نفحات الرحمن في تفسیر القرآن جلد 5

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الخامس

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

في تفسير سورة القصص

سوره 28 (القصص): آیه شماره 1 الی 6

لمّا ختم سبحانه سورة النمل المفتتحة بذكر فضيلة القرآن المتضمّنة لبيان تفضّلاته على الأنبياء، و حججه على التوحيد و المعاد، و إنعامه على المؤمنين في الآخرة، و حرمة مكة، و ترغيبه في تلاوة القرآن المختتمة بأمر النبيّ بالحمد على تفضّله عليه بالحكمة و النبوة، و تهديد مكذّبيه بإراءتهم العذاب في الآخرة، اردفها في النظم بسورة القصص المفتتحة بذكر عظمة القرآن المتضمّنة لتفضلاته على موسى، و منّته على المؤمنين به باهلاك أعدائهم و أخلافهم في الأرض، و إثبات التوحيد و المعاد، و بيان حرمة الحرم، و فضل نبينا، و صدق كتابه، و رجوع أمر النبوة إلى اختيار اللّه، و اختصاص الحمد في الدنيا و الآخرة به، و غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها على حسب دأبه في كتابه بذكر أسمائه المباركات تعليما للعباد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ، ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة

بقوله: طسم و قد مرّ تأويلها، و ما ذكره كثير من العامة في تأويلها تخرّص بالغيب و اتّباع للمتشابه.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ (4) وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

ثمّ عظّم سبحانه السورة بقوله: تِلْكَ السورة أو الآيات آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الموضّح للحقّ و طريق الرشاد، أو الموضّح لكونه من اللّه باشتماله على المعجزات، أو لصدق نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله. أو المبين للحلال و الحرام و كيفية التخلّص من شبهات الضالّين و قصص الأولين.

ثمّ شرع في قصة موسى بقوله: نَتْلُوا و نقرأ عَلَيْكَ يا محمّد بواسطة جبرئيل بعضا مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ و جملة من خبرهما الذي له شأن حال كوننا ملتبسين بِالْحَقِّ و الصدق ليكون

ص: 5

نافعا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إن كانت التلاوة لهم و لغيرهم إتماما للحجّة.

ثمّ كأنّه قيل: ما كان نبأهما (1)؟ فأجاب بقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا و استكبر فِي اَلْأَرْضِ و ادّعى ما ليس له وَ جَعَلَ بترفّعه أَهْلَها و سكّانها شِيَعاً و فرقا يتبّعونه، أو أصنافا معدّدة في الاستخدام بتعيين كل صنف لعمل من بناء و حرث و حفر و غيرها، أو أحزابا متعادية بعضهم مع بعض، ليكونوا متّفقين على طاعته، أو مختلفة في الاعزاز و الإذلال و الراحة و المشقّة، كالقبطيين المتنعّمين في الراحة، و الاسرائيليين الذليلين المستعبدين، و يرجّح هذا الوجه قوله: يَسْتَضْعِفُ و يقهر طائِفَةً مِنْهُمْ يقال لهم بنو إسرائيل حيث إنّه يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ و يكثر القتل فيهم وَ يَسْتَحْيِي و يستبقي في الحياة نِساءَهُمْ لخدمة نسائه و نساء القبط إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ لجرأته على قتل تسعين ألف على ما قيل (2)من صغار أولاد الأنبياء بتوهّم فاسد، و استخدام نسائهم.

عن ابن عباس: لمّا كثر العصيان في بني إسرائيل، و ترك العلماء و العباد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، سلّط اللّه عليهم القبط، فاستعبدوهم، و حملوا عليهم المشاق (3).

و روي أنّ فرعون رأى في المنام أنّه ظهرت نار من أحد جوانب بيت المقدس، فأحاطت بمصر و بيوته (4)، فأحرقت القبط جميعا، و لم تتعرض لبني إسرائيل، فسأل العلماء عن تعبيره، فقالوا: سيظهر في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك و هلاك ملكك بيده، فأمر بقتل أبناء بني إسرائيل (5).

و قيل: إنّ الأنبياء السابقين بشروا بمجيئة، و سمع فرعون ذلك (6).

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى بني إسرائيل اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ بتخليصهم من الظلم و العبودية وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً و قادة في الدين وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ لأرض مصر و أمتعة آل فرعون و أموالهم،

و إنما قدّم إمامتهم في الدين على وراثتهم الأموال في الذكر مع تأخّرها عنها في الوجود لانحطاط رتبتها عنها وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ التي يسكنها أعداؤهم من مصر و الشام و نسلّطهم عليها، و نسكنهم و ننفّذ أوامرهم، و نبسط أيديهم فيها وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ وزيره هامانَ وَ جُنُودَهُما و عساكرهما مِنْهُمْ ما كانُوا منه يَحْذَرُونَ و يجتنبون خوفا من هلاكهم و ذّهاب ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى [علي و]الحسن و الحسين فبكى و قال: أنتم

ص: 6


1- . تفسير روح البيان 6:380.
2- . تفسير الرازي 24:225، تفسير روح البيان 6:381.
3- . بحار الأنوار 13:53.
4- . في تفسير الرازي: و اشتملت على مصر.
5- . تفسير الرازي 24:225.
6- . تفسير الرازي 24:225.

المستضعفون بعدي» فقيل للصادق عليه السّلام ما معنى ذلك يابن رسول اللّه؟ قال: «معناه أنتم الأئمّة بعدي، إن اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ» ثمّ قال: «فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة» (1).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام «هي لنا» أو «فينا» (2).

و في رواية: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام يمشي فقال: «أترى هذا من الذين قال اللّه عزّ و جلّ: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا» الآية (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 7 الی 11

ثمّ ذكر سبحانه أول منّته على موسى بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى و قذفنا في قلبها، أو أريناها في المنام أَنْ يا امّ موسى أَرْضِعِيهِ ما لم تخفي عليه الطّلب فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ الطلب بأن يحسّ به الجيران عند بكائه فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ و النّيل.

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَ قالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)و قيل: يعني إذا خفت حفظه و عجزت عن تدبيره فسلّميه إلينا و دعيه في حفظنا (4)وَ لا تَخافِي عليه ضيقا و شدّة، و لا ضياعا و لا هلاكا وَ لا تَحْزَنِي على فراقه إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب بأحسن وجه و ألطف تدبير وَ جاعِلُوهُ مرسلا مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ.

عن ابن عباس: أنّ أمّ موسى لمّا تقارب ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي و كّلهن فرعون بالحبالى مصافية لامّ موسى، فلمّا أحسّت بالطلق أرسلت إليها و قالت لها: قد نزل بي ما نزل، و لينفعني اليوم حبّك إيّاي، فجلست القابلة، فلمّا وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه، فارتعدت مفاصلها، و دخل حبّ موسى في قلبها، فقالت: يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك، و لكنّي

ص: 7


1- . معاني الأخبار:79/1، تفسير الصافي 4:80.
2- . أمالي الصدوق:566/769، تفسير الصافي 4:81.
3- . مجمع البيان 7:375، تفسير الصافي 4:80.
4- . تفسير روح البيان 6:383.

وجدت لابنك هذا حبّا شديدا، فاحتفظي بابنك، فانّي أراه عدوّنا، فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون، فجاء إلى بابها ليدخل عليها، فقالت اخته: يا امّاه، هذا الحرس، فلفتّه و وضعته في تنّور مسجور، فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع، فدخلوا فاذا التنّور مسجور، و رأوا امّ موسى لم يتغيّر لها لون، و لم يظهر لها لبن، فقالوا: لم دخلت القابلة عليك؟ قالت: إنّها حبيبة لي دخلت للزيارة، فخرجوا من عندها، و رجع إليها عقلها، فقالت لاخت موسى: أين الصبيّ؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه في التنّور، فانطلقت إليه، و قد جعل اللّه النار عليه بردا و سلاما، فأخذته.

ثمّ لمّا رأت امّ موسى فرعون مجدّا في طلب الولدان، خافت على ابنها، فقذف اللّه في قلبها أن تتّخذ لها تابوتا، ثمّ تقذف التابوت في النّيل، فذهبت إلى نجّار من أهل مصر، فاشترت منه تابوتا، فقال لها: ما تصنعين به؟ فقالت: ابن لي أخشى عليه كيد فرعون، اريد أن اخبّئنّه فيه، و ما عرفت أنّه يفشي ذلك الخبر، فلمّا انصرفت ذهب النجّار إلى فرعون ليخبر به الذبّاحين، فلمّا جاءهم أمسك اللّه لسانه، و جعل يشير بيده، فضربوه و طردوه، فلمّا عاد إلى موضعه ردّ اللّه عليه نطقه، فذهب مرة اخرى ليخبرهم به، فضربوه و طردوه، فلمّا عاد إلى موضعه ردّ اللّه عليه نطقه، فذهب مرة اخرى ليخبرهم به، فضربوه و طردوه، فأخذ اللّه بصره و لسانه، فجعل للّه تعالى إن ردّ عليه بصره و لسانه لا يدلّهم عليه، فعلم اللّه منه الصدق، فردّ عليه بصره و لسانه، و انطلقت امّ موسى و ألقته في النّيل، و كان لفرعون بنت، لم يكن له ولد غيرها، و كان لها كلّ يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها، و كان بها برص شديد، و كان فرعون شاور الأطبّاء و السّحرة في أمرها، فقالوا: أيّها الملك، لا تبرأ هذه إلاّ من قبل البحر، يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه، فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، و ذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس.

فلمّا كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النّيل، و معه آسية بنت مزاحم، و أقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ، إذ أقبل بتابوت تضربه الأمواج، و تعلّق بشجرة، فقال فرعون: خذوه فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ و صانوه من الضياع لِيَكُونَ لَهُمْ في العاقبة عَدُوًّا يغرقهم في البحر وَ لنسائهم حَزَناً على هلاك رجالهنّ و صيرورتهنّ إماء لهم، فشبّه سبحانه العداوة و الحزن بالعلّة لفعلهم لتربيتها عليه إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا في عقائدهم و أعمالهم خاطِئِينَ و لذا قتلوا الوفا لأجل موسى، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر و يفعل بهم ما كانوا يحذرون منه.

فلمّا رأى فرعون التابوت المطلى بالقير، أمر بفتح بابه فلم يقدروا، ثمّ عالجوا كسره فلم يقدروا،

ص: 8

فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها، فعالجته و فتحته، فاذا هي بصبيّ صغير يتلألأ النور من بين عينيه، فألقى اللّه محبتّه في قلوب القوم، و عمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت، فضمّته إلى صدرها (1).

و قيل: إنّها لما رأته برئت، فقال الغوادة من قوم فرعون: إنا نظنّ أنّ هذا هو الذي تحذر منه، فرمي في البحر خوفا منك، فهمّ فرعون بقتله (2).

وَ قالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ -و كانت من خيار نساء بني إسرائيل من سبط لاوي على ما قيل (3). و قيل: كانت عمّه موسى، لمّا أخرجته من التابوت، و أحبّته للنور الذي بين عينيه (4)، أو لملاحة وجهه، أو لبرء بنته بريقه، أو لأنّه يمتصّ إصبعه، أو لأنّه لم يكن لها ولد ذكور (5)-: يا فرعون هذا الطفل قُرَّتُ عَيْنٍ و سرور قلب لِي وَ لَكَ عن ابن عباس: قال فرعون قرّة عين لك، و أمّا أنا فلا حاجة لي فيه. فقال عليه السّلام: «و الذي يحلف به لو أقرّ فرعون بأنّه قرّة عين له كما أقرّت، لهداه اللّه كما هداها» (6). ثمّ لمّا اطلعت على أنّ فرعون همّ بقتله استوهبته منه و قالت: لا تَقْتُلُوهُ و إنّما خاطبته بصيغة الجمع تعظيما له، لتساعدها على مسألتها، ثمّ ذكرت ما يرغبه في إجابتها بقولها: عَسى و نرجو أَنْ يَنْفَعَنا و يصل إلينا منه خير كثير لما فيه من أمارة اليمن و البركة، من لمعان النور من وجهه، و ارتضاعه من إصبعه، و شفاء البنت بريقه أَوْ نَتَّخِذَهُ لأنفسنا وَلَداً لكونه أهلا للتبنّي للملوك، فأجاب فرعون مسألتها و وهبة لها، فاشتغل فرعون و آسية و خدمها بتربيته وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بخطأهم العظيم في رجاء النفع منه و التبنّي له و تربيته،

لكون هلاكهم و ذهاب ملكهم بيده وَ أَصْبَحَ و صار فُؤادُ أُمِّ مُوسى لمّا سمعت أنّ ولدها في يد فرعون فارِغاً و خاليا من العقل و الصبر من فرط الخوف، أو خاليا من كلّ همّ إلاّ همّ موسى، أو خائفا و مشفقا عليه، أو فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها قبل و ناسيا له.

قيل: إنّ الشيطان جاءها، فقال لها: كرهت أن يقتل ولدك و يكون لك الأجر، فتولّيت إهلاكه و ابتليت بالعقوبة، فلمّا اطّلعت أنّ ولدها وقع في يد فرعون أنساها عظم البلاء عهد اللّه إليها (7)إِنْ الشأن أنّها كادَتْ و قربت لَتُبْدِي بموسى و تظهر بِهِ من ضعف البشرية و فرط الاضطراب.

عن ابن عباس: كادت تخبر بأنّ ما وجدتموه ابني (8).

ص: 9


1- . تفسير الرازي 24:227.
2- . تفسير الرازي 24:228.
3- . تفسير روح البيان 6:384.
4- . تفسير روح البيان 6:384.
5- . تفسير الرازي 24:228.
6- . تفسير الرازي 24:228.
7- . تفسير الرازي 24:229.
8- . تفسير الرازي 24:230.

و عن الباقر عليه السّلام: «كادت تخبر بخبره أو تموت» (1)لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا و شددنا عَلى قَلْبِها بالصبر و الثبات بتذكرها ما وعدناه من ردّه إليها سالما و جعله رسولا.

و قيل: إنّ المراد صار فؤادها فارغا من كلّ غمّ و خوف لمّا سمعت أنّ امرأة فرعون عطفت عليه، و كادت تبدي أنّه ولدها، و لم تملك نفسها فرحا لو لا أن سكّنّا ما بها من شدّة الفرح (2)، و على أي تقدير كان ذلك الربط لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و المصدّقين بقدرتنا و صدق وعدنا

وَ قالَتْ امّ موسى لِأُخْتِهِ لأبيه و امّه اسمها مريم أو كلثوم: قُصِّيهِ و فتّشي خبره، و اتّبعي أثره، و انظري كيف حاله، فجاءت إلى باب فرعون فَبَصُرَتْ بِهِ و رأته عَنْ جُنُبٍ و ناحية بعيدة عند فرعون و أهله وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و لا يلتفتون إلى أنّها اختها جاءت لتعرف حاله و تفتيش كيفية تعيّشه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ بيّن اللّه تعالى تدبيره في ردّ موسى عليه السّلام إلى امّه حسب وعده إياها بقوله: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ و منعنا عنه لبن المرضعات، أو ثديّات (3)النساء بالنّفار عنها.

وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)قيل: إنّ امّه أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها (4).

قيل: لم يقبل ثدي أحد ثمانية أيّام، و كان يرتضع من لبن يخرج من إصبعه، فاضطربت آسية و قومها من ذلك، فَقالَتْ اخت موسى لفرعون و أهله بعد أن رأت عدم قبول موسى ثدي أحد، و اعتناء فرعون بشأنه، و طلبهم امرأة يقبل ثديها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ و يضمنون إرضاعه و تربيته وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ و كلّ لنفعه و خيره طالبون، و بحضانته مجدّون؟

قيل: إنّ هامان قال: إنّها تعرفه و تعرف أهله. قالت: إنّما أردت إن هم للملك ناصحون (5).

روي أنّهم قالوا لها: من يكفله؟ قالت: امّي. قالوا: ألامّك لبن؟ قالت: نعم، لبن هارون، و كان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبيّ، فقالوا: صدقت (6).

و قيل: إنّها قالت: هي امرأة قد قتل ولدها، فأحبّت أن تتّخذ صغيرا ترضعه. قالوا: اذهبي و أتينا بها، فرجعت إلى امّها فأخبرتها بالقصّة، فجاءت مع ابنتها إلى فرعون، فرأت موسى عنده و هو يبكي،

ص: 10


1- . تفسير القمي 2:136، تفسير الصافي 4:82.
2- . تفسير الرازي 24:229.
3- . كذا، و جمع الثدي: أثد أو ثديّ.
4- . تفسير الرازي 24:230.
5- . تفسير روح البيان 6:387.
6- . ايضا.

و فرعون يسلّيه و يلعب معه، لشدة حبّه إياه، فلمّا رأى أمّ موسى أعطاها موسى، فاحتضنته و ألقمته ثديها، فلمّا شمّ موسى رائحة امّه أخذ ثديها، فقال فرعون: من أنت منه، فقد أبى كلّ ثدي إلاّ ثديك؟ قالت: أنا امرأة حسنة الخلق، طيّبه الريح و اللبن، لا اوتى بصبي إلاّ ثديي، فدفعه إليها و أجرى عليها اجرتها كلّ يوم دينار، و قال: آتيني بها كلّ اسبوع مرة، فرجعت به إلى بيتها من يومها مسرورة (1)، فأخبر اللّه تعالى بانجاز وعده بقوله:

فَرَدَدْناهُ و أرجعناه إِلى أُمِّهِ حسب وعدنا كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بوصال ولدها وَ لا تَحْزَنَ بفراقه وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ جميعه في حقّ موسى حَقٌّ و صدق لا يمكن الخلف فيه وَ لكِنَّ الناس أو آل فرعون أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بصدق مواعيده.

ثمّ قيل: إنّ موسى مكث عند امّه إلى فطامه، ثمّ ردّته إلى فرعون و آسية، فنشأ في حجرهما يربيّانه بأيديهما و اتّخذاه ولدا، فبينا هو يلعب يوما بين يدي فرعون و بيده قضيب له يلعب به، إذ رفع القضيب فضربه على رأس فرعون، فغضب اللّعين، و تطيّر من ضربه، و همّ بقتله، فقالت آسية: أيّها الملك لا يشقّن عليك و لا تغضب، فانّه صبيّ صغير لا عقل له، و إن شئت اجعل في الطشت جمرا و ذهبا، فانظر إلى أيّهما يقبض، فأمر فرعون بذلك، فلمّا مدّ موسى يده إلى الذهب قبض الملك الموكّل به على يده، فردها إلى الجمر، فقبض موسى عليها، فالقاها في فيه، ثم قذفها حين وجد حرارتها، فقالت آسية: ألم أقل لك إنّه لا يعقل شيئا، فصدّقها و كفّ عنه (2).

ثمّ روي عن الباقر عليه السّلام «أنّه لم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال» الخبر (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 14 الی 16

ثمّ أخبر اللّه بنبوته بقوله: وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ و كمال قوّته في جسده، و هو على ما قيل ما بين ثماني عشر الى ثلاثين (4). و عن ابن عباس: إلى أربعين (5)وَ اِسْتَوى و اعتدل و كمل عقله.

وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (16)

ص: 11


1- . تفسير روح البيان 6:387.
2- . تفسير روح البيان 6:388.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:83.
4- . تفسير الرازي 24:232، تفسير روح البيان 6:388.
5- . تفسير الرازى 24:232.

قيل: هو عند بلوغ أربعين سنة (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أشدّه ثماني عشر، و استوى أي التحى» (2)آتَيْناهُ و أعطيناه حُكْماً و نبوّة، أو حكمة وَ عِلْماً بالدين وَ كَذلِكَ الجزاء الجزيل الذي أعطيناه موسى على إحسانه في العمل نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ.

روي عن الباقر عليه السّلام: «أن فرعون كان ينكر ما يتكلّم به موسى من التوحيد [حتى هم به]فخرج موسى من عنده» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «كانت بنو إسرائيل تطلب و تسأل عنه عليه السّلام، فعمّي عليهم خبره، فبلغ فرعون أنّهم يطلبونه و يسألونه، فأرسل إليهم، و زاد عليهم في العذاب، و فرّق بينهم و نهاهم عن الأخبار به و السؤال عنه، فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ لهم عنده علم، فقالوا: كنّا نستريح إلى الآحاديث، فحتى متى نحن في هذا البلاء؟ قال: إنّكم لا تزالون فيه حتى يحيي اللّه من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران غلام طوال جعد (4)، فبينا هم كذلك إذ أقبل موسى عليه السّلام على بغلة حتى وقف عليهم، فرفع الشيخ رأسه فعرفه بالصفة، فقال ما أسمك؟ قال: موسى. قال: ابن من؟ قال: عمران؟ فوثب إليه الشيخ فأخذ بيده فقبّلها، و ثاروا إلى رجله فقبّلوها، فعرفهم و عرفوه و اتّخذ شيعة» (5).

و قيل: إنّه لمّا كبر كان يلبس الثياب الفاخرة، و يركب المراكب الفارهة الخاصة لفرعون، و كان يقال له موسى فرعون، فركب فرعون يوما و موسى غائب، فلمّا جاء موسى عليه السّلام سأل عن فرعون، فقالوا: ذهب إلى موضع كذا،

فذهب في طلب فرعون (6)وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ التي يقال لها مدين، أو منف (7)من أرض مصر، و هي مدينة فرعون التي كان ينزلها، و فيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره، و كانت في غربي النّيل على مسافة اثني عشر ميلا من مدينه فسطاط مصر المعروفة يومئذ بمصر القديمة، و منف أول مدينة عمّرت بأرض مصر بعد الطوفان، أو المراد مدينة مصر، و كان قصر فرعون على طرف منها.

و عن الرضا عليه السّلام: «هي مدينة من مدائن فرعون» (8).

ص: 12


1- . تفسير روح البيان 6:388.
2- . معاني الأخبار:226/1، تفسير الصافي 4:83.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:83.
4- . جعد الشعر: اجتمع و تقبضّ و التوى، فهو جعد، و وجه جعد: مستدير قليل اللحم.
5- . كمال الدين:149/13، تفسير الصافي 4:83.
6- . تفسير الرازي 24:233.
7- . في النسخة: صنف، و كذا التي بعدها، تصحيف، انظر معجم البلدان 5:247، و تفسير روح البيان 6:390.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:198/1، تفسير الصافي 4:83.

و كان دخول موسى عليه السّلام فيها عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها و في وقت لا يعتاد دخولها فيه. عن ابن عباس: دخلها في الظهيرة عند المقيل (1).

و في رواية اخرى عنه: كان بين العشاءين، كما عن الرضا عليه السّلام (2).

و عن أمير المؤمنين: «دخلها في يوم عيد كان أهلها مشغولين باللهو و اللّعب، و كانت المسالك خالية من المارة (3)فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ و يتنازعان إذا نظر احد إليهما قال هذا الرجل الذي اسمه السامري على قول (4)، أو ندمي على آخر من بني إسرائيل الذين هم مِنْ شِيعَتِهِ و أتباعه في دينه وَ هذا الرجل الآخر من القبط الذين هم مِنْ عَدُوِّهِ و مبغضيه و مخالفيه في دينه. قيل: كان خبّاز فرعون. و قيل: طبّاخه، اسمه فاتون على قول (5)، أو فليقون على آخر، كان يريد أن يسخر الاسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون (6).

فلمّا جاء موسى فَاسْتَغاثَهُ و استنصره الرجل اَلَّذِي كان مِنْ شِيعَتِهِ و تابعيه، و استعان به عَلى دفع اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ القبطي، فقال: موسى: يا قبطي، خلّ الاسرائيلي، و لا تتعرّض له، فلم يعتن به فَوَكَزَهُ مُوسى و ضربه بالكفّ المقبوض ضربة واحدة فَقَضى اللّه لشدّة قوّة موسى عَلَيْهِ بالموت فمات، فندم موسى من فعله الذي كان خلاف الأولى، و قالَ هذا القتل مِنْ عَمَلِ من يعمل بإغواء اَلشَّيْطانِ و وسوسته لا من عمل مثلي إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم مُضِلٌّ له عن طريق صلاحه مُبِينٌ و متظاهر في عداوته و إضلاله.

و انّما كان عمله خلاف الأولى؛ لأنّه لم يؤمر بقتل الكفّار، أو لكونه مأمونا فيهم، فلم يكن له اغتيالهم، و لذا استغفر ربّه و قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل القبطي الذي كان تركه أولى لي (7)فَاغْفِرْ لِي ما صدر منّي من العمل الذي هو بمنزلة الذنب في حقّي فَغَفَرَ اللّه لَهُ ذلك برحمته إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلْغَفُورُ للذنوب العظام فضلا عن ترك الأولى اَلرَّحِيمُ بالتائبين خصوصا موسى عليه السّلام.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 17

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)

ص: 13


1- . تفسير روح البيان 6:390.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:198/1، تفسير الصافي 4:83، و فيهما: بين المغرب و العشاء.
3- . مجمع البيان 7:381 عن ابن عباس.
4- . تفسير روح البيان 6:390.
5- . تفسير روح البيان 6:390.
6- . تفسير روح البيان 6:390.
7- . في النسخة: مني.

قالَ موسى عليه السّلام: رَبِّ اقسم عليك بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من الايمان و العرفان و القوّة و المغفرة لأتوبنّ فَلَنْ أَكُونَ بعد ذلك أبدا ظَهِيراً و معينا لِلْمُجْرِمِينَ و الخاطئين.

روي عن عليّ بن الجهم، قال: كنت في مجلس المأمون، و كان عنده الرضا عليه السّلام فسأله المأمون، و قال: يابن رسول اللّه، أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى هم عليهم السّلام معصومون من الكبائر و الصغائر» قال: ما تقول في قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ؟ قال عليه السّلام: «لمّا دخل موسى في مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها، و كان بين المغرب و العشاء، رأى رجلين يقتتلان، كان أحدهما من قومه و الآخر من قوم فرعون، فوكزه موسى بحكم اللّه، فمات القبطي، فقال موسى: هذا الاقتتال الذي كان بينهما من عمل الشيطان لا ما فعل موسى عليه السّلام من قتل القبطي بوكزه» .

قال المأمون: فما معنى قول موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؟ قال عليه السّلام: «كان مراد موسى مناجاته: ربّ إني وضعت نفسي في غير موضعها، حيث دخلت هذه المدينة، فاسترني ربّي من أعدائي حتى لا يظفروا بي فيقتلونني، فستره اللّه تعالى منهم، ثمّ قال: ربّ بما أنعمت عليّ من كمال القوة بحيث قتلت الرجل بوكزة، فلن أكون ظهيرا للمجرمين، بل أجاهدهم في سبيلك بقوّتي حتى ترضى» (1).

أقول: بعد ثبوت عصمة الأنبياء بحكم العقل و دلالة الآيات و تظافر الروايات، فلا بدّ من حمل أمثال الآيات على غير ظاهرها، و لو كان في غاية البعد لعدم إمكان رفع اليد عن الأدلّة القاطعة بالظهورات و الظنون، و قيل: إنّ المعنى بحقّ إنعامك عليّ و إحسانك إليّ اعصمني فلن أكون معينا لمن تؤدّي معاونته إلى الجرم و القطيعة (2).

عن ابن عباس: أنّه عليه السّلام لم يستثن، فابتلي بالعون مرة اخرى كما سيأتي (3).

أقول: في الآية دلالة واضحة على حرمة إعانة المجرمين و العصاة و الظالمين بما تصدق عليه الإعانة، و لو بالكتابة و بري القلم، و حسن إعانة المؤمنين في أداء التكاليف و سائر حوائجهم، كما يدلّ عليه قوله: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 18

فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

ص: 14


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:195 و 198 و 199/1، الاحتجاج:426 و 428، بحار الأنوار 13:32/6. (2 و 3) . تفسير روح البيان 6:391.
2- . المائدة:5/2.

فَأَصْبَحَ موسى تلك الليلة التي قتل فيها القبطي فِي اَلْمَدِينَةِ و بلدة مصر حال كونه خائِفاً من آل فرعون على نفسه و يَتَرَقَّبُ و يترصّد منهم طلب قوده، و ينتظر القصاص منه، أو الخبر من قبل فرعون في حقّه، فخرج من آل فرعون مستترا و يمشي في المسلك فَإِذَا الرجل الاسرائيلي اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ و استعان منه على دفع القبطي بِالْأَمْسِ و في اليوم السابق يَسْتَصْرِخُهُ و يناديه لينصره على دفع قبطيّ آخر ينازعه، فلمّا سمع موسى عليه السّلام نداء الإسرائيلي قالَ لَهُ مُوسى تضجّرا منه إِنَّكَ يا إسرائيلي و اللّه لَغَوِيٌّ و موقع لي بسبب كثرة نزاعك فيما هو خلاف صلاح الوقت، أو إنّك لكثير المخاصمة التي هي خلاف صلاحك مُبِينٌ و ظاهر منك هذا العمل.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 19 الی 22

فَلَمّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ و يأخذ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما بقوّة و يضربه بشدّة، و رأى القبطيّ استعانة السبطيّ و إرادة موسى بطشه، و قد علم أنّ رجلا أعانه بالأمس على قبطيّ فقتله المعين، فحدس أنّ الرجل هو موسى، أو سمع ذلك من أحد قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي بسبب نزاعي مع السبطيّ كَما قَتَلْتَ من القبط نَفْساً لأجل ذلك بِالْأَمْسِ.

فَلَمّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (21) وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ اَلسَّبِيلِ (22)و قيل: إنّ السبطي لمّا رأى غضبة موسى عليه قال ذلك بتوهّم أنّ موسى أراد أن يبطش به كما في (العيون) حيث قال قال «و هو من شيعته» (1).

ثمّ لامه القائل على المبادرة في القتل و ترك الاصلاح بقوله: إِنْ تُرِيدُ و ما تقصد إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً و ظالما للناس فِي اَلْأَرْضِ و قتّالا للنفوس وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ بين الناس بالقول و الفعل، و دافعي الخصومة من بين المتنازعين بالتي هي أحسن، فلمّا قال القبطي أو

ص: 15


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:199/1، تفسير الصافي 4:84.

الاسرائيلي ذلك، انتشر الحديث في المدينة، و انتهى إلى فرعون،

فهمّوا بقتله وَ إذن جاءَ رَجُلٌ مؤمن من آل فرعون و طائفة القبط يقال له حزقيل أو حزئيل مِنْ قصر فرعون الذي كان في أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ و أخرها.

قيل: كان ابن عمّ فرعون (1)، أو موسى (2)، و هو يَسْعى و يسير سريعا إشفاقا على موسى حتى وصل إليه. ثمّ قالَ نصحا و تخويفا له: يا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ و الأشراف من القبط يَأْتَمِرُونَ بِكَ و يتشاورون بسببك لِيَقْتُلُوكَ قصاصا و عنادا فَاخْرُجْ عاجلا من هذه المدينة تحفّظا على نفسك إِنِّي لَكَ فيما آمرك به من الخروج و الفرار من القوم مِنَ اَلنّاصِحِينَ و الطالبين لخيرك و صلاحك.

القمي قال: و بلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل، فطلبه ليقتله، فبعث المؤمن إلى موسى أنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك (3)فَخَرَجَ موسى مِنْها فورا بلا زاد و راحلة حال كونه خائِفاً على نفسه من القبط و خدم فرعون و يَتَرَقَّبُ و يترصّد لحوق الطالبين له و تعرّضهم إياه في الطريق.

ثمّ التجأ إلى اللّه تعالى، لعلمه بأنّه لا ملجأ له سواه و قالَ رَبِّ نَجِّنِي و خلّصني مِنَ ظلم اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ و احفظني من لحوقهم إياي، و سلّمني من شرّهم.

و في الحديث: يلتفت يمنة و يسرة، و يقول: ربّ نجّني إلى آخره (4).

قيل: و مرّ نحو مدين، و كان بينه و بين مدين مسيرة ثلاثة أيام (5)، و لم تكن في سلطان فرعون وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ و أقبل نحوها، و سلك في طريقها غير قاصد لها (6)، و أخذ يمشي على غير معرفته مسلّما نفسه إلى اللّه، أعلن بتوكّله عليه و قالَ عَسى و أرجو من رَبِّي اللّطيف بي أَنْ يَهْدِيَنِي و يرشدني سَواءَ اَلسَّبِيلِ و وسطه الموصل إلى المقصود و المأمن.

قيل: إنّه عليه السّلام قصد التوجّه إلى بلدة مدين، لأنّه وقع في نفسه أنّ بينه و بين أهل مدين قرابة، لأنّهم كانوا من أولاد مدين بن إبراهيم، و كان هو عليه السّلام من بني إسرائيل، و لم يكن له علم بالطريق، بل اعتمد على فضل اللّه و توكّل عليه في إيصاله إليه (7).

و قيل: إنّ جبرئيل جاءه و علّمه الطريق (8).

و قيل: لمّا أخذ موسى في السير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى عليه السّلام من الفرح، فقال

ص: 16


1- . تفسير البيضاوي 2:189، تفسير روح البيان 6:392.
2- . تفسير الصافي 4:85.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:85.
4- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:85.
5- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:85.
6- . في النسخة: نحوه، و سلك في طريقه غير قاصد له. (7 و 8) . تفسير الرازي 24:238.

الملك: لا تفعل و اتّبعني، فاتّبعه نحو مدين (1).

و قيل: إنّه ذهب نحو مدين حتى وصل إلى ثلاث طرق، فاختار الطريق الوسط، و هو المراد من سواء السبيل، فانه وسطه و معظمه، ثمّ جاء طالبوه فذهبوا إلى الطريقين الآخرين، فلم يجدوه (2).

و قيل: كان حافيا، و لم يكن له طعام إلاّ الورق (3).

قيل: إنّه مشى ثمانية أيام، و جرحت قدماه من المشي، و لم يأكل في الثمانية إلاّ من حشيش الأرض و ورق الأشجار (4).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 23 الی 25

وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ و وصل إلى البئر التي كانت على ثلاثة أميال منها و أهلها يسقون منها وَجَدَ موسى عَلَيْهِ أُمَّةً و جماعة مِنَ اَلنّاسِ يَسْقُونَ منه مواشيهم وَ وَجَدَ أيضا مِنْ دُونِهِمُ و في مكان أسفل منهم اِمْرَأَتَيْنِ إحداهما صفورا، و الاخرى ليا، بنتا يثرون، و يثرون هو شعيب على ما قيل (5)، و هما تَذُودانِ و تمنعان أغنامهما من التقدّم إلى البئر، أو من التفرّق، أو من الاختلاط بأغنام الغير، أو تمنعان أنفسهما من الاختلاط بالرجال، أو وجوههما من نظر الأجانب قالَ موسى لهما: ما خَطْبُكُما و ما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخّر، و ما لكما لا تسقيان أغنامكما؟ قالَتا دأبنا أن لا نَسْقِي أغنامنا حَتّى يُصْدِرَ و يصرف اَلرِّعاءُ و حفّاظ المواشي مواشيهم بعد ريّها تعفّفا و حذرا من مخالطة الرجال، فاذا انصرفوا سقينا أغنامنا من فضل مواشيهم وَ أَبُونا شعيب لا يستطيع أن يباشر سقيها؛ لأنّه شَيْخٌ كَبِيرٌ في السنّ، أو في القدر و الشرف، لذا يرسلنا معها للسقي اضطرارا.

وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتّى يُصْدِرَ اَلرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (25)

ص: 17


1- . تفسير الرازي 24:238.
2- . تفسير البيضاوي 2:190، تفسير أبي السعود 7:8، تفسير روح البيان 6:393.
3- . تفسير أبي السعود 7:8.
4- . تفسير الرازي 24:238.
5- . تفسير روح البيان 6:395.

روي أنّ الرجال كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يرفعه إلاّ سبعة رجال أو عشرة أو أربعون، فقام موسى فرفعه وحده (1)، و سألهم دلوا فأعطوه دلوا لا ينزحها إلاّ عشرة، فاستسقى بها وحده فَسَقى لَهُما أغنامهما و أصدرهما.

القمي: فلمّا بلغ ماء مدين رأى بئرا يستسقي الناس منها لأغنامهم و دوابّهم، فقعد ناحية و لم يكن أكل منذ ثلاثة أيام شيئا، فنظر إلى جاريتين في ناحية و معهما غنمات لا تدنوان من البئر، فقال لهما: ما لكما لا تسقيان؟ فقالتا ما حكى اللّه، فرحمهما موسى عليه السّلام و دنا من البئر، فقال لمن على البئر: أسقي لي دلوا و لكم دلوا، و كان الدلو يمدّه عشرة رجال، فاستقى وحده دلوا لمن على البئر، و دلوا لبنتي شعيب و سقى أغنامهما (2)ثُمَّ تَوَلّى و انصرف إِلَى اَلظِّلِّ من شدة الحرّ و ضعف الجوع فَقالَ يا رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ و لو كان قليلا فَقِيرٌ و محتاج. عن الصادق عليه السّلام: «سأل الطعام» (3).

و في (النهج) : «و اللّه ما سأل اللّه عزّ و جلّ إلاّ خبزا يأكله؛ لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنة لهزاله و تشدّب لحمه» (4).

و روي أنّه قال ذلك و هو محتاج إلى شقّ تمرة (5).

و عن العامة: لمّا كان موسى جائعا سأل من اللّه ما يأكل، و لم يسأل من الناس، ففطنت الجاريتان، فلمّا رجعتا إلى أبيهما قبل الناس و أغنامهما قفلت، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، ثمّ تولى إلى الظلّ. فقال: رَبِّ إلى آخره. فقال أبوهما: هذا رجل جائع. فقال لواحدة منهما: اذهبي فادعيه لنا (6).

القمي قال: فلمّا رجعت ابنتا شعيب إلى شعيب قال لهما: اسرعتما الرجوع؟ فأخبرتاه بقصّة موسى و لم تعرفاه، فقال شعيب لواحدة منهما: أذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (7).

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما و هي الكبرى منهما اسمها صفورا، أو صفورة، أو صفرى، و اسم الصغرى صفيرا، حال كونها تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْياءٍ كما هو عادة الأبكار، أو لكمال إيمانها و شرف عنصرها و كرامة نسبها، ثمّ قالَتْ: أيّها الرجل إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ و يطلب حضورك عنده لِيَجْزِيَكَ و يعطيك أَجْرَ ما

ص: 18


1- . تفسير أبي السعود 7:8، تفسير روح البيان 6:395.
2- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 4:86.
3- . الكافي 6:287/5، تفسير الصافي 4:86.
4- . نهج البلاغة:226 الخطبة 160، تفسير الصافي 4:86.
5- . كمال الدين:150/13، تفسير الصافي 4:86.
6- . تفسير الرازي 24:240، تفسير أبي السعود 7:9.
7- . تفسير القمي 2:138، تفسير الصافي 4:86.

سَقَيْتَ لَنا فأجاب موسى الدعوة شوقا إلى زيارة شعيب، و طلبا لخدمته، لا طمعا في طعامه و أجره، فقام و انطلقا و هي أمامه، فالزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، أو كشفت عن ساقيها، فقال لها: امشي خلفي و انعتي لي الطريق، فتأخرّت و كانت تقول: عن يمينك، أو عن شمالك، أو عن قدّامك.

القمي: فقام موسى معها، و مشت أمامه، فصفقتها الرياح، فبان عجزها، فقال لها موسى تأخّري و دلّيني على الطريق بحصاة تلقيها أمامي اتّبعها، فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء، الخبر (1).

فمشيا حتى اتيا دار شعيب، فبادرت المرأة إلى ابيها فأخبرته، فأذن له في الدخول، و شعيب يومئذ شيخ كبير، و قد كفّ بصره فَلَمّا جاءَهُ موسى سلّم عليه فردّ عليه السّلام و عانقه. ثم أجلسه بين يديه، و قدّم إليه الطعام فامتنع منه، و قال: أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيته، و إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا. فقال شعيب لا و اللّه يا شاب، و لكن هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا، فأكل منه وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ و أخبره بما جرى عليه من ولادته إلى فراره من فرعون و قومه و مجيئه إلى مدين قالَ له شعيب: لا تَخَفْ هنا من فرعون و قومه، فانّك نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ فانّه لا سلطان لهم بأرضنا، و لسنا في مملكة فرعون.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 26 الی 27

فبينما كانا يتكلّمان و يتوانسان و كانت بنتا شعيب حاضرتين إذ قالَتْ إِحْداهُما و هي الكبرى التي جاءت في طلب موسى: يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ لرعي أغنامك و القيام بامورها، فانّ للرجل قوة على العمل و الأمانة في العرض و المال إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ رقبتهم و أفضلهم الأجير اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ.

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ (27)روي أنّ شعيبا قال لها: ما أعلمك بقوته و أمانته؟ فذكرت له ما شاهدت منه من إقلال الحجر عن رأس البئر، و نزح (2)الدلو الكبير، و أنّه خفّض رأسه عند الدعوة و لم ينظر إليها تورّعا حتى بلغت رسالتها، و أنّه أمرها بالمشي خلفه (3).

و القمي-في حديث-: «فقال لها شعيب: أمّا قوّته فقد عرفتها بأنّه يسقي الدلو وحده، فبما عرفت

ص: 19


1- . تفسير القمي 2:138، تفسير الصافي 4:86.
2- . في تفسير أبي السعود و تفسير روح البيان: نزع.
3- . تفسير البيضاوي 2:191، تفسير أبي السعود 7:10، تفسير روح البيان 6:397.

أمانته؟ فقالت: إنّه لمّا قال لي تأخرّي عنّي و دلّيني على الطريق فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء، عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون في أعجاز النساء، فهذه أمانته (1).

و عن الكاظم عليه السّلام. قال «قال لها شعيب: يا بنية هذا قوّي قد عرفته برفع الصخرة، من أين عرفته أنّه أمين؟ قالت: يا أبت إنّي مشيت قدّامه فقال: امشي خلفي، فان ضللت فارشديني إلى الطريق، فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء» (2)

إذن قالَ شعيب: يا موسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ و أزوّجك إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ اللتين عندك عَلى شرط، و هو أَنْ تَأْجُرَنِي و تعمل لي بالأجر ثَمانِيَ حِجَجٍ و سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ السنين عَشْراً في الخدمة و العمل فَمِنْ عِنْدِكَ إتمامها و بتفضّلك إكمالها، لا الزام من عندي عليك وَ ما أُرِيدُ من استئجارك أَنْ أَشُقَّ و أصعّب الأمر عَلَيْكَ و تحميلك ما تتعب فيه، بل اريد أن اساهلك و اسامحك.

قيل: رأى شعيب بنور النبوة أنّ موسى يبلغ إلى درجة النبوة في ثماني سنين، و في الأزيد إلى العشر كمال الكمال (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 27 الی 29

ثمّ رغّبه في القبول بقوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ و الطالبين لخيرك، و المحسنين إليك في هذه المعاملة بلين الجانب، و الوفاء بالعهد، و المداراة في القول و العمل، و غير ذلك ممّا يوجب راحتك و تيسير العمل عليك

قالَ موسى: ذلِكَ العهد الذي عاهدتني عليه ثابت بَيْنِي وَ بَيْنَكَ جميعا لا اخالفه و لا تخالفه أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ الذين ذكرت من القصير و الطويل قَضَيْتُ و فيت بأداء الخدمة فيه فَلا عُدْوانَ و تجاوز عَلَيَّ من قبلك بمطالبة الزيادة، أو لا إثم عليّ في قضاء الأقصر، و لا إلزام عليّ بالعمل بالأكثر وَ اَللّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشرط المقرر فينا وَكِيلٌ و شاهد و حفيظ.

قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اَللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمّا قَضى مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)قيل: فجمع شعيب مؤمني مدين و زوّجه ابنته صفورا، و دخل موسى بيت شعيب، و أقام برعي

ص: 20


1- . تفسير القمي 2:138، تفسير الصافي 4:87.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:12/7، تفسير الصافي 4:87.
3- . تفسير روح البيان 6:398.

أغنامه عشر سنين (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أي الأجلين قضى؟ قال: «أوفاهما و أبطأهما» (2).

و في رواية: «و إن سألت أي الابنتين تزوّج؟ فقل الصغرى منهما، و هي التي جاءت و قالت: يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ (3).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل أيّتهما التي قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ؟ قال: «التي تزوّج بها» قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: «أوفاهما و أبعدهما عشر سنين» قيل: فدخل بها قبل أن ينقضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: «قبل أن ينقضي» قيل: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين، أيجوز ذلك؟ قال: «إن موسى علم أنّه سيتمّ شرطه» قيل: كيف؟ قال: «علم أنّه سيبقى حتى يفي» (2).

و في (الكافي و (الفقيه) عن الصادق عليه السّلام: «أنّ عليا قال: لا يحلّ النكاح اليوم في الاسلام بإجارة بأن يقول أعمل عندك كذا و كذا سنة على أن تزوّجني اختك أو ابنتك. قال: هو حرام لأنّه ثمن رقبتها، و هي أحقّ بمهرها» (3).

قال في (الفقيه) : و في حديث آخر: «إنّما كان لموسى عليه السّلام لأنّه علم من طريق الوحي هل يموت قبل الوفاء أم لا، فوفى بأتمّ الأجلين» (4).

أقول: لا إشكال في بطلان المهر إذا كان العمل لغير المرأة، و ظاهر الآية أن إجارة موسى عليه السّلام كانت باجرة على ذمّة شعيب، و إنّما كان قبول موسى لهذه الإجارة من شرط شعيب عليه السّلام على موسى عليه السّلام في إنكاحه ابنته بمهر معين، و لم يكن عمل موسى عليه السّلام لشعيب عليه السّلام مهرا لابنته نعم هو من الشروط الابتدائية التي لم يجب الوفاء به على المشهور.

و في (الاكمال) : أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة، و خرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى، فقالت: أنا أحقّ بالأمر منك، فقاتلها و قتل مقاتليها، و أحسن أسرها (5).

و روي أنّه لمّا أتمّ العقد قال شعيب لموسى: ادخل ذلك البيت، فخذ عصا من تلك العصيّ، و كانت عنده عصيّ الأنبياء، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة و لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى

ص: 21


1- . تفسير روح البيان 6:399. (2 و 3) . مجمع البيان 7:87، تفسير الصافي 4:391.
2- . مجمع البيان 7:390، تفسير الصافي 4:87.
3- . الكافي 5:414/2، من لا يحضره الفقيه 3:298/1271.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:298/1272، تفسير الصافي 4:88.
5- . كمال الدين:27، تفسير الصافي 4:88.

شعيب عليه السّلام فمسّها و كان مكفوفا، فلم يرضها له خوفا من أن لا يكون أهلا لها (1)، و قال: غيرها، فلا يقع في يده إلاّ هي سبع مرات، فعلم أنّ لموسى شانا، و حين خرج للرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطّرق فلا تأخذ عن يمينك، فانّ الكلأ بها أكثر، إلاّ أن فيها تنينا (2)أخشى منه عليك و على الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين، و لم يقدر على كفّها، و مشى على أثرها، فاذا عشب و ريف لم ير مثله، فنام فاذا بالتنّين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، و عادت إلى جنب موسى دامية، فلمّا أبصرها دامية و التنّين مقتولا سرّ (3)، و لمّا رجع إلى شعيب أخبره بالشأن، ففرح شعيب و علم أن لموسى شأنا، و قال: إنّي وهبت [لك]من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع (4)و درعاء، فأوحى اللّه إليه في المنام: أن اضرب بعصاك الماء الذي هو في مستسقى الأغنام ففعل، ثمّ سقى، فما أخطأت واحدة إلاّ وضعت أدرع و درعاء، فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه اللّه إلى موسى و امرأته، فوفّى له بالشرط، و سلّم إليه الأغنام (5).

فَلَمّا قَضى و أتمّ مُوسَى ذلك اَلْأَجَلَ المشروط بينهما، و فرغ من خدمة عشر سنين عزم على الرجوع إلى مصر.

قيل: فبكى شعيب، و قال: يا موسى، كيف تخرج عني و قد ضعفت و كبرت؟ فقال له: قد طالت غيبتي عن امّي و خالتي و أخي هارون و اختي في مملكة فرعون. فقام شعيب و بسط يده و قال: يا ربّ بحرمة إبراهيم الخليل، و إسماعيل الذبيح، و إسحاق الصفيّ، و يعقوب الكظيم، و يوسف الصدّيق، ردّ قوّتي و بصري، فأمّن موسى على دعائه، فردّ اللّه عليه بصره و قوّته. ثمّ أوصاه بابنته (6).

و في حديث القمي: أنّه قال لشعيب: لا بدّ لي أن أرجع إلى وطني و امّي، فما لي عندك؟ فقال شعيب: ما وضعت أغنامي في هذه السنة من غنم أبلق فهو لك فعمد موسى عند ما أراد أن يرسل الفحل على الغنم إلى عصاه فقشر منه بعضه و ترك بعضه، و غرزه في وسط مربض الغنم، و ألقى عليه كساء أبلق، ثمّ أرسل الفحل على الغنم، فلم تضع الغنم في تلك السنة إلاّ بلقا، فلمّا جاء عليه الحول حمل موسى امرأته، و زوّده شعيب من عنده، و ساق غنمه، فلمّا أراد الخروج قال لشعيب: آتني عصا تكون معي، و كانت عصيّ الأنبياء عنده قد ورثها مجموعة في بيت، فقال له شعيب: ادخل هذا البيت و خذ عصا من بين العصيّ، فدخل فوثبت إليه عصا نوح و إبراهيم، و صارت في كفّه، فأخرجها، فنظر

ص: 22


1- . في النسخة: أهلها.
2- . التنّين: حيوان اسطوري يجمع بين الزواحف و الطير، و يقال: له مخالب أسد و أجنحة نسر، و ذنب أفعى.
3- . في النسخة: شكر.
4- . الأدرع: ما سود رأسه و بيض سائره.
5- . تفسير روح البيان 6:399.
6- . تفسير روح البيان 6:400.

إليها شعيب، فقال: ردّها و خذ غيرها، فوثبت إليه تلك بعينها فردّها، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلمّا رأى شعيب ذلك، قال له: اذهب، فقد خصّك اللّه عزّ و جلّ بها (1). فأخذ العصا وَ سارَ موسى بِأَهْلِهِ و زوجته صفوراء و ولده بإذن شعيب إلى مصر، فانحرف من خوف ملوك الشام عن الطريق، و أخذ في السير بالبادية حتى جنّهم الليل، و اشتدّ البرد، و انقلب الهواء، و أخطأ الطريق (2)، و جاءت الرياح العاصفة، و تفرّقت أغنامه، و أخذ زوجته الطلّق و هي حامل، إذن آنَسَ و رأى مِنْ جانِبِ جبل اَلطُّورِ و من الجهة التي تليه ناراً ذات اشتغال قالَ لِأَهْلِهِ و المتعلّقين به: اُمْكُثُوا وقفوا هنا إِنِّي آنَسْتُ و رأيت من البعيد ناراً و أنا أذهب وحدي إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها و ممنّ حولها بِخَبَرٍ و دلالة على الطريق أَوْ جَذْوَةٍ و قطعة أوعود غليظ في رأسه شيء مِنَ اَلنّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و بحرارتها تدفأون.

و عن الباقر عليه السّلام: «سار بأهله نحو بيت المقدس فأخطأ الطريق ليلا، فرأى نارا قال لأهله: اُمْكُثُوا الآية» (3).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 30 الی 31

فترك أهله في البريّة و ذهب في طلب النار فَلَمّا أَتاها و بلغ عندها نُودِيَ و خوطب بصوت عال مِنْ شاطِئِ و شفير اَلْوادِ الذي في الجانب اَلْأَيْمَنِ من موسى فِي البقعة و القطعة اَلْمُبارَكَةِ الكثيرة الخير من الأرض، و كان النداء مِنَ اَلشَّجَرَةِ الزيتونة، أو السدرة، أو السّمرة، أو العنّاب، أو العوسج.

فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اَلْوادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ (31)و في الحديث: «أنّها شجرة اليهود و لا تنطق» (4).

قيل في تفسيره: إذا نزل عيسى و قتل اليهود، فلا يختفى أحد منهم تحت شجرة إلاّ نطقت، و قالت يا مسلم، هذا يهوديّ فاقتله إلاّ شجر الغرقد (5)، فانّه لا ينطق (6).

و كان أوّل كلامه تعالى: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللّهُ الذي اناديك و أدعوك باسمك، و أنا رَبُّ اَلْعالَمِينَ* وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك على الأرض، فألقاها بلا ريث، فصارت ثعبانا فَلَمّا رَآها

ص: 23


1- . تفسير القمي 2:139، تفسير الصافي 4:88.
2- . في النسخة: عن الطريق.
3- . مجمع البيان 7:391، تفسير الصافي 4:89.
4- . تفسير روح البيان 6:401.
5- . الغرقد: شجر عظام، و قيل هي العوسج إذا عظم.
6- . تفسير روح البيان 6:401.

تَهْتَزُّ و تتحرّك بسرعة كَأَنَّها جَانٌّ وحيّة صغيرة في سرعة السير وَلّى و رجع مُدْبِراً له من شدّة الخوف، و فرّ إلى الجهة التي جاء منها وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يلو رأسه إلى خلفه.

قيل: إنّها لم تدع شجرة و لا صخرة إلاّ ابتلعها حتى سمع موسى صرير أسنانها، و سمع قعقعة الصخر في جوفها، فحينئذ ولّى مدبرا (1)، فنودي: يا مُوسى أَقْبِلْ و ارجع إلى مكانك الذي كنت فيه من الطور وَ لا تَخَفْ من هذا الثعبان إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ من جميع المخاوف فاطمأنّ قلبه الشريف، و مدّ يده إلى الثعبان، فأخذه و جرّه إلى نفسه، فصار عصا.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 32 الی 35

ثمّ نودي أن أَسْئَلَكَ و ادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ منه حال كونها بَيْضاءَ مشرقة مِنْ غَيْرِ سُوءٍ و عيب و برص وَ اُضْمُمْ و اجمع إِلَيْكَ جَناحَكَ و يديك بإدخال إحداهما تحت الاخرى، أو بادخالهما في جيبك، أو بوضعهما إلى صدرك حتى تسكن مِنَ اَلرَّهْبِ و الخوف.

اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغالِبُونَ (35)قيل: إنّه من معاينة الثعبان فزع و اضطرب، فاتّقاه بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقال تعالى له: ما فعلته فيه غضاضة عند العدوّ، فاذا رأيت الثعبان أدخل يدك (2)تحت إبطيك (3)، ثمّ أخرجها (4)بيضاء، لتظهر لك معجزتان فَذانِكَ الأمران من انقلاب العصا ثعبانا و اليد البيضاء بُرْهانانِ و حجّتان نيّرتان مِنْ قبل رَبِّكَ على صدق رسالتك إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ أو مرسلان أو منتهيان إليهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن الحدّ في الظلم و الطّغيان

قالَ موسى رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قصاصا وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ و أطلق مِنِّي لِساناً و أبين منطقا فَأَرْسِلْهُ و أشركه مَعِي في الدعوة ليكون رِدْءاً و عونا لي يُصَدِّقُنِي و يساعدني في تقرير الحجّة و إبطال شبهه القوم إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ في دعوى رسالتي، و لا يطاوعني

ص: 24


1- . تفسير الرازي 24:246.
2- . في النسخة: يديك.
3- . تفسير الرازي 24:247.
4- . في النسخة: اخرجهما.

لساني في إلزامهم بحجّتي.

قالَ تعالى إجابة له: سَنَشُدُّ و سنحكم عَضُدَكَ و نقوّي قلبك بِأَخِيكَ هارون وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً و استيلاء على معارضيكما.

عن الصادق عليه السّلام «هيبته في قلوب الأعداء، و حجتّه في قلوب الاولياء» (1).

فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بقتل و إساءة، أو باستيلاء و محاجّة، و تكون سلطنتكما، و عدم وصوله إليكما بِآياتِنا و المعجزات التي أعطيناكما أَنْتُما وَ مَنِ آمن بكما و اِتَّبَعَكُمَا في دينكما هم اَلْغالِبُونَ على فرعون و قومه بالحجّة أولا و بالدولة آخرا.

قيل: لمّا تمت مناجات موسى ربه ذهب من مكانه إلى مصر، و لم يرجع إلى أهله، فبقي أهله و أولاده و أغنامه في الوادي بين مصر و مدين ثلاثين يوما حتى مرّ بهم راع من أهل مدين، فعرف بنت شعيب، و هي باكية حزينة من الوحدة و فراق موسى فسألها عن حالها، فردّهم إلى مدين (2).

و قيل: إنّه رجع إليهم في تلك الليلة فسألته امراته، و قالت: هل أتيت بالنار؟ قال: جئت بالنور حيث أعطاني اللّه الرسالة. ثمّ توجّه هو بأهله إلى مصر، فوصلوا إلى باب البلد أول الليل، و جاء إلى باب بيت أبيه، و فيه امّه و اخته و أخوه هارون، و كانوا يأكلون العشاء فقال: يا أهل البيت، أنا غريب لا مأوى لي في بلدكم، فهل تأذنون لي أن أبيت في داركم هذه الليلة؟ فقالت امّه لهارون: ائذن له حتى يستريح هذه الليلة، لعلّ اللّه أن يرحم بذلك ابني (3)موسى، فأدخله هارون، و وضع عنده الطعام، و كانوا لا يعرفونه، فلمّا اشتغل معهم بالكلام عرفته امّه، و ضمّته إلى صدرها و بكت، ثمّ قال لهارون: إنّ اللّه اصطفاني بالرسالة، و جعلك لي ردءا، و أمرنا أن نذهب إلى فرعون و ندعوه إلى طاعة اللّه، فقال هارون: سمعا و طاعة، فقالت امّهما: أخاف أن يقتلكما، فانّه طاغ جبار. قال موسى: إنّ اللّه أمرنا بذلك، و هو يحفظنا، فجاءا في تلك الساعة، أو في اليوم الثاني إلى باب فرعون، و قالا للبوّابين: استاذنوا لنا بالدخول على فرعون، فإنا رسول اللّه إليه و إلى قومه، فاستأذنوا، فلم يأذن إلى سنة (4).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 36 الی 38

فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ (36) وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ اَلدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (38)

ص: 25


1- . تفسير روح البيان 6:404.
2- . تفسير روح البيان 6:405.
3- . في النسخة: على ابني.
4- . تفسير روح البيان 6:405.

ثمّ أذن لهما بالدخول، و هو جالس على سريره، و حوله أشراف مملكته فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا و معجزاتنا حال كونها بَيِّناتٍ و واضحة الدلالات على صدقهما في الرسالة قالُوا يا موسى ما هذا الذي جئت به من العصا واليد البيضاء و غيرهما من خوارق العادات إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً على اللّه، و كذب نسبته إليه من أنّه معجزة أجراها اللّه بيدك وَ ما سَمِعْنا بهذا السحر، أو بِهذا الذي تقول من التوحيد و الرسالة فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ و أسلافنا الاقدمين

وَ قالَ مُوسى لمّا رأى منهم العناد و اللّجاج: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى و دين الحق، و أرشد إلى الطريق إليه مِنْ عِنْدِهِ و من قبله، و من قال بالضلال و الباطل منّا و منكم فيعامل كلا بما يستحقّه وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ هذه اَلدّارِ الفانية، و هي الجنة و النّعم الدائمة و الراحة الأبدية التي هي أحسن العواقب و أحمدها.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بإهلاكها بالكفر و العناد للحقّ و تكذيب الرسل، و لا يفوزون بخير، و لا ينجون من عذاب.

ثمّ قيل: إنّه لمّا آل الأمر إلى إحضار السّحرة و معارضتهم موسى عليه السّلام بالسحر، جمع السحرة (1)وَ قالَ فِرْعَوْنُ بعد حضورهم و اجتماع الناس في الموعد: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و معبود غَيْرِي في الأرض، فمن يدّعي ذلك فعليه إثباته بالحجّة القاطعة و البراهين الواضحة.

روي أنه كان بين هذه الكلمة و بين قوله: أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى أربعين سنة (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 38 الی 40

ثمّ لمّا كان نفي الحجّة العقلية على إثبات صانع للعالم غير تأثيرات الأفلاك و الكواكب ملازما لحصر طريق العلم بالمشاهدة، قال تمويها على الناس، أو حمقا و جهلالة، أو تهكّما لوزيره فَأَوْقِدْ لِي و اشعل النار يا هامانُ عَلَى اَلطِّينِ و اطبخ الآجرّ قيل: إنّه أول من عمله (1)فَاجْعَلْ لِي و ابن منه صَرْحاً و قصرا رفيعا أعلو عليه لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى و اشاهده، إنّه كما يقول وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ في ادّعائه أنّ له إلها في السماء.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (38) وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ (40)قيل: إنّه لمّا أمر ببناء الصّرح، جمع هامان العمّال حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع

ص: 26


1- . تفسير البيضاوي 2:193، تفسير روح البيان 6:406.

و الاجراء، و أمر بطبخ الآجرّ و الجصّ و نجر الخشب و ضرب المسامير، فشيّدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق (1).

قيل: كان ملاط القصر خبث (2)القوارير، و كان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الريح، و كان طوله خمسة آلاف ذراع، و عرضه ثلاثة آلاف ذراع (3).

فلمّا تمّ بناء الصّرح علاه فرعون ظانا أنّه يصير أقرب إلى السماء بحيث يمكنه رؤية ما فيها، فلمّا نظر بعد ارتقائه فوقه إلى السماء رآها كما رآها من فوق الأرض، فانفعل و رمى بنشابة نحو السماء، فأراد اللّه أن يفتنهم فردّت إليه و هي ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى، فعند ذلك بعث اللّه جبرئيل لهدمه وقت غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاثة قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، و قطعة وقعت في البحر، و قطعة في المغرب، فلم يبق أحد من عمّاله إلاّ و قد هلك (4).

و روى القمي-في حديث- «فبنى له هامان في الهواء صرحا حتى بلغ في الهواء مكانا لا يتمكن الانسان أن يقوم عليه من الرياح العاصفة، فقال لفرعون: لا نقدر أن نزيد على هذا، فبعث اللّه عز و جل رياحا فرمت به، فاتّخذ فرعون و هامان عند ذلك التابوت، و عمدا إلى أربعة أنسر، فأخذا افراخها و ربيّاها: حتى إذا بلغت القوّة و كبرت، عمدا إلى جوانب التابوت الأربعة، فغرزا في كلّ جانب منه خشبة، و جعلا على رأس كلّ خشبة لحما، و جوّعا الأنسر، و شدّا أرجلها بأصل الخشبة، فنظرت الأنسر إلى اللّحم، فأهوت إليه، فصفّقت بأجنحتها، و ارتفعت بها في الهواء، و أقبلت تطير يومها. فقال فرعون لهامان: انظر إلى السماء هل بلغناها؟ فنظر هامان فقال: أرى السماء كما كنت أراها من الأرض في البعد. فقال: انظر إلى الأرض. فقال: لا أرى الارض، و لكن أرى البحار و الماء.

قال: فلم تزل الأنسر (5)ترتفع حتى غابت الشمس، و غابت عنهما البحار و الماء، فقال فرعون: يا هامان انظر إلى السماء، فنظر إليها، فقال: أراها كما كنت أراها من الأرض، فلمّا جنّهم الليل نظر هامان إلى السماء، فقال فرعون: هل بلغناها؟ قال: أرى الكواكب كما كنت أراها في الأرض، و لست أرى من الأرض إلاّ ظلمة.

ثمّ حالت الرياح العائمة في الهواء، فانقلب (6)التابوت بهما، فلم يزل يهوي بهما حتى وقع على

ص: 27


1- . تفسير الرازي 24:253.
2- . الخبث: ما ينفيه الكبر من الحديد و نحوه عند إحمائه و طرقه.
3- . تفسير روح البيان 6:406.
4- . تفسير الرازي 24:253.
5- . في النسخة: النسر.
6- . في النسخة و تفسيري القمي و الصافي: فاقبلت.

الأرض، و كان فرعون أشدّ ما كان عتوّا في ذلك الوقت (1).

و قيل: إنّه لم يبن الصّرح، لغاية البعد من العاقل أن يتوهّم أنّ بصعود الصّرح يقرب إلى السماء مع وضوح أنّ من علا على الجبال الشامخة يرى السماء كما كان يراها من الأرض، و هكذا الكلام فيما نقل من رمي السّهم إلى السماء و رجوعه متلطّخا بالدم، فانّ العاقل يعلم أنّه لا يمكنه إيصال السّهم إلى السماء، و من اعتقد ذلك عدّ من المجانين (2).

فلا بدّ من حمل أمره ببناء الصّرح على إرادة إيهام البناء، و لم يبن، أو على إرادة التهكّم كأنّه قال: لا سبيل إلى إثبات وجود إله السماء إلاّ بالدليل أو بالحسّ، و لا دليل عليه، فانّ التغيّر في العالم يمكن أن يكون بحركات الأفلاك و الكواكب، و لا يمكن الإحساس إلاّ بالصعود إلى السماء، و ذلك لا سبيل إليه، ثمّ قال لهامان تهكّما: ابن لي صرحا، ثمّ رتّب على المقدّمتين قوله: إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكاذِبِينَ.

وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ و تعظّموا عن الايمان بموسى و الانقياد للحقّ في المصر و ما يليه بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بلا استحقاق، و لم يخافوا عذابه و نكالا حيث توهّموا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ بعد الموت إِلَيْنا و إلى حكمنا لا يُرْجَعُونَ لجزاء أعمالهم و تكبّرهم و عنادهم

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ بالعذاب بعد ما بلغوا من الكفر و الطغيان النهاية أخذ عزيز مقتدر فَنَبَذْناهُمْ و ألقيناهم فِي اَلْيَمِّ و بحر القلزم (3)، و عاقبناهم بالإغراق، و في تشبيههم بالحصاة المقبوضة بالكفّ المنبوذة في الماء غاية تعظيم الأخذ و تحقير المأخوذ بعد الاخبار بتكبّرهم و تعظّمهم.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ أمر اللّه سبحانه بالاعتبار بحالهم و بالغ في بيان عاقبتهم بقوله: فَانْظُرْ يا محمد بعين قلبك، أو أيّها العاقل كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ و مآل كفرهم و طغيانهم في الدنيا

وَ جَعَلْناهُمْ بالحرمان من ألطافنا و إيكالهم إلى أنفسهم أَئِمَّةً و قدوة لأهل الضلال حيث إنّهم كانوا يَدْعُونَ النّاس إلى الكفر و تكذيب الرسل المؤدّي إِلَى اَلنّارِ و عذاب دار القرار وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ينزل عليهم العذاب الشديد، و هم لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم يُنْصَرُونَ من قبل غيرهم بدفع العذاب

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ اَلدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ (42)

ص: 28


1- . تفسير القمى 2:140، تفسير الصافي 4:90.
2- . تفسير الرازي 24:253.
3- . أي البحر الأحمر.

عنهم بالشفاعة و العناية، كما ينصر الأئمّة الدّعاة إلى الجنة.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الأئمّة في كتاب اللّه إمامان، قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (1)، لا بأمر الناس: يقدّمون أمر اللّه قبل أمرهم، و حكم اللّه قبل حكمهم. قال: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ يقدمون أمرهم قبل أمر اللّه، و حكمهم قبل حكم اللّه، و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللّه» (2).

وَ أَتْبَعْناهُمْ، و ألحقناهم فِي هذِهِ اَلدُّنْيا إلى يوم القيامة لَعْنَةً من ساحة الرحمة و بعدا من كلّ خير، أو الدعاء باللعن و الطرد من الناس و الملائكة وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ هُمْ بالخصوص مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ و المبعدين من الجنة و النّعم الدائمة.

و عن ابن عباس: من المشوّهين (3)لسواد الوجه و زرقة العين (4).

قيل: إنّ اللّه يقبّح صورهم و يقبّح عملهم، و يجمع لهم بين الفضيحتين (5)، فصارت قبّاحة عقائدهم و أعمالهم مودّية إلى هذه القباحة التي لا قباحة فوقها.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ بيّن سبحانه كمال تفضّله على موسى مضافا إلى ما سبق بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ المعهود مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى و الامم الماضية بالعذاب، كقوم نوح و عاد و ثمود و أضرابهم، حال كونه أو ليكون بَصائِرَ لِلنّاسِ و أنوارا يبصر بها الدين و طريق الخير وَ هُدىً و رشادا إلى الحقّ و الشرائع وَ رَحْمَةً و نعمة على من تمسّك به، و التزم بالعمل بما فيه بتكميل النفوس و إعدادهم للفيوضات لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يتّعظون بما فيه.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى بَصائِرَ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (44)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الإخبار بمناجاة موسى و سائر قضاياه إنّما هو بالوحي بقوله: وَ ما كُنْتَ حاضرا بِجانِبِ اَلْغَرْبِيِّ من جبل طور الذي كان فيه مناجاة موسى ربّه إِذْ قَضَيْنا و عهدنا إِلى مُوسَى اَلْأَمْرَ العظيم الشأن، و هو الرسالة وَ في فرضه ما كُنْتَ مِنَ اَلشّاهِدِينَ للوحي و المناجاة حتى تخبر الناس بها عن حضور و مشاهدة، و ما كنت تاليا للكتب، و متعلّما من العلماء،

ص: 29


1- . الأنبياء:21/73.
2- . الكافي 1:168/2، تفسير الصافي 4:91.
3- . في تفسير الرازي: المشئومين. (4 و 5) . تفسير الرازي 24:255.

فلا بدّ من كون إخبارك بها عن الوحي.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ قرّر ذلك بقوله: وَ لكِنّا أَنْشَأْنا و خلقنا قُرُوناً كثيرة بعد موسى إلى زمانك فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ و تمادت عليهم مدد حياتهم، فتغيرت الشرائع، و حرّقت الكتب، و اندرست العلوم، و عميت الأنباء وَ ما كُنْتَ ثاوِياً و مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كما كان شعيب و موسى مقيمين فيهم تَتْلُوا و تقرأ عَلَيْهِمُ و تتعلّم منهم، أو أنت تتلو على أهل مكة آياتِنا الدالة على قصصهم و ما جرى بين موسى و شعيب وَ لكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ إيّاك و موحين إليك تلك الآيات و نظائرها لتكون معجزة لك و عبرة لقومك

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ الايمن إِذْ نادَيْنا موسى إنّي أنا اللّه ربّ العالمين وَ لكِنْ أرسلناك بالقرآن الذي فيه جميع العلوم و كثير من المغيبات ليكون رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و تفضّلا عليك و على امّتك و لِتُنْذِرَ به قَوْماً و امّيين ما أَتاهُمْ و ما أرسل فيهم أحد مِنْ نَذِيرٍ و رسول منهم مِنْ قَبْلِكَ مع تمامية الحجة عليهم ببعث الأنبياء الكثيرة في بني إسرائيل و غيرهم من الامم.

وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (45) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)قيل: إنّه كانت حجج الأنبياء قائمة عليهم، و لكن ما بعث إليهم من تجدّد تلك الحجج عليهم (1)، فبعث نبينا فيهم لذلك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يتنبّهون و يتعّظون، أو يهتدون إلى الحقّ.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: «كتب اللّه كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، ثمّ وضعه على العرش ثمّ نادى: يا امّة محمّد، إنّ رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، و غفرت لكم قبل أن تستغفروني، من يلقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله، أدخلته الجنّة» (2).

و عن ابن عباس: يعني إذ نادينا امّتك في اصلاب آبائهم: يا امّة محمد، أجبتكم قبل أن تدعوني، و أعطيتكم قبل أن تسألوني، و غفرت لكم قبل أن تستغفروني، و إنّما قال اللّه ذلك حين أختيار موسى

ص: 30


1- . تفسير الرازي 24:258.
2- . تفسير الرازي 24:257، تفسير روح البيان 6:410.

سبعين رجلا لميقات ربّه (1).

و عن وهب، قال: لمّا ذكر اللّه لموسى فضل امّة محمّد قال: ربّ أرينهم. قال: إنّك لن تدركهم، و إن شئت أسمعتك أصواتهم؟ قال: بلى يا رب. فقال سبحانه: يا امّة محمّد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، فأسمعه اللّه أصواتهم، ثمّ قال: أجبتكم قبل أن تدعوني. . . إلى آخر ما قال ابن عباس (2).

و في (العيون) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا بعث اللّه عزّ و جلّ موسى بن عمران، و اصطفاه نجيا، و فلق له البحر، و نجّى بني إسرائيل، و أعطاه التوراة و الألواح، رأى مكانه من ربّه عزّ و جلّ، فقال: ربّ لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا من قبلي. فقال اللّه جل جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ محمّدا أكرم عندي من جميع خلقي؟

فقال موسى: يا ربّ، إن كان محمّد أكرم عندك من جميع خلقك، فهل آل نبي أكرم عندك من آلي؟ فقال اللّه: يا موسى، أما علمت أنّ فضل آل محمد آل النبيين كفضل محمّد على جميع المرسلين؟

فقال موسى: يا رب، فان كان آل محمد كذلك، فهل في امم الأنبياء أفضل عندك من امّتي؛ ظلّلت عليهم الغمام، و أنزلت عليهم المنّ و السّلوى، و فلقت لهم البحر؟ فقال اللّه جلّ جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ فضل امّة محمّد على جميع الامم، كفضله على جميع خلقي.

قال موسى: يا ربّ، ليتني كنت أراهم. فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: يا موسى، لن تراهم، و ليس هذا أوان ظهورهم، و لكن تراهم في الجنان و الفردوس بحضرة محمد في نعيمها يتقلّبون، و في خيراتها يتبحبحون، أفتحبّ أن اسمعك كلامهم؟ قال: نعم إلهي. قال جلّ جلاله قم بين يدي، و اشدد مئزرك، قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل. ففعل ذلك فنادى ربّنا عزّ و جلّ: يا امّة محمّد، فأجابوه كلّهم و هم في أصلاب آبائهم و أرحام امهاتهم: لبيك اللهمّ لبيك، لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد و النّعمة و الملك لك، لا شريك لك. قال: فجعل اللّه عزّ و جلّ تلك الإجابة شعار الحاجّ.

ثمّ نادى ربّنا عزّ و جلّ: يا امّة محمّد، إنّ قضائي عليكم إنّ رحمتي سبقت غضبي، و عفوي قبل عقابي، فقد استجبت لكم قبل أن تدعوني، و أعطيتكم قبل أن تسألوني، من يلقيني بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمدا عبده و رسوله، صادق في أقواله، محقّ في أفعاله، و أنّ علي بن أبي طالب أخوه و وصيه من بعده و وليه، يلتزم طاعته كما يلتزم طاعة محمد، و أن أولاده المصطفين الطاهرين المطهّرين المعانين بعجائب آيات اللّه و دلائل حجج اللّه من بعدهما أولياءه، ادخله جنتّي و إن كانت ذنوبه مثل زبد البحر.

ص: 31


1- . تفسير الرازي 24:257.
2- . تفسير الرازي 24:257.

قال: فلمّا بعث اللّه عزّ و جلّ محمدا قال: يا محمد، و ما كنت بجانب الطّور إذ نادينا امتك بهذه الكرامة» الخبر (1).

قيل: إنّ اللّه ذكر عدم حضور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الجانب الغربي إذ قضى إلى موسى الأمر، و هو إنزال التوراة، حتى تكامل دينه، و كونه في أول الأمر في أهل مدين، و كونه في الطّور ليلة المناجاة؛ لأنّ كلّها أحوال عظيمة و إنّما عرفها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للرحمة، [ثمّ]فسّر الرحمة بقوله: لِتُنْذِرَ إلى آخره (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ بيّن سبحانه حكمة بعثه في المشركين بقوله: وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ و عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي فَيَقُولُوا اعتراضا و احتجاجا علينا يوم القيامة رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا و لم لم تبعث فينا رَسُولاً من قبلك يتلو علينا آياتك، و يتمّ علينا حجّتك، و يهدينا سبيلك؟ فَنَتَّبِعَ آياتِكَ و نهتدي بهدايتك وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بتوحيدك و بما أنزلت من الآيات و الأحكام، ما أرسلناك إليهم، فلم تكن حكمة إرسالك فيهم إلاّ قطع حجّتهم، و سدّ باب اعتذارهم، و إتمام الحجّة عليهم.

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)

ثمّ بيّن سبحانه غاية شقاوتهم بأنّهم قوم إذا لم نبعث إليهم الرسول اعترضوا علينا، و إذا بعثنا الرسول اعترضوا عليه بأنّه لم لم يأت بمعجزة اقترحوها عليه بقوله: فَلَمّا جاءَهُمُ محمد بالرسالة التي هي اَلْحَقُّ و عين الصدق مِنْ عِنْدِنا و بأمرنا بالمعجزات الباهرات قالُوا تعنّتا و اقتراحا عليه و علينا: لَوْ لا أُوتِيَ محمد من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى بن عمران من الآيات التسع و الكتاب المنزل جملة واحدة مع أنّ الواجب على اللّه أن يعطي الرسول معجزة تدلّ على صدقه، و لا يجب أن تكون معجزات الأنبياء واحدة، بل لا يجوز ذلك للحكمة البالغة.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 48 الی 50

فَلَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (50)

ص: 32


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:283/30، تفسير الصافي 4:92.
2- . تفسير الرازي 24:258.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع بطلان اعتراضهم ليس غرضهم إلاّ التعنّت و اللّجاج بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا و أضراب هؤلاء المتعنّتين من اليهود، أو اليهود الآمرين لهؤلاء المشركين بالسؤال بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ و في الزمان الذي أظهر موسى معجزاته و قالُوا في شأن موسى و هارون، أو في شأن موسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله سِحْرانِ تَظاهَرا و ساحران تعاونا على السحر، أو يعضد كلّ منهما الآخر في ترويج الباطل.

قيل: إنّ قريشا بعثوا رهطا إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: إنّا نجده في التوراة بنعته و صفته، فلمّا رجع الرّهط و أخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك (1).

و قيل: إنّ اليهود أمروا قريشا أن سألوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله أن يأتي مثل ما اوتي موسى، و المراد: أو لم يكفر هؤلاء اليهود الذين أمروا قريشا بهذا السؤال (2).

و قيل: إنّ المعنى: أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في شأن موسى و هارون: ساحران (3)تظاهرا و إِنّا بِكُلٍّ منهما، أو بكلّ الأنبياء كافِرُونَ.

و قيل: إنّ المراد أو لم يكفر اليهود بما اوتي موسى عليه السّلام من قبل من البشارة بعيسى و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّهما ساحران (4)تظاهرا.

و قيل: إنّ المراد بالحقّ هو القرآن (1)، و المراد من قوله: لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى لو لا نزل القرآن جملة واحدة كما نزل التوراة كذلك، و المراد من قوله سِحْرانِ تَظاهَرا أنّ الكتابين تظاهرا و توافقا في المطالب، و يصدّق أحدهما الاخر، و معنى قوله: إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ بكلا الكتابين،

و يويدّه قوله في ردهم: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين بهذا القول: فَأْتُوا أنتم بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ يكون هُوَ أَهْدى إلى الحقّ من كتاب موسى و كتابي [و]

أرشد إلى طريق السعادة الأبدية مِنْهُما بأيّ وسيلة تتمكّنون، إذن أنا أَتَّبِعْهُ و أعمل به و إن خالفتموه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّهما ساحران مختلقان،

و فيه نوع تحد و تهكّم فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لك المسألة، و لم يعملوا بما أمرتهم به من إتيان كتاب آخر أهدى، و لم يمكنهم ذلك فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة في قولهم بأنّ الكتابين سحران من غير أن يكون لهم دليل يعتمد عليه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 50 الی 51

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (50) وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

ص: 33


1- . تفسير روح البيان 6:411.

ثمّ أعلن سبحانه بغاية ضلالهم بقوله: وَ مَنْ أَضَلُّ على نفسه مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ و قال قولا أو عمل عملا بشهوة نفسه من دون أن يكون على صحّته حجّة واضحة شرعية أو عقلية.

عن الكاظم عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «يعني من أتّخذ دينه و رأيه بغير إمام من ائمّة الهدى» (1).

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّهم بغاية الضلال هدّدهم بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي إلى دين الحقّ، و لا يوفّق للالتزام به اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الإصرار على العناد، بل يشملهم الخذلان الذي هو أشدّ العذاب في الدنيا لاستتباعه أشدّ العذاب في الآخرة.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه حكمة نزول القرآن نجوما بقوله: وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لقريش، و أكثرنا لَهُمُ اَلْقَوْلَ بانزال آيات القرآن العظيم واحدة بعد واحدة و قطعة بعد قطعة حسبما تقتضيه الحكمة ليتّصل التذكير-عن الكاظم عليه السّلام: «إمام إلى إمام» (2)- لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يتعّظون فيؤمنوا و ينقادوا للحقّ، أو المراد: تابعنا لهم المواعظ و الزواجر، و بيّنا لهم قصص المهلكين قرنا بعد قرن بالعذاب على الكفر و تكذيب الأنبياء لعلّهم يتّعظون و يخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من الامم الظالمة المكذّبة للرّسل كقوم نوح و أضرابهم.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 52 الی 53

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة النبوة و صدق القرآن بعجز البشر عن إتيان مثل هذا الكتاب، أكدّ ذلك بالاستدلال عليهما بايمان علماء أهل الكتاب به بقوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ السماوي كالتوراة و الانجيل، و أنزلنا عليهم في الزمان السابق على نزول القرآن و مِنْ قَبْلِهِ و آمنوا به حقّ الايمان هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ و بكونه كلام اللّه يصدّقون.

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)قيل: نزلت في اناس من أهل الكتاب، كانوا على شريعة حقّة، فلمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله آمنوا به منهم سلمان و عبد اللّه بن سلام (3).

و حاصل الاستدلال: أنّ المطّلعين على الكتب السماوية لمعرفتهم بصفات القرآن و علائمه

ص: 34


1- . الكافي 1:306/1، تفسير الصافي 4:94.
2- . الكافي 1:343/18، تفسير الصافي 4:94.
3- . تفسير الرازي 24:262.

المكتوبة في الكتب، آمنوا به، فعليكم أيّها المشركون الاميّون أن تقتدوا بهم، بل أنتم أولى بالايمان به. و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الانجيل، و هم أصحاب السفينة، جاءوا مع جعفر من الحبشة (1).

و عن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا منهم (2).

ثمّ بيّن اللّه سبب إيمانهم بالقرآن بقوله: وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن و اطّلعوا على فضائله و علائمه المذكورة في الكتب قالُوا آمَنّا بِهِ ثمّ أكّدوا إيمانهم به بقولهم: إِنَّهُ اَلْحَقُّ النازل مِنْ قبل رَبِّنا ثمّ بيّنوا أن إيمانهم به ليس حادثا باستماع تلاوته، بل كان متقادما قبل نزوله بقولهم: إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ له، و منقادين لما فيه، لما وجدنا البشارة بنزوله في كتب الأنبياء السابقين.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 54 الی 55

ثمّ إنّه تعالى بعد مدحهم بالايمان القديم و الحادث بشّرهم بالأجر بقوله: أُولئِكَ المؤمنون من أهل الكتاب يُؤْتَوْنَ و يعطون أَجْرَهُمْ و ثواب إيمانهم بمحمد و كتابه مَرَّتَيْنِ مرّة بإيمانهم بمحمد قبل بعثته و بالقرآن قبل نزوله، و مرة بايمانهم بعد بعثته و نزوله.

أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي اَلْجاهِلِينَ (55)و قيل: مرّة بايمانهم بالانبياء قبل محمّد، و مرة بايمانهم به (1).

و في الحديث: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين-إلى أن قال-و رجل آمن بالكتاب الأوّل، ثمّ آمن بالقرآن» (2).

و قيل: إنّهم لمّا آمنوا بمحمد شتمهم المشركون فصفحوا عنهم، فلهم أجران: أجر على إيمانهم، و أجر بِما صَبَرُوا و صفحوا (3)، أو ثبتوا على الايمان و العمل بشريعة الاسلام.

عن الصادق عليه السّلام قال: «بما صبروا على التقيّة» (4).

ثمّ وصفهم اللّه بالالتزام بلوازم الايمان من العبادات البدنية بقوله وَ يَدْرَؤُنَ و يدفعون بِالْحَسَنَةِ و الطاعة البدنية، أو التوبة اَلسَّيِّئَةَ و المعصية السابقة، أو بالعفو و الصّفح الأذى.

و عن الصادق عليه السّلام: «الحسنة التقيّة، و السيئة الإذاعة» (5).

ص: 35


1- . تفسير الرازي 24:262.
2- . تفسير روح البيان 6:414.
3- . تفسير الرازي 24:262.
4- . الكافي 2:172/1، تفسير الصافي 4:95.
5- . الكافي 2:172/1 و 173/6، تفسير الصافي 4:95.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اتبع السيئة الحسنة تمحها» (1).

و من الطاعة المالية بقوله: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من الاموال يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه و من الأخلاق الحميدة بقوله:

وَ إِذا سَمِعُوا من الأعداء و الجهّال الكلام اَللَّغْوَ و الباطل أَعْرَضُوا عَنْهُ و سكتوا و مرّوا.

قيل: لمّا أسلموا لعنهم أبو جهل، و شتمهم المشركون، فسكتوا و لم يخوضوا فيه (2).

و القمي قال: اللغو الكذب (3).

وَ قالُوا إن تكلّموا في جوابهم: يا قوم لَنا أَعْمالُنا من الايمان و الحلم و الصّفح و نحوها وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ من الكفر و الطغيان و العناد مع الحقّ، و التكلّم باللغو و السّفاهة سَلامٌ عَلَيْكُمْ و نودّعكم و نترككم لا نَبْتَغِي اَلْجاهِلِينَ و لا نطلب صحبتهم و مخالطتهم، أو لا نجازي (4)جهلهم بالجهل و باطلهم بالباطل.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 56

ثمّ لمّا ذكر سبحانه هداية جمع من أهل الكتاب، نبّه على أنّ الهداية لا تكون إلاّ بتوفيقه بقوله: إِنَّكَ يا محمّد لا تَهْدِي هداية موصلة إلى الجنّة و الخير أبدا أحدا حتى مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته من الناس، و اشتقت إلى إيمانه غاية الاشتياق، و بذلت في إدخاله في الاسلام نهاية الجهد وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي بتوفيقه و عناياته الخاصة إلى الحقّ و قبول الاسلام مَنْ يَشاءُ هدايته بمقتضى استعداده و طيب طينته و قوّة عقله وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ و أخبر بحال المستبعدين لنيل فيوضاته، أو هو المختصّ بعلم الغيب، فيعلم من يهتدي بعد و من لا يهتدي.

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)قال بعض العامة: الجمهور على أنّ الآية نزلت في أبي طالب عمّ الرسول (5)، و نقل الفخر عن الزجّاج إجماع المسلمين على ذلك، قال: و ذلك أنّ أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف، أطيعوا محمّدا و صدّقوه تفلحوا و ترشدوا. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عمّ، تأمرهم بالنّصح لأنفسهم و تدعه لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: اريد منك كلمة واحدة، فإنّك في آخر يوم من أيام الدنيا؛ أن تقول لا إله إلاّ اللّه، أشهد لك بها عند اللّه تعالى قال: يابن أخي، قد علمت أنّك صادق، و لكنيّ أكره أن

ص: 36


1- . تفسير البيضاوي 2:196، تفسير أبي السعود 7:19، و في النسخة: اتبع الحسنة السيئة تمحها.
2- . تفسير الرازي 24:262.
3- . تفسير القمي 2:142، تفسير الصافي 4:95.
4- . في النسخة: لا نجازهم.
5- . تفسير روح البيان 6:415.

يقال جزع عند الموت، و لو لا أن يكون عليك و على بني عمّك غضاضة و مسبّة بعدي لقلتها، و لأقررت بها عينيك عند الفراق، لما أرى من شدّة وجدك و نصحك، و لكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ: عبد المطلب، و هاشم، و عبد مناف (1).

أقول: الرواية من صدرها إلى ذيلها صريحة في إسلام أبي طالب و تصديقه رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ما جاء به من التوحيد و الدين خصوصا قوله: و لكنّي أموت على ملّة الأشياخ.

و قد روى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين أنّه قال: «و اللّه ما عبد أبي و جدّي عبد المطّلب و لا هاشم و لا عبد مناف صنما قطّ» (2)، و إنّما لن يعلن أبو طالب بالشهادة لما رأى من المفسدة في الإعلان بها، لوضوح أن العذر المذكور مانع من الإجهار لا من الإسرار، مع أنّه لا يمكن للعاقل أن يكفّ نفسه عن الايمان للوجه الذي نقلوه عنه مع العلم بصدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما أخبر به من العذاب الشديد الأبدي على الشرك، و غاية شوقه إلى سرور قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السّلام بإيمانه و إسلامه قبل كلّ أحد.

القمي قال: نزلت في أبي طالب، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عمّ قل لا إله إلاّ اللّه أنفعك بها يوم القيامة. فيقول: يابن أخي، أنا أعلم بنفسي، فلمّا مات شهد العباس بن عبد المطلب عند رسول اللّه أنّه تكلم بها عند الموت. فقال رسول اللّه: «أما أنّا فلم أسمعها منه، و أرجو أن أنفعه يوم القيامة» . و قال: «لو قمت المقام المحمود لشفعت في امّي و أبي و عمّي و أخ كان لي في الجاهلية» (3).

أقول: هذه الرواية أيضا مخالفة لما عندنا من أنّ آباء الأئمة عليهم السّلام كانوا كآباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله موحّدين مسلمين من أول بلوغهم، مع أنّ إقراره في ابتداء النبوة بالتوحيد سرا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن فيه مفسدة، فكيف يقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنا لم أسمعها منه؟» .

عن الصادق عليه السّلام: أنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسرّوا الايمان، و أظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين» (4).

و عنه عليه السّلام: قيل له: إنّهم يزعمون أنّ أبا طالب كان كافرا؟ فقال: «كذبوا، كيف يكون كافرا و هو يقول:

ألم يعلموا أنّا وجدنا محمّدا *** نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و في رواية اخرى، قال: «كيف يكون أبو طالب كافرا و هو يقول:

ص: 37


1- . تفسير الرازي 25:2.
2- . كمال الدين:174/32.
3- . تفسير القمي 2:142، تفسير الصافي 4:95.
4- . الكافي 1:373/28، تفسير الصافي 4:95.

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب *** لدينا، و لا يعبأ (1)بقول الأباطل

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال (2)اليتامى عصمة للأرامل (3)

و عن الصادق عليه السّلام (4): «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إن جبرئيل أخبرني أنّ اللّه حرّم على النار صلبا حملك، و بطنا حملك، و ثديا أرضعك، و حجرا كفلك» (5).

أقول: المراد بالحجر الكافل له أبو طالب، مع أنّ المشرك لا يمكن أن يغفر له.

و روي أنّ أمير المؤمنين كان جالسا في الرّحبة يوما، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أنت بالمكان الذي أنت به، و أبوك يعذّب بالنار!

قال عليه السّلام: «فضّ اللّه فاك، و الذي بعث بالحقّ محمّدا بشيرا، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشّفعه اللّه فيهم، أبي يعذّب بالنار و ابنه قسيم الجنة و النار؟ !» (6).

و عن رفاعة، عن آبائه: كان نقش خاتم أبي طالب: «رضيت باللّه ربا، و بابن أخي محمّد نبيا، و بابني عليّ له وصيا» .

و عن الصادق عليه السّلام: «أول صلاة صلاّها رسول اللّه أنّه عليه السّلام قام في الصلاة، و قام على الجانب الأيمن منه، فجاء أبو طالب و معه جعفر، فرآهما يصلّيان، فقال لابنه جعفر: صل جناح ابن عمّك. فقام جعفر إلى يسار رسول اللّه، فلمّا جاء وقت وفاة أبي طالب أوصى إلى ولده و اقربائه أن ينصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (7).

و عن الكاظم عليه السّلام: أنّه سئل أكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله محجوجا بأبي طالب؟ فقال: «لا و لكنه كان مستودعا للوصايا، فدفعها إليه» .

قيل: فدفع إليه الوصايا على أنّه محجوج به؟ فقال: «لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية» .

قيل: فما كان حال أبي طالب؟ قال: «أقرّ بالنبيّ و ما جاء به، فدفع إليه الوصايا، و مات من يومه» (8).

أقول: معنى كون النبي صلّى اللّه عليه و آله محجوجا به أنّ أبا طالب كان حجّة عليه قبل البعثة، و المراد بالوصايا وصايا الأنبياء.

و في رواية، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و الذي بعث محمدا بالحقّ إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفى

ص: 38


1- . في الكافي و شعر أبي طالب: يعنى.
2- . الثّمال: الغياث، و الذي يقوم بأمر قومه.
3- . الكافي 1:373/29، تفسير الصافي 4:96، شعر أبي طالب و أخباره:26 و 33.
4- . في النسخة: الباقر عليه السّلام.
5- . نحوه في الكافي 1:371/21 و معاني الأخبار:136/1 و أمالي الصدوق:703/964 و تفسير الصافي 4:96.
6- . بشارة المصطفى:202، تفسير الصافي 4:97.
7- . الغدير 7:366 و 367.
8- . الكافي 1:370/18، تفسير الصافي 4:97.

أنوار الخلق إلاّ خمسة أنوار: نور محمّد، و نوري، و نور فاطمة، و نور الحسن و الحسين و من ولده من الأئمّة، لأنّ نوره من نورنا الذي خلقه اللّه من قبل خلق آدم بألفي عام» (1)إلى غير ذلك من الروايات. و أمّا الآية فلا دلالة لها على كفره، كما اعترف به الفخر (2)، بل دالة على إيمانه، لدلالة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يحبّه، و هو عليه السّلام ما كان يحبّ كافرا لحرمة حبّه عليه بقوله: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ (3)و يدلّ عليه قوله: «أوثق عرى الايمان؛ الحبّ في اللّه، و البغض في اللّه» (4)و أظهر مصاديقه بغض المشركين الذين هم أبغض الخلق عند اللّه، فكيف يجتمع ذلك مع حبّ أبي طالب لو كان مشركا؟ و كذا ما روي عن السجّاد عليه السّلام: «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: الحمد للّه الذي لم يجعل للفاجر عليّ يدا، لكيلا يرونه تحصل في قلبي منه مودّة، فانّ مودّة الفجّار تجرّ إلى النّار» .

سوره 28 (القصص): آیه شماره 57

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الهداية الحقيقية إنّما هي بتوفيقه، بيّن أنّ من لم يشمله التوفيق يعتذر عن عدم قبوله الدعوة بما ليس بعذر بقوله: وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى و نتّبع دين الاسلام مَعَكَ و نقتدي بك في القول بالتوحيد نُتَخَطَّفْ و نخرج بسرعة مِنْ أَرْضِنا و وطننا، روي أنّها نزلت في الحرث، أو الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: نحن نعلم أنّك على الحقّ، و ما كذبت كذبة قطّ فنتّهمك اليوم، و لكنّا نخاف إن اتّبعناك و خالفنا العرب أن يتخطّفونا من مكّة و الحرم، لا جماعهم على خلافنا، و هم كثيرون و نحن أكلة رأس (5)لا نستطيع مقاومتهم، فنزلت (6).

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)و القمي: نزلت في قريش حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الاسلام و الهجرة (7).

و عن السجاد عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال «و الذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض و الأسود، و من على رؤس الجبال، و من في لجج البحار، و لأدعون إليه فارس و الروم. فتجبّرت قريش و استكبرت، و قالت لأبي طالب: أما تسمع لابن أخيك ما يقول: و اللّه لو سمعت بهذا فارس و الروم لا ختطفتنا من أرضنا، و لقلعت الكعبة حجرا حجرا، فأنزل اللّه هذه الآية» (8).

ص: 39


1- . بشارة المصطفى:202، تفسير الصافي 4:97.
2- . تفسير الرازي 25:2.
3- . الممتحنة:60/1.
4- . المحاسن:165/121.
5- . أي يكفيهم رأس واحد لقلّتهم.
6- . تفسير روح البيان 6:417.
7- . تفسير القمي 2:142، تفسير الصافي 4:97.
8- . روضة الواعظين:54، مناقب ابن شهر آشوب 1:59، تفسير الصافي 4:97.

ثمّ ردّ اللّه عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ و لم نجعل مقرّهم و مسكنهم حَرَماً آمِناً و أرضا مأمونة من القتال و تعدّيات العرب لحرمتها، و مع ذلك يحمل إلى ذلك الحرم و يُجْبى إِلَيْهِ و يجمع فيه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ و منافع جميع النباتات من الفواكه و الحبوب و الخضراوات، بحيث لا يرى شرقيها و غربيها ألا و هو فيه، هؤلاء يرزقون منها رِزْقاً كائنا مِنْ لَدُنّا لا من لدن أحد من الخلق، فاذا كان هذا حالهم و هم عبدة الأصنام، فكيف نعرّضهم للتخّوف و التخطّف إذا صاروا موحدين؟ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جهلة لا يَعْلَمُونَ أنّ هذه النّعم من قبلنا، و إلاّ لم يخافوا غيرنا، و لا يعلمون أنّ إلههم اللّه، و إلا لم يعبدوا غيره، أو لا يعلمون أنّ ما قالوا ليس بعذر مقبول، و إلاّ لم يعتذروا به.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 58 الی 59

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ الايمان لا يوجب زوال نعمهم بل موجب لدوامها لهم، بيّن أنّ الإصرار على الكفر و تكذيب الرسل، هو الموجب لزوال النّعم بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا بالعذاب مِنْ قَرْيَةٍ و بلدة بَطِرَتْ مَعِيشَتَها و أطغت النّعم الكثيرة أهلها فخرّبنا بعد إهلاكهم ديارهم فَتِلْكَ المساكن الخربة التي ترونها في أسفاركم إلى الشام ذهابا و إيابا مَساكِنُهُمْ التي كانوا يسكنونها، فانّها من شدّة خرابها لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ و وراء إهلاكهم إِلاّ قَلِيلاً من الناس أو من الزمان، حيث إنّها لا يسكنها إلاّ المارّة يوما أو بعض يوم، كما عن ابن عباس (1). أو من أعقابهم، فانّهم لم يبقوا فيها إلاّ قليلا من شؤم كفرهم و معاصيهم (2)، و قليلا من الحيوانات كالهام و البوم (3)وَ كُنّا نَحْنُ اَلْوارِثِينَ منهم لتلك المساكن، إذ لم يخلفهم أحد من أعقابهم.

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَ كُنّا نَحْنُ اَلْوارِثِينَ (58) وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي اَلْقُرى إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه إهلاك كثير من القرى لبطر أهلها و كفرهم، بيّن أنّ نزول العذاب لا يكون إلاّ بعد إتمام الحجّة على المعذبين، و أنّ علّة عدم نزوله على الكفّار الذين كانوا قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله مع بطرهم و شدّة كفرهم و عنادهم، عدم بعث الرسول فيهم بقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى التي في الأرض بسبب كفرهم و طغيانهم حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها و عظيمها التي تكون تلك القرى أتباعها

ص: 40


1- . تفسير الرازي 25:5.
2- . تفسير الرازي 25:5، تفسير روح البيان 6:418.
3- . تفسير روح البيان 6:418، و الهام: طائر صغير من طيور الليل يألف المقابر.

و يسكنها الأشراف الذين هم مرجع أهالي غيرها رَسُولاً تتمّ به الحجّة عليهم، و يقطع به معذرتهم بأن يدعوهم إلى توحيدنا و يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا و حججنا الدالة على العقائد الحقّة، و الوعد و الوعيد، و الترغيب في الطاعة، و الترهيب عن الكفر و المعصية، حتى لا يقولوا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (1)فلذا لم نهلك الكفّار الذين كانوا قبل البعثة.

ثمّ نبّه سبحانه على علّة عدم تعذيب الكفّار بعد البعثة بقوله: وَ ما كُنّا و ليس من دأبنا أن نكون مُهْلِكِي اَلْقُرى الكافرة بعد بعثة الرسول و إلزام الحجّة إِلاّ وَ أَهْلُها و سكّانها ظالِمُونَ على أنفسهم بتكذيب الرسول و الآيات، و ليس أهل مكّة كذلك؛ لأنّ بعضهم آمنوا و بعضهم يرجى منهم الإيمان.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 60 الی 61

ثمّ إنّه تعالى أجاب عن عذرهم ثالثا بعد الجوابين السابقين بقوله: وَ ما أُوتِيتُمْ أيّها المعتذرون و أعطيتم مِنْ شَيْءٍ من التمكّن في الحرم و سعة الرزق و سائر النّعم فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و انتفاع قليل في مدّة العمر فيها وَ زِينَتُها التي تتزيّنون بها من الألبسة الفاخرة و المراكب الفارهة في أيام يسيرة، ثمّ تزول و تفنى بسرعة وَ ما عِنْدَ اَللّهِ من الأجر الجزيل الاخروي على الايمان به و طاعته و عبادته خَيْرٌ لكم من جميع الدنيا و ما فيها، لخلوصه من شوائب المكاره و الآلام وَ أَبْقى و أدوم لكونه أبديا أَ فَلا تَعْقِلُونَ و لا تدركون هذا الأمر الواضح، و لا تتفكّرون فيه، فانّكم إذا عقلتم ذلك لا ترضون باستبدال الأدنى بالذي هو خير، و ما هو في معرض الزوال بالذي لا زوال له.

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60) أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ (61)

ثمّ بيّن عدم تساوي النّعم الدنيوية المتّصلة بالنّعم الاخروية و المتّصلة بالعذاب بقوله: أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ على إيمانه و طاعته وَعْداً يكون موعوده حَسَناً كالجنّة و نعيمها فَهُوَ لاقِيهِ و مصيبه لا محالة، لامتناع الخلف في وعدنا كَمَنْ مَتَّعْناهُ و نفعناه مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و انتفاع أيّام العمر السريع الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يكون مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ في محضر عدلنا للحساب و جزاء الأعمال، فيحكم عليه باستحقاقه العذاب الشديد الأبدي، لا يمكن التساوي ببديهة

ص: 41


1- . القصص:28/47.

العقل بين من اتّصل نعمه الدنيوية بالنّعم الاخرويّة الأبديّة، و من اتّصل نعمه الدنيوية بالعقوبة الاخروية الدائمة.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 62 الی 66

ثمّ شرع سبحانه في تهديد المشركين بأهوال القيامة و عدم نفع أصنامهم فيها بقوله: وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ و التقدير و ذكّرهم يا محمد يوم يناديهم ربّهم نداء غضبان فَيَقُولُ لهم تقريعا و توبيخا: قولوا أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ و تتوهّمون أنّهم شركائي في الالوهية و العبادة، و كنتم تعبدونهم كما تعبدونني، و ترجون منهم نجاتكم من الشدائد؟

و الغرض من هذا السؤال غايه تفضيحهم الذي هو نوع من العذاب قالَ الشياطين و الرّوساء اَلَّذِينَ اتّخذوهم أربابا و حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ و ثبت عليهم الوعيد بقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (1): رَبَّنا هؤُلاءِ الضعفاء الذين اتّبعونا في العقائد و الأعمال هم اَلَّذِينَ أَغْوَيْنا و أضللناهم عن التوحيد من غير إكراه و إجبار بل أَغْوَيْناهُمْ باختيارهم و ميل أنفسهم كَما غَوَيْنا و ضللنا عن الحقّ كذلك، و لم ينفعنا و إياهم الدلائل العقلية و نصائح الرسل و بيانات الكتب السماوية المشحونة بالوعد و الوعيد في الصرف عمّا كنّا عليه من الكفر و العصيان، فاليوم تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و ممّا اختاروه لأنفسهم من الشرك ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ بل كانوا يعبدون هوى أنفسهم و يتّبعون شهواتهم.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)

وَ قِيلَ إذن من قبل اللّه للرؤساء و الأتباع تهكّما و تقريعا: اُدْعُوا اليوم شُرَكاءَكُمْ و آلهتكم التي تدعون من دوني، كي يشفعوا لكم (2)و يكفّوا عنكم العذاب و ينجوكم من شدائد هذا اليوم فَدَعَوْهُمْ لفرط الحيرة، أو برجاء النّصرة جمعا فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ للعجز عن إجابتهم و نصرتهم وَ رَأَوُا جميعهم التابع و المتبوع اَلْعَذابَ الذي اعدّ لهم حسب استحقاقهم أنّه قد غشيهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ إلى وجه من الحيل في دفعه، أو إلى الحقّ في الدنيا لما لقوا ما لقوا.

ص: 42


1- . السجدة:32/13.
2- . في النسخة: يشفعوكم.

و قيل: إنّ المراد تمنّوا أنّهم كانوا مهتدين إلى الحقّ لا ضالّين عنه (1).

وَ ذكّرهم يا محمّد يَوْمَ يُنادِيهِمْ ربّهم نداء تقريع و توبيخ فَيَقُولُ لهم أيّها الكفّار الغواة ما ذا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ الذين أرسلتهم إليكم حين دعوكم إلى التوحيد و إلى عبادتي،

و نهوكم عن الشرك و الضلال فَعَمِيَتْ و سترت عَلَيْهِمُ اَلْأَنْباءُ و الأخبار و نسوها فلا يدرون ما يقولون لفرط الدهشة يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت العظيم الهول فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ و لا يرجع بعضهم إلى بعض في الجواب، لعلمهم باشتراك جميعهم في الحيرة و الوحشة و العجز عنه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 67

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال المصرّين على الشّرك، بيّن حال التائبين منه بقوله: فَأَمّا مَنْ تابَ من الشرك و العصيان وَ آمَنَ بالتوحيد و رسالة الرسول و صدق كتابه وَ عَمِلَ عملا صالِحاً و مرضيا عند اللّه فَعَسى أَنْ يَكُونَ ذلك التائب المؤمن الصالح مَنْ جملة اَلْمُفْلِحِينَ و الفائزين بأعلى المقاصد من الأمن من الأهوال، و النجاة من العذاب، و نيل الجنّة (2)و النّعم الدائمة و الراحة الأبدية في ذلك اليوم العظيم.

فَأَمّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ (67)قيل: إنّ ذكر (عسى) في وعد الكرام للتحقيق، و قيل: إنّ المقصود إيجاد الرجاء في قلب التائب (3)، فكأنّه قال: فليطمع التائب في الفلاح، و لا يغترّ بايمانه و عمله، لاحتمال انقلاب حاله و ابتلائه بما يوجب هلاكه.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ إنّه تعالى بعد الجواب عن اعتذار المشركين في ترك الايمان، ذكر الجواب عن اعتراضهم على رسالة الرسول بأنّه لا بدّ أن يكون من الأغنياء و الرؤساء، و محمد فقير لا نفوذ لكلامه في العرب بقوله: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه وَ يَخْتارُ من خلقه من يشاء أن يختاره و يصطفيه للرسالة و غيرها، فكما أنّ الخلق إليه يكون الاختيار إليه في جميع الامور، و إن كان مختاره مخالفا لاختيار الناس، لأنّه ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ في أمر من الامور التكوينية، كالفقر و الغنى، و الصحة و المرض، و العزّ و الذّل،

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69)

ص: 43


1- . تفسير روح البيان 6:421.
2- . في النسخة: و النيل بالجنّة.
3- . تفسير أبي السعود 7:22، تفسير روح البيان 6:422.

و الرسالة و الإمامة و غيرها سُبْحانَ اَللّهِ و تنزّه بذاته من أن يزاحم اختياره اختيار خلقه وَ تَعالى و ترفّع بكمال ذاته عَمّا يُشْرِكُونَ به من الآلهة التي يدعون من دونه في التصرّف في أمر خلقه، أو عن إشراكهم.

ثمّ هدّد سبحانه الطاعنين في رسالة رسوله بقوله: وَ رَبُّكَ يا محمّد يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ و تضمر قلوبهم من عداوة الرسول و الحسد عليه وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون من الطعن فيه و الاعتراض عليه بقولهم لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1)فيجازيهم على مضمراتهم و معلناتهم أسوأ الجزاء.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 70 الی 73

ثمّ إنّه تعالى بعد تخصيص أمر الخلق و اختيار الامور و العلم بالمضمرات و المعلنات بذاته المقدّسة، خصّ الالوهية و الحمد بنفسه بقوله: وَ هُوَ اَللّهُ المستحقّ للعبودية و المتفرّد بالالوهية لا إِلهَ و لا معبود بالاستحقاق إِلاّ هُوَ تعالى شأنه و لَهُ وحده اَلْحَمْدُ و الثناء الجميل فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ و الدنيا و العقبى، لاختصاص النّعم العاجلة و الآجلة به وَ لَهُ اَلْحُكْمُ النافذ فيهما، لا يزاحمه غيره في الخلق و الاختيار.

وَ هُوَ اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)عن ابن عباس حكم لأهل طاعته بالمغفرة، و لاهل معصيته بالشقاء و الويل (2).

وَ إِلَيْهِ بالبعث تُرْجَعُونَ لا إلى غيره، فيجازي كلاّ على حسب استحقاقه.

ثمّ إنّه تعالى بعد تخصيص الحمد بذاته نبّه على بعض مهمّات نعمه بقوله: قُلْ يا محمد لقومك أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً و الظّلمة دائمة و باقية إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لانهار معه و لا ضياء معها مَنْ إِلهٌ قادر غَيْرُ اَللّهِ القدير الحكيم يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ يمكنكم فيه تحصيل معائشكم و تنظيم اموركم و تفريح قلوبكم أَ فَلا تَسْمَعُونَ دلائل توحيد

ص: 44


1- . الزخرف:43/31.
2- . تفسير روح البيان 6:425.

ربّكم،

و استحقاقه لشكركم، و تخصيصه بمحامدكم قُلْ يا محمد للمشركين أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهارَ سَرْمَداً و دائما إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بقدرته بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ و تستريحون فِيهِ من تعب مشاغل النهار أَ فَلا تُبْصِرُونَ؟

و إنّما ختم الآية الاولى بالتوبيخ على ترك الاستماع، و الثانية بالتوبيخ على ترك الإبصار؛ لأنّ الليل يناسب الاستماع، و لأنّ منافع السّمع تعمّ المحسوس و المعقول، و بعض منافع الضياء لا تدرك إلاّ بالعقل، و لذا لم يقرن به جملة (تتصرفون فيه) . و النهار مناسب للابصار، و منفعة الظلمة-و هي الراحة و السكون-قابلة للإبصار و منحصرة فيها، و لذا وصف الليل بكونه تَسْكُنُونَ فِيهِ.

ثمّ اعلم أنّ فلك الشمس يدور في بعض قطعات الأرض رحويا لا غروب لها فيه، فصار النهار سرمدا، و لا يعيش فيه الحيوان، و لا ينبت فيه النبات من شدّة حرارة الشمس، و في بعض القطعات تدور تحت الأرض كذلك فلا طلوع لها فيه، فصار ليلة سرمديا، فلا يعيش [فيه]الحيوان، و لا ينبت النبات فيه أيضا.

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ تعالى أنّه جَعَلَ لَكُمُ أيّها الناس اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ مزدوجين متعاقبين الليل لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النهار لِتَبْتَغُوا فيه مقدارا مِنْ فَضْلِهِ و نعمه بأنواع المكاسب وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ربّكم على كلتي النّعمتين معا.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 74 الی 75

ثمّ لمّا أثبت سبحانه التوحيد و أبطل الشرك، هدّد المشركين بذكر أهوال القيامة بقوله: وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ تقريعا و تبكيتا فَيَقُولُ يا أيها المشركون أَيْنَ الأصنام الذين تدعون أنّهم شُرَكائِيَ في الالوهية و العبادة، و الآلهة اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّهم شفعائكم و منجيكم من الشدائد و المهالك؟ لم لا يغيثونكم و لا يخلّصونكم اليوم من العذاب؟

ص: 45

وَ ضَلَّ و غاب عَنْهُمْ غيبة الضائع ما كانُوا في الدنيا يَفْتَرُونَ على اللّه من أنّه اتخذ لنفسه شريكا، أو المراد ما كانوا يكذبون من الوهية الأصنام.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

سوره 28 (القصص): آیه شماره 76

ثمّ استشهد سبحانه على سرعة زوال نعم الدنيا بسبب الكفر و الطغيان بقصة قارون بقوله: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قيل: كان عمّ موسى، لأنّه و عمران كانا ابني يصهر (1). و قيل: كان ابن عمّه لأنّ يصهر كان أخي عمران (2)، و عن ابن عباس: أنّه كان ابن خالة موسى (3)، و قيل: إنّه كان لقبه المنور لحسن صورته، و كان أقرأ بني إسرائيل للتوراة (4).

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ (76)و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنه كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام اللّه تعالى» (3).

فَبَغى و طلب الفضل و الرئاسة عَلَيْهِمْ و كونهم تحت حكمه. و قيل: كان يستخفّ بالفقراء (4)المؤمنين منهم، و قيل: إنّه ظلمهم لأنّ فرعون سلّطه عليهم (5). و عن ابن عباس: أنّه تجبّر و تكبّر و سخط عليهم (6). و قيل: إنّه حسد هارون على الحبورة (7).

روي أنّ موسى عليه السّلام لمّا قطع البحر و أغرق اللّه فرعون، جعل الحبورة لهارون، فحصلت له النبوّة و الحبورة، و كان صاحب القربان و الذبح، فوجد قارون من ذلك في نفسه فقال لموسى، لك الرسالة، و لهارون الحبورة، و لست في شيء، و لا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه السّلام: و اللّه ما صنعت ذلك لهارون، و لكن اللّه جعله له. فقال: و اللّه لا اصدقك أبدا حتى تأتين بآية أعرف بها أنّ اللّه جعل ذلك لهارون، فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كلّ منهم بعصاه، فجاءوا بها، فالقاها موسى عليه السّلام في قبّة له، و كان ذلك بأمر اللّه، فدعا ربّه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصبحت عصا هارون تهتزّ لها ورق أخضر، و كانت من شجر اللّوز، فقال موسى عليه السّلام: يا قارون، أما ترى ما صنع اللّه لهارون؟ فقال: و اللّه ما هذا بأعجب ممّا تصنع من السحر، فاعتزل قارون و معه ناس كثير، و ولي هارون الحبورة و الذبح و القربان، فكان بنو إسرائيل يأتون هداياهم إلى هارون، فيضعها في المذبح،

ص: 46


1- . تفسير الرازي 25:13.
2- . تفسير الرازي 25:13، تفسير أبي السعود 7:24. (3 و 4) . تفسير الرازي 25:13.
3- . تفسير الرازى 25:14.
4- . تفسير الرازي 25:13، تفسير روح البيان 6:429.
5- . تفسير الرازي 25:13.
6- . تفسير الرازي 25:14.
7- . تفسير الرازي 25:14، و الحبورة: الإمامة، مأخوذ من الحبر، بمعنى الرئيس في الدين.

و تنزل النار من السماء فتأكلها (1).

ثمّ حكى اللّه كثرة مال قارون بقوله: وَ آتَيْناهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ و أعطيناه من الأموال الكثيرة المذخورة ما إِنَّ مَفاتِحَهُ و المقدار الذي مفاتيح صناديقه لَتَنُوأُ و تنهض، أو تميل لثقلها بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ و الجماعة الكثيرة من الرجال الأقوياء إذا حملوها.

عن ابن عباس: العصبة في هذا الموضع أربعون رجلا، و خزائنه كانت أربعمائة ألف، يحمل كلّ رجل منهم عشر آلاف مفتاح (2).

و القمي: العصبة ما بين العشرة إلى التسعة عشر (3).

قيل: كان في الانجيل أنّ مفاتح خزائن قارون وقر (4)ستين بغلا ما يزيد منها مفتح على إصبع، لكلّ مفتح كنز (5).

و قيل: كان قارون أينما يذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، و كانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع (6).

و قيل: كانت من جلود الإبل (5).

و قيل: إنّ المراد من المفاتح نفس الكنوز (6).

و قيل: إنّ المراد بها العلم و الاحاطة (7)، كما قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ (8)فالمعنى آتيناه من العلوم ما إن حفظها و الإطلاع عليها ليثقل على العصبة اولي القوّة و الهداية.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 76 الی 77

ثمّ حكى سبحانه وعظ موسى أو بعض المؤمنين من بني إسرائيل له بقوله: إِذْ قالَ لَهُ و التقدير اذكر إذ قال له قَوْمُهُ وعظا و نصحا: يا قارون لا تَفْرَحْ و لا تبطر بالزخارف الدنيوية إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ بالدنيا و متاعها، لأنّها مبغوضة عند اللّه، لأنّ جمّها (9)مانع عن حبّه،

و صارف عن

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ (76) وَ اِبْتَغِ فِيما آتاكَ اَللّهُ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ (77)

ص: 47


1- . تفسير الرازي 25:14.
2- . تفسير روح البيان 6:430.
3- . تفسير القمي 2:144، تفسير الصافي 4:102.
4- . الوقر: الحمل. (5 و 6) . تفسير روح البيان 6:430.
5- . تفسير الرازي 25:14.
6- . تفسير الرازي 25:15.
7- . تفسير الرازي 25:15.
8- . الأنعام:6/59.
9- . الجمّ: الكثير، و جمّ الشيء: معظمه.

ذكره و التوجّه إليه وَ اِبْتَغِ يا قارون و اطلب فِيما آتاكَ اَللّهُ و في تملّك هذه الأموال التي أعطاكها اللّه أو بسببها اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ و نعمها التي وعدها اللّه المؤمنين فيها، يصرف في تلك الأموال في الوجوه البريّة و المصارف الخيرية كمواساة الفقراء، و فكّ الاسراء، وصلة الأرحام و نحوها وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ و لا تترك حظّك مِنَ اَلدُّنْيا فانّ حظّ المؤمن من الدنيا تحصيل الآخرة بها.

عن أمير المؤمنين: «صحتّك و قوّتك و شبابك و غناك» (1).

و قيل: يعني لا تترك أخذ ما يكفيك من الدنيا (2). و قيل: يعني لا تنس نصيبك من الدنيا حين رحلتك منها، و هو ليس إلاّ الكفن، فلا تغرّر بها (3).

ثمّ إنه الأمر بالاحسان بالمال، أمره بمطلق الاحسان بقوله: وَ أَحْسِنْ إلى عباد اللّه بالمال و الجاه و البشر و حسن اللّقاء و الذّكر و نظائرها كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ بتوفير المال و النّعم، فنبّه على أنّ إحسان العباد شكرا لاحسان اللّه وَ لا تَبْغِ و لا تطلب اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ بالظّلم و التكبّر و التجبّر و العصيان إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم.

عن الصادق عليه السّلام: «فساد الظاهر من فساد الباطن، و من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، و من خان اللّه في السرّ هتك اللّه سرّه في العلانية، و أعظم الفساد أن يرضى العبد بالغفلة عن اللّه تعالى، و هذا الفساد يتولّد من طول الأمل و الحرص و الكبر، كما أخبر اللّه تعالى في قصة قارون في قوله: وَ لا تَبْغِ اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ و كانت هذه الخصال من صنع قارون و اعتقاده، و أصلها من حبّ الدنيا و جمعها و متابعة النفس و هواها، و إقامة شهواتها، و حبّ المحمدة، و موافقة الشيطان، و اتّباع خطواته، و كلّ ذلك مجتمع تحت الغفلة عن اللّه و نسيان منّته» (4).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 78 الی 80

قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اَللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقّاها إِلاَّ اَلصّابِرُونَ (80)

ص: 48


1- . معاني الأخبار:325/1، تفسير الصافي 4:103، و فيهما: و نشاطك، بدل: و غناك، تفسير روح البيان 6:431.
2- . تفسير أبي السعود 7:25، تفسير روح البيان 6:431.
3- . تفسير روح البيان 6:431.
4- . مصباح الشريعة:107، تفسير الصافي 4:103، و في النسخة: سنته.

ثمّ إنّ قارون بعد استماع تلك المواعظ ازداد في الكفر و الطغيان و قالَ في جواب الناصح: المال الذي اجتمع لي إِنَّما أُوتِيتُهُ و وجدته حال كوني عَلى عِلْمٍ كثير كائن عِنْدِي بالتوراة، فانّه كان أعلم بني إسرائيل بها، أو بالكسب و التجارة و الرزاعة.

و قيل: إنّ المراد بعلمه علم الكيمياء، فانّه انزل على موسى من السماء، فعلم قارون ثلثه و يوشع ثلثه، و كالب بن يوحنا ثلثه فخدعهما قارون حتى انضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرّصاص فيجعله فضّة، و يأخذ النّحاس فيجعله ذهبا (1).

و قيل: علم موسى اخته الكيمياء، ثمّ هي علّمته قارون (2).

و قيل: إن المعنى إن اللّه أعطاني هذا المال مع كونه عالما بي و بأحوالي، فلو لم يكن ذلك مصلحة لما أعطاني (3)، و معنى قوله: عِنْدِي أنّ الأمر عندي و في اعتقادي كذلك.

ثمّ ردّه اللّه بقوله: أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ قارون مع ادّعائه وفور علمه، أو أولم يكن في علمه أو فيما عنده من العلم أَنَّ اَللّهَ قَدْ أَهْلَكَ بالعذاب مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ الكافرة الطاغية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً من جهة العدّة و العدد وَ أَكْثَرُ جَمْعاً للمال كنمرود و أضرابه، أو أكثر جمعا للعلم و العبادة حتى لا يغتّر بما اغترّ به من القوّة و كثرة المال أو العلم وَ لا يُسْئَلُ حين نزول العذاب عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ و العاصون لعلم اللّه بحدود ذنوبهم من حيث الكثرة و العظمة، فلا يحتاج إلى السؤال عنهم حتى يشتغلوا بالاعتذار،

و إن يسألهم في بعض المواقف توبيخا و تقريعا في القيامة فَخَرَجَ قارون يوما من منزله متجبّرا عَلى قَوْمِهِ و هو مستغرق فِي زِينَتِهِ الظاهرة.

قيل: خرج يوم السبت الذي كان آخر يوم من عمره على بغلة شهباء مسرجة بسرج من ذهب، و عليه قطيفة ارغوانية (4)، و معه أربعة آلاف فارس على زيّه، و ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ و الثياب الحمر على البغال الشّهب (5)، فلمّا رآه الناس في تلك الزّينة قالَ الجهال اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ و يطلبون اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و يرغبون في متاعها و زينتها من بني إسرائيل: يا لَيْتَ كان لَنا و اوتينا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال و الجاه و الخدم إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ و نصيب وافر من الدنيا

وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ بالدين و بأحوال الآخرة و فوائد الزّهد في الدنيا للمتمنّين وَيْلَكُمْ أيّها الطالبون للدنيا ثَوابُ اَللّهِ و أجره العظيم في الآخرة من الجنّة و نعمها الدائمة

ص: 49


1- . تفسير الرازي 25:16، تفسير روح البيان 6:432.
2- . تفسير روح البيان 6:432.
3- . تفسير الرازي 25:16.
4- . في تفسير روح البيان: عليه الارجوان، يعني قطيفة ارغواني.
5- . تفسير الرازي 25:17، تفسير روح البيان 6:433.

خَيْرٌ ممّا تتمنّون لِمَنْ آمَنَ باللّه و رسله و اليوم الآخر وَ عَمِلَ صالِحاً و الكرامة عنده أعظم من الكرامة عند الناس، و هذه الكلمة التي قالها العلماء باللّه، أو هذه المثوبة التي وعدها الأنبياء لا يستقبلها وَ لا يُلَقّاها أو لا ينالها إِلاَّ اَلصّابِرُونَ على الطاعات و ترك المحرّمات و شدائد الدنيا و مصائبها.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ إنّ قارون أشر و بطر و عتا فَخَسَفْنا أو غيّبنا، أو ذهبنا بِهِ وَ بِدارِهِ و كنوزه اَلْأَرْضَ.

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ اَلْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ ما كانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اَللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلْكافِرُونَ (82)عن ابن عباس: أنّ قارون كان يؤذي موسى كلّ وقت و هو يداريه للقرابة التي كانت بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، و عن كلّ ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثره، فشحّت نفسه، فجمع بني إسرائيل و قال: إنّ موسى يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا: أنت سيدنا و كبيرنا، فمرنا بما شئت. قال: نبرطل فلانة البغية حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها طشتا من ذهب مملؤا ذهبا، فلمّا كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل، من سرق قطعناه، و من زنى و هو غير محصن جلدناه، و إن أحصن رجمناه.

فقال قارون: و إن كنت أنت؟ قال: و إن كنت أنا، قال: فإنّ بني إسرائيل يقولون: إنّك فجرت بفلانة! فاحضرت فناشدها موسى باللّه الذي فلق البحر و أنزل التوراة أن تصدق، فتداركها اللّه تعالى. فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن اقذفك بنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكي. و قال: يا ربّ، إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى اللّه إليه أن مر الأرض بما شئت. فانّها مطيعة لك. فقال: يا نبي إسرائيل، إنّ اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، و من كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثمّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الرّكب، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، و قارون و أصحابه يتضّرعون إلى موسى، و يناشدونه باللّه و الرّحم، و موسى لا يلتفت إليهم من شدّة الغضب. ثمّ قال: خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض، فأوحى اللّه إلى موسى: ما أفظّك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم، أما و عزّتي لو دعوني مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا. فاصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم. إنّما دعا موسى على

ص: 50

قارون ليستبدّ بداره و كنوزه، فدعا اللّه حتى خسف بداره و كنوزه (1).

القميّ، قال: كان سبب هلاك قارون أنّه لمّا أخرج موسى عليه السّلام بني إسرائيل من مصر، و أنزلهم البادية، أنزل اللّه عليهم المنّ و السّلوى. . . إلى أن قال: ففرض اللّه عليهم دخول مصر، و حرمها عليهم أربعين سنة، و كانوا يقومون من أوّل الليل و يأخذون في قراءة التوراة و الدعاء و البكاء، و كان قارون منهم، و كان يقرأ التوراة، و لم يكن فيهم أحسن صوتا منه، و كان يسمّى المنور لحسن قراءته (2)و كان يعمل الكيمياء.

فلمّا طال الأمر على بني إسرائيل في التيه، و امروا بالتوبة، و كان قارون امتنع من الدخول معهم في التوبة، و كان موسى يحبّه، فدخل موسى عليه و قال له: يا قارون، قومك في التوبة و أنت قاعد ها هنا ادخل معهم، و إلاّ ينزل بك العذاب فاستهان به و استهزأ بقوله، فخرج موسى من عنده مغتمّا، فجلس في فناء قصره، و عليه جبّة شعر، و في رجليه نعلان من جلد حمار شراكهما من خيوط شعر، بيده العصا، فأمر قارون أن يصبّ رماد قد خلط بالماء، فصبّ عليه، فغضب موسى غضبا شديدا، و كان في كتفه شعرات، كان إذا غضب خرجت من ثيابه و قطر منها الدم، فقال موسى: يا ربّ، إن لم تغضب لي فلست لك بنبي. فأوحى اللّه عز و جلّ: قد أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت.

و قد كان قارون قد أمر أن يغلق باب القصر، فأقبل موسى فأوحى إلى الأبواب فانفرجت، فدخل عليه، فلمّا نظر إليه قارون علم أنّه قد اتي بالعذاب، فقال: يا موسى، أسألك بالرّحم الذي بيني و بينك. فقال له: يابن لاوي، لا تزدني من كلامك، يا أرض خذيه، فابتلعته بقصره و خزائنه. الخبر (3).

فَما كانَ لَهُ في ذلك اليوم مِنْ فِئَةٍ و جماعة متعاضدين يَنْصُرُونَهُ بدفع عذاب الخسف مِنْ دُونِ اَللّهِ و بغير نصرته تعالى وَ ما كانَ قارون بنفسه مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ و المدافعين للعذاب عن نفسه بوجه

وَ أَصْبَحَ و صار اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا لأنفسهم مَكانَهُ و منزلته بِالْأَمْسِ و في الزمان القريب من هلاكه يَقُولُونَ تندّما من تمنيّهم، أو إظهارا لخطئهم، أو تعجّبا من الواقعة: وَيْكَأَنَّ و ما أشبه أن اَللّهَ.

و قيل: إنّ (وي) كان مركّب من (ويك) بمعنى ويلك و إن، و المعنى ويلك اعلم أنّ اللّه (4)يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ على مقتضى حكمته، لا لكرامة المبسوط عليه وَ يَقْدِرُ و يضيّق الرزق على من يشاء كذلك، لا لهوان المضيق عليه لَوْ لا أَنْ مَنَّ اَللّهُ و أنعم عَلَيْنا بمنع

ص: 51


1- . تفسير الرازي 25:18، و نسبه الى القيل، تفسير روح البيان 6:435.
2- . في النسخة: صورته.
3- . تفسير القمي 2:144، تفسير الصافي 4:104.
4- . تفسير أبي السعود 7:27، تفسير روح البيان 6:436.

إعطاء ما تمنّيناه من حظّ قارون لَخَسَفَ بِنا أيضا في الأرض، كما خسف بقارون، لتوليد الغنى فيما مثل ما ولّده فيه من الكبر و التجبّر و البغي و الفساد و نحوها من المهلكات وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا ينجو من العذاب اَلْكافِرُونَ لنعم اللّه المكذّبون لرسله.

أقول: في الآيات دلالة واضحة على ذمّ الغنى و حبّ الدنيا و تمنّي حطامها إلاّ للتوصّل إلى مرضاة اللّه و درجات الآخرة.

عن كبشة الأنماري: أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ثلاث اقسم عليهنّ، و احدّثكم بحديث فاحفظوه، فأمّا التي اقسم عليهن، فانّه ما نقص مال عبد من صدقة، و لا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلاّ زاده اللّه عزّا، و لا فتح عبد باب مسألة إلاّ فتح اللّه عليه باب فقر، و امّا الذي احدثكم فاحفظوه، إنّما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللّه علما و مالا فهو يتّقي فيه ربّه، و يصل فيه رحمه، و يعمل للّه فيه بحقّه، فهذا بأفضل المنازل. و عبد رزقه اللّه علما، و لم يرزقه مالا، فهو صادق النيّة يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيّته، و أجرهما سواء. و عبد رزقه اللّه مالا، و لم يرزقه علما، فهو لا يتقّي فيه ربّه، و لا يصل فيه رحمه، و لا يعمل للّه فيه بحقّه. و عبد لم يرزقه اللّه علما و لا مالا، فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته، و وزرهما سواء» (1).

القمي: أنّه سأل بعض اليهود أمير المؤمنين عليه السّلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه، فقال: «يا يهودي، أمّا السجن الذي طاف أقطار الأرض بصاحبه، فانّه الحوت الذي حبس يونس في بطنه، فدخل في بحر القلزم، ثمّ خرج إلى بحر مصر، ثمّ دخل بحر طبرستان، ثمّ خرج في دجلة العوراء (2)ثمّ مرّ به تحت الأرض حتى لحق بقارون. . . إلى أن قال: و كان يونس يسبّح اللّه و يستغفره، فسمع قارون صوته. فقال للملك الموكّل به: انظرني فانّي أسمع كلاما، فأوحي إلى الملك: انظره فأنظره، فقال قارون: من أنت؟ قال يونس: أنا المذنب الخاطئ يونس بن متّى. قال: فما فعل شديد الغضب للّه موسى بن عمران؟ قال: هيهات هلك. قال: فما فعل الرؤوف الرحيم على قومه هارون بن عمران؟ قال: هلك. قال: فما فعلت كلثم بنت عمران التي كانت سمّيت لي؟ قال: هيهات ما بقي من آل عمران أحد. فقال قارون: وا أسفا على آل عمران! فشكر اللّه تعالى له ذلك، فأمر الملك الموكّل به أن يرفع العذاب عنه ايّام الدنيا» (3).

ص: 52


1- . تفسير روح البيان 6:437.
2- . في النسخة: العور، و في تفسير القمي: الغوراء، و في تفسير الصافي: الغور، و ما أثبتناه من معجم البلدان، و دجلة العوراء: اسم لدجلة البصرة علم لها. معجم البلدان 2:503.
3- . تفسير القمي 1:318، تفسير الصافي 4:105.

و عن الباقر عليه السّلام-في حديث ذكر فيه حوت يونس-قال: «فطاف به البحار السبعة حتى صار إلى البحر المسجور، و به يعذّب قارون، فسمع قارون دويّا، فسأل الملك عن ذلك، فأخبره أنّه يونس، و أنّ اللّه حبسه في بطن الحوت، فقال له قارون: تأذن لي أن اكلّمك؟ فأذن له، فسأله عن موسى، فأخبره أنّه مات فبكى ثمّ سأله عن هارون، فأخبره أنّه مات فبكى و جزع جزعا شديدا، ثمّ سأله عن اخته كلثم، و كانت مسمّاة له، فأخبره أنّها ماتت، فبكى و جزع جزعا شديدا، فأوحى اللّه إلى الملك الموكّل به أن ارفع عنه العذاب بقيّة أيام الدنيا لرقّته على قرابته» (1).

أقول: في الروايات إشكالات، و الذي يهوّن الخطب أنّها أخبار آحاد لا تزيد علما و لا عملا.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 83

ثمّ بشّر سبحانه المتقّين بالعاقبة المحمودة معظّما لأمر الآخرة و ثوابها بقوله: تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ التي سمعت خبرها، و بلغك وصفها دار نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا و ارتفاع مقام و غلبة و سلطانا فِي اَلْأَرْضِ كما أراد فرعون و قارون وَ لا فَساداً بالظلم و العدوان على الناس كما أراداه وَ اَلْعاقِبَةُ المحمودة من الجنّة و نعيمها لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن العلوّ و الفساد و ما لا يرضاه اللّه.

تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضالّ، و يعين الضعيف، و يمرّ بالبياع و البقّال، فيفتح عليه القرآن و يقرأ هذه الآية، و يقول: «نزلت في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل المقدرة من سائر الناس» (2).

و عنه بطرقهم: «أنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك (3)نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «العلوّ: الشّرف، و الفساد: النساء» (5).

و عنه عليه السّلام أنه قال لحفص بن غياث: «يا حفص، ما منزلة الدنيا من نفسي إلاّ منزلة الميتة، إذا

ص: 53


1- . تفسير العياشي 2:295/1981، تفسير الصافي 4:106.
2- . مجمع البيان 7:420، تفسير الصافي 4:106، تفسير روح البيان 6:438.
3- . الشّراك: سير النعل على ظهر القدم.
4- . مجمع البيان 7:420، تفسير الصافي 4:106، تفسير الرازي 25:20، تفسير روح البيان 6:438.
5- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:106.

اضطررت إليها أكلت منها. يا حفص، إنّ اللّه تبارك و تعالى علم ما العباد عاملون، و إلى ما هم صائرون، فحلم عنهم عند أعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم، فلا يغرّنّك حسن الطلب ممّن لا يخاف الفوت» ثمّ تلا الآية، و جعل يبكي، و يقول: «ذهبت و اللّه الأماني عند هذه الآية، فاز و اللّه الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يوذون الذرّ (1)، كفى بخشية اللّه علما، و كفى بالاغترار باللّه جهلا» (2).

سوره 28 (القصص): آیه شماره 84 الی 85

ثمّ بيّن سبحانه ما به تحصل الدار الآخرة و العاقبة المحمودة بقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ و قد مرّ تفسيرها في آخر سورة النمل (3)فَلَهُ بمقتضى التفضّل شيء أفضل من تلك الحسنة و خَيْرٌ مِنْها ذاتا و وصفا في القيامة وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ و عمل ما يسوء ربّه كالشّرك و العصيان فَلا يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ إِلاّ مثل ما كانُوا يَعْمَلُونَ بمقتضى العدل، لا يزادون عليه و لا ينقصون.

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)و في تكرير إسناد السيئة إليهم مبالغة في الزّجر عنها، و في تهجين حالهم، و زيادة تبغيض لها في قلوب السامعين، و فيه تنبيه على عظم كلمة الكفر بحيث إنّ العذاب الدائم مثلها.

ثمّ بشّر نبيه بأنّ عاقبته أحمد العواقب بقوله: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ و أوجب عليك تلاوته و تعظيمه و تبليغه و العمل به لَرادُّكَ بعد خروجك من الدنيا إِلى مَعادٍ و مرجع عظيم الشأن بحيث يغبطك به الاوّلون و الآخرون، و هو المقام المحمود، ثوابا على إحسانك في العمل، و تحمّلك المشاقّ التي لا تتحمّلها الجبال.

و قيل: إنّ المراد بالمعاد مكّة، و إنّما نكّر للتنبيه على عظم شأنه، فانّ استيلاءه عليه السّلام عليها، و قهره أهلها، و ظهور عزّ الاسلام و ذلّ الكفر (4)بعد كونه مقهورا و مغلوبا، من خوارق العادات الدالّة على رسالته، و الإخبار به قبل ظهور أماراته، بل وجود أمارات خلافه من الأخبار الغيبيّة.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من الغار، و سار في غير الطريق مخافة الطّلب، فلمّا أمن رجع إلى الطريق، و نزل بالجحفة بين مكّة و المدينة، و عرف الطريق إلى مكة، و اشتاق إليها، و ذكر مولده و مولد أبيه،

ص: 54


1- . الذرّ: اصغر النمل.
2- . تفسير القمي 4:146، تفسير الصافي 4:106.
3- . النمل:27/89.
4- . تفسير الرازي 25:21.

فنزل جبرئيل و قال: تشتاق إلى بلدك و مولدك؟ قال: «نعم» . فقال جبرئيل: إنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يعني إلى مكّة ظاهرا على أهلها (1).

أقول: يمكن كون المراد بالمعاد الدنيوي و الاخروي.

و عن السجّاد: «يرجع إليكم نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه ذكر عنده (3)جابر فقال: رحم اللّه جابرا، لقد بلغ من علمه أنّه كان يعرف تأويل هذه الآية» يعني الرجعة (4).

ثمّ أمره سبحانه ببيان علّة استحقاقه الردّ إلى معاد عظيم الشأن بقوله: قُلْ يا محمد رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى و التزم بالدين الحقّ، و ما يستحقّه من الثواب في الدارين وَ مَنْ هُوَ منهمك فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن الحقّ و ما يستحقّه من الهوان و العذاب في النشأتين.

سوره 28 (القصص): آیه شماره 86 الی 88

ثمّ استشهد سبحانه على تخصيصه بأفضل الكرامة بتخصيصه بنزول القرآن الذي هو أفضل الكتب عليه بقوله: وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا يا محمد أَنْ يُلْقى و ينزل إِلَيْكَ اَلْكِتابُ الذي هو أفضل الكتب، و ما كان ذلك إِلاّ رَحْمَةً عظيمة عليك خاصّة بك مِنْ رَبِّكَ اللّطيف بك لم يشركك فيها غيرك من الرّسل، فاذا علمت غاية لطفه بك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً و عونا لِلْكافِرِينَ الذين هم أعداؤه بالمداراة معهم، و التحمّل عنهم، و الاجابة إلى طلبتهم، بل كن عدوّهم و عونا للمؤمنين الذين هم أحباؤه

وَ لا يَصُدُّنَّكَ هؤلاء المشركون و لا يصرفنّك عَنْ تلاوة آياتِ اَللّهِ القرآنية، و تبليغها، و العمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ تلك الآيات إِلَيْكَ و تليت عليك وَ اُدْعُ الناس إِلى توحيد رَبِّكَ و عبادته وَ لا تَكُونَنَّ البتة أبدا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ في الالوهية،

أو في الدعوة وَ لا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ.

وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ اَلْكِتابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اَللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ اُدْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (87) وَ لا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)لعلّ النّكتة في هذه الخطابات قطع أطماع المشركين منه صلّى اللّه عليه و آله، فانّهم كانوا يدعونه إلى دينهم، أو

ص: 55


1- . تفسير الرازي 25:21.
2- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:107.
3- . في تفسير القمي: سئل عن.
4- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:107.

المبالغة في قبح هذه الامور بحيث ينهى عنها من يمتنع صدورها منه، فكيف بغيره، أو نهي امّته بطريق إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

و قيل: يعني لا تعتمد على غير اللّه، و لا تتّخذ وكيلا في امورك سواه (1)، لأنّه لا إِلهَ يلتجأ إليه في دفع المضارّ و جلب المنافع إِلاّ هُوَ تعالى وحده، فانّه القادر القاهر الغالب على كلّ شيء و كُلُّ شَيْءٍ من الروحانيات و الجسمانيات هالِكٌ و فان إِلاّ وَجْهَهُ و ذاته، لأنّه الواجب الوجود الذي يمتنع عليه الفناء.

