام أن يجبر(5) حاجته من تحت يده، و إن حضرت القسمة فله أن يسدّ كلّ نائبة تنوبه قبل القسمة، و إن بقي بعد ذلك شيء قسمه بينهم، و إن لم يبق شيء فلا شيء لهم»(6).

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ الْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً وَ لاٰ

ص: 229


1- . تفسير الرازي 307:29.
2- . تفسير الصافي 165:5.
3- . جوامع الجامع: 491.
4- . في النسخة: قيل على.
5- . في علل الشرائع: ينجز، و في تفسير الصافي: يحيز.
6- . علل الشرائع: 6/517، تفسير الصافي 165:5.

يَسْرِقْنَ وَ لاٰ يَزْنِينَ وَ لاٰ يَقْتُلْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ وَ لاٰ يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبٰايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم هجرة النساء و تزويج المسلمين إيّاهن، بيّن كيفية بيعتهنّ بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ النساء اَلْمُؤْمِنٰاتُ بقصد أن يُبٰايِعْنَكَ و يعاهدنك عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً من الأصنام و الأوثان و الكواكب و الملائكة و غيرها وَ لاٰ يَسْرِقْنَ و لا يأخذن أموال أزواجهنّ(1) و غيرهم خفية بغير إذن مالكها وَ لاٰ يَزْنِينَ وَ لاٰ يَقْتُلْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ بشرب الدواء و الحركات الموجبة لسقطهنّ و غير ذلك من الأسباب، أو المراد قتلهنّ البنات وَ لاٰ يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ و نسبة الولد كذبا إلى أزواجهنّ حال كونهنّ يَفْتَرِينَهُ ببطونهنّ اللاتي بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ و فروجهنّ اللاتي بين أرجلهنّ.

قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهنّ وَ أَرْجُلِهِنَّ، و ذلك أنّ الولد إذا رضعته الامّ وضعته بين يديها و رجليها، أو بطنها الذي تحمله فيه بين يديها، و مخرجه بين رجليها(2).

عن ابن عباس: يعني لا تلحق بزوجها ولدا ليس منه(3).

وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي عمل مَعْرُوفٍ و حسن تكلّفهنّ به من فعل أو ترك.

حكى بعض أكابر مفسري العامة: أنّ المراد هو النهي عن النّياحة، و الدعاء بالويل، و تمزيق الثوب، و نتف الشعر و نشره، و خمش الوجه(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو ما فرض اللّه عليهنّ من الصلاة و الزكاة، و ما أمرهنّ به من خير»(5).

فَبٰايِعْهُنَّ على ما ذكر وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه لطفا عليهنّ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَحِيمٌ بهم بإعطاء الثواب العظيم.

روى الفخر الرازي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح، أخذ في بيعة النساء و هو على الصفا، و عمر أسفل منه يبايع النساء بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، فجاءت هند بنت عتبة امراة أبي سفيان متقنعة متنكّرة خوفا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعرفها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا» فرفعت

ص: 230


1- . في النسخة: زوجهنّ.
2- . جوامع الجامع: 491، تفسير الرازي 308:29، تفسير روح البيان 489:9.
3- . مجمع البيان 414:9، تفسير الرازي 308:29.
4- . تفسير روح البيان 489:9.
5- . تفسير القمي 364:2، تفسير الصافي 166:5.

هند رأسها، و قالت: و اللّه لقد عبدنا الأصنام، و إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الاسلام و الجهاد فقط؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و لا تسرقن» فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، و إنّي أصبت من ماله هناة، فما أدري أ تحلّ لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى و فيما غير فهو لك حلال.

فضحك رسول اللّه و عرفها، فقال لها: «و إنّك لهند بنت عتبة ؟» قالت: نعم، فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه، عفا اللّه عنك.

فقال: «و لا تزنين» قالت: أ تزني الحرّة ؟ فقال: «و لا تقتلن أولادكنّ» فقالت: ربّيناهم صغارا، و قتلتهم كبارا، فأنتم و هم أعلم، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر. فضحك عمر حتى استلقى، و تبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال: «و لا يأتين ببهتان يفترينه» و هو أن تقذف على زوجها ما ليس منه، فقالت هند: إن البهتان لأمر قبيح، و ما تأمرنا إلاّ بالرّشد و مكارم الأخلاق.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و لا تعصينني في معروف» فقالت: و اللّه ما جلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في شيء، انتهى(1).

في كيفية أخذ

النبي صلّى اللّه عليه و آله البيعة

من النساء

قال بعض العامة: إنّ مبايعة عمر إيّاهن من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2) ؛ لأنّه لا يجوز للرسول صلّى اللّه عليه و آله مسّ أيدي الأجنبية.

أقول: كذلك و اللّه لا يجوز لعمر مسّها بطريق أولى، و رووا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهنّ، و هي اميمة اخت خديجة(3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة بايع الرجال، ثمّ جاءت النساء يبايعنه، فأنزل اللّه: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ الآية، قالت هند: أمّا الولد فقد ربّيناهم صغارا و قتلتهم كبارا. و قالت امّ الحكم بنت الحارث بن هشام، و كانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول اللّه، ما ذلك المعروف الذي أمرنا اللّه أن لا نعصيك فيه ؟ قال: لا تلطمن خدّا، و لا تخمشن وجها، و لا تنتفن شعرا، و لا تشققن جيبا، و لا تسوّدن ثوبا و لا تدعين بالويل، فبايعهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على هذا. فقالت: يا رسول اللّه كيف نبايعك ؟ قال: إنّني لا اصافح النساء، فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده فيه، ثمّ أخرجها، فقال: ادخلن أيديكنّ في هذا الماء، فهي البيعة»(4).

ص: 231


1- . تفسير الرازي 307:29.
2- . تفسير روح البيان 491:9.
3- . تفسير روح البيان 491:9.
4- . الكافي 5/527:5، تفسير الصافي 166:5.

و عنه عليه السّلام قال: «جمعهنّ حوله، ثمّ دعا بتور برام(1) ، فصبّ فيه ماء نضوحا، ثمّ غمس يده فيه، ثمّ قال: اسمعن يا هؤلاء، أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا - إلى آخر ما في الآية - ثمّ قال: أقررتنّ؟ قلن: نعم، فأخرج يده من التّور، ثمّ قال لهن: اغمسن أيديكنّ فيه، ففعلن، فكانت يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أطيب من أن يمسّ بها كفّ انثى ليست [له] بمحرم»(2).

و روي عن عائشة أنّها قالت: «ما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطّ إلاّ بما أمر اللّه، و ما مسّت كفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفّ امرأة قطّ، و كان يقول إذا أخذ عليهنّ قد بايعتك على كلّها، فاذا أقررن بذلك من قولهنّ، قال لهنّ: انطلقن فقد بايعتكنّ»(3).

و روى بعض العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بايعهنّ و بين يديه و أيديهن ثوب قطريّ - و هو ضرب من البرد - يأخذ بطرف منه و يأخذن بالطرف الآخر(4).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ (13) ثمّ أكّد سبحانه النهي عن مولاة الكفّار، أو عن مولاة خصوص اليهود بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ عن ابن عباس يقول: لا تتولّوا اليهود و المشركين، و ذلك لأنّ جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم، فنهوا عنه، و لمّا كان اليهود قد كذّبوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله، و هم يعرفون أنّه رسول اللّه، و أنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه(5) ، فهم قَدْ يَئِسُوا و قطعوا الطمع مِنَ نعيم الدار اَلْآخِرَةِ و ثوابها كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ الذين ماتوا على كفرهم و صاروا جميعا مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ فانّهم عاينوا الآخرة، و علموا بخذلانهم فيها، و عدم حظّهم منها.

روي عن مقاتل: أنّ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار، ثمّ يسأله من ربّك، و من نبيّك ؟ فيقول: لا أدري. فيقول الملك: أبعدك اللّه، انظر إلى منزلك في النار، فيدعو بالويل و الثبور، و يقول: هذا لك، فيفتح باب الجنة فيقول: هذا لمن آمن باللّه، فلو كنت آمنت بربّك نزلت الجنّة، فيكون حسرة عليه، و ينقطع رجاؤه و يعلم أنّه لا حظّ له فيها، فييأس من خير الجنّة(6).

ص: 232


1- . التور: هو إناء من صفر أو حجارة كالإجّانة، و قد يتوضأ منه، و البرمة: القدر مطلقا، و جمعها برام، و هي في الأصل المتّخذة من الحجر المعروف بالحجاز و اليمن.
2- . الكافي 2/526:5، تفسير الصافي 167:5.
3- . تفسير روح البيان 491:9.
4- . تفسير روح البيان 491:9.
5- . تفسير الرازي 309:29.
6- . تفسير روح البيان 492:9.

و قيل: إنّ المعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا و يرجعوا إلى الدنيا أحياء(1).

عن السجاد عليه السّلام: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه و نوافله، امتحن اللّه قلبه للايمان، و نوّر له بصره، و لا يصيبه فقر أبدا، و لا جنون في بدنه، و لا في ولده»(2).

الحمد للّه و الشّكر له على التوفيق لاتمام تفسيرها.

ص: 233


1- . تفسير أبي السعود 241:8، تفسير روح البيان 492:9.
2- . ثواب الاعمال: 118، مجمع البيان 402:9، تفسير الصافي 167:5.

ص: 234

في تفسير سورة الصف

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الممتحنة المبدوءة و المختتمة بالنهي عن موالاة أعداء اللّه و اليهود الذين غضب اللّه تبارك و تعالى عليهم، نظمت سورة الصفّ التي فيها الترغيب إلى معاداة أعداء اللّه و الاصطفاف في مقابلهم في ميدان الجهاد طلبا لمرضاة اللّه تعالى، فابتدأها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أعلن سبحانه بكمال عظمته المقتضية لتعظيمه و تحصيل القرب منه و المحبوبية عنده بقوله:

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و قد مرّ تفسيره مرارا.

ثمّ وبّخ سبحانه المؤمنين على تخلّفهم عن وعدهم بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ و لأيّ علّة تظهرون و تعدون مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ و لا تفون به. روي أنّ المسلمين كانوا يقولون: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه، لبذلنا أموالنا و أنفسنا فيه، فلمّا نزل الجهاد كرهوه، فنزلت الآية(1) توبيخا عليهم بعدم وفائهم بقولهم.

في وجوب الوفاء

بالوعد و عدمه

ثمّ عظّم اللّه سبحانه قبح ترك العمل بالقول و خلف الوعد بقوله:

كَبُرَ مَقْتاً و عظم بغضا عِنْدَ اللّٰهِ و في علمه أَنْ تَقُولُوا أيّها المؤمنون مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الخلف يوجب المقت عند اللّه و عند الناس، قال اللّه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ لآية»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض،

ص: 235


1- . تفسير الصافي 168:5، تفسير روح البيان 493:9.
2- . نهج البلاغة: 444 الكتاب 53، تفسير الصافي 168:5.

و ذلك قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ. .. الآيتان»(1).

أقول: ذهب بعض الأعاظم إلى وجوب الوفاء بالوعد، و قال به صاحب المستند(2) ، و ادّعى بعض الإجماع على عدم وجوبه، و الأحوط الاهتمام بالوفاء.

إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ (3) وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ (4) ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ المخالفين للوعد الذين وعدوا بالقتال و تخلّفوا عنه، و إظهار غضبه عليهم، مدح المؤمنين المقاتلين لاعلاء كلمة التوحيد بقوله:

إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ المؤمنين اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ أعداءه فِي سَبِيلِهِ و طريق مرضاته، و لإعلاء كلمة الحقّ حال كونهم صَفًّا و قائمين في مقابل الأعداء في معركة القتال مستوين و ثابتين و مستقرين، و منضمّين بعضهم ببعض كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ و جدار مَرْصُوصٌ و مستحكم لا يتحرّك من مكانه، و لا يكون فيه الخلل و الفرج.

عن ابن عباس: يوضع الحجر على الحجر، ثمّ يرصّ بأحجار صغار، ثمّ يوضع اللّبن عليه، فيسمّيه أهل مكّة المرصوص(5).

و عن ابن جبير: هذا تعليم اللّه للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوّهم(4).

ثمّ لمّا كان مخالفة المنافقين وعدهم بالقتال سببا لإيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و انكسار قلبه الشريف، سلاّه سبحانه بشكاية موسى من إيذاء قومه بقوله:

وَ إِذْ قٰالَ قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد وقت(5) قال مُوسىٰ بن عمران مع كونه صاحب المعجزات الباهرة لِقَوْمِهِ و طائفته، و هم بنو إسرائيل، بعد ما أفرطوا في إيذائه بالقول و الفعل: يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة و العصيان فيما آمركم به وَ الحال أنّكم قَدْ تَعْلَمُونَ بالأدلّة الواضحة و المعجزات الباهرة أَنِّي رَسُولُ اللّٰهِ الّذي ارسلت إِلَيْكُمْ لهدايتكم إلى الدين الحقّ و إرشادكم إلى السعادة الأبدية، فعليكم أن تعظّموني و توقّروني، و تحسنوا إليّ فَلَمّٰا زٰاغُوا و مالوا عن الحقّ، و أصرّوا على العقائد الفاسدة، و لم يتّعظوا بمواعظه أَزٰاغَ اللّٰهُ و صرف قُلُوبَهُمْ عن قبول الدين الحقّ، بالطبع عليها، و تسليط الشيطان عليهم وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي و لا يوفّق للوصول إلى الخير و السعادة اَلْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ و الخارجين عن حدود العقل

ص: 236


1- . الكافي 1/270:2، تفسير الصافي 168:5.
2- . مستند الشيعة 389:2.
3- . تفسير روح البيان 495:9.
4- . تفسير أبي السعود 243:8، تفسير روح البيان 496:9.
5- . تفسير الرازي 312:29، تفسير روح البيان 495:9.

و طريق الصواب.

وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

في بشارة

عيسى عليه السّلام ببعثة

محمد صلّى اللّه عليه و آله

ثمّ سلاّه بمخالفة قوم عيسى عليه السّلام إياه بقوله:

وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لبني إسرائيل مناديا لهم استمالة لقلوبهم إلى تصديقه: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ الذي ارسلت إِلَيْكُمْ لدعوتكم إلى التوحيد و الدين المرضيّ عند اللّه، و جئتكم حال كوني مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ و انزل قبلي عليكم مِنَ كتاب اَلتَّوْرٰاةِ الذي جاء به موسى وَ مُبَشِّراً إياكم بِرَسُولٍ عظيم الشأن الذي يَأْتِي من قبل اللّه مِنْ بَعْدِي و بعد ذهابي من بينكم. ثمّ كأنّه قيل: ما اسمه ؟ قال: اِسْمُهُ أَحْمَدُ.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أنا دعوة إبراهيم، و بشرى عيسى»(1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا أن بعث اللّه عيسى عليه السّلام قال: إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد من ولد إسماعيل يجيء بتصديقي و تصديقكم و عذري و عذركم»(2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حتى بعث اللّه المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام فبشّر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك قوله: يَجِدُونَهُ يعنى اليهود و النصارى مَكْتُوباً يعني صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و اسمه عِنْدَهُمْ يعني في التوراة و الإنجيل - إلى أن قال -: [و هو قول اللّه عز و جلّ] يخبر عن عيسى عليه السّلام: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله في صحف إبراهيم الماحي، و في توراة موسى الحادّ، و في إنجيل عيسى أحمد، و في الفرقان محمد»(4).

و عن القمي: أنه سأل بعض اليهود لم سمّيت أحمد؟ قال: «لأنّي في السماء أحمد منّي في الأرض»(5).

ثمّ وبّخ سبحانه امّة عيسى عليه السّلام أو امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ محمد أو عيسى عليهما السّلام

ص: 237


1- . تفسير روح البيان 498:9.
2- . الكافي 3/232:1، تفسير الصافي 169:5.
3- . الكافي 92/117:8، تفسير الصافي 169:5.
4- . من لا يحضره الفقيه 454/130:4، تفسير الصافي 169:5.
5- . تفسير القمي 365:2، و فيه: و أما أحمد فاني في السماء أحمد منه، تفسير الصافي 169:5.

بِالْبَيِّنٰاتِ و المعجزات الباهرات قٰالُوا عنادا و لجاجا هٰذٰا الذي جاءنا به باسم المعجزة سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة، لا يشكّ أحد في كونه سحرا و شعبذة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعىٰ إِلَى الْإِسْلاٰمِ وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ اللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) ثمّ بيّن سبحانه أنّ الذين ينسبون المعجزات إلى السحر أظلم الناس بقوله:

وَ مَنْ هو أَظْلَمُ و أكثر إضرارا على نفسه مِمَّنِ نسب كلام اللّه، أو المعجزات التي جاء بها رسوله أي السحر و اِفْتَرىٰ عَلَى اللّٰهِ و نسب إليه اَلْكَذِبَ بنسبة الكذب إلى رسوله وَ هُوَ يُدْعىٰ بلسان رسوله إِلَى دين اَلْإِسْلاٰمِ أو إلى السلامة من المكاره في الدارين، و السعادة في النشأتين وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي و لا يرشد اَلْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ على اللّه بتضييع حقوقه، و على أنفسهم بإهلاكها في الآخرة إلى ما فيه سعادتهم و خيرهم و فلاحهم اولئك الظالمون

يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا و يخمدوا نُورَ اللّٰهِ و يبطلوا دينه أو حجّته، أو يوهنوا كتابه بِأَفْوٰاهِهِمْ و أقوالهم الفاسدة و مطاعنهم الرديئة، كمن يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة وَ اللّٰهُ القادر على كلّ شيء مُتِمُّ نُورِهِ و مكمّله، و مظهر دينه، و متقن حجّة رسوله، و ناشر كتابه في الآفاق وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ و المعاندون لدين الاسلام من اليهود و النصارى و غيرهم إتمامه و إكماله و ظهوره و اتقانه و انتشاره إرغاما لانوفهم، فانّ سعيهم في إنفاذ مرادهم كسعي الخفّاش في إعدام الشمس و إطفاء نورها

ص: 238

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرىٰ تُحِبُّونَهٰا نَصْرٌ مِنَ اللّٰهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) ثمّ لمّا بيّن سبحانه رسالة رسوله، و إيتاءه بالهدى و دين الحقّ، و تكميل لطفه و تفضّله على العباد، حثّ المؤمنين على الإخلاص في الايمان به و الجهاد معه بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتكم بمحمد هَلْ أَدُلُّكُمْ و ارشدكم عَلىٰ تِجٰارَةٍ و اكتساب و معاوضة رابحة، تعالوا و عاملوا مع ربّكم معاملة يكون أهمّ فوائدها أنّها تُنْجِيكُمْ و تخلّصكم مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ في الآخرة، كما تنجيكم التجارة الدنيوية من عذاب الفقر و ألم الفاقة.

ثمّ كأنّه قيل: أيّ تجارة هي، و كيف نعمل، و ما نصنع(1) ؟ فقال سبحانه:

تُؤْمِنُونَ أولا عن صميم القلب و خلوص النّيّة بِاللّٰهِ و بوحدانيته وَ برسالة رَسُولِهِ محمد.

عن ابن عباس قال: المؤمنون: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى اللّه لعلمنا، فنزلت الآية، فمكثوا ما شاء اللّه يقولون: يا ليتنا نعلم ما هي، فدلّهم اللّه عليها بقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ (2). وَ بعد ذلك تُجٰاهِدُونَ أعداء اللّه فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و نصرة دينه بِأَمْوٰالِكُمْ بأن تبذلوها للفقراء و المجاهدين وَ أَنْفُسِكُمْ بأن تبذلوا مهجكم دون رسوله ذٰلِكُمْ الايمان و الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من الدنيا و ما فيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك لعملتم به، أو إن كنتم تعلمون أن العاقل لا يختار إلاّ ما هو خير له، لا تختارون غير الايمان و الجهاد في سبيل اللّه، فانّ فائدتهما إن فعلتما ذلك

يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ بكرمه ذُنُوبَكُمْ و يستر عن أنظاركم و أنظار جميع الخلق يوم القيامة معاصيكم و خطاياكم، و في تلك المغفرة نجاتكم من العذاب وَ بعد ذلك يُدْخِلْكُمْ بفضله جَنّٰاتٍ و بساتين ذات أشجار كثيرة و قصور عالية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة، و بعد دخول الجنّة يدخلكم منازل وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً مرضية نزهة كائنة فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ و خلود ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن هذه المساكن الطيبة فقال: «قصر من لؤلؤ في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء، في كلّ بيت سبعون وصيفا

ص: 239


1- . تفسير روح البيان 505:9.
2- . تفسير الرازي 217:29.

و وصيفة، فيعطي اللّه المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه»(1).

قد مرّ عن ابن عباس مرارا أنّ جنة عدن علم لإحدى الجنات السبعة(2).

و لكم أيّها المؤمنون مع ذلك ثواب آخر

وَ نعمة أُخْرىٰ في الدنيا تُحِبُّونَهٰا و تشتاقون إليها، و هو نَصْرٌ عزيز لكم مِنَ جانب اَللّٰهِ على أعدائكم وَ فَتْحٌ مبين لمكة، أو الروم و فارس قَرِيبٌ و عاجل وَ بَشِّرِ يا أيّها الرسول على حسب وظيفتكم اَلْمُؤْمِنِينَ بي و بك بتلك النّعم الدنيوية و الاخروية، و في توصيف النعمة الدنيوية، و هو النصر على الأعداء و فتح المسلمين بقوله: تُحِبُّونَهٰا إشعار بأنّهم يؤثرون رواج الاسلام و قوّة الدين على النّعم الاخروية.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصٰارَ اللّٰهِ كَمٰا قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوٰارِيِّينَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اللّٰهِ قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اللّٰهِ فَآمَنَتْ طٰائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ كَفَرَتْ طٰائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظٰاهِرِينَ (14) ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فوائد الايمان و الجهاد، حثّ المؤمنين على الجهاد، و دعاهم إلى نصرة دينه بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا جاهدوا الأعداء و كُونُوا أَنْصٰارَ اللّٰهِ و أعوان رسوله في إعلاء كلمة التوحيد و رواج دين الاسلام كَمٰا نصر الحواريون إذ قٰالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أو المعنى: قل يا محمد للمؤمنين بك: يا أيّها الذين آمنوا، كونوا أنصار اللّه، كما قال عيسى بن مريم لِلْحَوٰارِيِّينَ: يا حواريين مَنْ أَنْصٰارِي و إنّكم جندي و عسكري تقرّبا إِلَى اللّٰهِ أو متوجّها إليه قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ: يا نبي اللّه نَحْنُ كلّنا أَنْصٰارَ اللّٰهِ و حماة دينه فَآمَنَتْ بعيسى طٰائِفَةٌ و جماعة قليلة مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ و أطاعوه فيما أمرهم به من نصرة دينه وَ كَفَرَتْ منهم طٰائِفَةٌ و جماعة اخرى.

عن ابن عباس، قال: يعني الذين آمنوا بعيسى في زمانه، و الذين كفروا كذلك، و ذلك لأنّ عيسى لمّا رفع إلى السماء تفرّقوا ثلاث فرق؛ فرقة قالوا: كان اللّه فارتفع، و فرقة قالوا: كان ابن اللّه فرفعه إليه، و فرقة قالوا: كان عبد اللّه و رسوله فرفعه إليه، و هم المسلمون، و اتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس، و اجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم و طردوهم في الأرض، فكانت الحالة

ص: 240


1- . مجمع البيان 423:9، تفسير روح البيان 507:9.
2- . تفسير روح البيان 508:9.

هذه حتى بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله فظهرت المؤمنة على الكافرة(1) ، فذلك قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا و قوّينا اَلَّذِينَ آمَنُوا منهم عَلىٰ عَدُوِّهِمْ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله فَأَصْبَحُوا و صاروا اولئك المؤمنون ظٰاهِرِينَ و غالبين على عدوّهم بالحجّة بتصديق محمد صلّى اللّه عليه و آله أنّ عيسى عليه السّلام كلمة اللّه و روحه.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة الصفّ و أدمن قراءتها في فرائضه و نوافله، صفّه اللّه مع ملائكته و أنبيائه المرسلين(2).

الحمد للّه ربّ العالمين على إنعامه عليّ بالتوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 241


1- . مجمع البيان 423:9، تفسير الرازي 319:29.
2- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 416:9، تفسير الصافي 171:5.

ص: 242

في تفسير سورة الجمعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الصفّ المبدوءة بتعظيم اللّه تعالى ببيان تسبيح الموجودات له بصيغة الماضي، المتضمّنة لبيان رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بشارة عيسى عليه السّلام ببعثته، و كونه على الهدى و دين الحقّ، المختتمة بدعوة الناس إلى التجارة الرابحة، و هو الايمان به و الجهاد معه، نظمت سورة الجمعة المبدوءة أيضا بتعظيم اللّه ببيان تسبيح جميع الموجودات له بصيغة المضارع الدالة على دوام التسبيح له في جميع الأوقات: الماضي و المستقبل، المتضمّنة لبيان رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و عموميتها لكافة العرب و العجم و المشركين و أهل الكتاب، و أنّ نبوته و دينه من أعظم فضل اللّه و إنعامه على الخلق، و ذمّ المكذبين بآيات اللّه و المعرضين عن التوراة التي بشّرت برسالته، و حثّ الناس على ذكر اللّه و عبادته، و توبيخ المقبلين إلى التجارة الدنيوية، و كون ما عند اللّه من الثواب خيرا منها، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ عظّم سبحانه ذاته المقدّسة ببيان تسبيح الموجودات له بقوله:

يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ ثمّ وصف ذاته بالسلطنة على جميع الموجودات المقتضية لكونها بأجمعها جنوده بقوله: اَلْمَلِكِ و السّلطان الذي لا زوال لملكه و سلطانه اَلْقُدُّوسِ و المنزّه و المبرّأ من كلّ عيب و نقص اَلْعَزِيزِ و الغالب على كلّ شيء اَلْحَكِيمِ و الفاعل لما هو الأصواب و الأصلح، و الواضع لكلّ شيء في موضعه، و المعطي لكلّ شيء ما يستحقّه و يليق به، ثمّ منّ على الخلق ببعثة النبيّ الاميّ صلّى اللّه عليه و آله الذي هو من آثار سلطنته و قدرته و حكمته بقوله:

ص: 243

شيئا. و عن ابن عباس: هم الذين ليس لهم كتاب و لا نبيّ بعث فيهم (1)رَسُولاً من جنس الاميين و نبيا مِنْهُمْ و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله الذي مع امّيته يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْهِمْ كلام اللّه و آيٰاتِهِ القرآنية التي فيها جميع العلوم و المعارف الإلهية الدالة على رسالته وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّر نفوسهم من أرجاس الأخلاق الرذيلة و الصفات الدنيّة الذميمة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ السماوي، أو الخطّ كما عن ابن عباس (2)وَ الْحِكْمَةَ قيل: هي الفرائض و السّنن(3). و قيل: هي سنّته(4). و قيل: هي العظة(5).

وَ إِنْ الشأن أنّهم كٰانُوا مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة على بعثته لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ و انحراف ظاهر عن الصراط المستقيم، يعني مصرّين على الشرك، و مجبولين على ذمائم أخلاق الجاهلية، و كانوا في غاية الافتقار إلى الهادي إلى الحقّ، و الرسول المرشد إلى الصواب و سعادة الدارين.

قيل: إنّ توسيط التزكية التي هي تكميل النفس بحسب قوّتها العلمية، و تهذيبها للتفرّع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصلة بالتعليم المترتّبة على التلاوة، للايذان بأنّ كلا من الامور المترتّبة نعمة جليلة على حيالها، مستوجبة للشكر عليها، فلو روعي الترتيب في الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكلّ نعمة واحدة(6).

وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذٰلِكَ فَضْلُ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ الْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ (5) ثمّ بيّن سبحانه أنّ رسالته ليست مختصة بالاميين، بل تعمّ غيرهم من أهالي جميع الأزمنة بقوله:

وَ آخَرِينَ. قيل: المعنى و يعلم الآخرين(5) ، و الذين لا يكونون مِنْهُمْ بل يكونون من غيرهم كأهل الكتاب و لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ و لم يكونوا في زمانهم و سيلحقون بهم و يكونون بعدهم.

قيل: إنّ المراد غير العرب من الأعاجم كما عن ابن عباس(6) ، و عن الباقر عليه السّلام(7).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان، و قال: «لو كان

ص: 244


1- . تفسير الرازي 3:30.
2- . تفسير روح البيان 514:9.
3- . تفسير الرازي 3:30، و فيه: و السّنة.
4- . تفسير روح البيان 514:9. (5و6) . تفسير روح البيان 514:9.
5- . تفسير الرازي 4:30، تفسير روح البيان 515:9.
6- . تفسير الرازي 4:30.
7- . مجمع البيان 429:10، تفسير الصافي 173:5.

الايمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء»(1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «رأيتني أسقي غنما سوداء، ثمّ أتبعها غنما عفرا» قيل: هو الشاة التي يعلو بياضها الحمرة. ثمّ قال: «أوّلها يا أبا بكر» فقال: يا نبي اللّه، أما السّود فالعرب، و أما العفرة فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال عليه السّلام: «كذلك أوّلها الملك» يعني جبرئيل(2).

و قيل: يعني بالآخرين التابعين الذين لم يلحقوا بالصحابة في الفضل(3).

و قيل: إنّ آخرين عطف على اميين(2) ، و المعنى بعث في الاميين و غيرهم من الامم و الطوائف.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ و المبالغ، في العزّة و الغلبة، و لذلك يمكّن رجلا من الاميين من ذلك الأمر العظيم اَلْحَكِيمُ المبالغ في العلم و رعاية الصلاح، و لذلك اصطفاه من كافة الناس

ذٰلِكَ المنصب العظيم، أو الدين الذي جاء به فَضْلُ اللّٰهِ و إنعامه الفاضل الذي تستحقر دونه نعم الدنيا و الآخرة يُؤْتِيهِ اللّه و يعطيه مَنْ يَشٰاءُ إعطاءه من عباده، و قد أعطاه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و المواهب الجسيمة(3) على جميع خلقه في الدنيا و بخصوص المؤمنين، بتعليم الكتاب و الحكمة في الدنيا، و بإجزال الثواب على الايمان و الأعمال في الآخرة.

ثمّ قيل: لمّا ذكر سبحانه أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله بعث إلى الاميين و المشركين، اعترض اليهود على نبوّته بأنّه مبعوث إلى العرب خاصة، و ليس مبعوثا إلينا. أجاب سبحانه عن الاعتراض بضرب المثل(4) بقوله:

مَثَلُ اليهود اَلَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰاةَ و علموها، و كلّفوا العمل بما فيها، و تعهّدوا القيام بها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا و لم يعملوا بها، و لم يلتزموا بما فيها في عدم الانتفاع بها كَمَثَلِ الْحِمٰارِ الذي يَحْمِلُ أَسْفٰاراً و كتبا كبارا فيها علوم كثيرة، فكما لا ينتفع الحمار بتلك الكتب و العلوم التي فيها، و لا يدرك إلاّ ثقلها، لا ينتفع اليهود بالتوراة الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و عموم رسالته إلى الجنّ و الإنس و العرب و العجم و الأبيض و الأسود، و وجوب الايمان به على جميع الخلق إلى يوم القيامة، و إنّما قنعوا بمجرد تلاوتها، و لم يتأمّلوا في معانيها و مداليل آياتها لغاية تعصّبهم و بلادتهم بِئْسَ مثلا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ و كفروا بما في التوراة من الإخبار بعموم نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله وَ اللّٰهُ لاٰ يَهْدِي و لا يوفّق للخير و السعادة اَلْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك الأبد و العذاب الدائم كاليهود و نظائرهم.

قُلْ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ هٰادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيٰاءُ لِلّٰهِ مِنْ دُونِ النّٰاسِ فَتَمَنَّوُا

ص: 245


1- . مجمع البيان 429:10، تفسير الصافي 172:5. (2و3) . تفسير روح البيان 515:9.
2- . تفسير الرازي 4:30.
3- . في النسخة: الجسيم.
4- . تفسير الرازي 5:30.

اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (6) وَ لاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) ثمّ لمّا كان اليهود مدّعين أنّهم أبناء الأنبياء، و أنّهم أولياء اللّه، و أولى بالرسالة من العرب و الاميين، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبهيتهم بقوله:

قُلْ يا محمد يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ هٰادُوا و تديّنوا بدين اليهودية إِنْ زَعَمْتُمْ و تخيّلتم أَنَّكُمْ أَوْلِيٰاءُ لِلّٰهِ و أحباؤه مِنْ دُونِ سائر اَلنّٰاسِ من العرب و العجم، فلا محالة تعتقدون أنّ لكم الدار الآخرة خاصة، و أنّ الجنة و نعمها مختصة بكم، إذن فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ من اللّه، و اسألوه أن يخرجكم من الدنيا كي تصلوا إلى الجنّة و النّعم الدائمة، و تستريحوا من تعب الدنيا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في الدعوى بزعمكم مطمئنين بحقانيته.

ثمّ أخبر سبحانه بكذبهم في دعوى حبّ اللّه، و أن الجنّة لهم خاصة، بل هم عالمون بأن لا حظّ لهم في النّعم الاخروية، لعلمهم بكونهم عاصين و مشاقّين للّه و للرسول بقوله:

وَ لاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ و لا يحبّون لقاء اللّه أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و ارتكبت جوارحهم من الكفر و الطّغيان و الذنب و العصيان الموجب لاستحقاقهم النار وَ اللّٰهُ العالم بالسرائر عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ مطّلع على خواطرهم و سرائرهم من الكفر و المعاصى الموجبين لأنواع العذاب.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بالموت و العذاب بقوله:

قُلْ يا محمد لهم إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي لا تتمنّونه، بل تَفِرُّونَ مِنْهُ مخافة أن تعاقبوا على كفركم و سيئات أعمالكم لا يفيدكم الفرار منه فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ و مدرككم لا محالة ثُمَّ بعد الموت تُرَدُّونَ و ترجعون إِلىٰ عٰالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ و الحاكم المطّلع على البواطن و الظواهر فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم بِمٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ و ترتكبون من الكفر و المعاصي، و تحريف التوراة، و إخفاء أوصاف رسول آخر الزمان و علائمه، و إضلال الناس، و إلقاء الشّبهات في نبوّته في القلوب، فيعذّبكم بها أشدّ العذاب.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلاٰةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

في فضيلة يوم

الجمعة و العبادة

فيه، و ابتداء صلاة

الجمعة فيه

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الموت ملاق الناس و لا يمكن الفرار منه، بيّن ما يوجب الراحة عنده، و ما ينفع بعده بقوله:

ص: 246

إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ و أذّن المؤذّن لها مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الذي هو عيد المسلمين و أشرف الأيام الذي أمر الناس بالاجتماع فيه للعبادة، و لذا سمّي جمعة فَاسْعَوْا و أسرعوا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ.

عن الباقر عليه السّلام قال: «اعملوا و عجّلوا، فانّه يوم مضيّق على المسلمين، و ثواب أعمال المسلمين على قدر ما ضيّق عليهم، و الحسنة و السيئة تضاعف». قال: «و اللّه بلغني أنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس، لأنّه يوم مضيّق على المسلمين»(1).

وَ ذَرُوا و اتركوا اَلْبَيْعَ و المعاملة ذٰلِكُمْ السعي إلى العبادة و ترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع من التواني و المعاملة، أو من الدنيا و ما فيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير و الشرّ، و ما في السعي من الأجر.

في الحديث: «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على باب المسجد بأيديهم صحف من فضّة و أقلام من ذهب، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم، فاذا خرج الامام طويت الصّحف و اجتمعوا للخطبة، و المهاجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثمّ الذي يليه كالمهدي بقرة، ثمّ الذي يليه كالمهدي شاة» حتى ذكر الدّجاجة و البيضة(2).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فأقام بها يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسّس مسجدهم، ثمّ خرج يوم الجمعة عائدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتّخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا، فخطب صلّى اللّه عليه و آله و صلّى و قال فيها: «الحمد للّه و استعينه و استهديه، و أومن به و لا أكفره، و اعادي من يكفر به، و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله، أرسله بالهدى و دين الحقّ و النور و الموعظة و الحكمة، على فترة من الرسل، و قلّة من العلم، و ضلالة من الناس، و انقطاع من الزمان، و دنوّ من الساعة، و قرب من الأجل، من يطع اللّه و رسوله فقد رشد، و من يعص اللّه و رسوله فقد غوى و فرط و ضلّ ضلالا بعيدا، اوصيكم بتقوى اللّه، فانّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة، و أن يأمره بتقوى اللّه، و احذر ما حذّركم [اللّه] من نفسه...». إلى آخر الخطبة الشريفة(3).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال بعد الخطبة: «إنّ اللّه افترض عليكم الجمعة في يومي هذا، و في مقامي هذا، فمن تركها في حياتي و بعد مماتي، و له إمام عادل من غير عذر، فلا بارك اللّه له، و لا جمع اللّه شمله،

ص: 247


1- . الكافي 10/415:3، تفسير الصافي 174:5.
2- . تفسير روح البيان 523:9.
3- . تفسير روح البيان 522:9.

ألا فلا حجّ له، ألا فلا صوم له، و من تاب تاب اللّه عليه»(1).

فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلاٰةُ التي نوديتم لها فَانْتَشِرُوا و تفرّقوا فِي وجه اَلْأَرْضِ لإقامة مصالحكم و قضاء حوائجكم و إصلاح معاشكم وَ ابْتَغُوا أيّها المؤمنون، و اطلبوا لأنفسكم و أهليكم الرزق الحلال الذي هو مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ و إحسانه إليكم. روي أنّه قال: «طلب الكسب بعد الصلاة فريضة(2) بعد الفريضة»(3).

و عن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنّما هو عيادة المرضى، و حضور الجنائز، و زيارة أخ في اللّه(4). و عن أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ما يقرب منه(5).

وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ في جميع الأوقات و الأحوال ذكرا كَثِيراً و لا تخصّوا ذكره بحال الصلاة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تنجون من المهالك، و تفوزون بأعلى المقاصد.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أتيتم السوق فقولوا: لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، له الملك، و له الحمد، يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير، فانّ من قالها كتب اللّه له ألف ألف حسنة، و حطّ عنه ألف ألف سيئة، و رفع له ألف ألف درجة»(6).

وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ وَ اللّٰهُ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ (11) ثمّ لمّا نهى اللّه سبحانه المؤمنين عن البيع و التجارة وقت النداء، وبّخ سبحانه الذين أقبلوا إلى التجارة حين خطبة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ سمعوا لَهْواً و صوت طبل و صفق اِنْفَضُّوا و تفرّقوا من حولك متوجّهين إِلَيْهٰا حبّا للدنيا و زخارفها وَ تَرَكُوكَ وحيدا قٰائِماً على المنبر.

روي أن دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة بتجارة من الشام، و كان قبل إسلامه، و كان بالمدينة مجاعة و غلاء سعر، و كان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ و دقيق و زيت و غيرها، و النبي صلّى اللّه عليه و آله يخطب يوم الجمعة، فلمّا علم أهل المسجد ذلك قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلاّ ثمانية أو أحد عشر أو اثنا عشر أو أربعون، و فيهم عليّ عليه السّلام و أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة [ابن] الجرّاح و سعيد بن زيد و بلال و عبد اللّه بن

ص: 248


1- . تفسير روح البيان 524:9.
2- . في تفسير روح البيان: هو الفريضة.
3- . تفسير روح البيان 525:9.
4- . تفسير أبي السعود 250:8.
5- . مجمع البيان 435:10، تفسير الصافي 175:5.
6- . تفسير الرازي 9:30.

مسعود. و في رواية: عمار بن ياسر [بدل عبد اللّه] و جابر و امرأة فقال: «و الذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا» و في رواية: «لو لا الباقون لنزلت عليهم الحجارة»(1).

ثمّ أمر اللّه سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بوعظ المسلمين و نصحهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المؤمنين:

اعلموا أيّها المؤمنون أنّ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ و أعدّه من الثواب للمصلّين و مستمعي الخطبة في الآخرة خَيْرٌ لكم و أنفع مِنَ استماع اَللَّهْوِ و صوت الطّبل و الصّفق وَ مِنَ نفع اَلتِّجٰارَةِ و تحصيل البرّ و الدقيق و غيرهما لرزقكم و رزق أهليكم وَ اللّٰهُ القادر على كلّ شيء خَيْرُ الرّٰازِقِينَ فانّ عنده خزائن السماوات و الأرض، و لا ينقص منها شيء بالعطاء، و هو الجواد الذي لا يبخل، فاسعوا إليه و اطلبوا الرزق منه.

عن الصادق عليه السّلام: «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان ثوابه و أجره على اللّه الجنّة»(2).

ص: 249


1- . تفسير روح البيان 526:9.
2- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 427:9، تفسير الصافي 176:5.

ص: 250

في تفسير سورة المنافقين

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ (1) اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الجمعة المتضمّنة لبيان عظمة اللّه و منّته على الناس بإرسال محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة، و منافع بعثته، و عموم رسالته لكافة الناس إلى يوم القيامة، و معارضة اليهود و إلقائهم الشّبهة في عموم رسالته، و الجواب عنها، و ذمّ المسلمين على توجّههم إلى التجارة و اللّهو، نظمت سورة المنافقين المتضمّنة لبيان كيد المنافقين و إلقائهم الشّبهات في رسالته، و أمر المؤمنين بالإعراض عن الأولاد و الأموال الملهين عن ذكر اللّه، و إن في تركه الخسران، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في ذمّ المنافقين بقوله:

إِذٰا جٰاءَكَ يا محمد اَلْمُنٰافِقُونَ الذين يظهرون الاسلام و يبطنون الكفر و حين حضروا عندك قٰالُوا لك نفاقا و كيدا: إنّا نَشْهَدُ و نقرّ عن اعتقاد جازم و يقين صادق إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ و المبعوث من قبله إلى الخلق لهدايتهم إلى الدين الحقّ وَ اللّٰهُ العالم بكلّ شيء يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ و أنّ شهادتهم برسالتك صدق و مطابق للواقع وَ اللّٰهُ مع ذلك يَشْهَدُ شهادة حقّه إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ الذين يشهدون برسالتك كعبد اللّه بن ابي و اصحابه و أضرابه لَكٰاذِبُونَ فيما تضمّنت(1) شهادتهم من إظهار اليقين و الاعتقاد بها، اولئك الذين

اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ الفاجرة و جعلوها جُنَّةً و ترسا و وقاية لأنفسهم من القتل و السبي، و أموالهم من النهب و الغارة.

ص: 251


1- . في النسخة: تضمّن.

قيل: إنّ قولهم نَشْهَدُ جار مجري اليمين في التأكيد(1).

فَصَدُّوا و منعوا أنفسهم، أو الناس عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ و قبول دينه و طاعته و طاعة رسوله إلاّ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ من النّفاق و الصدّ و الكذب

ذٰلِكَ الحكم من اللّه بكذبهم، أو بسوء أعمالهم إنّما هو بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بألسنتهم بتوحيد اللّه و رسالة رسوله ثُمَّ كَفَرُوا بهما بقلوبهم، أو اظهروا الكفر عند أعوانهم الشياطين، أو آمنوا بالتوراة ثمّ كفروا بما فيها من نعوت خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله فَطُبِعَ و ختم لذلك عَلىٰ قُلُوبِهِمْ بكفرهم فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ و لا يفهمون القرآن و صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى رسالته، أو فوائد الايمان و ضرر الكفر، أو لا يفهمون أنّ قلوبهم مطبوعة.

وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسٰامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (4) وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّهم بكثرة مكرهم بالنبي و المسلمين، ذمّهم بقلّة فهمهم و إدراكهم بقوله:

وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ و نظرت إليهم تُعْجِبُكَ و يعظم في نفسك أَجْسٰامُهُمْ من حيث الضّخامة و صباحة الوجه وَ إِنْ يَقُولُوا لك قولا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم و ذلاقة لسانهم، و لكنّهم في عدم الفهم و العقل و النفع كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ يابسة و عيدان غليظة مُسَنَّدَةٌ و معتمدة على الحائط، و من غاية جبنهم و شدّة ضعف قلوبهم يَحْسَبُونَ و يتوهّمون كُلَّ صَيْحَةٍ سمعوها من أحد و نداء مناد و لو لإنشاد ضالّته، أو انفلات دابّته، أنّه من عدوّهم واقعة عَلَيْهِمْ حيث يتوقّعون في كلّ ساعة أن يظهر اللّه نفاقهم و يهتك سرّهم و يكشف سرّهم فيقصدهم المسلمون، فاعلم يا محمد أن هُمُ الْعَدُوُّ الكاملون في العداوة لك و للمسلمين فَاحْذَرْهُمْ و احترز منهم أن تأمنهم على سرّك و تدخلهم في أمر من امورك قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ و أفناهم من وجه الأرض و لعنهم، و العجب من حمقهم و جهلهم أنّهم أَنّٰى يُؤْفَكُونَ و كيف يعدلون و يصرفون عن الحقّ مع كمال وضوحه و لمعان نوره

وَ من حمقهم أنّهم إِذٰا قِيلَ لَهُمْ نصحا من قبل المؤمنين حين ظهور فسادهم: أيّها المنافقون، تَعٰالَوْا عند الرسول و اتوه يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ و يسأل اللّه العفو من ذنوبكم لَوَّوْا و عطفوا رُؤُسَهُمْ و أمالوا وجوههم إلى الطرف الآخر وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ و يعرضون عن القائل

ص: 252


1- . تفسير الرازي 13:30.

وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الإتيان عند الرسول، و يتأنّفون عن أن يسألوه الاستغفار لهم.

روي أنّه لمّا نزل القرآن على الرسول صلّى اللّه عليه و آله بذمّ المنافقين مشى(1) إليهم عشائرهم من المؤمنين و قالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، و أهلكتم أنفسكم، فاتوا رسول اللّه و توبوا إليه من النفاق، و اسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك و زهدوا في الاستغفار فنزلت(2).

و عن ابن عباس: لمّا رجع عبد اللّه بن أبي من أحد بكثير من الناس، مقته المسلمون و عنّفوه، و أسمعوه المكروه، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يستغفر لك و يرضى عنك ؟ فقال:

لا أذهب إليه، و لا اريد أن يستغفر لي، و جعل يلوي رأسه. فنزلت(3).

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاٰ تُنْفِقُوا عَلىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ حَتّٰى يَنْفَضُّوا وَ لِلّٰهِ خَزٰائِنُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَفْقَهُونَ (7) ثمّ أخبر اللّه تعالى بعدم قابليتهم للعفو و المغفرة بقوله:

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ و مساويا بالنسبة إليهم أَسْتَغْفَرْتَ يا محمد لَهُمْ إذا جاءوك معتذرين من نفاقهم و سيئات أعمالهم أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لاستكبارهم عن الاعتذار و طلب الاستغفار لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ أبدا لعدم قابليتهم للعفو و المغفرة لإصرارهم على الكفر و الفسوق إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي و لا يوصل إلى الخير و السعادة الأبدية اَلْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ و الجماعة الخارجين عن الدين و حدود العقل و الصلاح.

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم قابليتهم للمغفرة و بلوغهم إلى غاية الفسق و الشقاوة بقوله:

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ للأنصار جهلا و عنادا للحقّ: أيّها الأنصار لاٰ تُنْفِقُوا من أموالكم عَلىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ من المؤمنين المهاجرين إليه حَتّٰى يَنْفَضُّوا و يتفرّقوا من حوله و يرجعوا إلى أوطانهم و عشائرهم و يرجع العبيد إلى مواليهم و الأبناء إلى آبائهم. قيل: إنّ قولهم (رسول اللّه) إما للهزء، أو لاشتهاره عليه السّلام بهذا اللّقب(2) ، أو أنّهم قالوا (على من عند محمد) و ذكره اللّه بهذا اللقب إجلالا له(3).

ثمّ أبطل سبحانه قولهم بقوله: وَ لِلّٰهِ خَزٰائِنُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و بيده أرزاق الخلائق يعطيها لمن يشاء و يقدر وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لجهلهم باللّه و شئونه لاٰ يَفْقَهُونَ ذلك، و لذا يقولون من مقالات الكفر ما يقولون.

ص: 253


1- . في النسخة: سيء. (2و3) . تفسير الرازي 15:30.
2- . تفسير روح البيان 536:9.
3- . مجمع البيان 444:10.

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنٰا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ (8) ثمّ حكى سبحانه قولهم الآخر الذي هو أشنع من قولهم الأول بقوله:

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنٰا من سفرنا هذا إِلَى الْمَدِينَةِ و اللّه لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ و هم المنافقون باعتقادهم، أو خصوص عبد اللّه بن ابي مِنْهَا الْأَذَلَّ و هم المؤمنون، أو خصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله.

روي أنّ في غزوة بني المصطلق ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر بن الخطاب يقود فرسه و سنان الجهمي حليف عبد اللّه بن ابي رئيس المنافقين و اقتتلا، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، و سنان بالأنصار، فاعان جهجاه جعال من فقراء المهاجرين، و لطم سنانا، فاشتكى إلى عبد اللّه بن ابي، فقال للأنصار ما ذا فعلتم بأنفسكم ؟ أحللتموهم بلادكم، و قاسمتموهم أموالكم، أما و اللّه لو أمسكتم من جعال و ذوي فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم، و لأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ عنى بالأعزّ نفسه، و بالأذلّ جانب المؤمنين، أو خصوص الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما نسب سبحانه القول إلى المنافقين لرضاهم به.

فسمع ذلك زيد بن أرقم و هو حدث، فقال: أنت و اللّه الذليل القليل المبغض في قومك، و محمد في عزّ من الرحمن، و قوة من المسلمين. فقال ابن أبي: اسكت، فانّما كنت ألعب.

فأخبر زيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما قال ابن أبي، فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إذا ترغم أنوفا كثيرة بيثرب. فقال عمر: فإن كرهت أن يقتله المهاجرون، فأمر به أنصاريا. فقال: إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. و قال عليه السّلام لابن أبي:

«أنت صاحب الكلام الذي بلغني»؟ قال: و اللّه الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، و إنّ زيدا لكاذب. فقال الحاضرون: شيخنا و كبيرنا يصدّق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم. فقال رسول اللّه لزيد: «لعلّك غضبت عليه»؟ قال: لا. قال: «فلعلّك أخطاك سمعك»؟ قال: لا. قال: «فلعلّه اشتبه عليك» قال: لا.

فلمّا نزلت الآية لحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زيدا من خلفه، فعرك اذنه، و قال: «وفت اذنك يا غلام، إنّ اللّه صدّقك و كذّب المنافقين»(1). و ردّ عليهم بقوله: وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ لا لغيرهم وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ ذلك لجهلهم و غرورهم.

ص: 254


1- . تفسير روح البيان 537:9.

روى بعض العامة أنه قيل للحسن بن علي عليه السّلام: إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها - أي كبرا - فقال:

«ليس ذلك بتيه، و لكنّه عزّة» و تلا الآية(1).

و عن القمي، قال: نزلت الآية أو السورة في غزوة مريسيع - و هي غزوة بني المصطلق - في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج إليها، و لمّا رجع منها نزل على بئر، و كان الماء قليلا فيها، و كان أنس بن سيّار حليف الأنصار، و كان الجهجاه بن سعيد الغفارى أجيرا لعمر بن الخطاب، فاجتمعوا على البئر، فتعلّق دلو أنس بن سيّار بدلو جهجاه، فقال أنس بن سيّار: دلوي. و قال جهجاه:

دلوي، فضرب جهجاه يده على وجه انس بن سيّار، فسال منه الدم، فنادى أنس بن سيّار بالخرزج، و نادى جهجاه بقريش، فأخذ الناس السلاح و كاد أن تقع الفتنة.

فسمع عبد اللّه بن ابي النداء، فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر، فغضب غضبا شديدا، ثمّ قال: قد كنت كارها لهذا المسير، [إنّي] لأذلّ العرب، ما ظننت أن أبقى إلى أن أسمع مثل هذا النداء فلا يكن عندي تغيير(2). ثمّ أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم، أنزلتموهم منازلكم، و واسيتموهم بأموالكم، و وقيتموهم بانفسكم، و أبرزتم نحوركم للقتل، فأرمل نساءكم، و أيتم صبيانكم، و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثمّ قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.

و كان في القوم زيد بن أرقم، و كان غلاما قد راهق، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ظلّ شجرة و عنده قوم من المهاجرين و الأنصار، و جاء زيد فأخبره بما قال عبد اللّه بن ابي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعلّك و همت يا غلام» قال: لا و اللّه ما وهمت. فقال: «لعلّك غضبت عليه» قال: لا و اللّه ما غضبت عليه. قال:

«فلعلّه شبّه عليك» قال: لا و اللّه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لشقران مولاه: «أحدج»(3). فأحدج راحلته و ركب، فتسامع الناس بذلك، فقالوا:

ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليرحل في مثل هذا الوقت. فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة. فقال: السّلام عليك يا رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته. فقال: «و عليك السّلام» فقال: ما كنت لتركب في مثل هذا الوقت ؟ فقال: «أو ما سمعت قولا قال صاحبكم»؟ قال: و أيّ صاحب لنا غيرك يا رسول اللّه ؟ قال:

«عبد اللّه بن ابيّ زعم انه ان رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل» فانّك و أصحابك الأعزّ، و هو و أصحابه الأذلّ.

فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومه كلّه، لا يكلّمه أحد، فأقبلت الخزرج على عبد اللّه بن ابي يعذلونه،

ص: 255


1- . تفسير روح البيان 538:9.
2- . في المصدر: تعيير، و في النسخة: تعبير.
3- . أحدج بعيره: شدّ عليه قتبه بأداته.

فحلف عبد اللّه أنّه لم يقل شيئا من ذلك، فقالوا: فقم بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى نعتذر إليه، فلوى عنقه، فلمّا جنّ الليل سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليله كلّه و نهاره، فلم ينزلوا إلاّ للصلاة، فلمّا كان من الغد نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل أصحابه، و قد أمهدهم الأرض من السّهر الذي اصابهم، فجاء عبد اللّه بن ابي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحلف أنّه لم يقل ذلك، و أنّه ليشهد لا إله إلاّ اللّه، و إنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ زيدا قد كذب عليّ، فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منه، و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه، و يقولون له:

كذبت على عبد اللّه بن ابي سيّدنا.

فلمّا رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان زيد معه يقول: اللهمّ إنّك لتعلم أنّي لم أكذب على عبد اللّه بن ابي، فما سار إلاّ قليلا حتى أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يأخذه من البرحاء(1) عند نزول الوحى عليه، فثقل حتّى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسرّي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يسكب العرق عن جبهته، ثمّ أخذ باذني زيد بن أرقم، فرفعه من الرّحل، ثمّ قال: «يا غلام، صدق فوك، و وعى قلبك، و أنزل اللّه فيك قرآنا» فلمّا نزل جمع أصحابه، و قرأ عليهم سورة المنافقين، ففضح اللّه عبد اللّه بن ابي(2).

[و في رواية عن أبي جعفر عليه السّلام] قال: فلمّا نعتهم اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و عرّفه [مساءتهم]، مشى إليهم عشائرهم فقالوا لهم: قد افتضحتم، فأتوا نبيّ اللّه يستغفر لكم، فلووا رءوسهم و زهدوا في الاستغفار(3).

روي أنّ ولد عبد اللّه بن ابي أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إن كنت عزمت على قتل أبي، فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه فو اللّه لقد علمت الأوس و الخزرج أنّي أبرهم ولدا بوالد، فإنّي أخاف أن تأمر غيري فيقتله، فلا تطيب نفسي أنّي انظر إلى قاتل عبد اللّه، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بل نحسن لك صحابته ما دام معنا»(4).

و عن (الكافي) عن الكاظم عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى سمّى من لم يتّبع الرسول صلّى اللّه عليه و آله في ولاية وصيّه منافقين، و جعل من جحد وصيّه إمامته كمن جحد محمدا صلّى اللّه عليه و آله و أنزل بذلك قرآنا، فقال:

يا محمد إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ بولاية وصيك قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ بولاية علي لَكٰاذِبُونَ * اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ و السبيل هو الوصي إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا برسالتك ثُمَّ كَفَرُوا بولاية وصيك فَطُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ يقول: لا يعقلون بنبوتك، و إذا قيل لهم ارجعوا إلى

ص: 256


1- . البرحاء: الشدّة و المشقّة.
2- . تفسير القمي 368:2، تفسير الصافي 178:5.
3- . تفسير القمي 370:2، تفسير الصافي 180:5.
4- . تفسير القمي 370:2، تفسير الصافي 180:5.

ولاية عليّ يستغفر لكم النبي من ذنوبكم لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ قال اللّه: وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ عن ولاية علي وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عليه ثمّ عطف القول من اللّه بمعرفته بهم فقال: سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ يقول: الظالمين لوصيّك(1).

أقول: لا شكّ في أنّ الرواية في بيان تأويل الآية لا تفسيرها.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْخٰاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّٰهُ نَفْساً إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهٰا وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (11) ثمّ لمّا كان الكفر و النفاق مع وضوح الحقّ لا يكون إلاّ لجمع الأموال و راحة الأولاد، وعظ اللّه سبحانه المنافقين و المؤمنين بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ و لا تغفلكم أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ و لا يشغلكم الاهتمام بتدبير امورهما و تنظيم مصالحهما عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ و التوجّه إليه و القيام بعبادته وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ التلهّي بالمال و الولد و الاشتغال بالامور الدنيوية فَأُولٰئِكَ الغافلون و الملهون عن ذكر اللّه هُمُ الْخٰاسِرُونَ في تجارتهم في سوق الدنيا، حيث إنّهم باعوا الجنة و النّعم الدائمة و الراحة الأبدية باللّذّة الدنيوية القليلة الفانية المشوبة مع التعب الكثير.

و في الحديث: «ما طلعت الشمس إلاّ بجنبيها ملكان يناديان و يسمعان الخلائق غير الثقلين: يا أيها الناس: هلمّوا إلى ربّكم، ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى»(2).

وَ أَنْفِقُوا شيئا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ و أعطيناكم بفضلنا في سبيل اللّه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و عاين مخايله و أماراته فَيَقُولَ عند حلوله تمنيا و تحسّرا: يا رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي و هلاّ أمهلتني إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ و أمد قصير و زمان قليل في الدنيا فَأَصَّدَّقَ مالي للفقراء، و أنفق عليهم تقرّبا إليك، أو أؤدّي زكاتي وَ أَكُنْ في آخر عمري مِنْ عبادك اَلصّٰالِحِينَ و المتعبّدين المخلصين.

عن ابن عباس: من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكّه، أو مال يبلغه إلى بيت اللّه فلم يحجّ، يسأل عند الموت الرجعة فقال رجل: اتق اللّه يا ابن عباس، إنّما سألت الكفّار الرجعة. فقال ابن عباس: إنّي اقرأ عليك هذا القرآن. فقال: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ فقال

ص: 257


1- . الكافي 91/358:1، تفسير الصافي 180:5.
2- . تفسير روح البيان 541:9.

الرجل: ما يوجب الزكاة. قال: مائتا درهم. قال: ممّا يوجب الحجّ. قال: الزاد و الراحلة(1).

و روي عنه أيضا أنه قال: هذا دليل على أنّ القوم لم يكونوا مؤمنين، إذ المؤمن لا يسأل الرجعة(2).

و قيل: لا ينزل الموت بأحد لم يحجّ و لم يؤدّ الزكاة إلا و سأل الرجعة، و قرأ هذه الآية(3).

و عن (الفقيه) سئل [الصادق] عليه السّلام عن قول اللّه: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ قال: (أصدق) من الصدقة وَ أَكُنْ مِنَ الصّٰالِحِينَ أحجّ»(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الصلاح هنا الحجّ»(3).

و عن ابن عباس قال: تصدّقوا قبل ان ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة و لا ينفع عمل(4).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من انقضى أجله و حان حينه لا يمهل في الدنيا بقوله:

وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّٰهُ عن الموت أبدا نَفْساً من النفوس إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهٰا و حضر وقت موتها وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ و عالم بِمٰا تَعْمَلُونَ من خير و شرّ، فيجازيكم على حسب استحقاقكم في الآخرة.

قد مرّ ثواب قراءتها(5).

ص: 258


1- . تفسير روح البيان 542:9. (2و3) . تفسير الرازي 19:30.
2- . من لا يحضره الفقيه 618/142:2، تفسير الصافي 181:5.
3- . مجمع البيان 445:10، تفسير الصافي 181:5.
4- . تفسير الرازي 19:30.
5- . تقدم في سورة الجمعة.

في تفسير سورة التغابن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة المنافقين المتضمّنة لبيان سوء أخلاق المنافقين و أقوالهم، و أنّ خزائن السماوات و الأرض و العزّة الكاملة له تعالى، و وعظ الناس بأنّه لا ينبغي أن تلهيهم أموالهم و أولادهم عن ذكر اللّه، و عليهم أن يتّقوا اللّه و ينفقوا أموالهم في سبيله، نظمت سورة التغابن المبدوءة ببيان عظمة اللّه و عزّه و جلاله، و أنّ الناس صنفان: كافر في الظاهر و الباطن، و مؤمن خالص، و أنّه لا ينبغي للانسان أن يفتتن بمحبّة الأزواج و الأولاد و الأموال، بل عليه أن يتّقي اللّه و ينفق أمواله في سبيله، و ذكر في السورة السابقة أنّ الملهون عن ذكر اللّه في الخسارة، و هنا بيّن أن المنفقين لهم الفلاح في الدارين، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

ثمّ بيّن سبحانه كمال عظمته و عزّته بقوله:

يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ قد مرّ تفسيره و لِلّٰهِ تعالى وحده اَلْمُلْكُ و السلطنة المطلقة التامة في تمام عوالم الوجود وَ لَهُ الْحَمْدُ على نعمه السابغة الوافرة، فعليكم أن تتذلّلوا لعزّه، و تهابوه لسلطانه، و تستغرقوا في ذكره، و لا تلهوا عن تسبيحه و حمده و شكره.

ثمّ لمّا خصّ ملك الوجود بنفسه، و لازمه اختصاص التصرّف فيه بذاته، بيّن كمال قدرته بقوله:

وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الايجاد و الإعدام و التصرّف و التدبير في الموجودات قَدِيرٌ لا عجز في ساحته، و لا مانع عن إنفاذ إنفاذ إرادته.

ثمّ ذكر سبحانه الناس بأصل النّعم الذي أنعم عليهم و أعظمها بقوله:

ص: 259

في جميع الأوقات، و مع ذلك صرتم صنفين فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ به لجهله و عناده وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به مصدّق بأنّه خالقه و رازقه، و المنعم عليه بالنّعم الجسام، فيشكره و يقوم بمرضاته. عن ابن عباس: أنّ اللّه خلق بني آدم مؤمنا و كافرا، ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا و كافرا(1). قيل: يعني فمنكم جاحد، و منكم مصدّق(2).

و قيل: يعني فمنكم كافر في السرّ مؤمن في الظاهر و العلانية كالمنافقين، و كافر في العلانية و مؤمن في السرّ كأبي طالب و عمّار بن ياسر(3).

ثمّ هدّد على الكفر و العصيان، و وعد على الايمان و الطاعة بقوله: وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان و الايمان و الطاعة بَصِيرٌ و مطّلع في الغاية، و يجازيكم يوم القيامة حسب استحقاقكم و أعمالكم، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشر.

عن الصادق عليه السّلام - في هذه الآية قال: «عرف اللّه إيمانهم بولايتنا و كفرهم بتركها يوم أخذ [عليهم] الميثاق في صلب آدم و هم ذرّ»(4).

خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مٰا تُسِرُّونَ وَ مٰا تُعْلِنُونَ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (4) ثمّ ذكر سبحانه نعمتين عظيمتين اخريين بقوله:

خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة خلقا بديعا نافعا، حيث إنّ جميع الحيوانات بإمطار السماوات و إنبات الأرض يرتزقون و يتعيّشون وَ صَوَّرَكُمْ يا بني آدم في الأرحام بقدرته فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ و زيّن أشكالكم ببدائع الصفات من استواء القامة و اعتدال الأعضاء مع ما فيكم من الجمال الظاهر و كمال القوى و المشاعر التي نيطت به الكمالات الظاهرية و الباطنية المستتبعة للرّقي إلى عام القرب و الرّوحانية وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ و المرجع في ترقّياتكم في هذا العالم بالعلم و العمل و بعد خروجكم من الدنيا، فخذوا في أعمال القوي و الجوارح التي أنعم اللّه بها عليكم، حتّى تلاقوا ربّكم و هو راض منكم غير ساخط عليكم.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الناس صنفان: كافر و مؤمن، و مصير الكلّ إليه فيجازيهم على حسب

ص: 260


1- . تفسير الرازي 21:30.
2- . تفسير الرازي 21:30.
3- . تفسير الرازي 21:30، و لم يرد فيه: أبو طالب.
4- . تفسير القمي 371:2، الكافي 4/341:1، تفسير الصافي 182:5.

استحقاقهم، بيّن سبحانه سعة علمه بجميع الموجودات في جميع العوالم العلوية و السّفلية بقوله:

يَعْلَمُ بذاته مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ من الموجودات الكبيرة و الصغيرة، و أحوالها الخفية و الجلية.

ثمّ أكّد علمه أحوال الناس تشديدا للوعد و الوعيد و إرعابا للقلوب بقوله: وَ يَعْلَمُ مٰا تُسِرُّونَ و ما تسترونه عن غيركم من الأعمال وَ مٰا تُعْلِنُونَ و تظهرونه لسائر الناس من الطاعة و المعصية وَ اللّٰهُ العظيم المنتقم عَلِيمٌ و محيط بِذٰاتِ الصُّدُورِ و خطورات القلوب و مكنونات الضمائر، فلا يخفي عليه خافية، و لا يعزب عنه مثقال ذرة، فيجازيكم حين رجوعكم إليه على عقائدكم و أعمالكم، فأحسنوها كما أحسن صوركم و نظم امور معاشكم.

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (5) ذٰلِكَ بِأَنَّهُ كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَقٰالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنٰا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللّٰهُ وَ اللّٰهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) ثمّ وجّه خطابه إلى الكفّار و هدّدهم بمثل ما نزل على الكفرة من الامم السابقة من العذاب بقوله:

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ و لم يصل إليكم أيّها الكفار الحاضرون في عصر النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و آله نَبَأُ الامم اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كأمّة نوح و هود و صالح، و خبر حالهم السيئ، و ذلك الخبر الهائل أنّهم أصرّوا على الكفر باللّه و رسله فَذٰاقُوا و أحسّوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ و شدّة عاقبة كفرهم في الدنيا حيث استأصلهم بالعذاب وَ لَهُمْ في الآخرة عَذٰابٌ أَلِيمٌ لا يمكن بيان شدّته و إيلامه في الدنيا و كان

ذٰلِكَ العذاب الدنيوي و الاخروي بِأَنَّهُ كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من قبل اللّه مستدلّين على رسالتهم بِالْبَيِّنٰاتِ و المعجزات الباهرات فَقٰالُوا جوابا لرسلهم و إنكارا لرسالتهم: أَ بَشَرٌ مثلنا يَهْدُونَنٰا و يرشدوننا إلى معبودنا و دين آخر؟! فتعجّبوا من أن يكون الرسول بشرا، و لم يتعجّبوا من أن يكون إلههم حجرا فَكَفَرُوا باللّه و رسله جهلا و عنادا وَ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قبول قولهم و التدبّر في معجزاتهم وَ اسْتَغْنَى اللّٰهُ عن إيمانهم و طاعتهم، و لذا أهلك جميعهم و قطع دابرهم، و لو لا غناء، ما فعل ذلك وَ اللّٰهُ المالك لجميع الموجودات الخالق لهم غَنِيٌّ حَمِيدٌ و محمود في فعاله، أو مستحقّ للحمد بذاته و لو لم يكن حامد.

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمٰا عَمِلْتُمْ وَ ذٰلِكَ عَلَى اللّٰهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنٰا وَ اللّٰهُ بِمٰا

ص: 261

تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذٰلِكَ يَوْمُ التَّغٰابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) ثمّ لمّا أخبر سبحانه بعذاب الامم السابقة في الآخرة، حكى إنكار المشركين المعاد بقوله:

زَعَمَ و ظنّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يحيوا بعد موتهم و لن يُبْعَثُوا أحياء من قبورهم للحساب و الجزاء أبدا.

ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بردّ قولهم ذلك بقوله: قُلْ يا محمد لهم: بَلىٰ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ من قبوركم للحساب و المجازاة ثُمَّ بعد البعث لَتُنَبَّؤُنَّ و لتخبرنّ بِمٰا عَمِلْتُمْ في الدنيا من الكفر و العصيان برؤية العذاب عليه وَ ذٰلِكَ البعث و التعذيب عَلَى اللّٰهِ القادر على كلّ شيء يَسِيرٌ و سهل لكمال القدرة و وجود المقتضي و عدم المانع، فإذا كان الأمر كذلك

فَآمِنُوا أيها الناس بِاللّٰهِ و وحدانيته وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنٰا على محمد صلّى اللّه عليه و آله، و هو القرآن المبين لكلّ حقّ و المظهر لكلّ صواب.

و عن الكاظم عليه السّلام: «الامامة هي النور»(1).

و عن الباقر عليه السّلام: «النور و اللّه الأئمة»(2).

وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ من الايمان و العمل بالقرآن خَبِيرٌ و مطّلع في الغاية، و اذكروا أيها الناس

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ اللّه لِيَوْمِ الْجَمْعِ و الحساب، يجمع اللّه فيه الأولين و الآخرين، و هو يوم القيامة ذٰلِكَ اليوم يَوْمُ التَّغٰابُنِ و التخاسر يغبن و يخسر بعض الناس بعضا، يتمكّن بعضهم في مسكن بعض.

عن ابن عباس: أنّ قوما في النار يعذّبون، و قوما في الجنة يتنعّمون(3).

و قيل: يوم يغبن أهل الحقّ أهل الباطل، و أهل الهدى أهل الضّلالة، و أهل الايمان أهل الكفر، فلا غبن أبين من هذا(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «يوم يغبن أهل الجنّة أهل النار»(3).

و في الحديث: «ما من عبد يدخل الجنّة إلاّ اري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، و ما من عبد يدخل النار إلاّ اري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة»(4).

ص: 262


1- . الكافي 6/151:1، و فيه: النور هو الإمام، تفسير الصافي 183:5.
2- . الكافي 4/151:1، تفسير الصافي 183:5. (3و4) . تفسير الرازي 24:30.
3- . معاني الأخبار: 1/156، تفسير الصافي 183:5.
4- . تفسير روح البيان 11:10.

قيل: إطلاق الغبن على نزول الأشقياء في منازل السّعداء من باب التهكّم(1).

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمٰا عَلىٰ رَسُولِنَا الْبَلاٰغُ الْمُبِينُ (12) ثمّ بين سبحانه ربح المؤمنين في تجارتهم بقوله وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ صادقا مخلصا وَ يَعْمَلْ عملا صٰالِحاً مرضيا للّه يُكَفِّرْ اللّه عَنْهُ و يغفر له سَيِّئٰاتِهِ يوم القيامة، فلا يفضحه بها بين الناس وَ يُدْخِلْهُ بفضله جَنّٰاتٍ ذات قصور و أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة، حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أَبَداً دائما ذٰلِكَ الأجر المذكور على إيمانهم و عملهم هو اَلْفَوْزُ الْعَظِيمُ و النّيل بأعلى المقاصد من النجاة من العذاب و الظّفر بأجلّ الطيبات.

ثمّ بيّن سبحانه غبن الكفّار بقوله:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا القرآنية و معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أُولٰئِكَ المغبونون أَصْحٰابُ النّٰارِ و ملازموها حال كونهم خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع للكفّار.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في الآخرة، كان مجال أن يقال: فلم يبتلى المؤمن في الدنيا بالفقر و المرض و الشدائد؟ فأجاب سبحانه بقوله:

مٰا أَصٰابَ أحدا مِنْ مُصِيبَةٍ و بلية من فقر أو مرض أو غيرهما من الشدائد إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ و تقديره و إرادته المنبعثة عن الحكمة البالغة وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ اللطيف الحكيم يَهْدِ اللّه قَلْبَهُ عند المصيبة للصبر و الثّبات و الشّكر و الرضا و التسليم لحكمه. عن ابن عباس: يهدي قلبه لما يحبّ و يرضى(2).

وَ اللّٰهُ المحيط بخلقه بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها القلوب و أحوالها من الرضا و التسليم عَلِيمٌ و مطّلع كمال الاطلاع

وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ فيما أمركم به وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يؤدّي إليكم عنه، و لا تشغلكم المصائب عن العمل بوظائف الايمان، قيل: تكرار الأمر بالطاعة للتأكيد و بيان الفرق بين الطاعتين (3)فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم أيّها الناس عن طاعة الرسول و إجابته فيما

ص: 263


1- . تفسير روح البيان 10:10.
2- . تفسير الرازي 26:30.
3- . تفسير روح البيان 14:10.

دعاكم إليه لا يضرّه بشيء فَإِنَّمٰا عَلىٰ رَسُولِنَا أيّ رسول كان اَلْبَلاٰغُ الْمُبِينُ و تأدية الرسالة ببيان واضح، و قد فعل بما لا مزيد عليه، و قد بقي ما عليكم.

اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ عَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ثمّ لمّا بيّن أنّ جميع المصائب و البلايا بتقدير اللّه و إرادته، وصف ذاته المقدّسة بالعظمة و الوحدانية، و أمر المؤمنين بالتوكّل عليه بقوله:

اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ و لا معبود مستحقّ للعبادة سواه وَ عَلَى اللّٰهِ العظيم وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و ليفوّضوا إليه الامور، و منه يسألوا الحفظ من المصائب و الصبر عليها.

ثمّ لمّا صلّى سبحانه في المصائب و البلايا الدنيوية، تعرّض للبلايا الاخروية و ما يمنع عن طاعة اللّه و يصرف عنها من الأزواج و الأولاد بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ بعضا مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ يكونون عَدُوًّا لَكُمْ يمنعونكم من الهجرة و الجهاد و العمل بالتكاليف، كعداوة الشيطان لبني آدم، إذن فَاحْذَرُوهُمْ و احترزوا عن موافقتهم و قبول قولهم. قيل: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان أهله و ولده يثبّطونه عن الهجرة و الجهاد(1).

و عن ابن عباس: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكّة أسلموا و أرادوا أن يأتوا المدينة، فلم يدعهم أزواجهم و أولادهم، فهو قوله: عَدُوًّا لَكُمْ فاحذروا أن تطيعوهم و تدعوا الهجرة. و قوله: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا قال: هو أنّ الرجل من هؤلاء إذا هاجر و رأى الناس قد سبقوا إلى الهجرة، و فقهوا في الدين، همّ أن يعاقب زوجته و ولده الذين منعوه من الهجرة، و إن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، و لم يصبهم بخير، فنزل: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) قيل: يعني فعليكم أن تتخلّقوا بأخلاق اللّه(3).

إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللّٰهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

ص: 264


1- . تفسير الرازي 27:30.
2- . تفسير الرازي 27:30.
3- . تفسير روح البيان 18:10.

ثمّ لمّا كان محبّة المال و الولد فتنة و بلاء عظيما أمر سبحانه المؤمنين بإيثار محبة اللّه على محبّتهما بقوله:

إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ و اختبارا و بلاء و محنة لكم يوقعانكم في معصية اللّه و عذابه وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر محبّته على محبّتهما و طاعته على الاشتغال بمصالحهما، فلا تعصوا اللّه بسبب حبّهما.

عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: «لا يقولنّ أحدكم: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ اللّه فليستعذ من مضلاّت الفتن، فانّ اللّه يقول: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ (1).

و حكى بعض العامة عن ابن مسعود ما يقرب منه(2).

في فضيلة

الحسنين عليهما السّلام

و عن بعض العامة: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخطب، إذ جاء الحسن و الحسين عليهما السّلام و عليهما قميصان أحمران، يمشيان و يعثران، فنزل صلّى اللّه عليه و آله من المنبر، فحملهما و وضعهما بين يديه(3).

و في رواية: وضعهما في حجرة على المنبر و قال: «صدق اللّه عز و جلّ إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم اصبر حتّى قطعت حديثي و رفعتهما». ثمّ أخذ في خطبته(4).

فإذا علمتم أنّ الأزواج و الأولاد أعداءكم، و أنّ المال و الولد فتنة لكم، و أنّ اللّه عنده أجر عظيم و جنة و نعيم

فَاتَّقُوا اللّٰهَ و احذروه أن يعذّبكم على مخالفة أحكامه لحبّ المال و الولد مَا اسْتَطَعْتُمْ و مقدار وسعكم، و لا ترتكبوا ما يوجب سخطه عليكم وَ اسْمَعُوا مواعظ اللّه سماع القبول وَ أَطِيعُوا أيّها المؤمنون أوامره و نواهيه وَ أَنْفِقُوا في سبيله ممّا رزقكم لوجهه، تكن التقوى و السماع و الطاعة و الانفاق خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ و أنفع من الدنيا و ما فيها فضلا عن المال و الولد.

في ذم البخل

و الترغيب في

الانفاق و ثوابه

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين بعد أمرهم بالانفاق إلى ترك البخل بقوله: وَ مَنْ يُوقَ و يمنع شُحَّ نَفْسِهِ و بخلها الكامن فيها من التأثير في المنع عن الانفاق في سبيل اللّه فَأُولٰئِكَ الرادعون أنفسهم عن البخل هُمُ الْمُفْلِحُونَ و الفائزون بالجنّة و نعيمها.

ص: 265


1- . نهج البلاغة: 483 الحكمة 93، تفسير الصافي 185:5. (2-3-4) . تفسير روح البيان 19:10.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يطوف، بالبيت، فاذا رجل متعلّق بأستار الكعبة و هو يقول: بحرمة هذا البيت إلاّ غفرت لي. قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما ذنبك ؟» قال: هو أعظم من أن أصفه لك. قال: «ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون ؟» قال: بل ذنبي يا رسول اللّه. قال: «ويحك ذنبك أعظم أم الجبال ؟» قال: بل ذنبي أعظم.

قال: «فذنبك أعظم أم السماوات» قال: بل ذنبي أعظم. قال: «فذنبك أعظم أم العرش» قال: بل ذنبي أعظم. قال: «فذنبك أعظم أم اللّه» قال: بل اللّه أعظم و أعلى.

قال: «ويحك صف لي ذنبك» قال: يا رسول اللّه، إنّي رجل ذو ثروة من المال، و إن السائل ليأتيني ليسألني فكأنّما يستقبلني بشعلة من النار. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اعزب عنّي لا تحرقني بنارك، فو الذي بعثني بالهداية و الكرامة لو قمت بين الرّكن و المقام، ثمّ بكيت ألفي عام حتى تجرى من دموعك الأنهار و تسقى بها الاشجار، ثمّ مت و أنت لئيم، لأكبّك اللّه في النار، أ ما علمت أنّ البخل كفر، و أنّ الكفّار في النار، ويحك أ ما علمت أنّ اللّه يقول: وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمٰا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1).

إِنْ تُقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّٰهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الانفاق في سبيله بقوله:

إِنْ تُقْرِضُوا اللّٰهَ أيّها المؤمنون قَرْضاً حَسَناً ببذل شيء من أموالكم في الوجوه البرية، و في المصارف الخيرية، بخلوص النية، و طيب النفس يُضٰاعِفْهُ اللّه لَكُمْ أضعافا كثيرة على حسب النيات و الأوقات و المحالّ، فبعض بالواحد عشرة، و آخر بالواحد سبعين، و بعض بالواحد سبعمائة، و بعض أكثر منها وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم و خطاياكم وَ اللّٰهُ الكريم شَكُورٌ لعبيده بإكثار الثواب و العوض على إنفاقهم و الأجر على حسناتهم، أو بإكثار الثناء على عبده المحسن حَلِيمٌ لا يعجل في عقوبة البخيل و غيره من العصاة

عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ و المطّلع على الخفيّ و الظاهر من أعمال عباده و غيرها بحيث لا يعزب عن علمه شيء، فيعلم صدقة السرّ و العلن و خلوص نيّة المصّدّق و رياءه فيها اَلْعَزِيزُ و القادر على إثابة المطيعين و عقوبة العصاة المتمرّدين اَلْحَكِيمُ الذي لا يصدر منه إلاّ ما هو الأصلح و الأصوب، و يثيب و يعاقب على حسب الاستحقاق.

روى بعض العامة عن عبد اللّه بن عمران قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما من مولود إلاّ و في شبابيك

ص: 266


1- . تفسير روح البيان 21:10.

رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن»(1).

أقول: لعلّ المراد خمس آيات من أول السورة مع عدّ بِسْمِ اللّٰهِ آية، كما هو الحقّ.

و في الحديث: «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت له شفيعة يوم القيامة، [و] شاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة»(3).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 267


1- . تفسير روح البيان 24:10.
2- . تفسير أبي السعود 259:8، تفسير روح البيان 24:10.
3- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 446:10، تفسير الصافي 185:5.

ص: 268

في تفسير سورة الطلاق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ رَبَّكُمْ لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاٰ يَخْرُجْنَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاٰ تَدْرِي لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً (1) ثمّ لمّا ختمت سورة التغابن المتضمّنة لبيان عداوة النساء لأزواجهنّ، و تهديد الكفّار بذوق الامم السابقة وبال كفرهم، و حثّ المؤمنين على التقوى و الانفاق في سبيل اللّه، نظمت سورة الطلاق المتضمّنة لبيان بعض أحكام طلاق الأزواج، و وجوب الانفاق عليهنّ في العدّة الرجعية و إذا كنّ ذوات الحمل و وجوب الانفاق على الأولاد و الحثّ على التقوى و تهديد الكفّار بما ذاقت الامم السابقة من العذاب، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

في ذكر شرائط

الطلاق و بعض

أحكامه

ثمّ شرع سبحانه ببيان بعض أحكام الطلاق بعد خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثمّ خاطب امّته لأنّه سيّدهم و قدوتهم، فكان خطابه بمنزلة خطابهم. و قيل: إنّ التقدير قل لامتك (1)إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ المدخول بهنّ، و أردتم فراقهنّ و قطع علقة نكاحهنّ فَطَلِّقُوهُنَّ و أنشئوا صيغة طلاقهنّ حال كونهنّ مستقبلات لِعِدَّتِهِنَّ و زمان تربّصهنّ بعد الطلاق، و منعهنّ عن التزوج بالغير إذا كنّ في سنّ من تحيض.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و السجاد عليه السّلام: «فطلقوهن من(2) قبل عدّتهنّ»(3). و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا أراد الرجل الطلاق طلّقها(4) من قبل عدّتها بغير جماع»(5).

ص: 269


1- . مجمع البيان 456:10.
2- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: في.
3- . مجمع البيان 455:10، تفسير الصافي 186:5.
4- . في الكافي: في.
5- . الكافي 9/69:6، تفسير الصافي 186:5.

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما الطلاق أن يقول لها في قبل العدّة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها:

أنت طالق...» الخبر(1).

و قيل: إن لام لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى في، و المعنى فطلّقوهن في عدّتهنّ(2) ، لأنّ الطّهر الذي يقع فيه الطلاق معدود من إظهار العدّة، و هي ثلاثة. و عن الباقر عليه السّلام: «العدّة: الطّهر من الحيض»(3).

وَ أَحْصُوا أيّها الأزواج و اضبطوا اَلْعِدَّةَ بحفظ الوقت الذي يقع فيه الطلاق، و أكملوها ثلاث أطهار، أو ثلاث أشهر، إذا كنّ في سنّ من تحيض، فانّ النساء عاجزات عن إحصائها لغلبة الغفلة عليهنّ.

ثمّ لمّا كان الغائب وقوع الطلاق لكراهة الزوج معاشرة الزوجة، و لازم ذلك سرعة الزوج في إخراجهنّ من منزلهم، نهى سبحانه عن إخراجهن مع التهديد على ذلك بقوله: وَ اتَّقُوا اللّٰهَ رَبَّكُمْ أيّها الأزواج و خافوا عذابه على إخراجهن، و لذا لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ إذا كنّ رجعيات مِنْ بُيُوتِهِنَّ و مساكنهنّ اللاتي أسكنتموهنّ فيها حال الطلاق وَ هن أيضا لاٰ يَخْرُجْنَ منها ما دمن في العدّة.

و قيل: إنّ المراد اتّقوا اللّه ربّكم في تطويل عدّتهنّ و الاضرار بهنّ بايقاع طلاق ثان بعد الرجعة(4).

ثمّ حرّم إخراجهنّ و خروجهنّ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ و يعملن عملا ظاهر القباحة كالزنا، فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنه، فقال: «إلا أن تزني، فتخرج و يقام عليها الحدّ»(5).

و عن ابن عباس: و هو كلّ معصية(6).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «أذاها لأهل الرجل و سوء خلقها»(7).

و عنه عليه السّلام: «يعني بالفاحشة المبينة أن تؤذي أهل زوجها، فاذا فعلت فان شاء أن يخرجها من قبل أن تنقضي عدّتها فعل(8).

و قيل: إنّها خروجهنّ من البيوت، و المعنى لا يخرجن إلاّ إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج(9).

ثمّ عظّم سبحانه أمر هذه الأحكام بقوله: وَ تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللّٰهِ و قوانينه الموضوعة لصلاح الناس وَ مَنْ يَتَعَدَّ و يتجاوز حُدُودُ اللّٰهِ و يخالفها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ و أضرّها بإيقاعها

ص: 270


1- . الكافي 1/69:6، تفسير الصافي 186:5.
2- . تفسير الرازي 30:30.
3- . تفسير القمي 373:2، تفسير الصافي 186:5.
4- . تفسير روح البيان 28:10.
5- . من لا يحضره الفقيه 1565/322:3، تفسير الصافي 187:5.
6- . تفسير روح البيان 28:10 و 29.
7- . الكافي 1/97:6، تفسير الصافي 187:5.
8- . الكافي 2/97:6، تفسير الصافي 187:5.
9- . تفسير روح البيان 29:10.

في معصية اللّه و تعريفها للعذاب.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تحريم إخراجهن و خروجهنّ بقوله: لاٰ تَدْرِي أيّها الزوج المطلّق لَعَلَّ اللّٰهَ و يرجى أنّه يُحْدِثُ و يوجد بَعْدَ ذٰلِكَ الذي فعلت من الطلاق أَمْراً آخر من الندم و المحبّة للمطلّقة و الإقبال إليها.

عن ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، و المحبّة لرجعتها في العدّة(1).

و عن القمي قال: لعلّه يبدو لزوجها في الطلاق فيراجعها(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أحب للرجل الفقيه إذا أراد أن يطلّق امرأته أن يطلّقها طلاق السّنّة» ثمّ قال: «و هو الذي قال اللّه عز و جلّ: لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً [يعني بعد الطلاق و انقضاء العدّة التزويج بها من قبل أن تزوّج زوجا غيره»(3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «المطلّقة تكتحل و تختضب و تطيب و تلبس ما شاءت من الثياب لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً ] لعلّها أن تقع في نفسه فيراجعها»(4).

روي بعض العامة عن أنس: أن رسول اللّه طلّق حفصة بنت عمر، فأتت إلى أهلها، فنزلت(5).

و عن الكلبي: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله غضب على حفصة لمّا أسرّ إليها فاظهرته لعائشة، فطلّقها تطليقة، فنزلت(6).

أقول: لعلّ نزولها لخروجها إلى أهلها، فلمّا نزلت راجعها.

و قيل: إنّها نزلت في عبد اللّه بن عمر، فانّه طلّق امرأته في الحيض. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فاذا راجعها، فاذا ظهرت طلّقها إن شئت» فنزلت فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (7).

فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) ثمّ بيّن سبحانه حكم الرجوع في العدّة بقوله:

فَإِذٰا بَلَغْنَ المطلّقات و قربن أَجَلَهُنَّ و آخر مدّة عدّتهن، و أشرفن على انقضائها فَأَمْسِكُوهُنَّ و ارجعوا إلى نكاحهنّ إن شئتم بِمَعْرُوفٍ

ص: 271


1- . تفسير الرازي 33:30.
2- . تفسير القمي 374:2، تفسير الصافي 187:5.
3- . الكافي 3/65:6، تفسير الصافي 187:5.
4- . الكافي 14/92:6، تفسير الصافي 187:5.
5- . تفسير الرازي 29:30.
6- . تفسير الرازي 29:30.
7- . تفسير روح البيان 25:10.

و إيفاء حقوقهن، أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ و عدم الاضرار بهنّ بتطويل عدّتهنّ بالرجوع و الطلاق ثانيا وَ أَشْهِدُوا على طلاقهنّ رجلين ذَوَيْ عَدْلٍ و صاحبي عدالة مِنْكُمْ أيّها المؤمنون.

عن الكاظم عليه السّلام أنّه قال لأبي يوسف القاضي: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أمر في كتابه بالطلاق، و أكّد فيه بشاهدين، و لم يرض بهما إلاّ عدلين، و أمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود، فأثبتم شاهدين فيما أهمل، و أبطلتم الشاهدين فيما أكّد»(1).

و وَ أَقِيمُوا و أدّوا أيّها الشهود اَلشَّهٰادَةَ عند الحاجة إليها خالصا لِلّٰهِ و تقربا إليه ذٰلِكُمْ الأحكام من طلاق السّنة، و الحثّ على الإشهاد و إقامة الشهادة للّه مما يُوعَظُ و يرتدع بِهِ عن المخالفة خوفا من العذاب مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ عن صميم القلب وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و دار الجزاء، فانّ لازم الايمان باللّه مراعاة عظمته و حقوق ألوهيته و ربوبيته، و أقلّها طاعة أحكامه، و لازم الايمان باليوم الآخر الخوف من الحساب و العقاب على مخالفة أحكامه وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ في مخالفة أحكامه المذكورة في السورة، أو في القرآن يَجْعَلْ اللّه لَهُ مَخْرَجاً و مخلصا ممّا عسى أن يبتلي به من الغموم الراجعة إلى الازدواج، و يفرّج عنه ما يعتريه من الكروب، أو خلاصا من غموم الدنيا و الآخرة.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله - بطريق عامي - أنّه صلّى اللّه عليه و آله قرأها فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا، و غمرات الموت، و شدائد يوم القيامة»(2). و قيل يجعل له مخرجا إلى الرّجعة(3).

عن ابن عباس، أنّه سئل عمّن طلّق امرأته ثلاثا، أو ألفا، هل له من مخرج ؟ فقال: لم يتّق اللّه، فلم يجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث، و الزيادة إثم في عنقه(4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «مخرجا من الفتن، و نورا من الظلم»(3).

وَ يَرْزُقْهُ اللّه في الدنيا مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ و من وجه لا يخطر بباله.

روي أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنه سالما، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: اسر ابني، و شكا إليه الفاقة. فقال: «اتّق اللّه، و أكثر قول: لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم» ففعل، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب و معه مائة من الإبل غفل عنهما العدوّ فساقها، فنزلت(6).

و في رواية: أفلت بأربعة آلاف شاة و بالأمتعة(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ أي يبارك له فيما أتاه»(4).

ص: 272


1- . الكافي 4/387:5، تفسير الصافي 187:5.
2- . تفسير الرازي 34:30، تفسير روح البيان 31:10. (3و4) . تفسير روح البيان 31:10.
3- . نهج البلاغة: 266 الخطبة 183، تفسير الصافي 188:5. (6و7) . تفسير روح البيان 32:10.
4- . مجمع البيان 460:9، تفسير الصافي 188:5.

و عنه، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام: «من أتاه برزق لم يخط إليه برجله، و لم يمدّ إليه يده، و لم يتكلّم فيه بلسانه، و لم يشدّ إليه ثيابه، و لم يتعرّض له، كان ممّن ذكره اللّه عز و جلّ في كتابه وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ (1) الآية».

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله - بطريق عاميّ «أنّي لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ» الآية، فما زال يقولها و يعيدها(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ قوما من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية أغلقوا الباب، و أقبلوا على العبادة، و قالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله، فارسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا: يا رسول اللّه، تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة. فقال: من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب»(3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء، ليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا، فيسمعوا حديثنا و يقتبسوا من علمنا، فيرحل قوم فوقهم، و ينفقون أموالهم، حتّى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا، فينقلوه إليهم، فيعيه هؤلاء و يضيّعه هؤلاء، فاولئك الذين يجعل اللّه لهم مخرجا، و يرزقهم من حيث لا يحتسبون»(4).

في بيان حقيقة

التوكل

أقول: الظاهر تطبيق الآية عليهم لا حصر المراد فيهم.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ و يعتمد في اموره عَلَى اللّٰهِ و يفوّض إليه و يثق به فيها فَهُوَ حَسْبُهُ و كافيه مهمّاته، و مصلح اموره، و معطيه مراده.

لو كنتم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا(5)

ص: 273


1- . من لا يحضره الفقيه 399/101:3، تفسير الصافي 188:5.
2- . تفسير روح البيان 32:10.
3- . الكافي 5/84:5، تفسير الصافي 188:5.
4- . الكافي 201/178:8، تفسير الصافي 188:5، و فيهما عن الصادق عليه السّلام.
5- . تفسير روح البيان 33:10.

حكمته البالغة، لا يتقدّم بسعي ساع، و لا يتأخّر بمنع مانع و تقصير مقصّر، فاذا وصل الوقت يصل إليه ما قسم له من أنصبة الدنيا، و من المعلوم أنّ من تيقّن ذلك ما خاف أحدا و لا رجى أحدا و فوض أمره إليه تعالى، و هو تعالى يبلغ ما أراد من أمره بلا مانع و لا عائق.

روي أن جبرئيل جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا جبرئيل، ما التوكّل على اللّه ؟ فقال: العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ و لا ينفع و لا يعطي و لا يمنع، و استعمال اليأس من الخلق، فاذا كان العبد كذلك لم يعتمد على أحد سوى اللّه، و لم يرج و لم يخف سوى اللّه، و لم يطمع في أحد سوى اللّه، فهذا هو التوكّل(1).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «للمتوكّل على اللّه درجات، منها أن تتوكّل على اللّه في امورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم أنّه لا يألوك خيرا و فضلا، و تعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكّل على اللّه بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها و في غيرها»(2).

وَ اللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاٰثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّٰئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاٰتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (3) ذٰلِكَ أَمْرُ اللّٰهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) ثمّ بيّن سبحانه عدّة النساء اللاتي انقطع حيضهنّ بقوله:

وَ اللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ و أزواجكم اللاتي دخلتم بهنّ و انقطع حيضهنّ إِنِ ارْتَبْتُمْ و شككتم في أمرهنّ، و لا تدرون أنّهنّ يائسات، أو في سنّ من تحيض و لا تحيض لمانع فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاٰثَةُ أَشْهُرٍ هلالية.

عن (المجمع) عن أئمتنا عليهم السّلام «هنّ اللواتي أمثالهنّ يحضن، لأنهنّ لو كنّ في سنّ من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى»(4).

روي أنّ معاذ بن جبل قال: يا رسول اللّه، قد عرفنا عدّه التي تحيض، فما عدّة التي لم تحض ؟ فنزل: وَ اللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ (4) فلمّا نزلت قام رجل فقال: يا رسول اللّه، فما عدّة الصغيرة التي لم تحض ؟ فنزل وَ اللاّٰئِي لَمْ يَحِضْنَ الصغر، فهنّ أيضا كالكبيرة التي انقطع حيضها، عدّتهن ثلاثة أشهر(5). قيل: فقام رجل آخر. و قال: ما عدّة الحوامل يا رسول اللّه ؟ فنزل:

ص: 274


1- . معاني الأخبار: 1/261، تفسير الصافي 189:5.
2- . الكافي 5/53:2، تفسير الصافي 189:5.
3- . تفسير الرازي 35:30. (5و2) . تفسير الرازي 35:30.
4- . مجمع البيان 461:10، تفسير الصافي 189:5.

وَ أُولاٰتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ (1) و آخر عدّتهنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ و عن (المجمع) عنهم عليهم السّلام:

«هي في الطلاق خاصة»(1).

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ في عدّة الوفاة يعتبر أبعد الأجلين؛ لأنّ اولات الأحمال في عدّة الطلاق»(3). و عن ابن عباس ما يقرب منه(4).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته و هي حبلى، و كان في بطنها اثنان، فوضعت واحدا و بقي واحد؟ قال: «تبين بالأول، و لا تحلّ للازواج حتى تضع ما في بطنها»(2).

و عنه سئل عن الحبلى يموت زوجها فتضع، فتزوّج قبل أن يمضي لها أربعة أشهر و عشرا؟ قال:

«إن كان دخل بها فرّق بينهما، ثمّ لم تحلّ له أبدا، و اعتدّت بما بقي من الأول، و استقبلت عدّة اخرى من الأخير ثلاثة قروء، و إن لم يكن دخل بها فرّق بينهما، و اعتدّت بما بقي عليها من الأول، و هو خاطب من الخطّاب»(3).

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على العمل بأحكامه بقوله: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ في العمل بأحكامه و القيام بحقوقه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ الراجع إلى الدنيا و الآخرة يُسْراً و سهولة بحيث لا يصعب عليه شيء من امور الدارين

ذٰلِكَ المذكور من الأحكام أَمْرُ اللّٰهِ و حكمه الذي أَنْزَلَهُ بتوسط جبرئيل إِلَيْكُمْ أيّها المؤمنون من اللّوح المحفوظ، لتعملوا به وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ و يخافه في مخالفة أحكامه يُكَفِّرْ بتقواه و بمواظبته على الحسنات عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ و يستر معاصيه، فلا يفضحه بها يوم القيامة، و لا يخجله برؤيتها فضلا عن أن يعذّبه بها وَ يُعْظِمْ لَهُ يوم القيامة أَجْراً و يضاعف له جزاء. قيل: إنّ اللّه أمر بالتقوى في أحكام الطلاق ثلاث مرات، و وعد في كلّ مرة نوعا من الجزاء.

فقال أولا: يجعل له مخرجا يخرجه ممّا دخل فيه و هو يكرهه، و يهيئ له محبوبه من حيث لا يأمل.

و قال في المرة الثانية: يسهّل عليه كلّ صعب من أمره، و يفتح له خيرا ممّن طلّقها، و وعد في المرة الثالثة عليه بأفضل الجزاء في الآخرة، و هي كفر الذنوب و دخول الجنّة و النّيل بالنعماء(4).

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لاٰ تُضٰارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاٰتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ

ص: 275


1- . مجمع البيان 461:10، تفسير الصافي 189:5. (3-4) . تفسير الرازي 35:30.
2- . الكافي 10/82:6، تفسير الصافي 189:5.
3- . الكافي 4/427:5، تفسير الصافي 190:5.
4- . تفسير روح البيان 36:10.

أُخْرىٰ (6) ثمّ كأنّه قيل: كيف يعمل بالتقوى في شأن المطلّقات المعتدات ؟ فأجاب سبحانه بقوله:

أَسْكِنُوهُنَّ في مدّة عدّتهن مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ و في أي مكان تمكّنتم مِنْ وُجْدِكُمْ و وسعكم و استطاعتكم وَ لاٰ تُضٰارُّوهُنَّ بإسكانهنّ في مكان لا يناسبهنّ أو مع من لا يوافقهنّ في الأخلاق لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ في المسكن و تسلبوا منهنّ الراحة حتى تلجئوهن إلى الخروج، أو إلى تحمّل غاية المشقّة.

عن الصادق عليه السّلام: «لا يضارّ الرجل امرأته إذا طلّقها فيضيّق عليها حتّى تنتقل قبل أن تنقضي عدّتها، فانّ اللّه تعالى قد نهى عن ذلك» ثمّ تلا هذه الآية(1).

وَ إِنْ كُنَّ المطلّقات حال الطلاق أُولاٰتِ حَمْلٍ و صاحبات الولد في الرّحم، أي حمل كان، قريب الوضع أو بعيده فَأَنْفِقُوا أيّها المطلّقون عَلَيْهِنَّ في مدّة عدّتهن، كانت رجعية أو بائنة حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ و يخرجن من العدّة. عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المطلّقة ثلاثا، أ لها النفقة و السّكنى ؟ قال: «أ حبلي هي ؟» قيل: لا. قال: «فلا»(2).

فَإِنْ أَرْضَعْنَ بعد الوضع الولد الذي هو لَكُمْ و نفقته عليكم فَآتُوهُنَّ و أعطوهنّ أُجُورَهُنَّ على إرضاعهن وَ أْتَمِرُوا و تشاورا أيّها الآباء و الامّهات بَيْنَكُمْ في مدّة الإرضاع و مقدار الاجرة بِمَعْرُوفٍ و جميل و مستحسن في مدّة الإرضاع و مقدار الأجر، بأن لا يقصّر الرجل في أجر المرأة و نقصها، و لا تقصّر المرأة في حقّ الولد و رضاعة وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ و تضايقتم بأن طلبت المرأة زائدا على الاجرة المتعارفة للرضاع، و امتنع الأب عن أداء اجرة المثل فَسَتُرْضِعُ الولد لَهُ مرضعة أُخْرىٰ غير الامّ مجانا أو باجرة يرضاها الأب، و فيه إشعار بالعتاب على الامّ على المعاسرة.

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ لاٰ يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ مٰا آتٰاهٰا سَيَجْعَلُ اللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) ثمّ بيّن سبحانه قدر الانفاق بقوله:

لِيُنْفِقْ الرجل الذي هو ذُو سَعَةٍ و صاحب ثروة على المطلّقة المرضعة مِنْ سَعَتِهِ و بمقدار ثروته و غناه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل الموسر يتّخذ الثياب الكثيرة الجياد و الطّيالسة و القمص

ص: 276


1- . الكافي 1/123:6، تفسير الصافي 190:5.
2- . التهذيب 462/133:8، تفسير الصافي 190:5.

الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمّل بها، أ يكون مسرفا؟ قال: «لا، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (1).

وَ مَنْ قُدِرَ و ضيّق من جانب اللّه عَلَيْهِ رِزْقُهُ و كان فقيرا فَلْيُنْفِقْ على المطلّقة و المرضعة مقدارا مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ و أعطاه من المال، و إن كان مقدار القوت.

عن الصادق عليه السّلام قال في الآية: «إن أنفق الرجل على امرأته ما يقيم ظهرها مع كسوة، و إلاّ فرّق بينهما»(2).

لاٰ يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً من النفوس إِلاّٰ إعطاء مٰا آتٰاهٰا و أعطاها من المال، و لا يمكن أن يكلّف الفقير بمثل ما كلّف الغني.

ثمّ بشّر سبحانه الفقراء تسلية لقلوبهم بقوله: سَيَجْعَلُ اللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً و بعد الفقر غنىّ، و بعد الشدّة رخاء، و بعد الخوف أمنا، و بعد السّقم صحّة، فلينتظر من وقع في العسر الفرج و اليسر سواء كان المعصر زوجا أو غيره، أو كان فقيرا في وقت نزول الآية أو في غيره، لعدم كون المورد مخصّصا للحكم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهٰا وَ رُسُلِهِ فَحٰاسَبْنٰاهٰا حِسٰاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنٰاهٰا عَذٰاباً نُكْراً (8) فَذٰاقَتْ وَبٰالَ أَمْرِهٰا وَ كٰانَ عٰاقِبَةُ أَمْرِهٰا خُسْراً (9) ثمّ هدّد سبحانه المخالفين لأحكامه و العاتين على ربّهم بما نزل على العتاة من الامم السابقة بقوله:

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كثير من أهل بلدة عَتَتْ و أعرضت عَنْ أَمْرِ رَبِّهٰا و خالقها وَ أمر رُسُلِهِ المبعوثين إليهم بسبب التجاوز عن الحدّ في التكبّر و العناد فَحٰاسَبْنٰاهٰا حِسٰاباً شَدِيداً و أخذناهم بدقائق ذنوبهم بأن ابتليناهم بالقحط و الأمراض و الخوف و غيرها من البلايا و الشدائد مقدّما على استئصالهم بالعذاب، ليرجعوا إلى اللّه، و يتوبوا ممّا هم فيه من العتوّ و العصيان وَ عَذَّبْنٰاهٰا بذنوبهم عَذٰاباً نُكْراً و عاقبناهم عقابا هائلا عظيما، أو عذابا غير متوقّع من الغرق و الحرق بالصاعقة و الخسف و الرجعة و غيرها من المستأصلات

فَذٰاقَتْ القرية، يعني أهلها وَبٰالَ أَمْرِهٰا و عاقبة كفرها في الدنيا وَ كٰانَ عٰاقِبَةُ أَمْرِهٰا خُسْراً و ضررا عظيما لا خسر و لا ضرر أعظم منه.

أَعَدَّ اللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللّٰهَ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِ اللّٰهِ مُبَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 277


1- . الكافي 12/443:6، تفسير الصافي 191:5.
2- . تفسير القمي 375:2، تفسير الصافي 191:5.

وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّٰهُ لَهُ رِزْقاً (11) ثمّ هدّدهم بعذاب الآخرة بقوله:

أَعَدَّ اللّٰهُ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة بعد ذلك عَذٰاباً شَدِيداً لا يقادر قدرة، و لا يوصف كنهه، إذا كان الأمر كذلك فَاتَّقُوا اللّٰهَ و خافوه في مخالفة أحكامه يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ و ذوي العقول السليمة و الأفهام المستقيمة، و اعتبروا بحال أمثالكم من الامم الماضية.

ثمّ وصف سبحانه أصحاب العقول السليمة من شوائب الأوهام بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بتوحيد اللّه، فاعلموا أنه من أعظم النّعم عليكم أنّه قَدْ أَنْزَلَ اللّٰهُ و بعث إِلَيْكُمْ بلطفه ذِكْراً و واعظا و هاديا إلى الحقّ، أعنى

رَسُولاً عظيم الشأن، و هو يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْكُمْ مع امّيته آيٰاتِ كتاب اَللّٰهِ و قرآنه العظيم حال كونها مُبَيِّنٰاتٍ و موضحات لكم جميع ما تحتاجون إليه في معاشكم و معادكم و عقائدكم من معارف ربكم و صفاته الجمالية و الجلالية لِيُخْرِجَ ذلك الرسول بتلاوته اَلَّذِينَ آمَنُوا به و بكتابه عن صميم القلب وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّٰالِحٰاتِ بتعليمه و هدايته مِنَ الظُّلُمٰاتِ التي بعضها فوق بعض كالكفر و الشّبهات و الجهل و الأخلاق النميمة و الشهوات المردية إِلَى النُّورِ الذي هو كمال الايمان الحقيقي و العلم و المعرفة الكاملة باللّه و الأخلاق الحميدة و الصفات الجميلة.

قيل: إنّ المراد بالذين آمنوا الذين يؤمنون على استعمال الماضي في المستقبل المحقّق الوقوع، أو المراد من الظلمات الظلمات التي تحدث بعد الايمان(1).

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِ اللّٰهِ مُبَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّٰهُ لَهُ رِزْقاً (11) اَللّٰهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ثمّ حثّ سبحانه الناس إلى الايمان و العمل الصالح ببيان حسن عاقبتهما بقوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ إيمانا خالصا من شوب النفاق وَ يَعْمَلْ عملا صٰالِحاً خالصا من الرّياء و السّمعة و العجب يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة جَنّٰاتٍ ذات قصور و أشجار كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا لا يخرجون منها أَبَداً و هو تأكيد للخلود، لأن لا يتوهّم أنّ المراد المكث الطويل المنقطع قَدْ أَحْسَنَ اللّٰهُ لَهُ في تلك الجنّات رِزْقاً واسعا وافرا من

ص: 278


1- . تفسير الرازي 29:30.

نعم الجنة. قيل: فيه معنى التعجّب و التعظيم، و المعنى ما أحسن رزقهم الذي رزقهم اللّه، و ما أعظمه(1)! و قيل: إنّ المراد بالرزق الطاعة في الدنيا و الثواب في الآخرة(2).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حسن المجازاة على الايمان و العمل الصالح، ذكّر الناس كمال قدرته بقوله:

اَللّٰهُ تعالى هو اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته الكاملة سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ سوى العرش و الكرسيّ بعضها فوق بعض كالقبّة، وَ خلق مِنَ جنس اَلْأَرْضِ بعدد السماوات و مِثْلَهُنَّ في كونهنّ طباقا متلاصقة.

قيل: إنّ المراد من الأراضي السبعة الأقاليم السبعة على حسب سبع سماوات و سبع كواكب، فانّ لكلّ واحد منها خواصا تظهر في كلّ إقليم، فتصير الأرض بهذا الاعتبار سبعة(3).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «أنّ السماء الدنيا فوق هذه الأرض قبّة عليها، و أنّ الأرض الثانية فوق سماء الدنيا، و السماء الثانية فوقها قبّة، و هكذا إلى السابعة منهما، و هو قول اللّه: اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (4).

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ من اللّه في السماوات السبع و الأرضين السبع و بَيْنَهُنَّ و يجري حكمه و قضاؤه فيهنّ، و إنّما خلق ما خلق و أنفذ في كلّ شيء قضاءه و قدره لِتَعْلَمُوا يا بني آدم أَنَّ اللّٰهَ الذي خلقكم و خلق الموجودات عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الايجاد و الإعدام و الإعادة و البعث و الحساب و الجزاء بالثواب و العقاب في الآخرة قَدِيرٌ و مقتدر وَ أَنَّ اللّٰهَ الخالق لكلّ شيء قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ خلقه عِلْماً و اطّلاعا و خبرا، فأطيعوا أوامره و نواهيه، و لا تخالفوا أحكامه، و اخضعوا لعظمته، و خافوا عقوبته.

عن ابن عباس لمّا سئل عن هذه الآية قال: لو فسّرتها لقطعوا حلقومي، أو رجموني(5).

أقول: فيه إشارة إلى ما فيها من الأسرار الغامضة التي تعلّمها من استاذه أمير المؤمنين عليه السّلام.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الطلاق و التحريم في فرائضه أعاذه اللّه من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف و يحزن، و عوفي من النار، و أدخله اللّه الجنّة بتلاوته إياهما، و محافظته عليهما، لأنّهما للنبي صلّى اللّه عليه و آله»(6).

ص: 279


1- . تفسير روح البيان 42:10 و 43.
2- . تفسير الرازي 39:30.
3- . تفسير الرازي 40:30.
4- . تفسير القمي 329:2، تفسير الصافي 192:5.
5- . تفسير روح البيان 47:10.
6- . ثواب الأعمال: 119، مجمع البيان 454:10، تفسير الصافي 192:5.

ص: 280

في تفسير سورة التحريم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللّٰهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمٰانِكُمْ وَ اللّٰهُ مَوْلاٰكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الطلاق المتضمّنة لأحكام طلاق النساء، و تهديد الكفّار على مخالفة أحكامه، و تعظيم شأن النبي صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة التحريم المتضمّنة لبيان حكم تحريم الزوجة بالحلف على ترك مقاربتها، و تهديد الكفّار، و تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و وعده بالنّصرة على أعدائه، و غيرها من جهات الارتباط، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ إنّه تعالى كما خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في السورة السابقة بصفة النبوة إجلالا له عند ذكر حكم تحريم الزوجة بالطلاق، خاطبه في هذه السورة أيضا بصفة النبوة عند بيان حكم تحريم الزوجة بالحلف على ترك مقاربتها بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ على نفسك، و لأيّ علّة تجعل ممنوع الانتفاع مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ من النساء باليمين على ترك المقاربة، أو العسل بالحلف على ترك شربه تَبْتَغِي و تطلب بتحريم الحلال على نفسك مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ و طيب قلوبهنّ مع عدم قابليتهنّ لأن تطلب رضاهنّ، بل عليهنّ أن يطلبن رضاك وَ اللّٰهُ غَفُورٌ لرعايتك ما لا يحبّ اللّه رعايته رَحِيمٌ بك بإعطائك الأجر العظيم على تحمّل مشاقّ صحبتهنّ و إيذائهنّ

قَدْ فَرَضَ اللّٰهُ لَكُمْ و أوجب عليكم تَحِلَّةَ أَيْمٰانِكُمْ و مخالفة حلفكم على ترك الاستمتاع ممّا أحل اللّه لكم وَ اللّٰهُ القادر على كلّ شيء مَوْلاٰكُمْ و ناصركم على أعدائكم الذين من جملتهم أزواجكم، كما قال: إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ ... عَدُوًّا لَكُمْ، وَ هُوَ تعالى اَلْعَلِيمُ بمصالحكم اَلْحَكِيمُ في أفعاله و أحكامه، و في خطاب النبي بضمير الجمع كمال تعظيمه.

روت العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله خلا بمارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في يوم عائشة

ص: 281

و نوبتها، و علمت بذلك حفصة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اكتمي عليّ و لا تعلمي عائشة، فقد حرّمت مارية على نفسي، و ابشّرك أن أبا بكر و عمر يملكان بعدي أمر امّتي» فأخبرت به عائشة، و لم تكتم، و كانتا متصادقتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله(1).

و قيل: خلا بها في يوم حفصة حيث استأذنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زيارة أبيها في يومها، فأذن لها، فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى امّ ولده مارية فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها، فلمّا رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وجهه يقطر عرقا و حفصة تبكي فقال: «ما يبكيك»؟ فقالت: إنّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي ثمّ وقعت عليها في يومي على فراشي! فلو رأيت لي حقا و حرمة ما كنت تصنع هذا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أ ليس هي جاريتي، أحلها اللّه لي، اسكتي فهي حرام علي، التمس بذلك رضاك، فلا تخبري بذلك امرأة منهنّ».

فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرعت حفصة الجدار بينها و بين عائشة فقالت: أ لا ابشّرك أنّ رسول اللّه قد حرّم عليه أمته مارية، و قد أراحنا اللّه منها، و أخبرت عائشة بما رأت، و لم تكتم، فطلّقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بطريق الجزاء على إفشاء سرّه، و اعتزل نساءه، و مكث تسعا و عشرين ليلة في بيت مارية(2).

و قيل أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرا من شدّة مواجدته عليهنّ حتّى نزلت الآية، و دخل عمر على بنته و هي تبكي، فقال: أطلقكنّ رسول اللّه ؟ فقالت: لا أدرى، هو ذا معتزل في هذه المشربة (3)- و في رواية، قال لها: لو كان في آل الخطّاب خير لما طلّقك - قال عمر: فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فدخلت و سلّمت عليه، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه، فقلت: أطلقت نساءك يا رسول اللّه ؟ فقال:

«لا». فقلت: اللّه أكبر، لو رأيتنا يا رسول اللّه و كنّا معشر قريش نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم، و طفقن نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت الآية(4).

و روى بعضهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كلّما دخل على زينب بنت جحش شرب العسل، و لذا كان يكثر وقوفه عندها، فتواطأت عائشة و حفصة، فقالتا له: إنّا نشمّ منك ريح المغافير، و المغفور: صمغ حلو الطعم كرية الرائحة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكره الرائحة الكريهة، فحرّم العسل(5).

و عن القمي، قال: كان سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّما ذهب في بيوت نسائه، كانت مارية القبطية معه تخدمه، و كان ذات يوم في بيت حفصة، فذهبت حفصة في حاجة لها، فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مارية، فعلمت حفصة بذلك، فغضبت و أقبلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه،

ص: 282


1- . تفسير روح البيان 47:10.
2- . تفسير روح البيان 47:10.
3- . المشربة: الغرفة.
4- . تفسير روح البيان 48:10.
5- . تفسير روح البيان 48:10.

في يومي و داري و على فراشي! فاستحيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «كفّي و قد حرّمت مارية على نفسي، و لا أطؤها بعد هذا أبدا، و أنا أفضي إليك سرا إن أنت أخبرت به فعليك لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين». فقالت: نعم ما هو؟ قال: إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي، ثمّ بعده أبوك عمر».

فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك، و أخبرت عائشة أبا بكر، فجاء أبا بكر إلى عمر، فقال له:

إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة بشيء و لا أثق بقولها، فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال لها: ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة ؟ فأنكرت حفصة ذلك، و قالت: ما قلت لها من ذلك شيئا. فقال لها عمر: إن [كان] هذا حقا فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه. فقالت: نعم، قد قال [ذلك] رسول اللّه(1)... الخبر.

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلىٰ بَعْضِ أَزْوٰاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّٰا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّٰهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّٰا نَبَّأَهٰا بِهِ قٰالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هٰذٰا قٰالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) ثمّ شرع سبحانه في تفضيح بعض نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله التي طلب رضاها بتحريم مارية بقوله:

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ و المعنى اذكروا أيّها المسلمون وقتا أفضى النبي صلّى اللّه عليه و آله إِلىٰ بَعْضِ أَزْوٰاجِهِ و هي حفصة حَدِيثاً و كلاما خفية من غيرها، و أمرها بكتمانه و إخفائه عن سائر أزواجه، فخالفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عصته، و أخبرت به عائشة فَلَمّٰا نَبَّأَتْ عائشة بسرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخبرتها بِهِ لمصادقة كانت بينهما، و أخبر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإفشاء حفصة سرّه وَ أَظْهَرَهُ اللّٰهُ بتوسّط جبرئيل عَلَيْهِ بلا ريث و تأخير عَرَّفَ النبي صلّى اللّه عليه و آله حفصة و أعلمها بإفشائها سرّه، و لكن لا كلّه، بل بَعْضَهُ و هو تحريمه مارية على نفسه وَ أَعْرَضَ صلّى اللّه عليه و آله عَنْ بَعْضٍ و لم يقل لها: إنّك أخبرت بأنّ أبا بكر و عمر يليان الخلافة بعده كراهة انتشاره بين الناس، و تكرّما منه و حلما فَلَمّٰا أخبرها النبي صلّى اللّه عليه و آله بخيانتها و عصيانها و نَبَّأَهٰا بِهِ معترضا عليها قٰالَتْ حفصة مَنْ أَنْبَأَكَ هٰذٰا العصيان، و أخبرك بهذه الخيانة منّي قٰالَ النبي صلّى اللّه عليه و آله: نَبَّأَنِيَ اللّه اَلْعَلِيمُ بالأسرار و اَلْخَبِيرُ بخفايا الامور.

أقول: فيه دلالة على إخباره بالغيب، و هو من معجزاته.

إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلاٰئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ

ص: 283


1- . تفسير القمي 375:2، تفسير الصافي 194:5.

أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوٰاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمٰاتٍ مُؤْمِنٰاتٍ قٰانِتٰاتٍ تٰائِبٰاتٍ عٰابِدٰاتٍ سٰائِحٰاتٍ ثَيِّبٰاتٍ وَ أَبْكٰاراً (1) ثمّ وجه سبحانه الخطاب إلى المرأتين العاصيتين تشديدا للعتاب لهما بقوله:

إِنْ تَتُوبٰا يا عائشة و يا حفصة من خيانتكما و عصيانكما إِلَى اللّٰهِ و تستغفرانه فهو خير لكما فَقَدْ صَغَتْ و أعرضت قُلُوبُكُمٰا عن اللّه و طاعته برغبتكما إلى إيذاء نبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ إِنْ لم تتوبا و تَظٰاهَرٰا و تعاونا عَلَيْهِ و تواطئا على إيذائه، فإنّه لا يبالي بكما، لأنّ له مظاهرا و معاونا أقوى من جميع أهل العالم فَإِنَّ اللّٰهَ الغالب القاهر هُوَ بالخصوص مَوْلاٰهُ و ناصره قبل كلّ شيء، لأنّه حبيبه و صفيّه وَ بعده جِبْرِيلُ رئيس الكروبيين، و أقوى الملائكة ناصره وَ بعدهما صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ و سيدهم علي بن أبي طالب صلّى اللّه عليه و آله ناصره بنفسه و ماله، كما عن مجاهد(2) و الباقر عليه السّلام(3) ، و يؤيّده حديث المنزلة(4).

و عن الباقر عليه السّلام «لقد عرّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام أصحابه مرّتين؛ أمّا مرّة فحيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و أمّا الثانية فحيث ما نزلت هذه الآية: فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد علي عليه السّلام و قال: أيّها الناس، هذا صالح المؤمنين».

و قالت أسماء بنت عميس: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب»(5) فما نسبه العامّة إلى ابن عباس من أنّ المراد أبو بكر و عمر(5) فرية لا اعتداد بها، مع أنّ مولاه لا بدّ أن يكون أقوى الناس لا أضعفهم.

و قيل: إنّ المراد خيار المؤمنين. و قيل: من برئ منهم من النفاق. و قيل: عموم اصحابه. و قيل: جميع الأنبياء(6).

وَ الْمَلاٰئِكَةُ كلّهم بَعْدَ ذٰلِكَ المذكورين ظَهِيرٌ و معاونا له على أعدائه، فلا يبالي بكيد امرأتين ضعيفتين من له اولئك الظّهراء. ثمّ خوّفهنّ سبحانه بقوله:

عَسىٰ رَبُّهُ و يرجي منه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إِنْ طَلَّقَكُنَّ و أخرجكنّ من حبالة نكاحه أَنْ يُبْدِلَهُ اللّه و يعوّضه منكنّ أَزْوٰاجاً أخر خَيْراً له و أفضل مِنْكُنَّ من جهة كونهنّ مُسْلِمٰاتٍ بألسنتهنّ، أو منقادات بجوارحهنّ مُؤْمِنٰاتٍ و مخلصات أو مصدّقات بقلوبهنّ قٰانِتٰاتٍ و مطيعات أو خاضعات للّه و لرسوله

ص: 284


1- . تفسير الرازي 44:30.
2- . تفسير روح البيان 53:10.
3- . تفسير القمي 377:2، تفسير الصافي 195:5.
4- . تفسير روح البيان 53:10.
5- . مجمع البيان 475:10، تفسير الصافي 195:5.
6- . تفسير الرازي 44:30.

تٰائِبٰاتٍ من زلاّتهنّ، و عٰابِدٰاتٍ للّه مواظبات على الصلوات، أو متذلّلات لأوامر الرسول سٰائِحٰاتٍ و صائمات، يكون بعضهنّ ثَيِّبٰاتٍ وَ بعضهنّ أَبْكٰاراً كما أنّ في أزواجه ثيّبات و بكر.

في فضيحة عائشة

و حفصة و ردّ

بعض العامة

أقول: في ذكر الصفات في مقام بيان خيرية الأزواج إشعار بعدم اتّصاف عائشة و حفصة بجميع الصفات، و إلاّ لم يكنّ خيرا منهما، و فيها ردّ على استدلال الفخر الرازي بآية اَلطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ (1) على كون عائشة مبرّأة من جميع العيوب(2) ، و الظاهر أنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل السورة لتفضيحهما بين المؤمنين بكونهما مؤذيتين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و متظاهرتين عليه، كما أنزل سورة المنافقين لتفضيح عبد اللّه بن ابي و أصحابه بين المؤمنين بكفرهم و معارضتهم للنبي، فلا يعبأ بما روته العامة من أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا طلّق حفصة قال له جبرئيل: ارجع إليها، فانّها صوّامة قوّامة(3) ، مع كون النبي صلّى اللّه عليه و آله أعلم بحالها من غيره، و إنّما رجع إليها لدخالتها في الفتنة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ عَلَيْهٰا مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ شِدٰادٌ لاٰ يَعْصُونَ اللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (4) ثمّ لمّا ذكر سبحانه عصيان زوجتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمرهما بالتوبة أمر المؤمنين بحفظ نسائهم و أولادهم و أقربائهم من العصيان بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا و احفظوا أَنْفُسَكُمْ بطاعة اللّه و ترك عصيانه وَ أَهْلِيكُمْ من أزواجكم و أولادكم و أقاربكم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و النّصح و العظة نٰاراً موقدة التي وَقُودُهَا و حطبها ما تشتعل به اَلنّٰاسُ الكفرة و العصاة وَ الْحِجٰارَةُ عن ابن عباس هي حجارة الكبريت؛ لأنّها أشدّ الأشياء حرّا إذا أوقد عليها(5). و قيل:

حجارة الأصنام(6). و قيل: الذهب و الفضّة الذين أصلهما الحجر(6).

تسلّط عَلَيْهٰا بأمر ربّها تسعة عشر مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ أجرامهم و قلوبهم، أو غلاظ أقوالهم شِدٰادٌ و جفاة و خشن على أعداء اللّه، لم يخلق فيهم رحمة و رقة، مطيعون لأمر اللّه لاٰ يَعْصُونَ اللّٰهَ و لا يخالفون مٰا أَمَرَهُمْ اللّه في تعذيب أعدائه و مخالفي أحكامه وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ من أنواع العذاب من غير توان و تأخير، و بلا زيادة و نقصان.

ص: 285


1- . النور: 26/24.
2- . تفسير الرازي 195:23.
3- . تفسير الرازي 41:30، تفسير روح البيان 48:10.
4- . تفسير روح البيان 59/10.
5- . تفسير الرازي 46:30.
6- . تفسير روح البيان 10/59.

في الحديث «رحم اللّه رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم، لعلّ اللّه يجمعكم معهم في الجنّة»(1).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية جلس رجل من المسلمين يبكي، و قال: عجزت عن نفسي، و كلّفت أهلي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حسبك أن تأمرهم بما تأمر نفسك، و تنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك»(2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، قيل له: هذه نفسي أقيها، فكيف أقي أهلي ؟ فقال: «تأمرهم بما أمرهم اللّه به، و تنهاهم عمّا نهاهم اللّه عنه، فان أطاعوك وقيتهم، و إن عصوك كنت قضيت ما عليك»(3).

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) ثمّ إنّه تعالى بعد أمر المؤمنين بحفظ أنفسهم و أهليهم من النار، هدّد الكفّار بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا و التقدير على ما قيل: يقال لكم حين إدخالكم النار يوم القيامة و إرادتكم الاعتذار عن كفركم و عصيانكم(4): لاٰ تَعْتَذِرُوا في هذا اَلْيَوْمَ الذي هو يوم الجزاء بعد إتمام الحجّة عليكم بتوسّط الرسل في الدنيا، و تبليغ الأوامر و النواهي إليكم بأبلغ بيان، فلم يبق لكم عذر قابل للقبول مفيد بحالكم إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ اليوم مٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ و ترتكبون من الكفر و الطّغيان و العتوّ و العصيان بلا زيادة و لا نقصان.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اللّٰهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) ثمّ علّم اللّه سبحانه المؤمنين طريق الخلاص من العذاب و الاعتذار من العصيان بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ من معاصيكم و زلاّتكم في الدنيا قبل معاينة الآخرة و انسداد باب التوبة تَوْبَةً نَصُوحاً لا رجوع بعدها إلى ما ارتكبتم من الذنب، و اعتذروا إلى اللّه ممّا فرط منكم من العصيان مع الندم عليه ندامة شديدة مستلزمة للعزم الأكيد على أن لا تعودوا إليه أبدا.

ص: 286


1- . جوامع الجامع: 499، تفسير روح البيان 58:10.
2- . الكافي 1/62:5، تفسير الصافي 196:5.
3- . تفسير القمي 377:2، و تفسير الصافي 196:5، عن الصادق عليه السّلام.
4- . تفسير روح البيان 60:10.