و قيل: يعني إلاّ ما اريد به وجهه من الأعمال (2).

و في الأثر: يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال: ميّزوا ما كان منها للّه، ثمّ يؤمر بسائرها فيلقى في النار (3). و قيل: يعني سلطانه و ملكه الذي لا يزال.

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «كلّ شيء هالك إلاّ من أخذ طريق الحقّ» (4).

و عنه عليه السّلام: «من أتى اللّه بما أمره من طاعة محمّد و الائمّة عليهم السّلام من بعده، فهو الوجه الذي لا يهلك» ثمّ قرأ مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ (5).

أقول: المراد أنّ كلّ مطيع للّه و لرسوله، فهو وجه اللّه الذي يواجه به خلقه، و هو باق في الجنان مرزوق عند ربّه أبدا، و من هو عاص للّه و لرسوله، فهو من الهالكين، و عنه عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك وجه اللّه الذي يؤتى منه» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أعظم من أن يوصف بالوجه، لكن معناه كلّ شيء هالك إلاّ دينه، و الوجه الذي يؤتى منه» (7).

أقول: الظاهر أنّ الجملة الأخيرة تفسير الدين، و المراد بالوجه فيها الجهة التي يؤتى منها، و يحتمل أن يكون المراد الهداة إلى اللّه، فانّهم السبب الذي يقبل اللّه و يتوجّه بهم إلى خلقه، بل لا فرق بين المعنيين، فانّهم عليهم السّلام لشدّة التزامهم بالدين كأنهم صاروا مجسّمته.

عن الصادق عليه السّلام: إِلاّ وَجْهَهُ قال: «دينه، و كان رسول اللّه و أمير المؤمنين عليهما السّلام دين اللّه و وجهه، و عينه في عباده، و لسانه الذي ينطق به، و يده على خلقه، و نحن وجه اللّه الذي يؤتى منه، لن نزل في

ص: 56


1- . تفسير الرازي 25:21.
2- . تفسير روح البيان 6:443، مجمع البيان 7:421.
3- . تفسير روح البيان 6:443.
4- . التوحيد:149/2، تفسير الصافي 4:108.
5- . التوحيد:149/3، تفسير الصافي 4:108، و الآية من سورة النساء:4/80.
6- . الكافي 1:111/1، تفسير الصافي 4:108.
7- . التوحيد:149/1، تفسير الصافي 4:108، المحاسن:218/116.

عباده ما دام للّه فيهم رويّة» قيل: ما الرّوية؟ قال: «الحاجة» و إذا لم تكن للّه فيهم حاجة رفعنا إليه و صنع بنا ما أحبّ» (1).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «أفيفنى كلّ شيء و يبقى الوجه؟» ثمّ قال: «اللّه أعظم من أن يوصف» ثمّ فسّره بالتفسير السابق (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام بعد تفسير الوجه بالدّين قال: «لأنّ من المحال أن يهلك منه كلّ شىء و يبقى الوجه، و هو أجلّ و أعظم من ذلك، و إنّما يهلك ما ليس منه، ألا ترى أنّه تعالى قال: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ (3)ففضل بين خلقه و وجهه» (4).

أقول: حاصل المراد أنّ الوجه هو الجهة التي بها يقبل الشيء إلى غيره، و اللّه منزّه عن الجهة و العضو، فالمراد منه ما هو سبب إقباله إلى خلقه و هو دينه و حججه الذين ببركتهم تنزل الرحمة.

قيل: إنّ مرجع ضمير وجهه هو الشيء، و وجه الشيء هو الذي يلي جهته تعالى، فانّ كلّ شيء مركّب من الوجود و الماهية و الثاني اعتباري لا خارج له (5)، اتصافه بالوجود بالعرض و المجاز، فانّ العدم لا يصير في الحقيقة معروضا للوجود الذي هو نقيضه، كما لا يصير الوجود معروضا للعدم، و لا يقال: انعدم الوجود، بل يحصل بينهما إضافة اعتبارية يقال بها الماهية موجودة، و صار الموجود معدوما، و الوجود المطلق وجه اللّه، و هو باق أبدا، و الماهية باعتبار إضافتها إلى الوجود هالكة.

قيل: إنّه ورد في حديث: أنّ الضمير راجع إلى الشيء، ثمّ فسّره بأنّ وجه الشيء لا يهلك ما يقابل منه إلى اللّه، و هو روحه و حقيقته و ملكوته، و محلّ معرفة اللّه منه التي تبقى بعد فناء جسمه و شخصه (6).

ثمّ إنه تعالى بعد بيان ثبوت ذاته، بيّن ثبوت الحكم لنفسه في عالم الوجود بقوله: لَهُ اَلْحُكْمُ و القضاء النافذ في كلّ شيء، و في جميع العوالم وَ إِلَيْهِ وحده تُرْجَعُونَ عند البعث للجزاء بالحقّ و العدل، و قد استدلّت المجسّمة بهذه الآية حيث أثبت سبحانه لنفسه الوجه (7)، و بطلانه ظاهر بحكم العقل و الروايات السابقة.

الحمد للّه على ما أنعم عليّ من التوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة، و أسأله التوفيق لتفسير ما بقي من السور المباركات بمحمد و آله الطاهرين.

ص: 57


1- . التوحيد:151/7، تفسير الصافي 4:108.
2- . تفسير القمي 2:147، تفسير الصافي 4:109.
3- . الرحمن:55/26 و 27.
4- . الاحتجاج:253، تفسير الصافي 4:109.
5- . تفسير روح البيان 6:443.
6- . تفسير الصافي 4:109.
7- . تفسير الرازي 25:24.

ص: 58

في تفسير سورة العنكبوت

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة القصص المتضمّنة لبيان افتتان قارون بالدنيا و حطامها حتى عارض موسى و لقربه [منه]حتى خسف اللّه به و بداره الأرض مع كونه أقرأ بني إسرائيل للتوراة و أقرب جلّهم من موسى، و بيان نهي النبيّ الذي كان معصوما من الخطأ و الزلل عن الافتتان بالمشركين و مواعيدهم مبالغة في زجر أتباعه منه، نظمت سورة العنكبوت المبدوأة بإنكار حسبان قبول دعوى الايمان من المؤمنين بغير افتتانهم بحبّ الدنيا و امتحانهم بالبلايا و الشدائد حتى يتميّز المخلص من المنافق و الصادق في دعوته من الكاذب، و الإخبار بأنّ دأبه تعالى من أوّل الدنيا امتحان المدّعين للايمان بالتكاليف و المحن و عدم قبول دعوتهم بلا ظهور آثار الايمان فيهم من الصبر في طاعة اللّه و تحمّل المشاقّ في جنب اللّه فابتدأ بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)

ثمّ لمّا كان لزوم اختبار حال المؤمنين في الخلوص و النّفاق من المطالب المهمّة النافعة، ذكر الحروف المقطّعات لتوجيه القلوب إلى استماعه بقوله: الم و قد مرّ تأويلها في الطّرفة،

ثمّ شرع سبحانه في بيان لزوم كون الايمان عن صميم القلب لا بظاهر القول بقوله: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ و توهّموا أَنْ يُتْرَكُوا و يهملوا و لا يؤاخذوا على عدم الايمان بمجرّد أَنْ يَقُولُوا بألسنتهم آمَنّا باللّه وَ برسوله و بدار الآخرة، و الحال أن هُمْ لا يُفْتَنُونَ و لا يبتلون بأنواع البلاء، و لا يمتحنون في إيمانهم بالشدائد و مشاقّ التكاليف حتى يظهر ثباتهم في الايمان و خلوصهم في التوحيد.

و قيل: في وجه تعلّق السورة بما قبلها أنّه لمّا قال سبحانه في السورة السابقة: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ (1)و كان المراد أن يردّه إلى مكّة ظاهرا غالبا على الكفّار، ظافرا طالبا

ص: 59


1- . القصص:28/85.

للثأر، و كان فيه احتمال مشاقّ القتال، و صعب على البعض ذلك، فقال سبحانه: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا و لا يؤمروا بالجهاد (1).

و قيل: إنه لمّا قال في أواخر السابقة اُدْعُ إِلى رَبِّكَ (2)و كان في الدعاء إليه الطّعان و الحراب، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفّار، فشّق على البعض ذلك، فقال سبحانه: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ (3).

و قيل: إنّه لمّا قال في آخر السورة السابقة: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (4)ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر من قوله: لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (5)يعني ليس كلّ شيء هالكا من غير رجوع، بل كلّ هالك و له رجوع إلى اللّه، و كان من قول منكري الحشر إنّه لا فائدة في التكاليف إذا لم يكن رجوع و معاد، فلمّا أثبت اللّه الرجوع، بيّن حسن التكليف بقوله: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ إلى آخره (6)، و ما ذكرنا أحسن الوجوه، و يمكن أن يكون وجه النّظم جميع الوجوه.

قيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، و كان كفّار قريش يؤذونهم و يعذّبونهم على الاسلام، و كانت صدورهم تضيق لذلك، و يجزعون فتداركهم اللّه بالتسلية بهذه الآية (7).

و قيل: إنّها نزلت في عمّار بن ياسر، و عياش بن أبي ربيعة، و الوليد بن الوليد، و سلمة بن هشام (8)، و كانوا يعذّبون بمكّة (9).

أقول: هذان الوجهان يوافقان القول بأن جميع السورة أو الآيات العشر من أولها مكية، كما عليه جمع من المفسرين (10). و أمّا على القول بأنّ جميعها أو عشر آيات من أولها مدنية، كما عليه آخرون فلا [يوافق الوجهين] (11).

و قيل: الآية نزلت في أقوام بمكة هاجروا، فتبعهم الكفّار، فاستشهد بعض و نجا الباقون (12).

و قيل: نزلت في مهجع بن عبد اللّه، قتل يوم بدر، و كان أبواه و أقاربه يجزعون عليه (13).

عن الصادق عليه السّلام: «معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم» (14).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه قرأ هذه الآية، ثمّ قال: «ما الفتنة؟» قيل: الفتنة في الدين. فقال: «يفتنون كما

ص: 60


1- . تفسير الرازي 25:25.
2- . القصص:28/87.
3- . تفسير الرازي 25:25.
4- . القصص:28/88.
5- . القصص:28/88.
6- . تفسير الرازي 25:25.
7- . تفسير روح البيان 6:444.
8- . في النسخة: مسلمة بن هشام، تصحيف انظر اسد الغابة 2:341.
9- . تفسير الرازي 25:27.
10- . مجمع البيان 8:425، تفسير القرطبي 13:323.
11- . مجمع البيان 8:425، تفسير القرطبي 13:323.
12- . تفسير الرازي 25:28.
13- . تفسير البيضاوي 2:203.
14- . مجمع البيان 8:427، تفسير الصافي 4:110.

يفتن الذهب» ثمّ قال: «يخلّصون كما يخلّص الذهب» (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّا نزلت هذه الآية قال: «لا بدّ من فتنة تبتلى بها الامّة بعد نبيها، ليتعيّن (2)الصادق من الكاذب، لأنّ الوحي قد انقطع و بقي السيف و افتراق (3)الكلمة إلى يوم القيامة» (3).

و في (نهج البلاغة) : قام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة، و هل سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنها؟ فقال علي عليه السّلام: «لما أنزل اللّه سبحانه: أَ حَسِبَ اَلنّاسُ الآية، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين أظهرنا، فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الفتنة التي أخبرك اللّه بها؟ فقال: يا علي، إنّ امّتي سيفتنون من بعدي. فقلت: يا رسول اللّه، أو ليس قلت لي يوم احد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت (4)عنّي الشهادة فشقّ ذلك عليّ: ابشر فانّ الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إنّ ذلك كذلك، فكيف صبرك إذن؟ فقلت: يا رسول اللّه ليس هذا من مواطن الصبر، و لكن من مواطن البشرى و الشّكر. فقال: يا علي، سيفتنون بأموالهم، و يمنّون بدينهم على ربّهم، و يتمنّون رحمته، و يأمنون سخطه، و يستحلّون حرامه بالشهادة الكاذبة و الأهواء الساهية فيستحلون الخمر بالنبيذ، و السّحت بالهدية، و الربا بالبيع. قلت: يا رسول اللّه، فأيّ المنازل انزلهم [عند ذلك]، أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام قال: «جاء العباس إلى أمير المؤمنين، فقال: انطلق يبايع (6)لك الناس. فقال له أمير المؤمنين: أتراهم فاعلين؟ قال: نعم. قال: فأين قوله عز و جل الم* أَ حَسِبَ اَلنّاسُ الآية» (7).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 3

ثمّ إنّه بعد إنكار ذلك الحسبان الفاسد، بيّن عدم جوازه ببيان أنّ تفتين مدّعي الايمان و عدم قبول دعواه ما لم يقترن بالصبر على البأساء و الضرّاء، دأبه القديم الذي لا يجوز تخلّفه منه تعالى بقوله: وَ باللّه لَقَدْ فَتَنَّا و امتحنّا بالصبر على الشدائد المؤمنين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم فَلَيَعْلَمَنَّ و ليميزنّ اَللّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا في دعواهم الايمان وَ لَيَعْلَمَنَّ و ليميزنّ اَلْكاذِبِينَ فيه، فنزّل سبحانه نفسه في إيجاد موجبات تميّزهم في الظاهر و في نظرهم منزلة الجاهل الذي يريد أن يعلم حال قلبهم و واقع إيمانهم مع كونه بالذات عالما

وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكاذِبِينَ (8)

ص: 61


1- . الكافي 1:302/4، تفسير الصافي 4:111.
2- . في النسخة: لتعيين.
3- . تفسير الصافي 4:110.
4- . في النسخة: و خيّرت.
5- . نهج البلاغة:220 الخطبة 156، تفسير الصافي 4:110.
6- . في تفسير القمي: انطلق بنا نبايع.
7- . تفسير القمي 2:148، تفسير الصافي 4:111.
8- . في النسخة: لافتراق.

بسرائرهم و ضمائرهم.

و قيل: إنّ المعنى فليرينّ اللّه (1). و قيل: يعني فليظهرنّ اللّه (2). و قيل: يعني فليجازينّ اللّه، و الكلّ على ذكر المسبّب و إرادة السبب (3). و قيل: إنّ (يعلمن) محمول على ظاهره (4)، و المراد أنّ بالامتحان يتعلّق علمه بالواقع تعلقا حاليا بعد ما كان تعلّقه تعلّقا استقباليا.

و فيه أنّه مبني على كون المعلومات عنده صلّى اللّه عليه و آله حاليا و استقباليا، و لا يكون ذلك إلاّ على فرض كونه تعالى محاطا بالزمان، و هو باطل قطعا، فالموجودات في علمه تعالى كلّها في عرض واحد، و التقدّم و التأخر فيها إنّما يكون في نظرنا مع أنّ الظاهر أنه بالامتحان يستكشف ما هو موجود في الحال من صدق الايمان و كذبه، لا ما يتحقّق بعد الامتحان. و يمكن أن يكون المعنى أنّ فتنة المؤمنين ليس لأجل عمله تعالى بواقع إيمان المدّعي له، فانّ اللّه تعالى ليعلم البتة صدق الصادق و كذب الكاذب.

قيل: لمّا كان المراد من الكاذبين المستديمين للكفر و المستمرين عليه، عبّر عنهم بصيغة الفاعل الدالّ على الثبوت، بخلاف الصادقين (5)فانّ المراد منهم المؤمنون الذين كانوا قريبي العهد بالايمان. و فيه: أنّ عنوان الكذب أيضا كان حادثا في ذلك الزمان، و إن كان كفرهم قديما و مستمرّا فيهم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ أنكر على الكفّار حسبانهم الأقبح من حسبانهم الأول بقوله: أَمْ حَسِبَ.

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اَللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (5)قيل: إنّ المعنى: بل (6)أظنّ الكفار اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ بجوانحهم (7)و جوارحهم أَنْ يَسْبِقُونا و يفوتونا إن لم نعذّبهم في الحال على سيئاتهم، ليس الأمر كما يحسبون، بل إن لم نعذّبهم في الحال نعذّبهم فيما بعد بحكم الإيعاد، فانّ الإمهال لا يستلزم الإهمال، فانّ التعجيل في المجازاة شغل من يخاف الفوت ساءَ ما يَحْكُمُونَ به من أنّ عصيانهم لا يستتبع عقوبة، و مخالفتهم لأحكام اللّه لا يستعقب عذابا و نكالا، فانّ الحكم الحسن ما يحكم به العقل، من أنّ اللّه الحكيم لا يهمل الناس، بل يجعل لهم أحكاما و تكاليف ينتظم بها معاشهم و معادهم، و مخالفتها موجبة لاستحقاق العقاب، و الحكيم يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، و لو لا العقوبة على مخالفة الأحكام لكان جعلها بلا فائدة،

ص: 62


1- . تفسير الرازي 25:29.
2- . تفسير الرازي 25:29.
3- . تفسير روح البيان 6:446.
4- . تفسير الرازي 25:29.
5- . تفسير الرازي 25:29.
6- . تفسير أبي السعود 7:30.
7- . في النسخة: بجوانحكم.

و لو لا جعلها لكان خلق الناس عبثا.

ثمّ حثّ سبحانه الناس على ترك السيئات و العمل بالطاعات بتخويفهم من إتيان يوم القيامة و دار الجزاء بقوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا و يتوقّع لِقاءَ اَللّهِ و ملاقاة دار جزائه، فليجهد في ترك السيئات و القيام بالعبادات، و ليسارع إلى موجبات غفران اللّه و ثوابه، و ليحذر ممّا يسوقه إلى عقاب اللّه و نكاله، و ليستعدّ لإتيان أجل اللّه و يوم جزائه فَإِنَّ أَجَلَ اَللّهِ و غاية زمان انقضاء الدنيا الذي عيّنه اللّه لفنائها و اللّه لَآتٍ و كائن.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من كان يؤمن بأنّه مبعوث، فانّ وعد اللّه لآت من الثواب و العقاب» (1).

و لا يخفى على اللّه شيء من أقوال الناس و أعمالهم وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالهم اَلْعَلِيمُ بأعمالهم و أحوالهم، فيجازيهم حسبما يستحقون، و لا يفوته شيء، فبادروا العمل قبل الفوت.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ بالغ في الحثّ على الطاعة بقوله: وَ مَنْ جاهَدَ نفسه بترك الشهوات، و الصبر على الطاعات، و جاهد الكفّار بالسيف، و الشيطان بدفع وساوسه فَإِنَّما يُجاهِدُ جهادا نافعا لِنَفْسِهِ و فائدته الدنيوية و الاخروية عائدة له لا تتعدّاه إلى اللّه إِنَّ اَللّهَ الخالق للموجودات لَغَنِيٌّ بالذات عَنِ الموجودات في اَلْعالَمِينَ و منافعها، و إنما الموجودات في وجودها و بقائها و كمالها محتاجة إلى فضله و إحسانه و فيضه.

وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ (6) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عود فوائد مجاهدته و أعماله إلى نفسه إجمالا، نبّه على أهمّ فوائدها العائدة إليه تفصيلا بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه و رسالة رسوله و الدار الآخرة وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضيّات عند اللّه المأتيات لوجهه لَنُكَفِّرَنَّ و نسترنّ عن الناس بل عَنْهُمْ أنفسهم سَيِّئاتِهِمْ و قبائح أعمالهم التي صدرت في الدنيا عنهم بالغا ما بلغ بمحوها عن دفاتر أعمالهم، لئلاّ يطّلع عليها أحد حتى نفسه وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ على إيمانهم و أعمالهم أَحْسَنَ و أفضل جزاء اَلَّذِي كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الإقرار بالتوحيد، و القيام بالطاعات، و ممّا هو لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب أحد.

ص: 63


1- . التوحيد:267/5، تفسير الصافي 4:111.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 8

ثمّ لمّا كان أقوى الموانع من الايمان و طاعة اللّه رعاية ميل الأقارب و الأرحام خصوصا الوالدين الذين كان الاحسان إليهم من أهمّ الواجبات و المحسّنات العقلية و الشرعية، نهى سبحانه عن جعل نهيهما عن الايمان بالتوحيد مانعا عنه بقوله: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ و أوجبنا عليه أكيدا أن يفعل بِوالِدَيْهِ ما يعدّ من غاية كونه ذا حسن حُسْناً و عين صلاح فضلا عن الإطاعة و الانقياد لهما وَ قلنا له: إِنْ جاهَداكَ و جادلاك مع ذلك لِتُشْرِكَ بِي من الموجودات و الأصنام ما لَيْسَ لَكَ بِهِ و بإلهيّته عِلْمٌ و برهان يفيده فَلا تُطِعْهُما في ذلك، و لا تعين بأمرهما به فضلا عن أمر غيرهما، فانّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)ثمّ هدّد سبحانه المشركين الضالّين و المضلّين بقوله: إِلَيَّ بعد الموت مَرْجِعُكُمْ أيّها الناس المطيعين و العصاة و الموحّدين و المشركين و الضالّين و المضلّين لا إلى غيري فَأُنَبِّئُكُمْ و اخبركم بعد الرجوع إليّ و الحضور عندي بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من التوحيد و الاشراك و الضلال و الاضلال بتعيين جزائكم، و ما يترتّب على أعمالكم.

روي أنه لمّا آمن سعد بن أبي وقاص الزّهري، قالت له امّه حمنة بنت أبي سفيان بن امية بن عبد شمس: يا بني، ما هذا الدين الذي أحدثت؟ لتدعن دينك، أو أذهب من الظلّ إلى الشمس، و لا آكل و لا اشرب من شيء حتى ترجع من دين محمّد أو أموت فتعيّر بي، فيقال لك: يا قاتل امّه فلم تأكل و لم تشرب ثلاثة أيام حتى جهدت، فقال لها: يا امّ، لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت، فكلي و إن شئت فلا تأكلي، فلمّا رأت ذلك أكلت، فأمره اللّه في الآية أن يحسن إليها، و يقوم بأمرها، و يسترضيها فيما ليس بشر و معصيّة (1)، فنبّه سبحانه على حكمين:

أحدهما: وجوب البرّ و الاحسان بالوالدين و حرمة عقوقهما.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الجنّة تحت أقدام الامّهات» (2).

و في الحديث القدسي: «من رضي عنه والده، فأنا عنه راض» .

و الثاني، حرمة إطاعتهما في معصية اللّه.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 9 الی 11

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصّالِحِينَ (9) وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اَللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنّاسِ كَعَذابِ اَللّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ اَلْعالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنافِقِينَ (11)

ص: 64


1- . تفسير روح البيان 6:450.
2- . مجمع البيان 8:431.

ثمّ بيّن سبحانه حال الموحّدين الذين فارقوا الأقارب و الأرحام حفظا للدين، و طلبا لرضا ربّ العالمين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ من رفض الشّرك و مفارقة الأرحام لوجه اللّه لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الآخرة فِي زمرة اَلصّالِحِينَ و الموحّدين المقرّبين و المؤمنين الكمّلين و لنعلينّهم في درجتهم، و تنعم عليهم بمصاحبتهم.

قيل: إن نكتة ذكر المؤمنين الصالحين مرّتين أنّ النظر في الآية الاولى إلى بيان حال المهتدين بعد بيان حال الضالّين، و في الآية الثانية إلى بيان حال الهادين بعد ذكر المضلّين، كالوالدين اللذين امرا (1)ولدهما بالشرك (2).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لزوم امتحان المؤمنين بالبلاء و مشاقّ التكليف، لتمييز الصادق في دعوى الايمان عن الكاذب، بيّن حال الكاذب في دعوى الايمان عند ابتلائه بالفتن بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ و بعضهم مَنْ يَقُولُ بلسانه آمَنّا بِاللّهِ عن صميم القلب، كايمان المؤمنين الحقيقي فَإِذا أُوذِيَ من قبل الكفّار فِي سبيل اَللّهِ و لأجل الايمان به جَعَلَ وعد الأذيّة التي كانت فِتْنَةَ اَلنّاسِ و امتحانا له من قبلهم صارفة لنفسه عن الايمان مع ضعفها و انقطاعها كَعَذابِ اَللّهِ الشديد الدائم، الذي هو صارف المؤمنين الخلّصين من الكفر به، و جزعوا منها، و لذا ينصرفون من الايمان كما ينصرف الخلّصون من الكفر للخوف منه وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ لجيش المؤمنين على الكفّار مِنَ قبل رَبِّكَ و برحمته ليقولن للمؤمنين تلبيسا عليهم و طمعا في الغنيمة: إِنّا كُنّا موافقين مَعَكُمْ في الايمان، و تابعين لكم في الدين، فاشركونا في الغنائم.

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: أَ وَ لَيْسَ اَللّهُ الخالق لكلّ شيء بِأَعْلَمَ منكم و من كلّ أحد بِما فِي صُدُورِ اَلْعالَمِينَ و قلوبهم من الايمان الخالص و النفاق حتى يقولوا ما يقولون من إظهار الايمان، و يفعلوا ما يفعلون من إبطان الكفر و النفاق،

نعم وَ اللّه هو أعلم، و كذا لَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ البتة إيمان اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب و الاخلاص وَ لَيَعْلَمَنَّ نفاق اَلْمُنافِقِينَ و لا يلتبس عليه حالهم، و إن سكت المؤمن و تكلّم المنافق.

ص: 65


1- . في النسخة: كالولدين الذين امروا.
2- . تفسير الرازي 25:36.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ لمّا بيّن اللّه معاملة الكفّار مع المؤمنين في ردّهم إلى الكفر، بيّن مكالمتهم معهم في ضلالهم بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكّة مخاطبين لِلَّذِينَ آمَنُوا ردّعا لهم من الايمان، و استمالة لقلوبهم إلى الكفر اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا و اسلكوا في الدين مسلكنا، و إن كان بعث و حشر و مؤاخذة، و فرض لكم خطيئة و ذنب من جهة التديّن بديننا، فلنرفع عنكم آثامكم و ذنوبكم وَ لْنَحْمِلْ عنكم خَطاياكُمْ.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ و ليسوا برافعين آثامهم من ظهورهم إِنَّهُمْ و اللّه لَكاذِبُونَ في وعدهم ذلك، لعدم قدرتهم على إنجازه.

وَ البتة لَيَحْمِلُنَّ هؤلاء القائلون يوم القيامة أَثْقالَهُمْ و أوزارهم التي عملوها في الدنيا وَ أَثْقالاً اخر مَعَ أَثْقالِهِمْ من جهة إضلالهم الناس، فيعذّبون بضلال أنفسهم و إضلالهم غيرهم من غير أن ينقص من عذاب الضالّين شيء، كما ورد في الحديث: «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» (1). وَ و اللّه لَيُسْئَلُنَّ هؤلاء الكفّار المضلّين يَوْمَ اَلْقِيامَةِ سؤال تقريع و تبكيت عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ و يختلقونه في الدنيا.

قيل: يقال لهم يوم القيامة: احملوا خطايا الذين أضللتموهم، فلا يحملون، فيسألون و يقال: لم افتريتم و كذّبتم (2)؟

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه سعي الكفّار في إضلال المؤمنين و إيذائهم لهم على الايمان، و دعوتهم إياهم إلى الكفر، و كان ذلك ثقيلا على قلب حبيبه، سلاّه بذكر دعوة اولي العزم من الرسل، و مخالفة اممهم لهم بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا للدعوة إلى التوحيد و الدين الحقّ نُوحاً إِلى قَوْمِهِ و هم أهل الدنيا.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

ص: 66


1- . مسند أحمد 4:357.
2- . تفسير الرازي 25:41.

قيل: إنّه عليه السّلام أول نبيّ بعث إلى عبدة الأصنام، لأنّها حدثت في قوم (1)فَلَبِثَ و مكث نوح فِيهِمْ بعد الارسال، و هو يدعوهم إلى التوحيد أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً و هم لا يقبلون قوله، و لا يلتفتون إلى دعوته، بل كانوا يشتمونه و يضربونه، و هو لا يفتر عن الدعوة، و لا ينكل على تحمّل أعباء الرسالة حتى يئس من إيمانهم، فدعا عليهم فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفانُ فغرق من في الدنيا كلّها من الكفّار وَ هُمْ ظالِمُونَ و مصرّون على إهانة اللّه و رسوله، مبالغون في معاندة الحقّ و لو كانوا غير مصرّين على الكفر و معاندة الحقّ لم يغرقوا و لم يعذّبوا،

لكونه تعالى توّابا رحيما و أمّا نوحا فَأَنْجَيْناهُ من الطّوفان و الغرق و الابتلاء بمشاقّ الكفرة رحمة منا وَ نجّينا أَصْحابَ اَلسَّفِينَةِ أيضا و أهلها الراكبين فيها معه من المؤمنين به من أولاده و أهله و غيرهم بواسطة السفينة التي صنعها بأمرنا و وحينا وَ جَعَلْناها آيَةً و دلالة على التوحيد لِلْعالَمِينَ حيث إنّها أول سفينة في الدنيا، و سائر السفن التي استدلّ بها سبحانه على توحيده علامة من تلك السفينة، أو المراد جعلنا نجاة نوح و أصحابه، أو قضيّته و واقعته عبرة وعظة للخلق إلى يوم القيامة يتّعظون بها، و يعتبرون منها. روي أنّ نوحا بعث على رأس الأربعين، و دعا قومه تسعمائة و خمسين عاما، و عاش بعد الطّوفان ستيّن سنة حتى كثر الناس وفشوا، و ذلك من أولاده حام و سام و يافث، لأنّ غيرهم لمّا خرجوا من السفينة ماتوا كلّهم، و كان عمره عليه السّلام ألفا و خمسين عاما، و هو أطول الأنبياء عمرا، و هو أول من تنشقّ الأرض عنه بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله (2).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ سلاّه سبحانه بذكر إبلاغ إبراهيم في نصح قومه و عدم قبولهم دعوته بقوله: وَ إِبْراهِيمَ قيل: إنّ التقدير و أرسلنا إبراهيم، أو اذكره (3)إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ و هي أهل بلدة بابل: يا قوم اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، و لا تشركوا به شيئا وَ اِتَّقُوهُ و خافوا عذابه على الشرك ذلِكُمْ الذي قلت من التمحّض لعبادته

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (18)

ص: 67


1- . تفسير روح البيان 6:455.
2- . تفسير روح البيان 6:456.
3- . تفسير الرازي 25:43.

و الاتقاء منه خَيْرٌ لَكُمْ و انفع ممّا أنتم عليه من الاشراك به و عبادة الأصنام إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شيئا من الخير و الشرّ، و تميّزون أحدهما من الآخر.

ثم أخذ في توبيخهم بقوله: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه لجهلكم و نقص عقولكم أَوْثاناً و أحجارا منحوتة لا عقل لها و لا قدرة، و لا نفعا و لا ضرّا وَ تَخْلُقُونَ و تخترعون من عند أنفسكم إِفْكاً و كذبا فضيعا شنيعا حيث تسمّونها إله و شفعاء عند اللّه، مع أنّ الإله لا بدّ أن يكون منعما على خلقه و إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ و لا يقدرون على إعطائكم رِزْقاً قليلا فَابْتَغُوا و اطلبوا عِنْدَ اَللّهِ القادر على كلّ شيء اَلرِّزْقَ كلّه بعرفانه و التوجّه إليه وَ اُعْبُدُوهُ وحده وَ اُشْكُرُوا لَهُ على نعمائه حتى يزيدكم النّعم و اعلموا أنّكم بعد الموت إِلَيْهِ و إلى حكمه تُرْجَعُونَ فيثيبكم على طاعته و عبادته، و يعذّبكم على عصيانه و مخالفته، فعليكم أن تصدّقوني فيما أمرتكم ممّا فيه خيركم في الحياة و بعد المماة

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا ني فيما اخبركم به، فليس تكذيبكم إيّاي بأمر بديع، و ما هو بضارّ علي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ و جماعات كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ أنبياءهم كشيث و إدريس و نوح، فما أضروهم شيئا، و إنّما أضرّوا أنفسهم بتعريضها للعذاب و الهلاك وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ المرسل من قبل اللّه إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و إرشاد الخلق إلى الحقّ ببيان واضح لا يبقى معه الشكّ، و ما عليه أن يصدّق و لا يكذّب، و قد خرجوا و خرجت عن عهدة ما أمرنا به بما لا مزيد عليه، فليس علينا مجال مسئوولية و مؤاخذة، و إنما المسؤولية و المؤاخذة لكم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 19 الی 22

ثمّ لمّا ذكر إبراهيم عليه السّلام لقومه التوحيد و المعاد، و كان كفّار مكّة منكرين للبعث، استدلّ سبحانه لهم عليه بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم يعلموا علما جاريا مجرى العيان في الجلاء و الظهور كَيْفَ يُبْدِئُ و يوجد اَللّهُ بلا سابقة اَلْخَلْقَ ثُمَّ اعلموا أنّه يُعِيدُهُ بعد كونه رميما قياسا على الإبداء إِنَّ ذلِكَ المذكور من الإعادة عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ و سهل لا نصب فيه بوجه.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22)

ثمّ أكدّ سبحانه ذلك الدليل بقوله: قُلْ يا محمّد، لمنكري البعث: سِيرُوا و سافروا فِي

ص: 68

أقطار اَلْأَرْضِ و جوانبها فَانْظُرُوا بنظر التفكّر و الاعتبار كَيْفَ بَدَأَ اللّه و أوجد اَلْخَلْقَ ابتداء على كثرتهم و اختلاف أشكالهم و أحوالهم و أخلاقهم ثُمَّ إذا علمتم بدء الخلق علمتم أنّ القادر الذي هو اَللّهُ بقدرته يُنْشِئُ و يوجد هؤلاء فينشؤون اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ و يحيون حياة ثانية إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الابداء و الإعادة و غيرهما قَدِيرٌ.

و إنّما قدّم ذكر العذاب لأنّ المقصود ترهيب منكري البعث، و كان ذكر الرحمة تبعا، ثمّ سدّ باب غرورهم بتأخير عذابهم بقوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، و هم المشركون المنكرون للبعث وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته، و هم الموحدون المقرّون بالبعث وَ إِلَيْهِ وحده إلى حكمه تُقْلَبُونَ و تردّون فيفعل بكم ما يريد

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له و خارجين من سلطانه و إن هربتم فِي اَلْأَرْضِ الواسعة و تواريتم فيها وَ لا بالتحصّن فِي اَلسَّماءِ التي هي أوسع منها، فانّه يدرككم لا محالة، و يجري عليكم حكمه و قضاءه وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ و محبّ يفدي لكم في دفع العذاب عنكم نفسه و ماله، و يشفع لكم عند اللّه وَ لا نَصِيرٍ و معين يحرسكم بقوته ممّا يصيبكم من البلاء. قيل: إنّ الوليّ هو الذي يدفع المكروه، و النصير هو الذي يأمر بدفعه (1).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد الكفّار إجمالا بالعذاب المبهم، هدّد خصوص المشركين المنكرين للحشر بالعذاب مفصّلا بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ توحيد اَللّهِ و دلائله، وَ كفروا ب لِقائِهِ و الحضور عنده في المحشر لجزاء الأعمال أُولئِكَ الكافرون بالخصوص يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي و فضلي، و انقطع رجاؤهم من ألطافي بشركهم وَ أُولئِكَ بالخصوص لَهُمْ بالاستحقاق عَذابٌ أَلِيمٌ بإنكارهم المعاد.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اَللّهُ مِنَ اَلنّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

ثمّ إنّه تعالى بعد دعوة كفّار مكّة إلى الايمان بالمعاد و الاستدلال عليه، و تهديدهم على الكفر به، عاد إلى بيان قصّة إبراهيم عليه السّلام بقوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له و مقالهم بعد استماع دعوته و نصحه إِلاّ أَنْ قالُوا الرؤساء لأتباعهم، أو بعضهم لبعض تجمّعوا على إبراهيم و اُقْتُلُوهُ بالسيف، أو الحجارة أَوْ حَرِّقُوهُ بالنار، و انصروا آلهتكم، فاختاروا إحراقه، فألقوه في النار فَأَنْجاهُ اَللّهُ مِنَ

ص: 69


1- . تفسير روح البيان 6:460.

أذى اَلنّارِ بأن جعلها بردا و سلاما و روحا و ريحانا إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء الخارق للعادة بحفظه من حرّها و إخمادها مع غاية عظمها بالفوز عقيب إحراق الحبل الذي أوثقوه به و إنشاء الرّوض مكانها لَآياتٍ عجيبة و دلائل واضحة على توحيد اللّه و ألطافه بأوليائه و نصرته لهم على أعدائهم لِقَوْمٍ يلتفتون إلى الآيات، و يتفكّرون فيها، و ينتفعون بها، و هم الذين يُؤْمِنُونَ باللّه و بآياته، لا الكافرون الذين لا يعلمون إلاّ ظاهر الحياة الدنيا.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ إنه تعالى بعد النجاة من النار اخذ في نصح قومه وَ قالَ يا قوم إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ و اخترتم العبادة مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه أَوْثاناً و أحجارا منحوتة لتحفظوا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ و التحابب و التواصل فيكم باجتماعكم على عبادتها، أو المراد مودّتكم للأوثان أو لآبائكم الذين كانوا يعبدون، لا لقيام برهان عندكم على جوازها، و اعلموا أنّ تلك المودّة باقية فيكم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعماركم فيها ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يتبدّل التوادّ بالتباغض، و التواصل بالتباعد، حيث يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ و هم الأتباع أو العبدة بِبَعْضٍ و هم الرّؤساء و المتّبوعون، أو الأوثان، و يتبرأ كلّ من كلّ.

وَ قالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ (27)عن الصادق عليه السّلام: «يعني يتبرأ بعضكم من بعض» (1)وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ من الاتباع أو العبدة بَعْضاً الآخر من المتبوعين، أو الأوثان.

عن الصادق عليه السّلام: «ليس قوم ائتمّوا بإمام في الدنيا إلاّ جاء يوم القيامة يلعنهم و يلعنونه إلاّ أنتم و من كان على مثل حالكم» (2).

وَ مَأْواكُمُ و منزلكم جميعا العابدون و المعبودون، و التابعون و المتبوعون اَلنّارُ فانّها مقرّكم الذي تأوون إليه، و لا ترجعون منه أبدا وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونكم منها، كما خلّصني ربّي من النار التي ألقيتموني فيها

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ بعد رؤية معجزاته. قيل: هو ابن أخيه (3). و قيل: ابن

ص: 70


1- . الكافي 2:288/1، تفسير الصافي 4:114.
2- . الكافي 8:146/122، تفسير الصافي 4:115.
3- . تفسير البيضاوي 2:207، تفسير أبي السعود 7:37.

اخته (1). و قيل: ابن خالته (2). فلمّا يأس من إيمان القوم عزم على الخروج من ذلك البلد وَ قالَ للوط و زوجته سارة إِنِّي تارك لقومي و مُهاجِرٌ من هذه البلدة إِلى رَبِّي و ذاهب إلى حيث امرني إلهي اللطيف بي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب على أمره، فيحفظني من أعدائي اَلْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلاّ بالذهاب إلى مكان فيه صلاحي.

روي أنّ إبراهيم أول من هاجر، و لكلّ نبي هجرة، و لابراهيم هجرتان؛ فانّه هاجر من كوثى-و هي قرية من سواد الكوفة-مع لوط و سارة إلى حران، ثمّ منها إلى الشام فنزل فلسطين و نزل لوط سدوم (3).

قيل: إنه كان له حين هجرته خمس و سبعون سنة (4).

وَ وَهَبْنا لَهُ من سارة و هي عجوز عاقر إِسْحاقَ من صلبه وَ يَعْقُوبَ من إسحاق حين أيس إبراهيم من الولادة من نفسه، فانّه كان له حينئذ عشرون و مائة سنة، و من زوجته العجوزة العاقر، و لذا لم يذكر إسماعيل، لأنّ ولادته لم تكن على خلاف العادة. و قيل: إنّه ولد قبل هجرته، و كان سنّه عليه السّلام حين ولادته خمسا و سبعين سنة.

و قيل: إنّ إسماعيل كان داخلا في ذرّيته المذكورة في الآية، حيث قال: وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتابَ و إنما لم يصرّح باسمه لأنّ الغرض بيان التفضّل عليه بالأولاد و الأحفاد، فذكر من أولاده واحدا، و من أحفاده واحدا من باب ذكر الواحد و إرادة الجنس، لا لخصوصية فيه، و لو ذكر غيره لفهم منه التعديد و استيعاب الكلّ، فيظنّ أنّه ليس له غير المذكورين (5)، مع أنّه كان له عليه السّلام على ما روي أربع بنين: إسماعيل من هاجر، و إسحاق من سارة، و مدين و مداين من غيرهما (6).

وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ و نسله من بني إسماعيل و بني إسرائيل اَلنُّبُوَّةَ إلى يوم القيامة وَ اَلْكِتابَ السماوي من التوراة و الانجيل و القرآن و الصّحف وَ آتَيْناهُ و أعطيناه أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي اَلدُّنْيا و هو إعطاؤه الولد في غير أوانه، و المال الكثير، و الذرية الطيبة التي من جملتهم خاتم الأنبياء و سيّد الأوصياء و عترتهما الطاهرة، و إنتماء أهل الملل إليه، و الثناء و الصلاة عليه إلى آخر الدهر.

قيل: إنّ اللّه قسّم الزمان قسمين؛ فجعل في القسم الأول، و هو أكثر من أربعة آلاف سنة النبوة في أولاده من إسحاق، و بعث منهم أنبياء كثيرة لهم فضائل جمة، و جعل في القسم الثاني النبوّة في ذرّيته

ص: 71


1- . جوامع الجامع:352، تفسير روح البيان 6:463.
2- . علل الشرائع:549/4، تفسير الصافي 4:115.
3- . تفسير روح البيان 6:463، و سدوم: مدينة من مدائن قوم لوط كان قاضيها يقال له: سدوم.
4- . الكشاف 3:451، تفسير روح البيان 6:463.
5- . تفسير الرازي 25:56 و 57.
6- . تفسير روح البيان 6:463.

من إسماعيل، و هو محمد، فجمع فيه ما كان في جميع الأنبياء، و ختم به النبوة، و أرسله إلى كافّة الناس إلى يوم القيامة (1).

و قيل: إنّ من أجره بقاء ضيافته حيث إنّه كان يحبّ الضيافة، فجعل اللّه الخلق أضيافه إلى آخر الدهر (2).

وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ و الراقين في أعلى مراتب العبودية، و أكمل درجات الإنسانية.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 28 الی 33

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط و كيفية دعوته و نصحه لقومه و جوابهم إيّاه بقوله: وَ لُوطاً قيل: إنّه معطوف على أَرْسَلْنا (3). و قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد لوطا إِذْ قالَ نصحا لِقَوْمِهِ و انكارا عليهم القبائح الدائرة بينهم بعد دعوتهم إلى التوحيد: يا قوم إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ و ترتكبون الخصلة اَلْفاحِشَةَ و الفعلة المتناهية في القبح مع أنّها لنهاية قبحها ما سَبَقَكُمْ بِها و ما أرتكبها من قبلكم مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ و أنتم ارتكبتموها لخباثة طينتكم و رذالة طبيعتكم.

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا اِئْتِنا بِعَذابِ اَللّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ (30) وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ (32) وَ لَمّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ (33)قيل: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قطّ (4).

و قيل: إنّ المراد من سبقهم على أهل العالم فيها إكثارهم منها، كما يقال سبق فلان البخلاء في البخل إذا زاد عليهم (5).

ثمّ بيّن الفاحشة بقوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ و تنكحونهم وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ و الطريق

ص: 72


1- . تفسير الرازي 25:57.
2- . تفسير روح البيان 6:464.
3- . مجمع البيان 8:440.
4- . تفسير روح البيان 6:464.
5- . تفسير الرازي 25:58.

المعتاد السلوك للناس، و تتعرّضون للمادة بالفاحشة. روي أنّهم كانوا كثيرا ما يفعلونها بالغرباء، و يجبرونهم عليها، أو تقطعونها بالقتل و أخذ المال (1).

قيل: كانوا يفعلون ذلك، لأن لا يدخلوا بلدهم، و لا يتناولوا من ثمارهم (2).

و قيل: يعني تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن النساء اللاّتي هنّ حرث، و قضاء الشهوة بالرجال الذين ليسوا بحرث (3).

وَ تَأْتُونَ و تفعلون فِي نادِيكُمُ و مجلسكم الذي تجتمعون فيه من غير مبالاة اَلْمُنْكَرَ و ما يحكم العقول بقبحه من اللّواط أو الضّراط، كما عن الرضا عليه السّلام، قال: «كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة و لا حياء» (1)أو ضرب الأوتار و المزامير و السّخرية بمن يمرّ بهم (2)، أو الحذف (3)بالحصى، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: كانوا يجلسون على الطريق، و عند كلّ واحد قصعة فيها حصى، فمن مرّ بهم حذفوه، فمن أصابه منهم فهو أحقّ به، فيأخذ ما معه و ينكحه و يغرّمه ثلاثة دراهم (4).

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إيّاه إِلاّ أَنْ قالُوا ما نترك عملنا اِئْتِنا بِعَذابِ اَللّهِ الذي تعدنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى رسالتك و وعدك، فلمّا يئس لوط من إيمانهم و قبولهم نصحه،

ناجى ربّه و قالَ متضرّعا إليه: رَبِّ اُنْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض بأعمالهم و عقائدهم، و أنت لا تحبّ الفساد. فاستجاب اللّه دعاءه، فأرسل جبرئيل مع عدّة من الملائكة لإهلاكهم، و أمرهم بأن يجيئوا إلى إبراهيم عليه السّلام و يبشّره بإسحاق.

وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا له في تضاعيف كلامهم: إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ التي يقال لها سدوم إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الطغيان.

قالَ إبراهيم إشفاقا على الخلق و مجادلة عنهم: إِنَّ فِيها لُوطاً و لا يعذّب أهل بلد و فيهم مؤمن، فكيف تهلكون أهل سدوم؟ قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ من كلّ أحد بِمَنْ فِيها و لسنا بغافلين عن لوط، و اللّه لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ و أتباعه المؤمنين، و لنخرجنّهم منها إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ الكافرة، فانّها كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في القرية و العذاب

وَ لَمّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون بعد مفارقة إبراهيم عليه السّلام لُوطاً في قرية سدوم على صورة شبّان مرد حسان الوجوه، عليهم ثياب حسنة

ص: 73


1- . مجمع البيان 8:440، تفسير الصافي 4:116.
2- . تفسير روح البيان 6:465.
3- . عوالي اللآلي 1:327/72، تفسير الصافي 4:116.
4- . تفسير روح البيان 6:465.

فاخرة، و لهم ريح طيبة، ظنّ أنّهم من الإنس، و كان يعلم من حال قومه أنّهم يتعرّضون له بالفاحشة، و لذا سِيءَ بِهِمْ و اعتراه اضطراب و خوف بسببهم، و تحيّر في شأنهم و تدبير أمرهم وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و رأى نفسه عاجزة عن الدفاع عنهم، و عن حفظهم من تعدّي القوم.

فلمّا رأى الملائكة فيه أثر الملال و الضّجرة سلّوه وَ قالُوا له: يا لوط لا تَخَفْ علينا، و لا على أحد من أهلك وَ لا تَحْزَنْ لورودنا عليك و ابتلائك بشأننا، إنّا رسل ربّك لإهلاك قومك و إِنّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ و خاصّتك ممّا يصيب قومك من العذاب إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ الكافرة، فانّها كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في العذاب، أو في القرية، أو من المهلكين.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ إنّهم بعد بشارته بنجاة نفسه و أهله، أخبروه بنزول العذاب على قومه بقوله: إِنّا مُنْزِلُونَ البتة عَلى أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ و البلدة، و كانت عدّتهم على ما قيل سبعمائة ألف رجل (1)رِجْزاً و عذابا شديدا مِنَ اَلسَّماءِ بأمر اللّه بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و يفعلون المنكرات، ثمّ أمروه بالخروج من البلد و إخراج بناته منها، فلمّا خرجوا رفع جبرئيل المدينة و ما فيها بأحد جناحية، و جعل عاليها سافلها، و انصبّت الحجارة عليها، أو على من كان من أهلها غائبا عنها، فصارت القرية المخروبة عبرة لأهل العالم،

كما قال تعالى: وَ لَقَدْ تَرَكْنا أثرها الباقي مِنْها و هو الجدد الخربة و العمارات المنهدمة آيَةً بَيِّنَةً و عبرة واضحة نافعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يدركون العبر، و يتأملّون فيها.

إِنّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)قيل: إنّ العبرة الباقية من القرية هي الحجارة الممطورة التي كان على كلّ واحد منها اسم من أصابه، فانّها كانت باقية مدّة مديدة، و أدركها أوائل هذه الامّة (2).

و قيل: كانت ظهور الماء الأسود على وجه الأرض حين خسف بهم، و كان منتنا بحيث يتاذّى الناس برائحته من المسافة البعيدة (3).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 36 الی 39

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39)

ص: 74


1- . تفسير روح البيان 6:467.
2- . تفسير روح البيان 6:467.
3- . تفسير روح البيان 6:467.

ثمّ ذكر سبحانه قصّة شعيب و دعوته قومه و تكذيبهم إياه بقوله: وَ إِلى أهل بلد مَدْيَنَ أرسلنا أَخاهُمْ و من هو من نسبهم، كان اسمه شُعَيْباً ليدعوهم إلى التوحيد و الطاعة فَقالَ لهم بطريق الدعوة يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، و لا تشركوا به شيئا وَ اُرْجُوا و توقّعوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ الذي لا يوم بعده، لأنّه لا ليل بعده، و هو يوم القيامة و يوم الجزاء، و انتظروا ما يقع فيه من فنون الأحوال و الأهوال، و اعملوا الأعمال التي تنتفعون بها فيه، و تأمنون بها من العذاب وَ لا تَعْثَوْا و لا تفسدوا فِي هذه اَلْأَرْضِ التي تسكنونها بتنقيص المكيال و الميزان، و تضييع الحقوق حال كونكم مُفْسِدِينَ و مبالغين في الافساد، و قيل: إنّ (مفسدين) بمعنى الفساد (1)، و المعنى: لا تفسدوا فسادا، و يحتمل أن يكون العثو بمعنى الحركة بالتجريد عن الفساد.

فَكَذَّبُوهُ في إخباره بتوحيد اللّه، و قيام الحشر، و قبح الفساد فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ و الزّلزلة الحاصلة من صيحة جبرئيل عقوبة على تكذيبهم، حتّى تقطّعت قلوبهم، و تهدّمت عليهم دورهم فَأَصْبَحُوا و صاروا فِي دارِهِمْ و بيوتهم، أو بلدهم جاثِمِينَ و ميّتين غير متحرّكين.

وَ أهلكنا عاداً قوم هود وَ ثَمُودَ قوم صالح وَ قَدْ تَبَيَّنَ و ظهر لَكُمْ يا أهل مكة إهلاكنا إيّاهم مِنْ بقية آثار مَساكِنِهِمْ الخربة في اليمن و الحجر بالنظر إليها في أسفاركم وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ بتسويلاته أَعْمالَهُمْ القبيحة من فنون الكفر و المعاصي، و حسّنها في أعينهم فَصَدَّهُمْ و صرفهم عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ الذي امروا بسلوكه. و هو التوحيد الموصل إلى كلّ خير وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ و متمكّنين من النّظر و التفكّر في آيات التوحيد،

و لم يفعلوا وَ قارُونَ الذي كان له شرف النّسب و كنوز من الأموال وَ فِرْعَوْنَ الذي كان له سلطنة مصر وَ هامانَ الذي كان وزيره و أخصّ خواصّه.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إهلاكهم بقوله: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى رسولا من قبلنا متلبّسا بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، فدعاهم إلى الإقرار بتوحيدنا، و الانقياد لأوامرنا و نواهينا فَاسْتَكْبَرُوا و تعظّموا فِي اَلْأَرْضِ و تأنّفوا عن قبول الحقّ و الايمان به في مملكة مصر، فعذّبناهم أشدّ العذاب

ص: 75


1- . تفسير الرازي 25:65.

وَ ما كانُوا سابِقِينَ و فائتين منّا و معجزين لنا عن عذابهم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ فصّل و شرح كيفية إهلاك الامم المذكورين بقوله: فَكُلاًّ منهم أَخَذْنا بِذَنْبِهِ و عاقبناه بجنايته فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً و ريحا شديدا حاملا للحصى كقوم عاد وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ كقوم ثمود و أهل مدين وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ اَلْأَرْضَ كقارون و أتباعه وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا في الماء كقوم نوح و فرعون و أتباعه وَ ما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بما فعل بهم، بل كان يعدل فيهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و الطّغيان و تكذيب الرّسل.

فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ اَلْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

ثمّ لمّا كان المهلكون من المشركين، بيّن بطلان مذهبهم بقوله: مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ و أحبّاء، أو انصارا، و آلهة، و صفتهم العجيبة كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ و حالها العجيبة فانّها اِتَّخَذَتْ لنفسها و نسجت من لعابها بَيْتاً لا جدار له و لا سقف، و لا يدفع الحرّ و لا البرد و لا المطر، فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعا و لا ضرّا، و [لا]

خيرا و لا شرا، فمن اعتمد عليها كان كمن أعتمد على بيت لا أساس له وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ و أضعفها لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ فانّه أقرب إلى الانهدام من غيره، لأنّه ينهدم بأخفّ الأرياح، كما أنّ مذهب الشرك يبطل بأدنى التفكّر، إنّهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شيئا لعلموا ذلك، أو لعلموا مطابقة المثل للممثّل له و غاية حسنه و فائدته.

قيل: إنّ العنكبوت كلّما نسجت حولها بنت لنفسها محبسا، و لأرجلها قيودا، كما أن المشركين كلّما عبدوا غير اللّه سووا لأيديهم و أرجلهم سلاسل و أغلالا، و جعلوا الدنيا و الآخرة لأنفسهم محبسا (1).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 42 الی 44

إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ اَلْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)

ص: 76


1- . تفسير روح البيان 6:471.

ثمّ أكدّ سبحانه عدم فائدة الأصنام، و هدّدهم على عبادتها بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ و حقيقته و كنهه وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب القادر على الانتقام من أعدائه اَلْحَكِيمُ في فعاله من عقوبتهم و إمهالهم.

ثمّ لمّا كان المشركون يعترضون على القرآن باشتماله على المثل بالعنكبوت و الذّباب، ردّهم اللّه بقوله: وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها تنبيها لِلنّاسِ و توضيحا لهم المطالب العالية و تقريبا لما بعد عن أفهامهم، و ما يفهم حسن تلك الأمثال و فائدتها وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ اَلْعالِمُونَ و المدركون لحسن الأشياء و المتدبّرون فيها.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بقوله: خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و أبدعهما ملتبّسا بِالْحَقِّ و الغرض الصحيح و الحكمة البالغة، لا عبثا، و لا لعبا، فانّهما مع اشتمالهما على المنافع الدنيوية المربوطة بمعاش الخلق، شواهد دالة على وحدانيته، و كمال قدرته، و حكمته، و سائر صفاته، كما قال سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق العظيم المعجب لَآيَةً عظيمة، و دلالة واضحة على شؤونه الجليلة، و إنّما هي نافعة لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم المتدبّرون فيها، المدركون لدلالتها، الناظرون بنور اللّه في عجائبها و وجوه حكمها.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 45

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات توحيده للمؤمنين، أمرهم بأهم الأعمال و أنفعها، بأمر نبيّه المعظّم بها، إظهارا لعظم شأنها بقوله: اُتْلُ يا محمد ما أُوحِيَ و انزل إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل مِنَ اَلْكِتابِ السماويّ و القرآن العظيم، و أقرأه لنفسك متحفّظا لنظمه، و متدبّرا في معانيه و حقائقه و دقائقه و رقائقه و جهات إعجازه، ليزيدك نورا على نور، و على الناس لتهديهم به إلى الحقّ و صراط مستقيم، و تحملهم على العمل بما فيه من الأحكام و الآداب و محاسن الاخلاق.

اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّهِ أَكْبَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)روي أنّ عمر اتي بسارق فأمر بقطع يده، فقال: لم تقطع يدي؟ قال: بما أمر اللّه في كتابه. فقال: اتل عليّ. فقال: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1)فقال السارق: و اللّه ما سمعتها، و لو سمعتها ما سرقت (2).

ص: 77


1- . المائدة:5/38.
2- . تفسير روح البيان 6:473.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من قرأ القرآن و هو قائم في الصلاة، كان له بكلّ حرف مائة حسنة، و من قرأ و هو جالس في الصلاة، فله بكلّ حرف خمسون حسنة، و من قرأ و هو في غير الصلاة و هو على وضوء، فخمس و عشرون حسنة، و من قرأ على غير وضوء فعشر حسنات» (1).

و إنّما قدّم تلاوة الكتاب لما فيه من المعارف و العلوم، و ازدياد اليقين بصحة دين الاسلام، و إحياء القلب و نورانيّته، ثمّ أردفها بالأمر بأهمّ الواجبات بقوله: وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ و داوم عليها متحفظا لأركانها و أجزائها و شرائطها و آدابها.

ثمّ بيّن سبحانه علّة الأمر بقوله: إِنَّ اَلصَّلاةَ بالخاصية و بتأثيرها في نورانية القلب و زيادة القرب من اللّه تَنْهى و تمنع المصلّي عَنِ ارتكاب اَلْفَحْشاءِ و المعاصي الكبيرة وَ اَلْمُنْكَرِ و الصغيرة، فانّ من تنوّر قلبه بالمعرفة، و علم أنّه يحضر في مقام إظهار العبودية لخالقه و ربّه في كلّ يوم خمس مرات، و يكالمه يتكلّم (2)ربّه معه، استحيى من ارتكاب ما يوجب غضبه تعالى عليه و إعراضه تعالى عنه.

و في الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر، لم يزدد من اللّه إلاّ بعدا» (3).

روي أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الصلوات الخمس، ثمّ لا يدع شيئا من الفواحش إلاّ ركبه، فوصف للرسول صلّى اللّه عليه و آله فقال: «إنّ صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب، و حسن حاله، و صار من زهّاد الصحابة (4).

و قيل: إنّ المراد أنّها تنهاه حال الاشتغال بها (5).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «الصلاة حجزة اللّه، و ذلك أنّها تحجز المصلّي عن المعاصي ما دام في صلاته» (6)ثمّ تلا الآية.

وَ باللّه لَذِكْرُ اَللّهِ و التوجّه إليه بالقلب، و تحميده و تسبيحه و الثناء عليه باللسان أَكْبَرُ و أفضل من سائر العبادات، فانّه روحها، أو لكون ثواب (7)ذكر اللّه لذاكره، أو من ذكر غير اللّه، فانّ ذكر اللّه يوجب الدّخور في رحمته، و ذكر غيره يوجب البعد عنها، أو من ذكر آبائكم، فانّكم إذا ذكرتموهم تملون بذكرهم أفواهكم و قلوبكم، لعظمتهم في نظركم، و من الواضح أنّ ذكر اللّه أعظم منه.

و قيل: إنّ المراد من الأكبر هو الكبير، لعدم الكبر لغيره حتى يكون هو أكبر منه (8). أو المراد أكبر من

ص: 78


1- . تفسير روح البيان 6:474.
2- . في النسخة: و يكلّم.
3- . مجمع البيان 8:447، جوامع الجامع:354، تفسير روح البيان 6:474.
4- . تفسير روح البيان 6:474.
5- . تفسير الرازي 25:72.
6- . التوحيد:166/4، تفسير الصافي 4:118.
7- . في النسخة: ثوابه.
8- . تفسير الرازي 25:74.

أن تذكر فضائله و ثوابه (1).

و قيل: إنّ المراد من ذكر اللّه هو الصلاة، لاشتمالها على الذّكر، و إنّما كنّى عنها به للإشعار بأنّ فضلها على غيرها من العبادات لتضمّنها ذكر اللّه (2).

و قيل: إنّ المراد ذكر اللّه للعبد أكبر من ذكره إيّاه، كما روي عن الباقر عليه السّلام، قال: «ذكر اللّه لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إيّاه، ألا ترى أنّه يقول: اذكرونى أَذْكُرْكُمْ» (3).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ فيجازيكم بأفضل الجزاء و أعظم الأجر.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 46

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّ الشّرك و الاستدلال على التوحيد، أمر بمداراة أهل الكتاب في إرشادهم بقوله: وَ لا تُجادِلُوا و لا نخاصموا أَهْلَ اَلْكِتابِ من اليهود و النصارى بالحجّة على صحّة دين الاسلام و صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الحجج، أو بالخصلة التي هي أحسن الخصال، كمقابلة الخشن باللين، و الشرارة بالنّصح، و العجلة بالتأنّي، حتى يقربوا إلى الإيمان.

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)و قيل: يعني لا تجادلوهم بالسيف (4)إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم بالإصرار على معاندة الحقّ و اللّجاج في الباطل، فلا بأس أن تخاشنوهم في الكلام، و تغالطوهم في القول، و تعارضوهم بالسيف، فانّ لين الكلام و المداراة لا ينفعهم شيئا.

ثمّ علّم سبحانه المؤمنين كيفية المداراة في الكلام معهم بقوله: وَ قُولُوا أيّها المؤمنون لأهل الكتاب: نحن آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَ الذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من التوراة و الانجيل و غيرهما من الكتب، و لا ننكر صحّة شيء منها حتى تعاندونا وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ لا تخالفكم في اعتقاد الالوهية حتى تكفّرونا، و إنّما كان إيماننا بالقرآن و بالنبي صلّى اللّه عليه و آله الذي جاءنا به لقيام الحجّة عندنا بكونهما من قبل ربّنا وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ و منقادون، و لا نطيع غيره من الأحبار و الرّهبان، و لا نتّخذهم أربابا.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 47

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ اَلْكافِرُونَ (47)

ص: 79


1- . مجمع البيان 7:447.
2- . تفسير أبي السعود 7:42، تفسير روح البيان 6:475.
3- . تفسير القمي 2:150، تفسير الصافي 4:118.
4- . تفسير الرازي 25:75.

ثمّ استدلّ سبحانه على صدق القرآن بقوله: وَ كَذلِكَ الإنزال البديع لتلك الكتب السماوية أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد اَلْكِتابَ العظيم و القرآن الكريم الموافق لسائر الكتب في المعارف و العلوم و الأحكام فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه، لعلمهم بما فيه من البشارة بنزول القرآن يُؤْمِنُونَ بِهِ و يصدّقونه وَ بعض مِنْ هؤُلاءِ المشركين من العرب مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أيضا لفهمهم جهات الإعجاز فيه.

و قيل: إنّ المراد من الذين آتيناهم الكتاب الأنبياء، و من قوله: وَ مِنْ هؤُلاءِ سائر أهل الكتاب (1).

و قيل: إنّ المراد من الأول أهل الكتاب الذين آمنوا به قبل نزوله و قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كقسّ بن ساعدة، و بحيرا، و نسطورا، و ورقة و نظائرهم، لمّا شاهدوا البشارة بنزوله في الكتب السماوية، و من الثاني الموجودون فى عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا المنزلة و لا ينكرها إِلاَّ اَلْكافِرُونَ المصرّون على الكفر و العناد.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ استدلّ سبحانه على كون القرآن معجزة باهرة باميّة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما كُنْتَ يا محمّد تَتْلُوا و تقرأ مِنْ قَبْلِهِ شيئا مِنْ كِتابٍ من الكتب المنزلة و غيرها حتى تطلّع على ما فيه من المعارف و العلوم و التواريخ وَ لا تَخُطُّهُ و لا تكتبه بِيَمِينِكَ المعتاد أن يكتب الخطّ بها، و ذكرها لرفع احتمال التجوّز في الاسناد، و لو كنت قارئا كاتبا إِذاً لاَرْتابَ و شكّ في صدق كتابك اَلْمُبْطِلُونَ و المسارعون في إفساد أمرك، أو القائلون بما لا حقيقة له، فانّهم كانوا يقولون: لعلّه تعلّم مطالب القرآن و التقطها من كتب الأولين و دفاتر السابقين، مع أنّ الكلام أيضا في غاية البطلان، لأنّه من الواضح أنّه لو اجتمعت الإنس و الجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله.

وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ اَلْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ اَلظّالِمُونَ (49)و قيل: يعني لا ارتاب المبطلون من أهل الكتاب، و قالوا: إنّا قرأنا في الكتب أن النبي الموعود امّي لا يقرأ و لا يكتب، و هذا المدّعي قارئ و كاتب (3).

عن الرضا عليه السّلام-في حديث-: «و من آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا، لم يتعلّم كتابا، و لم

ص: 80


1- . تفسير الرازي 25:76.
2- . تفسير روح البيان 6:477.
3- . تفسير روح البيان 6:480.

يختلف إلى معلّم، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء و أخبارهم حرفا حرفا، و أخبار من مضى و من بقي إلى يوم القيامة» (1).

بَلْ القرآن هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ و معجزات محفوظات في القلوب التي فِي صُدُورِ المؤمنين اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ قيل: يعني من أهل الكتاب (2). و قيل: من علماء الامّة (3).

عن الباقر عليه السّلام: أنّه تلاها فقال: «ما قال بين دفّتي المصحف» قيل: من هم؟ قال: عسى أن يكون غيرنا؟» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه تلا هذه الآية فأوما بيده إلى صدره (5).

و عن الصادق عليه السّلام. قال: «هم الأئمّة» (6). و قال: «نحن، و إيّانا عنى» (7).

قال بعض: إنّ من خصائص القرآن أنّه معجزة باهرة دون سائر الكتب السماوية، و إنّه يكون محفوظا في الصدور، و غيره من الكتب لا تقرأ إلاّ بالنظر فيها، فاذا أطبقوها لم يقدر أحد سوى الأنبياء أن يقرؤوا منه شيئا (8)، و إنّه باق إلى يوم القيامة محفوظا من التغيير و التحريف وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهور دلائل صدقها، و كونها نازلة من قبلنا إِلاَّ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالخروج عن حدود العقل في اللّجاج و الفساد.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 50 الی 52

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات صدق القرآن بكونه مثل سائر الكتب السماوية، و بشهادة أهل الكتاب بصدقه، و بكون الجائي به اميّا، مع اشتماله على علوم وفيرة، حكى سبحانه بعض شبهات الكفّار في صحّة نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالُوا: إنّ الأنبياء الذين جاءوا بالكتب السماوية كانت لهم معاجز، و لو فرض أنّ القرآن الذي جاء به محمد من قبل اللّه لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ و معجزة مِنْ رَبِّهِ كما

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآياتُ عِنْدَ اَللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللّهِ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (52)

ص: 81


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:167/1، تفسير الصافي 4:119.
2- . مجمع البيان 7:451.
3- . مجمع البيان 7:450.
4- . الكافي 1:167/3، تفسير الصافي 4:120.
5- . الكافي 1:166/1، تفسير الصافي 4:120.
6- . الكافي 1:167/2، تفسير الصافي 4:120.
7- . بصائر الدرجات:227/16، تفسير الصافي 4:120.
8- . تفسير روح البيان 6:481.

انزل على غيره من الأنبياء كالعصا، و اليد البيضاء، و إحياء الموتى قُلْ يا محمد لهم إِنَّمَا اَلْآياتُ و المعجزات عِنْدَ اَللّهِ و بقدرته و إرادته، لا عندي و بقدرتي و إرادتي وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ و رسول مبلّغ عنه ببيان واضح، و لمّا لم تكن كتب الأنبياء السابقة مثبتة لنبوّتهم (1)كان اللازم على مرسلهم أن ينزل عليهم الآيات المثبتة لنبوتهم بمقدار كاف لاثباتها، و العجب من هؤلاء الناس أنّهم مع كون القرآن من أعظم المعجزات، يتوقّعون منك معجزة اخرى!

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ الذي يعجز عن إتيان سورة منه جميع الخلق من الجنّ و الإنس يُتْلى عَلَيْهِمْ بلغتهم في كلّ زمان و مكان إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب العظيم الشأن لَرَحْمَةً عظيمة و نعمة جليلة، أو معجزة واضحة وَ ذِكْرى وعظة، أو دوام إرشاد لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به،

و يصدّقون أنّه من اللّه و قُلْ لهؤلاء: إنّ اللّه شهد بصدق نبوتي في كتابه و كَفى بِاللّهِ المطلّع على دعواي بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً على صدقي، أو إن تكذّبوني و تؤذونني كفى باللّه بيني و بينكم بما صدر منّي من دعوتكم إلى الحقّ و تكذيبكم إيّاي شَهِيداً و مطّلعا، و كيف يخفى عليه ما صدر منّي و منكم، و هو يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الامور التي من جملتها شأني و شأنكم؟ و ما ينكر علمه إلاّ من أنكر الوهيّته و ربوبيّته وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللّهِ و أنكروا الوهيته و ربوبيّته أُولئِكَ الكافرون هُمُ بالخصوص اَلْخاسِرُونَ و المتضرّرون أشدّ الخسران و الضّرر، لا أخسر منهم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 53 الی 55

و من شبهاتهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا وعدهم بالعذاب على الكفر بقوله: أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ و لم يأتهم، فقالوا: يا محمد، لم لم يأتنا ما وعدتنا من العذاب؟ فأنت كذّبت في وعدك! فحكى سبحانه ذلك بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ و يتوقعون منك سرعه نزوله، و لم يعلموا أنّ حكمته تعالى اقتضت إمهالهم إلى القيامة و جعل له أجلا وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى و وقت معين بمقتضى الحكمة لَجاءَهُمُ اَلْعَذابُ المستأصل في الدنيا لاستحقاقهم إيّاه وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ ذلك العذاب بَغْتَةً و بلا

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ اَلْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

ص: 82


1- . في النسخة: مثبتا لنبوتهم و كتبهم.