في شرائط قبول

التوبة

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سمع أعرابيا يقول: اللهمّ إنّي استغفرك و أتوب إليك. فقال: «يا هذا: إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذّابين» قال: فما التوبة ؟ قال: «إنّ التوبة يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، و ردّ المظالم، و الاستحلال من الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربّيتها في المعصية، و أن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي»(1).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال عليه السّلام: «يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه»(2).

و في رواية: قيل له: و أيّنا لا يعود؟ فقال: «إنّ اللّه يحبّ من عباده المفتّن التوّاب»(3).

و عن الكاظم عليه السّلام في هذه الآية، قال: «يتوب العبد ثمّ لا يرجع فيه، و أحبّ عباد اللّه إلى اللّه: المفتّن التائب»(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «التوبة النّصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره، بل أفضل»(5).

ثمّ بيّن سبحانه فائدة التوبة بقوله: عَسىٰ رَبُّكُمْ و يرجى من خالقكم اللطيف بكم أَنْ يُكَفِّرَ و يستر عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ و خطيئاتكم.

عن الصادق عليه السّلام: «إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه اللّه فيستر عليه في الدنيا و الآخرة» قيل: و كيف يستر عليه ؟ قال: «ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، و يوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، و يوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى اللّه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»(6).

وَ يُدْخِلَكُمْ برحمته جَنّٰاتٍ ذات قصور و أشجار كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ قيل:

ذكر سبحانه الوعد بصيغة الإطماع جريا على عادة الملوك، و إشعارا بأنّه تفضّل، و لأنّ العبد ينبغي أن يكون بين الخوف و الرجاء(7) ، و ذلك اللطف بالمؤمنين و إدخالهم الجنّة يكون في يوم القيامة، و هو يكون يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اللّٰهُ و لا يفضح، أو لا يخجل اَلنَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا به حال كونهم مَعَهُ و مصاحبه نُورُهُمْ و ضياء إيمانهم و طاعاتهم كشعاع الشمس يَسْعىٰ و يسير بسرعة على الصّراط بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و قدّامهم وَ بِأَيْمٰانِهِمْ و شمائلهم.

قيل: إنّ المراد من جميع جوانبهم و جهاتهم، و إنّما اكتفى سبحانه بذكر الجهتين لأنّهما أشرف الجهات،

ص: 287


1- . تفسير روح البيان 61:10.
2- . الكافي 3/314:2، تفسير الصافي 196:5.
3- . الكافي 4/314:2، تفسير الصافي 196:5، و المفتّن: الممتحن، يمتحنه اللّه بالذّنب ثم يتوب، ثم يعود ثم يتوب.
4- . تفسير القمي 377:2، تفسير الصافي 196:5.
5- . معاني الأخبار: 3/174، تفسير الصافي 196:5.
6- . الكافي 1/314:2، تفسير الصافي 197:5.
7- . تفسير روح البيان 64:10.

أو لأنّ أهل السعادة يؤتون صحائفهم من الجهتين(1).

عن الباقر عليه السّلام: «من كان له نور يومئذ نجا، و كلّ مؤمن له نور»(2).

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «يسعى [أئمة] المؤمنين يوم القيامة بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم حتّى ينزلوهم منازلهم في الجنة»(3).

و هم مع ذلك يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قيل: هذا قول بعض المؤمنين، و هم الذين يجوزون على الصراط حبوا و زحفا(4) و قيل: يدعو كلّهم تقربا إلى اللّه مع تمام نورهم(5). و قيل: إنّ المراد من الاتمام الابقاء حتّى يدخلوا الجنّة و يردوا دار السّلام(4).

عن ابن عباس: يقولون ذلك عند انطفاء نور المنافقين إشقاقا(7).

و قيل: إنّ أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطئ قدمه، لأنّ النور على قدر الأعمال(8).

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ (10) ثمّ لمّا بدأ السورة بالخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، ختم سبحانه الخطابات بالخطاب إليه بقوله:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه و آله جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ بالسيف و السّنان وَ الْمُنٰافِقِينَ بالحجّة و البرهان، و بالتهديد بالفضيحة و الخذلان وَ اغْلُظْ و شدّد و أخشن عَلَيْهِمْ فيما يجاهد الفريقين من القتال و المحاجّة حتّى تضيّق عليهم الدنيا، و أنا حكمت بأنّ منزلهم وَ مَأْوٰاهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ التي اعدّت للكفار وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع في الآخرة، فلا يكون لهم دنيا و لا آخرة.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه خيانة زوجتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و عصيانهما إيّاه في أول السورة، بيّن سبحانه عدم انتفاعهما بصحبته، و عدم استفادتهما من كونهما من أزواجه، بتمثيل حالهما بزوجة نوح و زوجة لوط بقوله:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا و بيّن حالهم الغريبة التي تشابه المثل في الغرابة بتذكيركم حال واعلة التي هي اِمْرَأَتَ نُوحٍ و أهله وَ امْرَأَتَ لُوطٍ فانّهما كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا

ص: 288


1- . تفسير روح البيان 65:10 و 66.
2- . تفسير القمي 378:2، تفسير الصافي 197:5.
3- . مجمع البيان 478:10، تفسير الصافي 197:5. (4و5) . تفسير الرازي 48:30.
4- . تفسير روح البيان 66:10. (7و8) . تفسير الرازي 48:30.

صٰالِحَيْنِ كاملين في العبودية و حسن الأعمال و الأخلاق، و في تصرّفهما و تربيتهما و حكمهما المقتضي لصيرورتهما مؤمنتين صالحتين فَخٰانَتٰاهُمٰا بإفشاء سرّهما عند الكفّار، كما كانت عائشة و حفصة تحت تربيتك و حلمك المقتضي لكونهما صالحتين، و مع ذلك خانتاك بإفشاء سرّك فَلَمْ يُغْنِيٰا ذلكما النبيان المرسلان مع عظم شأنهما عَنْهُمٰا بحقّ النكاح و الصّحبة مِنْ عذاب اَللّٰهُ و نكاله شَيْئاً يسيرا من الإغناء، فشملهما عذاب الاستئصال في الدنيا بأنّ هلكت إحداهما بالغرق بالطّوفان، و الاخرى بالصيحة و مطر الحجارة وَ قِيلَ لهما عند موتهما أو يوم القيامة: يا زوجة نوح، و يا زوجة لوط اُدْخُلاَ النّٰارَ مَعَ سائر اَلدّٰاخِلِينَ فيها من الكفار الذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء.

وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قٰالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرٰانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا فَنَفَخْنٰا فِيهِ مِنْ رُوحِنٰا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا وَ كُتُبِهِ وَ كٰانَتْ مِنَ الْقٰانِتِينَ (12) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنات اللاتي لا وصلة بينهنّ و بين الأنبياء، بل كنّ تحت أشقى الأشقياء بقوله:

وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا و بيّن حسن حالهم الغريبة بتذكيركم حال آسية، مع أنّها كانت اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ الذي ادّعى الالوهية و عارض موسى بن عمران، فلم يضرّها صحبة زوجها الكافر، و صبرت على اذاه إِذْ قٰالَتْ و حين دعت ربّها لمّا ابتليت بعذاب فرعون و أذاه بقولها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ و في جوار قربك بَيْتاً و منزلا فِي أعلى درجات اَلْجَنَّةِ لإيماني بك و برسولك موسى وَ نَجِّنِي مِنْ صحبة فِرْعَوْنَ و عذابه وَ من عَمَلِهِ الباطل، و كفره بآياتك وَ نَجِّنِي يا ربّ و خلّصني مِنْ ظلم اَلْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ على أنفسهم و على عبادك المؤمنين.

روي أنّه لمّا غلب موسى السّحرة آمنت آسية بنت مزاحم زوجة فرعون بموسى بن عمران. قيل:

كانت عمّته، فلمّا علم فرعون بإيمانها أمرها بالرجوع عن الايمان إلى الكفر فأبت عن ذلك، فأوتد يديها و رجليها بأربعة أوتاد في حرّ الشمس، فأمر اللّه الملائكة أن يظلّوها من الشمس بأجنحتهم، فلمّا قالت: ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة، رفعت الحجب، فأراها بيتا في الجنة من درّة بيضاء،

ص: 289

و رفع عنها ألم العذاب فضحكت، فقال الكفّار: هي مجنونة لأنّها تضحك و هي في العذاب(1) ، ثمّ طارت روحها إلى جوار رحمة اللّه.

و عن الضحّاك: أمر فرعون أن يلقى عليها حجر رحى، و هي في الأوتاد، فقالت رب ابن لي... إلى آخره فلم يصل الحجر حتّى رفع روحها إلى الجنّة، فألقي الحجر عليها بعد خروج روحها، فلم تجد ألما(2).

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنات اللاتي لا زوج لهنّ بتمثيلهنّ بمريم بنت عمران بقوله:

وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرٰانَ أمّ عيسى اَلَّتِي أَحْصَنَتْ و حفظت فَرْجَهٰا من مساس الرجال حراما و حلالا على آكد حفظ، و قيل: يعني طهّرت ذيلها من ريبة الفجور فَنَفَخْنٰا في جيبها بتوسّط جبرئيل، و أدخلنا فِيهِ كالريح من الروح العظيم الشأن الذي يصحّ أن تقول تشريفا: إنّه مِنْ رُوحِنٰا و قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل(3) ، و المعنى فنفخنا في جيبها من جبرئيل وَ صَدَّقَتْ عن صميم القلب بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا المنزلة على الأنبياء، أو المراد بالبشارات التي بشّر بها جبرئيل وَ كُتُبِهِ المنزلة من السماء كصحف شيث و إبراهيم و توراة موسى و زبور داود و غيرها وَ كٰانَتْ واحدة مِنَ الْقٰانِتِينَ و الخاشعين للّه، أو من المطيعين و المعتكفين في المسجد الأقصى، و عدّها من الرجال القانتين للإشعار بعدم قصور عبادتها عن عبادة الأنبياء.

روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كمل من الرجال كثير، و لم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله»(4).

قيل: جمعه اللّه في التمثيل بين التي لها زوج و التي لا زوج لها تسلية للأرامل و تطييبا لأنفسهن(3).

ص: 290


1- . تفسير روح البيان 69:10.
2- . تفسير روح البيان 69:10. (3و4) . تفسير روح البيان 71:10.
3- . تفسير روح البيان 70:10.

في تفسير سورة الملك

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ تَبٰارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة التحريم المشتملة على اظهار غاية التعظيم لنبيه و اللطف به و بالمؤمنين و تهديد الكفار بالعذاب و انقطاع عذرهم في الآخرة، اردفت بسورة الملك المشتملة على بيان سلطنته المطلقة في عالم الوجود، و كمال قدرته، و تهديد الكفار بورودهم في النار، و انقطاع عذرهم و اعترافهم باستحقاقهم العذاب، و إبطال قولهم بإنكار المعاد، و إظهار اللّطف بالمؤمنين، فافتتحها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها ببيان عظمة ذاته المقدّسة و كثرة خيره و كمال قدرته بقوله:

تَبٰارَكَ و تعالى و تعظّم، أو كثر خير الإله اَلَّذِي بِيَدِهِ و تحت قدرته و سلطنته اَلْمُلْكُ و عالم الوجود من العلويات و السفليات، يقلّبه كيف يشاء، و يحكم فيه كيف أراد بلا ضدّ و لا ندّ و لا معارض و لا معاضد وَ هُوَ في ملكه عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من الايجاد و الإعدام و العطاء و المنع و الإعزاز و الإذلال و الإحياء و الإماتة و غيرها قَدِيرٌ.

ثمّ بيّن سبحانه آثار قدرته و سلطانه بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَ و قدّر بقدرته و حكمته اَلْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لكلّ ما يقبلهما.

عن ابن عباس: أنّ الموت و الحياة جسمان، و أنّ اللّه خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء و لا يجد رائحته شيء إلاّ مات، و خلق الحياة على صورة فرس انثى بلقاء(1) ، و هي التي كان جبرئيل و الأنبياء يركبونها، خطوتها مدّ البصر، فوق الحمار و دون البغل، لا تمرّ بشيء و لا يجد رائحتها [شيء] إلاّ حيي، و هي التي أخذ السامري من أثرها قبضة فألقاها على العجل فحيي(2).

ص: 291


1- . الفرس البلقاء: التي فيها سواء و بياض.
2- . تفسير روح البيان 74:10.

تحقيق في الموت

و بيان نكتة

تقديمه على الحياة

أقول: ظاهر ما ذكره أنّ الموت المخلوق هو حيوان يشبه الكبش الأملح، و أثر قربه و رائحته في الشيء الحي هو عروض الموت عليه، كالسّمّ و سائر الأشياء المهلكة، و هو غير الموت الذي يعرض للأشياء الحيّة، فالموت الذي هو من العوارض الوجودية على قول و العدمية على القول الحقّ غير ذلك الموت الذي هو مخلوق و صورته في عالم الصّور و المثال صورة الكبش، فلا دلالة لكلام ابن عباس على صحّة أحد القولين.

و الحقّ أنّ المفهوم من لفظ الموت الذي يكون في قبال الحياة في الاستعمال الشائع، هو من العدميات التي لها شائبة الوجود، و يسمّى بالعدم و الملكة و العدم المضاف، و هو يتحقّق بانتفاء علّة الحياة، فانّ عدم علّة الوجود علّة للعدم، و قبض ملك الموت الروح من الجسد سبب لطروّ الموت عليه، و يمكن أن تكون صورته المثالية البرزخية صورة الكبش الأملح التي يؤتى بها يوم القيامة، و يذبحه يحيى بن زكريا على رواية(1).

و هذا المعنى الذي للموت مخلوق بتبع خلق الحياة، كما أنّ خلق الليل الذي عدم النور فوق الأرض إنّما يكون بتبع خلق النهار، فانّ ذهاب الشمس من فوق الأرض و عدمها منه علّة لظلمة الليل، و عليه يكون معنى خلق الموت و الحياة جعل الروح في القالب و سلبه منه، و هذا هو الموت الذي يكون بعد الحياة، كما عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه خلق الحياة قبل الموت»(2). و أمّا الموت الذي هو فقد الحياة و عدمها، كما يكون للنّطفة و للأرض الميتة، فهو قبل الحياة.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ الموت بالمعنى الأعمّ عدمي صرف لا يحتاج إلى السبب، و أمّا الموت الذي هو زهاق الروح فهو مسبّب عن ذهاب مقتضى الحياة بنفسه أو وجود ما هو ضدّها، و عليه يمكن حمل ما عن الباقر عليه السّلام من قوله: «الحياة و الموت خلقان من خلق اللّه، فاذا جاء الموت فدخل في الانسان، لم يدخل في شيء إلا خرجت منه الحياة»(3) و حمل دخول الموت على دخول ما هو مانع الحياة، و إن كان ظاهره مقررا لما قاله الأشاعرة من أنّ الموت و الحياة صفتان وجوديتان مستدلّين عليه بالآية المباركة، إلاّ أن يقال: إنّ اتّصاف الجسم بالموت (و السكون) مثلا و تقيّده به أمر وجوديّ كالحياة.

و على أي تقدير قيل في وجه تقديم ذكر الموت: إنّ المراد به حال النّطفة و العلقة و المضغة، و بالحياة نفخ الروح(4).

ص: 292


1- . تفسير الرازي 55:30، تفسير روح البيان 75:10.
2- . الكافي 116/145:8، تفسير الصافي 200:5.
3- . الكافي 34/259:3، تفسير الصافي 200:5.
4- . تفسير الرازي 55:30.

و عن ابن عباس، قال: يزيد الموت في الدنيا و الحياة في الآخرة، و في معناه ما قيل من ان أيام الموت هي أيام الدنيا و هي من قضيته و أيام الحياة هي أيام الآخرة و هي متأخّرة(1).

و قيل: إنّ أقوى الدواعي للعمل كون الموت نصب العين، و إنّما قدّم الموت لأنّ الغرض - و هو البعث على العمل فيه - أهمّ(2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أكثروا ذكر هادم اللذّات» [و قال لقوم «لو أكثرتم ذكر هادم اللذات] لشغلكم عمّا أرى»(3).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله سأل عن رجل فأثنوا عليه فقال: «كيف ذكره الموت ؟» قالوا: قليل. قال: «فليس كما تقولون»(4).

و في الحديث: «لو لا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر، و المرض، و الموت»(5).

و إلى ما ذكر أشار سبحانه بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ و يختبركم و يعلمكم بسبب خلق الموت و الحياة أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فيجازيكم على اختلاف المراتب.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «يقول أيّكم أحسن عقلا» ثمّ قال: «أتمّكم عقلا أشدّكم للّه خوفا، و أحسنكم فيما أمر اللّه به و نهى عنه نظرا»(6).

و في رواية قال: «أيكم أزهد في الدنيا، و أشدّكم تركا لها»(7).

و في رواية قال: «أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه»(8).

و عن الصادق عليه السّلام: «ليس يعني أكثركم عملا، و لكم أصوبكم عملا، و إنّما الإصابة خشية اللّه و النيّة الصادقة...»(9) الخبر.

وَ هُوَ تعالى وحده اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء لا يفوته من أساء و اَلْغَفُورُ لمن شاء إمّا بالتوبة أو بالشفاعة أو بالتفضّل.

اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ

ص: 293


1- . تفسير الرازي 55:30.
2- . تفسير الرازي 55:30.
3- . تفسير الرازي 55:30، و فيه في الموضعين: هازم، بدلا من: هادم.
4- . تفسير الرازي 55:30.
5- . تفسير روح البيان 75:10.
6- . تفسير الرازي 56:30.
7- . تفسير الرازي 56:30.
8- . تفسير روح البيان 76:10.
9- . الكافي 4/13:2، تفسير الصافي 200:5.

خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّمٰاءَ الدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ جَعَلْنٰاهٰا رُجُوماً لِلشَّيٰاطِينِ وَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰابَ السَّعِيرِ (5) ثمّ بالغ سبحانه في ذكر آثار قدرته بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَ و أبدع سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ حال كونهنّ طِبٰاقاً بعضها فوق بعض لكلّ حدّ معين و حركة خاصة مقدّرة بقدر مخصوص من السرعة و البطء، متناسبات في الخلق بحيث مٰا تَرىٰ أيّها الرسول، أو الرائي فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ و إبداع الإله الفيّاض المنّان يسيرا مِنْ تَفٰاوُتٍ و اختلاف و عيب. يقول الرائي: لو كان كذا كان أحسن، أو من فروج و شقوق فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ و ردّه إلى رؤيتها، و أعد النظر إليها لطلب الخروق و الصّدوع فيها (1)يَنْقَلِبْ و يرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ خٰاسِئاً محروما من إصابة ما طلبه من العيب و الخلل وَ هُوَ لطول المعاودة و كثرة المراجعة حَسِيرٌ و كليل، و بالغ غاية الإعياء و العجز عن الظّفر بالمطلوب من وجدان العيب.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال خلقه السماوات بيّن كمال قدرته و حكمته بتحسينها و تزيينها منّة على العباد بقوله:

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا و حسّنا بقدرتنا اَلسَّمٰاءَ الدُّنْيٰا و أقربها إلى الأرض بِمَصٰابِيحَ و سرج مضيئة من النجوم و الكواكب الثوابت و السيارة.

أقول: لا ينافي ذلك كون جميعها أو بعضها في السماوات الأخر، فانّها ترى في السماء الدنيا و ترى زينة لها.

و صيّرنا الكواكب وَ جَعَلْنٰاهٰا مع ذلك رُجُوماً و مطردات لِلشَّيٰاطِينِ و كفرة الجنّ بالشّهب المنفصلة منها، إذا أرادوا استراق السمع و قيل: يعني جعلناها ظنونا و رجوما بالغيب لشياطين الإنس، و هم الأحكاميّون من المنجّمين (2)وَ أَعْتَدْنٰا لاولئك الشياطين و هيّأنا لَهُمْ في الآخرة عَذٰابَ السَّعِيرِ و النار الموقدة التي أوقدها الجبّار بغضبه.

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذٰا أُلْقُوا فِيهٰا سَمِعُوا لَهٰا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكٰادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمٰا أُلْقِيَ فِيهٰا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهٰا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قٰالُوا بَلىٰ قَدْ جٰاءَنٰا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنٰا وَ قُلْنٰا مٰا نَزَّلَ اللّٰهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ كَبِيرٍ (9) وَ قٰالُوا لَوْ كُنّٰا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مٰا كُنّٰا فِي أَصْحٰابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحٰابِ السَّعِيرِ (11)

ص: 294


1- . يوجد في النسخة بياض بمقدار سطر و أربع كلمات.
2- . تفسير الرازي 60:30.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ كفار الشياطين لهم عذاب جهنّم، هدّد جميع الكفّار من الجنّ و الإنس به بقوله:

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [سواء] كانوا من الشياطين أو الجنّ أو الانس عَذٰابُ جَهَنَّمَ في الآخرة وَ هي بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع لهم.

ثمّ بيّن سبحانه بعض أهوال جهنّم مضافا إلى التعذيب بها بقوله:

إِذٰا أُلْقُوا اولئك الكفّار في جهنّم و طرحوا فِيهٰا كالحطب الذي يطرح في النار من غير رقّة و ترحّم سَمِعُوا اولئك الملقون في جهنّم لَهٰا شَهِيقاً و صوتا منكرا كصوت الحمار غضبا عليهم وَ هِيَ تَفُورُ و تغلي غليان القدر بالماء الذي فيه بغاية الشدّة من شدّة التلهّب و التسعّر، فهم لا يزالون صاعدين فيها و هابطين كالحبّ الذي في الماء المغلي لا قرار لهم فيها.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان شدّة غضب جهنّم عليهم بقوله:

تَكٰادُ و تقرب جهنّم من أن تَمَيَّزُ و تفرّق مِنَ شدّة اَلْغَيْظِ و الغضب عليهم.

ثمّ بيّن سبحانه حال الملقون فيها بقوله: كُلَّمٰا أُلْقِيَ في جهنّم و طرح فِيهٰا من الكفرة فَوْجٌ و جماعة بدفع الملائكة الذين هم أغيظ عليهم من النار سَأَلَهُمْ مالك جهنّم و أعوانه الذين هم موكلون عليها و خَزَنَتُهٰا بطريق التوبيخ و التقريع أيّها الكفرة أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنيا من قبل ربّكم نَذِيرٌ و مخوّف لكم من عذاب هذا اليوم و أهواله ؟

قٰالُوا في جواب الخزنة اعترافا بجرمهم و استحقاقهم للعذاب: بَلىٰ أيّها الخزنة قَدْ جٰاءَنٰا في الدنيا من قبل ربّنا نَذِيرٌ عظيم الشأن كثير المعجزات فَكَذَّبْنٰا ذلك النذير في دعوى كونه من اللّه وَ قُلْنٰا في ردّ ما كانوا يتلون علينا من الآيات مٰا نَزَّلَ اللّٰهُ ممّا تتلون علينا مِنْ شَيْءٍ يسير فضلا عن جميع تلك الآيات الكثيرة أو من شيء من كتاب و رسول إِنْ أَنْتُمْ و ما نراكم أيّها المدّعون للرسالة إِلاّٰ منغمرين فِي ضَلاٰلٍ كَبِيرٍ و منحرفين عن طريق واضح عند عامة العقلاء في دعواكم الرسالة، و كون ما تتلون علينا من جانب اللّه

وَ قٰالُوا تحسّرا و تندّما: إنا لَوْ كُنّٰا في الدنيا نَسْمَعُ مواعظ الرّسل سماع القبول أَوْ نَعْقِلُ امتناع الشرك و وجوب بعث الرسول و جعل دار الجزاء على اللّه، و براهين الأنبياء على التوحيد، و سائر ما جاءوا به مٰا كُنّٰا اليوم فِي زمرة أَصْحٰابِ السَّعِيرِ و مستحقي العذاب.

قيل: كأنّ الخزنة قالوا لهم في تضاعيف توبيخهم: أ لم تسمعوا آيات ربّكم من ألسنة الرّسل، و لم تعقلوا معانيها؟ قالوا في جوابهم ذلك (1)

فَاعْتَرَفُوا في جواب الخزنة اضطرارا لما رأوا أنّه

ص: 295


1- . تفسير روح البيان 85:10.

لا يمكنهم الفرار و الإنكار بِذَنْبِهِمْ من الكفر و المعاصي و معارضة الرسل و تكذيبهم اختيارا في الدنيا و أقرّوا باستحقاقهم العذاب فَسُحْقاً و بعدا لا غاية له من رحمة اللّه لِأَصْحٰابِ السَّعِيرِ و هم الكفرة من الجنّ و الإنس اعترفوا أو جحدوا.

و عن (الاحتجاج) في الخطبة الغديرية: «أنّ هذه الآيات في أعداء عليّ و أولاده عليه السّلام و التي بعدها في أوليائه»(1).

قيل: إنّ التقدير فسحقوا سحقا و بعدوا بعدا على التحقيق، أو على الدعاء عليهم، بمعنى تعليم اللّه العباد أن يدعوا عليهم بهذا إشعارا بأنّهم مستحقّون لهذا الدعاء(2).

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (13) ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر سوء حال الكفّار في الآخرة، ذكر حسن حال المؤمنين فيها بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ يؤمنون باللّه، و يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الذي هو بِالْغَيْبِ عن أبصارهم لا يرونه بعيونهم، بل يعرفونه بقلوبهم، أو المراد يخشون عذاب ربّهم بعد الموت و يوم القيامة مع [أنّ] ذلك العذاب غائب عنهم غير مرئيّ لهم في الدنيا، أو هم بالغيب عن الناس فيتركون معاصي اللّه في الخلوة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وَ أَجْرٌ و ثواب كَبِيرٌ و عظيم لا يوصف بالبيان تصغر دونه الدنيا و ما فيها.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيد الكفّار و وعد المؤمنين بطريق المغايبة، خاطب جميع الناس و حذّرهم عن العصيان في السّر و العلن بقوله:

وَ أَسِرُّوا و أخفوا قَوْلَكُمْ السيّئ أَوِ اجْهَرُوا و أعلنوا بِهِ لا يتفاوت بالنسبة إلى اللّه إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بكلّ شيء ظاهر و خفيّ حتى بِذٰاتِ الصُّدُورِ و الخطورات التي في القلوب.

عن ابن عباس: كانوا ينالون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيخبره جبرئيل فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم، لئلا يسمع إله محمد، فنزلت هذه الآية(3).

أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

ص: 296


1- . الاحتجاج: 63، تفسير الصافي 202:5.
2- . تفسير روح البيان 85:10.
3- . تفسير الرازي 66:30.

ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار إنكار علمه تعالى بمخلوقه بقوله:

أَ لاٰ يَعْلَمُ و هل لا يحيط مَنْ خَلَقَ شيئا بمخلوقه ؟ ماهية و صفة و مقدارا وَ الحال أنّه هُوَ اللَّطِيفُ و العالم بخفيّات الامور و دقائق الأشياء اَلْخَبِيرُ و المحيط ببواطنها. قيل: اللطيف من يعلم دقائق المصالح و غوامضها، ثمّ يوصلها إلى المستصلح بالرّفق دون العنف، و الخبير من لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك و الملكوت شيء حتى حركة الدّودة في بطن صخرة إلاّ و عنده خبره و علمه(1).

ثمّ رجع سبحانه إلى آثار قدرته في الأرض بعد ذكر آثارها في السماوات بقوله:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ بقدرته نفعا لَكُمُ أيّها الناس اَلْأَرْضَ بأقطارها ذَلُولاً و منقادة لكم غاية الانقياد، لتنتفعوا بها بالسّكونة، و الزّرع و الغرس، و حفر الآبار، و شقّ العيون و الأنهار، و بناء الأبنية، و دفن الأموات و غيرها فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا و اسلكوا في جوانبها و أطرافها، أو في جبالها فضلا عن سهلها كما عن ابن عباس (2)وَ كُلُوا مِنْ نعم اللّه و رِزْقِهِ الذي أحلّ لكم وَ إِلَيْهِ تعالى وحده اَلنُّشُورُ و المرجع بعد البعث من قبوركم، فاجتهدوا في شكره، و جدّوا في طاعته.

قيل: إنّ وجه نظم هذه الآية أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بعلمه بسرّهم و علنهم، بالغ في تهديدهم بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فهو نظير أن يقول المولى لعبده العاصي: كن في هذه الدار، و كل هذا الخبز، و لا تأمن من تأديبي(3).

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمٰاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذٰا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمٰاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) ثمّ هدّد الكفّار على ترك شكر نعمه بقوله:

أَ أَمِنْتُمْ أيّها المكذّبون الكافرون لنعم اللّه مَنْ فِي السَّمٰاءِ نفاذ أمره، و ظهور كمال قدرته و سلطانه و ملكه، أو المراد بمن في السماء جبرئيل الموكّل بالعذاب أَنْ يَخْسِفَ و يقلب بِكُمُ الْأَرْضَ و يغلبكم في بطنها بعد جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها و تأكلون ممّا ينبت فيها بكفرانكم نعمه فَإِذٰا هِيَ بعد أن خسفت بكم تَمُورُ و تضطرب و تتحرّك ذهابا و مجيئا لتبلغكم إلى الطبقة السّفلى منها تعذيبا لكم كما فعلت بقارون.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله:

أَمْ أَمِنْتُمْ أيّها الكفار مَنْ فِي السَّمٰاءِ من أَنْ يُرْسِلَ و ينزل عَلَيْكُمْ منها تعذيبا لكم حٰاصِباً و مطر حجارة كما أرسل على قوم لوط، فاذا لا أمان

ص: 297


1- . تفسير روح البيان 87:10.
2- . تفسير الرازي 69:30.
3- . تفسير الرازي 68:30.

لكم من أحد هذين العذابين بوجه، فكيف تجترءون على التمادي في الشرك و الكفران فَسَتَعْلَمُونَ و عن قريب ترون كَيْفَ نَذِيرِ و ما هذا الإنذار عند مشاهدتكم نزول العذاب عليكم، أصدق هو أم كذب، أم شديد هو أم خفيف ؟ و اللّه حينئذ يتيقّنون صدق خبري و شدّة عذابي و أنّه لا دافع له و لا مخلص منه.

وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صٰافّٰاتٍ وَ يَقْبِضْنَ مٰا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) ثمّ استشهد سبحانه على صدق وعيده بما نزل على الامم السابقة المكذّبة للرسل الكافرة للنّعم بقوله:

وَ لَقَدْ كَذَّبَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم نوح و أضرابهم فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ ي و إنكارى عليهم باستئصالهم بالعذاب الشديد، و في كلمة الاستفهام دلالة على كمال فضاعته و شدّته.

ثمّ لمّا كان صدق الوعيد متوقفا على القدرة على إيجاد ما وعد به، بالغ في إظهار كمال قدرته بقوله:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا اولئك الكفّار، و لم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ و ما يسير في الجوّ بجناحيه حال كونها فَوْقَهُمْ صٰافّٰاتٍ و باسطات أجنحتهنّ في الجوّ حال الطيران وَ يَقْبِضْنَ و يضممن أجنحتهنّ و يضربن بها جنوبهنّ حينا بعد حين استظهارا به على التحرّك و السير مٰا يُمْسِكُهُنَّ في الجوّ و ما يمنعهنّ عن السقوط على الأرض مع ثقل جثّتهنّ المقتضي بالطبع للسقوط إِلاَّ الرَّحْمٰنُ و إلاّ الفيّاض على كلّ شيء ما هو قابل له إِنَّهُ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ من الموجودات و المبدعات و تدبير المعجبات بَصِيرٌ و عالم كعلم من يبصر الشيء بعينه فيعلم كيف يخلق الأشياء الغريبة و يدبّر الأمور العجيبة.

أَمَّنْ هٰذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمٰنِ إِنِ الْكٰافِرُونَ إِلاّٰ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال قدرته الدافع لتوهّم الكفّار قدرتهم على دفع العذاب عنهم بشجاعتهم و كثرة أموالهم و أولادهم و أعوانهم، وبّخهم على اعتمادهم بآلهتهم في حفظهم و نصرتهم بقوله:

أَمَّنْ و بل أيّ موجود هٰذَا الموجود الذليل الحقير اَلَّذِي هُوَ في زعمكم جُنْدٌ و عسكر

ص: 298

لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ عند نزول العذاب و الآفات مِنْ دُونِ الرَّحْمٰنِ و ما سواه.

أقول: هذا التبكيت يساوق قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنٰا (1).

ثمّ قرّر سبحانه حماقتهم و جهلهم بقوله: إِنِ الْكٰافِرُونَ و ما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من الآفات بحفظ آلهتهم إِلاّٰ فِي غُرُورٍ عظيم و ظلال فاحش.

ثمّ وبّخهم سبحانه على اعتمادهم على آلهتهم في إيصال الخيرات إليهم بقوله:

أَمَّنْ و بل أيّ شيء هٰذَا الصنم الحقير اَلَّذِي تزعمون أنّه يَرْزُقُكُمْ و يوصل إليكم ما تعيشون به من النّعم إِنْ أَمْسَكَ الرحمن رِزْقَهُ و نعمه بحبس المطر و مبادى الانتفاع بنعمه، يا للعجب كيف لا يتأثّر الكفّار بتلك المواعظ و المنبّهات! بَلْ لَجُّوا و تمادوا فِي عُتُوٍّ و طغيان على اللّه وَ نُفُورٍ و اشمئزاز عن الحقّ، كأنّهم حمر مستنفرة.

أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلىٰ وَجْهِهِ أَهْدىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) ثمّ بيّن سبحانه عدم قابليتهم للهداية بضرب المثل بقوله:

أَ فَمَنْ يَمْشِي حال كونه مُكِبًّا و ساقطا عَلىٰ وَجْهِهِ كالمصروع أَهْدىٰ و أوصل إلى مقصوده و مطلوبه أَمَّنْ يَمْشِي حال كونه سَوِيًّا و قائما على رجليه مصونا من السقوط و العثار عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق سوى لا عوج فيه و لا انحراف ؟ و من الواضح أنّ الأول يمتنع وصوله إلى مطلوبه أبدا.

قيل: إنّ الكافر لمّا كان في الدنيا مكبّا على معاصي اللّه، حشره اللّه في الآخرة مكبّا على وجهه، و المؤمن لمّا كان في الدنيا قائما على أوامر اللّه مقدما على امتثال أحكامه، حشره اللّه في الآخرة قائما على قدميه سائرا إلى الجنّة(2).

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر أنور» قال: «فأمّا القلب المطبوع فقلب المنافق، و أمّا القلب الأزهر فقلب المؤمن، إذا أعطاه اللّه عزّ و جلّ شكر، و إن ابتلاه صبر، و أمّا القلب المنكوس فقلب المشرك» ثمّ قرأ هذه الآية(3).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إنّ اللّه ضرب مثل من حاد عن ولاية عليّ لا يهتدي لأمره، و جعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، و الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السّلام»(4).

ص: 299


1- . الأنبياء: 43/21.
2- . تفسير روح البيان 94:10.
3- . معاني الأخبار: 51/395، تفسير الصافي 204:5.
4- . الكافي 91/359:1، تفسير الصافي 204:5.

أقول: هذا تأويل الآية لا تفسيرها.

و عن ابن عباس رضوان اللّه عليه قال: نزلت في أبي جهل و حمزة بن عبد المطلب(1) ، و قيل: في أبي جهل، و عمّار بن ياسر(2).

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصٰارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (25) ثمّ رجع سبحانه إلى الاستدلال على قدرته و نعمه بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين المنكرين لقدرة اللّه على البعث الكافرين لنعمه: إنّ اللّه تعالى هُوَ القادر اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ و خلقكم أولا من تراب، ثمّ من نطفة قذرة، ثمّ أكمل خلقكم وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتدركوا المسموعات، و تسمعوا المواعظ و الآيات الإلهية هُوَ شقّ لكم اَلْأَبْصٰارَ و جعل فيها قوة الرؤية لتدركوا بها المبصرات، و تنظروا إلى آيات توحيد اللّه و حكمته و قدرته و معجزات رسله هُوَ جعل لكم اَلْأَفْئِدَةَ و القلوب و قوّة الفهم فيها، لتتفكروا فيما تبصرونه و تسمعونه، و تميّزوا(3) صحيحه و فاسده و حقّه و باطله، و تعتبروا بالعبر منهما، و تتأمّلوا في الآيات التنزيلية و التكوينية، و ترتقوا بها في درجات الايمان و الطاعة، و الاسف انكم شكرا أو زمانا قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ للّه هذه النّعم العظام باستعمالها فيما خلقت له، فانّ شكر النعمة صرفها فيما فيه رضا المنعم، بل تكفرونها حيث تصرفونها فيما فيه غضبه و سخطه. و قيل: إنّ القليل هنا كناية عن العدم(4).

قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفرة: إنّ ربّكم هُوَ القادر اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ و أكثركم من نفس واحدة، أو فرّقكم فِي وجه اَلْأَرْضِ و أقطارها، لتتعيشوا فيها و تستريحوا عليها ثمّ أنتم بعد انقضاء هذا العالم تحيون ثانيا في القبور بقدرة اللّه وَ إِلَيْهِ وحده يوم القيامة تُحْشَرُونَ و تساقون، أو تجمعون للحساب و جزاء الأعمال، فاستعدّوا لهذا اليوم العظيم، و بادروا إلى أحسن الأعمال و أفضل العبادات، كي تنجوا من الأهوال و الشدائد التي فيه، و تصلوا إلى الجنّة و النّعم الدائمة.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعده بالحشر و البعث حكى استهزاء المشركين المنكرين للبعث به بقوله:

وَ يَقُولُونَ عنادا و استهزاء بالنبي صلّى اللّه عليه و آله(5) و المؤمنين المخبرين بالحشر مَتىٰ هٰذَا الْوَعْدُ و في أيّ

ص: 300


1- . تفسير الرازي 72:30.
2- . تفسير الرازي 73:30.
3- . زاد في النسخة: في.
4- . تفسير أبي السعود 9:9، تفسير روح البيان 95:10.
5- . في النسخة: للنبي.

زمان يقع هذا الحشر الذي تخبروننا بوقوعه ؟ أخبرونا بوقت وقوعه إِنْ كُنْتُمْ في هذا الإخبار و الوعد صٰادِقِينَ و بوقوعه عالمين.

قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّٰهِ وَ إِنَّمٰا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمّٰا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله:

قُلْ لهم يا محمد: ليس لي بوقت وقوعه علم إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقته عِنْدَ اللّٰهِ فقط مكتوم عن غيره، لاقتضاء حكمته البالغة ذلك وَ إِنَّمٰا أَنَا من قبل اللّه نَذِيرٌ و مخوّف للناس بالإخبار بأصل وقوعه مُبِينٌ و مظهر لهم ببيان واضح يعرفه كلّ أحد، لتتم الحجّة عليهم، و العلم بالوقوع لا يستلزم العلم بوقت الوقوع، و الإخبار بالأول عن علم من قبل اللّه كاف في الانذار.

ثمّ هدّدهم سبحانه ببعض أهوال ذلك اليوم بقوله:

فَلَمّٰا رَأَوْهُ زُلْفَةً و قريبا منهم أو معاينة سِيئَتْ و قبحت، أو اسودّت وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا وقوعه، و عن ابن عباس: يكون عليها الكابة و القتر (1)وَ قِيلَ لهم من قبل اللّه بلسان الزبانية، أو القائل بعضهم لبعض: هٰذَا اليوم الذي ترونه هو ذلك اليوم اَلَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تَدَّعُونَ و تطلبون و تستعجلون، أو تدّعون بطلانه أو امتناعه، و إنّه لا يأتي أبدا. قيل: إنّه استفهام انكاري، و المعنى: أ هذا الذي تدّعونه، لا بل تدّعون عدمه(2) و امتناع وقوعه.

و قيل: إنّ الآية تهديد لهم بالعذاب الدنيوي، و المعني: فلمّا رأوا عذاب الاستئصال زلفة و قريبا منهم.

عن القمي رحمه اللّه قال: إذا كان يوم القيامة نظر أعداء أمير المؤمنين عليه السّلام إليه و إلى ما أعطاه اللّه من الكرامة و المنزلة الشريفة العظيمة، و بيده لواء الحمد، و هو على الحوض يسقي و يمنع، تسودّ وجوه أعدائه، فيقال لهم: هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ منزلته و موضعه و اسمه(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه الذين عملوا ما عملوا، يرون أمير المؤمنين عليه السّلام في أغبط الأماكن لهم، فتسيء وجوههم، و يقال لهم: هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الذي انتحلتم اسمه»(4).

ص: 301


1- . تفسير الرازي 75:30.
2- . تفسير الرازي 75:30.
3- . تفسير القمي 379:2، تفسير الصافي 205:5.
4- . الكافي 68/352:1، تفسير الصافي 205:5.

و عنه عليه السّلام: «فلمّا رأوا مكان علي عليه السّلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله سيئت وجوه الذين كفروا» يعني الذين كذبوا بفضله»(1).

و عن الأعمش قال: لمّا رأوا ما لعليّ عند اللّه من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا(2).

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّٰهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنٰا فَمَنْ يُجِيرُ الْكٰافِرِينَ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمٰنُ آمَنّٰا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنٰا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (29) ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: ننتظر موت محمد و نستريح منه، و كانوا يدعون عليه بالهلاك على ما روي(3) ، أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين الذين ينتظرون هلاكك:

أيّها المشركون أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّٰهُ بدعائكم عليّ وَ أهلك مَنْ مَعِيَ من المؤمنين، و أخرجنا من الدنيا بالموت أو القتل، أو بعذاب من عنده على الفرض أَوْ رَحِمَنٰا و أطال أعمارنا، فأيّ راحة لكم في ذلك، و أيّ نفع يعود بموتنا إليكم ؟ ثمّ إن متنا أو بقينا فَمَنْ يُجِيرُ كم و أنتم من اَلْكٰافِرِينَ بتوحيده مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ أعدّ لكم ؟ إذا نزل بكم أ تظنّون أنّ الأصنام و الأوثان تجيركم منه ؟! حاشا و كلاّ

قُلْ يا محمد: إنّ مجير الخلق هُوَ الرَّحْمٰنُ و الإله الواسع الرحمة وحده، لا الأصنام و لا الأوثان و لا غيرهما من الموجودات، و لذا نحن آمَنّٰا بِهِ و أنتم لجهلكم كفرتم به هُوَ نحن عَلَيْهِ وحده تَوَكَّلْنٰا و اعتمدنا في امورنا، و فوّضنا مهمّاتنا إليه لعلمنا بأنّه القادر الرءوف الضارّ النافع، و غيره بمعزل عن التصرّف في الامور، و أنتم لحمقكم توكّلتم على أصنامكم و أموالكم و أعوانكم فَسَتَعْلَمُونَ و عن قريب عند معاينة الشدائد و العذاب تفهمون مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن طريق الحقّ و خطأ ظاهر، نحن أو أنتم ؟

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مٰاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمٰاءٍ مَعِينٍ (30) ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالعذاب الأليم، و نفي مجير لهم إلاّ اللّه، هدّدهم ببلاء فقدان الماء الذي هو أهمّ ما يحتاجون إليه، و أعظم ما يعيشون به، و أسهل ما ينالون منه، و نفي القادر على إيجاده غير اللّه بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين: إن ظننتم أنّ أصنامكم ينفعونكم أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني

ص: 302


1- . مجمع البيان 494:10، تفسير الصافي 205:5.
2- . مجمع البيان 494:10، شواهد التنزيل 997/265:2، تفسير الصافي 205:5.
3- . تفسير الرازي 76:30.

إِنْ أَصْبَحَ و صار مٰاؤُكُمْ الذي تنالون منه بسهولة من آباركم غَوْراً و نازلا في الأرض بالكلية بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع من الحيل فَمَنْ يقدر على أن يَأْتِيكُمْ على ضعفكم حينئذ بِمٰاءٍ مَعِينٍ جار على وجه الأرض تنتفعون به بسهولة، أ أصنامكم تأتيكم به، أم الرحمن ؟

قيل: تخصيص الماء بالذكر لكونه أهون موجود و أعزّ مفقود(1).

قيل: إنّ الكفار لما قالوا نتربّص به ريب المنون، أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يجيبهم بقوله: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّٰهُ وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين، فأيّ نفع لكم فيه، و أنتم تستحقّون عذابه، و من يجيركم من عذابه(2).

ثمّ أمره بأن يجيبهم بأنّ اللّه هو الرحمن لا يقبل دعاءكم و أنتم أهل الكفر و العناد في حقّنا، مع أنّا آمنا به و عليه توكّلنا.

ثمّ لمّا ذكر أنّ توكّله عليه أمره بإقامة الدليل على أنّه يجب التوكّل عليه بقوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مٰاؤُكُمْ غَوْراً... إلى آخره، و المقصود إقرارهم ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر، حيث إنّهم إن قالوا: هو اللّه، فيقال لهم: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية ؟

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ماؤكم أبوابكم(3) الأئمّة، الأئمّة أبواب اللّه، فمن يأتيكم بماء معين ؟ أي من يأتيكم بعلم إمام ؟»(4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «نزلت في الامام القائم، يقول: إن أصبح إمامكم غائبا عنكم لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بامام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات و الأرض و حلال اللّه و حرامه ؟» ثمّ قال: «و اللّه ما جاء تأويل هذه الآية، و لا بدّ أن يجيء تأويلها»(5).

في الحديث: «سورة في كتاب اللّه ما هي إلاّ ثلاثون آية، شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار و أدخلته الجنة، و هي سورة تبارك»(6).

و في حديث آخر: «وددت أنّ تَبٰارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في قلب كلّ مؤمن» و كان لا ينام صلّى اللّه عليه و آله حتّى يقرأ سورة الملك و الم تنزيل السجدة(7).

و قال علي عليه السّلام: «من قرأها يجيء يوم القيامة على أجنحة الملائكة، و له وجه في الحسن كوجه يوسف»(8).

ص: 303


1- . تفسير روح البيان 97:10 و 98.
2- . تفسير الرازي 76:30.
3- . في النسخة: أبواكم.
4- . تفسير القمي 379:2، تفسير الصافي 205:5.
5- . كمال الدين: 3/325، تفسير الصافي 206:5. (6-7-8) . تفسير روح البيان 98:10.

و عن ابن عباس: ضرب بعض الصحابة خيامه على قبر، و هو لا يشعر أنّه قبر، فاذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك، فأتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ضربت خيامي على قبر و لا أعلم أنّه قبر، فاذا إنسان يقرأ سورة الملك. فقال: «هي المانعة من عذاب اللّه، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» و كانوا يسمّونها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنجية، و كانت تسمّى في التوراة المانعة، و في الانجيل الواقية(1).

عن ابن مسعود: أنّه يؤتى الرجل في قبره من قبل رأسه فيقال: ليس لكم عليه سبيل، إنّه كان يقرأ على رأسه سورة الملك، فيؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل، إنه كان يقوم فيقرا سورة الملك، فيؤتى من قبل جوفه فيقال: ليس لكم عليه سبيل، إنّه وعى سورة الملك، أي حفظها(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة تَبٰارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في المكتوبة قبل أن ينام، لم يزل في أمان اللّه حتى يصبح، و في أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة»(3).

قد تمّ تفسير لسورة المباركة بمنّ اللّه و توفيقه.

ص: 304


1- . تفسير روح البيان 98:10.
2- . تفسير روح البيان 98:10.
3- . ثواب الأعمال: 119، مجمع البيان 482:10، تفسير الصافي 206:5.

في تفسير سورة القلم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ن وَ الْقَلَمِ وَ مٰا يَسْطُرُونَ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الملك بذكر جواب اعتراضات المشركين على النبي صلّى اللّه عليه و آله، و جواب دعائهم عليه بالهلاك، و تهديدهم بقوله: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (1) ، اردفت في النّظم بسورة القلم المبتدئة بردّ المشركين في نسبتهم الجنون إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بيان أنّهم يبصرون بأيّكم المفتون و الابتلاء بالجنون، و أنّ اللّه عالم بضلالتهم و هداية نبيّه و تسليته صلّى اللّه عليه و آله في سوء مقالات المشركين و تهديدهم بالعذاب، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ خاطب سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

ن فانّه على قول بعض مفسري العامة اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشرة أسماء: خمسة في القرآن، و خمسة ليست في القرآن، فأمّا التي في القرآن: محمد، و أحمد، و عبد اللّه، و يس، و ن»(3).

تحقيق في الجمع

بين الروايات

أقول: لعلّ المراد من ن أنّه مفتاح ناصر دين اللّه، و نعمة اللّه العظمى، و النور المطلق الذي هو أصله و حقيقته و أوّل ما خلق حيث قال: «أوّل ما خلق اللّه نوري و هو أصل كلّ شيء من الرّوحانيات و الجسمانيات التي كلّها كلمات اللّه، و منه النهر الذي في الجنّة، و هو مادة جميع ما خلق اللّه في عالم الأشباح و الصور كالمداد الذي يكتب به، و يكون مادة جميع صور الحروف و الخطوط، و لذا فسّر النور بالمداد و الدواة، فلا منافاة بين ما ذكر من أنّه اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين ما روي عن الصادق عليه السّلام من أنه قال: و أمّا ن فهو نهر في الجنّة، قال اللّه عز و جلّ له: اجمد فجمد، فصار مدادا، ثمّ قال للقلم: اكتب فسطّر العلم في اللّوح المحفوظ ما

ص: 305


1- . الملك: 29/67.
2- . تفسير روح البيان 100:10.
3- . الخصال: 2/426، تفسير الصافي 208:5.

كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمداد مداد من نور، و القلم قلم من نور، و اللّوح لوح من نور».

قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول [اللّه] بيّن لي أمر اللّوح و القلم و المداد فضل بيان، و علّمني ممّا علّمك اللّه. فقال: «يا ابن سعيد، لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك، فنون ملك يؤدّي إلى القلم، و القلم ملك يؤدّي إلى اللّوح، و اللّوح ملك يؤدّي إلى إسرافيل، و إسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل، و ميكائيل يؤدّي إلى جبرئيل، و جبرئيل يؤدّي إلى الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام»(1).

و عنه عليه السّلام: «و أمّا ن فكان نهرا في الجنّة أشدّ بياضا من الثّلج و أحلى من العسل...»(2) الخبر.

أقول: و يمكن أن يؤوّل إلى ما ذكرنا قول من قال إنّه آخر كلمة (الرحمن) كما أنّه لا ينافي كونه اسما للنبي صلّى اللّه عليه و آله من أسماء اللّه كما عليه بعض، ثمّ أكد سبحانه المخبر بالقسم على عادة الخلق بقوله تعالى: وَ الْقَلَمِ و هو مطلق ما يكتب به على قول، و الحلف به لشرافته بسبب كثرة فوائده، كما قال سبحانه: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ و القلم الخاصّ الذي قال ابن عباس: أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال له: اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال و الأعمال قال:

و هو قلم من نور طوله كما بين السماء و الأرض(3).

أقول: يمكن أن يكون المراد من الكتابة إيجاد صور الموجودات في عالم الملكوت من أصل واحد، و هو نور النبي صلّى اللّه عليه و آله، و بملاحظة اتحاده مع نور علي عليه السّلام.

روى بعض العامة أنّ عليا عليه السّلام قال على رءوس الأشهاد: «أنا نقطة باء بسم اللّه، أنا جنب اللّه الذي فرطتم فيه، أنا القلم، أنا اللّوح المحفوظ، و أنا العرش، و أنا الكرسيّ، و أنا السماوات السبع و الأرضون»(4).

ثمّ ثنّى سبحانه القسم مبالغة في التأكيد بقوله: وَ مٰا يَسْطُرُونَ و يكتبون أهل القلم من الملائكة السماوية و الأرضية في كلّ كتاب و لوح، أو القلم الخاص في اللّوح المحفوظ، و إتيان صيغة الجمع للتعظيم.

مٰا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

مٰا أَنْتَ يا حبيبي محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ و بسبب عقلك الكامل و رسالتك العامة التي أعطاكها إلهك اللطيف بك، أو بدلالة عقلك الكامل و سيرتك المرضية

ص: 306


1- . معاني الأخبار: 1/23، تفسير الصافي 207:5.
2- . علل الشرائع: 2/402، تفسير الصافي 207:5.
3- . تفسير الرازي 78:30.
4- . تفسير روح البيان 103:10.

و براءتك من كلّ عيب و اتّصافك بكلّ مكرمة بِمَجْنُونٍ لوضوح منافاة هذه الصفات الكمالية لهذه النسبة الشنيعة.

عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله غاب عن خديجة إلى حراء، فطلبته فلم تجده، فاذا به و وجهه متغيّر بلا غبار، فقالت له: ما لك ؟ فذكر نزول جبرئيل عليه، و أنّه قال له: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (1) و هو أوّل ما نزل من القرآن. قال: «ثمّ نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضّأ و توضّأت، ثمّ صلّى و صلّيت معه ركعتين، و قال: هكذا الصلاة يا محمد» فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل، و هو ابن عمّها، و كان قد خالف قريش في الدين، و دخل في دين النصرانية، فسألته فقال: ارسلي إليّ محمدا فأرسلته، فلمّا أتاه قال: هل أمرك جبرئيل أن تدعو أحدا؟ قال: «لا» فقال: و اللّه لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا. ثمّ مات قبل دعاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و وقعت تلك الواقعة في ألسنة قريش، فقالوا: إنّه مجنون، فاقسم اللّه على أنّه ليس بمجنون، و هو خمس آيات من أول هذه السورة(2).

وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ إِنَّ لَكَ يا محمد بإزاء صبرك على أذى قومك و تحمّلك أعباء الرسالة لَأَجْراً عظيما و ثوابا جسيما غَيْرَ مَمْنُونٍ و منقوص، و عطاء غير مجذوذ و مقطوع. و قيل: يعني بغير واسطة يمنّ عليك بإيصاله إليك، أو بغير أن يتكدّر عليك بسبب المنّة لأنّه ممّا تستحقّه بعملك، و ليس من التفضّل الابتدائي(3).

في بيان خلق

الرسول صلّى اللّه عليه و آله

وَ إِنَّكَ بنعمة ربّك و تفضّله عليك لَعَلىٰ خُلُقٍ و دين عَظِيمٍ الشأن عند اللّه، و هو الاسلام. عن الباقر عليه السّلام: «يقول: على دين عظيم» و في رواية: «هو الاسلام»(4) فانّ فيه جميع مكارم الأخلاق، و التنزّه عن كلّ مساوئها بحيث لا يدانيه دين و أنت ملتزم به مسئول عليه، لا يفوتك شيء منه، و لذا فقت سائر الأنبياء و الرسل في الكمال و المعارف و حسن الأخلاق و الأعمال.

روي أنّه قيل لعائشة: أخبريني عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قالت: أ لست تقرأ القرآن ؟ قلت: نعم.

قالت: فإنّه كان خلق رسول اللّه. و سئلت مرّة اخرى فقالت: كان خلقه القرآن. ثمّ قرأت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى عشر آيات(5).

ص: 307


1- . العلق: 1/96.
2- . تفسير الرازي 79:30.
3- . تفسير روح البيان 105:10.
4- . معاني الأخبار: 1/188، تفسير الصافي 208:5.
5- . تفسير الرازي 81:30، و الآية من سورة المؤمنون: 1/23.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عز و جلّ أدّب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فأحسن تأديبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (1).

عن (البصائر) مقطوعا: «أنّ اللّه أدّب نبيّه فأحسن تأديبه، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ (2) فلمّا كان ذلك، أنزل اللّه تعالى: إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (3).

و عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ما دعاه أحد من أصحابه و لا من أهل بيته إلاّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «لبيك»(4).

و عن أنس قال: خدمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت، و لا في شيء لم أفعله: هلاّ فعلت(5)!

و قيل: إنّه لم ينحرف عن بلاء، و لم ينصرف عن عطاء(6).

و قيل: كيف لا يكون خلقه عظيما و قد تجلّى اللّه فيه بأنوار أخلاقه(7).

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلاٰ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (4) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) ثمّ لمّا وعد سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الأجر، و مدحه بأكرم الأخلاق، ذمّ معانديه و مكذّبيه بقوله:

فَسَتُبْصِرُ يا محمد، و عن قريب ترى وَ المشركون يُبْصِرُونَ في الدنيا كما قيل، أو في الآخرة(8) حين نزول العذاب عليهم

بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ و ابتلاء بالجنون، أبك و بفرق المؤمنين، أم بفرق الكافرين و المكذّبين ؟ فانّ المجنون هو الذي هام في تيه الضّلال، و ابتلى نفسه بالعذاب و النّكال، و من الواضح

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمَنْ ضَلَّ و انحرف عَنْ سَبِيلِهِ المؤدّي إلى سعادة الدارين وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله الناجين من كلّ هلكة و عذاب، الفائزين بكلّ خير و صواب.

فاذا تبيّن أنّ أعداءك في ضلال

فَلاٰ تُطِعِ يا محمد، و لا تجب اَلْمُكَذِّبِينَ في سؤالهم منك الإعراض عن الدين الحقّ، و الدخول في دين آبائك المشركين باعتقادهم و زعمهم، و دم على ما أنت عليه من التوحيد و عبادة اللّه، و تشدّد عليهم مع قلّة أنصارك و أصحابك، و إن عارضوك بأجمعهم مع

ص: 308


1- . الكافي 4/208:1، تفسير الصافي 208:5.
2- . الأعراف: 199/7.
3- . بصائر الدرجات: 3/398، تفسير الصافي 208:5. (4و5) . تفسير الرازي 81:30. (6و7) . تفسير روح البيان 107:10.
4- . تفسير الرازي 82:30.

كثرتهم أشدّ المعارضة، فإنّا ناصروك و خاذلوا أعدائك قيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل(1).

إنّهم

وَدُّوا و أحبّوا لَوْ تُدْهِنُ هؤلاء الكفرة و تلين معهم، و تصانعهم(2) بأن تترك بعض ما أنت عليه من سبّ آلهتهم و النهي عن عبادتها فَيُدْهِنُونَ و يصانعوك(3) بأن لا يذمّون دينك و يلاينون في مكالمتك.

وَ لاٰ تُطِعْ كُلَّ حَلاّٰفٍ مَهِينٍ (4) هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ (5) مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كٰانَ ذٰا مٰالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا قٰالَ أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) ثمّ إنّه تعالى بعد نهي نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن موافقة آراء رؤساء المشركين، نهاه عن اتّباع رأي بعضهم المذموم بأقبح الذمائم بقوله:

وَ لاٰ تُطِعْ و لا تتّبع كُلَّ حَلاّٰفٍ و كثير اليمين في الحقّ و الباطل و في الكذب مَهِينٍ و حقير بين الناس لكثرة كذبه و حلقه عليه، فانّ من حقر اللّه بعصيانه و كثرة الحلف به، حقّره اللّه في الدنيا و الآخرة

هَمّٰازٍ و عيّاب للناس، طعّان عليهم، أو كثير الذكر لهم بما يكرهونه مَشّٰاءٍ بينهم بِنَمِيمٍ و كثير السعي في السّعاية، نقّال للحديث من أحد إلى أحد للافساد بينهما، و في الحديث: «لا يدخل الجنّة نمّام»(6).

مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ و بخيل لا مال، أو كثير المنع للناس من الإيمان و طاعة اللّه و الإنفاق مُعْتَدٍ و ظالم للناس، أو متجاوز عن الحدّ في سوء الأعمال و الأخلاق أَثِيمٍ و كثير الإقدام في العصيان

عُتُلٍّ و غليظ القلب و الطبع و عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: قويّ ضخيم(5).

و قيل: واسع البطن(6) وثيق الخلق(7) و قيل: الفاحش الخلق اللئيم النفس(8). و قيل: الأكول [أو] الحافي الغليظ(9).

بَعْدَ ذٰلِكَ المذكور من القبائح زَنِيمٍ و ملحق بقوم في النسب و ليس منهم، و هو أقبح القبائح في العرب. و قيل: هو المعروف بالشرّ كما يعرف الشاة بالزّنمة، و هي ما يقطع من اذنها فيدلّى(10) منها.

و قيل: إنّه ولد الزنا(11).

ص: 309


1- . تفسير الرازي 83:30.
2- . في النسخة: و تصابقهم.
3- . في النسخة: و يصابقونك.
4- . تفسير الرازي 84:30 و 85.
5- . تفسير الرازي 85:30، تفسير روح البيان 112:10.
6- . تفسير روح البيان 111:10. (5و6) . تفسير الرازي 84:30، و فيه: قويّ ضخم.
7- . تفسير الرازي 84:30، و في النسخة: و بنو الحلقوم. (8و9) . تفسير الرازي 84:30.

قيل: لم يعلم أنّ اللّه وصف أحدا و لا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر للوليد بن المغيرة من العيوب، و كان الوليد دعيّا في قريش و ليس من نسبهم(1). قيل: ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده(2).

قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، فلمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآيات في مجمع قريش و فيهم الوليد، وجد الوليد جميع العيوب في نفسه إلاّ الولادة من زنا، و قال في نفسه: أنا سيد قريش، و أبي كان معروفا، و أعلم أن محمدا لا يكذب فأخذ بسيفه و جاء إلى امّه، و قال لها: ما قصّة ولادتي ؟ فلمّا أبلغ في تهديدها قالت: كان أبوك غير راغب في النساء، و كان له بنو أخيه ينتظرون موته، و يطمعون في ميراثه، فثقل عليّ ذلك، فاستأجرت عبدا فراودته عن نفسي، فاحتبلت منه فولدتك(3).

و عن علي عليه السّلام: «الزنيم: هو الذي لا أصل له»(4). و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ فقال: «العتلّ عظيم الكفر، و الزنيم: المستهتر بكفره»(5).

و عن (المجمع) أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله سئل عن العتلّ الزّنيم فقال: «هو الشديد الخلق، الشحيح(6) ، الأكول الشروب، الواجد للطعام و الشراب، الظلوم للناس، الرّحب الحلقوم»(7).

و عنه عليه السّلام قال: «لا يدخل الجنّة جوّاظ و لا جعظري و لا عتلّ زنيم» قيل: فما الجوّاظ؟ قال: «كلّ جمّاع منّاع» قيل: فما الجعظري ؟ قال: «الفظّ الغليظ» قيل: فما العتلّ الزّنيم ؟ قال: «رحب الجوف، سيئ الخلق، أكول شروب، غشوم ظلوم»(8).

و عن القمي، قال: الحلاّف: الثاني، حلف لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا ينكث عهده هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ قال: كان ينمّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يهمز بين أصحابه مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ قال: الخير أمير المؤمنين عليه السّلام مُعْتَدٍ قال: اعتدى عليه عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ قال: العتلّ: العظيم الكفر، و الزنيم: الدّعيّ(9).

قيل: كان للوليد عشرة بنين و أموال كثيرة، كان له بستان بالطائف، و تسعة آلاف مثقال من فضّة(10) ، فلامه سبحانه بقوله تبارك و تعالى:

أَنْ كٰانَ ذٰا مٰالٍ وَ بَنِينَ قيل: إنّ التقدير كفر باللّه لأجل أن كان ذا مال و بنين(11) ، مع أنّ حقّه الشّكر و ليس الكفر و العصيان جزاء نعمه و قيل: إنّ المعنى لا تطع من كان له هذه المطاعن و المثالب، لأجل أن كان ذا مال و بنين(12) ، و من كفره أنه

إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا القرآنية

ص: 310


1- . تفسير الرازي 85:30، تفسير روح البيان 112:10.
2- . تفسير الرازي 85:30، تفسير روح البيان 112:10.
3- . تفسير روح البيان 112:10.
4- . مجمع البيان 502:10، تفسير الصافي 210:5.
5- . معاني الأخبار: 1/149، تفسير الصافي 209:5.
6- . في النسخة: المفتحج، و في تفسير الصافي: المصحاح.
7- . مجمع البيان 502:10، تفسير الصافي 209:5، و في المصدر: الرحيب الجوف، و في الصافي: الجوف.
8- . مجمع البيان 502:10، تفسير الصافي 210:5.
9- . تفسير القمي 380:2، تفسير الصافي 210:5.
10- . تفسير روح البيان 111:10. (11و12) . تفسير الرازي 85:30.

قٰالَ تكذيبا لها: هذا المتلوّ علينا أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ و قصص ملفّقة من السابقين كقصة رستم و إسفنديار.

ثمّ هدّده سبحانه بقوله:

سَنَسِمُهُ و عن قريب نعلّمه بعلامة قبيحة عَلَى أنفه الذي هو مثل اَلْخُرْطُومِ للفيل و الخنزير. عن ابن عباس، قال: سنخطمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش(1) ، روي أنّه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال(2). و قيل: إنّه لم يعش إلى يوم بدر(3) ، و المراد سنشهره بالذكر الرديء و الوصف القبيح في العالم، كما يقال لمن تسبّه مسبّة قبيحة باقية:

سنسمه ميسم سوء، و المراد أنّه الحق به عارا لا يفارقه(4).

و قيل: يعني سنعلّمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يعلم بها من سائر الكفرة بأن تسوّد وجهه غاية التسويد، إذ كان في عداوة الرسول بالغا أقصى المراتب، فيكون الخرطوم كناية عن وجهه على طريق ذكر الجزء و إرادة الكلّ(5).

إِنّٰا بَلَوْنٰاهُمْ كَمٰا بَلَوْنٰا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهٰا مُصْبِحِينَ (17) وَ لاٰ يَسْتَثْنُونَ (18) فَطٰافَ عَلَيْهٰا طٰائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نٰائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنٰادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخٰافَتُونَ (23) أَنْ لاٰ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلىٰ حَرْدٍ قٰادِرِينَ (25) فَلَمّٰا رَأَوْهٰا قٰالُوا إِنّٰا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قٰالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاٰ تُسَبِّحُونَ (28) ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الغرور بالمال و الأولاد صار سبب طغيان هذا الظالم الكافر، بيّن أنّه تعالى أنعم بهذه النّعم عليه لابتلائه و اختباره، أنّه يشكر أم يكفر، بقوله:

إِنّٰا بَلَوْنٰاهُمْ و اختبرناهم بإعطائهم المال و البنين كَمٰا بَلَوْنٰا و اختبرنا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ و قيل: إنّ المعنى إنّا كلّفناهم بالشّكر على نعمنا كما كلّفنا أصحاب الجنّة التي كانت ذات ثمار أن يشكروا و يعطوا الفقراء حقوقهم(6) فكفروا.

في قضية أصحاب

الجنّة

روي أنّ رجلا من ثقيف كان مسلما، و كان له ضيعة بقرب صنعاء على فرسخين(7) منها - و قيل: على فراسخ (8)- فيها نخل و زرع، و كان يجعل عند الحصاد من كلّ ما فيها نصيبا وافرا

ص: 311


1- . تفسير الرازي 86:30.
2- . تفسير الرازي 86:30.
3- . تفسير روح البيان 113:10.
4- . تفسير الرازي 87:30.
5- . تفسير روح البيان 114:10.
6- . تفسير الرازي 87:30.
7- . تفسير أبي السعود 14:9، تفسير روح البيان 114:10.
8- . تفسير روح البيان 114:10.

للفقراء، فلمّا مات ورثها بنوه، ثمّ قالوا: عيالنا كثير و المال قليل، و لا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان أبونا يعطي(1).

و قيل: كانت الضيعة باليمن، و كان أصحاب الجنّة بخلاء، و كان أبوهم يأخذ منها قوت سنة و يتصدّق بالباقي، و كان ينادي الفقراء وقت الصّرام، و يترك لهم ما أخطأه المنجل، و ما في أسفل الأكداس، و ما أخطأه القطاف من العنب، و ما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخل إذا اصرمت، و كان ذلك بعد رفع عيسى عليه السّلام بقليل، و كان يبقى لهم مع ذلك شيء كثير، و يتزوّدون به أياما كثيرة، فلمّا مات أبوهم قال بنوه: إن فعلنا ما كان أبونا يفعل ضاق الأمر علينا و نحن اولو عيال(2).

و على كلّ تقدير كان وقت ابتلائهم إِذْ أَقْسَمُوا و حين حلفوا لَيَصْرِمُنَّهٰا و يقطعن ثمر نخلهم و أعنابهم و زروعهم وقت كونهم مُصْبِحِينَ و دخولهم في الصباح و ظلمة الليل باقية و قبل اطّلاع الفقراء على جمعهم الثمار

وَ لاٰ يَسْتَثْنُونَ و لا يقولون إن شاء اللّه على دأب أهل الايمان

فَطٰافَ على الجنّة و نزل عَلَيْهٰا في الليل طٰائِفٌ و بلاء محيط بثمارها مِنْ جانب رَبِّكَ بحيث لم يبق من الثمار شيء وَ هُمْ في بيوتهم نٰائِمُونَ و غافلون عمّا نزل بهم و بثمارهم

فَأَصْبَحَتْ الجنّة و صارت بنزول البلاء و النار فيها كَالصَّرِيمِ و مثل الجنة التي قطعت و اقتطفت ثمارها بالكلّ. و قيل: يعني صارت سوداء كالليل لاحتراقها بالنار(3).

فَتَنٰادَوْا و صاح بعضهم ببعض لمّا قاموا من النوم و صاروا مُصْبِحِينَ و داخلين في الصباح على حسب تواعدهم و قالوا:

أَنِ اغْدُوا يا إخواننا و اخرجوا في أول الصبح و أقبلوا عَلىٰ حَرْثِكُمْ و اقتطاف ثمار ضيعتكم و جنّتكم إِنْ كُنْتُمْ صٰارِمِينَ و عازمين على قطعها و جمعها

فَانْطَلَقُوا و ذهبوا إلى حرثهم وَ هُمْ يَتَخٰافَتُونَ و يقولون بطريق السرّ لئلاّ يسمع المساكين قولهم

أَنْ لاٰ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ الذي هو يوم جمع الثمار عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ واحد فضلا عن الكثير

وَ غَدَوْا و مشوا بكرة عَلىٰ حال حَرْدٍ و منع شديد عن الفقراء ثمار جنّتهم حال كونهم قٰادِرِينَ على نفعهم بزعمهم، أو على اجتناء ثمار الجنّة بحسبانهم.

فَلَمّٰا دخلوا الجنة و رَأَوْهٰا محترقة مسودّة لا ثمار فيها أقبل بعضهم على بعض قٰالُوا إِنّٰا لَضَالُّونَ و منحرفون عن طريق جنّتنا و دخلنا غيرها فلما تأملوها و وقفوا على خصوصيات الجنة و علائمها قالوا ما نحن بضالين

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ عن نفعها ممنوعون عن ثمارها ببخلنا و سوء

ص: 312


1- . تفسير الرازي 87:30.
2- . تفسير روح البيان 114:10.
3- . تفسير الرازي 88:30.

قصدنا و إرادة حرمان المساكين من خير جنّتنا، فعجّل اللّه في حرماننا من ثمارنا

قٰالَ أحدهم الذي هو أَوْسَطُهُمْ و أصوبهم رأيا، و أفضلهم عقلا، و أكملهم دينا، و أوسطهم سنا، و أكملهم عقلا بطريق التوبيخ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا إخواني حين عزمتم على منع المساكين: لَوْ لاٰ تُسَبِّحُونَ اللّه، و هلاّ تنزّهونه عن الخلف في وعده بأنّه يرزق عباده، و عن الكذب في إخباره بالرزق بيده يبسط لمن يشاء و يقدر، و ليس الرزق بتدبير الخلق ؟

قٰالُوا سُبْحٰانَ رَبِّنٰا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَلاٰوَمُونَ (30) قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا إِنّٰا كُنّٰا طٰاغِينَ (31) عَسىٰ رَبُّنٰا أَنْ يُبْدِلَنٰا خَيْراً مِنْهٰا إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا رٰاغِبُونَ (32) فلمّا قال الأوسط ذلك تنبّه إخوانه و اعترفوا بذنبهم و

قٰالُوا سُبْحٰانَ رَبِّنٰا و تنزّه خالقنا عن كلّ سوء و نقص و كذب و خلف، سيما عن الظّلم علينا بإحراق جنّتنا، بل إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ على أنفسنا بسوء قصدنا و إرادة منع حقوق المساكين و حرمانهم بخلا و شحّا، إذن نتوب إلى اللّه و نستغفره من سوء قصدنا و صنيعنا

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ و هم يَتَلاٰوَمُونَ و يوبّخون كلّ منهم الآخرين على ما فعلوا، و

قٰالُوا اعترافا بذنبهم و تندّما و تحسّرا: يٰا وَيْلَنٰا و يا أسفنا إِنّٰا كُنّٰا قبل اليوم طٰاغِينَ على اللّه و متجاوزين عن الحدّ الذي حدّه ربّنا بمنع المساكين عن حقوقهم في أموالنا، ثمّ إنّهم بعد التّوبة و الإقبال على اللّه أظهروا الرجاء برحمته بقولهم:

عَسىٰ رَبُّنٰا و يرجى منه أَنْ يُبْدِلَنٰا و يعوّضنا عن الجنة المحترقة خَيْراً و أنفع مِنْهٰا ببركة إقبالنا إليه و توبتنا من ذنبنا إِنّٰا متوجّهون إِلىٰ رَبِّنٰا بقلوبنا رٰاغِبُونَ و طالبون عفوه و خيره.

روي أنّهم تعاقدوا و قالوا: إن أبدلنا اللّه خيرا منها، لنصنعنّ كما صنع أبونا، فدعوا اللّه و تضرّعوا إليه، فأبدلهم اللّه من لينتهم ما هو خير منها(1).

قيل: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى جبرئيل أن يقلع تلك الجنّة المحترقة فيضعها في براري الشام، و يأخذ من الشام جنّة فيجعلها مكانها(2).

عن ابن مسعود: أنّ القوم لمّا أخلصوا و عرف اللّه منهم الصدق، أبدلهم جنّة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل عنقودا(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق، و تلا هذه الآية: إِذْ أَقْسَمُوا

ص: 313


1- . تفسير روح البيان 117:10.
2- . تفسير روح البيان 117:10.
3- . تفسير روح البيان 117:10.

لَيَصْرِمُنَّهٰا إلى قوله وَ هُمْ نٰائِمُونَ (1)

و عن القمي، عن ابن عباس، أنّه قيل له: إنّ قوما من هذه الامّة يزعمون أنّ العبد قد يذنب الذنب فيحرم به الرزق. فقال ابن عباس: فو اللّه الذي لا إله إلاّ هو، لهذا أنور في كتاب اللّه من الشمس الضاحية، ذكر اللّه في سورة ن وَ الْقَلَمِ أنّ شيخا كانت له جنّة، و كان لا يدخل بيته ثمرة و لا إلى منزلة حتّى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، فلمّا قبض الشيخ ورثه بنوه، و كان له خمس من البنين، فحملت جنّته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم تكن حملت قبل ذلك، فراحوا الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة العصر، فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم، فلمّا نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا، و قال بعضهم لبعض: إنّ أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف، فهلمّوا فلنتعاقد عهدا فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا حتى نستغني و تكثر أموالنا، ثمّ نستأنف الضيعة فيما نستقبل من السنين المقبلة، فرضي بذلك أربعة و سخط الخامس، و هو الذي قال اللّه تعالى: قٰالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاٰ تُسَبِّحُونَ.

فقيل: يا ابن عباس، كان أوسطهم في السنّ! فقال: لا، بل كان أصغرهم سنا و أكبرهم عقلا، و أوسط القوم خير القوم، قال اللّه تعالى: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (2).

فقال لهم أوسطهم، اتّقوا اللّه، و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا، فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرّحا، فلمّا أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع، فراحوا إلى منازلهم. ثمّ حلفوا باللّه: أن يصرموها إذا أصبحوا، و لم يقولوا إن شاء اللّه، فابتلاهم اللّه بذلك الذنب، و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه، فأخبر عنهم في الكتاب و قال: إِنّٰا بَلَوْنٰاهُمْ كَمٰا بَلَوْنٰا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهٰا مُصْبِحِينَ * وَ لاٰ يَسْتَثْنُونَ * فَطٰافَ عَلَيْهٰا طٰائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نٰائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قال: كالمحترق.

فقيل لابن عباس: ما الصريم ؟ قال: الليل المظلم، ثمّ قال: لا ضوء به و لا نور.

فلمّا أصبح القوم تنادوا مصبحين أَنِ اغْدُوا عَلىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰارِمِينَ قال: فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخٰافَتُونَ.

قيل: و ما التخافت يا ابن عباس ؟ قال: يتسارّون، يسارّ بعضهم بعضا لئلاّ يسمع أحد غيرهم فقالوا:

لاٰ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَ غَدَوْا عَلىٰ حَرْدٍ قٰادِرِينَ و في أنفسهم أن يصرموها، و لا يعلمون ما حلّ بهم من سطوات اللّه و نقمته فَلَمّٰا رَأَوْهٰا و عاينوا ما حلّ بهم قٰالُوا إِنّٰا لَضَالُّونَ

ص: 314


1- . الكافي 12/208:2، تفسير الصافي 212:5.
2- . البقرة: 143/2.

* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمهم اللّه ذل الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئا(1).

كَذٰلِكَ الْعَذٰابُ وَ لَعَذٰابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الكفّار بقوله:

كَذٰلِكَ الْعَذٰابُ الذي نزل على أصحاب الجنّة العذاب الدنيوي الذي ينزل على كلّ من عصى ربّه بحبس حقوق الفقراء و غيره، كحبس المطر، و إنزال الآفات على الزروع، و رفع البركة عنها، و إشاعة الأمراض، و سلب الأمنية و غيرها وَ و اللّه لَعَذٰابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ و أعظم و أشدّ من عذاب الدنيا لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ عظمه لاحترزوا عن العصيان الموجب له.

ثمّ لمّا وعد سبحانه الكفّار عذاب الآخرة، وعد المؤمنين المتّقين نعمها بقوله:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ في الآخرة مذخور عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم جَنّٰاتِ عديدة ذوات اَلنَّعِيمِ الخالصة عن شوب ما ينقصها.

ثمّ قيل: لمّا نزلت الآية قال الكفّار للمسلمين: إنّ اللّه فضّلنا عليكم في الدنيا بالنّعم الدنيوية، فلا بدّ أن يفضّلنا عليكم في الآخرة، فان لم يكن التفضيل فلا بدّ من التساوي، فنزل ردّا عليهم(2):

أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ في الآخرة كَالْمُجْرِمِينَ و الكفّار العصاة، و مساوين لهم في الإنعام و الإكرام ؟! حاشا و كلاّ.

مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتٰابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمٰا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمٰانٌ عَلَيْنٰا بٰالِغَةٌ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيٰامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمٰا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكٰاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكٰائِهِمْ إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ (41) ثمّ بالغ سبحانه في تشديد الإنكار عليهم بتلوين الخطاب بقوله:

مٰا لَكُمْ أيّها الحمقاء كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المستحيل وقوعه، المستعجب صدوره من عاقل ؟! لاستلزامه الظّلم على المسلمين من اللّه الحكيم الغني على الاطلاق

أَمْ لَكُمْ أيّها الكفرة كِتٰابٌ نازل عليكم من السماء من جانب اللّه أنتم فِيهِ تَدْرُسُونَ و تقرءون مرارا، و تتأمّلون عباراته دائما؟! فتبيّن لكم ممّا فيه

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمٰا تَخَيَّرُونَ و تريدون لأنفسكم من المشتهيات

أَمْ لَكُمْ مع سخطنا عليكم

ص: 315


1- . تفسير القمي 381:2، تفسير الصافي 212:5.
2- . تفسير أبي السعود 17:9، تفسير روح البيان 119:10.

أَيْمٰانٌ و عهود مؤكّدة ثابتة عَلَيْنٰا و في عهدتنا بٰالِغَةٌ و منتهية في الصحّة و التأكد و اللّزوم إِلىٰ يَوْمِ الْقِيٰامَةِ لا يجوز لنا حنثها و نقضها، و لا يخرج عن عهدتها؟! و هي إِنَّ لَكُمْ يوم القيامة لَمٰا تَحْكُمُونَ لأنفسكم و تطلبون منّا، فيكون علينا بهذه العهود أن نحكمكم في ذلك اليوم، و نوافقكم فيما تأمرون، و نعطيكم ما تتوقّعون.

ثمّ لوّن سبحانه الخطاب عنهم إلى رسوله بقوله:

سَلْهُمْ يا حبيبي مشافهة أَيُّهُمْ و من يكون منهم بِذٰلِكَ الحكم المخالف للعقول زَعِيمٌ و ضامن لاثباته بالحجّة و البرهان ؟

أَمْ لَهُمْ في ذلك الادّعاء شُرَكٰاءُ يشاركونهم في الدعوى، و يساعدونهم في هذا القول ؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكٰائِهِمْ عندك و ليحضروهم في محضرك حتى يقولوا بقولهم و يصدّقوهم في دعواهم إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ في دعوى أنّ لهم شركاء. قيل: إنّ المراد من شركائهم أصنامهم(1) ، و المعني ألهم أصنام يجعلونهم مثل المسلمين في النجاة من العذاب و الدّخول في الجنّة ؟!

حاصل مفاد الآيات - و اللّه أعلم - أنّه ليس لهم دليل عقلي على التسوية بين المطيع و العاصي و المحسن و المسيء، و لا دليل نقلي من كتاب سماوي يقرءونه، و لا عهد مؤكّد بالأيمان، و لا من يوافقهم من العقلاء حتّى يقلّدوهم، مع حكم العقل السليم على خلافه، فظهر أنّ بطلان دعواهم أظهر من الشمس في رائعة(2) النهار.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ (42) خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كٰانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سٰالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) ثمّ بيّن سبحانه سوء حالهم يوم القيامة بقوله:

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ قيل: إنّ المعنى ذكرهم يا محمد يوم الشدّة و صعوبة الخطب على الكفّار و المنافقين، فانّ كشف الساق كناية عن الوقوع في الشدّة، كما أنّ من وقع بين الخصوم الأقوياء و انغمر رجلاه في الوحل، يشمّر ذيله و يرفع ثيابه عن ساقه، كما عن ابن عباس(3).

و قيل: إنّ المراد من الساق أصل الامور، يعني يكشف عن حقائق الامور و واقعياتها و خفيّاتها(4).

ص: 316


1- . تفسير البيضاوي 517:2.
2- . في النسخة: رابعة.
3- . مجمع البيان 509:1
4- . تفسير الرازي 95:30.

و قيل: يعني يكشف عن ساق العرش، أو عن ساق جهنّم، أو عن ساق ملك عظيم مهيب(1).

و على أيّ تقدير ذلك اليوم يوم القيامة، فانّهم في ذلك اليوم يؤمرون وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ للّه تعنيفا على تركهم إياه في الدنيا تكبّرا و تعظّما و تحسّرا على تفريطهم فيه فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ السجود لسلب القدرة عنهم.

عن ابن مسعود: تعقم أصلابهم، أي تصير عظاما لا فواصل لها، فلا تثنى للرفع و الخفض، فيبقون قياما على حالهم حتّى تزداد حسرتهم على التفريط فيه(2).

و في الحديث: «و تبقى أصلابهم طبقا واحدا (3)- أي فقارة واحدة - كأنّ سفافيد الحديد في ظهورهم»(4).

عن الرضا عليه السّلام قال: «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا، و تدمج(5) أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود(6) حال كونهم

خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ متواضعة جوارحهم تَرْهَقُهُمْ و تغشاهم ذِلَّةٌ شديدة و خزي فاحش جزاء لاستكبارهم في الدنيا عن السجود للّه وَ الحال أنّهم قَدْ كٰانُوا في الدنيا يُدْعَوْنَ من قبل اللّه بلسان الرسل إِلَى السُّجُودِ للّه و يؤمرون به وَ هُمْ سٰالِمُونَ أصحّاء مستطيعون له بأتمّ الاستطاعة، فاذا كان حالهم في الآخرة كذلك

فَذَرْنِي يا نبيّ الرحمة و دعني وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهٰذَا القرآن الذي هو أحسن اَلْحَدِيثِ و أعظم المعاجز الذي يصدّقه كلّ عاقل منصف و يستدلّ به على صدق دعواك الرسالة، فانّي أكفيكهم، و اعلم أنّا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ و ننزلهم في العذاب شيئا فشيئا مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ و من الجهة التي لا يشعرون أنّه بلاء و عذاب.

قيل: إنّ المراد بالاستدراج توفير النّعم. حتّى ينسوا الاستغفار، و المعنى كما قيل: كلّما جدّدوا ذنبا جددنا لهم نعمة(7) ، و أغفلناهم عن التوجه إلينا، ثمّ نأخذهم بغتة.

و في الحديث: «إذا رأيت اللّه ينعم على عبد و هو مقيم على المعصية، فاعلم أنه مستدرج، و تلا هذه الآية(8).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من وسع عليه دنياه، و هو لا يعلم أنّه قد مكر به، فانّه مخدوع عن

ص: 317


1- . تفسير الرازي 95:30.
2- . تفسير روح البيان 121:10.
3- . في تفسير روح البيان: طبعا واحدا.
4- . تفسير روح البيان 121:10.
5- . في النسخة: و تديح، و في تفسير الصافي: و يدبّخ.
6- . التوحيد: 1/154، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 14/121:1.
7- . تفسير الرازي 96:30.
8- . تفسير روح البيان 124:10.

عقله»(1).

وَ أُمْلِي لَهُمْ و أمهلهم في الدنيا بإطالة أعمارهم و تأخير آجالهم، ليزدادوا إثما، و يكون لهم أشدّ العذاب في الآخرة، و اعلم إِنَّ كَيْدِي و تدبيري الخفيّ عنهم في إهلاكهم و ازدياد عذابهم مَتِينٌ و مستحكم لقوة أثره في إهلاكهم الدنيوي و الاخروي. و قيل: إنّ المعنى أنّ أخذي إياهم بالعذاب قويّ شديد لا يدفع بشيء(2).

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاٰ تَكُنْ كَصٰاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نٰادىٰ وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لاٰ أَنْ تَدٰارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرٰاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبٰاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّٰالِحِينَ (50) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفار، و تهديدهم بأهوال القيامة، و تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله بأنّه تعالى كافيهم، و أنّه معذّبهم على تكذيبهم، عاد إلى تقريعهم و تبكيتهم في عدم إيمانهم بالرسول بقوله:

أَمْ تَسْئَلُهُمْ و تطلب منهم على تبليغاتك عن اللّه أَجْراً و جعلا ماليا فَهُمْ لا يؤمنون بك مِنْ جهة مَغْرَمٍ و ضرر مالي متوجّه إليهم لأجل الايمان بك مُثْقَلُونَ و متحمّلون حملا ثقيلا فيعرضون عنك ؟ و إلاّ فليس لهم عذر في الفرار منك و عدم التسليم لرسالتك

أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ و اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه أحد مكتوب فيه أنّهم آمنون يوم القيامة من العذاب فائزون بأعلى الثواب كالمسلمين فَهُمْ يَكْتُبُونَ و يستنسخون منه و يعتمدون عليه. و قيل: يعني أم يدّعون أنّ المغيبات حاضرة في عقولهم، و لذا يكتبون على اللّه ما شاءوا و أرادوا(3).

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال قول الكفّار و زجرهم عمّا يقولون، أمر رسوله بالصبر على أقوالهم الشنيعة و أعمالهم السيئة بقوله:

فَاصْبِرْ يا محمد لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم و تأخير نصرتك عليهم، و تبليغك الرسالة، و تحمّلك الأذى من قومك، وَ لاٰ تَكُنْ ضيق الصدر، قليل التحمّل كَصٰاحِبِ الْحُوتِ و هو يونس النبيّ إِذْ نٰادىٰ ربّه في بطن الحوت بقوله: لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين وَ هُوَ مَكْظُومٌ و مملوء غيظا على قومه أو مغموم كما عن الباقر عليه السّلام(4) ، و لا تضجر من أذى قومك كما انضجر هو فتبتلى كما ابتلى

لَوْ لاٰ أَنْ تَدٰارَكَهُ و وصل إليه نِعْمَةٌ و رحمة عظيمة

ص: 318


1- . تفسير روح البيان 124:10.
2- . تفسير روح البيان 125:10.
3- . تفسير الرازي 98:30.
4- . تفسير القمي 383:2، تفسير الصافي 215:5.

مِنْ رَبِّهِ و هي توفيقه للتوبة و قبولها منه لَنُبِذَ و طرح في القيامة بِالْعَرٰاءِ و الأرض التي لا سقف لها و لا ظلّ وَ هُوَ مَذْمُومٌ و ملوم عند اللّه و عند الناس على فعله و هجرته من بين قومه و قلّة تحمّله لأذاهم.

و اعلم أنّ هذا التفسير بالنظر إلى قوله تعالى: فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (1).

و قيل: إنّ المعنى لنبذ من بطن الحوت في هذه الدنيا بالعراء، في حال كونه مذموما، و لكن لمّا تاب نبذ و طرح من بطن الحوت بالعراء ممدوحا غير مذموم(2).

فَاجْتَبٰاهُ و اصطفاه رَبُّهُ بعد الخروج من بطن الحوت للرسالة إلى قومه، كما كان كذلك قبل دخوله في بطنه.

عن ابن عباس: ردّ اللّه عليه الوحي و شفّعه في قومه (3)فَجَعَلَهُ برحمة مِنَ الأنبياء اَلصّٰالِحِينَ و المعصومين من ارتكاب خلاف الأولى.

روى بعض العامة: أنّها نزلت في احد حين همّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو على المنهزمين(4). و قيل:

حين أراد أن يدعو على ثقيف(5).

وَ إِنْ يَكٰادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصٰارِهِمْ لَمّٰا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ مٰا هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (52) ثمّ إنّه تعالى بعد ما أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصبر على أذى قومه، بيّن شدّة عداوتهم و غضبهم على الرسول حين تلاوته القرآن العظيم بقوله:

وَ إِنْ يَكٰادُ و قد يقرب اَلَّذِينَ عاندوك كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ و يصرعونك بِأَبْصٰارِهِمْ غضبا عليك لَمّٰا سَمِعُوا منك اَلذِّكْرَ و تلاوة القرآن.

روي أنّه كان في بني أسد عيّانون، و كان الواحد منهم إذا أراد أن يصيب شيئا بعينه يتجوّع له ثلاثة أيام، ثمّ يتعرّض له، و يقول: تاللّه ما رأيت أحسن من هذا، فيتساقط ذلك الشيء، و كان الرجل منهم ينظر إلى الناقة السمينة أو البقرة السمينة ثمّ يعتنيها، ثمّ يقول للجارية: خذي المكتل و الدّرهم فأتينا بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع فتنحر، و لا يمرّ بشيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلاّ عانه، و كان سببا لهلاكه و فساده، فسال بعض كفّار قريش من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في

ص: 319


1- . الصافات: 143/37 و 144.
2- . تفسير الرازي 99:30. (3-4-5) . تفسير الرازي 99:30.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما رأيت مثله و لا مثل حججه، فعصمه اللّه(1) بهذه الآية.

و قيل: إن زلقه بالأبصار كناية عن شدّة الغضب، و المعنى أنّهم من شدّة عداوتهم لك ينظرون إليك نظر الغضبان بمؤخّر عيونهم، بحيث يكادون يزلّون قدمك و يصرعونك وقت سماعهم القرآن(2)وَ يَقُولُونَ لإخوانهم حين رؤيتك: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ و فاسد العقل، تنفيرا للناس عنه، و توهينا له، و قد علموا كلّهم أنّه أعقل الناس.

و قيل: إنّ المعنى أنّ محمدا معه جنّ يعلّمه القرآن (3)

وَ الحال أنّه مٰا هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ و عظة لِلْعٰالَمِينَ من الإنس و الجنّ، و بيان لجميع ما يحتاجون إليه من امور دينهم و دنياهم، فأين من أنزل عليه ذلك و هو مطّلع على أسراره و حقائقه و دقائقه ممّا قالوا في حقّه من الجنون ؟ فكيف ينسبونه إليه و ليس ما قالوا إلاّ من غاية الحمق و الجهالة ؟

عن الصادق عليه السّلام: أنّه مرّ بمسجد الغدير، فنظر إلى ميسرة المسجد فقال: «ذاك موضع قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه» ثمّ نظر إلى الجانب الآخر فقال: «ذاك موضع فسطاط أبي فلان و فلان و سالم مولى حذيفة و أبي عبيدة، فلمّا أن رأوه رافعا يده قال بعضهم لبعض: انظروا إلى عينيه تدوران كأنّهما عينا مجنون، فنزل جبرئيل بهذه الآية»(4).

أقول: يمكن حمل نزول جبرئيل بها في ذلك الوقت على نزوله بها مرة ثانية.

و عن القمي: لَمّٰا سَمِعُوا الذِّكْرَ قال: لمّا أخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بفضل أمير المؤمنين عليه السّلام [قالوا:

هو مجنون] قال تعالى: وَ مٰا هُوَ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (5).

عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ سورة ن وَ الْقَلَمِ في فريضة أو نافلة، آمنه اللّه عزّ و جلّ من أن يصيبه فقر أبدا و أعاذه اللّه إذا مات من ضمّة القبر»(6).

ص: 320


1- . تفسير روح البيان 127:10.
2- . تفسير روح البيان 127:10.
3- . تفسير روح البيان 130:10.
4- . الكافي 2/566:4، من لا يحضره الفقيه 1558/335:2، تفسير الصافي 216:5.
5- . تفسير القمي 383:2، تفسير الصافي 216:5.
6- . ثواب الأعمال: 119، مجمع البيان 496:10، تفسير الصافي 216:5.

في تفسير سورة الحاقة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اَلْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عٰادٌ بِالْقٰارِعَةِ (4) ثمّ لمّا ختمت سورة القلم المتضمّنة لتجليل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و إبطال نسبة الجنون إليه، و بيان نزول العذاب الدنيوي على مانعي حقوق الفقراء، و بيان أن العذاب الدنيوي كذلك، و عذاب الآخرة أكبر، و بيان شدّة عداوة الكفّار للرسول صلّى اللّه عليه و آله و انضجارهم من استماع القرآن مع أنّه ذكر للعالمين، نظمت سورة الحاقّة المتضمّنة لكثير من العذاب الدنيوي النازل على الامم، و بيان عظمة عذاب الآخرة، و شدّة عداوة الكفّار للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و نسبة الكهانة و الشعر إليه، و إبطال هاتين النسبتين، و أن القرآن تنزيل من ربّ العالمين، و بيان عظمة يوم القيامة، و ذكر بعض أهوالها و شدائدها، إلى غير ذلك من وجوه التناسب بين السورتين المباركتين، ثمّ افتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر عظمة يوم القيامة بقوله:

اَلْحَاقَّةُ و إنّما سمّي يوم القيامة بالحاقة لأنّه يحق وقوعه و يجب، أو يحق فيه جزاء الأعمال، أو تحقّ فيه الامور و تعرف حقائقها، أو تحقّ فيه كلمة العذاب.

ثمّ بالغ في التهويل و تفخيم فظاعته بقوله:

مَا الْحَاقَّةُ و أيّ شيء هي في العظمة و الفظاعة ؟

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و ما أعلمك مَا الْحَاقَّةُ و أيّ يوم هي ؟ فانّها خارجة عن دائرة علم المخلوق، كيف ما قدّر عظمها كانت أعظم منه، و مع ذلك

كَذَّبَتْ قبيلة ثَمُودُ وَ عٰادٌ بهذا اليوم الذي يسمّى أيضا بِالْقٰارِعَةِ لأنّها تقرع الناس و تصيبهم بالأفزاع و الأهوال و العذاب، و السماء بالانشقاق، و الأرض و الجبال بالدكّ(1) و النسف، و النجوم بالطّمس و الانكدار.

ص: 321


1- . في النسخة: بالباد، و التصحيح من تفسير روح البيان 131:10.

فَأَمّٰا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطّٰاغِيَةِ (5) وَ أَمّٰا عٰادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عٰاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهٰا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيٰالٍ وَ ثَمٰانِيَةَ أَيّٰامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهٰا صَرْعىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ خٰاوِيَةٍ (7) ثمّ بيّن سبحانه ما نزل على المكذّبين للقيامة من العذاب بقوله:

فَأَمّٰا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا لتكذيبهم بهذا اليوم بِالطّٰاغِيَةِ و الصيحة المتجاوزة عن حدّ الصيحات في الشدّة(1) فارجفت الأرض و تقطّعت منها القلوب

وَ أَمّٰا عٰادٌ الذين هم أشدّ طغيانا و عتوّا من ثمود فَأُهْلِكُوا لتكذيبهم مع كمال قوّتهم بِرِيحٍ صَرْصَرٍ و باردة أو شديدة الصوت عٰاتِيَةٍ و متجاوزة عن الحدّ في الشدّة و العصف، كأنّها عتت على خزّانها و لم يتمكّنوا من ضبطها

سَخَّرَهٰا اللّه و أرسلها بقدرته القاهرة إلى قوم عاد، و سلّطها عَلَيْهِمْ غضبا و انتقاما منهم سَبْعَ لَيٰالٍ وَ ثَمٰانِيَةَ أَيّٰامٍ حال كون تلك الرياح حُسُوماً و متواليات و متتابعات، و ما خفّف هبوبها تلك المدّة ساعة حتّى أهلكتهم، أو نحسات حسمت كلّ خير، أو قاطعات حيث قطعت دابر القوم فَتَرَى يا محمد، أو أيّها الرائي إن كنت حاضرا حينئذ اَلْقَوْمَ جميعهم مع كمال قوتهم و عظم أجسامهم فِيهٰا صَرْعىٰ و مطروحين على الأرض ميتين كَأَنَّهُمْ في عظم الأجسام و طولها و عدم الحركة لها أَعْجٰازُ نَخْلٍ و أصولها المقطوعة حال كونها خٰاوِيَةٍ و مجوّفة. قيل: كانت الريح تدخل من أفواههم، و يخرج ما في أجوافهم من أدبارهم(2).

فَهَلْ تَرىٰ لَهُمْ مِنْ بٰاقِيَةٍ (8) وَ جٰاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكٰاتُ بِالْخٰاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رٰابِيَةً (10) إِنّٰا لَمّٰا طَغَى الْمٰاءُ حَمَلْنٰاكُمْ فِي الْجٰارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهٰا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ (12) ثمّ بالغ سبحانه في بيان هلاكة جميعهم بقوله:

فَهَلْ تَرىٰ أيّها الرائي لَهُمْ مِنْ نفس بٰاقِيَةٍ حبّه، أو من بقية من ذكر أو انثى، أو كبير أو صغير؟ لا و اللّه لا ترى منهم أحدا

وَ جٰاءَ فِرْعَوْنُ موسى وَ مَنْ كان قَبْلَهُ و تقدّمه من الكفّار وَ أهل القرى اَلْمُؤْتَفِكٰاتُ و المنقلبات، و هي قرى قوم لوط و أتوا (3)بِالْخٰاطِئَةِ و المعصية العظيمة، أو الأفعال السيئة العظيمة كتكذيب البعث

فَعَصَوْا كلّهم رَسُولَ رَبِّهِمْ حين نهوا عمّا كانوا عليه من القبائح فَأَخَذَهُمْ اللّه بذنوبهم و كفرهم و تكذيبهم البعث و ابتلائهم بالعقاب أَخْذَةً رٰابِيَةً و عقوبة زائدة في الشدّة على عقوبات

ص: 322


1- . في النسخة: الشديدة.
2- . تفسير روح البيان 1»: 134.
3- . في النسخة: و الوا.

سائر الكفرة، أو على القدر المتصوّر عند الناس، لزيادة عصيانهم على عصيان غيرهم، كغرق أهل العالم، و تقليب سبع بلاد(1) ، و إمطار الحجارة عليهم.

ثمّ أشار سبحانه إلى قصة قوم نوح بقوله:

إِنّٰا لَمّٰا طَغَى الْمٰاءُ و تجاوز عن الحدّ حتى علا كلّ شيء في الأرض، و ارتفع على الجبال، أو طغى على خزّانه و لم يقدروا على ضبطه حَمَلْنٰاكُمْ يا بني آدم فِي السفينة اَلْجٰارِيَةِ السائرة على الماء، و إنّما كان غرق الكفّار و نجاة المؤمنين

لِنَجْعَلَهٰا لَكُمْ أيّها المؤمنون تَذْكِرَةً و عظة و دليلا واضحا على قدرتنا و غضبنا على الكفر و تكذيب الرسل وَ تَعِيَهٰا و تحفظها أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ و حافظة ما هو نافع لصاحبها بتذكّرة و التفكّر فيه، فانّ من تفكّر في غرق أهل الأرض بالطّوفان الذي علا على الجبال الشوامخ خمسة عشر ذراعا و إنجاء المؤمنين في السفينة، علم أنّ للعالم مدبّرا قادرا حكيما رحيما بمن وجده منتقما بمن أنكره و كذّب رسله.

في ذكر فضيلة

أمير المؤمنين عليه السّلام

روى الفخر الرازي و غيره من العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال لعلي عليه السّلام حين نزلت الآية: «سئلت اللّه تبارك و تعالى أن يجعلها اذنك يا علي» قال علي صلوات اللّه عليه:

«فما نسيت شيئا بعد ذلك، و ما كان لي أن أنسى»(2).

و في رواية ذكرها النقّاش: أخذ صلّى اللّه عليه و آله باذن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و قال: «هي هذه»(3).

فَإِذٰا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وٰاحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ فَدُكَّتٰا دَكَّةً وٰاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّمٰاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وٰاهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمٰانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاٰ تَخْفىٰ مِنْكُمْ خٰافِيَةٌ (18) فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هٰاؤُمُ اقْرَؤُا كِتٰابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاٰقٍ حِسٰابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ (22) قُطُوفُهٰا دٰانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّٰامِ الْخٰالِيَةِ (24) ثمّ شرع سبحانه و تعالى في بيان الحاقّة، و كيفية وقوعها عقيب بيان عظم شأنها و إهلاك مكذّبيها

ص: 323


1- . كذا، و الظاهر: سبع بلدات، أو سبع مدائن.
2- . تفسير الرازي 107:30، تفسير الطبري 35:29، الكشاف 600:4، الدر المنثور 267:8، تفسير روح البيان 10: 136.
3- . تفسير روح البيان 136:10.

بقوله:

فَإِذٰا نُفِخَ فِي الصُّورِ و قد مرّ بيان الصّور و النفخ فيه نَفْخَةٌ وٰاحِدَةٌ أولية

وَ حُمِلَتِ و قلعت اَلْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ من أماكنهما بالقدرة الإلهية، أو بالزلزلة فَدُكَّتٰا و ضربتا: يعني كلا بالآخر دَكَّةً و ضربة وٰاحِدَةً فتسير الجبال بها كثيبا مهيلا، و الأرض هباء منثورا

فَيَوْمَئِذٍ و حينئذ وَقَعَتِ الْوٰاقِعَةُ العظيمة، و نزلت النازلة الهائلة الفظيعة، و هي على ما قيل صيحة القيامة(1)

وَ انْشَقَّتِ السَّمٰاءُ و انفرجت لنزول الملائكة إلى الأرض فَهِيَ يَوْمَئِذٍ و في تلك الوقت وٰاهِيَةٌ مسترخية غير متماسكة كالعهن المنقوش

وَ الْمَلَكُ الذي يسكن في السماء يقفون بعد انشقاقها عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا و نواحيها و أكنافها.

قيل: إنّ الملائكة يقفون في حافات السماء لحظة ثمّ يموتون لقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (2) و يحتمل أنّ وقوفهم بعد موتهم و إحيائهم، و يحتمل كون الواقفين المستثنون بقوله: إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اللّٰهُ (3).

وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ و هو على ما قيل الفلك التاسع(4) ، و هو أعظم خلق خلقه اللّه، و به تحدّد الجهات فَوْقَهُمْ قيل: يعني فوق الملائكة الذين هم على أطراف السماء، أو فوق الحملة(5)يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت ثَمٰانِيَةٌ أملاك.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هم اليوم أربعة، فاذا كان يوم القيامة أيّدهم اللّه بأربعة اخرى»(6).

و روي أنّهم ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرضين السابعة، و العرش فوق رءوسهم، كلّهم مطرقون مسبّحون(7).

أقول: و من التخرّص بالغيب قول بعض علماء العامة: الأربعة اللاحقة الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، و مالك، و الشافعي، و أحمد(8).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «حملة العرش - و العرش العلم - ثمانية: أربعة منّا، و أربعة ممّن شاء اللّه»(7).

و عن القمي قال: حملة العرش ثمانية، لكلّ واحد منهم ثمانية أعين، كلّ عين طباق الدنيا(8).

قال: و في حديث آخر قال: «حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين، و أربعة من الآخرين، فأما

ص: 324


1- . تفسير روح البيان 137:10.
2- . تفسير الرازي 108:30، تفسير روح البيان 138:10، و الآية من سورة الزمر: 68/39.
3- . تفسير الرازي 108:30، تفسير روح البيان 138:10، و الآية من سورة الأنعام: 128/6.
4- . تفسير روح البيان 138:10.
5- . تفسير أبي السعود 24:9، تفسير روح البيان 139:10.
6- . تفسير روح البيان 139:10. (7و8) . تفسير روح البيان 139:10.
7- . الكافي 6/102:1، تفسير الصافي 219:5.
8- . بحار الأنوار 43/27:58، و تفسير الصافي 219:5، عن تفسير القمي.

الأربعة من الأولين: فنوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و أمّا من الآخرين: فمحمد، و علي، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام». و معني يحملون العرش: يحملون العلم(1).

أقول: يمكن أن يكون هذا الحديث تأويل الآية، فيكون المعنيان صحيحين.

يَوْمَئِذٍ أنتم أيّها الناس تُعْرَضُونَ على اللّه للسؤال و الحساب، كما يعرض العسكر على السّلطان لتعرف أحوالهم لاٰ تَخْفىٰ على اللّه ممّا صدر مِنْكُمْ في الدنيا فعلة خٰافِيَةٌ و مستورة من الغير، و كذا كلّ نية و سريرة، فيظهر في ذلك اليوم جميع الضمائر و السرائر على جميع الخلق، فيكمل بذلك سرور المؤمنين المخلصين، و يفتضح الكفار و المنافقين، و مع ذلك تتطاير صحف الأعمال، و يعطي كلّ أحد كتابه بيده

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ و اعطي كِتٰابَهُ و صحيفة عمله التي كتبتها الملائكة الحفظة بِيَمِينِهِ تعظيما له فَيَقُولُ فرحا و سرورا لمحبّيه من المؤمنين:

هٰاؤُمُ و خذوا، أو هلمّوا يا إخواني المؤمنين و أقربائي و أحبّائي اِقْرَؤُا كِتٰابِيَهْ و انظروا ما فيه من البشارة بالنجاة من النار و الدخول في الجنّة

إِنِّي ظَنَنْتُ في الدنيا أَنِّي مُلاٰقٍ يوم القيامة حِسٰابِيَهْ و إن احتملت أنّ اللّه لا يحاسبني و يدخلني الجنّة بغير حساب لشدّة رجائي بكرمه.

و قيل: إنّ الظنّ هنا بمعني اليقين(2) ، و المعنى أيقنت أنّي أبعث يوم القيامة و الاقي حساب أعمالي، فتهيّأت لهذا اليوم

فَهُوَ بفضل اللّه و بكرمه يستقرّ فِي عِيشَةٍ هنيئة و حياة رٰاضِيَةٍ مرضية صافية عن الكدورة مقرونة بالنّعم و الراحة و الكرامة، أعني أنّه متمكّن

فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ مرتفعة الدرجات و القصور و الأشجار التي

قُطُوفُهٰا دٰانِيَةٌ و قريبة ممّن يريدها ينالها قائما و قاعدا و مضطجعا بيده من غير تعب. و قيل: لا ينتظر إدراكها(3).

و يقال لهم

كُلُوا ممّا شئتم من الثّمار بلا منع وَ اشْرَبُوا من أنهار الخمر و العسل و اللّبن و ماء غير آسن هَنِيئاً و سائغا لكم بِمٰا أَسْلَفْتُمْ و قدّمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيّٰامِ الْخٰالِيَةِ و الأزمنة الماضية من زمان عمر في الدنيا. و قيل: في أيام صومكم(4).

روي انّه يقول اللّه: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت عيونكم و خمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، و كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية(5).

ص: 325


1- . تفسير القمي 384:2، تفسير الصافي 219:5.
2- . تفسير الرازي 112:30.
3- . تفسير روح البيان 142:10.
4- . تفسير روح البيان 143:10.
5- . تفسير روح البيان 143:10.

وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِشِمٰالِهِ فَيَقُولُ يٰا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتٰابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ مٰا حِسٰابِيَهْ (26) يٰا لَيْتَهٰا كٰانَتِ الْقٰاضِيَةَ (27) مٰا أَغْنىٰ عَنِّي مٰالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطٰانِيَهْ (29) هذا حال المؤمنين الصالحين في الآخرة

وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِشِمٰالِهِ تحقيرا له بأن تلوى - على ما قيل - يسراه إلى خلف ظهره، و يرى ما فيه من قبائح أعماله فَيَقُولُ تحزّنا و تحسّرا (1)يٰا أهل المحشر لَيْتَنِي و أتمنى أنّه لَمْ أُوتَ كِتٰابِيَهْ و لم أعط صحيفة أعمالي التي فيها جميع سيئاتي

وَ لَمْ أَدْرِ و لم أعلم مٰا حِسٰابِيَهْ فانّه ليس في أعمالي إلاّ ما يوجب العذاب.

ثمّ يتمنّى أنّ الموتة التي أدركته في الدنيا لم يكن بعدها بعث بقوله:

يٰا لَيْتَهٰا كٰانَتِ الْقٰاضِيَةَ و القاطعة لحياتي بحيث لم يكن بعدها بعث و لا حساب، و لم ألق ما ألقى من سوء العاقبة و اليوم

مٰا أَغْنىٰ و لم يدفع عَنِّي شيئا من العذاب مٰا كان (ليه) من المال و الأولاد و الأتباع.

قيل: إنّ مٰا استفهامية على سبيل الانكار، و المعنى أي شيء أغني ما كان لي من اليسار(2). و قيل:

يعني لم يغن عنّى المال الذي جمعته في الدنيا شيئا من العذاب(3) ، بل صار سببا لابتلائي(4) به.

هَلَكَ و ذهب عَنِّي اليوم سُلْطٰانِيَهْ و ملكي و استيلائي على الناس، و بقيت ضعيفا ذليلا مقهورا.

عن ابن عباس: يعني ضلّت عني حجّتي التي كنت احتجّ بها على محمّد في الدنيا(5). و قيل: يعني إنّما كنت انازع المحقّين بسبب الملك و السلطنة، فالآن ذهب ذلك الملك و بقي الوبال(6).

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا سَبْعُونَ ذِرٰاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كٰانَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لاٰ يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هٰاهُنٰا حَمِيمٌ (35) وَ لاٰ طَعٰامٌ إِلاّٰ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لاٰ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخٰاطِؤُنَ (37) و على أيّ تقدير يقول اللّه تعالى للملائكة الغلاظ و الشداد غضبا على العاصي:

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ و قيّدوه

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ و أقلوه بعنف

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا و طولها سَبْعُونَ ذِرٰاعاً فَاسْلُكُوهُ و أدخلوه و شدّوه بحيث لا يقدر على الحركة.

ص: 326


1- . تفسير روح البيان 144:10.
2- . تفسير الرازي 114:30.
3- . تفسير روح البيان 144:10. ( (4-5-6-7 ) . تفسير الرازي 114:30.

عن كعب الأحبار قال: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها، و لو وضعت حلقة منها على جبل لذاب مثل الرّصاص، تدخل السلسلة في فيه و تخرج من دبره، و يلوى فضلها على عنقه و جسده، و يقرن بها بينه و بين شيطانه(1).

قيل: إنّ السبعين كناية عن كثرة الطول(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها»(3).

و عنه عليه السّلام: «كان معاوية صاحب السلسلة التي قال اللّه عزّ و جلّ: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا» الآية. قال:

«و كان فرعون هذه الامّة»(4).

ثمّ كأنّه قالت خزنة النار: ما له يعذّب بهذا العذاب الشديد؟ فقال سبحانه:

إِنَّهُ كٰانَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ الْعَظِيمِ و من كفر به مع غاية عظمته كان عذابه في غاية العظمة.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء اعتقاده بيّن سوء عمله بقوله:

وَ لاٰ يَحُضُّ و لا يحرّض أهله و غيرهم عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ و إيكالهم القوت فضلا عن أن يعطى و يبذل من مال نفسه، و فيه دلالة على أنّ البخل من أعظم المعاصي، روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «البخل كفر، و الكافر في النار»(5).

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ و في ذلك الوقت هٰاهُنٰا و في عرصة القيامة حَمِيمٌ و قريب يحامي عنه و ينصره، أو يحترق له قلبه، بل أقرباؤه و أصدقاؤه، يفرّون منه

وَ لاٰ طَعٰامٌ له إِلاّٰ مِنْ غِسْلِينٍ و ما يسيل من جلود أهل النار روي أنّه لو وقعت قطرة منه على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم(6) ، و عليه يكون إطلاق الطعام عليه مع أنّه شراب من باب المجاز. و قيل: إنّه اسم شجر في النار(7)

لاٰ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخٰاطِؤُنَ طريق توحيد اللّه، المشركون به، كما عن ابن عباس(8). و قيل: هم الذي يتخطّون الحقّ إلى الباطل(7) ، فيشمل منكر الرسالة و الإمامة.

فَلاٰ أُقْسِمُ بِمٰا تُبْصِرُونَ (38) وَ مٰا لاٰ تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ (41) وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ (43)

ص: 327


1- . تفسير روح البيان 146:10.
2- . تفسير روح البيان 146:10.
3- . تفسير القمي 81:2، تفسير الصافي 221:5.
4- . الكافي 1/244:4، تفسير الصافي 221:5.
5- . تفسير روح البيان 147:10.
6- . تفسير روح البيان 147:10. (7و8) . تفسير روح البيان 148:10.
7- . تفسير الرازي 116:30، تفسير روح البيان 148:10.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أهوال القيامة و أحوال السعداء و الأشقياء، و كان المشركون و الأشقياء ينكرون جميعها و يكذّبون القرآن، بيّن سبحانه عظمة القرآن و أنّه كلام اللّه المجيد بقوله تعالى:

فَلاٰ أُقْسِمُ و قيل: إنّ التقدير فلا مجال لتكذيب المكذّبين(1) للقرآن و ما أخبر به من البعث و النشور، اقسم بِمٰا تُبْصِرُونَ و ما تشاهدون من الجسمانيات

وَ مٰا لاٰ تُبْصِرُونَ و لا تشاهدون من العقول و الروحانيات

إِنَّهُ من أوّله إلى آخره لَقَوْلُ رَسُولٍ صادق مبعوث من جانب اللّه كَرِيمٍ عليه عظيم الشأن عنده، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله أو جبرئيل، جاء به من قبل اللّه

وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ كما تزعمون، و أنتم إيمانا قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ بالقرآن أنّه كلام اللّه، و بمن جاء به أنّه رسول اللّه

وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ كما تدّعون ذلك مرة اخرى تذكّرا قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ و لذا يلتبس عليكم الأمر.

قيل: إنّ الايمان و التذكّر القليل بالشيء الظنّ به و الميل إليه(2) و قيل: إنّ القليل في الآيتين كناية عن العدم(3). و قيل: إنّ الايمان القليل اليقين بالقلب و الجحود باللسان(4). أو الايمان ببعض أحكام القرآن دون(2) بعض.

و إنّما قرن سبحانه عدم الايمان بالشاعرية؛ لأنّ عدم مشابهة القرآن بالشعر أمر بيّن لا ينكره إلاّ المعاند فلذا وبّخوا على عدم الايمان بخلاف مبانيه(3) للكهانة، فإنّها ليست بذاك الوضوح، فانّ من تذكّر أحوال النبي صلّى اللّه عليه و آله و معاني القرآن و تأمّل فيهما(4) علم أنّ القرآن ليس بكهانة، فانّ الكاهن يأتيه الشيطان و يلقي إليه أخبار السماء، و ما يقوله النبي صلّى اللّه عليه و آله مشتمل على ذمّ الشياطين و سبّهم، فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين ؟ و كذا معاني القرآن [فانها تشتمل على] الدعوة إلى العقائد الحقّة و تهذيب الاخلاق و الأعمال الصالحة بخلاف أقوال الكهنة، فلو تذكّر كفّار مكّة معاني القرآن و معاني أقوال الكهنة لما قالوا: إنّه كاهن، و إن القرآن كهانة، بل هو

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ نزّله بتوسّط جبرئيل على رسوله، فهو قول اللّه و كلامه لأنّه نزّله، و قول جبرئيل لأنّه نزل به، و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه أنذر به.

وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ (44) لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنّٰا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكٰافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)

ص: 328


1- . تفسير طبرى 41:29. (2-3-4) . تفسير روح البيان 149:10.
2- . تفسير روح البيان 149:10 و 150.
3- . في تفسير روح البيان: مباينته.
4- . في النسخة: منهما.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) ثمّ أكّد سبحانه أنّه كلامه لا كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله تعالى:

وَ لَوْ تَقَوَّلَ محمّد عَلَيْنٰا و نسب إلينا كذبا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ و الكلمات التي لم نقلها

لَأَخَذْنٰا بعضا مِنْهُ للانتقام بِالْيَمِينِ و القوّة.

و قيل: إنّ المراد باليمين الحقّ(1) و المعنى لانتقمنا منه بالحقّ

ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ و العرق الذي به حياته، و هو كناية عن إماتته. و قيل: يعني لضربنا عنقه(2).

و على أيّ تقدير، المراد إهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه

فَمٰا مِنْكُمْ أيّها الناس مِنْ أَحَدٍ حينئذ عَنْهُ حٰاجِزِينَ و مانعين بالقوّة أو الشفاعة.

ثمّ إنّه تعالى بعد تعظيم كتابه بالغ في مدحه بذكر فائدته العظيمة بقوله:

وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ و عظة لِلْمُتَّقِينَ من اتّباع الهوى و العصبية في مذهبه الباطل، فانّهم المنتفعون به

وَ إِنّٰا لَنَعْلَمُ أَنَّ كثيرا مِنْكُمْ أيّها العرب مُكَذِّبِينَ له لحبّ الدنيا و اتّباع الهوى و التوغّل في العصبية، و كافرين به حسدا و بغيا

وَ إِنَّهُ يوم القيامة لَحَسْرَةٌ و ندامة عَلَى الْكٰافِرِينَ به و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله عند مشاهدتهم عظمته و شفاعته لتاليه و ثواب المصدّقين به، و في الدنيا أيضا إذا رأوا عز المؤمنين به و ذلّة الجاحدين له قالوا:

وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ و فيه من المبالغة ما لا يخفى، فاذا كان القرآن أنزله إليك بهذه المرتبة من العظمة و الفائدة، و نعمته عليك فوق جميع النّعم

فَسَبِّحْ اللّه تنزيها له.

عن الرضا عليه السّلام: «بالتقول عليه، و شكرا له على إيحائه عليك»(3) مستعينا في تسبيحه بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قيل: المراد بالاسم المسمّى(4).

روي أنّه لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اجعلوها في ركوعكم»(5).

روى بعض العامة عن عمر بن الخطاب أنّه قال: خرجت بمكة يوما متعرّضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فجئت فوقفت وراءه، فافتتح سورة الحاقة، فلمّا سمعت سرد القرآن قلت في نفسي: إنّه لشاعر كما تقول قريش، حتّى بلغ إلى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ * وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ ثمّ مرّ حتّى انتهى إلى آخر السورة، فأدخل اللّه في قلبي الإسلام(4).

ص: 329


1- . تفسير الرازي 118:30.
2- . تفسير روح البيان 151:10.
3- . تفسير الصافي 223:5. (4و5) . تفسير روح البيان 152:10.
4- . تفسير روح البيان 153:10.

عن الكاظم عليه السّلام: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبرئيل عن اللّه في ولاية علي عليه السّلام» قال: «قالوا:

إنّ محمدا كذب على ربّه، و ما أمره اللّه بهذا في عليّ، فأنزل اللّه تعالى بذلك قرآنا فقال: إنّ ولاية علي تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعٰالَمِينَ * وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ... الآية، ثمّ عطف القول فقال: إنّ ولاية علي لتذكرة للمتّقين - للعالمين - و إنّ عليا لحسرة على الكافرين، و إنّ ولايته لحقّ اليقين، فسبّح - يا محمد - باسم ربك العظيم. يقول: اشكر ربّك العظيم الذي اعطاك هذا الفضل»(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام فأظهر ولايته، قالا جميعا: و اللّه ما هذا من تلقاء اللّه، و لا هذا إلاّ شيء أراد أن يشرّف به ابن عمّه، فأنزل اللّه تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا الآيات أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ يعني فلانا و فلانا وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكٰافِرِينَ يعني عليا عليه السّلام»(2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه اللّه حسابا يسيرا»(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أكثر من قراءة الحاقة، فان قراءتها في الفرائض و النوافل من الايمان باللّه و رسوله، [لأنّها] إنّما نزلت في أمير المؤمنين و معاوية، و لم يسلب قارئها دينه حتى يلقى اللّه عز و جلّ»(4).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسيرها.

ص: 330


1- . الكافي 91/359:1، تفسير الصافي 223:5.
2- . تفسير العياشي 2423/22:3، تفسير الصافي 223:5.
3- . تفسير أبي السعود 28:2.
4- . ثواب الأعمال: 119، تفسير الصافي 223:5.

في تفسير سورة المعارج

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ (1) لِلْكٰافِرينَ لَيْسَ لَهُ دٰافِعٌ (2) مِنَ اللّٰهِ ذِي الْمَعٰارِجِ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة الحاقة المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة و عذاب مكذّبيه و أهواله حين وقوعه، و حسن حال المؤمنين به و سوء حال الكافرين و مانعي حقوق المساكين، و أنّه ليس لهم في ذلك اليوم حميم، و بيان عظمة القرآن و تسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة المعارج المتضمّنة لبيان عذاب الكفار، و قرب وقوع القيامة و طول مدّتها و أهوالها، و غفلة الحميم عن حميمه، و حسن حال المؤمنين المؤدّين حقوق الفقراء، و سوء حال الكفّار، و تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمره(1) بالصبر على أذى قومه إلى غير ذلك من وجوه المناسبات بين السورتين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ حكى سبحانه شدّة خباثة بعض الكفّار و جرأته على اللّه بقوله:

سَأَلَ سٰائِلٌ و دعا داع بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ لا محالة

لِلْكٰافِرينَ و عليهم كما عن ابن عباس، إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة(2)لَيْسَ لَهُ إذا جاء وقته أو اقتضته حكمته دٰافِعٌ و مانع

مِنَ جانب اَللّٰهِ ذِي الْمَعٰارِجِ و مالك السماوات التي هي المصاعد للملائكة الذين هم مدبّرات الامور و مقسّمات الأرزاق، و إنّما سمّى السماوات معارج لكون بعضها فوق بعض كالمدارج، أو المراد ذي مراتب من النّعم، أو ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنّة.

عن ابن عباس: نزلت الآية في النّضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث قال إنكارا للقرآن و استهزاء به: اَللّٰهُمَّ إِنْ كٰانَ هٰذٰا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ السَّمٰاءِ أَوِ ائْتِنٰا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (3).

و قيل: إنّه لمّا بعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و خوف المشركين بالعذاب، قال بعضهم لبعض: سلوا محمدا لمن

ص: 331


1- . في النسخة: و أمر. (2و3) . تفسير روح البيان 153:10.

هذا العذاب، و بمن يقع ؟ فنزلت سَأَلَ سٰائِلٌ. (1).

و الباء في قوله: بِعَذٰابٍ في معنى (عن). و قيل: إنّ المراد من السائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حيث استعجل بعذاب الكافرين، فبشّره اللّه بأنّ العذاب واقع بهم لا دافع له بقرينة قوله بعد ذلك:

فَاصْبِرْ (2) .

تَعْرُجُ الْمَلاٰئِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كٰانَ مِقْدٰارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (3) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (4) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (5) وَ نَرٰاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمٰاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ (6) وَ لاٰ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) ثمّ بيّن سبحانه أنّ إطلاق المعارج على السماوات بلحاظ عروج الملائكة بقوله:

تَعْرُجُ و تصعد اَلْمَلاٰئِكَةُ الذين هم مدبّرات الامور وَ الرُّوحُ الامين المسمّى بجبرئيل بعد فراغهم من امور الدنيا لانهائها بأمر اللّه إِلَيْهِ تعالى فِي أوّل يَوْمٍ و زمان كٰانَ مِقْدٰارُهُ من أوّله إلى آخره خمسين أَلْفَ سَنَةٍ من سني الدنيا، و هو يوم القيامة و زمان وقوف الناس للحساب، و هذا الطول بالنسبة إلى الكفار، كما روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أطول هذا اليوم: فقال: «و الذي نفسي بيده إنّه ليخفّ عن المؤمن حتّى يكون عليه أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا»(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ للقيامة خمسين موقفا، كلّ موقف مقام(4) ألف سنة» ثمّ تلا هذه الآية(5).

و قيل: إنّ هذا التقدير على سبيل الفرض، و المقصود أنّه لو اشتغل بالقضاء بين الناس أعقل الناس و أذكاهم لبقي فيه خمسين ألف عام، و اللّه يفرغ من حسابهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا(6) كما عن الصادق أنّه قال: «لو ولي الحساب غير اللّه لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، و اللّه سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة»(7).

و قال في رواية اخرى: «لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنّة، و أهل النار في النار»(8).

و يمكن أن يقال: إنّ التقدير لعروج الملائكة لا ليوم القيامة، كما قال بعض(9). و المعنى أنّ الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد غيرهم من أهل الدنيا أن يصعد إليها لا يمكنه إلاّ في مدّة خمسين ألف

ص: 332


1- . تفسير الرازي 121:30.
2- . تفسير الرازي 121:30، و الآية من سورة المعارج: 5/70.
3- . في الكافي: مقداره.
4- . الكافي 108/143:8، تفسير الصافي 225:5.
5- . تفسير الرازي 124:30. (7و8) . مجمع البيان 531:10، تفسير الصافي 225:5.
6- . مجمع البيان 530:10.
7- . مجمع البيان 531:10، تفسير الصافي 225:5، تفسير الرازي 124:30.

سنة، و لكن الملائكة يصعدون إليها في ساعة قليلة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام و قد ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به إلى ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش»(1).

و روى القمّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «تعرج الملائكة و الروح في صبح ليلة [القدر] إليه من عند النبيّ و الوصي»(2).

فَاصْبِرْ يا محمد، على استهزاء قومك و أذاهم صَبْراً جَمِيلاً حسنا لا جزع فيه و لا شكوى إلى غير اللّه مع انتظار الفرج بلا استعجال، و لا تدع على قومك لاستهزائهم بوعدك إيّاهم العذاب

إِنَّهُمْ لجهلهم و حماقتهم يَرَوْنَهُ و يزعمونه بَعِيداً عن إمكان الوقوع و يحيلونه، لاستبعادهم إحياء العظام الرميم ثانيا حتى يمكن لهم التألّم بالعذاب

وَ نحن نَرٰاهُ و نعلمه قَرِيباً من الوقوع لإمكان إعادة خلقهم و قدرتنا عليه و استحقاقهم للعذاب.

و قيل: إنّهم يرون الموت و البعث بعيدا لبعد آمالهم، و نراه قريبا لأنّ كلّ آت قريب(3).

و أمّا وقوعه فانّه

يَوْمَ تَكُونُ السَّمٰاءُ في اللون كَالْمُهْلِ و خبث الحديد المذاب، أو الفضّة المذابة كما عن ابن مسعود(4) ، أو كالقير و القطران في سوادهما(5) ، أو كدرديّ الزيت(6) في سيلانه على مهل لثخانته (7)

وَ تَكُونُ الْجِبٰالُ كلّها في سيرورتها ألوانا مختلفة كَالْعِهْنِ و الصوف المصبوغ، لاختلاف ألوان الجبال منها بيض و منها حمر،

وَ منها غرابيب سود.

ثمّ لكثرة أهوال اليوم لاٰ يَسْئَلُ حَمِيمٌ و قريب حَمِيماً و قريبا عن حاله و لا يكلّمه، لاشتغال كلّ بنفسه، فكيف الأجانب ؟

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صٰاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاّٰ إِنَّهٰا لَظىٰ (15) نَزّٰاعَةً لِلشَّوىٰ (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلّٰى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعىٰ (18)

ص: 333


1- . الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 225:5.
2- . تفسير القمي 386:2، تفسير الصافي 225:5.
3- . تفسير روح البيان 159:10.
4- . تفسير الرازي 125:30، تفسير روح البيان 159:10.
5- . تفسير روح البيان 159:10.
6- . درديّ الزيت: ما رسب أسفله.
7- . تفسير روح البيان 159:10.

ثمّ دفع سبحانه توهّم أنّ عدم سؤالهم لعلّه لعدم رؤيتهم أو عدم معرفة بعضهم بعضا بقوله:

يُبَصَّرُونَهُمْ و يعرفونهم، فيعرف الرجل أباه و ابنه و أخاه و عشيرته - و قيل: إنّ الملائكة يعرفونهم - و مع ذلك لا يسألهم لاشتغالهم بما هم فيه(1).

عن ابن عباس: يتعارفون ساعة ثمّ يتناكرون(2).

بل من شدّة عذاب ذلك اليوم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ و يشتاق الكافر و العاصي لَوْ يَفْتَدِي و يحفظ نفسه مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ الذي ابتلي به بِبَنِيهِ و أولاده الذكور الذين هم أعزّ الأنفس عنده

وَ صٰاحِبَتِهِ و زوجته المحبوبة عنده وَ أَخِيهِ الذي كان ظهره و معينه في الشدائد

وَ فَصِيلَتِهِ و أقاربه اَلَّتِي كانت تُؤْوِيهِ و تضمّه إلى نفسه، و تحفظه في الدنيا بحقّ القرابة و المحبة من الشدائد، كالآباء و الأعمام و الأخوال و غيرهم

وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الجنّ و الإنس جَمِيعاً لو كانوا تحت يديه و في سلطانه ثُمَّ يُنْجِيهِ ذلك الافتداء.

كَلاّٰ و هيهات أنّ الافتداء ينجيه من النار التي وصفها اللّه سبحانه بقوله: إِنَّهٰا لَظىٰ و لهب خالص لا يخالطه دخان و قيل: إنّ اللّظى علم للنار أو للدّرك الثاني من جهنّم(3) ، و هي

نَزّٰاعَةً و جذّابة لِلشَّوىٰ و الأعضاء الواقعة في أطراف الجسد و قلاّعة لها بقوّة الاحتراق و شدّة الحرارة، أو نزّاعة للجلود الرءوس و تقشيرها عنه.

قيل: لا تترك جلدا و لا لحما و لا عصبا إلاّ أحرقته(4).

تَدْعُوا و تجلب إلى نفسها كالمغناطيس الذي يجلب الحديد، أو تهلك مَنْ أَدْبَرَ عن التوحيد و الحقّ و أعرض عنه وَ تَوَلّٰى عن طاعة ربّه و رسوله، و استنكف عنه، و تلتقطهم كما يلتقط الطير الحبّ. و قيل: إنّ المراد جلب زبانية النار بحذف المضاف(5).

وَ جَمَعَ المال حرصا و حبّا للدنيا فَأَوْعىٰ و كنز لطول الأمل، و لم يؤدّ زكاته و حقوقه الواجبة فيه، و تشاغل به عن الدين، و تكبّر على الفقراء باقتنائه(6).

إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ دٰائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ

ص: 334


1- . تفسير روح البيان 160:10
2- . تفسير روح البيان 160:10
3- . تفسير روح البيان 161:10.
4- . تفسير الرازي 128:30.
5- . تفسير الرازي 128:30.
6- . في النسخة: باقتنامه، و ما أثبتناه من تفسير روح البيان 162:10.

مِنْ عَذٰابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذٰابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ (29) إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهٰادٰاتِهِمْ قٰائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ (34) ثمّ ذمّ سبحانه الانسان بقوله:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ بالطبع خُلِقَ هَلُوعاً ثمّ فسر سبحانه الهلوع بقوله:

إِذٰا مَسَّهُ و أصابه اَلشَّرُّ كالمرض و الفقر و الخوف و غيرها من البلايا كان جَزُوعاً و كثير القلق و الشكوى لضعفه

وَ إِذٰا مَسَّهُ و وصل إليه اَلْخَيْرُ من الصحة و الغنى كان مَنُوعاً و شديد البخل و مبالغا في الامساك لطول أمله و جهله بالقسمة

إِلاَّ الْمُصَلِّينَ و لكن لا مطلقا بل

اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ دٰائِمُونَ و على أدائها مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل، لاهتمامهم على تقديم رضى اللّه على رضى أنفسهم.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الذين يقضون ما فاتهم من الليل بالنهار، و ما فاتهم من النهار بالليل»(1).

وَ إلاّ اَلَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ و نصيب معين أوجبوه على أنفسهم تقربا إلى اللّه

لِلسّٰائِلِ بالكفّ من الناس وَ الْمَحْرُومِ و من لا يسأل حياء و توكّلا على اللّه.

عن السجاد عليه السّلام: «الحقّ المعلوم شيء يخرجه من ماله، ليس من الزكاة، و لا من الصدقة المفروضتين، هو الشيء يخرجه من ماله إن شاء أكثر و إن شاء أقلّ على قدر ما يملك، يصل به رحما، و يقوّي به ضعيفا، و يحمل به كلاّ، و يصل به أخا له في اللّه أو لنائبة تنوبه»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «المحروم المحارف(3) الذي قد حرم كدّ يده في الشراء و البيع»(4).

و في رواية: «المحروم الذي ليس بعقله بأس، و لم يبسط له الرزق، و هو محارف»(5). يعني أنّهم أهل الكسب و الصنعة لا السؤال.

وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ و يؤمنون بدار الجزاء

وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذٰابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون أن يصيبهم فيتعبون أنفسهم في طاعة ربّهم بأداء الواجبات و ترك المحرّمات و بذل الأموال،

ص: 335


1- . الخصال: 10/628، تفسير الصافي 227:5.
2- . الكافي 11/500:3، تفسير الصافي 227:5.
3- . المحارف: المحروم يطلب فلا يرزق.
4- . الكافي 12/500:3، التهذيب 312/108:4، تفسير الصافي 227:5.
5- . الكافي 12/500:3، التهذيب 313/108:4، تفسير الصافي 227:5.

و هم مع ذلك في جميع أحوالهم خائفون لما عملوا

إِنَّ عَذٰابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ و إن بالغوا في الطاعة لجهلهم بعاقبة امورهم و واقعياتها، فلعلّهم قصّروا فيما هو من وظائفهم و يعذّبون عليه

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ و سوآتهم من القبل و الدّبر حٰافِظُونَ من نظر الغير و مسّه

إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ و نسائهم أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ من الجواري فَإِنَّهُمْ على عدم حفظها من مسمين(1) و نظرهنّ غَيْرُ مَلُومِينَ عند العقلاء و غير مؤاخذين عند الشرع، و فيه إشعار بأنّ في ملامة العقلاء على ترك التحفّظ كفاية لا حاجة إلى نهي الشارع

فَمَنِ ابْتَغىٰ و طلب لنفسه وَرٰاءَ ذٰلِكَ المذكور من الأزواج و الإماء للاستمتاع فَأُولٰئِكَ المبتغون هُمُ العٰادُونَ و المتجاوزون لحدود العقل و الشرع الكاملون في الظّلم على النفس، و يدخل فيه الاستمناء فانّه نكاح النفس. روي أنّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار، فنزلت الآية(2).

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ و ما يودع عندهم وَ عَهْدِهِمْ سواء كان من العهود التي بينه و بين اللّه، أو بينه و بين الناس رٰاعُونَ و مجدّون في المحافظة

وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهٰادٰاتِهِمْ و لو على أنفسهم، أو الوالدين و الأقربين قٰائِمُونَ و مؤدّون حقّ الأداء، و الجمع باعتبار اختلافه الشهادات و كثرتها، و إنّما خصّها بالذكر مع دخولها فى الأمانات لكثرة فضلها. و عن ابن عباس قال: يريد الشهادة بأنّ اللّه واحد لا شريك له(3).

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ بحفظ أجزائها و شرائطها و آدابها. في الحديث: «من حافظ عليها كانت له نورا و برهانا و نجاة يوم القيامة، و من لم يحافظ عليها لم يكن له نور و لا برهان و لا نجاة، و كان يوم القيامة مع قارون و فرعون و هامان و ابي بن خلف»(4).

قيل: إنّ ذكر الصلاة أوّلا و آخرا للإشارة بأنّها أوّل ما يجب على العبد أداءه بعد الايمان و آخر ما يجب رعايته بعده(5).

عن الكاظم عليه السّلام: «اولئك أصحاب الخمسين صلاة(4) من شيعتنا»(5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «هي الفريضة، و الذين هم على صلاتهم دائمون هي النافلة»(6).

أُولٰئِكَ فِي جَنّٰاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمٰا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمٰالِ عِزِينَ (37)

ص: 336


1- . كذا، و الظاهر: مسهنّ.
2- . تفسير روح البيان 165:10 و 166.
3- . تفسير الرازي 131:30. (4و5) . تفسير روح البيان 167:10.
4- . في النسخة: أصحاب الحسين.
5- . مجمع البيان 535:10، تفسير الصافي 228:5.
6- . الكافي 12/269:3، تفسير الصافي 228:5.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة أعمالهم بقوله:

أُولٰئِكَ المتّصفون بتلك الصفات الكريمة مستقرون يوم القيامة فِي جَنّٰاتٍ لا توصف بالبيان، و لا يدرك كنهها الانسان، و هم مع ذلك مُكْرَمُونَ بغاية الاكرام، و معظّمون بنهاية التعظيم.

ثمّ روي أنّ الكفّار و المشركين كانوا محلّقين حول رسول اللّه حلقا حلقا و فرقا فرقا، يستمعون القرآن و يستهزءون به، و يقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمّد فلندخلها قبلهم، فنزل قوله:

فَمٰا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا (1) و أي حال عرضهم أنّهم قِبَلَكَ يا محمد و حولك حال كونهم مُهْطِعِينَ و مسرعين نحوك، أو مادّين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك

عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمٰالِ منك عِزِينَ و مجتمعين فرقا فرقا، و محلّقين عليك حلقا حلقا. و قيل: إنّ المراد منهم المنافقون(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام - و قد ذكر المنافقين - قال: «و ما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتألّفهم و يقرّبهم و يجلسهم عن يمينه و شماله حتى أذن اللّه عزّ و جلّ له في إبعادهم بقوله: اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (3) و بقوله: فَمٰا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ... الآيات»(4).

أقول: و يمكن أن يكون المراد المعنى العام.

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاّٰ إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِمّٰا يَعْلَمُونَ (39) فَلاٰ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشٰارِقِ وَ الْمَغٰارِبِ إِنّٰا لَقٰادِرُونَ (40) عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ سِرٰاعاً كَأَنَّهُمْ إِلىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كٰانُوا يُوعَدُونَ (44) ثمّ أنكر سبحانه عليهم الطمع في دخولهم الجنة بقوله:

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ و نفس مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ في القيامة جَنَّةَ نَعِيمٍ كالمسلمين بغير إيمان

كَلاّٰ و حاشا أن يدخلوها إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِمّٰا يَعْلَمُونَ من نطفة قذرة، فكيف يتأهّلون لدخول الجنة التي هي منزل المطهّرين حتّى يتطهّروا بالايمان و المعرفة ؟ و قيل في ارتباط الآية وجوه أخر(5).

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على إهلاك جميعهم بقوله:

فَلاٰ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشٰارِقِ التي تكون للشمس

ص: 337


1- . تفسير الرازي 131:30، تفسير روح البيان 169:10.
2- . تفسير الرازي 131:30.
3- . المزمل: 10/73.
4- . الاحتجاج: 235، تفسير الصافي 228:5.
5- . تفسير الرازي 132:30.

في السنة لكلّ يوم مشرق وَ بربّ اَلْمَغٰارِبِ التي تكون فيها. و قيل: جمعها باعتبار الكواكب السيّارة لكل مشرق و مغرب(1). أو المراد من المشرق ظهور دعوة نبي، و من المغرب موته.

إِنّٰا لَقٰادِرُونَ بالذات

عَلىٰ أَنْ نهلك جميعهم عقوبة على معاصيهم و نُبَدِّلَ منهم خلقا آخر خَيْراً و أفضل مِنْهُمْ مكانهم وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ و مغلوبين و عاجزين إن أردنا ذلك، و إنّما أخّرنا عقوبتهم للحكم البالغة المقتضية لتأخيرها

فَذَرْهُمْ يا محمد ودعهم يَخُوضُوا و يشتغلوا بباطلهم من عبادة الأصنام و الاستهزاء بالقرآن و إيذاء المؤمنين وَ يَلْعَبُوا بالدنيا و زخارفها التي لا نفع لها، كاشتغال الأطفال بالأشغال التي لا غرض عقلائي فيها، و يستمروا عليها حَتّٰى يُلاٰقُوا و يعاينوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ في الدنيا بلسانك أنّهم يعذّبون فيه عقوبة على كفرهم و سيئات أعمالهم، أعني من ذلك اليوم

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدٰاثِ و القبور حال كونهم سِرٰاعاً و راكضين الى الداعي و هو إسرافيل، أو إلى عرصة المحشر كَأَنَّهُمْ في الإسراع في السير إِلىٰ نُصُبٍ و أحجار نصبوها في الدنيا للعبادة أو للمسابقة إليها بالعدو يُوفِضُونَ و يسرعون أو يتسابقون حال كونهم

خٰاشِعَةً أَبْصٰارُهُمْ لا يرفعونها من الأرض خوفا من رؤية العذاب تَرْهَقُهُمْ و تحيطهم ذِلَّةٌ و مهانة ذٰلِكَ اليوم الكثير الأهوال اَلْيَوْمُ الَّذِي كٰانُوا في الدنيا يُوعَدُونَ بلسان رسولهم، و هم ينكرون وقوعه و يستهزءون بالوعد به.

عن الصادق قال: «أكثروا من قراءة سَأَلَ سٰائِلٌ فانّ من أكثر قراءتها لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله، و أسكنه الجنّة مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله»(2).

ص: 338


1- . تفسير الرازي 132:3، تفسير روح البيان 170:10.
2- . ثواب الاعمال: 119، مجمع البيان 527:10، تفسير الصافي 229:5.

في تفسير سورة نوح

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1) قٰالَ يٰا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللّٰهِ إِذٰا جٰاءَ لاٰ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قٰالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهٰاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعٰائِي إِلاّٰ فِرٰاراً (6) وَ إِنِّي كُلَّمٰا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيٰابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبٰاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهٰاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرٰاراً (9) ثمّ لمّا ختمت سورة المعارج المتضمّنة لسؤال العذاب على الكفّار، و أمر الرسول بالصبر على تكذيب المكذبين، و بيان قدرته تعالى على إهلاك جميع الخلق، اردفت بسورة نوح في النّظم المتضمّنة لشكاية نوح من تكذيب المكذّبين تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و سؤال نوح العذاب على الكفّار، و وقوع إهلاك جميع الخلق بالطّوفان، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصّة بعثة نوح، و كيفية دعوته و شكايته منهم(1) تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً الذي هو أول اولي العزم من الرسل و شيخهم، من جزيرة كان يسكنها - و اسمه عبد الغفّار على ما قيل (2)- إِلىٰ قَوْمِهِ (3) و هم جميع من في الأرض، و كانوا يعبدون الأصنام، و قلنا له: أَنْ أَنْذِرْ و خوّف قَوْمَكَ من عذاب اللّه على الشّرك به و عصيانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ من جانب اللّه عَذٰابٌ أَلِيمٌ غضبا عليهم.

ص: 339


1- . في النسخة: عنهم.
2- . تفسير روح البيان 171:10.
3- . زاد في النسخة: من.

قيل: بعث و هو ابن أربعين، أو ثلاثمائة و خمسين، أو أربعمائة سنة(1).

فلمّا جاء نوح بأمر اللّه إلى قومه

قٰالَ لهم بلين و شفقة: يٰا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ من قبل اللّه نَذِيرٌ و مخوّف من سوء عاقبة الشرك باللّه و عصيانه مُبِينٌ و موضح لكم ما ارسلت به ببيان يفهمه كلّ أحد و هو

أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ بامتثال أوامره، و لا تشركوا به شيئا وَ اتَّقُوهُ و احذروا من مخالفته وَ أَطِيعُونِ و اسمعوا نصائحي و مواعظي، فان قبلتم قولي و أجبتم دعوتي

يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ ما سلف مِنْ ذُنُوبِكُمْ و معاصيكم كلّها وَ يُؤَخِّرْكُمْ و يكمل عمركم المقدّر إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معين لموتكم، و لا يعاجلكم بالعقوبة و لا يهلككم بالعذاب.

إِنَّ أَجَلَ اللّٰهِ المقدّر لموت كلّ أحد مطيعا كان أو عاصيا، و إذا حلّ الوقت المعين في اللوح المحفوظ لموت كلّ نفس إِذٰا جٰاءَ و وصل لاٰ يُؤَخَّرُ و لا يغيّر بالزيادة لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك لسارعتم إلى الايمان و الطاعة، و بادرتم إلى ما أمركم به، لأنّكم لا تدرون متى يجيء، فلم يعتن بقوله أحد، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد و ينصحهم بأبلغ نصح، فلمّا طالت المدّة و عارضه قومه و آذوه حتى ضاق صدره و انقطعت عنه الحيل، ناجى ربّه و شكا إليه قومه،

قٰالَ رَبِّ إنّك تعلم إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى توحيدك و طاعتك لَيْلاً وَ نَهٰاراً من غير توان و فتور.

قيل: كان يجيء باب البيوت في الليالي فيقرع و يقول لصاحب البيت قل لا إله إلا اللّه(2).

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعٰائِي إلى توحيدك و طاعتك إِلاّٰ فِرٰاراً ممّا دعوتهم إليه، و نفرة ممّا نصحتهم به، و امتناعا من قبول دعوتي

وَ إِنِّي كُلَّمٰا دَعَوْتُهُمْ إلى التوحيد و الإقرار برسالتي لِتَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم و سيئاتهم جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ و سدّوا مسامعهم لئلا يسمعوا قولي تنفّرا منه وَ اسْتَغْشَوْا و لفّوا برءوسهم ثِيٰابَهُمْ و تغطّوا بها لئلا يروني و لا أراهم وَ أَصَرُّوا على كفرهم و معاصيهم، و أقاموا عليها لجاجا و عنادا وَ اسْتَكْبَرُوا و تعظّموا عن إقباحي و قبول دعوتي اِسْتِكْبٰاراً شديدا لا يصرفهم عنه شيء

ثُمَّ إِنِّي لمّا رأيت أنّ دَعَوْتُهُمْ سرا غير مفيدة(3) لهدايتهم، دعوتهم و أجهرت في دعوتهم جِهٰاراً بليغا، و اظهرت دعائي إلى الايمان إظهارا شديدا

ثُمَّ إِنِّي رأيت أنّ الإجهار وحده لا يؤثّر فيهم أَعْلَنْتُ دعوتي لَهُمْ في مجامعهم و مجالسهم وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ الدعوة في أبواب بيوتهم و في خلواتهم إِسْرٰاراً و أخفيتها إخفاء.

ص: 340


1- . تفسير روح البيان 171:10، و فيه: أربعمائة و ثمانين.
2- . تفسير روح البيان 174:10.
3- . في النسخة: مفيد.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً (10) يُرْسِلِ السَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (12) مٰا لَكُمْ لاٰ تَرْجُونَ لِلّٰهِ وَقٰاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوٰاراً (14) ثمّ لمّا بيّن مراتب دعوته بيّن كيفيتها بقوله:

فَقُلْتُ لهم: يا قوم اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ و اسألوه ستر ذنوبكم إِنَّهُ تعالى كٰانَ غَفّٰاراً و ستّارا للذنوب، فاذا استغفرتم اللّه

يُرْسِلِ السَّمٰاءَ و ينزل عَلَيْكُمْ الأمطار النافعة حال كونها مِدْرٰاراً و سيالا، أو متواترا.

قيل: إنّ قومه قالوا: إن كان ديننا حقّا فكيف نتركه، و إن كان باطلا فكيف يغفر لنا بعد ما كنّا عليه دهرا طويلا؟ فأمرهم اللّه بالاستغفار، و وعدهم عليه بالعوائد الدنيوية العاجلة، لأنّها أوقع في قلوبهم من المغفرة(1).

و قيل: لمّا كذّبوا نوحا بعد تكرار الدعوة، حبس اللّه عنهم قطر السماء، و أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة(2). و قيل: سبعين، فوعدهم نوح إن آمنوا أن يرزقهم الخصب و يدفع عنهم ما كانوا فيه(3) بقوله:

وَ يُمْدِدْكُمْ و يقوّيكم بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ و يزدكم قوة إلى قوّتكم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب إيمانكم و استغفاركم جَنّٰاتٍ و بساتين كثيرة وَ يَجْعَلْ لَكُمْ فيها أَنْهٰاراً جارية تزيّنها بالنبات، و تحفظها من اليبس، و تفرح بها القلوب.

ثمّ لامهم نوح على تركهم الايمان باللّه بقوله:

مٰا لَكُمْ و أيّ مانع فيكم ؟ أنّكم لاٰ تَرْجُونَ و لا تعتقدون لِلّٰهِ الخالق لجميع الأشياء وَقٰاراً و عظمة مقتضية لايمانكم به و خضوعكم له

وَ الحال أنّه قَدْ خَلَقَكُمْ بقدرته أَطْوٰاراً و تارات مختلفة، خلقكم أولا ترابا، ثمّ أغذية، ثمّ أخلاطا، ثمّ نطفا، ثمّ علقا، ثمّ مضغا، ثمّ عظاما، ثمّ لحوما، ثمّ أنشأكم خلقا آخر.

و قيل: خلقكم صبيانا ثمّ شبّانا، ثمّ كهولا، ثمّ شيوخا(4).

و قيل: خلقكم طوالا و قصارا، و أقوياء و ضعفاء، و مختلفين في الخلق و الخلق(5).

و عن القمي: مختلفين في الأهواء و الإرادات و المشيئات(4) و على أيّ تقدير كلّها دالّ على قدرة اللّه و حكمته و نهاية عظمته.

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّٰهُ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ

ص: 341


1- . تفسير روح البيان 176:10.
2- . تفسير روح البيان 176:10.
3- . تفسير روح البيان 177:10. (4و5) . تفسير روح البيان 178:10.
4- . تفسير القمي 387:2، تفسير الصافي 231:5، و في النسخة: و المشتهيات، بدل: و المشيئات.

اَلشَّمْسَ سِرٰاجاً (16) وَ اللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبٰاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهٰا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرٰاجاً (18) وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسٰاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهٰا سُبُلاً فِجٰاجاً (20) قٰالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مٰالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاّٰ خَسٰاراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبّٰاراً (22) وَ قٰالُوا لاٰ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لاٰ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاٰ سُوٰاعاً وَ لاٰ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ ضَلاٰلاً (24) ثمّ بالغ نوح بعد الاستدلال على عظمة اللّه بدليل الأنفس في إثبات عظمة اللّه بدلائل الآفاقية بقوله:

أَ لَمْ تَرَوْا يا قوم، و لم تشاهدوا كَيْفَ خَلَقَ اللّٰهُ و أبدع بقدرته سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ عظيمة حال كونها طِبٰاقاً و قببا بعضها فوق بعض

وَ جَعَلَ الْقَمَرَ المنير فِيهِنَّ نُوراً لأهل الأرض في ظلمة الليل.

عن ابن عباس رضوان اللّه عليه: أنّ الشمس و القمر و النجوم وجوهها ممّا يلي السماء، و ظهورها مما يلي الأرض(1).

وَ جَعَلَ الشَّمْسَ التي في السماء الرابعة سِرٰاجاً لأهل الدنيا، يزيل بضيائها ظلمة الأرض، كما يبصر أهل البيت بنور السّراج ما يحتاجون إلى رؤيته

وَ اللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ و أنشأكم مِنَ تراب اَلْأَرْضِ بواسطة إنشاء آدم منه، أو بواسطة الأغذية المتكوّنة من التراب و الماء نَبٰاتاً و إنشاء عجيبا، و إنّما عبّر عن الخلق بالإنبات لقوة دلالته على الحدوث

ثُمَّ بعد إنباتكم من الأرض يُعِيدُكُمْ فِيهٰا بالإقبار بعد الموت وَ يُخْرِجُكُمْ منها عند البعث و الحشر إِخْرٰاجاً محقّقا لا ريب فيه للمحاسبة و المجازاة على الأعمال

وَ اللّٰهُ العظيم القادر جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ البسيطة بِسٰاطاً و فراشا واسعا تتقلّبون عليها كتقلبكم على البسط

لِتَسْلُكُوا و تستطرقوا مِنْهٰا سُبُلاً و طرقا فِجٰاجاً و متّسعات تمشون فيها ذهابا و إيابا.

قٰالَ نُوحٌ بعد تلك المناجاة الطويلة و بيان كيفية دعوته: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي و أصرّوا على مخالفتي و معارضتي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مٰالُهُ إلاّ بطرا وَ وَلَدُهُ إلاّ غرورا، و ليس نتيجة ذلك البطر و الغرور إِلاّٰ خَسٰاراً و ضررا عظيما في الآخرة، فانّ الضعفاء رأوا أنّ اتّباعهم لجاههم و عزّهم بين الناس أولى و أنفع لهم من اتّباعي، و أمّا الرؤساء [فقد] احتالوا

وَ مَكَرُوا في الاخلال بأمر رسالتي مَكْراً كُبّٰاراً و احتيالا عظيما بأن حرّضوا أتباعهم على سبّي و ضربي و إيذائي

وَ قٰالُوا

ص: 342


1- . تفسير روح البيان 178:10.

لأتباعهم لاٰ تَذَرُنَّ و لا تتركنّ آلِهَتَكُمْ وَ لاٰ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاٰ سُوٰاعاً وَ لاٰ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً و لا تدعنّ عبادتها.

قيل: إنّ تلك الأصنام دفنت في الطّوفان بساحل جدّه، فأخرجها الشيطان بعد الطّوفان، فوقع كلّ منها بيد قبيلة من العرب، فكان ودّ لكلب بدومة الجندل، و سواع لقبيلة همدان، و يغوث لمذحج، و يعوق لقبيلة مراد، و نسر لحمير(1).

و قيل: فنيت هؤلاء الأصنام بالطّوفان، ثمّ اتّخذت أمثالها و سمّوها بأسمائها و عبدوها(2).

و قيل: إنّ هذه الأسماء المذكورة في السورة كانوا أبناء آدم من صلبه، و كان يغوث أكبرهم، و هي أسماء سريانية، ثمّ وقعت تلك الأسماء إلى أهل الهند، فسمّوا بها أصنامهم التي زعموا أنّها على صور الدراري(3) السبعة، و كان الجنّ يكلّمهم من جوفها، ثمّ أدخلها عمرو بن لحي في أرض العرب(4).

قيل: كان ودّ على صورة رجل، و سواع على صورة امرأة، و يغوث على صورة أسد، و يعوق على صورة فرس، و نسر على صورة نسر، و هو طائر عظيم(5).

وَ قَدْ أَضَلُّوا اولئك الرؤساء أو الأصنام خلقا كَثِيراً.

وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ ضَلاٰلاً (24) مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ أَنْصٰاراً (25) وَ قٰالَ نُوحٌ رَبِّ لاٰ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبٰادَكَ وَ لاٰ يَلِدُوا إِلاّٰ فٰاجِراً كَفّٰاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ تَبٰاراً (28) ثمّ لمّا عدّ نوح قبائح أعمال القوم هاج غضبه و دعا عليهم بقوله: وَ لاٰ تَزِدِ يا ربّ الكفّار اَلظّٰالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك باختيارهم الشرك، و عليك بتضييع حقوقك إِلاّٰ ضَلاٰلاً و ضياعا و هلاكا، أو ضلالا في تمشية مكرهم و ترويج مصالح دنياهم، أو لمّا يئس من إيمانهم دعا عليهم بازدياد شقاوتهم لازدياد استحقاقهم العذاب، كما قال موسى عليه السّلام وَ اشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ (6).

ص: 343


1- . تفسير روح البيان 181:10.
2- . تفسير روح البيان 181:10.
3- . الدراري: الكواكب.
4- . تفسير روح البيان 181:10 و 182.
5- . تفسير روح البيان 182:10.
6- . يونس: 88/10.

ثمّ أخبر اللّه بسوء عاقبتهم بقوله:

مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ العظيمة، و من أجل فواحشهم الكثيرة في المدّة المتطاولة أُغْرِقُوا كلّهم بالطّوفان فَأُدْخِلُوا بمحض خروج الروح من أبدانهم نٰاراً سجّرها القهّار بغضبه في البرزخ قبل القيامة فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حين ابتلائهم بالعذاب الدنيوي و الاخروي مِنْ دُونِ اللّٰهِ و ممّا سواه من الأصنام و الأوثان أَنْصٰاراً و أعوانا يدفعون العذاب عنهم بالقوة أو الشفاعة.

ثمّ عاد سبحانه إلى حكاية قول نوح بقوله:

وَ قٰالَ نُوحٌ بعد يأسه من إيمان قومه و اهتدائهم و تواصيهم بعدم ترك عبادة أصنامهم: رَبِّ لاٰ تَذَرْ و لا تدع عَلَى وجه اَلْأَرْضِ بسبب إنزال العذاب مِنَ الْكٰافِرِينَ بك و برسولك دَيّٰاراً و متحرّكا.

ثمّ بيّن نوح أنّ دعاءه عليهم ليس للتشفّي و هوى النفس، بل للغضب للّه بقوله:

إِنَّكَ يا رب إِنْ تَذَرْهُمْ و تبقيهم على وجه الأرض كلا أو بعضا يُضِلُّوا عِبٰادَكَ المؤمنين عن طريق التوحيد و القرب إليك، أو المراد يصدّوا عبادك عن الايمان بك، كما روي أن الرجل ينطلق بابنه إلى نوح و يقول له: احذر هذا الرجل، فانّه كذّاب، و إنّ أبي حذّرنيه و أوصاني بمثل ذلك(1).

وَ لاٰ يَلِدُوا من بعد إِلاّٰ فٰاجِراً و معاديا لدينك كَفّٰاراً و مصرا على الشرك و كفران نعمك.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل ما كان علم نوح حين دعا على قومه أنّهم لا يلدوا إلاّ فاجرا كفّارا؟

فقال: «أ ما سمعت قول اللّه لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّٰ مَنْ قَدْ آمَنَ (2).

ثمّ دعا لنفسه و لأقاربه و للمؤمنين بقوله:

رَبِّ اغْفِرْ لِي خطاياي و زلاّتي وَ لِوٰالِدَيَّ ملك بن متوشلخ و شمخا بنت أنوش كانا مؤمنين وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قيل: يعني مسجدي(3). و قيل: يعني سفينتي(4) حال كونه مُؤْمِناً بك و موحّدا لك وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ عموما إلى آخر الدهر.

ثمّ عاد إلى الدعاء على الكفّار بقوله: وَ لاٰ تَزِدِ الظّٰالِمِينَ على أنفسهم باختيار الشرك إِلاّٰ تَبٰاراً و هلاكا و دمارا.

عن الصادق عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و يقرأ كتابه، لا يدع قراءة سورة إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه اللّه مساكن الأبرار، و أعطاه ثلاث جنات مع جنّته كرامة من اللّه و زوّجه مأتي حوراء و أربعة آلاف ثيّب إن شاء اللّه»(3).

ص: 344


1- . تفسير روح البيان 184:10.
2- . تفسير القمي 232:2، تفسير الصافي 388:2، و الآية من سورة هود: 36/11. (3و4) . تفسير روح البيان 186:10.
3- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 540:10، تفسير الصافي 233:5.

في تفسير سورة الجن

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقٰالُوا إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّٰا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنٰا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعٰالىٰ جَدُّ رَبِّنٰا مَا اتَّخَذَ صٰاحِبَةً وَ لاٰ وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كٰانَ يَقُولُ سَفِيهُنٰا عَلَى اللّٰهِ شَطَطاً (4) وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّٰهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كٰانَ رِجٰالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجٰالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزٰادُوهُمْ رَهَقاً (6) ثمّ لمّا ختمت سورة نوح المتضمّنة لبيان إشراك جميع أهل الأرض من الإنس في عصر نوح و إيذاءهم ايّاه و تمرّدهم عن الايمان باللّه و طاعته، فأهلكهم اللّه بالغرق في الطّوفان، نظمت سورة الجنّ المتضمّنة للإخبار بايمان كثير من الجنّ بالتوحيد، و انقيادهم لخاتم الأنبياء، و تصديقهم كتابه، و حكمهم بسفاهة المشركين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أمر رسوله بحكاية مقالة الجنّ في شأن التوحيد و عظمة القرآن بقوله:

قُلْ يا محمد لأهل مكّة المنكرين لصدق القرآن و التوحيد: إنّه قد أُوحِيَ إِلَيَّ من جانب ربّي و اطّلعت بإخبار اللّه تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ القرآن حين تلاوته نَفَرٌ و جماعة مِنَ الْجِنِّ. روي أنّهم كانوا يهودا(1).

و قيل كانوا يهودا و نصارى و مجوسا و مشركين(2).

فَقٰالُوا لقومهم حين رجوعهم إليهم مع تمرّدهم و عدم مجانستهم للانس: يا قوم إِنّٰا سَمِعْنٰا من لسان رسول من الإنس قُرْآناً و كتابا متلوّا عَجَباً و بديعا مباينا لكلام البشر في الفصاحة و حسن النظم و علوّ المعنى

يَهْدِي ذلك القرآن و يدلّ جميع الخلق إِلَى الرُّشْدِ و دين الحقّ، أو إلى كلّ خير و صواب في امور الدين و الدنيا فَآمَنّٰا بِهِ بمحض استماعه، و صدّقنا أنّه كلام اللّه و كتابه، و أنّ من أتى به رسول اللّه وَ لَنْ نُشْرِكَ بعد اليوم بدلالة ذلك الكتاب المثبت للتوحيد

ص: 345


1- . تفسير الرازي 154:30.
2- . تفسير الرازي 154:30، و فيه: و مشركا.

بِرَبِّنٰا أَحَداً من خلقه و شيئا من مصنوعاته.

روي أنّه جاء رجل إلى عبد اللّه بن مسعود فقال له: كنّا في سفر، فاذا نحن بحيّة جريحة تتشحّط في دمها، فقطع رجل منّا قطعة من عمامته فلفّها فيها فدفنها، فلمّا أمسينا و نزلنا أتتنا امرأتان من أحسن نساء الجنّ فقالتا: أيّكم صاحب عمرو؟ و أي الحيّة التي دفنتموها. فأشرنا لهما إلى صاحبها، فقالتا:

إنّه كان آخر من بقي ممّن استمع القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان بين كافري الجن و مسلميهم قتال فقتل فيهم، فان كنتم أردتم به الدنيا ثوبناكم ؟ فقلنا: لا، إنّما فعلنا ذلك للّه. فقالتا: أحسنتما و ذهبتا(1).

وَ أَنَّهُ تَعٰالىٰ و ارتفع جَدُّ رَبِّنٰا و عظمته، أو غناه مَا اتَّخَذَ و ما اختار لنفسه صٰاحِبَةً و زوجة وَ لاٰ وَلَداً ابنا كان أو بنتا لكمال تعاليه عن الحاجة، فانّ اتخاذ المصاحبة لا يكن إلاّ للحاجة إليهما، و لا يتّخذ الولد إلاّ لبقاء النسل و الاستعانة به، و هما ينافيان الغنى المطلق و وجوب الوجود

وَ أَنَّهُ كٰانَ يَقُولُ سَفِيهُنٰا و خفاف العقول منّا، كابليس و غيره من المردة جرأة عَلَى اللّٰهِ العظيم القهّار قولا شَطَطاً و بعيدا عن الحقّ، و متجاوزا عن حدّ العقل، و هو القول بأنّ الملائكة بنات اللّه أو عيسى أو العزير ابن اللّه، ثمّ اعتذروا عن اتّباعهم السفيه في القول بقولهم:

وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا و اعتقدنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ من عند أنفسهم عَلَى اللّٰهِ قولا كَذِباً أبدا، و لذا اتّبعناهم في القول بأنّ للّه ولدا، و لمّا سمعنا القرآن تبيّن لنا كذب هذا القول

وَ أَنَّهُ كٰانَ قبل ذلك رِجٰالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ و يلتجئون بِرِجٰالٍ مِنَ الْجِنِّ قيل كان الرجل من العرب إذا امسى في واد قفر في بعض مسائره، و خاف على نفسه يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، يريد الجنّ و كبيرهم، فيبيت في أمن و جوار حتى يصبح، فاذا سمعوا ذلك استكبروا و قالوا: سدنا الانس و الجنّ(2)فَزٰادُوهُمْ اولئك الإنس رَهَقاً و عتوا و سفها.

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول:

قل لشيطانك: فلان قد عاذ بك»(3).

و قيل: إن رجالا من الإنس يعوذون برجال من الجنّ خوفا من أن يغشاهم الجنّ، فزادت الجنّ في غشيانهم، بمعنى أنّ الجنّ لمّا رأوا أنّ الإنس يتعوّذون بهم و لا يتعوّذون باللّه، استذلّوهم و اجترءوا عليهم فزادوهم ظلما(4).

قيل: إنّ المعنى فزاد الجن العائذين غيا بان أضلّوهم حتى استعاذوا بهم، و إذا استعاذوا بهم فآمنوا

ص: 346


1- . تفسير روح البيان 189:10.
2- . تفسير روح البيان 191:10.
3- . تفسير القمي 389:2، تفسير الصافي 234:5.
4- . تفسير الرازي 156:3.

ظنّوا أنّ ذلك من الجنّ، فازدادوا رغبة في طاعة الشياطين و قبول وساوسهم(1).

روي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري أنّه قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، و ذلك أوّل ما ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة، فاذا في المبيت أتى(2) راعي غنم، فلمّا انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم فقال الراعي يا عامر الوادي جارك. فنادى مناد لا نراه: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتدّ حتى دخل في الغنم و لم تصبه كدمة، فأنزل اللّه على رسوله بمكة: وَ أَنَّهُ كٰانَ رِجٰالٌ مِنَ الْإِنْسِ... (3) الى آخره.

و عن مقاتل: كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثمّ من حنيفة، ثمّ فشا ذلك في العرب، فلمّا جاء الاسلام عاذوا باللّه و تركوهم(4).

وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّٰهُ أَحَداً (7) وَ أَنّٰا لَمَسْنَا السَّمٰاءَ فَوَجَدْنٰاهٰا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنّٰا كُنّٰا نَقْعُدُ مِنْهٰا مَقٰاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهٰاباً رَصَداً (9) ثمّ إنّ النفر من الجنّ بعد دعوتهم قومهم إلى التوحيد دعوهم إلى القول بالرسالة بقوله:

وَ أَنَّهُمْ يا قوم ظَنُّوا لجهالتهم كَمٰا ظَنَنْتُمْ لسفاهتكم أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّٰهُ من بعد موسى، أو بعد عيسى، أو مطلقا من أول الخلق أَحَداً بالرسالة ليقيم به الحجّة على خلقه، ثمّ علمنا أنّه تعالى بعث إلى الإنس محمدا بالرسالة فآمنوا به يا معشر الجنّ.

و قيل: إنّ المراد أنّ الانس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه بعد الموت للحساب و المجازاة على الأعمال أحدا(5).

و قيل: إنّ الآيتين من كلام اللّه، و المعنى على ذلك القول: و إنّ الجن ظنّوا كما ظننتم يا كفّار قريش أن لن يبعث اللّه أحدا للرسالة، كما هو مذهب البراهمة(6).

ثمّ حكى النفر من الجنّ لقومهم الانقلاب الحاصل في السماء بقولهم:

وَ أَنّٰا لَمَسْنَا و طلبنا اَلسَّمٰاءَ و صعدنا إليها لاستماع ما تقول الملائكة من الإخبار بالحوادث، لنخبر بها الكهنة على دأبنا السابق فَوَجَدْنٰاهٰا مُلِئَتْ من الملائكة حال كونهم حَرَساً و حفظة شَدِيداً و قويا على دفعنا يمنعوننا عن القرب من السماء وَ وجدنا شُهُباً و شعلا من النار منقضّة من الكواكب

ص: 347


1- . تفسير روح البيان 191:10.
2- . في تفسير روح البيان: بمكة، فأدّاني المبيت إلى.
3- . تفسير روح البيان 191:10.
4- . تفسير روح البيان 192:10.
5- . تفسير روح البيان 192:10.
6- . تفسير الرازي 157:3.

تحرق من قرب من السماء

وَ أَنّٰا كُنّٰا قبل هذا اليوم نصعد إلى السماء و نَقْعُدُ مِنْهٰا بعد صعودنا إليهما مَقٰاعِدَ خالية من الملائكة الحفظة لِلسَّمْعِ و استراق الأخبار من الملائكة فَمَنْ يَسْتَمِعِ الأخبار منّا اَلْآنَ و في هذا الزمان في مقعد من المقاعد و مرصد من المراصد يَجِدْ لَهُ و يصيب لنفسه شِهٰاباً و شعلة نار تحرقه و ملكا يكون له رَصَداً و قاعدا في المكمن ليرجم بالشهاب.

و قيل: يعني شهابا راصدا له، فالرصد بمعنى الراصد، و توصيف الشهاب به من باب التنزيل و المشابهة(1).

عن عائشة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الملائكة تنزل في السّحاب، فتذكر الأمر الذي قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه(2) إلى الكهّان، فيكذّبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم»(3).

و عن الصادق عليه السّلام - في حديث - قال: «و أمّا أخبار السماء فانّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، و هي لا تحجب و لا ترجم بالنجوم، و إنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء [فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللّه، لاثبات الحجة، و نفي الشبهة. و كان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء] ممّا يحدث من اللّه في خلقه، فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض، فيقذفها إلى الكاهن، فاذا قد زاد كلمات من عنده، فيخلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به فهو ما أبداه إليه شيطانه ممّا سمعه، و ما أخطأه فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة»(4).

و عن ابن عباس قال: كان الجنّ يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، أما الكلمة فانّها تكون حقّه، و أما الزيادات فتكون باطلة. فلمّا بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله منعوا مقاعدهم، و لم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال إبليس: ما هذا إلاّ لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما يصلّي(5) الخبر.

و عن ابي بن كعب: أنّه لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتّى بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرمى بها، [فرأت] قريش أمرا ما رأوه قبل ذلك(6).

أقول: لا يخفى أنّ الآيات الدالة على أنّ النجوم جعلت رجوما للشياطين، و إن كانت كثيرة، إلاّ أنه

ص: 348


1- . تفسير الرازي 157:30.
2- . في النسخة: فيوقيه.
3- . تفسير روح البيان 193:10.
4- . الاحتجاج: 339، تفسير الصافي 235:5. (5و6) . تفسير الرازي 158:30.

لا بدّ من حملها بالنظر إلى هذه الآية و الروايات على كونها مانعة من دخول الشياطين فيها لا من قربهم إليها بحيث يستمعون كلام الملائكة، و بعد ظهور النبي صلّى اللّه عليه و آله و بعثته منعوا بالشّهب من قربها.

و أمّا الاعتراض على الروايات بأنّ الشهب كامن(1) قديم الأيام، كما دلّ عليه تكلّم الفلاسفة فيها، و الأشعار التي حكيت من شعراء زمان الجاهلية.

فنقول: إنّ الشّهب التي كانت قبل البعثة فهي الحادثة من كرة النار، و الشهب التي كانت تنقضّ لمنع الشياطين كانت من النجوم، و مقتضى ذلك كثرة الشّهب بعد البعثة لزيادة الشّهب التي تحدث من النجوم على الشّهب التي كانت قبل، و لذا استوحشت قريش من رؤيتها.

وَ أَنّٰا لاٰ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرٰادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَ أَنّٰا مِنَّا الصّٰالِحُونَ وَ مِنّٰا دُونَ ذٰلِكَ كُنّٰا طَرٰائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّٰهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) ثمّ بعد حكاية النفر من الجنّ تغيير وضع السماء قالوا لقومه:

وَ أَنّٰا لاٰ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ من ذلك التغيير بِمَنْ فِي الْأَرْضِ من الإنس و الجنّ أَمْ أَرٰادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً و خيرا و صلاحا.

قيل: إنّ المعنى لا ندري أنّ المقصود من إرسال محمد الذي منعنا عنده من استراق السمع أن تكذّبه امّته فيهلكوا(2) كما أهلك الامم المكذّبة قبله، أم اريد أن يؤمنوا فيهتدوا(3) و في نسبة الخير إلى اللّه دون الشرّ رعاية الأدب.

ثمّ حكوا اختلاف فرقهم بقولهم:

وَ أَنّٰا مِنَّا الأقوام اَلصّٰالِحُونَ و الراغبون إلى الايمان و الأعمال الخيرية وَ مِنّٰا قوم حالهم دُونَ ذٰلِكَ الحال، و أنقص من مرتبة الكمال، ففيهم المقتصد و الفاسق و الكافر و الطاغي كُنّٰا طَرٰائِقَ و ذوي مذاهب قِدَداً و مختلفة. و قيل: كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة (4)

وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا و تيقنا بالدليل القاطع و البرهان الساطع و التفكّر في الآيات أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّٰهَ عن إنفاذ إرادته في شأننا أينما كنّا فِي وجه اَلْأَرْضِ و من أقطارها وَ لَنْ نُعْجِزَهُ و نفوته أبدا إن أراد بنا أمرا أن نهرب من الأرض إلى السماء أو البحار أو الجبال هَرَباً ينجينا من سطواته، فلا يمكننا الخروج من سلطانه و من تحت قدرته.

وَ أَنّٰا لَمّٰا سَمِعْنَا الْهُدىٰ آمَنّٰا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاٰ يَخٰافُ بَخْساً وَ لاٰ رَهَقاً (13)

ص: 349


1- . كذا، و الظاهر: كانت من.
2- . في النسخة: فهلكوا.
3- . تفسير الرازي 158:30، و فيه: فنهيدوا.
4- . تفسير الرازي 159:30.

وَ أَنّٰا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقٰاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَ أَنْ لَوِ اسْتَقٰامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنٰاهُمْ مٰاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذٰاباً صَعَداً (17) ثمّ أنّه بيّن النفر حالهم، لترغيب غيرهم إلى الايمان بقولهم:

وَ أَنّٰا لَمّٰا سَمِعْنَا القرآن الذي يكون اَلْهُدىٰ و الرشاد لأهل العالم آمَنّٰا بِهِ بمحض السماع، و صدّقنا أنّه كلام اللّه و كتابه الذي من عمل به نال سعادة الدارين فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ و بما أنزله من عنده فَلاٰ يَخٰافُ مثل هذا الشخص في الآخرة بَخْساً و نقصا في جزائه وَ لاٰ رَهَقاً و غشيان ظلم أو ذلّة أو عذاب

وَ أَنّٰا بعد استماع القرآن مِنَّا الْمُسْلِمُونَ و المستسلمون للدين الحقّ وَ مِنَّا الْقٰاسِطُونَ و الجائرون عن طريق الهدى و الايمان و الطاعة فَمَنْ أَسْلَمَ لأمر اللّه و سلّم أحكامه. و عن الباقر عليه السّلام: «أقرّ بولايتنا»(1)فَأُولٰئِكَ تَحَرَّوْا و طلبوا رَشَداً و هداية عظيمة إلى الصراط المستقيم و الطريق القويم الموصل إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية.

وَ أَمَّا الْقٰاسِطُونَ و المنحرفون عن طريق الهدى و دين الحقّ فَكٰانُوا في الآخرة لِجَهَنَّمَ حَطَباً توقد بهم نارها كما توقد بأبدان كفرة الإنس.

ثمّ إنّه تعالى بعدها أوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بيانات الجنّ و دعوتهم إلى الايمان بالقرآن، بيّن ما أوحى ذاته المقدسة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقٰامُوا و ثبتوا. قيل: إنّ التقدير قل يا محمد أوحي إليّ أنّ الشأن أنّ الجنّ و الانس لو استقاموا أو ثبتوا عَلَى الطَّرِيقَةِ المستقيمة و هي دين الاسلام (2)لَأَسْقَيْنٰاهُمْ و أشربناهم مٰاءً غَدَقاً و كثيرا غزيرا. قيل: هو كناية عن سعة العيش و كثرة المال (3)

لِنَفْتِنَهُمْ و نمتحنهم في ذلك الاسقاء أو التوسيع و نختبرهم فِيهِ كيف يشكرونه.

و عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية قال: لأفدناهم(2) علما كثيرا يتعلّمونه عن الأئمّة»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لو استقاموا على ولاية أمير المؤمنين على عليه السّلام و الأوصياء من ولده، و قبلوا طاعتهم في أمرهم و نهيهم، لاسقيناهم ماء غدقا، لأشربنا قلوبهم الإيمان»(4).

ص: 350


1- . تفسير القمي 389:2، تفسير الصافي 236:5، و فيها: الذين أقروا بولايتنا. (2و3) . تفسير روح البيان 196:10.
2- . في النسخة: لأخذنا.
3- . مجمع البيان 560:10، تفسير الصافي 236:5.
4- . الكافي 1/171:1، تفسير الصافي 236:5.

وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ و عبادته، أو موعظته، أو وحيه. و عن ابن عباس: عن ولاية علي عليه السّلام(1)يَسْلُكْهُ و يدخله عَذٰاباً صَعَداً و عال على طاقته و شاقّ عليه.

عن ابن عباس: أن صعدا اسم جبل في جهنّم، و هو صخرة ملساء، فيكلّف الكافر صعودها، ثمّ يجذب من أمامه بسلاسل، و يضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاه في أربعين سنة، فاذا بلغ أعلاه جذب إلى الأسفل، ثمّ يكلّف الصّعود مرة اخرى، فهذا دأبه أبدا، و نظير هذه الآية: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (2).

وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ فَلاٰ تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمّٰا قٰامَ عَبْدُ اللّٰهِ يَدْعُوهُ كٰادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ثمّ أخبر سبحانه بأنّه أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إلى التوحيد في العبادة بقوله:

وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ و البيوت المبنية لإقامة الصلاة و إتيان العبادات فيها، أو جميع وجه الأرض، حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا»(3) ، أو الأعضاء التي يجب وضعها في حال السجود على الأرض من الوجه و اليدين و الركبتين و الابهامين، كما عن أمير المؤمنين و الصادق و الجواد عليهم السّلام(4) ، و عليه بعض مفسّري العامة(5). لِلّٰهِ خاصّة لا يشركه فيها غيره من الملائكة و المسيح و العزير و الأصنام فَلاٰ تَدْعُوا و لا تعبدوا أيّها الناس مَعَ اللّٰهِ العظيم المستحقّ للعبادة أَحَداً غيره، و عن الكاظم عليه السّلام في تأويل الآية: «أنّ المساجد الأوصياء»(6). و عن الرضا عليه السّلام: «هم الائمة عليهم السّلام»(7).

ثمّ حكى سبحانه تعجّب الجنّ و المشركين من عبادة الرسول بقوله:

وَ أَنَّهُ لَمّٰا قيل: إنّ المعنى و قد اوحي إليّ أن الشأن(8) لمّا قٰامَ النبي المفتخر بأنّه عَبْدُ اللّٰهِ في مقام العبودية لربّه حال كونه يَدْعُوهُ و يعبده في منظر المشركين كٰادُوا و قربوا يَكُونُونَ لتظاهرهم عَلَيْهِ و تعاونهم على عداوته لِبَداً و كمّا ليطفئوا نوره و يبطلوا عبادته.

و قيل: إنّ الآية ممّا اوحي إليه، و المعنى أنّه قد اوحي إليّ أنّه لمّا قام النبي صلّى اللّه عليه و آله يعبد اللّه بصلاة

ص: 351


1- . تفسير القمي 390:2، تفسير الصافي 236:5.
2- . تفسير الرازي 162:30، و الآية من سورة المدثر: 17/74.
3- . تفسير الرازي 162:30، تفسير روح البيان 197:10.
4- . من لا يحضره الفقيه 1627/381:2، تفسير العياشي 1269/47:2، الكافي 8/312:3، تفسير الصافي 237:5.
5- . تفسير الرازي 163:30، تفسير أبي السعود 46:9، تفسير روح البيان 198:10.
6- . الكافي 65/352:1، تفسير الصافي 237:5.
7- . تفسير القمي 390:2، تفسير الصافي 237:5.
8- . تفسير روح البيان 198:10.

الفجر، قرب الجنّ أن يكونوا عليه مزدحمين تعجّبا ممّا شاهدوا من كيفية عبادته و حسن قراءته و اقتداء أصحابه به قائما و راكعا و ساجدا، لرؤيتهم ما لم يروا مثله، و سماعهم ما لم يسمعوا شبيهه(1).

قُلْ إِنَّمٰا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاٰ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لاٰ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاٰ رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّٰهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاّٰ بَلاٰغاً مِنَ اللّٰهِ وَ رِسٰالاٰتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً (23) ثمّ أمر سبحانه النبيّ بالإعلان بتوحيده و مخالفته لقريش بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين بغاية التجلّد إِنَّمٰا أَدْعُوا و أعبد رَبِّي المستحقّ للعبادة فقط وَ لاٰ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً من الملائكة و الإنس، فيكف بالأصنام التي هي جمادات ؟ فلا موقع لتعجّبكم، أو إطباقكم على عداوتي.

روي أنّ كفّار قريش قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّك جئت بأمر عظيم، و قد عاديت الناس كلّهم، فارجع عن هذا، فنزلت الآية(2).

ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بإعلانه للمشركين بأنّ الضرر و النفع و الضلال و الهداية كلّها بقدرة اللّه دون غيره بقوله:

قُلْ يا محمد للمشركين إِنِّي لاٰ أَمْلِكُ و لا استطيع لَكُمْ أيّها الناس ضَرًّا و لا نفعا و لا غيّا وَ لاٰ رَشَداً بل كلّها بيد اللّه وحده، فانّه المتصرّف في عالم الوجود دون غيره من الموجودات.

ثمّ قيل: إنّ المشركين قالوا له اترك ما تدعوا إليه و نحن نجيرك(3) و نحفظك من أعدائك، فأمره اللّه تعالى أن يجيبهم بقوله:

قُلْ يا محمد إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي و لن يحفظني مِنَ قهر اَللّٰهِ و سخطه و عذابه، أو ممّا أراد بي أَحَدٌ من خلقه إن أشركت به أو خالفت أمره بتبليغ الرسالة وَ لَنْ أَجِدَ في الدنيا و الآخرة مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه مُلْتَحَداً و ملجأ و مفرّا، و حاصل المفاد أنّي لا أملك لنفسي شيئا، فكيف أملك لكم و لغيركم أمرا؟

إِلاّٰ بَلاٰغاً و تبليغا كائنا مِنَ جانب اَللّٰهِ الذي أمرني به بأن أقول: قال اللّه كذا وَ تبليغ رِسٰالاٰتِهِ التي أرسلني بها بلا زيادة و نقصان.

و قيل: إنّ المراد من البلاغ تلقّي الوحي من اللّه تعالى، و من الرسالات تبليغه إلى الخلق(2).

ثمّ هدّد الناس على عصيانه بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و لم يمتثل أمرهما بالتوحيد و غيره

ص: 352


1- . تفسير الرازي 163:30. (2و3) . تفسير الرازي 164:30.
2- . تفسير الطبري 76:29، مجمع البيان 562:10

من الواجبات فَإِنَّ لَهُ في الآخرة نٰارَ جَهَنَّمَ حال كونهم خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً.

حَتّٰى إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نٰاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مٰا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عٰالِمُ الْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاّٰ مَنِ ارْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ وَ أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) ثمّ لمّا كان الكفّار يستضعفون أنصار النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يستقلّون عدد أصحابه، فكأنّه تعالى قال: لا يزال المشركون يستضعفون المؤمنين و يستقلّون عددهم

حَتّٰى إِذٰا ماتوا و رَأَوْا بعد الموت مٰا يُوعَدُونَ به من فنون العذاب فَسَيَعْلَمُونَ عند حلوله بهم مَنْ أَضْعَفُ نٰاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً هم أم محمد و أصحابه.

و قيل: إنّ المراد من مٰا يُوعَدُونَ عذاب يوم بدر(1).

ثمّ لمّا قال سبحانه: إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ قال المشركون: متى يكون هذا الوعد؟ فأمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله:

قُلْ يا محمد لهم إِنْ أَدْرِي و ما أعلم أَ قَرِيبٌ مٰا تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً و مدّة طويلة و أجلا بعيدا، فانّ اللّه لم يعيّن وقته لحكمة رآها في إخفائه، و هو تعالى

عٰالِمُ الْغَيْبِ و مطّلع على جميع الخفايا فَلاٰ يُظْهِرُ و لا يعلم عَلىٰ غَيْبِهِ و معلوماته الخفية أَحَداً من خلقه

إِلاّٰ مَنِ ارْتَضىٰ و أحبّ إعلامه بالمغيبات مِنْ رَسُولٍ.

عن الباقر عليه السّلام قال: «و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله ممّن ارتضاه»(2).

و عن الرضا عليه السّلام: «فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند اللّه مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه اللّه على ما يشاء من غيبه، فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة»(3).

فَإِنَّهُ يَسْلُكُ قدّام الرسول المرتضى، و يقيم مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ يجعل مِنْ خَلْفِهِ و وراء ظهره و من جميع جوانبه عند إعلامه بالغيب رَصَداً و حرسا من الملائكة يحرسونه من الشياطين.

قيل: يعني إذا نزل جبرئيل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجنّ الوحي، فيلقونه

ص: 353


1- . تفسير أبي السعود 47:9.
2- . الكافي 2/200:1، تفسير الصافي 238:5.
3- . الخرائج و الجرائح 6/343:1، تفسير الصافي 238:5.

إلى الكهنة، فتخبر به الكهنة قبل الرسول، فيختلط على الناس أمر الرسالة(1).

و قيل: يرسل اللّه ملائكته ليخفوه من وساوس الشياطين و تخاليطهم حتّى يبلّغ ما أوحى به إليه، و من زحمة شياطين الإنس حتّى لا يؤذونه(2).

قيل: ما بعث اللّه نبيا إلاّ و معه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك(3).

لِيَعْلَمَ اللّه أنّ الأنبياء أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا إلى الناس رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ خالية من الاختطاف و التخليط بعد ما أبلغها الرّصد إليهم كذلك وَ أَحٰاطَ اللّه تعالى بِمٰا عند الرّصد و الرّسل و لَدَيْهِمْ من الأحوال وَ أَحْصىٰ و علم كُلَّ شَيْءٍ ما كان و ما يكون و ما هو كائن عَدَداً حتّى القطر و الرمل، فكيف لا يحيط بما لديهم.

عن ابن عباس: أحصى ما خلق، و عرف عدد ما خلق، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ و الخردل(4).

عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر قراءة قُلْ أُوحِيَ لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ، و لا من نفثهم، و لا من سحرهم، و لا من كيدهم، و كان مع محمد صلّى اللّه عليه و آله فيقول: يا رب ما اريد منهم بدلا، و لا اريد أن أبتغي عنهم حولا»(5).

ص: 354


1- . تفسير روح البيان 202:10.
2- . تفسير الرازي 169:30.
3- . تفسير الرازي 169:30.
4- . تفسير روح البيان 203:10.
5- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 550:10، تفسير الصافي 239:5.

في تفسير سورة المزمّل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاّٰ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الجنّ المتضمّنة لتعظيم القرآن، و بيان تعجّب الجنّ منه، و اشتياقهم إليه، و إيمانهم به، و تهديد مكذّبيه، و بيان بعض حوادث أوّل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة المزّمّل المتضمنة لبيان عظمة القرآن، و أمر الرسول بتلاوته و ترتيله، و تهديد مكذّبي الرسول و كتابه، و بيان حال النبي صلّى اللّه عليه و آله في أوائل نزول الوحي إليه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بصفة كانت له في أوّل نزول الوحي إليه تلطّفا و إيناسا، كما هو دأب العرب بقوله:

يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و المتلفّف بثيابه.

عن ابن عباس: أول ما جاء جبرئيل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله خافه، و ظنّ أنّ به مسّا من الجنّ، فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجة مرتعدا، و قال: زمّليني، فبينما هو كذلك إذ جاء جبرئيل و ناداه: يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1).

أقول: ما قاله ابن عباس ينافي الأخبار الواصلة في بيان كيفية أول نزول جبرئيل، و كون سورة (اقرأ) أول ما نزل.

و قيل: إنّه كان نائما متزمّلا بقطيفة، فناداه جبرئيل بما يهجّن تلك الحالة، و المعنى: يا أيّها النائم المتزمّل بثوبه، قم و اشتغل بالعبادة(2).

و قيل: إنّه كان متزمّلا في مرط لخديجة مستأنسا بها فقيل له: يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *

قُمِ اللَّيْلَ و اترك حظّ نفسك و اشتغل بالعبادة (3)إِلاّٰ مقدارا قَلِيلاً منه، أعني

نِصْفَهُ فانّ النصف قليل بالنسبة

ص: 355


1- . تفسير الرازي 171:30.
2- . تفسير الرازي 171:30.
3- . تفسير الرازي 171:30.

إلى الكلّ.

و قيل: إنّ تقليل مقدار نومه صلّى اللّه عليه و آله مع كونه نصفا لاظهار كمال الاعتناء بشأن الجزء المقارن للقيام و الإيذان بفضله، و كون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب(1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «القليل النصف»(2).

أَوِ انْقُصْ القيام مِنْهُ مقدارا قَلِيلاً بحيث لا يصل إلى الثّلث على ما قيل (3)

أَوْ زِدْ القيام عَلَيْهِ إلى الثلثين، و الحاصل تخييره في القيام للعبادة بين نصف الليل أو أقلّ منه أو أكثر.

و قيل: إنّ المراد من القليل الذي ينقص و يزاد نصف النصف، فيكون الواجب عليه من القيام للعبادة ربع الليل، و الزائد نفل و مندوب(4).

وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ و اقرأه في أثناء قيامك في الليل على تؤدة و تبيين حروف تَرْتِيلاً بليغا.

و عن ابن مسعود: لا تعجلوا في القرآن، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة(5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين: بيّنه بيانا، و لا تهذّه هذّ الشعر و تنثره نثر الرمل، و لكن أفزعوا قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة»(6).

قيل: إنّ الترتيل في القرآن قراءته بنحو يتمكّن القارئ من التأمّل في حقائقه و دقائقه، فعند الوصول إلى ذكر اللّه يستشعر قلبه عظمته و جلاله، و عند الوصول إلى الوعد و الوعيد يحصل الرجاء و الخوف، و حينئذ يتنوّر القلب بنور المعرفة(7) و اليقين، و تستعدّ النفس لإشراق جلال اللّه و الانكشاف الأتمّ الأعظم، فكأنّه تعالى قال: إنّما أمرتك بالقيام في الليل بالصلاة و العبادة و ترتيل القرآن، ليزيد استعداد نفسك لتلقّي و حينا.

إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ و البتة نوحي إليك قَوْلاً ثَقِيلاً و كلاّ عظيم القدر و الشأن و جليل الخطر، كما عن ابن عباس(8).

و قيل: إنّ المراد قرآنا متضمّنا للأوامر و النواهي التي هي تكاليف شاقّة على العامة و عليك خاصة، لأنّك تتحمّلها بنفسك و بتبليغها إلى امّتك(9).

و قيل: إنّ المراد ثقل نزوله على الرسول (10).

ص: 356


1- . تفسير روح البيان 204:10.
2- . مجمع البيان 568:10، تفسير الصافي 240:5.
3- . تفسير الرازي 173:30.
4- . تفسير الرازي 173:30.
5- . تفسير روح البيان 205:10.
6- . الكافي 1/449:2، تفسير الصافي 240:5.
7- . تفسير الرازي 174:30. (8-9) . تفسير الرازي 174:30.

قيل: كان يرفضّ(1) عرقا في اليوم الشديد البرد حين نزوله، كما عن عائشة(2).

و عن ابن عباس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه و تربّد وجهه(3).

و روي أنّ الوحي نزل عليه و هو على ناقته، فثقل عليها حتى وضعت جرانها(4) ، فلم يستطع أن تتحرّك(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لقد نزلت عليه سورة المائدة و هو على بغلته الشّهباء(6) و ثقل عليه الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض»(7).

و قيل: يعني ثقيلا في الميزان لكثرة ثواب تلاوته و العمل به(8) ، أو ثقيلا على المنافقين حيث إنّه يهتك أسرارهم و يبطل أديانهم و أقوالهم(9). أو ثقيلا على العقل لأنّه لا يفي بإدراك فوائده و دقائقه و رقائقه(10).

إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) ثمّ بيّن سبحانه حكمة أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقيام الليل و العبادة فيها بقوله:

إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ و النهضة فيه، أو العبادة فيه هِيَ خاصة أَشَدُّ وَطْئاً أو أكثر كلفة و مشقّة على النفس من التي تؤتى بالنهار، فتكون أفضل، لأنّ أفضل العبادة أشقّها، أو أوفق بالخلوص و الخشوع، أو المراد أنّ النفس الناهضة بالليل للعبادة أشدّ ثباتا و أكثر استقامة وَ أَقْوَمُ قِيلاً و أحسن كلاما، كما عن ابن عباس(9) ، أو أخلص قولا لأن الأصوات تهدأ فيه و الحركات تنقطع فيه.

عن الصادق عليه السّلام في الآية: إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ قال: «قام قيام الرجل عن فراشه يريد به اللّه عز و جلّ لا يريد به غيره»(10).

ص: 357


1- . ارفضّ العرق: سال و ترشّش.
2- . تفسير الرازي 174:30.
3- . تفسير الرازي 174:30.
4- . الجران: باطن عنق البعير.
5- . تفسير الرازي 174:30.
6- . في النسخة، و تفسير الصافي: بغلة شهباء.
7- . تفسير العياشي 1161/3:2، تفسير الصافي 240:5.
8- . تفسير الرازي 174:30، تفسير الطبرى 80:29، مجمع البيان 570:10. (9و10) . تفسير الرازي 175:30.
9- . تفسير الرازي 176:30.
10- . من لا يحضره الفقيه 1367/299:1، التهذيب 1385/336:2، تفسير الصافي 241:5.

إِنَّ لَكَ يا محمد فِي النَّهٰارِ سَبْحاً و تقلّبا(1) و تصرّفا أو فراغا طَوِيلاً لحاجتك و نومك، فعليك بالقيام للعبادة في الليل.

ثمّ بيّن سبحانه ما ينبغي للعبد بعد تلاوة القرآن الاشتغال به بقوله:

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بالقلب بذكر نعمائه و كمال قدرته و حكمته و ألطافه، و باللسان بالتهليل و التحميد و التسبيح و التكبير وَ تَبَتَّلْ و انقطع من الدنيا و ما فيها، بل عن غيره تعالى إِلَيْهِ وحده تَبْتِيلاً و انقطاعا تاما، لا تسأل غيره في حاجة، و لا تتوجّه في آن إلى ما سواه.

ثمّ مدح سبحانه ذاته المقدسة بمدح يوجب العقل الانقطاع إليه بقوله:

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و ما بينهما لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ و لا معبود سواه، فاذا عرفت ربّك بهذه العظمة و القدرة الكاملة فَاتَّخِذْهُ و اختره لنفسك وَكِيلاً و مدبّرا لجميع امورك، و مفوّضا إليه جميع مقاصدك، و كفيلا بما وعدك من النصر و الغلبة على أعدائك.

وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنٰا أَنْكٰالاً وَ جَحِيماً (12) وَ طَعٰاماً ذٰا غُصَّةٍ وَ عَذٰاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ وَ كٰانَتِ الْجِبٰالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) ثمّ سلّى سبحانه حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ اصْبِرْ حبيبي بعد ما اتخذتني وكيلا عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ هؤلاء المشركون فيك، و فوّض أمرهم إليّ، و لا تشغل قلبك باصلاح امورك الراجعة إليهم وَ اهْجُرْهُمْ و اترك مخالطتهم، و اصرف قلبك عن التفكّر في أمرهم هَجْراً جَمِيلاً مقرونا بالمداراة و الكفّ عن المكافاة

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ الذين هم أُولِي النَّعْمَةِ و التّرفّه و الرئاسة و التكبّر، و حل بيني و بينهم، فانّي اكافي ما أهمّك من مجازاتهم وَ لكن مَهِّلْهُمْ و أخّر سؤال تعذيبهم زمانا قَلِيلاً و هو الزمان الباقي إلى يوم بدر، أو الباقي من عمرهم في الدنيا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يذكر فيه المنافقين - قال: «و ما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتألّفهم و يقرّبهم و يجلسهم عن يمينه و شماله حتى أذن اللّه عزّ و جلّ في إبعادهم بقوله: وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً» (2).

أقول: لا ينافي ذلك العموم لجميع المكذّبين.

ثمّ بيّن سبحانه ما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة بقوله:

إِنَّ لَدَيْنٰا أَنْكٰالاً و قيودا ثقالا لأرجلهم

ص: 358


1- . في النسخة: و تفليا.
2- . الاحتجاج: 253، تفسير الصافي 242:5.

وَ جَحِيماً و نارا عظيمة شديدة الحرّ في مهواة

وَ طَعٰاماً و مأكولا ذٰا غُصَّةٍ و أخذ بالحلق، لا هو نازل منه و لا خارج، كالزّقّوم و الضّريع وَ عَذٰاباً أَلِيماً غير ذلك لا يوصف بالبيان.

روي أنّه لمّا نزلت الآية خرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله مغشيّا عليه(1).

ثمّ عيّن سبحانه وقت النّكال و العذاب بقوله:

يَوْمَ تَرْجُفُ و تولول اَلْأَرْضُ وَ الْجِبٰالُ التي هي أوتادها، و تضطربان بهيبة اللّه وَ كٰانَتِ الْجِبٰالُ كلّها مع غاية صلابتها كَثِيباً و تلا من رمل مَهِيلاً و سائلا من كثرة تفتيتها.

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شٰاهِداً عَلَيْكُمْ كَمٰا أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنٰاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدٰانَ شِيباً (17) اَلسَّمٰاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كٰانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (19) ثمّ هدّد سبحانه المشركين على تكذيبهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنّٰا أَرْسَلْنٰا إِلَيْكُمْ أيّها المشركون رَسُولاً عظيم الشأن، ليكون شٰاهِداً يشهد عَلَيْكُمْ يوم القيامة بما صدر منكم من الايمان و الكفر و الطاعة و العصيان كَمٰا أَرْسَلْنٰا في مصر إِلىٰ فِرْعَوْنَ سلطان مصر رَسُولاً عظيم الشأن، و هو موسى بن عمران

فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ ذلك اَلرَّسُولَ و كذّبه و عارضه فَأَخَذْنٰاهُ بسبب عصيانه أَخْذاً وَبِيلاً و عذّبناه عذابا شديدا، فاحذروا أيّها المشركون من أن ينزل عليكم بتكذيبكم رسولكم مثل ما نزل بهم، هبوا أنّكم لا تؤخذون بعصيانكم في الدنيا مثل أخذ فرعون

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ و تحفظون أنفسكم إِنْ كَفَرْتُمْ في بقية عمركم و دمتم على عصيانكم يَوْماً يَجْعَلُ من شدّة أهواله و عظمة ما فيه من العذاب اَلْوِلْدٰانَ و الأطفال الصغار شِيباً و شيوخا بيض الشعور.

قيل: هو مثل لشدّة الغموم و الهموم؛ لأنّ لازمها انطفاء الحرارة الغريزية و استيلاء البلغم على الاخلاط و ابيضاض الشعر(2).

و قيل: هو كناية عن طول المدّة و اليوم(3).

ثمّ بالغ سبحانه في بيان أهوال اليوم بقوله: و

اَلسَّمٰاءُ مع غاية عظمها و غلظتها مُنْفَطِرٌ بسبب

ص: 359


1- . تفسير روح البيان 214:10.
2- . تفسير الرازي 184:30.
3- . تفسير روح البيان 217:10.

هول ذلك اليوم، و منشقّ بِهِ فكيف بغيرها من الخلائق، و اعلموا أنّ هذا اليوم الشديد الأهوال ممّا وعده اللّه و كٰانَ وَعْدُهُ لا محالة مَفْعُولاً و منجزا و متحقّقا لامتناع الخلف فيه، فليس للعاقل أن يرتاب في وقوعه

إِنَّ هٰذِهِ المذكورات من الأنكال و ما بعده تَذْكِرَةٌ و عظة لمن شاء أن يذّكّر و يتّعظ فَمَنْ شٰاءَ من العقلاء النجاة من الأهوال و العذاب، و النيل بالراحة الأبدية و عظم الثواب اِتَّخَذَ و حصّل إِلىٰ قرب رَبِّهِ و مرضاته سَبِيلاً موصلا له إلى مطلوبه، و هو الايمان بوحدانية اللّه تبارك و تعالى و رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و طاعتهما.

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طٰائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللّٰهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضىٰ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ آخَرُونَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) ثمّ إنّه روي أنّ اللّه تعالى لمّا فرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في أوّل السورة قيام الليل قاموا حولا كاملا مع مشقّة عظيمة، من جهة أنّه كان يعسر عليهم تمييز القدر الواجب، حتّى قام أكثرهم الليل كلّه خوفا من الخطأ في إصابة القدر المفروض، و صاروا بحيث انتفخت أقدامهم، و اصفرّت ألوانهم، فأنزل اللّه تبارك و تعالى التخفيف(1) بقوله:

إِنَّ رَبَّكَ يا محمد يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ من نومك و مضجعك للعبادة أَدْنىٰ و أقلّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ تقوم نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ امتثالا للأمر وَ طٰائِفَةٌ مِنَ أصحابك اَلَّذِينَ مَعَكَ يقومون مثل قيامك اتّباعا لك، و أنتم لا تتمكّنون من تقدير ساعات الليل و العلم بها وَ اللّٰهُ وحده يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ و يعلم مقدار ساعاتهما و عَلِمَ أَنْ الشأن أنّكم لَنْ تُحْصُوهُ و لا تعلمونه أبدا.

عن الباقر عليه السّلام قال: «يقولون متى يكون النصف و الثلث»(2).

فَتٰابَ اللّه و رجع بالترحّم عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم ترك القيام المقدّر، و رفع التّبعة على تركه، إذن فَاقْرَؤُا أيّها المؤمنون مٰا تَيَسَّرَ و سهل عليكم مِنَ الْقُرْآنِ في أيّ وقت من الليل. قيل:

ص: 360


1- . تفسير روح البيان 218:10.
2- . تفسير القمي 392:2، تفسير الصافي 243:5.

يقرأ مائة آية، فانّ من قرأها كتب من القانتين. و قيل: خمسون. و قيل: سورة، و لو كانت قصيرة(1). و قيل:

إنّ المراد بقراءة القرآن الصلاة لاطلاق اسم(2) الجزء على الكلّ(3).

عن ابن عباس: سقط عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قيام الليل، و صارت تطوّعا، و بقي ذلك فرضا على النبي صلّى اللّه عليه و آله(4).

ثمّ ذكر سبحانه حكمة اخرى للنسخ بقوله: عَلِمَ اللّه أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ لا محالة مَرْضىٰ يعسر عليهم القيام بالليل وَ أشخاص آخَرُونَ غير المرضى يَضْرِبُونَ و يسافرون فِي أقطار اَلْأَرْضِ للتجارة أو طلب العلم أو غيرهما يَبْتَغُونَ و يطلبون بمسافرتهم شيئا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ من ربح أو علم أو معرفة وَ أشخاص آخَرُونَ غير الطائفتين يُقٰاتِلُونَ الأعداء، و يجاهدون فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و لطلب رضاه، فاذا كان الأمر كذلك فَاقْرَؤُا أيّها المؤمنون بالقرآن مٰا تَيَسَّرَ لكم و سهل عليكم مِنْهُ بلا تحمّل مشقة وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ المفروضة بالليل و النهار وَ آتُوا الزَّكٰاةَ الواجبة. قيل: هي الفطرة إن كانت الآية مكية، و المالية إن كانت مدنية(5).

وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ من أموالكم بالانفاقات المستحبّة قَرْضاً حَسَناً و هو إخراجها من أطيب الأموال و أنفعها للفقراء بخلوص النية، و في التعبير بالقرض غاية الحثّ عليه من حيث تنزيل ذاته المقدسة مع غنائه المطلق منزلة المحتاج، و الإشعار بعوده إليه مع زيادة.

ثمّ حثّ سبحانه على جميع العبادات بدنية كانت أو مالية بقوله تبارك و تعالى: وَ مٰا تُقَدِّمُوا من دنياكم إلى الآخرة نفعا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ من الخيرات و عمل من الأعمال الصالحات، أيّ خير و عمل كان تَجِدُوهُ بعد الموت عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً قيل: إنّ الضمير المنفصل مؤكّد للضمير المتّصل، و المعنى تجدوه خيرا(6).

وَ أَعْظَمَ أَجْراً من الوصية به حين الموت، أو من الدنيا و ما فيها وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ من ذنوبكم في جميع أوقاتكم إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ و ستار للذنوب رَحِيمٌ بعباده بإعطائهم الثواب العظيم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة المزمّل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل كان له الليل و النهار شاهدين مع سورة المزمّل، و أحياه اللّه حياة طيبة، و أماته ميتة طيبة»(7).

الحمد للّه تعالى و الشكر له.

ص: 361


1- . تفسير الرازي 187:30.
2- . في النسخة: لاطلاقا لاسم.
3- . تفسير الرازي 186:30 و 187.
4- . تفسير الرازي 187:30.
5- . تفسير الرازي 187:30، تفسير روح البيان 221:10.
6- . تفسير الصافي 244:5.
7- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 565:10، تفسير الصافي 244:5.

ص: 362

في تفسير سورة المدّثّر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لاٰ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) ثمّ لمّا ختمت سورة المزمّل المبدوءة بخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله باللّقب الدالّ على التلطّف و الرحمة، و المتضمّنة للأمر بتلاوة القرآن و تعظيمه و تهديد مكذّبيه، و أمره بالصبر على تكذيبهم و إيذائهم، اردفت بسورة المدّثر المبدوءة بخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله باللقب المشابه للقب المذكور في السورة السابقة، و أمره بإنذار قومه و صبره على أذاهم، و تهديد بعض المكذّبين، فافتتحها بالأسماء الحسنى بقوله:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ خاطب نبيّه الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ و اللابس لثوب يلبس فوق الثياب للنوم أو الاستدثار(1) أو اللابس للباس النبوة. قيل: إنّ السورة من أوائل ما نزل(2). روي عن جابر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد إنّك رسول اللّه، فنظرت عن يميني و يساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء و الأرض، فخفت فرجعت إلى خديجة، فقلت: دثّروني دثّروني و صبّوا عليّ ماء باردا، فنزل جبرئيل بقوله: يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» (3).

و قيل: اجتمع أبو جهل و أبو لهب و أبو سفيان و الوليد بن المغيرة و النّضر بن الحارث و امية بن خلف و العاص بن وائل، و قالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون أيّام الحجّ و يسألوننا عن أمر محمد، فان اجاب كلّ منا بجواب غير جواب الآخرين، كأن يقول بعضنا: إنّه كاهن، و يقول آخر: إنّه شاعر، و يقول ثالث:

إنّه مجنون، فباختلاف الأجوبة يستدلّون على بطلانها، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد، فقال واحد: إنّه شاعر. فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص و امية بن أبي الصلت و ما يشبه

ص: 363


1- . في النسخة: الاستدفار.
2- . تفسير الرازي 189:30، تفسير البيضاوي 541:2، تفسير أبي السعود 54:9.
3- . تفسير الرازي 189:30، تفسير أب السعود 54:9، تفسير روح البيان 223:10.

كلامه كلامهما. و قال آخر إنّه كاهن، قال الوليد: من الكاهن ؟ قالوا: الذي يصدق تارة و يكذب اخرى.

قال الوليد: ما كذب محمد قطّ. قال آخر: إنّه مجنون. فقال الوليد: من المجنون ؟ قالوا: مخيف الناس.

فقال الوليد: ما اخيف محمد قطّ. ثمّ قام الوليد و انصرف إلى بيته. فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، فقال: مالك يا أبا عبد شمس ؟ هذه قريش تجمع لك شيئا، زعموا أنّك احتجت و صبأت. فقال الوليد: ما لي إلى حاجة، و لكنّي فكّرت في محمد فقلت: إنّه ساحر، لأنّ الساحر هو الذي يفرّق بين الأب و ابنه، و الأخوين، و بين المرأة و زوجها. ثمّ إنهم اجتمعوا على تلقيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله بهذا اللقب، و خرجوا فصرخوا بمكة و الناس مجتمعون فقالوا: إنّ محمدا ساحر، فلمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشتدّ عليه و رجع إلى بيته محزونا، فتدثّر بثوبه، فأنزل اللّه يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).

و قيل: إنّه كان نائما متدثّرا بثيابه، فجاءه جبرئيل و أيقظه، و قال: يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كأنّه قال له: قم و اترك التدثّر بالثياب و النوم، و اشتغل بشغل النبوة التي أعطاكها اللّه(2).

و قيل: إنّ التدثّر كناية عن الاختفاء، فكأنّه تعالى قال: أيّها المختفي عن الناس في جبل حراء، المتدثّر بدثار الخمول و الاختفاء، قم بأمر الرسالة، و اخرج من زاوية الخمول، و أنذر الناس، و اشتغل بالدعوة إلى معرفة اللّه(3).

و على أيّ تقدير أمره اللّه سبحانه بقوله:

قُمْ من مضجعك على الأول، أو قم قيام عزم و تصميم على الوجوه الأخر فَأَنْذِرْ الناس و خوّفهم من عذاب اللّه على الشرك و العصيان. عن ابن عباس، قال: قم نذيرا للبشر(4).

وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ و عظّم من أن يكون له شريك، أو ممّا يقوله عبدة الأوثان، أو فاذكره بالكبرياء، و قل: اللّه أكبر.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: اللّه أكبر كبيرا، فكبّرت خديجة و فرحت و علمت أنّه اوحي إليه(3).

و روى أنّه لمّا نزلت كبّر و أيقن أنّه الوحي، لأنّ الشيطان لا يأمر بذلك(4).

قيل: إنّ حرف الفاء زائدة(5). و قيل: إنّه لإفادة الشرط، و التقدير: و أيّ شيء كان فلا تدع تكبيره(6).

ص: 364


1- . تفسير الرازي 189:30.
2- . تفسير الرازي 190:30. (3و4) . تفسير الرازي 190:30.
3- . تفسير الرازي 191:30، تفسير أبي السعود 54:9، تفسير روح البيان 225:10.
4- . تفسير روح البيان 225:10.
5- . تفسير الرازي 191:30.
6- . تفسير أبي السعود 54:9، تفسير روح البيان 225:10.

وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ من الأقذار بتشميرها، كما عن الصادق عليه السّلام(1).

و عنه، عن أمير المؤمنين صلّى اللّه عليه و آله، قال: «غسل الثياب يذهب الهمّ و الحزن، و طهور للصلاة، و تشمير الثياب طهورها، و قد قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ أي فشمّر»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «معناه: و ثيابك فقصّر»(3).

قيل: إنّ العرب كانوا يطيلون ثيابهم، و يجرّون أذيالهم خيلاء أو كبرا، فكانت تتنجّس، فنهى الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك(4).

و روي أنّ المشركين ألقوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلى شاة، فشقّ عليه، و رجع إلى بيته حزينا، و تدثّر بثيابه، فقيل: يٰا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ و لا تمنعك تلك السفاهة عن الانذار وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ من أن لا ينتقم منهم وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ عن تلك النجاسات و القاذورات(5).

و قيل: تطهير الثوب كناية عن تطهير الأخلاق و تحسينها(6). و المراد لا تحملك سفاهتهم على ترك الإنذار، بل حسّن خلقك، و اصبر على أذاهم و لا تجزع.

وَ الرُّجْزَ قيل: هو الشيطان(7). و قيل: هو العذاب(8). و قيل: كلّ عمل قبيح موجب للعذاب(9). و قيل:

كلّ مستقذر و رجس(10). و قيل: هو الأوثان(9).

فَاهْجُرْ و ارفض و لا تقربه

وَ لاٰ تَمْنُنْ على أحد بإعطاء من مالك شيئا حال كونك تَسْتَكْثِرُ و تطلب زيادة مالك بعوض ما أعطيت، بل كلّما تعطي شيئا لا تطمع أن يعوّضك ممّا أعطيت أكثر منه، فانّه لا يليق بمقامك الرفيع و منصبك العظيم، لأنّ الطمع في مال الناس من أخلاق طلاّب الدنيا.

و عن الباقر عليه السّلام: «لا تعط العطية تلتمس أكثر منها»(10).

و قيل: يعني لا تعط شيئا و أنت تستكثره، بل عليك أن تستحقره و تستقلّه، و تكون كالمعتذر من قلّته(11).

و قيل: إنّ المراد لا تمنن على الناس بما تعلّمهم من امور دينهم، كمن يستكثر ذلك الإنعام، فانّك

ص: 365


1- . الكافي 1/455:6، تفسير الصافي 245:5.
2- . مجمع البيان 581:10، تفسير الصافي 246:5.
3- . مجمع البيان 581:10، تفسير الصافي 245:5.
4- . تفسير الرازي 192:30.
5- . تفسير الرازي 191:30.
6- . تفسير روح البيان 225:10.
7- . تفسير الرازي 193:30.
8- . تفسير الرازي 193:30، تفسير روح البيان 226:10. (9و10) . تفسير الرازي 193:30.
9- . تفسير الرازي 193:30، تفسير روح البيان 226:10.
10- . تفسير القمي 393:2، عن أبي الجارود، تفسير الصافي 246:5.
11- . تفسير الرازي 195:30.

كنت مأمورا بالتبليغ فلا منّة لك عليهم(1).

و قيل: يعني لا تمنن بنبوتك عليهم، لتستكثر و تأخذ منهم أجرا(2).

و قيل: يعني لا تمنن على ربّك بهذه الأعمال الشاقة التي امرت بها في السورة، لكونها في نظرك كثيرا(3).

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «لا تستكثر ما عملت من خير للّه تعالى»(4).

وَ لِرَبِّكَ المنّان عليك بالنّعم العظام فَاصْبِرْ على مشاقّ تكاليفه و أذى المشركين، لا الاغراض النفسانية و الدنيوية كالمال و الجاه.

فَإِذٰا نُقِرَ فِي النّٰاقُورِ (5) فَذٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكٰافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مٰالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاّٰ إِنَّهُ كٰانَ لِآيٰاتِنٰا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) ثمّ إنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصبر، سلّى قلبه الشريف بتهديد الكفّار و معانديه بقوله تعالى:

فَإِذٰا نُقِرَ و نفخ فِي النّٰاقُورِ و الصّور النفخة الثانية للإحياء و النشور

فَذٰلِكَ اليوم الذي بين أيديهم يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ و شاقّ في الغاية. و قيل: يعني فذلك النّقر يومئذ نقر يوم عسير(6).

عَلَى الْكٰافِرِينَ لابتلائهم بالأهوال الفظيعة و الشدائد العظيمة.

ثمّ أكّد سبحانه عسره بقوله: غَيْرُ يَسِيرٍ لهم بوجه من الوجوه. عن ابن عباس: لمّا قال غير يسير على الكافرين فهم أنّه كان يسيرا على المؤمنين(7).

ثمّ خصّ سبحانه التهديد بأشقى المكذّبين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و هو الوليد بن المغيرة بقوله تعالى:

ذَرْنِي يا محمد، و دعني و الوليد وَ هو مَنْ خَلَقْتُ حال كونه وَحِيداً لا مال له و لا ولد و لا أعوان، فانّي أكفيكه و اجازيه و أنتقم لك منه.

و قيل: إنّ المراد خلقته حال كوني وحيدا في خلقه لا يشاركني فيه غيري(8).

و قيل: إنّ الوحيد لقب الوليد، و كان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي و لا لأبي نظير(8). و المعنى:

ص: 366


1- . تفسير الرازي 194:30.
2- . تفسير الرازي 194:30.
3- . تفسير الرازي 194:30.
4- . الكافي 1/362:2، تفسير الصافي 246:5.
5- . تفسير الرازي 198:30، تفسير روح البيان 228:10.
6- . تفسير الرازي 197:30.
7- . تفسير الرازي 198:30.
8- . تفسير الرازي 198:30.

خلّ بيني و بين الوليد، أعني وحيدا في ظنّه و اعتقاده، أو وحيدا في الشقاوة و الضلالة و الدناءة(1) ، أو وحيدا لا يعرف له أب، لأنّه كان لحيقا بقريش.

وَ جَعَلْتُ لَهُ في هذه الدنيا مٰالاً مَمْدُوداً يأتيه شيئا فشيئا على الدوام كالضّرع و الزّرع و التجارة.

و عن ابن عباس قال: كان ماله ممتدّا ما بين مكة إلى الطائف [من] البساتين التي لا ينقطع نفعها شتاء و صيفا، و الإبل و الخيل(2).

و قيل: إن الممدود كناية عن الكثير الذي يمتدّ تعديده(3).

وَ بَنِينَ كانوا كلّهم شُهُوداً و حضورا عنده لا يفارقونه، أو شهودا معه في المجامع و المحافل.

قيل: كانوا عشرة(4). و قيل: سبعة منهم خالد بن الوليد(5).

وَ مَهَّدْتُ و بسطت لَهُ الرئاسة و الجاه في قريش، و في العيش و العمر تَمْهِيداً و بسطا عجيبا، فأتممت عليه النّعم الدنيوية

ثُمَّ إنّه مع ذلك يَطْمَعُ من شدّة حرصه على الدنيا أَنْ أَزِيدَ على ما اعطيته حاشا و

كَلاّٰ كيف يطمع [في] ذلك.

ثمّ كانّه قيل: لم لا يطمع و لا يزداد؟ فأجاب سبحانه بقوله: إِنَّهُ لخبث ذاته كٰانَ لِآيٰاتِنٰا و دلائل توحيدنا و معجزات رسولنا و براهين البعث و القيامة من قديم الأيام، أو آياتنا القرآنية عَنِيداً و مبغضا و معارضا بلسانه، و إن كان معتقدا بقلبه، و لذا

سَأُرْهِقُهُ و اغشيه و اكلّفه كرها بل(6) ما يطعمه في الدنيا صَعُوداً و ارتقاء عقبه شاقة المصعد بحيث تغشاه الشدّة و العذاب من كلّ جانب.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي كذا أبدا(7).

و قيل: إنّه اسم عقبة في النار، كلّما وضع يده عليها ذابت، فاذا رفعها عادت(8).

إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقٰالَ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ قَوْلُ

ص: 367


1- . في النسخة: و الذئامة.
2- . تفسير الرازي 198:30 و 199، و قد المصنف خلط بين قول ابن عباس و مقاتل، تفسير أبي السعود 56:9.
3- . تفسير الرازي 199:30.
4- . تفسير الرازي 199:30، تفسير أبي السعود 56:9، تفسير روح البيان 228:10.
5- . تفسير الرازي 199:30، تفسير أبي السعود 56:9.
6- . كذا، و الظاهر: بدل، راجع تفسير روح البيان 229:10.
7- . تفسير الرازي 200:30، تفسير أبي السعود 57:9.
8- . تفسير الرازي 200:30، تفسير أب السعود 57:9، تفسير روح البيان 229:10.

اَلْبَشَرِ (25) ثمّ بيّن سبحانه كيفية عناده بقوله:

إِنَّهُ لعنه اللّه فَكَّرَ في القرآن و تدبّر وَ قَدَّرَ و رتّب في خواطره كلاما لصرف الناس عنه.

ثمّ أظهر سبحانه التعجّب من قوة فكره و تهيئة ردّه بقوله:

فَقُتِلَ اللعين كَيْفَ قَدَّرَ و رتّب هذا الكلام و قيل: إنّ مدح كلامه على سبيل الاستهزاء، و المراد إظهار أنّه في غاية الرّكاكة(1).

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار التعجّب من كلامه بقوله:

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ و رتّب كلامه الكذب من قبل نفسه

ثُمَّ نَظَرَ فيما قدّر.

قيل: فكّر أولا و قدّر الكلام ثانيا، ثمّ نظر و تأمّل في ذلك المقدّر احتياطا ثالثا(2) أو نظر في القرآن

ثُمَّ عَبَسَ و قطّب وجهه من الغضب و العناد حيث رأى نفسه عاجزا عن ردّه و إبطاله وَ بَسَرَ و تغيّر وجهه و اسودّ، أو قيّض ما بين عينيه، أو استعجل في عبوسه و أظهره في غير موقعه.

ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحقّ، و أعرض عنه وَ اسْتَكْبَرَ عن اتّباعه

فَقٰالَ عقيب إعراضه و استكباره:

إِنْ هٰذٰا القرآن الذي جاء به محمد، و ما هذا الكلام الذي يتحدّى به إِلاّٰ سِحْرٌ يُؤْثَرُ و يتعلّم من الغير، و ليس هو بكلام اللّه

إِنْ هٰذٰا و ما ذلك إِلاّٰ قَوْلُ الْبَشَرِ.

قيل: إنّ مراده من البشر يسار و جبير، كانا عبدين من فارس، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يراودهما، و أبوه فكيهة كان غلاما روميا يتردّد إلى مكّة من طرف مسيلمة الكذّاب في اليمامة(3).

روي أنّ الوليد مرّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و هو يقرأ حم السجدة (4)- و قيل: فواتح حم المؤمن (5)- فقال لبني مخزوم: و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، و لا من كلام الجنّ، إنّ له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق، و إنه يعلو و لا يعلى عليه. فقالت قريش صبا و اللّه الوليد، لتصبأنّ قريش، أي بمتابعته فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد عنده حزينا، و كلّمه بما أغضبه، فقال الوليد: أ لم تعلم قريش أنا أكثرهم مالا و ولدا إلى أن قال: أ تزعمون أنّ محمدا مجنون، فهل رأيتموه أنّه يخلق ؟ فانّ العرب كانت تعتقد أنّ الشيطان يخلق المجنون و يتخبّطه، أو تقولون: إنّه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن ؟ أو تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى الشعر قطّ؟ أو تزعمون أنّه كذّاب، فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب.

ص: 368


1- . تفسير الرازي 200:30، تفسير روح البيان 229:10.
2- . تفسير الرازي 200:30.
3- . تفسير روح البيان 231:10.
4- . تفسير الرازي 202:30.
5- . تفسير روح البيان 229:10.

فقالوا في كلّ ذلك: اللهمّ لا ثمّ قالوا: فما هو؟ و ما تقول في حقّه ؟ ففكّر فقال: ما هو إلاّ ساحر، أ ما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله و ولده و مواليه، و ما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن مسيلمة و عن أهل بابل، فارتجّ النادي فرحا، فتفرّقوا متعجّبين منه راضين به(1).

و عن القمي: نزلت في الوليد بن المغيرة: و كان شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقعد في الحجرة و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة، فقالوا: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمد، أشعر، أم كهانة، أم خطب ؟ فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا محمد، أنشدني من شعرك، فقال: «ما هو شعر، و لكنّه كلام اللّه الذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله» فقال: اتل عليّ منه شيئا فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حم السجدة، فلمّا بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا * يا محمد قريش فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ (2) فاقشعر الوليد، و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته، و مرّ إلى بيته، و لم يرجع إلى قريش من ذلك.

و مشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم، إنّ أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمد، أ ما تراه لم يرجع إلينا. فغدا أبو جهل إلى الوليد، و قال له: يا عم، نكّست رءوسنا و فضحتنا، و أشمت بنا عدوّنا، و صبوت إلى دين محمد! فقال: ما صبوت إلى دينه، و لكنّي سمعت كلاما صعبا، تقشعرّ منه الجلود. فقال له أبو جهل: أخطب هو؟ قال: لا. إنّ الخطب كلام متصل، و هذا كلام منثور، و لا يشبه بعضه بعضا. قال:

أ فشعر هو؟ قال: لا، أما انّى سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها، ما هو بشعر. قال:

فما هو؟ قال: دعني أفكّر فيه.

فلمّا كان من الغد قال له: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلنا؟ قال: قولوا هو سحر، فانّه أخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً و إنّما سمّي وحيدا لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة، و عليكم في جماعتكم سنة. و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له عشرة عبيد، عند كلّ [عبد] ألف دينار يتجر بها(3).

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا سَقَرُ (27) لاٰ تُبْقِي وَ لاٰ تَذَرُ (28) لَوّٰاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهٰا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَ مٰا جَعَلْنٰا أَصْحٰابَ النّٰارِ إِلاّٰ مَلاٰئِكَةً وَ مٰا جَعَلْنٰا عِدَّتَهُمْ إِلاّٰ فِتْنَةً

ص: 369


1- . جوامع الجامع: 517، تفسير الصافي 248:5، تفسير أبي السعود 57:9، تفسير روح البيان 229:10.
2- . فصلت: 13/41.
3- . تفسير القمي 393:2، تفسير الصافي 247:5.

لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ يَزْدٰادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمٰاناً وَ لاٰ يَرْتٰابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكٰافِرُونَ مٰا ذٰا أَرٰادَ اللّٰهُ بِهٰذٰا مَثَلاً كَذٰلِكَ يُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّٰ هُوَ وَ مٰا هِيَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْبَشَرِ (31) كَلاّٰ وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذٰا أَسْفَرَ (34) إِنَّهٰا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) ثمّ فسّر سبحانه تهديده بإرهاقه الصعود بقوله:

سَأُصْلِيهِ و ادخله عنفا و جبرا سَقَرَ و جهنم.

قيل: إن سقر أحد أسماء جهنم(1). و عن ابن عباس: أنّه اسم للطبقة السادسة من جهنم(2).

ثمّ بالغ سبحانه في التهويل بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك يا محمد مٰا سَقَرُ؟ فانّ العلم بها و بوصفها و شدّة حرّها خارج عن إدراك العقول في هذا العالم، إنّما الممكن من إدراكها أن يقال: إنّها

لاٰ تُبْقِي ممّا ألقى فيها شيئا بل تهلكه بالإحراق وَ لاٰ تَذَرُ هالكا حتّى يعاد.

عن ابن عباس: أنّها لا تبقي من الدم و اللحم و العظم شيئا، فاذا اعيدوا خلقا جديدا لا تذر أن تعاود إحراقهم بأشدّ ممّا كانت، و هكذا أبدا(3) ، و لا تبقي من المستحقّين للعذاب إلاّ عذّبتهم، ثمّ لا تذر من أبدان اولئك المعذّبين شيئا إلاّ أحرقته.

و قيل: يعني لا تبقي من أبدان المعذّبين شيئا، و لا تذر من قوّتها و شدّتها شيئا إلاّ أعملت تلك القوة و الشدّة في تعذيبهم(4).

و قيل: إنّ الجملتين مترادفتان ذكرا للتأكيد(5).

و تلك الجحيم

لَوّٰاحَةٌ و ظاهرة لِلْبَشَرِ و بني آدم من مسيرة خمسين عام، و يصل إلى الكافر سمومها و حرورها، كما يصل إلى المؤمن ريح الجنة و نسيمها من تلك المسافة، كذا قيل(3). و قيل: إنّ المعني مغيرة لظاهر الجلد(4) و يصير لونها أسود كالليل المظلم، و مأمور من قبلنا بتنظيم امور سقر، و موكّل

عَلَيْهٰا و مسلّط على أهلها تِسْعَةَ عَشَرَ من الملائكة الغلاظ الشّداد. قيل: أعينهم كالبرق، و أنيابهم كالصياصي، و أشفارهم تمسّ أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي كلّ منهم مسيرة سنة، كفّ أحدهم يسع مثل ربيعة و مضر، نزعت منهم الرأفة و الرحمة، رئيسهم

ص: 370


1- . تفسير روح البيان 231:10.
2- . تفسير الرازي 202:30، تفسير روح البيان 231:10. (3-4-5) . تفسير الرازي 202:30.
3- . تفسير روح البيان 231:10.
4- . تفسير أبي السعود 58:9، تفسير روح البيان 231:10.

مالك(1).

ثمّ روي أنّه لمّا نزلت الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم امّهاتكم، قال ابن ابي كبشة أنّ خزنة النار تسعة عشر، و أنتم الجمع العظيم أ يعجز(2) كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشدّ أو أبو الأسود - بن أسيد بن كلدة الجمحي، و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، و اكفوني أنتم اثنين. فلمّا قال أبو جهل و أبو الأشدّ - أو أبو الأسود - ذلك قال المسلمون: ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدّادين أي السجّانين. فنزلت

وَ مٰا جَعَلْنٰا أَصْحٰابَ النّٰارِ (3) و خزنتها الذين يقومون بأمرها إِلاّٰ مَلاٰئِكَةً و كلّ واحد منهم أقوى من جميع الإنس و الجنّ، و أطوع لأوامر اللّه، و ليس لهم رأفة بالثقلين لمخالفتهم إياهم في الجنس.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لقوّة أحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الامّة و على رقبته جبل فيرمي بهم في النار، و يرمي بالجبل عليهم»(4).

وَ مٰا جَعَلْنٰا عِدَّتَهُمْ إِلاّٰ العدد الذي يكون فِتْنَةً و سببا لازدياد الكفر لِلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على كفرهم و عنادهم، و ما أخبرنا بعددهم الا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ من اليهود و النصارى بصحّة نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، لما شاهدوا من موافقته لكتبهم من أنّ محمدا امّي لم يقرأها و لم يسمع شيئا من علمائهم وَ يَزْدٰادَ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه إِيمٰاناً و يقينا بهما بما رأوا من تصديق أهل الكتاب ما في القرآن.

روي أنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن خزنة النار و عددهم، فأجاب صلّى اللّه عليه و آله بأنّهم تسعة عشر(5).

وَ لاٰ يَرْتٰابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ و لا يعتريهم الشكّ بعد يقينهم بنوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، و لا تعرض لهم(6) شبهة ما، بل يكون يقينهم يقينا ثابتا جازما وَ لِيَقُولَ المنافقون اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الكفر و النفاق و الشكّ وَ الْكٰافِرُونَ المتجاهرون بالكفر المصرّون عليه استهزاء بالقرآن و إنكار الآية من عند اللّه: مٰا ذٰا و أي شيء أَرٰادَ اللّٰهُ بِهٰذٰا العدد الذي عيّن لخزنة جهنّم ؟ و هو العدد الناقص عن العقد، و لم يقل عشرون أو ثلاثون، فهو يكون مَثَلاً في الغرابة كَذٰلِكَ الذي ذكرنا من هداية أهل الكتاب، و ازدياد يقين المؤمنين بنزول هذه الآية، و إضلال الكافرين و المنافقين يُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ إضلاله على خبث طينته و ذمائم أخلاقه

ص: 371


1- . تفسير الرازي 203:30، تفسير روح البيان 231:10 و 232.
2- . في النسخة: أ يفجر.
3- . تفسير الرازي 203:30.
4- . تفسير أبي السعود 59:9، تفسير روح البيان 233:10.
5- . تفسير روح البيان 234:10.
6- . في النسخة: و لا يعرضهم.

و سيئات أعماله وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ هدايته بمقتضى طيب طينته و حسن نيته و أخلاقه، و إنّما يكون اختيار هذا العدد القليل لخزّان جهنّم لحكمة مقتضيه لذلك، لا لقلّة الملائكة الذين هم جنود اللّه، فانّهم من كثرتهم بحيث لا يحصون (1)وَ مٰا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ من الملائكة و سائر الموجودات إِلاّٰ هُوَ تعالى، فهو قادر على أن يكثّر عدد الخزنة، بل لكلّ واحد منهم أعوان من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ اللّه، و ليست عدّة الخزنة، أو سقر، أو تلك الآيات وَ مٰا هِيَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ و عظة لِلْبَشَرِ كافة و لبني آدم عامة.

كَلاّٰ لا يتذكّرون بتلك الذكريات(2) و المواعظ إلاّ العقلاء و أهل الإيمان، أو المراد ليس لأحد مجال إنكار سقر وَ الْقَمَرِ المضيء الذي تعرف به الأوقات و الآجال، و تظهر به عجائب الصّنع و كمال قدرته في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها و اختلافها على نظام واحد. و قيل: يعني اقسم بخالق القمر(3).

وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ و حين ذهب و انقضى، كما عن ابن عباس(4).

وَ الصُّبْحِ إِذٰا أَسْفَرَ و أضاء، و هو من الأوقات الشريفة التي يظهر فيها قدرة اللّه و رحمته

إِنَّهٰا قيل: إن الضمير راجع إلى سقر(5) ، و المعنى اقسم بهذه الأيمان المذكورة أنّ سقر لَإِحْدَى الطبقات، أو الدواهي اَلْكُبَرِ و العظام، و الطبقات الأخر لظى و الحطمة و السعير و الجحيم و الهاوية و جهنّم.

و قيل: إنّه راجع إلى الزبانية التسعة عشر، و المعنى أنّ التسعة عشر من إحدى الحجج العظام على قدرة اللّه على تعذيب جميع العصاة من بدو الخلقة إلى آخر الدهر بعدة قليلة من الملائكة(6) ، و جعلنا ذلك

نَذِيراً و مخوفا أو انذارا و تخويفا لِلْبَشَرِ أعني

لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أيّها الناس أَنْ يَتَقَدَّمَ و يسبق إلى الخيرات بهداية اللّه تعالى أَوْ لم يشأ و يَتَأَخَّرَ و يكفّ نفسه عنه باضلال اللّه.

كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاّٰ أَصْحٰابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنّٰاتٍ يَتَسٰاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ (45) وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتّٰى أَتٰانَا الْيَقِينُ (47)

ص: 372


1- . في النسخة: لا يحصى.
2- . في النسخة: الذكرات.
3- . تفسير روح البيان 238:10.
4- . تفسير الرازي 208:30.
5- . تفسير الرازي 209:30، تفسير روح البيان 238:10.
6- . تفسير روح البيان 238:10.

أيّها الناس اعلموا أنّه

كُلُّ نَفْسٍ من النفوس رجلا كان أو امرأة بِمٰا كَسَبَتْ و عملت في الدنيا لآخرتها رَهِينَةٌ عند اللّه و محبوسة بسيئاتها

إِلاّٰ أَصْحٰابَ الْيَمِينِ و ذوي الأعمال الصالحة من المؤمنين، فانّهم - بامتثال ما عليهم من التكاليف، و أداء حقوق اللّه إليه، و بإبراء ذممهم من الواجبات و ترك المحرّمات - فاكوّن رقابهم كما يفكّ الراهن رهنه بأداء دينه.

و قيل: إنّ المراد بهم أطفال المسلمين(1) فهم

فِي جَنّٰاتٍ و هم لما يعرفوا في الدنيا التكليف و الذنب يَتَسٰاءَلُونَ *

عَنِ الْمُجْرِمِينَ الذين يرونهم في جهنّم، و يقولون لهم:

مٰا سَلَكَكُمْ و أي شيء حبسكم، أو أدخلكم فِي دركة سَقَرَ و قال القائلون بالقول الأول: إنّ المؤمنين لسال بعضهم بعضا عن المجرمين: أين هم ؟ فلمّا رأوهم قالوا لهم: ما سلككم في سقر؟

قٰالُوا في جوابهم: إنّا لَمْ نَكُ في الدنيا مِنَ جملة اَلْمُصَلِّينَ و المؤدّين للصلاة الواجبة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تعاهدوا أمر الصلاة و حافظوا [عليها] و استكثروا منها، و تقرّبوا بها، فانّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، أ لا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «اعني لم نك من أتباع الأئمة الذين قال اللّه تعالى لهم: وَ السّٰابِقُونَ السّٰابِقُونَ * أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (3) أ ما ترى الناس يسمّون الذي يلي السابق مصلّيا، فذلك الذي [عنى] حيث قال: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أي لم نك من أتباع السابقين»(4).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «يعني أنّا لم نتولّ وصيّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و الأوصياء من بعده، و لم نصلّ عليهم»(5).

أقول: هاتان الروايتان تأويل لا تفسير.

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ و لم نعطهم الزكاة الواجبة، أو المراد نبخل بأموالنا

وَ كُنّٰا في الدنيا نَخُوضُ و نشرع في الأقوال الباطلة، كذمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و الاستهزاء به و بكتابه مَعَ الْخٰائِضِينَ و الشارعين فيها

وَ كُنّٰا مع جميع ذلك نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ و نجحد دار الجزاء

حَتّٰى أَتٰانَا الْيَقِينُ و أدركنا الموت.

فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ الشّٰافِعِينَ (48) فَمٰا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ

ص: 373


1- . تفسير الرازي 210:30.
2- . نهج البلاغة: 316 الخطبة 199، تفسير الصافي 251:5.
3- . الواقعة: 10/56 و 11.
4- . الكافي 38/347:1، تفسير الصافي 251:5.
5- . الكافي 91/360:1، تفسير الصافي 251:5.

مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) ثمّ لمّا حكى سبحانه سبب استحقاق المجرمين للعقاب، بيّن عدم المانع من تعذيبهم بقوله تعالى:

فَمٰا تَنْفَعُهُمْ لدفع العذاب شَفٰاعَةُ جميع الأنبياء و الأوصياء و الأولياء اَلشّٰافِعِينَ للعصاة، لو فرض محالا بشفاعتهم لهم، لا شراط قبولها بقابلية المشفوع له للشفاعة، و لا قابلية للكفّار لها، فاذا كان هذا حال المكذّبين بالقرآن

فَمٰا لَهُمْ و أيّ داع دعاهم إلى أن يكونوا عَنِ القرآن الذي هو عين اَلتَّذْكِرَةِ و الموعظة للناس لشدّة لزومه لها مُعْرِضِينَ مع تعاضد موجبات الإقبال عليه، و تأكّد الدواعي للايمان به و الاتّعاظ منه، و العجب مع ذلك أنّهم يفرّون من استماع القرآن

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ و حشية كما عن ابن عباس (1)مُسْتَنْفِرَةٌ و هاربة

فَرَّتْ و هربت مِنْ قَسْوَرَةٍ عن ابن عباس:

القسورة: الأسد بلسان الحبشة. و قال: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك المشركون إذا رأوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله هربوا منه(2).

و قيل: القسورة: جماعة الرّماة الذين يتصيّدون الحمر(3). و قيل: ركز الناس و أصواتهم(4) و فيه غاية ذمّهم و تهجين حالهم و شهادة عليهم بالبلد(5) حيث إنّه لا نفار مثل نفار الحمر الوحشية و اطرادها في العدو إذا خافت من شيء.

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىٰ صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاّٰ بَلْ لاٰ يَخٰافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاّٰ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شٰاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ مٰا يَذْكُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوىٰ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) ثمّ لمّا قال سبحانه: ما لهم يعرضون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو القرآن، بيّن سبب ذلك بقوله:

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ و رجل مِنْهُمْ و يتوقّع كلّ فرد من أفرادهم أَنْ يُؤْتىٰ من جانب اللّه صُحُفاً و كتبا مُنَشَّرَةً و مفتوحة.

و روي أنّ أبا جهل و عبد اللّه بن امية و أصحابهما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن نتّبعك حتى تأتي كلّ واحد منّا بكتب، أو قالوا: يصبح عند رأس كلّ رجل منّا أوراق منشورة، عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتّباعك(6).

ص: 374


1- . تفسير الرازي 212:30.
2- . تفسير الرازي 212:30.
3- . تفسير الرازي 212:30، تفسير روح البيان 241:10.
4- . تفسير الرازي 212:30.
5- . في تفسير الرازي: بالبله. و البلد: قلّة الذكاء. و البله: ضعف العقل و غلبة الغفلة.
6- . تفسير روح البيان 242:10.

و قيل: قالوا: إن كان محمد صادقا، فليصبح عند رأس كلّ رجل منا صحيفة فيها براءة من النار(1).

كَلاّٰ لم يقولوا هذه الكلمات، و لم يقترحوا تلك الآيات لرفع الشّبهة بَلْ للعناد و اللّجاج لاٰ يَخٰافُونَ الْآخِرَةَ و شدائدها، لأنّهم ينكرونها و يستغرقون في حبّ الدنيا و شهواتها

كَلاّٰ ليس لأحد أن يعرض عن القرآن حيث إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ بليغة كافية، و موعظة شافية لأهل العالم

فَمَنْ شٰاءَ الذّكر و العظة ذَكَرَهُ و اتّعظ به، و جاز به خير الدارين.

و قيل: إنّ الضمير في إِنَّهُ و ذَكَرَهُ راجع أي التذكرة في قوله: فَمٰا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ لأنّها في معنى الذّكر و القرآن(2).

وَ مٰا يَذْكُرُونَ و لا يتّعظون و لا يهتدون به إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ تذكّرهم و اتّعاظهم، أو هدايتهم به، و فيه دلالة على أنّه بمشية اللّه و إرادته العبد، لأنّه لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين، كما حقّقناه في أوائل البقرة.

ثمّ وصف سبحانه ذاته المقدّسة بما يوجب الخوف و الرجاء بقوله: هُوَ تعالى أَهْلُ التَّقْوىٰ و حقيق بأن يخاف منه و من عقابه على ترك الايمان و طاعته، لأنّه ذو انتقام و شديد العقاب وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ و حقيق بأن يغفر لمن آمن به و أطاعه.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «قال اللّه تبارك و تعالى: أنا أهل أن أتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئا، و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنّة».

و قال عليه السّلام: «[إن اللّه تبارك و تعالى] أقسم بعزته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار أبدا»(3).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ في الفريضة سورة المدّثر، كان حقا على اللّه عز و جلّ أن يجعله مع محمد صلّى اللّه عليه و آله في درجته، و لا يدركه في الحياة الدنيا شقاء أبدا إن شاء اللّه تعالى»(4).

ص: 375


1- . تفسير الرازي 212:30.
2- . تفسير الرازي 213:30، تفسير روح البيان 242:10.
3- . التوحيد: 6/20، تفسير الصافي 252:5.
4- . ثواب الأعمال: 120، مجمع البيان 77:10، تفسير الصافي 252:5.

ص: 376

في تفسير سورة القيامة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لاٰ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ (1) وَ لاٰ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّٰامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة المدّثر المتضمّنة لبيان بعض أهوال القيامة و بيان عظمة القرآن، و أنّ مكذّبيه لا يخافون الآخرة، نظمت سورة القيامة المتضمّنة لبيان بعض آخر من أهوال القيامة، و بيان عظمة القرآن المجيد، و أنّ مكذّبيه يحبّون العاجلة و يذرون الآخرة، و غير ذلك من المناسبات بين السورتين الشريفتين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في إثبات المعاد بقوله:

لاٰ أُقْسِمُ على وقوع المعاد بِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ * وَ لاٰ أُقْسِمُ عليه بِالنَّفْسِ اللَّوّٰامَةِ لعظمة شأنهما و عدم الحاجة في وقوعه إلى القسم لوضوحه. و قيل: إنّ حرف لاٰ زائدة للتأكيد(1). و المعنى اقسم بيوم القيامة و بالنفس اللّوامة أنّكم لتبعثنّ.

عن ابن عباس: كلّ نفس تلوم نفسها يوم القيامة [سواء] كانت فاجرة أو برّه، أمّا البرّة فلأجل أنّها لم تزد على طاعتها، و أمّا الفاجرة فلأجل أنّها لم تشتغل بالتقوى(2).

و قيل: إنّ المراد النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة(3).

و قيل: إنّ المراد النفوس الشريفة التي تلوم نفسها و إن اجتهدت في الطاعة(4).

و قيل: إنّها النفوس الشقية، فانّها تلوم نفسها إذا شاهدت أهوال القيامة(5). قيل: وجه المناسبة بين المقسمين أنّ ظهور شدّة اللوم يكون في ذلك اليوم(4).

ثمّ أنكر سبحانه استبعاد البعث أو امتناعه أو أظهر التعجّب منه بقوله:

أَ يَحْسَبُ و يتخيّل اَلْإِنْسٰانُ العاقل أَلَّنْ نقدر على أن نَجْمَعَ عِظٰامَهُ بعد موته. عن ابن عباس: أنّ المراد

ص: 377


1- . تفسير الرازي 214:30، تفسير روح البيان 243:10.
2- . تفسير الرازي 215:30.
3- . تفسير الرازي 216:30. (4و5) . تفسير الرازي 216:30.
4- . مجمع البيان 59:10.

بالانسان أبا جهل(1).

و روي أنّ عديّ بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق، و هما اللذان قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهما:

«اللهمّ اكفني شرّ جاري السّوء» قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا محمد، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون، و كيف أمره ؟ فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم اصدّقك يا محمد و لم اؤمن بك، كيف يجمع اللّه العظام(2).

بَلىٰ قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنٰانَهُ (3) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسٰانُ لِيَفْجُرَ أَمٰامَهُ (4) يَسْئَلُ أَيّٰانَ يَوْمُ الْقِيٰامَةِ (5) فَإِذٰا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسٰانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) ثمّ ردّ سبحانه المنكرين بقوله:

بَلىٰ نحن كنّا قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ و نصنع بَنٰانَهُ و أصابعه و أطرافها كما كانت بعد صيرورتها رميما و رفاة مختلطا بالتراب متفرّقا في أقطار الأرض مع صغرها و رقّتها، فكيف بغيرها من العظام الكبار الغلاظ؟

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الحسبان ليس بشبهة و ترديد في إمكان إحياء الموتى و قدرة اللّه عليه

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسٰانُ المنكر للبعث لِيَفْجُرَ و يكذّب بما يكون أَمٰامَهُ و قدّامه من البعث و الحساب.

و قيل: ليدوم على فجوره و عصيانه فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه(6).

و عن القمي و سعيد بن جبير: ليقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله و أسوأ أعماله(4). و هو لإصراره على الذنب

يَسْئَلُ تكذيبا و استهزاء بإخبار اللّه و رسوله بالبعث أَيّٰانَ يَوْمُ الْقِيٰامَةِ و متى يكون ؟ فأجابه سبحانه بقوله:

فَإِذٰا بَرِقَ و تحيّر اَلْبَصَرُ و شخص برؤية الأهوال الفازعة في يوم تشخص فيه الأبصار، أو يوم الموت برؤية أسبابه و الملائكة الحاضرين لقبض روحه، فعند ذلك يتيقّن بأن إنكاره البعث كان خطا و غلطا

وَ إذا خَسَفَ الْقَمَرُ و ذهب ضوؤه أو انعدم جرمه بالكلية

وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ في ذهاب النور، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(5) و في الإعدام.

و قيل: يجمعان أسودين مكوّرين كأنّهما ثوران عقيران في النار(6). و قيل: يجمعان ثمّ يقذفان في

ص: 378


1- . تفسير الرازي 217:30.
2- . تفسير الرازي 217:30، تفسير أبي السعود 65:9، تفسير روح البيان 244:10.
3- . تفسير القمي 396:2، تفسير الصافي 254:5، تفسير الرازي 218:30، عن سعيد بن جبير.
4- . تفسير روح البيان 246:10.
5- . تفسير الرازي 220:30.
6- . تفسير الرازي 918:30.

[البحر، فهناك] نار اللّه الكبرى(1) ليكون حسرة على من عبدهما، و إنّما ذكّر الفعل لأنّ الكلام في تأويل جمع بينهما أو جمع النوران، أو لتقدّم الفعل.

فعند ذلك

يَقُولُ الْإِنْسٰانُ المنكر للبعث من كثرة التحيّر و شدّة الوحشة يَوْمَئِذٍ و وقت مشاهدة الأهوال: إياسا عن إمكان الفرار: أَيْنَ الْمَفَرُّ و هل إلى موضع يحفظني سبيل ؟

كَلاّٰ لاٰ وَزَرَ (11) إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسٰانُ يَوْمَئِذٍ بِمٰا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ (15) ثمّ ردعهم سبحانه عن الطمع في الفرار بقوله:

كَلاّٰ و حاشا أن تجدوا مفرّا لاٰ وَزَرَ و لا ملجأ و لا معاد لأحد من العذاب، بل

إِلىٰ رَبِّكَ و مشيئته و حكمه يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ و المرجع لا إلى غيره. و قيل: يعني إلى مشيئة ربّك مستقرّهم و منزلهم من الجنّة و النار(2).

يُنَبَّؤُا و يخبر اَلْإِنْسٰانُ المكلّف في الدنيا يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت بِمٰا قَدَّمَ من عمل خير و صدقة مال و عبادة خالصة وَ ما أَخَّرَ و ترك و لم يعمل. و قيل: يعني ممّا قدّم من أعماله مطلقا خيرا كان أو شرا، أو بما أخّر من زمان حياته من سنّة حسنة أو سيئة(3).

عن الباقر عليه السّلام: «بما قدّم من خير و شرّ، و ما أخّر من سنّة يستنّ بها من بعده، فان كان شرّا كان عليه وزر من عمل بها، و لم ينقص من وزرهم شيئا، و إن كان خيرا كان له مثل اجورهم، و لا ينقص من اجورهم شيئا»(4).

و قيل: إنّ معنى (ما أَخَّرَ) ما خلّفه من المال، أو أوقفه، أو أوصى به(5).

بَلِ الْإِنْسٰانُ لا يحتاج إلى أن ينبّئه بأعماله و يخبره غيره بها، لأنّه عَلىٰ جميع أعمال نَفْسِهِ في الخلوات و الجلوات صغيرها و كبيرها حجّة بَصِيرَةٌ و بيّنة واضحة، أو المراد ذو بصيرة كاملة، لحضور جميع أعماله في نظره بصورتها البرزخية، و شهادة جوارحه بها، و تقبل شهادتها عليه

وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ و أرخى ستوره و أراد إخفاء أعماله.

قيل: إن السّتور استعمل مجازا في الأعذار بعلامة المشابهة، فكما أنّ السّتور تمنع رؤية المحتجب،

ص: 379


1- . تفسير الرازي 220:30.
2- . تفسير الرازي 221:30، تفسير أبي السعود 66:9، تفسير روح البيان 246:10.
3- . تفسير أبي السعود 66:9، تفسير روح البيان 247:10.
4- . تفسير القمي 397:2، تفسير الصافي 255:5.
5- . تفسير أبي السعود 66:9، تفسير روح البيان 247:10.

كذلك المعذرة تمنع قبح الذنب(1).

و قيل: يعني و لو جاء بأعذاره، بأن يقول: حملني على العصيان الضرورة و شدّة الحاجة، أو الجهل بالحكم، أو خوف ذهاب الجاه و نحوها من الأعذار، فانّها لا تنفعه، لعلمه، بأنّه كاذب فيها، أو صادق و لا تكون عذرا فيه(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا، و يستر سيئا؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك، و اللّه عزّ و جلّ يقول: بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية»(3). و عنه عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية فقال: «ما يصنع الانسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم اللّه منه ؟ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه اللّه رداءها إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ»(4).

لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ (19) كَلاّٰ بَلْ تُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ (20) وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ علم الانسان يوم القيامة بما صدر منه في الدنيا كاف لا يحتاج إلى إخبار الغير به في ذلك اليوم، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يستعجل في قراءة ما يقرؤه عليه جبرئيل من القرآن ليحفظه، بيّن سبحانه أنّك يا محمد لا تحتاج إلى التعجيل في القراءة في حفظك القرآن بقوله:

لاٰ تُحَرِّكْ بالقرآن و لا تنطق بِهِ لِسٰانَكَ حال قراءة جبرئيل عليه آياته لِتَعْجَلَ بِهِ و تسارع إلى أخذه و حفظه مخافة أن ينفلت، فكما أنّ علينا جمع العظام النّخرة

إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ في صدرك بحيث لا ينفلت منه شيء من آياته و كلماته و حروفه، و لا يخفى عليك شيء من معانيه

فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ عليك بلسان جبرئيل و تمّت قراءته و تلاوته و سكت فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ و تلاوته عليك، و اتله كما تلي، و لا تكلّف نفسك بالقراءة مقارنة لقراءته.

أقول: فظهر أنّه ليس في الآية نهي تحريم حتى يرد إشكال، بل هو إرشاد إلى الأسهل و رفع للكلفة عنه.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا في كلّ ما أشكل عليك فهمه بَيٰانَهُ و توضيحه، فلا تعجل في السؤال عن مشكلاته بين قراءة جبرئيل عليك، فظهر من الآية المباركة أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ مع قراءة جبرئيل و يسأل في أغنائها عن مشكلاته و معانيه، لحرصه على العلم، فارشد إلى تركهما.

ص: 380


1- . تفسير الرازي 222:30، و فيه: المعذرة عقوبة الذنب.
2- . تفسير روح البيان 247:10.
3- . الكافي 11/223:2، مجمع البيان 598:10، تفسير الصافي 255:5.
4- . الكافي 6/223:2، مجمع البيان 599:10، تفسير الصافي 255:5.

ثمّ لمّا نهى سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله عن التعجيل في القرآن و السؤال اللذين هما من أعمال الدين ذمّ سبحانه الناس على حبّ الدنيا العاجلة بقوله تبارك و تعالى:

كَلاّٰ ليس لأحد التعجيل في الامور، و ليس اعتذاركم أيّها الناس في القيامة صدقا بَلْ عصيتم ربّكم لأنّكم خلقتم من عجل و طبعتم عليه، و لذا كنتم تُحِبُّونَ الدنيا اَلْعٰاجِلَةَ و تعملون لها

وَ تَذَرُونَ و تتركون النشأة اَلْآخِرَةَ و تعرضون عنها.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ (22) إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ (25) كَلاّٰ إِذٰا بَلَغَتِ التَّرٰاقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ رٰاقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرٰاقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السّٰاقُ بِالسّٰاقِ (29) إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسٰاقُ (30) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين و سوء حال الكافرين فيها لحثّ الناس على العمل لها بقوله:

وُجُوهٌ كثيرة و هي وجوه المؤمنين الصالحين يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت نٰاضِرَةٌ و حسنة و مشرقة بهية من أثر النعمة و الراحة، و هي

إِلىٰ رحمة رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ.