مقدّمة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه، و لا يحتملونه، أو لا يشعرون بأنّ تأخيره لا ينافي صدق الوعد به، و العجب أنّهم

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الشديد الذي يفرّ منه العاقل، وَ الحال إِنَّ جَهَنَّمَ عن قريب لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ في القيامة لإحاطة موجبات استحقاقها بهم في الدنيا من الكفر و الطغيان، و أو بصورتها المعنوية، و إن لم تدركها الحواسّ الظاهرية في هذا العالم.

ثمّ عيّن الأجل أو وقت الاحاطة و كيفيتها بقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ اَلْعَذابُ و يسترهم مِنْ فَوْقِهِمْ بحيث لا يقدرون على دفعه بايديهم وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ و لا يقدرون على دسّه بأقدامهم وَ يَقُولُ اللّه، أو الملك تنكيلا و إهانة لهم ذُوقُوا و أطعموا طعم ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و الطغيان و العصيان، فانّ هذا العذاب عين أعمالكم المجسّمة في هذا العالم.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 56 الی 60

ثمّ لمّا كان تحديد الكفّار بالعذاب موجبا لشدّة عداوتهم للمؤمنين، و تهييجهم على إيذائهم، أمرهم اللّه بالهجرة من مكّة بقوله: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بي و برسولي: لستم مضطرّين في الإقامة بمكّة إِنَّ أَرْضِي التي خلقتها ليست ضيقة و منحصرة في أرض مكّة، بل هي واسِعَةٌ فاخرجوا من مكة، و هاجروا إلى غيرها من البلاد التي لا يمنعكم الكفار فيها من القيام بوظائف دينكم فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ و حدي فيها، و إن كان كبر عليكم الإعراض عن وطنكم المألوف، فاعلموا أنّكم مفارقونه لا محالة و لو بالموت و الخروج من الدنيا،

لوضوح أنّه كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ و مدركة طعمه ثُمَّ أنتم بعد الموت إِلَيْنا تُرْجَعُونَ من الدنيا، فتسألون عن أداء ما حمّلتم من التكاليف و العمل بما جعل عليكم من الأحكام، و تجازون على ما صدر عنكم إن خيرا فخير، و إن شرّا فشر، فليكن همّكم في تحصيل الراحة في دار لا انقضاء لها، فان لم يتيسّر لكم في الغربة منزل و مأوى تطيب به نفوسكم و تستريحون فيه، فلا يغمّكم، فانّ الدنيا سريعة الانقضاء، و الآخرة التي لا انقضاء لها سريعة اللّحاق

ص: 83

حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ للّه تلك القصور، كما أنّ الجحيم المحيط بالكافرين بئس الجزا،

و العاملون هم اَلَّذِينَ صَبَرُوا على أذى الكّفار، و هجر الأوطان، و فرقه الأقارب و الإخوان، و ترك الديار و العقار، بل العمران، و تحمّل المحن في رضا الملك الديّان وَ عَلى رَبِّهِمْ اللطيف بهم يَتَوَكَّلُونَ و يعتمدون في حفظهم من شرّ الأعداء، و انتظام امور معاشهم و معادهم، فانّ اللّه حافظهم و رازقهم.

يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (58) اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللّهُ يَرْزُقُها وَ إِيّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (60)

وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ و كم من حيوان من الوحوش و الطيور من خصائصها أنّها لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا و لا تقدر على رفعه من الأرض و نقله و ادّخاره اَللّهُ يَرْزُقُها و يوصل إليها ما تعيش به و تحتاج إليه يوما فيوما حيث يوجّهه وَ يرزق إِيّاكُمْ فهم مع ضعفهم و أنتم مع قوّتكم سواء في كون رزقكم بيد اللّه وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالكم في أمر الرزق اَلْعَلِيمُ بضمائركم و ما يخطر ببالكم من أنّا لو خرجنا من ديارنا فمن أين نرتزق؟ و بمقدار حاجتكم، و محلّ رزقكم.

روي عن ابن عمر أنّه قال: خرجت يوما مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله من المدينة حتى دخلنا في حائط أحد من الانصار، فأخذ صلّى اللّه عليه و آله يأكل من تحت النخيل تمرا، فقال لي: «ألا تأكل؟» قلت: لا أشتهي. قال: «لكنّي أشتهيه، و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما، و لو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر، و لكن أحبّ أن أشبع يوما و أجوع يوما، فكيف بك يابن عمر لو بقيت مع قوم يخبّئون رزق سنتهم لضعف يقينهم» قال: فو اللّه ما برحنا حتى نزلت (1).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 61 الی 63

ثمّ لما زيّف (2)سبحانه مذهب الشرك، و دعا العباد إلى عبادته، أظهر التعجّب من عبادة المشركين غيره مع قولهم بأنّه تعالى خالق كلّ شيء بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما فيهما بقدرته وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و قهرهما تحت إرادته، و يسّرهما على وفق حكمته لَيَقُولُنَّ بالفطرة و الوجدان: إنّ اَللّهُ خالقهما و مسخّرهما، فاذا اعترفوا بذلك فَأَنّى يُؤْفَكُونَ و كيف عن عبادته ينصرفون؟

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ (61) اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)

ص: 84


1- . مجمع البيان 8:455، تفسير الصافي 4:122.
2- . في النسخة: زلف.

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته و قدرته بخلق العالم و تسخير النّيّرين، بيّن منّته عليهم بالرزق بقوله: اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ و يوسّعه لِمَنْ يَشاءُ توسعته مِنْ عِبادِهِ المؤمنين و الكافرين وَ يَقْدِرُ لم يشاء و يضيّق لَهُ و هو يعلم مقدار الحاجات و الأرزاق، و طرق إيصالها، و مصالح العباد، و نظام العالم بمقتضى الوهيته إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عن علمه خافية.

في الحديث القدسي «أن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الغنى، و لو افقرته لأفسده ذلك، و إن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك» (1).

ثمّ بيّن سبحانه اعترافهم بأنّ الرزق كلّه منه، باعترافهم بأنّه منزل الأمطار التي هي سبب الرزق بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ، أو من جهة العلوّ ماءً نافعا فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها و أنبتت منها الأشجار و الزروع و الحشائش من بعد يبسها؟ لَيَقُولُنَّ بعقولهم الفطرية: اَللّهُ منزل الماء و محيي الأرض قُلِ يا محمد: اَلْحَمْدُ لِلّهِ على نعمه، و هم لا يحمدونه مع اعترافهم بنعمه، أو الحمد للّه على ظهور الحجّة و وضوح الحقّ بحيث لا يمكن لهم جحوده بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ و لا يدركون أن مقتضى اعترافهم حمده و عبادته لا عبادة غيره.

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 64 الی 66

ثمّ لمّا كان باعثهم على عبادة الأصنام حبّ الدنيا و شهواتها، ذمّ سبحانه الدنيا بقوله: وَ ما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و شهواتها التي تحبونها (2)و تشتاقون إليها بحيث شغلتكم عن اللّه و عن الآخرة إِلاّ لَهْوٌ و عمل غير عقلاني وَ لَعِبٌ و شغل لا فائدة فيه، و إعراض عن اللّه، و هذان بعيدان عن العاقل، لكونهما سريعي (3)الانقضاء بالموت، و موجبين للبعد عن اللّه وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ و اللّه لَهِيَ الجنّة التي يكون فيها اَلْحَيَوانُ الحقيقي و الحياة الدائمة التي لا ينغصها الموت و الفناء، بل جميع ما فيها ذو حياة لا زوال لها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و ذلك لما آثروا عليها الدنيا التي هي الموتان و أهلها أموات.

وَ ما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

ثمّ قرّر سبحانه كون باعثهم على عبادة الأصنام حبّ الدنيا بأنّهم لو انقطعوا عن الدنيا، و ضعف رجاؤهم في الحياة، نسوا آلهتهم و أخلصوا دينهم للّه بقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ و توسّطوا البحر، و أشرفوا على الهلاك، نسوا آلهتهم و دَعَوُا اَللّهَ لنجاتهم حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ

ص: 85


1- . تفسير روح البيان 6:489.
2- . في النسخة: تحيونها.
3- . في النسخة: سريع.

موحدّين إياه فَلَمّا استجاب دعاءهم و نَجّاهُمْ من البحر و أخرجهم منه سالمين (1)إِلَى اَلْبَرِّ و أمنوا من الغرق إِذا هُمْ يعودون إلى مذهبهم الباطل، و يُشْرِكُونَ به غيره

لِيَكْفُرُوا و كي يكونوا باشتراكهم كافرين بِما آتَيْناهُمْ و أنعمنا عليهم من النجاة وَ لِيَتَمَتَّعُوا و كي ينتفعوا به لكونه سبب ألفتهم و توادّهم.

و قيل: إنّ اللاّمين للأمر على سبيل التهديد، كما في اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (2)فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و خامة عاقبة الشرك حين يرون العذاب (3).

سوره 29 (العنكبوت): آیه شماره 67 الی 69

ثمّ نبهم على أنه كما تكون أمنيتهم من الغرق من اللّه، تكون امنيتهم في بيوتهم منه أيضا بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم يشاهدوا أَنّا جَعَلْنا بلدهم حَرَماً و محترما آمِناً و مأمونا من القتل وَ النهب يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ و يؤخذون مِنْ حَوْلِهِمْ قتلا و سبيا، إذا كانت العرب حولهم في تغاور و تناهب أَ فَبِالْباطِلِ و الأصنام الجامدة مع تلك النّعم التي يشاهدونها و ظهور الدلائل على الحق الذي لا مجال للامتراء فيه يُؤْمِنُونَ هؤلاء الكفّار وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ التي يجب على كلّ أحد شكرها، هم يَكْفُرُونَ باسندها إلى غيره، أو بالاشتراك به و صرفها في معصيته.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (69)

ثمّ إنه تعالى بعد إثبات التوحيد بالأدلة المتقنة و البراهين الواضحة، و إثبات كون القرآن كلامه نازلا من قبله بالدلائل القاطعة و تهديد منكريهما بعذاب الآخرة الذي هو أشدّ العذاب، نبّه سبحانه على أن من لا يؤمن بهما مع ذلك هو أظلم الناس على نفسه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ و أضرّ على نفسه مِمَّنِ اِفْتَرى و بهت عَلَى اَللّهِ الأحد الفرد بادّعاء الشريك له في الالوهية و العبادة كَذِباً مع شهادة جميع أجزاء العالم و أجزاء وجوده على توحيده، و كون وجود الشريك من المحالات أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ و أنكر نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله أو صدق كتابه أو صحّة شريعته لَمّا جاءَهُ و حين استماعه من غير توقّف و تدبّر عنادا و لجاجا، أو المراد أنّهم كذّبوا باللّه في إخباره بأنّ محمدا رسولي، و كتابه كلامي، و شريعته ديني المرضيّ عندي مع وضوح صدق كلّ من الامور المذكورة.

ص: 86


1- . في النسخة: سالما.
2- . فصلت:41/40.
3- . تفسير روح البيان 6:493 و 494.

ثم بيّن كمال استحقاقهم للعذاب بقوله: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ في الآخرة مَثْوىً و مقام دائمي لِلْكافِرِينَ المكذبين باللّه و برسوله و كتابه؟ ! و لا يستوجبون الخلود فيها و قد فعلوا ما فعلوا من الافتراء و التكذيب الشنيع بالحقّ الصريح.

و قيل: إنّ الاستفهام الانكاري لاستبعاد اجترائهم على مثل هذا الافتراء و التكذيب (1)، و المعنى ألم يعلموا أنّ في جهنم مثوى لهم حتى اجترءوا هذه الجرأة.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون الكافرين الجاحدين لتوحيده و رسالة رسوله أظلم الناس، و توعيدهم بالخلود في النار، وعد المؤمنين المجاهدين في طاعته بألطافه بقوله: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا و بذلوا وسعهم في النظر في أدلة توحيدنا و التفكر فيها، و جدّوا في طاعتنا، و اجتهدوا في جهاد أعدائنا بألسنتهم و أيديهم و أموالهم، و اللّه لَنَهْدِيَنَّهُمْ بالإلهام و التوفيق و التأييد سُبُلَنا و طرق القرب منّا، و لنوصلهم إلى كلّ خير و سعادة من الكمالات النفسانية و أعلى مراتب الانسانية في الدنيا، و من الدرجات العالية في الجنّة و النّعم الدائمة في الآخرة.

و عن ابن عباس: يريد المهاجرين و الأنصار، أي و الذين جاهدوا المشركين و قاتلوهم في نصرة ديننا لنهدينهم سبل الشهادة و المغفرة و الرضوان (2).

و قيل: يعني لنثبّتهم (3)على الهداية و الايمان، كما عن القمي.

ثمّ وعدهم سبحانه بأعلى منه بقوله: وَ إِنَّ اَللّهَ القادر العظيم بالعون و النصر و الانس و اللّه لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ العاملين برضاه في الدنيا و الآخرة.

عن الباقر عليه السّلام: «هذه الآية لآل محمد و لأشياعهم» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم، أنا المحسن يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ» (5).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين، فهو و اللّه من أهل الجنة، و لا استثني فيه أبدا، و لا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما، و إن لهاتين السورتين من اللّه لمكانا» (6).

الحمد للّه على التوفيق لختم تفسيرها.

ص: 87


1- . تفسير أبي السعود 7:48، تفسير روح البيان 6:495.
2- . تفسير روح البيان 6:497.
3- . تفسير القمي 2:151، تفسير الصافي 4:123.
4- . تفسير القمي 2:151، تفسير الصافي 4:123.
5- . معاني الأخبار:59/9، تفسير الصافي 4:123.
6- . ثواب الاعمال:109، تفسير الصافي 4:124.

ص: 88

في تفسير سورة الروم

سوره 30 (الروم): آیه شماره 1 الی 6

ثمّ لمّا أمر سبحانه في السورة السابقة بمداراة أهل الكتاب، و أخبر بايمان كثير منهم بالقرآن، أبغضهم المشركون، فلمّا قاتل أهل الروم-و كانوا أهل الكتاب-الفرس المجوس، و غلبوا عليهم، فرح المشركون بذلك، فأنزل اللّه سورة الروم، و لذا نظمت بعد العنكبوت فابتدأت ب بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ اَلرُّومُ (2) فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اَللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اَللّهِ لا يُخْلِفُ اَللّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)

و لمّا كان في أولها الإخبار بالغيب، و كان معجزة باهرة، افتتح السورة بالحروف المقطّعة من قوله: الم جلبا لتوجّه القلوب إلى استماعها،

ثمّ بشّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بقوله: غُلِبَتِ اَلرُّومُ و انكسروا من جيش الفرس

فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ و أقربها من ملك الروم، و هي جزيرة كانت بين دجلة و الفرات، أو أقرب أرض الروم من الحجاز، و هي أذرعات و بصرى وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ و انكسارهم من الفرس و غاية ضعفهم سَيَغْلِبُونَ على الفرس و يكسروهم

فِي مدة بِضْعِ سِنِينَ و ما بين ثلاثة و تسع أعوام، و اعلموا أنّه ليس هذه الغلبة بقدرتهم بل لِلّهِ اَلْأَمْرُ و القضاء في كونهم غالبين أو مغلوبين مِنْ قَبْلُ و في زمان لم يكن لأحدهما الغلبة، أو قبل بضع سنين وَ مِنْ بَعْدُ و في زمان حصل لأحدهما الغلبة على الآخر، أو بعد بضع سنين وَ يَوْمَئِذٍ و حين حصول غلبة الروم على الفرس يَفْرَحُ و يسر اَلْمُؤْمِنُونَ بحصول الغلبة لأهل الكتاب

بِنَصْرِ اَللّهِ و بعونه إياهم.

ص: 89

قيل: بلغ خبر الغلبة يوم الحديبية (1).

و قيل: أخبر جبرئيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بها، و كان يوم الغلبة يوم بدر (2). و عليه يمكن أن يكون المراد بفرح المؤمنين بنصر اللّه فرحهم بغلبتهم على المشركين في بدر.

و قيل: يعني يفرح المؤمنون بقتل الكفّار بعضهم بعضا، لما فيه من تقليل عددهم و كسر شوكهم (3). فانّ اللّه تعالى يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ نصره من ضعيف أو قويّ أو أهل كتاب أو مؤمن أو غيرهم وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب على كلّ شيء لا يعجزه شيء و هو اَلرَّحِيمُ المبالغ في العطوفة على من يشاء نصره،

و اعلموا أنّ غلبة الروم على الفرس يكون وَعْدَ اَللّهِ الحتميّ الانجاز، لأنّه لا يُخْلِفُ اَللّهُ وَعْدَهُ لمنافاته لالوهيته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و هم المشركون لا يَعْلَمُونَ وعده و وجوب إنجازه.

نقل أنّ پرويز سلطان الفرس صمّم على أن يقاتل هرقل قيصر الروم، فأرسل إلى الروم عسكرا عظيما، و أمّر عليهم شهريار و فرخان، و كانا رجلين شجاعين، فاطّلع هرقل على توجّه عسكر الفرس إليه، فأرسل إليهم جيشا، و أمّر عليهم رجلا يقال له خنيس (4)، فتلاقى العسكران بأذرعات و بصرى، و هي أدنى الشام إلى أرض العرب و العجم، فغلب الفرس على الروم، و أخذوا بعض بلادهم، و خرّبوا بعضها، فبلغ الخبر مكة، ففرح المشركون، و شمتوا المسلمين، و قالوا: أنتم و النصارى من أهل الكتاب، و نحن و فارس اميّون، لأنّ فارس كانوا مجوسا، و قد ظهر إخواننا عليهم، و هم إخوانكم، فنرجو أن نظهر عليكم. فشقّ ذلك على المسلمين و اغتمّوا، فأنزل اللّه الآيات، و أخبر أنّه لا يكون الأمر كما زعموا، فقال أبو بكر للمشركين: لا يقرّنّ اللّه أعينكم، و اللّه ليظهر الروم على فارس في بضع سنين. فقال أبي بن خلف: كذبت يا أبا الفصيل (5). قال أبو بكر: بل أنت كذبت يا عدوّ اللّه. قال ابي: اجعل بيننا أجلا اناحبك (6)عليه، فناحبه على عشر نوق (7)شابة من كلّ واحد منهما، و جعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: «أخطأت، فان البضع ما بين الثلاث إلى التسع» فزايده في الخطر، و مادّه في الأجل، فجعلاهما مائة ناقة إلى تسع سنين، فلمّا خشي ابي أن يخرج أبو بكر مهاجرا إلى المدينة أتاه فلزمه، فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر، فلمّا أراد ابي أن يخرج إلى احد، أتاه محمد بن أبي بكر و لزمه، فأعطاه كفيلا، ثمّ خرج إلى احد، ثمّ مات ابي من جرح

ص: 90


1- . تفسير أبي السعود 7:49، تفسير روح البيان 7:5.
2- . تفسير روح البيان 7:5.
3- . تفسير روح البيان 7:6 و 7.
4- . في تفسير روح البيان: خنس.
5- . في النسخة: الفضل.
6- . ناحبه: راهنه و خاطره.
7- . في النسخة و تفسير روح البيان: عشرة ناقة.

برمح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد رجوعه من احد.

ثمّ إن پرويز غضب على شهريار و أخيه فرخان لسعاية السّعاة، فأراد قتل كلّ منهما بيد الآخر، فلمّا وقفا على الحال سألا من هرقل أن يلقياه في وقت الخلوة، فأذن لهما، فلمّا دخلا عليه قبلا دين النصرانية و عهدا إليه أن يطيعاه و لا يخالفاه، فجهّز جيشا كثيفا، و أمّرهما عليه، و أرسلهما إلى فارس، فذهبا و غلبا على جند پرويز، و أخذا بلاده حتى وصلوا إلى المدائن، و بنوا بلده رومية هناك (1).

و قيل: هرب پرويز، و ملكوا ملكه، فلمّا وصل خبر فتح الروم بلاد الفرس إلى العرب، أخذ أبو بكر مائة ناقة شابة من ورثة ابي، فجاء بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «تصدّق بها» فتصدّق أبو بكر بها (2).

قيل: إنّ هرقل أول من ضرب الدينار، و أحدث البيعة (3).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كتب إلى هرقل ملك الروم كتابا، و دعاه إلى الاسلام، فلمّا وصل إليه كتاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأه و وضعه على عينيه و رأسه، و ختمه بخاتمه، ثمّ أوثقه على صدره، ثمّ كتب جواب كتابه: إنّا نشهد أنّك نبي، و لكنّا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفاه اللّه لعيسى عليه السّلام. فعّجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة» .

و كتب إلى كسرى ملك فارس-و هو خسرو پرويز-يدعوه إلى الاسلام، فلمّا قرأة مزّقه، و أراد قتل الرسول صلّى اللّه عليه و آله فرجع الرسول إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخبره، فدعا عليه السّلام عليه أن يمزّق كلّ ممزّق، فمزّق اللّه ملكهم، فلا ملك لهم أبدا، كما قال عليه السّلام: «نطحة أو نطحتان، ثمّ لا فارس بعدها» (4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إن لها تأويلا لا يعلمه إلاّ اللّه و الراسخون في العلم من آل محمد، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا هاجر إلى المدينة و أظهر الاسلام، كتب إلى ملك الروم كتابا، و بعث به مع رسول يدعوه إلى الاسلام، و كتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الاسلام، و بعثه إليه مع رسوله، فأمّا ملك الروم فعظّم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أكرم رسوله، و أمّا ملك فارس فانّه استخفّ بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مزّقه، و استخفّ برسوله، و كان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم، و كان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك الفارس، و كانوا لناحيته أرجا منهم لملك فارس، فلمّا غلب ملك فارس ملك الروم كره ذلك المسلمون و اغتموا به، فأنزل اللّه عز و جل بذلك كتابا: الم* غُلِبَتِ اَلرُّومُ* فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ يعني غلبتها فارس في أدنى الأرض، و هي الشامات و ما حولها وَ هُمْ يعني فارس مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ الروم سَيَغْلِبُونَ يعني يغلبهم المسلمون فِي بِضْعِ

ص: 91


1- . تفسير روح البيان 7:5.
2- . تفسير روح البيان 7:5.
3- . تفسير روح البيان 7:4.
4- . تفسير روح البيان 7:4.

سِنِينَ لِلّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اَللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.

قال: فلمّا غزا المسلمون فارس و افتتحوها فرح المؤمنون بنصر اللّه» .

قيل: أ ليس اللّه يقول: فِي بِضْعِ سِنِينَ و قد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في إمارة أبي بكر، و إنّما غلبت المؤمنون فارس في إمارة عمر؟

فقال: «ألم أقل لك إنّ لهذا تأويلا و تفسيرا، و القرآن ناسخ و منسوخ، أما تسمع لقول اللّه عزّ و جلّ: لِلّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ يعني إليه المشيئة في القول أن يوخّر ما قدّم و يقدّم ما أخّر في القول إلى يوم تحتّم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اَللّهِ أي يوم يحتّم القضاء [بالنصر]» (1).

أقول: هذه الرواية توافق قراءة سَيَغْلِبُونَ بالبناء للمفعول.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ ذمّهم سبحانه بقصر علمهم بشهوات الدنيا بقوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و زينتها و شهواتها، و لا يعلمون باطنها الذي هو المضار و المتاعب وَ هُمْ عَنِ عالم اَلْآخِرَةِ و دار الجزاء هُمْ غافِلُونَ لا تتوجّه قلوبهم إليها.

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فقال: «منه الزجر و النجوم» (2).

ثمّ لامهم سبحانه على ترك التفكّر في آيات التوحيد و البعث بقوله: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ و لم يتأمّلوا في قلوبهم حتى يعلموا أنّه يجب على اللّه حشر الخلق لمجازاتهم على أعمالهم بمقتضى الحكمة البالغة، لأنّه ما خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات بغرض من الأغراض إِلاّ بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة و المصلحة التامة، و عمدتها هو (3)استدلالهم بها على وجوده و كمال صفاته، و ارتقائهم بالنظر فيها من حضيض البشرية إلى أعلى درجة الانسانية، و استحقاقهم لفيوضاته الأبدية، و لا يكون ذلك إلاّ بانتقالهم إلى دار الآخرة الأبدية، و إلاّ كان خلقها عبثا و لعبا.

ص: 92


1- . الكافي 8:269/397، تفسير الصافي 4:126.
2- . مجمع البيان 8:461، تفسير الصافي 4:127.
3- . في النسخة: و هو.

و جعل بقاء الموجودات في العالم متلبّسا بوقت معين وَ أَجَلٍ مُسَمًّى مقدّر لا بدّ من أن ينتهي إليه، و هو قيام الساعة وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لأعراضهم عن التفكّر بِلِقاءِ رَبِّهِمْ و الحضور في محكمة عدله في الآخرة و اللّه لَكافِرُونَ و بالحشر لجاحدون.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ هددهم سبحانه بالعذاب الذي نزل على الامم الماضية بقوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا و لم يسافروا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود، و إلى ما صار مآل كفرهم و إنكارهم الحشر، فانّهم اهلكوا بأنواع العذاب، مع أنّهم كانوا أكثر من كفار مكّة تمتّعا بالدنيا و كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً و أعظم منهم جسما وَ أَثارُوا اَلْأَرْضَ و قلبوها للزراعة و غرس الأشجار، و استنباط المياه، و استخراج المعادن وَ عَمَرُوها بفنون العمارات من الزراعة و الغرس و البناء أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها لأنّ أهل مكّة أهل واد غير زرع، و لقد أتمّ اللّه عليهم الحجّة بأن أعطاهم العقل وَ جاءَتْهُمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ لتبليغ الحقّ إليهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، و فكذّبوه فأهلكهم اللّه بكفرهم و تكذيبهم فَما كانَ اَللّهُ بإنزال العذاب عليهم و إهلاكهم لِيَظْلِمَهُمْ و يعذّبهم بلا حجّة عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بكفرهم و طغيانهم الموجبين لاستحقاقهم العذاب

ثُمَّ كانَ بعد خروجهم من الدنيا عاقِبَةَ أمر اَلَّذِينَ أَساؤُا و استمرّوا على إتيان المنكرات، و أصرّوا على الكفر و معارضة الأنبياء العقوبة اَلسُّواى في الآخرة-كما أنّ للذين أحسنوا المثوبة الحسنى-لأجل أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ و دلائل توحيده و معجزات أنبيائه وَ كانُوا بِها في الدنيا يَسْتَهْزِؤُنَ دائما.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

سوره 30 (الروم): آیه شماره 11 الی 16

ص: 93

ثمّ استدلّ سبحانه على المعاد بقدرته على الخلق الأول بقوله: اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ و يوجده أولا في الدنيا ثُمَّ بعد إماتته يُعِيدُهُ و يوجده ثانيا كما بدأه ثُمَّ بعد الخروج من القبور إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و في محكمة عدله تحضرون، فيجازيكم على حسب أعمالكم.

اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)

ثمّ عيّن سبحانه وقت الرجوع إليه بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و تحضر القيامة يُبْلِسُ و يسكن اَلْمُجْرِمُونَ متحيّرين آيسين من الاهتداء إلى الحجّة، أو من شفاعة الأصنام

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ و آلهتهم شُفَعاءُ عند اللّه حتى يدفعوا عنهم العذاب وَ لذا كانُوا في ذلك اليوم بِشُرَكائِهِمْ و أصنامهم كافِرِينَ و لالوهيتها و شفاعتها منكرين.

ثمّ كرّر ذكر قيام الساعة ازديادا للارعاب بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ التي يجازى فيها الناس يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فرقتين: فرقة منهم المؤمنون، و فرقة منهم الكافرون

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَهُمْ متمكّنون فِي رَوْضَةٍ عظيمة و جنة واسعة يُحْبَرُونَ و يسرّون سرورا تهلّلت به وجوههم، أو يكرمون كما عن ابن عباس (1)، أو ينعّمون كما عن قتادة، أو يتوّجون كما عن آخر (2).

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ و البعث بعد الموت فَأُولئِكَ الكافرون المكذّبون فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ و في النار مدخلون لا يغيبون عنها أبدا.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 17 الی 19

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان صيرورة الناس في القيامة فرقتين، أمر الناس بتسبيحه و تنزيهه من الظلم و النقائص، و بحمده على كلّ حال بقوله: فَسُبْحانَ اَللّهِ و نزّه في زمان ظهور قدرته و تجدّد نعمته و هو حِينَ تُمْسُونَ و تدخلون في الليل وَ حِينَ تُصْبِحُونَ و تدخلون في النهار

وَ لَهُ خاصة اَلْحَمْدُ على نعمه كلّها، و الثناء الجميل على مننه من الموجودات الملكوتية، فِي اَلسَّماواتِ و عالم الملكوت، و من الموجودات الملكية في السفل وَ اَلْأَرْضِ فاحمدوه أنتم وَ سبّحوه عَشِيًّا و آخر النهار، و إنّما ذكر الحمد في البين للتنبيه على استحباب الجمع بين التسبيح و التحميد

فَسُبْحانَ اَللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

ص: 94


1- . تفسير أبي السعود 7:53، تفسير روح البيان 7:13.
2- . تفسير أبي السعود 7:54، تفسير روح البيان 7:13.

وَ سبّحوه حِينَ تُظْهِرُونَ و تصلون إلى نصف النهار.

و قيل: إنّ عشيا و حين تظهرون وقتان للتحميد؛ لأنّهما وقت ظهور نعمة اللّه، و انتظام أمر المعاش، و أخذ نتائج الأعمال، و الوقتان الأوّلان وقت الحاجة إلى النوم و الانتباه منه، و الحاجة إلى تحصيل المعاش و الإقدام في رفع الحوائج، فيناسبان لتنزيه اللّه عن النقائص الامكانية.

و عن ابن عباس: أنّ المراد من التسبيح الصلوات الخمس اليومية، فالمراد من التسبيح في المساء صلاة المغرب و العشاء، و في الصبح صلاة الفجر، و في العشيّ صلاة العصر، و في الظهر صلاة الظهر (1).

و كما أنّه تعالى يخرج الانسان في المساء من اليقظة إلى النوم، و في الصبح يخرجه من النوم إلى اليقظة يُخْرِجُ الانسان و الحيوان اَلْحَيَّ مِنَ التراب و النّطفة و البيض اَلْمَيِّتِ و قيل: يعني يخرج المؤمن من الكافر، و العالم من الجاهل (2)وَ يُخْرِجُ التراب و النّطفة و البيض اَلْمَيِّتِ أو الكافر و الجاهل مِنَ الانسان و الحيوان اَلْحَيَّ أو من المؤمن و العالم وَ يُحْيِ بالأمطار اَلْأَرْضَ و ينبت فيها أنواع النباتات بَعْدَ مَوْتِها و يبسها و عدم النبات فيها وَ كَذلِكَ الإحياء و الإخراج تحيون بمطر شبه المنيّ و النّطفة و تُخْرَجُونَ من القبور أحياء.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 20 الی 25

ثمّ ذكر سبحانه الدليل المتقن أنّه مخرج الحيّ من الميت بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ اِبْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)و دلائله أَنْ خَلَقَكُمْ يا بني آدم مِنْ تُرابٍ بعيد من الحياة غايته (3)يخلق أبيكم آدم منه ثُمَّ

ص: 95


1- . تفسير أبي السعود 7:55، تفسير روح البيان 7:17.
2- . تفسير روح البيان 7:17.
3- . أي غاية البعد.

إِذا أَنْتُمْ بارادته و قدرته في الحال بَشَرٌ سويّ و إنسان عاقل قويّ تَنْتَشِرُونَ و تتفرّقون في وجه الأرض لتحصيل معاشكم و حوائجكم، كيف يتصوّر في هذا الخالق الذي خلقكم من تراب أن يكون عاجزا من خلقكم ثانيا من تراب

وَ مِنْ آياتِهِ و دلائل قدرته أَنْ خَلَقَ اللّه لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم، أو من عضو منكم أَزْواجاً و نسوانا لِتَسْكُنُوا و تميلوا إِلَيْها و تستأنسوا بها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ و في قلوب كلّ منكم بالنسبة إلى الآخر مَوَدَّةً و محبّة وَ رَحْمَةً و عطوفة و شفقة. قيل: إنّ المودة كناية عن الجماع، و الرحمة كناية عن الولد (1).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من خلقكم من تراب، و خلق أزواجكم منكم، و إلقاء المودّة و الرحمة بينكم لَآياتٍ و حجج ظاهرة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أدنى التفكّر في أصل وجودها، و الحكم الكامنة فيها.

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الأنفسية أستدلّ بالآيات الآفاقية بقوله: وَ مِنْ جملة آياتِهِ و الأدلة الدالة على قدرته على الإعادة خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مع عظمهما و كثرة أجزائهما بلا مادّة و مدّة، لوضوح أنّه أقدر على إعادة ما كان حيا و خلقه ثانيا من المادّة.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر بعض الآيات الأنفسية بقوله: وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ و لغاتكم من العربية و الفارسية و التركية و الرومية و الهندية وَ اختلاف أَلْوانِكُمْ بالبياض و السواد و الحمرة و الأدمة و الصّفرة على اختلاف مراتبها بحيث قلّما يتّفق توافق شخصين في اللون مع كثرة عددهم.

عن ابن عباس: كان آدم مؤلفا من أنواع تراب الأرض، و لذلك كان بنوه مختلفين منهم الأحمر و الأسود و الأبيض كلّ ظهر على لون ترابه (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الخلق و الاختلاف لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بالحكم و مصالح الأشياء دون الجهّال المنغمرين في الشهوات.

عن الصادق عليه السّلام قال: «الامام إذا أبصر الرجل عرفه و عرف لونه، و إذا سمع كلامه من خلف حائط عرفه و عرف ما هو، إن اللّه يقول: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ الآية. قال: و هم العلماء فليس يسمع شيئا من الأمر ينطق به إلاّ عرفه ناج أو هالك، فلذا يجيبهم بالذي يجيبهم» (3).

وَ مِنْ آياتِهِ و أدلّة قدرته مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ على حسب العادة وَ اَلنَّهارِ على حسب الحاجة كالقيلولة لاستراحة أبدانكم وَ اِبْتِغاؤُكُمْ و طلبكم الرزق فيهما بالتجارة و غيرها الحاصل لكم مِنْ

ص: 96


1- . تفسير الرازي 25:110، تفسير أبي السعود 7:56، تفسير روح البيان 7:19.
2- . تفسير روح البيان 7:20.
3- . بصائر الدرجات:381/1، الكافي 1:364/3، تفسير الصافي 4:129.

فَضْلِهِ و إحسانه، ليدوم لكم البقاء إلى آجالكم المقدّرة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأمرين لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الآيات سماع القبول، و يتدبّرون فيها.

وَ مِنْ آياتِهِ أنّه تعالى يُرِيكُمُ و يظهر لكم اَلْبَرْقَ و الضياء الحاصل من السّحاب ليوجد في قلوبكم خَوْفاً من نزول الصاعقة المهلكة وَ طَمَعاً و رجاء بنزول المطر النافع وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بطريق الأمطار فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها و يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من البرق و المطر و إحياء الأرض لَآياتٍ نافعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن اللّه حججه، و يفهمون أدلّة قدرته و حكمته.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّماءُ مع ثقلها وَ ارتفاعها في مكانها بغير عمد و تستقرّ اَلْأَرْضُ فوق الماء و لا ترسب فيه بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته، و تستمرّان على ما هما عليه من الهيئة إلى الأجل المسمّى بمشيئته ثُمَّ بعد وضوح كمال قدرته على كلّ شيء اعلموا أنه تعالى إِذا دَعاكُمْ بعد انقضاء أجل الدنيا دَعْوَةً واحدة، و قال لكم: أيّها الموتى اخرجوا مِنْ القبور التي تكون لكم في اَلْأَرْضُ بالنفخة الثانية في الصور إِذا أَنْتُمْ تحيون ثانيا و بلا ريث تَخْرُجُونَ منها سراعا، و تحشرون إلى العرصة خشّعا.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 26 الی 27

ثمّ لمّا ذكر سبحانه مطاعيته للأموات نبّه على مطاعيته لجميع أهل الملك و الملكوت بقوله: وَ لَهُ بالملكية الاشراقية مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الأرواح القدسية وَ من في اَلْأَرْضِ و من الثقلين إيجادا و إعداما و تصرفا و تدبيرا، و لذا كُلٌّ منهم لَهُ تعالى قانِتُونَ و مطيعون طوعا أو كرها، لا يقدرون على التخلّف عن أمره و إرادته.

وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (27)

ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر قبل الاستدلال دعوتي التوحيد و المعاد بقوله: اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ (1)ذكرهما بعد الأدلة المذكورة بعنوان النتيجة بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ في الدنيا، و ينشئهم أولا رجالا و نساءا، ثمّ يميتهم عند انقضاء آجالهم ثُمَّ يُعِيدُهُ و يخلقه ثانيا للحساب و الجزاء في الآخرة، و لا استبعاد في عودهم وَ هُوَ أَهْوَنُ و أسهل و أيسر عَلَيْهِ من بدئهم في نظركم

ص: 97


1- . يونس:10/34.

و بالاضافة إليكم، و إن كانا بالاضافة إليه تعالى سيّان؛ لأنّه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون.

ثمّ بيّن كمال صفاته بقوله: وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى و الصفات العليا التي ليست لشيء من المملكات فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و قيل: إنّ الصفة العليا هو لا إله إلاّ اللّه، أي الوحدانية (1).

و قيل: يعني هذا مثل مضروب لكم، و له المثل الأعلى من هذا المثل و من كل مثل يضرب في السماوات و الأرض (2).

و قيل: إنّ المراد أنّ ذاته ليس كمثله شيء، و له المثل الأعلى (3)وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب على مراده من البدء و الإعادة اَلْحَكِيمُ العالم بصلاح الامور الفاعل على وفق الحكمة و الصواب.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 28

ثمّ إنّه تعالى بعد إقامة الحجج على التوحيد و المعاد و تمثيل الإعادة بإعادة الناس فعلهم الأوّل، ضرب مثلا لتوضيح شناعة القول بالشرك بقوله: ضَرَبَ اللّه لَكُمْ مَثَلاً بديعا منتزعا مِنْ أحوال أَنْفُسِكُمْ التي هي أقرب الأشياء منكم و أعرفها لديكم، ليصير بطلان مذهب الشرك كالمحسوس لكم، و هو أنّه افرضوني مع غاية عظمتي و قدرتي مثل أنفسكم مع نهاية حقارتها و عجزها هَلْ تتصوّرون أو ترضون أن يكون لَكُمْ بعضا مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد و الإماء مِنْ شُرَكاءَ فِي ما تملكونه في الظاهر مع أنّه في الواقع نحن رَزَقْناكُمْ إياه و أعطيناكم و جعلناه في قبضتكم و تصرّفكم فَأَنْتُمْ و هم فِيهِ سَواءٌ يتصرّفون فيه كتصرّفكم فيه، بلا فرق بينكم و بينهم، و أنتم تَخافُونَهُمْ في التصرّف فيه بغير إذنهم كَخِيفَتِكُمْ من التصرّف فيه أَنْفُسِكُمْ و الأحرار الذين يكونون مثلكم في المالكية لذلك المال، لا يتصوّر ذلك، و لا ترضون به، فكيف ترضون أن تجعلوا للّه شريكا من مخلوقاته و مملوكاته؟ ! كَذلِكَ التفصيل و البيان الواضح نُفَصِّلُ و نبيّن اَلْآياتِ و الدلائل على توحيدنا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن اللّه حججه، و يفهمون دلائله.

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)قال أبو الليث: نزلت في كفار قريش كانوا يعبدون الآلهة، و يقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك

ص: 98


1- . تفسير الرازي 25:117.
2- . تفسير الرازي 25:117.
3- . تفسير الرازي 25:117.

لك إلاّ شريك هو لك، تملكه و ما ملك (1).

و قال القمّي رحمه اللّه: سبب نزولها أنّ قريشا و العرب كانوا إذا حجّوا يلبّون، و كانت تلبيتهم: لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك. و هي تلبية إبراهيم و الأنبياء فجاءهم إبليس في صوره شيخ، و قال لهم: ليست هذه تلبية أسلافكم. قالوا: و ما كانت تلبيتهم؟ قال: كانوا يقولون: لبيك اللهمّ لبيك، لا شريك لك إلاّ شريكا هو لك. فتفرّق قريش من هذا القول، فقال لهم إبليس: على رسلكم حتى آتي على آخر كلامي. فقالوا: ما هو؟ فقال: إلاّ شريكا هو لك، تملكه و ما ملك. ألا ترون أنّه يملك الشريك و ما ملكه؟ فرضوا بذلك، فكانوا يلبّون بهذا قريش خاصة، فلمّا بعث اللّه عز و جل رسوله أنكر ذلك عليهم، و قال: هذا شرك، فأنزل اللّه الآية (2).

سوره 30 (الروم): آیه شماره 29 الی 32

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم، و بيّن استحالة تبعيتهم للحقّ بقوله: بَلِ اِتَّبَعَ المشركون اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَهْواءَهُمْ و شهوات أنفسهم بِغَيْرِ دليل يكون سبب عِلْمٍ فضلّوا عن طريق الحقّ فَمَنْ يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ عنه لسوء اختياره وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونهم في الدنيا من الضلالة، و في الآخرة من النار.

بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

ثمّ لمّا لم يهتد المشركون، و أصرّوا على الشرك، أمر نبيه بالإعراض عنهم و عدم الاعتناء بهم بقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ و وجّه قلبك يا محمد و اصرف شراشر وجودك لِلدِّينِ القيّم الذي أنت عليه حال كونك حَنِيفاً و مائلا إليه عن سائر الأديان. و يحتمل أن يكون حالا للدين، فانّه يكون فِطْرَتَ اَللّهِ و خلقته اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ و خلقهم عَلَيْها أو المراد الزموا فطرة اللّه، فانّ هذا الدين ما يحكم به العقل الفطري، و أخذ اللّه عليه العهد في الذّر، و أرتكز في القلوب [فلا يحيد]

الانسان عنه إلاّ بالصوارف الخارجية، و لو خلوا و أنفسهم و عقولهم ما اختاروا عليها غيره لا تَبْدِيلَ و لا تغيير لِخَلْقِ اَللّهِ فانّه غير ممكن.

ص: 99


1- . تفسير روح البيان 7:28.
2- . تفسير القمي 2:154، تفسير الصافي 4:131.

ذلِكَ الدين الذي امرتم باقامة وجوهكم له هو اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ السويّ الذي لا عوج له وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فتنحرفون عنه،

فوجّهوا له حال كونكم مُنِيبِينَ و راجعين إِلَيْهِ تعالى في جميع مدة عمركم بحوائجكم، و مقبلين عليه بطاعتكم وَ اِتَّقُوهُ في مخالفته وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ التي هي أهمّ الفرائض وَ لا تَكُونُوا بتركها مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الذين لا يسجدون لربّهم بعد الايمان بالتوحيد، أو من المشركين لغيره في عبادته جليا أو خفيا،

أعني مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ و اختلفوا فيما يعبدون على اختلاف أهوائهم وَ كانُوا في عبادة غير اللّه شِيَعاً و أحزابا، كلّ يشايع و يتابع إمامه الذي هو الأصل و المؤسس لدينه، و الكل متّفقون على الضلال و كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ و بما اختاره من الدين فَرِحُونَ و مسرورون لاعتقادهم أنّه الحقّ و ما سواه هو الباطل.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 33 الی 35

ثمّ بيّن سبحانه أن فطرة المشركين أيضا على التوحيد، و أنّهم منيبين إلى اللّه عند الشدائد بقوله: وَ إِذا مَسَّ اَلنّاسَ و أصابهم ضُرٌّ كالفقر و القحط و المرض و غيرها من الشدائد دَعَوْا رَبَّهُمْ لرفعه و كشفه حال كونهم مُنِيبِينَ. و راجعين إِلَيْهِ تعالى عن غيره، لعلمهم بعدم قدرة غيره على كشفه و ثُمَّ إِذا استجاب دعاءهم و كشف عنهم ضرّهم و أَذاقَهُمْ مِنْهُ و من فضله رَحْمَةً و نعمة من صحة و عافية و خلاص و سعة و غيرها إِذا فَرِيقٌ و في الحين جمع مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ اللطيف بهم المانّ عليهم بنعمه يُشْرِكُونَ كأننا أتيناهم تلك النعمة

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ و يضيّعوا حقّه بعبادة غيرنا.

وَ إِذا مَسَّ اَلنّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)ثمّ التفت من الغيبة إلى الخطاب (1)تهديدا لهم بقوله: فَتَمَتَّعُوا أيها الكافرون و انتفعوا بكفركم، و بالنعم التي أعطيناكم في الدنيا الفانية و المدة القليلة فَسَوْفَ و عن قريب تَعْلَمُونَ و خامة عاقبة كفركم و تمتّعكم في الآخرة، و هي العذاب و النّكال.

ثمّ لامهم سبحانه على التزامهم بعبادة الأصنام بلا حجّة و برهان بقوله: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ كتابا أو نبيا أو ملكا ليكون قوله سُلْطاناً و حجّة لهم فَهُوَ يَتَكَلَّمُ و يخبر بأمرنا إيّاهم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ قيل: يعني باشراكهم أو بعبادة ما كانوا به يشركون (2).

ص: 100


1- . زاد في النسخة: بهم.
2- . تفسير أبي السعود 7:61.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ لمّا كان من لطفه على العباد أن يختبرهم بالنّعم و البلايا لينيبوا إليه في أحد الحالين، لام المشركين على أنّ الحالين لا يزيدهم إلاّ كفرا بقوله: وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ و أنعمنا عليهم رَحْمَةً و نعمة فَرِحُوا بِها أشرا و بطرا، و زادهم طغيانا و كفرا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ و شدّة من ضيق و بلاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ و ييأسون و يجزعون و يفزعون، فلا عند النّعمة إلى اللّه يرجعون و يشكرون و لا عند البلاء إليه ينيبون و يرجعون و يسألون

أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم يعلموا أنّ الشدة و الرخاء كلاهما من اللّه حيث يرون أَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وسعة رزقه لعلمه بصلاحه فيها وَ يَقْدِرُ و يضيّق الرزق لمن يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من القبض و البسط لَآياتٍ نافعة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانّهم يستدلّون بها على كمال قدرة اللّه و حكمته.

وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)قيل لبعض العلماء: ما الدليل على وحدة صانع العالم؟ قال: ثلاثة أشياء ذل اللبيب، و فقر الأديب، و سقم الطبيب (1).

سوره 30 (الروم): آیه شماره 38

ثمّ خاطب سبحانه من بسط له الرزق، و أمره بانفاق ما زاد عن كفافه لمن قدر عليه رزقه بقوله: فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى و صاحب النسب إليك إذا احتاج في نفقته و ما يعيش به حَقَّهُ من مالك صدقة أو صلة و إعانة مقدّما له على غيره وَ آت اَلْمِسْكِينَ و الفقير وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ حقّهما من مالك صدقة و إعانة.

فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (38)قيل: إنّ المخاطب هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد بذي القربى قرابته (2).

عن أبي سعيد الخدري: لمّا نزلت الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى فاطمة عليها السّلام فدكا و سلّمه إليها (3).

و قيل: إن الخطاب لعموم (4)الأمة، و المراد بذي القربى فقراء ذريّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد بالحقّ الخمس، كما عن مجاهد و السدّي (5).

ص: 101


1- . تفسير روح البيان 7:39.
2- . مجمع البيان 8:478.
3- . مجمع البيان 8:478، تفسير الصافي 4:133.
4- . في النسخة: بعموم.
5- . مجمع البيان 8:478.

ثمّ حثّهم في ذلك بقوله: ذلِكَ الايتاء و العطاء من المال خَيْرٌ في نفسه، أو من الامساك، و لكن لا لكلّ الناس، و إن كانوا مشركين أو مرائين، بل لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ بإعطائهم وَجْهَ اَللّهِ و يطلبون به رضاه و القرب إليه، فانّ ذلك المال يبقى و يدوم نفعه إلى الأبد وَ أُولئِكَ المنفقون لوجه اللّه هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 39 الی 40

ثمّ لمّا ذكر سبحانه فائدة إنفاق المال لوجه اللّه، ذكر عدم الفائدة الاخروية في بذله للاغراض الدنيوية بقوله: وَ ما آتَيْتُمْ و أعطيتم شيئا مِنْ رِباً و زيادة من هدية وهبة، لا لوجه اللّه، بل لِيَرْبُوَا و يزيد فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ حتى يعطوكم أكثر و أفضل منه، فهذا المال و إن صار سببا لزيادة أموالكم في الدنيا، و لكن لما لم يكن بذله لوجه اللّه فَلا يَرْبُوا و لا يزيد عِنْدَ اَللّهِ و لا يبارك له فيه، و لا يثاب عليه.

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ (39) اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (40)عن الصادق عليه السّلام قال: «الربا رباءان: ربا يؤكل، و ربا لا يؤكل، فأمّا الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها، فذلك الربا الذي يؤكل، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ و أمّا الذي لا يؤكل فهو الذي نهى اللّه عنه [و أوعد عليه النار]» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هو أن يعطي الرجل العطية، أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها، فليس فيه أجر و لا وزر» (2).

و قيل: إنّ المراد به إعطاء الزيادة في المعاملة أو القرض (3). وَ ما آتَيْتُمْ شيئا مِنْ زَكاةٍ مشروعة في الأموال الزكوية أو صدقة تُرِيدُونَ به وَجْهَ اَللّهِ و تطلبون رضاه و التقرّب إليه، فانّه يزيد عند اللّه.

عن الصادق عليه السّلام قال: «مكتوب على باب الجنة: القرض بثمانية عشر، و الصدقة بعشر» (4).

ثمّ لتعميم الحكم لجميع الامّة إلى يوم القيامة، التفت من الخطاب إلى الغيبة بقوله: فَأُولئِكَ

ص: 102


1- . الكافي 5:145/6، التهذيب 7:17/73، تفسير الصافي 4:134.
2- . مجمع البيان 8:479، تفسير الصافي 4:134.
3- . تفسير الصافي 4:134، تفسير روح البيان 7:41.
4- . تفسير القمي 2:159، تفسير الصافي 4:134.

المزكّون هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ و ذوو الأضعاف من الثواب في الأجل و المال في العاجل.

ثمّ أكّد ما أدّعاه سبحانه من التوحيد و نفي الشريك له بقوله: اَللّهُ هو القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ في الدنيا و لم تكونوا شيئا مذكورا ثُمَّ رَزَقَكُمْ بجوده ما تعيشون به و تبقون إلى منتهى آجالكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بقدرته ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة ليجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ، فهذه الأعمال من شؤون الالوهية فانظروا هَلْ أحد مِنْ شُرَكائِكُمْ و آلهتكم مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء مِنْ شَيْءٍ؟ لا يفعلون شيئا منها أبدا إذن سُبْحانَهُ و ننزّهه تنزيها بليغا وَ تَعالى تعاليا كبيرا (عن) شرك ما يُشْرِكُونَ به أو عن إشراكهم.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 41 الی 43

ثمّ نبّه سبحانه على ضرر شرك بني آدم على كافة الموجودات بقوله: ظَهَرَ اَلْفَسادُ من القحط و الغلاء، و الطاعون و الوباء، و موت الفجاءة، و كساد التجارات، و الرفع في الزراعات، و القتل و الغارات، و الزلازل و الحريق و الفتن فِي اَلْبَرِّ من البلدان و القرى و الجبال و الأودية وَ في اَلْبَحْرِ من الأمواج و الغرق و كسر السفن و موت الدوابّ و غيرها.

ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)قيل: البحر يطلق على البلدان (1). و قيل: هو البلاد التي في السواحل (2).

بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ من الشّرك و الظّلم و العصيان، و إنّما كان ذلك لِيُذِيقَهُمْ و نطعمهم بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا من المعاصي و قليلا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الشرك إلى التوحيد، و يتوبون من سيئاتهم.

في الأخبار أنّ ظهور الفواحش سبب لفشّو الطاعون و الأوجاع، و نقص المكيال و الميزان سبب للقحط و شدّة المؤنة، و جور السلطان و منع الزكاة سبب لانقطاع المطر، و نقض عهد اللّه و رسوله سبب لتسلّط العدو، و جور الحكام في الحكم سبب لوقوع القتال، و أكل الربا سبب للزّلزلة (3).

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: قُلْ يا محمد للمشركين سِيرُوا و سافروا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا

ص: 103


1- . تفسير الرازي 25:127.
2- . مجمع البيان 8:480، تفسير أبي السعود 7:62.
3- . تفسير روح البيان 7:46.

بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ و إلى ما صار مآل كفرانهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فإذا كان الأمر كذلك

فَأَقِمْ يا محمد وَجْهَكَ و أقبل بقلبك الشريف لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ البليغ في الاستقامة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يوم القيامة، و هو يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ و لا مانع عن إتيانه مِنَ اَللّهِ.

و قيل: إنّ الظرف متعلّق بفعل يأتي، و المعنى أنّ اليوم يأتي من اللّه، و لا يمكن لأحد أن يمنع من إتيانه (1). فالخلق يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ و يتفرّقون فريق في الجنة و فريق في السعير.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ بيّن سبحانه الفرقتين بقوله: مَنْ كَفَرَ باللّه و رسله و اليوم الآخر فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ و ضرر ترك إيمانه من العقوبة و النّكال لا على غيره وَ مَنْ آمن و عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيا عند اللّه، و يجوز أن يكون المراد هنا من العمل الصالح الايمان، فانّه عمل القلب و اللسان فَلِأَنْفُسِهِمْ وحدها منزل الراحة الأبدية يَمْهَدُونَ و يهيّئون، أو يفرشون حتى يستريحون فيه إلى الأبد، و قيل: يعني لأنفسهم يشفقون (2).

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ (45)و عن الصادق عليه السّلام قال: «إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمة فراشه» (3).

و إنّما كان تفرّقهم بتفريق اللّه تعالى فرقتين لِيَجْزِيَ اللّه اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ الجنة و النّعم العظيمة الأبدية مِنْ فَضْلِهِ وجوده، لا من عدله، و إنّما قدّم ذكر جزاء المؤمنين إشعارا بسبق رحمته غضبه، و بأنّه المقصود الأول.

ثمّ كنّى سبحانه من عذاب المشركين بقوله: إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ فانّ لازم عدم حبّه لهم بغضه إياهم، و لازمه العذاب الشديد الدائم، و فيه إشارة إلى أنّه يحبّ المؤمنين، و هو أفضل الجزاء، كما أنّ عدم حبّه أشدّ العذاب عند العارفين.

روي أنّ اللّه تعالى قال لموسى عليه السّلام: «ما خلقت النار بخلا مّني، و لكن أكره أن أجمع أعدائي و أوليائي في دار واحدة» (4).

سوره 30 (الروم): آیه شماره 46

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

ص: 104


1- . تفسير أبي السعود 7:63، تفسير روح البيان 7:47.
2- . جوامع الجامع:360.
3- . مجمع البيان 8:481، تفسير الصافي 4:135.
4- . تفسير روح البيان 7:48.

ثمّ إنّه لمّا ذكر سبحانه أنّ الشّرك سبب لظهور الفساد في العالم، نبّه على أنّ التوحيد سبب لصلاحه بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ و علائم توحيده و قدرته و حكمته أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّياحَ الشّمال و الجنوب و الصّبا، فانّها رياح الرحمة، لأنّها من روح اللّه، حال كونها أو لتكون مُبَشِّراتٍ للخلق بالمطر، و لطافة الهواء، و صحّة الأبدان، و وفور النّعم وَ لِيُذِيقَكُمْ و يطعمكم طعم السّعة و السلامة و الراحة الكائنة مِنْ رَحْمَتِهِ و إحسانه، فإنّه لو لم تهبّ الرياح لظهر الوباء و الفساد.

و هذا في مقابل قوله: ظَهَرَ اَلْفَسادُ . . . لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا (1)و لمّا كان المشركون بعيدين عنه تعالى، كنّى عنهم بضمير الغائب، و كان المؤمنون قريبين منه أتى بضمير الخطاب، و إنّما علّل ما أصابهم من الشرّ ببعض أعمالهم، و أسند ما أصابهم من الخير إلى رحمته تقريرا لقوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (2).

وَ لِتَجْرِيَ و تسير اَلْفُلْكُ في البحر بسوق الرياح الهابّة (3)بِأَمْرِهِ و تعالى لوضوح أنّ الريح لا تتحرّك بنفسها، بل لها (4)محرك، إلى أن ينتهي إلى محرّك لا محرّك له و لا يتحرّك، و هو اللّه الموجد لكلّ شيء، و من حركة الرياح وَ لِتَبْتَغُوا و تطلبوا بركوبها و حمل الأمتعة فيها للتجارة ربحا و فائدة كثيرة مِنْ فَضْلِهِ تعالى وجوده لا من كسبكم، و لمّا كان توفيق الشكر من نعمه عطفه على النّعم بقوله: وَ لَعَلَّكُمْ بتوفيقه تعالى تَشْكُرُونَ نعمه و أفضاله.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 47

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و المعاد، ذكر أمر الرسالة، و أظهر المنّة بارسال الرسل، و فيه تحذير من أخل بالشّكر بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ و في أعصار قبل عصرك رُسُلاً كثيرة عظيمة الشأن إِلى قَوْمِهِمْ لهدايتهم إلى توحيدنا و معرفتنا و شكر نعمتنا فَجاؤُهُمْ مستدلين على صدقهم في دعوى الرسالة من اللّه بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات كالعصا و إحياء الموتى، فكفر كلّ قوم بنعمة إرسال رسولهم و كذّبوه و عارضوه و استهزءوا به فَانْتَقَمْنا بإنزال العذاب مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا و كذّبوا رسولهم، و أصروا على شركهم و كفرهم، و تكذيب رسلهم، و حفظنا المؤمنين من شرّهم و ضرّهم و العذاب النازل عليهم، و نصرناهم على أعدائهم وَ كانَ حَقًّا واجبا

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (47)

ص: 105


1- . الروم:30/41.
2- . النساء:4/79.
3- . في النسخة: المهبة.
4- . في النسخة: بنفسه، بل له.

عَلَيْنا بمقتضى حكمتنا و رحمتنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ في الدنيا بحفظ إيمانهم، و دفع شرّ أعدائهم، و إنجاءهم ممّا أصاب الكافرين، و في الآخرة بإنجائهم من أهوال يوم القيامة، و خلاصهم من النار، و إدخالهم الجنة، و إنعامهم بالنّعم الدائمة و الراحة الأبدية، و فيه إشعار بأنّ الانتقام لهم و إظهار لكرامتهم، حيث جعلهم مستحقّين على اللّه أن ينصرهم.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما من أمرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة (1). ثمّ قرأ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ» .

و عن الصادق عليه السّلام قال: «حسب المؤمن نصرة أن يرى عدّوه يعمل بمعاصي اللّه» (2).

و في الآية تبشير للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالظّفر في العاقبة على أعدائه، و النصر على من كذّبه، و تسلية لقلبه الشريف حيث لم يؤمنوا به فقال: حالك كحال من تقدّمك من الأنبياء العظام، فانّهم مع معجزاتهم الباهرات كذّبوا و صبروا حتى نصرهم اللّه على تكذيبهم.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إرساله الرسل في السابقين، و تسلية نبيه بذكر حالهم و ظفرهم على أعدائهم، عاد إلى الاستدلال على توحيده الذي هو أهمّ المقاصد بذكر كيفية بشارة الرياح بالمطر بقوله: اَللّهُ هو القادر بالذات اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ المبشّرات برحمته من الشّمال و الجنوب و الصّبا فَتُثِيرُ و تنتشر بهبوبها سَحاباً واحدا أو أكثر بارادة اللّه و أمره فَيَبْسُطُهُ و يجعل بعضه متّصلا ببعض تارة، كي يصير قطعة واحدة فِي سمت اَلسَّماءِ وجهة العلوّ كَيْفَ يَشاءُ اللّه تعالى سائرا و واقفا، مطبقا مسيرة يوم أو يومين أو أقلّ أو أكثر، أو غير مطبق من جانب دون جانب وَ يَجْعَلُهُ تارة اخرى كِسَفاً و قطعا كلّ قطعة في طرف، أو يجعل بعضه فوق بعض، كما عن القمي (3)فَتَرَى يا محمدّ، أو أيّها الرائي اَلْوَدْقَ و المطر يَخْرُجُ بأمر اللّه مِنْ خِلالِهِ و فرجه و شقوقه في التارتين واپلا أو هطلا أو رذاذا.

اَللّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)عن وهب: أنّ الأرض شكت إلى اللّه عزّ و جلّ أيام الطّوفان، فقالت: يا ربّ، إن الماء خدّدني

ص: 106


1- . مجمع البيان 8:484، تفسير الصافي 4:136، تفسير روح البيان 7:50.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:284/847 و:293/884، تفسير الصافي 4:136.
3- . تفسير القمي 2:160، تفسير الصافي 4:136.

و خدّشني، لأنّ الماء خرج بغير وزن و لا كيل غضبا للّه تعالى فخدّش الأرض و خدّدها، فقال اللّه تعالى: إنّي سأجعل للماء غربالا لا يخدّدك و لا يخدّشك، فجعل السّحاب غربال المطر (1).

فَإِذا أَصابَ اللّه بِهِ و أنزله على أراضي و مزارع مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أو بلادهم إِذا هُمْ بمجيء الخصب و الأمن من القحط يَسْتَبْشِرُونَ و يفرحون وَ إِنْ الشأن أن الذين أصابهم المطر كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ المطر عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ و إنّما كرّر كلمة مِنْ قَبْلِ تأكيدا و دلالة على تطاول عهدهم به لَمُبْلِسِينَ و آيسين من نزوله.

و قيل: إنّ ضمير (من قبله) راجع إلى إرسال الرياح (2)، لأنّ الخبير بعد الريح و بسط السّحاب يعرف أن فيه المطر.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 50 الی 53

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد بالتفصيل المذكور، أمر الناس بالاعتبار بآثار المطر و إحياء الأرض بقوله: فَانْظُرْ أيّها الناظر بنظر الاعتبار إِلى آثارِ المطر الذي هو من رَحْمَةِ اَللّهِ من النبات و الأزهار و الأشجار و الثّمار، و تفكّر في أنّه تعالى كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بتلك الآثار بَعْدَ مَوْتِها و يبسها و عدم ظهور فائدة فيها، و تنبّه على عظم شأنه و كمال قدرته و اعلم إِنَّ ذلِكَ الربّ العظيم المحيي للأرض الميتة لَمُحْيِ اَلْمَوْتى البتة بعد صيرورتهم ترابا في الآخرة للحساب و جزاء الأعمال وَ هُوَ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من إحياء الموتى و غيره ممّا يمكن أن يوجد قَدِيرٌ لا يتصوّر فيه العجز، فانّ نسبة قدرته إلى جميع الممكنات سواء.

فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اَللّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ ما أَنْتَ بِهادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

ثمّ ذمّ سبحانه الكفّار بقوله: وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً مضرّة حارة أو باردة، فافسدت زرع الكفار فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا من أثر الريح بعد كونه مخضرّا، فيأسوا من نفعه لَظَلُّوا و صاروا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جميع نعم اللّه عليهم، و لم يلتجئوا إليه بالاستغفار، بخلاف المؤمن الشاكر الصابر، فانّه يحمد اللّه على كلّ حال، و لا يحزنون على ما فاتهم من المنافع، و لا يفرحون بما آتاهم اللّه، و إنّما يكون فرحهم بطاعة اللّه، و حزنهم على معصيته، فاولئك الكفّار كالموتى لسلب المشاعر عنهم، فلا

ص: 107


1- . تفسير روح البيان 7:51.
2- . تفسير الرازي 25:133.

تطمع يا محمد في قبولهم دعوتك و إيمانهم بك

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ دعوتك و مواعظك اَلْمَوْتى لعدم قابليتهم للاستماع، و هم كالصّم الذين لا يسمعون وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ و النداء خصوصا إِذا وَلَّوْا و أعرضوا عنك حال كونهم مُدْبِرِينَ و جاعلين ظهورهم نحوك، فانّهم إذن لا يرون إشاراتك و حركات شفتيك حتى يفهموا بفراستهم أنّك تكلّمهم و تخاطبهم و هم لفقدهم البصيرة كالعمي

وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ و مدلّهم إلى الطريق بلسانك، و صارفهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ و سلوكهم في غير الطريق إِنْ تُسْمِعُ دعوتك إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ و يصدّق بِآياتِنا القرآنية، و يتدبّر فيها، و يتلقّاها بالقبول.

و يجوز أن يكون المراد بالمؤمن المشارف للايمان و المقبل على الآيات بقلبه فَهُمْ مُسْلِمُونَ و منقادين لإجابة دعوتك و إطاعة أوامرك.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 54 الی 57

ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال على توحيده و قدرته بقوله: اَللّهُ تعالى هو القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ مبدأ ضعيف يصحّ أن يقال من غاية ضعفه أنّه عين ضَعْفٍ كالتّراب و النطفة، ثمّ ربّاكم في الأرحام ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كان فيكم و أنتم أجنّة قُوَّةً على الحركة، و أمتصاص الضّرع و شرب اللّبن منه، و دفع الأذى عنكم بالبكاء، ثمّ ربّاكم حتى بلغتم سنّ الشباب و أكمل قواكم ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ كانت لكم في الشباب ضَعْفاً آخر حين الشيخوخة و الكبر وَ شَيْبَةً و هرما و من المعلوم أنّ هذه الأطوار و الأحوال للخلق لا تكون بالطبيعة بل اللّه يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضّعف و القوّة و الشباب و الشيب و الهرم وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ بأحوال خلقه اَلْقَدِيرُ على نقله من حال إلى حال.

اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ (54) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اَللّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

ثمّ إنّه بعد ذكر أحوال خلقه في الدنيا و أطوارهم، ذكر بعض أحوال الكفّار في الآخرة بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و تجيء وقت جزاء الأعمال، يسأل الكفّار عن مدّة لبثهم في الدنيا، فحينئذ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ

ص: 108

و العاصون المنكرون للحشر باللّه على أنّهم ما لَبِثُوا و ما مكثوا فيها غَيْرَ ساعَةٍ و مدّة في غاية القلّة.

و قيل: إنّ المراد مدّة لبثهم في القبور، أو بعد فناء الدنيا إلى النشور (1). و على كلّ تقدير كان جوابهم إفكا و كذبا و كَذلِكَ الإفك و الكذب كانُوا في الدنيا يُؤْفَكُونَ و يصرفون من الحقّ إلى الباطل،

و من الصدق إلى الكذب وَ قالَ الملائكة أو الأنبياء و المؤمنون اَلَّذِينَ أُوتُوا من قبل اللّه اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمانَ ردّا عليهم و إنكارا لكذبهم: و اللّه لَقَدْ كذبتم بل لَبِثْتُمْ في المدة التي كانت مكتوبة فِي كِتابِ اَللّهِ و اللّوح المحفوظ، و هي المدّة المديدة إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ لا الساعة الحقيقية فَهذا اليوم يَوْمِ اَلْبَعْثِ الذي وعدكم به الأنبياء وَ لكِنَّكُمْ لفرط جهلكم و تفريط النّظر كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنّه الوعد الحقّ،

و تستعجلون به استهزاء فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بإنكار التوحيد و المعاد مَعْذِرَتُهُمْ و كلمات تمحى بها ذنوبهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و يؤمرون بما يرضون به ربّهم و به يمحون ذنوبهم من التوبة و الطاعة، لعدم قبولها منهم، كما يؤمرون به في الدنيا و يقبل منهم فيها.

سوره 30 (الروم): آیه شماره 58 الی 60

ثمّ بيّن سبحانه قطع عذرهم في الدنيا بقوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا و و اللّه قد بيّنا لِلنّاسِ عموما فِي هذَا اَلْقُرْآنِ الكريم بأوضح بيان مِنْ كُلِّ ما يحتاجون إليه من العقائد الصحيحة و الأحكام الحقّة و الأدب و الحكم بحيث يكون في الغرابة مَثَلٍ فلا يبقى لهم العذر في ترك أخذها و عدم العمل بها من قبلنا، و أمّا من قبلك في رسالتك فقد أتيت لهم ما يثبت به برسالتك وَ و اللّه لَئِنْ جِئْتَهُمْ و أتيت لهم بِآيَةٍ من القرآن الذي هو أعظم المعجزات لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على العناد لك و للمؤمنين بك إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ و كاذبون فيما تدّعون

كَذلِكَ الطّبع الفضيع و الختم الشنيع يَطْبَعُ اَللّهُ و يختم عَلى قُلُوبِ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ سوء عاقبة العقائد الفاسدة، و لا يدركون الحقّ و دلائله، فيصرّون على خرافات اعتقدوها و ترّهات ابتدعوها.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اَللّهُ عَلى قُلُوبِ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

فَاصْبِرْ يا محمدّ على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بنصرك عليهم و تعذيبهم حَقٌّ لا خلف فيه وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ و لا يغيضك، أو لا يحملنّك على القلق و الخفّة جزعا القوم اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ

ص: 109


1- . تفسير الرازي 25:136.

بصدقك و بالآيات التي ننزّلها عليك، فتكفّ عن الدعوة و تتهاون في القيام بوظيفة النبوة، فانّهم شاكّون ظالّون و لا يستبعد منهم التكذيب و الإيذاء.

الحمد للّه على نعمه العظام التي منها إتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 110

في تفسير سورة لقمان

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختمت سورة الروم ببيان عظمة القرآن و إعجازه بقوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا إلى آخره، و تكذيب الكفّار له، و أمره تعالى نبيّه بالصبر على تكذيبهم و استهزائهم به، اردفت بسورة لقمان المبدوءة بذكر عظمة القرآن و كونه هدى و رحمة، و إعراض المشركين عنه و تكذيبهم إياه، و ذكر وصايا لقمان الحكيم و أمره بالصبر، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (5)

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله: الم جلبا لتوجّه الناس إلى ما بعدها من ذكر عظمه القرآن و إعجازه بقوله:

تِلْكَ السورة و الآيات آياتُ اَلْكِتابِ اَلْحَكِيمِ و القرآن المتضمّن للعلوم الكثيرة و الحكم الوفيرة، أو المحكم المصون من التغيير و التبديل، و المحروس من الفساد و البطلان،

حال كون الآيات هُدىً و رشادا من الضلالة وَ رَحْمَةً و سببا للارتقاء بالمراتب العالية من الكمالات الانسانية، و الدرجات الرفيعة من الجنة لِلْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم باختيار العقائد الصحيحة،

و ارتكاب الأعمال الصالحة، و هم اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ التي هي عمود دينهم وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ التي هو ركن الاسلام وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار جزاء الأعمال هُمْ يُوقِنُونَ و لا يشكّون فيها

أُولئِكَ المحسنون المتّصفون بالصفات الجليلة مستولون عَلى هُدىً و رشاد حاصل مِنْ رَبِّهِمْ اللطيف بهم و طريق بيّنه اللّه لهم و وفّقهم لسلوكه.