عن الرضا عليه السّلام قال: «يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها»(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث - قال: «ينتهى أولياء اللّه بعد ما يفرغون من الحساب إلى نهر يسمّى الحيوان فيغتسلون فيه و يشربون منه، فتبيضّ وجوههم إشراقا، فيذهب عنهم كلّ قذى و وعث ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم كيف يثيبهم» قال: «فذلك قوله تعالى:

إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ و إنّما يعني بالنظر إليه إلى ثوابه تبارك و تعالى».

و الناظرة في بعض اللغة: هي المنتظرة، أ لم تسمع إلى قوله: فَنٰاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟ أي منتظرة(2).

أقول: قد غلط جمهور أهل السنّة - و هم الأشاعرة - حيث تمسّكوا بالآية لإثبات أن المؤمنين يرون اللّه تعالى بأبصارهم في القيامة، لعدم جواز التمسّك بظواهر الآيات لإثبات المحال العقلي، مع أنّ الآية غير ظاهرة في مدّعاهم، لجواز كون الناظرة بمعني منتظرة.

وَ وُجُوهٌ كثيرة، و هي وجوه الكفّار يَوْمَئِذٍ، و حين قيام القيامة بٰاسِرَةٌ و عابسة كالحة، مظلمة ألوانها معدمة آثار السرور و النعمة منها، لظهور الشقاء و اليأس من رحمة اللّه، فعند ذلك

ص: 381


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2/114:1، تفسير الصافي 256:5.
2- . الاحتجاج: 243، تفسير الصافي 256:5.

تَظُنُّ و تعتقد، أو تتوقّع تلك الوجوه أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا في ذلك اليوم عقوبة فٰاقِرَةٌ و داهية تكسر فقار الظهر. قيل: اريد بها أنواع العذاب في النار(1).

ثمّ ردع سبحانه الناس عن إيثار الدنيا على الآخرة بقوله:

كَلاّٰ و ارتدعوا عمّا أنتم عليه من حبّ الدنيا.

قيل: إنّ المراد لمّا عرفتم سعادة السعداء و شقاوة الأشقياء في الآخرة، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، و تنبّهوا على [ما] بين أيديكم من الموت الذي تتقطّع عنده الدنيا العاجلة عنكم(2).

و اذكروا إِذٰا بَلَغَتِ الروح اَلتَّرٰاقِيَ و الحناجر و العظام المحيطة بالنحر. و قرب خروجها من جسدكم

وَ قِيلَ تمنيا أو انكارا، لاحتمال شفائه بالرّقية و التعويذ مَنْ رٰاقٍ و من يقدر على إحيائه بالأوراد و التعويذ(3). و قيل: يعني من الرافع بروحه أي السماء(4).

عن ابن عباس: أنّ الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت: من يرقى بهذا الكافر(5).

و قيل: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، و سبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فاذا بلغت نفس العبد التراقي، نظر بعضهم إلى بعض أيّهم يرقي بروحه إلى السماء(6).

وَ ظَنَّ المحتضر حين بلوغ روحه التّرقوة و أحاط به ملائكة الموت أَنَّهُ الْفِرٰاقُ من الدنيا المحبوبة و نعيمها التي ضيّع العمر في كسبها، و أهلك نفسه بالالتذاذ و الاشتغال بها، أو فراق الروح من البدن، أو الفراق من الأهل و الأولاد و الأموال.

قيل: عبّر سبحانه عن اليقين بالموت هنا بالظنّ، لأنّ الانسان ما دام فيه حشاشة يطمع في الحياة لشدّة حرصه عليها(7). في الحديث: «أنّ العبد ليعالج كرب الموت و سكراته، و إنّ مفاصله ليسلّم بعضها على بعض، تقول: السّلام عليك، افارقك و تفارقني إلى يوم القيامة»(8).

وَ الْتَفَّتِ و التوت اَلسّٰاقُ بِالسّٰاقِ عند قلق الموت، أو في الكفن، أو ليبسهما(9) بالموت.

و قيل: إنّ الساق كناية عن الشدّة، و المراد التفّت شدّة فراق الدنيا بشدّة لقاء الآخرة، أو شدّة مفارقة الأهل و شدّة ترك المال و الجاه، و شدّة شماتة الأعداء و غمّ الأولياء، أو شدّة الذهاب إلى الآخرة و شدّة القدوم على اللّه، أو شدّة فراق الأحباب و شدّة الورود في دار الغربة(10). و عند ذلك

إِلىٰ رَبِّكَ

ص: 382


1- . تفسير الرازي 230:30.
2- . تفسير الرازي 230:30.
3- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 254:10.
4- . تفسير الطبري 121:29، تفسير روح البيان 255:10.
5- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 255:10.
6- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 255:10.
7- . تفسير الرازي 231:30، تفسير روح البيان 255:10.
8- . تفسير روح البيان 255:10.
9- . في النسخة: أو ليلبسهما، راجع تفسير الرازي 232:30.
10- . تفسير الرازي 232:30.

وحده، و نحو محضر عدله تعالى يَوْمَئِذٍ الْمَسٰاقُ و الاذهاب بالعنف و القهر، أو إلى ربك مفوّض سوقهم.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب ؟ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرٰاقُ أيقن بمفارقة الأحبّة وَ الْتَفَّتِ السّٰاقُ بِالسّٰاقِ التفت الدنيا بالآخرة إِلىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسٰاقُ قال: المصير إلى ربّ العالمين»(1).

فَلاٰ صَدَّقَ وَ لاٰ صَلّٰى (31) وَ لٰكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطّٰى (33) أَوْلىٰ لَكَ فَأَوْلىٰ (34) ثُمَّ أَوْلىٰ لَكَ فَأَوْلىٰ (35) ثمّ بيّن سبحانه أعظم معاصيهم الموجبة لاستحقاقهم العذاب بقوله:

فَلاٰ صَدَّقَ بالرسول و دينه و كتابه و دار الجزاء وَ لاٰ صَلّٰى الصلوات الواجبة

وَ لٰكِنْ لم يكتف بترك التصديق، بل كَذَّبَ الرسول و كتابه و البعث بعد الموت وَ تَوَلّٰى و أعرض عن الدين و عبادة ربّ العالمين

ثُمَّ مع ذلك ذَهَبَ إِلىٰ أَهْلِهِ و عياله و عشيرته و هو يَتَمَطّٰى و يتبختر و يختال في مشيه افتخارا بتكذيب الرسول و الإعراض عن عبادة اللّه، فقل يا محمد لهذا الكافر:

أَوْلىٰ لَكَ الهلاك، أو بعدا، أو ويل لك فَأَوْلىٰ لك

ثُمَّ كرّر القول، و قل: أَوْلىٰ لَكَ فَأَوْلىٰ بعد اخرى. و قيل: أولى مأخوذ من آل يئول، و المعنى: عقباك النار(2).

قال جمع من المفسرين: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد أبي جهل: ثمّ قال: أولى لك فأولى، توعّده، فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهدّدني ؟ لا تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي.

ثمّ انسلّ ذاهبا، فأنزل اللّه تعالى كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله له، فأولى لك دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه(3).

و قيل: إنّه وعيد مبتدأ من اللّه للكافر(4).

عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «يقول اللّه عز و جلّ بعدا لك من خير الدنيا، و بعدا لك من خير الآخرة»(5).

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىٰ (37) ثُمَّ كٰانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّٰى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ (39) أَ لَيْسَ ذٰلِكَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتىٰ (40)

ص: 383


1- . الكافي 32/259:3، تفسير الصافي 257:5.
2- . تفسير البيضاوي 550:2، تفسير أبي السعود 69:9.
3- . تفسير الرازي 233:30، تفسير روح البيان 257:10.
4- . تفسير الرازي 233:30.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 205/54:2، تفسير الصافي 257:5.

ثمّ لمّا حكى سبحانه في أول السورة إنكار المشركين البعث في الآخرة بقوله:

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ (1) استدلّ هنا على وجوب البعث بقوله: أَ يَحْسَبُ و يتوهّم اَلْإِنْسٰانُ العاقل أَنْ يُتْرَكَ من قبل اللّه سُدىً و مهملا لا يكلّف في الدنيا و لا يحاسب بعمله في الآخرة ؟ حاشا و كلاّ كيف يمكن ذلك مع أنّه تعالى أعطاه القدرة و آلات الأعمال و العقل، و ذلك مقتض لنهيه عن القبائح و أمره بالمحسنات، و إلاّ يكون هذا الخلق الكامل عبثا، و يكون راضيا بوقوع القبائح منه، و ذلك مناف للحكمة البالغة، و لو كان التكليف و لم تكن دار الجزاء لزم تساوي المطيع و العاصي، و ذلك باطل بالبداهة، و إن كان إنكارهم من جهة عدم قدرة اللّه على الخلق ثانيا فنقول:

أَ لَمْ يَكُ ذلك الانسان قبل خلقه الأول نُطْفَةً قدرة و ماء قليلا مِنْ مَنِيٍّ متكوّن في صلب الرجل يُمْنىٰ و يصبّ من مخرج بوله في رحم انثى

ثُمَّ بعد انصبابه في الرّحم كٰانَ ذلك المنيّ، أو ذلك الانسان عَلَقَةً و قطعة دم فَخَلَقَ اللّه و قدّره فَسَوّٰى خلقه و عدّل قامته و أعضاءه و أكمل نشأته.

عن ابن عباس: فَخَلَقَ أي نفخ فيه الروح فَسَوّٰى أي فكمّل أعضاءه(2).

فَجَعَلَ و خلق مِنْهُ بقدرته اَلزَّوْجَيْنِ و الصنفين من الانسان، أعنى اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ مع اختلافهما في الطبيعة و الأخلاق

أَ لَيْسَ أيّها الشاعر ذٰلِكَ الخالق العظيم الذي خلق أولا هذا الخلق البديع بلا مثال من ماء بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتىٰ و يخلقهم ثانيا من تراب، مع أنّ الخلق الثاني في نظر العقل أهون و أسهل من الأول.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأها قال: «سبحانك اللّهم بلى»(3).

و عن (المجمع) أنّه روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام(4).

و عن ابن عباس من قرأها فليقل: سبحانك اللّهم بلى، إماما كان أو مأموما(5).

و في رواية: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «بلى و اللّه، بلى و اللّه»(6).

عن الباقر عليه السّلام: «من أدمن قراءة لاٰ أُقْسِمُ و كان يعمل بها بعثه اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبره في أحسن صورة، و يبشّره و يضحك في وجهه حتّى يجوز على الصراط و الميزان»(7).

وفّقنا اللّه و جميع المؤمنين لإدمان تلاوتها، و الحمد للّه تبارك و تعالى على التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 384


1- . القيامة: 3/75.
2- . تفسير الرازي 234:30.
3- . تفسير الرازي 258:10، تفسير روح البيان 258:10.
4- . مجمع البيان 607:10، تفسير الصافي 258:5.
5- . تفسير روح البيان 258:10.
6- . تفسير روح البيان 258:10.
7- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 594:10، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 258:5.

في تفسير سورة الانسان

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنّٰا خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ثمّ لمّا ختمت سورة القيامة ببيان بدو خلق الانسان و خلق صنفين منه الذكر و الانثى، اردفت بسورة الانسان المبدوءة ببيان ابتداء خلق الانسان، و جعله صنفين الشكور و الكفور، و قال سبحانه في السورة السابقة: إنّ الكفّار يحبّون العاجلة و يذرون الآخرة، و في هذه السورة أنّهم يحبّون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر بدو خلق الانسان بقوله تعالى:

هَلْ أَتىٰ و مضى عَلَى الْإِنْسٰانِ في بدو خلقه حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ و مدّة طويلة من الزمان و هو لَمْ يَكُنْ في تلك المدّة شَيْئاً و موجودا مَذْكُوراً باسم من الأسماء، بل كان في هذا العالم معدوما صرفا، و إنما كان في علم اللّه مقدورا عنها، كان مذكورا في علم اللّه و لم يكن مذكورا في الخلق.

و عن الصادق عليه السّلام: «كان مقدورا غير مذكور»(1).

و عنه عليه السّلام: «كان شيئا مقدورا و لم يكن مكوّنا»(2). قيل: إن المراد من الانسان في الآية آدم أبو البشر(3).

روي عن ابن عباس: أنّه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثمّ من صلصال فأقام أربعين سنة، ثمّ من حمإ مسنون، فأقام أربعين سنة، فتمّ خلقه بعد مائة و عشرين سنة، ثمّ نفخ فيه الرّوح(4).

و في رواية اخرى عنه: أنّ المراد من حِينٌ هنا هو الزمن الطويل الممتدّ الذي لا يعرف مقداره(5).

أقول: المراد من الزمن الطويل الذي لا يعرف مقداره مدّة كونه مقدورا في علم اللّه.

ثمّ بيّن سبحانه خلق أولاد آدم بقوله:

إِنّٰا خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ و أولاد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ

ص: 385


1- . الكافي 5/114:1، تفسير الصافي 259:5.
2- . مجمع البيان 614:10، تفسير الصافي 259:5.
3- . تفسير الرازي 235:30، تفسير أبي السعود 70:9.
4- . تفسير الرازي 235:30، تفسير أبي السعود 70:9.
5- . تفسير الرازي 235:30، و لم ينسبه إلى أحد.

و مختلط و مركب من ماء الرجل و ماء المرأة، على ما روى عن الباقر عليه السّلام(1).

قيل: لكلّ من الماءين أوصاف تغاير أوصاف الآخر، فانّ ماء الرجل أبيض غليظ له قوّة العقد، و ماء المرأة أصفر رقيق فيه قوّة الانعقاد، فما كان في الولد من عصب و عظم و قوّة فمن ماء الرجل، و ما كان فيه من لحم و دم و شعر فمن ماء المرأة. قيل: إنّه مروي(2).

و قيل: إنّ المراد اختلاط ماء الرجل بدم الحيض(3).

قال بعض المفسرين: إنّه يختلط الماء أولا بدم الحيض، ثمّ يصير علقة(4).

و قيل: إنّ المعنى من نطفة ذات أمشاج، و اخلاط من الطبائع كالحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة(5).

و قيل: يعني ذات أطوار و ألوان، فانّ النطفة تصير علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاما إلى تمام الخلق، و هو مرويّ عن ابن عباس(4).

ثمّ بيّن سبحانه حكمة هذا الخلق البديع بقوله: نَبْتَلِيهِ و التقدير لنبتليه بالتكليف. و قيل: إنّه حال، و المعنى: حال كوننا مريدين ابتلاءه و امتحانه(5).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أعطاه ما يصحّ معه ابتلاؤه. بقوله: فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً فبالسمع يدرك الآيات التنزيلية و المواعظ الإلهية و بالبصر يدرك الآيات التكوينية و العبر النافعة.

و قيل: إنّ المراد أعطيناه الحواسّ الخمس، و إنّما خصّ الحسّين السمع و البصر - بالذكر لكونهما أعظمها و أشرفها و أنفعها(6). و قيل: إنّ المراد بهما الفهم و التميز(7) ، و المعنى: جعلناه فهيما مميزا.

إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (3) إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَلاٰسِلَ وَ أَغْلاٰلاً وَ سَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرٰارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كٰانَ مِزٰاجُهٰا كٰافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهٰا عِبٰادُ اللّٰهِ يُفَجِّرُونَهٰا تَفْجِيراً (6) ثمّ بيّن سبحانه إتمام لطفه به بقوله تعالى:

إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ بتوسّط إعطائه العقل و إرسال الرسول و إنزال الكتب السماوية اَلسَّبِيلَ الذي يوصله إلى قربنا، و كأنّه تعالى قال: خلقته للابتلاء، و أعطيته جميع ما يحتاج إليه في التعيّش و الهداية إلى الحقّ ليكون إِمّٰا شٰاكِراً لنعم اللّه بالايمان و الطاعة

ص: 386


1- . تفسير القمي 398:2، تفسير الصافي 259:5.
2- . تفسير أبي السعود 70:9، تفسير روح البيان 260:10.
3- . تفسير روح البيان 260:10. (4و5) . تفسير الرازي 236:30.
4- . تفسير أبي السعود 70:9 و لم ينسبه إلى أحد.
5- . تفسير الرازي 237:30.
6- . تفسير الرازي 237:30.
7- . تفسير الرازي 237:30.

وَ إِمّٰا كَفُوراً لنعمه بالكفر و العصيان.

و قيل: إنّ المعنى أنّا هديناه، فان شاء فليشكر، و إن شاء فليكفر(1).

و قيل: إنّ المراد إنّا مكّناه سلوك الطريق الموصل إلى المطلوب في حالتي شكره و كفرانه(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «عرّفناه إمّا آخذا، و إمّا تاركا»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «إمّا آخذ فشاكر، و إما تارك فكافر»(4).

ثمّ بيّن حال الكافرين في الآخرة بقوله:

إِنّٰا أَعْتَدْنٰا و هيأنا لِلْكٰافِرِينَ في الآخرة سَلاٰسِلَ يقادون بها وَ أَغْلاٰلاً و قيودا يقيّدون بها. و قيل: إنّ السلاسل بها تشدّ أرجلهم، و الأغلال تشدّ بها أيديهم إلى رقابهم (5)وَ سَعِيراً و نارا مشتعلة موقدة بأجسادهم كما توقد بالحطب.

ثمّ بيّن سبحانه حال الشاكرين بقوله تعالى:

إِنَّ الْأَبْرٰارَ و الشاكرين الأخيار يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ و إناء خمر كٰانَ في علم اللّه مِزٰاجُهٰا و خليطها شيئا يشبه كٰافُوراً في البياض و البرودة و طيب الرائحة عن ابن عباس: أنّ المراد بالكأس هو الخمر(6).

و قيل: إنّ الكافور اسم عين في الجنّة ماؤها في البياض و البرودة و الرائحة كالكافور، و لكن ليس فيه طعمه و مضرّته، و المراد أنّ شرابهم ممزوج بماء تلك العين(7) ، أعني

عَيْناً صفتها أنّه يَشْرَبُ الخمر ممزوجة بِهٰا أو يلتذّ بها عِبٰادُ اللّٰهِ الأبرار، و هم يُفَجِّرُونَهٰا و يجرونها حيث شاءوا من منازلهم تَفْجِيراً سهلا لا كلفة عليهم فيه.

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً (9) إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقٰاهُمُ اللّٰهُ شَرَّ ذٰلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّٰاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزٰاهُمْ بِمٰا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهٰا عَلَى الْأَرٰائِكِ لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً (13) ثمّ بيّن سبحانه أعمالهم التي يستحقّون بها هذا الأجر، كأنّه قيل: بما ذا استحقّوا هذا الأجر؟ فقال سبحانه:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و يؤدّون ما أوجبوا على أنفسهم بسبب النّذر، فكيف بما أوجبه اللّه عليهم ؟

ص: 387


1- . تفسير الرازي 238:30.
2- . تفسير أبي السعود 71:9.
3- . الكافي 3/124:1، التوحيد: 4/411، تفسير الصافي 259:5.
4- . تفسير القمي 398:2، تفسير الصافي 259:5.
5- . تفسير الرازي 240:30. (6و7) . تفسير الرازي 240:30.

وَ مع ذلك يَخٰافُونَ لاحتمال التقصير في عبادة ربّهم يَوْماً عظيما كٰانَ شَرُّهُ و هو له و عذابه مُسْتَطِيراً و منتشرا في أقطار العالم غاية الانتشار، و بالغا أقصى المبالغ، و واصلا إلى كلّ أحد إلاّ من آمنه اللّه من المؤمنين المطيعين، أو المعنى: شرّه سريع الوصول إلى العصاة. و عن الباقر عليه السّلام «كلوحا عبوسا»(1).

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ مع شدّة حاجتهم إليه، و كونهم عَلىٰ حُبِّهِ عن الباقر عليه السّلام يقول: «على شهوتهم»(2). و قيل: إطعاما كائنا على حبّ اللّه (3)مِسْكِيناً و فقيرا من المؤمنين وَ يَتِيماً من يتاماهم وَ أَسِيراً من الكفّار.

عن الباقر عليه السّلام قال: «مسكينا من مساكين المسلمين، و يتيما من يتامى المسلمين، و أسيرا من اسارى المشركين»(4).

و هم يقولون: لا نمنّ عليكم بإطعامكم لأنّا

إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ و طلبا لمرضاته لاٰ نُرِيدُ و لا نطلب مِنْكُمْ بإطعامنا إياكم جَزٰاءً و أجرا بالمال و النفس وَ لاٰ شُكُوراً و عوضا بالمدح و الدعاء.

عن الباقر عليه السّلام قال: «يقولون إذا أطعموهم ذلك قال: «و اللّه ما قالوا هذا لهم، و لكنّهم أضمروه في أنفسهم، فأخبر بإضمارهم، يقولون: لا نريد منكم جزاء تكافئوننا به، و لا شكورا تثنون علينا به، و لكنّنا إنّما أطعمناكم لوجه اللّه و طلب ثوابه»(5).

و كذا

إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ عذاب رَبِّنٰا يَوْماً تكون الوجوه فيه عَبُوساً قَمْطَرِيراً و منقبضا شديد الانقباض. روي أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل العرق من بين عينيه كالقطران(6). و قيل: إنّه شبّه اليوم بالأسد العبوس في الشدّة و الضّراوة(7) ، فيكون المعنى: أنّا نخاف من اليوم الذي كالأسد العبوس الشديد العبوسة، و لذا نعطيكم ليقينا اللّه برحمته من شرّ ذلك اليوم العظيم.

فَوَقٰاهُمُ اللّٰهُ و حفظهم و دفع عنهم شَرَّ ذٰلِكَ الْيَوْمِ بسبب عطائهم و خوفهم وَ لَقّٰاهُمْ و أعطاهم بسبب طلبهم رضى اللّه نَضْرَةً و بهجة كاملة في وجوههم بدل عبوس الكفّار وَ سُرُوراً عظيما في قلوبهم بدل غمّ الفجّار و حزنهم

وَ جَزٰاهُمْ في القيامة بِمٰا صَبَرُوا على الجوع و إيثار المحتاجين على أنفسهم جَنَّةً ذات أشجار و ثمار و قصور عالية يسكنونها و يأكلون من ثمارها و نعمها التي لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر مثلها بقلب أحد وَ حَرِيراً و لباسا من

ص: 388


1- . أمالي الصدوق: 390/333.
2- . أمالي الصدوق: 390/333.
3- . تفسير روح البيان 265:10.
4- . أمالي الصدوق: 390/333، تفسير الصافي 260:5.
5- . أمالي الصدوق: 390/333، تفسير الصافي 260:5.
6- . تفسير الرازي 247:30، تفسير روح البيان 267:10.
7- . تفسير أبي السعود 72:9، تفسير روح البيان 267:10.

سندس و استبرق يلبسونه و يتزيّنون به حال كونهم

مُتَّكِئِينَ فِيهٰا و معتمدين كالسلاطين على الوسائد التي تكون عَلَى الْأَرٰائِكِ و السّرر الموضونة بقضبان الذهب و الفضّة و أنواع الجواهر، موضوعة في البيوت المزيّنة بالثياب و السّتور، كذا قيل(1).

لاٰ يَرَوْنَ اولئك الأبرار الساكنون في الجنة فِيهٰا وقتا من الاوقات شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً و لا يحسّون حرا و لا بردا، بل هواؤها في غاية الاعتدال في الحديث: «هواء الجنّة سجسج(2) لا حرّ فيه و لا قرّ»(3).

روى بعض العامة عن ابن عباس أنّه قال: بينما أهل الجنّة في الجنّة إذ رأوا ضوء كضوء الشمس، و قد أشرقت الجنان له، فيقول أهل الجنّة: يا رضوان، قال ربّنا عزّ و جلّ: لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً. فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس و لا قمر، و لكن هذه فاطمة و على ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما، و فيهما أنزل اللّه هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ إلى قوله: وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (4).

وَ دٰانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاٰلُهٰا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهٰا تَذْلِيلاً (14) وَ يُطٰافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوٰابٍ كٰانَتْ قَوٰارِيرَا (15) قَوٰارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهٰا تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيهٰا كَأْساً كٰانَ مِزٰاجُهٰا زَنْجَبِيلاً (17) ثمّ بيّن سبحانه حالهم من حيث الراحة بقوله:

وَ دٰانِيَةً عَلَيْهِمْ أغصان أشجار الجنّة، و قريبة منهم ظِلاٰلُهٰا.

قيل: إنّ المراد لمن خاف ربّه جنتان: جنّة فيها حرير لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا، و جنّة اخرى دانية عليهم ظلالها، و المقصود أنّه لو كان فيها شمس كانت أشجارها مظلّة لهم(5).

وَ ذُلِّلَتْ و قربت منهم، أو انقادت لهم قُطُوفُهٰا و ثمارها تَذْلِيلاً تاما بحيث لا يصعب لمن يريدها اقتطافها في حال القيام و القعود و الاضطجاع. عن البراء بن عازب، قال: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائما لم يؤذه، و من أكل جالسا لم يؤذه(6).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهٰا تَذْلِيلاً من قربها منهم، يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه

ص: 389


1- . تفسير روح البيان 269:10.
2- . يقال: يوم سجسج: لا حرّ فيه و لا برد.
3- . تفسير روح البيان 270:10.
4- . تفسير روح البيان 270:10، و الآيات من سورة الانسان: 1/76-22.
5- . تفسير ابى السعود 73:9، تفسير الرازي 249:30.
6- . تفسير الرازي 248:30.

من الثمار بعينه(1) و هو متكئ»(2).

وَ يُطٰافُ و يدور عَلَيْهِمْ في قصورهم بِآنِيَةٍ و أوعية كالقدح و الكأس مخلوقة مِنْ جنس فِضَّةٍ لها غاية اللّطافة وَ أَكْوٰابٍ و كيزان لا عري لها و لا آذان يصبّ منها المشروب في الآنية كٰانَتْ و وجدت حال كونها في الصفاء و الشفافية تشبه قَوٰارِيرَا و آنية زجاجية، و لكن لا قوارير متكونة من الرمل كما القارورة في الدنيا كذلك، بل

قَوٰارِيرَا متكونة مِنْ فِضَّةٍ فكما أنّ اللّه قادر على أن يقلب الرمل الكثيف في الدنيا زجاجة صافية شفّافة، قادر على أن يقلب فضّة الآخرة زجاجة صافية، ففي آنية الآخرة صفاء الزجاج و شفافيته، و نقاء(3) الفضّة و شرفها.

عن ابن عباس: ليس في الدنيا شيء ممّا في الجنّة إلاّ الأسماء(4). و قيل: إنّ الأكواب تكون من فضة، و لكن لها صفاء القارورة(5). عن الصادق عليه السّلام: «ينفذ البصر في فضّة الجنّة، كما ينفذ في الزّجاجة»(6).

و قيل: إنّ المراد من قَوٰارِيرَا في الآية ليس هو الزّجاج، فانّ العرب تسمّى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة و رقّ وصفا قارورة، فمعنى الآية: و أكواب من فضّة مستديرة صافية رقيقة(7).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه صفاء الأواني بقوله: كٰانَتْ قَوٰارِيرَا و نقائها بقوله: مِنْ فِضَّةٍ بيّن شكلها بأنّ الشاربين قَدَّرُوهٰا على قدر ريهم(8) بارادتهم و اشتهائهم، أو بأعمالهم الحسنة تَقْدِيراً موافقا لميلهم و اشتهائهم من غير زيادة و نقصان، و هو ألذّ لأهل الجنّة(9).

وَ يُسْقَوْنَ فِيهٰا بأمر اللّه كَأْساً كٰانَ مِزٰاجُهٰا و خليطها شيئا يشبه زَنْجَبِيلاً في الطعم و الرائحة، و لكن ليس فيه لذعه و إحراقه، و كان الشراب الممزوج به أطيب ما تستطيبه العرب و ألذّ ما تستلذّه.

عَيْناً فِيهٰا تُسَمّٰى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) ثمّ لمّا كان تسمية المزاج بالزنجبيل موهمة لأن لا يكون له سلاسة الانحدار في الخلق و سهولة المساغ، كما هو مقتضى اللّذع و الإحراق، دفع سبحانه التوهّم بقوله:

عَيْناً فِيهٰا تُسَمّٰى عند أهل الجنّة و خزنتها سَلْسَبِيلاً و مشروبا في غاية العذوبة و سهولة المساغ، و نهاية السّلاسة.

ص: 390


1- . في الكافي بفيه.
2- . الكافي 69/99:8، تفسير الصافي 263:5.
3- . في النسخة: و شفافته، و نقلوا.
4- . تفسير الرازي 249:30، تفسير روح البيان 271:10.
5- . تفسير الرازي 249:30.
6- . مجمع البيان 621:10، تفسير الصافي 263:5.
7- . تفسير الرازي 249:30.
8- . في النسخة: يريهم.
9- . في النسخة: ألذّ أهل الجنّة بقوله.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ معنى سلسبيل: سل سبيلا إليها»(1).

أقول: الظاهر أنّه بيان وجه التسمية، فانّه لا يشرب منها إلا من سأل سبيلا إليها بالأعمال الصالحة.

و عن (الخصال) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أعطاني اللّه خمسا: و أعطى عليا خمسا؛ أعطاني الكوثر، و أعطاه السلسبيل»(2).

ثمّ وصف سبحانه الخدّام الطائفين بقوله:

وَ يَطُوفُ بالكأس عَلَيْهِمْ في الجنّة وِلْدٰانٌ و غلمان مُخَلَّدُونَ و باقون أبدا على ما هم عليه من الحياة و الحسن و الطّراوة و المواظبة على الخدمة. و عن الفراء و القمي: يعني مسوّرون(3). و قيل: يعني محلّون(4). و قيل: مقرّطون (5)إِذٰا رَأَيْتَهُمْ أيّها الرائي حَسِبْتَهُمْ في صفاء الألوان و انتشارهم في المجالس لُؤْلُؤاً رطبا اخرج من صدفه مَنْثُوراً و متفرّقا. قيل: إنّ اللؤلؤ إذا انتشر و تفرّق كان احسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض(4).

روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هم ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا»(7).

و عن سلمان الفارسي: «هم أطفال المشركين خدّام أهل الجنّة»(8).

أقول: لا منافاة بينهما، لاحتمال كون كلّهم خدّاما.

وَ إِذٰا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عٰالِيَهُمْ ثِيٰابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَسٰاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً (21) ثمّ بيّن سبحانه كمال نعمه عليهم و إكرامه لهم بقوله:

وَ إِذٰا رَأَيْتَ أيّها الرائي ثَمَّ و هناك رَأَيْتَ نَعِيماً وافرا لا يوصف حسنه و لذّته. عن ابن عباس: لا يقدر واصف وصف حسنه و لا طيبه(5)وَ مُلْكاً كَبِيراً قيل: إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، و يرى أقصاه كما يرى أدناه(6).

و قيل: إنّ الكبير بمعنى أنّه لا زوال له(7). و عن الصادق عليه السّلام: «أي لا يزول و لا يفنى»(8).

و قيل: إنّ الملك الكبير هو كثرة التعظيم(9) و الاكرام. روي أنّ الرسول يأتي من عند اللّه بكرامة من الكسوة و الطعام و الشراب و التّحف إلى وليّ اللّه و هو في منزله فيستأذن عليه، و لا يدخل عليه رسول ربّ العزّة من الملائكة المقرّبين إلاّ بعد الاستئذان(10).

ص: 391


1- . تفسير الرازي 250:30.
2- . الخصال: 57/293، تفسير الصافي 264:5.
3- . تفسير الرازي 251:30، تفسير القمي 399:2، و فيه: مستوون، تفسير الصافي 264:5. (4و5) . تفسير الرازي 251:30.
4- . تفسير روح البيان 273:10. (7و8) . تفسير روح البيان 274:10.
5- . تفسير الرازي 252:30.
6- . تفسير الرازي 252:30.
7- . تفسير الرازي 252:30.
8- . مجمع البيان 623:10، تفسير الصافي 264:5.
9- . تفسير الرازي 252:30.
10- . تفسير الرازي 252:30.

عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث: «و إنّ الملائكة من رسل اللّه لتستأذن عليه، و لا يدخلون عليه إلاّ بإذنه، فذلك الملك العظيم»(1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما هذا الملك الكبير الذي كبّره اللّه عزّ و جلّ حتّى سمّاه كبيرا؟ قال: «إذا أدخل اللّه أهل الجنّة الجنّة أرسل رسولا إلى وليّ من أوليائه، فيجد الحجبة على بابه، فتقول له: قف حتّى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربّه إلاّ بإذنه، فهو قول اللّه تعالى: وَ إِذٰا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (2).

عٰالِيَهُمْ و فوقهم و على ظهورهم، أو على خيامهم المضروبة عليهم ثِيٰابُ سُندُسٍ و ديباج رقيق خُضْرٌ وَ ثياب إِسْتَبْرَقٌ و حرير غليظ. قيل: إنّ الآية بيان للباس الولدان(3). وَ حُلُّوا و زيّنوا اولئك الأبرار أو الولدان أَسٰاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ قيل: كان الملوك يحلّون بها في الزمن الأول(4).

و قيل: أساور الذهب - كما في سورة الكهف - للأبرار، و الفضّة للولدان، أو كلاهما للأبرار يتعاقبون أو يجمعون بينهما(5).

وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ مضافا إلى الشرابين السابقين الممزوجين شَرٰاباً طَهُوراً هو أفضل و أعلى منهما: كما يدلّ عليه إسناد سقيه إلى ذاته المقدّسة و وصفه بالطّهورية.

قيل: هو عين على باب الجنّة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع اللّه ما كان في قلبه من غلّ و غشّ و حسد، و ما كان في جوفه من قدر أو أذى(6).

و قيل: يؤتون بالطعام و الشراب، فإذا كان في آخر ذلك يؤتون بالشراب الطّهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم و يفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك(7).

و عن الباقر عليه السّلام في حديث «و على باب الجنة شجرة، إنّ الورق منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من الناس، و عن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية» قال: «فيسقون منها شربة فيطهّر اللّه بها قلوبهم من الحسد، و يسقط من أبشارهم الشعر، و ذلك قول اللّه: وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً (8).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «يطهّرهم من كلّ شيء سوى اللّه»(9).

ص: 392


1- . تفسير القمي 248:2، الكافي 69/98:8، تفسير الصافي 264:5.
2- . معاني الأخبار: 1/210، تفسير الصافي 264:5.
3- . تفسير الرازي 253:30.
4- . تفسير روح البيان 253:30.
5- . تفسير روح البيان 275:10، و فيه: فللمقربون الذهب و للأبرار الفضة.
6- . تفسير الرازي 254:30.
7- . تفسير الرازي 254:30.
8- . تفسير القمي 54:2، عن الصادق عليه السّلام، الكافي 69/96:8، تفسير الصافي 265:5.
9- . مجمع البيان 623:10، تفسير الصافي 265:5.

إِنَّ هٰذٰا كٰانَ لَكُمْ جَزٰاءً وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) ثمّ يقول اللّه، أو الملائكة، للأبرار:

إِنَّ هٰذٰا الذي ترون من العطايا و الكرامات كٰانَ في علم اللّه لَكُمْ جَزٰاءً و عوضا بمقابلة أعمالكم الحسنة و عباداتكم المقبولة وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ و سرعتكم في الخيرات و تعبكم في الطاعات مَشْكُوراً عند اللّه و مرضيا له و مقابلا بالثواب العظيم، فيزداد بذلك الخطاب فرحهم و سرورهم.

روى كثير من مفسّري العامة كالواحدي و الزمخشري و أبي السعود و إسماعيل حقّي و غيرهم: أنّ الآيات نزلت في شأن علي و فاطمة و الحسن و الحسين، لرواية ابن عباس(1) ، و هي كما في (روح البيان): أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام مرضا فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ناس معه، فقالوا لعليّ عليه السّلام: لو نذرت على ولديك نذر؟ فنذر عليّ و فاطمة عليهما السّلام و فضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيام تقرّبا إلى اللّه و طلبا لمرضاته و شكرا له، فشفيا فصاموا و ما معهم شيء يفطرون عليه، فاستقرض علي عليه السّلام من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة عليها السّلام صاعا و خبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوا بين أيديهم وقت الإفطار ليفطروا به، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة.

فقال علي لفاطمة عليهما السّلام:

فاطم ذات المجد و اليقين يا بنت خير الناس أجمعين

أ ما ترين البائس المسكين قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى اللّه و يستكين يشكو إلينا جائعا حزين

فقالت فاطمة عليها سلام اللّه:

أمرك يا ابن عم سمع طاعه ما بي من لؤم و لا ضراعة

أرجو إذا أشبعت ذا مجاعه ألحق بالأخيار و الجماعه

و أدخل الخلد و لي شفاعة

فآثروه كلّهم و باتوا و لم يذوقوا إلاّ الماء، و أصبحوا صياما، فطحنت فاطمة ثلثا آخر و خبزت، فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة.

ص: 393


1- . اسباب النزول: 248، الكشاف 670:4، تفسير أبي السعود 73:9، تفسير الرازي 244:30.

فقال: علي عليه السّلام لفاطمة عليهما السّلام:

إني لاعطيه و لا ابالي و أوثر اللّه على عيالي

أمسوا جياعا و هم أشبالي أصغرهم يقتل في القتال

فآثروه بطعامهم، و أفطروا بالماء، و باتوا جياعا، و أصبحوا صياما، فطحنت فاطمة الثّلث الباقي و خبزت، فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف أسير، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت النبوة، أسير من الاسارى، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة، فآثروه و لم يذوقوا إلاّ الماء.

فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أخذ علي بيد الحسن و الحسين عليهما السّلام، فأقبلوا النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم!» و قام فانطلق معهم، فرأى فاطمة سلام اللّه عليها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، و غارت عيناها، فساءه ذلك فنزل جبرئيل و قال: خذ يا محمد، هنّأك اللّه في أهل بيتك، فأقرأه السورة(1) ، انتهى.

قال إسماعيل حقي صاحب تفسير (روح البيان): الرواية ضعيفة لضعف راويها إلاّ أنّها مشهورة بين العلماء مسفورة في الكتب(2).

أقول: من العجب أنّ العامة يعتمدون على ما هو أضعف منها، و مع ذلك يظهرون الشكّ فيها مع اعترافهم بكونها من المشهورات.

ثمّ أنّهم قد ذكروا في ردّ هذه القضية: أنّ السورة مكية، و كان نكاح فاطمة في المدينة بعد وقعة احد.

و فيه: أنّ جمعا من علماء العامة و مفسّريهم منهم: مجاهد و قتادة قائلون بأنّ السورة مدنية إلاّ آية واحدة، و هي قوله: وَ لاٰ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فانّها مكيّة، و كذا قال الحسن و عكرمة و المارودي على ما نقل عنهم أنّها مدنية إلاّ آية فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... إلى آخره. و ممّا يدلّ على أنّها مدنية أن الأسير إنّما كان بالمدينة بعد آية القتال(3).

و قال صاحب (روح البيان): نحن لا نشكّ في صحّة القصّة (4)، فلا يصغى إلى ما قال الفخر الرازي من أنّه لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة كأبي بكر الأصمّ و أبي علي الجبّائي، و أبي القاسم الكعبي، و أبي مسلم الأصفهاني، و القاضي عبد الجبّار بن أحمد في تفاسيرهم أنّ هذه الآيات نزلت في حقّ علي بن أبي طالب عليه السّلام(3).

أقول: عدم ذكرهم القصّة لا يدلّ على إنكارهم بأنّ ظاهر الآيات العموم و لا وجه لتخصيصها، مع أنّ

ص: 394


1- . تفسير روح البيان 268:10.
2- . تفسير روح البيان 269:10. (3و2) . تفسير روح البيان 269:10.
3- . تفسير الرازي 243:30.

[القول بأنّ] تخصيصها ينافي نظم الآيات من الأغلاط، فانّ نزول آية في حقّ أحد لا يستلزم تخصيص عمومها، فانّ نزول آية: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ في شأن الوليد(1) ، و آية: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً في حقّ علي عليه السّلام و إنفاقه(2). و نزول آية إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ في البراء بن عازب و استنجائه بالماء و تهنيته الرسول صلّى اللّه عليه و آله بنزول الآية فيه(3).

نزول آية مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ في شأن عمّار بن ياسر(4) ، لا يوجب تخصيص عموم الآيات، بل معناه أنّ فعل أحد صار منشأ لنزول الآية، و كان النظر في الآية إلى ذلك الشخص تفصيلا - و إن كان الحكم في الآية شاملا لغيره إلى يوم القيامة - يدلّ على فضيلة عظيمة لذاك الشخص، كما ادّعوا نزول آية وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ يَتَزَكّٰى في حقّ أبي بكر و إنفاقه على المسلمين و يعدّونه من فضائله(5).

و روى في (المجالس) عن الصادق عليه السّلام ما يقرب من رواية عبد اللّه بن عباس، و في آخره: «فهبط جبرئيل فقال: يا محمد، خذ ما هنّأه اللّه لك(6) في أهل بيتك. فقال: ما آخذ يا جبرئيل ؟ فقال: هَلْ أَتىٰ إلى قوله: وَ كٰانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (7).

و عن (المناقب) أنّه رواه عن أكثر من عشرين من كبار المفسّرين(8).

و في بعض الروايات عن الباقر عليه السّلام: «فرآهم النبي صلّى اللّه عليه و آله جياعا، فنزل جبرئيل و معه صحفة من الذهب مرصّعة بالدّرّ و الياقوت، مملوءة من الثريد، و عراق(9) يفوح منها رائحة المسك و الكافور، فجلسوا و أكلوا حتى شبعوا، و لم تنقص منها لقمة واحد، فخرج الحسين عليه السّلام و معه قطعة عراق، فنادته يهودية: يا أهل بيت الجود - أو الجوع - من أين لكم هذه! أطعمنيها، فمدّ يده الحسين عليه السّلام ليطعمها، فهبط جبرئيل و أخذها من يده، و رفع الصّحفة إلى السماء، فقال عليه السّلام، لو لا ما أراد الحسين عليه السّلام من إطعام الجارية تلك القطعة لتركت تلك الصّحفة في أهل بيتي يأكلون منها إلى يوم القيامة، و كانت الصدقة في ليلة خمس و عشرين من ذي الحجّة، و نزول هَلْ أَتىٰ في يوم الخامس

ص: 395


1- . تفسير الرازي 119:28، تفسير أبي السعود 118:8، و الآية من سورة الحجرات: 6/49.
2- . تفسير الرازي 83:7، تفسير أبي السعود 265:1، و الآية من سورة البقرة: 274/2.
3- . من لا يحضره الفقيه 59/20:1، الخصال: 267/192، و فيهما: البراء بن معرور، و الآية من سورة البقرة: 222/2.
4- . تفسير أبي السعود 143:5، تفسير روح البيان 84:5، و الآية من سورة النحل: 106/16.
5- . تفسير أبي السعود 168:9، و الآيتان من سورة الليل: 17/92 و 18.
6- . في المصدر: ما هيّأ اللّه لك.
7- . أمالى الصدوق: 390/332.
8- . مناقب ابن شهرآشوب 373:3، تفسير الصافي 262:5.
9- . العراق: العظم اكل لحمه.

و العشرين منه(1).

إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاٰ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) ثمّ لمّا ذكر سبحانه حسن طاعة الشاكرين و حالهم في الآخرة، صلّى رسوله و قوّى قلبه على تحمّل أذى المشركين بقوله:

إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ يا نبي الرحمة اَلْقُرْآنَ العظيم الشأن بتوسّط جبرئيل تَنْزِيلاً مقرونا بجهات من الإعجاز و شواهد الصدق، أو تنزيلا مفرّقا منجّما، لاقتضاء الحكمة البالغة اختصاص كلّ آية أو سورة بوقت معين، فلا تعتن بقول المعاندين إنّه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو اختلاق البشر، فاذا علمت تلك النعمة العظيمة

فَاصْبِرْ على أذى المشركين لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير الإذن في قتالهم و نصرك على أعدائك، فانّ له عاقبة حميدة وَ لاٰ تُطِعْ مِنْهُمْ كلّ من كان آثِماً و عاصيا لربّه في أمرك بعصيان اللّه بترك تبليغ الرسالة أَوْ كان كَفُوراً و مصرّا على الكفر و الطغيان في أمرك بالرجوع إلى دينهم.

قيل: إنّ المراد بالآثم عتبة بن ربيعة، فانّه كان متعاطيا إلى أنواع الفسوق، و بالكفور الوليد بن المغيرة فانّه كان غاليا في الكفر(2) و قيل: بالعكس، فان اللّه سمّى الوليد أثيما، حيث قال في حقّه: مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (3).

روي أنّ عتبة قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله: ارجع عن هذا الأمر حتى ازوّجك بنتي، فانّي من أجمل قريش بناتا:

و قال الوليد: أنا اعطيك من المال حتّى ترضى، فانّي من أكثرهم مالا، فقرأ عليهم رسول اللّه عشر آيات من أول حم السجدة، إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ (4) فانصرفا عنه، قال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع عليّ(5).

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هٰؤُلاٰءِ يُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرٰاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنٰاهُمْ وَ شَدَدْنٰا أَسْرَهُمْ وَ إِذٰا شِئْنٰا بَدَّلْنٰا أَمْثٰالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)

ص: 396


1- . مناقب ابن شهرآشوب 375:3، تفسير الصافي 262:5.
2- . تفسير الرازي 258:30، تفسير أبي السعود 75:9.
3- . تفسير الرازي 258:30، و الآية من سورة القلم: 12/68.
4- . فصلت: 13/41.
5- . تفسير الرازي 258:30.

ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصبر أمره بالعبادة الموجبة لراحة قلبه الشريف بقوله:

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و اشغل قلبك بالتوجّه إليه بُكْرَةً و أول النهار وَ أَصِيلاً و آخره. قيل: إنّ المراد المداومة على الذّكر في جميع الأوقات(1). و قيل: إنّ المراد المداومة على صلاة الفجر و الظهر و العصر، فانّ الأصيل يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب(2).

وَ في بعض مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ قيل: إنّ المراد بالسجدة صلاة المغرب و العشاء(3)وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً قيل: اريد به التهجّد و صلاة نافلة الليل في ثلثيه و نصفه و ثلثه(4).

و قيل: إنّ المراد بالذكر و التسبيح نفسهما. قال: اُذْكُرُوا اللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5).

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله شرع في بيان سوء حال الكفار و المتمرّدين بقوله:

إِنَّ هٰؤُلاٰءِ الكفّار يُحِبُّونَ الدنيا اَلْعٰاجِلَةَ الفانية، و يشتاقون إلى لذّاتها و مشتهياتها وَ يَذَرُونَ وَرٰاءَهُمْ و يدعون خلف ظهورهم يَوْماً ثَقِيلاً عليهم شديدا أهواله لهم، و لذا أعرضوا عن الايمان بك و بكتابك، و لا يعتنون بمواعظك التي فيها نفع آخرتهم، و ليس عدم إيمانهم لشبهة في نظرهم حتى تزيلها بالدلائل، و إلاّ لو كانوا تابعين(6) لعقولهم كان عليهم إطاعة أوامرنا و الانقياد لأحكامنا

نَحْنُ خَلَقْنٰاهُمْ و أعطيناهم الأعضاء و القوى التي يكمل بها خلقهم و تهيّأ(7) لهم حياتهم وَ شَدَدْنٰا ما حكمنا أَسْرَهُمْ و أعضائهم، ليتمكّنوا من القيام و القعود و الحركات التي ينتفعون بها من اللذائذ الدنيوية وَ إِذٰا شِئْنٰا أهلكناهم و بَدَّلْنٰا و عوّضنا عنهم في الأرض خلقا آخر أَمْثٰالَهُمْ في الخلقة و الشكل تَبْدِيلاً بديعا.

حاصل المراد و اللّه أعلم أنّهم محتاجون في الحياة و البقاء في الدنيا و الالتذاذ بشهواتها إلينا، و نحن مستغنون عنهم لعدم حاجتنا إلى الخلق، و لو فرض لنا حاجة لنا إليهم، بل نحن بقدرتنا الكاملة الذاتية قادرون على خلق أمثالهم.

إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ

ص: 397


1- . تفسير أبي السعود 75:9، تفسير روح البيان 278:10.
2- . تفسير روح البيان 278:10.
3- . تفسير الرازي 259:30، تفسير أبي السعود 76:9، تفسير روح البيان 278:10.
4- . تفسير روح البيان 278:10.
5- . تفسير الرازي 259:30، و الآيتان من سورة الاحزاب: 41/33 و 42.
6- . في النسخة: تابعا.
7- . كذا الظاهر، و الكلمة غير منقطة في النسخة.

إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشٰاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّٰالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً (31) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حال الشاكرين و الكافرين نبّه على الغرض من هذه البيانات بقوله:

إِنَّ هٰذِهِ المذكورات من الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب و الدلائل و الحكم تَذْكِرَةٌ و عظة شافية لمن تأمّل فيها، و تبصرة لمن تفكّر في لطائفها فَمَنْ شٰاءَ أيّها الناس خير الدارين و سعادة النشأتين اِتَّخَذَ و اختار لنفسه بالعمل بهذا القرآن إِلىٰ رَبِّهِ القرب إليه سَبِيلاً يصله إلى مرضاته و جنّته و النّعم الدائمة

وَ مٰا تَشٰاؤُنَ شيئا من الهداية و غيرها في حال من الأحوال إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ ذلك الشيء بالمشيئة التكوينية من غير أن يلزم جبران إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بذاته عَلِيماً بمصالح العباد و استعداداتهم حَكِيماً فيما يشاء لعباده، فلا يشاء لهم إلاّ ما تستدعيه و تقتضيه حكمته.

عن القائم عجل اللّه فرجه أنّه سئل عن المفوّضة - كذا في النسخة - قال: «كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشية اللّه عزّ و جلّ، فاذا شاء شيئا شئنا» ثمّ تلا هذه الآية(1).

ثمّ بيّن سبحانه حكم مشيته بقوله:

يُدْخِلُ اللّه مَنْ يَشٰاءُ سعادته و دخوله فِي رَحْمَتِهِ بإعطائه التوفيق و تأييده و تسديده وَ الظّٰالِمِينَ الذين ضيّعوا حقوق نعم اللّه بالكفر أَعَدَّ اللّه و هيّأ لَهُمْ في الآخرة عَذٰاباً أَلِيماً لا يوصف بالبيان.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة هَلْ أَتىٰ كان جزاؤه على اللّه جنّة و حريرا»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ هَلْ أَتىٰ عَلَى الْإِنْسٰانِ كلّ غداة من الخميس، زوّجه اللّه من الحور العين ثمانمائة عذراء، و أربعة آلاف ثيّب، و كان مع محمد صلّى اللّه عليه و آله»(3).

و عن الهادي عليه السّلام: «من أحبّ أن يقيه اللّه شرّ [يوم] الاثنين، فليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة هَلْ أَتىٰ» (4).

ص: 398


1- . الخرائج و الجرائح 4/459:1، تفسير الصافي 266:5.
2- . تفسير البيضاوي 555:2، تفسير أبي السعود 77:9.
3- . ثواب الأعمال: 121، مجمع البيان 608:10، تفسير الصافي 266:5.
4- . أمالي الطوسي: 389/224، تفسير الصافي 266:5.

في تفسير سورة المرسلات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْمُرْسَلاٰتِ عُرْفاً (1) فَالْعٰاصِفٰاتِ عَصْفاً (2) وَ النّٰاشِرٰاتِ نَشْراً (3) فَالْفٰارِقٰاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيٰاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) ثمّ لمّا ختمت سورة الإنسان المتضمّنة لذمّ الكفّار بأنّهم يذرون وراءهم يوما ثقيلا، و ذكر دلائل وقوعه، و سوء حال المكذّبين، و حسن حال المؤمنين، و نظمت سورة المرسلات المتضمّنة لاثبات وقوع ذلك اليوم الثقيل، و شرح ثقله بذكر أهواله و شدائده، و تهديد مكذّبيه، و بيان سوء حالهم، و حسن حال المؤمنين، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بالملائكة إظهارا لعظمتهم و كرامتهم عنده و تأكيدا للمدّعى بقوله:

وَ الْمُرْسَلاٰتِ من قبل اللّه من الملائكة، لإيصال النّعم إلى الخلق، و تبليغ الأحكام و العلوم إلى الرسل، و لخلق ما في الأرحام، و كتابة الأعمال، و حفظ النفوس من البلايا، و إنزال العذاب، إرسالا عُرْفاً و متتابعا كعرف الفرس، أو معروفا و مستحسنا عند العامّة، أو المؤمنين، فانّ نزول العذاب على الأعداء إحسان إلى الأولياء.

ثمّ رتّب سبحانه على رسالتهم بيان سرعتهم في امتثال أوامر اللّه بقوله:

فَالْعٰاصِفٰاتِ في طيرانهم، و المسرعات بالشّدة في امتثال أوامر اللّه، كما تصف الرياح عَصْفاً و سيرا شديدا، و قيل:

إنّ المراد بالعاصفات الملائكة الذين يلهبون بأرواح الكفار و يهلكونها (1)

وَ النّٰاشِرٰاتِ بأجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو الشرائع في أهل الأرض، أو للرحمة و العذاب، أو لصحف الأعمال يوم الحساب، أو للنفوس الموتى بالكفر و الجهل [بطريق] الوحي الذي هو حياة القلوب نَشْراً معجبا بديعا.

ثمّ رتّب سبحانه على نشرهم أمرين: الأول بقوله:

فَالْفٰارِقٰاتِ و المميزات بين الحقّ و الباطل

ص: 399


1- . تفسير الرازي 264:30.

فَرْقاً و تميزا ظاهرا، و الثاني بقوله:

فَالْمُلْقِيٰاتِ إلى الأنبياء ذِكْراً و عظة شافية، أو علما و حكمة، أو كتابا سماويا. قيل: هو القرآن، و إطلاق صيغة الجمع و إرادة جبرئيل وحده لتعظيمه، و إنّما يلقون الذّكر ليكون

عُذْراً و قاطعا للحجّة بالنسبة إلى الكافرين، أو عذرا للمعتذرين إلى اللّه بالتوبة و الاستغفار و المحقّين أَوْ نُذْراً و تخويفا للكافرين و المبطلين، أو بمن اتّبع الذكر.

و قيل: إنّ المراد من المرسلات و العاصفات الرياح المرسلة للعذاب، و من الناشرات رياح الرحمة نشرن في الجوّ و فرّقن السّحاب، أو نشرن للموات ففرّقن كلّ صنف منها عن سائر الأصناف، أو فرّقن بين الشاكرين لنعم اللّه و كفورها و بين الموحّد و المشرك، و ألقين الذكر و الايمان في قلوب المؤمنين(1).

و قيل: إنّ المراد من الجميع آيات القرآن، فإنّها المرسلات المتتابعات، أو بكلّ خير و معروف، و هي العاصفات و المذهبات بالأديان الباطلة، و هي الناشرات للهداية و الحكم في الأقطار، و الفارقات بين الحقّ و الباطل(2) ، و الذوات الطيبة و الخبيثة، و الملقيات لذكر اللّه في القلوب، و فيها العذر و النّذر.

و قيل: إنّ المراد من الثلاثة الأول الرياح، و من الاثنين الآخرين الملائكة فانّهم بإنزال الوحي يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و يلقون الذّكر إلى الرسل(3).

و قيل: إنّ المراد بالأولين الرياح، و بالثلاثة الباقية الملائكة، لأنّهم ينشرون الوحي و الدين، و به يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و يظهرون الذّكر في القلوب و الألسنة(4).

و الجمع بين القسم بالرياح و الملائكة، لكونهما شبيهتين في اللطافة و سرعة السير، و احتمل غير ذلك ممّا لا يهمّنا ذكره بعد وضوح كون التفسير الأول أقرب في النظر و أنسب.

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَوٰاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّمٰاءُ فُرِجَتْ (9) وَ إِذَا الْجِبٰالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّمٰا تُوعَدُونَ أيّها الناس بلسان الأنبياء من الحشر و الحساب و مجازاة الأعمال لَوٰاقِعٌ لا محالة لاقتضاء الحكمة البالغة ذلك، و امتناع الخلف للوعد

ص: 400


1- . تفسير الرازي 264:30.
2- . تفسير الرازي 266:30.
3- . تفسير الرازي 267:30.
4- . تفسير الرازي 267:30.

على اللّه.

ثمّ عيّن سبحانه وقته بذكر علاماته بقوله:

فَإِذَا النُّجُومُ و الكواكب كلّها طُمِسَتْ و انعدمت أجرامها، أو محقت أنوارها. عن الباقر عليه السّلام: «طموسها ذهاب ضوؤها»(1) ،

وَ إِذَا السَّمٰاءُ فُرِجَتْ لنزول الملائكة، أو فتحت أبوابها

وَ إِذَا الْجِبٰالُ كلّها نُسِفَتْ و فتّت و ذريت كالرمل فوق الأرض، أو قلعت من أماكنها بسرعة لانقضاء الدنيا و عدم الفائدة في بقائها أو بقاء السماء و ما فيها من الكواكب

وَ إِذَا الرُّسُلُ و الأنبياء الذين هم شهداء على اممهم أُقِّتَتْ و عيّنت لهم أوقات شهادتهم، أو بلغوا الميقات الذي كانوا ينتظرونه، و كانوا يعدّون وقوعه، و هو يوم القيامة و المجازاة بالأعمال.

ثمّ يقال تعجّبا من عظمة القيامة: أيّها الناس لا تدرون

لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ و اخّرت الامور الراجعة إلى الرسل من جمعهم و إحضارهم و تعذيب مكذّبيهم و إثابة مصدّقيهم و المؤمنين بهم. ثمّ كأنّه قال تعالى: إنّما أخّرت جميع ذلك

لِيَوْمِ الْفَصْلِ و القضاء بين الخلائق، كما عن ابن عباس(2).

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم ذلك اليوم بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك يا محمد مٰا يَوْمُ الْفَصْلِ في كثرة الأهوال و الشدائد و شدّة الفظاعة

وَيْلٌ و هلاك دائم يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الهائل لِلْمُكَذِّبِينَ بالأخبار بوقوع ذلك اليوم و بالرسل الذين أخبروا بوقوعه و بتوحيد اللّه، ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على إتيان ذلك اليوم و تعذيب المكذّبين به بما أنزل على الامم السابقة من العذاب المستأصل بقوله:

أَ لَمْ نُهْلِكِ الامم اَلْأَوَّلِينَ و السابقين بتكذيبهم التوحيد و الرسل و المعاد، كقوم نوح و عاد و ثمود بالعذاب الشديد

ثُمَّ نحن نُتْبِعُهُمُ في الاهلاك و العذاب الامم اَلْآخِرِينَ الذين هم نظراؤهم و السالكون مسلكهم في الكفر و تكذيب الرسل و المعاد

كَذٰلِكَ الفعل الذي فعلنا بالامم السابقين المكذّبين نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ و الطاغين الذين هم في عصرك و بعده

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ و في زمان إهلاكهم لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات اللّه و أنبيائه.

قيل: إنّه تعالى كرّر قضية الويل في السورة المباركة عشر مرات؛ لأنّ تكرار القضية المرعبة في مقام التوعيد و الترهيب دأب العرب، و هو من البدائع و المحسّنات(3).

و عن الكاظم عليه السّلام في تأويل الآية أنّه قال: «يقول: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يا محمد بما أوحيت إليك من ولاية عليّ» قال: «الأولين الذين كذّبوا الرسل في طاعة الأوصياء و نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ

ص: 401


1- . تفسير القمي 401:2، تفسير الصافي 268:5.
2- . تفسير الرازي 270:30.
3- . تفسير روح البيان 284:10.

قال: من أجرم إلى آل محمد و ركب من وصيّته ما ركب»(1).

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنٰاهُ فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ (21) إِلىٰ قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنٰا فَنِعْمَ الْقٰادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفٰاتاً (25) أَحْيٰاءً وَ أَمْوٰاتاً (26) وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار تكذيبهم بالمعاد لاستبعادهم إياه بتقريرهم بالخلق الأول الدالّ على إمكان الخلق الثاني و قدرته عليه بقوله:

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ أيّها المنكرون للمعاد في الدنيا بقدرتنا مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ و مبتذل لا يعتنى به، و النّطفة القذرة التي يتنفّر منها

فَجَعَلْنٰاهُ و مكّناه فِي قَرٰارٍ و مقرّ مَكِينٍ و حصين و محفوظ من الآفات و العوارض الخارجية، و هو الرّحم الذي هو وعاء الولد حال كونه باقيا فيه

إِلىٰ قَدَرٍ و أجل معين و مقدار مَعْلُومٍ من الوقت الذي قدّره اللّه تعالى للولادة، و هو من ستة أشهر إلى تسعة أشهر

فَقَدَرْنٰا و خلقنا جسده و أعضاءه و جوارحه أكمل خلق فَنِعْمَ الْقٰادِرُونَ نحن.

قيل: يعني فقدرنا في ذلك المكان الضيق المظلم على خلقه و تصويره كيف شئنا، فنعم القادرون حيث خلقناه على أحسن صورة و هيئة(2) تكون مع صغره انموذجا للعالم الكبير.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على إعادته التي هي أهون.

قيل: إنّ اللّه تعالى خوّف الكفّار بكثرة نعمه عليهم، فانّ نعم المنعم إذا كانت أكثر كان عصيانه أقبح و عقابه أشدّ(3) ، فذكر اللّه سبحانه في الآية السابقة نعمة التي في أنفسهم، ثمّ ذكر نعمه الخارجية الآفاقية بقوله:

أَ لَمْ نَجْعَلِ لكم اَلْأَرْضَ الواسعة التي تحت أقدامكم كِفٰاتاً و جامعا أو حافظا(4) أو مساكن في حال كونكم

أَحْيٰاءً وَ كونكم أَمْوٰاتاً.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه نظر في رجوعه من صفّين إلى مقابر الكوفة، و قال: «هذه كفات الأموات» ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقاله: «هذه كفات الأحياء» أي مساكنهم، ثمّ تلا هذه الآية»(5).

وَ جَعَلْنٰا لكم بعد خلق الأرض فِيهٰا جبالا رَوٰاسِيَ و ثوابت شٰامِخٰاتٍ و مرتفعات

ص: 402


1- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 269:5.
2- . تفسير الرازي 273:30.
3- . تفسير الرازي 273:30.
4- . كذا، و الظاهر: و جامعة أو حافظة.
5- . تفسير القمي 400:2، تفسير الصافي 269:5.

و طوالا، لتكون أوتادا لها وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ برحمتنا من السماء و الأرض مٰاءً فُرٰاتاً و عذبا أو لذيذا

وَيْلٌ و عذاب أليم يَوْمَئِذٍ و في ذلك الزمان الخطير لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه النّعم العظام، و المنكرين لقدرتنا على إعادة الخلق في يوم القيامة.

اِنْطَلِقُوا إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) اِنْطَلِقُوا إِلىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ (30) لاٰ ظَلِيلٍ وَ لاٰ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ثمّ ذكر سبحانه كيفية عذاب المكذبين يوم القيامة. قيل: إنّ الشمس تقرب فيه من رءوس الخلائق و ليس عليهم لباس و كنان، فتلفحهم(1) الشمس و تأخذ بأنفاسهم، و يمتدّ ذلك اليوم، و ينجّى اللّه المؤمنين إلى ظلّ عرشه، فهناك يقولون: فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْنٰا وَ وَقٰانٰا عَذٰابَ السَّمُومِ (2) و يقول خزنة جهنّم للمكذّبين:

اِنْطَلِقُوا و العبوا أيّها المكذّبون إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب.

ثمّ يبالغون في تقريعهم بتكرار الأمر بقوله:

اِنْطَلِقُوا أيّها المكذّبون و اذهبوا إِلىٰ ظِلٍّ من دخان غليظ عظيم من نار جهنّم، أو ظلّ من نار ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ قيل: شعبة عن يمينهم، و شعبه عن يسارهم، و شعبة فوق رءوسهم، فيكونون محاطين بالدّخان أو النار(3).

قيل: يخرج لسان من النار محيط بالكافر كالسّرادق، فيتشعّب ثلاث شعب يكون فيها حتّى يفرغ من الحساب (2)

لاٰ ظَلِيلٍ ذلك الظلّ و لا مانع لهم من حرّ الشمس، و قيل: يعني لا بارد (3)وَ لاٰ يُغْنِي الكفّار مِنَ حرّ اَللَّهَبِ و لا يبعدهم أو لا يسترهم منه.

عن الباقر عليه السّلام قال: «بلغنا و اللّه أعلم أنّه إذا سيق(4) أهل النار و ينطلق بهم قبل أن يدخلوا النار، فيقال لهم: ادخلوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب من دخان النار، فيحسبون أنّها الجنّة، ثمّ يدخلون النار أفواجا [أفواجا و] ذلك نصف النهار» انتهى(5).

إِنَّهٰا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمٰالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هٰذٰا يَوْمُ لاٰ يَنْطِقُونَ (35) وَ لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)

ص: 403


1- . في النسخة: فتلحقهم. (2و3) . تفسير الرازي 275:30. و الآية من سورة الطور 27:52.
2- . تفسير أبي السعود 80:9، تفسير روح البيان 286:10.
3- . تفسير الرازي 275:30.
4- . في تفسيري القمي و الصافي: استوى.
5- . تفسير القمي 113:2، تفسير الصافي 270:5.

ثمّ وصف سبحانه النار التي كان ذلك الظلّ دخانا لها بقوله:

إِنَّهٰا تَرْمِي بِشَرَرٍ و شعلات، كلّ شرر و شعلة في العظمة كَالْقَصْرِ العظيم و البناء الرفيع، عن ابن عباس: يريد القصور العظام(1).

و روي عنه: أنّ هذا التشبيه ورد في بلاد العرب، و قصورهم قصيرة السّمك(2) جارية مجرى الخيمة(3).

و في رواية اخرى عنه، أنّه سئل عن القصر، فقال: هو خشب كنّا ندّخره للشتاء نقطّعه(4). و قيل: هو اصول الشجر العظام و النّخل(5).

ثمّ شبه سبحانه كلّ شرر في اللون و التتابع و السرعة و الكثرة و الاختلاط بجماعة الابل السّود بقوله:

كَأَنَّهُ جِمٰالَتٌ و جماعة إبل صُفْرٌ كلّ شررة كأنّها جمل أصفر.

قيل: عبّر سبحانه عن الأسود بالأصفر، لأنّ لون الصّفرة هو السواد المختلط بالبياض، أو لأنّ الإبل السوداء سوادها يضرب إلى السّفرة، أو لأنّ الإبل الصفراء يشوب رءوس أشعارها السواد(4).

قيل: إنّ ابتداء الشّرر يعظم فيكون كالقصر، ثمّ يفترق فتكون القطع المتفرّقة كالجمالة الصّفر(7).

قيل: في تشبيه الشرر بالجمالة الصّفر تقريع بالكفّار، فانّهم كانوا يحبّون الجمال، و يعتقدون أنّ ملكها تمام النّعمة، كأنّه(8) قيل لهم: إنّكم كنتم تتوقعون من دينكم نعمة كثيرة(9) أهمّها عندكم جمالة و جماعة من الإبل، فاليوم صارت الجمالة المحبوبة عندكم هذه الشرارات.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه الأهوال

هٰذٰا اليوم الذي فيه تلك الأهوال العظيمة يَوْمُ لاٰ يَنْطِقُونَ هؤلاء المكذّبون بشيء قيل: إنّ الكفّار حين السؤال ينطقون، فلمّا انقضى السؤال و الحساب لا ينطقون من الوحشة و عدم القدرة على التكلّم (5)

وَ لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ من قبل اللّه فَيَعْتَذِرُونَ عن تقصيراتهم لعدم عذر لهم بعد إتمام الحجّة عليهم في الدنيا

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه الأخبار.

هٰذٰا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنٰاكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) ثمّ يقال لهم توبيخا و تقريعا:

هٰذٰا اليوم العظيم الذي ترون أهواله يَوْمُ الْفَصْلِ بين الحقّ

ص: 404


1- . تفسير الرازي 276:30.
2- . السّمك: السقف أو الارتفاع.
3- . تفسير الرازي 277:30. (4و5) . تفسير الرازي 276:30.
4- . في النسخة: لأن الابل الأسود سواده يضرب إلى الصفرة، أو لأن الإبل الأصفر يشوب رءوس أشعاره بالسواد. راجع: تفسير روح البيان 188:10. (7-8-9) . تفسير الرازي 277:30.
5- . تفسير الرازي 279:30.

و الباطل، أو القضاء بين الناس أجمعين جَمَعْنٰاكُمْ يا امّة محمّد في هذا اليوم وَ الْأَوَّلِينَ و الامم السابقين لفصل القضاء و الحكم للمحقّ و على المبطل

فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ أيّها الكفّار المبطلون كَيْدٌ و حيلة في هذا اليوم لدفع العذاب عنكم، كما كان لكم في الدنيا مكائد لإبطال دعوة الرسل و صرف الناس عنهم فَكِيدُونِ و احتالوا و تخلّصوا من عذابي، و لكن لا تقدرون اليوم على كيد و حيلة، فعليكم أن تتحمّلوا ألم العذاب

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الذين لا حيلة لهم من التخلّص من العذاب.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاٰلٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَوٰاكِهَ مِمّٰا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين بقوله:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الكفر و التكذيب في ذلك اليوم مستقرون فِي ظِلاٰلٍ يظلّهم من حرّ الشمس و غيره، و هو ظلّ العرش، أو أشجار الجنّة، لا كظلّ المكذّبين الذي ليس بظليل عن القمي في ظلال من نور أنور من نور الشمس(1). و عن الكاظم:

«هم نحن و شيعتنا»(2).

وَ في عُيُونٍ عذبة لذيذة يدفعون بمائها عطشهم

وَ في فَوٰاكِهَ كثيرة مِمّٰا يَشْتَهُونَ و يميلون إليه: و الحاصل أنّهم مستغرقون في فنون النّعم و أنواع الترفّه، و يقال لهم تفريحا لقلوبهم:

أيّها المتقون

كُلُوا من نعم الجنة و فواكهها وَ اشْرَبُوا من أنواع أشربتها هَنِيئاً لكم، و شربا بلا داء و لا ضرر بِمٰا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة و العبادات المرضية

إِنّٰا بفضلنا و رحمتنا كَذٰلِكَ الجزاء الجزيل و الثواب العظيم نَجْزِي المؤمنين اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم و أخلاقهم، و بسبب طاعتهم لربّهم.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث يرون أنفسهم في غاية الذلّ و العذاب، و أعداءهم المخاصمين لهم في نهاية الكرامة و النّعم و الراحة، و أمّا المجرمون المكذّبون فيقال لهم في الدنيا:

كُلُوا من نعم الدنيا وَ تَمَتَّعُوا و انتفعوا بمشتهياتها زمانا قَلِيلاً أو انتفاعا يسيرا ينقضي بموتكم، فانّ تلذّذكم بها كتلذّذ من يأكل لقمة حلواء مسمومة مهلكة، ثمّ يموتون و يهلكون بها، و أنتم تبتلون بالعذاب لأجل إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ و طاغون على ربّكم

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتّع القليل.

ص: 405


1- . تفسير القمي 400:2، تفسير الصافي 271:5.
2- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 271:5.

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاٰ يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) ثمّ بيّن سبحانه شدّة طغيانهم على اللّه بقوله:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أو اخضعوا لربّكم المنعم عليكم بتلك النّعم العظام الدنيوية و عظّموه شكرا عليها لاٰ يَرْكَعُونَ [* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ] و يصرّون على كفرهم. عن ابن عباس: أنّ المراد بالركوع في الآية الصلاة(1) ، فالمعنى أنّ الكفّار إذا دعوا للصلاة لا يصلّون، فذمّهم سبحانه على ترك انقيادهم للّه في الاصول و الفروع، و فيه دلالة على أنّ الكفار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول و معاقبون عليهما.

قيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة فقالوا: لا ننحني فانّها سبّة(2).

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في كتابه الكريم في إقامة البراهين على وجوب الايمان باللّه و الانقياد له، و زجر الكفار عن العتوّ و العصيان، و مع ذلك لم يؤمنوا و لم يتأثّروا و لم يتّعظوا بمواعظه، ختم السورة المباركة بإظهار التعجّب من عدم إيمانهم بقوله:

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و بيان غير القرآن و بَعْدَهُ مع كونه إعجازا و جامعا للمواعظ الشافية و العلوم و الحكم يُؤْمِنُونَ فاذا لم يؤمنوا به فهم في غاية القساوة و اللّجاج و العناد.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة وَ الْمُرْسَلاٰتِ عُرْفاً عرّف اللّه بينه و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله»(3).

ص: 406


1- . تفسير الرازي 284:30.
2- . مجمع البيان 636:10، تفسير الصافي 271:5، تفسير البيضاوي 559:2.
3- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 627:10، تفسير الصافي 272:5.

في تفسير سورة النبأ

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لبيان عظمة القيامة و أهوالها و الاستفهامات التقريرية لإثبات وقوعها بقوله: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ (1) إلى آخره، و بيان سوء حال المكذّبين بها و حسن حال المتّقين، نظمت السورة المباركة النبأ المتضمّنة لبيان عظمة ذلك اليوم و أهواله، و الاستفهامات التقريرية لإثبات وقوعه بقوله: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهٰاداً (2) إلى آخره، و بيان سوء حال المكذّبين به، و حسن حال المتّقين في الآخرة، فافتتحها سبحانه على دأبه بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها على القول الصحيح ببيان عظمة يوم القيامة بقوله:

عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ و عن أي خبر اولئك الكفّار يستخبرون بعضهم بعضا، أو كلّهم المؤمنين استهزاء، أو المؤمنون الرسول زيادة لليقين و البصيرة ؟ يتساءلون

عَنِ النَّبَإِ و الخبر اَلْعَظِيمِ الشأن الذي لا أعظم منه. قيل: إنّ المراد من النبأ نبوّة محمد(3). و قيل: هو القرآن (4)

اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فبعضهم يقولون: إنّه سحر و بعضهم يقولون: إنّه شعر، و بعضهم يقولون: كهانة.

و قيل: إنّ المراد به وقوع يوم القيامة(5) ، و هو الأظهر، فانّ الكفّار كانوا فيه مختلفين، فبعضهم ينكرونه، و بعضهم يظهرون الشكّ فيه، و بعضهم ينكرون المعاد الجسماني دون الروحاني، و في الاستفهام غاية تفخيم شأنه.

و عن الصادق عليه السّلام - في تأويله - قال: «اَلنَّبَإِ الْعَظِيمِ الولاية»(6).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن تفسير عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ قال: «هو أمير المؤمنين عليه السّلام» و قال: «كان أمير

ص: 407


1- . المرسلات: 20/77.
2- . النبأ: 6/78.
3- . تفسير الرازي 4:31.
4- . مجمع البيان 639:10، تفسير الرازي 4:31.
5- . تفسير الرازي 3:31.
6- . الكافي 34/346:1، تفسير الصافي 273:5.

المؤمنين عليه السّلام يقول: ما للّه عزّ و جلّ آية أكبر منّي، و ما للّه نبأ أعظم منّي»(1).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عنه قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما للّه نبأ أعظم منّي، و ما للّه آية أكبر منّي، و قد عرض فضلي على الامم الماضية على اختلاف ألسنتهم فلم تقرّ لفضلي»(2).

و عن أبيه [عن آبائه] عن الحسين بن عليّ: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: يا علي، أنت حجّة اللّه، و أنت باب اللّه، و أنت الطريق إلى اللّه، و أنت النبأ العظيم»(3).

و روي العلامة رحمه اللّه في (نهج الحق) عن العامة تأويله بأمير المؤمنين عليه السّلام(4) أيضا.

أقول: هذه الروايات لا تنافي إرادة اللّه ظاهر الآية، و إن انطبق عنوان النبأ العظيم على أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا.

كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ (5) ثمّ ردع سبحانه الكفّار عن الاختلاف في المعاد بقوله:

كَلاّٰ ليس الأمر كما يقوله الكفّار في يوم القيامة، فإنّهم سَيَعْلَمُونَ أنّه حقّ واقع لا محالة.

و قيل: إنّ كَلاّٰ هنا بمعنى حقّا(5).

ثمّ كرّر سبحانه الرّدع و أبلغ فيه بكلمة ثُمَّ بقوله:

ثُمَّ كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ أنّه واقع لا دافع له، فلا مجال للشكّ فيه، و لا للتساؤل عنه لوضوحه.

و قيل: يعني كلاّ سيعلمون حقيته عند النّزع، ثمّ سيعلمون به يوم القيامة، أو سيعلمون حين البعث من القبور بالقيامة و الحشر و الحساب(6). ثمّ سيعلمون بالعذاب على التكذيب، أو سيعلمون ما اللّه فاعل بهم ثمّ سيعلمون أنّ الأمر ليس كما يتوهّمون من أنّ اللّه غير باعثهم، أو سيعلمون بما نزل بهم في الدنيا من العذاب و سيعلمون بما ينالهم في الآخرة، أو سيعلمون الكفّار سوء عاقبة تكذيبهم و سيعلمون المؤمنون حسن عاقبة تصديقهم(7).

و هذا التفسير أبعد من الكلّ، لظهور الآيتين في غاية التهديد و التشديد، و السين. في الفعلين للتقريب و التأكيد.

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهٰاداً (6) وَ الْجِبٰالَ أَوْتٰاداً (7) وَ خَلَقْنٰاكُمْ أَزْوٰاجاً (8) وَ جَعَلْنٰا

ص: 408


1- . الكافي 3/161:1، تفسير الصافي 273:5.
2- . تفسير القمي 401:2، تفسير الصافي 273:5.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 13/6:2، تفسير الصافي 273:5.
4- . نهج الحق: 211.
5- . تفسير الرازي 5:31.
6- . تفسير روح البيان 293:10.
7- . تفسير الرازي 5:31.

نَوْمَكُمْ سُبٰاتاً (9) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبٰاساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهٰارَ مَعٰاشاً (11) وَ بَنَيْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدٰاداً (12) وَ جَعَلْنٰا سِرٰاجاً وَهّٰاجاً (13) وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ مٰاءً ثَجّٰاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبٰاتاً (15) وَ جَنّٰاتٍ أَلْفٰافاً (16) ثمّ لمّا كان عمدة إنكار المنكرين بالنظر إلى استبعاد الإعادة المبنيّ على عدم المعرفة بقدرة اللّه، ذكر سبحانه الشواهد على كمال قدرته بقوله:

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ بقدرتنا لكم مِهٰاداً و فراشا تتقلّبون عليها كما تتقلّبون على فرشكم

وَ الْجِبٰالَ الرواسي في الأرض أَوْتٰاداً لها لتسكن و لا تميد بأهلها

وَ خَلَقْنٰاكُمْ من الماء المهين أَزْوٰاجاً و أصنافا ذكرا و انثى، ليسكن كلّ صنف إلى الآخر، و ينتظم أمر المعاش و المعاشرة و التناسل

وَ جَعَلْنٰا و صيّرنا نَوْمَكُمْ لطفا بكم سُبٰاتاً و قاطعا لحركات أعضائكم، و راحة لكم، و رافعا لتعبكم

وَ جَعَلْنَا و صيّرنا اَللَّيْلَ المظلم لكم لِبٰاساً و ساترا لكم بظلمته عن عيون الناس، كما يستر الناس عن عيونكم، فتستريحون فيه، و تقفون عن الحركة في مطلب المعاش

وَ جَعَلْنَا النَّهٰارَ لكم مَعٰاشاً و زمان اكتساب الرزق و التقلّب في وجه الأرض لطلب المعاش

وَ بَنَيْنٰا فَوْقَكُمْ من السماوات سَبْعاً غير العرش و الكرسيّ شِدٰاداً و غلاظا غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام، أو محكمات الخلق لا يؤثّر فيها مر الدهور و كرّ العصور، و لا فطور فيها و لا فروج.

قيل: إنّ إطلاق البناء على السقف مع أنّه لا يستعمل إلاّ في أسافل البيت(1) ، للدلالة على كمال الاستحكام، أو لتنزيلها منزلة القبّاب المضروبة على الخلق(2).

وَ جَعَلْنٰا و خلقنا لأهل العالم سِرٰاجاً و مصباحا وَهّٰاجاً و وقّادا، أو مضياء في الغاية. عن ابن عباس: الوهّاج مبالغة في النور(3).

وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ و الرياح المثيرات للسّحاب، كما عن ابن عباس(4) ، أو السّحاب كما في رواية اخرى عنه (5)مٰاءً ثَجّٰاجاً و شديد الانصباب و متتابع القطر عظيم النفع

لِنُخْرِجَ بِهِ من الأرض حَبًّا و نباتا له الاكرام و الثّمار وَ نَبٰاتاً لا أكمام له كالحشائش

وَ جَنّٰاتٍ و بساتين أَلْفٰافاً و متداخلات أو متقاربات، لتتفكّهوا بثمارها، فذكر سبحانه أولا أغذية الانسان بقوله:

حَبًّا ثمّ ذكر علوفة الحيوانات بقوله: وَ نَبٰاتاً و بعدها ما يستلذّ به الانسان من الفواكه.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كٰانَ مِيقٰاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوٰاجاً (18) وَ فُتِحَتِ

ص: 409


1- . تفسير الرازي 8:31.
2- . تفسير روح البيان 296:10. (3-4-5) . تفسير الرازي 8:31.

اَلسَّمٰاءُ فَكٰانَتْ أَبْوٰاباً (19) وَ سُيِّرَتِ الْجِبٰالُ فَكٰانَتْ سَرٰاباً (20) ثمّ إنّه تعالى بعد ما بيّن كمال قدرته و حكمته و إتمام نعمته على الخلق من حيث المسكن و أسباب المعيشة و الراحة في الدنيا، ذكر أحوال الآخرة بقوله:

إِنَّ يوم القيامة الذي هو يَوْمَ الْفَصْلِ و القضاء بين الناس كٰانَ بتقدير اللّه مِيقٰاتاً و زمانا تنتهي إليه الدنيا أو الخلائق، أو موعدا للجزاء على الأعمال أو لاجتماع الخلائق.

ثمّ بيّن سبحانه ذلك اليوم بقوله:

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النفخة الثانية التي هي نفخة الإحياء فَتَأْتُونَ أيّها الناس بعد إحيائكم في القبور و بعثكم منها إلى المحشر حال كونكم أَفْوٰاجاً و جماعات قيل: يأتي كلّ نبي مع امّته(1) ، و قيل: يعني فرقا مختلفة(2).

روي عن معاذ أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه فقال: «يا معاذ، سألت عن أمر عظيم من الامور» ثمّ أرسل عينيه و قال: «يحشر عشرة أصناف من امّتي بعضهم على صورة القردة، و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، و بعضهم عمي، و بعضهم صمّ بكم، و بعضهم يمضغون ألسنتهم و هي مدلاّة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقدّر أهل الجمع منهم، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف، و بعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس، و أمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت، و أمّا المنكوسون على وجوههم فأكلة الرّبا، و أما العمي فالذين يجورون في الحكم، و أمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم، و أمّا الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القضاة الذين تخالف أقوالهم أعمالهم، و أمّا الذين قطّعت أيديهم و أرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، و أمّا المصلّبون على جذوع النار فالسعاة بالناس إلى السّلطان، و أمّا الذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات و اللذات و منعوا حقّ اللّه تعالى من أموالهم، و أموالهم، و أمّا الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء»(3).

و رواه في (المجمع) عن النبي(4).

وَ فُتِحَتِ السَّمٰاءُ و انشقّت شقوقا كثيرة فَكٰانَتْ السماء لكثرة الشّقوق (5)أَبْوٰاباً لنزول

ص: 410


1- . تفسير الرازي 10:31.
2- . تفسير الرازي 10:31.
3- . تفسير الرازي 10:31، جوامع الجامع: 526، تفسير أبي السعود 89:9، تفسير روح البيان 299:10.
4- . مجمع البيان 642:10، تفسير الصافي 275:5.
5- . زاد في النسخة: كأنّها، و لا تصحّ، لأن لفظ الآية بعدها منصوب.

الملائكة قيل: إنّ التقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا(1). و قيل: إنّ المراد من فتحها إزالتها و إعدامها، فكانت مكانها طرق و مسالك للملائكة (2)

وَ سُيِّرَتِ الْجِبٰالُ في الجوّ بعد انقلاعها من أماكنها فَكٰانَتْ و صارت في الأنظار شيئا و ليست بشيء، كما ترى سَرٰاباً تحسبه ماء و ليس بماء.

قيل: إنّ اللّه تعالى أخبر عن الجبال بحالات؛ فأوّلها أنّها تندكّ و تتقطّع، ثمّ تصير كثيبا مهيلا و تلا من رمل، ثمّ تصير كالعهن، ثمّ تنسفها الرياح فتصير هباء و ذرات منبثّة في الهواء، فتصير في الهواء كقطعة من الأرض تسير في الجوّ، و ترى الأرض التي تحتها بارزة، و هي في هذه الحالة مثل السّراب، فكما أنّ السراب تحسبه ماء و ليس بماء، كذلك الجبال تحسبها جبالا و ليست بجبال في الحقيقة، بل هي غبار(3).

إِنَّ جَهَنَّمَ كٰانَتْ مِرْصٰاداً (21) لِلطّٰاغِينَ مَآباً (22) لاٰبِثِينَ فِيهٰا أَحْقٰاباً (23) لاٰ يَذُوقُونَ فِيهٰا بَرْداً وَ لاٰ شَرٰاباً (24) إِلاّٰ حَمِيماً وَ غَسّٰاقاً (25) جَزٰاءً وِفٰاقاً (26) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان خراب الدنيا و مجيء الناس إلى الحشر، بيّن حال جهنّم بقوله:

إِنَّ جَهَنَّمَ كٰانَتْ في علم اللّه، أو صارت مِرْصٰاداً و محلاّ لترقّب خزنتها ورود الناس، فالمؤمنون يمرّون عليها كالبرق الخاطف أو كالراكب، و تكون

لِلطّٰاغِينَ و العتاة و المتمرّدين خاصة مَآباً و مرجعا و مستقرا حال كونهم

لاٰبِثِينَ و مقيمين فِيهٰا أَحْقٰاباً و دهورا كثيرة لا نهاية لها.

عن ابن عباس: أنّ الأحقاب ثلاثة و أربعون حقبا، كلّ حقب سبعون خريفا، كلّ خريف سبعمائة سنة، كلّ سنة ثلاثمائة و ستون يوما، كلّ يوم ألف سنة من أيام الدنيا(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا، و الحقب ثمانون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستون يوما، و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار»(5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الأحقاب ثمانية حقب، و الحقب ثمانون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستون يوما، و اليوم كألف سنة ممّا تعدّون»(6).

ص: 411


1- . تفسير الرازي 11:31.
2- . تفسير روح البيان 30:10.
3- . تفسير روح البيان 301:10.
4- . تفسير روح البيان 302:10.
5- . مجمع البيان 643:10، تفسير الصافي 276:5.
6- . معاني الأخبار: 1/220، تفسير الصافي 276:5.

و عن الصادقين عليهما السّلام: «هذه في الذين يخرجون من النار»(1).

و قيل: إنّه كناية عن الدوام و الخلود(2) ، و على أيّ تقدير أهل النار

لاٰ يَذُوقُونَ فِيهٰا و لا يحسّون بَرْداً ينتفعون و يستريحون به، و عن بعض مفسري العامة و القمّي: يعني نوما (3)وَ لاٰ شَرٰاباً رافعا لعطشهم

إِلاّٰ حَمِيماً و ماء متناهيا في الحرارة وَ غَسّٰاقاً و قيحا سائلا من جلود أهل النار، إنّا نجازيهم

جَزٰاءً يكون وِفٰاقاً لعقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم، بلا زيادة عليها و لا نقصان، و مطابقا لها في العظم و الصّغر.

إِنَّهُمْ كٰانُوا لاٰ يَرْجُونَ حِسٰاباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا كِذّٰاباً (28) وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنٰاهُ كِتٰاباً (29) ثمّ حكى سبحانه اعتقادهم الموجب لذلك العذاب بقوله:

إِنَّهُمْ كٰانُوا في الدنيا لاٰ يَرْجُونَ و لا يحتملون حِسٰاباً لأعمالهم في الآخرة، و جزاء على سيئاتهم، و لذا كانوا لا يبالون منكرا، و لا يرغبون في معروف.

ثمّ حكى سبحانه أسوأ أعمالهم بقوله:

وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا الدالة على التوحيد و البعث و الحساب كِذّٰاباً و تكذيبا مفرطا إسرارا على الكفر و فنون القبائح و المعاصي، فلمّا كانت سيئاتهم بهذه الدرجة من العظمة استحقّوا هذه الدرجة الشديدة من العذاب، للزوم موافقة عذابهم و أعمالهم و معاصيهم.

ثمّ بيّن سبحانه علمه بميزان الأعمال و مقدار الجزاء بقوله:

وَ كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء منها الأعمال و جزاؤها أَحْصَيْنٰاهُ و علمناه حال كونه كِتٰاباً و مثبوتا في اللوح المحفوظ، أو المراد علمناه علما يكون في القوة و الثّبات كأنّه مكتوب، أو المراد أحصيناه إحصاء، و كتبناه كتابا في اللّوح المحفوظ، أو في صحف الحفظة.

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّٰ عَذٰاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفٰازاً (31) حَدٰائِقَ وَ أَعْنٰاباً (32) وَ كَوٰاعِبَ أَتْرٰاباً (33) وَ كَأْساً دِهٰاقاً (34) لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ كِذّٰاباً (35) جَزٰاءً مِنْ رَبِّكَ عَطٰاءً حِسٰاباً (36)

ص: 412


1- . مجمع البيان 643:10، و تفسير الصافي 276:5، عن الباقر عليه السّلام.
2- . تفسير روح البيان 302:10.
3- . تفسير الرازي 14:31، تفسير القمي 402:2، تفسير الصافي 276:5.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الطّغاة أظهر شدّة غضبه عليهم بتوجيه العتاب إليهم بقوله:

فَذُوقُوا أيّها الكفرة الطّغاة طعم العذاب كما ذقتم في الدنيا لذّة مشتهياتها فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلى الأبد إِلاّٰ عَذٰاباً قيل: كلّما استغاثوا من عذاب اغيثوا بأشدّ منه(1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار»(2).

قيل: إنّهم لمّا كانوا يزيدون تدريجا في تكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و إيذائه و إيذاء المؤمنين، زاد اللّه متدرّجا في عذابهم لتحقيق الموافقة في الجزاء، فلا يرد ما قيل من أنّه لو كان العذاب الزائد مستحقّا في أول ورودهم في جهنّم كان تركه عفوا و إحسانا، فلا ينبغي للحكيم رجوعه عن عفوه و إحسانه، و إن كان غير مستحقّ فزيادته ظلم(3) ، مع أنّ التخفيف إلى مدّة لا ينافي عذابه فيما بعد.

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين في الآخرة بقوله:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ و المجتنبين عن الكفر و تكذيب الرسول و المعاد و العصيان في الآخرة مَفٰازاً و ظفرا بأقصى المطالب و أهمّ المقاصد بعد النجاة من النار، أعني بالمفازة

حَدٰائِقَ و بساتين ذات أشجار كثيرة و ثمار وافرة لم تر مثلها عين، و لم تسمع مثلها اذن وَ أَعْنٰاباً طيبة كثيرة. قيل: إنّما خصّها بالذكر لشرفها و فضلها(4).

وَ لهم نساء كَوٰاعِبَ و مستديرات الثديين، أو مرتفعاتها و أَتْرٰاباً و متساويات في السنّ.

عن الباقر عليه السّلام: «كَوٰاعِبَ أَتْرٰاباً فتيات ناهدات»(5).

وَ ان لهم كَأْساً من خمر دِهٰاقاً و مملوءة كما عن ابن عباس(6) ، أو متتابعة كما عن جماعة(7) ، أو صافية(8).

و هؤلاء المتّقون الذين هم في الجنة

لاٰ يَسْمَعُونَ من أحد فِيهٰا كلاما لَغْواً و باطلا وَ لاٰ كِذّٰاباً الذي كان الطاغوت يقولونه في الآيات. و الحاصل أنّ المتّقين لا يسمعون في الجنّة كلاما مشوّشا و لا كلاما ككلام الطّغات.

و قيل: إنّ ضمير فِيهٰا راجع إلى الكأس(9) ، و المعنى لا يسمعون في حال شربهم الخمر كلاما لغوا و باطلا، إذ لا تتغير عقولهم، و لا يتكلّمون بما لا فائدة فيه، كلّ ذلك يكون

جَزٰاءً على عقائدهم الصحيحة و أعمالهم الصالحة مِنْ رَبِّكَ الكريم الجواد، و يكون عَطٰاءً لهم حِسٰاباً و كافيا، أو كثيرا زائدا عن استحقاقهم بإزاء عملهم، فانّ الاحسان إلى المطيع بمقدار عمله واجب على اللّه،

ص: 413


1- . تفسير الرازي 19:31، و تفسير روح البيان 307:10، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.
2- . تفسير الرازي 19:31، و تفسير روح البيان 307:10، هذا الحديث و الذي قبله حديث واحد.
3- . تفسير الرازي 307:10.
4- . تفسير الرازي 308:10.
5- . تفسير القمي 402:2، تفسير الصافي 277:5. (6-7-8-9) . تفسير الرازي 20:31.

لأنّه لو لم يحسن لزم البخل و تساوي المطيع و المعاصي، و هما محالان، و أمّا الزائد فإحسان حسن غير واجب، فلذا جمع سبحانه في ثوابهم بين الجزاء و الإحسان، و هذا مراد من قال: العطاء موضع الفضل لا موضع الجزاء، لأنّ الجزاء على الأعمال، و الفضل موهبة من اللّه مختصة بالخواصّ من أوليائه.

عن (الأمالي) عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث قال: «حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم، و أعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه تعالى: جَزٰاءً مِنْ رَبِّكَ عَطٰاءً حِسٰاباً» (1).

رَبِّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا الرَّحْمٰنِ لاٰ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطٰاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاٰئِكَةُ صَفًّا لاٰ يَتَكَلَّمُونَ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمٰنُ وَ قٰالَ صَوٰاباً (38) ثمّ بيّن سبحانه علّة جزائه و كثرة عطائه بقوله:

رَبِّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا هو اَلرَّحْمٰنِ و الفيّاض المطلق على جميع الممكنات بجميع الخيرات، فمن كان بهذه العظمة و الجود لا يضيع عمل عامل عنده، و لا يكون عطاءه قليلا، بل كان في غاية العظمة، و يكون من عظمته و كبريائه أنّ الأنبياء و الرسل و أعاظم الملائكة لاٰ يَمْلِكُونَ مِنْهُ لغاية عظمته و كبريائه خِطٰاباً و مكالمة معه و الاعتراض عليه في ثواب أو عقاب.

ثمّ لمّا كان المشركون مدّعين أنّ الملائكة و الأصنام شفعاءهم عند اللّه يوم القيامة، ردّهم سبحانه بقوله:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ الذي هو أعظم من جميع الملائكة وَ الْمَلاٰئِكَةُ الذين هم سكّان السماوات و أقرب الموجودات إلى اللّه تعالى صَفًّا واحدا أو أكثر لاٰ يَتَكَلَّمُونَ في ذلك اليوم إجلالا له و خضوعا لديه و خوفا منه إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمٰنُ في التكلّم و الشفاعة وَ قٰالَ ذلك المأذون قولا صَوٰاباً و حقا واقعا في محلّه و مرضيا عنده، فكيف بغيرهم ؟

و قيل: لا يتكلّمون في حقّ أحد إلاّ في حقّ شخص أذن له الرحمن و قال ذلك الشخص صوابا و حقّا - و هو التوحيد - دون غيره من أهل الشرك(2). و في ذكر الرحمن هنا إشعار بأنّ مناط الإذن هو الرحمة الواسعة.

ص: 414


1- . أمالي الطوسي: 31/26، تفسير الصافي 277:5.
2- . تفسير روح البيان 310:10.

قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل(1) ، و تخصيصه بالذكر لكونه أفضلهم، و قال جمع: إنّه أعظم من جبرئيل(2).

عن ابن مسعود: أنّه أعظم من السماوات و الجبال(3).

و عن بن عباس: أنّه ملك من أعظم الملائكة خلقا(4).

و عن القمي: أنّه ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو مع الأئمة عليهم السّلام، و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام(3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «نحن و اللّه المأذونون لهم يوم القيامة، و القائلون صوابا». قيل: ما تقولون إذا تكلّمتم ؟ قال: «نمجّد ربّنا، و نصلّي على نبيّنا، و نشفع لشيعتنا و لا يردّنا ربّنا»(4).

ذٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ مَآباً (39) إِنّٰا أَنْذَرْنٰاكُمْ عَذٰاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مٰا قَدَّمَتْ يَدٰاهُ وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً (40) ثمّ أكّد سبحانه ثبوت ذلك اليوم و رغّب الناس في التهية له بقوله:

ذٰلِكَ اليوم اَلْيَوْمُ الْحَقُّ الثابت الذي لا ريب فيه، أو اليوم الذي يحقّ فيه كلّ حقّ و يبطل فيه كلّ باطل، فاذا علمتم ذلك فَمَنْ شٰاءَ النجاة من العذاب و النّيل بالثواب اِتَّخَذَ و اختار لنفسه إِلىٰ رَبِّهِ مَآباً و سبيلا بالايمان بتوحيده و رسالة رسوله، و بالأعمال الصالحة.

ثمّ أعلن سبحانه في الناس إتماما للحجّة عليهم بقوله:

إِنّٰا أَنْذَرْنٰاكُمْ أيّها الناس في هذه السورة، أو في القرآن عَذٰاباً في الآخرة قَرِيباً وقوعه على الكفّار و العصاة، فانّ كلّ آت قريب و إن ترونه بعيدا.

ثمّ بالغ سبحانه في التخويف و الإنذار بقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ و الانسان المكلّف إلى مٰا قَدَّمَتْ يَدٰاهُ و الذي ارتكبت جوارحه في الدنيا من الطاعة و العصيان.

و قيل: يعني اذكروا يوم ينظر الانسان أي شيء قدّمت يداه من الخير و الشرّ و الطاعة و العصيان بالنظر إلى صحيفة أعماله، فان رأى فيها الأعمال الصالحة فرح و رجا ثواب اللّه، و إن رأى فيها الأعمال السيئة حزن و خاف العقاب(5).

ص: 415


1- . تفسير الرازي 24:31.
2- . تفسير روح البيان 310:10. (3و4) . تفسير الرازي 23:31.
3- . تفسير القمي 26:2 و 402، تفسير الصافي 277:5.
4- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 277:5.
5- . مجمع البيان 647:10، تفسير روح البيان 311:10 و 312.

وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ حين رأى تبعات كفره و عصيانه و خلوّ صحيفته من الحسنات: يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ في الدنيا تُرٰاباً و لم أكن إنسانا مكلّفا حتى ابتلي بالعذاب، أو ليتني كنت في هذه اليوم ترابا و لم ابعث كما كنت ترابا قبل الإحياء و قيل: يعني يا ليتني كنت متواضعا و لم أكن متكبّرا(1).

و قيل: إنّ المراد بالكافر إبليس، و هو يقول: يا ليتني كنت مخلوقا من تراب كآدم، و لم أكن مخلوقا من النار(2) حتّى اتكبّر على آدم، و من السّجود له.

و عن (العلل) عن ابن عباس، أنّه سئل: لم سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام أبا تراب ؟ قال: «لأنّه صاحب الأرض و حجّة اللّه على أهلها بعده، و به(3) بقاؤها، و إليه سكونها». قال: لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّه إذا كان يوم القيامة و رأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك و تعالى لشيعة عليّ من الثواب و الزّلفى و الكرامة قال: يا ليتني كنت ترابا، أي من شيعة عليّ، و ذلك قول اللّه: وَ يَقُولُ الْكٰافِرُ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً (4).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ لم تخرج سنته - إذا كان مدمنها في كلّ يوم - حتّى يزور بيت اللّه الحرام إن شاء اللّه تعالى»(5).

ص: 416


1- . تفسير الرازي 26:31.
2- . مجمع البيان 648:10، تفسير أبي السعود 95:9، تفسير روح البيان 312:10.
3- . في النسخة و تفسير الصافي: و له.
4- . علل الشرائع: 3/156، تفسير الصافي 278:5.
5- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 637:10، تفسير الصافي 278:5.

في تفسير سورة النازعات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ النّٰازِعٰاتِ غَرْقاً (1) وَ النّٰاشِطٰاتِ نَشْطاً (2) وَ السّٰابِحٰاتِ سَبْحاً (3) فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرّٰاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرّٰادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وٰاجِفَةٌ (8) أَبْصٰارُهٰا خٰاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَ إِنّٰا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحٰافِرَةِ (10) أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً نَخِرَةً (11) قٰالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خٰاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمٰا هِيَ زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ (13) فَإِذٰا هُمْ بِالسّٰاهِرَةِ (14) ثمّ لمّا ختمت السورة النبأ المتضمّنة لأهوال القيامة، و الاستدلال على وقوعها، و سوء حال الكافرين المكذّبين لها، و حسن حال المؤمنين المقرّين بها، نضمت سورة النازعات المتضمّنة لتلك المطالب العالية، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر الايمان بأصناف الملائكة بقوله:

وَ النّٰازِعٰاتِ و الجاذبات من الملائكة لأرواح الكفّار غَرْقاً و نزعا و جذبا شديدا من أجسادهم كما ينزع في القوس بشدّة حتى ينتهى إلى النّصل

وَ النّٰاشِطٰاتِ و المخرجات من الملائكة أرواح المؤمنين نَشْطاً إخراجا برفق و لطف من أبدانهم، كما يخرج الدلو من البئر

وَ السّٰابِحٰاتِ و المرفقات في ذلك الإخراج لئلا يصل إليهم ألم و شدّة، كما يرفق السابح في الماء في حركاته لئلا يغرق في الماء سَبْحاً و رفقا بالغا لئلاّ يحسّوا تعبا

فَالسّٰابِقٰاتِ و المسرعات من الملائكة بأرواح الكفّار إلى الغار و أرواح المؤمنين إلى الجنّة و الراحة و النّعمة، ليروا صدق مواعيد اللّه سَبْقاً و سرعة لا يشابهها(1) سبق سابق و سرعة سريع

فَالْمُدَبِّرٰاتِ من اولئك الملائكة أَمْراً أراد اللّه في حقّ كلّ منهم من العقاب و الثواب للذين أعدهما(2) اللّه لهم في الآخرة، على ما رواه العامة عن أمير المؤمنين، و ابن عباس، و مسروق(3).

ص: 417


1- . في النسخة: لا يشابهه.
2- . في النسخة: أعدّه.
3- . تفسير الرازي 27:31، و في النسخة: ابن مسروق.

قيل: نكتة عطف الثاني و الثالث بالواو(1) مع اتّحاد الكلّ الإشعار بأنّ كلّ واحد من الأوصاف من الصفات العظيمة الجليلة الحقيقة بأن يكون كلّ على حياله مناطا لاستحقاق موصوفه للتعظيم و الاجلال، و عطف الرابع و الخامس بالفاء لتفرعها على الأول.

و عن الصادق عليه السّلام: قوله اَلنّٰازِعٰاتِ قال: «هم ملائكة الموت ينزعون النفوس»(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً تسبق أرواح المؤمنين إلى الجنة»(3).

و قيل: إنّ المراد من الثلاثة الأخر عموم الملائكة المأمورين لامور العالم(4) ، و المراد من السابحات طوائف الملائكة الذين ينزلون من السماء بسرعة كالسابح في الماء لعامة الامور، و لازم السرعة هو التقدّم في السير و إجراء الامور و تدبيرها بغير تراخ.

و قيل: إنّ السابقات الملائكة الذين يسبقون الشياطين بالوحي إلى الأنبياء(5).

و قيل: النازعات صفة النجوم التي تكون ذوات نزع و جذب من تحت الأرض إلى فوقها نزعا شديدا(6) ، و الناشطات هي النجوم التي تسير من برج إلى برج، فالمراد من نزعها حركتها اليومية، و من نشطها حركاتها الخاصة في أفلاكها بحركة ملائمة لذواتها، و المراد من السابحات هي النجوم تسبح في الفلك، كما قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (7) و وصفها بالسابقات باعتبار سبق بعضها على بعض، و وصفها بالمدبّرات باعتبار ما يترتّب عليها من الآثار كاختلاف الفصول و تمييز الأوقات و اختلاف الأحوال، و على أيّ تقدير كلّها قسم على وقوع البعث و القيامة، و التقدير: اقسم بهذه الامور العظام لتبعثنّ بعد الموت، أو لننفخنّ في الصّور، أو إن ما توعدون لواقع.

و قيل: إنّ جواب القسم مذكور، و هو قوله: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وٰاجِفَةٌ (8) و المعنى: أن

يَوْمَ تَرْجُفُ و تتزلزل و تضطرب شديدا جميع الأجرام الساكنة كالأرض و الجبال بالنفخة الاولى التي هي اَلرّٰاجِفَةُ و المحرّكة لكلّ شيء، فأسند الفعل إلى سببه لأنّ النفخة سبب لاضطراب الاجرام، ثمّ

تَتْبَعُهَا و تحدّث بعدها النّفخة الثانية التي هي اَلرّٰادِفَةُ للإحياء، و المراد باليوم الزمان الممتدّ الذي يقع بين النفختين.

ص: 418


1- . تفسير ابي السعود 96:9.
2- . مجمع البيان 651:10، تفسير الصافي 279:5، و فيهما: هو الموت ينزع النفوس.
3- . تفسير القمي 403:2، تفسير الصافي 279:5.
4- . مجمع البيان 652:10.
5- . تفسير الرازي 28:31.
6- . تفسير الرازي 29:31.
7- . الأنبياء: 33/21.
8- . تفسير الرازي 33:31.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ بين النفختين أربعين عاما»(1).

و روي أنّ في هذه الأربعين يمطر اللّه الأرض، و يصير ذلك الماء عليها كالنّطف(2).

و قيل: إنّ الرادفة يوم القيامة(3).

و قيل: إنّ الراجفة الأرض و الجبال(4) ، و الرادفة السماء، فانّها تنشقّ، و الكواكب فإنّها تنثر(5).

و قيل: الرادفة زلزلة ثانية تتبع الزلزلة الاولى حتّى تتقطّع الأرض و تفنى(6).

قُلُوبٌ كثيرة للكفّار يَوْمَئِذٍ وٰاجِفَةٌ و مضطربة من خوف اللّه و أهوال ذلك اليوم، و من لوازم اضطراب القلوب و خوف النفوس ما أخبر سبحانه بقوله:

أَبْصٰارُهٰا خٰاشِعَةٌ و خاضعة ذليلة مترقّبة لما ينزل بها من الامور العظام، فانّ اولئك الكفّار كانوا

يَقُولُونَ إنكارا للبعث أو استهزاء به: أَ إِنّٰا لَمَرْدُودُونَ بعد الموت فِي الْحٰافِرَةِ و الحالة الاولى التي كانت لنا من البنية و الحياة و القوّة ؟ ثمّ يبالغون في الانكار بقولهم:

أَ إِذٰا كُنّٰا و صرنا في القبور عِظٰاماً نَخِرَةً و بالية يمكن بعثنا و إحياؤنا؟ هيهات لا يكون ذلك أبدا. ثم

قٰالُوا بطريق الاستهزاء بالبعث: تِلْكَ الرجعة إلى الحياة التي تدّعونها إِذاً و على ما تقولون كَرَّةٌ و رجعة خٰاسِرَةٌ و مضرّة لنا إذ كنا ننكرها و نكذّب مدّعيها.

ثمّ لمّا كانوا يستصعبونها على اللّه لزعمهم عجزه عنها، بيّن سبحانه نهاية سهولتها عليه بقوله:

فَإِنَّمٰا هِيَ حاصلة لا محالة و ما توجدها إلاّ زَجْرَةٌ و صيحة وٰاحِدَةٌ بأمرنا، لا تكرّر فيها، فيسمعها جميع الخلق في بطون الأرض و أقطارها، كنفخ واحد في صور الناس لإقامة القافلة و العسكر

فَإِذٰا هُمْ محيون و مبعثون بِالسّٰاهِرَةِ و الأرض البيضاء المستوية بعد ما كانوا أمواتا و عظاما و ترابا.

هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ (15) إِذْ نٰادٰاهُ رَبُّهُ بِالْوٰادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اِذْهَبْ إِلىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىٰ (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلىٰ أَنْ تَزَكّٰى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلىٰ رَبِّكَ فَتَخْشىٰ (19) فَأَرٰاهُ الْآيَةَ الْكُبْرىٰ (20) فَكَذَّبَ وَ عَصىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعىٰ (22) فَحَشَرَ فَنٰادىٰ (23) فَقٰالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىٰ (24) فَأَخَذَهُ اللّٰهُ نَكٰالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولىٰ (25) إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ (26)

ص: 419


1- . تفسير الرازي 34:31.
2- . تفسير الرازي 34:31.
3- . تفسير الرازي 34:31.
4- . تفسير الرازي 34:31.
5- . تفسير الرازي 34:31.
6- . تفسير الرازي 34:31.

ثمّ لمّا كان تكذيب المشركين للنبي صلّى اللّه عليه و آله في إخباره بالمعاد و دار الجزاء مؤلما لقلبه الشريف، سلاّه سبحانه بحكاية معارضة فرعون موسى بن عمران في دعوته إلى التوحيد، و إنه مع إنكاره ادّعى الربوبية، فابتلاه اللّه بالعذاب مع كونه أقوى من قومه بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد، و قيل: إنّ هَلْ هنا بمعنى (قد)(1) و المعنى قد جاءك حَدِيثُ دعوة مُوسىٰ فرعون. و قيل: إنّ المعنى: هل بلغك خبره، أم أنا اخبرك به ؟(2) و هذا التعبير للترغيب في الاستماع ليتسلّى به.

ثمّ ذكر الحديث بقوله:

إِذْ نٰادٰاهُ رَبُّهُ قيل: إنّ التقدير اذكر حين ناداه ربّه (3)بِالْوٰادِ الْمُقَدَّسِ و الأرض المطهّرة عن الشرك، و اسم ذلك الوادي طُوىً و هو على ما قيل: واقع بين المدينة و مصر(4). و قيل: إنّه واد بالشام عند الطّور(5). و عن ابن عباس: أنّ طوى بمعنى الرجل بالعبرانية(6) ، و المعنى: يا رجل

اِذْهَبْ إِلىٰ فِرْعَوْنَ و قيل: إنّه بمعنى ساعة من الليل(5) اذهب برسالتي إلى فرعون ملك مصر إِنَّهُ طَغىٰ و تجاوز عن الحدّ في الكفر و العصيان و التكبّر على الخلق حتّى استبعدهم على ما قيل(6). فاذا جئته

فَقُلْ له بلسان ليّن يا فرعون هَلْ لَكَ ميل و رغبة إِلىٰ أَنْ تَزَكّٰى و تتطهّر من دنس الكفر و الكبر و الأخلاق السيئة الرديّة.

وَ أَهْدِيَكَ و أدلّك إلى الطريق المقرّب إِلىٰ رَبِّكَ و معرفته و طاعته فَتَخْشىٰ من عصيانه و عذابه بعد معرفته و العلم بوجوب طاعته ؟

فجاء موسى بأمر ربّه و حسب رسالته إلى فرعون، و جرى بينه و بينه ما جرى إلى أن قال فرعون:

فان كنت جئت بآية فات بها

فَأَرٰاهُ موسى اَلْآيَةَ الْكُبْرىٰ و المعجزة العظمي بإلقائه عصاه و صيرورتها ثعبانا عظيما، أو باليد البيضاء، أو بهما

فَكَذَّبَ فرعون بموسى و نسب معجزاته إلى السّحر وَ عَصىٰ ربّه و تمرّد عن طاعته مع علمه بصدق رسوله.

ثُمَّ أَدْبَرَ و أعرض عن الايمان بموسى و هو يَسْعىٰ و يجتهد في إبطال أمر رسالته و إطفاء نوره عنادا و لجاجا.

قيل: لمّا رأى فرعون الثعبان أدبر و أسرع في مشيته(7) خشية منه

فَحَشَرَ و جمع السحرة لمعارضة موسى و سائر الناس ليروا غلبة السّحرة عليه فَنٰادىٰ في مجمعهم بنفسه، أو بتوسّط مناد منه قبله

فَقٰالَ: أيّها الناس أَنَا رَبُّكُمُ و إلهكم اَلْأَعْلىٰ من كلّ من يلي اموركم من الملوك و الامراء، أو من الأصنام التي تعبدونها

فَأَخَذَهُ اللّٰهُ بسبب طغيانه و دعواه الربوبية و الالوهية و نكّل

ص: 420


1- . تفسير الرازي 38:31، تفسير أبي السعود 99:9.
2- . تفسير الرازي 38:31، تفسير روح البيان 319:10.
3- . تفسير الطبري 25:30.
4- . تفسير روح البيان 319:10. (5و6) . تفسير الرازي 38:31.
5- . تفسير الرازي 38:31.
6- . تفسير الرازي 39:31، تفسير روح البيان 320:10.
7- . الكشاف 696:4، تفسير الرازي 42:31، تفسير روح البيان 321:10.

به نَكٰالَ الْآخِرَةِ و عاقبة بالعقوبة الشديدة، و هي إحراقه في القيامة بالنار وَ نكال اَلْأُولىٰ و العقوبة الدنيوية، و هي غرقه في الماء.

و قيل: إنّ المراد من الاولى قوله مٰا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرِي (1) و من الآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىٰ (2).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه كان بين الكلمتين أربعون سنة»(3).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال جبرئيل: قلت: يا رب تدع فرعون و قد قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلىٰ «فقال: إنّما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت»(4).

و قيل: إنّ الاولى تكذيبه موسى(5).

إِنَّ فِي ذٰلِكَ الذّكر من طغيان فرعون و تعذيبه في الدنيا بغرقه في الماء و بإحراقه بالنار في الآخرة و اللّه لَعِبْرَةً عظيمة و موعظة شافية لِمَنْ يَخْشىٰ ربّه و يخاف عذابه.

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمٰاءُ بَنٰاهٰا (27) رَفَعَ سَمْكَهٰا فَسَوّٰاهٰا (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَهٰا وَ أَخْرَجَ ضُحٰاهٰا (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا (30) أَخْرَجَ مِنْهٰا مٰاءَهٰا وَ مَرْعٰاهٰا (31) وَ الْجِبٰالَ أَرْسٰاهٰا (32) مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ (33) ثمّ لمّا حكى سبحانه النكار المشركين للبعث و سهولته عليه تعالى، بيّن كمال قدرته على خلق أعظم من إعادتهم و خلقهم ثاني مرّة بقوله:

أَ أَنْتُمْ أيّها المنكرون للبعث أَشَدُّ و أصعب خَلْقاً في زعمكم أَمِ السَّمٰاءُ التي بَنٰاهٰا اللّه مع كمال عظمتها و قوّة تأليفها و انطوائها في البدائع التي تحار في أدناها العقول ؟! و قيل: إنّ التقدير أم السماء أشدّ؟(6)

ثمّ ابتدأ الكلام في بيان كيفية خلقها بقوله: بَنٰاهٰا و المراد غاية استحكامها كاستحكام أسافل القصور و البيوت

رَفَعَ سَمْكَهٰا و علوّها على الأرض كثيرا مسير خمسمائة عام. و قيل: إنّ المراد بالسّمك ارتفاع السطح الأعلى بين السطح الأسفل الذي يعبّر عنه بالثّخن و الغلظ(7).

فَسَوّٰاهٰا و عدلها و أقامها على وفق الحكمة و الصواب، أو سوّى تأليفها أو نفي الشّقوق عنها

وَ أَغْطَشَ و أظلم لَيْلَهٰا و القطعة من الزمان التي تغيب الشمس فيها ضوء الشمس بحركتها

ص: 421


1- . القصص: 38/28.
2- . مجمع البيان 656:10، تفسير الرازي 43:31.
3- . الخصال: 11/539، مجمع البيان 656:10، تفسير الصافي 281:5.
4- . مجمع البيان 656:10، تفسير الصافي 281:5.
5- . تفسير الرازي 43:31.
6- . تفسير روح البيان 324:10.
7- . تفسير روح البيان 324:10.

و دورانها وَ أَخْرَجَ و أبرز ضُحٰاهٰا و القطعة من الزمان التي يظهر فيها ضوء الشمس بحركتها.

قيل: إنّما عبّر سبحانه عن النهار بالضّحى الذي هو وقت ارتفاع الشمس، لكونه أشرف أوقاته(1) ، فكان أحقّ بالذكر في مقام الامتنان، كما أنّ تأخير ذكره عن الليل لأنّ إضاءة النور بعد الظّلمة أتمّ في الانعام.

وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ الخلق العظيم دَحٰاهٰا و بسطها و مهدها لسكنى أهلها و تقلّبهم في أقطارها. قيل: إنّ اللّه تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير قابلة للسكنى، ثمّ خلق السماء، ثمّ بسط الأرض بعد خلق السماء، كما عن ابن عباس(2).

و قيل: إنّ كلمة بَعْدَ هنا بمعنى (مع) و المعنى: أنّ الأرض مع ذلك دحاها، كما في قوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ (3) روى لك أيضا عن ابن عباس(4).

و قيل: إنّ المراد من دحوها بسطها بحيث تكون مهيأة لنبات الأقوات(5) ، و لذا قال سبحانه بعد بيان نعمة دحو الأرض:

أَخْرَجَ مِنْهٰا مٰاءَهٰا و فجّر عيونها وَ أخرج مَرْعٰاهٰا و أنبت منها ما يأكل الناس و الأنعام من نباتاتها

وَ الْجِبٰالَ على الأرض أَرْسٰاهٰا و أثبتها، و انّما خلق اللّه سبحانه جميع ذلك ليكون

مَتٰاعاً و ما به الانتفاع لَكُمْ أيّها الناس وَ لِأَنْعٰامِكُمْ و مواشيكم.

فَإِذٰا جٰاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرىٰ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسٰانُ مٰا سَعىٰ (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرىٰ (36) فَأَمّٰا مَنْ طَغىٰ (37) وَ آثَرَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوىٰ (39) وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوىٰ (41) ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال قدرته على إحياء الأموات و أعظم منه و بعثهم للحساب، أخبر عن وقوعه و شدّة أهواله بقوله:

فَإِذٰا جٰاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرىٰ و الداهية العظمى التي تصغر عندها كلّ داهية سواها، و بلغ وقت ظهورها، أعنى

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسٰانُ المكلّف في ذلك اليوم العظيم الهائل مٰا سَعىٰ و ما عمله في الدنيا من خير أو شرّ برؤيته بصورته الاخروية، أو في صحيفة أعماله، و قد نسبه للغفلة، أو لطول المدّة، أو للوحشة و الدّهشة.

ص: 422


1- . تفسير أبي السعود 101:9، تفسير روح البيان 324:10.
2- . تفسير الرازي 48:31، و لم ينسب إلى أحد.
3- . القلم: 13/68. (4و5) . تفسير الرازي 48:31.

قيل: إنّ الداهية الكبرى هي وقت تطاير الكتب يوم القيامة و قراءتهم أعمالهم فيها(1).

و عن (الإكمال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ الطامة الكبرى خروج دابة الأرض»(2).

وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ و أظهرت جهنّم إظهارا مكشوفا لِمَنْ يَرىٰ و يبصر من أهل المحشر كائنا من كان روي أنّه يكشف عن الجحيم [فتتلظى] فيراها كلّ ذي بصر مؤمن و كافر(3).

فَأَمّٰا مَنْ طَغىٰ على اللّه و تجاوز عن الحدّ بالعصيان بالكفر و الشرك. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«مَنْ طَغىٰ أي ظلّ على عمد(4) بلا حجة». (5)

وَ آثَرَ و رجّح في نظره لنفسه اَلْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا و لذّاتها و جمع زخارفها، و قدّمها على الآخرة و نعمها

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوىٰ و المقرّ له في الآخرة أبدا لا نجاة له منها.

قيل: نزلت في النضر بن الحارث و أبيه الغالبين في الكفر و الطّغيان(6).

وَ أَمّٰا مَنْ آمن و خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ و حين قيامه بالحكومة بين الناس و حضور نفسه في محضر عدل خالقه للحساب، أو مقامه بين يدي ربّه و خالقه وَ لذا نَهَى النَّفْسَ و منعها عَنِ اتّباع اَلْهَوىٰ و العمل بما ترغب فيه من الشهوات و اللذّات الدنيوية المانعة عن اتّباع الحقّ و العمل بما فيه رضا خالقه

فَإِنَّ الْجَنَّةَ العالية و قصورها هِيَ الْمَأْوىٰ و المقرّ له في الآخرة أبدا لا غيرها.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرٰاهٰا (43) إِلىٰ رَبِّكَ مُنْتَهٰاهٰا (44) إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشٰاهٰا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهٰا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ عَشِيَّةً أَوْ ضُحٰاهٰا (46) ثمّ لمّا ذكر سبحانه وقع القيامة بعد إثبات إمكانه، حكى استهزاء المستهزئين من المشركين بالسؤال عن وقت وقوعه أنّه قريب أو بعيد بقوله:

يَسْئَلُونَكَ يا محمد، اولئك الكفّار استهزاء عَنِ وقت اَلسّٰاعَةِ و القيامة و يقولون: أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا و في أيّ وقت إتيانها و قيامها؟ أخبرنا به إن كنت من الصادقين.

ثمّ ردّهم اللّه سبحانه و أنكر عليهم سؤالهم عنها بقوله:

فِيمَ أَنْتَ يا محمد مِنْ ذِكْرٰاهٰا و في أي شيء تكون من أن تبيّن لهم وقتها، و تعليمهم به مع اختصاص العلم بها بعلاّم الغيوب، و عدم اطّلاع غيره تعالى عليها كائنا من كان من ملك أو نبيّ مرسل ؟

إِلىٰ رَبِّكَ العالم بكلّ شيء

ص: 423


1- . تفسير الرازي 50:31.
2- . اكمال الدين: 1/527، تفسير الصافي 282:5.
3- . تفسير روح البيان 326:10.
4- . في النسخة: عمل.
5- . الكافي 1/289:2، تفسير الصافي 282:5.
6- . تفسير أبي السعود 104:9.

مُنْتَهٰاهٰا و إليه راجع علمها، فانّ حكمته اقتضت إخفاءها، فكيف يسألونك عنها؟

إِنَّمٰا أَنْتَ يا محمد مُنْذِرُ من قبل اللّه بالإخبار بوقوعها مَنْ يَخْشٰاهٰا و ليست وظيفتك إلاّ تخويف الناس بإتيانها و اقترابها(1) و بيان أهوالها و شدائدها، و لا يجب عليك تعيين وقت وقوعها بجميع الخصوصيات، و أمّا تعيينها إجمالا فهو وقت انقضاء عمر الدنيا، و هو في غاية السرعة، و إن كان بعد مائة ألف سنة و أزيد

كَأَنَّهُمْ و يشبه أنّ المنكرين يَوْمَ تقع القيامة و حين يَرَوْنَهٰا لَمْ يَلْبَثُوا و لم يمكثوا في الدنيا و لو عمّروا فيها ألف سنة إِلاّٰ عَشِيَّةً و ساعة من آخر يوم أَوْ ضُحٰاهٰا و ساعة من أول يوم تلك العشية، و لم يتخيّلوا أنّ مكثهم فيها يوما كاملا لسرعة انقضاء عمرهم فيها، كما قال اللّه تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنَ النَّهٰارِ (2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة وَ النّٰازِعٰاتِ كان ممّن حبسه اللّه في القبر(3) و القيامة حتى يدخله الجنة قدر صلاة مكتوبة»(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ وَ النّٰازِعٰاتِ لم يمت إلاّ ريّانا، و لم يبعثه اللّه إلاّ ريّانا، و لم يدخله إلاّ ريّانا»(5).

الحمد للّه على توفيقه لاتمام تفسيرها.

ص: 424


1- . في النسخة: و إقرابها.
2- . يونس: 45/10.
3- . (القبر و) ليست في تفسير البيضاوي.
4- . تفسير البيضاوي 567:2، تفسير روح البيان 330:10.
5- . ثواب الاعمال: 121، مجمع البيان 649:10، تفسير الصافي 283:5.

في تفسير سورة عبس

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَ تَوَلّٰى (1) أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ (2) وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّٰى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرىٰ (4) أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّٰى (6) وَ مٰا عَلَيْكَ أَلاّٰ يَزَّكّٰى (7) وَ أَمّٰا مَنْ جٰاءَكَ يَسْعىٰ (8) وَ هُوَ يَخْشىٰ (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّٰى (10) ثمّ لمّا ختمت سورة (و النازعات) المتضمّنة لبيان تكذيب المشركين للمعاد، و الاستدلال على إمكانه و الإخبار بوقوعه، و تهديدهم بأنّه يوم الطامة الكبرى، و بيان حال المكذّبين بالمعاد و المؤمنين به، نظمت سورة (عبس) المتضمّنة لتلك المطالب، و تهديد المكذّبين بالصاخّة المتقارب للطامة، فافتتحها بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في تأديب المسلمين بتوجيه العتاب إلى عثمان بن عفّان بقوله:

عَبَسَ عثمان و قبض وجهه و جمع الجلدة التي بين عينيه غضبا وَ تَوَلّٰى و أعرض لأجل

أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ قال القمي رحمه اللّه: إنّها نزلت في عثمان و ابن امّ مكتوم، و كان ابن امّ مكتوم مؤذّنا لرسول اللّه، و كان أعمى، و جاء إلى رسول اللّه و عنده أصحابه، و عثمان عنده، فقدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عثمان، فعبّس عثمان وجهه و تولّى عنه، يعني عثمان أن جاءه الأعمى(1).

و عن الصادق عليه السّلام نزلت في رجل من بني امية كان عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فجاء ابن ام مكتوم فلما رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و اعرض بوجهه عنه فحلى اللّه ذلك و انكره عليه(2).

و روى بعض العامة أن ابن امّ مكتوم، و كان اسمه عبد اللّه بن شريح بن مالك من بني عامر بن لؤي(3).

و قيل: اسمه [عمرو بن] قيس بن زائدة من بني عامر بن هلال، ابن خال خديجة، و كان (امّ مكتوم) كنية جدّته(4). و قيل: كنية امّه(5) ، روي إنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة و عنده صناديد قريش منهم عتبة

ص: 425


1- . تفسير القمي 404:2، تفسير الصافي 284:5.
2- . مجمع البيان 664:10، تفسير الصافي 284:5.
3- . الكشاف 0:4؟؟ 7، تفسير روح البيان 330:10. (4و5) . تفسير روح البيان 330:10.

و شيبة بن ربيعة و ابو جهل و العباس بن عبد المطلب و امه خلف و الوليد بن مغيرة يدعوهم إلى الاسلام رجاء أن يسلم باسلامهم غيرهم فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله اقرئني و علّمني ممّا علّمك اللّه، و كرّر ذلك، فكره النبي صلّى اللّه عليه و آله قطعه الكلام و عبس و أعرض عنه، فنزلت هذه الآيات(1).

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكرمه و يقول: إذا مدحه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي، رواه الزمخشري، و الفخر الرازي، و أبو السعود، و إسماعيل الحقّي(2) ، و قال الفخر: أجمع المفسّرون على أنّ الذي عبس و تولّى هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أجمعوا على أنّ الأعمى ابن امّ مكتوم(3).

و قال بعض علماء أصحابنا، ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبي صلّى اللّه عليه و آله دون عثمان يأباه سياق مثل هذه المعاتبات للنبي صلّى اللّه عليه و آله الغير اللائقة بمنصبه، و كذا ما ذكر بعدها إلى آخر السورة(4).

و وجّه بعض العامة فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله بأن امّ مكتوم كان سؤاله حراما في الواقع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله لكونه إيذاء و مانعا له عمّا هو الأهمّ من دعوة جمع من صناديد قريش إلى الإسلام، و كان الواجب على النبي صلّى اللّه عليه و آله، الإعراض عنه و الاشتغال بالأهمّ مع أنّه كان مأذونا في تأديب المسلمين، و لذا كان ابن امّ مكتوم مستحقّا للعتاب، و لكن لمّا كان فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله موهما لتقديمه الأغنياء على الفقراء، أو لأنّه كان ميل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى إسلامهم لقرابتهم و شرفهم و علوّ منزلتهم، و النفرة على الأعمى الذي لا قرابة له و لا شرف(5) ، و العبوس و التولّي كانا لتلك الداعية، عاتبه اللّه عليه، لأنّه ترك للأولى، و التعبير عن ابن امّ مكتوم بالأعمى الدالّ على تحقيره، و إن نافى تعظيمه بتوجيه العتاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بسبب إعراضه عنه و تعيين وجهه، إلاّ أنّ في التعبير إشعارا باستحقاق الأعمى مزيد الرفق و الرأفة، أو لعذره في قطع كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو لزيادة الإنكار كأنّه قال تعالى: تولّى لكونه أعمى، مع أنّه لا يليق هذا بمن له خلق كريم.

أقول: بعد الاعتراف بأنّه كان الواجب على النبي صلّى اللّه عليه و آله الأعراض و التولّي عنه، و الاشتغال بما هو الأهمّ، و كون تأديب المسلمين وظيفته صلّى اللّه عليه و آله، و كون ميل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى إسلامهم لقرابتهم و شرفهم، مع كونه مأمورا بإنذار خصوص أقربائه بقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (6) و كون إسلامهم سببا لاسلام عامة قريش، بل أكثر العرب، أي مجال للعتاب و توهين النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى يوم القيامة بأداء الواجب عليه، و كون داعية إسلامهم موجبا لغاية تعظيمه، لا توهينه و تعظيم الأعمى، و أمّا دعوى أنّه

ص: 426


1- . الكشاف 700:4، تفسير الرازي 54:31، تفسير أبي السعود 107:9، تفسير روح البيان 330:10.
2- . الكشاف 701:4، تفسير الرازي 54:31، تفسير أبي السعود 107:9، تفسير روح البيان 331:10.
3- . تفسير الرازي 55:31.
4- . تفسير الصافي 285:5.
5- . تفسير الرازي 55:31، تفسير روح البيان 332:10.
6- . الشعراء: 214/26.

كان في قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله النفرة عن الأعمى لعدم القرابة بينه و بينه و عدم شرفه ففرية(1) عليه صلّى اللّه عليه و آله، مع قولهم في توجيه التعبير بالأعمى بأنّه لزيادة الإنكار على النبي صلّى اللّه عليه و آله فكأنّه تعالى قال: تولّى لكونه أعمى، فرية(2) على اللّه، لأنّه علم أنّه ما تولّى لكونه أعمى، بل تولّى عنه للاشتغال بدعوة الأعاظم الذين إسلامهم في نهاية الأهمية.

ثمّ شدّد سبحانه العتاب على العابس المتولّي بتوجيه الخطاب إليه بقوله:

وَ مٰا يُدْرِيكَ و أي شيء أعلمك بحال الأعمى ؟ لَعَلَّهُ يَزَّكّٰى و يتطهّر بما يتعلّم و يتلقّن من الشكّ و الأخلاق الرذيلة

أَوْ يَذَّكَّرُ و يتّعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرىٰ و الموعظة بزيادة رغبته في العبادة و الطاعة.

ثمّ بالغ سبحانه في اللّوم بقوله:

أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ و كان ذا مال و ثروة

فَأَنْتَ يا عثمان لَهُ تَصَدّٰى و إليه تعرض، و عليه تقبل بوجهك، و تقرّبه إليك

وَ مٰا عَلَيْكَ و لا تبالي أَلاّٰ يَزَّكّٰى إذا كان الجائي غنيا

وَ أَمّٰا مَنْ جٰاءَكَ حال كونه يَسْعىٰ إلى الخير و تعلّم أحكام الاسلام

وَ هُوَ يَخْشىٰ اللّه و يخاف عقابه

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّٰى و تعرض، و لا تقبل إليه، و لا تعتني به كَلاّٰ لا تتعرّض عن المسلم المسترشد.

و أمّا على ما ذكر أهل السنّة من شأن نزولها، فالمعنى أَمّٰا مَنِ اسْتَغْنىٰ و أظهر عدم الحاجة إلى الايمان، أو إلى اللّه فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّٰى و عليه تقبل بوجهك، و تقرّبه إليك، وَ مٰا عَلَيْكَ يا محمد وزر و وبال في أَلاّٰ يَزَّكّٰى و لا يتطهّر ذلك المستغني بالاسلام حتى تهتمّ بأمره و دعوته، و تعرض عمّن أسلم فانّه ليس عليك إلاّ البلاغ وَ أَمّٰا مَنْ جٰاءَكَ يَسْعىٰ * وَ هُوَ يَخْشىٰ اللّه فَأَنْتَ يا محمد عَنْهُ تَلَهّٰى و تعرض و لا تقبل عليه

كَلاّٰ لا تتعرّض للمستغني، و لا تعرض عن المسلم.

قال بعض مفسّري العامة: لمّا تلا جبرئيل هذه الآيات على النبي صلّى اللّه عليه و آله عاد وجهه كأنّما ذرّ عليه الرماد، و ينتظر ما يحكم اللّه عليه، فلمّا قال: كَلاّٰ سرّي عنه(3).

أقول: حبّهم لعثمان بعثهم على صرف الآيات عنه و توجيهها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، مع أنّ المسلم لا يرضى به، مع القطع بأنّه حبيب اللّه، و لا يرضى اللّه بإيلام قلب حبيبه و توهينه في امّته لإعراضه الواجب عليه عن الأعمى.

كَلاّٰ إِنَّهٰا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شٰاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرٰامٍ بَرَرَةٍ (16)

ص: 427


1- . في النسخة: فرية.
2- . في النسخة: قريا.
3- . تفسير الرازي 57:31، تفسير روح البيان 333:10.

ثمّ إنّه تعالى بعد هذه الموعظة النافعة مدح القرآن العظيم المشتمل عليها بقوله: إِنَّهٰا تَذْكِرَةٌ و عظة لأهل العالم إلى يوم القيامة

فَمَنْ شٰاءَ التذكّر و الاتّعاظ بالقرآن ذَكَرَهُ و اتّعظ به أو حفظه و لا ينساه، فانّه مكتوب آياته

فِي صُحُفٍ و دفاتر منتسخة من اللوح المحفوظ مُكَرَّمَةٍ تلك الصّحف عند اللّه، لكونها صحف القرآن الكريم

مَرْفُوعَةٍ في السماوات، موضوعة في البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة، أو في بيت العزّة الذي يكون في السماء الدنيا، أو مرفوعة القدر و المنزلة مُطَهَّرَةٍ و منزّهة من مساس أيدي الشياطين، منتسخة في السماء، أو منزلة إلى الأرض

بِأَيْدِي ملائكة سَفَرَةٍ الذين يسافرون بالوحي بين اللّه و بين رسله، أو الكتبة كما عن بن عباس (1)

كِرٰامٍ اولئك الملائكة على ربّهم، أو متكرّمين من أن يكونوا مع ابن آدم عند الجماع و قضاء الحاجة بَرَرَةٍ و مطيعين للّه.

قيل: إنّ المراد من الصّحف صحف الأنبياء(2) ، و المراد من السّفرة الكرام أصحاب الرسول(3) ، أو القرّاء(4) ، و ليس بشيء.

قُتِلَ الْإِنْسٰانُ مٰا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمٰاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذٰا شٰاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاّٰ لَمّٰا يَقْضِ مٰا أَمَرَهُ (23) ثمّ لمّا كان الكفّار تكبّروا عن الايمان بهذا القرآن الذي يكون في نهاية العظمة، و استنكفوا عن تصديقه و قبوله، ذمّهم سبحانه، و أظهر الغضب عليهم بقوله:

قُتِلَ الْإِنْسٰانُ و هو دعاء عليه بما يكون عند العرب أشنع الدعوات مٰا أَكْفَرَهُ و أشد كفره بربّه مع كثرة إحسانه إليه و إنعامه عليه، أ ما يتفكّر في أنّه

مِنْ أَيِّ شَيْءٍ حقير مهين خَلَقَهُ اللّه و كوّنه. قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب(1).

ثمّ بيّن سبحانه ذلك الشيء القذر الذي كان مبدأ خلقه بقوله:

مِنْ نُطْفَةٍ قذرة خَلَقَهُ اللّه و أوجده فَقَدَّرَهُ و سوّاه إنسانا كامل الأعضاء و الجوارح و القوى. و قيل: يعني قدّر كلّ عضو منه كمية و كيفية بالقدر اللائق بمصلحته(2). و قيل: يعني قدّره أطوارا نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة إلى آخر خلقه، ذكرا أو انثى، سعيدا أو شقيا(3) ، فمن كان أصله و مبدأ خلقه ذلك الشيء الحقير المهين، كيف يرى لنفسه العظمة و يتكبّر و يتبختر؟

ص: 428


1- . تفسير الرازي 59:31.
2- . تفسير الرازي 60:31.
3- . تفسير الرازي 60:31، تفسير روح البيان 335:10.

ثُمَّ بعد إتمام خلقه في الرّحم اَلسَّبِيلَ إلى الخروج منه يَسَّرَهُ و سهّله بأن فتح له باب الرّحم و نكّسه و قلبه بأن صيّر رجله من فوق و رأسه من تحت، أو المراد أنّه تعالى بعد كبره سهّل له سبيل الخير و الشرّ في الدين و السعادة و الشقاوة، و مكّنه من السلوك فيهما

ثُمَّ إنّه تعالى بعد انقضاء أجله و مدّة حياته أَمٰاتَهُ بقدرته فَأَقْبَرَهُ و دفنه في الأرض تكرمة له و حفظا له من أن يبقى على الأرض فتأكله السّباع و الطيور

ثُمَّ إِذٰا شٰاءَ ربّه انشاره أَنْشَرَهُ و بعثه للحساب و جزاء الأعمال.

كَلاّٰ ليس للإنسان التكبّر و الترفّع و الكفر و الطغيان و إنكار البعث لَمّٰا يَقْضِ الانسان و لم يمتثل مٰا أَمَرَهُ اللّه به من الايمان و الطاعة، بل أخلّ به بالكفر و العصيان مع أنّ حقّ نعمائه أن يؤدّي جميع ما أمره به.

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ (24) أَنّٰا صَبَبْنَا الْمٰاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28) وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدٰائِقَ غُلْباً (30) وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا (31) ثمّ عدّ سبحانه إنعامه على الانسان بقوله:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ و مأكوله الذي يعيش به، كيف دبّرنا أمره ؟ و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: ما طعامه ؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه»(1).

أَنّٰا صَبَبْنَا و أنزلنا من السماء بالأمطار اَلْمٰاءَ أولا صَبًّا نافعا وافيا للنباتات

ثُمَّ بعد إنزال الماء شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا لائقا بما يخرج من الأرض ما ينبت منها صغرا و كبرا

فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا بقدرتنا و رحمتنا حَبًّا كثيرا نافعا من الحنطة و الشعير و أضرابهما ممّا يحصد

وَ عِنَباً و شجر كرم ثمره غذاء و فاكهة وَ قَضْباً و رطبا مقطوعا من النخل، كما عن ابن عباس(2).

أو الرّطبة التي يقال لها بالفارسية (اسپست) و إذا يبست سمّيت (بالفت) و هو علف الدوابّ و الأنعام، كما في رواية اخرى عن ابن عباس(3). و قيل: إنّه كلّ نبات يؤكل رطبا كالكرّاث(4). و قيل: إنّه مطلق العلف(5).

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً الذين هما أنفع الأشجار

وَ حَدٰائِقَ و بساتين غُلْباً و متكاثفة الأشجار، أو ملتفها، أو ذوات أشجار عظام، كما عن ابن عباس (6)

وَ فٰاكِهَةً و ثمارا يلتذّ بها وَ أَبًّا و حشيشا

ص: 429


1- . الكافي 8/39:1، تفسير الصافي 387:5.
2- . تفسير روح البيان 338:10.
3- . تفسير الرازي 62:31.
4- . تفسير روح البيان 338:10.
5- . تفسير الرازي 62:31.
6- . تفسير الرازي 63:31.

و مرعى.

روي أنّ أبا بكر سئل عن قول اللّه: وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا فلم يعرف معنى الأبّ و قال: أيّ سماء تظلّني، أم أرض تقلّني، أم كيف أصنع إن قلت في كتاب اللّه بما لا أعلم، أما الفاكهة فنعرفها و أما الأبّ فاللّه أعلم به فبلغ أمير المؤمنين عليه السّلام مقالته في ذلك، فقال: «سبحان اللّه! أ ما علم أنّ الأبّ هو الكلأ و المرعى»(1).

أقول: من العجائب أنّه كان في تمام زمان البعثة في حضور الرسول صلّى اللّه عليه و آله و كانت قراءة القرآن من العبادات الشائعة في ذلك الزمان، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يدرّس القرآن و معانيه و تفسيره، و هو بعد عمره كان جاهلا باللغة المستعملة في القرآن، و لم يسأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، فكيف بسائر العلوم و الأحكام ؟

مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ (32) فَإِذٰا جٰاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صٰاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ثمّ لمّا ذكر سبحانه ما يغتذي به الناس و الأنعام، وجّه الخطاب إلى الناس تكميلا لامتنانه عليهم بقوله:

مَتٰاعاً و التقدير خلقنا هذه الأغذية لتكون متاعا و منفعة لَكُمْ أيّها الناس وَ لِأَنْعٰامِكُمْ و مواشيكم، فلا ينبغي لكم في حكم العقل أن تكفروا هذه النّعم، و تتمرّدوا عن طاعة المنعم عليكم، و تتكبّروا على رسوله و سائر عبيده.

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال يوم القيامة و دار الجزاء إرعابا للقلوب و تذكيرا لمعادهم بعد بيان مبدأ خلقهم و معاشهم بقوله:

فَإِذٰا جٰاءَتِ الصَّاخَّةُ و نزلت بكم الداهية العظيمة، و هي الصيحة التي تخرج من الصّور بالنفخة الثانية التي يحيا بها الأموات في القبور فتتح، و تفتك شدّتها آذانهم، أو يفتحون و يستمعون لها، أعني من الصاخّة.

يَوْمَ يَفِرُّ فيه اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ مع كمال الأنس بينهما في الدنيا و تظاهرهما في الشدائد

وَ من أُمِّهِ التي لها عليه حقوق كثيرة وَ من أَبِيهِ الذي كان في غاية العطوفة به و الشفقة عليه

وَ من صٰاحِبَتِهِ و زوجته التي كانت أنيسته في الدنيا وَ من بَنِيهِ و أولاده الذين كانوا أحبّ الخلق إليه و أفلاذ كبده، و ذلك الفرار إنّما هو لأجل أن

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ و شغل عظيم و خطب هائل فظيع يُغْنِيهِ و يكفيه في الاهتمام به بحيث لا مجال له أن يلتفت إليهم، أو يغنيه و يصرفه عنهم، و هو اشتغاله بنجاة نفسه - التي هي أعزّ النفوس عنده من الأهوال و العذاب.

ص: 430


1- . إرشاد المفيد 200:1، تفسير الصافي 286:5.

و قيل: إن علّة الفرار تضييعه لحقوقهم و ارتكاب الظّلم عليهم(1).

عن الرضا عليه السّلام قال: «قام رجل يسأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن آية يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ و قال: من هم ؟ قال: قابيل يفرّ من هابيل، و الذي يفرّ من امّه موسى، و الذي يفرّ من أبيه إبراهيم»(2). أقول: لا بدّ من حمل الرواية على بيان المثال.

روى في (المجمع) عن سودة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يبعث الناس حفاة عراة غرلا(3) ، يلجمهم العرق، و يبلغ شحمة الاذن» قلت: يا رسول اللّه، وا سوءتاه ينظر بعضنا إلى بعض(4) ؟ قال: شغل الناس عن ذلك» و تلا هذه الآية(5).

و روى بعض العامة أنّ عائشة قالت: يا رسول اللّه، كيف يحشر الناس ؟ قال: «حفاة عراة» قالت:

و كيف تحشر النساء؟ قال: «حفاة عراة» قالت: وا سوءتاه النساء مع الرجال حفاة عراة ؟ فقرأ رسول اللّه هذه الآية: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إلى آخرها(6).

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضٰاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهٰا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهٰا قَتَرَةٌ (41) أُولٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) ثمّ ذكر سبحانه حسن حال المؤمنين بقوله:

وُجُوهٌ للمؤمنين يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الهائل مُسْفِرَةٌ و مشرقة كالشمس المضيئة

ضٰاحِكَةٌ و فرحة للعلم بالفوز بالسعادة الأبدية، و النجاة من آلام الدنيا و متاعبها، و الفراغ من الحساب بسرعة و يسر مُسْتَبْشِرَةٌ بالنعيم المقيم و الراحة الدائمة من قبل اللّه، أو الملائكة فانّهم يقولون لهم: أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (7).

وَ وُجُوهٌ أخر للأشقياء يَوْمَئِذٍ عَلَيْهٰا غَبَرَةٌ و كدورة من شدّة الخوف

تَرْهَقُهٰا و تغشاها قَتَرَةٌ و ظلمة و سواد كالدّخان من الخجلة و الوحشة

أُولٰئِكَ الموصوفون بسواد الوجه و الغبرة هُمُ الْكَفَرَةُ باللّه و رسله اَلْفَجَرَةُ في أعمالهم، و العصاة لخالقهم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة عَبَسَ وَ تَوَلّٰى و إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ كان تحت جناح اللّه من الجنان، و في ظلّ اللّه و كرامته في جنّاته، و لا يعظم ذلك على اللّه إن شاء اللّه تعالى»(8).

ص: 431


1- . تفسير الرازي 64:31، تفسير أبي السعود 113:9.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/245:1، تفسير الصافي 288:5.
3- . الغرل: جمع أغرل، و هو الذي لم يختتن.
4- . زاد في النسخة و تفسير الصافي: إذا جاء.
5- . مجمع البيان 668:10، تفسير الصافي 288:5.
6- . تفسير روح البيان 340:10.
7- . فصلت: 30/41.
8- . ثواب الأعمال: 121، مجمع البيان 661:10، تفسير الصافي 289:5.

ص: 432

في تفسير سورة التكوير

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبٰالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشٰارُ عُطِّلَتْ (4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحٰارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّمٰاءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا أَحْضَرَتْ (14) فَلاٰ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) اَلْجَوٰارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذٰا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ (18) [ثمّ لمّا ختمت سورة عبس المتضمنة بيان أهوال القيامة و عظمة القرآن و موعظته للخلق، نظمت بعدها سورة التكوير المتضمنة أيضا بيان بعض أهوال القيامة و تعظيم القرآن، و كون ذلك موعظة للعالمين إلى يوم القيامة، فافتتحها سبحانه بذكر أسمائه الحسنى بقوله:] (1)بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه بذكر بعض أهوال يوم القيامة بقوله:

إِذَا الشَّمْسُ التي هي كالسّراج لأهل الأرض كُوِّرَتْ و القيت من السماء، كما عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ الشمس و القمر نوران مكوّران في النار يوم القيامة»(2) أو انكشف و ازيل ضوؤها. عن القمّي: أنّها تصير سوداء مظلمة(3).

وَ إِذَا النُّجُومُ التي هي مصابيح الليل في الدنيا اِنْكَدَرَتْ و تناثرت. قيل: تمطر السماء يومئذ نجوما، فلا يبقى في السماء نجم إلا وقع على وجه الأرض (4)

وَ إِذَا الْجِبٰالُ التي هي أوتاد الأرض

ص: 433


1- . هذا النص سقط من النسخة، و أثبتناه بعد ترجمته من النص الفارسي.
2- . تفسير الرازي 66:31، تفسير روح البيان 343:10، و لم ينسبه إلى أحد.
3- . تفسير القمي 407:2، تفسير الصافي 290:5.
4- . تفسير روح البيان 344:10.

سُيِّرَتْ و رفعت في الأرض، و حرّكت بسرعة كالسّحاب في وجهها، أو في الجوّ بالزّلزلة الحاصلة بالنفخة الثانية

وَ إِذَا الْعِشٰارُ و النّوق الحوامل التي مضت من مدّة حملها عشرة أشهر، و هي أحبّ الأموال عند العرب عُطِّلَتْ و تركت مسيّبة مهملة لا داعي لها، لاشتغال أهلها بأنفسهم، و هي كناية عن غفلة الناس عن أموال الدنيا لرفع حاجتهم عنها، و غلبة الوحشة و الدهشة عليهم

وَ إِذَا الْوُحُوشُ و الحيوانات البرية الفارّة عن غير جنسها حُشِرَتْ و جمعت في موقف القيامة و اختلط بعضها ببعض و بالانسان بلا تعرّض للغير من شدّة أهوال اليوم.

و قيل: يعني بعثت للقصاص إظهارا للعدل(1) ، قيل: يحشر كلّ حيوان حتّى الذّباب للقصاص، فإذا قضي بينها ردّت ترابا، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور بني آدم و إعجاب المؤمن بصورته أو بصوته كالطّاوس و البلبل(2). و عن ابن عباس: حشرها موتها(3).

وَ إِذَا الْبِحٰارُ كلّها سُجِّرَتْ و انقلب ماؤها نارا، كما عن ابن عباس(4). و عن ابن عمر أنّه لمّا رأى بحرا قال: يا بحر متى تعود نارا(5). و قيل: يعني ملئت بتفجّر بعضها إلى بعض، فيصير الكلّ بحرا واحدا، أو حميت(6) ، أو نشفت فلا يبقى فيها رطوبة(7).

وَ إِذَا النُّفُوسُ و الأرواح زُوِّجَتْ بالأجساد، أو قرنت بمن كان مثلها في الخير و الشّر، فيضمّ الصالح بالصالح، و الفاجر بالفاجر، أو جعلت أزواجا ثلاثة: أصحاب الميمنة، و أصحاب المشأمة، و المقرّبين، أو قرنت بالملائكة الذين كانوا كتّابه أعمالهم، أو قرنت بأعمالهم، أو قرنت بشياطينهم.

و عن ابن عباس: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، و قرنت نفوس الكفّار بالشياطين(8). أو قرنت كلّ نفس بأهل دينها(9) ، اليهود باليهود، و النصارى بالنصارى، و المجوس بالمجوس(10).

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ و البنت المدفونة حيّة سُئِلَتْ من جانب اللّه أنّها

بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ تبكيتا لقاتلها، و تسلية لها، و إظهارا لشدّة الغضب على وائدها.

قيل: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها، ألبسها جبّة من صوف أو شعر، ترعى له الإبل أو الغنم في البادية، و إن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغ سنّها ستّ سنين، فيقول لامّها، طيبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أحبّائها، و قد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، و يقول لها: انظري فيها، ثمّ يدفعها فيها من خلفها، و يهيل عليها التّراب حتّى يستوي البئر بالأرض، خوفا من الفقر أو من الأسر،

ص: 434


1- . تفسير روح البيان 345:10.
2- . تفسير روح البيان 345:10.
3- . تفسير الرازي 68:31.
4- . تفسير روح البيان 345:10.
5- . تفسير روح البيان 345:10.
6- . تفسير أبي السعود 115:9، تفسير روح البيان 345:10.
7- . تفسير الرازي 68:31.
8- . تفسير الرازي 69:31.
9- . في النسخة: دينه.
10- . تفسير الرازي 69:31.

أو لحوق عاد من قبلها(1).

وَ إِذَا الصُّحُفُ و دفاتر الأعمال نُشِرَتْ و فتحت للحساب، فيقضى بإيمان أصحابها و أعمالهم، فيقفون على ما فيها.

و في الحديث: «يحشر الناس عراة حفاة» فقالت امّ سلمة: فكيف بالنساء؟ فقال: «شغل الناس يا امّ سلمة» قالت: ما شغلهم ؟ قال: «نشر الصّحف، فيها مثاقيل الذّر و مثاقيل الخردل»(2).

و قيل: يعني فرّقت بين أصحابها(3). و قيل: إذا كان يوم القيامة تطايرت الكتب من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في الجنّة العالية، و صحيفة الكافر في يده في سموم و حميم(4). قيل: يعني مكتوب فيها، و هي صحف غير صحف الأعمال(2).

وَ إِذَا السَّمٰاءُ كُشِطَتْ و كشفت عمّا فوقها، و ظهر ما وراءها من العرش و الجنّة. و قيل: يعني نزعت، أو طويت (3)

وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ و اوقدت للكافرين إيقادا شديدا غضبا عليهم

وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ و قربت من المتّقين ليدخلوها، و المقصود تقرّبت منها، و عند ذلك

عَلِمَتْ نَفْسٌ حضرت ما تدري أيّ نفس و ما حالها مٰا أَحْضَرَتْ و جلبت فيه من الأعمال خيرا أو شرا، يرونها في صحائفها، أو يرون مجازاتها، أو يرون نفسها لتجسّمها.

عن ابن عباس: أنّه قرأ السورة فلمّا بلغ إلى قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا أَحْضَرَتْ قال: لهذه اجريت القصّة(4).

فَلاٰ ليس الأمر كما تزعمون أيّها الكفرة أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ و الكواكب الرواجع، و هي الخمسة المتحيّرة التي ترجع من آخر البرج إلى أوله. عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هي خمسة أنجم: زحل، و المشتري، و المرّيخ، و الزّهرة، و عطارد»(5).

و

اَلْجَوٰارِ و السيارات اَلْكُنَّسِ و المختفيات تحت ضوء الشمس بعد رجوعها إلى أول البرج، كما يكنس و يدخل الوحش في كناسته و بيته الذي اتّخذه لاختفائه.

و قيل: إنّ المراد جميع الكواكب، و خنوسها غيبوبتها عن الأنظار في النهار، و كنوسها ظهورها بالليل في أماكنها، كالوحش في كنسها، و هو أيضا مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام(6) و قيل: الكنّس: المتواريات

ص: 435


1- . تفسير روح البيان 346:10. (2-3-4) . تفسير أبي السعود 116:9، تفسير روح البيان 347:10.
2- . تفسير أبي السعود 116:9، تفسير روح البيان 347:10.
3- . تفسير الرازي 70:31.
4- . تفسير روح البيان 348:10.
5- . مجمع البيان 677:10، تفسير الصافي 291:5.
6- . تفسير الرازي 71:31.

تحت ضوء الشمس(1). و عن القمي قال: النّجوم تكنس بالنهار فلا تبين(2).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «إمام يخنس سنة ستّين و مائتين، ثمّ يظهر كالشّهاب يتوقّد في الليلة الظلماء، و إن أدركت زمانه قرّت عينك»(3).

أقول: هذا تأويل، و الأول تنزيل.

وَ اللَّيْلِ إِذٰا عَسْعَسَ و أقبل ظلامه، أو أدبر

وَ الصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ و أقبل بطلوعه روح و نسيم أو تكامل ضوؤه و امتدّ.

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه، و هو كون القرآن كلام اللّه بقوله:

إِنَّهُ لَقَوْلُ اللّه العظيم النازل بتوسّط رَسُولٍ كَرِيمٍ على اللّه رسالة منه و قيل: إنّ المراد أنّ هذا الذي اخبركم من أمر الساعة القول جبرئيل بالرسالة من اللّه(4). و قيل: إنّ من كرم جبرئيل أنّه يعطى أفضل العطايا، و هو الوحي و المعرفة و الهداية، و يعطف على المؤمنين و يقهر أعداءهم(5).

ذِي قُوَّةٍ شديدة و قدرة على امتثال أوامر اللّه تعالى. روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل: «ذكر اللّه قوّتك، فأخبرني بشيء من آثارها. قال: رفعت قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود بقوادم جناحي حتّى سمع أهل السماء نباح الكلب و أصوات الدّيكة ثمّ قلبتها»(6).

و قيل: إنّ المراد القوّة في طاعة اللّه، و ترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر الدنيا(7).

عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ العظيم و السلطان القاهر الغالب مَكِينٍ و رفيع المنزلة و عظيم الشأن

مُطٰاعٍ ثَمَّ و في السماء بين الملائكة لا يتخلّف أحد منهم عن أمره أَمِينٍ على وحي اللّه و رسالاته، قد عصمه اللّه من الخيانة و الزّلل.

عن (المجمع): في الحديث: «أنّ رسول اللّه قال لجبرئيل: ما أحسن ما أثنى عليك ربّك ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ فما كانت قوّتك و ما كانت أمانتك ؟ فقال: أمّا قوّتي فانّي بعثت إلى مدائن لوط، و هي أربع مدائن، في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم

ص: 436


1- . تفسير الصافي 292:5.
2- . تفسير القمي 408:2، تفسير الصافي 292:5.
3- . الكافي 22/276:1، تفسير الصافي 292:5.
4- . تفسير الرازي 73:31.
5- . تفسير روح البيان 351:10. (6و7) . تفسير روح البيان 351:10.

من الأرض السّفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج و نباح الكلاب(1) ، ثمّ هويت بهنّ و قلبتهنّ، و أما أمانتي فانّي لم اؤمر بشيء فعدوته إلى غيره»(2).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجبرئيل لمّا نزلت: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (3): «أصابك من هذه الرحمة شيء؟» قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (4).

عن الصادق عليه السّلام - في قوله ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ - قال: «يعني جبرئيل». قوله:

مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ؟ قال: «يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو المطاع عند ربّه، الأمين يوم القيامة»(5).

أقول: لا شبهة أن الوصفين منطبقان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لكن الظاهر أنّهما و صفان لجبرئيل.

وَ مٰا صٰاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (27) لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ (29) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات كون القرآن كلام اللّه، ردّ قول مكذّبي الرسول و نسبتهم إياه إلى الجنون بقوله:

وَ مٰا صٰاحِبُكُمْ محمد صلّى اللّه عليه و آله المدّعي للرسالة فيكم، يا أهل مكّة بِمَجْنُونٍ كما تزعمون بل هو أعقل أهل العالم، و مخبركم عن اللّه جميع ما يقول لكم بتوسّط جبرئيل.

وَ باللّه لَقَدْ رَآهُ و عاين شخصه بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ و عند مطلع الشمس الأعلى، و الأظهر في السماء، و ليس محمد

وَ مٰا هُوَ عَلَى ما أخبركم من اَلْغَيْبِ كقصص الأنبياء السابقة و الامم السالفة بِضَنِينٍ و متّهم بالكهانة و التعلّم من العلماء و الكذب في الاختلاق.

و قيل: يعني ببخيل بأداء الوحي، فيخبر ببعضه و يمسك عن بعض حتى يأخذ شيئا من الناس، كما هو دأب الكاهن(6).

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: إنّ الشيطان يجيء بهذا القرآن و يلقيه على لسان محمد؛ ردّهم اللّه بقوله:

وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ مسترق للسمع رَجِيمٍ و مطرود بالشّهب

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيّها

ص: 437


1- . في النسخة: الكلب.
2- . مجمع البيان 677:10، تفسير الصافي 292:5.
3- . الأنبياء: 107/21.
4- . مجمع البيان 107:7، تفسير الصافي 293:5.
5- . تفسير القمي 408:2، تفسير الصافي 293:5.
6- . تفسير روح البيان 353:10.

المشركون ؟ و إلى أي درجة تضلّون عن طريق الحقّ في شأن القرآن و محمد؟ و إلى أيّ حدّ تبعدون عن منهج الصواب حتّى تتولوا ما تقولون ؟

إِنْ هذا القرآن، و ما هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ و عظة لِلْعٰالَمِينَ من الجنّ و الإنس أجمعين، و إنّما نفعه

لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ يا أهل العالم أَنْ يَسْتَقِيمَ بتحرّي الحقّ و الملازمة للصواب.

روي أنّ أبا جهل لمّا سمع الآية قال: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، و إن شئنا لم نستقم(1). فردّه اللّه تعالى بقوله:

وَ مٰا تَشٰاؤُنَ الاستقامة إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ الذي هو رَبُّ الْعٰالَمِينَ و خالقهم و مدبّر امورهم بالرزق و غيره ممّا يصلحهم و ما يليق بهم.

عن الصادق عليه السّلام - في قوله: وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ - قال: «و ما هو تبارك و تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه و آله بغيبه بضنين عليه» وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ قال: «يعني الكهنة الذين كانوا في قريش، فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم يتكلّمون على ألسنتهم فقال: وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ مثل اولئك فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [في] عليّ عليه السّلام، يعني ولايته أين تفرّون منها؟ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ. قال: لمن أخذ اللّه ميثاقه على ولايته لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال: في طاعة عليّ و الأئمة عليهم السّلام من بعده وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ قال: لأنّ المشيئة إليه تبارك و تعالى لا إلى الناس»(2).

و عن الكاظم عليه السّلام: «إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة موردا لإرادته، فاذا شاء اللّه شاءوا، و هو قوله: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ» (3).

في الحديث: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين، فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ و إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ فإنّ فيها بيان أهواله الهائلة على التفصيل»(4).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسيرها، و الشكر له.

ص: 438


1- . تفسير روح البيان 354:10.
2- . تفسير القمي 408:2، تفسير الصافي 292:5.
3- . تفسير القمي 409:2، تفسير الصافي 294:5.
4- . تفسير روح البيان 355:10.

في تفسير سورة الانفطار

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَوٰاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحٰارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّٰاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مٰا شٰاءَ رَكَّبَكَ (8) ثمّ لمّا ختمت سورة التكوير اردفت بسورة الانفطار الرادفة لها في المطالب و بيان أهوال القيامة، فافتتحها سبحانه على دأبه بذكر أسمائه الحسنى المباركة بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر بعض أهوال القيامة بقوله:

إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ و انشقّت أبوابا لنزول الملائكة، أو لرفعها(1) و طيّها

وَ إِذَا الْكَوٰاكِبُ كلّها اِنْتَثَرَتْ و تساقطت و تفرّقت لانتقاض تركيب السماء و طيّها

وَ إِذَا الْبِحٰارُ فُجِّرَتْ و ارتفعت الحواجز من بينها بحيث يصير الكلّ بحرا واحدا، أو ذهب ماؤها فيبست

وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ و قلب أسفلها أعلاها و باطنها ظاهرها، لخروج الموتى منها، فبعد وقوع تلك الأشراط العلوية و السفلية للساعة قامت القيامة و حينئذ

عَلِمَتْ نَفْسٌ أي نفس كانت مٰا قَدَّمَتْ ليومها(2) ذلك من الأعمال التي عملها حال حياته وَ أَخَّرَتْ و تركت(3) من سنة حسنة أو سيئة يستنّ بها بعد موته، ثمّ يقال:

يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ العاقل بعد ما أخبرك الأنبياء بأنّ اللّه يعذّبك على الكفر و العصيان في دار الجزاء أشدّ العذاب مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ و أيّ شيء جرّأك على عصيانه و آمنك من عقابه إلى حدّ لا يجوز، مع غاية كرمه العفو عنك و التجاوز عن الانتقام منك ؟ قيل: إنّ توصيف ذاته المقدّسة بالكرم حسبما كان الشيطان يغويه بقوله: افعل ما شئت فانّ ربّك كريم، مع أنّ كرمه لا يوجب الاغترار به(4).

ص: 439


1- . في النسخة: لرفعهن.
2- . في النسخة: ليومه.
3- . زاد في النسخة: أو اين.
4- . تفسير روح البيان 357:10.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه لمّا قرأها قال: «غرّه جهله»(1).

و قيل: إنّ ذكره الوصف لتلقين العاصي أن يقول: غرّني كرمك(2).

قيل: إنّ الكرم يلازم الحكمة(3) لأنّ العفو العطاء إذا كانا بداعي الحكمة، كانا كرما، فكونه كريما يدلّ على كونه حكيما، كان عليه أن يعيد الخلق للمجازاة و يحشرهم للحساب، بل يدلّ وصفه بالكرم على وجوب البعث من جهتين: من جهت إيصال النعمة، و من جهة الحكمة.

عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة(4). و قيل نزلت في الأسود بن كلدة الجمحي، قصد النبي صلّى اللّه عليه و آله في بطحاء مكة، فلم يتمكّن منه، فلم يعاقبه اللّه على ذلك(5).

ثمّ وصف سبحانه ذاته بشئون الكرم بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَكَ و أعطاك نعمة الوجود فَسَوّٰاكَ و جعل أعضاءك سوية سليمة من العيوب معدّة لمنافعها فَعَدَلَكَ و جعل أعضاءك متناسبة متساوية. و قيل: يعني فصرفك عن الخلقة المكروهة و أعطاك أحسن الهيئة(6). و عن ابن عباس:

جعلك قائما معتدلا حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية (7)

فِي أَيِّ صُورَةٍ من الصور مٰا شٰاءَ أن يركّبك فيها رَكَّبَكَ قيل: إنّ حرف مٰا زائدة(8) ، و المعنى: في أيّ صورة شاء و اقتضت الحكمة ركّبك. و قيل: في أيّ صورة من صور الأب و الامّ و أقاربهما(9). و قيل: إنّ المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول و القصر و الحسن و القبح و الذكورة و الانوثة، فانّ اختلاف النّطفة المتشابهة و الأجزاء المتّحدة بالطبيعة في الآثار دليل على خالق قادر مختار(10).

كَلاّٰ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ (10) كِرٰاماً كٰاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مٰا تَفْعَلُونَ (12) ثمّ لمّا أثبت البعث ردع الناس عن الاغترار بقوله:

كَلاّٰ ليس لكم أن تغترّوا بَلْ لم تغترّوا بكرمه، و إنّما أنتم تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ و دار الجزاء، أو بالاسلام المتضمّن للتكاليف و بيان المجازات عليها

وَ الحال إِنَّ عَلَيْكُمْ أيّها الناس من قبلنا لَحٰافِظِينَ و ضابطين لأعمالكم من الملائكة حال كونهم

كِرٰاماً على اللّه، أو على العباد، حيث يسارعون إلى كتب الحسنات، و يتوقّفون في

ص: 440


1- . مجمع البيان 682:10، تفسير الصافي 295:5.
2- . تفسير الرازي 80:31.
3- . تفسير الرازي 78:31 و 79.
4- . تفسير الرازي 79:31.
5- . تفسير روح البيان 357:10.
6- . تفسير روح البيان 359:10.
7- . تفسير الرازي 80:31.
8- . تفسير الصافي 296:5.
9- . تفسير الرازي 81:31.
10- . تفسير الرازي 81:31.

كتب السيئات رجاء أن يتوبوا، أو يتداركوها بالحسنات، أو يصعدون بأعمالهم إلى اللّه، فان كانت حسنة شهدوا بها، و إن كانت سيئة سكتوا، و قالوا: ربّنا أنت الستّار كٰاتِبِينَ للأعمال

يَعْلَمُونَ لحضورهم عندكم في جميع الأوقات و الأحوال مٰا تَفْعَلُونَ من الأفعال قليلها و كثيرها خفيّها و جليها.

في الحديث: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلاّ عند إحدى الحالتين: الجنابة و الغائط»(1).

و عن القمي [كَلاّٰ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قال]: بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله(2) و أمير المؤمنين عليه السّلام: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ قال: الملكان الموكلان بالانسان (3)كِرٰاماً كٰاتِبِينَ يبادرون بكتابة الحسنات لكم، و يتوانون بكتابة السيئات عليكم، لعلّكم تتوبون و تستغفرون(4).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيب الريح، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال: قف فانّه قد همّ بالحسنة، فاذا هو عملها كان لسانه قلمه و ريقه مداده فأثبتها له، فاذا همّ بالسيئة خرج نفسه نتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فانّه قد همّ بالسيئة، فاذا هو فعلها كان ريقه مداده و لسانه قلمه فأثبتها عليه»(5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما علّة الموكلين بعباده يكتبون ما عليهم و لهم، و اللّه عالم السرّ و ما هو أخفى ؟ قال: «استعبدهم بذلك، و جعلهم شهودا على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّهم على طاعة اللّه مواظبة، و من معصيته أشدّ انقباضا، و كم من عبد يهمّ بمعصيته فذكر مكانهم فارعوى و كفّ، فيقول: ربّي يراني، و حفظتي علي بذلك تشهد»(6).

إِنَّ الْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجّٰارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهٰا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ مٰا هُمْ عَنْهٰا بِغٰائِبِينَ (16) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لاٰ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ (19) ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في ذلك اليوم و سوء حال الكفّار و العصاة بقوله:

إِنَّ الْأَبْرٰارَ و الصّلحاء من المؤمنين و مطيعيهم لربّهم لَفِي نَعِيمٍ عظيم دائم لا انقطاع له

وَ إِنَّ الْفُجّٰارَ و العتاة و العصاة لَفِي جَحِيمٍ و نار سجّرها القهّار بغضبه

يَصْلَوْنَهٰا و يقاسون حرّها

ص: 441


1- . تفسير روح البيان 360:10.
2- . في النسخة: القمي عن النبي.
3- . تفسير القمي 409:2.
4- . تفسير الصافي 296:5.
5- . الكافي 3/313:2، تفسير الصافي 296:5.
6- . الاحتجاج: 348، تفسير الصافي 296:5.

و يباشرونها بجميع أعضائهم يَوْمَ الدِّينِ و وقت الجزاء على الأعمال

وَ مٰا هُمْ عَنْهٰا في آن من زمان حياتهم الأبدية بِغٰائِبِينَ و مخرجين.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه يوم الدين عظّم شأنه تهويلا للناس بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك مٰا يَوْمُ الدِّينِ و أيّ حدّ له في الشدّة و الفظاعة ؟

ثمّ كرّر سبحانه الجملة مبالغة في التهويل معطوفة بثمّ للدلالة على الترقّي في التأكيد بقوله:

ثُمَّ مٰا أَدْرٰاكَ أيّها الانسان الدراك مٰا يَوْمُ الدِّينِ و أيّ شيء صفته ؟ فانّ إدراكه خارج عن طوق البشر في هذا العالم.

ثمّ بيّن سبحانه فظاعة ذلك اليوم بطريق الإجمال بقوله:

يَوْمَ لاٰ تَمْلِكُ نَفْسٌ من النفوس لِنَفْسٍ اخرى شَيْئاً من النفع و الضرر، و لا قدرة لأحد في حقّ غيره قريبا كان أو صديقا أو غيرهما على أمر من الامور وَ الْأَمْرُ و السلطنة المطلقة الكاملة يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الهائل لِلّٰهِ وحده لا يزاحمه و لا يشاركه أحد فيما أراد.

في الحديث: «من قرأ إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ أعطاه اللّه من الأجر بعدد كلّ قبر حسنة، و بعدد كلّ قطر ماء حسنة، و أصلح اللّه شأنه يوم القيامة»(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ هاتين السورتين، و جعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة و النافلة إِذَا السَّمٰاءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ لم يحجبه اللّه من حاجة، و لم يحجزه من اللّه حاجز، و لم يزل ينظر إلى اللّه إليه حتى يفرغ من حساب الناس»(2).

ص: 442


1- . تفسير روح البيان 363:10.
2- . ثواب الأعمال: 121، مجمع البيان 679:10، تفسير الصافي 297:5.

في تفسير سورة المطففين

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) اَلَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَى النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لاٰ يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النّٰاسُ لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ (6) ثمّ لمّا ختمت سورة الانفطار المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة و ظهور السلطنة المطلقة الإلهية، و أن لكلّ نفس ملائكة يكتبون أعمالها، و أن الأبرار في نعيم، و أن الفجّار في جحيم، نظمت سورة التطفيف المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة، و قيام الناس فيه لربّ العالمين، و أنّ كتاب الأبرار في علّيين، و كتاب الفجّار في سجّين، أنّ الأبرار في نعيم: فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه العصاة في آخر السورة السابقة، و كان التطفيف من أعظم المعاصي ابتدأ هذه السورة بتهديد المطفّفين بقوله:

وَيْلٌ و شرّ شديد، أو هلاك فظيع، أو عذاب أليم - و عن الباقر عليه السّلام في حديث «بلغنا - و اللّه أعلم - أنّها بئر في جهنّم»(1) - لِلْمُطَفِّفِينَ و الباخسين حقوق الناس خفية بالمكيال و الميزان. عن الباقر عليه السّلام: «أنزل في الكيل و الوزن وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ و لم يجعل الويل لأحد حتى يسمّيه كافرا، قال اللّه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا * إلى آخره»(2).

و هم:

اَلَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا و أخذوا بالكيل مالهم عَلَى النّٰاسِ أو إضرارا عليهم يَسْتَوْفُونَ و يأخذونه كاملا وافيا، أو وافرا و زائدا على حقّهم بالحيل و السرقة من أفواه المكاييل أو ألسنة الموازين:

وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ و أعطوا حقّهم بالكيل أَوْ وَزَنُوهُمْ و أعطو حقّهم بالوزن يُخْسِرُونَ و ينقصونه، مع أنّ الكيل و الوزن جعلا لتسوية الحقوق و تعديلها.

عن ابن عباس: لمّا قدم النبي صلّى اللّه عليه و آله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل اللّه هذه الآية،

ص: 443


1- . تفسير القمي 410:2، تفسير الصافي 298:5.
2- . الكافي 1/27:2، تفسير الصافي 298:5.

فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

و قيل: كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون، و كانت بيوعهم المنابذة و الملامسة و المخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقرأها عليهم، و قال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول اللّه، و ما خمس بخمس ؟ قال: ما نقض قوم العهد إلاّ سلّط اللّه عليهم عدوّهم، و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلاّ فشا فيهم الفقر، و ما ظهر فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت، و لا طفّفوا الكيل إلاّ منعوا النبات و اخذوا بالسّنين، و لا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر»(1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «نزلت على نبيّ اللّه حين قدم المدينة، و هم يومئذ أسوأ الناس كيلا، فأحسنوا بعد عمل الكيل»(2).

ثمّ وبّخ سبحانه المطفّفين بقوله::

أَ لاٰ يَظُنُّ أُولٰئِكَ المطفّفون و لا يحسبون أَنَّهُمْ من هذا العمل القبيح الشنيع مَبْعُوثُونَ من قبورهم:

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظمته لعظم أهواله و شدائده، لوضوح أنّ الظنّ بإتيان هذا اليوم كاف في التحرّز من القبائح التي يظنّ الابتلاء بتبعاتها.

و قيل: إنّ المراد من الظنّ العلم(3) ، لكون النظر في الآية إلى أهل المدينة، و هم كانوا مصدّقين بالبعث في زمان نزولها. عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أ ليس يوقنون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أعني :

يَوْمَ القيامة الذي يَقُومُ فيه اَلنّٰاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ و للمحاسبة عنده، و حينئذ تظهر لهم عظمة شناعة العمل القبيح و عقابه، و إن كانوا يرونه في الدنيا حقيرا، أو يحتمل أنّ المراد من القيام الحضور عنده تعالى.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر»(5).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف اذنيه»(6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في القراب، ليس له من الأرض إلاّ موضع قدمه»(5).

أقول: في الآية غاية التهديد حيث أثبت الويل للمطففين، ثمّ وبّخهم ثانيا بأشدّ التوبيخ، ثمّ وصف يومهم بالعظمة و ما عظّمه اللّه تعالى كان في غاية العظمة، ثمّ ذكّرهم القيامة مع غاية الخشوع و الذلّة لربّ العالمين الذي هو في غاية العظمة و الهيبة و القدرة، و فيه دلالة على كمال حكمته و عدالته

ص: 444


1- . تفسير الرازي 88:31.
2- . تفسير القمي 410:2، تفسير الصافي 298:5.
3- . تفسير الرازي 89:31.
4- . الاحتجاج: 250، تفسير الصافي 298:5. (5و6) . تفسير الرازي 90:31، تفسير روح البيان 365:10.
5- . الكافي 110/143:8، تفسير الصافي 299:5.

المقتضية لأن لا يرضى بأقلّ قليل من الظّلم، فكيف بالكثير.

قيل: إنّ أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال اللّه في المطفّفين - أراد أنّه تعالى بالغ في تهديد المطفّف في أخذ القليل بالكيل و الوزن - فكيف حالك و أنت تأخذ الكثير من أموال المسلمين بلا كيل و لا وزن(1).

كَلاّٰ إِنَّ كِتٰابَ الفُجّٰارِ لَفِي سِجِّينٍ (2) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا سِجِّينٌ (3) كِتٰابٌ مَرْقُومٌ (4) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ مٰا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاّٰ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا قٰالَ أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المطفّفين و الردع عنه بقوله::

كَلاّٰ ليس أمر التطفيف بهذه الحقارة التي تظنّونها. و قيل: إنّ كَلاّٰ هنا بمعنى حقّا (5)إِنَّ كِتٰابَ أعمال اَلفُجّٰارِ الذين منهم المطفّفون لَفِي سِجِّينٍ و الأرض السابعة السّفلى، كما عن الباقر عليه السّلام و ابن عباس(6) ، لغاية بشاعته و حقارته، أو في أسفل منها في مكان مظلم هو مسكن إبليس و ذريّته، كما عن بعض المفسّرين(7). أو في صخرة تحت الأرض السّفلى، كما عن بعض آخر(8).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «سجّين جبّ في جهنّم»(9).

أقول: الظاهر أنّه علم مأخوذ من السجن.

عن الباقر عليه السّلام - في رواية - «و أمّا الكافر فيصعد بعمله و روحه حتّى إذا بلغ في السماء نادى مناد:

اهبطوا به إلى سجّين، و هو واد بحضر موت يقال له: برهوت»(7).

أقول: يحتمل أن يكون لسجّين معنيان.

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: إِنَّ كِتٰابَ الفُجّٰارِ لَفِي سِجِّينٍ قال: «هم الذين فجروا في حقّ الأئمة و اعتدوا عليهم»(8).

أقول: الظاهر أنّهم أظهر مصاديق الفجّار، كما أنّ قول الصادق عليه السّلام قال: «هو فلان و فلان» كذلك(9).

ثمّ عظّم سبحانه السجّين إرعابا للقلوب بقوله::

وَ مٰا أَدْرٰاكَ أيّها الإنسان مٰا سِجِّينٌ ثمّ قيل: إنّ

ص: 445


1- . تفسير روح البيان 366:10.
2- . مجمع البيان 646:4، تفسير الصافي 299:5.
3- . الكافي 91/361:1، تفسير الصافي 299:5.
4- . تفسير القمي 411:2، تفسير الصافي 299:5.
5- . تفسير الرازي 92:31، تفسير روح البيان 366:10.
6- . تفسير القمي 410:2، تفسير الصافي 299:5، و لم ترد فيهما كلمة: السفلى، تفسير الرازي 92:31.
7- . تفسير الرازي 92:31، تفسير أبي السعود 126:9.
8- . تفسير الرازي 92:31.
9- . مجمع البيان 688:10، تفسير الرازي 92:31.

اللّه تعالى ذمّ كتاب الفجّار(1) بقوله::

كِتٰابٌ مَرْقُومٌ و مكتوب فيه أعمال الكفّار و الفجّار و الفسقة من الجنّ و الإنس، تشهده الشياطين. و قيل: مرقوم بمعنى مختوم(2). و قيل: يعني كتاب معلّم (بعلامة) دالة على شقاوة صاحبه و كونه من أصحاب النار(3):

وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ و في وقت قيام الناس لربّهم، أو وقت تطاير الكتب لِلْمُكَذِّبِينَ أعني:

اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ و أعرضوا عن الآيات البينات الناطقة به.

:

وَ مٰا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاّٰ كُلُّ مُعْتَدٍ و متجاوز عن حدود العقل، و مقتصر على التقليد غال فيه أَثِيمٍ و مصرّ على عصيان اللّه، منهمك في الشهوات الفانية، غافل عمّا وراءها من اللذات الباقية، من خبث ذاته و إصراره على الكفر:

إِذٰا تُتْلىٰ و تقرأ عَلَيْهِ لإنذاره و هدايته آيٰاتُنٰا المنزلة في القرآن الدالة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله في دعوى رسالته و صحّة البعث. قٰالَ عنادا و لجاجا: إنّها أَسٰاطِيرُ الْأَوَّلِينَ و هي من أكاذيب الأنبياء السابقين، أو الأخبار المسطورة في دفاتر الامم السالفين، و تعلّمها محمد و نسبها إلى اللّه.

قيل: إنّ القائل الوليد بن المغيرة(4). و قيل: النضر بن الحارث(5).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويله: «هو الأول و الثاني، كانا يكذّبان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(4).

كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (14) ثمّ ردعهم اللّه سبحانه عن التكذيب بقوله::

كَلاّٰ ليس الأمر كما يقولون بَلْ رٰانَ و غلب عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أو غطّى عليها أو طبع عليها مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ و يرتكبون من الكفر و الفجور و العصيان حتّى صار كالصدإ على مرآة.

عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: (أنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه»(5).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما من عبد إلاّ و في قلبه نكتة بيضاء، فاذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء، فان تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، [فإذا غطّي البياض] لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا، و هو قوله تعالى: بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا

ص: 446


1- . تفسير روح البيان 366:10.
2- . تفسير الرازي 93:31.
3- . تفسير روح البيان 366:10. (4و5) . تفسير الرازي 94:31.
4- . تفسير القمي 411:2، تفسير الصافي 300:5.
5- . تفسير الرازي 94:31، تفسير أبي السعود 127:9، تفسير روح البيان 367:10.

يَكْسِبُونَ» (1) .

أقول: لعلّ المراد بالبياض لين القلب و نورانيته، و بالسواد قسوته و ظلمته، و بعده عن التأثّر بالمواعظ الإلهية و الآيات القرآنية، و جرأته على اللّه إلى أن ينتهى أمره إلى الكفر، كما قال تعالى: ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (2).

كَلاّٰ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصٰالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقٰالُ هٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) ثمّ ردعهم سبحانه عن توهّم أنه ليس عليهم تبعة في تكذيبهم بقوله::

كَلاّٰ ليس الأمر كما يتوهّمون من أنهم لا يؤاخذون بما يقولون، بل إِنَّهُمْ عَنْ ثواب رَبِّهِمْ و كرامته، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (3)يَوْمَئِذٍ و في وقت قيامهم من القبور، أو في محضر العدل و الحساب لَمَحْجُوبُونَ و محرومون، فلا تشملهم الرحمة الواسعة الإلهية أبدا لعدم قابليتهم لنيلها.

:

ثُمَّ إِنَّهُمْ مع حرمانهم من الرحمة و الكرامة لَصٰالُوا الْجَحِيمِ و ملقون فيها بعنف و قهر، و مباشرون حرّها من غير حاجز و حائل أصلا:

ثُمَّ يضاف على عذابهم الجسماني العذاب الروحاني إذ يُقٰالُ لهم توبيخا و تقريعا و القائل الزبانية و الملائكة الغلاظ الشداد حين إشرافهم على النار، أو بعد إلقائهم فيها: أيّها الكفرة المنكرون للبعث و الحساب و جزاء الأعمال هٰذَا العذاب اَلَّذِي ترونه بأعينكم و ابتليتم به اليوم، هو العذاب الذي أخبركم به الأنبياء و المؤمنون في الدنيا و كُنْتُمْ بِهِ عنادا و لجاجا تُكَذِّبُونَ و تستهزئون.

كَلاّٰ إِنَّ كِتٰابَ الْأَبْرٰارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا عِلِّيُّونَ (19) كِتٰابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) ثمّ ردعهم اللّه سبحانه عن توهّم أنّهم في الآخرة مساوون للمؤمنين، بل هم أحسن حالا منهم بقوله::

كَلاّٰ ليس الأمر كما تتوهّمون من أنّكم في الآخرة على تقدير تحقّقها و وقوعها كالمؤمنين في حسن الحال، و أنّهم مثلكم فيها، بل إِنَّ كِتٰابَ أعمال المؤمنين اَلْأَبْرٰارِ و الصلحاء الأخيار لَفِي عِلِّيِّينَ و أعالي الأمكنة، أو أعالى الجنّة.

ص: 447


1- . الكافي 20/209:2، مجمع البيان 689:10، تفسير الصافي 300:5.
2- . الروم: 10/30.
3- . مجمع البيان 689:10، تفسير الصافي 300:5.

عن ابن عباس: أنّ علّيين السماء الرابعة(1). و في رواية اخرى عنه: أنّه السماء السابعة(2). و قيل: هي سدرة المنتهى(3). و قيل: هي قائمة العرش اليمنى(4). و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة و الاكرام قد عظّمها اللّه و أعلى شأنها(5). و قيل: هي عند ديوان أعمال الملائكة(6) ، إن كان لهم أيضا ديوان كما للانسان.

و على أي تقدير قد عظّمه اللّه تعالى بقوله::

وَ مٰا أَدْرٰاكَ أيّها العاقل الدراك مٰا عِلِّيُّونَ و أي مكان هو في عظمة الشأن و رفعة المنزلة عند اللّه و عند أوليائه ؟ فانّ إدراككم و عقلكم قاصر عن دركه.

و الإحاطة به في الدنيا.

ثمّ مدح سبحانه كتاب الأبرار بقوله::

كِتٰابٌ و ديوان مَرْقُومٌ و مكتوب فيه أعمالهم الخيرية، يعرفها كلّ من نظر فيه، أو معلّم بعلامة دالة على أنّ أصحابه من السعداء، أو مختوم:

يَشْهَدُهُ الملائكة اَلْمُقَرَّبُونَ عند اللّه. قيل: كما وكّلهم اللّه باللّوح المحفوظ كذلك وكّلهم بحفظ كتاب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو امّ الكتاب إعظاما له(1).

و الحاصل على ما قيل: إنّ الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار يسلّمونها إلى هؤلاء المقرّبين، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم، أو ينقلون ما في تلك الكتب إلى ذلك الكتاب الذي وكّلوا بحفظه، فيصير علمهم شهادة(8).

و قيل: إنّ المراد كتاب موضوع في علّيين، كتب فيه ما أعدّ اللّه لهم من الكرامة و الثواب(9).

عن ابن عباس: إنّه مكتوب في لوح من زبرجد معلّق تحت العرش(10).

قيل: يشهد ذلك الكتاب إذا سعد به إلى عليّين المقرّبون من الملائكة كرامة للمؤمن(11).

روي أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلّونه، فاذا انتهوا إلى ما شاء اللّه من سلطانه أوحى إليهم:

أنّكم الحفظة على عبدي، و أنا الرقيب على ما في قلبه، و إنّه أخلص عمله، فاجعلوه في علّيين، فقد غفرت له. و إنّها تصعد بعمل العبد فيزكّونه، فاذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي؛ و أنا الرقيب على قلبه، إنّه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجّين(2).

عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه خلقنا من أعلى علّيين، و خلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه، و خلق أبدانهم من دون ذلك، و قلوبهم تهوي إلينا، لأنّها خلقت ممّا خلقنا منه» ثمّ تلا هذه الآية كَلاّٰ إِنَّ

ص: 448


1- . تفسير الرازي 97:31. (8-9-10-11) . تفسير الرازي 97:31.
2- . تفسير روح البيان 370:10.

كِتٰابَ الْأَبْرٰارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» (1) .

إِنَّ الْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرٰائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتٰامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذٰلِكَ فَلْيَتَنٰافَسِ الْمُتَنٰافِسُونَ (26) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عظمة كتاب الأبرار بيّن حال أنفسهم في الآخرة بقوله::

إِنَّ الْأَبْرٰارَ و الصلحاء من المؤمنين في الآخرة لَفِي نَعِيمٍ و رزق كريم، و إنما كيفية نعمهم أنّهم:

عَلَى الْأَرٰائِكِ و السّرر التي في الحجال يَنْظُرُونَ إلى ما أعدّ اللّه لهم من البساتين و القصور و الأطعمة و الأشربة و الفواكه و الحور و الغلمان و سائر ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين، و إلى حال أعدائهم و شدّة عذابهم:

تَعْرِفُ أيّها الناظر فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ و بهجته و بهاءه و الاستبشار، و قيل: يزيد في وجوههم من الحسن و الجمال و النور ما لا يصفه واصف(2) و:

يُسْقَوْنَ بأيدي الحور و الغلمان مِنْ رَحِيقٍ و خمر صاف خالص لا غشّ و لا غائلة فيه مَخْتُومٍ بأمر اللّه مطبوع عليه لئلا تمسّه يد لامس إكراما له بالصيانة على ما جرت العادة من ختم ما يصان و يكرم:

خِتٰامُهُ و ما يختم به بدل الطين مِسْكٌ أذفر رطب ينطبع فيه الخاتم.

و قيل: يعني عاقبته مسك، بمعنى أنّ الشارب إذا رفع فاه من آخر شربة وجد ريحه كريح المسك(3).

و قيل: يعني خلطة المسك تطييبا لطعمه و رائحته(2). و قيل: هو كناية عن صحة أبدانهم و قوّة شهوته، حيث إنّ خلط المسك معين على الهضم و قوّة الشهوة(3).

و عن أبي الدرداء: شراب أبيض مثل الفضّة يختمون به آخر شربهم، و لو أنّ رجلا من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روح إلاّ وجد طيب ريحه(4).

وَ فِي ذٰلِكَ النعيم المذكور، أو الرحيق المختوم فَلْيَتَنٰافَسِ الْمُتَنٰافِسُونَ و ليرغب الراغبون، لا في النّعم الدنيوية الكدرة السريعة الزوال و الفناء.

وَ مِزٰاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كٰانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذٰا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغٰامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلىٰ أَهْلِهِمُ

ص: 449


1- . الكافي 4/320:1، و 4/3:2، تفسير الصافي 301:5. (2و3) . تفسير الرازي 99:31.
2- . تفسير الرازي 99:31.
3- . تفسير الرازي 99:31 و 100.
4- . تفسير الرازي 100:31.

اِنْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذٰا رَأَوْهُمْ قٰالُوا إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَضٰالُّونَ (32) وَ مٰا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حٰافِظِينَ (33) ثمّ بالغ سبحانه في مدح الرحيق بقوله::

وَ مِزٰاجُهُ و خليطه شيء مِنْ ماء تَسْنِيمٍ أعني :

عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ سئل ابن عباس عن تسنيم فقال: هذا ممّا يقول اللّه: فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (1).

و قال أيضا: أشرف شراب أهل الجنّة هو تسنيم، لانّه يشربه المقرّبون صرفا، و يمزح لأصحاب اليمين(2).

روي أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم، فاذا ملئت مسك الماء حتى لا تقع قطرة منه على الأرض، فلا يحتاجون إلى الاستسقاء(3).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه كرامة الأبرار و علوّ منزلتهم عنده في الآخرة، ذكر توهين الكفّار إياهم و تحقيرهم و استهزائهم بهم بقوله::

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا و أصرّوا على الكفر و العصيان كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و أحزابهما كٰانُوا في الدنيا مِنَ حال اَلَّذِينَ آمَنُوا بالنبي عن صميم القلب يَضْحَكُونَ استهزاء بهم لما هم فيه من الفقر و الشدّة،:

وَ إنّ المؤمنين إِذٰا مَرُّوا بِهِمْ و هم في أنديتهم يَتَغٰامَزُونَ و يعيبونهم، و يشيرون إليهم بالأجفان و الحواجب، و يقولون: انظروا إلى هؤلاء السفهة يتعبون أنفسهم و يحرمونها من اللذات و يخاطرون بها(4) في طلب ثواب موهوم:

وَ إِذَا انْقَلَبُوا و انصرفوا من مجامعهم إِلىٰ أَهْلِهِمُ و أقاربهم اِنْقَلَبُوا و انصرفوا حال كونهم فَكِهِينَ و معجبين بما هم فيه من الشرك و التنعّم، أو متلذّذين بذكر المسلمين بالسوء و الاستهزاء.

:

وَ إِذٰا يشاهدوا المؤمنين و رَأَوْهُمْ قٰالُوا تحقيرا لهم: إِنَّ هٰؤُلاٰءِ المؤمنين لَضٰالُّونَ حيث تركوا دين آبائهم و التنعّم بالنّعم، و اغترّوا بوعد محمد و وعيده وَ الحال أنّ المجرمون و:

مٰا أُرْسِلُوا من قبلنا إلى المؤمنين ليكونوا عَلَيْهِمْ حٰافِظِينَ يحفظونهم من الضلال، و يرشدونهم إلى الحقّ و الصواب، فيعيبون عليهم ما يعتقدونه ضلالا. و فيه إشعار بأن تعيين الحقّ و الضلال شأن المرسلين من اللّه، لا شأن الناس الجهلة و الحمقاء.

روى بعض العامة منهم الفخر، أنّه جاء عليّ عليه السّلام في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا الأصلح، فضحكوا منه، فنزلت الآيات قبل أن

ص: 450


1- . تفسير الرازي: 100:31، و الآية من سورة السجدة: 17/32.
2- . تفسير الرازي 100:31.
3- . تفسير روح البيان 372:10.
4- . في النسخة: و يخاطرونها.

يصل عليّ عليه السّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّٰارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرٰائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفّٰارُ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ (36) ثمّ بيّن سبحانه أنّ المجرمين يجازون في الآخرة على ضحكهم من المؤمنين بقوله::

فَالْيَوْمَ الذي هو يوم الحساب و الجزاء على الأعمال اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّٰارِ يَضْحَكُونَ و يسخرون حين يرونهم أذلاء، معذّبين و معلولين لتحزّزهم و تكبّرهم في الدنيا، و إنّهم يأكلون الزقّوم و يشربون الحميم و الغسّاق بعد تنعّمهم و ترفهم.

روي أنّهم يفتح لهم باب إلى الجنّة فيقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا اغلق دونهم، فيضحك المؤمنون منهم(2) حال كونهم جالسين:

عَلَى الْأَرٰائِكِ و السّرر المحجّلة يَنْظُرُونَ إلى سوء حال المجرمين في النار، و هم يقولون، أو اللّه، أو الملائكة يقولون::

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفّٰارُ و عوّضوا مٰا كٰانُوا في الدنيا يَفْعَلُونَ من الضّحك من المؤمنين و الاستهزاء بهم. و فيه تسلية للمؤمنين بأنّه سينقلب الحال و يكون الكفار في الآخرة مضحوكا منهم، و تعظيم للأولياء.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ في الفريضة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أعطاه اللّه الأمن يوم القيامة من النار، و لم تره و لا يراها، و لا يمرّ على جسر جهنّم، و لا يحاسب يوم القيامة»(3). قد تمّ تفسير السورة بحمد اللّه و منّه(4).

ص: 451


1- . تفسير الرازي 101:31.
2- . جوامع الجامع: 534، تفسير الصافي 303:5، في النسخة: المؤمن منهم.
3- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 685:10، تفسير الصافي 303:5.
4- . في النسخة: و المنّة.

ص: 452

في تفسير سورة الانشقاق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهٰا وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ مٰا فِيهٰا وَ تَخَلَّتْ (4) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهٰا وَ حُقَّتْ (5) يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ (6) ثمّ لمّا ختمت سورة التطفيف المتضمنة بيان عظمة يوم القيامة، و عظمة كتاب أعمال الأبرار، و مهانة أعمال الفجّار، و رجوع الكافرين(1) إلى أهلهم مسرورين بكفرهم باستهزائهم بالمؤمنين، نظمت سورة الانشقاق المتضمّنة لبيان أهوال القيامة، و حسن حال المؤمنين الذين يؤتون كتاب أعمالهم بأيمانهم، و سوء حال الفجّار الذين يؤتون كتابهم بشمالهم، و رجوع المؤمنين في الآخرة إلى أهلهم مسرورون، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها ببيان أهوال يوم القيامة بقوله:

إِذَا السَّمٰاءُ انْشَقَّتْ لنزول الملائكة أو للسقوط، أو الانطواء أو لهول القيامة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تنشق من المجرّة، و هي البياض المستطيل في وسط السماء»(2).

وَ أَذِنَتْ السماء و انقادت لِرَبِّهٰا و خالقها حين أراد انشقاقها، كانقياد العبد المطيع لأمر مولاه المطاع، أو الرعية لحكم السلطان القاهر المقتدر وَ حُقَّتْ السماء، حقيقتها بالانقياد له، لكونها موجودة بايجاد، باقية بابقائه، مقهورة تحت قدرته، مربوبة بتربيته

وَ إِذَا الْأَرْضُ بأمره تعالى مُدَّتْ و بسطت بإزالة جبالها و تلالها و آكامها عن مقارّها بحيث صارت كالصحيفة الملساء، أو زيدت في سعتها لتتسع لوقوف الأولين و الآخرين عليها للحساب.

عن ابن عباس: إذا كان يوم القيامة مدّ اللّه الأرض مدّ الأديم العكاظي(3).

ص: 453


1- . في النسخة: المؤمنين.
2- . تفسير روح البيان 375:10.
3- . تفسير الرازي 103:31، و فيه: الأديم الكاظمي، تفسير روح البيان 375:10، و لم يذكر الراوي.

وَ أَلْقَتْ و رمت مٰا فِيهٰا من الكنوز و الموتى من بطنها إلى ظاهرها بالزّلزال وَ تَخَلَّتْ عمّا تحمله بحيث لا يبقى فيها شيء

وَ أَذِنَتْ و انقادت لِرَبِّهٰا في الإلقاء و التخلّي وَ حُقَّتْ بهذا الانقياد، و حقيقته لأنّه شأن الممكن بالنسبة إلى الواجب، فعند ذلك وقعت الواقعة العظمى، و ظهرت الأهوال التي قصرت الألسن عن شرحها و وصفها.

يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ الغافل عن عاقبة أمرك إِنَّكَ كٰادِحٌ و مجدّ و ساع في دنياك، و مجتهد في تحصيل شهواتك إِلىٰ لقاء رَبِّكَ بالموت كَدْحاً و جدّا بليغا فَمُلاٰقِيهِ بعد الموت لا محالة، و حاضر في محكمة عدله تعالى البتة لا مفرّ منه.

و قيل: إنّ ضمير (ملاقيه) راجع إلى الكدح(1) ، و المعنى فأنت ملاق كدحك و عملك بملاقاة صحيفة الأعمال.

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ وَرٰاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلىٰ سَعِيراً (12) إِنَّهُ كٰانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلىٰ إِنَّ رَبَّهُ كٰانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلاٰ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ مٰا وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) ثمّ بيّن سبحانه اختلاف أفراد الانسان في كتاب الأعمال بقوله:

فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ يوم القيامة بِيَمِينِهِ و هو المؤمن الصالح الذي كتب أعماله الملك القاعد عن يمينه

فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ هذا المؤمن حِسٰاباً يَسِيراً و سهلا لا مناقشة فيه و لا اعتراض عليه بما يسوء، و هو على ما قيل: أن يعرف طاعته و معصيته، فيثاب على طاعته و تغفر معصيته(2).

وَ إذن يَنْقَلِبُ و ينصرف إِلىٰ أَهْلِهِ و عياله و ذريّاته إن كانوا في الجنّة، أو إلى حور العين مَسْرُوراً و فرحا بنجاته من النار و فوزه بالجنة.

عن عائشة قالت: سمعت رسول اللّه يقول: «اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا» قلت: ما الحساب اليسير؟ قال: «ينظر في كتابه و يتجاوز عن سيئاته، فأمّا من نوقش في الحساب فقد هلك»(3).

و عنها أنّها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من نوقش في الحساب فقد هلك» فقلت: يا رسول اللّه، إنّ

ص: 454


1- . تفسير الرازي 105:31.
2- . تفسير الرازي 106:31، تفسير روح البيان 377:10.
3- . تفسير الرازي 106:31.

اللّه يقول: فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً؟ قال: «ذلك العرض، و لكن من نوقش في الحساب عذّب»(1).

وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ و أعطي كِتٰابَهُ و صحيفة عمله بشماله الذي جعل وَرٰاءَ ظَهْرِهِ بعد ما غلّت يده اليمنى على ما قيل(2) ، و قيل: تخلع يده اليسرى و تجعل من وراء ظهره(3). و قيل: إنّ يده في محلّها، و لكن يعطى الكتاب بها من وراء ظهره. و قيل: يحوّل وجهه أي قفاه، فيقرأ الكتاب كذلك (4)

فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً و هلاكا لنفسه، و يقول: وا ثبوراه، لعلمه بذلك أنّه من أصحاب النار

وَ بعد ذلك يَصْلىٰ سَعِيراً أو يدخل نارا لأجل

إِنَّهُ كٰانَ في الدنيا فِي أَهْلِهِ و عياله و عشيرته مَسْرُوراً بالنّعم و الراحة من تعب العبادة و مشقّة امتثال التكاليف، لعدم إيمانه باللّه و اليوم الآخر، و عدم خوفه من الحساب، أو مسرورا بما هو عليه من الكفر و التكذيب بالبعث، و كان يضحك ممّن آمن بهما

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ و لن يرجع بعد الموت إلى الحياة الدنيا، أو إلى الآخرة، أو إلى اللّه، كما عن بن عباس(1).

بَلىٰ يحور و يرجع إلى الحياة و يبعث إِنَّ رَبَّهُ الذي خلقه كٰانَ حين خلقه رَبَّهُ و بخبث طينته و شقاوته و سوء عمله و عاقبته بَصِيراً و عالما

فَلاٰ يظنّ أن يهمله اللّه و لا يعاقبه على كفره و معاصيه أُقْسِمُ أيّها الانسان بِالشَّفَقِ و الحمرة الباقية في الافق بعد غروب الشمس، كما عن بن عباس (2)

وَ اللَّيْلِ وَ مٰا وَسَقَ و جمع الليل بظلمته من النجوم و الحيوانات التي يرجع إلى أماكنها من الدوابّ و السّباع و الوحوش و الهوامّ و الحشرات

وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ و اجتمع و تمّ و صار بدرا.

قيل. اقسم اللّه تعالى بهذه الامور لظهور التحوّل و التغيير فيها(3) الدالّ على قدرته الكاملة.

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) ثمّ بيّن سبحانه المقسم عليه بقوله:

لَتَرْكَبُنَّ و لتلاقنّ أيّها الناس حالا طَبَقاً و موافقا لحال السابق متجاوزا في الشدّة عَنْ طَبَقٍ و حال موافق لسابقه. حاصل المراد - و اللّه أعلم - لتلاقن حالا بعد حال كلّ واحدة مطابقة لاختها في الشدّة و الهول أو فوقها.

و قيل: إنّ الطّبق جمع طبقة، و هي المرتبة، و المعنى: لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض، و هي و ما بعدها من مواطن البرزخ و القيامة و دواهيها إلى حين

ص: 455


1- . تفسير الرازي 107:31.
2- . تفسير الرازي 108:31.
3- . تفسير روح البيان 380:10 و 381.

الاستقرار في الجنّة أو النار(1).

و قيل: إنّه المقصود أنّ الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة ممّا كانوا عليه في الدنيا(2) فانّ اللّه لما أخبر عن حال من يؤتى كتابه وراء ظهره، و أنّه كان في أهله مسرورا، و أنه ظنّ أن لن يحور، أخبر أنه يحور. ثمّ أقسم على أنّ الناس يركبون طبقا عن طبق في الآخرة، أي حالا بعد حالهم في الدنيا.

و قيل: يعني لتركبنّ سنّة الأولين ممّن كانوا قبلكم في تكذيب الرسل و القيامة(3).

عن الصادق عليه السّلام: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي سنن من كان قبلكم»(2).

و عنه عليه السّلام: «لتركبنّ سنن من كان قبلكم من الأولين و أحوالهم»(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أي لتسلكنّ(4) سبيل من كان قبلكم من الامم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء»(5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «أ و لم تركب هذه الامّة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان و فلان و فلان»(6).

و عن القمي: يقول: «لتركبنّ سبيل(7) من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة لا تخطئن طريقهم، و لا يخطئ(8) شبر بشير و ذراع بذراع و باع بباع، حتى أنّه لو كان من كان قبلكم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه ؟ قالوا اليهود و النصارى: من تعني يا رسول اللّه ؟ قال: «فمن أعني، لتنقضنّ عرى الاسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الإمامة، و آخره الصلاة»(9).

فَمٰا لَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذٰا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاٰ يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) ثمّ لمّا بيّن سبحانه صحّة البعث بالآيات المعجزات، وبّخ المشركين على عدم إيمانهم، و أظهر التعجّب منه بقوله:

فَمٰا لَهُمْ من العذر، و أي مانع لهم أنّهم لاٰ يُؤْمِنُونَ بهذا القرآن و ما فيه من الإخبار بالبعث و الحساب ؟

وَ إِذٰا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ مع ما فيه من العلوم و الإعجاز لاٰ

ص: 456


1- . تفسير الرازي 109:31، تفسير روح البيان 381:10. (2و3) . تفسير الرازي 110:31.
2- . كمال الدين: 6/480، تفسير الصافي 305:5.
3- . جوامع الجامع: 535، تفسير الصافي 305:5.
4- . في النسخة: لتركبنّ.
5- . الاحتجاج: 248، تفسير الصافي 306:5.
6- . تفسير القمي 413:2، الكافي 17/343:1، تفسير الصافي 306:5.
7- . في المصدر: سنّة.
8- . في المصدر: و لا تخطئون طريقتهم.
9- . تفسير القمي 413:2، تفسير الصافي 306:5.

يَسْجُدُونَ و لا يخضعون للّه عن ابن عباس: المراد بالسجود الصلاة(1). و عن جماعة من المفسّرين:

المراد نفس السجود(2).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قرأ ذات يوم: وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (3) فسجد هو و من معه من المؤمنين، و قريش تصفّق فوق رءوسهم و تصفر، فنزلت الآية(4).

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم سجودهم و إيمانهم بقوله:

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و بكتابه و اليوم الآخر يُكَذِّبُونَ الرسول و القرآن في إخبارهما بالبعث عنادا و لجاجا و تقليدا لآبائهم، و لذا لا يخافون

وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ من أنفسهم بِمٰا يُوعُونَ و ما يضمرون في قلوبهم من الحسد و البغي و اللّجاج، أو بما يجمعون في صحف أعمالهم من الكفر و العصيان

فَبَشِّرْهُمْ يا محمد بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ في الدنيا و الآخرة، فانّهم بأعمالهم يظهرون أنّه مطلوبهم

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا منهم بعد كفرهم.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع(5) ، و المعنى: لكن الذين آمنوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ من الطاعات و العبادات لَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ و ثواب عظيم غَيْرُ مَمْنُونٍ و مقطوع، بل متّصل و دائم، أو غير ممنون به عليهم، فانّ المنّة تكدّر النعمة.

قد مرّ ذكر ثواب قراءتها.

ص: 457


1- . تفسير الرازي 111:31.
2- . تفسير الرازي 111:31.
3- . العلق: 19/96.
4- . جوامع الجامع: 535، تفسير الصافي 306:5.
5- . الكشاف 728:4، تفسير الرازي 113:31، تفسير الصافي 306:5.

ص: 458

في تفسير سورة البروج

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شٰاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحٰابُ الْأُخْدُودِ (4) ثمّ لمّا ختمت سورة الانشقاق المتضمّنة لانكار المشركين بالبعث و دار الجزاء، و عدم إيمانهم بالقرآن و تكذيبهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كان فيه تألّم قلبه الشريف، نظمت سورة البروج المتضمّنة لحكاية امتناع أصحاب الاخدود من الايمان، و إحراقهم المؤمنين بالنار، و تهديد الذين يؤذون المؤمنين بالعذاب، لتسلية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها سبحانه بالقسم بأشياء عظيمة القدر و الشرف، لظهور آثار قدرته و حكمته بها بقوله:

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْبُرُوجِ الاثني عشر التي فيها تسير الشمس في السنة الشمسية. و قيل: إنّ المراد بالبروج منازل القمر(1) ، و هي ثمانية و عشرون كوكبا(2). و قيل: هي الكواكب العظام(3) و تسميتها بالبروج لظهورها

وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ للناس بلسان الأنبياء، و هو يوم القيامة، كما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(4) و هو يوم فصل القضاء، و ظهور تفرّد اللّه تعالى بالملك و السلطان

وَ شٰاهِدٍ و حاضر في ذلك اليوم من الملائكة و الجنّ و الإنس، وَ يوم مَشْهُودٍ و هو يوم القيامة، كما عن ابن عباس(5) ، لمعاينة العجائب التي ليست في غيره، و لقوله تعالى: ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (6).

و عن أبي موسى الأشعري: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «اليوم الموعود يوم القيامة، و الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم عرفة»(7).

ص: 459


1- . تفسير الرازي 113:31، تفسير أبي السعود 135:9، تفسير روح البيان 385:10.
2- . تفسير روح البيان 385:10.
3- . تفسير الرازي 113:31، تفسير أبي السعود 135:9.
4- . تفسير الرازي 113:31.
5- . تفسير الرازي 114:31.
6- . هود: 103/11.
7- . تفسير الرازي 115:31.

و عن أبي هريرة مرفوعا قال: «المشهود يوم عرفه و الشاهد يوم الجمعة، ما طلعت شمس و لا غربت على أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو اللّه بخير إلاّ استجاب له، و لا يستعيد من شرّ إلا أعاذه منه»(1).

و عن ابن المسيب مرسلا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «سيد الأيام يوم الجمعة، و هو الشاهد، و المشهود يوم عرفة»(2).

و رواية العامة عن أمير المؤمنين(3) رواه أصحابنا عن الصادق(4) و عن الباقر عليهما السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: «ما قيل لك» فقال السائل: قالوا شاهد يوم الجمعة، و مشهود يوم عرفة. فقال: «ليس كما قيل لك، الشاهد يوم عرفة، و المشهود يوم القيامة، أ ما تقرأ القرآن ؟ قال اللّه عزّ و جلّ: ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: «النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أمير المؤمنين عليه السّلام»(6).

و على أي تقدير قيل: إنّ جواب القسم محذوف(7) ، و التقدير: لعن كفّار مكة كما

قُتِلَ و لعن أَصْحٰابُ الْأُخْدُودِ و أهل الخنادق. قيل: كانوا ثلاثة: انطيانوس الرومي بالشام، و بخت نصر بفارس، و يوسف ذو نؤاس الحميري بنجران يمن، كلّ واحد منهم حفر خندقا عظيما، طوله أربعون ذراعا، و عرضه اثنا عشر ذراعا، و ملئوه نارا، و ألقوا فيه المؤمنين(8).

قيل: إنّ المقصود بأصحاب الاخدود في الآية ذو نؤاس النجراني اليهودي و جنوده، قالوا: إنّ عبدا صالحا يقال له: عبد اللّه بن الثامر، وقع إلى نجران، و كان على دين عيسى عليه السّلام، فدعاهم فأجابوه، فسار إليهم ذو نؤاس بجنود من حمير، فخيّرهم بين النار و اليهودية، فأبوا اليهودية، فحفر الخنادق و أضرم فيها النيران، فجعل يلقي فيها كلّ من اتّبع ابن الثامر حتّى أحرق نحوا من اثني عشر ألفا، أو عشرين ألفا أو سبعين ألفا، و كان اسم ذو نؤاس زرعة بن حسّان ملك حمير، و سمّى نفسه يوسف(9).

و روي أنّه انفلت رجل من أهل نجران، اسمه دوس ذو ثعلبان، و وجد إنجيلا محترقا بعضه، فأتى به ملك الحبشة، و كان نصرانيا، فقال له: إنّ أهل دينك اوقدت لهم نار فأحرقوا بها و احرقت كتبهم، و هذا بعضها. فأراه الذي جاء به، ففزع لذلك، فكتب إلى صاحب الروم يستمدّه بنجّارين يعملون له

ص: 460


1- . تفسير الرازي 115:31.
2- . تفسير الرازي 115:31.
3- . تفسير الرازي 115:31.
4- . معاني الأخبار: 2/298، تفسير الصافي 308:5.
5- . معاني الأخبار: 5/299، تفسير الصافي 308:5.
6- . الكافي 69/352:1، معاني الأخبار: 7/299، تفسير الصافي 308:5.
7- . تفسير الرازي 116:31، تفسير روح البيان 385:10.
8- . تفسير روح البيان 386:10.
9- . تفسير روح البيان 386:10.

السفينة، فبعث إليه صاحب الروم من عمل له السفن، فركبوا فيها، فخرجوا إلى ساحل اليمن، فخرج إليهم أهل اليمن، فلقوهم بتهامة، و اقتتلوا، فلم ير ملك حمير له بهم طاقة، و خاف أن يأخذوه، فضرب فرسه حتى وقع في البحر فمات فيه، فاستولى الحبشة على حمير و ما حولها و تملّكوا، و بقي الملك لهم إلى وقت الإسلام(1).

و في الحديث: «كان ملك فيمن كان قبلكم» كان له ساحر، فلمّا كبر قال للملك: إني كبرت فابعث إليّ غلاما اعلّمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلّمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه و سمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب و قعد إليه، فاذا أتى الساحر ضرب لمكثه، فكشا إلى الراهب، فقال له: إذا خشيت الساحر فقل له: حبسني أهلي.

ثمّ إنّ الغلام رأى يوما في طريقه حيّة فقال: اليوم أعلم أنّ الساحر أفضل أم الراهب، فأخذ حجرا و قال: اللهمّ إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فقوّني على قتلها، فرماها فقتلها، و مضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل منّي، قد بلغ من أمرك ما أدري، و إنّك ستبتلى، فان ابتليت فلا تدلّ عليّ.

و كان الغلام يبرئ الأكمه و الأبرص، و يشفى المريض. فسمع ذلك جليس الملك، و كان أعمى، فأتاه بهدايا، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن شفيتني. قال الغلام: إنّي لا أشفي أحدا، إنّما يشفي اللّه، فان آمنت باللّه دعوت اللّه فشفاك، فآمن باللّه فشفاه اللّه.

فأتى الملك فجلس إليه، كما كان يجلس، فقال الملك: من ردّ بصرك ؟ قال: ربّي. قال: أ و لك ربّ غيري ؟ قال: ربّي و ربّك اللّه. فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك. أي بني، قد بلغت من سحرك أنّك تبرئ الأكمه و الأبرص، و تفعل و تفعل!

فقال: أنا لا اشفي أحدا، إنما يشفي اللّه، فاخذه و لم يزل يعذّبه حتى دلّ على الراهب، فجيء بالراهب. فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فوضعه في مفرق رأسه فشقّه به حتّى وقع شقّاه، ثمّ جيء بجليس الملك فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه، ثمّ جيء بالغلام فقال له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه. فقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا و كذا، فاصعدوا به الجبل، فاذا بلغتم ذروته فان رجع عن دينه و إلاّ فاطرحوه.

فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال الغلام: اللهمّ اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا،

ص: 461


1- . تفسير روح البيان 386:10.

فجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم اللّه.

فدفعه إلى نفر آخر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور(1) ، فتوسّطوا به البحر، فان رجع عن دينه و إلاّ فاقذفوه في البحر، فذهبوا به، فقال الغلام: اللهمّ اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، و جاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم اللّه.

فقال للملك: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به. قال: و ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد و تصلبني على جذع، ثمّ خذ سهما من كنانتي، ثمّ ضع السهم في كبد القوس، ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام، ففعل كما قال الغلام، ثمّ رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنّا بربّ الغلام.

فأتي الملك فقيل له: أ رأيت قد وقع ما كنت تحذر منه، و اللّه قد نزل بك حذرك؛ أي قد آمن الناس، فأمر بالاخدود في افواه السكك، فخددت و اضرم النار فيها، و قال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة و معها صبيّ رضيع لها. قيل في بعض الروايات: كان لها ثلاثة أولاد أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي عن دينك و إلاّ ألقيتك و أولادك في النار فأبت، فأخذ ابنها الأكبر و ألقاه في النار، ثمّ قال لها: ارجعي عن دينك فأبت، فالقى ابنها الأوسط في النار، ثمّ قال لها:

ارجعي عن دينك فأبت، فأخذوا الصبيّ ليلقوه فيها فهمّت بالرجوع، فقال الصبي: يا امّاه، لا ترجعي عن الاسلام، فانّك على الحقّ و لا بأس عليك»(2).

و قيل: إنّه قال: فانّ بين يديك نارا لا تطفأ، فألقى الصبيّ في النار، و امّه على أثره.

قيل: كان ذلك الملك ذو نؤاس الحميري، و كانت القصّة قبل مولد النبي بتسعين سنة(3).

قال بعض العامة: روي أن ضربة احتفرت في زمن خلافة عمر بن الخطاب، فوجد الغلام الذي قتله الملك و إصبعه على صدغه(4).

و في بعض التفاسير: فوجدوا عبد اللّه بن الثامر - و لعلّه اسم ذلك الغلام - واضعا يده على صدغه، إذ اميطت يده عنها سال دمه، و إذا تركت على حالها انقطع، و في يده خاتم من حديد فيه: ربّي اللّه، فكتبوا إلى عمر، فكتب بأن يواروه يعيدوا التراب عليه، و كتب إليهم، إن ذلك الغلام صاحب الاخدود فاتركوه على حاله حتى يبعثه اللّه يوم القيامة على حاله(5).

و روي في (المجمع) جميع ما ذكر بأدنى تفاوت(3).

ص: 462


1- . أي السفينة الطويلة العظيمة.
2- . تفسير روح البيان 387:10. (3-4-5) . تفسير روح البيان 388:10.
3- . مجمع البيان 705:10، تفسير الصافي 310:5.

و عن القمي قال: كان سببهم أن الذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذو نؤاس، و هو آخر من ملك حمير، تهوّد و اجتمعت معه حمير على اليهوديّة، و سمّى نفسه يوسف، و أقام على ذلك حينا من الدهر، ثمّ اخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية و المسيحية و على حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد اللّه بن رياس(1) ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم و يحملهم على اليهودية، يدخلهم فيها، فسار حتّى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثمّ عرض عليهم دين اليهودية و الدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص(2) كلّه، فأبوا عليه، و امتنعوا من اليهودية و الدخول فيها، و اختاروا القتل، فاتّخذ لهم اخدودا، و جمع فيه(3) الحطب، و أشعل فيه النار، فمنهم من احرق بالنار، و منهم من قتل بالسيف، و مثّل بهم كلّ مثلة، فبلغ عدد قتل و أحرق بالنار عشرين ألفا، و أفلت رجل منهم يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له و ركضه(4) ، و اتبعوه حتى أعجزهم في الرمل، و رجع ذو نؤاس إلى ضيعة(5) في جنوده(6).

و روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: «هم أهل الكتاب، و كانوا متمسّكين بكتابهم، و كانت الخمر قد احلّت لهم، فتناولها بعض ملوكهم، فسكر فوقع على اخته، فلمّا صحا ندم و طلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: إنّ اللّه تعالى قد أحلّ نكاح الأخوات، ثمّ تخطّبهم بعد ذلك فتقول: إنّ اللّه حرّمه، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له: ابسط فيهم السوط، فلم يقبلوا، فقالت: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد و إيقاد النيران، و طرح من أبى فيها، فهم الذين أراد اللّه بقوله: قُتِلَ أَصْحٰابُ الْأُخْدُودِ» (7).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ارسل عليّ عليه السّلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود، فأخبره بشيء. فقال: ليس كما ذكرت، و لكن ساخبرك عنهم، إنّ اللّه بعث رجلا حبشيا نبيا، و هم حبشة فكذّبوه، فقاتلهم فقتلوا أصحابه، و أسروه و أسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حيرا(8) ، ثمّ ملئوه نارا، ثمّ جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار معه، فجعل أصحابه يتهافتون في النار، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر، فلمّا قربت هابت و رقّت على ابنها، فناداها الصبيّ، لا تهابي و ارميني و نفسك في النار، فانّ هذا و اللّه في اللّه قليل. فرمت بنفسها

ص: 463


1- . في المصدر: عبد اللّه بن بريا، و في تفسير الصافي: عبد اللّه بن برياس، و في تاريخ الطبري 122:2، و الكامل في التاريخ 429:1، عبد اللّه بن الثامر.
2- . في النسخة: بينهم و حرض الحرض.
3- . في النسخة: فيها من.
4- . ركض الفرس برجله: استحثّه للعدو.
5- . في المصدر: ضيعته.
6- . تفسير القمي 423:2، تفسير الصافي 309:5.
7- . تفسير الرازي 117:31.
8- . الحير: شبه الحظيرة أو الحمى.

في النار و صبيها، و كان ممّن تكلّم في المهد»(1).

أقول: قد ظهر أنّ الروايات في القصة مختلفة، و جمعها و إن كان ممكنا إلاّ أنه لا يهمّنا، لعدم حجّيتها في المقام، و إنّما المعلوم من جميعها أنّ ملكا من الكفّار، أو قوما منهم، حفروا اخدودا و أحرقوا جمعا من المؤمنين بالنار لإيمانهم، و لا يبعد أنّ القصة كانت مشهورة في العرب، ذكرها سبحانه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين المبتلين بإيذاء المشركين.

اَلنّٰارِ ذٰاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهٰا قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلىٰ مٰا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ مٰا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّٰ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) ثمّ فسّر سبحانه الاخدود بقوله:

اَلنّٰارِ ذٰاتِ الْوَقُودِ و التقدير: أعني بالاخدود النار التي اوقدت بالحطب في الاخدود، فارتفع لهبها و أحرق اولئك القوم

إِذْ هُمْ بعد إيقاد النار و إلقاء المؤمنين فيها كانوا عَلَيْهٰا قُعُودٌ على سرر و كراسي على ما قيل(2) ، ينظرون إلى احتراق المؤمنين فيها

وَ هُمْ عَلىٰ مٰا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ من الإحراق و التعذيب شُهُودٌ عند الملك، يشهدون أنّ أحدا من المأمورين لم يقصّر فيما أمرته لرحم و إشفاق.

و قيل: إنّهم شهود على عملهم الشنيع يوم القيامة، حيث إنّه تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون(3).

وَ مٰا نَقَمُوا اولئك الجبارون من المؤمنين، و ما أنكروا مِنْهُمْ عملا إِلاّٰ أَنْ يُؤْمِنُوا اولئك المؤمنون بِاللّٰهِ الذي يجب بحكم العقل الايمان به، لأنّه تعالى هو اَلْعَزِيزِ و القاهر على كلّ شيء، و هو اَلْحَمِيدِ و المستحقّ للحمد، لكونه منعما على جميع الموجودات، فعلى العاقل أن يخاف من سطوته و قهّاريته إن لم يؤمن به، و يرجو نعمه و إحسانه إن آمن به، و هو

اَلَّذِي لَهُ وحده مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و السلطنة المطلقة في عوالم الملك و الملكوت، يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء وَ هو اَللّٰهُ و الإله المستجمع لجميع الكمالات و الخالق لكلّ شيء، و هو عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من أفعال الكفّار و المؤمنين و غيرها من الموجودات الحقيرة و الجليلة الظاهرة و الخفية حتى الخواطر و الضمائر شَهِيدٌ و مطّلع اطّلاع الحاضر المشاهد، فيعذّب الكفّار و العصاة

ص: 464


1- . مجمع البيان 706:10، تفسير الصافي 309:5.
2- . تفسير روح البيان 706:10.
3- . تفسير روح البيان 389:10.

على ظلمهم و عصيانهم، و يثيب المؤمنين المطيعين على صبرهم و طاعتهم، و كيف ينكرون الإيمان على المؤمنين و يغضبون عليهم مع أنّهم مستحقّون لغاية التكريم و التجليل!

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذٰابُ الْحَرِيقِ (10) ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الكفّار المؤذين للمؤمنين و المؤمنات بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ أو محّنوهم بتعذيبهم و إيذائهم. و عن ابن عباس: أحرقوهم بالنار (1)ثُمَّ بعد ذلك لم يؤمنوا و لَمْ يَتُوبُوا من كفرهم و عصيانهم إلى اللّه فَلَهُمْ في الآخرة عَذٰابُ جَهَنَّمَ جزاء على كفرهم و عصيانهم وَ لَهُمْ مضافا إلى ذلك عَذٰابُ الْحَرِيقِ و الشديد على إيذائهم للمؤمنين، أو زائدا على تعذيب غيرهم.

و قيل: إنّ المراد من عذاب الحريق تعذيبهم في الدنيا بالنار(2).

روي أنّ الجبّارون لمّا ألقوا المؤمنين في النار و قعدوا حولها ارتفعت النار فوقهم أربعين ذراعا، فوقعت عليهم و أحرقتهم، و نجا المؤمنون سالمين(3).

و قيل: إنّ اللّه قبض أرواح المؤمنين قبل أن تمسّهم النار(4).

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ (16) ثمّ أردف سبحانه تهديد الكفّار بوعد المؤمنين عموما بالثواب العظيم بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ سواء كانوا من المفتونين أو غيرهم لَهُمْ جزاء على إيمانهم و أعمالهم جَنّٰاتٌ ذات أشجار كثيرة و قصور عالية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة و ذٰلِكَ الثواب العظيم هو اَلْفَوْزُ الْكَبِيرُ و النّيل بأعلى المقاصد الذي تصغر عندها الدنيا و ما فيها.

ثمّ أكّد سبحانه وعيده الكفّار بقوله مخاطبا للنبي صلّى اللّه عليه و آله:

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ يا محمد، و أخذه بالقوّة لَشَدِيدٌ لا يطيقه(3) أحد، و إنّما أمهلهم للحكمة البالغة لا للإهمال

إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ الخلق في الدنيا

ص: 465


1- . تفسير الرازي 121:31.
2- . مجمع البيان 710:10، تفسير روح البيان 389:10. (3و4) . تفسير روح البيان 389:10.
3- . في النسخة: لا يطيق له.

وَ يُعِيدُ هم، و يخلقهم ثانيا في الآخرة، ليجازيهم على أعمالهم. و عن ابن عباس: أنّ أهل جهنّم تأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثمّ يعيدهم خلقا جديدا، و ذلك هو المراد من قوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (1).

ثمّ أكّد سبحانه وعده للمؤمنين بقوله:

وَ هُوَ الْغَفُورُ للذنوب اَلْوَدُودُ بالمؤمنين، و المحبّ لهم، و هو

ذُو الْعَرْشِ و صاحب سرير الملك و السلطنة، أو خالقه اَلْمَجِيدُ و العظيم في ذاته، و الشريف في أفعاله، و هو

فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ لا يزاحمه شيء في إنفاذ إرادته، و لا يمنعه مانع من إتمام مراده، يفعل ما يشاء كيف يشاء، و ذكر صيغة المبالغة لكثرة أفعاله من الإحياء و الإماتة و الإغناء و الافقار و الإعزاز و الإذلال و غيرها.

هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللّٰهُ مِنْ وَرٰائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ثمّ استشهد سبحانه على شدّة بطشه بقصة أخذه الامم المكذّبة للرسل بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد، و هل سمعت منّا حَدِيثُ الْجُنُودِ الكافرة و خبر الجماعات المكذّبة للرسل ؟ أعني

فِرْعَوْنَ وَ قومه ثَمُودَ قوم صالح، كيف فعلوا، و كيف فعلنا بهم و أهلكناهم بعذاب شديد؟ فذكّر قومك بما نزل عليهم من العذاب لعلّهم يتذكّرون، و أنّى لهم الذكرى

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك و أصرّوا على العناد و الطّغيان ليسوا مثل الامم السابقة، بل هم أشدّ كفرا و عنادا، لأنّهم مستقرون فِي تَكْذِيبٍ عظيم لرسالتك و كتابك بحيث لا ينصرفون عنه مع دلالة الأدلّة الباهرة على صحّتهما.

ثمّ بالغ سبحانه في تسليته نبيه صلّى اللّه عليه و آله على تكذيب قومه بقوله:

وَ اللّٰهُ القادر القاهر مِنْ وَرٰائِهِمْ مُحِيطٌ بهم لا يقدرون على الفرار من أخذه و عذابه، فلا تتألّم من تكذيبهم إيّاك، فإنّي انتقم منهم أشدّ الانتقام، و ليس تكذيبهم لكتابك موهنا له، و لا نسبته إلى الشعر و السحر و الكهانة مسقطا له عن الأنظار

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ و كتاب شريف عالي القدر في الكتب السماوية الإلهية، مثبوت و مضبوط

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ عند اللّه مصون من مساس الشياطين و تحريف المبطلين.

عن ابن عباس: أنّ اللّه خلق لوحا محفوظا من درّة بيضاء، دفّتاه ياقوتة حمراء، طوله ما بين السماء و الأرض، و عرضه ما بين المشرق و المغرب، ينظر اللّه فيه كلّ يوم ثلاثمائة و ستين مرة، يحيي و يميت، و يعزّ و يذلّ، و يفعل ما يشاء، و في صدر اللّوح: لا إله إلاّ اللّه وحده، و دينه الاسلام، و محمد

ص: 466


1- . تفسير الرازي 122:31.

عبده و رسوله، فمن آمن به و صدّق وعده و اتّبع رسله أدخله الجنة(1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و عنده جبرئيل، إذ حانت من جبرئيل نظرة قبل السماء إلى أن قال: قال جبرئيل: إنّ هذا إسرافيل حاجب الربّ، و أقرب خلق اللّه منه، و اللّوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، فاذا تكلّم الربّ تبارك و تعالى بالوحي ضرب اللّوح جبينه فنظر فيه، ثمّ ألقاه إلينا نسعى به في السماوات و الأرض»(2).

و عن القمي رحمه اللّه، قال: اللّوح [المحفوظ] له طرفان، طرف على يمين العرش، و طرف على جبهة إسرافيل، فاذا تكلّم الربّ جلّ جلاله بالوحي ضرب اللّوح جبين إسرافيل، فنظر في اللّوح، فيوحي بما في اللّوح إلى جبرئيل(3).

أقول: هذه الأخبار ممّا لا تدركه(4) عقولنا، و إنّما تذكر لاحتمال أن ينظر إليها من نور اللّه قلبه للايمان، فيفهم منها معاني غير ظاهرها.

عن الصادق: «من قرأ سورة وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْبُرُوجِ في فريضة، فانّها سورة النبيين، كان محشره و موقفه مع النبيّين و المرسلين و الصالحين»(5).

ص: 467


1- . تفسير روح البيان 395:10.
2- . تفسير القمي 27:2، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 312:5.
3- . تفسير القمي 414:2، تفسير الصافي 312:5.
4- . في النسخة: يدرك.
5- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 703:10، تفسير الصافي 312:5.

ص: 468

في تفسير سورة الطارق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ السَّمٰاءِ وَ الطّٰارِقِ (1) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الطّٰارِقُ (2) اَلنَّجْمُ الثّٰاقِبُ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة البروج المبدوّة بالحلف بالسماء ذات البروج، المتضمّنة لبيان كونه تعالى مبدأ الخلق و معيدهم للجزاء، و كونه محيطا بالكفّار، و بيان عظمة القرآن، و تكذيب الكفّار إياه، نظمت سورة الطارق المبدوّة بالحلف بالسماء و النجم الثاقب، المتضمّنة لبيان كونه تعالى حافظا لجميع النفوس، و بيان بدء خلقه الانسان و إرجاعه بعد الموت إلى الحياة لجزاء الأعمال، و بيان كون القرآن فاصلا بين الحقّ و الباطل، و أنّ الكفّار يكيدون في إبطاله، و تهديدهم بالعذاب، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالحلف بما فيه ظهور كمال قدرته بقوله:

وَ السَّمٰاءِ التي فيها من العجائب و الآيات ما فيه دلالة ظاهرة على كمال قدرته و حكمته، وَ الشيء اَلطّٰارِقِ و الظاهر بالليل

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك مَا الطّٰارِقُ و أيّ شيء هو.

ثمّ كأنّه قيل: ما هو؟ فقال سبحانه:

اَلنَّجْمُ الثّٰاقِبُ و الكواكب المضيء الذي ينفذ نوره في الأفلاك، و هو زحل، حيث إنّه في السماء السابعة.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال لرجل من أهل اليمن: «ما زحل عندكم في النجوم ؟» قال اليماني: نجم نحس. فقال: «لا تقولوا هذا، فانّه نجم أمير المؤمنين، و هو نجم الأوصياء، و هو النجم الثاقب الذي قال اللّه في كتابه».

فقال اليماني: فما يعني بالثاقب ؟ قال: «لأنّ مطلعه السماء السابعة، و إنّه يثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا، فمن ثمّ سمّاه اللّه النجم الثاقب»(1).

روى بعض العامة: أنّ أبا طالب أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأتحفه بخبز و لبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطّ

ص: 469


1- . الخصال: 68/489، تفسير الصافي 313:5.

نجم، فامتلأ ماء ثمّ نارا، ففزع أبو طالب، و قال: أي شيء هذا؟ فقال عليه السّلام: «هذا نجم رمي به، و هو آية من آيات اللّه» فعجب أبو طالب، فنزلت السورة(1).

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّٰا عَلَيْهٰا حٰافِظٌ (2) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ مِمَّ خُلِقَ (3) خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ (4) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرٰائِبِ (7) إِنَّهُ عَلىٰ رَجْعِهِ لَقٰادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرٰائِرُ (9) فَمٰا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لاٰ نٰاصِرٍ (10) ثمّ ذكر اللّه سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ و ما من أحد لَمّٰا عَلَيْهٰا حٰافِظٌ و قيب عالم بأحواله و أفعاله و مصالحه و منافعه، و هو اللّه الخالق له.

و قيل: إنّه الملائكة الحافظون لأعماله الكاتبون لها دقيقها و جليها(2) ، أو المراد الحافظون لها بحفظ رزقها و أجلها، الصائنون لها من المهالك، فإذا استوفت أجلها و رزقها قبضها إلى ربّها و سلّمها إلى المقابر(3).

ثمّ لمّا بيّن إحاطته بالنفوس، بيّن قدرته على إعادة خلقه للمجازاة، و استدلّ عليها بقدرته على خلقه في الدنيا بقوله:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ و يتفكّر العاقل المنكر للبعث أنّه مِمَّ خُلِقَ و من أيّ شيء تكوّن في هذا العالم ؟

ثمّ كأنّه قيل: ممّ خلق يا ربّ؟ فأجاب سبحانه:

خُلِقَ و تكوّن مِنْ مٰاءٍ لزج قذر دٰافِقٍ و منصبّ في الرّحم

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ و النّخاع الذي في ظهر الرجل وَ من بين اَلتَّرٰائِبِ و العظام التي في صدر المرأة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عباس: من بين الثديين(4).

قيل: إذا تولّد شيء من بين شيئين متباينين يقال إنّه خرج من بينهما(5). و الدّفق و إن كان صفته ماء الرجل، و لكن إذا اجتمع مع غيره يصحّ أن يوصف الكلّ بصفة الجزء، و يقال للمجموع دافق، فدلّت الآية على أنّ الولد يخلق من ماء الرجل و المرأة، كما دلّ عليه ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من قوله: «إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكرا، و يعود شبهه إليه و إلى أقاربه، و إذا غلب ماء المرأة فإليها و إلى أقاربها يعود الشبه»(6).

قيل: تتكوّن النّطفة من جميع أجزاء البدن، ثمّ تجتمع نطفة الرجل في فقار ظهره، و نطفة المرأة في

ص: 470


1- . تفسير الرازي 127:31. (2و3) . تفسير الرازي 128:31.
2- . تفسير روح البيان 398:10.
3- . تفسير الرازي 129:31.
4- . تفسير الرازي 129:31.

ترائبها(1).

فإذا ظهر أنّ القادر الحكيم خلق الانسان الذي هو أنموذج العالم الكبير من النّطفة، ظهر عنده كالشمس في رائعة النهار

إِنَّهُ عَلىٰ رَجْعِهِ و إعادة خلقه بعد موته و صيرورته ترابا لَقٰادِرٌ فيخلقه بقدرته

يَوْمَ تُبْلَى و تخبر اَلسَّرٰائِرُ و الضمائر من العقائد و النيات و غيرها من المخفيات لجميع الناس، فيتباهى المؤمن الخالص الحسن السريرة، و يفتضح المنافق المرائي السيئ السريرة.

عن (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: ما هذه السرائر التي ابتلى اللّه بها العباد في الآخرة ؟ فقال:

«سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة، و كلّ مفروض، لأن الأعمال كلّها سرائر خفية، فان شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصل، إن شاء قال: توضّأت و لم يتوضّأ، فذلك قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرٰائِرُ (2).

فَمٰا للانسان، و ليس لَهُ في ذلك اليوم مِنْ قُوَّةٍ في نفسه يدفع بها العذاب الذي حلّ به وَ لاٰ نٰاصِرٍ ينتصر به فيحفظه من العذاب بالقوة و الحيلة و الشّفاعة.

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذٰاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ مٰا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكٰافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) ثمّ بيّن سبحانه عظمة القرآن بقوله:

وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الرَّجْعِ و صاحبة المطر، كما عن ابن عباس(3) ، إنّما سمّى المطر رجعا لظنّ العرب أنّ السّحاب يحمل الماء من الأرض، ثمّ يرجعه إليها، و يحتمل كون المراد بتوصيف السماء بالرجوع كونها ذات حركة دورية. و قيل: إنّه باعتبار أنّ شمسها و قمرها و نجومها تغيب و تطلع(4).

وَ الْأَرْضِ ذٰاتِ الصَّدْعِ و الانشقاق لنبعان العيون و خروج النباتات.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه، و هو عظمة القرآن بقوله:

إِنَّهُ لَقَوْلٌ و كلام فَصْلٌ و قاطع للمراء و الجدال، و فاصل بين الحقّ و الباطل، و مميّز كلّ منهما عن الآخر، لظهور الاعجاز فيه و كونه كلام اللّه

وَ مٰا هُوَ بِالْهَزْلِ بل كلّه جدّ مطابق للواقع، فحقّه أن يهتدى به و يطرح ما خالفه.

ثمّ ذمّ كفّار مكّة بقوله:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ و يحتالون في إبطاله و إطفاء نوره بإلقاء الشّبهات نسبته إلى الشعر و السحر و الكهانة و الاختلاق كَيْداً بليغا

وَ أَكِيدُ أنا أيضا، و ادبّر في ترويجه و إبطال

ص: 471


1- . تفسير روح البيان 399:10.
2- . مجمع البيان 715:10، تفسير الصافي 314:5.
3- . مجمع البيان 715:10، تفسير الصافي 314:5.
4- . تفسير روح البيان 400:10.

مساعيهم (1)كَيْداً و تدبيرا متينا لا يمكنهم ردّه، و هو نصرة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاء دينه، و إذلال أعدائه

فَمَهِّلِ أنت يا محمد اَلْكٰافِرِينَ المعاندين للحقّ، و لا تستعجل في إهلاكهم و الانتقام منهم.

ثمّ كرّر سبحانه الأمر بإمهالهم مع اختلاف اللفظين لزيادة التسكين من الرسول بقوله: أَمْهِلْهُمْ إمهالا رُوَيْداً و قليلا و على رفق و تؤدة، أمهلهم حال كونك غير مستعجل في الانتقام إلى يوم القيامة، أو إلى موتهم، أو إلى أن يبلغ في الدنيا وقت الانتقام منهم.

عن الصادق عليه السّلام: «من كانت قرأته في الفرائض وَ السَّمٰاءِ وَ الطّٰارِقِ كان له عند اللّه يوم القيامة جاه و منزلة، و كان من رفقاء النبيّين و أصحابهم في الجنّة»(2).

ص: 472


1- . في النسخة: مساعهم.
2- . ثواب الاعمال: 122، مجمع البيان 712:10، تفسير الصافي 315:5.

في تفسير سورة الأعلى

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الطارق المتضمّنة لبيان مبدأ خلق الانسان و المنّة عليه بنعمة إيجاده و بيان عظمة القرآن و كونه فاصلا بين الحقّ و الباطل، المقتضي لتسبيحه و تعظيمه، نظمت سورة الأعلى المبتدئة بأمر النبيّ بتسبيحه و تنزيهه، و بيان خلق الانسان، و المنّة عليه بنعمه هذه تعالى، فافتتحها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتسبيحه بقوله:

سَبِّحِ يا محمد نزّه عن العيوب و النقائص اِسْمَ رَبِّكَ و ما يطلق على ذاته اَلْأَعْلَى و الأرفع من جميع الموجودات شأنا و مقاما و سلطانا، أو أعلى من أن يصفه الواصفون و يذكره الذاكرون.

و قيل: إنّ المراد بالاسم علمه تعالى، و المقصود تنزيه ذاته ببيان أبلغ و آكد، حيث إن من كان اسمه واجب التنزيه و التقديس، كان تنزيه ذاته أوجب و ألزم(1).

و قيل: إن تنزيه اسمه عدم تسمية غيره تعالى به(2) ، و مثل صونه عن الابتذال، و الذكر على وجه التعظيم و الخشوع(3).

و قيل: إنّ المراد من الاسم ذاته(2) ، و قيل: صفته(3) ، و المعنى: نزّه صفته المنبئة عن ذاته المقدسة عن النقائص الإمكانية.

و قيل: إنّ لفظ اسم زائد، و المراد: سبّح ربّك الأعلى(4).

عن الباقر عليه السّلام قال: «إذا قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فقل: سبحان ربّي الأعلى، و إن كنت في الصلاة فقل فيما بينك و بين نفسك»(5).

ص: 473


1- . مجمع البيان 719:10. (2و3) . تفسير الرازي 135:31.
2- . تفسير روح البيان 403:10.
3- . تفسير الرازي 135:31.
4- . تفسير الرازي 136:31.
5- . مجمع البيان 719:10، تفسير الصافي 316:5.

و عن ابن عباس: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربّي الأعلى»(1).

و روى بعض العامة عن عقبة بن عامر: أنّه لمّا نزل قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال [رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]: اجعلوها في سجودكم(2).

و قالوا: روي أنّه عليه السّلام كان يقول في سجوده: «سبحان ربّي الأعلى»(3).

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح الصلاة، و المعنى: صلّ باسم ربّك(2) ، و الظاهر هو الوجه الأول الذي ذكرنا.

اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثٰاءً أَحْوىٰ (3) ثمّ وصف سبحانه ذاته المقدّسة بصفات دالّة على كمال قدرته و حكمته المقتضي لاستحقاق التسبيح بقوله:

اَلَّذِي خَلَقَ الانسان أولا من تراب، ثمّ من نطفة فَسَوّٰى خلقه بأن عدل قامته، أو جعله بحيث يمكنه أن يأتى بجميع الأفعال التي لا يقدر عليها غيره من الموجودات، و منها العبادات.

و قيل: يعني خلق الميزان فسوّى خلقه بأن جعل له أعضاء أو حواسا يتوقّف تعيّشه عليها(5) ، أو خلق كلّ شيء فسوّى خلقه بأن أحكمه و أتقنه(4).

وَ الَّذِي قَدَّرَ كلّ إنسان، أو كلّ شيء بقدر مخصوص يناسبه من الجثّة و العظم و الصغر و اللّون و الشّكل و غيرها من الصفات و مدّة البقاء و السعادة و الشقاوة فَهَدىٰ الانسان بإعطائه العقل و إرسال الرسل إلى خيره و شرّه، أو الحيوان إلى ما به من التناسل و تدبير التعيّش، و جلب ما فيه صلاحه و دفع ما فيه ضرره، أو جميع الموجودات إلى ما به تكامله بجعل القوى المصلحة فيه

وَ الَّذِي أَخْرَجَ و أنبت من الأرض اَلْمَرْعىٰ و الكلأ الاخضر، كما عن ابن عباس (5)

فَجَعَلَهُ بعد طراوته و خضرته غُثٰاءً أَحْوىٰ و يابسا أسود بسبب برودة الهواء و لصوق المكدّرات كالغبار أو ما يحمله السيل من الأجزاء الكدرة.

سَنُقْرِئُكَ فَلاٰ تَنْسىٰ (6) إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اللّٰهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ مٰا يَخْفىٰ (7) وَ نُيَسِّرُكَ

ص: 474


1- . مجمع البيان 719:10، تفسير الصافي 316:5. (2و3) . تفسير الرازي 137:31.
2- . تفسير الرازي 135:31.
3- . تفسير الصافي 316:5، تفسير البيضاوي 589:2، تفسير روح البيان 404:10.
4- . تفسير أبي السعود 143:9، جوامع الجامع: 538.
5- . تفسير الرازي 140:31.

لِلْيُسْرىٰ (8) ثمّ حثّ سبحانه خصوص النبي صلّى اللّه عليه و آله بذكر أكمل نعمه بقوله:

سَنُقْرِئُكَ يا محمد، و نتلو عليك القرآن الذي فيه علوم الأولين و الآخرين، و ما يكون و ما هو كائن، و جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة فَلاٰ تَنْسىٰ شيئا منه أبدا، بل هو باق في حفظك، فلا تخف من نسيانه

إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اللّٰهُ أن تنساه، و لا يشاء ذلك أبدا، و إنّما الفرض من الاستثناء إظهار أنّ بقاءه في حفظه لا يكون إلاّ بمشيئته و فضله عليه لا بقدرة نفسه.

عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه الوحي يقرؤه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرئيل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوله، فلمّا نزلت هذه الآية لم يئس بعد ذلك شيئا(1).

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه مخيّر بين الجبر في القراءة و إخفاته بقوله: إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ الْجَهْرَ إن جهرت بالقراءة وَ يعلم مٰا يَخْفىٰ من قراءتك.

و قيل: إنّ المعنى أنّه عالم بجهرك في القراءة مع جبرائيل، و عالم بالسرّ الذي في قلبك(2).

وَ نُيَسِّرُكَ و نوفّقك لِلْيُسْرىٰ و الطريقة الأسهل في حفظ القرآن، أو للشريعة التي هي أسهل الشرائع. و عن ابن مسعود: اليسرى الجنّة، و المعنى نيسّرك للعمل المؤدّي إليها(3).

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشىٰ (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) اَلَّذِي يَصْلَى النّٰارَ الْكُبْرىٰ (12) ثُمَّ لاٰ يَمُوتُ فِيهٰا وَ لاٰ يَحْيىٰ (13) ثمّ لمّا بيّن سبحانه لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنزول القرآن، أمره بدعوة الخلق إليه بقوله:

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرىٰ و العظة فيهم، و النّكتة في ذكر هذا الشرط مع وجوب العظة عليه نفعت أو لا تنفع، حثّ الناس على الاتّعاظ، و إن كان فيه فائدة إتمام الحجّة.

و قيل: إنّ فائدته تنبيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّ الذكر لا ينفعهم، كأنّه قال: ذكّرهم إن نفعت الذكرى، و لا أرى أن تنفعهم(4).

ثمّ بيّن سبحانه المنتفعين بالعظة بقوله:

سَيَذَّكَّرُ و ينتفع البتة بذكرك و عظتك مَنْ يَخْشىٰ اللّه و الرجوع إليه بعد الموت، و هو الذي لا يقطع بعدم البعث، و لمّا كان القاطع غير معين يجب تعميم العظة.

ص: 475


1- . مجمع البيان 720:10، تفسير الصافي 317:5.
2- . تفسير الرازي 142:31.
3- . تفسير الرازي 143:31.
4- . تفسير الرازي 144:31.

قيل: إنّ الآية نزلت في ابن امّ مكتوم. و قيل: في عثمان(1).

ثمّ بيّن غير المنتفع بقوله:

وَ يَتَجَنَّبُهَا و يحترز منها و لا يسمعها سماع القبول اَلْأَشْقَى و أقسى الناس قلبا و أعداهم للنبي صلّى اللّه عليه و آله، كأبي جهل و الوليد و أضرابهما

اَلَّذِي يَصْلَى و يدخل اَلنّٰارَ الْكُبْرىٰ و الطبقة الأسفل في جهنّم

ثُمَّ لاٰ يَمُوتُ فِيهٰا فيتخلّص من العذاب وَ لاٰ يَحْيىٰ حياة ينتفع بها.

قيل: إنّ نفس كلّ منهم [تصير] في حلقه، فلا تخرج فيموت، و لا ترجع إلى موضعها فيحيى(2).

قيل: إنّ ذكر كلمة ثُمَّ للدلالة على أنّ هذه الحالة أشدّ و أفظع من الصلي، فهو متراخ في مراتب الشدّة(3).

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ (17) إِنَّ هٰذٰا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولىٰ (18) صُحُفِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ (19) ثمّ لمّا ذكر سبحانه حال الأشقى، ذكر حسن حال المتّقي عن الكفر بقوله:

قَدْ أَفْلَحَ و فاز بأعلى المقاصد مَنْ تَزَكّٰى و تطهّر من دنس الكفر عن ابن عباس: معنى تَزَكّٰى أن يقول: لا إله إلاّ اللّه(4)

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ و عرفه بقلبه. و عن ابن عباس: ذكر معاده، و وقوفه بين يدي ربّه (5)فَصَلّٰى قيل:

مراتب أعمال الانسان ثلاثة: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب و هي التزكية، و إنارة القلب بنور معرفة اللّه و هي ذكر الربّ، ثمّ الاشتغال بالعبادة و هو الصلاة(2).

و عن ابن عمر: إن المراد بالتزكّي إخراج صدقة الفطرة(3). و قيل: المراد بالتزكّي المضيّ إلى المصلّى، و بالذكر أن يكبّر في الطريق حين خروجه إلى المصلّى، و بالصلاة [أن يصلّي صلاة] العيد بعد ذلك مع الامام(4).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى قال: «من أخرج الفطرة» قيل له: وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى ؟ قال: خرج إلى الجبّانة فصلّى»(5).

و عنه عليه السّلام: قال لرجل: «ما معنى قوله: وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰى ؟ قال: كلّما ذكر اسم ربّه قام فصلّى.

ص: 476


1- . تفسير الرازي 145:31. (2و3) . تفسير الرازي 146:31. (4و5) . تفسير الرازي 147:31.
2- . تفسير الرازي 147:31، تفسير روح البيان 409:10.
3- . تفسير روح البيان 410:10.
4- . تفسير روح البيان 410:10.
5- . من لا يحضره الفقيه 1378/323:1، تفسير الصافي 317:5.

قال: «لقد كلّف اللّه هذا شططا» قال: فكيف هو؟ فقال: «كلّما ذكر اسم ربّه صلّى على محمّد و آله»(1).

ثمّ كأنّه قيل: لا تفعلون أيّها الكفار ذلك

بَلْ تُؤْثِرُونَ و تختارون اَلْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا و لذّاتها

وَ الحال أنّ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ و أفضل من الدنيا؛ لأن نعمها و لذّاتها أعلى و أخلص من شائبة الآلام و الغوائل وَ أَبْقىٰ و أدوم، بل لا انقطاع لها و لا انصرام

إِنَّ هٰذٰا المذكور من الفلاح بالتزكية، و أن الآخرة خير و أبقى لَفِي الصُّحُفِ الْأُولىٰ و الكتب السابقة المنزلة من السماء، أعني

صُحُفِ إِبْرٰاهِيمَ الخليل وَ صحف مُوسىٰ بن عمران الكليم.

روي أنّ جميع ما أنزل اللّه من كتاب مائة و أربعة كتب، أنزل على آدم عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشر صحائف، و التوراة و الانجيل و الزبور و الفرقان، فصحف موسى هي الألواح التي كتبت فيها التوراة(2). و قيل صحفه كانت قبل التوراة، و هي عشر(3).

و عن (الخصال) عن أبي ذرّ رضوان اللّه عليه: أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم أنزل اللّه من كتاب ؟ قال:

«مائة كتاب و أربعة كتب، أنزل اللّه على شيث خمسين صحيفة، و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة و الإنجيل و الزّبور و الفرقان».

قلت: يا رسول اللّه، ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال: «كانت أمثالا كلّها، و كان فيها: أيّها الملك المبتلى، إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، و لكنّي بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم، فانّي لا اردّها و إن كانت من كافر، و على العاقل ما لم يكن مغلوبا أن يكون له أربعة ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه و ساعة يحاسب فيها نفسه، و ساعة فيها يتفكّر فيما صنع اللّه عزّ و جلّ إليه، و ساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال، فانّ هذه الساعة عون لتلك الساعات».

إلى أن قال: «و على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، فانّ من حسب كلامه من علمه قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه، و على العاقل أن يكون طالبا لثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو تلذّذ في غير محرّم».

قال: قلت: يا رسول اللّه، فما كانت صحف موسى ؟ قال: «كانت عبرا كلّها، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، و لمن أيقن بالنار كيف يضحك، و لمن يرى الدنيا و تقلّبها كيف يطمئنّ إليها، و لمن يؤمن بالقدر كيف ينصب، و لمن يؤمن بالحساب ثمّ لا يعمل» هكذا النسخة.

ص: 477


1- . الكافي 18/359:2، و تفسير الصافي 318:5، عن الامام الرضا عليه السّلام. (2و3) . تفسير روح البيان 411:10.

قال: قلت: فهل في أيدينا ممّا أنزل اللّه عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى ؟ قال: «يا أبا ذر، اقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰى إلى آخر السورة(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما أعطى الأنبياء شيئا إلاّ و قد أعطاه محمدا صلّى اللّه عليه و آله». قال: «و قد أعطى محمدا صلّى اللّه عليه و آله جميع ما أعطى الأنبياء، و عندنا الصّحف التي قال اللّه عزّ و جلّ: صُحُفِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ. قيل: هي الألواح ؟ قال: «نعم»(2).

عن الصادق: «من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في فريضة و نافلة قيل له يوم القيامة: ادخل الجنة من أيّ أبواب الجنّة شئت إن شاء اللّه»(3).

و عنه: «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (4).

ص: 478


1- . الخصال: 13/524، تفسير الصافي 318:5.
2- . الكافي 5/176:1، تفسير الصافي 319:5.
3- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 717:10، تفسير الصافي 319:5.
4- . ثواب الأعمال: 118، مجمع البيان 427:10، تفسير الصافي 319:5.

في تفسير سورة الغاشية

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خٰاشِعَةٌ (2) عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ (3) تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً (4) تُسْقىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعٰامٌ إِلاّٰ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لاٰ يُسْمِنُ وَ لاٰ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) ثمّ لمّا ختمت سورة الأعلى المختتمة بذمّ الكفّار بإيثار الدنيا على الآخرة مع كون الآخرة خير و أبقى من الدنيا، نظمت سورة الغاشية المتضمّنة لبيان أحوال الآخرة، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر أهوال القيامة بقوله:

هَلْ أَتٰاكَ يا محمد حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ و خبر القيامة التي تكون داهية تغشي الناس بشدائدها و تغطّيهم و تحيط بهم أهوالها، فانّه من عجائب الأخبار و بدائع الآثار التي حقّها أن يبادر إلى سماعها العقلاء، و يشتاق إلى تلقّيها الأزكياء(1) و في رواية: «الذين يخشون الإمام»(2).