ثمّ وعدهم بأفضل الجزاء بقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون بأعلى المقاصد، و الناجون من جميع المهالك و المكارة، لاستجماعهم العقيدة الحقة و الأعمال الصالحة.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 6 الی 7

ص: 111

ثمّ شرع في ذمّ المشركين الصادّين عن سبيل اللّه بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ و بعضهم مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ و يترك استماع القرآن و قراءته اللتين (1)فيهما كلّ خير، و يستبدلهما باستماع ما لا خير فيه من الكلام كأساطير الأولين و قصص رستم و إسفنديار.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (2) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)قيل: نزلت في النّضر بن الحارث بن كلدة الذي قتله النبي صلّى اللّه عليه و آله صبرا بعد وقعة بدر (4).

روي أنّه ذهب إلى فارس للتجارة، فاشترى كتاب (كليلة و دمنة) و (أخبار رستم و إسفنديار) و (أحاديث الأكاسرة) فجعل يحدّث بها قريشا في أنديتهم و يقول: إنّ محمّدا يحدّثكم بعاد و ثمود، و أنا أحدّثكم بحديث رستم و إسفنديار، فيستملحون حديثه، و يتركون استماع القرآن (5)، و كان عمله ذلك لِيُضِلَّ الناس و يصرفهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دينه الحقّ، و يمنعهم بتلك الخرافات عن قراءة كتابه الهادي إلى المصالح الدنيوية و الاخروية بِغَيْرِ عِلْمٍ بضرر ما يشتريه و بالمعاملة الرابحة، و مع ذلك يسخر بسبيل اللّه وَ يَتَّخِذَها هُزُواً.

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير لهو الحديث قال: «هو الطعن في الحقّ، و الاستهزاء به، و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به» إلى أن قال: «و منه الغناء» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «الغناء ممّا أوعد اللّه عليه النار» و تلا هذه الآية (7).

و عنه أنّه سئل عن كسب المغنّيات فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللّه عز و جل: وَ مِنَ اَلنّاسِ الآية» (6)و عليه جمع المفسرين، كابن عباس و ابن مسعود و غيرهما (7).

و عن مجاهد: أنّ الآية نزلت في الذين يشترون المغنيات و يصرفون الناس عن استماع القرآن بألحانهنّ (8).

و عن الزمخشري: أنّ بعض قريش يشترون المغنيات، فاذا أطّلعوا أن أحدا أراد قبول الاسلام طلبوه و أطعموه الطعام، و سقوه الشراب، و أمروا المغنيات يغنّين له، ثم قالوا: هذا خير ممّا يدعوك إليه محمد من الصلاة و الصيام و القتال بين يديه (9).

ص: 112


1- . في النسخة: التي.
2- . الكافي 5:119/1، تفسير الصافي 4:140.
3- . مجمع البيان 8:490.
4- . تفسير روح البيان 7:65.
5- . تفسير روح البيان 7:65.
6- . مجمع البيان 8:490، تفسير الصافي 4:140.
7- . الكافي 6:431/4، تفسير الصافي 4:140.
8- . الدر المنثور 6:507.
9- . الكشاف 3:490.

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ لاهانتهم بالقرآن و بدين اللّه

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا القرآنية وَلّى و أعرض عنه حال كونه مُسْتَكْبِراً و مبالغا في الترفّع عن استماعها و عن إطاعة أحكامها و الايمان بها، و من المعلوم أنّه لا يتصوّر التولّي عنه ممّن سمعها لما فيها من الفصاحة و البلاغة و حسن الاسلوب و طلاقة البيان بحيث عجز الإنس و الجنّ من الاتيان بمثله، و هذه الامور موجبات الاقبال عليها و الخضوع لها، فالمتولى عنها (1)يكون كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها و لم يكن عدم سماعه لها من باب الاتفاق مع كثرة تلاوتها عنده، بل كَأَنْ حبّ الجاه و الحسد و الأخلاق الرذيلة أحدث فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً و ثقلا مانعا من سماعها، و لو تليت عليه ألف مرّة، فكأنّه مشتاق إلى الكفر و ما يترتّب عليه من العذاب فَبَشِّرْهُ يا محمد بِعَذابٍ أَلِيمٍ يبتلى به في الآخرة، كما يبشّر بما يحبّه من شهوات الدنيا.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 8 الی 11

ثمّ أنّه تعالى بعد ما هدّد الكفّار بعاقبة كفرهم و استكبارهم عن سماع الآيات القرآنية، بشّر المؤمنين بحسن مآل إيمانهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه و رسالة رسوله و الدار الآخرة وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضيات عند ربّه لَهُمْ بالاستحقاق في الآخرة جَنّاتُ فيها اَلنَّعِيمِ الدائم-قيل: يعني نعيم جنّات فعكس (2). و قيل: جنّات النعيم إحدى الجنّات الثمان، كما عن ابن عباس (3)-حال كونهم

خالِدِينَ و مقيمين فِيها يكون هذا الوعد وَعْدَ اَللّهِ و قيل: يعني وعد اللّه وعدا، و حقّ ذلك الوعد (4)حَقًّا لا يمكن الخلف له، لأنّه تعالى هو الغنيّ بالذات، و لا يكذب أحد إلاّ للحاجة وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، فلا يقدر أحد على أن يمنعه من إنجاز وعده و اَلْحَكِيمُ الذي لا يصدر منه إلاّ ما هو مقتضى الحكمة و الصلاح.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ جَنّاتُ اَلنَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (9) خَلَقَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اَللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأشدّ العذاب، و وعد المؤمنين بأعظم الثواب، و وصف ذاته المقدّسة

ص: 113


1- . في النسخة: عنه.
2- . تفسير أبي السعود 7:70.
3- . تفسير روح البيان 7:66.
4- . تفسير روح البيان 7:67.

بالعزّة و الغلبة على جميع الموجودات و الحكمة البالغة، استدلّ على كمال قدرته على الوفاء بالوعد و على غلبته و حكمته بقوله: خَلَقَ اللّه اَلسَّماواتِ السبع معلّقات في الجوّ بِغَيْرِ عَمَدٍ و اسطوانات تمنعها من السقوط كما تَرَوْنَها كذلك، أو المراد بغير عمد مرئية، و إن كان لها عمد غير مرئية، و هي قدرة اللّه تعالى.

عن الرضا عليه السّلام: «ثمّ عمد، و لكن لا ترونها» (1).

وَ أَلْقى و طرح سبحانه فِي اَلْأَرْضِ كما تلقى الحصاة من اليد فيها جبالا رَواسِيَ و ثابتات تثبت و تستقرّ بها الأرض كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ من جانب إلى جانب و تحرّككم بحركتها.

عن الضحاك: أنّ اللّه خلق تسعة عشر جبلا في الأرض ليثبّتها بها كالمسمار، منها جبل قاف، و جبل أبي قبيس، و جبل جودي، و جبل لبنان، و جبل سينين، و طور سيناء، و جبل فاران. و قيل: إنّ الجبال عظام الأرض و عروقها (2).

وَ بَثَّ و نشر فِيها بقدرته مِنْ كُلِّ نوع من الأنواع و دابَّةٍ و حيوان مع كثرتها و اختلاف أجناسها و أصنافها وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ وجهة العلوّ ماءً نافعا بالأمطار فَأَنْبَتْنا فِيها بسبب الأمطار مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و صنف كَرِيمٍ و كثير النفع للإنسان و الدوابّ إبقاء لهما، فمن نظر إلى النباتات و الأشجار، و تفكّر في عجائب صنعه فيها و غرائب قدرته، حار عقله، و كلّ فكره، كيف لا و أنت ترى اختلاف أشكالها، و تباين ألوانها، و كثرة خواصّها، و صور أوراقها، و روائح أزهارها، و عجائب أنواع أثمارها و حبوبها، فانّ لكلّ من النباتات ورق و لون و ريح و زهر و ثمر و حبّ و خاصية لا تشبه الاخرى، و لا يعلم الحكم في خلقها إلاّ اللّه، و ما يعرفه الانسان بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من البحر.

هذا الذي ذكر من السماوات و الأرض و الجبال و الحيوان و الماء و النبات خَلْقُ اَللّهِ القادر الحكيم فَأَرُونِي أيّها المشركون ما ذا خَلَقَ الآلهة اَلَّذِينَ تعبدونها مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه، و تدّعون أنّهم شركاؤه في استحقاق العبادة، و اللّه لم يخلقوا شيئا، و لا يملكون نفعا و لا ضرّا بَلِ المشركون اَلظّالِمُونَ على أنفسهم باتخاذهم آلهة، و إشراكهم له في العبادة فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ ظاهر عن الصراط المستقيم بحيث لا يخفى على من كان له أدنى مرتبة من الشعور و أقلّ درجة من البصيرة، فأعرض سبحانه عن المشركين و كفّار قريش و غيرهم، و أضرب عن إلزامهم إلى التسجيل عليهم بالبعد عن الحقّ بعدا واضحا لا يخفى على ناظر.

ص: 114


1- . تفسير القمي 2:328، تفسير الصافي 4:140.
2- . تفسير روح البيان 7:71.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر أدلّه التوحيد، حكى توحيد لقمان الذي كانت حكمته و وصاياه على ما قيل مشهورة في اليهود و غيرهم من أهل الكتاب، بحيث إذا اعترى للعرب همّ (1)رجعوا فيه إلى اليهود، فضربوا لهم الأمثال بما قاله لقمان من الحكم (2)، بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ و معرفة حقائق الأشياء و مصالح الامور و مفاسدها، و توفيق العمل بعلمه، و تهذيب الأخلاق، و تكميل النفس، و طول الفكر، و إصابة النظر في المعارف الالهية.

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (3)و عن الكاظم عليه السّلام قال: «الفهم و العقل» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: قال: «اوتى معرفة إمام زمانه» (5).

قيل: إنّه كان ابن باعور بن ياجور بن تارخ أبي إبراهيم الخليل (6). و قيل: اسم ابيه آذر (7). و قيل: إنّه ابن عنقاء بن سرون (8). و قيل: إنّه كان من بني إسرائيل، و كان ابن اخت أيوب (9). و قيل: كان ابن خالته (10).

و قيل: إنّه كان عبدا نوبيا من أهل أيله (11). و عن المسيب: هو أسود من سودان مصر (12). و قيل: إنّه كان حبشيا و نما في بني اسرائيل (12). قيل: إنّه كان عبدا أسود اللون، غليظ الشفتين، منشقّ القدمين (13).

و عن ابن عباس: أنّ لقمان لم يكن نبيا و لا ملكا، و لكن كان راعيا أسود، فرزقه اللّه العتق، و رضي قوله و وصيته (14).

و عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «حقّا أقول لم يكن لقمان نبيا، و لكن كان عبدا كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ اللّه فأحبّه و منّ عليه بالحكمة» (15).

[روي أنّ لقمان]كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان، هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية و لم أقبل البلاء، و إن هو عزم عليّ فسمعا و طاعة، فانّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني.

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل و أكدرها، يغشاه الظّلم

ص: 115


1- . كذا، و الظاهر مهم.
2- . تفسير روح البيان 7:73.
3- . تفسير الكشاف 3:493.
4- . الكافي 1:12/10، تفسير الصافي 4:141.
5- . تفسير القمي 2:161، تفسير الصافي 4:141.
6- . تفسير روح البيان 7:73.
7- . تفسير أبي السعود 7:71، تفسير روح البيان 7:73.
8- . تفسير روح البيان 7:73.
9- . مجمع البيان 8:494، جوامع الجامع:362.
10- . جوامع الجامع:362.
11- . تفسير روح البيان 7:73.
12- . تفسير الكشاف 3:493.
13- . مجمع البيان 8:493.
14- . مجمع البيان 8:493.
15- . تفسير روح البيان 7:73، مرسلا.

من كلّ مكان، إن أصاب فبالحريّ أن ينجو، و إن أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا-و في رواية: و من يكن في الدنيا ذليلا، و في الآخرة شريفا، خير من أن يكون في الدنيا شريفا، و في الآخرة ذليلا-و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة، فانتبه و هو يتكلّم بها (1).

و قيل: ثمّ نودي داود فقبلها، و قال له داود: طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة، و صرفت عنك البلوى. و كان لقمان يؤازره بحكمته (2).

و قيل: إنّه ولد في السنة العاشرة من سلطنة داود، و عاش إلى زمان يونس النبي (3).

و قيل: عمّر ألف سنة، و تعلّم من ألف نبيّ، و كان راعيا أو نجّارا (4). و نقل عنه عشرة آلاف كلمة حكمة، كلّ كلمة تسوّى بجميع العالم (5).

قيل: إنّ أول ما ظهرت من حكمته أنّه قال له مولاه و هو يرعى أغنامه: يا لقمان، اذبح شاة، و آتني منها بأطيب مضغتين. فأتاه باللسان و القلب، ثمّ قال له: اذبح شاة، و آتني بأخبث مضغتين منها. فأتاه باللسان و القلب، فسأله عن ذلك، فقال لقمان: ليس شيء أطيب منهما إن طابا و لا أخبث منهما إن خبثا، فاستحسن كلامه فاعتقه (6).

و روي من حكمته الطيبة أنّه بينا هو مع مولاه، إذ دخل المخرج (7)، فأطال الجلوس، فناداه لقمان: إنّ الجلوس على الحاجة يتجزّع منه الكبد، و يورث الناسور، و يصعّد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هوينا و قم هوينا. فخرج و كتب حكمته على باب الحشّ (8).

و قيل: بينا هو يعظ الناس يوما و هم مجتمعون عليه لاستماع كلمة الحكمة، إذ مرّ به عظيم من عظماء بني إسرائيل، فقال: ما هذه الجماعة؟ قيل له: هذه جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم. فأقبل إليه فقال له: أ لست العبد الأسود الذي كنت ترعى بموضع كذا و كذا؟ قال: نعم. فقال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، و أداء الأمانة و ترك ما لا يعني (9).

و حكي أنّه قال: خدمت أربعة آلاف نبي، و اخترت من كلماتهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة فاحفظ قلبك. و إن كنت في الطعام فاحفظ حلقك، و إن كنت في بيت الغير فاحفظ عينيك، و إن كنت

ص: 116


1- . مجمع البيان 8:494، تفسير الصافي 4:141، تفسير روح البيان 7:75.
2- . مجمع البيان 8:494، تفسير الصافي 4:142، تفسير روح البيان 7:75.
3- . مروج الذهب 1:70.
4- . تفسير الكشاف 3:493.
5- . لم نعثر عليه.
6- . تفسير روح البيان 7:76.
7- . المخرج: الحشّ أو الكنيف، و هو موضع قضاء الحاجة.
8- . تفسير روح البيان 7:76.
9- . تفسير روح البيان 7:76.

بين الناس فاحفظ لسانك، و اذكر اثنين، و انس اثنين، أمّا اللّذان تذكرهما فاللّه و الموت، و أما اللذان تنساهما إحسانك في حقّ الغير، و إساءة الغير في حقّك (1).

و قيل: إنه كان مع داود ثلاثين سنة، و كان عنده يوما، فرآه يسرد الدّرع (2)، فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى، و يريد أن يسأله و تمنعه حكمته عن السؤال، فلمّا أتمّها لبسها، و قال: نعم لبوس الحرب هذه. فقال لقمان: إنّ من الحكمة الصّمت، و قليل فاعله. فقال داود: بحقّ سمّيت حكيما (3).

و قيل: إنّ داود قال له يوما: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بيد غيري. فتفكّر داود فيه، فصعق صعقة، و خرّ مغشيّا عليه (4).

و قيل له: أيّ الناس شرّ؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا (5).

و قال: الدنيا بحر عميق، هلك فيه خلق كثير، فاجعل الايمان باللّه سفينتك، و التقوى زاد الآخرة، فمن نجا فبرحمة اللّه، و من هلك فبذنوبه (6).

و قال: ليس مال كالصحّة، و لا نعيم كطيب النفس.

و قيل: إنّه قدم من سفر، فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات. قال: الحمد للّه ملكت أمري. قال: ما فعلت أمّي؟ قال: ماتت. قال: ذهب همّي. قال: ما فعلت اختي؟ قال: ماتت. قال: سترت عورتي. قال: ما فعلت زوجتي؟ قال: ماتت. قال: جدّد فراشي. قال: ما فعل أخي؟ قال: مات. قال: انقطع ظهري، و كسر جناحي. قال: ما فعل ابني؟ قال: مات. قال: تصدّع قلبي (7).

و قال يوما لداود: احفظ منّي خمس كلمات فيها علم الأولين و الآخرين: أوّلها: ليكن عملك للدنيا بقدر لبثك فيها، و ثانيها: ليكن عملك للآخرة بقدر لبثك فيها. ثالثها: ليكن همّك أن يعتقك مولاك من النار. رابعها: ليكن جزاؤك على المعصية بقدر صبرك على النار. خامسها: إذا أردت العصيان فاطلب مكانا لا يراك فيه ربّك.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن لقمان و حكمته التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ [فقال]: «أما و اللّه ما اوتي لقمان الحكمة بحسب، و لا مال، و لا أهل، و لا بسط في الجسم، و لا جمال، و لكنّه كان رجلا قويا في أمر اللّه، متورّعا في اللّه، ساكنا سكينا، عميق النّظر، طويل الفكر، حديد النظر، مستعبرا بالعبر (8)، لم ينم

ص: 117


1- . تفسير روح البيان 7:73.
2- . سرد الدرع: نسجها فشكّ طرفي كلّ حلقتين و سمّرهما.
3- . تفسير روح البيان 7:76.
4- . تفسير روح البيان 7:76.
5- . مجمع البيان 8:496.
6- . من لا يحضره الفقيه 2:185/833، مجمع البيان 8:496.
7- . تفسير روح البيان 7:77.
8- . في النسخة: مستغن بالغير.

نهاره قطّ، و لم يره أحد على بول و لا غائط و لا اغتسال، لشدّة تستّره، و عمق (1)نظره، و تحفّظه في أمره، و لم يضحك من شيء قطّ مخافة الإثم، و لم يغضب قطّ، و لم يمازح إنسانا قطّ، و لم يفرح بشيء إذا أتاه من أمر الدنيا، و لا حزن منها على شيء قطّ، و قد نكح من النساء و ولد له الأولاد الكثير، و قدّم أكثرهم أفراطا (2)فما بكى على موت أحد منهم، و لم يمرّ برجلين يختصمان أو يقتتلان إلاّ أصلح بينهما، و لم يمض عنهما حتى تحابّا، و لم يسمع قولا قطّ من أحد استحسنه إلاّ سأل عن تفسيره و عمّن أخذه، و كان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين، فيرثي القضاة ممّا ابتلوا به، و يرحم الملوك و السلاطين لعزّتهم باللّه و طمأنينتهم في ذلك، و يعتبر و يتعلّم ما يغلب به نفسه، و يجاهد به هواه و يحترز به من الشيطان، و كان يداوي قلبه بالتفكّر، و يداوي نفسه بالعبر، و لا يضعن إلاّ فيما يعينه، فبذلك اوتي الحكمة و منح العصمة» (3).

ثمّ ذكر قصّة تخييره بين الخلافة و الحكمة قريبا ممّا حكيت عن العامة، إلى أن قال: «فلمّا أمسى و أخذ مضجعه من الليل، أنزل اللّه عليه الحكمة، فغشيه بها من قرنه إلى قدمه» (4)الخبر.

و قال اللّه له: أَنِ اُشْكُرْ لِلّهِ على ما أنعم عليك من الحكمة و غيرها من النّعم وَ مَنْ يَشْكُرْ نعم اللّه فَإِنَّما يَشْكُرُ و نفع شكره عائد لِنَفْسِهِ لا يتعدّاه إلى غيره، و هو داوم النعمة و استحقاق المزيد.

و عن الصادق عليه السّلام: «شكر كلّ نعمة و إن عظمت أن يحمد اللّه عليها (5)، و إن كان فيما أنعم عليه حقّ أدّاه» (6)و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «من أنعم اللّه عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدّى شكرها» (7).

وَ مَنْ كَفَرَ نعمة اللّه، و خالف أحكامه و أوامره، و أنكر توحيده و حقّ نعمه فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عنه، و لا يحتاج إلى شكره و عبادته حَمِيدٌ في ذاته و صفاته و أفعاله، محمود في أرضه و سمائه، سواء حمده خلقه أو شكره عباده، أو لم يحمدوه و كفروه.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 13 الی 15

وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي اَلدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

ص: 118


1- . في النسخة: و عموق.
2- . أي ماتوا صغارا قبل أن يبلغوا الحلم.
3- . تفسير القمي 2:162، مجمع البيان 8:497، تفسير الصافي 4:142.
4- . تفسير القمي 2:163، تفسير الصافي 4:143.
5- . الكافي 2:78/11، تفسير الصافي 4:141.
6- . الكافي 2:78/12، تفسير الصافي 4:141.
7- . الكافي 2:79/15، تفسير الصافي 4:141.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حكمة لقمان ذكر وعظه لابنه الذي كان أعزّ الناس عنده و نهيه عن الشرك بقوله: وَ إِذْ قالَ قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد لقومك و غيرهم من المشركين حين قال لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ (1)قيل: إنّ اسمه أنعم ترحّما و عطوفة (2): يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ شيئا في الالوهية و العبادة إِنَّ اَلشِّرْكَ باللّه و اللّه لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فانّه تسوية بين الخالق القادر المنعم بجميع النّعم و المخلوق العاجر الذي لا نعمة له على أحد.

عن الباقر عليه السّلام: «الظلم ثلاثة: ظلم يغفره اللّه، [و ظلم لا يغفره اللّه]و ظلم لا يدعه اللّه، و أمّا الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشّرك» الخبر (3).

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن الشّرك ببيان حقّ الوالدين على الولد و وجوب برّهما و شكرهما، و مع ذلك لا يجوز إطاعة أمرهما بالشّرك و إن أصرّا بقوله: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ و أوجبنا عليه أكيدا أنّ يبرّ بِوالِدَيْهِ و يحسن إليهما لأنّه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في بطنها و حبلت (4)به، فتجد في نفسها بسبب حمله وَهْناً عَلى وَهْنٍ و ضعفا في الخلق و الخلق فوق ضعف يوما بعد يوم حتى تضع حملها، ثمّ ترضعه إلى حين فصاله وَ فِصالُهُ و قطعه من الرضاع كائن فِي آخر عامَيْنِ من ولادته.

و قلنا له: أَنِ اُشْكُرْ لِي أيّها الانسان بالقيام بوظائف عبوديتي وَ اشكر لِوالِدَيْكَ بالبرّ و الإحسان و الاشفاق و التوفيق، لكونهما سببين لوجودك، و ربّياك في الظاهر.

عن الرضا عليه السّلام في حديث «و أمر بالشّكر له و للوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر اللّه» (5).

و عنه عليه السّلام: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين، لم يشكر اللّه عزّ و جلّ» (6).

و اعلم أنّه بعد الخروج من الدنيا إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ و المرجع، فاجازي الشاكر بالثواب العظيم، و الكفور بالعذاب الأليم.

و عن الصادق عليه السّلام: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، من أبرّ؟ قال: امّك. قال: ثمّ من؟ قال: امّك. قال: ثمّ من؟ قال: امّك. قال: ثمّ من؟ قال: أباك» (7).

ص: 119


1- . تفسير روح البيان 7:77.
2- . تفسير روح البيان 7:77.
3- . الكافي 2:248/1، تفسير الصافي 4:143.
4- . في النسخة: و أحبلت.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:258/13، تفسير الصافي 4:143.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:24/2، تفسير الصافي 4:144.
7- . الكافي 2:127/9، تفسير الصافي 4:144.

و عن الرضا عليه السّلام، قيل: له: أدعو لوالديّ إن كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال: «ادع لهما، و تصدّق عنهما، و إن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما، فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه بعثني بالرحمة لا بالعقوق» (1).

و مع ذلك وَ إِنْ جاهَداكَ و نازعاك و أصرّا عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي في الالوهية و العبادة ما تعلم بعدم تأهّلة للالوهية و عدم استحقاقه للعبادة، بل ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و لم يقم على استحقاقه برهان فَلا تُطِعْهُما في ذلك، فانّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، وَ لكن صاحِبْهُما و عاشر معهما فِي اَلدُّنْيا صحابا مَعْرُوفاً و معاشرة جميلة يرتضيها الشرع، و يقتضيه الكرم من الانفاق و التكريم و الخدمة.

عن الصادق عليه السّلام: «برّ الوالدين واجب، و إن كانا مشركين، و لا طاعة لهما في معصية الخالق، و لا لغيرهما» الخبر (2).

و عنه عليه السّلام: «برّ الوالدين من حسن المعرفة باللّه، إذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضا اللّه تعالى من حرمة الوالدين المسلمين لوجه اللّه، لأنّ حقّ الوالدين مشتقّ من حقّ اللّه إذا كانا على منهاج الدين و السّنّة، و لا يكونان يمنعان الولد من طاعة اللّه إلى معصيته، و من اليقين إلى الشكّ، و من الزّهد إلى الدنيا، و لا يدعوانه إلى خلاف ذلك، فاذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة، و طاعتهما معصية، قال اللّه تعالى وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ الآية.

و أمّا في باب العشرة فدارهما و أرفق بهما، و احتمل أذاهما نحو ما أحتملا منك حال صغرك، و لا تضيّق عليهما بما قد وسّع اللّه عليك من المأكول و الملبوس، و لا تحوّل وجهك عنهما، و لا ترفع صوتك فوق صوتهما، فانّ تعظيمهما من اللّه تعالى، و قل لهما بأحسن القول و ألطفه، فانّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين» (3)وَ اِتَّبِعْ في جميع أعمالك خصوصا السّلوك مع الوالدين سَبِيلَ مَنْ أَنابَ و رجع إِلَيَّ بالتوحيد و الطاعة و اقتد به.

عن الباقر عليه السّلام يقول: «سبيل محمد» (4).

ثُمَّ بعد الخروج من الدنيا إِلَيَّ يكون مَرْجِعُكُمْ أيّها الأولاد و الآباء و الامّهات فَأُنَبِّئُكُمْ إذن بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الشّرك و التوحيد و الرحمة و العقوق و الطاعة و العصيان بالإثابة و العقوبة.

ص: 120


1- . الكافي 2:127/8، تفسير الصافي 4:144.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:124/1، و تفسير الصافي 4:144، عن الرضا عليه السّلام.
3- . مصباح الشريعة:70، تفسير الصافي 4:144.
4- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 16

ثمّ أنّ لقمان بعد نهي ولده عن الشّرك هدّده على الشّرك الخفي و المعاصي السّرية بعلم اللّه تعالى بخفيات الامور بقوله: يا بُنَيَّ اخبرك بالقصة العجيبة إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ و مقدارها في الصّغر و القلّة فَتَكُنْ مع كونها في نهاية الصّغر فِي وسط صَخْرَةٍ و حجر صلب، أيّ صخرة كانت صغيرة أو كبيرة. قيل: هي كناية عن أخفى مكان و أحرزه (1). و عن ابن عباس: هي الصخرة التي عليها الملك الحامل للأرض، و هي ليست في السماوات و الأرض (2).

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّماواتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)أَوْ كانت فِي اَلسَّماواتِ مع غاية بعدها، و قيل: إنّ المراد منها العالم العلويّ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ و العالم السّفليّ (3). و قيل: إنّ المراد بطن الأرض، و هو أظلم مكان يَأْتِ بِهَا اَللّهُ و يحضرها و يحاسب عليها (4)، و يحضرها للاغتذاء بها. و قيل: إنّ كلامه ذلك لتربية التوكّل في قلب ابنه، لئلاّ يميل إلى الشّرك بطمع الرّزق (5).

القمي، قال: إنّ الرزق يأتيك به اللّه (6).

إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ و عالم بخفيات الامور، أو نافذ القدرة في كلّ شيء، أو ذو العطوفة بالعباد خَبِيرٌ و مطّلع على كنه الأشياء و قيل: يعني قدير على استخراج الحبّة من بطن الصخرة، و خبير بمستقرّها (7).

العياشي، عن الصادق عليه السّلام: «اتقوا المحقّرات من الذنوب، فانّ لها طالبا، لا يقولنّ أحدكم: اذنب و استغفر اللّه، إنّ اللّه يقول: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» الآية (8).

قيل: إنّ هذه الكلمة آخر كلمة تكلّم بها لقمان، فانشقّت مرارته من هيبتها فمات (9).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 17 الی 19

يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (17) وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْواتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ (19)

ص: 121


1- . تفسير روح البيان 7:81.
2- . تفسير روح البيان 7:81.
3- . تفسير أبي السعود 7:72، تفسير روح البيان 7:81.
4- . تفسير روح البيان 7:81.
5- . تفسير جوامع الجامع:362.
6- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.
7- . مجمع البيان 8:499.
8- . مجمع البيان 8:499، تفسير الصافي 4:145.
9- . تفسير روح البيان 7:82.

ثمّ أنّه بعد نهي ابنه عن الشّرك الملازم لأمره بالتوحيد، أمره بلوازمه من العبادات المهمّة بقوله: يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ التي هي أفضل العبادات للّه تكميلا لنفسك و واضب عليها وَ أْمُرْ غيرك بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن عند الشرع و العقل وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و المستقبح عندهما تكميلا لغيرك وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من المشاقّ و الشدائد كالفقر و المرض و غيرهما.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من المشقّة و الأذى في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» (1).

إِنَّ ذلِكَ المذكور من الوصايا مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ و حتّمياتها و واجباتها التي لا يجوز التواني فيها

وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ و لا تمل وجهك تحقيرا لِلنّاسِ و تكبّرا عليهم. و عن الصادق عليه السّلام: «لا تعرض عمّن يكلّمك استخفافا به» (2).

و القمّي: لا تذلّ للناس طمعا فيما عندهم (3).

وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً و بطرا. قيل: يعني حال كونك ذا فرح شديد (4). و عن الباقر عليه السّلام، يقول: «بالعظمة» (5).

إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ و متكبّر فَخُورٍ و مباه بالمال و الجاه و النسب و غيرها من النّعم الدنيوية. و عن بعض الحكماء: إن افتخرت بفرسك فالحسن و الفراهة له دونك، و إن افتخرت بثيابك فالجمال لها دونك، و إن افتخرت بآبائك فالفضل فيهم لا فيك، فان افتخرت فافتخر بما فيك (6).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه، و قال: «من لبس ثوبا فاختال فيه، خسف اللّه به من شفير جهنم، و كان قرين قارون؛ لأنّه أوّل من أختال فخسف به و بداره الأرض، و من اختال فقد نازع اللّه في جبروته» (7).

وَ اِقْصِدْ و توسّط فِي مَشْيِكَ بعد الاجتناب عن المرح بعد الدبيب و الإسراع، و عليك بالسكينة و الوقار و التواضع فيه، في الحديث: «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن» (8). و روت العامة: أنّ عمر كان إذا مشى أسرع (9)، و القمي قال: أي لا تعجل (10).

ص: 122


1- . مجمع البيان 8:500، تفسير الصافي 4:145.
2- . مجمع البيان 8:500، تفسير الصافي 4:145.
3- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.
4- . تفسير روح البيان 7:85.
5- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:145.
6- . تفسير روح البيان 7:85.
7- . من لا يحضره الفقيه 4:7/1، أمالي الصدوق:514/707، تفسير الصافي 4:146.
8- . تفسير روح البيان 7:85.
9- . تفسير روح البيان 7:85.
10- . تفسير القمي 2:165، تفسير الصافي 4:146.

ثمّ لمّا كان من وسائل النّيل إلى المقصود للبعد عنه المشي و الصوت، أردف ذكر الأدب في المشي بذكر الأدب في الصوت بقوله: وَ اُغْضُضْ و انقص مِنْ صَوْتِكَ في التكلّم و التخاطب، فانّ رفع الصوت ليس فيه فضيلة، بل هو ممّا ينكره الطبع إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْواتِ و أقبحها و أوحشها و اللّه لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ عند أغلب الناس سيما العرب، قيل: إنّ المشركين كانوا يفتخرون برفع الصوت، فردّهم اللّه بتشبيه الصوت الرفيع بصوت الحمار مبالغة في الذمّ. قيل: إنّ صوت كلّ حيوان تسبيح إلاّ صوت الحمير، فانّها تصيح لرؤية الشيطان (1). و في الحديث: «إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذّوا باللّه من الشيطان، فانّها رأت شيطانا» (2)و إنّما حكى سبحانه تلك الوصايا من لقمان لشيوع الشّرك و ما يليه من الصفات القبيحة المنهيّ عنها في العرب (3).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على توحيده بخلق السماوات بغير عمد، و ببعض نعمه كانزال المطر و إلقاء الجبال في الأرض و إنبات النباتات النافعة، عاد إلى الاستدلال عليه بتسخير ما في السماوات و الأرض و عموم نعمه بقوله: أَ لَمْ تَرَوْا و لم تعلموا يا بني آدم أَنَّ اَللّهَ بقدرته سَخَّرَ و ساق بالقهر إلى المنافع التي تكون لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الكواكب، و جعلها مدبّرات العالم السفلي من الزمانيّ كالفصول الأربعة و الليل و النهار و الشهور، و من الجسماني كالمعادن و النباتات و غيرهما وَ ما فِي اَلْأَرْضِ كالجبال و الأنهار و البحار و غيرها بأن مكّنكم من الانتفاع بها بواسطة و بلا واسطة وَ أَسْبَغَ و أكمل عَلَيْكُمْ بلطفه نِعَمَهُ و الامور النافعة في حياتكم و تربيتكم و كمالكم كانت ظاهِرَةً و محسوسة كحسن الصورة، و استواء القامة، و كمال الأعضاء و الحواسّ الظاهرة وَ باطِنَةً و غير محسوسة كالرّوح و العقل و الفهم و الفكر و المعرفة، و دين الاسلام، و إرسال الرسول، و إنزال الكتاب.

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ اَلشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ (21)عن ابن عباس قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما هذه النعمة [الظاهرة]و الباطنة؟ قال: «أما الظاهرة: فالاسلام و ما حسن من خلقك و ما أفضل عليك من الرّزق، و أمّا الباطنة: فما ستر من سوء عملك

ص: 123


1- . تفسير روح البيان 7:87.
2- . تفسير روح البيان 7:87.
3- . تفسير روح البيان 7:87.

و لم يفضحك به. يا ابن عباس، يقول اللّه تعالى: إنّي جعلت للمؤمن ثلث صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفّر به عنه خطاياه، و جعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه خطاياه، و سترت عليه سوء عمله الذي لو قد أريته للناس لنبذه أهله و من سواهم» (1).

و قيل: إنّ الظاهرة: سهولة الأحكام، و الباطنة: الشفاعة. و قيل: الظاهرة: النّعم الدنيوية، و الباطنة: النّعم الاخروية. و قيل: الظاهرة: القرآن، و الباطنة: العلم بتأويلاته و حقائقه (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أما النعمة الظاهرة فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به من معرفة اللّه و توحيده، و أمّا النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت و عقد مودّتنا» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، و الباطنة الإمام الغائب» (4).

وَ مع ذلك مِنَ اَلنّاسِ و بعضهم مَنْ يُجادِلُ و يخاصم فِي ذات اَللّهَ أو توحيده، أو كتابه بِغَيْرِ عِلْمٍ حاصل من برهان قاطع وَ لا هُدىً من بيان الرسول و عالم رباني وَ لا كِتابٍ سماويّ مُنِيرٍ و موضح للحقّ، و مضيء للطريق القويم، بل يجادل بمجرّد التقليد و الظنّ الحاصل من الهوى.

و قيل: إنّ المجادل في كتاب اللّه هو النّضر بن الحارث، حيث قال: إنّه أساطير الأولين (5).

وَ الشاهد على أنّ مجادلتهم لا تكون إلاّ عن تقليد آبائهم هو أنّه إِذا قِيلَ لَهُمُ بطريق النّصح اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ على نبيه من القرآن الناطق بالتوحيد قالُوا: لا نتّبعه بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا الماضين من عبادة الأصنام.

عن الباقر عليه السّلام: «هو النّضر بن الحارث، قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اتّبع ما أنزل إليك من ربّك. قال: بل أتّبع ما وجدت عليه آبائي» (6).

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: أَ وَ لَوْ قيل: إنّ التقدير أتتّبعون آباءكم (7)و لو كانَ اَلشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ بما هم عليه من الشّرك إِلى الورود في عَذابِ النّار اَلسَّعِيرِ و الملتهب فيجيئون إليه.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 22 الی 24

وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى وَ إِلَى اَللّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)

ص: 124


1- . مجمع البيان 8:501، تفسير روح البيان 7:90.
2- . مجمع البيان 8:501.
3- . تفسير القمي 2:165، مجمع البيان 8:501، تفسير الصافي 4:148.
4- . كمال الدين 368/6، مناقب ابن شهر آشوب 4:180، تفسير الصافي 4:148.
5- . تفسير روح البيان 7:90.
6- . تفسير القمي 2:166، تفسير الصافي 4:149.
7- . تفسير أبي السعود 7:74، تفسير روح البيان 7:91.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار المجادلين في اللّه مدح المؤمنين المستسلمين له بقوله: وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ و نفسه إِلَى اَللّهِ تسليم المتاع لمالكه، و أقبل بشراشره عليه و فوّص اموره له وَ هُوَ مُحْسِنٌ في أعماله مجدّ في القيام بوظائف عبوديته فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ و تعلّق بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى و الحبل المحكم الذي لا انقطاع له، و لا يخاف معه من التردّي في مهاوي الهلاك و الضلال في الدنيا، و من السقوط في الجحيم في الآخرة، و تكون عاقبته أحمد العواقب؛ لأنّ إلى اللّه يكون مآل جميع الأشياء وَ إِلَى اَللّهِ تنتهي عاقِبَةُ جميع اَلْأُمُورِ فيجازي الموحّد المستسلم إليه أحسن الجزاء، و يثيبه أفضل الثواب.

ثمّ لمّا ذكر لجاج الكفّار و جدالهم في التوحيد و تكذيبهم للرسول، سلاّه سبحانه بقوله: وَ مَنْ كَفَرَ بالتوحيد و كذّبك فيه فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ و تكذيبه، فانّه سيظهر لهم صدقك، لأنّه بعد خروجهم من الدنيا يكون إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ و إلى محكمتنا مآبهم فَنُنَبِّئُهُمْ و نعلمهم بعد رجوعهم إلينا بِما عَمِلُوا في الدنيا من الكفر بالتوحيد و تكذيبك، و لا يخفى علينا شيء من أعمالهم إِنَّ اَللّهَ الخالق لجميع أجزاء الخلق بقدرته عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و ما في قلوبهم من الضمائر و النيّات، و لا تنظر إلى النّعم التي أنعمنا عليهم في الدنيا من الصحّة و الجاه و المال و الأولاد،

فانّا نُمَتِّعُهُمْ و ننفعهم بنعمنا في الدنيا زمانا قَلِيلاً و إن طال عمرهم فانّه بالنسبة إلى عمرهم في الآخرة في غاية القصر.

ثمّ يموتون و يعذّبون في البرزخ، ثم يبعثون من قبورهم إلى المحشر ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ و نلجئهم إِلى الورود في عَذابٍ غَلِيظٍ و عقاب دائم شديد غايته، فعند ذلك يتبيّن لهم صدقك و كذبهم.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ نبّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على أنّ ظهور صدقه لهم لا يتوقّف على البراهين المذكورة، و لا على مجيء الحشر، بل هو ظاهر لهم في الدنيا بالفطرة بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته و اللّه لَيَقُولُنَّ في جوابك اَللّهُ وحده خلقهما، لغاية وضوح الأمر بحيث اضطرّوا إلى الإقرار به قُلِ إذن اَلْحَمْدُ لِلّهِ على ظهور صدقك، أو على جعله دلائل

ص: 125

التوحيد بحيث لا يمكن للمكابر إنكارها، فليس شركهم لإنكاره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ مقتضى اعترافهم تصديقك، أو لازمه ترك الشّرك و عبادة اللّه وحده.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (26)

ثمّ لمّا اعترفوا بأنّ اللّه خالق السماوات و الأرض، فعليهم أن يعترفوا بأنّ لِلّهِ وحده ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة الذين يقول بعضهم: إنّهم بنات اللّه، و من الكواكب التي يعبدها كثير من المشركين وَ ما في اَلْأَرْضِ من الأصنام و غيرها من الأشياء، و لا يحتاج إلى شيء من الموجودات و عبادتهم و حمدهم، بل إِنَّ اَللّهَ بذاته هُوَ اَلْغَنِيُّ عمّا سواه اَلْحَمِيدُ في ذاته و صفاته و أفعاله، و إن لم يحمده شيء.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 27

ثمّ لمّا ذكر مالكيته لما في العالم العلويّ و السّفلي، و كان محالا توهّم حصر سلطانه في العالمين المحدودين، بيّن أنّ له مخلوقات لا نهاية لها بقوله: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ كلّ شَجَرَةٍ بالفرض أَقْلامٌ كثيرة وَ اَلْبَحْرُ المحيط بالعالم الذي لا ساحل له و لا يعلم عمقه إلاّ اللّه، و يتّصل به سائر البحار مداد يَمُدُّهُ و يزيده عند نفاده و مِنْ بَعْدِهِ بالانصباب فيه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يوجدها، قيل: إنّ السبعة هنا كناية عن العدد الكثير (1)، و المعنى البحار الكثيرة علاوة على ما هو الموجود الآن، و قيل: إنّ المراد بحر الصين، و بحر التبت و بحر الهند، و بحر السند، و بحر فارس، و بحر المشرق، و بحر المغرب (2)، و إنّما جعلها ممدّة للبحر المحيط، و كتبت بتلك الأقلام و بذلك المداد كلمات اللّه، و نفدت و فنيت تلك الأقلام و المداد و ما نَفِدَتْ و ما فنيت كَلِماتُ اَللّهِ و عجائب صنعه، أو الكلمات الدالة على علمه و حكمته. قيل: إنّ إيثار جمع القلّة في (كلمات) للدلالة على أنّ ما ذكر لا يفي بالقليل منها، فكيف بالكثير (3).

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و قادر على كلّ شيء حَكِيمٌ و محيط علمه بكلّ شيء. قيل: نزلت ردّا على اليهود حين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (4)و قد أنزل اللّه التوراة و فيها علم كلّ شيء، و المراد أن العلم الذي في التوراة و [سائر ما]اوتي الانسان [من الحكمة و المعرفة]و إن كان كثيرا بالنسبة إليهم، لكنّه بالنسبة إلى علم اللّه

ص: 126


1- . تفسير روح البيان 7:95.
2- . تفسير روح البيان 7:94.
3- . تفسير أبي السعود 7:75، تفسير روح البيان 7:95.
4- . الإسراء:17/85.

كالقطرة بالنسبة إلى البحار كلّها (1).

و قيل: إنّها نزلت ردّا على المشركين حيث قالوا: إنّ القرآن يوشك أن ينفد و ينقطع (2).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده بكمال علمه و قدرته و حكمته، و كان المعاد مقتضى قدرته و حكمته، استدلّ عليه بكمال قدرته بقوله: ما خَلْقُكُمْ في الدنيا وَ لا بَعْثُكُمْ و إحياؤكم ثانيا في الآخرة، و إخراجكم من القبور مع كثرتكم في السهولة إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خلقا و بعثا، فكما أنّ إيجاد نفس واحدة لا يحتاج إلاّ إلى إرادته، كذلك إيجاد النفوس الكثيرة لا يتوقّف إلاّ عليها إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لكلّ مسموع، فيسمع مقالات الناس في أمر البعث بَصِيرٌ لكلّ مبصر فيبصر الأحياء و الأموات. قيل: إنّ الآية نزلت في ردّ مشركي قريش حيث قالوا: إنّ اللّه خلقنا أطوارا نطفة و علقة و مضغة و لحما، فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة (3)؟

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْباطِلُ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (30)

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على الخلق الجديد و إيلاج الروح فيه ببعض آثار تسخير ما في السماوات بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تعلم علما نازلا منزلة الرؤية يا محمد أو يا من شأنه الرؤية أَنَّ اَللّهَ بقدرته يُولِجُ و يدخل اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ و يجعلهما متعاقبين، أو يجعل بعض ساعات الليل في النهار، و لا نقص من الاول و الزيادة في الثاني وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ و يدخله فِي اَللَّيْلِ بإذهاب الثاني و إتيان الاول مكانه، أو بتنقيص الاول و الزيادة في الثاني.

القمي، يقول: ما ينقص من الليل يدخل في النهار، و ما ينقص من النهار يدخل في الليل (4).

وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و ساقهما بالقهر و سيّرهما على وفق الحكمة كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه بحركته القسرية حركة مستمرة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و انقضاء وقت معين قدّرة اللّه بحكمته، و هو مجيئ يوم القيامه. و قيل: هو منتهى دورتهما، ففي الشمس سنة، و في القمر شهر (5). وَ ألم تعلم

ص: 127


1- . تفسير روح البيان 7:94.
2- . تفسير روح البيان 7:94.
3- . تفسير روح البيان 7:96.
4- . تفسير القمي 2:167، تفسير الصافي 4:150.
5- . تفسير أبي السعود 7:76، تفسير روح البيان 7:97.

أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ في الليل و النهار خَبِيرٌ و عالم،

فانّ من شاهد هذا الصنع الرائق و التدبير الفائق، يعلم أنّ صانعه و مدبّره لا يمكن في حقّه الغفلة عن جلائل أعمال عباده و دقائقها ذلِكَ المذكور من القدرة الكاملة و الحكمة البالغة و الصنائع العجيبة لا يكون بسبب إلاّ بِأَنَّ اَللّهَ تعالى هُوَ اَلْحَقُّ الثابت في الوهيّته، الواجب لذاته، المتفرّد في كمال صفاته، و بسبب أنّه لا شريك له في ربوبيته وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه هو اَلْباطِلُ الفاني العاجز عن جلب نفع لنفسه فضلا عن أن ينفع من يعبد وَ بسبب أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ و المرتفع عن أن يشبهه غيره اَلْكَبِيرُ الذي يحتقر كلّ شيء في جنب كبريائه. و قيل: يعني العليّ في صفاته، الكبير في ذاته (1).

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 31 الی 32

ثمّ استدلّ سبحانه ببعض آثار تسخيره ما في الأرض بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد، أو أيّها الرائي أَنَّ اَلْفُلْكَ و السفينة تَجْرِي و تسير سريعا فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ و برحمته و إحسانه حيث خلق آلاتها، و علم صنعها، و أرسل الرياح لتسييرها لِيُرِيَكُمْ أيّها الناس بعضا مِنْ آياتِهِ و دلائل توحيده و قدرته إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء للفلك لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة كثيرة على توحيد اللّه و صحّة المعاد، نافعة لِكُلِّ مؤمن صَبّارٍ و مبالغ في إتعاب نفسه في طاعة اللّه و التفكّر في آياته شَكُورٍ و مجدّ في القيام بأداء حقوق نعمه.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاّ كُلُّ خَتّارٍ كَفُورٍ (32)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين فطرتهم على التوحيد، و مقرون به، عند يأسهم من الحياة، و غفلتهم عن الشهوات، فاذا أطمأنوا بالحياة، و رفع عنهم الاضطرار، عادوا إلى الشّرك، و جحدوا آيات التوحيد بقوله: وَ إِذا غَشِيَهُمْ و أحاط بهم في البحر مَوْجٌ و ماء مرتفع كَالظُّلَلِ و الجبال، أو قطع السّحاب، أو الأشياء التي تظلّ الانسان من الشمس في كثرتها و ارتفاعها، و أشرفوا على الغرق دَعَوُا اَللّهَ و استغاثوا به تعالى وحده لنجاتهم حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ تعالى اَلدِّينَ و العبادة، تاركين لدعاء غيره، غير متوجهين إلى ما سواه، بعلمهم باختصاصه بالقدرة على تحقيق مناهم و إنجاح مقاصدهم فَلَمّا استجاب دعاءهم لخلوصهم في دعائه و نَجّاهُمْ من الغرق،

ص: 128


1- . تفسير الرازي 25:161.

و أوصلهم إِلَى اَلْبَرِّ سالمين فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ و متوسط في الإخلاص و الكفر، و لم يبق على التوحيد الخالص، و لم يرجع إلى لجاجه في الشّرك، لانزحاره منه في الجملة.

ثمّ لمّا خصّ سبحانه نفع آيات التوحيد بالمؤمن الصبّار الشكور، خصّ جحودها بالذين عادتهم الغدر و الكفران بقوله: وَ ما يَجْحَدُ و لا يلج في الكفر بِآياتِنا و آثار توحيدنا إِلاّ كُلُّ خَتّارٍ و غدّار و مصرّ في نقص العهد و كَفُورٍ لنعم اللّه.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى بعد إثباته التوحيد و المعاد، هدّد منكريهما بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ و احترزوا من غضبه عليكم بالاجتناب من الكفر و العصيان وَ اِخْشَوْا يَوْماً عظيما يجازي اللّه فيه و لا يَجْزِي و لا يغني والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ بأن يقضي عنه شيئا من الحقوق، أو يتحمّل شيئا من سيئاته، أو يعطيه شيئا من طاعاته، أو يدفع عنه شيئا من العذاب بالشفاعة و بذل المال وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ و مغن أو مؤدّ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً من الحقوق، و دافع عنه شيئا من العذاب، مع كون كلّ منهما في الدنيا أشفق الناس و أرأفهم بالآخر، و أقرب إليه، فكيف بالأباعد الذين لا شفقة لهم و لا مودّة، و بالأصنام الذين لا شعور لهم و لا قدرة!

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ (33)و عن كعب الأحبار: تقول امرأة من هذه الأمة لولدها يوم القيامة: يا ولدي، أما كان لك بطني وعاء، و حجري وطاء، و ثديي سقاء، فاحمل عنّي واحدا من ذنوبي، فقد أثقلنّي فيقول: هيهات يا امّاه كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فاذا حملت عنك فمن يحمل عني؟ (1)

فمن كان سبب عدم خوفه رجاء الانتفاع بصلاح الأقارب و شفاعة الأصنام، فقد أخطأ أو عدم يقينه بمجييء ذلك اليوم، فانّ اللّه وعد به و إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ لا خلف فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ و لا يخدعنّكم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و لا يشغلنّكم عن التفكّر في الآيات متاعها و شهواتها وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ و بكرمه و قبول توبتكم بعد عصيانه الشيطان اَلْغَرُورُ الخدوع لبني آدم، فانّه لا نجاة إلاّ بالايمان و صالح الأعمال.

ص: 129


1- . تفسير روح البيان 7:101 و 102.

سوره 31 (لقمان): آیه شماره 34

ثمّ لمّا كان مجال أن يقال: متى يكون ذلك اليوم؟ قال سبحانه: إِنَّ اَللّهَ يثبت عِنْدَهُ وحده عِلْمُ اَلسّاعَةِ و وقت قيام القيامة. ثمّ أردفه بسائر ما يختصّ علمه به بقوله: وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ و المطر الذي به رزق الخلق و بقاؤهم في الزمان الذي قدّره إلى محلّه الذي عيّنه في علمه لا يعلمه غيره وَ هو يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ من ذكر و انثى، حيّ أو ميت، جميل أو قبيح، تامّ أو ناقص، سعيد، أو شقيّ إلى غير ذلك من الصفات، و هو يعلم عواقب امور كلّ أحد وَ ما تَدْرِي و تعلم نَفْسٌ من النفوس ما ذا تَكْسِبُ و تحصل من المنافع الدنيوية و الاخروية غَداً و في اليوم الذي يكون بعد يومه وَ ما تَدْرِي و تعلم نَفْسٌ من النفوس أنّها بِأَيِّ أَرْضٍ و أيّ مكان تَمُوتُ من برّ أو بحر، أو سهل أو جبل، كما لا تدري في أيّ وقت تموت.

إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)روي أنّ ملك الموت مرّ على سليمان عليه السّلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنّه يريد بي، فمر الريح أن تحملني و تلقيني في بلاد الهند، ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجّبا منه، إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند، و هو عندك (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «مفاتيح الغيب خمس، و تلا هذه الآية، ثمّ قال: «من أدّعى علم شيء من هذه المغيبات الخمس، فهو كافر باللّه تعالى» (2).

ثمّ عمّم سبحانه علمه بجميع الأشياء بقوله: إِنَّ اَللّهَ بذاته عَلِيمٌ بالأشياء كلّها خَبِيرٌ و مطّلع بكنهها و حقائقها و بواطنها، و إنّما عدّ هذه الخمس لما روي من سبب النزول من أنّ الحارث بن عمرو من أهل البادية أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فسأله عن الساعة و وقتها، و قال: إنّ أرضنا أجدبت، و إنّي ألقيت حياتي في الأرض، فمتى ينزل المطر؟ و تركت امرأتي حبلى فحملها ذكر أم انثى؟ و إنّي أعلم ما عملت أمس، فما أعمل غدا؟ و إنّي علمت أين ولدت، فبأي أرض أموت؟ فنزلت (3). و قد كان المنجمون و الكهنة يدّعون علمها.

و انّما أخفى اللّه وقت الساعة، ليكون الناس على حذر و اهبة، كما روي أنّ أعرابيا قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله: متى الساعة؟ فقال عليه السّلام: «ما أعددت لها» قال: لا شيء إلاّ أنّي احبّ اللّه و رسوله. فقال: «أنت مع من

ص: 130


1- . تفسير أبي السعود 7:78، تفسير روح البيان 7:104.
2- . تفسير روح البيان 7:104.
3- . تفسير روح البيان 7:103.

أحببت» (1).

و أخفى علم الأربعة الاخرى ليسألوا اللّه، و يتضرّعوا إليه، و يتوكّلوا عليه. و قيل: إنّ المقصود بيان اختصاص العلم بالساعة بذاته، و إنّما ذكر إنزاله الغيث و علمه بما في الأرحام استدلالا عليه، ثمّ كأنّه قال لطالب العلم بالساعة: لا تسأل عنها فانّك لا تعلم ما هو أهمّ منها، و هو معاشك و موتك (2).

و الحقّ المشهور هو التفسير الأوّل، لما روى عن الصادق عليه السّلام: «هذه الخمسة أشياء لم يطّلع عليها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، و هي من صفات اللّه» (3).

و في (نهج البلاغة) : «فهذا هو علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه» (4).

و في (المجمع) : روي عن أئمة الهدى عليهم السّلام: «أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل و التحقيق غيره تعالى» (5). و لا ينافي ذلك علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام بها في بعض الأوقات، لأنّه بتعليم اللّه لا بالأسباب.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة لقمان في ليلة، و كّل اللّه به في ليلته ملائكة يحفظونه من إبليس و جنوده حتى يصبح، و إذا قرأها بالنهار، لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتى يمسي» (6).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير السورة.

ص: 131


1- . تفسير روح البيان 7:103.
2- . تفسير الرازي 25:165.
3- . تفسير القمي 2:167، تفسير الصافي 4:152.
4- . نهج البلاغة:186-الخطبة 128، تفسير الصافي 4:152.
5- . مجمع البيان 8:507، تفسير الصافي 4:152.
6- . ثواب الأعمال:110، مجمع البيان 8:488، تفسير الصافي 4:152.

ص: 132

في تفسير سورة السجدة

سوره 32 (السجده): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة [لقمان]المباركة المتضمّنة لإثبات التوحيد و المعاد، و التهديد على إنكارهما، اردفت بسورة السجدة المتضمّنة لإثبات النبوة و عظمة القرآن و التوحيد و المعاد، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات تيمنّا و تعليما للعباد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: الم توجيها للقلوب إلى المطالب المهمّة التي تذكر بعدها،

منها بيان عظم القرآن بقوله: تَنْزِيلُ هذا اَلْكِتابِ المسمّى بالقرآن، المتضمّن للعلوم و الأحكام و الآداب التي بها تربية نفوس أهل العالم و تكميلها لا رَيْبَ و لا شكّ فِيهِ أنّه مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ و مع ذلك أتعترف قريش به

أَمْ يَقُولُونَ عنادا و لجاجا: إن محمدا اختلقه من نفسه مع كونه امّيا اِفْتَراهُ على اللّه و نسبه إليه كذبا، ألا ليس نزوله من اللّه كذبا بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّكَ اللطيف بك، و إنّما كان إنزاله لِتُنْذِرَ و تخوّف به من العذاب على الشّرك و الكفر و العصيان قَوْماً و جماعة ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ و رسول من اللّه مِنْ قَبْلِكَ و قبل بعثتك، و لذا يكونون أضلّ الناس و أجهلهم و أحوجهم إلى الإنذار لَعَلَّهُمْ بهدايتك و إنذارك ينجون من ظلمة الجهل و وادي الضلال و يَهْتَدُونَ إلى دين الحقّ، و يرشدون إلى الخيرات الدنيوية و الاخروية.

و الظاهر أنّ المراد من القوم جميع أهل عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فانّهم كانوا في غاية الضّلال، و لم يأتهم نبي قبل خاتم الأنبياء، و كان واجبا على اللّه من باب اللّطف أن يبعث فيهم رسولا يهديهم إلى الحقّ لئلاّ يكون لهم على اللّه الحجة بعد بعثته.

و قيل: إنّ المراد خصوص العرب، و المراد بعدم إتيانهم النذير عدم إتيان آبائهم نبيّ من العرب، فانّ إسماعيل كان مبعوثا إلى قومه خاصة، و عيسى و من بعده من الأنبياء لم يكونوا من العرب، و خالد بن

ص: 133

سنان و إن كان نبيا عربيا، و لكن لم يعش في العرب بحيث تبلغ دعوته (1)، و الأظهر هو الوجه الأوّل.

قيل: إنّ كلمة الترجّي باعتبار حال النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى لتنذرهم راجيا لهدايتهم (2)إلى التوحيد و المعارف و الدين الحقّ، فان الغرض من بعث الرسول الهداية إلى الدين، و تكميل النفوس، و تربية الذوات المستعدة للترقيّات المعنوية، القابلة للنيل إلى الفيوضات الأبدية.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ شرع في هدايتهم ببيان أدلّة توحيده بقوله: اَللّهُ الواجب الوجود هو اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و العوالم العلوية و السّفلية وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات فِي مقدار سِتَّةِ أَيّامٍ من أيّام الدنيا من الزمان، و إنّما خلقها في تلك المدّة مع قدرته على خلقها في أقلّ من طرفة عين، ليتعلّم العباد التأنّي في الامور و ترك العجلة فيها ثُمَّ اِسْتَوى و أستولى بالعلم و القدرة عَلَى اَلْعَرْشِ و قد مرّت الوجوه في تلك القضية، فاذا كان الأمر كذلك، فأنيبوا إليه، و توكّلوا عليه، و اجتهدوا في عبادته، و خافوا عذابه، فانّه ما لَكُمْ أيّها الناس مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه مِنْ وَلِيٍّ و حافظ لصلاحكم، و ناصر عند ابتلائكم وَ لا شَفِيعٍ يدفع عنكم عذابه بشفاعته، و يجيركم من بأسه أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ قيل: يعني ألا تسمعون هذه المواعظ، فلا تتذكرون (3)بها ما طبعه اللّه في فطرتكم من التوحيد و معارفه؟

اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (5)

ثمّ بالغ سبحانه في بيان قدرته و حكمته بقوله: يُدَبِّرُ و ينظّم اَلْأَمْرَ الكائن في عالم الوجود، و ينزل أسبابه مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ و يستمرّ ذلك التدبير إلى انقضاء الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ و يصعد إِلَيْهِ ذلك التدبير و أسبابه، أو الأمر و ينقضي فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ و طول امتداده أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ في الدنيا من السنين لانقضاء الدنيا بمجيء يوم القيامة.

القمي: يعني الامور التي يدبّرها، و الامر و النهي الذي أمر به، و أعمال العباد، كلّ هذا يظهر يوم

ص: 134


1- . تفسير روح البيان 7:107.
2- . تفسير أبي السعود 7:80، تفسير روح البيان 7:107.
3- . تفسير أبي السعود 7:80، تفسير روح البيان 7:108.

القيامة، فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدنيا (1). و قد سبقت أخبار في هذا المعنى (2).

و قيل: يعني ينزل أمره من السماء إلى الأرض على عباده، ثمّ تعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر (3)، و إنّما أسند العروج إلى الأمر، لأنّ العمل أثره، و المراد من اليوم امتداد زمان نزول الأمر و صعود العمل، فانّ مسافة ما بين السماء و الأرض خمسمائة سنة بسير أهل الأرض، فيكون مسافة النزول و الصعود ألف سنة.

و قيل: إن المراد أنّه تعالى يرسل ملكا لتدبير أمر الأرض، ثمّ يعرج إلى مكانه في السماء، فينزل الملك من السماء و يعرج إلى مكانه في مدّة لو سار أحد من الناس تلك المسافة لسارها في زمان يكون مقداره ألف سنة (4).

و قيل: إنّ المراد من السماوات و الأرض عالم الأجسام، و المراد من الأمر عالم الأرواح الذي يقال له عالم الأمر (5)، و المراد من اليوم الذي مقداره ألف.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 6 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عظمة ملكه و نفوذ أمره، بيّن سعة علمه بجزئيات مملكته، و إحاطته بخفاياها بقوله: ذلِكَ المدبّر لامور الخلق عالِمُ اَلْغَيْبِ و ما يخفى عن الحواسّ، أو الأشياء التي لم توجد بعد، أو الآخرة، أو عالم الأمر وَ عالم اَلشَّهادَةِ و المحسوس، أو الموجودات الفعلية، أو عالم الدنيا، أو عالم الأجسام اَلْعَزِيزُ الغالب القاهر على كلّ شيء، أو على الانتقام من الكفرة و العصاة اَلرَّحِيمُ بعباده في تدبير امورهم، أو البررة منه بتوفيقهم للخيرات و إنجائهم يوم القيامة من الأهوال و العذاب.

ذلِكَ عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (6) اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الآيات الآفاقية، بيّن الأدلة الأنفسية بقوله: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ من السماوات و الأرض و ما بينهما من الموجودات، بأن أوجده على ما ينبغي وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسانِ الذي هو أعجب المخلوقات، و أنموذج ما في العالم بخلق آدم عليه السّلام مِنْ طِينٍ مأخوذ من وجه

ص: 135


1- . تفسير القمي 2:168، تفسير الصافي 4:153.
2- . في سورة الحج.
3- . تفسير الرازي 25:172.
4- . تفسير روح البيان 7:108 و 109.
5- . تفسير الرازي 25:172.

الأرض المخمّر بيد القدرة،

و بعد خلق آدم عليه السّلام ثُمَّ جَعَلَ اللّه نَسْلَهُ و ذرّيته بطنا بعد بطن إلى يوم القيامة متكونا مِنْ سُلالَةٍ و خلاصة منتزعة من صلب الرجل، أعني مِنْ ماءٍ مَهِينٍ مستقذر غير معتن به،

يقال له المنيّ ثُمَّ سَوّاهُ و عدّل أعضاءه، و صوّره في الرّحم وَ بعد تكميل خلق جسده نَفَخَ و أولج فِيهِ روحا طيبا شريفا، يصحّ إضافته إلى نفسه لكمال شرفه، و يقول: أدخل فيه مِنْ رُوحِهِ مع أنّه تعالى لا روح له، بل هو خالق الرّوح فجعله حيا سويا وَ جَعَلَ لَكُمُ يا بني آدم اَلسَّمْعَ لتسمعوا الأصوات و الكلمات التي أهمّها كلمات اللّه و مواعظه و مواعظ رسله وَ اَلْأَبْصارَ لتبصروا المبصرات التي أهمّها آيات التوحيد و معاجز الأنبياء وَ اَلْأَفْئِدَةَ لتفهموا معاني الكلمات و حقائق الآيات و دقائقها، و مع ذلك قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ نعم ربّكم.

قيل: إنّ القليل هنا بمعنى النفي (1)، و المعنى لا تشكرون. و قيل: إنّ المراد قليلا منكم يشكرون (2).

سوره 32 (السجده): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ لمّا ذكر سبحانه آيات قدرته و حكمته من خلق السماوات و الأرض، و استيلائه على الموجودات، و تدبيره في عوالم الملك و الملكوت إلى قيام الساعة، و إبدائه خلق الانسان الذي هو أتمّ الموجودات و أجمعها و أعجبها، من الطين، ثمّ خلق ذرّيته من النّقطة المسلولة من الصّلب، و إعطائه نعمة السمع و البصر و الفؤاد، حكى قول منكري الحشر من كفّار قريش بقوله: وَ قالُوا إنكارا للمعاد و استبعادا له: أَ إِذا ضَلَلْنا و غبنا فِي اَلْأَرْضِ بأن صرنا ترابا و عظاما مخلوطا بأجزائها بحيث لا يتميّز ترابنا، كما لا يتميز الماء المخلوط بالحليب منه أَ إِنّا مع ذلك لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و حياة ثانية واقعون أو كائنون؟ ! لا يمكن ذلك، و هم بقولهم هذا لم يكونوا منكرين لمجرّد الخلق ثانيا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ و حسابه و جزائه للأعمال كافِرُونَ أيضا، و لدار الآخرة و المصير إلى اللّه منكرون

قُلْ يا محمد ردّا عليهم: أعلموا أيّها الكفرة أنّكم لا تموتون بالطبيعة، و لا تنعدم أرواحكم بل يَتَوَفّاكُمْ و يقبض أرواحكم مَلَكُ اَلْمَوْتِ و قابض الأرواح اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و فوّض إليه من اللّه قبض أرواحكم ثُمَّ بعد موتكم إِلى رَبِّكُمْ و مليككم يوم القيامة تُرْجَعُونَ و في محكمة عدله تحضرون، فيجازيكم على كفركم بالتوحيد و المعاد أسوأ الجزاء.

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

ص: 136


1- . تفسير روح البيان 7:112.
2- . مجمع البيان 8:513.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ ذكر سبحانه حال حضورهم عنده بقوله: وَ لَوْ تَرى يا من شأنه الرؤية إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ المنكرون للمعاد ناكِسُوا و مطرقو رُؤُسِهِمْ و مطأطئوها حين الحضور عِنْدَ رَبِّهِمْ خوفا و حياء و حزنا لترى عجبا. و يمكن أن يكون: لو لا نشاء التمنّي، إظهارا لكمال الفضاعة، و هم يقولون: يا رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا بوقوعه من الحشر للحساب و جزاء الأعمال وَ سَمِعْنا نصح رسولك و مواعظه في الدنيا، فلم نعتن بوعدك، و كذّبنا رسولك، أو المراد صرنا الآن بصيرين و سميعين بعد ما كنا في الدنيا عميا و صمّا فَارْجِعْنا إلى الدنيا و ردّنا إليها نَعْمَلْ عملا صالِحاً مرضيا عندك، نافعا لنا في هذا اليوم إِنّا الآن مُوقِنُونَ بتوحيدك، و رسالة رسولك، و صدق وعدك، كاملون في الايمان بجميع ما يجب الايمان به، فاذا رجعنا إلى دار التكليف لا نقصّر في امتثال تكاليفك.

وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (13)

ثمّ ردّهم اللّه بالاشارة إلى امتناع الرجوع إلى الدنيا، لعدم الفائدة في الايمان الضّروري القهري بقوله: وَ لَوْ شِئْنا الهداية القهرية، و الايمان الضروري لبني آدم في الدنيا، و اللّه لَآتَيْنا و أعطينا كُلَّ نَفْسٍ من النفوس البرّة و الفاجرة ما يكون به هُداها و إيمانها بما يجب الايمان به و انبعاثها إلى الأعمال الصالحة وَ لكِنْ جعلنا الدنيا دار التكليف و الامتحان، و بعثنا إليهم الرسول، و أنزلنا عليهم الكتاب، و سلّطنا عليهم الشيطان المغوي و المهوي المردي، و أعطيناهم العقل و قوّة تميّز الخير و الشرّ، و أوكلناهم إلى اختيارهم، ليتميّز الخبيث من الطيب، و الناجي من المطيع، و القابل للفيوضات من غير القابل، و حَقَّ اَلْقَوْلُ و سبق الوعيد الصادر منّي، و هو قولي: و عزتي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ في الآخرة مِنَ كفرة اَلْجِنَّةِ و الشياطين وَ كفرة اَلنّاسِ و ذرّية آدم، و العصاة منهم أَجْمَعِينَ حيث قال بعد قول إبليس لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (1): الحقّ و الحقّ أقول لأملئنّ جهنّم منك و ممّن تبعك منهم أجمعين.

عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ليعتذرون اللّه إلى آدم ثلاث معاذير يقول اللّه: يا آدم، لو لا أنّي لعنت الكذّابين و أبغضت الكذب و الخلف و اعذّب عليه، لرحمت اليوم ولدك أجمعين من شدّة ما أعددت لهم من العذاب، و لكن حقّ القول منّي لئن كذّب رسلي و عصي أمري لأملأنّ

ص: 137


1- . الحجر:15/39.

جهنّم من الجنّة و الناس أجمعين. و يقول اللّه: يا آدم، أعلم أنّي لا أدخل من ذرّيتك النار أحدا و لا اعذّب منهم بالنار أحدا، إلاّ من علمت أنّي لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى أشرّ ممّا كان فيه، و لم يرجع و لم يتب» الخبر (1).