ثمّ كأنه قيل: ما خبرها و كيف هي ؟ فأجاب سبحانه بقوله:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت أصحابها خٰاشِعَةٌ ذليلة قد عراهم الخزي و الهوان؛ لأنّهم تكبّروا عن طاعة اللّه و رسوله

عٰامِلَةٌ و متحمّلة للمشاقّ، كالعبور على الصراط، و جرّ السلاسل و الأغلال نٰاصِبَةٌ و تعبة لطول الوقوف عراة حفاة جياعا عطاشا، أو لثقل السلاسل التي ذرعها سبعون ذراعا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّ ناصب - و إن تعبّد و اجتهد - منسوب إلى هذه الآية عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا يبالى الناصب صلّى أم زنا، و هذه الآية نزلت فيهم: عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ» (4).

أقول: هذه الروايات تأويل لا تنزيل.

ص: 479


1- . في النسخة: سماعة العقلاء، و يشتاق إلى تلقية الأزكياء.
2- . الكافي 201/179:8، تفسير الصافي 321:5.
3- . الكافي 259/213:8، تفسير الصافي 321:5.
4- . الكافي 162/160:8، تفسير الصافي 321:5.

ثمّ بعد ذلك

تَصْلىٰ و تدخل نٰاراً حٰامِيَةً و بالغة أعلى درجة الشدّة في الحرارة

تُسْقىٰ تلك الوجوه و أصحابها بعد استغاثتهم في مدّة طويلة من شدّة العطش مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ و متناهية في الحرارة.

قيل: لو وقعت قطرة منها على جبال الدنيا لذابت، و إذا ادنيت من وجوههم تناثرت لحومها، و إذا شربوا قطعت أمعاءهم(1).

لَيْسَ لَهُمْ طَعٰامٌ إِلاّٰ مِنْ ضَرِيعٍ و شوك يابس فيه سمّ قاتل، كما قيل(2).

و عن ابن عباس: الضريع شيء في النار يشبه الشوك، أمر من الصبر، و أنتن من الجيفة، و أشدّ حرّا من النار(3).

أقول: الظاهر أن المراد نار الدنيا.

قيل: هذا طعام بعض أهل النار، و الزقّوم و الغسلين طعام آخرين(2).

عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآيات هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ قال: «يغشاهم القائم عليه السّلام بالسيف خٰاشِعَةٌ لا تطيق الامتناع عٰامِلَةٌ قال: عملت بغير ما أنزل اللّه نٰاصِبَةٌ قال نصبت غير ولاة أمر اللّه تَصْلىٰ نٰاراً الحرب في الدنيا على عهد القائم، و في الآخرة نار جهنم»(3).

ثمّ روي أنّ كفار قريش قالوا استهزاء: إنّ الضريع ليسمن إبلنا(4) ، فنزلت

لاٰ يُسْمِنُ الضريع آكله، لأنّه يصير جزء بدنه وَ لاٰ يُغْنِي و لا يكفي مِنْ جُوعٍ لأنّه ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، إذ ليس فيه منافع الغذاء، بل أكله عذاب فوق العذاب.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهٰا رٰاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ (10) لاٰ تَسْمَعُ فِيهٰا لاٰغِيَةً (11) فِيهٰا عَيْنٌ جٰارِيَةٌ (12) فِيهٰا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوٰابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَ نَمٰارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرٰابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال الكفّار في الآخرة، بيّن حسن حال المؤمنين فيها بقوله:

وُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ و مبتهجة و حسنة مضيئة، أو متنعّمة بالنّعم الجسمانية و الروحانية

لِسَعْيِهٰا و عملها في الدنيا رٰاضِيَةٌ لرضائها بثمراتها و ثوابها متمكّنة

فِي جَنَّةٍ عٰالِيَةٍ و مرتفعة فوق السماوات، أو عالية المقدار لكمال شرفها و ما فيها من النّعم

لاٰ تَسْمَعُ تلك الوجوه فِيهٰا كلمة

ص: 480


1- . تفسير روح البيان 413:10. (2و3) . تفسير روح البيان 413:10.
2- . تفسير الرازي 153:31.
3- . الكافي 13/50:8، تفسير الصافي 321:5.
4- . تفسير الرازي 153:31.

لاٰغِيَةً لا فائدة فيها و لا اعتداد بها، إذ هي ما تؤذي السمع

فِيهٰا عَيْنٌ كثيرة مياهها جٰارِيَةٌ دائما. قيل: هي أشدّ بياضا من اللبن، و أحلى من العسل، من شرب منها لا يظمأ بعدها أبدا (1)

فِيهٰا سُرُرٌ ألواحها - كما عن ابن عباس - من ذهب مكلّلة بالدرّ و الياقوت و الزّبرجد (2)مَرْفُوعَةٌ السّمك عالية في الهواء، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: ارتفاعها كما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام(3).

قيل: إذا جاء وليّ اللّه ليجلس عليها تطامنت له، فاذا استوى عليها ارتفعت(4) ، فيرى جميع ما أعطاه ربّه في الجنّة من النّعم الكثيرة و الملك العظيم.

وَ فيها أَكْوٰابٌ و أواني لا عرى لها مَوْضُوعَةٌ بين أيدي المؤمنين يشربون منها، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها، و لا ينافي أن يكون بعض أواني الشّرب بيد الغلمان

وَ فيها نَمٰارِقُ و وسائد مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، كما تشاهد في بيوت الأكابر، يستندون إليها للاستراحة

وَ فيها زَرٰابِيُّ و بسط فاخرة مَبْثُوثَةٌ و مبسوطة على السّرر زينة و تمتّعا أو مفرّقة في المجالس.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام «[لو لا] أنّ اللّه قدّرها لا لتمعت(3) أبصارهم بما يرون»(4).

أَ فَلاٰ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّمٰاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبٰالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) ثمّ لمّا كان حسن حال المؤمنين موقوفا على معرفة اللّه و الايمان بالمعاد، أمر الناس بالتفكّر في صنائعه العجيبة، ليستدلّوا بها على كمال قدرته و حكمته المستلزمين لتوحيده و إعادة الخلق للجزاء على الأعمال بقوله:

أَ فَلاٰ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ و لا يتفكّرون أنّها كَيْفَ خُلِقَتْ قيل: إنّ التقدير:

أ ينكرون ما ذكر من البعث و يستبعدون وقوعه عن قدرة اللّه ؟! أ فلا ينظرون نظر الاعتبار إلى الإبل التي نصب أعينهم، يستعملونها كلّ حين، أنّها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق سائر الحيوانات في عظم جثّتها، و شدّة قوّتها، و عجيب هيئتها اللائقة بتأتّي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقّة، كالنهوض من الأرض بالأوقار الثقيلة، و جرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، و في صبرها على الجوع و العطش، حتى أن ظمأها يبلغ العشر فصاعدا، و اكتفائها باليسير، و رعيها لكلّ ما يتيسر من شوك و شجر، و غير ذلك ممّا لا يكاد يرعاه سائر البهائم، و في انقيادها مع ذلك للانسان في الحركة

ص: 481


1- . تفسير روح البيان 415:10.
2- . تفسير الرازي 155:31. (3و4) . تفسير روح البيان 415:10.
3- . في النسخة: لتمتعت.
4- . مجمع البيان 727:10، تفسير الصافي 322:5.

و السكون و البروك و النهوض، حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء و يقتادها بقطارها كلّ صغير و كبير، كما قال أبو السعود(1).

و تبول من خلفها، لأنّ قائدها أمامها، فلا يترشّش عليه بولها، و عنقها سلّم إليها، و تتأثر من المودّة و الغرام و تسكر منهما إلى حيث تنقطع من الأكل و الشرب زمانا ممتدّا، و تتأثّر من الأصوات الحسنة و الحداء، و تصير من كمال التأثّر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري، و يجري الدمع من عينها عشقا و غراما، هذا مع ما لها من المنافع من جهة و برها و لحمها و لبنها و بولها و روثها، و الجمال الذي يكون فيها، و لمّا كان العرب أعرف من سائر الناس بها، أمرهم بالتفكّر فيها، و الاستدلال بعجيب خلقتها على صانعها و حكمته الموجبة للبعث.

قيل: لمّا كانت مسافرة الأعراب على الإبل منفردين(2) و كان مجال التفكّر في الخلوة التي لا شاغل فيها، و هي لهم على ظهر الإبل، و هم حينئذ لا يرون إلاّ الإبل و السماء و الأرض و الجبال، أمرهم أولا بالتفكّر في خلق الإبل(3) ، ثمّ في السماء بقوله:

وَ إِلَى السَّمٰاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ مع عظمها رفعا بعيدا بلا عمد

وَ إِلَى الْجِبٰالِ العظام كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض نصبا ثابتا لا تسيل و لا تزول أوتادا لها

وَ إِلَى الْأَرْضِ البسيطة كَيْفَ سُطِحَتْ و بسطت كالأديم للضرب فيها و التقلّب عليها، فمن تفكّر في هذه الأشياء علم بكمال قدرة خالقها و حكمته و توحيده، و تيقّن بوقوع ما وعده من البعث الذي هو موافق للحكمة البالغة.

فَذَكِّرْ إِنَّمٰا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاّٰ مَنْ تَوَلّٰى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللّٰهُ الْعَذٰابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنٰا إِيٰابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ (26) فلمّا شرحنا الدلائل القاطعة على التوحيد و البعث

فَذَكِّرْ يا محمد قومك، و أمرهم بالنظر و التفكّر و الايمان، و حذّرهم عن تركها، و ليس عليك أن يتذكّروا أو لا يتفكّروا إِنَّمٰا أَنْتَ مُذَكِّرٌ و مبعوث إلى الناس للتبليغ و التذكير

لَسْتَ عَلَيْهِمْ من قبل ربّك بِمُصَيْطِرٍ و مسلّط حتى تقتلهم أو تكرههم على النظر و الايمان

إِلاّٰ مَنْ تَوَلّٰى و أعرض عنك و عن تذكارك وَ كَفَرَ و أصرّ على عنادك.

قيل: إنّ التقدير فذكّر قومك إلاّ من تولّى و كفر منهم فانّه ليس عليك تذكيره لعدم الفائدة فيه(4).

ص: 482


1- . تفسير أبي السعود 150:9، تفسير روح البيان 416:10.
2- . في النسخة: منفردا.
3- . تفسير روح البيان 417:10.
4- . تفسير روح البيان 418:10.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع(1) ، و المعنى: و لكن من تولّى و كفر (2)

فَيُعَذِّبُهُ اللّٰهُ يوم القيامة اَلْعَذٰابَ الْأَكْبَرَ في نار جهنّم التي حرّها شديد، و قعرها بعيد، و مقامعها حديد، فانّه تعالى قاهر و مسيطر عليهم. و اعلم أنّهم لا يفوتوننا و لا يخرجون من ملكنا و من تحت قدرتنا

إِنَّ إِلَيْنٰا بعد الموت إِيٰابَهُمْ و رجوعهم من الدنيا لا إلى غيرنا.

ثُمَّ بعد رجوعهم إلينا إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ في المحشر نحاسبهم على النّقير و القطمير من عقائدهم و أعمالهم، و فيه تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة و جمع اللّه الأولين و الآخرين لفصل القضاء، دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعا أمير المؤمنين عليه السّلام، فيكسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلّة خضراء تضيء ما بين المشرق و المغرب، و يكسى عليّ مثلها، و يكسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلّة وردية يضيء لها ما بين المشرق و المغرب، و يكسى عليّ عليه السّلام مثلها، ثمّ يصعدان عندها، ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس، فنحن و اللّه ندخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار»(3).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «إلينا إياب الخلق، و علينا حسابهم، فما كان لهم من ذنب بينهم و بين اللّه حتمنا على اللّه في تركه لنا فأجابنا إلى ذلك، و ما كان بينهم و بين الناس استوهبناه منهم و أجابوا إلى ذلك و عوّضهم اللّه عزّ و جلّ»(4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا كان يوم القيامة وكّلنا اللّه بحساب شيعتنا، فما كان للّه سألنا اللّه أن يهبه لنا فهو لهم، و ما كان لنا فهو لهم»(5).

عن الصادق: «من أدمن قراءة هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ الْغٰاشِيَةِ في فريضة أو نافلة، غشّاه اللّه برحمته في الدنيا، آتاه الأمن من عذاب النار»(6).

ص: 483


1- . تفسير الرازي 159:31، تفسير روح البيان 418:10.
2- . تفسير روح البيان 418:10.
3- . الكافي 154/159:9، تفسير الصافي 323:5.
4- . الكافي 167/162:8، تفسير الصافي 323:5.
5- . أمالى الطوسي: 911/406، تفسير الصافي 323:5.
6- . ثواب الأعمال: 122، مجمع البيان 723:10، تفسير الصافي 323:5.

ص: 484

في تفسير سورة الفجر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيٰالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الغاشية المتضمّنة لبيان عظمة يوم القيامة و شدّة عذاب الكفّار فيه، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتذكير الناس و عدم تذكّر المصرّين على الكفر، و وعيدهم بالعذاب الأكبر، و إيابهم في القيامة إليه نظمت سورة الفجر المتضمّنة لوعيد الكفّار بما نزل على الامم السابقة من العذاب الدنيوي، و تذكّرهم في يوم لا ينفعهم التذكّر فيه، و إرعاب قلوبهم ببيان بعض أهوال القيامة، و بيان إياب النفوس المطمئنّة إليه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بما فيه كمال الشرف لدلالته على كمال قدرته جريا على عادة العرب على ما قيل من إكثار القسم على مقاصدهم(1) بقوله:

وَ الْفَجْرِ و طلوع نور الشمس من افق المشرق المسمّى بالصبح الصادق، كما عن ابن عباس(2) ، قبالا للكاذب، و هو ظهور بياض مستطيل بالافق كذنب السّرحان، فانّ بطلوع الصبح الصادق انقضاء الليل، و ظهور الضوء، و انتشار الناس و الحيوانات في طلب الرزق، كنشور الموتى في القيامة للحساب و جزاء الأعمال.

و قيل: إن المراد جميع النهار(3). و قيل: إنّ المراد صلاة الفجر؛ لأنّها في أوّل النهار، و في مشهد ملائكة الليل و النهار(4). و قيل: فجر يوم النّحر(5) الذي هو يوم عظيم عند اللّه و عند العرب. و قيل: إنّ المراد به فجر أول المحرّم الذي قيل إنّه أعظم الشهور عند اللّه، و عن ابن عباس، قال: فجر السّنة هو محرّم(6).

و قيل: عنى به العيون التي ينفجر منها المياه، و فيها حياة الخلق(7). و قيل: إنّه فجر ذي الحجّة لقوله تعالى بعده:

وَ لَيٰالٍ عَشْرٍ (8) من ذي الحجّة، فإنّها ليال مخصوصة بفضائل لا تكون في غيرها، كما دلّ

ص: 485


1- . تفسير روح البيان 420:10. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 161:31. (6-7-8) . تفسير الرازي 162:31.

عليه تنكيرها.

و في الخبر: ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر(1).

و في الحديث: «ما من أيّام أزكى عند اللّه و لا أعظم أجرا من خير عمل في عشر الأضحى» قيل: يا رسول اللّه، و لا المجاهد في سبيل اللّه ؟ [قال: «لا و لا المجاهد في سبيل اللّه] إلاّ رجل خرج بنفسه و ماله و لم يرجع من ذلك بشيء»(2).

و قيل: إنّها العشر الأول من المحرّم(3) ، و قيل: إنّها العشر الآخر من شهر رمضان(4). روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا دخل العشر الآخر من رمضان شدّ المئزر و أيقظ أهله(5).

وَ الشَّفْعِ و الزوج من الصلوات وَ الْوَتْرِ و الفرد منها. عن عمران بن الحصين، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «هي الصلوات، منها شفع، و منها وتر» قيل: لأنّ الصلاة تالية القرآن»(6).

و عن القمّي قال: الشفع ركعتان، و الوتر ركعة(7). أقول: الظاهر أنّ المراد ثلاث ركعات بعد نوافل الليل.

و قيل: الشّفع: سجدتان، و الوتر: الركوع(8).

و قيل: الشفع: يوم النحر، و الوتر: يوم عرفة(9). و قيل: الشفع: يومان بعد يوم النحر، و الوتر: اليوم الثالث(10). و عنهما عليهما السّلام: «الشفع [يوم التروية، و الوتر] يوم عرفة»(9).

و قيل: الشّفع: جميع الممكنات لأنّها زوج تركيبي، و الوتر: الواجب الوجود(12).

و قيل: الشّفع: آدم و حوّاء، و الوتر: هو اللّه تعالى(13).

و قيل: إن شيئا من المخلوقات لا ينفكّ عن كونه زوجا أو فردا، فأقسم سبحانه بجميع الموجودات(14).

و قيل: الشّفع: أبواب الجنّة أو درجاتها، و هي ثمانية، و الوتر: أبواب النار و دركاتها، و هي سبعة(10).

و عن مقاتل الشّفع: هو الأيام التي لها ليال، و الوتر: اليوم الذي لا ليل له، و هو يوم القيامة(11). و قيل وجوه أخر كلّها على الظاهر من التفسير بالرأي.

ص: 486


1- . تفسير الرازي 162:31.
2- . تفسير روح البيان 420:10.
3- . تفسير الرازي 162:31.
4- . تفسير الرازي 162:31، تفسير روح البيان 420:10.
5- . تفسير الرازي 162:31، و في النسخة: و القيظ.
6- . تفسير الرازي 163:31، و فيه: تالية للايمان.
7- . تفسير القمي 419:2، تفسير الصافي 324:5.
8- . تفسير الرازي 164:31. (9و10) . تفسير الرازي 162:31.
9- . مجمع البيان 736:10، تفسير الصافي 324:5. (12-13-14) . تفسير الرازي 163:31.
10- . تفسير الرازي 164:31.
11- . تفسير الرازي 163:31.

وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَسْرِ و يمضي و ينقضي. و قيل: يعني إذا جاء و أقبل(1) ، و عن القمي: هو ليلة جمع(2).

ثمّ أظهر سبحانه فخامة هذه الأشياء التي أقسم بها بقوله:

هَلْ فِي ذٰلِكَ المذكور من الأشياء الجليلة الحقيقة بالإعظام قَسَمٌ معتدّ به موجب للاعتماد عليه لِذِي حِجْرٍ و صاحب عقل منوّر و فكر صائب و إدراك قويّ، و المقسم عليه مقدّر معلوم و هو: ليعذّبن الكفّار.

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعٰادٍ (6) إِرَمَ ذٰاتِ الْعِمٰادِ (3) اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهٰا فِي الْبِلاٰدِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جٰابُوا الصَّخْرَ بِالْوٰادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتٰادِ (10) ثمّ استشهد سبحانه بما فعل بالامم المكذّبة بقوله:

أَ لَمْ تَرَ يا محمد حينما كنت في عالم الأشباح مطّلعا على الوقائع في العالم، أو المعنى: أ لم تعلم بالوحي كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعٰادٍ قوم هود، و بأيّ عذاب شديد عذّبهم ؟ أعني من عاد؟

إِرَمَ قيل: إنّه اسم لعاد الاولى، سمّوا باسم جدّهم، و هو إرم بن سام بن نوح(4). و التقدير: سبط إرم، أو أهل إرم، على ما قيل(4) ، من أنّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا يسكنونها، و هي على ما قيل بين عمان و حضر موت(5) ، و على أي تقدير كانوا قبيلة.

ذٰاتِ الْعِمٰادِ و قدود طوال تشبيها لقاماتهم بالأعمدة و الأساطين

اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ نظير تلك القبيلة و مِثْلُهٰا في القوّة و عظم الجسم و طول القامة فِي الْبِلاٰدِ التي على وجه الأرض.

و قيل: إنّ الوصفين لمدينتهم التي بناها شدّاد بن عاد(6) ، و قد وصفوها بأوصاف تقرع الأسماع. روي أنّ لعاد ابنين: شديد، و شدّاد، فملكا و قهرا، ثمّ مات شديد، و خلص الأمر لشدّاد، فملك جميع الدنيا، و دانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة، و كان عمره تسعمائة سنة، و هي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب و الفضّة، و أساطينها من الزّبرجد و الياقوت، و فيها أصناف الأشجار و الأنهار، فلمّا ثمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلمّا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا(7) ، ثمّ غاب البلد عن أعين الناس جميعا.

وَ ثَمُودَ و هم قوم صالح اَلَّذِينَ جٰابُوا و قطعوا اَلصَّخْرَ و الحجر الشديد الصلابة بقوتهم

ص: 487


1- . تفسير الرازي 164:31.
2- . تفسير القمي 419:2، تفسير الصافي 324:5، و جمع: هو المزدلفة، سمّي جمعا لاجتماع الناس فيه.
3- . تفسير الرازي 167:31، تفسير أبي السعود 154:9.
4- . تفسير الرازي 166:31، تفسير روح البيان 422:10 و 423. (4-5-6) . تفسير روح البيان 423:10.

بِالْوٰادِ و المنفرج بين الجبلين. قيل: هو وادي القرى بالقرب من المدينة من جهة الشام(1).

عن ابن عباس: أنّهم كانوا يجعلون من الصخور بيوتا و أحواضا و ما أرادوا من الأبنية(2).

قيل: أول من تحت الجبال و الصخور و الرّخام ثمود، و بنوا ألفا و سبعمائة مدينة كلّها من الحجارة(3).

وَ أ لم تر كيف عذّب اللّه فِرْعَوْنَ ملك مصر، و كان ملقّبا بلقب ذِي الْأَوْتٰادِ و قيل: لكثرة جنوده و خيامهم التي يضربونها في منازلهم و يربطونها بالأوتاد(4).

و عن ابن عباس: أنّ فرعون إنّما سمّي ذي الأوتاد لأنّ امرأة خازنة كانت ماشطة بنت فرعون، إذ سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر باللّه تعالى: فقالت ابنة فرعون: و هل لك إله غير أبي ؟ فقالت: إلهي و إله أبيك و اله السماوات و الأرض واحد لا شريك له. فقامت و دخلت على أبيها و هي تبكي فقال: ما يبكيك ؟ قالت: إنّ الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهها و إلهك و إله السماوات و الأرض واحد لا شريك له، فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها: ويحك اكفري بإلهك. قالت: لا أفعل، فمدّها بين أربعة أوتاد، ثمّ أرسل إليها الحيات و العقارب، و قال: اكفري باللّه و إلاّ عذّبتك بهذا العذاب شهرين. فقالت: لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت به. و كانت لها بنتان، فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، و قال لها: اكفري بإلهك و إلاّ ذبحت الصغرى على فيك أيضا، و كانت رضيعة، فقالت: لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت باللّه. فأتى بابنتها، فلمّا اضجعت على صدرها و أرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق اللّه لسان ابنتها فتكلّمت، و هي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالا، و قالت: يا امّاه لا تجزعي، فانّ اللّه قد بنى لك بيتا في الجنة، اصبري فانّك تفيضين إلى رحمة اللّه تعالى و كرامته. فذبحت فلم تلبث أن ماتت و أسكنها اللّه في جوار رحمته(5).

اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاٰدِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسٰادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذٰابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصٰادِ (14) ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم العذاب بقوله: اولئك الطوائف و الامم

اَلَّذِينَ طَغَوْا على اللّه فِي الْبِلاٰدِ فانّ عاد طغوا في بلاد اليمن، و ثمود في بلاد الشام، و فرعون في بلاد مصر

فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسٰادَ بالكفر و العصيان و الظلم على العباد

فَصَبَّ اللّه و أراق عَلَيْهِمْ من فوقهم رَبُّكَ سَوْطَ عَذٰابٍ شديد، و إنّما عبّر عن عذابهم بالسوط تنبيها على أنّ نسبته إلى عذاب الآخرة كنسبة

ص: 488


1- . تفسير روح البيان 425:10.
2- . تفسير الرازي 167:31.
3- . تفسير الرازي 167:31.
4- . تفسير روح البيان 425:10.
5- . تفسير روح البيان 425:10.

السوط إلى السيف.

و قيل: لمّا كان الضرب بالسوط عند العرب أشدّ العذاب عبّروا عن العذاب بالسوط، و التعبير عن إنزاله بالصبّ للإيذان بكثرته و تتابعه و استمراره(1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مراقب لأعمال عباده بقوله:

إِنَّ رَبَّكَ يا محمد لَبِالْمِرْصٰادِ و في المكان الذي تترقّب فيه السائلة ليظفر بالجائي و لأخذ المقصّر بحيث لا يفوته أحد، فيعاقب قومك على طغيانهم و عصيانهم كما عاقب غيرهم من الامم المكذّبة للرسل.

فَأَمَّا الْإِنْسٰانُ إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمّٰا إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهٰانَنِ (16) كَلاّٰ بَلْ لاٰ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لاٰ تَحَاضُّونَ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ (18) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كونه مراقبا لأعمال العباد و مجازاتهم، بيّن عدم اعتناء الانسان بذلك، لانهماكه بلذائذ الدنيا بقوله:

فَأَمَّا الْإِنْسٰانُ فهو غافل عن ذلك و لذا إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ رَبُّهُ و امتحنه فَأَكْرَمَهُ بالجاه و الثروة وَ نَعَّمَهُ و وسّع عليه في رزقه، ليظهر أنّه شاكر أو كافر فَيَقُولُ مفتخرا: رَبِّي أَكْرَمَنِ و فضّلني على غيري بالمال و الجاه، و يغترّ بذلك، و لا يخطر بباله أنّه امتحان و ابتلاء

وَ أَمّٰا إِذٰا مَا ابْتَلاٰهُ بالفقر فَقَدَرَ و ضيق عَلَيْهِ رِزْقَهُ ليظهر أنّه صابر أو جزوع فَيَقُولُ تضجّرا:

رَبِّي أَهٰانَنِ و أذلني بالفقر، و لا يخطر بباله أنّه امتحان.

و على أيّ تقدير ليس له توجّه إلى الآخرة، و لا يلتفت إلى أنّ إقبال الدنيا ليس إكراما من اللّه، و إدبارها ليس إهانة من اللّه، لذا ردع الانسان عن توهّماته بقوله:

كَلاّٰ ليس ما يقول في الحالين حقّا و صوابا.

ثمّ التفت سبحانه إلى خطاب الكفّار تشديدا لتقريعهم ببيان سوء أفعالهم بعد بيان سوء أقوالهم بقوله: بَلْ لاٰ تُكْرِمُونَ أيّها الأشقياء اَلْيَتِيمَ الذي يجب إكرامه بالرعاية و إعطاء النفقة

وَ لاٰ تَحَاضُّونَ و لا تحرّضون غيركم عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ لشدّة بخلكم فضلا عن أنّ تطعموه من أموالكم.

قيل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر امية بن خلف، فكان يدفعه عن حقّه، فنزلت الآيات(2).

ص: 489


1- . تفسير روح البيان 426:10.
2- . تفسير الرازي 171:31، تفسير روح البيان 429:10.

و عن ابن عباس: أنّها نزلت في عتبة بن ربيعة و أبي حذيفة بن المغيرة(1).

وَ تَأْكُلُونَ التُّرٰاثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَ تُحِبُّونَ الْمٰالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاّٰ إِذٰا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جٰاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسٰانُ وَ أَنّٰى لَهُ الذِّكْرىٰ (23) يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيٰاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاٰ يُعَذِّبُ عَذٰابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لاٰ يُوثِقُ وَثٰاقَهُ أَحَدٌ (26) ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله:

وَ تَأْكُلُونَ التُّرٰاثَ و تتصرّفون في الميراث، الذي لليتامى، أو في ميراث مورثكم أَكْلاً و تصرّفا لَمًّا و جامعا بين الحلال من إرثكم و الحرام الذي هو حقّ اليتامى، أو بين الحلال و الحرام

وَ تُحِبُّونَ الْمٰالَ و الأمتعة الدنيوية حُبًّا جَمًّا و كثيرا، و تحرصون على جمعه و حفظه حرصا شديدا، و تغفلون عن الموت و الآخرة.

كَلاّٰ لا ينبغي أن تكونوا بهذه الدرجة من الغفلة عن الآخرة، و اذكروا أهوال يوم القيامة إِذٰا دُكَّتِ الْأَرْضُ و دقّت بالزلازل دَكًّا هائلا و دَكًّا متتابعا حتى تكون هباء منبعثا، فلا يبقى عليها جبل و لا تلّ فضلا عن الأبنية و العمارات

وَ جٰاءَ رَبُّكَ و ظهر قهره، أو صدر أمره بالمحاسبة و المجازاة، أو ظهرت آثار قدرته و مهابة سلطانه. وَ جاء اَلْمَلَكُ في العرصات من كلّ سماء، و يقومون حول المحشر حال كونهم صَفًّا طويلا و صَفًّا آخر بعد ذلك الصفّ. قيل: تكون صفوفهم سبعة على عدد السماوات (2)

وَ جِيءَ بتوسّط الملائكة الغلاظ الشداد يَوْمَئِذٍ و حين ظهور سلطان اللّه و قهره بِجَهَنَّمَ في مرأى الخلق.

عن ابن مسعود، قال: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام، معه سبعون ألف ملك، يجرّونها حتى تنصب عن يسار العرش، لها تغيّظ و زفير، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، و يجثو كلّ نبي و وليّ من الهول و الهيبة على ركبتيه، و يقول: نفسي، حتّى يعترض لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقول: «امّتي امّتي» فتقول النار: ما لي و لك يا محمد، لقد حرّم اللّه لحمك عليّ(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ سئل عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أخبرني الرّوح الأمين أن(4) اللّه لا إله غيره إذا برز الخلائق و جمع الأولين و الآخرين، أتى بجهنّم تقاد بألف زمام، أخذ بكلّ زمام مائة ألف تقودها من الغلاظ الشّداد، لها هدّة و غضب و زفير و شهيق،

ص: 490


1- . تفسير الرازي 170:31.
2- . تفسير روح البيان 430:10.
3- . تفسير روح البيان 430:10.
4- . في النسخة: قال.

و إنّها لتزفر زفرة، فلو لا أنّ اللّه أخّرهم للحساب لأهلكت الجمع، ثمّ يخرج منها عنق فتحيط بالخلائق البرّ منهم و الفاجر، ما خلق اللّه عبدا من عباد اللّه ملكا و لا نبيا إلاّ ينادي: نفسي نفسي، و أنت يا نبي اللّه تنادي: امّتي امّتي، ثمّ يوضع عليها الصّراط أدقّ من الشّعر، و أحد من حدّ السيف، عليه ثلاث قناطر، فأمّا واحدة فعليها الأمانة و الرّحم، و الثانية فعليها الصلاة، و الثالثة فعليها ربّ العالمين لا إليه غيره، فيكلّفون الممرّ عليها، فيحبسهم الرّحم و الأمانة فان نجوا منهما حبستهم الصلاة، فان نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين، و هو قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصٰادِ و الناس على الصّراط، فمتعلّق بيد و تزلّ قدم و يستمسك بقدم، و الملائكة حولها ينادون: يا حليم اعف و صفح وعد بفضلك و سلّم، و الناس يتهافتون في النار كالفراش فيها، فاذا نجا ناج فبرحمة اللّه مرّ بها فقال: الحمد للّه و بنعمته تتمّ الصالحات و تزكو الحسنات، و الحمد للّه الذي أنجاني منك بعد إياس بمنّة و فضله، إنّ ربي لغفور شكور»(1).

يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ و يتّعظ و يندم اَلْإِنْسٰانُ على ما فرّط في جنب اللّه وَ أَنّٰى لَهُ الذِّكْرىٰ و أي نفع له في الاتّعاظ و النّدم بعد فوات أوانه ؟ و

يَقُولُ تندّما و تحسّرا يٰا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ و أتيت بطاعة اللّه و رسله، و عملت بما كلّفت به من قبلهم لِحَيٰاتِي هذه و يوم بعثي هذا أو في وقت حياتي في الدنيا أعمالا تنجيني اليوم من العذاب.

فَيَوْمَئِذٍ و حين انتقام اللّه من العصاة لاٰ يُعَذِّبُ عَذٰابَهُ أَحَدٌ فان شدّة عذابه فوق ما يتصوّر

وَ لاٰ يُوثِقُ وَثٰاقَهُ و لا يشدّ بالعمل و الأغلال مثل شدّة أَحَدٌ فانّ شدّه بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا.

يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبٰادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30) ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال النفوس الشقيّة الأمّارة بالسوء، ذكر حال النفوس الطيّبة الزكيّة و سعادتها بقوله:

يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ بذكر اللّه الساكنة في جوار رحمة اللّه

اِرْجِعِي إِلىٰ ما أعدّ لك من كرامة رَبِّكِ الكريم و ثوابه العظيم حال كونك رٰاضِيَةً بما أعدّ اللّه لك من الجنّة و القصور العالية و النّعم الباقية مَرْضِيَّةً عند اللّه

فَادْخُلِي فِي زمرة عِبٰادِي الصالحين المخلصين

وَ ادْخُلِي معهم في جَنَّتِي.

قيل: إذا أراد اللّه قبضها اطمأنّت إلى اللّه، و رضيت عن اللّه، و رضي اللّه عنها(2).

ص: 491


1- . تفسير القمي 421:2، تفسير الصافي 326:5.
2- . تفسير روح البيان 432:10.

و عن ابن عمر قال: إذا توفّي العبد المؤمن أرسل اللّه ملكين، و أرسل إليه تحفة من الجنة فيقال لها:

اخرجي أيّتها النفس المطمئنة إلى روح و ريحان و ربّ عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، و الملك على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة و نسمة طيبة، فلا تمرّ بباب إلاّ فتح لها، و لا بملك إلاّ صلّى عليها، حتّى يؤتى بها إلى الرحمن، ثمّ يقال لميكائيل: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين.

ثمّ يؤمر فيوسّع عليه قبره سبعون ذراعا [عرضه، سبعون ذراعا] طوله، و ينبذ له فيه الريحان، فان كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، و إن لم يكن جعل له نور مثل نور الشمس في قبره، فيكون مثله مثل العروس ينام و لا يوقظه إلاّ أحبّ أهله(1).

و عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير مثله و على خلقته، فدخل نعشه، ثمّ لم ير خارجا منه فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير قبره لا يرى من تلاها:

يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (2) .

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: هل يكره المؤمن على قبض روحه ؟ قال: «لا و اللّه، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع لذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليّ اللّه لا تجزع، فو الذي بعث محمدا لأنا أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر، فيمثّل [له] رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة عليهم السّلام رفقاؤك، فيفتح عينيه فينظر، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد و أهل بيته، ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضية بالثواب، فادخلي في عبادي يعني محمدا و أهل بيته - و ادخلي جنّتي. فما من شيء أحبّ إليه من استلال روحه و اللّحوق بالمنادي»(3).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «يعني الحسين بن على عليهما السّلام»(4).

و عنه عليه السّلام: «اقرءوا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم، فانّها سورة الحسين بن على عليهما السّلام، من قرأها كان مع الحسين عليه السّلام يوم القيامة في درجته من الجنة»(5).

و منّ اللّه علينا بالتوفيق لتلاوتها، كما منّ لاتمام تفسيرها.

ص: 492


1- . تفسير روح البيان 432:10.
2- . تفسير روح البيان 432:10.
3- . الكافي 2/127:3، تفسير الصافي 328:5.
4- . تفسير القمي 422:2، تفسير الصافي 328:5.
5- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 730:10، تفسير الصافي 328:5.

في تفسير سورة البلد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهٰذَا الْبَلَدِ (2) وَ وٰالِدٍ وَ مٰا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ (4) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الفجر المتضمّنة للّوم على الحرص على من جمع مال الدنيا و ترك الاحسان إلى اليتيم و المسكين، اردفت سورة البلد المتضمّنة للّوم عليهما، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأ بالحلف بمكّة المشرّفة بقوله:

لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ الحرام. قيل: إنّ حرف لا زائدة جيء بها لتأكيد القسم، فانّ العرب تقول: لا و اللّه ما فعلت، أو لا و اللّه لأفعلن(1). و يحتمل أن تكون ناهية، و المعنى: لا تتوهّموا أن يكون الواقع خلاف ما أقول، اقسم بهذا البلد المعظّم

وَ أَنْتَ يا محمد حِلٌّ و مقيم بِهٰذَا الْبَلَدِ و نازل فيه، فزيد بهذا شرفه.

و قيل: يعني و أنت مع نهاية حرمتك حلال الدم و العرض عند المشركين بهذا البلد و لا يحلّ عندهم قتل شيء من الطيور و الوحوش و الحشرات(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «كانت قريش تعظّم البلد و تستحلّ محمدا فيه، فقال اللّه: لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ * وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهٰذَا الْبَلَدِ يريد أنّهم استحلّوك فيه، فكذّبوك و شتموك، و كان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه، و يتقلّدون لحاء شجرة الحرم فيأمنون بتقليدهم إيّاه، فاستحلوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لم يستحلّوا من غيره، فعاب اللّه عليهم»(3).

وَ وٰالِدٍ عظيم الشأن، قيل: إنّ المراد إبراهيم (4)وَ مٰا وَلَدَ من إسماعيل و إسحاق و يعقوب و ذريّتهما. و قيل: محمد و ذريّته(5) ، و إيثار كلمة (ما) على (من) لمعنى التعجّب ممّا أعطاهم اللّه من الكمال، كذا قيل(6).

ص: 493


1- . تفسير روح البيان 433:10.
2- . تفسير الرازي 179:31.
3- . مجمع البيان 747:10، تفسير الصافي 329:5.
4- . تفسير أبي السعود 160:9.
5- . جوامع الجامع: 542.
6- . تفسير روح البيان 434:10.

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني آدم و ما ولد من الأنبياء و الأوصياء و أتباعهم»(1). [و في الكافي مرفوعا قال](2): «أمير المؤمنين و من ولد من الأئمة عليهم السّلام»(3).

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ (4) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ حال كونه من أوّل خلقه مستغرقا فِي كَبَدٍ و تعب و مشقّة. و قيل: يعني في الشدّة، و هي شدائد الدنيا من صعوبة ولادته، و قطع سرّته، و حبسه في القماط، و إيذاء المربّي و المعلّم، و زحمة التكسّب و التزوّج و الأولاد و الخدم و جمع الأموال، و تهاجم الأوجاع و الهموم و الغموم، كالابتلاء بالتكاليف الإلهية إلى غير ذلك من الشدائد(4).

و قيل: إنّ المراد في شدّة الخلق و القوة(5). و قيل: يعني في الاستواء و الاستقامة(6).

عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا نرى الدوابّ في بطون أيديها الرقعتين مثل(5) الكيّ، فمن أيّ شيء ذلك ؟ فقال: «ذلك موضع منخريه في بطن امّه، و أمّا ابن آدم فرأسه منتصب في بطن امّه، و ذلك قول اللّه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ و ما سوى بن آدم فرأسه في دبره، و يداه بين يديه»(6).

و عن ابن عباس، قال: فِي كَبَدٍ أي قائما منتصبا، و الحيوانات الأخر تمشي منكسة، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة(7).

ثمّ لا يخفى أنّ في الآية بناء على التفسير الأول تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله في مكابدة الأعداء من كفّار قريش.

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مٰالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) ثمّ ذمّ سبحانه الانسان بقوله:

أَ يَحْسَبُ و يتوهّم من ضعفه و ابتلائه بالشدائد على التفسير الأول، أو بالنظر إلى شدّة خلقه و قوّته على الثاني أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بأن يجازيه على سيئاته، أو بأن يغيّر أحواله و يمنعه عن مراداته ؟! بلى إنّ اللّه القادر على كلّ شيء قادر على تعذيبه و الانتقام منه، أو على تعجيزه و منعه عن مراداته.

ثمّ إنّ هذا الكافر المدّعي لكمال القدرة و القوة

يَقُولُ مفتخرا: إني أَهْلَكْتُ و صرفت في

ص: 494


1- . مجمع البيان 747:10، تفسير الصافي 329:5.
2- . في النسخة: و عن.
3- . الكافي 11/342:1، تفسير الصافي 329:5.
4- . تفسير روح البيان 434:10. (5و6) . تفسير الرازي 181:31.
5- . في النسخة: قبل.
6- . علل الشرائع: 1/495، تفسير الصافي 330:5.
7- . تفسير الرازي 182:31.

عداوة محمد مٰالاً لُبَداً و كثيرا.

عن الصادق عليه السّلام: «قال عمرو بن عبد ودّ حين عرض عليه علي بن أبي طالب عليه السّلام الإسلام يوم الخندق: فأين ما أنفقت فيكم من مال لبد؟ و كان أنفق مالا في الصدّ عن سبيل اللّه، فقتله علي عليه السّلام»(1).

ثمّ وبّخه سبحانه على إنفاقه و هدّده بقوله:

أَ يَحْسَبُ هذا الكافر المباهي بإنفاقه أَنْ لَمْ يَرَهُ حين إنفاقه الشنيع أَحَدٌ بلى إنّ اللّه رآه و ساءله يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه و فيما أنفقه.

و قيل: إنّه كان كاذبا لم ينفق شيئا، فقال اللّه تعالى: أ يظنّ هذا الكافر أنّ اللّه ما رأى ذلك منه، فعل أو لم يفعل، أنفق أم لم ينفق. بلى رآه و علم منه خلاف ما قال(2).

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ (9) وَ هَدَيْنٰاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعٰامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذٰا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذٰا مَتْرَبَةٍ (16) ثمّ لمّا حكى سبحانه إنكار الكافر قدرة اللّه عليه و رؤيته إياه، أقام الدليل عليها بقوله:

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ بقدرتنا عَيْنَيْنِ يبصر بهما و يرى، فكيف يمكن أن يكون معطي الرؤية فاقدا لها و لا يراه ؟

وَ أ لم نجعل له لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ ينطق بها، فكيف ينبغي أن يتكلّم بها الكلمات الشنيعة غير المرضية لمعطيها؟

وَ هَدَيْنٰاهُ بعد اتمام النعمة عليه بتكميل خلقه و قواه اَلنَّجْدَيْنِ و الطريقين الواضحين إلى خيره و شرّه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبل الخير، و سبل الشرّ»(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «نجد الخير و الشّر»(4).

فَلاَ اقْتَحَمَ و ما دخل شكرا لتلك النّعم الجليلة اَلْعَقَبَةَ و الأعمال الصالحة التي هي الطريق إلى كلّ خير، و إنّما أطلق عليها العقبة - التي هي الطريق الصعب السلوك في الجبل - لصعوبة سلوكها.

ثمّ عظّم العقبة بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أي شيء أعلمك يا محمد مٰا تلك اَلْعَقَبَةُ؟ فانّ المراد بها ليس العقبة المعروفة، إنّما هي

فَكُّ رَقَبَةٍ و إعتاق المملوك، و الدخول فيها الاقدام عليه

أَوْ إِطْعٰامٌ و إشباع من المأكول فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ و في زمان غلاء و قحط، فانّ الصرف في هذا الزمان أثقل على النفس و أوجب للأجر

يَتِيماً ذٰا مَقْرَبَةٍ و صاحب رحم فاقد إطعامه أفضل

ص: 495


1- . تفسير القمي 422:2، عن أبي جعفر عليه السّلام، تفسير الصافي 330:5.
2- . تفسير الرازي 183:31.
3- . مجمع البيان 748:10، تفسير الصافي 331:5.
4- . الكافي 4/124:1، تفسير الصافي 331:5.

لاشتماله على الصدقة و صلة الرّحم

أَوْ مِسْكِيناً ذٰا مَتْرَبَةٍ و فاقة. عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله: ذٰا مَتْرَبَةٍ «الذي مأواه المزابل»(1) و عن ابن عباس: يعني البعيد التربة، يعني الغريب(2). و في الحديث:

«الساعي على الأرملة و المساكين كالساعي في سبيل اللّه، و كالقائم لا يفتر، و الصائم لا يفطر»(3).

عن الصادق عليه السّلام: «من أطعم مؤمنا حتى يشبعه، لم يدر أحد من خلق اللّه ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ اللّه ربّ العالمين» ثمّ قال: «من موجبات المغفرة إطعام المسلم السّغبان» ثمّ تلا هذه الآية(1).

و عن الرضا عليه السّلام: أنّه إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام بما يؤتى به فيأخذ من كلّ شيء فيضع في تلك الصّحفة، ثمّ يأمر بها للمساكين، ثمّ يتلو هذه الآية، ثمّ يقول: «علم اللّه أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السبيل إلى الجنّة»(2).

و عن الصادق أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «من أكرمه اللّه بولايتنا فقد جاز العقبة، و نحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا» ثمّ قال: «الناس كلّهم عبيد النار غيرك و أصحابك فانّ اللّه فكّ رقابكم من النار بولايتنا أهل البيت»(3).

و عنه عليه السّلام: «بنا تفكّ الرقاب و بمعرفتنا، و نحن المطعمون في يوم الجوع و هو المسغبة»(4).

ثُمَّ كٰانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا هُمْ أَصْحٰابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نٰارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) ثمّ بيّن سبحانه شرط قبول تلك الأعمال بقوله:

ثُمَّ كٰانَ ذلك الذي يفكّ الرقبة و يطعم اليتيم و المسكين مِنَ زمرة اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و اليوم الآخر وَ تَوٰاصَوْا و أمروا أقرباءهم و أصدقاءهم بِالصَّبْرِ على طاعة اللّه وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ و العطوفة بعباد اللّه، أو بموجبات رحمة اللّه من الخيرات و الصالحات. و ذكر كلمة ثُمَّ للدلالة على تراخي رتبة الايمان على تلك الأعمال، و رفعة محلّه بالنسبة إليها.

أُولٰئِكَ المتّصفون بالصفات المذكورة هم يوم القيامة أَصْحٰابُ الْمَيْمَنَةِ يعطون كتبهم بأيمانهم، أو نسلك بهم من الطريق الأيمن إلى الجنة، أو هم أهل اليمن و الخير و السعادة، أو القائمون

ص: 496


1- . الكافي 6/161:2، تفسير الصافي 331:5.
2- . الكافي 12/52:4، تفسير الصافي 331:5.
3- . الكافي 88/357:1، تفسير الصافي 331:5.
4- . تفسير القمي 423:2، تفسير الصافي 322:5.

عن يمين المحشر، أو يمين العرش.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا و دلائل توحيدنا و رسالة رسولنا هُمْ أَصْحٰابُ الْمَشْأَمَةِ و أهل الشؤم و الشرّ و الشقاوة، أو هم الذين يعطون كتابهم بشمائلهم، أو وراء ظهورهم

عَلَيْهِمْ يوم القيامة نٰارٌ أبوابها مُؤْصَدَةٌ و مطبقة لا يفتح لهم باب، فلا يخرج منها غمّ، و لا يدخل فيها روح أبدا، أو المراد نار محيطة بهم.

عن الصادق عليه السّلام: «من كان قراءته في فريضة لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ كان في الدنيا معروفا [أنه من الصالحين، و كان في الآخرة معروفا] أنّ له من اللّه مكانا، و كان يوم القيامة من رفقاء النبيين و الشهداء و الصالحين»(1).

ص: 497


1- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 743:10، تفسير الصافي 332:5.

ص: 498

في تفسير سورة الشمس

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الشَّمْسِ وَ ضُحٰاهٰا (1) وَ الْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا (2) وَ النَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا (3) وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا (4) وَ السَّمٰاءِ وَ مٰا بَنٰاهٰا (5) وَ الْأَرْضِ وَ مٰا طَحٰاهٰا (6) وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا (7) فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (8) ثمّ لمّا ختمت سورة البلد المتضمّنة لمنّته سبحانه على الانسان بخلقه في كبد و استقامة، و بهدايته إلى الخير و الشرّ، و ترغيبه إلى الايمان و الأمر بالمعروف، و تهديد الكفّار المكذّبين بعذاب الآخرة، نظمت سورة الشمس المتضمّنة لمنته على الانسان بتعديل خلقه و إلهامه فجوره و تقواه و ترغيبه إلى تزكية نفسه المتوقفة على الايمان و العمل، و تهديد الكفار، فافتتحها بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بقوله:

وَ الشَّمْسِ التي فيها فضل عظيم و منافع عظيمة لموجودات عالم الملك وَ ضُحٰاهٰا و ارتفاع نورها و اشتداد ضوؤها، و هو قريب من نصف النهار

وَ الْقَمَرِ الذي هو بعد الشمس أنفع الكواكب إِذٰا تبع الشمس و حين تَلاٰهٰا و يطلع بعد غروبها.

عن ابن عباس: هو في النصف الأول من الشهر(1) بعد ما سمّي قمرا. و قيل: يعني إذا تبعها و صار مثلها في الاستدارة و كمال النور، و هي في الليالي البيض(2).

وَ النَّهٰارِ إِذٰا ظهر الشمس و حين جَلاّٰهٰا قيل: إن الضمير راجع إلى الظّلمة(3) و تجليتها إذهابها. و قيل: إلى الدنيا، أو إلى الأرض، و إن لم يسبق لهما ذكر(4) لمعلوميتها، و تجليتهما إنارتهما(5).

وَ اللَّيْلِ إِذٰا يغطّي الشمس و يَغْشٰاهٰا و يذهب نورها، فكأنّ الليل بظلمته(6) صار سببا لغروب الشمس و زوال ضوئها، و لذا حسن القول بأنّ النهار يجلّيها

وَ السَّمٰاءِ المظلّ على الأرض وَ مٰا

ص: 499


1- . تفسير الرازي 189:31.
2- . تفسير الرازي 189:31.
3- . تفسير الرازي 190:31.
4- . تفسير الرازي 190:31.
5- . في النسخة: لمعلوميتها، و تجليتها إنارتها.
6- . في النسخة: تظلمته.

بَنٰاهٰا على غاية العظمة و نهاية الوقعة.

قيل: ذكر كلمة مٰا للاشارة إلى الوصفية، و المعنى: و الشيء العظيم الذي بناها(1) ، و يحتمل كون كلمة مٰا مصدرية، فحلف أولا بذاتها، و ثانيا بكيفية بنائها.

وَ الْأَرْضِ وَ مٰا طَحٰاهٰا و من بسطها على السماء من كلّ جانب

وَ نَفْسٍ ناطقة متميزة من نفوس الحيوانات وَ مٰا سَوّٰاهٰا و من عدلها بإعطائها القوى الظاهرة و الباطنة، و يحتمل كون مٰا مصدرية في كلتا الجملتين. و قيل: إنّ المراد بالنفس الشخص، و تسويتها تعديلها بتكميل أعضائها(2).

فَأَلْهَمَهٰا و عرّفها بتكميل عقلها و إرسال الرسل فُجُورَهٰا و شرورها لتجتنبها وَ تَقْوٰاهٰا و محاسن أعمالها لتعمل بها.

عن الصادق عليه السّلام قال: «بيّن لها ما تأتي و ما تترك»(3).

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا (9) وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (10) ثمّ بيّن سبحانه المقسم عليه بقوله:

قَدْ أَفْلَحَ و ظفر بأعلى المقاصد و المطالب مَنْ زَكّٰاهٰا و طهّرها من دنس الكفر و الأخلاق الرذيلة و من رجس الذنوب و القبائح، أو المراد أنماها بالخيرات و البركات.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه كان إذا قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا وقف و قال: «اللهمّ آت نفس تقواها، أنت وليها و أنت مولاها، و زكّها أنت خير من زكّاها»(4).

وَ قَدْ خٰابَ و حرم من جميع الخيرات أو خسر مَنْ دَسّٰاهٰا و أدخلها في المعاصي حتّى انغمس فيها، أو دسّ في نفسه الفجور بسبب مواظبته عليها.

عن الصادق عليه السّلام: «قد أفلح من أطاع، و قد خاب من عصى»(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من زكّاه ربّه»(6).

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوٰاهٰا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقٰاهٰا (12) فَقٰالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّٰهِ نٰاقَةَ اللّٰهِ وَ سُقْيٰاهٰا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهٰا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّٰاهٰا (14) وَ لاٰ

ص: 500


1- . تفسير الرازي 191:31.
2- . تفسير الرازي 191:31.
3- . الكافي 3/124:1، تفسير الصافي 333:5.
4- . مجمع البيان 755:10، تفسير الرازي 193:31.
5- . مجمع البيان 755:10، تفسير الصافي 334:5، و فيهما: عنهما عليهما السّلام.
6- . تفسير القمي 424:2، تفسير الصافي 334:5.

يَخٰافُ عُقْبٰاهٰا (15) ثمّ هدّد سبحانه المكذبين للرسول ببيان تكذيب ثمود رسولهم و ابتلائهم بالعذاب بقوله:

كَذَّبَتْ قبيلة يقال لها ثَمُودُ رسولهم صالح بِطَغْوٰاهٰا و بسبب عتوّها على اللّه، أو المعنى كذّبت بما أوعدهم الرسول من عذاب ذي طغيان كما قال اللّه تعالى: فَأُهْلِكُوا بِالطّٰاغِيَةِ.

إِذِ انْبَعَثَ و حين أسرع في طاعة رؤسائها قدار الذي هو أَشْقٰاهٰا و أخبثها و أطغاها في عقر الناقة

فَقٰالَ لَهُمْ صالح رَسُولُ اللّٰهِ عليه السّلام: يا قوم احذروا أن تؤذوا نٰاقَةَ اللّٰهِ التي هي من آياته، و احذروا أن تمنعوها وَ سُقْيٰاهٰا و مشربها، فإن مسستموها بسوء يأخذكم عذاب قريب

فَكَذَّبُوهُ فيما أوعدهم به من العذاب فَعَقَرُوهٰا و ضربوا رجلها بالسيف و قتلوها.

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال لعلي: «يا على أ تدري من أشقى الأولين ؟ قال: «اللّه و رسوله أعلم، قال: «عاقر الناقة» قال: «أ تدري من أشقى الآخرين»، قال: «اللّه و رسوله أعلم» قال:

«قاتلك»(1).

فَدَمْدَمَ و اطبق عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ العذاب، و أهلك جميعهم بالصيحة الهائلة، أو الزلزلة بِذَنْبِهِمْ و بسبب عصيانهم بتكذيب الرسول و عقر الناقة فَسَوّٰاهٰا قيل: إنّ الضمير راجع إلى الدمدمة، و المعنى: فعمّتهم الدمدمة(2). و قيل: راجع إلى الأرض، و المعنى: فسوّى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التّراب (3)

وَ لاٰ يَخٰافُ اللّه بالدمدمة عليهم عُقْبٰاهٰا و تبعتها لأنّها كانت باستحقاقهم و العمل بالحكمة.

و قيل: هذا الكلام لبيان تحقير إهلاكهم، و المعنى أنّه أهون من أن تخشى فيه عاقبة الأمر(4).

و قيل: إنّ المعنى لا يخاف قدار الأشقى فيما أقدم من عقر الناقة عقبها و تبعة سوئها، بل كان آمنا من الهلاك ففعل مع الخوف الشديد فعل من لا خوف له، و فيه دلالة على غاية حمقه، و على هذا التفسير تكون الآية في حكم المتقدّم، كأنّه قال: إذ انبعث أشقاها و لا يخاف عقباها(5).

روي أنّ صالحا لمّا وعدهم بالعذاب بعد ثلاث، قال الذين عقروا الناقة: هلمّوا فلنقتل صالحا، فإن كان صادقا عجّلناه قبلنا، و إن كان كاذبا ألحقناه بتاقته(2) فأتوه ليقتلوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلمّا أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح، فوجدوهم قد رضحوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثمّ همّوا به، فقامت عشيرته دونه(3) و لبسوا السلاح، و قالوا لهم: و اللّه لا تقتلونه، قد وعدكم أنّ العذاب

ص: 501


1- . تفسير روح البيان 446:10. (2و3) . تفسير الرازي 195:31 و 196. (4و5) . تفسير الرازي 196:31.
2- . في النسخة: بناقة.
3- . في النسخة: دونها.

نازل بكم في ثلاث، فان كان صادقا زدتم ربّكم عليكم غضبا، و إن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون، فانصرفوا عنه تلك الليلة، فأصبحوا و وجوههم مصفرّة، فايقنوا بالعذاب، فطلبوا صالحا ليقتلوه، فهرب صالح و التجأ إلى سيد بعض بطون ثمود، و كان مشركا، فغيّبه عنهم فلم يقدروا عليه، ثمّ شغلهم عنه نزول العذاب(1). فهذا هو قوله: وَ لاٰ يَخٰافُ عُقْبٰاهٰا.

عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر قراءة و الشمس و الليل و الضحى و أ لم نشرح، في يوم و ليلة، لم يبق بحضرته إلاّ شهد له يوم القيامة حتى شعره و بشره و لحمه و دمه و عروقه و عصبه و عظامه و جميع ما أقلّت الأرض منه، و يقول الرب تبارك و تعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، و أجزتها له، انطلقوا به إلى جناتي حتّى، يتخير منها حيث أحبّ، فأعطوه من غير منّ، و لكن رحمة منّي و فضلا [عليه فهنيئا لعبدي]»(2).

ص: 502


1- . تفسير الرازي 196:31.
2- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 752:10، تفسير الصافي 335:5.

في تفسير سورة الليل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ (1) وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى (2) وَ مٰا خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّٰى (4) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الشَّمْسِ المتضمّنة لذكر الصنفين من الناس: صنف زكّى نفسه من الشرك و العصيان و الاخلاق الرذيلة، و صنف دسّ نفسه فيها، و ذكر أنّ اللّه ألهم فجورها و تقواها، أردفها بسورة وَ اللَّيْلِ المتضمّنة لذكر صنفين من الناس: صنف من الناس بذل ماله في طاعة اللّه و اتّقى المعاصى و صدّق بتوحيد اللّه و الدار الآخرة، و صنف بخل بماله و اشتغل بالمعاصي و الشهوات و كذّب بتوحيد اللّه و اليوم الآخر، و ما لكلّ منهما من الدرجات و الدركات، و إنّ اللّه هو الهادي إلى كلّ خير و سعادة، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالحلف بعجائب خلقه و بدائع صنعه بقوله:

وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ و يغطّي الشمس، أو يستر النهار، أو سائر الموجودات غير المضيئة بظلمته وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى و حين انكشف بطلوع الشمس و ظهر بزوال ظلمة الليل، و من المعلوم أنّ في الإقسام بهما دلالة على شرفهما و كثرة نفعهما و قيام نظام العالم بهما و بتعاقبهما.

و عن الباقر عليه السّلام في تأويل الآيتين قال: «الليل في هذا الموضع الثاني، غشي أمير المؤمنين عليه السّلام في دولته التي جرت له عليه، و أمير المؤمنين عليه السّلام يصبر في دولتهم حتى تنقضي»

وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى قال: «النهار هو القائم منّا أهل البيت، إذا قام غلب دولة الباطل» قال: «و القرآن ضرب به الأمثال للناس، و خاطب نبيّه به و نحن، فليس يعلمه غيرنا»(1).

وَ مٰا خَلَقَ قيل: يعني و القادر العظيم الذي خلق بقدرته اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ من ماء واحد(2). و قيل:

كلمة مٰا مصدرية، و المعنى: و خلقه الذكر و الانثى من جميع أصناف الحيوانات.

ص: 503


1- . تفسير القمي 425:2، تفسير الصافي 336:5. ( (2 و 3 ) . تفسير الرازي 197:31.

و عن الباقر عليه السّلام في تأويله «الذكر أمير المؤمنين عليه السّلام، و الانثى فاطمة»(1).

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ سَعْيَكُمْ و أعمالكم أيّها الناس في الدنيا لَشَتّٰى و متفرّقات في الحسن و القبح، و الخير و الشّر، و العقاب و الثواب.

فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اتَّقىٰ (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ (7) وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنىٰ (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ (10) وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ مٰالُهُ إِذٰا تَرَدّٰى (11) ثمّ بين سبحانه ما هو المقصود من اختلاف الأعمال و فضله بقوله:

فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ المال و أنفقه في سبيل اللّه و وجوه البرّ، أو أعطى حقوق اللّه من الأعمال الواجبة وَ اتَّقىٰ اللّه بترك المحرمات و احتراز الشهوات

وَ صَدَّقَ عن صميم القلب بِالْحُسْنىٰ و الكلمة المرضية عند اللّه من الإقرار بالتوحيد و الرسالة و المعاد، أو بالملّة و الشريعة الحسنة، و هو دين الاسلام.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «بالولاية»(2).

فَسَنُيَسِّرُهُ و نوفّقه لِلْيُسْرىٰ و الأعمال المؤدّية إلى الجنة و الراحة الأبدية، و نسهّلها عليه حتى يكون أيسر الأمور عليه و قيل: إن المراد باليسرى الجنة و الراحة(3) ، و المعنى: نهيئه لدخول الجنة بسهولة.

وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ بماله و امتنع من صرفه في سبيل اللّه، أو امتنع من أداء حقوق اللّه و صرف قواه في طاعته، وَ اسْتَغْنىٰ بالشهوات الدنيوية عن النعم الاخروية و لم يرغب في ثواب اللّه، كأنّه مستغن عنه، و لم يتّق من المعاصي

وَ كَذَّبَ قولا و عملا بِالْحُسْنىٰ بأحد المعاني السابقة

فَسَنُيَسِّرُهُ و نهيئه لِلْعُسْرىٰ و الخصلة المؤدّية إلى ما فيه المشقة و الشدة من النار و الهوان و العذاب بتثقيل الطاعة عليه و إيكاله إلى نفسه الأمّارة بكلّ سوء و شرّ

وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ و لا يكفي في نجاته من العذاب مٰالُهُ الذي جمعه في الدنيا و بخل به عن صرفه في سبيل اللّه إِذٰا تَرَدّٰى و هلك هلاكا أبديا، أو سقط في قعر جهنّم، أو في حفيرة و قبره.

و قيل: إن كلمة مٰا في قوله: مٰا يُغْنِي للاستفهام الانكاري، و المعنى: أي شيء يغني عنه ماله مع أنّه يبقى لوارثه، و لم يصحب منه شيئا في الآخرة(4).

ص: 504


1- . مناقب ابن شهرآشوب 320:3، تفسير الصافي 336:5.
2- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 337:5.
3- . تفسير روح البيان 448:10.
4- . تفسير الرازي 201:31.

في (الكافي) في تفسير الآيات عن الباقر عليه السّلام: «فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ ممّا آتاه اللّه وَ اتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ أي بأنّ اللّه يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة ألف فما زاد فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ لا يريد شيئا من الخير إلاّ يسّره اللّه وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ بما آتاه اللّه وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ بأنّ اللّه يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة ألف فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ لا يريد شيئا من الشرّ إلاّ يسّره له وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ مٰالُهُ إِذٰا تَرَدّٰى قال: و اللّه ما تردّى من جبل، و لا من حائط، و لا في بئر، و لكن تردّى في نار جهنّم»(1).

و عنه عليه السّلام في تأويله: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اتَّقىٰ و آثر بقوته، و صام حتّى وفى بنذره، و تصدّق بخاتمه و هو راكع، و آثر المقداد بالدينار على نفسه وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ و هي الجنّة و الثواب من اللّه فَسَنُيَسِّرُهُ لذلك، بأن جعله إماما في الخير و قدوة و أبا للائمّة، يسّره اللّه لِلْيُسْرىٰ» (2).

و عن (المجمع) عن ابن عباس: أنّ رجلا كانت له نخلة، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، و كان الرجل إذا جاء فدخل الدار و سعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فنزل الرجل من النخلة حتّى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يخرج التمر من فيه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله(3) فقال صلّى اللّه عليه و آله لصاحب النخلة: «بعني نخلتك هذه بنخلة في الجنّة» فقال: لا أفعل، و انصرف، فمضى إليه أبو الدّحداح و اشتراها منه(4). و في رواية: اشتراها منه بحائطه(5). و في رواية: بأربعين نخلة(6).

و أتى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، خذها و أجعل لي في الجنّة الحديقة التي قلت لهذا و لم يقبلها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لك في الجنة حدائق و حدائق»(7).

و في رواية ابن عباس: فذهب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، إنّ النخلة قد صارت لى، فهي لك فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى صاحب الدار فقال له: «النخلة لك و لعيالك، فأنزل اللّه وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ... السورة(8).

و في رواية القمي رحمه اللّه قال: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ يعني النخلة وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ يعني بوعد رسول اللّه(9).

ص: 505


1- . الكافي 5/46:4، تفسير الصافي 338:5.
2- . مناقب ابن شهرآشوب 320:3، تفسير الصافي 338:5.
3- . مجمع البيان 759:10، تفسير الصافي 337:5.
4- . تفسير القمي 425:2، تفسير الصافي 337:5.
5- . قرب الاسناد: 1273/356، تفسير الصافي 337:5.
6- . مجمع البيان 759:10، تفسير الصافي 337:5.
7- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 337:5.
8- . مجمع البيان 760:10، تفسير الصافي 338:5.
9- . قرب الاسناد: 1273/356، تفسير الصافي 337:5، و لم نعثر عليها في تفسير القمي.

أقول: على الروايتين السورة مدنية، لأنّ أبا الدّحداح كان من الأنصار و من أهل المدينة.

إِنَّ عَلَيْنٰا لَلْهُدىٰ (12) وَ إِنَّ لَنٰا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولىٰ (13) ثمّ لمّا بيّن سبحانه فائدة الإعطاء و التقوى و الايمان و ضرر البخل و الكفر، بيّن أنّ الهداية إلى ما فيه الخير و الشرّ من شأن الربوبية بقوله:

إِنَّ الواجب عَلَيْنٰا بمقتضى الحكمة البالغة و اللّطف لَلْهُدىٰ و بيان الطريق المؤدّي إلى كلّ خير و سعادة، و إلى الشرور و الضلالة، و قد فعلنا بما لا نزيد عليه، حيث بيّنا حال من سلك كلا من الطريقين ترغيبا و ترهيبا. عن القمي: أنّ علينا أن نبيّن لهم(1).

و عن ابن عباس: يريد ارشد أوليائي إلى العمل بطاعتي و أحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي(2).

أقول: معنى حيلولته خذلانه، و إيكالهم إلى أنفسهم عقوبة على كفرهم و طغيانهم.

ثمّ بيّن سبحانه غناه عن عبادة الناس، و إنّما تكون هدايتهم للنفع العائد إليهم بقوله:

وَ إِنَّ لَنٰا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولىٰ و تلك العقبى و الاولى، لا يزيد في ملكنا اهتداؤكم، و لا يضرّنا ضلالكم، فمن طلب سعادة الدارين فليطلبها منّي، و ليعمل بطاعتي.

فَأَنْذَرْتُكُمْ نٰاراً تَلَظّٰى (14) لاٰ يَصْلاٰهٰا إِلاَّ الْأَشْقَى (15) اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ يَتَزَكّٰى (18) ثمّ هدّد سبحانه الذين لا يهتدون بهداه بقوله:

فَأَنْذَرْتُكُمْ أيّها الناس فيما أنزلت إليكم من القرآن نٰاراً تَلَظّٰى و تتلهّب و تتوقّد بغضبي، و خوّفتكم بها لترتدعوا عن عصياني و مخالفتي، و اعلموا أنّه

لاٰ يَصْلاٰهٰا و لا يدخلها إِلاَّ الكافر اَلْأَشْقَى من جميع العصاة و الأبعد من كلّ خير و سعادة، و هو

اَلَّذِي كَذَّبَ بآيات ربّه و رسالة رسله وَ تَوَلّٰى و أعرض عن قبول الحق، و استنكف عن طاعة ربّه.

و عن ابن عباس في رواية اخرى: أنّها نزلت في امية بن خلف و امثاله الذين كذّبوا محمدا و الأنبياء قبله(3).

أقول: و هو جار في حقّ كلّ كافر إلى يوم القيامة، إذ لا يكون الكفر إلا بالتكذيب و لو بإنكار ضروري من ضروريات الدين، و مقتضى الحصر أن لا يدخل النار من كان مؤمنا عاصيا و لا يبعد ذلك، نعم

ص: 506


1- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 338:2.
2- . تفسير الرازي 202:31.
3- . تفسير الرازي 202:31.

بعض المعاصي يوجب ذهاب الايمان عن قلب المؤمن، كترك الصلاة و الزكاة و الحجّ، فيحشر في صفّ الكفار.

و قيل: إنّ المراد بالأشقى هو الشقيّ، و بالصلي الدخول مع الخلود(1). و عن (المجمع): الأشقى هو صاحب النخلة(2). و عن القمي: يعني هذا الذي بخل على رسول اللّه(3).

و عن الصادق عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «في جهنم واد فيه نار لا يصلاها إلاّ الأشقى، يعني فلان الذي كذّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام و تولّى عن ولايته» ثمّ قال: «النيران بعضها دون بعض، فما كان من نار هذا الوادي فللنصّاب»(4).

وَ سَيُجَنَّبُهَا و يبعد عنها بحيث لا يسمع حسيسها المؤمن اَلْأَتْقَى و الأحرز من الشرك و العصيان، و هو

اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ و يعطيه الفقراء و يصرفه في سبيل اللّه حال كونه يَتَزَكّٰى و يقصد ببذله الطهارة من رجس الذنوب و دنس البخل، و هو أبو الدّحداح، كما عن (المجمع)(5) و القمي(6).

وَ مٰا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ (19) إِلاَّ ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ (20) ثمّ بيّن سبحانه خلوص نيّته في البذل لوجه اللّه بقوله:

وَ مٰا لِأَحَدٍ ممّن يعطيه المال عِنْدَهُ شيء مِنْ نِعْمَةٍ و منّة يكون من شأنها أن تُجْزىٰ و تكافأ فيقصد باعطائه مجازاتها، فما يكون إعطاؤه و بذله لغرض من الأغراض

إِلاَّ بغرض واحد و هو اِبْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الذي هو اَلْأَعْلىٰ و الأرفع من كلّ موجود ذاتا و صفاتا.

في ردّ بعض العامة

ثمّ لمّا كان طلب ذات اللّه تعالى محالا، كان التقدير: ابتغاء رضا ذات الربّ أو ثوابه، و إمكان حبّ ذات الربّ، لا يوجب صحّة طلب الذات، كما ادّعاها بعض العامة(7).

نعم لا يحتاج في قوله: إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ إلى تقدير شيء في الآية، لأنّ الإطعام لوجه اللّه معناه الإطعام لأنّه مستحقّ للطاعة، كما عن أمير المؤمنين: «عبدتك لا خوفا من نارك، و لا طمعا في ثوابك، بل لأنّك مستحق للعبادة»(8).

فظهر الفرق بين قوله: أطعت اللّه ابتغاء لوجهه، و بين القول: بانّي أطعت اللّه لوجهه، و أنّ الخلوص

ص: 507


1- . تفسير روح البيان 450:10.
2- . مجمع البيان 760:10، تفسير الصافي 338:5.
3- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 338:5.
4- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 338:5.
5- . مجمع البيان 760:10، تفسير الصافي 339:5.
6- . تفسير القمي 426:2، تفسير الصافي 339:5.
7- . تفسير الرازي 206:4، و 206:31.
8- . بحار الأنوار 14:41 و 278:72 «نحوه».

في الثاني أكمل من الأول، و لا ينافي هذه الدرجة من الخلوص وجود الخوف من العقاب، أو الرجاء للثواب، فانّهما في المرتبة المتأخّرة، كما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جميع المراتب من الخلوص.

و من المعلوم أنّ من كان له جميع المراتب أفضل و أكمل ممّن كان له مرتبة الرجاء للثواب، فما ذكرنا ظهر فساد ما حكاه الفخر الرازي عن أبي بكر الباقلاني في هذه الآية من قوله: إنّ الآية الواردة في شأن علي عليه السّلام إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً * إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (1) و هذه الآية الواردة في حقّ أبي بكر إِلاَّ ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ * وَ لَسَوْفَ يَرْضىٰ فدلّت الآيتان على أنّ كلّ واحد منهما فعل ما فعل لوجه اللّه، إلاّ أنّ آية عليّ يدلّ على أنّه فعل ما فعل لوجه اللّه و للخوف من يوم القيامة على ما قال: إِنّٰا نَخٰافُ مِنْ رَبِّنٰا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً و أمّا آية أبي بكر فانّها دلّت على أنّه فعل ما فعل لمحض وجه اللّه من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبته في ثواب أو رهبته من عقاب، فكان مقام أبي بكر أعلى و أجلّ(2). مع أنّ نزول الآية في حقّ أبي بكر غير ثابت، و إنّما حكاه الفخر الرازي عن القفّال الذي هو أحد مفسّري العامة، فانّه قال: نزلت هذه السورة في أبي بكر و إنفاقه على المسلمين، و في اميّة بن خلف و بخله و كفره باللّه(3).

و لا يقاوم قول هذا الناصب قول ابن عباس الذي هو حبر هذه الامة و استاذ المفسّرين من أنّها نزلت في حقّ أبي الدّحداح و البخيل الذي كان يدخل إصبعه في فم صغار الفقير ليخرج ثمر نخلته من فيهم، كما مرّ عن (المجمع)(4).

و روى الفخر الرازي عنه أنّه نزلت في امية بن خلف و أمثاله الذين كذّبوا محمّدا و الأنبياء قبله(5) ، و لم يحك عنه القول بأنّ المراد بالأتقى أبو بكر.

نعم روى بعض العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّ ببلال بن رباح(6) الحبشي و هو يقول: أحد فقال عليه السّلام: «أحد يعني اللّه الأحد ينجيك» ثمّ قال، أبي بكر: إنّ بلالا يعذّب في اللّه» فعرف مراده، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، و مضى به إلى اميّة بن خلف، فقال له: أ تبيعي بلالا؟ فقال: نعم، فاشتراه و أعتقه، فقال المشركون: ما أعتقه ابو بكر إلاّ ليد كانت له عنده، فنزلت(7).

أقول: الظاهر من الآية مدح الأتقى الذي يؤتي ماله في سبيل اللّه، و هو موافق لإعطاء أبي الدّحداح،

ص: 508


1- . الإنسان: 9/76 و 10.
2- . تفسير الرازي 205:31.
3- . تفسير الرازي 197:31.
4- . مجمع البيان 759:10.
5- . تفسير الرازي 202:31.
6- . في النسخة: رياح.
7- . تفسير أبي السعود 168:9، تفسير روح البيان 451:10.

لا لاعتاق أبي بكر، فانّ الاعتاق ليس بدلا و إعطاء للغير، بل هو تحرير و فكّ ملك.

وَ لَسَوْفَ يَرْضىٰ (21) ثمّ وعد سبحانه الأتقى الباذل ماله في سبيل اللّه بالثواب المرضي مقرونا باليمين بقوله:

وَ لَسَوْفَ يَرْضىٰ ذلك الاتقى بما يؤتيه اللّه من الثواب في الآخرة.

قيل: إنّ المعنى إلاّ ابتغاء رضا ربّه، و و اللّه لسوف يرضى الربّ عنه(1). و فيه: أنّ رضا اللّه لا تأخير فيه، و إنّما التأخير في الثواب الاخروي، و هو وعد بنيل جميع ما يبتغيه و يطلبه من الثواب على أكمل الوجوه و أجملها.

قال بعض العامة: لم ينزل هذا الوعد إلاّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قوله: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ (2) و لأبي بكر هاهنا(3). و فيه: أنّ الآيات الدالة على وعد المؤمنين عموما بثواب فيه رضاهم كثيرة، و ليس في خصوصية التعبير دلالة على فضيلة من وعده اللّه بأن يرضيه بثوابه إذا أدخله الجنّة بهذا التعبير على غيره من المؤمنين الذين قال في حقّهم رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ (4) بل في هذا التعبير و في قوله: اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً (5) احتمال فضيلة خاصة، لاحتمال كون المراد راضية و مسرورة بلقاء اللّه و الوصول إلى مقام الرضوان، و الآية المذكورة كالنصّ في إرادته رضاءه بالثواب و دخوله في الجنّة، مع أن ادّعاء كون نزول الآية في حقّ أبي بكر ممنوع أشدّ المنع، حشرهم اللّه معه بتكلّفهم في إثبات فضيلة له مع أنّه خرط القتاد، بل تمسّكهم بأمثاله كتمسّك الغريق المتشبّث بكلّ حشيش.

ص: 509


1- . تفسير روح البيان 452:10.
2- . الضحى: 5/93.
3- . تفسير روح البيان 452:10.
4- . المائدة: 119/5.
5- . الفجر: 28/89.

ص: 510

في تفسير سورة الضحى

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الضُّحىٰ (1) وَ اللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة و الليل المتضمّنة لبيان كون الدنيا و الآخرة للّه، و فضيلة المؤمنين المنفقين في سبيل اللّه خالصا لوجهه، و أنّ اللّه يرضيهم في الآخرة بثوابه، نظمت سورة الأضحى المتصدّرة بالأيمان المناسبة لما صدر ما قبلها من الايمان المتضمّنة لبيان كون الآخرة خيرا من الدنيا، و لمنّته على رسوله، و فيه(1) على الانفاق على الفقير، و وعده بإعطائه ما يرضى به من الدرجات العالية التي يغبطه بها الأولون و الآخرون، و الشفاعة التي هي المقام المحمود، و غيرها من النّعم التي لا تدركها العقول، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالأيمان البالغة بقوله:

وَ الضُّحىٰ و بوقت ارتفاع الشمس و تجلّي النهار

وَ اللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ و سكن ظلامه و لا يزيد و لا ينقص إلى طلوع الفجر، و قيل: يعني إذا سكن أهله(2) ، و قيل: إذا أظلم(3). و عن ابن عباس: إذا غطّى الدنيا بالظّلمة(4).

قال الفخر الرازي: سورة وَ اللَّيْلِ سورة أبي بكر، و سورة وَ الضُّحىٰ سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما قدّم اللّه الليل على النهار في سورة أبي بكر، لأنّ أبا بكر سبقه كفر، و في هذه السورة قدّم الضحى لأنّ الرسول ما سبقه كفر، و الإشارة إلى أنّه [إذا] ذكرت الليل أولا و هو أبو بكر، وجدت بعده النهار و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله، إن ذكرت أوّلا الضحى و هو محمد، وجدت بعده الليل و هو أبو بكر(3).

أقول: على تقدير تسليم كون سورة وَ اللَّيْلِ سورة أبي بكر، يحتمل كون النّكتة في تقديم الليل فيها على النهار الإشعار بظهور الظّلمة الظلماء بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و بعد الظلمة ينجلي نور ولاية أوصيائه في آخر الزمان، و النّكتة في تقديم الضحى في هذه السورة على الليل الإشارة إلى ظهور نور

ص: 511


1- . كذا، و الظاهر: و حثه.
2- . تفسير أبي السعود 169:9، تفسير روح البيان 453:10. (3و4) . تفسير الرازي 207:31.
3- . تفسير الرازي 208:31.

محمّد و دينه أولا و ظهور الطّحية العمياء بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و في التكنية عن أبي بكر بالليل، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بالنهار و الضحى، على اعترافه، إشارة إلى أنّ أبا بكر باطنه ضدّ باطن الرسول، فانّه ظلمة محضة، كما أنّ الرسول نور محض، و كما أنّ الرسول أضاء الدنيا بنور علمه و هدايته، كذلك أظلم أبو بكر الدنيا بظلمة جهله و غوايته.

و قيل: إنّ نكتة تقديم الليل في سورة و تقديم الضحى في سورة الاشارة إلى أنّ لكلّ منهما شرف و فضيلة، و أنّ بهما ينتظم أمر العالم(1) ، فانّ المراد بالضّحى جميع النهار، و بالليل جميعه.

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المراد بالضحى هو الضحى الذي كلّم اللّه فيه موسى و بالليل(2) ليلة المعراج»(3).

و قيل: إنّ المراد بالضحى الضحى الذي ألقى فيه السّحرة سجّدا، حيث قال تعالى: وَ أَنْ يُحْشَرَ النّٰاسُ ضُحًى (4).

مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ (4) وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ (5) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ و ما بالغ في تركك بالحطّة عن درجة القرب و الكرامة و الوحي وَ مٰا قَلىٰ و ما أبغضك(5) بتركك و روى بعض العامّة، بل نسب إلى مفسّريهم: أنّه إبطاء [الوحي] عليه أربعين ليلة، فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت: لعلّ ربّك نسيك أو قلاك(6).

و روى بعضهم: أنّ مشركي قريش أرسلوا إلى يهود المدينة و سألوهم عن أمر محمد صلّى اللّه عليه و آله، فقالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف، و عن قصّة ذي القرنين، و عن الرّوح، فان أخبركم عن قصّة أهل الكهف، و قصّة ذي القرنين، و لم يخبركم عن أمر الروح، فاعلموا أنّه صادق. فجاءه المشركون سألوه عنها، فقال: ارجعوا سأخبركم غدا» و لم يقل: إن شاء اللّه، فاحتبس الوحي عنه، فقال المشركون:

إنّ محمدا ودّعه ربّه و قلاه(7) ، فنزلت السورة.

و روى بعضهم، أنّ جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير و مات، فمكث نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال لخادمته: «يا خولة، ما حدث في بيتي، إنّ جبرئيل لا يأتيني» قالت خولة: فكشفت

ص: 512


1- . تفسير الرازي 207:31.
2- . في النسخة: و بالليلة.
3- . تفسير أبي السعود 169:9.
4- . تفسير روح البيان 452:10، و الآية من سورة طه: 59/20.
5- . زاد في النسخة: كي.
6- . تفسير الرازي 209:31.
7- . تفسير روح البيان 454:10.

البيت، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فاذا جرو ميت، فأخذته و القيته خلف الجدار، فجاء نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرتعد، و كان إذا انزل الوحي استقبلته الرّعدة، فقال: «يا خولة، دثّريني، فأنزل اللّه هذه السورة، فلمّا نزل جبرئيل سأله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن سبب تأخيره، فقال: أ ما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كذب و لا صورة(1).

و عن القمي، عن الباقر عليه السّلام: «أنّ جبرئيل أبطأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانت أول سورة نزلت اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (2) ثمّ أبطأ عليه فقالت خديجة: لعلّ ربّك قد تركك فلا يرسل إليك، فأنزل اللّه تبارك و تعالى: مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ» (3) فليس الأمر كما قالوه، بل الوحي يأتيك مدّة عمرك، و تدوم محبّتي لك في الدنيا و الآخرة.

وَ لَلْآخِرَةُ الباقية الصافية عن شوائب المضارّ و الهموم و الآلام، و ما أعددته لك فيها من النّعم و الشّرف و الكرامات خَيْرٌ لَكَ و أفضل مِنَ الْأُولىٰ و الدنيا الفانية الزائلة. و عن الصادق قال:

«يعني الكرّة»(4).

وَ و اللّه لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ و عن قريب يتمّ نعمه الجسمانية و الروحانية و الظاهرية و الباطنية و الدنيوية و الاخروية عليك فَتَرْضىٰ غاية الرضا بعطاء ربّك و إفضاله.

قيل: لمّا قال سبحانه لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ كأنّه قيل: ما جهة خيريّتها؟ قال سبحانه: إنّ اللّه يعطيه في الآخرة كلّ ما يريده ممّا لا تتّسع الدنيا له(5).

عن ابن عباس، أنّه قال: ألف قصر في الجنّة من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك، و فيها ما يليق [بها](6).

عن الصادق عليه السّلام: «يعطيك من الجنّة ما ترضى»(7).

و عنه عليه السّلام: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة عليها السّلام و عليها كساء من ثلّة(8) الإبل و هي تطحن بيدها، و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل اللّه عليّ وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ» (9).

و في رواية: قالت: «يا رسول اللّه، الحمد للّه على نعمائه، و الشكر على آلائه، فأنزل اللّه وَ لَسَوْفَ

ص: 513


1- . تفسير روح البيان 454:10.
2- . العلق: 1/96.
3- . تفسير القمي 428:2، تفسير الصافي 340:5.
4- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 340:5.
5- . تفسير الرازي 212:31.
6- . تفسير الرازي 212:31.
7- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 340:5.
8- . الثّلّة: الصوف.
9- . مجمع البيان 765:10، تفسير الصافي 340:5.

يُعْطِيكَ» (1) الآية.

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ هذا هو الشفاعة في الامة»(2) و روي أيضا عن ابن عباس(3).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية قال: «إذا لا أرضى و واحد من امّتي في النار»(4).

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «رضا جدي أن لا يدخل في النار موحّد»(5).

و رووا عن الباقر عليه السّلام: «أهل القرآن يقولون: أرجى آية في كتاب اللّه يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ (2) و إنا أهل البيت نقول: أرجى آية قوله: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ و اللّه إنّها الشفاعة، ليعطاها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتّى يقول: رضيت»(3).

و عن محمد بن الحنفية أنّه قال: يا أهل العراق، تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ و إنّا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب اللّه وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ...

الآية، هي و اللّه الشفاعة، ليعطينّها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول: رضيت»(4).

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ (7) وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ (8) ثمّ قرّر سبحانه حبّه إياه بتعداد نعمه السابقة عليه بقوله:

أَ لَمْ يَجِدْكَ ربّك يا محمد، و لم يعلمك في بدو ولادتك من امّك يَتِيماً و صغيرا منقطعا عن أبيك بموته فَآوىٰ و كفلك عبد المطلب و أبا طالب في الأثر، إنّ عبد اللّه بن عبد المطلب توفّي بالمدينة و امّ رسول اللّه حامل به، ثمّ ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان مع جدّه عبد المطلب و امّه آمنه ستّ سنين، ثمّ ماتت امّه فكان عند جدّه سنتين، فلمّا قربت وفاة جدّه عبد المطلب أوصى به أبا طالب و هو ابن ثمان سنين، و إنّما أوصاه به لأنّ أبا طالب و عبد اللّه كانا من امّ واحدة، فكان أبو طالب يكفل رسول اللّه بعد جدّه إلى أن بعثه اللّه فقام بنصرته إلى حين وفاته، فلم يظهر على رسول اللّه يتم، فكان هذا نعمة عظيمة من اللّه عليه(5).

روي انه قال أبو طالب يوما لأخيه العبا: أ لا اخبرك بما رأيت من محمد؟ فقال: بلى. فقال: إنّي ضممته إليّ، فكنت لا افارقه ساعة من ليل أو نهار، و لا ائتمن عليه أحد حتى أنّي كنت انوّمه في فراشي، فأمرته أن يخلع ثيابه و ينام معي، فرأيت الكراهة في وجهه، لكنّه كره أن يخالفني، فقال: «يا عمّاه، اصرف وجهك عنّي حتّى أخلع ثيابي، إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي» فتعجّبت من

ص: 514


1- . مناقب ابن شهرآشوب 342:3، تفسير الصافي 341:5. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 212:31.
2- . الزمر: 53/39.
3- . تفسير الرازي 212:31.
4- . مجمع البيان 765:10، جوامع الجامع: 544، تفسير الصافي 341:5.
5- . تفسير الرازي 214:31.

قوله، و صرفت بصري حتى دخل الفراش، فلمّا دخلت معه الفراش إذا بيني و بينه ثوب، و اللّه ما أدخلته فراشي، فاذا هو في غاية اللين و طيب الرائحة، كأنّه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده، فما كنت أرى شيئا، و كثيرا ما كنت افتقده من فراشي، فاذا قمت لطلبه ناداني: «[ها] أنا يا عمّ» فأرجع، و لقد كنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني، و ذلك عند مضيّ بعض الليل، و كنّا لا نسمّي على الطعام و الشراب، و لا نحمد بعده، و كان يقول في أوّل الطعام: بسم اللّه الأحد، فاذا فرغ من طعامه قال:

الحمد للّه، فتعجّبت منه، ثمّ لم أر منه كذبة و لا ضحكا و لا جاهلية، و لا وقف مع صبيان يلعبون(1).

سئل الصادق عليه السّلام: لم أوتم النبي صلّى اللّه عليه و آله عن أبويه ؟ فقال: «لأن لا يكون لمخلوق عليه حقّ»(2).

أقول: يعني الحقّ العظيم الذي يكون تالي حقّ اللّه.

و قيل: إنّ المراد باليتيم الفريد في الفضل و العزّ عديم النظير في قريش، أو في البشر، فآواك و جعل لك من تأوى إليه و هو أبو طالب.

و في (الكشاف): و من بدائع التفسير أنّه من قوله: درّة يتيمة، و المعنى أ لم يجدك واحدا في قريش عديم النظير، أي في العزّ و الشرف، فآواك في دار أعدائك، فكنت بين القوم معصوما محروسا(3).

و عن العياشي عن الرضا عليه السّلام: «يَتِيماً فردا لا مثل لك في المخلوقين فَآوىٰ الناس إليك»(4).

و في (العيون) عنه ما يقرب منه(5).

وَ وَجَدَكَ و رآك ضَالاًّ عن معالم النبوة و أحكام الشريعة، غافلا عنها فَهَدىٰ إليها، كما عن ابن عباس(6).

و قيل: يعني ضالا عن النبوة، يعني ما كنت تطمعها فهداك اللّه إليها(7).

و قيل: يعني وجدك خاليا عن العلم و المعارف في بدو خلقتك، فهداك بأن أعطاك العقل الكامل و المعرفة الكاملة(8).

و قيل: يعني وجدك راغبا إلى فعال الجاهلية فهداك و حال بينك و بينها(7).

روي عن علي عليه السّلام أنّه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما هممت بشيء ممّا كان أهل الجاهلية يعملون به غير

ص: 515


1- . تفسير الرازي 214:31.
2- . مجمع البيان 765:10، تفسير الصافي 342:5.
3- . الكشاف 767:4 «نحوه»، تفسير روح البيان 457:10.
4- . مجمع البيان 767:10، تفسير الصافي 341:5.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/199:1، تفسير الصافي 341:5.
6- . تفسير الرازي 215:31 و 216. (7و8) . تفسير الرازي 215:31 و 216.
7- . تفسير الرازي 217:31.

مرتين، كلّ ذلك يحول اللّه بيني و بين ما اريد من ذلك، ثمّ ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني اللّه برسالته»(1).

أقول: المذهب الذي عليه أهل الحقّ أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله معصوم من الهمّ بالمعصية من أوّل عمره إلاّ أن يحمل السوء في الرواية على ترك الاولى.

و قيل: إنّ العرب تسمّي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، و المعني وجدك في تلك البلاد كشجرة في مفازة الجهل، لا يحمل ثمرة الايمان إلا أنت، فهديت بك الخلق(2).

و قيل: يعني وجدك ضالا و منفردا عن الضالين مجانبا لدينهم، فهديك إلى معاشرتهم، و دعوتهم إلى الدين المبين(3).

و قيل: وجدك ضالا عن مرضعتك حليمة حين أرادت أن تردّك إلى جدّك، فدخلت على هبل فشكت إليه فتساقطت الأصنام، و سمعت صوتا يقول: إنّما هلاكنا بيد هذا الصبي(4).

و روي أنّه عليه السّلام قال: «ضللت عن جدّي عبد المطلب و أنا صبيّ ضائع، كاد الجوع يقتلني، فتعلّق باستار الكعبة و هو يقول:

يا ربّ، ردّ ولدي محمدا [اردده ربي و اصطنع عندي يدا]

فما زال يردّد هذا عند البيت حتّى أتاه أبو جهل على ناقة و محمّد بين يديه، و هو يقول: لا تدري ما ذا ترى من ابنك ؟ فقال عبد المطلب: و لم ؟ قال: إنّي أنخت الناقة و أركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلمّا أركبته أمامي قامت الناقة»(5).

و عن ابن عباس أنّه قال: ردّه اللّه إلى جدّه بيد عدوّه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه(6).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج مع غلام خديجة، فأخذ كافر بزمام بعيره حتى ضلّ، فأنزل اللّه تعالى جبرئيل في صورة آدمي فهداه إلى القافلة(7).

و قيل: إنّ أبا طالب خرج به إلى الشام، فضلّ عن الطريق، فهداه اللّه إليه(8).

و قيل: يعني وجدك ضالا و مغمورا في الكفّار، فقواك اللّه حتّى أظهرت دينك(9).

و عن الرضا عليه السّلام: «و وجدك ضالا في قوم لا يعرفون فضل نبوتك فهداهم اللّه بك»(2).

و في رواية عنه عليه السّلام: «وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ يعني عند قومك فَهَدىٰ أي هداهم إلى معرفتك»(3).

ص: 516


1- . تفسير الرازي 217:31. (2و3) . تفسير الرازي 216:31. (4-5-6-7-8-9) . تفسير الرازي 216:31.
2- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 341:5، و لم ينسباه إلى الإمام الرضا عليه السّلام.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/100:1، تفسير الصافي 341:5.

وَ وَجَدَكَ و رآك عٰائِلاً و فقيرا و عديما لا مال لك فَأَغْنىٰ ك بتربية أبي طالب، ثمّ بمال خديجة، ثمّ باعانة الأنصار، ثمّ بالغنائم.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله دخل على خديجة و هو مضموم، فقالت له: ما لك ؟ فقال: «الزمان زمان قحط، فان أنا بذلت المال ينفد مالك فأستحي منك، و إن لم أبذل أخاف اللّه تعالى» فدعت خديجة قريشا و فيهم أبو بكر، قال أبو بكر: فأخرجت خديجة دنانير و صبّتها حتّى بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدّامي لكثرة المال، ثمّ قالت: اشهدوا أنّ هذا المال مال محمد، إن شاء فرّقه، و إن شاء أمسكه(1).

و قيل: يعني أغني قلبه بالقناعة، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «الغني غنى النفس»(2). و عن الرضا عليه السّلام: وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ يقول بأن جعل دعاءك مستجابا»(3).

و عن القمي: يعني فأغناك بالوحي، فلا تسأل عن شيء أحدا(4).

و عن الرضا عليه السّلام: «و وجدك عائلا تعول أقواما بالعلم، فأغناهم اللّه بك»(5).

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ (6) وَ أَمَّا السّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ (7) وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ثمّ لمّا منّ سبحانه على رسوله بإيوائه و رعاية حاله في اليتم، أمره بشكر تلك النعمة بقوله:

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ و لا تضجره بكلام تكسر قلبه، و عامل معه كما عاملت معك.

وَ أَمَّا السّٰائِلَ سواء سأل المال أو العلم أو غيرهما فَلاٰ تَنْهَرْ و لا تستقبله بكلام يضجره.

و عن القمي رحمه اللّه قال: فلا تطرده(8) ، قيل: المخاطبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و المعنى للناس(9).

وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ من الغنى و النبوة و الهداية أو الكتاب فَحَدِّثْ و أظهرها بين الناس.

عن الصادق عليه السّلام: «معناه فحدّث بما أعطاك اللّه و فضلك و رزقك و أحسن إليك و هداك»(10).

و عن الحسين بن علي عليهما السّلام: «أمره أن يحدّث بما أنعم اللّه عليه من دينه»(9).

و قيل: يعني إذا وفّقك اللّه لرعاية حقّ اليتيم و السائل، فحدّث بذلك التوفيق الذي هو نعمة اللّه عليك ليقتدي الناس بك(10).

ص: 517


1- . تفسير الرازي 218:31.
2- . تفسير روح البيان 458:10.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/200:1، تفسير الصافي 342:5.
4- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 342:5.
5- . مجمع البيان 767:10، تفسير الصافي 342:5.
6- . المحاسن: 115/218، تفسير الصافي 342:5.
7- . تفسير الرازي 220:31.
8- . في المصدر و تفسير الصافي: أي لا تظلم.
9- . تفسير القمي 427:2، تفسير الصافي 342:5.
10- . مجمع البيان 768:10، تفسير الصافي 342:5.

روى بعض العامة عن الحسين بن علي عليهما السّلام أنّه قال: «إذا عملت خيرا فحدّث إخوانك ليقتدوا بك»(1).

و رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن الصحابة، فأثنى عليهم و ذكر خصاله، فقالوا له: فحدّثنا عن نفسك. فقال: «مهلا، فقد نهى اللّه عن التزكية» فقيل له: أ ليس اللّه تعالى يقول: وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ؟ فقال: «فإني احدّث: كنت إذا سألت اعطيت، و إذا سكتّ ابتدئت، و بين الجوانح علم جمّ فاسألوني(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة و ظهرت عليه سمّي حبيب اللّه محدثا بنعمة اللّه، و إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض اللّه مكذبا بنعمة اللّه»(3).

قيل: إنّما قدّم اللّه حقّ اليتيم و الفقير على حقّ نفسه للإشعار بأنّه غنيّ، و اليتيم و الفقير محتاجان، فإذا كان كذلك فتقديم المحتاج اولى، و إنّما قال: فَحَدِّثْ و لم يقل: فأخبر، لدلالة الحديث على الإعادة مرّة بعد اخرى لئلا ينساه(4).

قد مرّ ثواب تلاوة السورة المباركة، و الحمد للّه على التوفيق لتفسيرها.

ص: 518


1- . تفسير الرازي 220:31.
2- . تفسير الرازي 220:31.
3- . الكافي 2/438:6، تفسير الصافي 342:5.
4- . تفسير الرازي 220:31.

في تفسير سورة الشرح

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الضُّحىٰ المتضمّنة لبيان منّته تعالى على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، نظمت سورة الانشراح المتضمّنة أيضا لبيان بعض منّته الاخرى، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في تعديد بعض نعمه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

أَ لَمْ نَشْرَحْ و لم نوسّع لَكَ يا محمد صَدْرَكَ و لم نفسح قلبك للعلم و الحكمة و تلقّي الوحي ؟ بلى وسّعناه بحيث صار خزانة علمي، و محيطا بعوالم الملك و الملكوت، و مطّلعا على أسرار السماوات و الأرض.

روي أن جبرئيل أتاه و شقّ صدره، و أخرج قلبه و غسله و أنقاه، ثمّ ملأه علما و إيمانا و وضعه في صدره(1).

أقول: لعلّ غسل قلبه و إنقاءه كناية عن تقويته لتحمّل ما فوق طاقة البشر من العلوم و الأسرار و المعارف، و تطهيره عن الميل إلى غير اللّه، و التوجه إلى الراحة و اللذائذ الدنيوية و قبول الأهواء الرائعة النفسانية. و قد أشار سبحانه إلى مرتبة منه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (2).

و قد سبق في تفسير الآية و أنّه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قيل له: أ ينشرح الصدر؟ قال: «نعم» قالوا: يا رسول اللّه، و هل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: «نعم، التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الإعداد للموت قبل نزوله»(3).

أقول: فمن كان قلبه متوجّها إلى اللّه معرضا عن غيره لعلمه بحقارة الممكنات و عظمة خالقها، صار منزّها عن كلّ دنس مطهّرا عن كلّ رجس، منوّرا بأنوار المعارف، و مملوءا بالعلم و الحكمة.

ص: 519


1- . تفسير الرازي 2:32.
2- . الأنعام: 125/6.
3- . تفسير الرازي 3:32.

وَ وَضَعْنٰا عَنْكَ وِزْرَكَ (1) اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (2) وَ رَفَعْنٰا لَكَ ذِكْرَكَ (3) ثمّ منّ سبحانه عليه بتخفيف أعباء الرسالة بقوله:

وَ وَضَعْنٰا و حططنا عَنْكَ وِزْرَكَ و ثقلك

اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قيل: إنّ الحمل إذا كان في غاية الثقل سمع للظهر صوت خفيّ يقال له النقيض(4). فوصف الثّقل بكونه منقضا، كناية عن كونه في غاية الثّقل، و ليس هو إلاّ ثقل أعباء الرسالة، و قد خفّفه اللّه عليه بتقوية قلبه، و إمدادا بعلي بن أبي طالب عليه السّلام و الملائكة المسوّمين.

و قيل: إنّ المراد بالوزر و ذنوب امّته، و المراد بوضعها وعده بقبول شفاعته فيهم حتّى يرضى(2).

قيل: إنّ عطف وَ وَضَعْنٰا على معنى أَ لَمْ نَشْرَحْ و المعنى: إنّا شرحنا لك صدرك، و إنّا وضعنا عنك وزرك(3).

وَ إنا رَفَعْنٰا و علونا لَكَ ذِكْرَكَ بحيث تذكر إذا ذكرت، كما عن القمّي(4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «قال: لي جبرئيل: قال اللّه عزّ و جلّ: إذا ذكرت ذكرت معي»(5).

و قيل: إنّه تعالى رفع ذكره(6) بالنبوة، و شهر اسمه في السماوات و الأرضين، و كتبه على العرش، و في الكتب السماوية المتقدّمة، و قرن ذكره بذكره في القرآن حيث قال: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (7) و قال: وَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (8) إلى غير ذلك(9).

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ثمّ لمّا كان المشركون يعيّرونه بالفقر حتّى وقع في قلبه أنّ فقره مانع عن إسلام المتكبّرين، سلبه سبحانه بقوله:

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ و الضيق الذي أنت فيه يُسْراً وسعة كاملة في الدنيا، فلا تحزن بالفقر الذي يطعنك به الكفرة، كذا قيل(10).

ثمّ بالغ سبحانه في تسليته بتكرار القضية تأكيدا بقوله:

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قال الفرّاء و الزجاج:

إنّ العسر المعرف بال منصرف إلى الجنس لعدم العهد و هو حقيقة واحدة، و أمّا كلمة يُسْراً لمّا كان منكرا قابلة لإرادة نوعين منه، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «لن يغلب عسر يسرين»(11).

و عن ابن عباس أنّه قال: يقول اللّه، خلقت عسرا واحدا بين يسرين، فلن يغلب عسر يسرين(12).

قيل: إنّ تنكير اليسر دالّ على عظمته، كأنّه قال: [إنّ] مع العسر يسرا عظيما(13) ، و المراد بالمعية مع كونهما ضدّين التعاقب بغير فصل، أو مع الفصل بزمان قليل.

ص: 520


1- . تفسير الرازي 4:32.
2- . تفسير أبي السعود 172:9.
3- . تفسير القمي 428:2، تفسير الصافي 343:5.
4- . تفسير الرازي 4:32.
5- . مجمع البيان 771:10، تفسير الصافي 343:5.
6- . في النسخة: ذكرنا.
7- . النساء: 59/4.
8- . التوبة: 62/9.
9- . تفسير الرازي 5:32.
10- . تفسير الرازي 6:32.
11- . تفسير الرازي 6:32.
12- . تفسير الرازي 6:32.
13- . تفسير الرازي 6:32.

فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (1) وَ إِلىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ثمّ إنّه تعالى بعد تعديد نعمه الجليلة أمره بالشكر و الاجتهاد في العبادة بقوله:

فَإِذٰا فَرَغْتَ من تبليغ الرسالة، أو من تنظيم ما هو من ضروريات معاشك، أو من المهام الدنيوية، أو من الجهاد فَانْصَبْ و أتعب نفسك في العبادة.

و قال جمع من المفسرين: يعني إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب نفسك في الدعاء(2)

وَ إِلىٰ مسألة رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ و بقلبك إليه فتوجّه.

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «فاذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربّك في الدعاء، و ارغب إليه في المسألة يعطك»(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس»(3).

و قيل: يعني إذا فرغت من عبادة عقبها باخرى و أوصل بعضها ببعض، و لا تخلّ وقتا من أوقاتك فارغا لم تشغله بعبادة(3).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «فاذا فرغت من نبوّتك، فانصب عليا عليه السّلام، و إلى ربّك فارغب في ذلك»(4).

و عنه عليه السّلام في حديث قال: «يقول اللّه: فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ علمك و أعلن وصيّك، و أعلمهم فضله علانية، فقال: من كنت مولاه...» قال: «و ذلك حين أعلم بموته نعيت إليه نفسه»(5).

أقول: يحتمل أن تكون هذه الأخبار بيان مصداق العبادة التي وجب إتعاب النفس فيها بعد الفراغ من العبادة، و المراد إذا فرغت من تبليغ الرسالة فأتعب نفسك فيما هو الأهمّ بعده، و هو تعيين الخليفة، فظهر أنّ صحّة مضمون الأخبار ليست موقوفة على قرابة، فانصب بكسر الصاد من النّصب بالسكون فنسبة الزمخشري المتعصّب قراءة (فانصب) بالكسر و تفسيره بالأمر بنصب عليّ عليه السّلام للإمامة إلى بدع الشّيعة من الأغلاط.

ثمّ اعلم أنّ قوله -: بأنّه لو صحّ هذا للرافضي لصحّ للناصبي أن يقرأ هكذا، و يجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض عليّ و عداوته (7)- ممّا تضحك به الثكلى؛ لأنّ جواز بغض عليّ عليه السّلام مخالف لضرورة الاسلام و الأخبار المتواترة الدالة على وجوب حبّه و ولايته، نعوذ باللّه من خبث الطينة، و عمى القلب، و سوء السريرة، و الضلال عن الحقّ.

ص: 521


1- . الكشاف 772:4.
2- . تفسير الرازي 7:32، تفسير أبي السعود 173:9، تفسير البيضاوي 607:2. (2و3) . مجمع البيان 772:10، تفسير الصافي 344:5.
3- . تفسير الرازي 7:32.
4- . تفسير القمي 429:2، و تفسير الصافي 344:5، عن الصادق عليه السّلام.
5- . الكافي 3/233:1، و تفسير الصافي 344:5، عن الصادق عليه السّلام.

عن الصادق عليه السّلام: «و لا يجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى و أ لم نشرح، و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش»(1).

و قد سبق ثواب قراءتها في سورة (و الشمس) و في رواية: «من قرأها فكأنّما جاءني و أنا مغتمّ ففرّج عنّي»(2).

قد تمّ تفسير السورة المباركة.

ص: 522


1- . مجمع البيان 827:10، تفسير الصافي 345:5.
2- . تفسير أبي السعود 173:9.

في تفسير سورة التين

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) ثمّ لمّا ختمت السورتان المتضمّنتان لمنن اللّه على أشرف الخلق و أفضل البشر، نظمت سورة التين، المتضمّنة لبيان منّته على عموم البشر بتحسين خلقهم، و على مؤمنيهم بالأجر العظيم، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بخير الفواكه و أحمدها بقوله:

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ المشهورين، كما عن ابن عباس أنّه قال: هو تينكم و زيتونكم هذا(1) ، أمّا القسم بالتين فلفضله و خواصّه، حيث إنّه غذاء و فاكهة و دواء. قيل: إنّ الأطباء قائلون بأنّه طعام لطيف سريع الهضم، يلين الطبع، و يسمن البدن، و يقلل البلغم، و يطهّر الكليتين، و يزيل الرمل المتكون في المثانة و يفتح مسامّ الكبد و الطّحال(2).

و روي: أنّه اهدي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طبق من تين، [فاكل منه] ثمّ قال للصحابة: «كلوا. فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم، فكلوها فانّها تقطع البواسير، و تنفع من النّقرس»(3).

و عن الرضا عليه السّلام بطريق عامّي: «التين يزيد نكهة الفم، و يطوّل الشعر، و هو أمان من الفالج»(4).

و أمّا الزيتون فهي ثمرة الشجرة المباركة المذكورة في القرآن، هو أيضا غذاء و دواء و فاكهة، و دهنه كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهن فيها كالجبال، قيل: تعمّر شجرته ثلاثة آلاف سنّة، و تصبر عن الماء مدّة طويلة، و رماد و رقها ينفع العين كحلا و يقوم مقام التّوتياء(5).

و في الحديث العامي: «عليكم بالزيت، فانّه يكشف المرّة، و يذهب البلغم، و يشدّ العصب، و يمنع

ص: 523


1- . تفسير الرازي 8:32.
2- . تفسير الرازي 8:32.
3- . تفسير الرازي 8:32، و النقرس: مرض مؤلم يحدث في مفاصل القدم و في إبهامها أكثر، و يسمّى داء الملوك.
4- . تفسير الرازي 8:32.
5- . تفسير روح البيان 466:10، و التّوتياء: حجر يكتحل بمسحوقه.

الغشي، و يحسن الخلق، و يطيّب النفس، و يذهب الهمّ»(1).

و عن ابن عباس: أنّ التين و الزيتون جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية: طور تينا و طور زيتا لأنّهما منبتا للتين و الزيتون، و شرّفا لأنّ الأول محلّ عيسى بن مريم، و الثاني هو الشام، و هو مبعث أكثر الأنبياء من بني إسرائيل(2).

و قيل: إن التين مسجد دمشق، و الزيتون مسجد بيت المقدس(3).

و قيل: إنّ الاول مسجد أصحاب الكهف، و الثاني مسجد إيليا(4).

و عن ابن عباس: التين مسجد نوح النبي على الجودي، و الزيتون مسجد بيت المقدس(5) ، و إنّما سمّيت تلك المساجد بهذين الاسمين لكثرة الشجرين في مكانها(2).

و قيل: إنّ التين اسم دمشق(3). و قيل: اسم الكوفة، و الزيتون اسم بيت المقدس(8). و قيل: اسم الشام(9).

قيل: إنّما أقسم سبحانه بهذين البلدين لكثرة نعم الدنيا فيهما (10).

وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) ثمّ أقسم سبحانه بالطّور، و هو جبل كلّم اللّه موسى عليه بقوله:

وَ طُورِ سِينِينَ قيل: إنّ سِينِينَ و سَيْنٰاءَ اسمان للوادي الذي فيه ذلك الجبل(4).

و عن ابن عباس: أنّ سِينِينَ بمعنى الحسن بلغة الحبشة(5). و قيل: بمعنى المبارك(13). و قيل:

بمعني ذي شجر، و المراد القسم بجبل واقع بأرض حسنة و مباركة(14).

ثمّ إنّه تعالى بعد القسم بالأماكن التي يعظّمها اليهود و النصارى أقسم بالمكان الذي يعظّمه المشركون و المسلمون بقوله:

وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ و تلك القرية الآمنة من الغوائل، و هي بالاتفاق مكّة المعظّمة، و إنّما أقسم سبحانه بهذين المكانين لغاية شرفهما، بكون الأول مبعث موسى، و الثاني مبعث خاتم الأنبياء، و لكثرة النّعم الدينية فيهما.

عن الكاظم عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تبارك و تعالى اختار من البلدان أربعة، فقال:

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فالتين المدينة، و الزيتون بيت المقدس،

ص: 524


1- . تفسير روح البيان 467:10. (2و3) . تفسير الرازي 9:32. (4و5) . تفسير الرازي 9:32، تفسير أبي السعود 174:9.
2- . تفسير الرازي 9:32.
3- . تفسير الرازي 10:32، تفسير أبي السعود 174:9. (8-9) . تفسير الرازي 10:32.
4- . تفسير الرازي 10:32، تفسير روح البيان 467:10.
5- . تفسير الرازي 10:32. (13و14) . تفسير الرازي 10:32.

و طور سنين الكوفة، و هذا البلد الأمين مكة»(1).

و عنه عليه السّلام في تأويل الكلمات قال: «التين و الزيتون الحسن و الحسين عليهما السّلام، و طور سينين أمير المؤمنين عليه السّلام، و هذا البلد الأمين محمد»(2).

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (3) ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ (4) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

لَقَدْ خَلَقْنَا و أوجدنا اَلْإِنْسٰانَ كائنا فِي أَحْسَنِ ما يكون من تَقْوِيمٍ و تعديل صورة(5) و معنى، حيث سواه مستوي القامة، متناسب الأعضاء، حسن الشكل، مدبّرا في الامور، متصرّفا في الموجودات، جامعا لانموذج ما في عالم الوجود، قابلا(4) للكمالات الظاهرية و الباطنية

ثُمَّ بعد استجماعه لجميع ما يتوقّف عليه صعوده إلى أعلى علّيين رَدَدْنٰاهُ بالخذلان و سوء الأخلاق و الأعمال من أحسن تقويم و جعلناه أَسْفَلَ سٰافِلِينَ و أقبح(5) المخلوقين و أنزل الموجودين، و صيرناه إلى النار.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «وضع أبواب جهنّم بعضها أسفل من بعض، فيبدأ بالأسفل فيملا و هو أسفل سافلين»(6).

و عن ابن عباس: يريد أرذل العمر(7) ، و المعنى ثمّ جعلناه أضعف الضعفاء، و هم الزمنى الذين لا يستطيعون حيلة و لا يجدون سبيلا.

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمٰا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) ثمّ اعلم أنّه على التفسير الأول يصحّ الاستثناء المتّصل بقوله:

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ فَلَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ و ثواب غَيْرُ مَمْنُونٍ و منقطع و لا منقوص، أو المراد ثواب لا منّة فيه.

و على التفسير الثاني يكون الاستثناء منقطعا، و المعنى: و لكن الضّعفاء الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر دائم على إيمانهم و أعمالهم و صبرهم على الابتلاء بالضّعف و الهرم على مقاساة المشاقّ و تحمّل كلفة العبادة.

و عن الكاظم عليه السّلام في تأويل الآيات قال: «الانسان: الأوّل ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ ببغضه أمير

ص: 525


1- . الخصال: 58/225، معاني الأخبار: 1/364، تفسير الصافي 346:5.
2- . مناقب ابن شهرآشوب 394:3، تفسير الصافي 346:5.
3- . في النسخة: قائلا.
4- . في النسخة: و افتح. (6و7) . تفسير الرازي 11:32.
5- . في النسخة: صورتنا.

المؤمنين عليه السّلام إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا... الى آخره، قال: علي بن أبى طالب عليه السّلام»(1).

فَمٰا يُكَذِّبُكَ أيّها الانسان، و أيّ شيء يلجئك و يحملك بَعْدُ و وراء الآيات البينات و المعجزات الباهرات على التكذيب بِالدِّينِ و دار الجزاء؟ أو المراد: فما يجعلك أيّها الانسان كاذبا بسبب الدين و إنكاره بعد هذا الدليل ؟ و هو خلق الانسان من نطفة من ماء مهين في أحسن تقويم، فانّ القادر على ذلك قادر على البعث و الجزاء، أو المراد: فأيّ، يكذّبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل بالدين.

أَ لَيْسَ اللّٰهُ بِأَحْكَمِ الْحٰاكِمِينَ (2) ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات قدرته ببيان خلقة الانسان في احسن الصور و ردّه إلى أقبحها، أو إلى أرذل العمر، أنكر على من أنكر حكمته بإنكار البعث للجزاء بقوله:

أَ لَيْسَ اللّٰهُ الذي فعل ما فعل بِأَحْكَمِ الْحٰاكِمِينَ و أتقن من جميع المتقنين للامور صنعا و تدبيرا؟ فاذا قالوا: بلى، لعدم إمكان إنكاره، كان عليهم الاقرار بالإعادة و الجزاء؛ لأنّ إنكارهما لا يمكن إلاّ لقولهم بعجزه عن الإعادة، أو لقولهم بكونه عابثا، و كلاهما مناف للاقرار بكونه تامّ القدرة(3) و الحكمة.

و قيل: إنّ المعنى: أ ليس اللّه بأقضى القاضين ؟ فهو يحكم و يقضي بينك و بين من يكذّبك في الرسالة و الإخبار بالبعث، فهو و عيد للمكذّبين(4).

روي عن أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأها يقول: «بلى، و أنا على ذلك من الشاهدين»(5).

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يأمر أصحابه أن يقولوا إذا قرءوها ذلك(6).

و روي عن أمير المؤمنين و عن الرضا عليه السّلام أنّهما لمّا قرآها قالا: «بلى، و إنّا على ذلك من الشاهدين»(7).

روى عن بعض العامة: أنّ من قرأ هذه السورة أعطاه اللّه خصلتين: العافية، و اليقين، ما دام في الدنيا [فاذا مات أعطاه اللّه] من الأجر(8) بعدد من قرأها»(8).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ (و التين) في فرائضه و نوافله، أعطى من الجنّة حيث يرضى»(9).

الحمد للّه على التوفيق لتفسيرها.

ص: 526


1- . مناقب ابن شهرآشوب 394:3، تفسير الصافي 347:5.
2- . تفسير البيضاوي 608:2، تفسير أبي السعود 176:9.
3- . في النسخة: القدر.
4- . تفسير روح البيان 470:10.
5- . مجمع البيان 777:10، تفسير أبي السعود 176:9، تفسير روح البيان 470:10.
6- . تفسير روح البيان 470:10.
7- . الخصال: 629، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/183:2، تفسير الصافي 347:5.
8- . في النسخة: و يعطى من الأجرة.
9- . ثواب الأعمال: 123، مجمع البيان 774:10، تفسير الصافي 347:5.

في تفسير سورة العلق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لبيان نعم اللّه على الانسان بخلقه في أحسن تقويم و أنّه مع ذلك يردّ إلى أسفل سافلين، نظمت سورة العلق المتضمّنة لبيان خلقه من أخسّ الأشياء، و ترقّيه إلى أعلى الدرجات من العلم بالكتاب و تعليمه العلوم، و طغيانه مع ذلك على اللّه العظيم، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

و لمّا ذكر سبحانه في السورتين السابقتين منّته على رسوله، ابتدأ السورة بذكر أعلى منّته عليه، و هو رسالته و إنزال الوحى إليه بقوله:

اِقْرَأْ يا محمد، ما يوحى إليك من كتاب ربّك، روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«كيف اقرأ، و ما أنا بقارئ ؟» فكأنّه تعالى قال: اقرأ القرآن مفتتحا أو مستعينا (1)بِاسْمِ رَبِّكَ و إنّما وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالربوبية و أضافها إليه ليزول الفزع عنه؛ لأنّه أول ما أنزل إليه. عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّها أوّل سورة نزلت»(2).

و ليرغّبه في طاعته، فكأنّه تعالى قال: هو الذي ربّاك حين كنت علقا، فكيف يضيّعك بعد ما صرت أشرف الموجودات.

ثمّ قيل: لمّا كانت العرب يطلقون الربّ على الصنم، و يسمّون الأصنام أربابا(3) ، وصف ذاته المقدّسة بما يخرجه عن توهّم الشركة، و بما لا يمكنهم إنكاره و إثباته للأصنام بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ كلّ شيء بقدرته، لاعترافهم بأنّ الخلق مختص باللّه وحده. و عن الباقر عليه السّلام: «الذي خلق نورك القديم قبل الأشياء»(4).

ثمّ خصّ سبحانه الانسان بالذكر لاستقلاله ببديع الصنع و التدبير، أو بيّن ما أبهم في قوله: اَلَّذِي

ص: 527


1- . تفسير الرازي 13:32.
2- . تفسير القمي 428:2، تفسير الصافي 348:5.
3- . تفسير روح البيان 472:10.
4- . تفسير القمي 430:2، تفسير الصافي 348:5.

خَلَقَ بقوله:

خَلَقَ الْإِنْسٰانَ الذي هو أعجب المخلوقات و أشرفها مِنْ عَلَقٍ و قطعات دم متكوّنة من نطف قذرة، و إنّما قال: عَلَقٍ بصيغة الجمع باعتبار معنى الانسان و كثرته، أو لمراعاة الفواصل، فنبّه سبحانه على أنّ من خلق الانسان الحي القادر القابل للكمالات العلمية و العملية من مادة خسيسة بعيدة من الحياة، قادر على أن يعلّمك القراءة و أنت حيّ متكلّم قابل للعلوم.

اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (1) اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (2) عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ (3) كَلاّٰ إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ (4) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنىٰ (7) ثمّ أكّد سبحانه وجوب القراءة بقوله ثانيا:

اِقْرَأْ و قيل: إنّ الأول أمر بقراءته لنفسه، و الثاني أمر بقراءته للتبليغ و التعليم(5).

ثمّ استانف سبحانه ذكر أوصافه و مننه بقوله: وَ رَبُّكَ هو اَلْأَكْرَمُ المبالغ في الإحسان و الجود حيث إنّه يحسن بعبيده بعد العصيان و التقصير كما يحسن قبله، و إنّ كلّ كريم ينال بكرمه خيرا لنفسه، و ربّك لا يكون كرمه إلاّ لمحض حسنه. و قيل: يعني أنت كريم، و ربّك أكرم منك(6) ، و من كرمه أنّه

اَلَّذِي عَلَّمَ الانسان الكتابة بِالْقَلَمِ و فيه تنبيه على فضيلة الكتابة و الخطّ.

روي عن سليمان عليه السّلام أنّه سأل عفريتا عن الكلام فقال: ريح لا يبقى. قال: فما قيده ؟ قال: الكتابة(3).

قيل: إنّ القلم لا ينطق، و مع ذلك يسمع الشرق و الغرب(4) و لو لا الخطّ ما استقامت امور الدين و الدنيا(5).

و قيل: إنّ المراد علّم الانسان بسبب الكتابة و قراءة الكتب، فالقلم كناية عن الكتابة(6).

ثمّ بيّنه بقوله:

عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ بسبب مطالعة الكتب مٰا لَمْ يَعْلَمْ و أمّا على التفسير الأول يكون تعليمه علوما كثيرة نعمة فوق نعمة تعليم الخطّ، فذكر سبحانه في السورة مبدأ الانسان و منتهاه، و امتنّ عليه بنقله من أدنى المراتب و هي المرتبة العلقية الخسيسة النجسة إلى أعلاها، و هي مرتبة العلم، و هو أشرف الكمالات الانسانية، و من الواضح أنّ ذلك لا يكون إلاّ بقدرة قادر حكيم، فيدلّ على ربوبيته و أكرميته و استحقاقه للطاعة و العبودية.

كَلاّٰ لا يعلم الانسان أنّ اللّه هو الذي خلقه من العلقة و علّمه بعد جهله، ثمّ بيّن سبحانه علّة غفلته بقوله: إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ و يتكبّر و يصير مستغرق القلب في حبّ الدنيا لأجل

أَنْ رَآهُ و علم

ص: 528


1- . تفسير الرازي 17:32.
2- . تفسير الرازي 17:32.
3- . تفسير روح البيان 473:10.
4- . تفسير الرازي 17:32.
5- . تفسير الرازي 16:32.
6- . تفسير الرازي 16:32.

شخصه أنّه اِسْتَغْنىٰ و صار ذا مال و جاه و قدرة فلا يتفكّر في أطوار خلقته و ترقّيه من أخسّ الأحوال إلى أعلاها، و أنّه من أول وجوده تحت قدرة قادر قاهر حكيم.

و قيل: إنّ كلمة كَلاّٰ ردع لمن كفر بنعمة اللّه بطغيانه(1).

روي أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ تزعم أنّ من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكّة فضّة و ذهبا، لعلّنا نأخذ منها فنطغى، فندع ديننا و نتّبع دينك. فنزل جبرئيل فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثمّ إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الدعاء إبقاء عليهم و رحمة لهم(2).

إِنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الرُّجْعىٰ (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهىٰ (9) عَبْداً إِذٰا صَلّٰى (10) ثمّ هدّد سبحانه الانسان الطاغي عليه بقوله:

إِنَّ إِلىٰ رَبِّكَ و مالك أمرك وحده أيّها الانسان اَلرُّجْعىٰ و المصير بالموت، أو بالبعث، فترى سوء عاقبة طغيانك.

و قيل: إنّ المعنى أنّ مرجع الانسان إلى اللّه، فكما أنّه ردّه من النقصان إلى الكمال، يردّه و يرجعه إلى النقصان و الفقر و الموت(3).

ثمّ بيّن سبحانه غاية طغيان الانسان مظهرا للتعجّب منه بقوله:

أَ رَأَيْتَ و هل عاينت يا محمد، أو أيّها الرائي، الطاغي اَلَّذِي بلغ بطغيانه إلى أنّه يَنْهىٰ و يمنع عن الصلاة و القيام بوظيفة العبودية لربّ الأرباب

عَبْداً ممحضا في العبودية له إِذٰا صَلّٰى و قام بخدمة مولاه ؟

روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا: نعم. قال:

فو الذي نحلف به لئن رأيته يصلّي لأطأنّ عنقه، ثمّ إنّه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الصلاة - قيل: هي صلاة الظهر - فجاءه(4) ، و قيل: همّ أن يلقى على رأسه حجرا فنكص على عقبيه، فقالوا: مالك ؟ فقال:

إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هولا شديدا أجنحة(5). و قال نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» فنزلت(6).

قال الفخر الرازي في وجه إظهار اللّه تعالى العجب من طغيان أبي جهل و منعه الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن

ص: 529


1- . تفسير روح البيان 474:10.
2- . تفسير الرازي 20:32، تفسير أبي السعود 178:9، تفسير روح البيان 474:10.
3- . تفسير الرازي 20:32.
4- . تفسير روح البيان 475:10.
5- . في النسخة: واضحة، و المراد أجنحة الملائكة، تفسير روح البيان 475:10.
6- . مجمع البيان 282:10، تفسير الصافي 349:5، تفسير الرازي 20:32، تفسير روح البيان 475:10.

الصلاة: إنّه يروى أنّ يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيّام خلافته، فقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلبه من بلال، فهو أعلم به منّي. ثمّ إنّ بلالا دلّه على فاطمة، ثمّ فاطمة دلّته على عليّ عليه السّلام، فلمّا سأل عليا عنه قال: «صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه» فقال الرجل: هذا لا يتيسّر لي. فقال علي عليه السّلام: «عجزت عن وصف متاع الدنيا، و قد شهد اللّه على قلّته حيث قال: مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ (1) فكيف أصف أخلاق النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد شهد اللّه تعالى بأنّه عظيم حيث قال:

وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (2) . فكأنّه قال: ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبودية، و ذلك عين الجهل و الحمق(3).

و قيل: إنّ امية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة(4).

و عن القمي: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة و أن يطاع اللّه و رسوله(5).

أَ رَأَيْتَ إِنْ كٰانَ عَلَى الْهُدىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوىٰ (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّٰهَ يَرىٰ (14) كَلاّٰ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنّٰاصِيَةِ (15) ثمّ بيّن سبحانه غاية سفاهة هذا الطاغي بقوله:

أَ رَأَيْتَ يا محمد إِنْ كٰانَ هذا الطاغي ثابتا عَلَى الْهُدىٰ و دين الحقّ، كما أنت عليه

أَوْ أَمَرَ الناس بِالتَّقْوىٰ و الاحتراز عن الشرك كما تأمر، أما كان خيرا له من الكفر باللّه و النهي عن طاعته.

و قيل: إنّ الخطاب مع الكافر، فانّه تعالى بعد خطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهىٰ التفت إلى الكافر، و قال: أ رأيت يا كافر إن كان النبيّ في صلاته على الهدى، و دعاءه إلى اللّه أو أمر بالتقوى، أ تنهاه مع ذلك ؟ فجعل سبحانه نفسه كالحاكم الذي حضر عنده المدّعي و المدّعى عليه، فخاطب هذا مرّة و هذا اخرى(6).

ثمّ خاطب نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

أَ رَأَيْتَ يا محمد، و أخبرني إِنْ كان الكافر كَذَّبَ الدلائل التي ذكرنا مع كونها ظاهرة جلية عند كلّ عاقل وَ تَوَلّٰى و أعرض عن الصلاة التي هي أهم خدمات مولاه

أَ لَمْ يَعْلَمْ بعقله بِأَنَّ اللّٰهَ يَرىٰ منه هذه القبائح و يجازيه عليها في الآخرة فيزجره علمه ذلك عن ارتكابها؟

و قيل: إنّه خطاب مع الكافر، و المراد: أ رأيت أيّها الكافر إن كان محمد كذب بآيات اللّه و تولّى عن

ص: 530


1- . النساء: 77/4.
2- . القلم: 4/68.
3- . تفسير الرازي 21:32.
4- . تفسير الرازي 20:32، تفسير أبي السعود 180:9..
5- . تفسير القمي 430:2، تفسير الصافي 349:5.
6- . تفسير الرازي 21:32.

خدمة مولاه، أ لم يعلم بأنّ اللّه يراه و يعاقبه عليه حتّى ينتهي بعلمه ذلك(1).

ثمّ ذمّ سبحانه الكافر بقوله:

كَلاّٰ لا يعلم بأنّ اللّه يرى و و اللّه لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ و لم يرتدع عمّا هو فيه من الطغيان لَنَسْفَعاً و لنأخذنّ البتة يوم القيامة بِالنّٰاصِيَةِ و شعر مقدّم رأس هذا الكافر الطاغي بشدّة و نسحبنه بها إلى النار.

نٰاصِيَةٍ كٰاذِبَةٍ خٰاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نٰادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبٰانِيَةَ (18) ثمّ بالغ سبحانه في ذمّه بالكذب في إنكار الآيات و الرسالة و البعث، و خطئه في إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتوصيف ناصيته بالكذب و الخطأ، بقوله:

نٰاصِيَةٍ كٰاذِبَةٍ خٰاطِئَةٍ فإنّ اللعين بإصراره على الكذب و الخطأ صار بحيث يظهر الكذب و الخطأ من ناصيته و شعر مقدّم رأسه، و في الجرّ بالناصية غاية الإذلال و الإهانة.

قيل: إنّ المراد من قبض ناصيته قبضها في الدنيا إن عاد إلى النهي عن الصلاة، فعاد إلى النهي(2).

روي أنّه لعنه اللّه مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يصلّي فقال: أ لم أنهك، فأغلظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جوابه، فقال: أ تهدّدني و أنا أكثر أهل الوادي ناديا؟! يريد كثرة من يعينه، فنزلت (3)

فَلْيَدْعُ نٰادِيَهُ و أهل مجلسه ليعينوه

سَنَدْعُ في مقابل أعوانه اَلزَّبٰانِيَةَ و ملائكة العذاب، فلمّا عاد إلى النهي مكّن اللّه المسلمين من ناصيته يوم بدر فجرّوه على وجهه.

روي أنّه لمّا نزلت سورة الرحمن قال صلّى اللّه عليه و آله: «من يقرؤها على رؤساء قريش ؟» فتثاقلوا، فقام ابن مسعود رضى اللّه عنه فقال: أنا يا رسول اللّه، فأجلسه، ثمّ قال ثانيا: «من يقرؤها عليهم ؟» فلم يقم إلاّ ابن مسعود، ثمّ قال ثالثا فقال ابن مسعود: أنا، فأذن له، و كان صلّى اللّه عليه و آله يتّقي عليه، لما كان يعلم من ضعفه و صغر جثّته، ثمّ إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ اذنه و أدماها، فانصرف و عينه تدمع، فلمّا رآه صلّى اللّه عليه و آله رقّ قلبه و أطرق رأسه مغموما، فاذا جبرئيل جاء ضاحكا مستبشرا، فقال: «يا جبرئيل تضحك و يبكي ابن مسعود!» فقال: سيعلم. فلمّا ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: «خذ رمحك و التمس في الجرحى من كان له رمق فاقتله، فانّك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى، فاذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه، فوضع الرمح في منحره من بعيد فطعنه. و لعلّ هذا

ص: 531


1- . تفسير الرازي 22:32.
2- . تفسير روح البيان 476:10.
3- . تفسير الرازي 25:32، تفسير أبي السعود 180:9، تفسير الصافي 350:5.

[معنى] قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (1) على رواية ابن عباس أنّه نزل فيه، ثمّ لمّا عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه، فارتقى عليه بحيلة، فلمّا رآه أبو جهل قال له: يا رويعي الغنم، لقد ارتقيت مرتقا صعبا. فقال ابن مسعود: الاسلام يعلو و لا يعلى عليه فقال له أبو جهل: أبلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع ذلك قال: فرعوني أشدّ من فرعون موسى، فانّه قال حين موته آمَنْتُ (2) و هو قد زاد عتوا.

ثمّ قال اللعين يا ابن مسعود، اقطع رأسي بسيفي هذا، فانّه أحد و أقطع. فلمّا قطع رأسه لم يقدر على حمله، فشقّ اذنه، و جعل الخيط فيها، و جعل يجرّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جبرئيل بين يديه يضحك، و يقول: يا محمد، اذن باذن [لكن] الرأس هنا مع الاذن مقطوع(3).

قيل: إن الناصية كناية عن الوجه(4) ، لَنَسْفَعاً بِالنّٰاصِيَةِ أي لنلطمنّ وجهه(5). و قيل: يعني لنسودنّ وجهه(6).

كَلاّٰ لاٰ تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19) ثمّ لمّا قابل سبحانه دعوة الطاغي ناديه بدعوة الزبانية، ردع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن الخوف من الطاغي بقوله:

كَلاّٰ لا يجترئ على أن يدعو ناديه، و لئن دعاهم لن ينفعوه، فهو أذلّ و أحقر من أن يقاومك، و لذا لاٰ تُطِعْهُ و لا تعتن بنهيه إياك عن الصلاة و السّجود لربّك وَ اسْجُدْ و واضب على صلاتك و خضوعك للّه، و لا تكترث بالطاغي و أمثاله وَ اقْتَرِبْ إلى ربّك بالسجود و الصلاة له، و تقرّب إليه بعبادته.

في الحديث العامي: «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد»(5) فأكثروا من الدعاء في السجود.

و عن الرضا عليه السّلام: «أقرب ما يكون العبد من اللّه عزّ و جلّ و هو ساجد، و ذلك قوله تعالى: وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ» (6).

و قيل: إنّ خطاب اُسْجُدْ مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و خطاب وَ اقْتَرِبْ مع أبي جهل، و المعنى: اسجد أيّها النبي، و لا تعتن بنهي من ينهاك، ليزداد غيظا، و اقترب أيّها الكافر و ادن منه حتّى تبصر ما ينالك من

ص: 532


1- . القلم: 16/68.
2- . يونس: 90/10.
3- . تفسير الرازي 23:32، تفسير روح البيان 476:10.
4- . تفسير الرازي 24:32، تفسير روح البيان 477:10. (5و6) . تفسير الرازي 23:32.
5- . تفسير الرازي 26:32، تفسير أبي السعود 181:9.
6- . الكافي 3/264:3، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 15/7:2، تفسير الصافي 350:5.

أخذ الزبانية إيّاك(1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ العزائم أربع: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و النجم، و تنزيل السجدة، و [حم] السجدة»(2).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ في يومه أو ليلته اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثمّ مات شيدا و بعثه اللّه شهيدا، و أحياه شهيدا، و كان كمن ضرب بسيفه في سبيل اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»(3).

ص: 533


1- . تفسير الرازي 26:32.
2- . الخصال: 124/252، مجمع البيان 783:10، تفسير الصافي 350:5.
3- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 778:10، تفسير الصافي 350:5.

ص: 534

في تفسير سورة القدر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) ثمّ لمّا ختمت السورة العلق المبدوءة بالأمر بقراءة القرآن العظيم، نظمت بعدها سورة القدر المبدوءة بتعظيم القرآن الكريم، و بيان زمان نزوله، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها ببيان عظمة القرآن بقوله:

إِنّٰا أثبتنا القرآن الحكيم في اللوح المحفوظ ثم أَنْزَلْنٰاهُ منه جملة و دفعة في البيت المعمور الذي هو أشرف بقاع السماوات، كما في بعض رواياتنا(1) ، أو في بيت العزّة الذي يكون في السماء الدنيا، كما في بعض روايات العامة(2) ، و بعض روايات الخاصة(3)فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قيل: إنّ اللّه سبحانه بيّن أولا أنّه نزل في شهر رمضان بقوله: شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (4) و لم يبين أنّه نزل في الليل أو النهار. ثمّ بين أنّه نزل بالليل بقوله: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ (5) و لم يبيّن أيّها أىّ ليل، ثمّ بيّن في هذه السورة أنّها ليلة القدر(6).

فلا شبهة أنّها تكون في شهر رمضان، و إنّما الاختلاف في أنّها كانت في ليلة واحدة، لأنّ فضل نزول القرآن كان في ليلة واحدة، و جلّ العلماء قائلون بانّها باقية في كلّ سنة، ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة.

قيل: إنّ اللّه تعالى أخفاها و لم يعيّنها ليرغب المؤمنون في إحياء جميع ليالى رمضان طلبا لدرك ثواب إحيائها(7) ، و المشهور قائلون بتعيينها، و الأكثر على أنّها في أوتار العشر الآخر بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «التمسوها في العشر الآخر(8) من شهر رمضان، فاطلبوها في كلّ وتر»(9).

و أكثر العامّة على أنّها الليلة السابعة و العشرون، و نسبوه إلى ابن عباس(10) ، و أسندوه إلى اعتبارات

ص: 535


1- . الكافي 6/460:2.
2- . تفسير الرازي 29:32، تفسير روح البيان 479:10.
3- . مجمع البيان 786:10.
4- . البقرة: 185/2.
5- . الدخان: 3/44.
6- . تفسير روح البيان 480:10.
7- . تفسير الرازي 29:32، تفسير روح البيان 481:10.
8- . في تفسير روح البيان: الاواخر.
9- . تفسير روح البيان 481:10.
10- . تفسير الرازي 30:32، تفسير روح البيان 481:10.

لا اعتبار بها.

و قال بعضهم: إنّها آخر ليلة من الشهر، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار يعتق ألف ألف عتيق من النار كلّهم استوجبوا العذاب، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق اللّه في تلك الليلة بعدد من أعتق من أول الشهر إلى آخره»(1).

و عن بعض الصحابة: أنّها الليلة التاسعة و العشرون(2) ، و رووا عن أبي ذرّ: أنّها الخامسة و العشرون(3) ، و عن ابن مسعود: أنّها الرابعة و العشرون(4) ، و عن ابن عباس: أنّه الثالثة و العشرون(5) ، و عن محمد بن إسحاق: أنّها الحادية و العشرون(6) ، و عن أنس: أنّها التاسعة عشرة(7) ، و عن الحسن البصري: أنّها السابعة عشرة(8) ، و عن ابن رزين أنّها الليلة الاولى منه(9).

و عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ (2) قال: «نعم، ليلة القدر، و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر»(3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن ليلة القدر قال: «التمسها ليلة إحدى و عشرين، أو ليلة ثلاث و عشرين»(4).

و في رواية «ليلة تسع و عشرة، و إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين»(5).

قيل: فان أخذت إنسانا الفترة أو علّة، ما المعتمد عليه من ذلك ؟ فقال: «ثلاث و عشرون»(6).

أقول: يريد رواية الجهني المعروفة(7) و إنّما سمّيت تلك الليلة ليلة القدر، لتقدير امور السنة فيها، كما قال سبحانه: فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (8).

و عن ابن عباس: أنّ اللّه قدّر فيها كلّما يكون في تلك السنة من مطر و رزق و إحياء و إماتة و غيرها إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية(9) ، فيسلّمه إلى مدبّرات الامور من الملائكة.

و في (المعاني) عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، أ تدري ما معنى ليلة القدر؟ قلت: لا، يا رسول اللّه. قال: إنّ اللّه قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكان فيما قدّر ولايتك و ولاية الأئمّة من ولدك إلى يوم القيامة»(10).

ص: 536


1- . تفسير روح البيان 481:10. (2و3) . تفسير الرازي 29:32. (4-5-6-7-8-9) . تفسير الرازي 29:32.
2- . الدخان: 3/44.
3- . الكافي 6/157:4، تفسير الصافي 352:5، عن الصادق عليه السّلام.
4- . الكافي 1/156:4، و تفسير الصافي 352:5، عن الصادق عليه السّلام.
5- . الكافي 8/158:4، تفسير الصافي 352:5.
6- . من لا يحضره الفقيه 460/103:2، تفسير الصافي 352:5.
7- . الكافي 2/156:4، من لا يحضره الفقيه 461/103:2.
8- . الدخان: 4/44.
9- . تفسير الرازي 28:32.
10- . معاني الأخبار: 1/315، تفسير الصافي 351:5.

أقول: ظاهر الرواية وقوع جميع التقديرات الكائنة في العالم إلى يوم القيامة في أول ليلة من ليالي القدر، و هذا غير المعني المروي عن ابن عباس، و لا منافاة بينهما.

و قيل: إنّ القدر هنا بمعنى الشرف، و معنى ليلة القدر أنّها ليلة يحصل لمن أحياها و قصد فيها الشرف و المنزلة عند اللّه(1).

و قيل: لأنّه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، لأنّه لها قدر(2).

و عن الخليل: القدر هنا بمعنى الضيق، و إنّما سمّيت الليلة ليلة القدر لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة(3).

و أمّا دلالة الآية على عظمة القرآن، فلإسناد إنزاله إلى ذاته المعبّر عنها بنون العظمة المستلزم لعظمة ما أنزله، و لارجاع الضمير إليه من غير سبق ذكره الدالّ على غاية اشتهاره و تميّزه من الكتب المنزلة، و لتعظيم وقت نزوله و هو ليلة القدر بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ و أيّ شيء أعلمك يا محمد مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ في علوّ القدر و الشرف، فانّ العلم بها خارج عن طرق البشر إلاّ بالوحي من اللّه العالم بكنه الأشياء و حقائقها.

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) ثمّ بيّن سبحانه فضيلة العبادة فيها بقوله:

لَيْلَةُ الْقَدْرِ و العبادة فيها خَيْرٌ و أفضل مِنْ العبادة في أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر في الحديث العامي: «من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر»(4).

قيل: إنّ لفظ ألف كناية عن الكثير، و لم يرد حقيقتها(5).

و قيل: إنّ في الامم السابقة لا يقال لرجل: إنّه عابد، حتّى يعبد اللّه ألف شهر، فأعطى اللّه هذه الامّة ليلة من أحياها من المؤمنين كان أعبد من اولئك العبّاد(6).

و قيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر، و ملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل اللّه العمل في هذه الليلة خير من ملكهما(7).

ص: 537


1- . تفسير الرازي 28:32، تفسير روح البيان 482:10.
2- . تفسير الرازي 28:32، تفسير روح البيان 482:10.
3- . تفسير الرازي 28:2، و لم ينسبه إلى أحد، تفسير الرازي 482:10.
4- . تفسير روح البيان 480:10.
5- . تفسير روح البيان 483:10.
6- . تفسير أبي السعود 182:9، تفسير روح البيان 483:10.
7- . تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 483:10.

و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأى أعمال الامم فاستقصر أعمار امّته، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فاعطاه اللّه ليلة القدر، و جعلها خيرا من ألف شهر لسائر الامم(1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ذكر رجلا من بني إسرائيل اسمه شمسون أو شمعون، لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فتعجّب المؤمنون منه، و تقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدّة جهاد ذلك الرجل(2).

و عن ابن عباس: أنّه ذكر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجل من بني إسرائيل أنّه حمل السلاح على عاتقه في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب من ذلك عجبا شديدا، و تمنّى أن يكون ذلك في امّته، فقال: «يا ربّ، جعلت امّتي أقصر الامم أعمارا، و أقلّها أعمالا، فأعطاه اللّه ليلة القدر، و قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل اللّه [لك] و لامّتك من بعدك إلى يوم القيامة في كلّ رمضان(3).

و روي بعض العامّة أنّه لمّا عوتب الحسن بن علي عليه السّلام في تسليمه الأمر لمعاوية قال: «إنّ اللّه أرى نبيه في المنام بني امية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتمّ لذلك، فأعطاه اللّه ليلة القدر، و هي خير له و لذريّته و أهل بيته من ألف شهر، و هي مدّة ملك بني اميّة، و أعلمه أنهم يملكون أمر الناس هذا القدر من الزمان»(4).

و عن القمي، قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نومه: كأنّ قرودا(5) تصعد منبره، فغمّه ذلك، فأنزل اللّه سورة القدر إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ إلى قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تملكه بنو امية ليس فيها ليلة القدر(6).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام قال: «اري رسول اللّه في منامه أنّ بني امية يصعدون منبره من بعده، و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا حزينا، فهبط عليه جبرئيل، فقال: يا رسول اللّه، ما لي أراك كئيبا حزينا. قال صلّى اللّه عليه و آله: إني رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقرى. فقال: و الذي بعثك بالحقّ نبيا، إنّي ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنٰاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جٰاءَهُمْ مٰا

ص: 538


1- . تفسير الرازي 31:32، تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 483:10.
2- . تفسير الرازي 30:32، تفسير أبي السعود 182:9، تفسير روح البيان 483:10.
3- . مجمع البيان 789:10، تفسير الصافي 352:5.
4- . تفسير الرازي 31:32، تفسير روح البيان 483:10.
5- . في النسخة: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كأن قردا.
6- . تفسير القمي 431:2، تفسير الصافي 352:5.

كٰانُوا يُوعَدُونَ * مٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يُمَتَّعُونَ (1) و أنزل عليه إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ جعل اللّه ليلة القدر لنبيه صلّى اللّه عليه و آله خيرا من ألف شهر ملك بني امية»(2).

ذكر اشكال بعض

العامة و ردّه

ثمّ اعلم أنّه طعن بعض العامة في تلك الروايات بأنّ أيام ملك بني امية كانت مذمومة، فكيف يبيّن اللّه تعالى فضل تلك الليلة بكونها خيرا من الشهور المذمومة(3) ؟

و ردّه بعضهم بأنّ أيام ملكهم كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فيكون المراد أنّ ليلة القدر بحسب السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية، كقوله: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ (4). الكفار من الأموال و الزخارف الدنيوية(5).

و الأولى في دفعه أن نقول: إنّ اللّه صلّى نبيه صلّى اللّه عليه و آله ببشارة تزول غمّه، فانّه صلّى اللّه عليه و آله اغتمّ بسلطنة بني امية و إضلالهم الناس عن الصراط، فسرّ اللّه قلبه الشريف بالبشارة بأفضلية عبادة تلك الليلة لامّته من عبادة تلك المدّة، كما يسلّى من تلفت أمواله ببشارته برجوع ولده من سفر خطير سالما غانما.

تَنَزَّلُ الْمَلاٰئِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيهٰا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) ثمّ إنّه تعالى بعد بيان علوّ قدر تلك الليلة ذاتا، بيّن ما استتبع ذلك الشرف و علوّ القدر من الفضل بقوله:

تَنَزَّلُ و تهبط اَلْمَلاٰئِكَةُ المقرّبون كلّهم فوجا إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا، ليروا عبادة أهل الأرض و اجتهادهم فيها، و يسلّموا عليهم و يزوروهم و يصافحوا معهم.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّهم ينزلون ليسلّموا علينا، و ليشفعوا لنا، فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه»(6) أو ليزيد فضل عباده المؤمنين بحضورهم.

وَ ينزل اَلرُّوحُ القدس، و هو جبرئيل، و إفراده بالذكر مع كونه من الملائكة لتعظيمه.

عن كعب: أنّ في سورة المنتهى ملائكة لا يعلم عددهم إلاّ اللّه تعالى، يعبدون اللّه، و مقام جبرئيل في وسطها، ليس فيها ملك إلاّ و قد اعطى الرّأفة و الرحمة للمؤمنين، ينزلون مع جبرئيل ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلاّ و عليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين و المؤمنات، أحدا إلا صافحه، و علامة ذلك من اقشعرّ جلده و رقّ قلبه و دمعت عيناه، فانّ ذلك من مصافحة جبرئيل.

ص: 539


1- . الشعراء: 205/26-207.
2- . الكافي 10/159:4، تفسير الصافي 351:5.
3- . تفسير الرازي 31:32.
4- . آل عمران: 157/3.
5- . تفسير الرازي 31:32.
6- . تفسير الرازي 33:32.

إلى أن قال: و أول من يصعد جبرئيل حتى يصير أمام الشمس، فيبسط جناحين أخضرين، لا ينشرهما إلاّ تلك الساعة من يوم تلك الليلة، ثمّ يدعوه ملكا ملكا، فيصعد الكلّ، و يجتمع نور الملائكة و نور جناح جبرئيل، فيقيم جبرئيل و من معه من الملائكة بين الشمس و السماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء و الرحمة و الاستغفار للمؤمنين و لمن صام شهر رمضان احتسابا... الخبر(1).

و قيل: إنّ الرّوح ملك عظيم لو التقم السماوات و الأرضين كان ذلك له لقمة واحدة(2).

و قيل: هو ملك رأسه تحت العرش و رجلاه في تخوم الأرض السابعة، و له ألف رأس، كلّ رأس أعظم من الدنيا، و في كلّ رأس ألف وجه، و في كلّ وجه ألف فم، و في كلّ فم ألف لسان، يسبّح اللّه بكلّ لسان ألف نوع من التسبيح و التحميد و التمجيد، لكلّ لسان لغة لا تشبه الاخرى، فاذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّ كلّ ملائكة السماوات سجّدا مخافة أن يحرقهم نور أفواهه، و إنّما يسبّح اللّه غدوة و عشية، فينزل تلك الليلة فيستغفر للصائمين و الصائمات من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بتلك الأفواه إلى طلوع الفجر(3).

أقول: على تقدير صحّة النقل لا بدّ من تأويل نزوله بغير المعنى المتبادر منه.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الرّوح أعظم من جبرئيل، و أنّ جبرئيل من الملائكة، و أنّ الروح خلق أعظم من الملائكة، أ ليس يقول اللّه تبارك و تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلاٰئِكَةُ وَ الرُّوحُ» (4).

و على أي تقدير تتنزّل جميع الملائكة مع الرّوح لشرف تلك الليلة فِيهٰا إلى الأرض بعد استئذانهم شوقا إلى لقاء المؤمنين بِإِذْنِ رَبِّهِمْ في النزول مِنْ أجل كُلِّ أَمْرٍ قدّر في تلك السنة من خير أو شرّ.

عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الرّوح و الكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء في تلك السنة»(5).

و عن القمي رحمه اللّه، قال: تنزّل الملائكة و الرّوح القدس على إمام الزمان، و يدفعون إليه ما كتبوه [من هذه الامور](6).

و عنه، عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: أ تعرفون ليلة القدر؟ فقال: «فكيف لا نعرف و الملائكة يطوفون بنا

ص: 540


1- . تفسير الرازي 33:32.
2- . تفسير الرازي 34:32، تفسير روح البيان 484:10.
3- . تفسير روح البيان 484:10.
4- . الكافي 1/317:1، و تفسير الصافي 353:5، عن الصادق عليه السّلام.
5- . تفسير القمي 366:1، تفسير الصافي 353:5.
6- . تفسير القمي 431:2، تفسير الصافي 353:5.

فيها»(1).

سَلاٰمٌ هِيَ حَتّٰى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (2) ثمّ بيّن سبحانه الفضيلة الاخرى لتلك الليلة بقوله:

سَلاٰمٌ هِيَ من الملائكة للمؤمنين من أولها حَتّٰى مَطْلَعِ الْفَجْرِ و ظهور الصبح الصادق، فانّ كثرة سلام الملائكة فيها كأنما صير الليل كلّه سلاما.

و في الحديث العامي: «ينزل جبرئيل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة يصلّون و يسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه»(3).

و عن السجاد عليه السّلام يقول: «يسلّم عليك يا محمد ملائكتي و روحي سلامي(4) من أوّل ما يهبطون إلى مطلع الفجر»(5).

و عن القمي رحمه اللّه قال: تحية يحيّى بها الإمام إلى أن يطلع الفجر(5).

و قيل: إنّ السّلام بمعنى السلامة من جميع الآفات و الشّرور و مكائد الشيطان و وساوسه(6).

في الحديث العامّي: «من قرأ سورة القدر اعطي ثواب من صام رمضان و أحيا ليلة القدر»(7).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فجهر بها، كان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه تعالى، و من قرأها عشر مرات محا اللّه عنه ألف ذنب من ذنوبه»(8).

الحمد للّه الموفّق لاتمام تفسيرها.

ص: 541


1- . تفسير القمي 432:2، تفسير الصافي 353:5.
2- . تفسير القمي 431:2، تفسير الصافي 353.
3- . تفسير روح البيان 485:10.
4- . في الكافي: بسلامي.
5- . الكافي 4/193:1، تفسير الصافي 353:5.
6- . مجمع البيان 790:10، تفسير روح البيان 485:10.
7- . تفسير أبي السعود 183:9، تفسير روح البيان 486:10.
8- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 784:10، تفسير الصافي 353:5.

ص: 542

في تفسير سورة البينة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللّٰهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهٰا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة القدر المتضمّنة لبيان عظمة القرآن، نظمت سورة البيّنة المتضمّنة لبيان عظمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و كتابه بتوصيفه بأنّه جامع لجميع ما في الكتب السماوية، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذمّ أهل الكتاب و المشركين بقوله:

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله سواء كانوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ كاليهود و النصارى وَ من اَلْمُشْرِكِينَ و عبدة الأصنام و الأوثان مُنْفَكِّينَ و مفارقين عمّا هم عليه من الكفر و العقائد الفاسدة على حسب قولهم و وعدهم حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ من قبل اللّه الحجّة اَلْبَيِّنَةُ و الآية الواضحة على بطلان دينهم، و تلك البيّنة على ما أخبرت به الكتب السماوية هو

رَسُولٌ عظيم الشأن، مبعوث مِنَ قبل اَللّٰهِ في آخر الزمان، يتلوه القرآن، و لمّا كان جامعا لمطالب الكتب السماوية يَتْلُوا بتلاوته عن ظهر القلب صُحُفاً و كتبا سماوية مُطَهَّرَةً و منزّهة عن كل باطل(1) لا قبيح و شين و ذكر بسوء، أو مطهّرة من أن يمسه غير المطهّر.

و في رواية عامية عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ من الكتاب و إن كان لا يكتب»(2).

قيل: إنّ اليهود و النصارى و المشركين كانوا قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله يقولون: لا ننفكّ عما نحن فيه من ديننا و لا نتركه حتّى يبعث النبي الموعود، و الذي هو مكتوب في التوراة و الانجيل(3) ، فحكى سبحانه ما كانوا يقولونه.

ص: 543


1- . في النسخة: عن كامل و باطل.
2- . تفسير الرازي 42:32.
3- . تفسير الرازي 38:32.

و قيل: إنّ المراد أنّهم كانوا غير منفكّين عمّا كانوا عليه من الوعد باتباع الحقّ، و الايمان بالنبي صلّى اللّه عليه و آله المبعوث في آخر الزمان، و العزم على إنجازه، و هذا الوعد من أهل الكتاب ممّا لا ريب فيه حتى أنّهم كانوا يستفتحون و يقولون: اللهم افتح علينا، و انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان. و يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد و إرم، و أمّا من المشركين فلعلّه قد وقع من متأخّريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب و اعتقدوا صحّته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم، كما يشهد به أنّه كانوا يسألونهم عن الرسول، هل هو المذكور في كتبهم(1).

و عليه يكون تَأْتِيَهُمُ بمعنى (أتتهم) و التعبير بالمضارع باعتبار حال المحكي لا الحكاية، و إنّما عبّر عن الرسول بالبيّنة للتنبيه على غاية ظهور أمره بسبب المعجزات الكثيرة الباهرة، و مجموع الأخلاق الكريمة البالغة حدّ كمال الإعجاز، فكأنّ صفاته عليه السّلام بيّنة على رسالته.

و قيل: إنّ المراد بالبينة مطلق الرسول، و المراد حتى تأتيهم رسل من الملائكة تتلو عليهم صحفا مطهّرة، كما قال سبحانه: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ السَّمٰاءِ (2) و فيه: أنّه لا يناسب وصف الصحف بقوله:

فِيهٰا كُتُبٌ و مكتوبات قَيِّمَةٌ مستقيمة ناطقة بالصواب، أو مستقلة بالحجّية و الدلالة على الحقّ.

وَ مٰا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) ثمّ إنه تعالى بعد حكايته وعد أهل الكتاب و المشركين بإيمانهم بالرسول الموعود و اجتماع كلمتهم على الحقّ، بيّن ازدياد كفرهم بعد وضوح رسالته لهم و افتراق كلمتهم بقوله:

وَ مٰا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ عن الحقّ، و ما تباعدوا عن الايمان بالرسول الموعود مع كونهم من أهل العلم و الاطلاع بالكتب و بأوصاف الرسول إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ بسبب انطباق الصفات المذكورة في التوراة و الانجيل للنبي الموعود عليه و كثرة معجزاته اَلْبَيِّنَةُ و الدلالة الواضحة على أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله هو النبي الموعود بحيث لم يبق مجال للعاقل المنصف ردّها و جحودها.

و إنّما أفرد سبحانه أهل الكتاب بالذكر بعد الجمع بينهم و بين المشركين في أول السورة للدلالة

ص: 544


1- . تفسير روح البيان 486:10.
2- . تفسير الرازي 41:32 و 42، و الآية من سورة النساء: 153/4.

على كمال شناعة حالهم، و أنّهم لمّا تفرّقوا مع كونهم من أهل العلم كان غيرهم أولى بذلك؛ لأنّ جحود العالم أقبح و أشنع من إنكار الجاهل، و فيه تسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله حيث بيّن أنّ تفرّقهم ليس لقصور الحجة و خفاء الحقّ، بل للعناد و العصبية.

وَ الحال أنّهم مٰا أُمِرُوا بشيء في كتبهم إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ و لأجل أن يتذلّلوا له حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ تعالى اَلدِّينَ و ممحضين أنفسهم له بالعبودية، و آتين أعمالهم لصرف الداعية الالهية بحيث لا يكون في أعمالهم شائبة الشرك و الرياء و العناد و العصبية و النفسانية.

و قيل: يعني موحّدين له في العبادة، لا يعبدون معه غيره(1) ، و حال كونهم حُنَفٰاءَ و معرضين عن كلّ باطل، أو متّبعين ملّة إبراهيم الذي تبرأ من نفسه حين سلّمها للنيران، أو مستقيمين في العقائد و الأعمال و الأخلاق، أو مؤمنين بجميع الرسل، أو حجاجا كما عن ابن عباس(2).

و قيل: إنّ اللام في قوله لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ بمعنى (أن) و المعنى إلاّ أن يعبدوا اللّه(3).

و قيل: إنّ المراد و ما امروا على لسان محمد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أن يوحّدوا اللّه و يعبدوه عبادة خالصة من الشرك (4)وَ أن يُقِيمُوا الصَّلاٰةَ التي هي أهمّ العبادات البدنية وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ التي هي أهمّ العبادات المالية.

وَ ذٰلِكَ المذكور من الخلوص في عبادته و أداء الصلاة و الزكاة هو اَلدِّينَ الملّة اَلْقَيِّمَةِ الباقية التي لا تنسخ، أو المستقيمة التي لا عوج فيها. و قيل: إنّ القيّمة صفة للدين، و التاء للمبالغة(5).

و قيل: إنّ القيّمة اسم أو صفة للامة(6) ، و المعنى دين الامة القائمة بالقسط. و الحاصل أنّ الآية دالّة على أنّ الدين القيم مركّب من الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح، فعلى كلّ عاقل أن يقبله و لا يستنكف منه(7).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أُولٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الكفّار الذين لا يقبلون هذا الدين في الآخرة بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ من اليهود و النصارى وَ الْمُشْرِكِينَ كعبدة الأصنام و الأوثان و الكواكب و النيران و غيرهم، كلّهم يوم القيامة متمكّنون فِي نٰارِ جَهَنَّمَ حال كونهم خٰالِدِينَ و مقيمين فِيهٰا أبدا

ص: 545


1- . تفسير الرازي 46:32.
2- . تفسير الرازي 46:32.
3- . تفسير الرازي 44:32.
4- . تفسير الرازي 43:32.
5- . تفسير الرازي 47:32، و فيه: و الهاء للمبالغة.
6- . تفسير روح البيان 488:10 و 489.
7- . في النسخة: يقبلوه و لا يستنكفوا منه.

لا يرجون الخلاص منها، لأنّ أُولٰئِكَ البعداء من رحمة اللّه و من كلّ خير و سعادة هُمْ بالخصوص شَرُّ الْبَرِيَّةِ و أخبث الخليقة، فاستحقّوا الخلود في النار، و إن كان بعضهم أخبث من بعض و عذابهم أشدّ.

ثمّ مدح سبحانه المؤمنين الصالحين بقوله:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ و المرضيات عند اللّه أُولٰئِكَ المؤمنون الصالحون هُمْ بالخصوص خَيْرُ الْبَرِيَّةِ و أفضل الخليقة.

روى الصدوق عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فأقبل علي بن أبي طالب فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «قد أتاكم أخي» ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: «و الذي نفسي بيده، إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة» ثمّ قال: «إنّه أولكم إيمانا معي، و أوفاكم بعهد اللّه، و أقومكم بأمر اللّه، و أعدلكم في الرعية، و أقسمكم بالسوية، و أعظمكم عند اللّه مزيّة». قال: فنزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.

قال: و كان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله إذا أقبل علي عليه السّلام قالوا: جاء خير البرية(1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية أنّه التفت إلى علي عليه السّلام و قال: «هم و اللّه أنت و شيعتك يا علي، و ميعادك و ميعادهم الحوض غدا غرّا محجّلين متوّجين»(2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «هم شيعتنا أهل البيت»(3).

جَزٰاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ثمّ بيّن حسن حالهم في الآخرة بقوله:

جَزٰاؤُهُمْ المدّخر عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم في الآخرة على إيمانهم و صالح أعمالهم جَنّٰاتُ عَدْنٍ و بساتين دائمة ذات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ الكثيرة أو الأربعة المعهودة في القرآن حال كونهم خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً و متنعّمين فيها بفنون النّعم دائما لا يخافون الخروج منها و زوال نعمها أو نقصها.

ثمّ بشّرهم سبحانه بما هو أفضل و أعظم من جميع النّعم الجسمانية بقوله: رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ فانّ الرضوان من اللّه أكبر و اعظم من كلّ نعمة.

ص: 546


1- . أمالي الطوسي: 448/251، تفسير الصافي 355:5، و لم نعثر عليه في أمالى الصدوق.
2- . أمالي الطوسي: 909/405، تفسير الصافي 355:5، مجمع البيان 795:10.
3- . المحاسن: 139/169، تفسير الصافي 355:5.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «الخلود في الجنة خير من الجنّة و رضى اللّه خير من الجنّة و من الخلود»(1).

قيل: إنّ جنّة الجسد هي الجنة الموصوفة، و جنة الروح هي رضا الرّب، و مبتدأ الانسان عالم الجسد، و منتهاه عالم العقل و الروح، فلا جرم ابتدأ سبحانه بالجنّة، و جعل المنتهى رضا اللّه(2).

وَ رَضُوا عَنْهُ تعالى بسبب تفضّله عليهم بما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ منشأ كمال الايمان و الأعمال الصالحة هي الخشية من اللّه بقوله ذٰلِكَ الجزاء الجزيل من الجنة الموصوفة و الرضوان، أو الايمان و العمل الصالح اللذين يترتّب عليهما الجزاء العظيم لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ و خاف منه أشدّ الخوف، و تلك الخشية خاصة بالعلماء بشئون اللّه و العرفاء به، و هي مبدأ جميع الكمالات العلمية و العملية المستتبعة للسعادات الدينية و الدنيوية.

عن الصادق عليه السّلام أنه قال لرجل من الشيعة: «أنتم أهل الرضا عن اللّه جلّ ذكره برضاه عنكم، و الملائكة إخوانكم فى الخير، فاذا اجتهدتم ادعوا، و إذا غفلتم اجهدوا، و أنتم خير البرية، دياركم لكم جنّة، و قبوركم لكم جنّة، للجنّة خلقتم، و في الجنة نعيمكم، و إلى الجنّة تصيرون»(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة لَمْ يَكُنِ كان بريئا من الشرك، و ادخل في دين محمد صلّى اللّه عليه و آله، و بعثه اللّه مؤمنا، و حاسبه حسابا يسيرا»(4).

ص: 547


1- . تفسير الرازي 55:32، و اسقط كلمة: و من الخلود.
2- . تفسير الرازي 55:32.
3- . الكافي 556/366:8، تفسير الصافي 355:5.
4- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 791:10، تفسير الصافي 356:5.

ص: 548

في تفسير سورة الزلزال

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا (2) وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا (4) ثمّ لمّا ختمت سورة البيّنة بذكر القيامة و بيان أحوال الكفّار و المؤمنين فيها، نظمت بعدها سورة الزلزال المتضمّنة لبيان بعض أهوال القيامة و بعث الناس، فافتتحها سبحانه بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في بيان أهوال القيامة بقوله:

إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ و حركت زِلْزٰالَهٰا و حركة شديدة متكرّرة لائقة بها في الحكمة الالهية، أو الحركة الممكنة المتصوّرة لها، أو الموعودة المكتوبة عليها

وَ بتلك الحركة أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ من بطنها أَثْقٰالَهٰا و أحمالها من الكنوز و الموتى.

قيل: بزلزلة النفخة الاولى تخرج دفائنها، و بزلزلة النفخة الثانية تخرج الأموات(1).

في الخبر العامي: تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، و يجيء القاطع رحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي، و يجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدى، ثمّ يدعونه فلا يأخذون منه شيئا(2).

قيل: يمتلئ ظهر الأرض ذهبا، و لا أحد يلتفت إليه، كأنّ الذهب يصيح و يقول: أ ما كنت تخرب دينك و دنياك لأجلي(3).

وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ بعد بعثه من القبر و غاية هشته و تعجّبه ممّا رأى من تزلزل الأرض: مٰا لَهٰا و أي حالة عرضها بزلزلتها هذه الزلزلة الشديدة التي تخرج ما في بطنها. قيل: هذا قول الكافر و المؤمن تعجّبا ممّا يرون من العجائب التي لم تسمع بها الآذان(4).

ص: 549


1- . تفسير الرازي 59:32، تفسير روح البيان 492:10.
2- . تفسير روح البيان 492:10.
3- . تفسير الرازي 58:32.
4- . تفسير الرازي 59:32.

و قيل: هذا قول الكافر الذي يقول: مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا (1) و أمّا المؤمن فانّه يقول: هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ (2).

يَوْمَئِذٍ و حينئذ تُحَدِّثُ و تنبئ الأرض للخلق أَخْبٰارَهٰا أو تبثّ إلى أولياء اللّه و ملائكته شكواها من أعمال الخلق على ظهرها.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه قرئت هذه السورة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: أنا الانسان، و إياى تحدّث»(3).

و في (العلل) عن تميم بن حاتم(4) ، قال: كنّا مع علي عليه السّلام حيث توجّهنا إلى البصرة قال: فبينما [نحن] نزول، اذ اضطربت الأرض، فضربها علي عليه السّلام بيده الشريفة، و قال لها: «مالك ؟» ثمّ أقبل علينا بوجهه الكريم [ثمّ] قال لنا: «انّها لو كانت الزّلزلة التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ في كتابه العزيز لأجابتني، و لكنّها ليست بتلك»(5).

و في (العلل) عن فاطمة عليها السّلام قالت: «أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، و فزع الناس إلى أبي بكر و عمر، فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي عليه السّلام، فتبعهما الناس إلى أن انتهوا إلى باب علي عليه السّلام، فخرج عليهم عليه السّلام غير مكترث لما هم فيه، فمضى و اتّبعه الناس حتّى انتهى إلى تلعة فقعد عليها و قعدوا حوله و هم ينظرون إلى حيطان ترتجّ جائية و ذاهبة. فقال لهم علي عليه السّلام: كأنّكم قد هالكم ما ترون ؟ قالوا: و كيف لا يهولنا و لم نر مثلها قطّ. قال: فحرّك شفتيه، ثمّ ضرب الأرض بيده الشريفة ثمّ قال: مالك اسكني ؟ فسكنت بإذن اللّه، فتعجّبوا من ذلك أكثر من تعجّبهم الأول حيث خرج إليهم فقال لهم: إنّكم قد عجبتم من صنيعتي(6) ؟ قالوا: نعم. قال: أنا الرجل الذي قال اللّه: إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا * وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا * وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا فانا الانسان الذي يقول لها: ما لك يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا إياي تحدّث»(7).

قيل: إنّ تحديث الأرض إنّما هو بلسان الحال، فانّ انتقاض الأرض بسبب الزّلزلة تحدّث أنّ الدنيا قد انقضت، و أن الآخرة قد أقبلت(8).

و قال جلّ المفسرين: إنّ الأرض تنطق كما تنطق الجوارح يوم القيامة، و تشهد لمن أطاع و على من

ص: 550


1- . يس: 52/36.
2- . تفسير الرازي 59:32، و الآية من سورة الأحزاب: 22/33.
3- . الخرائج و الجرائح 10/177:1، تفسير الصافي 357:5.
4- . في المصدر: جذيم، راجع قاموس الرجال 423:2.
5- . علل الشرائع: 5/555، تفسير الصافي 357:5.
6- . في المصدر: صنعتي، و في تفسير الصافي: صنيعي.
7- . علل الشرائع: 8/556، تفسير الصافي 357:5.
8- . تفسير الرازي 59:32.

عصى على ظهرها(1) ، و رووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الأرض لتخبر يوم القيامة بكلّ عمل عمل عليها»، ثمّ تلا هذه الآية(2).

و رووا عن علي عليه السّلام أنّه كان إذا فرغ بيت المال صلّى فيه ركعتين، و يقول: «لتشهدنّ أنّي ملأتك بحقّ، و فرّغتك بحقّ»(3).

و رووا أنّ عبد الرحمن بن صعصعة كان يتيما في حجر أبي سعيد الخدري، فقال له أبو سعيد: يا بني، إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول: «لا يسمعه جنّ و لا إنس و لا حجر و لا شجر إلاّ شهد له»(4).

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّٰاسُ أَشْتٰاتاً لِيُرَوْا أَعْمٰالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) و الحاصل أنّ الأرض تبدّل غير الأرض، و تصير حيّة عاقلة ناطقة، تشهد على الانسان و له بما عمل على ظهرها، كما يشهد اليوم و الليل و الجوارح، و ذلك التحديث و الشهادة

بِأَنَّ رَبَّكَ و بسبب أنّ مليكك أَوْحىٰ لَهٰا و أمرها بها إرعابا للعصاة و تبشيرا للمؤمنين

يَوْمَئِذٍ و حين وقوع ما ذكر يَصْدُرُ النّٰاسُ و يحشرون من قبورهم إلى موقف الحساب، و يرجعون إلى ربّهم حال كونهم أَشْتٰاتاً و متفرّقين و مختلفين في الأحوال بعضهم بيض الوجوه، و بعضهم سود الوجوه، فزعين.

عن القمي: يحيون أشتاتا مؤمنين و كافرين و منافقين(5). و قيل: أشتاتا من أقطار الأرض من كلّ ناحية(6) ، لِيُرَوْا أَعْمٰالَهُمْ التي عملوها في الدنيا من خير و شرّ، كما دلّت الأخبار على تجسّمها، أو المراد ليروا جزاء أعمالهم أو ليروها مكتوبة في صحفهم.

فَمَنْ يَعْمَلْ من الناس في الدنيا مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ و مقدار نملة، أو وزن ما يرى في شعاع الشمس عملا خَيْراً و حسنا يَرَهُ في يوم القيامة

وَ مَنْ يَعْمَلْ في الدنيا مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ و أقلّ قليل عملا شَرًّا و سوءا يَرَهُ في ذلك اليوم.

عن ابن عباس، في تفسير الذرّة قال: إذا وضعت راحتك على الأرض ثمّ رفعتها، فكلّ واحد ممّا لزق بها من التراب ذرّة(7).

ص: 551


1- . تفسير الرازي 59:32، تفسير أبي السعود 188:9، تفسير روح البيان 493:10.
2- . تفسير الرازي 59:32، تفسير أبي السعود 188:9.
3- . تفسير الرازي 60:32.
4- . تفسير روح البيان 493:10.
5- . تفسير القمي 433:2، تفسير الصافي 358:5.
6- . تفسير الرازي 60:32.
7- . تفسير الرازي 61:32، تفسير روح البيان 494:10.

و عنه رضى اللّه عنه: ليس من مؤمن و لا كافر عمل خيرا أو شرّا إلاّ أراه اللّه إياه، أمّا المؤمن فيغفر له سيئاته و يثيبه بحسناته، و أمّا الكافر فيردّ حسناته تحسيرا له و يعذّب بسيئاته(1).

و عن الباقر عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «يقول: إذا كان من أهل النار و قد عمل في الدنيا مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة حسرة، إنّه كان عمله لغير اللّه، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ يقول: إذا كان من أهل الجنّة و عمل شرا، رأى ذلك الشرّ يوم القيامة ثمّ يغفر له»(2).

و قيل: من يعمل مثقال ذرّة من خير و هو كافر فانّه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتّى يلقى الآخرة، و ليس فيها شيء، و هو مرويّ عن ابن عباس(3).

قيل: نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل، فيستقلّ أن يعطيه التمرة و الكسرة و الجوزة، و يقول: ما هذا بشيء، و إنّما نؤجر على ما نعطي(4) ، و كان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، و يقول: لا شيء عليّ من هذا، إنّما الوعيد بالنار على الكبائر، فنزلت هذه الآية ترغيبا في القليل من الخير، فانّه يوشك أن يكثر، و تحذيرا من اليسير من الذنب، فانّه يوشك أن يكبر(5).

قيل: إنّها أحكم آية، و سمّيت الجامعة(6).

روى أنّ جدّ الفرزدق بن صعصعة بن ناجية أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستقرئه، فقرأ هذه الآية، فقال:

حسبي حسبي، فألقى نفسه على الأرض و بكى(7).

و روي أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: علّمني ممّا علّمك اللّه، فدفعه إلى رجل يعلّمه القرآن، فعلّمه إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ حتّى بلغ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ إلى آخره، فقال: حسبي، فأخبر بذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: «دعه فقد فقه الرجل»(8).

و في الحديث العامّي: «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن»(9) و في بعض الأخبار أنّها تعدل نصف القرآن(10).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تملّوا من قراءة إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا فانّ من كانت قراءته في نوافله لم يصبه اللّه بزلزلة أبدا، و لم يمت بها، و بصاعقة، و لا بآفة من آفات الدنيا، فاذا مات امر به إلى الجنة، فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت و هويت...» الخبر(7).

ص: 552


1- . تفسير الرازي 61:32، تفسير أبي السعود 189:9، تفسير روح البيان 494:10.
2- . تفسير القمي 433:2، تفسير الصافي 358:5.
3- . تفسير الرازي 61:32.
4- . في النسخة: يؤخر على ما يعطي.
5- . تفسير الرازي 62:32، و في النسخة: أن يكثر.
6- . مجمع البيان 800:10، تفسير الصافي 358:5، تفسير روح البيان 495:10. (7-8-9-10) . تفسير روح البيان 495:10.
7- . ثواب الأعمال: 124، مجمع البيان 796:10، تفسير الصافي 359:5.

في تفسير سورة العاديات

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) ثمّ لمّا ختمت سورة الزّلزال المتضمّنة لبعض أهوال القيامة، و حشر الناس إلى الموقف، و شهادة الأرض بأعمالهم، نظمت سورة وَ الْعٰادِيٰاتِ المتضمّنة لبيان بعث الناس من القبور، و شهادة الانسان على نفسه بالكفران، و بيان علم اللّه تعالى بأعمال الناس من خير أو شرّ، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بخيل الغزاة و المجاهدين في سبيل اللّه حال عدوها بقوله:

وَ الْعٰادِيٰاتِ من الخيل نحو الأعداء، و هي تضبح و تتنفّس من شدّة العدو ضَبْحاً و نفسا له صوت، ليس بصهيل و حمحمة، يسمع من أفواه الأفراس(1) و أجوافها. و قيل: إن العدو لمّا كان ملازما للضّبح(2) ، كأنّه أراد بالعاديات الضابحات، و المعنى، و الضابحات ضبحا شديدا

فَالْمُورِيٰاتِ و المخرجات للنار من الأحجار قَدْحاً و ضربا بحوافرهنّ و سنابكهنّ الحجارة، فانّ الإيراء من لوازم العدو الشديد في أرض ذات حجارة.

عن ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل، فأورت منه النار، مثل الزّند إذا قدح(3).

و قيل الإيراء بالقدح و حبك حوافر الخيل كناية عن تهيّج الحرب بين أصحاب الخيل و بين عدوّهم(4).

و قيل: أريد من الموريات جماعة الغزاة(5) يورون النار بالليل لحوائجهم و طعامهم. و قيل: الموريات أفكار الرجال توري نار المكر و الخديعة، و نسب ذلك إلى ابن عباس(3).

ص: 553


1- . في النسخة: الفرس.
2- . تفسير روح البيان 496:10. (3-4-5) . تفسير الرازي 65:32.
3- . تفسير الرازي 65:32.

و قيل: اريد بالموريات قدحا المنجحات أمرا، و المراد الذين وجدوا مقصودهم و فازوا بمطلوبهم من الغزو(1).

فَالْمُغِيرٰاتِ على عدوّ حال كون الوقت صُبْحاً كما هو المعتاد عند العرب على ما قيل في الغارات يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدوّ، و يهجمون عليهم صباحا على حين الغفلة ليروا ما يأتون و ما يدرون(2).

فَأَثَرْنَ و هيجن بِهِ قيل: يعني بالعدوّ(3). و قيل: يعني في ذلك الوقت، أو في ذلك المكان(4)نَقْعاً و غبارا أو صياحا(3) من النوائح. قيل: إنّه عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، و المعنى: و اللائي عدون فأورين، و أغرن و أثرن (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ و في ذلك الوقت، أو بسبب العدو جَمْعاً من جموع الأعداء، و دخلن بينهم(5).

روى أنّه بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الناس من بني كنانة سريّة، و استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري، و كان أحد النّقباء، فأبطأ عليه خبرها شهرا، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت السورة إخبارا للنبي صلّى اللّه عليه و آله بسلامتها، و البشارة له بإغارتها على القوم(6).

و في (الأمالي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه السورة فقال: «وجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمر بن خطاب في سريّة فرجع منهزما يجبّن أصحابه و يجبنونه، فلمّا انتهى إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام:

أنت صاحب القوم، فسر أنت و من تريد من فرسان المهاجرين و الأنصار، فوجّهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال له: اكمن النهار و سر الليل و لا تفارقك العين، قال: «فانتهى عليّ، إلى ما أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسار إليهم، فلمّا كان عند الصبح أغار عليهم، فأنزل اللّه على نبيّه: وَ الْعٰادِيٰاتِ إلى آخرها»(7).

و القمي عنه: «أنّها نزلت في أهل وادي اليابس... اجتمعوا اثني عشر ألف فارس، و تعاقدوا و تعاهدوا و تواثقوا [على] أن لا يتخلّف رجل عن رجل، و لا يخذل أحد أحدا، و لا يفرّ رجل عن صاحبه حتّى يموتوا كلّهم على حلف واحد، و يقتلوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و علي بن أبي طالب عليه السّلام، فنزل جبرئيل فأخبره بقصّتهم، و ما تعاقدوا عليه و تواثقوا و امره أن يبعث أبا بكر إليهم في أربعة آلاف من المهاجرين فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا معشر المهاجرين و الأنصار، إنّ جبرئيل قد أخبرني أنّ أهل وادي اليابس اثنا عشر ألفا استعدّوا و تعاهدوا و تعاقدوا على

ص: 554


1- . تفسير الرازي 65:32.
2- . تفسير روح البيان 496:10. (3و4) . تفسير الرازي 66:32.
3- . في النسخة: صيحا.
4- . تفسير الرازي 66:32، و في النسخة: و أغرين و أثرن.
5- . في النسخة: بينهن.
6- . تفسير روح البيان 497:10.
7- . أمالى الطوسي: 913/407، تفسير الصافي 361:5.

أن لا يغدر رجل منهم بصاحبه، و لا يفرّ عنه، و لا يخذله حتّى يقتلوني و أخي علي بن أبي طالب، و أمرني أن أسيّر إليهم أبا بكر في أربعة آلاف فارس، فجدّوا في أمركم، و استعدوا لعدوكم، و انهضوا إليهم على اسم اللّه و بركته يوم الاثنين إن شاء اللّه.

فأخذ المسلمون عدّتهم و تهيّئوا، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر بأمره، و كان فيما أمره به أنّه إذا رآهم أن يعرض عليهم الاسلام، فانّ تابعوا و إلاّ واقعهم - أي حاربهم.

فقتل مقاتليهم، و سبي ذراريهم، و استباح أموالهم، و خرّب ضياعهم و ديارهم.

فمضى أبو بكر و من معه من المهاجرين و الأنصار في أحسن عدّة و أحسن هيئة، يسير سيرا رفيقا حتّى انتهوا إلى أهل وادي اليابس، فلمّا بلغ القوم نزولهم عليهم، و نزل أبو بكر و أصحابه قريبا منهم، خرج عليهم من أهل وادي اليابس مائتا رجل مدجّجين بالسلاح، فلمّا صادفوهم قالوا لهم: من أنتم، و من أين أقبلتم، و أين تريدون ؟ ليخرج إلينا صاحبكم حتّى تكلّمه.

فخرج إليهم أبو بكر في نفر من أصحابه المسلمين، فقال لهم: أنا أبو بكر صاحب رسول اللّه. قالوا:

ما أقدمك علينا؟ قال: أمرني رسول اللّه أن أعرض عليكم الاسلام، و أن تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون، و لكم ما لهم، و عليكم ما عليهم، و إلاّ فالحرب بيننا و بينكم. قالوا: أما و اللاّت و العزّى، لو لا رحم ماسّة و قرابة قريبة لقتلناك و جميع أصحابك قتلة تكون حديثا لمن [يكون] بعدكم، فارجع أنت و من معك و ارتجوا(1) العافية، فانّا نريد صاحبكم بعينه و أخاه علي بن أبي طالب.

فقال أبو بكر لأصحابه: يا قوم، القوم أكثر منكم أضعافا، و أعدّ منكم، و قد نأت داركم عن إخوانكم المسلمين، فارجعوا نعلم رسول اللّه بحال القوم. فقالوا له جميعا: خالفت يا أبا بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما أمرك به، فاتّق اللّه، و واقع القوم، و لا تخالف قول رسول اللّه. فقال: إنّي أعلم ما لا تعلمون، و الشاهد يرى ما لا يرى الغالب.

فانصرف و انصرف الناس اجمعون، فأخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بمقالة القوم، و ما ردّه عليهم أبو بكر، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا بكر، خالفت أمري، و لم تفعل ما أمرتك، فكنت لي و اللّه عاصيا فيما أمرتك.

فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و صعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: يا معشر المسلمين، إنّي أمرت أبا بكر أن يسير إلى أهل وادي اليابس، و أن يعرض عليهم الإسلام، و يدعوهم إلى اللّه، فان أجابوه و إلاّ واقعهم، و إنّه سار إليهم و خرج منهم إليه مائتا رجل، فلمّا سمع كلامهم و ما استقبلوه به انتفخ سحره(2) ،

ص: 555


1- . في المصدر: و اربحوا.
2- . في المصدر و النسخة و تفسير الصافي: صدره، و انتفخ سحره: امتلأ خوفا و جبن.

و دخله الرّعب منهم، و ترك قولي، و لم يطع أمري، و إن جبرئيل أمرني عن اللّه أن أبعث إليهم عمر مكانه في أربعة آلاف فارس، فسر يا عمر على اسم اللّه، و لا تعمل كما عمل أبو بكر أخوك، فانّه قد عصى اللّه و عصاني، و أمره بما أمر به أبا بكر.

فخرج عمر و المهاجرون و الأنصار الذين كانوا مع أبي بكر، يقتصد بهم في مسيرهم حتّى شارفوا القوم، و كانوا قريبا بحيث يراهم و يرونه، و خرج إليهم مائتا رجل، و قالوا له و لأصحابه مثل مقالتهم لأبى بكر، فانصرف و انصرف الناس معه [و كاد أن يطير قلبه مما رأى من عدّة القوم و جمعهم، و رجع يهرب منهم.

فنزل جبرئيل عليه السّلام فأخبر محمدا صلّى اللّه عليه و آله بما صنع هذا و أنّه قد انصرف و انصرف المسلمون معه،] فصعد النبي صلّى اللّه عليه و آله المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، و أخبر بما صنع عمر، و ما كان منه، و أنّه قد انصرف و انصرف المسلمون معه مخالفا لأمري عاصيا لقولي، فقدم عليه فأخبره بمثل ما أخبر به صاحبه، فقال رسول اللّه: يا عمر، عصيت اللّه في عرشه و عصيتني، و خالفت قولي، و عملت برأيك، فقبّح اللّه رأيك، و إنّ جبرئيل أمرني أن أبعث علي بن أبي طالب في هؤلاء المسلمين، و أخبرني أنّ اللّه يفتح عليه و على أصحابه.

فدعا عليا، و أوصاه بما أوصا به أبا بكر و عمر، و أصحابه أربعة آلاف، و أخبره أنّ اللّه سيفتح عليه و على أصحابه، فخرج علي عليه السّلام و معه المهاجرون و الأنصار، و سار بهم غير سير أبي بكر و عمر، و ذلك أنّه أعنف بهم [في] السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب و تحفى(1) دوابّهم، فقال لهم:

لا تخافوا فإنّ رسول اللّه قد أمرني بأمر و أخبرني أنّ اللّه سيفتح علي و عليكم، و ابشروا فانّكم على خير، و إلى خير. فطابت نفوسهم و قلوبهم، و صاروا على ذلك السير و التّعب حتّى إذا كانوا قريبا منهم حيث يرونهم و يراهم، أمر أصحابه أن ينزلوا، و سمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب و أصحابه، فاخرجوا إليهم منهم مائتي رجل شاكّين بالسلاح.

فلمّا رآهم علي عليه السّلام خرج إليهم في نفر من أصحابه، فقالوا لهم: من أنتم، و من أين أقبلتم، و أين تريدون ؟ قال علي عليه السّلام: أنا على بن أبي طالب، ابن عمّ رسول اللّه و أخوه، و رسوله إليكم، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أن محمدا عبده و رسوله، و لكم إن آمنتم ما للمسلمين، و عليكم ما على المسلمين من خير و شرّ. فقالوا له: إيّاك أردنا و أنت طلبتنا، قد سمعنا مقالتك، فخذ حذرك، و استعدّ

ص: 556


1- . حفي من كثرة المشي: رقّت قدمه أو حافره.

للحرب العوان(1). و اعلم أنا قاتلوك و قاتلوا أصحابك، و الموعد فيما بيننا و بينك غدا [ضحوه]، و قد أعذرنا فيما بيننا و بينك.

فقال علي عليه السّلام: ويلكم تهدّدوني بكثرتكم و جمعكم، فأنا استعين باللّه و بملائكته و المسلمين عليكم، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم، فانصرفوا إلى مراكزهم، و انصرف عليّ إلى مركزه.

فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا(2) إلى دوابّهم و يقضموا(3) و يسرجوا، فلمّا انشقّ عمود الصبح صلّى بالناس بغلس، ثمّ غار عليهم بأصحابه، و لم يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتّى قتل مقاتليهم، و سبى ذراريهم، و استباح أموالهم، و خرّب ديارهم، و أقبل بالاسارى و الأموال معه.

فنزل جبرئيل و اخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما فتح اللّه على علي عليه السّلام و جماعة المسلمين، فصعد رسول اللّه المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، اخبر الناس بما فتح اللّه على المسلمين، و أعلمهم أنّه لم يصب منهم إلاّ رجلين و نزل، فخرج يستقبل عليا عليه السّلام في جميع أهل المدينة من المسلمين حتّى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة، فلمّا رآه علي عليه السّلام مقبلا نزل عن دابّته، و نزل النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى التزمه و قبّل ما بين عينيه، فنزل جماعة المسلمين إلى حيث نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقبل بالغنيمة و الاسارى و ما رزقهم اللّه من أهل وادي اليابس».

ثمّ قال الصادق عليه السّلام: «ما اغتم المسلمون مثلها قطّ، إلا أن يكون من خيبر، فانّها مثل خيبر، و أنزل اللّه في ذلك اليوم هذه السورة وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً يعني بالعاديات، الخيل تعدو بالرجال، و الضبح:

ضبحها في أعنّتها و لجمها فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً فقد أخبرك أنّها غارت عليهم صبحا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قال: يعني الخيل يأثرن بالوادي [نقعا] فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً...» الخبر(4).

و روى بعض العامة عن علي عليه السّلام و ابن مسعود، أن المراد بالعاديات الإبل(5).

و رووا عن ابن عباس أنّه قال: بينا أنا أجالس في الحجر إذ أتاني رجل فسألني عن اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً ففسّرتها بالخيل، فذهب إلى علي عليه السّلام و هو تحت سقاية زمزم، فسأله و ذكر له ما قلت، فقال:

«ادعه لي» فلمّا وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به! و اللّه إن كانت لأوّل غزوة في الاسلام بدر، و ما كان معنا إلاّ فرسان: فرس للزبير، و فرس للمقداد وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً الإبل من

ص: 557


1- . و هي الحرب التي قوتل فيها مرّة بعد اخرى كأنهم جعلوا الأولى بكرا، و الحرب العوان، هي أشدّ الحروب.
2- . في النسخة: يجيئوا.
3- . أقضم القوم: امتاروا شيئا قليلا في القحط، و أقضم الدابة: علفها القضم، و هو نبت من الحمض.
4- . تفسير القمي 134:2، تفسير الصافي 361:5.
5- . تفسير الرازي 63:32.

عرفة إلى: مزدلفة، و من المزدلفة إلى منى، يعني إبل الحاج. قال ابن عباس: فرجعت من قولي إلى قول علي عليه السّلام(1).

و على هذا فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً يعني أنّ الحوافر ترمي بالحجر من شدّة العدو، فتضرب به حجرا آخر فتوري النار(2) ، أو المراد إبراء الحاجّ النيران لحوائجهم بالمزدلفة(3). و المراد بالمغيرات صبحا المسرعات من المزدلفة إلى منى في صبح يوم النّحر(4). قالوا: الإغارة جاء بمعنى السرعة في السير، و أثرن بالعدو نقعا و غبارا. و قيل: النّقع اسم للوادي الذي بين المزدلفة و منى(5).

و قوله: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً يعني توسّط بالعدو المزدلفة، فانّ المزدلفة تسمّى جمعا لاجتماع الناس فيها، و الغرض من القسم بإبل الحاجّ، أو بخيل الغزاة في سبيل اللّه، إظهار شرفها المشعر بغاية كرامة راكبهما و فضلهم، و الترغيب في الجهاد و الحجّ.

إِنَّ الْإِنْسٰانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (2) وَ إِنَّهُ عَلىٰ ذٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلاٰ يَعْلَمُ إِذٰا بُعْثِرَ مٰا فِي الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ مٰا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ بالطبع و الجبلّة الأصيلة لِرَبِّهِ المنعم عليه بالنّعم العظام لَكَنُودٌ و كفور، كما عن ابن عباس و جمع من المفسرين(6).

و عن أبي امامة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الكنود الكفور الذي يمنع رفده، و يأكل وحده، و يضرب عبده»(7) و قيل: أصل الكنود مانع الحقّ و الخير(8). و قيل: إنّه البخيل(9). و قيل: يعني لوّام لربّه يذكر المصيبات، و ينسى النّعم(10). و على أيّ تقدير يكون ببخله و عصيانه و منعه حقوق ربّه و نسيانه نعمه شديد الكفران.

وَ إِنَّهُ عَلىٰ ذٰلِكَ المذكور من كفرانه لربّه لَشَهِيدٌ يشهد بذلك على نفسه، لظهور آثاره في أخلاقه و أفعاله بحيث لا يمكنه إنكاره

وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ و الاشتياق إلى الأموال الدنيوية لَشَدِيدٌ و بالغ غايته، و إنّما سمّى المال خيرا جريا على عادة الناس.

ثمّ ذمّه سبحانه على كفرانه لنعم ربّه مع علمه بكفرانه، و إكثاره في حبّ المال المستلزم للبخل الشديد، و غفلته عن سوء عاقبته بقوله:

أَ فَلاٰ يَعْلَمُ هذا الانسان الكفور الطالب لمال الدنيا أنّ اللّه مجازيه و معاقبه على سيئاته إِذٰا بُعْثِرَ و اخرج مٰا فِي الْقُبُورِ من الأموات و بعث إلى المحشر

ص: 558


1- . تفسير الرازي 63:32. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 63:32.
2- . تفسير الرازي 67:32، عن ابن عباس و مجاهد و عكرمة و الضحاك و قتادة. (7-8-9-10) . تفسير الرازي 67:32.

للمجازاة على أعمالهم في الدنيا

وَ حُصِّلَ و اخرج كما يخرج الدّهن من اللّبن مٰا فِي الصُّدُورِ من ضمائر السوء و النيّات الرديّة الفاسدة و كشف عنها، فضلا عن أعمالهم القبيحة الجلية

إِنَّ رَبَّهُمْ و خالق أرواحهم و أجسادهم و قلوبهم و شراشر وجودهم رَبَّهُمْ و بأعمالهم و أحوالهم و أخلاقهم يَوْمَئِذٍ و حين خروجهم من القبور لَخَبِيرٌ بصير، فيجازيهم على أعمالهم من النّقير و القطمير.

و في الرواية السابقة عن الصادق عليه السّلام في قوله: إِنَّ الْإِنْسٰانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال: «لكفور». وَ إِنَّهُ عَلىٰ ذٰلِكَ لَشَهِيدٌ * وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ قال: «يعنيهما، قد شهدا [جميعا] وادي اليابس، و كانا لحب الحياة حريصين»، أَ فَلاٰ يَعْلَمُ إلى آخر السورة قال: «نزلت الآيتان فيهما خاصة، يضمران ضمير السوء، و يعملان به،

فأخبره اللّه خبرهما و فعالهما»(1).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة و العاديات، و أدمن قراءتها، بعثه اللّه عزّ و جلّ مع أمير المؤمنين عليه السّلام يوم القيامة، و كان في رفقائه»(2).

ص: 559


1- . تفسير القمي 439:2، تفسير الصافي 365:5.
2- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 801:10، تفسير الصافي 365:5.

ص: 560

في تفسير سورة القارعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ اَلْقٰارِعَةُ (1) مَا الْقٰارِعَةُ (2) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْقٰارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النّٰاسُ كَالْفَرٰاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَ تَكُونُ الْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الْعٰادِيٰاتِ المتضمّنة لبيان خروج الناس من القبور، نظمت سورة القارعة المنبئة بكيفية البعث و المخبرة بحساب الأعمال و حسن حال المؤمنين، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع فيها ببيان بعض أهوال القيامة بقوله:

اَلْقٰارِعَةُ و الحادثة العظيمة التي تقرع القلوب و الأسماع.

ثمّ بالغ سبحانه في تهويلها بقوله:

مَا الْقٰارِعَةُ و أيّ يوم عجيب هي في الفخامة و الفظاعة و الشدّة، و كرّر سبحانه ذكر القارعة لازدياد التهويل و التأكيد.

ثمّ لمّا استفهم عن شئونها تعجيبا له، بيّن أنّ شأنها و عظم خطرها ممّا لا تناله البشر إلاّ بالوحي السماوي بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ يا محمد، و أي شيء أعجب مَا الْقٰارِعَةُ و ما مقدار عظمتها؟ فانّ عظم شأنها فوق إدراك البشر.

قيل: إنّما سمّيت القيامة بالقارعة لأنّ الفزع هو الضرر، و في القيامة تصطك(1) الأجرام العلوية و السفلية اصطكاكا شديدا عند تخريب عالم الدنيا، أو لأنّ القيامة تفزع الناس بالأهوال الاقراع حيث إنّ السماوات تنشقّ و تنفطر، و الشمس و القمر تتكوران، و الكواكب تنتثر، و الجبال تندكّ، و الأرض تزلزل و تبدّل، أو لأنها تفزع أعداء اللّه بالعذاب و الخزي و النّكال(2).

ثمّ بيّن سبحانه بعض أهوالها بقوله:

يَوْمَ يَكُونُ النّٰاسُ بعد إحيائهم و بعثهم من القبور كَالْفَرٰاشِ و الحيوانات التي تطير و تتهافت على السّراج فتحترق اَلْمَبْثُوثِ و المفرّق في الهواء و الأرض، لا تتوجّه إلى جهة واحدة. قيل: وجه الشّبه الكثرة و الانتشار و الضّعف و الذلّة و الاضطراب و التطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار(3).

ص: 561


1- . في النسخة: اصطك.
2- . تفسير الرازي 70:32.
3- . تفسير روح البيان 499:10.

و قيل: وجه الشبه في الآية اختلافهم إلى جهات مختلفة، و تشبيههم في الآية الاخرى بالجراد المنتشر في الكثرة(1).

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تفرّق الناس في وجه الأرض، بيّن سبحانه سعة وجه الأرض بقوله:

وَ تَكُونُ في ذلك اليوم اَلْجِبٰالُ التي على وجه الأرض كَالْعِهْنِ و الصّوف المتلوّن بالألوان المختلفة اَلْمَنْفُوشِ و المتفرّقة(2) أجزاؤه بالنّدف، و المنشور بالإصبع أو آلة اخرى، و فيه تنبيه على أنّ حال الجبال الرواسي إذا كان كذلك عند القارعة، فكيف يكون حال الانسان الضعيف!

فَأَمّٰا مَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ (3) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (4) وَ أَمّٰا مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هٰاوِيَةٌ (9) وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا هِيَهْ (10) نٰارٌ حٰامِيَةٌ (11) ثمّ بيّن سبحانه اختلاف الناس في مقدار الأعمال الحسنة حيث إنّها توزن في ذلك اليوم بالميزان بقوله:

فَأَمّٰا مَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ و أعماله الموزونة، أو كفّة ميزان أعماله الحسنة حين توضع فيها بعد تجسّمها، أو توضع صحيفتها فيها

فَهُوَ سبب رجحان أعماله الحسنة على أعماله السيئة مستقرّ فِي عِيشَةٍ و حياة رٰاضِيَةٍ محبوبة. قيل: يعني ذات رضا، يرضى بها صاحبها(5).

وَ أَمّٰا مَنْ خَفَّتْ في ذلك اليوم مَوٰازِينُهُ لقلّة حسناته و كثرة سيئاته

فَأُمُّهُ التي يأوي إليها كالولد هي هٰاوِيَةٌ و جهنّم يهوى فيها. و قيل: يعني امّ رأسه هاوية في النار، فانّ أهل النار يهوون فيها على رءوسهم(4). و قيل: إنّ امه هاوية كناية عن الهلاكة، فانّ العرب إذا دعوا على رجل بالهلاك قالوا: هوت أمّه، لأنّ الهالك تهوي امّه حزنا و ثكلا(5).

ثمّ عظّم سبحانه الهاوية أو الداهية التي دلّ عليها قوله: فَأُمُّهُ هٰاوِيَةٌ بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ يا محمد مٰا هِيَهْ و ما حقيقتها؟ ثمّ أعلمه بقوله:

نٰارٌ حٰامِيَةٌ أشدّ الحرارة بحيث تكون سائر النيران بالنسبة إليها باردة، نعوذ اللّه منها.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ و أكثر من قراءة القارعة، آمنه اللّه من فتنة الدجّال أن يؤمن به و من قيح(6) جهنّم يوم القيامة»(7) قد تم تفسيرها بتوفيق اللّه تعالى و منه.

ص: 562


1- . تفسير روح البيان 499:10.
2- . في النسخة: و المتفرق.
3- . في ثواب الأعمال، و تفسير الصافي: فيح، و الفيح: سطوح الحرّ و فورانه.
4- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 806:10، تفسير الصافي 367:5.
5- . تفسير الرازي 73:32، تفسير روح البيان 500:10. (4و5) . تفسير الرازي 74:32، تفسير روح البيان 500:10.

في تفسير سورة التكاثر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَلْهٰاكُمُ التَّكٰاثُرُ (1) حَتّٰى زُرْتُمُ الْمَقٰابِرَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة القارعة المتضمّنة لتهويل يوم القيامة و بيان بعض أهواله، و تهديد العصاة بالهاوية، نظمت سورة التكاثر المتضمّنة لتوبيخ الناس على الغفلة عن التفكّر في الآخرة، و عدم الاشتغال بما ينجيهم من الأهوال و العذاب فيها من طاعة اللّه و رسوله، و تهديدهم برؤية الجحيم، و السؤال عن النّعم الدنيوية، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه بتوبيخ الناس على الغفلة عن الآخرة بالاشتغال بالدنيا بقوله:

أَلْهٰاكُمُ و صرفكم أيّها الناس عن ذكر اللّه و طاعته و عبوديته، و التفكّر في آيات توحيده، و التدبّر في أمر الآخرة، و تحصيل موجبات السعادة الأبدية اَلتَّكٰاثُرُ و التفاخر و التباهي بكثرة العدد و الأقرباء

حَتّٰى زُرْتُمُ الْمَقٰابِرَ و توجّهتم إلى الأموات، و استوعبتم عددهم، و تفاخرتم بكثرة أقربائكم منهم.

روي أنّ بني سهم و بني عبد مناف تفاخروا أيّهم أكثر، فكان بنو عبد مناف أكثر، فقال بنو سهم:

عدوا مجموع أحيائنا و أمواتنا [مع] مجموع أحيائكم و أمواتكم، ففعلوا فزاد بنو سهم، فنزلت(1).

و إنّما عبّر سبحانه عن انتقالهم إلى ذكر الأموات بزيارتهم للتهكّم بهم، فانّ زيارة القبور التي حقّها أن تكون مذكّرة للموت مرغّبة إلى الزّهد في الدنيا و الإعراض عنها و ترك التباهي و التفاخر، جعلوها سببا للقسوة و حبّ الدنيا.

و قيل: إنّ المعنى الهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد، إلى أن متمّ و أقبرتم مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عمّا يهمّكم من السعي لآخرتكم، فتكون زيارة القبور كناية عن الموت(2).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله سمع أنّه يقرأ هذه الآية و يقول بعدها: «يقول ابن آدم، مالي مالي، و هى لك إلاّ ما

ص: 563


1- . تفسير الرازي 76:32، تفسير أبي السعود 195:9، تفسير روح البيان 502:10.
2- . تفسير أبي السعود 195:9، تفسير الصافي 368:5، تفسير روح البيان 502:10.

أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت ؟»(1).

و في التعبير عن ورود القبر بالزيارة إشعار بالخروج منه إلى الحشر و موقف الحساب، حيث إنّ الزائر منصرف و مفارق لا مقيم، و إنّما لم يذكر سبحانه الملهى عنه ليذهب ذهن السامع كلّ مذهب، فيحتمل جميع ما فيه السعادة الأبدية و الخيرات الاخروية و ما فضّل به [من] المقامات العالية و الدرجات الرفيعة.

كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (2) ثُمَّ كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (4) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثمّ ردّ سبحانه المتكاثرين عمّا هم فيه من التكاثر بقوله:

كَلاّٰ ليس الأمر كما تتوهّمون من أنّ السعادة بكثرة العدد أو المال و الأولاد سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأكم، و عن قريب تطّلعون على ضلالتكم، و ذلك العلم و الاطّلاع حين خروج روحكم من أبدانكم، حيث إنّكم حينئذ ترون وحدتكم و عدم نفع الأقرباء و الأموال لكم و شدائد الأهوال قدّامكم، أو حين دخولكم في القبور، حيث إنّكم تعذّبون فيها و لا ناصر لكم.

في الحديث: يسلّط على الكافر في قبره تسعة و تسعون تنّينا تنهشه و تلدغه حتى تقوم الساعة، لو أن تنّينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراء»(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «لو دخلتم قبوركم»(3).

ثمّ أكّد سبحانه التهديد بقوله:

ثُمَّ كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ و في لفظ ثُمَّ دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأول، لأنّ فيه تنزيلا لبعد المرتبة منزلة بعد الزمان.

و قيل: إنّ التهديد الأول بعذاب القبر، و الثاني بأهوال القيامة، كما روي عن ذرّ أنه قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى سمعت عليا عليه السّلام يقول: «كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي سوف تعلمون في القبر، ثمّ في القيامة»(4).

و قيل: إنّ الأول عند الموت حين يقال له: لا بشرى، و الثاني في سؤال القبر، من ربّك، و من نبيك، و ما دينك ؟(5)

ص: 564


1- . مجمع البيان 812:10، تفسير الصافي 368:5، تفسير الرازي 77:32، تفسير روح البيان 502:10.
2- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، تفسير الصافي 369:5، لم ينسبه إلى أحد.
3- . تفسير الرازي 78:32، تفسير روح البيان 503:10.
4- . تفسير الرازي 78:32، تفسير روح البيان 503:10.
5- . تفسير روح البيان 503:10.

عن الصادق عليه السّلام: «لو خرجتم من قبوركم إلى محشركم».

و قوله:

كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (1) عند النشور حين ينادي المنادي: فلان شقيّ شقاوة لا سعادة بعدها أبدا أو حين يقال: وَ امْتٰازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «ذلك حين يؤتى بالصراط فينصب بين جسري جهنّم»(3).

و توصيف العلم باليقين و إضافته إليه، للدلالة على قوّة العلم.

و عن الصادق عليه السّلام في الآية قال: «المعاينة»(4).

و قيل: إنّ المراد باليقين الموت و البعث و القيامة، لأنّهما إذا وقعا جاء اليقين و زال الشكّ، فالمعنى:

لو تعلمون علم الموت و ما يلقى الانسان معه و بعده في القبر و في الآخرة لم يلهكم التكاثر و التفاخر عن ذكر اللّه و عن الاستعداد للآخرة(5).

و قيل: إنّ المعنى لو تعلمون ما يجب عليكم لتمسّكتم به، أو لو تعلمون لأيّ أمر خلقتم لاشتغلتم به(6).

و قيل: يعني لو تعلمون ما بين أيديكم على الأمر اليقين، أي ما تستيقنونه، لفعلتم ما لا يوصف و لا يكتنه، و لكنّكم ضلاّل جهلة(5).

ثمّ أوضح سبحانه ما أبهمه من الإنذار و الوعيد بقوله:

لَتَرَوُنَّ رؤية العين اَلْجَحِيمَ يوم القيامة، و هو جواب قسم مقدّر، و المعنى: و اللّه لترونّها.

و قيل: إنّه جواب لَوْ (6) و المعنى: لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترونّ رؤية بالقلب الجحيم، و تكون دائما في نظركم، لا تغيب عنكم أصلا.

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله:

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا رؤية تكون هي عَيْنَ الْيَقِينِ و نفسه، و في جعل الرؤية التي هي سبب اليقين من المبالغة ما لا يخفى.

و قيل: إنّ الرؤية أولا من البعيد، و الثانية إذا صاروا إلى شفير جهنّم(7). و قيل: تكرارها للدلالة على دوامها(8).

ص: 565


1- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله تفسير الصافي 369:5، لم ينسبه إلى أحد.
2- . يس: 59/36.
3- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، تفسير الصافي 369:5، لم ينسبه إلى أحد.
4- . المحاسن: 250/247، تفسير الصافي 369:5. (5و6) . تفسير الرازي 79:32.
5- . تفسير الرازي 79:32.
6- . تفسير الرازي 78:32.
7- . تفسير الرازي 80:32.
8- . تفسير الرازي 80:32.

ثُمَّ و اللّه أيّها المتكاثرون لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ و في وقت رؤية الجحيم عَنِ النَّعِيمِ الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين و العمل به، فتعذّبون على كفرانه و ترك شكره.

قيل: إنّ النعمة المسئول(1) عنها الصحّة و الفراغ(2) ، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «نعمتان معنون فيهما كثير من الناس الصحّة و الفراغ»(3). و قيل: هي الماء البارد، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما يسأل العبد [عنه] من النعيم فيقال له: أ لم نصح جسمك، و نروك من الماء البارد»(4).

و قيل: إنّها النّعم الخمس شبع البطن، و برد الشراب، و لذّة النوم، و ظلال المساكن، و اعتزال الخلق(3) ، كما عن الصادق عليه السّلام(4).

و قيل: ما سوى كنّ يؤويه، و ثوب يواريه، و كسرة تقوّيه يسأل عنه(5).

و قيل: هو نعمة وجود محمد صلّى اللّه عليه و آله و بعثه حيث قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّٰهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهٰا (6).

و عنهما عليهما السّلام: «هو الأمن و الصّحة»(7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «الرّطب و الماء البارد»(8).

و في (الفقيه) قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ نعيم مسئول عنه صاحبه إلاّ ما كان في غزو أو حجّ»(9) و عن الصادق عليه السّلام قال: «تسأل هذه الامّة عمّا أنعم اللّه عليهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ بأهل بيته عليهم السّلام»(10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «أنّ النعيم الذي يسأل عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من حلّ محلّه من أصفياء اللّه، فانّ اللّه أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم»(11).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سأل أبا حنيفة عن هذه الآية فقال: «ما النعيم عندك، يا نعمان ؟» قال: القوت من الطعام و الماء البارد. فقال: «لئن أوقفك اللّه يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه».

قال: فما النعيم، جعلت فداك ؟ قال: «نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم اللّه بنا على العباد، و بنا ائتلفوا

ص: 566


1- . في النسخة: المسئولة.
2- . تفسير روح البيان 504:10. (3و4) . تفسير روح البيان 504:10.
3- . تفسير الرازي 81:32 و 82، تفسير روح البيان 504:10.
4- . روضة الواعظين: 493، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، تفسير الصافي 369:5.
5- . تفسير روح البيان 504:10.
6- . تفسير روح البيان 504:10، و الآية من سورة النحل: 83/16.
7- . مجمع البيان 812:10، تفسير الصافي 369:5.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 110/38:2، تفسير الصافي 369:5.
9- . من لا يحضره الفقيه 621/142:2، تفسير الصافي 369:5.
10- . تفسير القمى 440:2، تفسير الصافي 369:5.
11- . الاحتجاج: 252، تفسير الصافي 370:5.

بعد أن كانوا مختلفين، و بنا ألّف اللّه بين قلوبهم، و جعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، و بنا هداهم اللّه إلى الاسلام، و هو النعمة التي لا تنقطع، و اللّه سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم به عليهم، و هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و عترته عليهم السّلام»(1).

و في رواية اخرى أنّه عليه السّلام قال: «بلغني أنّك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام الطيب و الماء البارد في اليوم الصائف ؟» قال: نعم. قال: «لو دعاك رجل و اطعمك طعاما طيبا و سقاك ماء باردا ثم امتن عليك به إلى ما كنت تنصبه ؟» قال: إلى البخل. قال: «أ فتبخّل اللّه تعالى ؟!» قال: فما هو؟ قال: «حبّنا أهل البيت»(2).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «ليس في الدنيا نعيم حقيقي» فقال له بعض الفقهاء ممّن حضر: يقول اللّه تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أما هذا النعيم في الدنيا هو الماء البارد؟ فقال له الرضا عليه السّلام و علا صوته: «كذا فسّرتموه أنتم، و جعلتموه على ضروب، فقالت طائفة: هو الماء البارد، و قال غيرهم: هو الطعام الطيب، و قال آخرون: هو طيب النوم، و لقد حدّثني أبي عن أبيه أبى عبد اللّه عليه السّلام أنّ أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول اللّه عز و جلّ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فغضب و قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لا يسأل عباده عمّا تفضّل عليهم به، و لا يمنّ بذلك عليهم، و الامتنان بالانعام مستقبح من المخلوقين، فكيف يضاف إلى الخالق عزّ و جلّ ما لا يرضى المخلوقون به ؟! و لكن النعيم حبّنا أهل البيت و مولاتنا، يسأل اللّه عنه بعد التوحيد و النبوة، لأنّ العبد إذا وفى بذلك أدّاه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول»(3).

و عن الصادق عليه السّلام - في هذه الآية - قال: «إنّ اللّه أكرم و أجلّ أن يطعمكم طعاما فيسوّغكموه ثمّ يسألكم عنه، و لكن يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمد و بآل محمد»(4).

و عن الباقر عليه السّلام «إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ»(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «ثلاثة لا يحاسب العبد المؤمن عليهم: طعام يأكله، و ثوب يلبسه، و زوجة صالحة تعاونه و يحصن بها فرجه»(6).

و في رواية قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يسأل مؤمنا عن أكله و شربه»(7).

ص: 567


1- . مجمع البيان 813:10، تفسير الصافي 370:5.
2- . تفسير الصافي 370:5، بحار الأنوار 220:10.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 8/129:2، تفسير الصافي 370:5.
4- . الكافي 3/280:6، تفسير الصافي 371:5.
5- . الكافي 5/280:6، تفسير الصافي 371:5.
6- . المحاسن 80/399، الكافي 2/280:6، تفسير الصافي 371:5.
7- . المحاسن: 81/399، تفسير الصافي 371:5.

عن الصادق عليه السّلام: «من ذكر اسم اللّه على الطعام، لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام»(1).

أقول: الظاهر وجه الجمع بين الأخبار أنّ النعيم(2) الذي يسأل عنه جميع الناس، نعمة رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ولاية أهل بيته عليهم السّلام أنّهم هل أدّوا شكرها بقبولها و العمل بلوازمها؟ فاذا تبيّن شكرهم لها لم يسألوا عن صرف ما يحتاجون إليه من النّعم في حوائجهم، بل يسألون عن صرف ما زاد عليه من الطيبات، و إذا لم يكونوا مؤمنين بالرسالة مسلّمين(3) للولاية يسألون عن جميع النّعم التي صرفت(4) في غير طاعة اللّه زائدا على الضروريات، و اللّه أعلم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة أَلْهٰاكُمُ التَّكٰاثُرُ في فريضة كتب له أجر مائة شهيد، و من قرأها في نافلة كتب له أجر خمسين شهيد، و صلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة إن شاء اللّه تعالى»(5).

ص: 568


1- . المحاسن: 269/434، تفسير الصافي 369:5.
2- . في النسخة: النّعم.
3- . في النسخة: و المسلمين.
4- . في النسخة: الذي صرف.
5- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 810:10، تفسير الصافي 371:5.

في تفسير سورة العصر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَ الْعَصْرِ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة التكاثر المتضمّنة لذمّ الانسان على التكاثر بالعدد و المال، و تهديده برؤية الجحيم و السؤال عن النعيم، نظمت سورة وَ الْعَصْرِ المتضمّنة لبيان كون الانسان بسبب رغبته في النّعم الدنيوية في خسران و ضرر عظيم، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالقسم بالعصر بقوله:

وَ الْعَصْرِ قيل: إنّ اللّه أراد به الدهر و مطلق الزمان، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه تعالى أقسم بالدهر(1) ، الدهر(2) مشتمل على السراء و الضراء، و الصحّة و السقم، و الغنى و الفقر(3) و غيرها من آثار قدرة اللّه تعالى، و لأنّه من أصول النّعم الذي لو ضيعه يسأل عنه.

و قيل: إنّه تعالى أراد به وقت العصر، و العشي الذي هو بعد مضيّ قليل من الزوال إلى الغروب، و أقسم به كما أقسم بالضّحى لظهور آثار قدرة اللّه فيهما، و لأنّ لوقت العصر بسبب خلق آدم فيه شرفا زائدا على سائر الأوقات(4) ، و لأنّ في القسم به تنبيها على أنّه وقت إذا لم يحصّل الانسان فيه ربحا كان من الخاسرين.

و قيل: أراد به سبحانه عصر النبوة(5) ، فانّه أشرف الأزمنة فاقسم سبحانه بزمان النبي صلّى اللّه عليه و آله كما أقسم بمكانه بقوله: لاٰ أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ * وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهٰذَا الْبَلَدِ (6) و أقسم بعمره بقوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (7).

و قيل: إنّ المراد به صلاة العصر، لظهور كثير من الأخبار في كمال فضيلتها(8).

ص: 569


1- . تفسير الرازي 84:32.
2- . في النسخة: و لا الدهر.
3- . تفسير الرازي 84:32.
4- . تفسير روح البيان 506:10.
5- . تفسير أبي السعود 197:9، تفسير الصافي 372:5، تفسير روح البيان 506:10.
6- . البلد: 1/90 و 2.
7- . الحجر: 72/15.
8- . تفسير أبي السعود 197:9، تفسير الرازي 85:32.

أقول: و يحتمل كون المراد عصر ظهور القائم عليه السّلام [و سيأتي]، عن الصادق عليه السّلام(1).

إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ بجميع أفراده لَفِي خُسْرٍ عظيم و نقصان و ضرر لا نهاية له من حيث تضييع عمره و إتلاف ماله و إهلاك نفسه باتّباع الشهوات و الانهماك و اللذّات و الاستغراق في حبّ الدنيا و الاشتياق إليها، مع كونه قادرا في مدّة عمره على تحصيل السعادة الأبدية و الراحة السرمدية و النّعم الدائمة بطاعة ربّه و اتّباع رضوانه.

و عن الصادق عليه السّلام: «إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ إلى آخر الدهر»(2).

و عن ابن عباس: اريد من الانسان هنا جماعة المشركين، كالوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن عبد المطّلب(3). و قيل: اريد أبو لهب(4). و روي أنّه اريد به أبو جهل(3). و روي أنّ هؤلاء كانوا يقولون: إنّ محمدا لفي خسر، فأقسم اللّه تعالى إنّ الأمر بالضدّ ممّا توهّموه(4).

أقول: لا منافاة بين إرادة العموم من الآية، و نزولها في بعضهم، كإرادة العموم من قوله إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ (5) و نزوله في حقّ الوليد، و يشهد لإرادة العموم الاستثناء بقوله:

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّٰالِحٰاتِ و اكتسبوا بأعمارهم و أموالهم الفضائل و الخيرات لأنفسهم المستتبعة للدرجات الرفيعة و المقامات العالية في الآخرة، فانّهم في تجارة لن تبور، حيث باعوا الدنيا الدنيّة الخسيسة، و اشتروا الآخرة الباقية النفيسة، فيا لها من صفقة ما أربحها!

و هم مضافا إلى تكميل نفوسهم بالايمان و العمل، يسعون في تكميل نفوس غيرهم بأن ردعوهم عن الشرك وَ تَوٰاصَوْا و تعاهدوهم على الايمان بِالْحَقِّ و هو التوحيد، و رسالة الرسول، و تصديق كتابه و العمل به و باحكامه وَ تَوٰاصَوْا و تعاهدوا على طاعة اللّه بِالصَّبْرِ عليها و تحمّل مشاقّها، و كفّ النفس عن المعاصي التي تشتاق إليها.

ثمّ إنّه بناء على كون الحقّ أعمّ من الايمان و العمل (6)[فانّ تخصيص هذا التواصي بالذكر مع

ص: 570


1- . إكمال الدين: 1/656، تفسير الصافي 372:5.
2- . تفسير القمي 441:2، تفسير الصافي 372:5. (3و4) . تفسير الرازي 86:32.
3- . تفسير الرازي 86:32 و 87.
4- . تفسير الرازي 87:32.
5- . الحجرات: 6/49.
6- . جواب هذه العبارة سقط من النسخة، و قد أكملناه من تفسير أبي السعود 197:9، و تفسير روح البيان 507:10، و كذا سقط أول الحديث الآتي عن الصادق عليه السّلام و أثبتناه من إكمال الدين.

اندراجه تحت التواصي بالحقّ، لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأنّ الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى به اللّه تعالى، و الثاني عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل اللّه تعالى، فان المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتشوق إليه من فعل و ترك، بل هو تلقّي ما ورد منه تعالى بالجميل، و الرضا به ظاهرا و باطنا.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «العصر عصر خروج] القائم عليه السّلام. إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ يعني أعداءنا إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني بآياتنا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ يعني بمواساة الاخوان وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ يعني الامامة وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ يعني بالعترة»(1).

و القمي عنه عليه السّلام، قال: «استثنى أهل صفوته من خلقه حيث قال: إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا بولاية أمير المؤمنين وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ ذرّياتهم و من خلقوا بالولاية تواصوا بها و صبروا عليها»(2).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ وَ الْعَصْرِ في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه(3) حتّى يدخل الجنّة»(4).

الحمد للّه على التوفيق لتفسيرها.

ص: 571


1- . اكمال الدين: 1/656، تفسير الصافي 372:5.
2- . تفسير القمي 441:2، تفسير الصافي 372:5.
3- . في النسخة: قريرا عينيه.
4- . ثواب الأعمال: 125، مجمع البيان 814:10، تفسير الصافي 373:5.

ص: 572

في تفسير سورة الهمزة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة وَ الْعَصْرِ المتضمّنة لبيان أنّ جميع الناس غائرون في الخسران لحبّهم الدنيا و تفاخرهم بالأموال و الأقارب، نظمت بعدها سورة الهمزة المتضمّنة لذمّ من جمع الأموال و افتخر بها و رأى لنفسه فضلا و فخرا على غيره، و تهديده بالخلود في جهنّم في الآخرة، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في ذمّ من يبالي بنفسه و يتعرّض لأعراض الناس و تعييبهم بقوله:

وَيْلٌ و هلاك، أو شرّ و قباحة، أو جبل نار في جهنّم، على ما روي (1)لِكُلِّ هُمَزَةٍ و مغتاب للناس و لُمَزَةٍ و عيّاب لهم، كما عن ابن عباس(2). و في رواية اخرى عنه: الهمزة: هم المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة. و اللّمزة: الناعتون للناس بالعيب(3).

و قيل: الهمزة: هو العيّاب باليد و الرأس و العين بالاشارة، و اللمزة هو العيّاب باللّسان(4).

و قيل: الهمزة: العيّاب بالمواجهة أو بالجهرة و اللّمزة: العيّاب بظهر الغيب أو سرّا(5).

قيل: إنّ السورة نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس و يغتابهم و خاصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(6).

و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله من ورائه، و يطعن عليه في وجهه(7) و قيل:

نزلت في امية بن خلف(8) ، و على أي تقدير لا يخصّص مورد النزول العام.

اَلَّذِي جَمَعَ مٰالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مٰالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاّٰ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

ص: 573


1- . تفسير الرازي 91:32.
2- . تفسير الرازي 91:32.
3- . تفسير الرازي 92:32.
4- . تفسير الرازي 91:32 و 92.
5- . تفسير الرازي 92:32.
6- . تفسير الرازي 91:32.
7- . تفسير الرازي 91:32.
8- . تفسير الرازي 91:32.

ثمّ وصف سبحانه المذموم بالويل بقوله:

اَلَّذِي جَمَعَ مٰالاً كثيرا لنفسه، أو حقيرا غير قابل لأن يفتخر به وَ عَدَّدَهُ و ذخره لحوادث الدهر، أو أحصاه مرّة بعد اخرى لالتذاذ نفسه بعدّه، أو كثرته و افتخر به. و قيل: يعني جمع مالا و عدّد قومه الذين ينصرونه(1) ، و إنّما ذكر صفة جمعه المال لكونه سبب همزه و لمزه، و هو من جهله و جمعه

يَحْسَبُ و يظنّ أَنَّ مٰالَهُ الذي جمعه أَخْلَدَهُ في الدنيا، و آمنه من الموت.

و قيل: إنّ المعنى: اعتقد أنّه إن انتقص ماله يموت، فيحفظه من التلف و النّقصان ليبقى حيّا(2). و قيل:

فيه تعريض بالعمل الصالح، فانّه هو الذي يخلّد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل، و في الآخرة في النعيم المقيم(3).

كَلاّٰ ليس الآخرة كما يظنّ، و لا ينبغي له هذا الحسبان، أو المعنى: حقّا و اللّه لَيُنْبَذَنَّ ذلك الذي جمع المال، و ليطرحنّ ذلك الظانّ للخلود فِي الْحُطَمَةِ كالحصى الذي يطرح في البئر.

وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الْحُطَمَةُ (1) نٰارُ اللّٰهِ الْمُوقَدَةُ (6) اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهٰا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الحطمة بقوله:

وَ مٰا أَدْرٰاكَ يا محمد، و أيّ شيء أعلمك مَا الْحُطَمَةُ و أيّ شيء هي ؟ هي

نٰارُ اللّٰهِ الْمُوقَدَةُ و المشتعلة بأمره و قدرته و غضبه، لا يطفئها شيء.

و لا يشبهها شيء من نيران الدنيا.

في الحديث: «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثمّ ألف سنة حتّى ابيضّت، ثمّ ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة»(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «عجبا ممّن يعصي اللّه على وجه الأرض و النار تسعر من تحته!»(5).

اَلَّتِي تَطَّلِعُ و تعلو عَلَى الْأَفْئِدَةِ و أوساط القلوب و تغشاها.

حاصل الآية و اللّه أعلم أنّ نار جهنّم تحطم و تكسر العظام، و تأكل اللحوم، و تدخل في أجواف العصاة و أهل الشهوات، و تقبل إلى صدورهم، و تستولى على أفئدتهم، و تخصيص الأفئدة بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد، و أشدّ تألّما بأدنى الأذى، أو لأنّه محلّ العقائد الفاسدة و الضمائر الخبيثة و منشأ الأعمال السيئة.

ص: 574


1- . تفسير الرازي 94:3، تفسير روح البيان 509:10.
2- . تفسير الرازي 94:32، تفسير روح البيان 509:10.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أنّ النار تأكل أهلها حتّى إذا اطّلعت على افئدتهم انتهت، ثمّ إنّ اللّه تعالى يعيد لحومهم و عظامهم مرة اخرى»(1).

ثمّ بيّن سبحانه يأس الظانّين الخلود في الدنيا من خروجهم من الجحيم، و تيقّنهم بالخلود في النار بقوله:

إِنَّهٰا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ و مغلقة الأبواب حال كونهم موثقين

فِي عَمَدٍ و أعمدة مُمَدَّدَةٍ و مطوّلة التي هي أثبت من القصيرة، مثل المقاطر و الخشبات التي تجعل فيها أرجل اللصوص كيلا يهربوا.

و قيل: يعني تطبق عليهم أبواب النيران، و يجعل على الأبواب العمد الطويلة استيثاقا في استيثاق، لئلا يخرجوا منها، و لا يدخل عليهم روح(2) ، و المعنى أنّ النار عليهم طبقة الأبواب بأعمدة مدّت عليها، و إنّما لم يقل (بعمد) للإشعار بكثرتها بحيث صارت كأنّ الأبواب فيها.

القمّي رحمه اللّه قال: إذا مدّت العمد كان و اللّه الخلود(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ في فريضة من فرائضه، أبعد اللّه عنه الفقر، و جلب عليه الرزق، و يدفع عنه مينة السوء»(4).

قد تمّ تفسيرها.

ص: 575


1- . تفسير الرازي 94:32.
2- . تفسير روح البيان 510:10، و زاد المؤلف هنا ثلاث كلمات غير مقروءة في النسخة، و الذي في تفسير روح البيان: لا يدخلها روح و لا يخرج منها غمّ.
3- . تفسير القمي 442:2، و فيه: العمد أكلت و اللّه الجلود، تفسير الصافي 374:5.
4- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 816:10، تفسير الصافي 375:5.

ص: 576

في تفسير سورة الفيل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحٰابِ الْفِيلِ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الهمزة المتضمّنة لذمّ العيّابين للنبي صلّى اللّه عليه و آله الطاعنين فيه لإطفاء نوره و إخلالا بأمر رسالته، نظمت سورة الفيل المتضمّنة لبيان حفظ اللّه بيته من الخراب و تعذيب قاصديه، مبشرا له صلّى اللّه عليه و آله بإهلاك أعداء بيته الحرام، و تسلية لقلبه الشريف المتألّم بمكايد أعدائه في الإخلال بأمر رسالته، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه في تسلية قلب حبيبه ببيان قصة إهلاك أعداء بيته بقوله:

ص: 577

ليلة ليتعبّد فيها فأذنوا له(1) في ذلك، فأقام فيها الليل وحده، فتغوّط فيها، و طلى به جدرانها و إيوانها و محرابها، ثمّ خرج منها و هرب، فانتشر الخبر في الآفاق، فتنفّر الناس منها، فلمّا سمع ذلك أبرهة غضب و حلف أن يخرب الكعبة. و قيل: بلغ الخبر إلى النجاشي، فاغتم لذلك و أغراه(2) أبرهة و قال:

لا تحزن، إنّ لهم كعبة هي فخرهم فنخرب بنيانها و نبيح دماءها، فخرج أبرهة بجند كثيف، و معه فيل أبيض اللون لم ير مثله في عظم الجثّة و شدّة القوّة، يقال له: محمود، فلمّا قرب من الحرم نزل، و بعث رجلا حبشي(3) يقال له الأسود، حتّى انتهى إلى مكّة، فساق إليه أموال تهامة و مواشيها(4).

قيل: لمّا بلغ أبرهة المغمّس - و هو منزل في طريق الطائف - خرج إليه عبد المطّلب، و عرض إليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى(5).

و قيل: لمّا نزل المغمّس بعث حناطة الحميري إلى مكّة، و قال له: سل من سيّد هذا البلد و شريفهم، و قل له: إنّ الملك يقول: إنّي لم آت لحربكم، و إنّما جئت لهدم هذا البيت، فان لم تتعرّضوا دونه لحرب فلا حاجة لي في دمائكم، فإن لم يرد حربي فأتنى به، فجاء عبد المطّلب و معه جماعة من بني هاشم، فسبقهم الرسول إلى أبرهة، و قال له: جاءك رئيس مكة(6).

و قيل: استأذن لعبد المطّلب بعض وزراء أبرهة، يقال له أنيس سائس الفيل، و قال: جاءك سيد قريش و صاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل، و الوحوش في رءوس الجبال، فأحسن أبرهة رأيه، و جلس على السرير، فأجاز لعبد المطلب في الدخول، فلمّا ورد قال أبرهة، و نزل عن السرير [كيلا تجلسه معه]، لأنّه كره أن تراه الحبشة على سرير ملكه، و جلس مع عبد المطلب على الأرض، و أكرمه و عظّمه، و أعجبه حسن كلامه، و قال في نفسه: لو شفع في انصرافه من البيت لأجابه، فقال له: فاسأل منّي كلّما تريد. فقال له عبد المطّلب: اريد منك أن تامر بردّ إبلي التي كانت ترعى بذي المجاز، فساقها بعض جيشك. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لم لم تشفع في البيت الذي يكون شرفا و عزّا لك و لقومك من قديم الدهر، و أنا اريد أن اخربه، و ما قدر الإبل التي تريدها؟!

و قيل: إنّه قال: سقطت من عيني، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك و دين آبائك، فالهاك عنه ذود اخذلك(5).

قال عبد المطّلب: أنا ربّ الابل، و للبيت ربّ يحفظه كما حفظه من تبّع و سيف بن ذي يزن

ص: 578


1- . في النسخة: فأذنوه.
2- . في النسخة: و غراه.
3- . في النسخة: حبشية.
4- . تفسير روح البيان 511:10. (5و6) . تفسير روح البيان 5.13:10
5- . الذود: القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر، راجع تفسير الرازي 96:32.

و كسرى، فغضب أبرهة، و أمر بردّ إبله، و قال: ننظر من يحفظ البيت منّي ؟

فرجع عبد المطّلب، و أمر أهل مكّة أن يجمعوا أموالهم و أمتعتهم و يصعدوا على الجبل، فلم يبق في مكّة أحد تخوّفا من معرّة الجيش، فجهّز أبرهة جيشه، و قدّم الفيل الأعظم(1). قيل: سقوه الخمر ليذهب تمييزه، فكانوا كلّما وجّهوه إلى جهة الحرم برك و لم يبرح، و إذا وجّهوه إلى اليمن أو إلى سائر الجهات هرول، و جاء عبد المطّلب و أخذ بحلقة البيت، و قال:

لاهمّ إنّ المرء يح مي رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم و محالهم عدوا محالك

فالتفتت و هو يدعوا، فاذا بطير فقال: و اللّه إنّها لطير غريبة لا نجدية و لا تهامية و لا حجازية، و إنّ لها لشأنا؛ و كان مع كلّ طائر حجر في منقاره و حجران في رجليه أكبر من العدسة و أصغر من الحمّصة(2).

أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبٰابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجٰارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ثمّ بيّن سبحانه كيفية فعله بهم بقوله:

أَ لَمْ يَجْعَلْ ربّك كَيْدَهُمْ و تدبيرهم و تخريب الكعبة و تعطيلها من الزوّار فِي تَضْلِيلٍ و تضييع و إبطال بأن أهلكهم أشنع إهلاك.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية إهلاكهم بقوله:

وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ لاهلاكهم طَيْراً لم ير مثلها حال كونها أَبٰابِيلَ و جماعات. قيل: كانت أفواجا متتابعة بعضها على أثر بعض، أو من هاهنا و هاهنا، جمع إبالة، و هي الحزمة الكبيرة، شبّهت بها جماعة الطير في تضامّها(3).

قيل: كان عبد المطّلب و أبو مسعود الثقفي يشاهدان من فوق الجبل عسكر أبرهة، فأرسل اللّه طيرا أسود صفر المناقير خضر الأعناق طوالها، و خضراء أو بيضاء أو بلقاء(4).

عن عائشة: أنّها أشباه الخطاطيف و الوطاويط، و لها خراطيم الطير، و أكفّ الكلاب و أنيابها(5).

و عن ابن جبير، لم ير مثلها ما قبلها و لا بعدها(6). و قال [عكرمة]: هي عنقاء مغرب(7) و في الخبر: أنّها طير بين السماء و الأرض تعيش و تفرخ(8).

و قيل: من طير السماء

تَرْمِيهِمْ من فوقهم بِحِجٰارَةٍ، فيها مكتوب اسم من قتل بها مخطّطة بالحمرة كالجزع(4) الظفاري، كما عن ابن عباس(5) ، كائنة مِنْ سِجِّيلٍ و طين متحجّر، معرّب سنك

ص: 579


1- . تفسير روح البيان 513:10.
2- . تفسير روح البيان 514:10، و 515.
3- . تفسير روح البيان 517:10. (4-5-6-7-8) . تفسير روح البيان 515:10.
4- . الجزع: ضرب من العقيق.
5- . تفسير روح البيان 515:10.

و گل، كما عن ابن عباس(1). و قيل: هو علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار، كأنّه قال: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن(2). و قيل: السجّيل: اسم السماء الدنيا(3). و قيل: إنّه اسم جهنّم، و كان سجّين فابدلت نون آخره لاما(4).

و قد مرّ أنّ كلّ طائر كان يحمل ثلاثة أحجار، حجر بمنقاره، و حجران برجليه، تقتل بكلّ واحد رجلا، ما وقع منها في موضع إلاّ خرج من الجانب الآخر، و إن وقع على رأسه خرج من دبره(2).

و في رواية عن ابن عباس: لم يقع حجر على أحد إلاّ نفط(3) جلده و ثار به الجدريّ(4).

فَجَعَلَهُمْ اللّه كَعَصْفٍ و ورق زرع مَأْكُولٍ أكلته الديدان، و إنّما سمّى ورق الزرع عصفا؛ لأنّه يعصف به الرياح من مكان إلى مكان، و توصيفه بالمأكول لأنّه حدث بهم بسبب رميهم منافذ و شقوق كورق أكله الدود.

و قيل: يعني كزرع اكل حبّه و بقي صفرا منه، شبّههم به في ذهاب أرواحهم و بقاء أجسادهم(5).

و عن ابن عباس: يعني كزرع و تبن أكلته الدوابّ ثمّ ألقته روثا، ثمّ يجفّ و تتفرق أجزاؤه، شبّه تقطّع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث(6).

و على أيّ تقدير هلك جيش أبرهة و فيلاته، و اخذ أبرهة داء أسقط أنامله و أعضاءه، و وصل إلى صنعاء كذلك، و هو مثل فرخ الطير، و مات فملك ابنه يكسوم بن أبرهة اليمن، و انفلت وزيره أبو يكسوم و طائر يتحلّق فوق رأسه حتّى بلغ النجاشي فقصّى عليه القصّة، فلمّا أتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتا بين يديه(7).

و قيل: هلك كلّهم إلاّ أبرهة، فخرج من مكّة، و جاء إلى الحبشة، و كان على رأسه طير و لم يعلم به حتّى وقف بين يدي النجاشي، فلمّا قصّ عليه القصة تعجّب النجاشي، و قال: كيف يهلك الطير الجند الكثير! فنظر أبرهة إلى الطير الذي كان على رأسه، فقال: هذا واحد من تلك الطيور، فألقى ذلك الطير حجرا على رأسه، فهلك عند النجاشي(8).

روي أنّ عبد المطّلب و أبو مسعود الثقفي كانا يشاهدان هلاك عسكر أبرهة من فوق الجبل حين

ص: 580


1- . تفسير الرازي 101:32. (2-3-4) . تفسير الرازي 101:32.
2- . تفسير الرازي 100:32.
3- . نفط جلده: أصابه الجدري.
4- . تفسير الرازي 100:32.
5- . تفسير روح البيان 518:10.
6- . تفسير الرازي 101:32، تفسير روح البيان 518:10، و لم ينسبه إلى أحد.
7- . تفسير روح البيان 515:10 و 516.
8- . تفسير روح البيان 516:10.

رماهم الطير بالحجارة، فقال عبد المطّلب لصاحبه: صار القوم بحيث لا يسمع لهم ركز(1) ، فانحطّا من الجبل و دخلا العسكر، فاذا هم موتى، فجمعا من الذهب و الجواهر، و حفر كلّ منهما لنفسه حفيرة و ملأها من المال، و كان ذلك سبب غناهما، و صارت بقية أمتعتهم غنيمة لقريش و أهل مكّة، هذا كلّه ما رواه العامة(2).

و قال القمي رحمه اللّه: نزلت في الحبشة حين جاءوا بالفيل ليهدموا به الكعبة، فلمّا أدنوه من باب المسجد، قال له عبد المطّلب: تدري أين يؤمّ بك ؟ قال برأسه: لا. قال: أتوا بك لتهدم كعبة اللّه، أ تفعل ذلك ؟ قال برأسه: لا، فجهدت به الحبشة ليدخل المسجد فامتنع، فحملوا عليه بالسيوف و قطّعوه، فأرسل اللّه عليهم طيرا أبابيل، قال: بعضها على أثر بعض ترميهم بحجارة من سجيل، قال: كان مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، و حجران في مخالبه، و كانت ترفرف على رءوسهم، و ترمي في دماغهم، فيدخل في دماغهم و يخرج من أدبارهم و ينتقض(3) أبدانهم، فكانوا كما قال اللّه: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قال: العصف: التبن، و المأكول: هو الذي يبقى من فضله(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «بعث اللّه عليهم الطير كالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي رأس الرجل، ثمّ ترسلها على رأسه، فتخرج من دبره حتّى لم يبق منهم إلاّ رجل هرب فجعل يحدّث الناس بما رأى، فطلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطير منها، و جاء الطير حتّى حاذى رأسه ثمّ ألقاها عليه، فخرجت من دبره فمات»(5).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللّه تعالى وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبٰابِيلَ قال: «كان طير سافّ(6) جاءهم من قبل البحر، رءوسها كأمثال رءوس السّباع، و أظفارها كأظفار السّباع من الطير، مع كلّ طائر ثلاثة أحجار: في رجليه حجران، و في منقاره حجر، فجعلت ترميهم بها حتى جدّرت أجسادهم، فقتلهم بها، و ما كان قبل ذلك رؤي شيء من الجدري، و لا رأوا ذلك من الطير قبل ذلك اليوم و لا بعده».

قال: «و من أفلت منهم يومئذ انطلق حتى إذا بلغوا حضر موت - و هو واد دون اليمن - أرسل اللّه عليهم سيلا فغرّقهم أجمعين». قال: «و ما رؤي في ذلك الوادي ماء قطّ قبل ذلك اليوم بخمس عشرة سنة» قال: «و لذاك سمّي حضر موت حين ماتوا فيه»(7).

ص: 581


1- . الرّكز: الصوت الخفي.
2- . تفسير روح البيان 516:10.
3- . في النسخة: و تنقص.
4- . الكافي تفسير القمي 442:2، تفسير الصافي 376:5.
5- . الكافي 2/216:4، تفسير الصافي 376:5.
6- . أسفّ الطائر: دنا من الأرض.
7- . الكافي 44/84:8، تفسير الصافي 377:5.

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ أبرهة بن يكسوم قاد الفيل إلى بيت اللّه الحرام ليهدمه قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال عبد المطّلب: إنّ لهذا البيت ربا يمنعه، ثمّ جمع أهل مكّة فدعا، و هذا بعد ما أخبره سيف بن ذي يزن، فأرسل اللّه عليهم طيرا أبا بيل، و دفعهم عن مكة و أهلها»(1).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ في فرائضه أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ شهد له يوم القيامة كلّ سهل و جبل و مدر بأنّه كان من المصلّين، و ينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له و عليه، أدخلوه الجنّة و لا تحاسبوه، إنّه ممّن أحبّه اللّه و أحبّ عمله»(2).

و عن العياشي: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ و لِإِيلاٰفِ سورة واحدة(3).

ص: 582


1- . قرب الإسناد: 1228/319، تفسير الصافي 377:5.
2- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 820:10، تفسير الصافي 377:5.
3- . مجمع البيان 827:10، تفسير الصافي 378:5.

في تفسير سورة قريش

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ (1) إِيلاٰفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتٰاءِ وَ الصَّيْفِ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الفيل المتضمّنة لبيان إنعام اللّه على قريش بدفع أصحاب الفيل عنهم، و حفظ الكعبة التي كان بها عزّهم و شرفهم، نظمت سورة قريش المتضمّنة لبيان منّته عليهم بإدامة تجارتهم إلى اليمن و الشام و إطعامهم من الجوع، و توسعة معاشهم، و أمنهم من الخوف من أصحاب الفيل و غيرهم، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها ببيان حكمة من حكم إهلاك أصحاب الفيل، و هي إنعامه على قريش بقوله:

لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ قيل: إنّ التقدير جعل اللّه أصحاب الفيل كعصف مأكول و أهلكهم أشنع إهلاك، لأجل إبقاء قريش على ما التزموا به(1)

ثمّ كأنّه قيل: [ما] ذلك الايلاف و الالتزام ؟ فأجابه سبحانه بقوله:

إِيلاٰفِهِمْ و التزامهم رِحْلَةَ الشِّتٰاءِ و السفر في الأزمنة الباردة للتجارة إلى اليمن وَ في اَلصَّيْفِ و الأزمنة الحارة إلى الشام، و لأجل أن يألفوا هاتين الرحلتين، و يجمعوا بينهما، و يداوموا عليهما.

عن ابن عباس قال: كانت قريش إذا أصاب أحدهم فقر و جوع أخذ بيد عياله و خرج إلى الصحراء، و ضرب على نفسه و عياله خيمة، و بقى هناك حتّى يموت هو و عياله، و كانوا على ذلك إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، و كان سيد قومه، و كان له ابن يقال له أسد، و كان له ترب(2) من بني مخزوم يحبّه و يلعب معه، فشكا إليه ضرر المجاعة، فدخل أسد على امّه يبكى، فأرسلت إلى اولئك بدقيق و شحم، فعاشوا به أياما، ثمّ أتى ترب أسد إليه مرّة اخرى، و شكا إليه من الجوع، فقام هاشم خطيبا في قريش فقال: إنكم أجدبتم جدبا تقلّون فيه و تذلّون، و أنتم أهل حرم اللّه، و أشراف ولد آدم، و الناس لكم تبع.

ص: 583


1- . تفسير الرازي 103:32.
2- . الترب: المماثل في السنّ.

قالوا: نحن تبع لك، و ليس عليك منّا خلاف، فجمع جميع أولاد النضر(1) بن كنانة على الرحلتين(2) في الشتاء إلى اليمن، و في الصيف إلى الشام، ليتجروا فيما بدا لهم من التجارات، فما ربح الغني قسم بينه و بين فقرائهم حتّى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الاسلام و هم كانوا على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب واحد أكثر مالا و لا أعزّ من قريش(3).

فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ (3) اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ثمّ اعلم أنّ بعض من فسّر السورة بهذا التفسير و قال بتعلق لام لِإِيلاٰفِ بالسورة السابقة، قال بكونها سورة واحدة، و يؤيده جعل(4) كعب بن ابي السورتين في مصحفه سورة واحدة، و لم يفصل بينهما بالبسملة(5).

و روى العياشي عن أحدهما أنّه قال: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ و لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ سورة واحدة»(6).

و قيل: إنّ اللام متعلّقة بقوله تعالى:

فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ لإيلافهم، أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة و اعترافا بها، و إنّما أدخل الفاء على ليعبدوا لما في الكلام من معنى الشرط، و المعنى إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة(5).

و قيل: ليست متعلقة بما قبلها و لا بما بعدها، بل هي لام التعجّب، و المعنى اعجبوا لإيلاف قريش، فانّهم كلّ يوم يزدادون غيا و جهلا و انغماسا في عبادة الأوثان، و اللّه يؤلّف شملهم، و يدفع الآفات عنهم، و ينظم أسباب معايشهم(6).

فليعبدوا رب هذا البيت، و ليوحّدوه، أو فليخضعوا له؛ لأنّه حفظ البيت، و عظّمهم بحفظه في أنظار الناس، و هو

اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ بسبب تينك(7) الرحلتين اللتين تمكنوا(8) منهما مِنْ جُوعٍ شديد.

روي أنّهم أصابتهم شدّة حتّى أكلوا الجيف و العظام المحرقة(11).

و قيل: إنّ تنكير الجوع و الخوف للتحقير، و المعنى أنّه تعالى لم يرض لهم بالجوع و الخوف القليل، فكيف يرضى لهم إن عبدوه أن يهمل أمرهم(12) لكونهم جيرانه و سكّان حرمه.

و قيل: إنّه سبب دعوة إبراهيم عليه السّلام حيث قال: يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْءٍ (9).

ص: 584


1- . في النسخة: نصر، راجع جمهرة أنساب العرب: 11.
2- . في النسخة: المرحلتين.
3- . تفسير الرازي 106:32، تفسير روح البيان 519:10.
4- . في النسخة: و ابده يجعل. (5و6) . مجمع البيان 827:10، تفسير الصافي 378:5.
5- . تفسير الرازي 105:32.
6- . تفسير الرازي 105:32.
7- . في النسخة: بتيك.
8- . في النسخة: تمكثوا. (11و12) . تفسير الرازي 110:32.
9- . تفسير روح البيان 520:10، و الآية من سورة القصص: 57/28.

وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم، كان لهم من أصحاب الفيل، أو من خوف التخطّف في بلدهم و اسفارهم، فانّ إهلاك أصحاب الفيل صار سببا لهيبتهم في قلوب الناس و فضل احترام لهم بحيث لم يكن يجترى عليهم أحد، فانتظم الأمر لهم في رحلتيهم، بل في جميع أسفارهم و أحوالهم.

عن القمي رحمه اللّه قال: نزلت في قريش، لأنّه كان معاشهم من الرحلتين: رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملونه الأدم و اللباس(1) ، و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل و غيره، فيشترون بالشام الثياب و الدّرمك(2) و الحبوب، و كانوا يأتلفون في طريقهم، و يثبتون في الخروج في كلّ خرجة رئيسا من رؤساء قريش، و كان معاشهم من ذلك، فلمّا بعث اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله استغنوا من ذلك لأنّ الناس و فدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حجّوا إلى البيت، فقال اللّه تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ * اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ فلا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يعني خوف الطريق(3).

عن امّ هانئ بنت أبي طالب قالت: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضّل قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم و لا يعطاها أحد بعدهم: النبوة فيهم، و الخلافة فيهم، و الحجابة للبيت فيهم، و السّقاية فيهم، و نصروا على أصحاب الفيل، و عبدوا اللّه سبع سنين (4)- و في رواية: عشر سنين - لم يعبده أحد غيرهم، و نزلت فيهم سورة في القرآن لم يذكر فيها أحدا غيرهم لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ (5).

اقول: الظاهر أنّ المراد من قولها: عبدوا اللّه سبع سنين، عبادتهم في بدو ظهور الرسالة، فانّ المؤمنين بالرسول صلّى اللّه عليه و آله في تلك المدّة كلّهم كانوا من قريش.

عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر قراءة لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ بعثه اللّه يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة حتى يقعد على موائد النور يوم القيامة»(4).

الحمد للّه على إتمام تفسيرها.

ص: 585


1- . في النسخة: و اللّبّ.
2- . الدّرمك: الدقيق الأبيض.
3- . تفسير القمي 444:2، تفسير الصافي 379:5. (4و5) . تفسير روح البيان 521:10.
4- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 820:10، تفسير الصافي 379:5.

ص: 586

في تفسير سورة الماعون

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لاٰ يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ (3) ثمّ لمّا ختمت سورة قريش المتضمّنة لبيان إنعامه و منّته على قريش بدفع أصحاب الفيل عن البيت الذي هو سبب عزّهم وسعة معاشهم و آمنهم من خوف الأعداء، نظمت سورة الماعون المتضمّنة لبيان كفرهم و كفرانهم بنعم اللّه، و بخلهم على الفقراء، و ظلمهم على اليتيم، طغيانا على اللّه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذمّ بعض قريش، و إظهار التعجّب من كفرهم و طغيانهم بقوله:

أَ رَأَيْتَ يا محمد، الكافر العنود اَلَّذِي يُكَذِّبُ عنادا و لجاجا بِالدِّينِ و جزاء الأعمال و بدين الاسلام، و إن أردت أن تعرفه

فَذٰلِكَ الكافر هو الظالم اَلَّذِي يَدُعُّ و يدفع الطفل اَلْيَتِيمَ عن حقّه ظلما و جفوة.

روي أن أبا جهل كان وصيا ليتيم فجاءه يوما عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه دفعا شنيعا، فأيس الصبيّ، فقال له بعض أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك، و كان غرضهم الاستهزاء به، و النبي صلّى اللّه عليه و آله ما كان يردّ محتاجا، فذهب معه إلى أبي جهل، فرحّب به و بذل المال لليتيم، فعيّره قريش، و قالوا له:

صبوت! فقال: لا و اللّه ما صبوت، و لكن رأيت عن يمينه و عن يساره حربة [خفت] إن لم اجبه يطعنها فيّ(1).

و عن القمي رحمه اللّه قال: نزلت في أبي جهل و كفّار قريش(2).

و قيل: نزلت في أبي سفيان، كان ينحر جزورين في كلّ اسبوع، فأتاه يتيم فساله لحما، فقرعه بعصاه(3).

ص: 587


1- . تفسير الرازي 111:32.
2- . تفسير القمي 444:2، تفسير الصافي 380:5.
3- . مجمع البيان 834:10، تفسير الرازي 111:32.

و قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، و كان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة و الإتيان بالأعمال القبيحة(1).

و قيل: في الوليد بن المغيرة(2).

و روي عن ابن عباس أنّها نزلت في منافق جمع بين البخل و المراءاة(3).

و قيل: أنّه عام لكلّ من كان مكذبا بيوم الدين(4).

وَ لاٰ يَحُضُّ و لا يحثّ نفسه أو غير عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ لغاية بخله، و خساسة طبعه، و قساوة قلبه، و عدم اعتقاده بأجر و ثواب على إطعامه في الآخرة.

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ (3) اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ (4) وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ (5) ثمّ ذمّ سبحانه بعض المنافقين منهم بقوله:

فَوَيْلٌ و عذاب شديد لِلْمُصَلِّينَ منهم نفاقا

اَلَّذِينَ هُمْ يأتون بصورة الصلاة، و هم عَنْ صَلاٰتِهِمْ من أولها إلى آخرها سٰاهُونَ و غافلون، لعدم مبالاتهم بها، و إنّما غرضهم من إتيانها خدعة المؤمنين.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، أ هي وسوسة الشيطان ؟ فقال: «لا، كلّ أحد يصيبه هذا، و لكن أن يغفلها و يدع أن يصلّى في أول وقتها»(5).

و عن القمّي رحمه اللّه عنه عليه السّلام، قال: «هو الترك لها و التواني عنها»(6).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «هو التضييع»(7).

و قال جمع من مفسّري العامة: معنى ساهون لا يتعهّدون أوقات صلواتهم و لا شرائطها، و معناه أنّه لا يبالي صلّى أم لم يصلّ(6). فيكون أول السورة في المكذّبين المتجاهرين، و هذه الآية في المكذّب المنافق، و في تصديرها بالويل دلالة على كون المنافق أسوأ حالا من الكافر المتجاهر بالكفر.

ثمّ ذمّهم سبحانه بالرياء و غاية البخل بقوله: اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ الناس، و يرون أعمالهم و يظهرون أن لهم من الخشوع و الخضوع في الصلاة ما ليس في قلوبهم ليثنوا عليهم.

ص: 588


1- . تفسير الرازي 111:32.
2- . مجمع البيان 834:10، تفسير الرازي 111:32. (3و4) . تفسير الرازي 112:32.
3- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 380:5.
4- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
5- . الكافي 5/268:3، مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
6- . تفسير الرازي 114:32، و هو قول: سعد بن أبي وقاص و مسروق و الحسن و مقاتل.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «يريد بهم المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا إن صلّوا، و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، فاذا كانوا مع المؤمنين صلّوها رياء، و إذا لم يكونوا معهم لم يصلّوا، و هو قوله:

اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ» (1) .

وَ يَمْنَعُونَ الناس اَلْمٰاعُونَ و الأمتعة القليلة التي يحتاج إليها مثل القدر و القصعة و الغربال و القدوم و الدلو و أمثالها، و النار و الماء و الملح ممّا يسأله الفقير و الغني، و لا يعتاد منعه، و ينسب مانعه إلى اللوم و خساسة الطبع. روي: ثلاثة لا يحلّ منعها: الماء، و النار و الملح(2). و قيل: سمّيت الزكاة ماعونا لأنها قليل من كثير(3).

و عن أمير المؤمنين و الصادق عليهما السّلام: «هو الزكاة المفروضة»(4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «هو القرض تقرضه، و المعروف تصنعه، و متاع البيت تعيره، و منه الزكاة».

قيل: إنّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم ؟ فقال: «لا، ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك»(5).

قيل: في وجه المناسبة بين الرياء و منع الماعون، كأنّه تعالى يقول: الصلاة لي و الماعون للخلق، فما كان لى يعرضونه على الخلق، و ما هو للخلق يسترونه عنهم، فتكون معاملتهم مع الربّ و الخلق على العكس(6).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ في فرائضه و نوافله، قبل اللّه صلاته و صيامه، و لا يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا»(7).

الحمد للّه على إتمام تفسيرها.

ص: 589


1- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
2- . تفسير الرازي 115:32.
3- . تفسير الرازي 116:32، تفسير روح البيان 523:10.
4- . مجمع البيان 834:10، تفسير الصافي 381:5.
5- . الكافي 9/499:3، تفسير الصافي 381:5.
6- . تفسير الرازي 116:32.
7- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 832:10، تفسير الصافي 381:5.

ص: 590

في تفسير سورة الكوثر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ (1) ثمّ لمّا ختمت سورة الماعون المتضمّنة لذمّ المنافقين بترك الصلاة و الرياء بها و البخل، نظمت سورة الكوثر المتضمّنة لأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة الخالصة، و نحر البدن، و إطعام الفقراء، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بذكر غاية إنعامه على النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ يا محمد، من خزائن رحمتنا إنعاما عليك لكرامتك علينا و نهاية محبوبيتك عندنا اَلْكَوْثَرَ و هو النهر في الجنة فيه خير كثير على المشهور بين السلف و الخلف من مفسّري العامة على ما قيل(1) ، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«رأيت نهرا في الجنّة، حافتاه قباب اللؤلؤ المجوّف، فضربت بيدي على مجرى الماء، فاذا أنا بمسك أذفر، فقلت: ما هذا؟ قيل: الكوثر الذي أعطاك اللّه»(2).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قرأ السورة فقال: «أ تدرون ما الكوثر؟ إنّه نهر في الجنّة، وعدنيه ربي فيه خيرا كثيرا، أحلى من العسل، و أشدّ بياضا من اللبن، و أبرد من الثلج، و ألين من الزّبد، حافتاه الزّبرجد، و أوانيه من فضّة عدد نجوم السماء، لا يضمأ من شرب منه أبدا، أول وارديه فقراء المهاجرين الدنسو الثياب الشّعث الرءوس»(3).