سوره 32 (السجده): آیه شماره 14 الی 17

ثمّ كأنه تعالى قال: إذا علمتم أنّه لا يمكن رجوعكم إلى الدنيا فَذُوقُوا و أطعموا طعم نار جهنّم بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ اللّه في يَوْمِكُمْ هذا اليوم العظيم الهائل، و تركتم النظر و التفكّر في أدلّة المعاد، و انهمكتم في الشهوات و لذائد الدنيا، و غفلتم عن الدار الآخرة إِنّا أيضا لا ننظر إليكم اليوم نظر الرحمة، كأنّا نَسِيناكُمْ و غفلنا عنكم و تركناكم فيما أنتم فيه من العذاب وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْخُلْدِ و الدائم الذي لازم نسيانكم، لا بسبب نسيانكم اليوم فقط، بل به و بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من القبائح و المعاصي، كتكذيب الرسول و إيذائه، و إيذاء المؤمنين به، و نظائرهما من فنون الكبائر.

فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنكار المشركين آيات التوحيد و المعاد و سوء حالهم في الآخرة، بيّن تعظيم المؤمنين لأدلّة التوحيد و المعاد، و إظهار خضوعهم و انقيادهم عند سماعهم الآيات الدالات عليهما و حسن حالهم في الآخرة بقوله: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الدالة على التوحيد و المعاد اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا و وعظوا بِها و سمعوها من الرسول، أو المؤمنين خَرُّوا و سقطوا إلى الأرض حال كونهم سُجَّداً و خضعوا و أظهروا الانقياد لها وَ سَبَّحُوا للّه و نزّهوه عن الشّرك، و الولد، و خلق العالم عبثا، و العجز عن إعادة الخلق لجزاء الأعمال، و غير ذلك ممّا لا يليق به، مقرنين تسبيحهم بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على نعمه التي أعظمها التوفيق للايمان به و بآياته، و التسليم لأحكامه و أوامره، و الرغبة و الشوق إلى طاعته، و العمل بمرضاته وَ هُمْ لمعرفة أنفسهم بذلّة العبودية و معرفة ربّهم بعظمة الالوهية و الربوبية لا يَسْتَكْبِرُونَ و لا يتعظّمون و لا يترفّعون عن السجود و الانقياد له، و التذّلل و الخضوع عنده، و بذل الجهد في طاعته و عبادته، بل يهتمّون في القيام بوظائف العبودية

ص: 138


1- . تفسير روح البيان 7:117.

غاية الاهتمام بحيث

تَتَجافى و ترفع جُنُوبُهُمْ و تتنحّى أضلاعهم في تمام الليل أو نصفه أو ثلثه، أو في ساعة منه عَنِ اَلْمَضاجِعِ و فرش النوم حال كونهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يناجونه و يتضرّعون إليه، أو يصلّون خَوْفاً من سخطه و عذابه على معاصيهم، أو من البعد عنه، لتقصيرهم في طاعته، أو من اشتمال أعمالهم بما يوجب عدم قبولها وَ طَمَعاً و رغبة في رحمته و فيوضاته الدنيوية و الاخروية.

وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أنعمنا عليهم من المال، أو من جميع ما لهم منه، و من العلم و الجاه و غيرها يُنْفِقُونَ و يبذلون للمحتاجين و إخوانهم المؤمنين، تقرّبا إلى اللّه، و طلبا لمرضاته.

روي أنّ الآية نزلت في الذين صلّوا صلاة العشاء و الصّبح جماعة (1).

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «لا ينامون حتى يصلّوا العتمة» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّها قيام العبد من الليل» (3).

و عن معاذ بن جبل، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-قال: «ألا اخبركم بأبواب الخير؟» قال: نعم. قال صلّى اللّه عليه و آله: «الصوم جنّة من النار، و الصدقة تكفّر الخطيئة، و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اللّه» (4). و في رواية: «يذكر اللّه» (5)و في اخرى: «يناجى ربّه» ثمّ قرأ هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ (6).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: ما يقرب منه (7).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «لعلّك ترى أنّ القوم لم يكونوا ينامون، لا بدّ لهذا البدن أن تريحه حتى تخرج نفسه، فاذا خرج النفس استراح البدن، و رجع للرّوح قوّة على العمل» قال: نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و أتباعه من شيعتنا، ينامون في أول الليل، فاذا ذهب ثلثا الليل، أو ما شاء اللّه، فزعوا إلى ربّهم راغبين مرهبين، طامعين فيما عنده، فذكرهم اللّه في كتابه، فأخبركم بما أعطاهم» الخبر (8)بقوله:

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ من النفوس حتى الملائكة المقرّبين و الأنبياء و المرسلين ما أُخْفِيَ و ستر لَهُمْ عن إدراك المدركين مِنْ ما به قُرَّةِ أَعْيُنٍ و سرور القلوب.

عن ابن مسعود: أنّه مكتوب في التوراة: لقد أعدّ اللّه للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين

ص: 139


1- . تفسير أبي السعود 7:85، مجمع البيان 8:518، نسبه إلى القيل.
2- . أمالي الطوسي:294/576، تفسير الصافي 4:156.
3- . تفسير أبي السعود 7:85، تفسير روح البيان 7:119.
4- . مجمع البيان 8:518، تفسير الصافي 4:156.
5- . المحاسن:289/435، الكافي 2:20/15، و فيهما: بذكر اللّه، تفسير الصافي 4:156.
6- . المحاسن:289/434، تفسير الصافي 4:156.
7- . تفسير الصافي 4:156.
8- . علل الشرائع:365/4، من لا يحضره الفقيه 1:305/1394، تفسير الصافي 4:156.

رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و لا يعلمه ملك مقرّب (1)جَزاءً بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الايمان و الخضوع، و التسبيح و التحميد، و القيام عن المضاجع إلى الصلاة و الدعاء، و غير ذلك من الصالحات بإخلاص النية و صدق الطويّة.

عن الصادق عليه السّلام: «ما من عمل حسن يعمله العبد إلاّ و له ثواب في القرآن إلاّ صلاة الليل، فانّ اللّه عزّ و جلّ لم يبيّن ثوابها لعظم خطره عنده، قال جلّ ذكره: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ إلى قوله: يَعْمَلُونَ» .

ثمّ قال عليه السّلام: «إنّ للّه كرامة في عباده المؤمنين في كلّ يوم جمعة، فاذا كان يوم جمعة بعث اللّه إلى المؤمن ملكا معه حلّتان، فينتهي إلى باب الجنة فيقول: استأذنوا على فلان فيقال له: هذا رسول ربّك على الباب، فيقول لأزواجه: أيّ شيء ترين عليّ أحسن؟ فيقلن: يا سيدنا و الذي آتاك الجنة ما رأينا عليك شيئا أحسن من هذا الذي بعث إليك ربك. فيتّزر بواحدة» و يتعطّف بالاخرى، فلا يمرّ بشيء إلاّ أضاء له حتى ينتهي إلى الموعد، فإذا اجتمعوا تجلّى لهم الربّ تبارك و تعالى، فاذا نظروا إليه خرّوا له سجّدا، فيقول: عبادي ارفعوا رؤوسكم، ليس هذا يوم سجود و لا يوم عبادة، قد رفعت عنكم المؤنة. فيقولون: يا ربّ، أي شيء أفضل ممّا أعطيتنا! أعطيتنا الجنّة. فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا، فيرجع المؤمن في كلّ جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه، و هو قوله: (و لدينا مزيد) و هو يوم الجمعة، ليلتها ليلة غرّاء، و يومها يوم أزهر، فأكثروا فيها من التسبيح و التكبير و التهليل، و الثناء على اللّه، و الصلاة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله» .

قال: «فلا يمرّ المؤمن بشيء إلاّ أضاء له، حتى ينتهي إلى أزواجه، فيقلن: و الذي أباحك الجنّة يا سيدنا ما رأيناك قطّ أحسن منك الساعة. فيقول: إنّي قد نظرت إلى نور ربّي» .

إلى أن قال عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق جنّة بيده لم ترها عين، و لم يطّلع عليها مخلوق، يفتحها الربّ كلّ صباح فيقول: ازدادي ريحا، ازدادي طيبا، و هو قول اللّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2).

و عنهما عليهما السّلام، قالا: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي رأيت في الجنة نهرا أبيض من اللبن، و أحلى من العسل، و أشدّ استقامة من السّهم، فيه أباريق عدد النجوم، على شاطئه قباب الياقوت الأحمر و الدّر الأبيض، فضرب جبرئيل بجناحيه، فإذا هو مسك أذفر.

ثمّ قال: و الذي نفس محمد بيده، إنّ في الجنّة لشجرا يتصفق بالتسبيح بصوت لم يسمع الأولون و الآخرون [مثله]يثمر ثمرا كالرّمان، يلقى ثمره إلى الرجل، فيشقّها عن سبعين حلّة، و المؤمنون على

ص: 140


1- . الدر المنثور 6:549.
2- . تفسير القمي 2:168، تفسير الصافي 4:156.

الكراسي (1)، و هم الغرّ المحجّلون، [على الرجل منهم نعلان شراكهما من نور، يضيء أمامهم]حيث شاءوا من الجنة، فبينا هم كذلك إذ أشرفت عليه امرأة من فوقه، فتقول: سبحان اللّه! يا عبد اللّه، أما لنا منك دولة؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من اللواتي قال اللّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» (2).

سوره 32 (السجده): آیه شماره 18 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حال المؤمن و المجرم و عاقبتهما، وجّه الخطاب إلى العقلاء، و أنكر احتمال التساوي بين الفريقين بقوله: أَ فَمَنْ كانَ في الدنيا مُؤْمِناً يمكن أن يحتمل أن يكون في الشّرف و المنزلة عند اللّه كَمَنْ كانَ في الدنيا فاسِقاً؟ ! لا يمكن ذلك و لا يَسْتَوُونَ أبدا في شيء من الشرف و القرب و المثوبة.

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ اَلْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ اَلنّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

ثمّ أنّه تعالى بعد إنكار احتمال التساوي و التصريح بعدمه، و البيان الإجمالي لحسن عاقبة المؤمن و مثوبته، و سوء عاقبة المجرم و عقوبته، فصّل ثواب الأول و كيفية عذاب الثاني بقوله: أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ في الدنيا فَلَهُمْ في الآخرة بالاستحقاق جَنّاتُ اللاّتي تكون لهم اَلْمَأْوى و المسكن الدائم. و عن ابن عباس: أنّ جنّة المأوى اسم إحدى الجنّان الثمان (3)التي خلقها في الآخرة كلّها من الذهب (4)، حال كون تلك الجنّات نُزُلاً و تشريفا لورودهم على اللّه، وصلة لهم بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الايمان و السجود عند تذكّر الآيات، و تجافي جنوبهم عن المضاجع، و دعاء ربّهم، و إنفاقهم.

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا و خرجوا عن طاعة اللّه و كفروا به فَمَأْواهُمُ و مسكنهم اَلنّارُ سواء عملوا الصالحات أو السيئات، لا يخرجون منها أبدا كُلَّما و في أيّ وقت ضربهم لهيب النار و ارتفعوا إلى طبقاتها و قربوا من بابها و أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها ضربهم لهيب النار أو تتلقّاهم

ص: 141


1- . في المحاسن: على كراسي من نور.
2- . المحاسن:180/172، تفسير الصافي 4:157.
3- . في النسخة: الجنات المأوى اسم إحدى الجنات الثمانية.
4- . تفسير روح البيان 7:122.

الخزنة بمقامع من نار أو حديد و أُعِيدُوا فِيها و يهوون إلى قعرها سبعين خرفيا على ما روي، و هكذا يفعل بهم أبدا (1)وَ قِيلَ لَهُمْ إهانة و تشديدا عليهم و زيادة في غيظهم ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بأخبار الأنبياء بِهِ في الدنيا تُكَذِّبُونَ و تقولون: لا جنّة و لا نار.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ هدّدهم بالعذاب الدنيوي الذي يكون لطفا بهم و تنبيها لهم بقوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ بعضا مِنَ اَلْعَذابِ الدنيوي الذي يكون هو اَلْأَدْنى و الأقرب إليهم كالمرض و الفقر و الجلاء [من]

الوطن دُونَ اَلْعَذابِ الاخروي اَلْأَكْبَرِ و الأشدّ و الأدوم و قبله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الكفر إلى الايمان، و يتوبون من الشّرك و المعاصي.

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْأَدْنى دُونَ اَلْعَذابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)القمي: العذاب الأدنى عذاب الرجعة بالسيف (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو عذاب القبر» . و عنهما عليهما السّلام: «هو الدابة و الدجّال» (3)و لا يرجعون و هم من الظالمين على أنفسهم.

وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ و وعظ بِآياتِ رَبِّهِ و دلائل توحيده و قدرته و حكمته، و صدّق رسله و دار جزائه ثُمَّ لم يعتن بها و أَعْرَضَ عَنْها على خلاف المؤمنين الذين إذا ذكّروا بها خضعوا لها و خرّوا سجّدا إِنّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ الظالمين على أنفسهم، و إن هانت جريمته و قلّ ظلمه يوم القيامة مُنْتَقِمُونَ بتعذيبه، فكيف بمن هو أشدّ جرما من كلّ مجرم و أظلم من كلّ ظالم!

سوره 32 (السجده): آیه شماره 23 الی 27

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ اَلْماءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27)

ص: 142


1- . تفسير روح البيان 7:123.
2- . تفسير القمي 2:170، تفسير الصافي 4:158.
3- . مجمع البيان 8:520، تفسير الصافي 4:158.

ثمّ لمّا ذكر إعراض الكفّار عن الآيات، و كان يتألم به قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، سلاّه سبحانه بذكر نزول التوراة على موسى عليه السّلام و عدم إيمان كثير من قومه بها، و صبر أنبياء بني إسرائيل على أذى قومهم بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى بن عمران اَلْكِتابَ المعهود فَلا تَكُنْ يا محمّد فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْ أخذ موسى عليه السّلام ذلك الكتاب و لِقائِهِ أو من لقائك موسى عليه السّلام و رؤيته في زمان حياتك، كما رأيته ليلة المعراج مرّتين في السماء السادسة حين صعوده و نزوله، أو في الآخرة، أو من تلقّيك القرآن من لدن عليم حكيم، كما تلقّى موسى عليه السّلام ذلك الكتاب الذي أنزلناه عليه وَ جَعَلْناهُ سبب هُدىً و رشاد من الضلال لِبَنِي إِسْرائِيلَ الذين اهتدوا به، كما جعلنا القرآن سبب الهداية لامّتك المؤمنين به.

وَ جَعَلْنا بعد موسى عليه السّلام في بني إسرائيل جماعة مِنْهُمْ أنبياء ليكونوا أَئِمَّةً و قادة لهم يقتدون بهم قولا و عملا يَهْدُونَ و يرشدون الخلق إلى الحقّ بِأَمْرِنا إيّاهم به، أو بوحينا إليهم، أو بتوفيقنا لهم لَمّا صَبَرُوا على مشاقّ الطاعات و شدائد الامور و أذى قومهم وَ كانُوا بِآياتِنا الدالة على معارفنا و أحكامنا، لإمعان النظر فيها يُوقِنُونَ كما جعلنا في امّتك أئمة هداة مهديين يهدونهم إلى ما في كتابك من المعارف و الأحكام و العلوم، و مع ذلك لم يؤمن بكتاب موسى أمّته، بل اختلفوا فيه، فمنهم من آمن به،

و منهم من كفر به إِنَّ رَبَّكَ اللطيف بعباده هُوَ بذاته المقدّسة يتصدّى للحكومة و يَفْصِلُ و يقضي بَيْنَهُمْ بإثابة المؤمين و تعذيب الكافرين يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و فصل القضاء فِيما كانُوا في الدنيا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من صدق الأنبياء في إخبارهم بالتوحيد و المعاد و غيرهما من العقائد الحقّة و الأحكام الإلهية، بل حكم في الدنيا بينهم بمعاملته مع الأنبياء و المؤمنين بهم و الكفار و المكذّبين لهم.

أَ غفلوا وَ لَمْ يَهْدِ و لم يظهر لَهُمْ بمطالعتهم الكتب و سماعهم بالتواتر كيف أكرمنا الأنبياء و المؤمنين، و نصرناهم على أعدائهم و كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال مِنْ قَبْلِهِمْ جماعة مِنَ اَلْقُرُونِ و أهل الأعصار السابقة، كعاد و ثمود و المؤتفكات و غيرهم و قومك يَمْشُونَ فِي أسفارهم و تجاراتهم في منازل أولئك الامم المهلكة و مَساكِنِهِمْ الخربة، و يشاهدون آثار نزول العذاب عليهم إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك و اللّه لَآياتٍ كثيرة، و دلالات واضحة على حكم اللّه بحقّانية الموحّدين و مصدّقي الأنبياء، و مدّعي المعاد، و بطلان القول بالشّرك و إنكار المعاد، أهم صمّ

ص: 143

أَ فَلا يَسْمَعُونَ تلك المواعظ و العبر،

هبوا أنهم لا يسمعون تلك الأخبار أَ وَ لَمْ يَرَوْا بأعينهم أَنّا نَسُوقُ و نجري اَلْماءَ النازل من السماء إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ و اليابسة المنقطعة عن الماء و النبات فَنُخْرِجُ بذلك الماء، و ننبت بِهِ فيها زَرْعاً نافعا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ هم عمي فَلا يُبْصِرُونَ آيات اللّه الدالّة على توحيده و قدرته على إعادة خلقهم في الحشر للحساب و جزاء الأعمال.

سوره 32 (السجده): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعدما هدّد الكفّار بحكومته عليهم يوم القيامة، حكى استهزاءهم بهذا الوعيد و استعجالهم له بقوله: وَ يَقُولُونَ استهزاء للمؤمنين مَتى يكون هذَا اَلْفَتْحُ و الحكومة؟ عيّنوا وقته إِنْ كُنْتُمْ أيّها المؤمنون صادِقِينَ في إخباركم به.

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)قيل: إنّ المؤمنين قالوا لكفّار مكّة: إنّ لنا يوما يفتح اللّه فيه بيننا-يعني يحكم بيننا-يريدون يوم القيامة (1).

و قيل: إنّ المؤمنين قالوا لهم: سيفتح لنا على المشركين (2)، و ينصرنا عليهم، فأمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمد لهم: إنّ تريدوا باستعجالكم له و تعيين وقته أن تؤمنوا عند مجيئه، فاعلموا أنّ يَوْمَ اَلْفَتْحِ و هو يوم القيامة و الشهود لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا في نجاتهم من العذاب و استحقاقهم الثواب إِيمانُهُمْ باللّه و باليوم الآخر لفوات وقته، فانّ الايمان النافع لا يكون إلاّ في الدنيا، و إن تطمئنّوا بخلاصكم فيه من العذاب، فاعلموا أنّ الكفّار لا يخلصون منه وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و لا يمهلون ساعة لعدم المقتضى لإمهالهم مع كمال استحقاقهم له، أو لا ينفع يوم غلبة المسلمين عليهم إيمانهم، لأنّه إيمان عند رؤية البأس، كايمان فرعون حين الغرق، و لا يمهلهم المسلمون، بل يقتلونهم.

و القمي قال: لمّا أخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخبر الرجعة، قالوا: متى هذا الفتح؟ و هذه معطوفة على قوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْأَدْنى (1)الآية.

ص: 144


1- . تفسير القمي 2:171، تفسير الصافي 4:160، و الآية من سورة السجدة:32/21.

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تعتن بهم و لا تبال بتكذيبهم وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ النّظرة عليهم و هلاكهم، أو ابتلاءهم بالعذاب في القيامة.

في الحديث: «من قرأ (الم تنزيل) و (تَبارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ) اعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر» (1).

و في حديث آخر: «من قرأ (الم تنزيل) في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» (2).

و في ثالث: «تجيء (الم تنزيل) السجدة يوم القيامة و لها جناحان تطاير صاحبهما و تقول: لا سبيل عليك» (3).

و عن جابر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا ينام حتى يقرأ (الم) السجدة و (تَبارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ) و يقول: «هما تفضلان كلّ سورة في القرآن بسبعين حسنة، فمن قرأهما كتب له سبعون حسنة، و محي عنه سبعون سيئة و رفع له سبعون درجة» (4).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل) و (هَلْ أَتى عَلَى اَلْإِنْسانِ)» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة، أعطاه اللّه كتابه بيمينه، و لم يحاسبه بما كان منه، و كان من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته» (1).

ص: 145


1- . ثواب الأعمال:110، مجمع البيان 8:508، تفسير الصافي 4:160.

ص: 146

في تفسير سورة الأحزاب

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة الم السجدة التي كان فيها إثبات النبوّة، و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالاعراض عن الكفّار و استهزاء الكفّار بالمؤمنين في إخبارهم بغلبتهم على المشركين، اردفت بسورة الأحزاب التي بدأ فيها بالإعلان بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و شرح الإعراض عن الكفّار بالنهي عن طاعتهم، و الأمر باتّباع القرآن، و الاعتماد على اللّه في دفع شرّ الأعداء، و الإخبار بفتح المؤمنين في غزوة الاحزاب، و نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن خشيته من الناس في تزويج زينب بنت جحش، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأ سبحانه على حسب دأبه في كتابه بذكر أسمائه المباركة بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ تبرّكا و تيمّنا و تعليما للعباد.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّهَ وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ اَلْمُنافِقِينَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)

ثمّ وجه الخطاب إلى نبيّه المعصوم الذي كان مجسّمة التقوى، و لا يتوهّم في حقّه طاعة غير اللّه، إظهارا لكمال الاهتمام بالتكاليف الموجّهة إليه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ و الشخص الجليل المخبر عن اللّه بأخبار عظيمة الفائدة، أو الشخص الرفيع المنزلة عند اللّه اِتَّقِ اَللّهَ و احترز غضبه و سخطه وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ و المتجاهرين بالكفر وَ اَلْمُنافِقِينَ المسرّين له المظهرين للاسلام، و لا تعمل بآرائهم و إن اتّفق الناس على كونها عين الصلاح إِنَّ اَللّهَ كانَ في الأزل بذاته عَلِيماً بالأشياء و مصالح العباد، و محيطا بمفاسد امورهم و حَكِيماً فلا ينهى عن شيء إلاّ و فيه المفسدة، و لا يأمر بشيء إلاّ و فيه المصلحة التامة و الحكمة البالغة.

قيل: إنّ أبا سفيان و عكرمة و أبا الأعور جاءوا بعد وقعه احد إلى المدينة، و نزلوا في دار ابن ابي رأس المنافقين، ثمّ طلبوا يوما من الرسول الأمان حتى يحضروا عنده و يكلّموه، فأعطاهم الرسول الأمان، فحضروا مع جمع من المنافقين عنده، و قالوا: يا محمد، ارفض ذكر آلهتنا، و قل إنّها تشفع يوم

ص: 147

القيامة، و تنفع لمن عبدها، و نحن ندعك و ربّك، فبان الغضب من كلامهم في وجه الرسول صلّى اللّه عليه و آله فقال ابن ابي و جمع من المنافقين: يا رسول اللّه، هؤلاء أشراف العرب، أعطهم سؤلهم، فانّ فيه صلاحك. فهمّ عمر بقتلهم، فنهاه رسول اللّه، و قال: «أعطيتهم الأمان، فلا تنقض عهدي» فأخرجهم عمر من المدينة، فنزلت (1).

و قيل: جاء جماعة من ثقيف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: دعنا على عبادة الأصنام سنة، لتظهر مزية لنا عندك على قريش (2)ثمّ نؤمن بك، فنزلت (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 2 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد نهيه عن متابعة الكفّار، أمره باتّباع القرآن بقوله: وَ اِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في جميع ما تأتي و تذر، و اعمل بأحكام اللّه المنزلة في القرآن إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الطاعة و المخالفة خَبِيراً لا يخفى عليه شيء من أعمالكم و أحوالكم، و يجازيكم على حسب استحقاقكم، و لا تخش من أحد في مخالفتي، و لا ترج من أحد أن يحسن إليك، و لا تخف أحدا من ضرّه و شرّه

وَ تَوَكَّلْ و اعتمد عَلَى اَللّهِ في حفظك، و فوّض إليه جميع امورك وَ كَفى بِاللّهِ الذي خلقك و دبّر امورك، و شرّفك بمنصب الرسالة وَكِيلاً و حافظا لصلاح امورك، و حسبك ربّك وليا و ناصرا.

وَ اِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اَللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ (4)قيل: من خاف ريحا أو صاعقة أو غيرهما من المضارّ و المهلكات، فليكثر من ذكر: يا وكيل، فانّه يصرف منه كلّ شرّ و ضرّ، و يفتح له أبواب كلّ خير (4).

ثمّ لمّا كان طاعة الكفّار الذين هم أعداء اللّه لا تكون إلاّ حبّا لهم أو طمعا ما عندهم من الزخارف، أو خوفا من ضررهم، بيّن سبحانه أنّ حبّهم و خوفهم لا يجامع حبّ اللّه في قلب واحد بقوله: ما جَعَلَ اَللّهُ لِرَجُلٍ من الرجال و شخص من الأشخاص نبيا كان أو غيره مِنْ قَلْبَيْنِ و مضغتين صغيرتين في هيئة الصّنوبرة فِي جَوْفِهِ و داخل صدره، يكون في أحدهما الايمان و حبّ اللّه و الخوف منه، و في الآخر الكفر و حبّ أعداء اللّه و الخوف منهم.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال علي بن أبي طالب عليه السّلام: لا يجتمع حبّنا و حبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ

ص: 148


1- . تفسير روح البيان 7:131.
2- . في مجمع البيان: قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.
3- . مجمع البيان 8:525.
4- . تفسير روح البيان 7:132.

اللّه لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا و يبغض بهذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار، لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم حبّنا فليمتحن قلبه، فان شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا و لنسا منه، و اللّه عدوّهم و جبرئيل و ميكائيل، و اللّه عدوّ للكافرين» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه، يحبّ بهذا قوما، و يحبّ بهذا أعداءهم» (2).

و عنه عليه السّلام: «فمن كان قلبه متعلقا في صلاته بشيء دون اللّه، فهو قريب من ذلك الشيء، بعيد عن حقيقة ما أراد اللّه منه في صلاته» ثمّ تلا هذه الآية (3).

و عن ابن عباس: كان المنافقون يقولون: إنّ لمحمد قلبين: قلبا معنا، و قلبا مع أصحابه، فأكذبهم اللّه (4).

و عن جمع من مفسّري العامة: أنّها نزلت في أبي معمر جميل (5)بن معمر الفهري، أو جميل بن أسد، و كان لبيبا حافظا لما يسمع، و كان يقول: إنّ في جوفي قلبين، أعقل بكلّ منهما أفضل ممّا يعقل محمّد! و كانت قريش تسمّية ذا القلبين، فلمّا كان يوم بدر و هزم المشركون، و فيهم أبو معمر تلقّاه أبو سفيان و هو آخذ بإحدى نعليه بيده، و الاخرى في رجله، و هو يعدو في الرّمضاء، و يقول: أين نعلي، أين نعلي؟ فقال أبو سفيان له: إحدى نعليك في يدك (4). فخجل.

و في رواية، قال له: فما بالك إحدى نعليك في يدك؟ قال أبو معمر: ما شعرت إلاّ أنّهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنّه ليس له إلاّ قلب واحد، و إلاّ مانسي نعله في يده (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 4 الی 5

ما جَعَلَ اَللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ (6) اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (7)

ص: 149


1- . تفسير القمي 2:171، تفسير الصافي 4:162.
2- . مجمع البيان 8:527، تفسير الصافي 4:162.
3- . مصباح الشريعة:92، تفسير الصافي 4:162.
4- . تفسير القرطبي 14:116، تفسير أبي السعود 7:90، تفسير روح البيان 7:134.
5- . تفسير الصافي 4:162.
6- . تفسير روح البيان 7:134.
7- . في النسخة: حميد.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال هذا القول أبطل قولهم بأنّ الزوجة تصير في حكم الامّ بالظّهار بقوله: وَ ما جَعَلَ اللّه تكوينا أو تشريعا نساءكم اللاتي يكنّ أَزْواجَكُمُ و حلائلكم اَللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ و تقولون لهنّ: أنتنّ علينا كظهور امّهاتنا أُمَّهاتِكُمْ حقيقة أو حكما، أمّا حقيقة فبالبداهة، و أما حكما فلعدم الملاك، فلا وجه لحسبانهنّ مطلّقات، كما تخيلهنّ العرب في الجاهلية مطلقات، ثمّ أبطل قولهم بأنّ من قال لأحد: أنت ابني يكون ابنا له بقوله: وَ ما جَعَلَ اللّه أَدْعِياءَكُمْ و الذين تبنّيتموهم و دعوتموهم باسم الابن أَبْناءَكُمْ الحقيقة أو الحكمية، كما جعلتهم العرب في الجاهلية أبناء للداعي و المتبنّي، و حرّموا نكاح أزواجهم عليه، و ورثوهم أمواله، و لذا كانت تقول لزيد بن حارثة الكلبي: عتيق رسول اللّه ابن محمد ذلِكُمْ المذكور من امومة المظاهرة و بنوّة الدعي قَوْلُكُمْ الذي تقولونه بِأَفْواهِكُمْ و ألسنتكم، لا توافقه قلوبكم و عقولكم، و كذب اخترعتموه بأهوائكم وَ اَللّهُ المطّلع على حقائق الأشياء و واقعيات الامور يَقُولُ اَلْحَقَّ و الكلام الصّدق المطابق للواقع وَ هُوَ بلطفه يَهْدِي عباده اَلسَّبِيلَ الحقّ في جميع الامور، فدعوا أقوالكم و خذوا بقوله.

ثمّ هدى الناس و علّمهم الكلام الحقّ بقوله: اُدْعُوهُمْ و انسبوهم لِآبائِهِمْ الذين ولدوهم، فانّ الدعاء لآبائهم هُوَ أَقْسَطُ و أعدل و أقرب للصواب عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه من دعائهم لغير آبائهم، و أصدق من نسبتهم إلى من تبنّاهم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا و لم تعرفوا آباءَهُمْ حتى تنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ إذا كانوا مسلمين وَ مَوالِيكُمْ و عتقاؤكم إذا أعتقتموهم، أو أحبّاؤكم، فقولوا لهم: يا إخواننا، أو يا أولياءنا وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عند اللّه جُناحٌ و إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ و عدلتم عن طريق الصواب فيه بالسّهو أو بسبق اللّسان وَ لكِنْ الجناح ما تَعَمَّدَتْ و قصدت قُلُوبُكُمْ بعد النهي، و في الحديث: «من دعي لغير أبيه، و هو يعلم أنّه غير أبيه، فالجنّة عليه حرام» (1)وَ كانَ اَللّهُ مع التعمد أيضا غَفُوراً و ستّار العصاة (2)التائبين رَحِيماً بالمؤمنين.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 6

اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي اَلْكِتابِ مَسْطُوراً (6)

ص: 150


1- . تفسير روح البيان 7:138.
2- . في النسخة: العصيان.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نفى الامومة عن المظاهرة، و البنوّة عن الدعيّ، أثبت الابوة و الأولوية في جميع الامور بالمؤمنين لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: اَلنَّبِيُّ أَوْلى و أجدر بِالْمُؤْمِنِينَ في جميع الامور الدينية و الدنيوية مِنْ أَنْفُسِهِمْ لكونه أعلم بمصالحهم و مفاسدهم، و أشفق عليهم منها، فيجب أن يبذولها دونه، و يتّبعوه في كلّ ما يدعوهم إليه، و لا يدعوهم إلاّ إلى ما فيه نجاتهم و فلاحهم و رشدهم و فوزهم، كما جاء في الحديث «مثلي و مثلكم، كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الفراش و الجنادب (1)يقعن فيها، و هو يذبّ عنها، و أنا آخذ بحجزكم (2)عن النار، و أنتم تفلتون من يدي، و تطلبون الوقوع في النار بترك ما أمرت به، و ارتكاب ما نهيت عنه» (3).

و في الحديث: «ما من مؤمن إلاّ و أنا أولى به في الدنيا و الآخرة من أنفسهم و من آبائهم» (4).

و في آخر: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه و ولده و ماله و الناس أجمعين» (5)

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، و عليّ أولى به من بعدي» . فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: «قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: من ترك دينا أو ضياعا فعليّ، و من ترك مالا فلورثته. فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، و ليس له على عياله أمر و لا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة، و النبي و أمير المؤمنين و من بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم، و ما كان سبب إسلام عامة اليهود إلاّ من بعد هذا القول من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّهم آمنوا على أنفسهم و عيالاتهم» (6).

عن بعض العامة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نشاور آباءنا و امّهاتنا، فنزلت الآية (7).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السّلام: «أنا و أنت أبوا هذه الامّة» (8).

ثمّ أثبت امومة المؤمنين لأزواجه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ و بمنزلة اللاتي ولدنهم في وجوب التعظيم، و حرمة النّكاح دون النظر و الخلوة و الميراث، فانهنّ في جميع ما ذكر بمنزلة الأجنبيات.

ص: 151


1- . الجنادب: جمع جندب-بفتح الدال و ضمّها-نوع من الجراد.
2- . الحجز: جمع حجزة، و هي موضع شدّ الإزار من الوسط، و موضع التكّة من السراويل.
3- . تفسير روح البيان 7:138.
4- . تفسير روح البيان 7:139.
5- . تفسير روح البيان 7:139.
6- . الكافي 1:335/6، تفسير الصافي 4:167.
7- . تفسير روح البيان 7:138.
8- . تفسير روح البيان 7:140.

عن الباقر عليه السّلام في حديث: «و أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحرمة مثل امّهاتهم» (1).

و عن القائم عليه السّلام: أنّه سئل عن معنى الطلاق الذي فوّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكمه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إن اللّه تقدّس اسمه عظّم شأن نساء النبيّ فخصّهن بشرف الامّهات، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا الحسن، إنّ هذا لشرف باق ما دمن على الطاعة فأيّتهنّ عصت اللّه بعدي بالخروج عليك، فأطلقها في الأزواج، و أسقطها من تشرّف الامّهات و من (2)شرف امومة المؤمنين» (3).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ابوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله للمؤمنين و أولويته بهم من أنفسهم، و امومة أزواجه لهم، و أخوّتهم في الدين، و كان في بدو الهجرة التوراث بينهم بتلك الاخوة، نسخ اللّه حكم التوارث بينهم بعد قوّة الاسلام بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ و ذوو القرابات النسبية بَعْضُهُمْ أَوْلى و أحرى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوارث فِي كِتابِ اَللّهِ و فرضه، أو اللّوح المحفوظ، أو القرآن المنزل منه مِنْ الأنصار اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ منهم. و قيل: هذا بيان لاولى الأرحام (4).

و على أيّ تقدير، فلا يرث غير القرابات النسبية من أموالكم أيّها المؤمنون شيئا، و لا يجوز لهم أن يأخذوا منها بعد موتكم إِلاّ في صورة أَنْ تَفْعَلُوا أنتم، و تحسنوا في حياتكم إِلى أَوْلِيائِكُمْ و أحبّائكم من الأقارب أو الأجانب بالإيصاء مَعْرُوفاً و شيئا حسنا عند العقل و الشرع، فانّهم يأخذون ما اوصي لهم من الأموال إذا لم يكن زائدا على الثّلث.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل: أيّ شيء للموالي؟ فقال: «ليس لهم من الميراث إلاّ ما قال اللّه: إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» (5).

كانَ ذلِكَ المذكور من أولوية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بامته، و امومة أزواجه للمؤمنين، و توارث ذوي الأرحام فِي اَلْكِتابِ و اللّوح المحفوظ، أو القرآن مَسْطُوراً و مكتوبا.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ لمّا أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتقوى منه، و عدم الاعتناء بالكفار، و التوكّل عليه، و التوجّه بقلبه إليه، و جعل له الولاية العامة، و وجوب الإطاعة، و الامومة لأزواجه، بيّن نبوّته الموجبة لجميع ذلك، و عظم

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ اَلصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)

ص: 152


1- . الكافي 5:421/4، تفسير الصافي 4:167.
2- . في كمال الدين: فأطلق لها في الأزواج و أسقطها من.
3- . كمال الدين:459/21، تفسير الصافي 4:167.
4- . تفسير أبي السعود 7:91، تفسير روح البيان 7:140.
5- . الكافي 7:135/3، تفسير الصافي 4:168.

شأنه المقتضية لاعطائه الولاية المطلقة بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا. قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد وقت أخذنا (1)مِنَ اَلنَّبِيِّينَ كافة حين تحميلهم الرسالة في الذرّ، أو في هذا العالم مِيثاقَهُمْ و عهودهم بتبليغ الرسالة و تحمّل أعبائها.

ثمّ خصّ اولي العزم منهم بالذّكر مع دخولهم في النبيّين، تعظيما لهم، مقدّما لذكر حبيبه إعلانا بشرفه عليهم بقوله: وَ مِنْكَ يا حبيبي وَ مِنْ نُوحٍ الذي هو أوّل اولي العزم، و أصل بني آدم بعد الطّوفان وَ إِبْراهِيمَ الذي يفتخر به العرب وَ مُوسى الذي يتديّنون بدينه اليهود وَ عِيسَى الذي تنسب النصارى دينهم إليه، و لم يكن له أب، و لذا يكنى ب اِبْنِ مَرْيَمَ.

ثمّ أكّد سبحانه أخذ الميثاق بقوله: وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً و عهدا أكيدا تعقبه المسؤولية الشديدة لِيَسْئَلَ اللّه هؤلاء اَلصّادِقِينَ في دعوة النبوة، و الإخبار عن اللّه عَنْ علّة صِدْقِهِمْ كان لوجه اللّه، أو للرياء و طلب الدنيا وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ و المكذّبين لهم في الآخرة عَذاباً أَلِيماً.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 9 الی 13

ثمّ حثّ المؤمنين على تخليص الايمان بذكر معجزة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التي كانت دليلا على صدقه، و نعمة عليهم، و لطفا من اللّه بهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ و اشكروها إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ و أحزاب من قريش و غطفان و كنانة و بني سليم و أشجع و اليهود و غيرهم، ليستأصلوكم، فدعا الرسول و المؤمنون فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ إجابة لدعائكم و إنجازا لما وعدكم رسولكم رِيحاً باردة يقال لها الصّبا في ليلة شاتية، فأحصرتهم، و لم يجاوز معسكرهم، و سفت التراب في وجوههم وَ جُنُوداً من الملائكة، و أنتم لَمْ تَرَوْها فقلعت أوتار خيامهم، و قطعت

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ اَلْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ اَلظُّنُونَا (10) هُنالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً (13)

ص: 153


1- . تفسير أبي السعود 7:91، تفسير روح البيان 7:141.

أطنابها، و أطفأت نيرانهم، و أكفأت قدورهم، و نفثت الرّعب في قلوبهم، و كبّرت في جوانب معسكرهم حتى سمعوا التكبير و قعقعة السلاح، و اضطربت خيولهم حتى قال رؤساؤهم: النّجا النّجا، فانهزموا ليلا من غير قتال، و تركوا ما استثقلوا من أمتعتهم وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق، و تدبير أمر الحرب، و ترتيب أسبابه، و الثبات على الايمان، و الجدّ في الصالحات بَصِيراً و شاهدا، فيجازيكم عليه أفضل الجزاء. و اعلم أنّ الآية و ما بعدها نزلت في غزوة الأحزاب.

قصة غزوة الأحزاب

روي أنّه كان في المدينة و نواحيها بطنان من اليهود؛ أحدهما بنو قريظة، و الآخر بنو النّضير، فلمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة صالحهم على أن يكونوا معه، و لا يكونوا عليه، فذهب الرسول صلّى اللّه عليه و آله يوما مع بعض أصحابه إلى قرية بني النّضير يقال لها زهرة لحاجة، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم، فعزموا على قتله صلّى اللّه عليه و آله، و صعد بعضهم على سطح بيت ليلقي عليه صخرة، فأخبره جبرئيل بما أرادوا، فقام و رجع إلى المدينة، فلمّا رأى منهم نقض العهد، أرسل إليهم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من أرض المدينة. فامتنعوا، فخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه لمحاربتهم، فحاصرهم ستّ ليال، و قذف اللّه في قلوبهم الرّعب. فسألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله أن يجليهم و يكفّ عن دمائهم، فقبل عليه السّلام مسألتهم و أجلاهم، فسار سيّدهم حييّ بن أخطب و جمع من كبرائهم إلى قريش، و حرّضوهم على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوافقهم قريش.

ثمّ ساروا إلى غطفان و قبائل اخر، و حرّضوهم على ذلك، فتجهّزت قريش و من اتّبعهم من القبائل، و عقدوا اللواء في دار الندوة، و كان مجموع الأحزاب من قريش، و غطفان، و بني مرّة، و بني أشجع، و بني أسد، و بني سليم، و كنانة، و يهود بني قريظة، و بني النضير، و غيرهم قدر اثني عشر ألفا، و قائد الكلّ أبو سفيان.

فأتى ركب من خزاعة في أربع ليال إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبروا به، فاستشار صلّى اللّه عليه و آله أصحابه في أمر العدوّ هل يبرزون من المدينة، أو يقيمون فيها.

قصة حفر الخندق

و ذكر إعجاز

النبي صلّى اللّه عليه و آله

فقال سلمان: يا رسول اللّه، إنّا كنّا إذا تخوّفنا لعدوّ بأرض فارس، حفرنا علينا خندقا، يكون بيننا و بينهم حجاب، و تكون الحرب في مواضع معروفة، و لا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: أشار سلمان بصواب، فسار صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه-و هم ثلاثة آلاف (1)، أو سبعمائة (2)-إلى احد، أو إلى جبل سلع، و جعل أسفله المعسكر.

ص: 154


1- . تفسير روح البيان 7:143.
2- . تفسير القمي 2:177.

و في رواية: أمر بمسجد في ناحية احد إلى راتج (1)، و جعل على كلّ عشرين أو ثلاثين خطوة قوما من الأصحاب يحفرونه، و بدأ بنفسه، فأخذ معولا، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، و عليّ عليه السّلام ينقل التّراب، حتى عرق النبي صلّى اللّه عليه و آله و عيي، و قال: «لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللهمّ اغفر للأنصار و المهاجرين» . فلمّا نظر الناس إليه اجتهدوا في الحفر (2)، و كلّما عرض لهم جبل شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيجيء و يضرب المعول، فيصير كثيبا مهيلا، قال سلمان: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ، فاخذ المعول من يدي و قال: «بسم اللّه» (3).

و في رواية: دعا بماء فغسل وجهه و ذراعيه، و مسح على رأسه و رجليه، ثمّ شرب و مجّ من ذلك الماء في فيه، ثمّ صبّه على ذلك الحجر، ثمّ أخذ معولا فبرقت برقة (4)، و كسر ثلث الحجارة، فخرج منها نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف الليلة المظلمة، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «اعطيت مفاتيح اليمن، و اللّه إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنّها أنياب الكلاب» (5). ثمّ و في رواية: «فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن (6)، ثمّ ضرب اخرى قطع ثلثا آخر، و برق منها برقة، فخرج نور من قبل الرّوم، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «اعطيت مفاتيح الشام، و اللّه لابصر قصورها» (7). و في رواية نظرنا فيها إلى قصور الشام (8)، ثمّ ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر، و برق منها برقة، فخرج نور من قبل فارس، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «اعطيت مفاتيح فارس، و اللّه إنّي لابصر قصور الحيرة و مدائن كسرى، كأنّها أنياب كلاب، و جعل يصف لسلمان أماكن فارس، و يقول سلمان: صدقت. ثمّ قال: «هذه فتوح يفتحها اللّه بعدي يا سلمان» (9).

و في رواية جابر: فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، فقال رسول اللّه: «أما إنّه سيفتح اللّه عليكم هذه المواضع التي برق فيها البرق، ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل، فقال جابر: فعلمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جائع لمّا رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول اللّه، هل لك في الغذاء؟ قال: «ما عندك؟» قلت: عناق (10)و صاع من شعير. فقال: تقدّم و أصلح ما عندك.

قال جابر: فجئت إلى أهلي، فأمرتها فطحنت الشعير، و ذبحت المعز و سلختها، و أمرتها أن تخبز

ص: 155


1- . راتج: أطمة (حصن) من آطام المدينة. «الروض المعطار:266» ، و في النسخة: رابح.
2- . تفسير القمي 2:177.
3- . تفسير روح البيان 7:144.
4- . تفسير القمي 2:178.
5- . تفسير روح البيان 7:144.
6- . تفسير القمي 2:178.
7- . تفسير روح البيان 7:145.
8- . تفسير القمي 2:178.
9- . تفسير روح البيان 7:145.
10- . العناق: الانثى من المعز.

و تطبخ و تشوي، فلمّا فرغت جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: بأبي أنت و اميّ يا رسول اللّه، قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت. فقام عليه السّلام إلى شفير الخندق، و قال: يا معاشر المهاجرين و الأنصار، أجيبوا جابر. قال جابر: و كان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم، ثمّ لم يمرّ بأحد من المهاجرين و الأنصار إلاّ قال: «أجيبوا جابرا» (1). و في رواية: كان على الخندق ثلاثة آلاف رجل (2).

قال جابر: فتقدّمت و قلت لأهلي: قد أتاك رسول اللّه بما لا قبل لك به. فقالت: أعلمته أنت بما عندك؟ قلت: نعم قالت: فهو أعلم بما أتى. فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر في القدر، ثمّ قال: «أغرفي و أبقي» ثمّ نظر في التنّور، ثمّ قال: «أخرجي-أو اخبزي-و أبقي» ثمّ دعا بصحفة فثرد فيها و تمرّق، و قال: «يا جابر، أدخل عليّ عشرة عشرة» فأدخلت عشرة فأكلوا حتى نهلو، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم. ثمّ قال: «علي بالذّراع» فأتيته به، فأكلوه. ثمّ قال: «أدخل عشرة» فأدخلتم، فأكلوا حتى نهلوا، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم، ثمّ قال: «عليّ بالذّراع» فأكلوا و خرجوا، ثمّ قال: «عليّ بعشرة» فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا، و ما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم، ثمّ قال: «عليّ بالذراع» فأتيته، فقلت: يا رسول اللّه، كم للشاة من ذراع؟ قال: «ذراعان» . فقلت: و الذي بعثك بالحقّ، لقد أتيتك بثلاثة. فقال: «أما لو سكتّ-يا جابر-لأكل الناس كلّهم من الذراع» قال جابر: فأقبلت ادخل عشرة عشرة حتى أكلوا كلّهم، و بقي لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياما (3).

و في رواية، قال عليه السّلام لأهلي: «كلي و أهدي» فأهديت منه إلى أقربائي (4)فأكلوا منه حتى شبعوا.

فلمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حفر الخندق في ستّة أيام، أقبلت قريش و من معهم من الأحزاب يوم فراغهم أو بعد ثلاثة أيام، فلمّا نزلوا العقيق، جاء حييّ بن أخطب إلى بني قريظة، و كانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأغواهم و حملهم على نقض العهد، فتجهّزوا لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أرادو الإغارة على المدينة بمعاونة طائفة من قريش، فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فعظم البلاء، و صار الخوف على النساء و الذراري أشدّ ممّا على أهل الخندق، فبعث صلّى اللّه عليه و آله ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة (5)، و يأمنون أهلها.

قأقبلت قريش و الأحزاب كما حكاه سبحانه بقوله: إِذْ جاؤُكُمْ أيها المؤمنون مِنْ الوادي الذي كان من فَوْقِكُمْ و أعلى معسكركم وجهة شرقية، و هم عطفان و من معهم من أهل نجد

ص: 156


1- . تفسير القمي 2:178.
2- . تفسير أبي السعود 7:92، تفسير روح البيان 7:144.
3- . تفسير القمي 2:178.
4- . مجمع البيان 8:535.
5- . تفسير روح البيان 7:145.

و اليهود وَ مِنْ الوادي الذي كان في أَسْفَلَ و أنزل مِنْكُمْ و من معسكركم وجهة غربية، و هم قريش و من معهم من القبائل وَ اذكر إِذْ زاغَتِ و تحيّرت اَلْأَبْصارُ وَ شخصت بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ من الرّعب و الخوف.

قيل: إنّ الرئة تنتفخ من شدّة الرّعب، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة (1)و منتهى الحلقوم، و لو لا ضيقه بها لخرجت من الجوف. و المراد أنّه كادت أن تبلغ القلوب الحناجر خوفا على أنفسهم من الأحزاب الذين كانوا أضعافهم، و على ذراريهم في المدينة من اليهود الذين نقضوا عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أرادوا الإغارة عليهم فيها.

وَ تَظُنُّونَ أيّها المظهرون للايمان بِاللّهِ الذي وعدكم النصر اَلظُّنُونَا المختلفة، فانّ المخلصين ظنّوا إنجاز وعده و امتحانهم، و ظنّ الضعاف القلوب و الايمان و المنافقون القتل و الأسر و الغارة و خلف اللّه وعده أو كذبه هُنالِكَ و في ذلك الوقت، أو الموطن اُبْتُلِيَ و اختبر اَلْمُؤْمِنُونَ بالحصر و الرّعب، و ظهر المخلص من المنافق، و الثابت من المتزلزل وَ زُلْزِلُوا و اضطربوا زِلْزالاً و اضطرابا شَدِيداً و أزعجوا و حرّكوا إزعاجا و حراكا قويا من شدّة الفزع.

وَ اذكر إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ و مسرّو الكفر كمعتّب بن قشير و أتباعه، وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف الايمان، أو الشكّ لمّا رأوا قوّة العدو و شوكتهم، أو حفر الخندق مع وعده صلّى اللّه عليه و آله بفتح الممالك ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ بالنصر و الغلبة و إعلاء الدين إِلاّ غُرُوراً و وعدا باطلا، أو إيقاعا في الخطر و المهلكة بالخدعة،

وَ اذكر إِذْ قالَتْ فرقة من المنافقين و طائِفَةٌ مِنْهُمْ كأوس بن قبطي و تابعيه في الرأي لأهل المدينة: يا أَهْلَ يَثْرِبَ و سكّان المدينة لا مُقامَ لَكُمْ في معسكر محمد، و لا يصحّ توقّفكم فيه مع كثرة العدوّ و وضوح هلاككم بأيديهم فَارْجِعُوا إلى منازلكم بالمدينة، و احفظوا أنفسكم من القتل و الأسر، و أموالكم من النهب، و اتركوا محمدا بين أعدائه حتى يفعلوا به ما أرادوا وَ يَسْتَأْذِنُ في الرجوع فَرِيقٌ مِنْهُمُ كبني حارثة و بني سلمة اَلنَّبِيَّ حفظا لخاطره احتياطا، و تحصيلا لرضاه عنهم، و هم يَقُولُونَ اعتذارا من الرجوع: يا رسول اللّه إِنَّ بُيُوتَنا و منازلنا في المدينة عَوْرَةٌ و مختلّة و خربة يخاف منها العدوّ و السّرّاق، لإمكان دخولهم فيها بسهولة، فنرجع و نسدّ خللها، و نعمّر خرابها و نحصّنها من الدخول فيها، ثمّ نرجع إلى معسكرك، و نكون معك.

ص: 157


1- . تفسير أبي السعود 7:93، تفسير روح البيان 7:148.

قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأذّن لهم في الرجوع (1)، فردّهم اللّه و أكذب عذرهم بقوله: وَ ما تلك البيوت، و ليست هِيَ بِعَوْرَةٍ و مختلّة، بل هي معمورة حصينة محرزة.

عن الصادق عليه السّلام: «بل هي رفيعة السّمك حصينة» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «كانت بيوتهم في أطراف البيوت حيث ينفرد الناس، فأكذبهم اللّه» (3)بقوله: إِنْ يُرِيدُونَ بقولهم ذلك و ما يقصدون من عذرهم إِلاّ فِراراً من القتال حبّا للحياة، و تكذيبا للرسول في وعده بالنصر.

قيل: قد صحّ أنّه فرّ إلى المدينة كلّ من في قلبه مرض، و بقي مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله أهل اليقين (4).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ بيّن سبحانه شدّة اشتياقهم إلى الكفر بقوله: وَ لَوْ دُخِلَتْ بيوتهم و هم فيها، و كان الدخول عَلَيْهِمْ مِنْ جميع أَقْطارِها و جوانبها لكثرة الخلل فيها ثُمَّ سُئِلُوا من قبل طائفة اخرى كافرة، و طلبوا منهم اَلْفِتْنَةَ و الرجعة إلى الشّرك و الكفر، و اللّه لَآتَوْها و أعطوها السائلين و أجابوهم إليها غير مبالين بما دهاهم من الداهية و الغارة وَ ما تَلَبَّثُوا باجابة الفتنة، و ما تمكّثوا بِها زمانا إِلاّ زمانا يَسِيراً و قليلا قدر ما يسمعون السؤال و يردّون الجواب فضلا عن التعلّل باختلال البيوت عند سلامتها، كما فعلوا الآن، و ما ذلك إلا لبغضهم للاسلام و أهله، و حبّهم للكفر و أهله،

وَ هم و اللّه لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اَللّهَ مِنْ قَبْلُ حين انهزموا يوم احد، و نزل فيهم آيات اللّوم و العتاب، أنّهم في جهاد الكفّار لا يُوَلُّونَ اَلْأَدْبارَ و لا يتركون العدوّ في قتال خلف ظهورهم، و لا يفرّون منه كما فرّوا في ذلك اليوم، و مع ذلك فرّوا في هذه الوقعة، و يستأذنوك في الرجوع نقضا لذلك العهد وَ الحال أنّه كانَ عَهْدُ اَللّهِ يوم القيامة مَسْؤُلاً عنه هل و في به أو نقض، و يعاقب على نقضه.

وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاّ يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اَللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ اَلْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اَللّهِ مَسْؤُلاً (15)

ص: 158


1- . تفسير روح البيان 7:151.
2- . مجمع البيان 8:545، تفسير الصافي 4:169، و سمك البيت: سقفه.
3- . تفسير العياشي 2:250/1866، تفسير الصافي 4:169.
4- . تفسير روح البيان 7:149.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بلومهم على لغوية عملهم بعد بيان ضرره بقوله: قُلْ يا محمد لهم: لو فرض أنّه لا عقوبة على نقض عهد اللّه و عصيانه لَنْ يَنْفَعَكُمُ و لا يفيد في سلامتكم و طول عمركم اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ حتف الأنف أَوِ اَلْقَتْلِ بالسيف إذا قدّر كلّ واحد منهما لكم في وقت معين، و جرى عليه القلم، فأنّه لا رادّ لقضاء اللّه، و لا محيص عمّا خطّ بالقلم وَ لو فرض أنّ الفرار نفعكم في تأخير آجالكم إِذاً لا تُمَتَّعُونَ و لا تنفعون بالحياة و لذائذ الدنيا إِلاّ زمانا أو تمتّعا قَلِيلاً فانّ عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في غاية القلّة، و لا بد لكلّ نفس من الخروج منها.

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17)

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتقرير عدم نفع الفرار بقوله: قُلْ يا محمد للمنافقين مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ و يحفظكم مَنْ حكم اَللّهِ و قضائه إِنْ أَرادَ اللّه بِكُمْ سُوءاً و شرّا، كالهزيمة و القتل و الأسر و نحوها أَوْ [من]

يصيبكم بسوء إن أَرادَ اللّه بِكُمْ رَحْمَةً و نعمة، كالغلبة على العدوّ و الغنيمة و الشرف و السلامة و نحوها.

ثمّ قرّر سبحانه عدم عاصمية غيره بقوله: وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه وَلِيًّا و محبّا ينفعكم لمحبّته إياكم وَ لا نَصِيراً و معينا يدفع عنكم السوء إذا أتاكم.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 18 الی 20

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الذين كانوا يصرفون المسلمين عن الجهاد و نصرة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ و يعرف اَلْمُعَوِّقِينَ و المثبّطين للناس عن نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دينه، و الصارفين لهم عن سلوك طريق كلّ خير، و هم المنافقون مِنْكُمْ أيّها المسلمون، وَ يعلم اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ و موافقيهم في الكفر و النفاق من أهل المدينة: هَلُمَّ و اقربوا إِلَيْنا و احضروا عندنا، و فيه دلالة على أنّهم حين قولهم هذا، كانوا خارجين من معسكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متوجّهين نحو المدينة، فرارا من الزّحف، و لو كانوا في المعسكر يعتذرون و يتأخّرون، ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنّهم معهم وَ لا يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ و الحرب و لا يقاتلون الأعداء إِلاّ إتيانا، أو قتالا قَلِيلاً أو قليلا منهم حال كونهم

ص: 159

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الذين كانوا يصرفون المسلمين عن الجهاد و نصرة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ و يعرف اَلْمُعَوِّقِينَ و المثبّطين للناس عن نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دينه، و الصارفين لهم عن سلوك طريق كلّ خير، و هم المنافقون مِنْكُمْ أيّها المسلمون، وَ يعلم اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ و موافقيهم في الكفر و النفاق من أهل المدينة: هَلُمَّ و اقربوا إِلَيْنا و احضروا عندنا، و فيه دلالة على أنّهم حين قولهم هذا، كانوا خارجين من معسكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متوجّهين نحو المدينة، فرارا من الزّحف، و لو كانوا في المعسكر يعتذرون و يتأخّرون، ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنّهم معهم وَ لا يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ و الحرب و لا يقاتلون الأعداء إِلاّ إتيانا، أو قتالا قَلِيلاً أو قليلا منهم حال كونهم

أَشِحَّةً و بخلاء عَلَيْكُمْ بالمعاونة، أو الانفاق في سبيل اللّه، أو بظفركم و اغتنامكم لا يريدون أن يكونا لكم.

قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي اَلْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً (20)ثمّ بيّن سبحانه شدّة جبنهم بقوله: فَإِذا جاءَ اَلْخَوْفُ من العدوّ بأن حملوا على عسكر المسلمين رَأَيْتَهُمْ يا محمد في تلك الحالة يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ التجاء بك، و هم من شدّة الجبن تَدُورُ و تتحرّك أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم يمينا و شمالا كَالَّذِي و التقدير كدوران عين الشخص الذي يُغْشى عَلَيْهِ و تعرض له (1)الغشوة و زوال الشّعور و الفهم مِنَ معالجة سكرات اَلْمَوْتِ خوفا و رعبا، فلا يقدر على النّزال و القتال فَإِذا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ بانكسار العدوّ و الظّفر عليهم، و جمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ و آذوكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ و أقوال خشنة و كلمات سيئة، كإظهار المنّة عليكم بالمساعدة و القتال معكم بقولهم: لو لم نكن معكم لما هزمتم العدوّ، و ما نجيتم من القتل بسيوفهم، فبنا غلبتموهم و نصرتم عليهم، فوفّروا حظّنا من الغنائم، و إنّما قالوا ما قالوا لكونهم أَشِحَّةً و حريصين عَلَى اَلْخَيْرِ أو المال، أو بخلاء على المال، بأن يوفّر عليكم القسمة، مع كونهم راضين في أول القتال من الغنيمة بالإياب، فهم قليلو الخير في الحالين، كثيرو الشرّ في الوقتين، لكونهم بخلاء قبل القتال و بعده أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة، و إن أظهروا الايمان فَأَحْبَطَ اَللّهُ و أبطل أَعْمالَهُمْ الحسنة لعدم الإخلاص وَ كانَ ذلِكَ الإحباط، عَلَى اَللّهِ يَسِيراً و سهلا، فلمّا نظرت قريش إلى الخندق قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها (2)، فنزلوا بمجمع الأسيال، فصفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه، و كان أكثر الحال بينهم و بين العدوّ الرمي بالنبال و الحصى، و أقبل نوفل بن عبد اللّه يوما، فضرب فرسه ليطفر الخندق فوقع فيه، فنزل إليه عليّ عليه السّلام فقطعه نصفين بسيفه (3).

قصة قتل أمير

المؤمنين عليه السّلام

عمرو بن عبد ودّ

ثمّ أقبل عمرو بن عبدودّ و هبيرة بن وهب و بعض الشجعان، فصاحوا بخيولهم حتى طفروا الخندق، و ركز عمرو رمحه في الأرض، و كان يعدّ بألف فارس، و كان عمره

ص: 160


1- . في النسخة: و يعرضه.
2- . تفسير القمي 2:182، تفسير الصافي 4:175.
3- . تفسير روح البيان 7:145.

تسعين سنة، فنادى: من يبارزني؟ ثمّ أقبل تجول فرسه و يرتجز و يقول:

و لقد بححت من النّدا *** ءبجمعكم: هل من مبارز؟

إلى آخره. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد. فوثب عليّ عليه السّلام فقال: «أنا له يا رسول اللّه» فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي هذا عمرو بن عبدودّ، فارس يليل» (1)فقال: «أنا عليّ بن أبي طالب» فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ادن منّي» فدنا منه، فعمّمه بيده، و دفع إليه سيفه ذا الفقار، و قال: «اللهمّ احفظه من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله» فذهب عليّ عليه السّلام و هو يهرول، و يقول:

«لا تعجلن فقد أتا *** ك مجيب صوتك غير عاجز» (2)

إلى آخره.

روى العامة و الخاصة أنّه لمّا برز عليّ عليه السّلام إلى عمرو قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «برز الايمان كلّه إلى الكفر كلّه» (3).

فقال عمرو: من أنت؟ قال: «أنا علي بن أبي طالب، ابن عمّ رسول اللّه و ختنه» فقال: و اللّه إن أباك كان لي صديقا، و إني لأكره أن اقتلك ما أمن ابن عمّك أن اختطفك برمحي، فأتركك شائلا بين السماء و الأرض، لا حيّ و لا ميت!

فقال له علي عليه السّلام: «إنّي احبّ أن أقتلك، و قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت في الجنّة و أنت في النار، و إن قتلتك فأنت في النار و أنا في الجنّة» فقال عمرو: كلتاهما لك، تلك قسمة ضيزى.

فقال عليّ عليه السّلام: «إني سمعت منك يا عمرو أنّك قلت لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلاّ أجبته إلى واحدة منها، و أنا أعرض عليك ثلاث» قال: هات. إلى أن قال: «فالثالثة أن تنزل من فرسك و تقاتلني راجلا حتى انابذك» فوثب عن فرسه و عرقبه، ثمّ بدا فضرب عليا عليه السّلام بالسيف على رأسه، فاتّقاه عليّ عليه السّلام بدرعه أو بدرقته فقطعها، و ثبت السيف على رأسه، فضربه عليّ عليه السّلام على موضع الرّداء من عنقه فسقط، فكبّر المسلمون، فعرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تكبيرهم أنّ عليّا قتل عمرا، فقال: «لا فتى إلاّ عليّ، لا سيف إلاّ ذو الفقار» (4).

و في رواية: قال عليّ عليه السّلام لعمرو: «أما كفاك أنّي بارزتك حتى استعنت عليّ بظهير؟ !» فالتفت عمرو إلى خلفه، فضربه عليّ عليه السّلام مسرعا على ساقيه فقطعهما فسقط، فجلس عليّ على صدره و ذبحه،

ص: 161


1- . يليل: موضع، و هو وادي ينبع، أو وادي الصفراء دوين بدر، و فارس يليل: لقب عمرو بن عبدودّ. «لسان العرب- يليل-11:740» .
2- . تفسير القمي 2:182، تفسير الصافي 4:175.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19:61، نهج الحق:217، كنز الفوائد 1:297، تأويل الآيات 2:451/11.
4- . تفسير القمي 2:184، تفسير الصافي 4:176، تفسير روح البيان 7:145.

و أخذ رأسه، و أقبل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الدماء تسيل من رأسه و تقطر من سيفه، و هو يقول:

«أنا عليّ و ابن عبد المطلب»

ثمّ هرب من كان مع عمرو (1).

و قيل: قتل الزبير هبيرة بن وهب، فبقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحاربهم خمسة عشر يوما، فلمّا رأى من أصحابه الجزع لطول الحصار، دعا اللّه و قال: «يا صريخ المكروبين، و يا مجيب دعوة المضطرين، اكشف همّي و غمّي و كربي، فانّك ترى ما نزل بي و بأصحابي» فبشّره جبرئيل أنّ اللّه يرسل عليهم ريحا و جنودا من الملائكة، فانهزم القوم كما ذكرنا سابقا، فبلغ خبر انهزامهم المدينة، و كان المنافقون الذين فرّوا من القتال،

و رجعوا إلى المدينة يَحْسَبُونَ لجبنهم أن اَلْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا و لم ينهزموا.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ بيّن سبحانه ثباتهم على الكفر مع مشاهدتهم هذه المعجزة بقوله: وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزابُ كرّة ثانية إلى المدينة و هم فيها يَوَدُّوا و تمنّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ و خارجون منها إلى البادية أو كائنون فِي اَلْأَعْرابِ و سكّان البادية هم يَسْئَلُونَ كلّ قادم من المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ و أخباركم، و ما جرى عليكم وَ لَوْ كانُوا في الكرّة الثانية أيضا فِيكُمْ ما قاتَلُوا أعداءكم إِلاّ قَلِيلاً خوفا من التعيير و ظهور نفاقهم.

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22)

ثمّ وعظ اللّه المسلمين بقوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيّها المسلمون فِي أفعال رَسُولِ اَللّهِ و أخلاقه و خصاله من الثبات في الجهاد، و تحمّل المشاقّ و الشدائد في جنب اللّه، و في مرضاته أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ و سنّة صالحة يحقّ التأسي و الاقتداء بها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ و ثوابه وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ و نعمه، أو مجيأه وَ ذَكَرَ اَللّهَ في جميع أوقاته و أحواله كَثِيراً بقلبه و لسانه، و لا يغفل عنه، فانّ المتأسّي بالرسول صلّى اللّه عليه و آله من قرن بين الرجاء المذكور و دوام الذكر الموجب لملازمة التقوى و الطاعة.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين و ضعفاء الايمان بالجبن و الفرار عن القتال؛ و تكذيب وعد اللّه

ص: 162


1- . تفسير القمي 2:184، تفسير الصافي 4:176.

و رسوله بالنصر و الغلبة على الأعداء، و نقض العهد، مدح المؤمنين المخلصين بالثبات في الحرب، و تصديق اللّه و رسوله في الوعد، و الوفاء بالعهد بقوله: وَ لَمّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ المخلصون اَلْأَحْزابَ من كفّار الأعراب و الجنود المجتمعة لمحاربة الرسول يوم الخندق قالُوا هذا الذي نرى من البلاء العظيم ما وَعَدَنَا اَللّهُ من قبل في كتابه بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا (1). إلى آخره، وَ وعدنا رَسُولُهُ بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «سيشتدّ الأمر عليكم باجتماع الأحزاب عليكم، و العاقبة لكم عليهم» (2)و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر» (3)وَ و نعترف بأنّه صَدَقَ اَللّهُ في وعده وَ رَسُولُهُ أيضا صدق في إخباره حيث ترى مطابقته للواقع وَ ما زادَهُمْ ما رأوه من الأحزاب إِلاّ إِيماناً باللّه و رسوله وَ تَسْلِيماً و انقيادا لأوامرهما و أحكامهما، لمّا علموا سعادة الدارين فيه.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ فصّل سبحانه حال المؤمنين المخلصين بقوله: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و بعضهم رِجالٌ كاملون في صفات الرجولية صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ و ثبتوا على العزم الراسخ على أداء ما جعلوا للّه على أنفسهم من الثبات على نصرة الرسول و مقاتلة أعداء اللّه، لإعلاء كلمة الدين فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ و وفى بنذره، و خرج عن عهدة ما التزم به، بأن ثبت في النّزال و قاتل الرجال لنصرة دين اللّه المتعال حتى قتل كحمزة بن عبد المطّلب، و عبيدة بن الحارث، و جعفر بن أبي طالب، و مصعب بن عمير، و أنس بن النّضر الخزرجي عمّ أنس بن مالك الأنصاري.

مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اَللّهُ اَلصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)روت العامة أنّ أنسا غاب عن بدر، فشهد احدا، فلمّا نادى إبليس: ألا إنّ محمدا قد قتل، مرّ بعمر و معه نفر فقال: ما يقعدكم؟ قالوا: قتل محمد. قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ ! قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثمّ جال بفرسه و حمل بسيفه، فوجد قتيلا و به بضع و ثمانون جراحة (2).

قيل: إنّ جماعة من الصحابة نذروا بعد وقعة احد أنّهم إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثبتوا و قاتلوا حتى يستشهدوا (3).

ص: 163


1- . البقرة:2/214. (2 و 3) . تفسير روح البيان 7:158.
2- . تفسير روح البيان 7:159.
3- . تفسير أبي السعود 7:98، تفسير روح البيان 7:158.

و قيل: إنّ النّذر استعير للموت؛ لأنّ الموت كنذر لازم في عنق كلّ حيّ (1).

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاء نذره، و يتوقّع وصول الشهادة إليه مع شدّة اشتياقه إليها، كأمير المؤمنين عليه السّلام فانّ اللّه أخّر شهادته إلى الوقت المعلوم الذي أخبره الرسول صلّى اللّه عليه و آله به.

روى الحاكم باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «فينا نزلت رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ و أنا و اللّه المنتظر» (2)و نسب العلامة في (نهج الحق) نزوله في عليّ عليه السّلام إلى العامة (3).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ قال: «لا يفرّوا أبدا فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي أجله و هو حمزة و جعفر بن أبي طالب وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أجله يعني عليا عليه السّلام» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث له مع يهودي-قال: «و لقد كنت عاهدت اللّه و رسوله أنا و عمّي حمزة و أخي جعفر و ابن عمّي عبيدة على أن نستشهد (5)للّه تعالى و لرسوله، فتقدّمني أصحابي و تخلّفت بعدهم لما أراد اللّه تعالى، فأنزل اللّه فينا: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا» الآية (6)وَ ما بَدَّلُوا عهدهم و ما غيّروه تَبْدِيلاً يسيرا بخلاف المنافقين فانّهم بدّلوا عهدهم تبديلا كثيرا، و نقضوا نقضا واضحا.

ردّ بعض العامة

أقول: و من العجب أنّ بعض العامة قال: و من ينتظر كعثمان و طلحة و غيرهما (7)، فانّهم مستمرّون على نذورهم، و قد قضوا بعضها و هو الثبات مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و منتظرون قضاء بعضها و هو القتال إلى الموت شهداء، مع أنّ الظاهر انتظار الشهادة في سبيل اللّه، و لم يرزقوا، لأنّ عثمان قتل في سبيل هواه بيد أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و طلحة قتل لمشاقّته مع إمام زمانه بيد أصحاب خليفة الرسول.

و عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن مؤمنان: مؤمن صدق بعهد اللّه و وفى بشرطه، و ذلك قول اللّه عز و جل: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ و ذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا و لا أهوال الآخرة، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له» الخبر (8).

و عنه عليه السّلام، قال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه فقال: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا الآية، إنّكم وفيتم بما أخذ اللّه عليه ميثاقكم من ولايتنا، و إنّكم لمّا تبدّلوا بنا غيرنا» (9).

ص: 164


1- . تفسير أبي السعود 7:98.
2- . مجمع البيان 7:549، تفسير الصافي 4:181.
3- . نهج الحق:196/42، شواهد التنزيل 2:1/627.
4- . تفسير القمي 2:188، تفسير الصافي 4:180.
5- . في الخصال و تفسير الصافي: على أمر وفينا به.
6- . الخصال:376/58، تفسير الصافي 4:180.
7- . تفسير البيضاوي 2:243، تفسير أبي السعود 7:98.
8- . الكافي 2:193/1، تفسير الصافي 4:181.
9- . الكافي 8:34/6، تفسير الصافي 4:181.

و عنه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، من أحبّك ثمّ مات فقد قضى نحبه، و من أحبّك و لم يمت فهو ينتظر» (1).

أقول: الأوّل تنزيل، و هاتان الروايتان تأويل، و إنّما فعلوا من الوفاء لِيَجْزِيَ اَللّهُ اَلصّادِقِينَ في عهدهم بِصِدْقِهِمْ و وفائهم به قولا و فعلا في الدنيا و الآخرة جزاء جزيلا وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنافِقِينَ بما ارتكبوا من الفرار و تخويف المسلمين و تحريضهم على الرجوع إلى المدينة إِنْ شاءَ تعذيبهم بأن لا يوفّقهم للتوبة و تخليص الايمان أَوْ يوفّقهم و يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بعد توبتهم إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً و ستورا للذنوب رَحِيماً بالمؤمنين، و منعما عليهم بالجنّة و النّعم الدائمة.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ بيّن سبحانه لطفه بالمؤمنين و إنجازه وعد النصر بقوله: وَ رَدَّ اَللّهُ بقدرته الأحزاب اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلى أوطانهم و هم كاظمون بِغَيْظِهِمْ و شدّة غضبهم، و الحال أنّهم لَمْ يَنالُوا و لم يصيبوا ما حسبوه خَيْراً لهم من الغلبة و الغنيمة مع غاية جدّهم فيهما وَ كَفَى اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ و رفع عنهم كلفة التصدّي له، بارسال الريح الشديدة، و إنزال الملائكة وَ كانَ اَللّهُ قَوِيًّا و قادرا على كسر شوكة الكافرين عَزِيزاً و غالبا على كلّ شيء

وَ أَنْزَلَ بني قريظة اَلَّذِينَ نقضوا عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تبعوا المشركين و ظاهَرُوهُمْ و عاونوهم على قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع كونهم مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ و المؤمنين بالتوراة التي فيها البشارة ببعثته و ذكر علائمه و صفاته مِنْ صَياصِيهِمْ و حصونهم و قلاعهم المحكمة وَ قَذَفَ اللّه و ألقى فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و الخوف منهم، بحيث سلّموا أنفسهم للقتل، و أهليهم و ذراريهم للأسر، فأنتم أيها المسلمون فَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ صبرا وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً آخر منهم

وَ أَوْرَثَكُمْ و ملّككم، كما تتمّلكون إرث الأقارب أَرْضَهُمْ التي كانوا مقيمين يها، و منتفعين بها بالزراعة و الغرس فيها وَ دِيارَهُمْ و حصونهم و بيوتهم وَ أَمْوالَهُمْ من المواشي و الأثاث و النقود و السّلاح و غيرها وَ أورثكم تقديرا أَرْضاً اخرى لَمْ تَطَؤُها و لم تضعوا إلى الآن أقدامكم فيها، كأرض فارس

وَ رَدَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ وَ كانَ اَللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)

ص: 165


1- . الكافي 8:306/475، تفسير الصافي 4:181.

و الرّوم و غيرهما من الممالك التي تفتحونها إلى يوم القيامة. و قيل: إنّ الأرض كناية عن فروج نساء تلك القبيلة وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ممّا شاهدتموه و مالم تشاهدوه قَدِيراً.

قصة بني قريظة

و كانت قصّة بني قريظه على ما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من الخندق في وقت الظهيرة، و صلّى الظهر، دخل بيت زينب، و أراد أن يغتسل من الغبار، أو غسلت شقّ رأسه الشريف، فأتاه جبرئيل على فرسه حيروم معتجرا بعمامة سوداء فقال: أوضعت السلاح يا رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدوّ، أو قال: ما وضعت الملائكة لأمتها، فكيف تضع لأمتك؟ إنّ اللّه يأمرك أن لا تصلّي العصر إلاّ ببني قريظة، فانّي متقدّمك و مزلزل بهم حصنهم، إنّا كنّا في آثار القوم نزجرهم حتى بلغوا حمراء الأسد (1)، فأمر صلّى اللّه عليه و آله بلالا فأذّن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلّين العصر إلاّ في بني قريظة (2).

و في رواية: فخرج صلّى اللّه عليه و آله، فاستقبله حارث بن النعمان، فقال له: «ما الخبر؟» فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، هذا دحية الكلبي ينادي في الناس: ألا لا يصلّين العصر أحد إلاّ في بني قريظة. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ذاك جبرئيل، ادعوا عليا» فجاء عليّ عليه السّلام فقال له: «ناد في الناس: لا يصلّين أحد العصر إلاّ في بني قريظة» فجاء أمير المؤمنين عليه السّلام فنادى فيهم، فبادروا إلى بني قريظة (3).

قيل: و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد لبس الدّرع و المغفر، و أخذ قناة بيده الشريفة، و تقلّد السيف، و ركب فرسه اللحيف، و أمير المؤمنين عليه السّلام بين يديه مع الراية العظمى، و الناس حوله قد لبسوا السلاح، و هم ثلاثة آلاف، و استعمل على المدينة ابن امّ مكتوم (4).

و في رواية: و أرسل عليا عليه السّلام متقدّما مع بعض الأصحاب، و مرّ صلّى اللّه عليه و آله بنفر من بني النجّار قد لبسوا السلاح، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هل مرّ بكم أحد» قالوا: نعم دحية الكلبي، و أمرنا بحمل السلاح، و قال لنا: يطلع عليكم رسول اللّه الآن. فقال: «ذلك جبرئيل» فلما دنا عليّ عليه السّلام من الحصون، و غرز اللواء عند أصل الحصون و أحاط بها، و كان حييّ بن أخطب لمّا انهزمت قريش دخل في حصن بني قريظة، فأشرف كعب بن أسد (5)شيخ بني قريظة على أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله يشتمهم و يقول في حقّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و أزواجه مقالات قبيحة، فسكت المسلمون و قالوا: بيننا و بينكم السيف.

فلمّا رأى علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقبلا أمر قتادة الأنصاري أن يلزم اللواء فاستقبله، و قال: يا

ص: 166


1- . حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة.
2- . تفسير روح البيان 7:161.
3- . تفسير القمي 2:189، تفسير الصافي 4:182.
4- . تفسير روح البيان 7:161.
5- . في النسخة: كعب بن أسيد، و كذا الذي يأتي بعدها.

رسول اللّه، لا عليك أن لا تدنوا من هؤلاء الأخابيث قال: «لعلّك سمعت منهم لي أذى؟» قال: نعم. قال: «إنهم لو رأوني لأذلّهم اللّه» (1)فلمّا دنا من حصونهم قال: «يا إخوان القردة و الخنازير، و عبدة الطاغوت، أتشتمونني أنا، إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم» فجعلوا يحلفون أنّهم لم يقولوا شيئا، و أشرف عليهم كعب من الحصن فقال: و اللّه يا أبا القاسم ما كنت جهولا، أو قال: ما كنت فحّاشا. فاستحيى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى سقط الرداء من ظهره حياء ممّا قال.

و كان حول الحصن نخل كثير، فأشار إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده، فتباعد عنه، و تفرّق في المفازة، فأنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العسكر حول حصنهم، فحاصرهم ثلاثة أيام لم يطلع أحد منهم رأسه، فلمّا كان ثلاثة أيام نزل عليه غزال بن شموئل (2)فقال: يا محمد، تعطينا ما أعطيت إخواننا من بني النضير، احقن دمائنا و نخلّي لك البلاد و ما فيها، و لا نكتمك شيئا؟» فقال: لا، «أو تنزلون على حكمي» فرجع. و بقوا خمسا و عشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، و قذف اللّه في قلوبهم الرّعب، و بكت النساء و الصبيان، و جزعوا جزعا شديدا، فقال كبيرهم كعب بن أسد: يا معشر اليهود، نبايع هذا الرجل و نصدّقه، فو اللّه لقد تبيّن لكم أنّه النبيّ الذي تجدونه في كتابكم، و أنّ المدينة دار هجرته، و ما منعنا من الدخول معه إلاّ الحسد للعرب، حيث إنّه لم يكن من بني إسرائيل، و لقد كنت كارها من نقض العهد، و لم يكن البلاء و الشؤم إلاّ من هذا الجالس-و أشار إلى حييّ بن أخطب-فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره-أي القرآن-.

فقال: فان أبيتم عليّ هذه الخصلة، فهلمّوا فلنقتل أبناءنا و نساءنا، ثمّ نخرج إلى محمد و أصحابه رجالا مصلتين السيوف حتى لا نترك وراءنا نسلا يخشى عليه إن هلكنا. فقالوا: كيف نقتل هؤلاء المساكين، فلا خير في العيش بعدهم إن لم نهلك.

فقال: فإن أبيتم فانّ الليلة ليلة السبت، و إنّ محمدا و أصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب منهم غفلة. فقالوا: كيف نفسد سبتنا، و نحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا.

فقال لهم عمرو بن سعدي: فان أبتيهم فاثبتوا على اليهودية، و أعطوا الجزية. فقالوا: نحن لا نقرّ للعرب بخراج في رقابنا، فانّ القتل خير من ذلك.

فلمّا اشتدّ عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأمر بالرجال فكتّفوا، و كانوا سبعمائة، و أمر بالنساء فعزلن، فقامت الأوس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: يا رسول اللّه، حلفاؤنا و موالينا من دون

ص: 167


1- . في تفسير روح البيان: رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا.
2- . في تفسير القي: غزال بن شمول.

الناس، نصرونا على الخزرج في المواطن كلّها، و قد وهبت لعبد اللّه بن ابي سبعمائة دارع و ثلاثمائة حاسر في صبيحة واحدة، و لا نكون أقلّ من عبد اللّه.

فلمّا أكثروا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لهم: «أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم» فقالوا: بلى. و هو من؟ قال: «سعد بن معاذ» قالوا: قد رضينا بحكمه، فأرسل صلّى اللّه عليه و آله في طلبه، و كان جريحا في وقعة الخندق، فأتوا به راكب حمار، و كان رجلا جسيما، و الأوس حوله يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في حلفائك و مواليك، فقد نصرونا في بعاث و الحدائق (1)، و المواطن كلّها. فلمّا أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا يأخذه في اللة لومة لائم. فقالت الأوس: و اقوماه، ذهبت و اللّه بنو قريظة آخر الدهر. فلمّا رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله قال للأنصار: «قوموا إلى سيّدكم» فقام الأنصار فأنزلوه، فبكت النساء و الصبيان إليه، فلمّا سكتوا قال لهم سعد: يا معشر اليهود، أرضيتم بحكمي فيكم؟ قالوا: نعم قد رضينا بحكمك، و رجونا نصفك و معروفك و حسن نظرك، فعاد عليهم القول فقالوا: بلي يا أبا عمرو، ثمّ التفت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إجلالا له فقال: ما ترى بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه؟ فقال: «احكم فيهم يا سعد، فقد رضيت بحكمك فيهم» فقال: قد حكمت يا رسول اللّه أن يقتل رجالهم، و تسمى نساءهم و ذراريهم، و تقسم غنائمهم و أموالهم بين المهاجرين و الأنصار. فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كبّر، و قال: «قد حكمت بحكم اللّه عزّ و جلّ فوق سبعة أرقعة» (2)ثمّ انفجر جرح سعد، فما زال ينزف الدم حتى قضى عليه.

فأمر النبيّ بأن يجمع ما وجد في حصونهم، فوجدوا فيها ألفين و خمسمائة سيف، و خمسمائة فرس، و ثلاثمائة درع، و ألفي رمح، و أثاثا و أواني كثيرة، و جمالا و مواشي و غيرها، و خمّس ذلك، و جعل عقارهم للمهاجرين، لأنّه ما كان لهم منازل، و أمر بالمتاع أن يحمل، و ترك المواشي هناك ترعى الشجر، ثمّ غدا إلى المدينة، و أمر بالاسارى أن يكونوا في دار اسامة بن زيد، و النساء و الذراري في دار ابنة الحارث النجارية، ثمّ خرج عن المدينة، و أمر بالخندق فحفروا فيه الحفائر، أو أمر بحفر اخدود بالبقيع، فلمّا أمسى أمر باخراج رجل رجل، فكان يضرب عنقه و يلقيه في الاخدود، و يردّ عليه التراب، و كان المتولّي للقتل أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير.

فأتوا بكعب بن أسد، و كان جميلا و سيما، فلمّا نظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: «يا كعب، أما نفعك

ص: 168


1- . بعاث و الحدائق: موضعان عند المدينة، كانت فيهما وقعتان بين الأوس و الخزرج قبل الاسلام، راجع: الكامل في التاريخ 1:676 و 680.
2- . يعني سبع سماوات، و كل سماء يقال لها رقيع.

وصية ابن الحواس الحبر الذكيّ الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر و الخنزير (1)، و جئت إلى البؤس و التمور، لنبيّ يبعث، مخرجه مكّة، و مهاجره هذه البحيرة، يجتزئ بالكسيرات و التميرات، و يركب الحمار العريّ، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ و الحافر؟» فقال: قد كان ذلك يا محمد، و لو لا أنّ اليهود يعيّروني أنّي جزعت عند القتل لآمنت بك، و لكنّي على دين اليهودية أحيى عليه و أموت. فأمر صلّى اللّه عليه و آله فقدّموه و ضربوا عنقه.

ثمّ قدّم حيي بن أخطب، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «كيف رأيت صنع اللّه يا فاسق؟» . فقال: و اللّه يا محمد ما ألوم نفسي في عداوتك، و لقد قلقلت كلّ مقلقل، و جهدت كلّ الجهد، و لكن من يخذله اللّه يخذل، فقدّم فضرب عنقه، فقلتهم النبي صلّى اللّه عليه و آله في البردين: الغداة و العشيّ، في ثلاثة أيام.

ثمّ بعث صلّى اللّه عليه و آله سعد بن زيد الأنصاري بسباياهم إلى نجد، فابتاع بهم خيلا و سلاحا، فقسّمها بين المسلمين، و نهى أن يفرّق بين الوالده و ولدها حتى يبلغ، و اصطفى لنفسه منهم ريحانة بنت شمعون و أسلمت، فأعتقها و تزوّج بها، و كانت هذه الوقعة سنة خمس من الهجرة (2).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وظيفة النبي صلّى اللّه عليه و آله في مقام عبوديته، و هي التقوى و اتّباع الوحي، و بيان سلطنته المطلقة على أنفس المؤمنين و أموالهم، و جلالة شأن نسائه، و ألطافة الخاصة بالمؤمنين به، بيّن وظيفته في المداراة مع أزواجه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ العظيم الشأن، و المخبر الصادق عن اللّه الملك المنّان قُلْ لِأَزْواجِكَ و نسائك اللاتي يكنّ الآن في حبالتك إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ السّعة و التنعّم فيها، و تردن زِينَتَها من الثياب الفاخرة و الحلّي و الحلل فَتَعالَيْنَ و اقبلن إلي أُمَتِّعْكُنَّ و اعطكنّ من مالي ما تنتفعن به وَ أُسَرِّحْكُنَّ و ارسلكنّ إلى بيوتكنّ و قبائلكنّ سَراحاً جَمِيلاً و إرسالا لا ضرار فيه و لا تنازع

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و تطلبن قربهما و رضاهما وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ و نعمها التي لا تعدّ الدنيا و ما فيها عندها بشيء فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ و هيّأ

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)

ص: 169


1- . في النسخة: الحمر و الحمير.
2- . تفسير روح البيان 7:162، تفسير القمي 2:189، تفسير الصافي 4:182.

لِلْمُحْسِناتِ و الصالحات مِنْكُنَّ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و جزاء جزيلا لا يعرف كنهه و غايته.

روى المفسرون أنّ نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طلبن منه زيادة النفقة و الكسوة و آذينه، لغيرة بعضهن من بعض، فآلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهنّ شهرا، فنزلت هذه الآية، و كنّ يومئذ تسعا: عائشة، و حفصة، و امّ حبيبة بنت أبي سفيان، و سودة بنت زمعة، و امّ سلمة، فهولاء من قريش، و صفية بنت حييّ بن أخطب و ميمونة بنت الحارث الهلالية، و زينب بنت جحش الأسدية، و جويرية بنت الحارث المصطلقية، فلمّا نزلت طلّقهنّ و خيّرهن في المفارقة و البقاء، فاخترن النبي صلّى اللّه عليه و آله (1).

و روى الواحدي (2)عن ابن عباس: أنّ حفصة نازعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يوما، و طلبت منه زيادة النفقة. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هل لك أن أجعل بيني و بينك رجلا؟» قالت: نعم. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمر، فلمّا حضر قال لها: «تكلّمي» فقالت حفصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تكلّم أنت و لا تقل إلاّ حقّا. فرفع عمر يده ليضربها، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كفّ عنها» فقال عمر: يا عدوّة اللّه ما يقول النبيّ إلاّ حقّا، و الذي بعثه بالحقّ لو لا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي. فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذهب في غرفة في المسجد، فمكث فيها شهرا، و منع نساءه أن يدخلن معه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حصل له الغنائم من خيبر، قالت نساؤه: أعطنا من هذه الغنيمة. قال: قسّمتها بين المسلمين بأمر اللّه، فغضبن و قلن: لعلّك تظنّ إن تطلّقنا لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوّجونا! فأنف اللّه عزّ و جلّ لرسوله، فأمره أن يعتزلهنّ، فاعتزلهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مشربة (4)امّ إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتى حضن و طهرن، ثمّ أنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية و هي آية، التخيير، فقامت امّ سلمة و قالت: قد اخترت اللّه و رسوله، فقمن كلّهن فعانقنه و قلن مثل ذلك» الخبر (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ زينب بنت جحش قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تعدل و أنت نبيّ! فقال: تربت يداك، إن لم أعدل، فمن يعدل؟ !» إلى أن قال: «فقالت: إنّك إن طلّقتنا وجدنا في قومنا أكفاءنا، فاحتبس الوحي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسعا و عشرين ليلة. قال: فأنف اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآيتين، فاخترن اللّه و رسوله، و لم يكن شيء، و لو اخترن أنفسهنّ لبنّ» (6).

ص: 170


1- . مجمع البيان 8:544، تفسير روح البيان 7:164.
2- . في النسخة: الراقدي.
3- . مجمع البيان 8:555.
4- . المشربة: الغرفة، و الصّفّة، و الأرض اللينة دائمة النبات.
5- . تفسير القمي 2:192، و تفسير الصافي 4:185، و لم ينسباها إلى الصادق عليه السّلام.
6- . الكافي 6:139/5، تفسير الصافي 4:185.

و في رواية: «فخيّرهن حتى انتهى إلى زينب بنت جحش، فقامت فقبّلته، فقالت: أختار اللّه و رسوله» (1).

و روى بعض العامة أنه صلّى اللّه عليه و آله بدأ بعائشة، و قال لها: «إنّي ذاكر لك أمرا احبّ أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» لما علم أنّ أبويها لا يأمرانها بفراقه قالت: و ما هو يا رسول؟ فتلا عليها الآية فقالت: أفي هذا أستأمر أبويّ! بل اختار اللّه و رسوله، فعجب صلّى اللّه عليه و آله من اختيارها، و فرح حتى ظهر الفرح على بشرته (2)ثمّ اختارت الباقيات اختيارها» (3).

أقول: فيه دلالة على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يحرز حبّها له، حيث قال: «لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» بل كان الظاهر منها اختيارها لنفسها، و لذا تعجّب من اختيارها و ظهور خلاف الظاهر منها، و ليعلم أنّ هذا التخيير من خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها، أبانت منه؟ قال: «لا، إنّما هذا شيء كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصة» الخبر (4).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ أدّب اللّه أزواجه و بيّن و ظيفتهنّ بقوله: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ و برتكب فعلة قبيحة ظاهرة القباحة من معاصي اللّه و مخالفة الرسول و إيذائه. عن ابن عباس: يعني النّشوز و سوء الخلق (5). عن الصادق عليه السّلام: «الفاحشة: الخروج بالسيف» (6). يُضاعَفْ لَهَا في القيامة اَلْعَذابُ عليها ضِعْفَيْنِ و مثلي عذاب غيرهنّ من النساء، لعلوّ شأنهنّ، و أتمّيّة الحجّة عليهنّ، و زيادة قبح عصيانهنّ، لاستلزامه إيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و توهينه وَ كانَ ذلِكَ التضعيف عَلَى اَللّهِ يَسِيراً و سهلا، لشدّة استحقاقهنّ له، و لا يمنعه زوجية النبيّ، بل هي سببه، و فيه مراعاة حقّه صلّى اللّه عليه و آله

وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ و يداوم على الطاعة لِلّهِ وَ رَسُولِهِ إيمانا بهما، و خضوعا لهما وَ تَعْمَلْ عملا صالِحاً و مرضيا لهما إلى آخر عمرهما نُؤْتِها و نعطها أَجْرَها و ثوابها مَرَّتَيْنِ مرّة

يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا اَلْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)

ص: 171


1- . الكافي 6:138/3، تفسير الصافي 4:186.
2- . في النسخة: من بشره.
3- . تفسير روح البيان 7:165.
4- . الكافي 6:137/3، و تفسير الصافي 4:186، عن الصادق عليه السّلام.
5- . تفسير روح البيان 7:166.
6- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:186.

على الطاعة، و مرّة على طلبهنّ رضا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إدخالهن السرور في قلبه الشريف كما قيل (1)، أو مرّة على الطاعة، و مرّة اخرى عليها لعلوّ شأنهنّ و زيادة معرفتهنّ و يقينهنّ، كما يكون عذابهنّ ضعفين (2)وَ أَعْتَدْنا و هيّأنا لَها مضافا إلى تضعيف الثواب رِزْقاً في الجنة يكون ذلك الرزق كَرِيماً و مرضيا، أو رفيع القدر و عظيم الخطر.

عن الباقر عليه السّلام قال: «كلّ ذلك في الآخرة حيث يكون الأجر يكون العذاب» (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 32 الی 33

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيبهنّ إلى الطاعة بتكرار ندائهن و نسبتهن إلى النبيّ الموجبة لاتّباع سيرته بقوله: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ و معاشريه لَسْتُنَّ في الشرف و علوّ المنزلة عند اللّه كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ الأجنبيات منه، المعاشرات لغيره، و لكن يكون الفضيلة و الشرف لكن إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ و خفتنّ اللّه، و احترزتن [من]

مخالفته و مخالفة رسوله، فانّ الاتصال بالنبيّ لا يفيد شرفا و فضلا إلاّ إذا انضمّ إليه التقوى (4)و الطاعة، فاذا علمتنّ ذلك فَلا تَخْضَعْنَ و لا تلن عند مكاملة الأجانب بِالْقَوْلِ و الكلام كما هو دأب النساء المطمّعات، فانّ ترقيق الصوت و تليين الخطاب من النساء يورث تهييج شهوة الرجال و طمعهم فيهنّ، فأنتنّ لا تفعلن ذلك فَيَطْمَعَ فيكن الرجل اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ من الميل إلى الفسق و الفجور وَ قُلْنَ عند الحاجة إلى التكلّم معهم قَوْلاً يكون عند الشرع و العقل مَعْرُوفاً و حسنا بعيدا من التّهمة و الإطماع

وَ قَرْنَ و استقررن فِي بُيُوتِكُنَّ و الزمنها.

يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)روي أنّ سودة بنت زمعة ما خطت باب حجرتها لصلاة و لا لحجّ و لا عمرة حتى اخرجت جنازتها من بيتها في زمان عمر، فقيل لها: لم لا تحجّ؟ فقالت: قيل لنا: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ (5)وَ لا تَبَرَّجْنَ و لا تكشفن الزينة و المحاسن للرجال، أو لا. . . (6)تَبَرُّجَ النساء في زمان اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى قيل: هو زمان نوح (7). و قيل: زمان إبراهيم، كانت النساء تلبس الثياب المطرزة باللآلئ، و يقمن في الطرق

ص: 172


1- . تفسير البيضاوي 2:245، تفسير أبي السعود 7:102، تفسير الصافي 4:186، تفسير روح البيان 7:168.
2- . تفسير روح البيان 7:168.
3- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:186.
4- . في النسخة: انضمّ بالتقوى.
5- . تفسير روح البيان 7:170.
6- . بياض في النسخة بمقدار كلمة واحدة، و لعلّها (تتبخترن) كما في (روح البيان) لأن المؤلف في معرض الأخذ عنه أو (لا تبرجن) إعادة للنص القرآني.
7- . تفسير أبي السعود 7:170، تفسير روح البيان 7:102

يعرضن أنفسهنّ على الرجال، و الاخرى: قيل بعثة نبينا (1).

و عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث-: «أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى عليه السّلام عاش بعد موسى عليه السّلام ثلاثين سنة، و خرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى-إلى أن قال-: و إنّ بنت أبي بكر ستخرج على عليّ في كذا و كذا ألفا من أمّتي، فيقاتلها و يقتل مقاتليها و يأسرها و يحسن أسرها، و فيها أنزل اللّه وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى يعني صفوراء بنت شعيب (2).

و قيل: إنّ الجاهلية الاولى قبل البعثة، و الاخرى في آخر الزمان (3).

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه-في رواية-: «ستكون جاهلية اخرى» (4).

و قيل: إنّ الأولى (5)بعد زمان إدريس (6). و الاخرى من بعثة نبينا (7). روي أنّ بطنين من ولد آدم سكن أحدهما السهل، و الآخر الجبل، و كان رجال الجبل صباحا و نسائهم دمائهم، و السهل بالعكس، فجاء إبليس و آجر نفسه من رجل سهلي، و كان يخدمه، فاتّخذ شيئا مثل ما يزمّر الرّعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من في السهل، فجاءوا يستمعون إليه، و اتّخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتبرّج النساء للرجال، و تزيّنوا لهن، فهجم رجل من أهل الجبل عليهم في عيدهم، فرأى النساء و صباحتهنّ، فأخبر أصحابه، فتحوّلوا إليهم، فنزلوا معهم، و ظهرت الفاحشة فيهنّ، و ذلك بعد زمان إدريس (8).

و قيل: إنّ الاولى هنا بمعنى القديمة (9)وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ المفروضة و نوافلها وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ الواجبة و المندوبة، و واضبن على العبادات البدنية و المالية وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 33

ثمّ التفت سبحانه من أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليه و إلى أهل بيته ترغيبا لهنّ إلى الصلاح و السّداد بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ بالارادة التكوينية التي لا تتخلّف عن المراد لِيُذْهِبَ و يزيل عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ و القدر من المعاصي و الاخلاق الذميمة يا أَهْلَ اَلْبَيْتِ و معدن الرسالة و مهبط الوحي

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)

ص: 173


1- . تفسير أبي السعود 7:170، تفسير روح البيان 7:102
2- . كمال الدين:27، تفسير الصافي 4:187.
3- . تفسير روح البيان 7:170.
4- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187.
5- . زاد في النسخة: و قيل أنها.
6- . تفسير روح البيان 7:170.
7- . تفسير روح البيان 7:170.
8- . تفسير روح البيان 7:170.
9- . تفسير روح البيان 7:170.

وَ يُطَهِّرَكُمْ و ينظّفكم منه تَطْهِيراً و تنظيفا بليغا، و يجعلكم معصومين.

و إنّما فسّرنا الإرادة بالتكوينية، لكونه في مقام بيان فضيلتهم على سائر الناس، و لا فضيلة للارادة التشريعية التي يشترك فيها المؤمن و الكافر، فاذا دلّت الآية على عصمة أهل البيت عليهم السّلام فلا جرم لا تشمل نساء النبي، للاجماع على عدم عصمتهنّ، و ظهور المعصية من أكثرهنّ خصوصا عائشة و حفصة.

بسط الكلام في آية

التطهير

و قد اتّفقت روايات العامة و الخاصة على أنّها نزلت في شأن الخمسة الطيبة، و في (نهج الحق) للعلامة: أجمع المفسّرون. و روى الجمهور كأحمد بن حنبل و غيره أنّها نزلت في [رسول اللّه]و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين (1).

و روى الثعلبي، عن امّ سلمة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان في بيتها، فأتته فاطمة عليها السّلام ببرمة فيها حريرة، فقال لها: «ادعي زوجك و ابنيك» فجاءتهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم كساء له خيبريا، فقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» قالت امّ سلمة: فأنزل اللّه فيهم إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الآية (2). فأخذ فضل الكساء فغشّاهم، ثمّ أخرج يده، فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصّتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» فأدخلت رأسي في البيت، و قلت: أنا معكم يا رسول اللّه؟ قال: «إنّك إلى خير» (3).

و روى الثعلبي، عن مجمّع، قال: ذهبت يوما مع امّي إلى عائشة، فقالت لها امّي: أرايت خروجك يوم الجمل، و قال اللّه: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ؟ فقالت: كان قدرا من اللّه، ثمّ سألتها عن عليّ فقالت: سألتني عن أحبّ الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و زوج أحبّ الناس إلى رسول اللّه، لقد رأيت عليا و فاطمة و الحسن و الحسين، و جمع رسول اللّه بثوب عليهم، ثمّ قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصّتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول اللّه، أنا من أهلك؟ فقال: «تنحّي، فانّك إلى خير» (4).

و عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «نزلت هذه فيّ و في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين» (5). إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة العامية (6).

ص: 174


1- . نهج الحق:173/3، مسند أحمد 1:331، و 3:285، و 6:292، شواهد التنزيل 2:19 و ما بعدها.
2- . زاد في النسخة: و في رواية.
3- . العمدة لابن بطريق:39/22، مجمع البيان 8:559.
4- . العمدة لابن بطريق:39/23، مجمع البيان 8:559.
5- . العمدة لابن بطريق:38/22، مجمع البيان 7:559.
6- . راجع: سنن الترمذي 5:351/3205 و:663/3787 و:669/3871، مسند أحمد 4:107 و 6:292 و 304، مصابيح السنة 4:183/4796، مستدرك الحاكم 2:416 و 3:148، الصواعق المحرقة:143، خصائص النسائي:4، اسد الغابة 4:29.

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «يعني الأئمة عليهم السّلام و ولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النبوة» (1).

و عنه عليه السّلام-في رواية-: «فلو سكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن من أهل بيته لادّعاه فلان و فلان، و لكن اللّه أنزل في كتابه لنبيّه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ الآية، و كان عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة، فأدخلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت الكساء في بيت امّ سلمة. ثمّ قال: اللهمّ إنّ لكلّ نبي أهلا و ثقلا، و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي. فقالت امّ سلمة: أ لست من أهلك؟ فقال: إنّك إلى خير، و لكن هؤلاء أهلي و ثقلي-إلى أن قال-الرجس: هو الشكّ، و اللّه لا نشكّ في ربّنا أبدا» (2).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الآية تنزل أولها في شيء، و أوسطها في شيء، و آخرها في شيء» ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من ميلاد الجاهلية» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في رسول اللّه، و عليّ بن أبي طالب، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام و ذلك في بيت امّ سلمة زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فدعا رسول اللّه أمير المؤمنين، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام، ثمّ ألبسهم كساء له خيبريا، و دخل معهم فيه، ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني، اللهمّ أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فقالت امّ سلمة: و أنا معهم يا رسول اللّه؟ قال: أبشري يا امّ سلمة، فانّك إلى خير» (4).

و في احتجاج علي عليه السّلام على أبي بكر قال: «فأنشدك اللّه ألي و لأهلي و ولدي آية التطهير من الرجس، أم لك و لأهل بيتك؟» قال: بل لك و لأهل بيتك، الخبر (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال في جمع من المهاجرين و الأنصار في المسجد في أيام خلافة عثمان: «أيّها الناس، أتعلمون أنّ اللّه عز و جل أنزل في كتابه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فجمعني و فاطمة و حسنا و حسينا، و ألقى علينا الكساء، و قال: اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي و لحمتي، يؤلمني ما يؤلمهم، و يخرجني ما يخرجهم، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، فقالت امّ سلمة: و أنا يا رسول اللّه؟ فقال: أنت-أو إنك-على خير، إنّما انزلت في، و في أخي، و في ابنتي، و في ابنيّ و في تسعة من ولد ابني الحسين خاصة، ليس معنا أحد غيرنا؟

ص: 175


1- . الكافي 1:350/54، تفسير الصافي 4:188، و فيهما: النبي صلّى اللّه عليه و آله، بدل النبوة.
2- . الكافي 1:227/1، تفسير الصافي 4:188.
3- . تفسير العياشي 1:95/64، تفسير الصافي 4:188.
4- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187.
5- . الخصال:550/30، تفسير الصافي 4:188.

فقالوا كلّهم: نشهد أنّ امّ سلمة حدّثتنا بذلك، فسألنا رسول اللّه فحدّثنا كما حدّثتنا امّ سلمة» (1).

و عن زيد بن عليّ بن الحسين: أنّ جهّالا من الناس يزعمون أنّه إنّما أراد اللّه بهذه الآية أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد كذبوا و اثموا، و أيمن اللّه لو عنى أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقال: ليذهب عنكنّ الرجس و يطهركنّ تطهيرا، و لكان الكلام مونّثا، كما قال: وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ (2)وَ لا تَبَرَّجْنَ (3)و لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ (4).

و قال القمي رحمه اللّه: ثمّ انقطعت مخاطبة نساء النبي، و خاطب أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ الآية (5).

و قال بعض الأجلّة: يحتمل أن يكون الخطاب إشارة إلى انتسابهنّ بأهل العصمة ترغيبا لهنّ إلى الطاعة و ترك المعصية (6).

أقول: و يمكن أن يكون الخطاب لأزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و أقاربه ذكورا و إناثا، و المقصود إرادة بعضهم من قوله: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ كما قال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (7)و من المعلوم أنّه لم يكن جميعهم ملوكا، كما أنّه من المعلوم أنّه لم يكن أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معصومات لظهور عصيانهنّ في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعده، كالخروج على وصيّ الرسول الذي كان مع الحقّ و الحقّ معه.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ خصّ سبحانه الخطاب بهنّ ازديادا لوعظهنّ و ترغيبهن إلى طاعة اللّه و رسوله بقوله: وَ اُذْكُرْنَ و ليكن في خاطركنّ نعمة اللّه التي خصّكن بها و هو ما يُتْلى و يقرأ صباحا و مساء

وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اَللّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِماتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْقانِتاتِ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلصّادِقاتِ وَ اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّابِراتِ وَ اَلْخاشِعِينَ وَ اَلْخاشِعاتِ وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقاتِ وَ اَلصّائِمِينَ وَ اَلصّائِماتِ وَ اَلْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحافِظاتِ وَ اَلذّاكِرِينَ اَللّهَ كَثِيراً وَ اَلذّاكِراتِ أَعَدَّ اَللّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

ص: 176


1- . كمال الدين:278/25، تفسير الصافي 4:188.
2- . الاحزاب:33/34.
3- . الاحزاب:33/33.
4- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187، و الآية من سورة الأحزاب:33/32.
5- . تفسير القمي 2:193، تفسير الصافي 4:187.
6- . لم نعثر عليه.
7- . المائدة:5/20.

عليكنّ فِي بُيُوتِكُنَّ و في حضوركنّ و مستمعكنّ مِنْ آياتِ اَللّهِ القرآنية الدالة على صحّة نبوة خاتم الأنبياء، و جلالته و عظمة شأنه، و وجوب طاعته، وَ المحتوية على اَلْحِكْمَةِ و الموعظة الحسنة، و العلوم الكثيرة. و قيل: إنّ المراد بالحكمة الآحاديث النبوية (1)لطفا من اللّه عليكنّ إِنَّ اَللّهَ كانَ من الأزل لَطِيفاً و مبالغا في البرّ و الإحسان بخلقه خَبِيراً و عليما باستعداداتهم و مصالحهم.

روي أنّه لمّا نزلت في نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الآيات المذكورة قالت نساء المؤمنين: فما نزل فينا؟ و لو كان فينا خير لذكرنا (2).

و عن مقاتل: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب؟ دخلت على نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: هل [نزل]فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول اللّه فقالت: يا رسول اللّه، إنّ النساء لفي خيبة و خسار. فقال: «و ممّ ذلك؟» قالت: لأنهنّ لا يذكرن بخير (3)، فأظهر اللّه لطفه بهنّ بقوله:

إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ و المقرّين بتوحيد اللّه و رسالة رسوله، و المنقادين لأحكامهما وَ اَلْمُسْلِماتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ و المصدّقين بقلوبهم و جوارحهم لما يجب التصديق به من المبدأ و المعاد و غيرهما وَ اَلْمُؤْمِناتِ.

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ الايمان ما وقر في القلوب، و الاسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء، و الايمان يشارك الاسلام، و الاسلام لا يشارك الايمان» (4).

أقول: هذا موافق لقوله تعالى: قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المؤمن من أمن جاره بوائقه، و ما آمن بي من بات شبعانا و جاره طاو» (6).

أقول: لا منافاة بين الروايتين، فانّ الاولى في تحقيق معنى اللفظين، و الثانية في بيان الوظائف للمتّصفين بهما.

وَ اَلْقانِتِينَ و المداومين على طاعة ربّهم وَ اَلْقانِتاتِ و الملتزمات بها وَ اَلصّادِقِينَ في القول و العمل و النية وَ اَلصّادِقاتِ فيها وَ اَلصّابِرِينَ على أداء الواجبات و الكفّ عن

ص: 177


1- . تفسير روح البيان 7:173.
2- . تفسير روح البيان 7:174.
3- . مجمع البيان 8:560، تفسير الصافي 4:190.
4- . الكافي 2:21/3، تفسير الصافي 4:190.
5- . الحجرات:49/14.
6- . مجمع البيان 8:561، تفسير الصافي 4:189.

المحرّمات وَ اَلصّابِراتِ عليهما وَ اَلْخاشِعِينَ و المتواضعين للّه و لرسوله و للمؤمنين بقلوبهم و جوارحهم وَ اَلْخاشِعاتِ لهم وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ و الباذلين بأموالهم في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته وَ اَلْمُتَصَدِّقاتِ بها و الباذلات لها وَ اَلصّائِمِينَ و الممسكين عن الطعام و الشراب و سائر المفطرات المعهودة بنيّة صادقة وَ اَلصّائِماتِ منها وَ اَلْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ و عوراتهم عن نظر الأجانب و مسّها وَ اَلْحافِظاتِ لها وَ اَلذّاكِرِينَ اَللّهَ بقلوبهم و ألسنتهم ذكرا كَثِيراً بحيث لا يغفلون عنه و لا ينسونه في حال وَ اَلذّاكِراتِ اللّه ذكرا كثيرا.

عن ابن عباس: يريد أدبار الصلاة الصلوات، و غدوا و عشيا، و في المضاجع، و إذا استيقظ من نومه، و كلّما غدا وراح من منزله (1).

و في الحديث: «من استيقظ من نومه، و أيقظ امرأته، فصلّيا جميعا ركعتين، كتبا من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات» (2).

و عن مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيرا حتى يذكر اللّه قائما و قاعدا و مضطجعا (3).

أَعَدَّ اَللّهُ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةً و سترا للذنوب وَ أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يمكن بيان كيفيته و مقدار عظمته على ما صدر عنهم من الطاعات و العبادات.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 36 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتخيير أزواجه، و ترغيبهنّ في طاعته، بيّن سبحانه وظيفة عموم الناس من الرجال و النساء بالنسبة إليه بقوله: وَ ما كانَ يصحّ و يستقيم لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ في

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اَللّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اَللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً (39)

ص: 178


1- . تفسير روح البيان 7:176.
2- . مجمع البيان 8:561، تفسير روح البيان 7:176.
3- . تفسير روح البيان 7:176.

وقت من الأوقات إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً و أراد شيئا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ و الاختيار في قبال قضائهما و إرادتهما بأن يختاروا مِنْ أَمْرِهِمْ و في عملهم ما شاءوا، بل يجب أن يجعلوا آراءهم و اختيارهم تبعا لرأيهما و اختيارهما، و يعلم قضاء اللّه من قضاء الرسول. و قيل: إنّ المراد قضاء الرسول، و ذكر قضاء اللّه لتعظيم الرسول (1). و قيل: إنّ ضمير الجمع الثاني للرسول تعظيما له (2).

ثمّ هدّد من اختار غير مختارهما بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أمر من الامور، و يختار لنفسه غير ما أختار له فَقَدْ ضَلَّ و انحرف عن طريق الحقّ و الصواب ضَلالاً و انحرافا مُبِيناً واضحا لا يشكّ فيه العاقل.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطب زينب بنت جحش بن رباب الأسدي، بنت عمّته ميمونة بنت عبد المطّلب لمولاه زيد بن حارثة، و كانت زينب بيضاء جميلة، و زيد أسود أفطس، فأبت و قالت: أنا بنت عمّتك يا رسول اللّه، و أرفع قريش، فلا أرضاه لنفسي، و كذلك أبى أخوها عبد اللّه بن جحش، فنزلت (1)، فقالت زينب و أخوها: رضينا يا رسول اللّه، فأنكحها رسول اللّه إياه، و ساق إليها مهرها عشرة دنانير، و ستين درهما، و خمارا، و ملحفة، و درعا، و إزارا، و خمسين مدّا من طعام، و ثلاثين صاعا من تمر، و بقيت بالنكاح معه مدّة، فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما إلى دار زيد لحاجة، فوقع نظره إلى زينب، فأعجبه حسنها فأحبّها، و قد كان يمتنع عن نكاحها قبل ذلك، و لا يريدها. فقال عليه السّلام: «سبحان اللّه! يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي» و انصرف، فسمعت زينب التسبيح، فذكرته لزيد بعد مجيئه، ففطن زيد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحبّها، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تلك الساعة، فقال: يا رسول اللّه، إنّي اريد أن افارق صاحبتي. فقال عليه السّلام: «مالك أ رأيت منها شيئا؟» . قال: لا و اللّه ما رأيت منها إلاّ خيرا، و لكنّها تتعظّم عليّ لشرفها، و تؤذيني بلسانها (2)،

فحكى اللّه منعه منه بقوله: وَ إِذْ تَقُولُ يا محمد لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِ بالتوفيق لقبول الاسلام، و الايمان بك، و أعانه على الرضا بما حكم اللّه به عليه من مفارقته زوجته، و تسليمها للرسول، و تخصيصه من بين الصحابة بذكر اسمه في هذه الآية في القرآن وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بتحريره، و حسن تربيته، و تبنيّه و تزويجه من بنت عمّتك أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب و لا تطلّقها وَ اِتَّقِ اَللّهَ في طلاقها، أو في الشكوى من تعظّمها وَ أنت تُخْفِي حين ردعه عن طلاقها فِي نَفْسِكَ من الناس مَا اَللّهُ مُبْدِيهِ و مظهره لهم من عملك بأنّها إحدى أزواجك، و أن زيدا يطلّقها، و ستكون زوجتك، و إنّما كان اخفاؤك لأنّك تخاف وَ تَخْشَى اَلنّاسَ من أن يلوموك

ص: 179


1- . تفسير روح البيان 7:177.
2- . تفسير روح البيان 7:178.

و يعيّروك على تزويج دعيّك وَ اَللّهُ الغالب القاهر أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وحده و تخصّه بالخشية إن كان فيه ما يخشى.

عن السجاد عليه السّلام: «أنّ الذي أخفاه في نفسه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه، و أنّ زيدا سيطلّقها، فلّما جاء زيد و قال له: اريد أن اطلّق زينب قال له: أمسك عليك زوجك [فقال سبحانه: لم قلت أمسك عليك زوجك]و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك (1).

فَلَمّا قَضى و استوفى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً كان له فيها، و حاجة يتوقّعها منها، و طلّقها و انقضت عدّتها زَوَّجْناكَها.

قصة تزويج الرسول

زينب بنت جحش

روى أنّه لمّا انقضت عدّتها قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله لزيد: «ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب عليّ زينب» قال زيد: فانطلقت، فاذا هي تخمّر عجينتها، فقلت: يا زينب أبشري، فانّ رسول اللّه يخطبك، ففرحت و قالت: ما أنا بصانعه شيئا حتى أؤامر (2)ربّي، فقامت إلى مسجدها، فنزل في القرآن زَوَّجْناكَها فزوجها رسول اللّه، و ما أولم على أمرأة من نسائه ما أولم عليها (3).

روي أنّها كانت تفتخر على سائر أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و تقول: زوّجكن أهاليكنّ، و زوّجني اللّه من فوق سبع سماوات (4).

و روى أنّها كانت تقول للنبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لأدلّ عليك بثلاث: ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ: جدّي و جدّك واحد، و زوّجنيك اللّه، و السفير جبرئيل (5).

و عن الرضا عليه السّلام في تفسير وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ قال: «إنّ اللّه عرّف نبيّه أسماء أزواجه في دار الدنيا، و أسماء أزواجه في الآخرة، و إنّهنّ امّهات المؤمنين، و أحد من سمّى له زينب بنت جحش، و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفى اسمها في نفسه، و لم يبده، لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنّه قال في امرأة في بيت رجل إنّها أحد أزواجه و من امّهات المؤمنين، و خشي قول المنافقين، قال اللّه عز و جل: وَ تَخْشَى اَلنّاسَ وَ اَللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ يعني في نفسك، و إنّ اللّه ما تولّى تزويج أحد من خلقه إلاّ تزويج حوّاء من آدم عليه السّلام و زينب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها و فاطمة من عليّ» (6).

ص: 180


1- . مجمع البيان 8:564، تفسير الصافي 4:191.
2- . آمره: شاوره.
3- . تفسير روح البيان 7:180.
4- . تفسير روح البيان 7:180.
5- . مجمع البيان 8:566، تفسير الصافي 4:191.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:195/1، تفسير الصافي 4:192.

و عنه عليه السّلام-في حديث-: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده، فرأى أمرأة تغتسل، فقال لها: سبحان اللّه الذي خلقك! و إنّما أراد تنزيه اللّه عن قول من زعم أنّ الملائكة بنات اللّه -إلى أن قال-فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيىء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قوله لها: سبحانه الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، فظنّ أنه قال ذلك لما اعجب من حسنها، فجاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ امرأتي في خلقها سوء، و إنّي اريد أن اطلّقها، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أمسك عليك زوجك، و اتق اللّه، و قد كان اللّه عز و جل عرّفه عدد أزواجه، و أنّ تلك المرأة منهنّ، فأخفى ذلك في نفسه، و خشي الناس أن يقولوا: إنّ محمدا يقول لمولاه: إنّ امرأتك ستكون لي زوجة، فيعيبونه بذلك» الخبر (1).

ثمّ بيّن اللّه علّة هذا التزويج بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ و ضيق فِي حقّ تزويج أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ و نساء الذين تبنّوهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً و لم يبق لهم فيهنّ حاجة و طلّقوهن وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ و ما يريد تكوينه مَفْعُولاً و مكوّنا لا محالة، كما كان تزويج زينب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله منه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم الحرج على المؤمنين في ذلك التزويج، و أنّه حكم الاسلام، نفي الحرج فيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: ما كانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ شيء مِنْ حَرَجٍ و ضيق فِيما فَرَضَ اَللّهُ و قسمه لَهُ و حكم بجوازه و قدره من تزويج زينب، فانّ التزويج ليس من خصائصه، بل كان سُنَّةَ اَللّهِ و طريقته المسلوكة فِي الأنبياء اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا من الدنيا مِنْ قَبْلُ فانّ داود-على ما قيل-كان له مائة مهيرة، و ثلاثمائة سرّية (2)، و سليمان كانت له ثلاثمائة مهيرة، و سبعمائة سرية (3)وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ و حكمه قَدَراً مَقْدُوراً و قضاء مقضيا، و حكما قطعيا لا يغيّر،

فانّ أولئك الأنبياء هم اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ إلى النّاس رِسالاتِ اَللّهِ و أحكامه و معارفه وَ يَخْشَوْنَهُ وحده وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللّهَ فلا تخش يا محمد غيره، و أنت سيّدهم و خاتمهم وَ كَفى بِاللّهِ الذي هو أحسب الحاسبين حَسِيباً و محاسبا لعبادة على أعمالهم، و مجازيا لهم عليها، فلا ينبغي أن يخشى إلاّ منه في أمر النكاح و غيره إذا علم رضاه به و حكمه فيه.

روي أنّ كثرة الرّفت-أو النكاح-من سنن الأنبياء (4).

ص: 181


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:203/1، تفسير الصافي 4:192.
2- . المهيرة: الحرّة الغالية المهر، و السّرّية: الجارية المملوكة.
3- . تفسير أبي السعود 7:105، تفسير روح البيان 7:182.
4- . مجمع البيان 8:566، تفسير روح البيان 7:183.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطّيب، و النساء، و قرّة عيني في الصلاة» . قيل: إنّه ليس عبادة باقية من عهد آدم إلى الجنّة إلاّ الإيمان و النّكاح (1).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 40

ثمّ لمّا كان من حكم العرب أنّ نكاح زوجة الدعي كنكاح زوجة الولد الصّلبي، و استطال لسان المنافقين على النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد نكاح زينب، أبطل اللّه ذلك الحكم، وردّ المنافقين بقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ بالنسب و الولادة حتى يثبت بينه و بينه ما يكون بين الوالد و ولده من حرمة المصاهرة، و إنّما هو أبو رجاله كالحسن و الحسين و ذريّتهما وَ لكِنْ هو أشفق عليكم من الأب الشفيق حيث إنّه يكون رَسُولَ اَللّهِ و مظهر رحمته التي تكون رحمة الابوة رشحة من رشحاتها، بل كان هو آخر الرسل وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ الذي لا يرجو أن يجيىء بعده نبيّ يبيّن للناس ما هو صلاحهم و خيرهم، و يكمل لهم دينهم و نفوسهم، فلا محالة يكون اهتمامه في بيان صلاح أهل العالم الى يوم القيامة أكثر، و شفقته عليهم أشدّ وَ كانَ اَللّهُ عالما بلياقته لهذه الدرجة العظيمة التي رفعه إليها لكونه بِكُلِّ شَيْءٍ من مخلوقاته و أحوالهم و استعداداتهم عَلِيماً و محيطا.

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)و قد تواتر من طرق العامة و الخاصة أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي» (2)فلو ادعّى أحد بعده النبوّة، فهو كاذب، و لو جعل الأرض سماء و السماء أرضا، فضلا عن أن يدّعي فوق مرتبة النبوة، كما نسبه الطائفة الضالّة البهائية إلى رئيسهم.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه نعمة رسالة الرسول، و خاتميته، و شفقته، أمر المؤمنين بذكره و ثنائه شكرا على نعمته بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اشكروا اللّه على إنعامه عليكم بتكميل دينكم، و جعلكم امّة أشرف الأنبياء و اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد» قيل: يا رسول اللّه، فما جلاؤها؟ قال: «تلاوة كتاب اللّه، و كثرة ذكره» (3).

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42)

ص: 182


1- . تفسير روح البيان 7:183.
2- . صحيح البخاري 5:89/202، صحيح مسلم 4:1870/2404، سنن الترمذي 5:640/3730، مستدرك الحاكم 2: 337، مسند أحمد 1:173 و 175 و 182 و 184 و 331.
3- . تفسير روح البيان 7:191.

و عن الصادق عليه السّلام: «ما من شيء إلاّ و له حدّ ينتهي إليه إلاّ الذكر، فليس له حدّ ينتهي إليه-إلى أن قال -فانّ اللّه لم يرض منه بالقليل، و لم يجعل حدّا له ينتهي إليه» ثمّ تلا هذه الآية (1).

و عنه عليه السّلام: «شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا اللّه كثيرا» (2).

و عنه عليه السّلام: «تسبيح فاطمة الزهراء من الذكر الكثير الذي قال اللّه اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (3).

ثمّ لمّا كان التسبيح أفضل الأذكار خصّه بالأمر بقوله: وَ سَبِّحُوهُ و نزّهوه من النقائص و الشرك و الولد بُكْرَةً و أوّل النهار وَ أَصِيلاً و آخره. قيل: إنّ الوقتين أفضل الأوقات (4). و قيل: هما كناية عن تمام النهار (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيبهم إلى ذكره بقوله: هُوَ اللّه اَلَّذِي يُصَلِّي و يعطف عَلَيْكُمْ في الدنيا بالرحمة الخاصة وَ مَلائِكَتُهُ تصلّي و تعطف عليكم بالاستغفار و الدعاء و إصلاح اموركم لِيُخْرِجَكُمْ برحمته و صلاته مِنَ اَلظُّلُماتِ الواقعية كالجهل و الكفر و المعاصي و الأخلاق الرذيلة إِلَى اَلنُّورِ الذي صورته في هذا العالم العلم و الايمان و الطاعة و الأخلاق الحميدة وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ المخلصين رَحِيماً حيث اعتنى بصلاحهم و تعلية قدرهم.

هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)عن السّدّي: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السّلام: أيصلّي ربنا؟ فكبر عليه هذا الكلام، فأوحى اللّه إليه: أن قل لهم إنّي اصلّي، و إنّ صلاتي رحمتي التي تطفئ غضبي (6).

عن الصادق عليه السّلام: من صلّى على محمد و آل محمد عشرا، صلّى اللّه عليه و ملائكته مائة، و من صلى على محمد و آل محمد مائة مرة، صلّى اللّه عليه و ملائكته ألفا، أما تسمع قول اللّه: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي؟» الآية (7).

ثمّ ذكر اللّه لطفه بهم في الآخرة بقوله: تَحِيَّتُهُمْ و إكرامهم حين الورود يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ و خين يبعثون كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (8)سَلامٌ من اللّه، أو سلام ملائكته، أو السلامة من كلّ مكروه

ص: 183


1- . الكافي 2:361/1، تفسير الصافي 4:194.
2- . الكافي 2:362/2، تفسير الصافي 4:194.
3- . الكافي 2:363/4، تفسير الصافي 4:194.
4- . تفسير أبي السعود 7:106، تفسير روح البيان 7:192، تفسير الصافي 4:194.
5- . تفسير روح البيان 7:192.
6- . تفسير روح البيان 7:193.
7- . الكافي 2:358/14، تفسير الصافي 4:194.
8- . التوحيد:267، تفسير الصافي 4:194.

وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً و ثوابا كَرِيماً مرضيا، و هو الجنّة و نعمه الدائمة.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 45 الی 48

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لطفه بالمؤمنين، و ترغيبهم في الذّكر و العبادة، بيّن لطفه بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حثّه على أداء وظيفة الرسالة و مداراته للناس بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ إلى الناس لتكون شاهِداً يوم القيامة على إيمانهم و طاعتهم، و كفرهم و عصيانهم وَ مُبَشِّراً لأهل الايمان و الطاعة بالجنّة و النّعم الدائمة وَ نَذِيراً لأهل الكفر و العصيان بالنار و العذاب الدائم

وَ داعِياً لعموم الناس إِلَى توحيد اَللّهِ و معرفته و طاعته بِإِذْنِهِ و أمره و تيسيره وَ سِراجاً مُنِيراً يستضاء به في ظلمات الجهل و الغواية،

و يهتدي بنوره إلى قرب اللّه و نعم الآخرة، فراقب أحوال امّتك وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللّهِ فَضْلاً كَبِيراً و زيادة كثيرة على سائر الامم في الرّتبة و الشرف، أو على أجر أعمالهم

وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ اَلْمُنافِقِينَ و ذمّ على مخالفتهم و ترك اتّباع آرائهم.

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اَللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (48)قيل: فيه مبالغة في الزّجر عن مداراتهم في أمر الدعوة، و استعمال لين الجانب في التبليغ، و المسامحة في الإنذار (1).

وَ دَعْ أَذاهُمْ و لا تعتن بترّهاتهم في شأنك، و لا تخف من إضرارهم وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و فوّض أمورك إليه وَ كَفى بِاللّهِ و حسبك خالق كلّ شيء من حيث كونه وَكِيلاً و مفوّضا إليه الامور، و معتمدا عليه، فانّ من عرف كفاية اللّه له في كلّ أمر، و تكفّله لمصالحه، استراح قلبه، و اكتفى به في جميع اموره، و لم يدبر معه.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 49

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وظيفة النبيّ مع اللّه، و هو التقوى و ترك طاعة غيره، و اتّباع وحيه، و وظيفته مع أزواجه، و هي تخييرهنّ في البقاء معه و فراقه، و وظيفته مع الناس، و بيان وظيفة المؤمنين مع اللّه، و هي إكثار ذكره، بيّن وظيفتهم مع أزواجهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ النساء اَلْمُؤْمِناتِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)

ص: 184


1- . تفسير أبي السعود 7:108، تفسير الصافي 7:199.

و تزوّجتموهنّ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ و تدخلوا بهنّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ حقّ عِدَّةٍ و مدّة تربّص يحلّ لها التزويج بعد انقضائها تَعْتَدُّونَها و تستوفون عددها من الأيام و الأشهر، أو الأقراء فَمَتِّعُوهُنَّ و أعطوهنّ من أموالكم ما ينتفعن به وَ سَرِّحُوهُنَّ و أرسلوهن إلى منازلهنّ سَراحاً و إرسالا جَمِيلاً لا ضرر فيه عليهنّ و لا إيذاء أو منع حقّ.

عن الصادق عليه السّلام في رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: «عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، و ان لم يكن فرض لها شيئا فليمتّعها على نحو ما يمتّع به مثلها من النساء» (1).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «متّعوهن: أي أعطوهنّ (2)ما قدرتم عليه من معروف، فانهنّ يرجعن بكآبة و وحشة و همّ عظيم و شماتة من أعدائهنّ، فانّ اللّه كريم، يستحي و يحبّ أهل الحياء، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم» (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 50

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتسهيل الأمر على أزواجه بتخييرهنّ في البقاء معه و فراقه، منّ عليه بتسهيل أمر التزويج عليه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا مننّا عليك بتسهيل أمر التزويج عليك حيث أَحْلَلْنا و أبنّا لَكَ أَزْواجَكَ و النساء اللاّتي في حبالة نكاحك خصوصا اَللاّتِي آتَيْتَ و أعطيتهنّ أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ بالسبي، أو الهبة، أو الشّراء، سيما إذا كنّ مِمّا أَفاءَ اَللّهُ و أرجعهن بالأسر عَلَيْكَ فانّ قلبك بالصنفين الخاصّين أطيب وَ كذا بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ كزينب بنت جحش، فانّها بنت امية بن عبد المطلب وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ خصوصا اَللاّتِي هاجَرْنَ من مكّة إلى المدينة ليكنّ مَعَكَ و في جوارك، فانّ

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اَللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اَللّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اَللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)

ص: 185


1- . الكافي 6:106/3، تفسير الصافي 4:195.
2- . في من لا يحضره الفقيه و التهذيب: جملوهن، و في الصافي: احملوهن.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:327/1580، التهذيب 8:141/488، تفسير الصافي 4:195.

المهاجرات منهنّ أليق بمزاوجتك وَ كذا أحللنا لك اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً من المؤمنات إِنْ اتّفق أنها وَهَبَتْ نَفْسَها و وبضعها لِلنَّبِيِّ بلا مهر و أجر، و هي إنّما تحلّ لك إِنْ أَرادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها و طلب ملك بضعها بلا مهر.

و في الالتفات من الخطاب الى الغيبة، إيذان بأنّ الحكم مختصّ به عليه السّلام، لشرف النبوة، كما صرّح به بقوله: خالِصَةً لَكَ و جعلنا حلّيتها بالهبة مختصّة بك مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ فانّ الإحلال لهم مشروط بإنشاء النكاح بلفظه، أو بلفظ التزويج في الدائم، و بأحدهما أو بلفظ التمتيع في المنقطع، و لا يكون بلا مهر أبدا، و هذا هو الذي أشار بقوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا و أوجبنا عَلَيْهِمْ فِي حقّ أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الأحكام، و إنّما أحللنا عليك النساء، و خصّصناك بتلك الخصائص لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ و ضيق في أمر النكاح وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً و ستورا لما يصدر من عباده ممّا يعسر التحرّز منه رَحِيماً و منعما عليهم بالتوسعة و التسهيل في الأحكام.

عن ابن عباس: لم يكن عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله امرأة إلاّ بعقد نكاح أو ملك يمين (1).

و قيل: إنّه كانت عنده الموهوبة نفسها، و هي ميمونة، خالة عبد اللّه بن عباس، خطبها النبي صلّى اللّه عليه و آله فلمّا جاءها الخاطب و هي على بعيرها، فقالت: البعير و ما عليه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، و ماتت في حياته صلّى اللّه عليه و آله (3).

و قيل: هي أمّ شريك بنت جابر الأسدية، و اسمها غزية، و لم يقبلها، و قيل: قبلها ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها (4).

و عن ابن عباس: أنّها أقبلت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فوهبت نفسها له بغير مهر، فقبلها و دخل عليها (5).

أقول: و عليه يكون المراد من قوله الأول حين وفاته.

و عن الباقر عليه السّلام: «جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في منزل حفصة، و المرأة متلبّسة متمشّطة فقالت: يا رسول اللّه، إنّ المرأة لا تخطب الزوج، و أنا أمرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد، فهل لك من حاجة، فان يك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول اللّه خيرا، و دعا لها، ثمّ قال: يا اخت الأنصارن جزاكم اللّه عن رسول اللّه خيرا، فقد نصرني رجالكم، و رغبت فيّ نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقلّ حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفّي عنها يا حفصة، فانّها خير منك، رغبت في رسول اللّه فلمتها و عبتها. ثمّ قال للمرأة: انصرفي رحمك اللّه،

ص: 186


1- . تفسير روح البيان 7:205.
2- . تفسير روح البيان 7:206.
3- . تفسير روح البيان 7:206. (4 و 5) . تفسير روح البيان 7:206.

فقد أوجب اللّه لك الجنة لرغبتك فيّ، و تعرّضك لمحبّتي و سروري، سيأتيك أمري إن شاء اللّه تعالى، فأنزل اللّه تعالى وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية. قال: فأحلّ اللّه عزّ و جلّ هبة المرأة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لا يحلّ ذلك لغيره» (1).

و عن القمي ما يقرب منه إلاّ أنّه حكى اللوم عن عائشة، و قال في آخره: «فلا تحلّ الهبة إلاّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (2).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 51

ثمّ بالغ سبحانه في التوسعة على رسوله صلّى اللّه عليه و آله في النكاح و الطلاق و حقوق الأزواج بقوله: تُرْجِي و تؤخّر مَنْ تَشاءُ إرجاءها و تأخيرها مِنْهُنَّ بأن تترك نكاحها، أو تطلّقها، أو تترك مضاجعتها و قسمها وَ تُؤْوِي و تضمّ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ضمّها و تقريبها منهنّ بالنكاح و إبقاءها فيه، و قسمها و مضاجعتها وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ و طلبت نكاحها، أو إمساكها، أو قسمها مِمَّنْ عَزَلْتَ و تركت نكاحها أو طلّقتها، أو تركت القسمة لها فَلا جُناحَ و لا إثم و لا لوم عَلَيْكَ لأنّ الاختيار في أمرهنّ بيدك و ذلِكَ التخيير و تفويض الأمر إلى مشيئتك أَدْنى و أقرب إلى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ و تسرّ قلوبهن بمعاملتك معهنّ وَ لا يَحْزَنَّ بترجيح بعضهنّ على بعض وَ إلى أن يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ من النفقة و القسمة و المضاجعة، و تطيب نفوسهنّ به، لتعلمهنّ بأن جميع معاملتك معهنّ بحكم اللّه و إرادته، فان سوّيت بينهنّ فبتفضّلك، و إن رجّحت بعضهنّ فبطاعتك للّه، لا بهوى نفسك.

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول الآية كان يسوّي بين أزواجه في جميع الامور، فلمّا نزلت اعتزل من خمسة، و آوى إليه أربعة: عائشة، و حفصة، و امّ سلمة، و ميمونة (3).

و قيل: إنّه بعد نزولها أيضا كان يسوّي بينهنّ غير سودة، فانّها وهبت ليلتها لعائشة، و قالت: يا رسول اللّه، لا تطلّقني حتى احشر يوم القيامة في عداد أزواجك (4).

قيل: لمّا انسلخت نفسه عن صفاتها، و اتّصفت بصفات القلب-و لذا قال: «أسلم شيطاني بيدي» و لا

ص: 187


1- . الكافي 5:568/53، تفسير الصافي 4:196.
2- . تفسير القمي 2:195، تفسير الصافي 4:196.
3- . تفسير أبي السعود 7:110، تفسير روح البيان 7:207 و 208.
4- . تفسير أبي السعود 7:110، تفسير روح البيان 7:208.

يقول يوم القيامة: نفسي نفسي-اتّصفت دنياه بصفات الآخرة-و لذا حلّ له في الدنيا ما يحلّ لغيره في الآخرة (1)من تزويج الزائد على الأربع، و ترك القسمة بينهنّ و سائر الخصائص.

ثمّ هدّد الرجال و النساء على سوء الظنّ به و بمخالفته بقوله: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الضمائر و الخطورات وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بكلّ ما تبدونه و تخفونه حَلِيماً غير عجول في العقوبة، فلا تغترّوا بتأخيرها، فانّ العجلة ممّن يخاف الفوت.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 52

ثمّ لمّا اخترن الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعد تخييرهنّ، و رضين بما اختاره في حقّهن، شكر اللّه لهنّ بقوله: لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ و لا يجوز تزويجهنّ مِنْ بَعْدُ التسع اللاتي خيّرتهنّ فاخترنك و رضين بمعاملتك معهنّ بما شئت، و هن: عائشة، و حفصة، و امّ سلمة، و زينب بنت جحش، و ميمونة بنت الحارث، و امّ حبيبة بنت أبي سفيان، و صفية، و جويرية، و سودة. و أفضلهنّ امّ سلمة، و ميمونة. أو من بعد اليوم، فلو ماتت إحداهنّ لم يحلّ له نكاح اخرى وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلّق إحداهنّ و تتزوّج مكانها غيرها كرامة لهنّ و جزاء على اختيارهنّ اللّه و رسوله و الدار الآخرة، و رضين بما آتيتهنّ، فلا يجوز لك تزويج غيرهنّ من النساء وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ و جمالهنّ.

لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)عن ابن عباس: هي أسماء بنت عميس، كانت امرأة جعفر بن أبي طالب، فانّه لمّا استشهد أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخطبها، فنهاه اللّه عن ذلك، فتركها فتزوّجها أبو بكر بإذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: هي حبابة أخت الأشعث بن قيس (3).

و لمّا كانت الأزواج شاملة للاماء استثناهنّ بقوله: إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء، فانّه يحلّ لك البشرى بهنّ. و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، لعدم شمول الأزواج إلاّ المنكوحات بالعقد (4).

و عن مجاهد: المراد من الآية لا يحلّ لك النساء من اليهوديات و النصرانيات من بعد المسلمات، و لا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود و النصارى، فانّه لا تكون أمّ المؤمنين يهودية و لا نصرانية إلاّ ما ملكت يمينك من الكتابيات أن تتسرّى بهنّ (5).

و قيل: إنّ المراد من قوله: لا يَحِلُّ لَكَ اَلنِّساءُ المحرّمات التسع المذكورة في سورة النساء (2).

ص: 188


1- . تفسير روح البيان 7:208. (2 و 3 و 4 و 5) . تفسير روح البيان 7:210.
2- . تفسير الصافي 4:198.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّما عنى به لا يحلّ لك النساء اللاّتي حرّم اللّه عليك في هذه الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ إلى آخرها، و لو كان الأمر كما يقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له، لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، و لكن الأمر ليس كما يقولون، إنّ اللّه عز و جل أحلّ لنبيه صلّى اللّه عليه و آله أن ينكح من النساء ما أراد إلاّ ما حرّم في هذه الآية في سورة النساء» (1)و مثله روي عن الصادق صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: هذه الآية منسوخة بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ (3).

و عن عائشة: أنّها قالت: ما فارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدنيا حتى حلّ له ما أراد من النساء (4).

و قيل: إنّها منسوخة بقوله: إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية (5)و نسب ذلك إلى أصحابنا.

وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أحوال خلقه و مصالحهم رَقِيباً و محافظا، لا يمكن أن يغفل و يذهل عنها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 53

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه أدب عشرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع عموم الناس و خصوص أزواجه، علّم المؤمنين أدب دخولهم في بيته، و مكالمتهم أزواجه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ و حجراته في حال من الأحوال إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ و يعلّن لَكُمْ و تدعون إِلى طَعامٍ و غذاء تأكلون منه، فحينئذ جاز لكم الدخول، و كذا لا تدخلوها إلاّ إذا كنتم غَيْرَ ناظِرِينَ و حال كونكم غير منتظرين إِناهُ و وقته و إداركه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيماً (53)روي أن ناسا من المؤمنين كانوا ينتظرون وقت طعام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيدخلون و يقعدون إلى حين إدراكه (6). و عليه يكون النهي عن الدخول بغير إذن مخصوصا بالداخلين إلى طعام، و لذا قيل: إن في الكلام تقديما و تأخيرا، و المعنى: لا تدخلوا إلى طعام إلاّ أن يؤذن لكم (7).