و قيل: إنّه حوضه، و سمّي الكوثر لكثرة وارديه(4). و في الحديث: «حوضي ما بين صنعاء إلى أيلة»(5).

قيل في التوفيق بين الروايتين: إنّ النهر ينصبّ في الحوض، أو يسيل منه، فيكون الحوض كالمنبع له(4).

و قيل: إنّ المراد بالكوثر الخير الكثير، كما عن ابن عباس(5) ، روي أنّه فسّر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: إنّ ناسا يقولون هو نهر في الجنة ؟ فقال: هو من الخير الكثير(6).

ص: 591


1- . تفسير الرازي 124:32.
2- . تفسير الرازي 124:32.
3- . تفسير أبي السعود 205:9، تفسير روح البيان 524:10. (4و5) . تفسير روح البيان 524:10.
4- . تفسير الرازي 124:32.
5- . تفسير روح البيان 524:10.
6- . تفسير روح البيان 524:10.

أقول: عليه تكون جميع النّعم التي أعطاه اللّه الظاهرة و الباطنة داخلة في الخير الكثير.

و قيل: إنّه النبوة(1) و قيل: إنّه القرآن(2). و قيل: هو دين الاسلام(3). و قيل: هو الفضائل الكثيرة التي فيه(4).

و قيل: إنّه العلم الكثير(5). و قيل: إنّه الخلق الحسن، لانتفاع عموم الناس به(6). و قيل: إنّه رفعة الذكر(7).

و قيل: إنّه المقام المحمود الذي هو الشفاعة(8).

و قيل: إنّه كثرة أولاده، لأنّ هذه السورة نزلت ردّا على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنّا نعطيك نسلا يبقون مرّ الزمان(9).

قال الفخر الرازي: فانظركم قتل من أهل البيت، ثمّ العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظركم كان فيهم من أكابر العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليه السّلام و النفس الزكية و أمثالهم(10).

و قيل: هو كثرة علماء امّته، لأنّهم كانوا كأنبياء بني إسرائيل(11). و قيل: إنّه كثرة أتباعه(2) ، و قيل: إنّه هذه السورة، لأنّها مع قصرها وافية بجميع منافع الدنيا و الآخرة(3) ، حيث إنّ فيها مع قصرها إعجاز البيان و إخبار بالمغيبات، فهي كافية لإثبات النبوة الجامعة للخيرات الدنيوية و الاخروية.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «هو الشفاعة»(14).

و عنه عليه السّلام قال: «هو نهر في الجنّة، أعطاه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله [عوضا من ابنه]»(15).

و روى الصدوق عن ابن عباس قال: لمّا نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ قال له علي بن أبي طالب عليه السّلام: ما الكوثر يا رسول اللّه ؟ قال: «هو نهر، أكرمني اللّه به» قال و عليّ عليه السّلام: «هو نهر شريف، فانعته لنا يا رسول اللّه». قال: «نعم يا علي، الكوثر نهر يجري من تحت عرش اللّه، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن، و أحلى من العسل، و ألين من الزّبد، حصاه الزّبرجد و الياقوت و المرجان، حشيشه الزّعفران، ترابه المسك الأذفر(4) ، قواعده تحت عرش اللّه عزّ و جلّ». ثمّ ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على جنب أمير المؤمنين عليه السّلام و قال: يا علي، هذا النهر لي و لك و لمحبّيك من بعدي»(5).

و في (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معي عترتي و سبطيّ(6) على الحوض، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا، و ليعمل عملنا، فانّ لكلّ أهل نجيبا، و لنا نجيب، و لنا الشفاعة،

ص: 592


1- . تفسير الرازي 124:32. (2و3) . تفسير الرازي 126:32. (4-5-6-7-8) . تفسير الرازي 127:32. (9-10-11) . تفسير الرازي 124:32.
2- . تفسير الرازي 126:32.
3- . تفسير الرازي 127:32. (14و15) . مجمع البيان 836:10، تفسير الصافي 382:5.
4- . الأذفر: الشديد الرائحة.
5- . أمالي الطوسي: 102/69، تفسير الصافي 382:5.
6- . في النسخة: و مع عترتي.

و لأهل مودّتنا الشفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض، فإنّا نذود عنه أعداءنا، و نسقي منه أحباءنا و أولياءنا، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، حوضنا فيه مثعبان(1) ينصبّان من الجنّة: أحدهما من تسنيم، و الآخر من معين، على حافته الزعفران، و حصاه اللؤلؤ، و هو الكوثر»(2).

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) ثمّ إنّه تعالى بعد ما فضّل نبيه صلّى اللّه عليه و آله على العالمين بإعطائه الكوثر، طالبه بشكره بأمره بالقيام بعبوديته و تعظيمه بقوله:

فَصَلِّ يا حبيبي الصلاة التي هي جامعة لجميع وظائف العبودية و شئون التعظيم لِرَبِّكَ المتفضّل عليك بالنّعم التي لا تحصى أداء لشكره عليها.

قيل: إنّه تعالى لمّا أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة قال صلّى اللّه عليه و آله: «كيف اصلي، و لست على وضوء؟» فقال اللّه إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ ثمّ ضرب جبرئيل بجناحه على الأرض، فنبع ماء الكوثر فتوضّأ(3).

ثمّ أمره بأفضل العبادات المالية بقوله: وَ انْحَرْ البدن التي هي أنفس الأموال عند العرب. و قيل:

لمّا كانت صلاة المشركين و نحرهم للأصنام، قال سبحانه: لتكن صلاتك و نحرك لربّك(4).

و قيل: اريد بالصلاة صلاة العيد الأضحى، و بالنحر النحر للأضحية(5).

و قيل: يعني صلاة الفجر بالمزدلفة، و النحر بمنى(6).

و قيل: يعني استقبل في الصلاة بنحرك إلى القبلة(7).

و قيل: يعني ارفع يديك إلى نحرك عند تكبيرات الصلاة(8).

روى بعض العامة عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه السورة قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربّي ؟ قال: ليست بنحيرة، و لكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من السجود و إذا سجدت، فانّه صلاتنا و صلاة الملائكة الذين في السماوات السبع، و إنّ لكلّ شيء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كلّ تكبير»(9).

و رووا عنه عليه السّلام أنّه فسّر هذا بوضع اليدين على النحر في الصلاة، و قال: رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ، و وضعها على النحر عادة الخاضع الخاشع(10).

ص: 593


1- . في النسخة: مشعبان، و المثعب: مسيل المياه.
2- . الخصال: 10/624، تفسير الصافي 383:5.
3- . تفسير الرازي 129:32.
4- . تفسير الرازي 130:32.
5- . تفسير الرازي 130:32، تفسير روح البيان 525:10.
6- . تفسير الرازي 130:32، تفسير أبي السعود 205:9.
7- . تفسير أبي السعود 205:9.
8- . جوامع الجامع: 554، تفسير أبي السعود 205:9.
9- . مجمع البيان 837:10، تفسير الصافي 383:5، تفسير الرازي 129:32.
10- . تفسير الرازي 129:32.

و قيل: يعني ارفع يديك عقيب الدعاء إلى نحرك(1). و قيل: يعني اقعد بين السجدتين حتى يبدوا نحرك(2) ، و هذه الأقوال كلّها متّفقة على أنّ النحر بمعنى الصدر.

و عن الصادق عليه السّلام: «هو رفع اليدين حذاء وجهك»(3). [و في رواية] فقال بيده هكذا، يعني استقبل بيده حذاء وجهه القبلة في افتتاح الصلاة(4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: «النحر الاعتدال في القامة بأن يقيم صلبه و نحره»(3).

ثمّ إنه تعالى بعد إظهار غاية لطفه بحبيبه، ردّ طعن المشركين عليه بأنّه أبتر بقوله:

إِنَّ شٰانِئَكَ يا محمد و مبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ و منقطع النسل. روي أنّ العاص بن وائل كان يقول بعد موت عبد اللّه بن رسول اللّه من خديجة: إنّ محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فاذا مات انقطع ذكره و استرحتم، كما عن ابن عباس و عامة المفسرين على ما قيل(4).

و عن السّدّي: لمّا مات ابنه القاسم و عبد اللّه بمكّة، و إبراهيم بالمدينة، كانت قريش يقولون: إنّ محمدا ابتر ليس له من يقوم مقامه، فأخبر اللّه أنّ عدوه أبتر، و من معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث نرى أنّ نسل اولئك الكفّار قد انقطع، و نسله عليه السّلام يزداد و ينمو كلّ يوم إلى يوم القيامة(7).

و قيل: إنّها نزلت في أبي جهل، فانّه لمّا مات ابن رسول اللّه قال أبو جهل: إني ابغضه لأنّه أبتر(8).

و قيل: نزلت في عمّه أبي لهب، فانّه لمّا شافهه بقوله: تبا لك، كان يقول في غيبته: إنّه أبتر(9).

و قيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، و إنّه هو الذي كان يقول ذلك(10).

و قيل: إنّ الأبتر هو المنقطع عن قومه(11) ، قيل: لمّا أوحى اللّه إلى رسوله و دعا قريشا إلى الاسلام قالوا: أبتر محمد، أي خالفنا و انقطع عنّا(12).

و عن ابن عباس: لمّا قدم كعب بن الأشرف مكّة أتاه جماعة من قريش، فقالوا: نحن أهل السّقاية و السّدانة، و أنت سيد أهل المدينة، أ فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه، يزعم أنه خير منّا؟! فقال: بل أنتم خير منه، فنزل إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (13).

و قيل: إن المراد بالأبتر هنا المنقطع عن المقصود قبل بلوغه، فأجابهم اللّه تعالى أنّ خصمه هو الذي يكون كذلك، فانّهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين، و صارت رايات الاسلام عالية و أهل الشرق

ص: 594


1- . تفسير الرازي 130:32، تفسير روح البيان 525:10.
2- . تفسير الرازي 129:32. (3-4-5) . مجمع البيان 837:10، تفسير الصافي 383:5.
3- . الكافي 9/326:2، تفسير الصافي 383:5.
4- . تفسير الرازي 132:32، و عن مقاتل و الكلبي و عامة أهل التفسير. (7-8-9-10) . تفسير الرازي 133:32. ( (11-12-13-14 ) . تفسير الرازي 132:32.

و الغرب لها متواضعة(1).

و قيل: إنّ المراد به من لا ناصر له و لا معين، فكذّبهم اللّه؛ لأنّ اللّه هو مولاه و جبرئيل و صالح المؤمنين، و أنّ الكفار لا ناصر لهم(2).

و قيل: إنّ المراد به الحقير الذليل، رووا أنّ أبا جهل اتّخذ ضيافة لقومه، ثمّ قال: محمد ابتر، ثمّ قال:

قوموا حتى نذهب إلى محمد و أسارعه و اجعله ذليلا حقيرا، فلمّا وصلوا إلى دار خديجة، و توافقوا على ذلك، أخرجت خديجة بساطا، فلمّا تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه، و بقي النبيّ واقفا كالجبل، ثمّ بعد ذلك رماه النبي صلّى اللّه عليه و آله على أقبح وجه، فلمّا رجع أخذه باليد اليسرى، فصرعه على الأرض مرة اخرى، و وضع قدمه على صدره(3).

و قيل: إنّ المراد من قوله: إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هذه الواقعة(4).

و قيل: إنّه لمّا نسب النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى القلّة و الذلّة، و نفسه بالكثرة و الدولة، قلب اللّه الأمر عليه، و بيّن أن العزيز من أعزّه اللّه، و الذليل من أذلّه اللّه، و الكثرة و الكوثر لمحمد، و الابترية و الذّمامة(2) و الذلّة لعدوّه، فكان من أول السورة و آخرها نوع مطابقة.

و قيل: إنّ المراد به المنقطع عن الملك و السلطنة، و قد مرّ أنّ رجلا قام إلى الحسن بن علي و قال:

سوّدت وجه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية، فقال: «لا تؤذيني يرحمك اللّه، فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأى بني امية في المنام يصعدون منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك، فأنزل اللّه تعالى إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ و إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال: ملك بني امية كذلك، ثمّ انقطعوا و صاروا مبتورين»(6).

و قيل: إنّ المراد أنّ كلامهم الفاسد في حقّك منقطع و مضمحلّ، و أمّا المدح الذي ذكرناه فيك فإنّه باق على وجه الدهر(7).

عن القمي رحمه اللّه قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسجد، و فيه عمر بن العاص و الحكم بن العاص، فقال عمرو: يا أبتر، و كان الرجل في الجاهلية إذا لم يكن له ولد سمّي أبتر. ثمّ قال عمرو: إنّي لأشنأ محمدا أي أبغضه، فأنزل اللّه على رسوله السورة إِنَّ شٰانِئَكَ أي مبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ أي لا دين له و نسب(3).

و ممّا تضحك به الثكلى معارضة مسليمة لهذه السورة بقوله: إنا أعطيناك الجماهر، فصلّ لربك و هاجر، إن مبغضك رجل كافر. فانّ تغيير ثلاث كلمات لا يكون معارضة مع عدم المناسبة بين

ص: 595


1- . تفسير الرازي 133:32. (2-3-4) . تفسير الرازي 133:32.
2- . في تفسير الرازي: و الدناءة. (6و7) . تفسير الرازي 134:32.
3- . تفسير القمي 445:2، تفسير الصافي 283:5.

الإعطاء و الجماهر و الصلاة و الهجرة، و حكم الذوق السليم بركاكته.

عن الصادق عليه السّلام: «من كان قراءته إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ في فرائضه و نوافله، سقاه اللّه من الكوثر يوم القيامة و كان محلّه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصل شجرة طوبى»(1).

ص: 596


1- . ثواب الأعمال: 126، مجمع البيان 835:10، تفسير الصافي 384:5.

في تفسير سورة الكافرون

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ (1) لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ (2) وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ (3) وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ (4) وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ (5) ثمّ لمّا ختمت سورة ثمّ لمّا ختمت سورة الكوثر المتضمّنة لغاية إنعام اللّه و تفضّله على رسوله و أمره بعبادته، نظمت سورة الجحد المتضمّنة لامتناع الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن عبادة غير اللّه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ خاطب نبيّه بقوله:

قُلْ يا محمد تقريعا للمشركين الذين طعنوا فيك بأنّك أبتر يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ قيل: في ندائهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم و دار عزّهم و شوكتهم، إيذان بذلّهم، و كونه صلّى اللّه عليه و آله محروسا منهم(1) ، و أنّه مؤيّد من اللّه.

روي أنّ رهطا من عتاة المشركين كالوليد بن المغيرة و أبي جهل و العاص بن وائل و أمية بن خلف و الأسود بن عبد يغوث و الحارث بن قيس و أضرابهم، قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هلمّ فاتّبع ديننا و نتّبع دينك، تعبد إلهنا سنة و نعبد إلهك سنة، فيحصل الصّلح بيننا و بينك، و تزول العداوة. فقال: «معاذ اللّه أن اشرك باللّه غيره» فقالوا: استلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك، فنزلت(2) السورة: يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ

لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ من دون اللّه أبدا

وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ بعد مٰا أَعْبُدُ اللّه الواحد الذي لا إله غيره

وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ في حال من الأحوال مٰا عَبَدْتُّمْ من الأصنام و الكواكب، فلا تطمعوا منّي ذلك الأمر المحال

وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ في وقت من الأوقات مٰا أَعْبُدُ و هو اللّه الواحد الذي خلق جميع الأشياء بقدرته، لتصلّبكم في دينكم الباطل، و لجاجكم و عنادكم للحقّ. قيل:

إنّ التّكرار للتأكيد(3) ، فانّ الكفّار - على ما قيل - رجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك مرارا، و سكت

ص: 597


1- . تفسير روح البيان 526:10.
2- . تفسير روح البيان 526:10.
3- . تفسير الرازي 145:32.

الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن جوابهم، فوقع في قلوبهم أنّه قد مال إلى دينهم بعض الميل، فنزلت الآية مكرّرا(1).

و قيل: إنّ الكفّار قالوا: استلم بعض آلهتنا حتى نؤمن لك، فأنزل اللّه: لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ ثمّ قالوا بعد مدّة: تعبد آلهتنا شهرا أو سنة، و نعبد إلهك شهرا أو سنة، فأنزل: وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ (2).

و ذكر كلمة مٰا في قوله: مٰا أَعْبُدُ مع أنّها لغير ذوي العقول، لإرادة الصفة بها، و المعنى: لا أعبد الباطل الذي تعبدونه، و لا أنتم عابدون الحقّ الذي أعبد، كذا قيل(3). و قيل: إنّها بمعنى (الذي)(4) أو مصدرية، و المعنى، لا أعبد عبادتكم و لا تعبدون عبادتي في المستقبل، ثمّ قال ثانيا: لا أعبد عبادتكم و لا تعبدون عبادتي في الحال(5).

و قيل: إنّ ذكرها لا تساق الكلام، فانّه تعالى لمّا قال أولا وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ حمل الثاني عليه، كما قال: جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا (2).

لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6) ثمّ كأنّه قال: إنّ أردتم الصّلح، فانّ الصّلح بيننا و بينكم أن

لَكُمْ دِينُكُمْ لا تتركونه وَ لِيَ دِينِ لا أتركه و لا أرفضه.

عن ابن عباس قال: يريد لكم كفركم باللّه، و لي التوحيد الخالص(3).

و قيل: لكم دينكم فكونوا عليه إن كان الهلاك خيرا لكم(8).

و قيل: إنّ الدين هو الحساب، و المعنى: لكم حسابكم، و لي حساب أعمالي، لا يرجع عمل كلّ إلاّ على عامله(9).

و قيل: يعني لكم جزاء أعمالكم و دينكم وبالا و عقابا، و لي جزاء ديني ثوابا و تعظيما(10).

و قيل: إنّ الدين هو العقوبة(11) ، و المعني: لكم العقوبة من ربّي، ولي العقوبة من أصنامكم، و فيه تهديد و تهكّم(12).

عن الصدوق في (الامالي): شأن نزول السورة أنّ نفرا من قريش اعترضوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم:

عتبة بن ربيعة و امية بن خلف و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل أو سعد(4) ، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، و تعبد ما نعبد، فنشترك نحن و أنت في الأمر، فان يكن الذي نحن عليه حقّا فقد

ص: 598


1- . تفسير الرازي 146:32. (2-3-4-5) . تفسير الرازي 146:32.
2- . تفسير الرازي 146:32، و الآية من سورة الشورى: 40/42.
3- . تفسير الرازي 147:32، و فيه: التوحيد و الإخلاص له. (8و9) . تفسير الرازي 147:32. (10-11-12) . تفسير الرازي 147:32.
4- . في أمالي الطوسي: العاص بن سعيد، و في مجمع البيان 840:10، العاص بن أبي وائل.

أخذت بحظّك، و إن يكن الذي أنت عليه الحقّ فقد أخذنا بحظّنا منه، فأنزل اللّه السورة(1).

و في الرواية العامية السابقة: فغدا رسول اللّه إلى المسجد [الحرام] و فيه الملأ من قريش، فقام على رءوسهم فقرأها عليهم [فأيسوا](2) منه عند ذلك، فآذوه و أصحابه(3).

و عن القمّي: سال أبو شاكر الديصاني أبا جعفر الأحول عن تكرار الآية في السورة، و قال: هل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول و يكرّره مرّة بعد اخرى ؟! فلم يكن عند الأحول في ذلك جواب، فدخل المدينة فسأل الصادق عليه السّلام عن ذلك، فقال: «كان سبب نزولها و تكرارها أنّ قريشا قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعبد آلهتنا سنة، و نعبد إلهك سنة، و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة، فأجابهم اللّه بمثل ما قالوا»(4).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ في فريضة من الفرائض، غفر اللّه له و لوالديه، و إن كان شقيا محي من ديوان الأشقياء و اثبت في ديوان السّعداء، و أحياه اللّه سعيدا، و أماته سعيدا، و بعثه شهيدا»(5).

و عنه عليه السّلام: «كان أبي يقول: قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ ربع القرآن، و كان إذا فرغ منها قال أعبد اللّه وحده، أعبد اللّه وحده»(6).

و عنه عليه السّلام، «إذا فرغت منها فقل: ديني الاسلام، [ثلاثا]»(7).

و روت العامة عن ابن عباس: ليس سورة في القرآن أشقّ على الشيطان من هذه السورة الكريمة، لأنّها توحيد محض و براءة من الشرك، فمن قرأها برئ من الشرك، و تباعد عنه مردة الشياطين، و أمن من الفزع الأكبر، و هي تعدل ربع القرآن»(8).

و في الحديث العامي: «مروا صبيانكم فليقرءوها عند المنام، فلا يعرض لهم شيء، و من خرج مسافرا فقرأ هذه السور. الخمس: قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ و إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ و قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ رجع سالما، و لا تصبه آفة و مصيبة»(9).

ص: 599


1- . أمالى الطوسي: 22/19، تفسير الصافي 385:5.
2- . في النسخة: فراغ.
3- . تفسير روح البيان 526:10، مجمع البيان 840:10.
4- . تفسير القمي 445:2، تفسير الصافي 385:5.
5- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 839:10، تفسير الصافي 386:5.
6- . الكافي 7/454:2، و فيه إلى: ربع القرآن، مجمع البيان 839:10، تفسير الصافي 386:5، و فيه: أعبد اللّه وحده، مرّة واحدة.
7- . تفسير القمي 446:2، تفسير الصافي 386:5. (8و9) . تفسير روح البيان 528:10.

ص: 600

في تفسير سورة النصر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النّٰاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّٰهِ أَفْوٰاجاً (2) ثمّ لمّا ختمت سورة الجحد المتضمّنة لأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بخطاب أهل مكّة بأشنع الخطاب، و الإعلان بالتبري من عبادة أصنامهم المؤذن جميع ذلك بعدم مبالاته إياهم، و كونه محروسا منهم و منصورا عليهم، نظمت سورة النصر المبشّرة بنصرته على الكفّار، و دخول الناس في دينه، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بتبشير نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنصر و الغلبة على الكفّار، و فتح مكّة الذي كان من أهمّ مطالبه بقوله:

إِذٰا جٰاءَ ك يا محمد نَصْرُ اللّٰهِ و الغلبة التامة على أعداء الدين من قريش و سائر العرب وَ الْفَتْحُ الذي تأمله و تنتظره بسبب نصر اللّه و إعانته إياك عليه، و هو فتح مكّة التي هي مولدك و مسكن آبائك.

قيل: لمّا قال: يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ خاف من قريش و سائر العرب بعض الخوف، فقلّل في الخشونة و قال: لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ فآمنه تعالى و قال: لا تخف فإنّي لا أذهب بك إلى النصر، بل أجيء بالنصر إليك(1).

عن ابن عباس: الفتح هو فتح مكّة، و هو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح(2).

روي أنّه لمّا كان صلح الحديبية، و انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أغار بعض من كان على عهد قريش على خزاعة، و كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجاء سفير ذلك القوم و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعظم ذلك عليه، ثمّ قال: أما إنّ هذا العارض يخبرني أنّ الظّفر يجيء من اللّه، ثمّ قال لأصحابه: انظروا. فانّ أبا سفيان يجيء و يلتمس أن يجدّد العهد، فلم تمض إلاّ ساعة أن جاء الرجل ملتمسا لذلك، فلم يجبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا أكابر الصحابة، فالتجأ، إلى فاطمة، فلم ينفعه ذلك، فرجع إلى مكّة آيسا،

ص: 601


1- . تفسير الرازي 150:32.
2- . تفسير الرازي 153:32.

و تجهّز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المسير لمكّة.

ثمّ روي أنّ سارة مولاة بني هاشم أتت المدينة، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله: جئت مسلمة ؟» قالت: لا، لكن كنتم الموالي و لي حاجة. فحثّ عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطّلب فكسوها و حملوها و زوّدوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة بعشرة دنانير، و استحملها كتابا إلى مكّة نسخته: اعلموا أنّ رسول اللّه يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت سارة، فنزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللّه عليا عليه السّلام و عمارا في جماعة أمرهم أن يأخذوا الكتاب، و إلاّ فاضربوا عنقها. فلمّا أدركوها جحدت و حلفت، فسلّ عليّ سيفه، و قال: و اللّه ما كذّبنا، فأخرجته من عقيصة شعرها، و استحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله حاطبا، و قال: «و ما حملك عليه ؟» فقال: و اللّه ما كفرت منذ أسلمت، و لا أجبتهم منذ فارقتهم، و لكن كنت غريبا في قريش، و كلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا.

فقال عمر: دعني - يا رسول اللّه - أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «و ما يدريك - يا عمر - لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فغاضت عينا عمر.

أقول: لا يخفى ما فيه من الطعن على عمر.

ثمّ خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ نزل بمرّ الظّهران، و قدم العباس عمّ النبي مع أبي سفيان إليه فاستأذناه، فأذن لعمّه خاصّة، فقال أبو سفيان: إمّا أن تأذن لي، و إلاّ أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعا و عطشا؛ فرقّ قلبه الشريف، فأذن له، و قال له: «أ لم يأن أن تسلم و توحّد؟» فقال: أظنّ أنّه واحد، و لو كان هاهنا غير اللّه لنصرنا. فقال له: «أ لم يأن أن تعرف أنّي رسول اللّه ؟» فقال: إنّ لي شكّا في ذلك.

فقال العباس: أسلم قبل أن يقتلك عمر، فقال: و ما أصنع بالعزّ؟» فقال عمر: لو لا أنّك بين يدي رسول اللّه لضربت عنقك.

فقال: يا محمد، أ ليس الاولى أن تترك هؤلاء الأوباش و تصالح قومك و عشيرتك، فسكّان مكة عشيرتك و أقاربك و تعرّضهم للشنّ و الغارة ؟

فقال رسول اللّه: «هؤلاء نصروني و أعانوني و ذبّوا عن حريمي، و أهل مكة أخرجوني و ظلموني، فان اسروا فبسوء صنيعهم».

و أمر العباس بأن يذهب به، و يوقفه على المرصاد ليطالع العسكر، فكانت الكتيبة تمرّ عليه فيقول:

من هذا؟ فيقول العباس: هو فلان من امراء الجند و العسكر، إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلاّ الحدق قال من هم ؟ فقال العباس، هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: لقد اوتي ابن أخيك ملكا

ص: 602

عظيما! فقال العباس: هو النبوة. فقال: هيهات النبوة.

ثمّ تقدّم رجل و دخل مكة و قال: إنّ محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد، فصاحت هند و قالت: اقتلوا هذا المبشّر، و أخذت بلحيته، فصاح الرجل فدفعها عن نفسه، فلمّا سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر، و كانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعا شديدا، و سأل العباس، فأخبره بأمر الصلاة، و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة على راحلته، و لحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعا و شكرا، ثمّ التمس أبو سفيان الأمان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فقال أبو سفيان: و من تسع داري ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من دخل المسجد فهو آمن» فقال أبو سفيان: و من يسع المسجد. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من ألقى سلاحه فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن».

ثمّ وقف رسول اللّه على باب المسجد، و قال: لا إله إلاّ اللّه وحده، صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب جنده، أو وحده» ثمّ قال: «يا أهل مكّة، فما ترون أنّي فاعل بكم ؟» فقالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم. فقال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»(1).

ثمّ إن القوم بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الاسلام، فصاروا يدخلون في دين اللّه أفواجا.

ثمّ اعلم أنّ فتح مكة كان في سنة ثمان من الهجرة، و قال بعض مفسّري العامة: إنّ السورة نزلت قبل الفتح(2) ، فيكون ما فيها إخبارا بالغيب، و دليلا على صحّة النبوة، و قال بعض: إنّها نزلت في سنة عشرة(3).

و رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت هذه السورة مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخرج إلى الناس فخطبهم و ودعهم، ثمّ دخل المنزل فتوفّي بعد أيام»(4).

و روي أنّه دعا فاطمة عليها السّلام فقال: يا بنتاه إنّي نعيت إليّ نفسي» فبكت فقال: «لا تبكي، فانّك أول أهلي لحوقا بي» فضحكت(5).

و عن ابن مسعود: أنّ هذه السورة تسمّى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا(6).

و قيل: إنّ المراد بالفتح فتح خيبر(7) و قيل: إنّه فتح الطائف(8). و قيل: إنّه فتح بلاد الشرك على الاطلاق(9) ، و يدلّ على كون المراد فتح مكّة تعريفه بلام العهد، فانّ المعهود عندهم هو ذلك الفتح، و إنّ الناس قبل فتح مكة كانوا يدخلون في الاسلام واحدا بعد واحد و اثنين اثنين، و اللّه سبحانه قرن

ص: 603


1- . تفسير الرازي 153:32.
2- . تفسير الرازي 155:32، تفسير أبي السعود 208:9، تفسير روح البيان 528:10.
3- . تفسير الرازي 155:32. (4-5-6) . تفسير روح البيان 531:10. (7-8-9) . تفسير الرازي 155:32.

بذكر الفتح قوله:

وَ رَأَيْتَ و أبصرت اَلنّٰاسَ و عامّة العرب يَدْخُلُونَ بالطوع و الرغبة فِي دِينِ اللّٰهِ و ملّة الإسلام حال كونهم أَفْوٰاجاً و جماعات كثيرة كأهل مكّة و الطائف و اليمن و هوازن و سائر قبائل العرب.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: إذا ظفر بأهل مكّة و أهل الحرم، فلن يقاومه أحد، و قد كان اللّه أجارهم من أصحاب الفيل و من كلّ من أرادهم من الجبابرة، فكانوا يدخلون في دين الاسلام أفواجا من غير قتال(1).

و قيل: لم يمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في العرب رجل كافر، بل دخل الكلّ في الاسلام بعد حنين، منهم من قدم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و منهم من قدم وافده(2).

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه بكى ذات يوم فقيل له في ذلك، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «دخل الناس في دين اللّه أفواجا، و سيخرجون منه أفواجا»(3).

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كٰانَ تَوّٰاباً (3) ثمّ لمّا بشّر سبحانه حبيبه بالنصر على الأعداء الدالّ على كمال قدرته، أمره بتسبيحه و تنزيهه عن الشرك و العجز بقوله:

فَسَبِّحْ و نزّه إليك - يا محمد - عن العجز و النقائص الامكانية، و لمّا بشّره بنعمة الفتح أمره أن يقرن تسبيحه(4) بحمده على نعمة التي منها الفتح، و كأنّه تعالى قال: فسبّح حال كونك متلبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ المنعم عليك.

ثمّ أومأ إلى كمال دينه و تمام أمر دعوته و قرب أجله بقوله: وَ اسْتَغْفِرْهُ لما فرط منك من ترك الأولى و الأفضل، و لذنوب الداخلين في دينك، أو هضما لنفسك، و استصغارا لعملك، و استعظاما لحقوقه إِنَّهُ تعالى كٰانَ بذاته و بلطفه تَوّٰاباً و مبالغا في قبول التوبة بحيث يعامل مع التائب معاملة من لم يذنب.

قيل: إنّ علّة الأمر بالاستغفار كونه تعالى غفّارا، و أمّا التعليل بكونه توابا للدلالة على أنّ المقدّر، و تب إنّه كان توابا، و الامر بالتوبة بعد الاستغفار للدلالة على أنّ طلب المغفرة لا ينفع إلاّ إذا قرن بالندم على المعاصي، و العزم على عدم العود(5).

روت عائشة أنّه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول: «سبحانك اللّهمّ

ص: 604


1- . تفسير الرازي 157:32، تفسير روح البيان 529:10.
2- . تفسير روح البيان 529:10.
3- . تفسير الرازي 157:32، تفسير روح البيان 530:10.
4- . في النسخة: بتسبيحه.
5- . تفسير روح البيان 532:10.

و بحمدك، استغفرك و أتوب إليك»(1).

و عنها أيضا: كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلاّ قال: «سبحان اللّه و بحمده». فقلت يا رسول اللّه انك تكثر من قول سبحان اللّه و بحمده، قال: إني أمرت بها و قرأ إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ (2). و روي ذلك عن امّ سلمة أيضا(3).

و قالت أيضا: كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يقول كثيرا في ركوعه: «سبحانك اللهم و بحمدك اللهمّ اغفر لي(4).

و عن ابن مسعود: لمّا نزلت هذه السورة كان يكثر من أن يقول: «سبحانك اللهمّ و بحمدك، اللهمّ اغفر لي، إنّك أنت التواب الغفور(5).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أول ما نزل اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و آخره إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ (6).

و عنه عليه السّلام: «من قرا إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ في نافلة أو فريضة، نصره اللّه على جميع أعدائه، و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق قد أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من جسر جهنّم، و من النار، و من زفير جهنّم، فلا يمرّ بشيء يوم القيامة إلاّ بشّره و أخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنة، و يفتح له في الدنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ و لم يخطر على قلبه»(7).

ص: 605


1- . تفسير الرازي 160:32، تفسير روح البيان 531:10.
2- . تفسير الرازي 160:32.
3- . مجمع البيان 844:10، تفسير الصافي 387:5.
4- . تفسير الرازي 160:32.
5- . تفسير الرازي 160:32.
6- . الكافي 5/460:2، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 12/6:2، تفسير الصافي 387:5.
7- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 843:10، و فيه إلى قوله: يدخل الجنة.

ص: 606

في تفسير سورة المسد

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) مٰا أَغْنىٰ عَنْهُ مٰالُهُ وَ مٰا كَسَبَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة النصر المتضمّنة لبيان تمامية دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و نفوذ كلمته، و دخول الناس في دينه، و نصرته على أعدائه، نظمت سورة أبي لهب المتضمّنة لبيان خبث(1) أبي لهب و ذمّ زوجته أمّ جميل(2) الساعيين في الإخلال بأمر رسالته و إطفاء نوره، و غاية خسرانها [في] معاندته، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بذكر خسران أبي لهب في معاندته للرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

تَبَّتْ و خسرت، أو خابت يَدٰا أَبِي لَهَبٍ روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صعد على الصفا ذات يوم، و قال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك ؟ قال: «أ رأيتم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبّحكم أو ممسيكم، أ ما كنتم تصدّقوني ؟» قالوا: بلى. قال: «فانّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك، أ لهذا دعوتنا! فنزلت السورة(3).

و روي أيضا أنّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أعمامه، و قدّم إليهم طعاما في صحفة، فاستحقروه. و قالوا: إنّ أحدنا يأكل كلّ الشاة، فقال: «كلوا» فأكلوا حتى شبعوا و لم ينقص من الطعام إلاّ اليسير، ثمّ قالوا: فما عندك ؟ فدعاهم إلى الاسلام. فقال أبو لهب: تبا لك، أ لهذا دعوتنا!(4)

و روي أنّه قال أبو لهب: فما لي إن أسلمت ؟ فقال: «ما للمسلمين» فقال: أ فلا افضّل عليهم ؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «بما ذا تفضّل ؟» فقال: تبا لك و لهذا الدين، يستوى [فيه] أنا و غيري(5). و في رواية: كان إذا وفد على النبي صلّى اللّه عليه و آله وفد سألوا عمّه عنه، و قالوا: أنت أعلم به. فيقول لهم: إنّه ساحر، فيرجعون عنه و لا يلقونه، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتّى نراه. فقال: إنّا لم نزل نعالجه من

ص: 607


1- . في النسخة: خبيثة.
2- . في النسخة: جميلة.
3- . مجمع البيان 851:10، تفسير الصافي 389:5، تفسير الرازي 165:32. (4و5) . تفسير الرازي 165:32.

الجنون، فتبا له و تعسا، فاخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك فحزن، فنزلت السورة(1).

و في رواية ابن عباس: اجتمعت عنده قريش فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين و أنتم الأقربون، اعلموا أنّي لا أملك لكم من الدنيا حظا، و لا من الآخرة نصيبا، إلاّ أن تقولوا: لا إله إلاّ اللّه، فأشهد بها لكم عند ربّكم». فقال أبو لهب ذلك: تبا لك، أ لهذا دعوتنا! فنزلت السورة(2).

و عنه قال: تَبَّتْ أي خابت، لأنّه كان يدفع القوم عنه بقوله: إنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه.

لأنّه كان شيخ القبيلة، و كان له صلّى اللّه عليه و آله كالأب، فكان لا يتّهم، فلمّا نزلت السورة غضب و أظهر العداوة الشديدة، فصار متّهما، فلم يقبل قوله في الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك، فكأنّه خاب سعيه و بطل غرضه(3).

قيل: إنّما ذكر سبحانه اليد، لأنّه كان يضرب يديه على كتف الوافد عليه لدفعه، و يقول: انصرف راشدا فانّه مجنون(4). و قيل: يعني صفرت يداه عن كلّ خير(5) ، و عليه يكون المراد باليد حقيقتها، فانّه كان يؤذي النبي صلّى اللّه عليه و آله بيده.

روي عن طارق المحاربي أنّه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السوق يقول: «أيّها الناس، قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا» و رجل خلقه يرميه بالحجارة. و قد أدمى عقبيه، و قال: لا تطيعوه فانّه كذّاب، فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمّد، و عمّه أبو لهب(6).

و قيل: إنّما اسند الخسران أو الخيبة إلى يديه، لما روي أنّه كان يقول: يعدني محمد أشياء لا أرى أنّها كائنة، يزعم أنّها بعد الموت، فلم يضع في يدي من ذلك شيئا، ثمّ ينفخ في يديه، و يقول: تبا لكما، ما أرى فيكما شيئا، فنزلت السورة(3).

أو لما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا دعاه نهارا فأبى، فلمّا جنّ الليل ذهب إلى داره مستنّا بسنّة نوح عليه السّلام ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا، فلمّا دخل عليه قال له: جئتني معتذرا، فجلس النبي صلّى اللّه عليه و آله أمامه كالمحتاج، و جعل يدعوه إلى الاسلام، و قال: «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت و أسكت» فقال:

لا اؤمن بك حتّى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلّى اللّه عليه و آله للجدي: من أنا؟ فقال: رسول اللّه، و اطلق لسانه فأثنى عليه، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ يدي الجدي فمزّقه و قال: تبا لك أثّر فيك السحر! فقال الجدي: بل تبا لك، فنزلت السورة على وفق ذلك تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ لتمزيقه يدي الجدي(4)وَ تَبَّ و حصلت الخيبة و الخسران: أو الهلاك له، فيكون إخبارا بعد إخبار، و لكن أراد بالأول هلاك

ص: 608


1- . تفسير الرازي 166:32.
2- . تفسير الرازي 165:32. (3-4-5-6) . تفسير الرازي 166:32.
3- . تفسير الرازي 167:32.
4- . تفسير الرازي 167:32.

عمله، و بالثاني هلاك نفسه، و قيل: إنّ اليد كناية عن ماله(1) ، و المعنى: هلك ماله، و اهلكت نفسه، و قيل:

إنّها كناية عن نفسه(2) و المعنى: هلك أو خسر أو خاب نفسه وَ تَبَّ ولده عتبة، روي أنّه خرج إلى الشام مع اناس من قريش، فلمّا همّوا أن يرجعوا قال عتبة: أبلغوا محمدا عنّي أنّي كفرت بالنجم إذا هوى(3).

و في رواية: أنّ عتبة لمّا أراد الخروج إلى الشام قال: لآتين محمدا و لأوذينّه، و كانت تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتاه و قال: يا محمد، أنا كافر بالنجم إذا هوى، و بالذي دنا فتدلّى، ثمّ تفل في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ردّ عليه ابنته و طلّقها، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثمّ خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدّير، فقال: إنّ هذه أرض مسبعة(1) ، فقال أبو لهب: أعينوني يا معشر قريش هذه الليلة، فانّي أخاف على ابني دعوة محمد فجمعوا جمالهم و أناخوها حولهم، و أحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتخلّلهم و يشتمّ وجوههم حتّى ضرب عتبة فقتله، و هلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، و العدسة على ما قيل: بثرة تشبه العدسة، و هي من جنس الطاعون(2).

و قيل: إنّ اليد هنا كناية عن الاحسان و المنّة، روي أنّه كان كثير الاحسان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان يقول: إن كان الأمر لمحمد فيكون لى عنده يد، و إن كان لقريش فلي عندها يد، فاخبر أنّه خسرت يده التي كانت عند محمد بعناده له، و يده التي كانت عند قريش أيضا لخسران قريش و هلاكهم في يد محمد(3).

و قيل: إنّ يداه كناية عن دينه و دنياه، و عقباه و اولاه(4).

و قيل: إنّ الجملتين دعاء عليه(5). و قيل: إنّ الاولى دعاء، و الثانية إخبار(6) ، أي كان ذلك و حصل.

قيل: كان اسمه عبد العزّى، أو عبد مناف، و كنّى بأبي لهب لتلهّب وجنتيه و إشراقهما(7). و إنّما ذكره سبحانه بالكنية لكونه معروفا بها، فصارت بمنزلة اسمه، و لأنّه وصف سبحانه نار جهنم بكونها ذات لهب، فذكر بهذه الكنية للاشعار بموافقة مال أمره كنيته، فمعنى كنيته أبو النار، كما يقال: أبو الشرّ للشرير، و أبو الخير للخيّر.

ثمّ إنّه كان يقول: إن كان ما يقوله ابن أخي حقّا، فأنا افتدي منه نفسي بمالي و أولادي، فردّ اللّه تعالى عليه بقوله:

مٰا أَغْنىٰ عَنْهُ و لم ينفعه حينما حلّ به التّباب مٰالُهُ الذي جمعه وَ مٰا كَسَبَ

ص: 609


1- . أي كثيرة السباع.
2- . تفسير روح البيان 534:10.
3- . تفسير روح البيان 533:10.
4- . تفسير الرازي 167:32.
5- . تفسير أبي السعود 210:9، تفسير روح البيان 533:10.
6- . تفسير أبي السعود 210:9.
7- . مجمع البيان 852:10، تفسير الرازي 168:32، و لم يذكرا: عبد مناف.

من أولاده، كما عن ابن عباس(1).

و روي أنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، و أنّ ولده من كسبه(2).

و قيل: إنّ مٰا كَسَبَ عمله الشنيع من كيده في عداوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إقدامه في قتله(3).

و قيل: إنّ المراد بالمال هو الماشية، و من كسبه نتاجها، فانّه كان صاحب ماشية و نعم و نتاج(4) ، أو المراد ماله الذي ورثه من أبيه، و ممّا كسب ما كسبه بنفسه(5).

و قيل: إنّ كلمة مٰا استفهامية للإنكار(4) ، و المعنى: أي شيء أغنى عنه في دفع التّباب، أو في عداوة الرسول، أو في دفع النار.

سَيَصْلىٰ نٰاراً ذٰاتَ لَهَبٍ (3) ثمّ إنّه تعالى بعد إخباره بخيبته و خسرانه في الدنيا، أخبر من سوء حاله في الآخرة و بعد الموت بقوله:

سَيَصْلىٰ و عن قريب يدخل بعنف نٰاراً عظيمة ذٰاتَ لَهَبٍ و اشتعال و توقّد، هي نار جهنم.

ثمّ اعلم أنّ الآيات متضمّنة لأخبار ثلاثة عن الغيب: الإخبار عنه بالتّباب و الخسارة، و الإخبار بعدم انتفاعه بماله و ولده، و الإخبار بأنّه يموت على الكفر و يدخل النار، و قد وقع جميع ذلك.

روى أبو رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطّلب، و كان الاسلام قد دخل [بيتنا] فأسلم العباس، و أسلمت امّ الفضل، و أسلمت أنا، و كان العباس يهاب القوم و يكتم إسلامه، و كان أبو لهب تخلّف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام، و لم يتخلّف رجل منهم إلاّ بعث مكانه رجلا آخر، فلمّا جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوّة، و كنت رجلا ضعيفا، و كنت أعمل القداح ألحيها(5) في حجرة زمزم، فكنت جالسا هناك، و عندي امّ الفضل جالسة، و قد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه، فجلس على طنب(6) الحجرة، و كان ظهري إلى ظهره، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، فقال له أبو لهب:

كيف الخبر يا ابن أخي ؟ فقال: لقينا القوم و منحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف أرادوا، و ايم [اللّه] مع ذلك تأمّلت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء و الأرض. قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة، ثمّ قلت: اولئك و اللّه الملائكة، فأخذني أبو لهب و ضربني على الأرض، ثمّ برك عليّ

ص: 610


1- . تفسير الرازي 169:32، تفسير روح البيان 534:10.
2- . تفسير الرازي 169:32.
3- . جوامع الجامع: 555، تفسير الرازي 170:32، تفسير روح البيان 534:10. (4و5) . تفسير الرازي 169:32.
4- . تفسير أبي السعود 210:9، تفسير روح البيان 533:10.
5- . لحى القدح: قشره.
6- . الطنب: حبل يشدّ به الخبار و السّرادق و نحوهما، أو الطرف و الناحية.

فضربني، و كنت رجلا ضعيفا، فقامت امّ الفضل إلى عمود فضربته على رأسه و شجّته، و قالت:

تستضعفه أن غاب سيده، و اللّه نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة، و قد صدق فيما قال. فانصرف ذليلا، فو اللّه ما عاش إلاّ سبع ليال حتى رماه اللّه بالعدسة فقتلته، و لقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما دفناه حتى أنتن في بيته، و كانت قريش تتّقي العدسة و عدواها كما يتّقى الطاعون، و قالوا: نخشى هذه القرحة، ثمّ دفنوه و تركوه، فهذا معنى مٰا أَغْنىٰ عَنْهُ مٰالُهُ وَ مٰا كَسَبَ (1). و قيل: ثمّ استأجروا بعض السودان و احتملوه و دفنوه(2). و قيل: لم يحفروا له حفيرة، و لكن أسندوه إلى حائط و قذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتّى واروه(3). و في رواية حضروا له ثمّ دفعوه بعود في حفرته، و قذفوه بالحجارة من بعيد حتّى واروه(4).

وَ امْرَأَتُهُ حَمّٰالَةَ الْحَطَبِ (4) ثمّ هدد سبحانه زوجته الكافرة بقوله:

وَ امْرَأَتُهُ و زوجته المسمّاة أم جميل(2) ستصلى أيضا مع زوجها نار جهنم. و قيل: إنّ اسمها العوراء، و كنيتها امّ جميل، و هي اخت أبي سفيان بن حرب(3) ، و كانت حَمّٰالَةَ الْحَطَبِ قيل: كانت تحمل الشوك و الحسك و السّعدان(4) بالليل و تنشرها في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى صار هو صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في شدّة و عناء(8).

و قيل: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يطأها كما يطأ الحرير(9).

و قيل: إنّها مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها، فذمّها سبحانه بالبخل، و لقب حمّالة على الذمّ، يعني أذمّ حمالة الحطب(5).

و قيل: ذمّها سبحانه بكونها نمّامة، و حمل الحطب كناية عن مشيها بالنميمة، فانّها كانت تمشي بالنميمة و تفسد بين الناس، كأنّها تحمل الحطب و توقده، أي(6) توري بينهم نائرة الشرّ(7).

و قيل: كناية عن حمل الآثام(8) و المعاصي، تحمل الحطب لإحراق نفسها(9).

فِي جِيدِهٰا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

ص: 611


1- . تفسير الرازي 170:32. (2-3-4) . تفسير روح البيان 534:10.
2- . في النسخة: جميلة.
3- . تفسير روح البيان 534:10.
4- . السّعدان: نبت ذو شوك. (8و9) . تفسير روح البيان 534:10.
5- . تفسير روح البيان 535:10.
6- . في النسخة: و توقدها و توري.
7- . تفسير روح البيان 535:10.
8- . تفسير الرازي 172:32.
9- . في النسخة: نفسه.

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّها بقوله:

فِي جِيدِهٰا و عنقها، أو موضع قلادتها، كالحطّابين حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ جيّد الفتل من أي شيء كان من جلد الإبل أو من اللّيف أو الخوص، و إنّما ذمّها بذلك لأنّها كانت تحمل الحزمة من الشوك و تربطها في جيدها كما يحمل(1) الحطّابون لخساستها.

و قيل: إنّه بيان لسوء حالها في جهنّم، و المقصود أنّها كما كانت في الدنيا تحمل الحطب و الشوك لخساستها، أو لايذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، لا تزال تحمل على ظهرها في جهنّم حزمة من حطب النار من شجرة الزقّوم و الضّريع، و في جيدها حبل من سلاسل النار، و لا يبعد بقاء الحبل من مسد في النار أبدا، كما يبقى الجلد و اللحم و العظم من الانسان أبدا في النار(2).

روي عن أسماء بنت عميس لمّا نزلت السورة جاءت امّ جميل، و لها ولولة و بيدها حجر، فدخلت المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و معه أبو بكر، و هي تقول:

مذمّما قلينا و دينه أبينا

و حكمة عصينا

فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، قد أقبلت إليك و أنا أخاف أن تراك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّها لا تراني، و قرأ وَ إِذٰا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنٰا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجٰاباً مَسْتُوراً (3) فقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أنّ صاحبك هجاني. فقال أبو بكر: لا و ربّ هذا البيت، ما هجاك. فولّت و هي تقول: قد علمت قريش أنّي بنت سيّدها(4).

و عن الكاظم عليه السّلام في حديث يذكر فيه معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و من ذلك أنّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبّت، و مع النبي أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول اللّه، هذه امّ جميل تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به ؟ فقال: «إنّها لا تراني» فقالت لأبي بكر: أين صاحبك ؟ قال:

حيث شاء اللّه. قالت: لقد جئته، و لو رأيته لرميته، فانّه هجاني، و اللات و العزّى إنّي لشاعرة. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، إنّها لم ترك ؟ قال: «لا، ضرب اللّه بيني و بينها حجابا»(5).

عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا قرأتم تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ فادعوا(6) على أبي لهب، فانّه كان من المكذّبين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بما جاء به من عند اللّه»(7) لعن اللّه أبي لهب.

ص: 612


1- . كذا، و الظاهر: يعمل أو يفعل.
2- . تفسير الرازي 173:32.
3- . الإسراء: 45/17.
4- . تفسير الرازي 172:32.
5- . قرب الإسناد: 1228/329، تفسير الصافي 389:5.
6- . في النسخة: فالعنوا.
7- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 850:10، تفسير الصافي 389:5.

في تفسير سورة الإخلاص

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ (1) اَللّٰهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ثمّ إنّه تعالى بعد إذلال رأس الضلال و مجسّمة الشرك، ذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ أمر رسوله بالاعلان بالتوحيد الخالص بقوله:

قُلْ يا محمد، لعموم الناس: إنّ ربكم و خالقكم و معبودكم هُوَ اللّٰهُ المستجمع لجميع صفات الكمال المبرّأ و المنزّه من جميع النقائص، فهو أَحَدٌ لا مثل له و لا نظير، و لا جزء و لا تركيب.

قيل: إنّ الواحد و الأحد بمعنى(1). و قيل: إنّ الأحد من أسمائه الخاصة التي لا تطلق على غيره تعالى(2).

و قيل: هُوَ ضمير الشأن، و المعنى أنّ الشأن و الحديث هو أنّ اللّه أحد(3). و فيه تفخيم لمعنى الجملة.

و قيل: إنّ المعنى ما اوحى إليّ ممّا سألتموه هو أنّ اللّه أحد(2).

روي أنّها نزلت حين أرسل المشركون عامر بن الطفيل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: قل له شققت عصانا، و سببت آلهتنا، و خالفت دين آبائك، فان كنت فقيرا أغنيناك، و إن كنت مجنونا داويناك، و إن هويت امرأة زوّجناكها. فقال: «لست بفقير و لا مجنون و لا هويت امرأة، أنا رسول اللّه، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته» فأرسلوه ثانيا و قالوا: قل له بيّن لنا جنس معبودك، أ من ذهب أو فضّة ؟ [، فأنزل اللّه هذه السورة(3).

عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أ من زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة ؟] فقال: «إنّ ربّي ليس من شيء، لأنّه خالق الأشياء» فنزلت قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ قالوا: هو واحد و أنت واحد؟ قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (4). قالوا: زدنا من الصّفة فقال:

اَللّٰهُ الصَّمَدُ فقالوا: و ما

ص: 613


1- . تفسير الرازي 178:32. (2و3) . تفسير الرازي 178:32.
2- . مجمع البيان 859:10، جوامع الجامع: 556.
3- . تفسير الرازي 175:32.
4- . الشورى: 11/42.

الصمد؟ فقال: «الذي يصمد إليه في الحوائج»(1).

و عن القمي رحمه اللّه قال: سبب نزولها أنّ اليهود جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: ما نسبة ربّك ؟ فأنزل اللّه السورة(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: انسب لنا ربّك، فلبث ثلاثا لا يجيبهم، ثمّ نزلت قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ إلى آخرها»(3).

و عن الباقر عليه السّلام - في تفسيرها - قال: قُلْ يعني أظهر ما أوحينا إليك و نبّأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها لك، ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد، و هُوَ اسم مكنّى مشار(4) إلى غائب، فالماء تنبيه على مكّنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ: كما أنّ (هذا) اشارة إلى الحاضر، أو المشاهد عند الحواسّ، و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فاشر أنت - يا محمد - إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه و ندركه و لا ناله فيه. فأنزل اللّه تبارك و تعالى: قُلْ هُوَ فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ، و إنّه تعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواسّ»(5).

ثمّ قال: «اَللّٰهُ و هو المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته و الإحاطة بكيفيته، يقول العرب: أله الرجل، إذا تحيّر في الشيء و لم يحط به علما، و و له إذا فرغ من شيء يحذره و يخافه، و الإله هو المستور عن الخلق.

ثمّ قال: أَحَدٌ و هو الفرد المتفرّد، و الأحد و الواحد بمعنى، و هو المتفرّد الذي لا نظير له، و التوحيد الاقرار بالوحدة، و هو الانفراد، و الواحد: المتباين الذي لا ينبعث من شيء و لا يتّحد بشيء، و من ثمّ قالوا: إنّ بناء العدد من واحد، و ليس الواحد من العدد، لأنّ العدد لا يقع على واحد، بل يقع على اثنين، فمعنى قوله: اَللّٰهُ أَحَدٌ أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه و الإحاطة بكيفيته، فرد بالهيته، متعال عن صفات خلقه»(6).

قال عليه السّلام: «و حدثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي عليه السّلام قال: «الصمد الذي لا جوف له، و الصمد الذي قد انتهى سؤدده، و الصمد الذي لا يأكل و لا يشرب، و الصمد الذي لا ينام، و الصمد الدائم الذي لم يزل و لا يزال».

ص: 614


1- . تفسير الرازي 175:32.
2- . تفسير القمي 448:2، تفسير الصافي 390:5.
3- . الكافي 1/71:1، التوحيد: 8/93، تفسير الصافي 390:5.
4- . في النسخة: مكنّى بها يشار بها.
5- . التوحيد: 1/88، تفسير الصافي 390:5.
6- . التوحيد: 2/89، تفسير الصافي 391:5.

قال عليه السّلام: «كان محمد ابن الحنفية يقول: الصمد القائم بنفسه، الغنيّ عن غيره، الصمد المتعالي عن الكون و الفساد، و الصمد الذي لا يوصف بالتغيير و التغاير».

و قال عليه السّلام: «الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه أمر و ناه».

قال عليه السّلام: و سئل علي بن الحسين عليهما السّلام عن الصمد فقال: «الذي لا شريك له، و لا يئوده حفظ شيء، و لا يعزب عنه شيء»(1).

قال الراوي: قال زيد بن على عليه السّلام: الصمد الذي إذا أراد شيئا قال: كن فيكون، و الصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا و أشكالا و أزواجا، و تفرّد بالوحدة بلا ضدّ و لا شكل و لا مثل و لا ندّ(2).

قال: و حدّثني الصادق عن أبيه: «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليه السّلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أما بعد فلا تخوضوا في القرآن، و لا تجادلوا فيه، و لا تتكلّموا فيه بغير علم، و قد سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، و إنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصمد فقال: اَللّٰهُ أَحَدٌ * اَللّٰهُ الصَّمَدُ ثمّ فسّره و قال: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.

لَمْ يَلِدْ لم يخرج منه شيء كثيف، كالولد و سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، و لا شيء لطيف كالنفس، و لا تنشعب منه البدوات كالسّنة و النوم، و الخطر و الهمّ، و الحزن و البهجة، و الضّحك و البكاء، و الخوف و الرجاء، و الرغبة و السأمة، و الجوع و الشّبع، تعالى من أن يخرج منه شيء و أن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف.

وَ لَمْ يُولَدْ و لم يتولّد من شيء، و لم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، و الدابّة من الدابّة، و النبات من الأرض، و الماء من الينابيع، و الثمار من الأشجار [و لا] كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، و السمع من الاذن، و الشمّ من الأنف، و الذوق من الفم، و الكلام من اللسان، و المعرفة و التمييز من القلب، و كالنار من الحجر، لا بل هو اللّه الصمد، الذي لا من شيء، و لا في شيء، مبدع الأشياء و خالقها، و منشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، و يبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد و لم يولد، عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال، و لم يكن له كفوا أحد»(3).

ثمّ اعلم أنّ مفسّري العامة قد ذكروا في معنى الصمد أقوالا:

ص: 615


1- . التوحيد: 3/90، تفسير الصافي 391:5.
2- . التوحيد: 4/90، تفسير الصافي 391:5.
3- . التوحيد: 5/90، تفسير الصافي 392:5.

الأول: السيد الذي يرجع إليه في الحوائج.

الثاني: هو الذي لا جوف له.

الثالث: هو العالم بجميع المعلومات.

الرابع: هو السيد الحليم.

الخامس: هو السيد الذي انتهى سؤدده.

السادس: هو الخالق للأشياء.

السابع: هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب.

الثامن: هو الذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، لا معقّب لحكمه، و لا رادّ لقضائه.

التاسع: هو السيد المعظّم.

العاشر: هو الفرد الماجد لا يقضى في أمر دونه.

الحادي عشر: هو الغني.

الثاني عشر: هو الذي ليس فوقه أحد.

الثالث عشر: هو الذي لا يأكل و لا يشرب، و يطعم و لا يطعم.

الرابع عشر: هو الباقي بعد فناء كلّ شيء.

الخامس عشر: هو الذي لم يزل و لا يزال.

السادس عشر: هو الذي لا ينام و لا يسهو.

السابع عشر: هو الذي لا يوصف بصفة أحد.

الثامن عشر: هو الذي لا عيب فيه.

التاسع عشر: هو الذي لا تعتريه الآفات.

العشرون: هو الكامل في جميع أفعاله.

الحادي و العشرون: نسبوا إلى الصادق عليه السّلام أنه قال: «هو الذي يغلب و لا يغلب».

الثاني و العشرون: هو المستغنى عن كلّ أحد.

الثالث و العشرون: هو الذي أيس الخلائق من الاطّلاع على كيفيته.

الرابع و العشرون: هو الذي لم يلد و لم يولد، لأنّه لا شيء يلد إلاّ سيورث، و لا شيء يولد إلا سيموت.

السادس و العشرون: هو المنزّه عن قبول النقصانات و الزيادات، و عن أن يكون مورد التغييرات

ص: 616

و التبديلات، و عن إحاطة الأمكنة و الأزمنة و الآنات و الجهات(1).

و قيل: إنّ معناه الواجب الوجود(2) ، و لازمه تنزّهه من النقائص و وجدانه جميع الكمالات الإلهية.

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «قدم وفد من فلسطين على الباقر عليه السّلام، فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثمّ سألوه عن الصمد، فقال: في تفسيره: الصمد خمسة أحرف، فالألف دليل على إنّيته، و هو قوله:

شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ (3) و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس.

و اللام دليل على إلهيته، و أنّه هو اللّه، و الألف و اللام يدغمان و لا يظهران على اللسان و يقعان في السمع، و يظهران في الكتابة، و هما دليلان [على] أنّ إلهيته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ، و لا تقع في لسان واصف، و لا في اذن سامع، لأنّ تفسير الإله هو الذي أله الخلق عن درك ماهيّته و كيفيته بحسّ أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام و خالق الحواسّ، و انما يظهر ذلك عند الكتابة، و هو دليل على أنّ اللّه تعالى أظهر ربوبيته في إبداع الخلق و تركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه، كما أنّ لام الصمد لا تتبيّن، فلا تدخل في حاسّة من الحواسّ الخمس، فاذا نظر في الكتابة ظهر له ما خفي و لطف، فمتى تفكّر العبد في ماهية الباري و كيفيته أله فيه و تحيّر، و لم تحط فكرته بشيء يتصوّر له، لأنّه عز و جلّ خالق التصوّر، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عز و جلّ خالقهم و مركّب أرواحهم و أجسادهم.

و أمّا الصاد فدليل على أنّه صادق، و قوله صدق، و كلامه صدق، و دعا عباده إلى اتّباع الصدق، و وعد بالصدق دار الصدق.

و أمّا الميم فدليل على ملكه، و أنّه الملك الحقّ، لم يزل و لا يزال و لا يزول ملكه.

و أمّا الدالّ فدليل على دوام ملكه، و أنه عز و جلّ متعال ق عن الكون و الزوال، بل هو عز و جلّ مكوّن الكائنات، الذي كان بتكوينه كلّ كائن.

ثمّ قال: لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه حملة لنشرت التوحيد و الاسلام و الايمان و الدين و الشرائع من الصمد.

إلى أن قال الباقر: «الحمد للّه الذي منّ علينا و وفّقنا لعباده، الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد، و جنّبنا عن عبادة الأوثان، حمدا سرمدا، و شكرا واصبا».

ثمّ قال: «قوله عز و جلّ: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ يقول: لم يلد فيكون له ولد يرثه ملكه، و لم يولد

ص: 617


1- . تفسير الرازي 181:32 و 182.
2- . تفسير الرازي 181:32.
3- . آل عمران: 18/3.

فيكون له والد يشركه في ربوبيته و ملكه، و لم يكن له كفوا أحد فيعارضه في سلطانه»(1).

أقول: ما ذكره عليه السّلام في تفسير الصمد، فهو من البطون التي للقرآن، و ليس من التفسير المصطلح.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سأله رجل عن تفسير هذه السورة فقال: «هو اللّه أحد بلا تأويل عدد، الصمد تبعيض بدد، و لم يلد فيكون موروثا هالكا، و لم يولد فيكون إلها مشاركا، و لم يكن من خلقه كفوا أحد...» الخبر(2).

ثمّ اعلم أنّ تكرار اسم الجلالة قبل أَحَدٌ و قبل اَلصَّمَدُ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الوصفين من لوازم الالوهية و خصائصها، و نكتة تقديم جملة لَمْ يَلِدْ على جملة لَمْ يُولَدْ هي شيوع اعتقاد أنّ له ولد في اليهود و النصارى في ذلك الزمان، و أن الملائكة بنات اللّه في العرب، فاقتضى ذلك تقديمها ردّا عليهم.

عن السجاد عليه السّلام أنّه سئل عن التوحيد فقال: «إنّ اللّه عز و جلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل اللّه قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و الآيات من أول سورة الحديد إلى قوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ (3) فمن رام وراء ذلك فقد هلك»(4).

أقول: الظاهر أنّ المراد أنه يجيء أقوام يتفكّرون في ذات اللّه، فردعهم اللّه عنه بذكر صفاته، فمن تفكّر في الذات فقد هلك.

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن التوحيد فقال: «كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و آمن بها، فقد عرف التوحيد».

قيل: كيف يقرؤها؟ قال: «كما يقرأ الناس، و زاد فيها: كذلك اللّه ربّي مرتين»(5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ ثلث القرآن»(6).

و روى الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مرّة، فكأنّما قرأ ثلث القرآن [و من قرأها مرتين فكأنّما قرأ ثلثي القرآن، و من قرأها ثلاث مرات فكأنّما قرأ القرآن كله(7).

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ فكأنّما قرأ ثلث القرآن]، و اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك باللّه و آمن باللّه»(8).

أقول: لعلّ وجه كون هذه السورة بمنزلة قراءة ثلث القرآن أنّ عمدة مطالب القرآن كلّه التوحيد و الرسالة و المعاد، و تمام السورة المباركة بيان التوحيد الكامل.

ص: 618


1- . التوحيد: 1/92، تفسير الصافي 392:5.
2- . مجمع البيان 862:10، تفسير الصافي 393:5.
3- . الحديد: 6/57.
4- . الكافي 3/72:1، تفسير الصافي 393:5.
5- . الكافي 4/72:1، تفسير الصافي 393:5.
6- . الكافي 7/455:2، تفسير الصافي 394:5.
7- . كمال الدين: 6/542، تفسير الصافي 394:5.
8- . تفسير الرازي 174:32.

و روي بطريق عامي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال «من قرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مرّة واحدة اعطى من الأجر كمن آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله، و اعطي من الأجر مثل مائة شهيد»(1).

و روي أيضا أنّه كان جبرئيل مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إذ أقبل أبو ذرّ الغفاري فقال جبرئيل: هذا أبو ذرّ قد أقبل. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أو تعرفونه» قال: هو أشهر عندنا منه عندكم. قال صلّى اللّه عليه و آله: بما ذا. نال: هذه الفضيلة. قال:

لصغره في نفسه، و كثرة قراءته قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ (2).

و عن أنس قال: كنّا في تبوك فطلعت الشمس ما لها شعاع و لا ضياء، و ما رأيناها على تلك الحالة قطّ قبل ذلك، فعجب كلّنا. فنزل جبرئيل و قال: إنّ اللّه أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك و يصلّون على معاوية بن معاوية، فهل لك أن تصلّي عليه ؟ ثمّ ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال، و صار الرسول صلّى اللّه عليه و آله كأنّه مشرف عليه فصلّى هو و اصحابه عليه. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «بما ذا بلغ ما بلغ ؟» فقال جبرئيل: كان يحبّ سورة الإخلاص(3).

و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله دخل المسجد، فسمع رجلا يدعو و يقول: أسألك يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد. فقال صلّى اللّه عليه و آله: غفر لك. غفر لك» ثلاث مرات(4).

و عن سهل بن سعد، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و شكا إليه الفقر فقال: «إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، و إن لم يكن فيه أحد فسلّم على نفسك، و اقرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مرّة واحدة، ففعل الرجل، فأدرّ اللّه عليه رزقا(5) حتّى أفاض على جيرانه»(6).

و عن أنس: أنّ رجلا كان يقرأ في جميع صلواته قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ فسأله الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، فقال: يا رسول اللّه، إنّي احبّها. فقال: «حبّك إياها يدخلك الجنّة»(7).

و عن الصادق عليه السّلام: «من مضى به يوم واحد فصلّى فيه خمس صلوات و لم يقرأ فيه: قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ قيل له: يا عبد اللّه، لست من المصلّين»(8).

و عنه عليه السّلام: «من مضت جمعة و لم يقرأ فيها ب قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ ثمّ مات، مات على دين أبي لهب»(9).

أقول: لعلّه محمول على تركه استخفافا.

ص: 619


1- . تفسير الرازي 174:32.
2- . تفسير الرازي 174:32.
3- . تفسير الرازي 174:32.
4- . تفسير الرازي 174:32.
5- . في النسخة: فقدّر اللّه عليه رزقه.
6- . تفسير الرازي 174:32.
7- . تفسير الرازي 174:32.
8- . ثواب الأعمال: 127، مجمع البيان 855:10، تفسير الصافي 394:5.
9- . ثواب الأعمال: 128، مجمع البيان 855:10، تفسير الصافي 394:5.

ص: 620

في تفسير سورة الفلق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مٰا خَلَقَ (2) ثمّ لمّا ختمت سورة التوحيد المتضمّنة للأمر بالإعلان بالتوحيد الكامل الخالص عن شوب الشرك، و كان من لوازمه التوكّل على اللّه في جميع الامور و الاستعاذة به من جميع الآفات و الشرور، و عدم الخوف من غير اللّه، نظمت سورة الفلق المتضمّنة للأمر بإظهار الاستعاذة به تعالى من الشور الجسمانية، فافتتحها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ ابتدأها بالأمر باظهار الاستعاذة باللّه من الشرور و المضارّ الجسمانية بقوله:

قُلْ يا محمد، و أنت في هذا العالم الجسماني الذي يتوقّع فيه الضرر و الشرّ من كلّ شيء أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و ألتجئ إلى من يدفع بقدرته ظلمة الليل عن وجه الصبح الصادق

مِنْ شَرِّ مٰا خَلَقَ في العالم الجسماني و ضرره، فانّه القادر على دفع كلّ ما يخاف العائذ و يحذره.

قيل: إنّ وجه النّظم أنّ اللّه تعالى لمّا أمر بقراءة سورة الاخلاص تنزيها له عمّا لا يليق به في ذاته و صفاته، و كان ذلك من أعظم الطاعات، فكأنّ العبد قال: إلهنا هذه الطاعة عظيمة بحيث لا أثق بنفسي القيام بها؟ فأجابه تعالى: بأن قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي استعذ باللّه و التجئ إليه حتى يوفّقك للقيام بهذه الطاعة على أكمل الوجوه(1).

و قيل: إنّ الكفار لمّا سالوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن نسب اللّه و صفته، فكأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال: «كيف أنجو من هؤلاء الجهّال الذين تجاسروا و قالوا فيك ما لا يليق بك ؟» قال اللّه تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي استعذ بي حتّى أصونك من شرّهم(2). و قيل: إنّ نكتة تخصيص الفلق بالذكر عند التعوّذ أنّ الصبح كالبشر(3) بالأمن و السلامة لمن هو خائف بالليل، فالمعنى: التجئ إلى من يعطى الخائف بالليل الأمن بطلوع الصبح حتّى يعطيك الأمن من الشرور.

ص: 621


1- . تفسير الرازي 189:32.
2- . تفسير الرازي 189:32.
3- . تفسير الرازي 191:32.

قيل: إنّ يوسف لمّا القي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا، فبات نيلته ساهرا، فلمّا قرب طلوع الصبح نزل جبرئيل بإذن اللّه يسلّيه و يأمره بأن يدعو ربّه فقال: يا جبرئيل ادع أنت و أؤمّن أنا، فدعا جبرئيل، و أمّن يوسف، فكشف اللّه ما كان به من ضرّ، فلمّا طاب وقت يوسف قال: يا جبرئيل، و أنا أدعو أيضا و تؤمّن أنت، فسال يوسف ربّه أن يكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جرم ما من مريض إلاّ و يجد خفّة في ذلك الوقت(1). و قيل: إنّ الفلق هو كلّ ما يفلقه [اللّه] و يفرّقه عن شيء آخر، كالأرض عن النبات، و الجبال عن العيون، و السّحاب عن الأمطار، و الأرحام عن الأولاد، و البيض عن الفرخ، بل و العدم عن الوجود، و عليه يكون المعنى بربّ الفلق ظلمات العدم بنور الوجود(2).

و قيل: إنّ الفلق واد أو جبّ في جهنّم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه(3).

و عن الصدوق، عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الفلق فقال: «صدع في النار، فيه سبعون ألف دار، في كلّ دار سبعون ألف بيت، في كلّ بيت سبعون ألف أسود، في جوف كلّ أسود سبعون ألف جرّة سمّ، لا بدّ لأهل النار أن يضمرّوا عليها»(4).

و عن القمي، قال: الفلق: جبّ في جهنّم، يتعوّذ أهل النار من شدّة حرّه، سأل اللّه أن يأذن له أن يتنفّس، فأذن له فتنفّس فأحرق جهنّم(5).

و قيل: إنّ النّكتة في ذكره هنا الإشارة إلى أن من قدر على مثل هذا التعذيب الخارج عن حدّ الوهم، له رحمة أعظم و أكمل و أتمّ من عذابه، فكأنّه يقول: يا صاحب العذاب الشديد، أعوذ برحمتك التي هي أعظم من عذابك(6).

و قيل: اريد من الآيتين: أعوذ بربّ جهنّم من شرّ ما خلق فيها(7) و من عذابها. و قيل: اريد من قوله:

مِنْ شَرِّ مٰا خَلَقَ أصناف الحيوانات الموذيات، و يدخل فيه شرّ الجنّ و الإنس(8).

و عن ابن عباس: يريد إبليس خاصّة، لأنّ اللّه لم يخلق خلقا شرّا منه، و لأنّ السورة نزلت في الاستعانة من السحر، و ذلك إنّما يتمّ بابليس و أعوانه و جنوده(9).

و قيل: اريد به ما خلق من الأمراض و الأسقام و القحط و أنواع المحن و الآفات(10). و الحقّ أنّ ما خلق عام لجميع ما ذكر.

ص: 622


1- . تفسير الرازي 191:32.
2- . تفسير الرازي 192:32.
3- . تفسير الرازي 193:32، و في النسخة: شدّة حرها.
4- . معاني الأخبار: 1/227، تفسير الصافي 395:5.
5- . تفسير القمي 449:2، تفسير الصافي 394:5. (6-7-8) . تفسير الرازي 193:32. (9و10) . تفسير الرازي 193:32.

وَ مِنْ شَرِّ غٰاسِقٍ إِذٰا وَقَبَ (3) ثمّ لمّا كان الشرور بالليل أكثر، خصّ سبحانه الاستعاذة من شرّه بالذكر بقوله:

وَ مِنْ شَرِّ غٰاسِقٍ و ليل مظلم إِذٰا وَقَبَ و دخل، حيث إنّه إذا دخل تخرج السّباع من آجامها و الهوامّ من أماكنها، و يهجم السّراق و الأعداء، و يقع الحريق و يقل فيه المعين و المغيث.

و قيل: إنّ بالليل تنتشر الأرواح المؤذية المسمّاة بالجنّ و الشياطين(1).

و قيل: إنّ الغاسق هو القمر، لأنّه حين الكسوف يذهب ضوؤه و يسودّ(2) ، و وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد. و روي عن عائشة أنّها قالت: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدها، و أشار إلى القمر، و قال: «استعيذي باللّه من شرّ هذا، فانّه الغاسق إذا وقب»(3).

قيل: اريد بالاستعاذة من شرّه إذا وقب، إذا دخل في الكسوف(1).

و قيل: اريد بالغاسق الثّريا، و بوقوبه سقوطه، قالوا: إذا سقط الثريا و دخل تحت الأرض و غاب عن الأعين، كثرت الأمراض، و ترفع عند طلوعها(5).

وَ مِنْ شَرِّ النَّفّٰاثٰاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَ مِنْ شَرِّ حٰاسِدٍ إِذٰا حَسَدَ (5) ثمّ لعرافة السحر بالشرّ خصّه سبحانه بالذكر بقوله:

وَ مِنْ شَرِّ النفوس، أو النساء اَلنَّفّٰاثٰاتِ و النافخات للسحر فِي الْعُقَدِ اللاتي يعقدنها في الخيوط.

قيل: إنّ الساحر إذا شرع في قراءة الرّقية أخذ خيطا و لا يزال يعقد عليه عقدا بعد عقد و ينفث في تلك العقد(6).

قيل: إنّ المراد بالنّفاثات بنات لبيد بن أعصم اليهودي، فإنّهن سحرن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(2).

روى يحيى بن معمر(3) قال: حبس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن عائشة، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان، جلس أحدهما عند رأسه، و الآخر عند رجليه، فهذا يقول للذي عند رأسه: ما شكواه ؟ قال: السحر، قال: من فعل به ؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال: فأين صنع السحر؟ قال: في بئر كذا. قال: فما دواؤه ؟ قال: يبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها، فانّه ينتهي إلى صخرة، فاذا رآها فليقلعها، فانّ تحتها كوبة - قيل: هو كوز سقط عنقها - و في الكوبة وتر فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر، فيحرقها بالنار، فيبرا إن شاء اللّه.

ص: 623


1- . تفسير الرازي 195:32. (5و6) . تفسير الرازي 195:32.
2- . تفسير الرازي 196:32.
3- . تفسير روح البيان: يحيى بن يعمر.

فاستيقظ عليه السّلام، فبعث عليا عليه السّلام و الزبير و عمارا، فنزحوا ماء البئر، فكأنّه نقاعة الحنّاء، ثمّ دفعوا راعوفة البئر - و هي الصخرة التي توضع في اسفل. فأخرجوا من تحتها الأسنان(1). و معها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فجاءوا بها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فجعل يقرأ المعوذتين عليها، فكان كلّما قرأ آية انحلّت عقدة، و وجد عليه السّلام خفّة حتى انحلّت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين(2).

و قيل: إنّ المراد بالنفّاثات الجماعات من السّحرة: لأنّه كلّما كان اجتماع السّحرة على العمل أكثر كان التأثير أشدّ(3).

و قيل: إنّ المراد الاستعاذة من شرّ النساء اللاتي يتصرّفن في عزائم الرجال و آرائهم، فاستعير هنا [من] عقد الحبال في فيها، و النفث هو تليين العقدة من الحبل بريق تقذفه عليه لتسهيل حلّه، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتعوّذ من شرّ النساء اللاتي يتصرّفن في قلوب الرجال، و يحوّلنّهم من رأي إلى رأي و من عزيمة إلى عزيمة، كقوله: إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ (4).

ثمّ خصّ سبحانه شرّ حسد الحاسد بالذكر بقوله:

وَ مِنْ شَرِّ حٰاسِدٍ و متمنّ زوال النعمة عن مستحقّها إِذٰا حَسَدَ و أظهر ما في نفسه من ذلك التمنّي و عمل بمقتضاه.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه: كاد الحسد أن يغلب القدر»(5).

قيل: ذكر اللّه سبحانه الشرور في هذه السورة ثمّ ختمها بالحسد، ليظهر أنّه أخبث الطبائع، كما قال ابن عباس(6).

ص: 624


1- . المراد أسنان مشط النبي صلّى اللّه عليه و آله كما ورد في أول الخبر الذي لم يذكره المصنف، و فيه: عن ابن عباس و عائشة: أنه كان غلام من اليهود يخدم النبي عليه السّلام و كان عنده اسنان من مشطه عليه السّلام فأعطاها اليهود فسحروه عليه السّلام فيها. تفسير روح البيان 542:10.
2- . تفسير روح البيان 544:10، و الباقي في ص: 543.
3- . تفسير الرازي 196:32.
4- . تفسير الرازي 196:32، و الآية من سورة التغابن: 14/64.
5- . الكافي 4/232:2، تفسير الصافي 396:5.
6- . تفسير روح البيان 545:10.

في تفسير سورة الناس

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ (1) مَلِكِ النّٰاسِ (2) إِلٰهِ النّٰاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوٰاسِ الْخَنّٰاسِ (4) اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّٰاسِ (5) ثمّ إنّه تعالى بعد أمره النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتعوّذ به من الشرور الجسمانية، نظمت سورة الناس الآمرة له بالتعوذ به من الشرور الروحانية، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بأمر نبيّه باظهار التعوّذ به تعالى من الشرور الروحانية تعليما للعباد بقوله:

قُلْ يا محمد أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ و مدبّر امورهم، و مصلح مفاسدهم، و مكمّل وجودهم، و المنعم عليهم بجميع النّعم التي يحتاجون إليها، فظهر أنّ ربّ الناس هو

مَلِكِ النّٰاسِ و الناس مملوكون له مفتقرون إليه في وجودهم و بقائهم و كمالهم، و هو غنيّ عنهم و عن كلّ شيء، فظهر أنّ ملك الناس بهذا المعني هو

إِلٰهِ النّٰاسِ حيث ولهت العقول في إدراك عظمته و جلاله و كبريائه

مِنْ شَرِّ الشيطان الذي شغله الوسوسة، و إلقاء الخطورات السيئة في القلوب، و تزيين القبائح في الأنظار بحيث يصحّ أن يقال مبالغة: إنّه عين اَلْوَسْوٰاسِ.

ثمّ وصفه سبحانه بوصف اَلْخَنّٰاسِ لأنّ عادته التأخّر و التولّي إذا ذكر الانسان ربّه - كذا قيل (1)- و يحتمل كون المراد منه كثير التخفّي من الأنظار. و عن القمي: أنّ الخنّاس اسم الشيطان(2).

اَلَّذِي يُوَسْوِسُ و يلهم الشرّ، و يلقي الرغبة إلى القبائح فِي صُدُورِ النّٰاسِ و قلوبهم إذا غفلوا عن ذكر ربّهم.

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ (6) ثمّ عمّم سبحانه الوسوس(3) الذي يستعاذ من شرّه بقوله:

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ كما قال سبحانه:

ص: 625


1- . تفسير الرازي 198:32.
2- . تفسير القمي 450:2، تفسير الصافي 398:5.
3- . في النسخة: المسوس.

شَيٰاطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ (1) و كما أنّ شيطان الجنّ يوسوس تارة و يخنس اخرى، كذلك شيطان الإنس يرغّب الناس إلى الشرور و القبائح، و يري نفسه كالناصح المشفق، فان زجره السامع يخنس و يترك الوسوسة، و إن قبل قوله بالغ فيه(2). و قيل: إنّ التقدير: من شرّ الجنّة و الناس، فاستعاذ أولا من شرّ الوسواس، و هو الشيطان، ثمّ استعاذ من شرّ عموم الجنّ و الإنس(3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ما من مؤمن إلاّ و لقلبه اذنان: في جوفه اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، و اذن ينفث فيها الملك، فيؤيّد اللّه المؤمن بالملك، فذلك قوله: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (4).

و عن القمي رحمه اللّه: ما من قلب إلاّ و له اذنان. على أحدهما مرشد، و على الآخر شيطان مفتّن، هذا يأمره، و ذاك يزجره، كذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجنّ»(5).

و عن (طب الأئمة) [عن أبا عبد اللّه عليه السّلام]: «أنّ جبرئيل أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمد. قال: لبيك يا جبرئيل». قال: إنّ فلانا سحرك، و جعل السحر في بئر بني فلان، فابعث إليه - يعني البئر - أوثق الناس و أعظمهم في عينيك، و هو عديل نفسك حتّى يأتيك بالسحر، قال: فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب و قال: انطلق إلى بئر ذروان(6) ، فانّ [فيها] سحرا سحرني [به] لبيد بن أعصم اليهودي فأتني به.

قال علي عليه السّلام: فانطلقت في حاجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهبطت فإذا ماء البئر كأنّه الحنّاء من السّحر، فطلبته مستعجلا حتى انتهيت إلى أسفل القليب، فلم اظفر به. قال الذين معي: ما فيه شيء. فاصعد، فقلت: لا و اللّه ما كذبت و لا كذب.

إلى أن قال: ثمّ طلبت طلبا بلطف، فاستخرجت حقا، فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال: افتحه ففتحته، فإذا في الحقّ قطعة كرب النخل، في جوفه و تر، عليها إحدى عشرة عقدة، و كان جبرئيل أنزل يومئذ المعوّذتين على النبي صلّى اللّه عليه و آله. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: اقرأها يا علي على الوتر، و جعل أمير المؤمنين عليه السّلام كلّما قرأ آية انحلّت عقدة حتّى فرغ منها، و كشف اللّه عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ما سحر [به] و عافاه».

و في رواية: «أنّ جبرئيل و ميكائيل أتيا النبي صلّى اللّه عليه و آله، فجلس أحدهما عن يمينه، و الآخر عن شماله، فقال جبرئيل لميكائيل: ما وجع الرجل ؟ فقال ميكائيل:

هو مطبوب(7) ، فقال جبرئيل: من طبّه ؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي» [ثمّ ذكر الحديث إلى آخره](8).

ص: 626


1- . الأنعام 112/6.
2- . تفسير الرازي 199:39، تفسير روح البيان 550:10.
3- . تفسير الرازى 199:32.
4- . الكافي 3/206:2، مجمع البيان 870:10، تفسير الصافي 398:5، و الآية من سورة المجادلة: 22/58.
5- . تفسير القمي 450:2، و تفسير الصافي 398:5، عن الصادق عليه السّلام.
6- . في النسخة: ازوان، و في تفسير الصافي: ازران.
7- . أي مسحور.
8- . طب الأئمة عليهم السّلام: 113، تفسير الصافي 396:5.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنه وعك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزل جبرئيل بهاتين السورتين، و عوّذه بهما»(1).

ثمّ أنّه تعالى وصف ذاته بصفة واحدة، و أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بان يستعيذ به من جميع الشرور الجسمانية، و في هذه السورة وصف ذاته بثلاث صفات، كلّ منها دالّ على كمال عظمته، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستعاذة به من شرّ الوسواس الذي هو راجع إلى الروح و القلب، فدلّ على أنّ تضرّر الروح و القلب أعظم من جميع المضارّ.

و في ختم كتابه المجيد بإضافة ربوبيته و سلطانه و الوهيته إلى الناس، و تكرير لفظ الناس مع كلّ وصف، دلالة على شرف الانسان على جميع مخلوقاته، و يحتمل أن يكون المراد بالناس خصوص الأئمّة المعصومين عليه السّلام و عباده الصالحين، لما رواه الفخر الرازي أنّه سئل الحسن بن علي عليهما السّلام عن الناس فقال: «نحن الناس، و أشياعنا أشباه الناس، و أعداؤنا النّسناس»(2) فقبّل علي عليه السّلام بين عينيه، و قال:

اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ» (3) .

و عن الباقر عليه السّلام قال: «من أوتر بالمعوذتين و قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ قيل له: يا عبد اللّه، أبشر فقد قبل اللّه و ترك»(4).

قد وفّقت لاتمام تفسير القرآن المجيد في آخر السنة التاسعة و الستين بعد ثلاثمائة و ألف من الهجرة النبوية المطابق لما نظمه بعض الأجلاّء:

ميلاد مهدي الامم نور الإله في الظّلم

الأحقر محمد النهاوندي كتبه العبد المذنب محمد الصانعي ابن مرحوم فتح اللّه الخوانساري الشهير بسيمين قلم في شهر محرّم الحرام 1370 و فرغ قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة من تحقيقه بفضل اللّه و منّه في سنة 1422 ه و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 627


1- . تفسير القمي 450:2، تفسير الصافي 397:5.
2- . النّسناس: نوع من القردة.
3- . تفسير الرازي 156:32.
4- . ثواب الأعمال: 129، مجمع البيان 864:10، تفسير الصافي 397:5.

ص: 628

الفهرس

في تفسير سورة الحجرات 5

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللّه 5

(2) و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم 6

[3-5] إنّ الّذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك الّذين امتحن اللّه قلوبهم 8

(6) يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة 9

[7 و 8] و اعلموا أنّ فيكم رسول اللّه لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتّم و لكنّ اللّه 11

(9) و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على 12

(10) إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم و اتّقوا اللّه لعلّكم ترحمون 14

(11) و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان 16

(12) يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم و لا تجسّسوا 17

(13) يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا 20

(14) قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لمّا يدخل الإيمان فى 23

[15-18] إنّما المؤمنون الّذين آمنوا باللّه و رسوله ثمّ لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم 24

في تفسير سورة ق 27

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ق و القرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر 27

[4-6] قد علمنا ما تنقص الأرض منهم و عندنا كتاب حفيظ * بل كذّبوا بالحقّ لمّا 28

[7-9] و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسى و أنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج * 30

[10 و 11] و النّخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك 30

[12-14] كذّبت قبلهم قوم نوح و أصحاب الرّسّ و ثمود * و عاد و فرعون و إخوان 31

(15) أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم فى لبس من خلق جديد 32

[16-18] و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل 33

ص: 629

(19) و جاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد 35

[20-29] و نفخ فى الصّور ذلك يوم الوعيد * و جاءت كلّ نفس معها سائق و شهيد * 35

[30-32] يوم نقول لجهنّم هل امتلأت و تقول هل من مزيد * و أزلفت الجنّة 38

[33-35] من خشى الرّحمن بالغيب و جاء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم 39

[36 و 37] و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشا فنقّبوا فى البلاد هل من 40

[38-41] و لقد خلقنا السّماوات و الأرض و ما بينهما فى ستّة أيّام و ما مسّنا من لغوب 41

[42-45] يوم يسمعون الصّيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج * إنّا نحن نحيى و نميت 43

في تفسير سورة الذاريات 45

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الذّاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا 45

[5-9] إنّما توعدون لصادق * و إنّ الدّين لواقع * و السّماء ذات الحبك * إنّكم 47

[10-14] قتل الخرّاصون * الّذين هم في غمرة ساهون * يسألون أيّان يوم الدّين * 48

[15-18] إنّ المتّقين فى جنّات و عيون * آخذين ما آتاهم ربّهم إنّهم كانوا قبل ذلك 49

[19-21] و فى أموالهم حقّ للسّائل و المحروم * و فى الأرض آيات للموقنين * 50

[22-34] و فى السّماء رزقكم و ما توعدون * فو ربّ السّماء و الأرض إنّه لحقّ مثل ما 52

[35-46] فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من 55

[47-51] و السّماء بنيناها بأيد و إنّا لموسعون * و الأرض فرشناها فنعم الماهدون * 57

[52-55] كذلك ما أتى الّذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون * 58

(56) و ما خلقت الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون 59

[57-60] ما أريد منهم مّن رّزق و ما أريد أن يطعمون * إنّ اللّه هو الرّزّاق ذو القوّة 60

في تفسير سورة الطور 63

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الطّور * و كتاب مسطور * فى رقّ منشور * و البيت 63

[7-13] إنّ عذاب ربّك لواقع * ما له من دافع * يوم تمور السّماء مورا * و تسير 64

[14-18] هذه النّار الّتى كنتم بها تكذّبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * 65

[19 و 20] كلوا و اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متّكئين على سرر مصفوفة 66

(21) و الّذين آمنوا و اتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّتهم و ما ألتناهم من 67

[22-28] و أمددناهم بفاكهة و لحم ممّا يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها و لا 68

[29-32] فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن و لا مجنون * أم يقولون شاعر نتربّص به 70

[33-38] أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم 70

ص: 630

[39-43] أم له البنات و لكم البنون * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم 72

[44-47] و إن يروا كسفا من السّماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم * فذرهم حتّى 73

[48 و 49] و اصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا و سبّح بحمد ربّك حين تقوم * و من 74

في تفسير سورة النجم 77

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و النّجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم و ما غوى * و ما 77

[5-11] علّمه شديد القوى * ذو مرّة فاستوى * و هو بالافق الأعلى * ثمّ دنا فتدلّى 79

[12-14] فتمارونه على ما يرى * و لقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى 83

[15-18] عندها جنّة المأوى * إذ يغشى السّدرة ما يغشى * ما زاغ البصر و ما 85

[19-23] أفرأيتم اللاّت و العزّى * و مناة الثّالثة الأخرى * ألكم الذّكر و له الأنثى 87

[23-26] إن يتّبعون إلاّ الظّنّ و ما تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربّهم الهدى * أم 88

[27-30] إنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى * و ما لهم به 89

[31 و 32] و للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض ليجزى الّذين أساءوا بما عملوا 90

(32) هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض و إذ أنتم أجنّة فى بطون أمّهاتكم فلا 92

[33 و 34] أفرأيت الّذى تولّى * و أعطى قليلا و أكدى 92

[35-42] أعنده علم الغيب فهو يرى * أم لم ينبّأ بما فى صحف موسى * و إبراهيم 93

[43-54] و أنّه هو أضحك و أبكى * و أنّه هو أمات و أحيا * و أنّه خلق الزّوجين 95

[55-58] فبأيّ آلاء ربّك تتمارى * هذا نذير من النّذر الأولى * أزفت الآزفة * 97

[59-62] أفمن هذا الحديث تعجبون * و تضحكون و لا تبكون * و أنتم سامدون 98

في تفسير سورة القمر 101

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اقتربت السّاعة و انشقّ القمر 101

[2-8] و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مّستمرّ * و كذّبوا و اتّبعوا أهواءهم و كلّ 102

[9-15] كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا و قالوا مجنون و ازدجر * فدعا ربّه أنّى 104

[16-21] فكيف كان عذابى و نذر * و لقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر * كذّبت 105

[22-24] و لقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر * كذّبت ثمود بالنّذر * فقالوا 107

[25-32] أءلقى الذّكر عليه من بيننا بل هو كذّاب أشر * سيعلمون غدا من الكذّاب 107

[33-37] كذّبت قوم لوط بالنّذر * إنّا أرسلنا عليهم حاصبا إلاّ آل لوط نجّيناهم بسحر 109

[38-42] و لقد صبّحهم بكرة عذاب مستقرّ * فذوقوا عذابى و نذر * و لقد يسّرنا 110

[43-46] أكفّاركم خير من أولئكم أم لكم براءة فى الزّبر * أم يقولون نحن جميع 111

ص: 631

[47-49] إنّ المجرمين فى ضلال و سعر * يوم يسحبون فى النّار على وجوههم 112

[50-55] و ما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر * و لقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر * 114

في تفسير سورة الرحمن 117

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الرّحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان * علّمه البيان 117

[5 و 6] الشّمس و القمر بحسبان * و النّجم و الشّجر يسجدان 118

[7-9] و السّماء رفعها و وضع الميزان * ألاّ تطغوا فى الميزان * و أقيموا الوزن 119

[10 و 11] و الأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة و النّخل ذات الأكمام 120

[12 و 13] و الحبّ ذو العصف و الرّيحان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان 121

[14-16] خلق الإنسان من صلصال كالفخّار * و خلق الجانّ من مارج من نار * 122

[17-23] ربّ المشرقين و ربّ المغربين * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * مرج البحرين 123

[24-28] و له الجوار المنشآت فى البحر كالأعلام * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * كلّ 126

[29 و 30] يسأله من فى السّماوات و الأرض كلّ يوم هو فى شأن * فبأيّ آلاء ربّكما 127

[31 و 32] سنفرغ لكم آيّه الثّقلان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان 128

[33 و 34] يا معشر الجنّ و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السّماوات 129

[35 و 37] يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران * فبأيّ آلاء ربّكما 129

[38-45] فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جانّ * فبأيّ 130

[46-49] و لمن خاف مقام ربّه جنّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * ذواتا أفنان * 132

[52-55] فيهما عينان تجريان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * فيهما من كلّ فاكهة 132

[56-61] فيهنّ قاصرات الطّرف لم يطمثهنّ إنس قبلهم و لا جانّ * فبأيّ آلاء ربّكما 133

[62 و 63] و من دونهما جنّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان 134

[64-69] مدهامّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * فيهما عينان نضّاختان * فبأيّ آلاء 135

[70-73] فيهنّ خيرات حسان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * حور مقصورات فى 137

[74-78] لم يطمثهنّ إنس قبلهم و لا جانّ * فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان * متّكئين على 138

في تفسير سورة الواقعة 141

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة 141

[4-11] إذا رجّت الأرض رجّا * و بسّت الجبال بسّا * فكانت هباء مّنبثّا * و كنتم 142

[12-19] فى جنّات النّعيم * ثلّة من الأوّلين * و قليل من الآخرين * على سرر 144

[20-24] و فاكهة ممّا يتخيّرون * و لحم طير ممّا يشتهون * و حور عين * كأمثال 146

ص: 632

[25-40] لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما * إلاّ قيلا سلاما سلاما * و أصحاب اليمين 146

[41-44] و أصحاب الشّمال ما أصحاب الشّمال * فى سموم و حميم * و ظلّ من 150

[45-55] إنّهم كانوا قبل ذلك مترفين * و كانوا يصرّون على الحنث العظيم * و كانوا 151

[56-59] هذا نزلهم يوم الدّين * نحن خلقناكم فلو لا تصدّقون * أفرأيتم ما تمنون * 152

[60-62] نحن قدّرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين * على أن نبدّل أمثالكم 153

[63-64] أفرأيتم مّا تحرثون * ءأنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون 154

[65-70] لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكّهون * إنّا لمغرمون * بل نحن محرومون 154

[71-73] أفرأيتم النّار الّتى تورون * أ أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * 155

[74-76] فسبّح باسم ربّك العظيم * فلا أقسم بمواقع النّجوم * و إنّه لقسم لو 156

[77-82] إنّه لقرآن كريم * فى كتاب مكنون * لا يمسّه إلاّ المطهّرون * تنزيل من ربّ 157

[83-87] فلو لا إذا بلغت الحلقوم * و أنتم حينئذ تنظرون * و نحن أقرب إليه منكم 159

[88-96] فأمّا إن كان من المقرّبين * فروح و ريحان و جنّت نعيم * و أمّا إن كان من 160

في تفسير سورة الحديد 163

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح للّه ما فى السّماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم 163

(3) هو الأوّل و الآخر و الظّاهر و الباطن و هو بكلّ شىء عليم 164

[4-6] هو الّذى خلق السّماوات و الأرض فى ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش 165

[7 و 8] آمنوا باللّه و رسوله و أنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه فالّذين آمنوا منكم 166

[9-10] هو الّذى ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظّلمات إلى النّور 167

[11 و 12] من ذا الّذى يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له و له أجر كريم * يوم ترى 170

(13) يوم يقول المنافقون و المنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل 171

[14 و 15] ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى و لكنّكم فتنتم أنفسكم و تربّصتم و ارتبتم 172

(16) ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه و ما نزل من الحقّ و لا يكونوا 172

[17 و 18] اعلموا أنّ اللّه يحيى الأرض بعد موتها قد بيّنّا لكم الآيات لعلّكم تعقلون * 173

(19) و الّذين آمنوا باللّه و رسله أولئك هم الصّدّيقون و الشّهداء عند ربّهم لهم 174

(20) اعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر فى 175

(21) سابقوا إلى مغفرة من ربّكم و جنّة عرضها كعرض السّماء و الأرض أعدّت 176

[22 و 23] ما أصاب من مصيبة فى الأرض و لا فى أنفسكم إلاّ فى كتاب من قبل أن 177

[24 و 25] الّذين يبخلون و يأمرون النّاس بالبخل و من يتولّ فإنّ اللّه هو الغنيّ الحميد 178

ص: 633

[26 و 27] و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا فى ذرّيّتهما النّبوّة و الكتاب فمنهم 180

[28 و 29] يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل 182

في تفسير سورة المجادلة 185

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قد سمع اللّه قول ألّتى تجادلك فى زوجها و تشتكى إلى اللّه 185

[2-4] الّذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أمّهاتهم إن أمّهاتهم إلاّ اللاّئى 185

[5 و 6] إنّ الّذين يحادّون اللّه و رسوله كبتوا كما كبت الّذين من قبلهم و قد أنزلنا 186

[7 و 8] أ لم تر أنّ اللّه يعلم ما فى السّماوات و ما فى الأرض ما يكون من نجوى 189

[9 و 10] يا أيّها الّذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم و العدوان و معصية 190

(11) يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا فى المجالس فافسحوا يفسح اللّه 191

[12 و 13] يا أيّها الّذين آمنوا إذا ناجيتم الرّسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك 193

[14-17] أ لم تر إلى الّذين تولّوا قوما غضب اللّه عليهم ما هم منكم و لا منهم 198

(18) يوم يبعثهم اللّه جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنّهم على 200

(19) استحوذ عليهم الشّيطان فأنساهم ذكر اللّه أولئك حزب الشّيطان ألا إنّ 200

[20 و 21] إنّ الّذين يحادّون اللّه و رسوله أولئك فى الأذلّين * كتب اللّه لأغلبنّ أنا 202

(22) لا تجد قوما يؤمنون باللّه و اليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه و رسوله و لو كانوا 202

في تفسير سورة الحشر 205

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض و هو العزيز 205

[2-5] ما ظننتم أن يخرجوا و ظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من اللّه فأتاهم اللّه من 207

(6) و ما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أو جفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكنّ اللّه 208

(7) ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه و للرّسول و لذى القربى و اليتامى 209

(8) للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من 210

(9) و الّذين تبوّءوا الدّار و الإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم و لا يجدون 211

[10 و 11] و الّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الّذين سبقونا 213

(12) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم و لئن نصروهم 214

[13-17] لأنتم أشدّ رهبة فى صدورهم من اللّه ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون * لا 215

[18 و 19] يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه و لتنظر نفس ما قدّمت لغد و اتّقوا اللّه إنّ اللّه 216

[20 و 21] لا يستوى اصحاب النّار و أصحاب الجنّة أصحاب الجنّة هم الفائزون * 217

[22-24] هو اللّه الّذى لا إله إلاّ هو عالم الغيب و الشّهادة هو الرّحمن الرّحيم * هو 218

ص: 634

في تفسير سورة الممتحنة 221

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّى و عدوّكم أولياء 221

[2 و 3] إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء و يبسطوا إليكم أيديهم و ألسنتهم بالسّوء 223

[4 و 5] قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم و الّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء 224

[6 و 7] لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه و اليوم الآخر و من يتولّ 225

(8) لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم فى الدّين و لم يخرجوكم من دياركم 226

[9 و 10] إنّما ينهاكم اللّه عن الّذين قاتلوكم فى الدّين و أخرجوكم من دياركم 226

(11) و إن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الّذين ذهبت 229

(12) يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئا و لا 230

(13) يا أيّها الّذين آمنوا لا تتولّوا قوما غضب اللّه عليهم قد يئسوا من الآخرة كما 232

في تفسير سورة الصف 235

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض و هو العزيز 235

[4 و 5] إنّ اللّه يحبّ الّذين يقاتلون فى سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص * و إذ قال 236

(6) و إذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إنّى رسول اللّه إليكم مصدّقا لما بين 237

[7-9] و من أظلم ممّن افترى على اللّه الكذب و هو يدعى إلى الإسلام و اللّه لا 238

[10-13] يا أيّها الّذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * 239

(14) يا أيّها الّذين آمنوا كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريّين من 240

في تفسير سورة الجمعة 243

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يسبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض الملك القدّوس. 243

[3-5] و آخرين منهم لمّا يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم * ذلك فضل اللّه يؤتيه 244

[6-8] قل يا أيّها الّذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء للّه من دون النّاس فتمنّوا 245

[9 و 10] يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودى للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه 246

(11) و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها و تركوك قائما قل ما عند اللّه خير من 248

في تفسير سورة المنافقين 251

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه و اللّه يعلم 251

[4 و 5] و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشب 251

[6 و 7] سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم إنّ اللّه لا يهدى 253

(8) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ و للّه العزّة 254

ص: 635

[9-11] يا أيّها الّذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر اللّه و من يفعل 257

في تفسير سورة التغابن 259

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يسبّح للّه ما فى السّماوات و ما فى الأرض له الملك و له 259

[3 و 4] خلق السّماوات و الأرض بالحقّ و صوّركم فأحسن صوركم و إليه المصير * 260

[5 و 6] ألم يأتكم نبأ الّذين كفروا من قبل فذاقوا و بال أمرهم و لهم عذاب أليم * 261

[7-9] زعم الّذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى و ربّى لتبعثنّ ثمّ لتنبّؤنّ بما عملتم 261

[10-12] و من يؤمن باللّه و يعمل صالحا يكفّر عنه سيّئاته و يدخله جنّات تجرى من 263

[13 و 14] اللّه لا إله إلاّ هو و على اللّه فليتوكّل المؤمنون * يا أيّها الّذين آمنوا إنّ من 264

[15 و 16] إنّما أموالكم و أولادكم فتنة و اللّه عنده أجر عظيم * فاتّقوا اللّه ما استطعتم 264

[17 و 18] إن تقرضوا اللّه قرضا حسنا يضاعفه لكم و يغفر لكم و اللّه شكور حليم * 266

في تفسير سورة الطلاق 269

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ 269

[2 و 3] فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف و أشهدوا ذوي 271

[4 و 5] و اللاّئى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهر 274

(6) أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم و لا تضارّوهنّ لتضيّقوا عليهنّ و إن 275

(7) لينفق ذو سعة من سعته و من قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه 276

[8 و 9] و كأيّن من قرية عتت عن أمر ربّها و رسله فحاسبناها حسابا شديدا 277

[10 و 11] أعدّ اللّه لهم عذابا شديدا فاتّقوا اللّه يا أولى الألباب الّذين آمنوا قد أنزل 277

[11 و 12] و من يؤمن باللّه و يعمل صالحا يدخله جنّات تجرى من تحتها الأنهار 278

في تفسير سورة التحريم 281

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك تبتغي مرضات 281

(3) و إذ أسرّ النّبيّ إلى بعض أزواجه حديثا فلمّا نبّأت به و أظهره اللّه عليه عرّف 283

[4 و 5] إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه 283

(6) يا أيّها الّذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا و قودها النّاس و الحجارة 285

(7) يا أيّها الّذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنّما تجزون ما كنتم تعملون 286

(8) يا أيّها الّذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربّكم أن يكفّر عنكم 286

[9 و 10] يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنّم و بئس 288

[11 و 12] و ضرب اللّه مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لى عندك بيتا 289

ص: 636

في تفسير سورة الملك 291

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تبارك الّذى بيده الملك و هو على كلّ شىء قدير 291

[3-5] الّذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرّحمن من تفاوت فارجع 293

[6-11] و للّذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم و بئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها 294

[12 و 13] إنّ الّذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة و أجر كبير * و أسرّوا قولكم أو 296

[14 و 15] ألا يعلم من خلق و هو اللّطيف الخبير * هو الّذى جعل لكم الأرض ذلولا 296

[16 و 17] ء أمنتم من فى السّماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هى تمور * أم أمنتم 297

[18 و 19] و لقد كذّب الّذين من قبلهم فكيف كان نكير * أو لم يروا إلى الطّير فوقهم 298

[20 و 21] أمّن هذا الّذى هو جند لكم ينصركم من دون الرّحمن إن الكافرون إلاّ فى 298

(22) أفمن يمشى مكبّا على وجهه أهدى أمّن يمشى سويّا على صراط 299

[23-25] قل هو الّذى أنشأكم و جعل لكم السّمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما 300

[26 و 27] قل إنّما العلم عند اللّه و إنّما أنا نذير مبين * فلمّا رأوه زلفة سيئت وجوه 301

[28 و 29] قل أ رأيتم إن أهلكنى اللّه و من معى أو رحمنا فمن يجير الكافرين من 302

(30) قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين 302

في تفسير سورة القلم 305

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ن و القلم و ما يسطرون 305

(2) ما أنت بنعمة ربّك بمجنون 306

[3 و 4] و إنّ لك لأجرا غير ممنون * و إنّك لعلى خلق عظيم 307

[5-9] فستبصر و يبصرون * بأيّكم المفتون * إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن 308

[10-16] و لا تطع كلّ حلاّف مهين * همّاز مشّاء بنميم * منّاع للخير معتد أثيم * 309

[17-28] إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة إذ أقسموا ليصر منّها مصبحين * و لا 311

[29-32] قالوا سبحان ربّنا إنّا كنّا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * 313

[33-35] كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * إنّ للمتّقين عند 315

[36-41] ما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * إنّ لكم فيه لما 315

[42-45] يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السّجود فلا يستطيعون * خاشعة 316

[46-50] أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * 318

[51 و 52] و إن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر و يقولون إنّه 319

في تفسير سورة الحاقة 321

ص: 637

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحاقّة * ما الحاقّة * و ما أدراك ما الحاقّة 321

[5-7] فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية * و أمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * 322

[8-12] فهل ترى لهم من باقية * و جاء فرعون و من قبله و المؤتفكات بالخاطئة * 322

[13-24] فإذا نفخ فى الصّور نفخة واحدة * و حملت الأرض و الجبال فدكّتا دكّة 323

[25-29] و أمّا من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * و لم أدر ما 326

[30-37] خذوه فغلّوه * ثمّ الجحيم صلّوه * ثمّ فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا 326

[38-43] فلا أقسم بما تبصرون * و ما لا تبصرون * إنّه لقول رسول كريم * و ما هو 328

[44-52] و لو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه 329

في تفسير سورة المعارج 331

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع 331

[4-10] تعرج الملائكة و الرّوح إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة * فاصبر صبرا 332

[11-18] يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه * و صاحبته 333

[19-34] إنّ الإنسان خلق هلوعا * إذا مسّه الشّرّ جزوعا * و إذا مسّه الخير منوعا * 334

[35-37] أولئك فى جنّات مكرمون * فمال الّذين كفروا قبلك مهطعين * عن 336

[38-44] أيطمع كلّ امرئ منهم أن يدخل جنّة نعيم * كلاّ إنّا خلقناهم ممّا يعلمون * 337

في تفسير سورة نوح 339

[1-9] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم 339

[10-14] فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا * يرسل السّماء عليكم مدرارا * 341

[15-24] أ لم تروا كيف خلق اللّه سبع سموات طباقا * و جعل القمر فيهنّ نورا و جعل 341

[24-28] و لا تزد الظّالمين إلاّ ضلالا * ممّا خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا 343

في تفسير سورة الجن 345

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل أوحى إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا 345

[7-9] و أنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحدا * و أنّا لمسنا السّماء 347

[10-12] و أنّا لا ندرى أشرّ أريد بمن فى الأرض أم أراد بهم ربّهم رشدا * و أنّا منّا 349

[13-17] و أنّا لمّا سمعنا الهدى آمنّا به فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخسا و لا رهقا * 350

[18 و 19] و أنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدا * و أنّه لمّا قام عبد اللّه يدعوه كادوا 351

[20-23] قل إنّما أدعوا ربّى و لا أشرك به أحدا * قل إنّى لا أملك لكم ضرّا و لا رشدا 352

[24-28] حتّى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا و أقلّ عددا * قل إن 353

ص: 638

في تفسير سورة المزمّل 355

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها المزّمّل * قم اللّيل إلاّ قليلا * نصفه أو انقص منه 355

[6-9] إنّ ناشئة اللّيل هى أشدّ وطأ و أقوم قيلا * إنّ لك في النّهار سبحا طويلا * 357

[10-14] و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجرا جميلا * و ذرنى و المكذّبين أولى 358

[15-19] إنّا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى 359

(20) إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل و نصفه و ثلثه و طائفة من الّذين 360

في تفسير سورة المدّثّر 363

[1-7] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا أيّها المدّثّر * قم فأنذر * و ربّك فكبّر * و ثيابك فطهّر 363

[8-17] فإذا نقر فى النّاقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير * 366

[18-25] إنّه فكّر و قدّر * فقتل كيف قدّر * ثمّ قتل كيف قدّر * ثمّ نظر * ثمّ عبس 367

[26-37] سأصليه سقر * و ما أدراك ما سقر * لا تبقى و لا تذر * لوّاحة للبشر * عليها 369

[38-47] كلّ نفس بما كسبت رهينة * إلاّ أصحاب اليمين * فى جنّات يتساءلون * 372

[48-51] فما تنفعهم شفاعة الشّافعين * فما لهم عن التّذكرة معرضين * كأنّهم حمر 373

[52-56] بل يريد كلّ امرئ مّنهم أن يؤتى صحفا منشّرة * كلاّ بل لاّ يخافون الآخرة 374

في تفسير سورة القيامة 377

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لا أقسم بيوم القيامة * و لا أقسم بالنّفس اللّوّامة 377

[4-10] بلى قادرين على أن نّسوّى بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل 378

[11-15] كلاّ لا وزر * إلى ربّك يومئذ المستقرّ * ينبّؤ الإنسان يومئذ بما قدّم و أخّر 379

[16-21] لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه و قرآنه * فإذا قرأناه فاتّبع 380

[22-30] وجوه يومئذ نّاضرة * إلى ربّها ناظرة * و وجوه يومئذ باسرة * تظنّ أن 381

[31-35] فلا صدّق و لا صلّى * و لكن كذّب و تولّى * ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى * 383

[36-40] أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منيّ يمنى * ثمّ كان 383

في تفسير سورة الانسان 385

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا 385

[3-6] إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكرا و إمّا كفورا * إنّا أعتدنا للكافرين سلاسل 386

[7-13] يوفون بالنّذر و يخافون يوما كان شرّه مستطيرا * و يطعمون الطّعام على 387

[14-17] و دانية عليهم ظلالها و ذلّلت قطوفها تذليلا * و يطاف عليهم بآنية من فضّة 389

[18 و 19] عينا فيها تسمّى سلسبيلا * و يطوف عليهم ولدان مخلّدون إذا رأيتهم 390

ص: 639

[20-21] و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر 391

(22) إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا 393

[23-24] إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا * فاصبر لحكم ربّك و لا تطع منهم آثما أو 396

[25-28] و اذكر اسم ربّك بكرة و أصيلا * و من اللّيل فاسجد له و سبّحه ليلا طويلا * 397

[29-31] إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا * و ما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه 398

في تفسير سورة المرسلات 399

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و المرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * و النّاشرات 399

[7-19] إنّما توعدون لواقع * فإذا النّجوم طمست * و إذا السّماء فرجت * و إذا 400

[20-28] ألم نخلقكّم من ماء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قدر معلوم * 402

[29-31] انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون * انطلقوا إلى ظلّ ذى ثلاث شعب * لا 403

[32-37] إنّها ترمى بشرر كالقصر * كأنّه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذّبين * هذا 403

[38-40] هذا يوم الفصل جمعناكم و الأوّلين * فإن كان لكم كيد فكيدون * ويل 404

[41-47] إنّ المتّقين فى ظلال و عيون * و فواكه ممّا يشتهون * كلوا و اشربوا هنيئا 405

[18-50] و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون * ويل يومئذ للمكذّبين * فبأيّ حديث بعده 406

في تفسير سورة النبأ 407

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم عمّ يتساءلون * عن النّبإ العظيم * الّذى هم فيه 407

[4 و 5] كلاّ سيعلمون * ثمّ كلاّ سيعلمون 408

[6-16] ألم نجعل الأرض مهادا * و الجبال أوتادا * و خلقناكم أزواجا * و جعلنا 408

[17-20] إنّ يوم الفصل كان ميقاتا * يوم ينفخ فى الصّور فتأتون أفواجا * و فتحت 409

[21-26] إنّ جهنّم كانت مرصادا * للطّاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون 411

[27-29] إنّهم كانوا لا يرجون حسابا * و كذّبوا بآياتنا كذّابا * و كلّ شىء أحصيناه 412

[30-36] فذوقوا فلن نّزيدكم إلاّ عذابا * إنّ للمتّقين مفازا * حدائق و أعنابا * 412

[37 و 38] ربّ السّماوات و الأرض و ما بينهما الرّحمن لا يملكون منه خطابا * يوم 414

[39 و 40] ذلك اليوم الحقّ فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآبا * إنّا أنذرناكم عذابا قريبا يوم 415

في تفسير سورة النازعات 417

[1-14] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و النّازعات غرقا * و النّاشطات نشطا * و السّابحات 417

[15-26] هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوى * اذهب إلى 419

[27-33] ءأنتم أشدّ خلقا أم السّماء بناها * رفع سمكها فسوّاها * و أغطش ليلها 421

ص: 640

[34-41] فإذا جاءت الطّامّة الكبرى * يوم يتذكّر الإنسان ما سعى * و برّزت 422

[42-46] يسألونك عن السّاعة أيّان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربّك 423

في تفسير سورة عبس 425

[1-10] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم عبس و تولّى * أن جاءه الأعمى * و ما يدريك لعلّه 425

[11-16] كلاّ إنّها تذكرة * فمن شاء ذكره * فى صحف مكرّمة * مرفوعة مطهّرة * 427

[17-23] قتل الإنسان ما أكفره * من أيّ شىء خلقه * من نطفة خلقه فقدّره * ثمّ 428

[24-31] فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنّا صببنا الماء صبّا * ثمّ شققنا الأرض شقّا 429

[32-37] متاعا لكم و لأنعامكم * فإذا جاءت الصّاخّة * يوم يفرّ المرء من أخيه * 430

[38-42] وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * و وجوه يومئذ عليها غبرة * 431

في تفسير سورة التكوير 433

[1-18] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا الشّمس كوّرت * و إذا النّجوم انكدرت * و إذا 433

[19-21] إنّه لقول رسول كريم * ذى قوّة عند ذى العرش مكين * مطاع ثمّ 436

[22-29] و ما صاحبكم بمجنون * و لقد رآه بالأفق المبين * و ما هو على الغيب 437

في تفسير سورة الانفطار 439

[1-8] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا السّماء انفطرت * و إذا الكواكب انتثرت * و إذا 439

[9-12] كلاّ بل تكذّبون بالدّين * و إنّ عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون 440

[13-19] إنّ الأبرار لفى نعيم * و إنّ الفجّار لفى جحيم * يصلونها يوم الدّين * و ما 441

في تفسير سورة المطففين

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ويل للمطفّفين * الّذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون 443

[7-13] كلاّ إنّ كتاب الفجّار لفى سجّين * و ما أدراك ما سجّين * كتاب مرقوم * 445

(14) كلاّ بل ران على قلوبهم مّا كانوا يكسبون 446

[15-17] كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون * ثمّ إنّهم لصالوا الجحيم * ثمّ 447

[18-21] كلاّ إنّ كتاب الأبرار لفى علّيّين * و ما أدراك ما علّيون * كتاب مرقوم * 447

[22-26] إنّ الأبرار لفى نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف فى وجوههم نضرة 449

[27-33] و مزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقرّبون * إنّ الّذين أجرموا كانوا 449

[31-36] فاليوم الّذين آمنوا من الكفّار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل 451

في تفسير سورة الانشقاق 453

[1-6] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا السّماء انشقّت * و أذنت لربّها و حقّت * و إذا 453

ص: 641

[7-18] فأمّا من أوتى كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * و ينقلب إلى 454

(19) لتركبنّ طبقا عن طبق 455

[20-25] فما لهم لا يؤمنون * و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون * بل الّذين كفروا 456

في تفسير سورة البروج 459

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و السّماء ذات البروج * و اليوم الموعود * و شاهد 459

[5-9] النّار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * و هم على ما يفعلون بالمؤمنين 464

(10) إنّ الّذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم 465

[11-16] إنّ الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات لهم جنّات تجرى من تحتها الأنهار ذلك 465

[17-22] هل أتاك حديث الجنود * فرعون و ثمود * بل الّذين كفروا فى تكذيب 466

في تفسير سورة الطارق 469

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و السّماء و الطّارق * و ما أدراك ما الطّارق * النّجم 469

[4-10] إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ * فلينظر الإنسان ممّ خلق * خلق من ماء دافق 470

[11-17] و السّماء ذات الرّجع * و الأرض ذات الصّدع * إنّه لقول فصل * و ما هو 471

في تفسير سورة الأعلى 473

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم سبّح اسم ربّك الأعلى 473

[2-5] الّذى خلق فسوّى * و الّذى قدّر فهدى * و الّذى أخرج المرعى * فجعله 474

[6-8] سنقرئك فلا تنسى * إلاّ ما شاء اللّه إنّه يعلم الجهر و ما يخفى * و نيسّرك 474

[9-13] فذكّر إن نّفعت الذّكرى * سيذّكّر من يخشى * و يتجنّبها الأشقى * الّذى 475

[14-19] قد أفلح من تزكّى * و ذكر اسم ربّه فصلّى * بل تؤثرون الحياة الدّنيا * 476

في تفسير سورة الغاشية 479

[1-7] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة 479

[8-16] وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * فى جنّة عالية * لا تسمع فيها لاغية 480

[17-20] أ فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * و إلى السّماء كيف رفعت * و إلى 481

[21-26] فذكّر إنّما أنت مذكّر * لست عليهم بمصيطر * إلاّ من تولّى و كفر * 482

في تفسير سورة الفجر 485

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الفجر * و ليال عشر * و الشّفع و الوتر * و اللّيل إذا 485

[6-10] أ لم تر كيف فعل ربّك بعاد * إرم ذات العماد * الّتى لم يخلق مثلها فى 487

[11-14] الّذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصبّ عليهم ربّك سوط 488

ص: 642

[15-18] فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه و نعّمه فيقول ربّى أكرمن 489

[19-26] و تأكلون التّراث أكلا لمّا * و تحبّون المال حبّا جمّا * كلاّ إذا دكّت الأرض 490

[27-30] يا أيّتها النّفس المطمئنّة * ارجعى إلى ربّك راضية مرضيّة * فادخلى 491

في تفسير سورة البلد 493

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لا أقسم بهذا البلد * و أنت حلّ بهذا البلد * و والد 493

(4) لقد خلقنا الإنسان فى كبد 494

[5-7] أيحسب أن لن يقدر عليه أحد * يقول أهلكت مالا لبدا * أيحسب أن 494

[8-16] ألم نجعل له عينين * و لسانا و شفتين * و هديناه النّجدين * فلا اقتحم 495

[17-20] ثمّ كان من الّذين آمنوا و تواصوا بالصّبر و تواصوا بالمرحمة * أولئك 496

في تفسير سورة الشمس 499

[1-8] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الشّمس و ضحاها * و القمر إذا تلاها * و النّهار إذا 499

[9 و 10] قد أفلح من زكّاها * و قد خاب من دسّاها 500

[11-15] كذّبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول اللّه ناقة اللّه 500

في تفسير سورة الليل 503

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و اللّيل إذا يغشى * و النّهار إذا تجلّى * و ما خلق 503

[5-11] فأمّا من أعطى و اتّقى * و صدّق بالحسنى * فسنيسّره لليسرى * و أمّا من 504

[12-13] إنّ علينا للهدى * و إنّ لنا للآخرة و الأولى 506

[12-13] فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلاّ الأشقى * الّذى كذّب و تولّى * 506

[19-20] و ما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى 507

(21) و لسوف يرضى 509

في تفسير سورة الضحى 511

[1-2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الضّحى * و الّيل إذا سجى 511

[3-5] ما ودّعك ربّك و ما قلى * و للآخرة خير لك من الأولى * و لسوف 512

[6-8] ألم يجدك يتيما فآوى * و وجدك ضالاّ فهدى * و وجدك عائلا 514

[9-11] فأمّا اليتيم فلا تقهر * و أمّا السّائل فلا تنهر * و أمّا 517

في تفسير سورة الشرح 519

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ألم نشرح لك صدرك 519

[2-4] و وضعنا عنك وزرك * الّذى أنقض ظهرك * و رفعنا لك ذكرك 520

ص: 643

[5 و 6] فإنّ مع العسر يسرا * إنّ مع العسر يسرا 520

[7 و 8] فإذا فرغت فانصب * و إلى ربّك فارغب 521

في تفسير سورة التين 523

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و التّين و الزّيتون 523

[2 و 3] و طور سينين * و هذا البلد الأمين 524

[4 و 5] لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثمّ رددناه أسفل سافلين 525

[6 و 7] إلاّ الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذّبك 525

(8) أ ليس اللّه بأحكم الحاكمين 526

في تفسير سورة العلق 527

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اقرأ باسم ربّك الّذى خلق * خلق الإنسان من علق 527

[3-7] اقرأ و ربّك الأكرم * الّذى علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم * كلاّ إنّ 528

[8-10] إنّ إلى ربّك الرّجعى * أ رأيت الّذى ينهى * عبدا إذا صلّى 529

[11-15] ألم يعلم بأنّ اللّه يرى * كلاّ لئن لّم ينته لنسفعا بالنّاصية 530

[16-18] ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزّبانية 531

(19) كلاّ لا تطعه و اسجد و اقترب 532

في تفسير سورة القدر 535

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إنّا أنزلناه فى ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلة القدر 535

(3) ليلة القدر خير من ألف شهر 537

(4) تنزّل الملائكة و الرّوح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر 539

(5) سلام هى حتّى مطلع الفجر 541

في تفسير سورة البينة

[1-3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين 543

[4 و 5] و ما تفرّق الّذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة * و ما أمروا إلاّ 544

[6 و 7] إنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين فى نار جهنّم خالدين فيها 545

(8) جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها 546

في تفسير سورة الزلزال 549

[1-4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا زلزلت الأرض زلزالها * و أخرجت الأرض أثقالها 549

[5-8] بأنّ ربّك أوحى لها * يومئذ يصدر النّاس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن 551

ص: 644

في تفسير سورة العاديات 553

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و العاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات 553

[6-11] إنّ الإنسان لربّه لكنود * و إنّه على ذلك لشهيد * و إنّه لحبّ الخير لشديد * 558

في تفسير سورة القارعة 561

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم القارعة * ما القارعة * و ما أدراك ما القارعة * يوم يكون 561

[6-11] فأمّا من ثقلت موازينه * فهو فى عيشة راضية * و أمّا من خفّت موازينه * 562

في تفسير سورة التكاثر 563

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ألهاكم التّكاثر * حتّى زرتم المقابر 563

[3-6] كلاّ سوف تعلمون * ثمّ كلاّ سوف تعلمون * كلاّ لو تعلمون علم اليقين * 564

[7 و 8] ثمّ لترونّها عين اليقين * ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النّعيم 565

في تفسير سورة العصر 569

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و العصر 569

[2 و 3] إنّ الإنسان لفى خسر * إلاّ الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات و تواصوا 570

في تفسير سورة الهمزة 573

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ويل لكلّ همزة لّمزة 573

[2-4] الّذى جمع مالا و عدّده * يحسب أنّ ماله أخلده * كلاّ لينبذنّ فى 573

[5-9] و ما أدراك ما الحطمة * نار اللّه الموقدة * الّتى تطّلع على الأفئدة * إنّها 574

في تفسير سورة الفيل 577

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أ لم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل 577

[2-5] ألم يجعل كيدهم فى تضليل * و أرسل عليهم طيرا أبا بيل * ترميهم 579

في تفسير سورة قريش 583

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشّتاء و الصّيف 583

[3 و 4] فليعبدوا ربّ هذا البيت * الّذى أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف 584

في تفسير سورة الماعون 587

[1 و 3] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أ رأيت الّذى يكذّب بالدّين * فذلك الّذى يدعّ 587

[4-7] فويل للمصلّين * الّذين هم عن صلاتهم ساهون * الّذين هم يرآءون * 588

في تفسير سورة الكوثر 591

(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إنّا أعطيناك الكوثر 591

ص: 645

[2 و 3] فصلّ لربّك و انحر * إنّ شانئك هو الأبتر 593

في تفسير سورة الكافرون 597

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل يا أيّها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون 597

(6) لكم دينكم ولى دين 598

في تفسير سورة النصر 601

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا جاء نصر اللّه و الفتح * و رأيت النّاس يدخلون 601

(3) فسبّح بحمد ربّك و استغفره إنّه كان توّابا 604

في تفسير سورة المسد 607

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تبّت يدا أبى لهب و تبّ * ما أغنى عنه ماله و ما كسب 607

(3) سيصلى نارا ذات لهب 610

(4) و امرأته حمّالة الحطب 611

(5) فى جيدها حبل من مسد 612

في تفسير سورة الإخلاص 613

[1 و 4] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل هو اللّه أحد * اللّه الصّمد * لم يلد و لم يولد 613

في تفسير سورة الفلق 621

[1 و 2] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل أعوذ بربّ الفلق * من شرّ ما خلق 621

(3) و من شرّ غاسق إذا وقب 623

[4-5] و من شرّ النّفاثات فى العقد * و من شرّ حاسد إذا حسد 623

في تفسير سورة الناس 625

[1-5] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قل أعوذ بربّ النّاس * ملك النّاس * إله النّاس 625

(6) من الجنّة و النّاس 625

ص: 646

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.