و قيل: إنّ المراد عدم جواز الدخول بغير إذن خصوصا إذا كان الدخول للطعام، و يكون النهي عن

ص: 189


1- . الكافي 5:389/4، تفسير الصافي 4:198.
2- . الكافي 5:388/1 و 2، تفسير الصافي 4:198.
3- . تفسير أبي السعود 7:111.
4- . تفسير الرازي 25:223، تفسير أبي السعود 7:111.
5- . تفسير الرازي 25:223، تفسير أبي السعود 7:111.
6- . تفسير روح البيان 7:213.
7- . تفسير الرازي 25:224.

الدخول إلى الطعام من باب النهي عن قول (اف) المستلزم للنهي عن الضرب (1).

عن الصادق عليه السّلام: «كان جبرئيل إذا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتى يستأذن» (2).

ثمّ لمّا كان النهي عن الدخول بغير إذن ربّما يوجب التأذّى و القطع بحيث لا يدخل بعض المنافقين أصلا و لو بالدعوة (3)، أدرك إيجاب الدخول مع الدعوة بقوله: وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ إلى طعام فَادْخُلُوا وجوبا حفظا لحرمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و طاعته فَإِذا طَعِمْتُمْ و أكلتم الغذاء فَانْتَشِرُوا و تفرّقوا و أنتم غير ماكثين لدرك حظّ حضور النبي صلّى اللّه عليه و آله وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ بعضكم مع بعض لِحَدِيثٍ تتحدّثون به إِنَّ ذلِكُمْ الاستئناس بعد الأكل المستلزم لإطالة الجلوس كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ و يؤلم قلبه الشريف، لتضييق المنزل عليه و على أهله، و اشتغاله فيما لا يعينه فَيَسْتَحْيِي و ينفعل مِنْكُمْ أن يقول لكم: قوموا و أخرجوا وَ اَللّهُ يأمركم بالخروج من منزله، و ينهاكم عن الاستئناس و إطالة الجلوس عنده، و لا يَسْتَحْيِي مِنَ قول اَلْحَقِّ و لا يرى على نفسه فيه عيبا.

روى الفخر: أن بعض الصحابة أطال الجلوس و المكث يوم وليمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عرس زينب بنت جحش، و لم يقل النبي صلّى اللّه عليه و آله له شيئا، فنزلت الآية (4).

و قال القمي: لمّا تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بزينب بنت جحش، و كان يحبّها، فأولم و دعا الصحابة، و كان أصحابه إذا أكلوا يحبّون أن يتحدّثوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان يحبّ أن يخلو، فأنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية، و كانوا يدخلون عليه بلا إذن (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 53

ثمّ بيّن اللّه أدب المكالمة مع أزواجه و طلب الماعون منهنّ عند الحاجة بقوله: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ و طلبتم منهن مَتاعاً و ماعونا تنتفعون به فَسْئَلُوهُنَّ ذلك المتاع و الماعون مِنْ وَراءِ حِجابٍ و خلف السّتر، فانّ الصحابة قبل نزول الآية كانوا لا يبالون أن يدخلوا عليهنّ بغير حجاب، فنهى اللّه عنه و علّله بقوله: ذلِكُمْ السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ من الخطورات

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيماً (53)

ص: 190


1- . تفسير الرازي 25:224.
2- . علل الشرائع:7/2، تفسير الصافي 4:199.
3- . في النسخة: بالدعاء.
4- . تفسير الرازي 25:225.
5- . تفسير القمي 2:195، تفسير الصافي 4:199.

النفسانية و الهواجس الشيطانية وَ قُلُوبِهِنَّ فانّ الرجل و المرأة إذا لم ير أحدهما الآخر لم يقع في قلبه شيء، بخلاف ما إذا رأى، فانّه لا يؤمن أحد على نفسه من الخواطر السيئة.

عن عائشة: أنّ أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله كنّ يخرجن الليل لحاجتهنّ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشيا، و كانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، فأنزل اللّه آيه الحجاب (1).

أقول: لا شبهة أنّ في ندائه هذا إيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنهى اللّه عنه بقوله: وَ ما كانَ يصحّ و يستقيم لَكُمْ أيّها المسلمون أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ بالتعرّض لأزواجه في حياته وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أو تتزوّجوا أَزْواجَهُ اللاّتي هنّ امهاتكم مِنْ بَعْدِهِ و بعد وفاته أَبَداً و آخر الدهر، فانّ في نكاحهن توهينه صلّى اللّه عليه و آله، و إيذاء له، و مخالفة لجعلهنّ امّهاتكم من غير فرق بين المدخول بها و المطلّقة و غيرها، لصيرورتها بالعقد امّا للمؤمنين.

و روى العامة أنّ سبب نزولها أنّ طلحة بن عبيد اللّه قال: لئن مات محمد لأتزوّجن عائشة (2). و في رواية قال: تزوّج محمد بنات عمّنا و يحجبهنّ عنّا! و اللّه لئن مات لأتزوّجن عائشة (3)، فنزل وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ المذكور من إيذائه و تزويج أزواجه كانَ عِنْدَ اَللّهِ ذنبا عَظِيماً و إثما كبيرا لا أعظم منه و لا أكبر.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 54

ثمّ بالغ في التهديد عليهما بقوله: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً و تظهروا قصد نكاحهنّ و إيذاءه، و إيذاء أولاده و أقاربه الذي هو إيذاؤه أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم و تسرّوه في قلوبكم فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ ممّا تظهروه أو تخفوه عَلِيماً و عليه مجازيكم.

إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)و القمي، قال: كان سبب نزولها أنّه لمّا أنزل اللّه اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ و حرّم اللّه نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله على المسلمين، غضب طلحة فقال: يحرّم محمد علينا نساءه و يتزوّج هو بنسائنا، لئن أمات اللّه محمدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا، فأنزل الآية (4).

و في رواية: لمّا قبض رسول اللّه، و ولي الناس أبو بكر، أتته العامرية و الكندية، و هما مطلّقتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الدخول، و قد خطبتنا، فاجتمع أبو بكر و عمر و قالا لهما: اختارا إن شئتما الحجاب، و إن

ص: 191


1- . تفسير روح البيان 7:215.
2- . تفسير روح البيان 7:216.
3- . تفسير روح البيان 7:216.
4- . تفسير القمي 2:195، تفسير الصافي 4:199.

شئتما الباه، فاختارتا الباه، فتزوّجتا، فجذم أحد الزوجين، و جنّ الآخر (1).

و عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «ما نهى اللّه عزّ و جلّ عن شيء إلاّ و قد عصي فيه حتى لقد نكحوا أزواج رسول اللّه من بعده» و ذكر العامرية و الكندية، ثمّ قال: «لو سألتم عن رجل تزوّج امرأة فطلقّها قبل أن يدخل، أتحلّ لابنه فقالوا: لا، فرسول اللّه أعظم حرمة من آبائهم» (2).

و روي أنّ هذا الحكم جار في الوصيّ أيضا (1).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ لمّا نهى اللّه عن سؤال الأزواج إلاّ من وراء الحجاب قال آباؤهنّ و أبناؤهنّ: أنحن كالأباعد؟ فنزلت: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ و الحرائر المؤمنات منهنّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من إمائهنّ.

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)ثمّ لتهييجهنّ على الطاعة خاطبهنّ بقوله: وَ اِتَّقِينَ اَللّهَ فيما أمرتنّ به من الاحتجاب، و لا تتجرين على العصيان في الخلوات إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً و عنده حاضرا و إليه ناظرا.

ثمّ بالغ سبحانه في إكرام نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و تعظيمه بقوله: إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ في الملأ الأعلى يُصَلُّونَ و يعطفون عَلَى اَلنَّبِيِّ بالرحمة و الثناء و التعظيم، و تعلية مقامه، و تشريفه بمزيد كرامته و الدعاء و النّصرة، و إنّما بدأ سبحانه بنفسه إظهارا لشرفه، و ترغيبا للامّة إليها، فانّه إذا كان مصلّيا عليه مع استغنائه، كانت الامّة أولى به، لاحتياجهم إلى شفاعته، و لذا قال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا به أنتم أيضا صَلُّوا و اعطفوا عَلَيْهِ بالدعاء و التعظيم و الثناء في الملأ الأدنى وَ سَلِّمُوا و انقادوا له، أو حيّوة بالسلام تَسْلِيماً مناسبا، لشرف منزلته، و علوّ مقامه.

قيل: إنّ تشريف اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة عليه بقوله: إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ أشرف من تشريف آدم بالسجود (2).

ص: 192


1- . مناقب ابن شهر آشوب 3:305، تفسير الصافي 4:200.
2- . تفسير روح البيان 7:223.

و قيل: إنّ الصلاة (1)على محمد صلّى اللّه عليه و آله أفضل العبادات، لأن اللّه تعالى تولاّها هو و ملائكته، ثمّ أمر بها المؤمنين، و سائر العبادات ليس كذلك (2)، و في الحديث: «أنّ للّه ملكا أعطاه سمع الخلائق، و هو قائم على قبري إذا متّ إلى يوم القيامة، فليس أحد من امّتي يصلّي عليّ صلاة إلاّ قال: يا محمد، صلّى عليك فلان كذا و كذا، و يصلّي الربّ على ذلك الرجل بكلّ واحدة عشرا» (3).

و عن عبد السّلام بن نعيم (4)، قال: قلت لأبي عبد اللّه: إني أدخل بيت اللّه و لا أعلم شيئا إلاّ الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: «أما إنّه لم يخرج أحد بأفضل ممّا خرجت به» (5).

و عن كعب بن عجرة، قال: لمّا نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً قمنا إليه فقلنا: أمّا السّلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول اللّه؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد و آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم. إنّك حميد مجيد، و بارك على محمد و آل محمد، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» (6).

و الظاهر أنّ المراد من التشبيه هو في الصلاة و البركة، لا في المقدار و الكيفية، بل المقدار و الكيفية بمقدار الفضيلة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «الصلاة من اللّه رحمة، و من الملائكة تزكية، و من الناس الدعاء، و أمّا قوله: وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً يعني التسليم فيما ورد عنه» .

قيل: فكيف نصلّي على محمد و آله؟ قال: «تقولون صلوات اللّه و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه على محمد و آل محمد، و السّلام عليه و عليهم و رحمة اللّه و بركاته» .

قيل: فما ثواب من صلّى على النبي و آله بهذه الصلاة؟ قال: الخروج من الذنوب كهيئته يوم ولدته امّه» (7).

و عن الرضا عليه السّلام في مجلسه مع المأمون، قال: «قد علم المعاندون أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه، قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: اللهم صلّ على محمد و آل محمد، كما صليت و باركت على إبراهيم و آل ابراهيم، إنّك حميد مجيد» الخبر (8).

ص: 193


1- . في النسخة: الصلوات.
2- . تفسير روح البيان 7:224.
3- . تفسير روح البيان 7:224.
4- . في النسخة: عبد اللّه بن نعيم، تصحيف راجع: معجم رجال الحديث 10:21.
5- . ثواب الاعمال:155، بحار الأنوار 94:57/34.
6- . مجمع البيان 8:579، تفسير روح البيان 7:225.
7- . معاني الأخبار:367/1، تفسير الصافي 4:201.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:236/1، تفسير الصافي 4:201.

و عن الباقر عليه السّلام: «صل على النبي كلّما ذكرته، أو ذكره ذاكر عندك، في أذان و غيره» (1).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى أوضح فضيلة المكرمين لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و المسلّمين له، و علوّ مقامهم و كرامتهم عليه، ببيان سوء حال المؤذين له بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ بترك طاعته وَ يؤذون رَسُولَهُ بتوهينه باللّسان و الجوارح، أو المراد يؤذون اللّه بإيذاء رسوله و إيذاء عترته و أولاده لَعَنَهُمُ اَللّهُ و أبعدهم من رحمته فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ بحيث لا يكاد ينالون منها فيهما شيئا وَ أَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك في الآخرة عَذاباً مُهِيناً لتوهينهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)و قيل: إنّ اللعن بأزاء إيذاء اللّه، و العذاب بأزاء إيذاء الرسول (2).

القمي، قال: نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه، و أخذ حقّ فاطمة عليها السّلام و آذاها، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من آذاها في حياتي كمن آذاها بعد موتي، و من آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي، و من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه» و هو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ (3).

و عن علي عليه السّلام، أنّه قال و هو آخذ بشعره: «حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو آخذ بشعره، فقال: من آذى شعرا منك فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و من آذى اللّه فعليه لعنة اللّه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «أخّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة من الليالي العشاء الآخرة ما شاء اللّه، فجاء عمر فدقّ الباب، فقال: يا رسول اللّه، نام النساء، نام الصبيان، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ليس لكم أن تؤذوني و لا تأمروني، إنّما عليكم أن تسمعوا و تطيعوا» (5).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 58

ثمّ أنّه تعالى بعد تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتقرين إيذائه بإيذاء ذاته المقدّسة، عظّم المؤمنين بتقرين إيذائهم بإيذاء رسوله بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ إذا كان إيذاؤهم بِغَيْرِ مَا

وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58)

ص: 194


1- . من لا يحضره الفقيه 1:185/875، الكافي 3:303/7، تفسير الصافي 4:202.
2- . تفسير الرازي 25:228.
3- . تفسير القمي 2:196، تفسير الصافي 4:202.
4- . مجمع البيان 8:580، تفسير الصافي 4:203.
5- . التهذيب 2:28/81، تفسير الصافي 4:203.

اِكْتَسَبُوا و بلا جرم و جناية موجبة للقصاص و الحدّ و التعزير ارتكبوا.

روي أنّ الزّناة كانوا يتّبعون النساء إذا برزن بالليل لطلب الماء، أو لقضاء حوائجهنّ، و كانوا لا يتعرّضون إلاّ للإماء، و ربما يتعرّضون للحرائر أيضا جهلا أو تجاهلا، لاتّحاد الكلّ في اللباس، حيث كانت تخرج الحرّة و الأمة في درع و خمار (1).

و روي أنّ المنافقين كانوا يؤذون عليا عليه السّلام و يسمعونه ما لا خير فيه (2)فَقَدِ اِحْتَمَلُوا و اكتسبوا، أو جعلوا على ظهورهم بُهْتاناً و افتراء، و نسبة فعل القبيح إليهم كذبا وَ إِثْماً و ذنبا مُبِيناً و ظاهرا.

و قيل: إنّ المراد بالبهتان عقوبته، و قيل: إنّه كناية عن الظلم، أو المعصية التي يكون عظمها كعظم معصية البهتان (3).

و قيل: إنّه كناية عن الايذاء اللساني و القولي، و الإثم عن الإيذاء اليدي و العملي (4).

و عن القمي: يعني عليا و فاطمة عليها السّلام و هي جارية في الناس كلّهم (5).

و في الحديث القدسي: «من آذى وليا لي، فقد بارزني بالمحاربة» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال (7): هؤلاء الذين آذوا المؤمنين، و نصبوا لهم و عاندوهم، و عنّفوهم في دينهم، ثمّ يؤمر بهم إلى جهنم» (8).

و عن الباقر عليه السّلام: «الناس رجلان: مؤمن، و جاهل، فلا تؤذوا المؤمن، و لا تجهل على الجاهل، فتكون مثله» (9).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من بهت مؤمنا أو مؤمنة، اقيم في طينة خبال، أو يخرج ممّا قال» (10).

و في رواية: ما طينة خبال؟ قال: «صديد يخرج من فروج المومسات» (11).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 59

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)

ص: 195


1- . تفسير أبي السعود 7:115، تفسير روح البيان 7:238.
2- . تفسير أبي السعود 7:115، تفسير روح البيان 7:238.
3- . تفسير روح البيان 7:239.
4- . تفسير الرازي 25:230.
5- . تفسير القمي 2:196، تفسير الصافي 4:203.
6- . تفسير روح البيان 7:239.
7- . في النسخة: فمن.
8- . الكافي 2:262/2، تفسير الصافي 4:203.
9- . الخصال:49/57، تفسير الصافي 4:203.
10- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 4:203.
11- . الكافي 2:266/5، تفسير الصافي 4:203.

ثمّ لمّا كان من أنحاء إيذاء المؤمنين و المؤمنات تعرّض المنافقين و أهل الفجور للمؤمنات في الطّرق، و إيذاؤهنّ باحتمال أنّهنّ من الإماء الزانيات، كما مرّ، أمر اللّه سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بأن يأمرهنّ بالتحجّب بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ اللاّتي هنّ في حبالة نكاحك وَ بَناتِكَ و هنّ على ما قيل: زينب، و رقية، و أمّ كلثوم، و فاطمة عليها السّلام (1)وَ نِساءِ اَلْمُؤْمِنِينَ بك في المدينة: إنّهنّ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ و يقرّبن إليهنّ بعضا مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ و أثوابهنّ التي هي أوسع من الخمار، و يغطين بها وجوههنّ و أبدانهنّ حين الخروج من بيوتهنّ، و لا يخرجن مكشّفات الوجوه كالإماء ذلِكَ التغطّي و إدناء الجلباب أَدْنى و أقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ بالحرية و العفّة، و يميّزن من الإماء و الفتيات اللاتي يكنّ مقصودات بالتعرّض و متوقّعات للزنا فَلا يُؤْذَيْنَ أولئك المؤمنات من جهة أهل الفجور بالتعرّض بهنّ في الطريق وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لما سلف من التفريط و ترك التستّر رَحِيماً و عطوفا بعباده حيث يراعي راحتهم و صلاحهم في جميع امورهم التي منها تعفّف نسائهم و حفظ نواميسهم، أو ذلك التنبيه أدنى أن يعرفن بالقدر و المنزلة عند اللّه، فلا يؤذين بالأطماع الفاسدة و الأهواء الكاسدة و الأقوال الكاذبة، و كان اللّه غفورا لهنّ، و ستورا لذنوبهنّ، رحيما بهنّ باعلاء درجتهنّ في الآخرة.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين المؤذين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و أهل الفجور المؤذين للمؤمنات و الناشرين للأخبار الكاذبة الموحشة، أو المزرية بالمؤمنين بقوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ و لم يرتدع اَلْمُنافِقُونَ عن إيذاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ و الرغبة إلى الفجور عن التعرّض لنساء المؤمنين وَ اَلْمُرْجِفُونَ و المزلزلون لقلوب المسلمين بنشر الأخبار الكاذبة الموحشة فِي اَلْمَدِينَةِ كالإخبار بانهزام سرايا المسلمين و قتلهم و أسرهم، و الإخبار بما فيه إزراء بالمؤمنين و المؤمنات، و نظائرها عما هم عليه من الأعمال و الأقوال، و اللّه لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ و لنهيجنّك إلى

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اَللّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّهِ تَبْدِيلاً (62)

ص: 196


1- . تفسير روح البيان 7:240.

قتالهم و إجلائهم، و لنأمرنّك بأخذهم و استئصالهم ثُمَّ بعد الإغراء لا يُجاوِرُونَكَ و لا يساكنونك فِيها في بلدك إِلاّ زمانا أو جوارا قَلِيلاً يتهيّأون فيه للخروج و الفرار، أو يتبيّن فيه حالهم من الانتهاء و عدمه، و هم في حال خروجهم أو في الزمان القليل الذي يجاورونك يكونون

مَلْعُونِينَ و مطرودين من رحمة اللّه، و من جوارك أَيْنَما و في أيّ مكان ثُقِفُوا و وجدوا أُخِذُوا بالقهر وَ قُتِّلُوا بالسيف تَقْتِيلاً فضيعا مقرونا بالذلّة و الهوان، و ليس ذلك الاغراء و ما يتبعه بدعا لكم،

بل يكون سُنَّةَ اَللّهِ و عادته المستمرّة فِي الامم اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا من الدنيا مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة وَ لَنْ تَجِدَ يا محمد لِسُنَّةِ اَللّهِ و عادته المستمرّة من بدو خلق آدم إلى الآن تَبْدِيلاً و تغييرا، لكونها على أساس الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين و التشريع، أو المراد أنّه لا يقدر أحد على تبديلها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 63 الی 68

ثمّ لمّا كان ممّا يؤذي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله السؤالات الاستهزائية التعنّتية منه، و كان منها سؤال الكفّار عن وقت القيامة استهزاء و تعنتا، حكاه سبحانه توطئة لتهديد مؤذيه من الكفار بقوله: يَسْئَلُكَ اَلنّاسُ عَنِ وقت قيام اَلسّاعَةِ و مجيئ يوم القيامة.

يَسْئَلُكَ اَلنّاسُ عَنِ اَلسّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اَللّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اَللّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ (66) وَ قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)قيل: كان المشركون يسألون عنه و يستعجلونه استهزاء و تعنّتا، و أهل الكتاب امتحانا، لعلمهم بخفائه من جميع الخلق (1)، فأمره اللّه بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمد، في جوابهم: إِنَّما عِلْمُها العلم بها عِنْدَ اَللّهِ وحده، لا يطلع عليها أحدا من خلقه حتى الأنبياء و المرسلين و ملائكته المقربين وَ ما يُدْرِيكَ و أي شيء يعلمك بوقت قيامها غير اللّه؟ و قد أخفاه منك لحكمة بالغة، و ليس من شرط النبيّ أن يعلم ما اقتضت الحكمة اختصاص علمه به تعالى.

ثمّ بيّن احتمال قربها تهويلا لهم بقوله: لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ شيئا قَرِيباً فلا تستعجلوه.

روي أنّه إذا هبّت ريح شديدة تغيّر لونه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: «تخوّفت الساعة» و قال: «ما أمدّ طرفي و لا

ص: 197


1- . تفسير روح البيان 7:243.

أغمضه إلاّ و أظنّ الساعة قد قامت» (1)و لعلّ المراد من الساعة في الحديث الموت، فانّه الساعة الصغرى، كما روي «أنّ من مات فقد قامت قيامته» (2).

ثمّ ذمّ الكفّار و أوعدهم بأشدّ العذاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ و أبعدهم من ساحة الرحمة في الدارين وَ أَعَدَّ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة سَعِيراً و نارا موقدة حال كونهم

خالِدِينَ و مقيمن فِيها أَبَداً دائما، لأنّهم لا يقدرون على الخروج منها و لا يَجِدُونَ لأنفسهم وَلِيًّا و محبّا يشفع في نجاتهم وَ لا نَصِيراً و معينا يخلّصهم منها بقوّته و قدرته، و يكون حالهم هذا

يَوْمَ تُقَلَّبُ و تصرّف وُجُوهُهُمْ التي هي أشرف و أعزّ أعضائهم فِي اَلنّارِ من جهة إلى جهة كاللّحم الذي يراد أن يشوى في النار، أو المراد تتغير وجوههم من حال الحسن إلى حال القبح، و من البياض إلى السواد.

ثمّ كأنّه قيل: ما يقولون في تلك الحالة؟ فقال سبحانه: يَقُولُونَ تحسّرا و تندّما: يا أهل النار لَيْتَنا في الدنيا أَطَعْنَا اَللّهَ في أحكامه وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ في أمره بالايمان و النّصرة، فلن نبتلي بذلك العذاب الشديد،

و لا تنفعهم الندامة وَ قالُوا اعتذارا من كفرهم و عصيانهم: رَبَّنا إِنّا لو خلّينا و أنفسنا لم نكن نكفر و نعصي بل أَطَعْنا سادَتَنا و رؤساء أقوامنا وَ كُبَراءَنا و أشرافنا الذين أمرونا بالكفر و العصيان فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ و صرفونا عن طريق الحقّ و دين الاسلام بما زيّنوا لنا الشّرك و مخالفة الرسول.

ثمّ كرّروا النداء و قالوا: رَبَّنا مبالغة في إجابة استدعائهم بقوله: آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ و مثلي ما آتيتنا مِنَ اَلْعَذابِ لضلالهم و إضلالهم وَ اِلْعَنْهُمْ و اطردهم من ساحة رحمتك لَعْناً كَبِيراً و طردا شديدا لا يتعقّبه القرب و الرجوع إليها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 69

ثمّ نصح اللّه سبحانه المظهرين للاسلام و وعظهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله بألسنتهم لا تَكُونُوا في إيذاء رسولكم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى من قومه الذين آمنوا به، كقارون و أتباعه و غيرهم من بني إسرائيل، حيث اتّهموه بالزنى فَبَرَّأَهُ اَللّهُ و نزّهه مِمّا قالُوا و نسبوا إليه. روي أنّ قارون دفع إلى زانية مالا عظيما على أن تقول على رأس الملأ من بني إسرائيل: إنّي حامل

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اَللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اَللّهِ وَجِيهاً (69)

ص: 198


1- . تفسير روح البيان 7:243.
2- . تفسير روح البيان 8:387.

من موسى على الزنى، فأظهر اللّه نزاهته عن ذلك، بأن أقرّت الزانية بما كان بينها و بين قارون من التباني و المصانعة (1). ثمّ خسف اللّه بقارون الأرض بدعاء موسى و أمره.

و قيل: إنّ بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، و كان موسى عليه السّلام يغتسل وحده، و يتستّر من الناس، فقالوا: إنّ اغتساله وحده ليس إلاّ لأجل البرص الذي في بدنه (2)، أو لعيب آخر، فذهب موسى يوما ليغتسل، فوضع ثوبه على حجر، -قيل: إنّه الحجر الذي انفجر منه الماء- فلمّا فرغ من غسله، و أراد أن يلبس ثوبه، فرّ الحجر بثوبه، فأسرع موسى خلفه عريانا، و هو يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، فوقف الحجر عند بني إسرائيل، فنظروا إليه و قالوا: و اللّه ما لموسى من بأس (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، و كان موسى عليه السّلام إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد من الناس، فكان يوما يغتسل على شطّ نهر، و قد وضع ثيابه على صخرة، فأمر اللّه الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه، فعلموا أن ليس كما قالوا، فأنزل اللّه الآية» (4).

أقول: الظاهر أن الوقعة كانت قبل اطّلاع بني إسرائيل على أنّه ذا أهل و ولد.

و عنه عليه السّلام: «أنّ رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تظبط، ألم ينسبوا إلى موسى عليه السّلام أنّه عنيّن، و آذوه حتى برّأه اللّه ممّا قالوا» (5).

وَ كانَ عِنْدَ اَللّهِ وَجِيهاً و روي أنّ موسى عليه السّلام خرج مع هارون إلى بعض الكهوف، فرأى هارون سريرا فنام عليه فمات، فلمّا عاد موسى عليه السّلام و ليس معه هارون قال بنو إسرائيل: قتل موسى هارون حسدا له على محبّة بني إسرائيل إياه، فقال موسى عليه السّلام: و يحكم كان أخي و وزيري أتروني أقتله؟ فلمّا أكثروا عليه قام فصلّى ركعتين، ثمّ دعا فنزل السرير الذي نام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء و الأرض فصدّقوا أن هارون مات فيه، فدفنه موسى، فقيل في حقه ما قيل، كما ذكر حتى انطلق موسى ببني إسرائيل إلى قبره، و دعا اللّه أن يحييه، فأحياه اللّه تعالى، و أخبرهم أنّه مات، و لم يقتله موسى» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ موسى و هارون صعدا الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل

ص: 199


1- . تفسير روح البيان 7:246.
2- . تفسير روح البيان 7:246.
3- . تفسير روح البيان 7:246.
4- . تفسير القمي 2:197، تفسير الصافي 4:205.
5- . أمالي الصدوق:164/163، تفسير الصافي 4:205.
6- . تفسير روح البيان 7:247.

لموسى عليه السّلام: أنت قتلته، فأمر اللّه الملائكة فحملته حتى مرّوا به على بني اسرائيل، و تكلّمت الملائكة بموته حتى عرفوا أنّه مات، و برّأه اللّه من ذلك» (1).

أقول: يمكن كون إيذائه بجميع الوجوه، و تبرئة اللّه إيّاه من جميعها.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 70 الی 71

ثمّ بالغ سبحانه في نصح المؤمنين بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ في مخالفة أحكامه، و إيذاء رسوله و المؤمنين وَ قُولُوا في حق رسولكم و إخوانكم المؤمنين و سائر الشؤون قَوْلاً سَدِيداً و كلاما حقا و صدقا، و لا تخوضوا في حديث جائر عن العدل و القصد،

إذن يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بالقبول و الإثابة عليها، و يوفّقكم لما يحبّه و يرضاه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)عن الصادق عليه السّلام-في رواية- «اعلم أنّه لا يقبل اللّه منك شيئا حتى تقول قولا عدلا» (2).

وَ يَغْفِرْ لَكُمْ بإزاء استقامتكم في القول و الفعل ذُنُوبَكُمْ العظام، فانّ الحسنات يذهبن السيئات.

ثمّ بالغ في الحثّ على طاعته بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أوامرهما و نواهيهما فَقَدْ فازَ في الدارين، و نال بأعلى المقاصد فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره، و لا يتصوّر مثله من العزّ و الكرامة، و الجنة و النّعم الدائمة، و الراحة الأبدية.

عن الصادق عليه السّلام: «من يطع اللّه و رسوله في ولاية علي و الأئمة بعده، فقد فاز فوزا عظيما» (3).

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من التكاليف و الآداب و الأخلاق، و الأمر بالتقوى و القول السديد، و الترغيب في طاعته، حثّ الناس على تحمّل مشاقّها ببيان عظمتها بقوله: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ الواجبة الرعاية و الحفظ، و هي على ما قيل تكاليفه و أحكامه (4)عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ مع عظمها و قوّتها بأن يجعلهن قابلات و مستعدّات لامتثالها، على أن يثيبهنّ بطاعتها، و يعذّبهن على

إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)

ص: 200


1- . مجمع البيان 8:583، تفسير الصافي 4:205.
2- . الكافي 8:107/81، تفسير الصافي 4:206.
3- . تفسير القمي 2:198، الكافي 1:342/8، تفسير الصافي 4:206.
4- . تفسير نور الثقلين 4:314، تفسير الرازي 25:234.

مخالفتها فَأَبَيْنَ و امتنعن أَنْ يَحْمِلْنَها و من تحمّلها، و قلن على ما قيل: يا رب، نحن مسخّرات بأمرك، لا نريد ثوابا و لا عقابا (1)وَ أَشْفَقْنَ مِنْها و خفن من العذاب المترتّب على مخالفتها جهلا بسعة الرحمة، و عدم الاعتماد بحفظه و تأييده تعالى، فانّ لكلّ موجود عقلا و إدراكا على مرتبة وجوده وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ و قبل مشقّة أداء حقّها عند عرضها عليه.

و قيل: إنّ عرض الأمانة من باب الفرض و التمثيل، إيضاحا لعظم شأن تلك الأمانة، و المعنى أنّ هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في الشدّة و القوّة، لو كانت ذات شعور و إدراك، و كلّفت بقبول تلك الأمانة و مراعاتها، لأبين من قبولها، و أشفقن منها، لغاية عظمة شأنها و تكلّفها، و التزم بها جنس الانسان مع ما فيه من ضعف البنية و رخاوة القوّة (2).

إِنَّهُ بالجبلّة كانَ ظَلُوماً و كثير التعدّي على نفسه بارتكاب العصيان جَهُولاً بوخامة عاقبتها.

عن ابن مسعود، أنّه قال: مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة، و دعيت السماوات و الأرض و الجبال إليها، فلم يقربوا منها، و قالوا: لا نطيق حملها، و جاء آدم من غير أن دعي و حرّك الصخرة، و قال: لو امرت بحملها لحملتها، فقلن له: احمل فحملها إلى ركبتيه، ثمّ وضعها و قال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلن له: احمل فحملها إلى حقوه، ثمّ وضعها و قال: لو أردت لزدت، فقلن له: أحمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها، فقال اللّه: مكانك، فانّها في عنقك و عنق ذرّيتك إلى يوم القيامة (3).

و روي أنّ آدم قال: أحمل الأمانة بقوّتي أم بالحقّ؟ فقيل: من يحملها يحمل بنا، فانّ ما هو منّا لا يحمل إلاّ بنا (4).

و روي أنّ عليا عليه السّلام إذا حضر وقت الصلاة يتململ و يتزلزل و يتلوّن، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: «جاء وقت الصلاه، وقت أمانة عرضها اللّه على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها» (5).

و في (النهج) في وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام للمسلمين: «ثمّ أداء الأمانة، فقد خاب من ليس أهلها، إنّها عرضت على السماوات المبنية، و الأرض المدحية، المدحوة و الجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها، و لو امتنع شيء ذو طول أو عرض أو قوة أو عزّ لا متنعن،

ص: 201


1- . تفسير البيضاوي 2:254، تفسير روح البيان 7:252.
2- . تفسير أبي السعود 7:118، تفسير روح البيان 7:252.
3- . تفسير روح البيان 7:253.
4- . تفسير روح البيان 7:253.
5- . عوالي اللآلي 1:324/62، تفسير الصافي 4:208.

و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ، و هو الانسان، إنّه كان ظلوما جهولا» (1).

و عن القمي رحمه اللّه: الأمانة هي الإمامة و الأمر و النهي-إلى أن قال-فالأمانة هي الإمامة، عرضت على السماوات و الأرض و الجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها أن يدّعوها، أو يغصبوها من أهلها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ يعني الأول إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (2).

و عن الصادق عليه السّلام «الأمانة: الولاية، و الانسان: أبو الشرور المنافق» (3).

أقول: ما ذكر في رواياتنا تأويل قابل للنقل، و قد ذكر كثير من العامة و الخاصة لها تأويلات لا ينبغي نقلها، لكونها من غير الراسخين في العلم.

سوره 33 (الأحزاب): آیه شماره 73

ثمّ علّل سبحانه العرض أو الحمل بقوله: لِيُعَذِّبَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ الذين خانوا في الأمانة بعد قبولها وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ الذين عصوا ربّهم بردّها و عدم قبولها، كذا قيل (4)وَ يَتُوبَ اَللّهُ و يرجع بالرحمة و قبول التوبة عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ الذين قبلوا الأمانة و راعوها، و اهتمّوا بحفظها، قيل: إنّ اللام لام العاقبة، و المعنى كان عاقبة العرض على الانسان (5)-أو عاقبة حملها-تعذيب الخائنين و إثابة الحافظين.

لِيُعَذِّبَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)و إنّما ذكر قبول توبتهم للتنبيه بأنّهم لا يخلون من فرطات باقتضاء جبلّتهم و تداركهم لها بالتوبة و الإنابة، و ذكر اسم الجليل أولا للتهويل و تربية المهابة، و إعادتها في موضع الاضمار لاظهار مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين و تفضيلهم.

و لمّا عبّر سبحانه عن تكاليفه بالأمانة، قدّم ذكر تعذيب المنافقين و المشركين إشعارا بكون التعذيب من لوازم الخيانة في الأمانة دون الإثابة على الحفظ، فانّها بالإحسان و التفضّل.

ثمّ لمّا وصف الانسان بكونه ظلوما جهولا، وصف ذاته المقدّسة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً و ستورا لظلم الظالمين من المؤمنين على أنفسهم بالعصيان رَحِيماً بالخاطئين و المسيئين بجهالة حيث يقبل توبتهم، و يثيبهم بما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر بقلب أحد.

ص: 202


1- . نهج البلاغة:317 الخطبة 199، تفسير الصافي 4:207.
2- . تفسير القمي 2:198، تفسير الصافي 4:207.
3- . معاني الأخبار:110/2، تفسير الصافي 4:207.
4- . تفسير روح البيان 7:256.
5- . تفسير أبي السعود 7:118، تفسير روح البيان 7:256.

عن ابي بن كعب: كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة، أو أطول منها، ثمّ رفع [أكثرها]من الصدور و نسخ و بقي ما بقي (1).

و في الحديث: «من قرأ سورة الأحزاب و علّمها أهله و ما ملكت يمينه، أعطي الأمان من عذاب القبر» (2).

عن الصادق عليه السّلام: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب، كان يوم القيامة في جوار محمّد و آله الأطهار و أزواجه» (3).

وفقّنا اللّه و جميع المؤمنين لإكثار تلاوتها، و التبرّك و العمل بما فيها، بمحمد و آله الطيبين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

تمّ تفسير سورة الأحزاب بعون اللّه الملك الوهّاب، و نسأله التوفيق لتفسير ما يتلوها.

ص: 203


1- . تفسير روح البيان 7:257، و هذه من الأخبار الباطلة التي تدلّ على النقصان في الكتاب الكريم، و هو منزّه عن كلّ أنواع التحريف سواء بالزيادة أو النقص باجماع المسلمين، و مصون من يد التغيير بحفظ العزيز العلاّم.
2- . تفسير روح البيان 7:257.
3- . ثواب الاعمال:110، مجمع البيان 8:524، تفسير الصافي 4:209.

ص: 204

في تفسير سورة سبأ

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة الأحزاب التي حكى اللّه في آخرها استهزاء الكفّار بوعد القيامة، و ذكر بعض أهوالها، و بيّن في أولها الولاية المطلقة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و في وسطها رسالته و خاتميته للأنبياء كافة، نظم بعدها سورة سبأ المبدوءة بدليل لزوم المعاد و إنكار الكفّار وقوعه، المتوسطة باثبات رسالته إلى كافة الناس إلى يوم القيامة، فابتدأ بذكر الأسماء المباركات حسب دأبه تعالى بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ أثنى على ذاته المقدّسة بقوله: اَلْحَمْدُ بجنسه و بجميع أنواعه و أفراده لِلّهِ وحده، و مختصّ بالواجب الوجود اَلَّذِي لَهُ بالملكية الإشراقية و الإيجادية ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الكواكب و غيرها وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس و الحيوان و النبات و الجبال و البحار و المعادن و غيرها من الموجودات التي خلقها اللّه لانتفاع الانسان في دينه و دنياه و معاده و معاشه، و إن لم يلزم كون الحمد على النعمة، لأنّه الثناء على الجميل اختياري وَ لَهُ تعالى وحده اَلْحَمْدُ فِي عالم اَلْآخِرَةِ الذي يكون بعد هذا العالم على قدرته و عدله و فضله وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ الذي خلق الأشياء على وفق المصلحة، و نظمها بأحسن نظام اَلْخَبِيرُ و العليم بجميع ذرات الكائنات و بواطنها و عواقبها.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ (2)

ثمّ قرّر كمال علمه و خبرويته و أوضحه بقوله يَعْلَمُ ما يَلِجُ و يدخل فِي مضائق اَلْأَرْضِ و خللها من المياه و الكنوز و الدافائن و الأموات و الأبخرة و نحوها وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من المياه و الأبخرة و الزروع و الحشائش و المعادن و الأموات حين البعث و غيرها وَ يعلم ما يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ من الملائكة و الكتب و الأمطار و البركات و نظائرها وَ ما يَعْرُجُ و يصعد و يدخل

ص: 205

فِيها من الملائكة و الأعمال الصالحة و الأدعية الخالصة و أمثالها وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ بالمطيعين و اَلْغَفُورُ للعاصين.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف نفسه بالقدرة و العلم الدالين على إمكان المعاد، و الحكمة الدالة على وجوبه عليه، حكى إنكار المنكرين له بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا جهلا و عنادا: لا تَأْتِينَا اَلسّاعَةُ قيل: إنّه قال أبو سفيان و حلف باللاّت فأمر بردّهم (1)بقوله: قُلْ يا محمد لهم بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة البتة. ثمّ وصف نفسه بقوله: عالِمِ اَلْغَيْبِ تنبيها بأنّها من الغيوب التي لا يطّلع عليها غيره، فانّه هو الذي لا يَعْزُبُ و لا يغيب عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ و أصغر من شيء كائن فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ مع سعتهما وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ المثال و المقدار وَ لا أَكْبَرُ منه إِلاّ أنّه مثبوت فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللّوح المحفوظ،

و إنّما يأتي اللّه بالساعة و يثبت الأشياء لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ في يوم الساعة على إيمانهم و أعمالهم و جزاء أُولئِكَ المؤمنون أن لَهُمْ بالاستحقاق مَغْفِرَةٌ للذنوب وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ مكرّم لا تعب فيه و لا منّة، فانّ كمال الانسان ليس إلاّ بالايمان و العمل، و ليس هذا العالم محلّ الجزاء عليهما، فلا بدّ من عالم آخر يجزي عليهما.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا اَلسّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ اَلْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 5 الی 6

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حال المؤمنين، ذكر حال الكفّار بقوله: وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا و مشوا سريعا فِي إبطال آياتِنا القرآنية و أدلّة التوحيد و المعاد و الرسالة حال كونهم ظانّين و زاعمين أنّهم مُعاجِزِينَ لنا، و قادرين على الخروج من تحت قدرتنا بحيث نعجز عن تعذيبهم، أو معاجزين

وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ (6)

ص: 206


1- . تفسير روح البيان 7:260.

للضعفاء عن الاستدلال بها أُولئِكَ المسارعون بسبب جدّهم و سعيهم ذلك لَهُمْ في الآخرة عذاب كائن مِنْ جنس رِجْزٍ و سوء عذاب و شديده و أَلِيمٌ غايته.

ثمّ بيّن قوّة إيمان أهل العلم، و عدم تأثير سعيهم و كيدهم في تثبيطهم عن الايمان بقوله: وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ بالكتب السماوية و أحوال الأنبياء و بياناتهم بعين القلب و نور العلم. القمي: هو أمير المؤمنين عليه السّلام (1)اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من النبوة و القرآن و الأحكام و الحكم هُوَ بالخصوص اَلْحَقَّ الحقيق بالقبول وَ يَهْدِي المصدّقين له إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ و دين اللّه الغالب المستحقّ للثناء و التمجيد، أو اللّه المنتقم من المكذّبين، و الشكور على المصدقين، ففي ذكر الوصفين ترهيب و ترغيب.

و قيل: فيه ترغيب فقط، فانّ سلوك صراط العزيز موجب للعزّ في الدارين، و قربه سبب للكرامة في النشأتين (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إنكار الكفّار وردّهم بكونه مقدورا له، و موافقا للحكمة الملزمة، حكى سبحانه استهزاءهم بإخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به، و استعجالهم منه بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بعضهم لبعض استهزاء بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا قوم هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يدّعي النبوة و الرسالة من اللّه و يُنَبِّئُكُمْ و يخبركم بأعجب الأعاجيب الذي لا يقول به عاقل و هو أنكم إِذا متّم و مُزِّقْتُمْ و فرّقتم كُلَّ مُمَزَّقٍ و غاية التفرّق بأن صرتم ترابا و رفاتا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و تخلقون مرة اخرى،

و تحيون حياة ثانية لا ندري أَفْتَرى و اختلق عَلَى اَللّهِ في إخباره هذا كَذِباً واضحا فظيعا، إن قال ذلك مع شعور و قصد أَمْ بِهِ جِنَّةٌ و مرض زوال العقل، يوهمه ذلك إن قال هذا القول من دون شعور و قصد.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذابِ وَ اَلضَّلالِ اَلْبَعِيدِ (8)ثمّ ردّهم اللّه بأن الأمر ليس كما زعموا، فانّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله مبّرأ من الافتراء و الجنون بَلِ اَلَّذِينَ نسبوا أحد الأمرين إليه على سبيل منع الخلوّ أجهل الجهال و أسفه السّفهاء، لأنّهم بسبب أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و لا يصدّقون دار الجزاء واقعون فِي اَلْعَذابِ الشديد في الآخرة وَ اَلضَّلالِ

ص: 207


1- . تفسير القمي 2:198، تفسير الصافي 4:211.
2- . الرازي 25:243.

و الانحراف اَلْبَعِيدِ عن الحقّ و الصواب في الدنيا، و هم لا يدركون حالهم في الدنيا و مآلهم في الآخرة، و لو كان لهم عقل و إدراك لفهموا حقيقة حالهم، و لما اجترءوا على إساءة مقالهم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 9 الی 13

ثمّ و بّخهم سبحانه بعدم التفاتهم على كونهم محاطين بقدرة اللّه و في قبضته الدالّ على توحيده تعالى بقوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ بحيث لا يقدرون على الفرار منها.

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنّا لَهُ اَلْحَدِيدَ (10) أَنِ اِعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ وَ اِعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ اَلسَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ (13)ثمّ هدّدهم بقوله: إِنْ نَشَأْ تعذيبهم على كفرهم و سوء مقالهم نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ كما خسفناها بقارون أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً و قطعا من النار مِنَ اَلسَّماءِ كما أسقطنا على قوم شعيب لتكذيبهم الآيات بعد ظهور البينات إِنَّ فِي ذلِكَ النظر و الفكر فيهما و في إحاطتهما بالخلق، أو ما تلي عليهم من الآية الناطقة بما ذكروا اللّه لَآيَةً و دلالة واضحة على التوحيد و المعاد، و لكن لا للقاسية قلوبهم، بل لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجّاع إلى ربّه، فانّه إذا تأمّل فيها ينزجر عن تعاطي القبيح من الشرك و إنكار المعاد.

ثمّ لمّا مدح العبد المنيب ذكر نعمه و لطفه على داود عليه السّلام المشهور بالانابة بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا داوُدَ النبي مِنّا فَضْلاً و مزية على أقرانه من الأنبياء و الأولياء لكثرة إنابته، بأن قلنا للجبال التي في غاية الجمودة: يا جِبالُ أَوِّبِي و سبّحي مع داود، و رجّعي بالتسبيح إذا سبّح، أو سيري مَعَهُ وَ سخّرنا له اَلطَّيْرَ مع غاية نفوره من الانسان، فكان الجبال و الطير يسبّحن إذا سبّح داود عليه السّلام بحيث يسمع الناس تسبيحهما بلسان فصيح.

ص: 208

القمي رحمه اللّه، قال: كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزّبور، و تسبّح معه الجبال و الطير و الوحوش (1)وَ أَلَنّا لَهُ كالشمع و العجين اَلْحَدِيدَ بحيث يصرّفه في يده كيف يشاء من غير إحماء بنار، و قلنا له:

أَنِ اِعْمَلْ و اصنع منه سابِغاتٍ و دروعا واسعة طويلة وَ قَدِّرْ و اقتصد فِي اَلسَّرْدِ و نظم الحلق و نسجها بحيث تناسبت و تساوت في الدقّة و الغلظ فلا تغلق و لا تحرق.

عن الرضا عليه السّلام: «الحلقة بعد الحلقة» (2). و قال القمي: المسامير التي في الحلقة (3).

قيل: إنّه عليه السّلام أوّل من اخترع الدرع، و كان قبل ذلك صفائح حديد مضروبة (4).

روي أنّه عليه السّلام حين ملك بني إسرائيل كان يخرج متنكّرا، فيسأل الناس ما يقولون في غيابه، فبعث اللّه ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته، فقال الملك: نعم الرجل داود، لو لا خصلة فيه: فسأله عنها، فقال: إنه يأكل و يطعم عياله من بيت المال، و لو أكل من عمل يده لتمّت فضائله. فعند ذلك سأل اللّه أن يسبّب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلّمه سبحانه صنعة الدرع، فكان يعمل في كلّ يوم درعا و يبيعها بأربعة آلاف درهم، أو بستة آلاف، ينفق على نفسه و عياله ألفين، و يتصدّق بالباقي على الفقراء (5).

و في الحديث: «كان داود لا يأكل إلاّ من كسب يده» (6).

و قيل: إنّ المراد من التقدير في السّرد أن لا يصرف جميع أوقاته فيه، بل يصرف مقدارا تحصل به القوة، و يصرف البقية في العبادة (7).

وَ قلنا اِعْمَلُوا يا داود و آله عملا صالِحاً خالصا للّه إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من العبادات بَصِيرٌ و مطّلع، فأجازيكم عليها أحسن الجزاء.

وَ سخّرنا لِسُلَيْمانَ بن داود اَلرِّيحَ و هي الصّبا على ما قيل (5)غُدُوُّها و سيرها من طلوع الشمس إلى الزوال شَهْرٌ و مقدار سير الراكب المسرع بين الهلالين وَ رَواحُها و سيرها من الزوال إلى الغروب شَهْرٌ فكانت تسير في يوم واحد مسيرة شهرين للراكب.

القمي: كانت الريح تحمل كرسي سليمان، فتسير به في الغداة مسيرة شهر، و بالعشي مسيرة شهر (6).

وَ أَسَلْنا و أجرينا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ و النّحاس المذاب كالماء الجاري من العين، كما ليّنا لأبيه الحديد، فكان يصنع منه كلّما أراد.

ص: 209


1- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:211.
2- . قرب الاسناد:364/1305، تفسير الصافي 4:212.
3- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:212.
4- . تفسير روح البيان 7:267. (5 و 6 و 7) . تفسير روح البيان 7:268.
5- . تفسير روح البيان 7:269.
6- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:212.

قيل: كان المعدن باليمن (1).

و القمي قال: عين الصّفر (2).

وَ كان مِنَ طائفة اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ له أعمالا عجيبة بَيْنَ يَدَيْهِ و في منظره و مرآه بِإِذْنِ رَبِّهِ و بأمره وَ مَنْ يَزِغْ و يعدل مِنْهُمْ عَنْ طاعة أَمْرِنا إيّاه بطاعة سليمان، و يمل إلى عصيانه نُذِقْهُ و نطعمه مِنْ عَذابِ اَلسَّعِيرِ و النار الموقدة في الآخرة، أو في الدنيا.

قيل: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلّما استعصى عليه جنّي ضربه من حيث لا يراه ضربة فأحرقته بالنار (3).

و كان الجنّ يَعْمَلُونَ لسليمان و يصنعون لَهُ بأمره ما يَشاءُ و يريد مِنْ مَحارِيبَ و قصور و غرف عالية و مساكن شريفة وَ تَماثِيلَ و صور مجسمة من صور الملائكة و الأنبياء و الوحوش و الطيور و الأشجار و غيرها.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنّها الشجر و شبهه» (4).

وَ جِفانٍ و أوان كبيرة كَالْجَوابِ و الحياض الكبار وَ قُدُورٍ و ظروف من النّحاس أو الحجارة يطبخ فيها اللّحم راسِياتٍ و ثابتات على الأثافي، لا تنزل منها لعظمها، و لا تحرّك من أماكنها، بل يصعد عليها بالسلالم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ لمّا ذكر نعمه الخاصة على سليمان عليه السّلام، طلب منه العبادة و الشكر بقوله: اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ للّه و اعبدوه، لأجل أن يكون عملكم شُكْراً له تعالى على نعمه، أو المراد اشكروا للّه شكرا، أو افعلوا شكرا وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ المجدّ في أداء حقّ نعمه بالقلب و اللسان و الجوارح، و إن لم يمكن الخروج عن عهدة شكر نعمه، لأنّ توفيق الشكر نعمة عظيمة يجب شكرها.

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ (13) فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ (14)

ثمّ لمّا ذكر عظمة ملك سليمان و سلطانه، ذكر نعمته عليه بعد موته بإقامة جسده معتمدا على عصاه، ليتمّ أغراضه، و نبّه على أنّ أحدا لا ينجو من الموت بقوله: فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ

ص: 210


1- . تفسير روح البيان 7:271.
2- . تفسير القمي 2:199، تفسير الصافي 4:212.
3- . تفسير روح البيان 7:272.
4- . الكافي 6:527/7، مجمع البيان 8:600، تفسير الصافي 4:212.

و حكمنا بزهاق (1)روحه من جسده و مات، بقي معتمدا على عصاه مدة مديدة، لكيلا تتوانى جنوده من الجنّ و الإنس في ما كلّفهم من الأعمال المقصودة له.

ثمّ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ و ما عرفهم به إِلاّ الأرضة التي هي دَابَّةُ اَلْأَرْضِ و حشراتها التي تأكل الخشب، فكانت تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ و عصاه فَلَمّا انكسرت و خَرَّ و سقط سليمان عليه السّلام على الأرض ميتا تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ و ظهرت لهم أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ لعلموا بموت سليمان حينه و ما لَبِثُوا و ما مكثوا بعد موته مدّة مديدة فِي اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ و الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها له بتسخيره و بأمره.

و قيل: يعني تبيّنت للإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلى آخره (2)، فانّ الإنس لمّا رأوا أنّ الجنّ يعلمون ما لا يعلمه الإنس، ظنّوا أنّهم يعلمون الغيب، فظهر بظهور جهلهم بموت سليمان عليه السّلام خطأ الإنس في ذلك الظنّ.

قيل: إنّه لمّا دنا أجل سليمان عليه السّلام لم يصبح إلاّ و رأى في محرابه شجرة نابتة (3)، فكان يسألها من خواصها فتخبره بها، و هو يخبر الأطبّاء بها، ثمّ إنّه رأى في محرابه يوما حشيشا خشبا رطبا، فسأله عن اسمه و خاصيّته، فقال: أمّا اسمي فخرتوب (4)، و أمّا خاصيّتي فتخريب البيوت، فانّي في أيّ بيت أنبت يخرب ذلك البيت، فعلم سليمان عليه السّلام أنّه قد دنا أجله.

ثمّ أنّه لاقى ملك الموت، فقال له: أخبرني بوقت موتي، فجاءه يوما و قال: لم يبق من عمرك إلاّ ساعة، فأوص بما شئت، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّي، و أجتمعت الشياطين حوله، و لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلاّ احترق، فقبض عزرائيل روحه الشريف، فبقي جسده قائما متكئا على عصاه سنة، و لم يعلم أحد بموته، و لا ينكرون عدم خروجه لطول صلاته قبل ذلك، فلمّا أكلت الأرضة عصاه، سقط على الأرض، فمرّ شيطان به، فلم يسمع صوته، ثمّ رجع فلم يسمع صوته، ثمّ نظر فاذا هو قد خرّ ميتا، ففتحوا عنه، فاذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها في يوم و ليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة، و كانوا يعملون بين يديه بظنّ أنه كان حيا.

ثمّ أنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيبه، و لو كنت تشربين الشراب أسقيناك من أطيبه، و لكن ننقل إليك الماء و الطين، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، أ لم تر إلى

ص: 211


1- . كذا، و الصواب: زهوق.
2- . مجمع البيان 8:601، تفسير روح البيان 7:278.
3- . تفسير روح البيان 7:278.
4- . كذا، و لعله خرنوب، أو خرّوب.

الطين الذي يكون في جوف الخشب، فهو ما يأتيها الشياطين تشكّرا لها (1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى سليمان بن داود عليه السّلام أنّ آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها الخرنوبة، فنظر سليمان يوما فاذا الشجرة الخرنوبة قد طلعت من بيت المقدس، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، فولى سليمان عليه السّلام مدبرا إلى محرابه، فقام فيه متّكأ على عصاه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أمر سليمان الجنّ فوضعوا له قبة من قوارير، فبينما هو متّكيء على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف يعملون، و ينظرون إليه، إذ حانت منه التفاتة، فاذا هو برجل معه في القبّة، ففزع منه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرّشا، و لا أهاب الملوك، أنا ملك الموت، فقبضه و هو متّكئ على عصاه في القبّة، و الجنّ ينظرون إليه، فمكثوا سنة يدأبون له، حتى بعث اللّه الأرضة فأكلت منسأته، و هي العصا فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ الآية» (3).

قال: «فالجنّ تشكر الأرضة بما عملت بعصا سليمان، فما تكاد تراها في مكان إلاّ و عندها ماء و طين» (4).

و قال القمي: فلمّا خرّ لوجهه تبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون، إلى آخره، و ذلك أن الإنس كانوا يقولون إنّ الجنّ يعلمون الغيب، فلمّا سقط سليمان على وجهه، علموا أن لو يعلم الجنّ الغيب لم يعملوا سنة لسليمان و هو ميت، و يتوهّمونه حيا (5).

و عن الرضا عن أبيه عليهما السّلام: «أنّ سليمان عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي؛ سخّر لي الريح و الإنس و الجنّ و الطير و الوحوش، و علّمني منطق الطير، و آتاني من كلّ شيء، و مع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل، و قد أحببت أن أدخل قصري فأصعد أعلاه، و أنظر إلى ممالكي، و لا تأذنوا لأحد عليّ لئلا ينغّص عليّ يومي. قالوا: نعم.

فلمّا كان من الغد، أخذ عصاه بيده، و صعد إلى أعلى موضع من قصره، و وقف متّكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما اوتي، فرحا بما أعطي، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه و اللباس، قد خرج إليه من بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به قال له: من أدخلك إلى هذا القصر، و قد أردت أن أخلو فيه

ص: 212


1- . تفسير روح البيان 7:279.
2- . الكافي 8:144/114، تفسير الصافي 4:213.
3- . علل الشرائع:74/3، تفسير الصافي 4:213.
4- . علل الشرائع:74/3، تفسير الصافي 4:213.
5- . تفسير القمي 2:200، تفسير الصافي 4:213.

اليوم، فبإذن من دخلت؟ قال الشابّ: أدخلني هذا القصر ربّه، و بإذنه دخلت. فقال: ربّه أحقّ به مني، فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت. قال: فيما جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك. قال: امض لما امرت به، فهذا يوم سروري، و أبي اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سرور دون لقائه.

فقبض ملك الموت روحه و هو متّكيء على عصاه، فبقي سليمان عليه السّلام متّكئا على عصاه و هو ميت ما شاء [اللّه]و الناس ينظرون إليه، و يقدّرون أنّه حيّ، فافتتنوا فيه و اختلفوا، فمنهم من قال: قد بقي سليمان متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة لم يتعب و لم ينم، و لم يأكل و لم يشرب، إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده. و قال قوم: إنّه ساحر، و إنّه يرينا أنّه واقف متّكيء على عصاه بسحر أعيننا-إلى أن قال-: فلمّا اختلفوا بعث اللّه عزّ و جلّ الأرضة، فدبّت في عصاه، فلمّا أكلت جوفها انكسرت، و خرّ سليمان من قصره» . الخبر (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه عاش سليمان سبعمائة و اثنتي عشرة سنة» (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 15 الی 17

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لطفه بالمنيبين الشاكرين، ذكر نقمته على الكافرين بقوله: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ و هم قبيلة في اليمن يدعون باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ (17)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ سبأ رجل من العرب، ولد عشرة» الخبر (3).

فِي مَسْكَنِهِمْ و محلّ إقامتهم، و هو مدينة مأرب باليمن، بينها و بين صنعاء ثلاث مراحل آيَةٌ عظيمة، و دلالة واضحة على وجود الصانع الحكيم اللطيف بعباده، و هي جنان كثيرة متّصلة بعضها ببعض بحيث تعدّ جَنَّتانِ أحدهما عَنْ يَمِينٍ من المدينة وَ الاخرى عن شِمالٍ منها.

و قيل: يعني لكلّ مسكن و دار جنّتان عن يمينها و شمالها (4).

و قال لهم ربّهم بلسان نبيّهم أو بلسان الحال: يا قبيلة سبأ كُلُوا و انتفعوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ و نعمه

ص: 213


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:265/24، علل الشرائع:73/2، تفسير الصافي 4:214.
2- . كمال الدين:524/3، تفسير الصافي 4:215.
3- . مجمع البيان 8:604، تفسير الصافي 4:215.
4- . تفسير أبي السعود 7:127، تفسير روح البيان 7:281.

وَ اُشْكُرُوا لَهُ على رزقكم، فانّ لكم مضافا إلى أنواع الثّمار بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ من حيث الهواء و الماء و الأمان من الأعداء و المؤذيات، تعيشون فيها في الدنيا وَ رَبٌّ غَفُورٌ لذنوبكم في الآخرة

فَأَعْرَضُوا عن آياتنا، و لم يعتنوا بها، و عن شكر نعمنا، فلم يؤدّوا حقّها بالقيام بالطاعة فَأَرْسَلْنا و أجرينا عَلَيْهِمْ و على بساتينهم و أموالهم سَيْلَ اَلْعَرِمِ و الشديد. قيل: إنّ العرم اسم واد جاء منه السيل، كما عن ابن عباس. أو قيل: إنه اسم السدّ الذي يحبس الماء بلغة حمير (1). و قيل: هو اسم الجرد الذّكر الذي أرسله اللّه، فنقب عليهم ذلك السدّ (2).

قيل: إنّه كان مسكن أولاد سبأ في حوالي بلدة مأرب بين الجبلين، طوله ثمانية عشر فرسخا، و كان لا يأتيهم الماء من مسيرة عشرة أيام حتى يجري بين الجبلين، فجعلت بلقيس سدّا بين الجبلين من الأحجار و القار، كي تجتمع فيه مياه الأمطار و العيون، و جعلت له ثقوبا في أعلاه و وسطه و أسفله، فاذا امتلأ السدّ فتحوا الثقوب العالية، و سقوا مزارعهم و بساتينهم، و إذا توسّطه الماء فتحوا الثقوب المتوسطة و هكذا، فبعث اللّه ثلاثة عشر نبيا إلى ثلاث عشرة قرية من قراهم، فدعوهم إلى الايمان و الطاعة، و ذكّروهم نعم اللّه، و خوّفوهم عذابه، فكذبوهم و قالوا: ما تعرف له علينا من نعمة، فقولوا لربّكم فليحبس عنّا هذه النّعمة إن استطاع، فارسل اللّه الجرذ، فخرّبوا السدّ، فجاءهم السيل الذي لا يطاق، و ملأ ما بين الجبلين، و حمل الجنّات و كثيرا من الناس، و أغرق أموالهم و مواشيهم (3).

القمي، قال: إنّ البحر كان باليمن، و كان سليمان أمر جنوده أن يجروا لهم خليجا من البحر العذب إلى بلاد الهند، ففعلوا ذلك، و عقدوا عقدة عظيمة من الصخر و الكلس حتى يفيض على بلادهم، و جعلوا للخليج مجاري، فكانوا إذا أرادو أن يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه، و كانت لهم جنّتان عن يمين و شمال من مسيرة عشرة أيام، فيها يمرّ المارّ لا تقع عليه الشمس من التفافهما، فلمّا عملوا بالمعاصي و عتوا عن أمر ربّهم، و نهاهم الصالحون فلم ينتهوا، بعث اللّه عز و جل على ذلك السدّ الجرذ-و هي الفأرة الكبيرة-فكانت تقلع الصخرة التي لا تسقلّها الرجال، و ترمي بها، فلمّا رأى ذلك قوم منهم هربوا و تركوا البلاد، فما زال الجرذ يقلع الحجر حتى خرّبوا ذلك [السدّ]فلم يشعروا حتى غشيهم السيل، و خرّب بلادهم، و قلع أشجارهم، و هو قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ إلى قوله: سَيْلَ اَلْعَرِمِ أي العظيم الشديد (4).

وَ بَدَّلْناهُمْ و عوضناهم بِجَنَّتَيْهِمْ اللتين كانتا عن اليمين و الشمال، و ذاتي أشجار مثمرة نافعة

ص: 214


1- . تفسير روح البيان 7:283.
2- . تفسير أبي السعود 7:128.
3- . تفسير روح البيان 7:283.
4- . تفسير القمي 2:200، تفسير الصافي 4:215.

جَنَّتَيْنِ اخريين ذَواتَيْ أُكُلٍ و ثمر خَمْطٍ وَ مرّ، و شجر وَ أَثْلٍ يقال له طرفاء، و لا ثمر له وَ شَيْءٍ مِنْ شجر سِدْرٍ قَلِيلٍ.

قيل: توصيف السّدر بالقلّة، لكون ثمره-و هو النّبق-ممّا يطيب أكله (1).

و قيل: إنّ السّدر صنفان: صنف يؤكل من ثمره و ينتفع بورقه لغسل اليد، و صنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا، و هو البرّي الذي يقال له الضالّ، و المراد ها هنا هو الثاني، فكان شجرهم من خير شجر، فصيّره اللّه من شرّ شجر بسبب أعمالهم القبيحة (2).

ذلِكَ التبديل، أو الجزاء الفضيع جَزَيْناهُمْ لا جزاء آخر بِما كَفَرُوا نعمتنا و بسبب تركهم شكرها، أو بسبب كفرهم باللّه و رسله وَ هَلْ نُجازِي بسلب النعمة و وضع ضدّها مكانها إِلاَّ اَلْكَفُورَ و المصرّ في ترك الشكر، لا و اللّه لا نجازي به غيره.

و قيل: كلمة (هل) هنا للنفي (3).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 18 الی 19

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر النّعم التي كانت لهم في بلدهم و كفرانها، ذكر النعمة الخارجة و كفرانهم بقوله: وَ جَعَلْنا و أوجدنا مضافا إلى ما آتيناهم من النّعم في مساكنهم بَيْنَهُمْ و في المسافة التي بين بلادهم اليمنية وَ بَيْنَ اَلْقُرَى و البلاد الشامية اَلَّتِي بارَكْنا و أكثرنا النّعم فِيها بالمياه الكثيرة، و الأشجار المثمرة، و الخصب و السّعة في المعيشة للأغنياء و الفقراء، كفلسطين و أريحا و الأردنّ.

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا اَلسَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (19)و القمي، قال: هي مكّة (4).

قُرىً ظاهِرَةً و متواصلة يرى بعضها من بعض.

قيل: كان بين سبأ و الشام أربعة آلاف و سبعمائة قرية (5)، أو ظاهرة للمسافر بكونها على الطريق غير

ص: 215


1- . تفسير البيضاوي 2:259، تفسير روح البيان 7:284.
2- . تفسير روح البيان 7:284.
3- . تفسير روح البيان 7:284.
4- . تفسير القمي 2:201، تفسير الصافي 4:216.
5- . تفسير روح البيان 7:285.

بعيدة عنه حتى تخفى عليه وَ قَدَّرْنا في تلك القرى و عيّنا فِيها للمسافر اَلسَّيْرَ و السلوك في الأرض مقدارا من المسافة يليق بحال عابري السبيل.

قيل: كان الغادي يقيل في الاخرى، و الرائح منها يبيت في اخرى إلى أن يبلغ الشام، لا يحتاج إلى حمل زاد و ماء، نعمة عليهم في سفرهم (1).

و قلنا له بلسان الحال أو المقال: يا أولاد سبأ سِيرُوا في تلك القرى، و سافروا فِيها لمصالحكم، و إن تطاولت مدّة سفركم لَيالِيَ وَ أَيّاماً كثيرة حال كونكم آمِنِينَ من الأعداء و اللصوص و السباع بسبب كثرة الخلق، و من الجوع و العطش بسبب عمارة المواضع، أو المراد سيروا فيها متى شئتم من الليالي و الأيام لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، فبطر أولاد سبأ النعمة،

و سئموا طيب العيش فَقالُوا طلبا للتعب: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ منازل أَسْفارِنا بتخريب القرى و جعلها مفاوز، ليركبوا فيها، و يحملوا الزاد، و يتطاولوا على الفقراء وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للسّخط و العذاب بالشّرك.

فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ و قصّتهم أخبارا دائرة على ألسن الناس، وعظة و عبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة وَ مَزَّقْناهُمْ و فرّقناهم في الأرض كُلَّ مُمَزَّقٍ و غاية التفريق بحيث يضرب به المثل، و يقال: تفرّقوا أيدي سبأ، فانّهم كانوا قبائل ولدهم سبأ، و لم يبق أحد منهم في مأرب، بل سكن غسّان في الشام، و قضاعة في مكة، و أسد في البحرين، و أنمار في يثرب، و جذام بتهامة، و الأزد في عمان إِنَّ فِي ذلِكَ التفريق و اللّه لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة و عبرا كثيرة و حججا قاطعة على وحدانية اللّه و قدرته، و غضبه على الكافرين، و إنّما تكون فائدتها لِكُلِّ صَبّارٍ و مبالغ في حفظ النفس عن المعاصي و شَكُورٍ و مجدّ في أداء حقّ نعم اللّه، و هو المؤمن الكامل في الإيمان المجتهد في عبادة الرحمن.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كفران أولاد سبأ و طغيانهم، و تعذيبهم بسلب النّعم، بيّن أنّها بتسويل الشيطان بقوله: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ و حقّق و أظهر إِبْلِيسُ مطابقة ما ظَنَّهُ و زعمه في حقّ

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (20) وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

ص: 216


1- . تفسير روح البيان 7:285.

أولاد آدم من كونهم يغوون بإغوائه للواقع حيث دعاهم إلى الشرك و العصيان فأجابوه، و أمرهم بها فَاتَّبَعُوهُ و أطاعوه إِلاّ فَرِيقاً مِنَ فرق اَلْمُؤْمِنِينَ و هم المخلصون منهم.

و قيل: إنّ (من) بيانية (1)و المراد إلاّ فرقة المؤمنين.

و قيل: ظنّه أنه ناري و آدم طيني، و النار تأكل الطين (2). أو ظنّه أنّ بني آدم مفسدون في الأرض (3). و قيل: إنّه ظنّ أنه يقدر على إغواء بني آدم فلمّا زيّن له الكفر و المعاصي، و قبلوا منه و اتّبعوه، وجدهم كما ظنّ فيهم (4).

ثمّ بيّن سبحانه أن إبليس ما قهرهم على العصيان بقوله: وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ شيء مِنْ سُلْطانٍ و قهر بحيث يسلب عنهم الاختيار، و إنّما كان سلطنته عليهم بالوسوسة و الإغواء، و لم نجعل له هذه السلطنة إِلاّ لِنَعْلَمَ و نميّز مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ و يخاف عقابنا مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ و لا يؤمن بها و لا يخاف من حسابها.

قيل: إنّ المراد بحصول العلم وجود متعلّقه (5)وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خصوصيات خلقه و أحوالهم و بواطنهم و ظواهرهم حَفِيظٌ و مطّلع لا تخفى عليه خافية حتى يحتاج إلى الاستعلام.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان تأويل هذه الآية أنّه لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الظن من إبليس حين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ينطق عن الهوى، فظّن بهم إبليس ظنّا، فصدّقوا ظنّه» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينصّب أمير المؤمنين عليه السّلام للناس في قوله: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (7)في عليّ بغدير خمّ، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر و حثوا التّراب على رؤوسهم، فقال لهم إبليس: ما لكم؟ قالوا: إنّ هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا، إنّ الذين حوله قد و عدوني فيه عدة لن يخلفوني، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» (8).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 22 الی 23

قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (23)

ص: 217


1- . تفسير أبي السعود 7:130، تفسير روح البيان 7:287.
2- . تفسير روح البيان 7:288.
3- . تفسير أبي السعود 7:130.
4- . تفسير روح البيان 7:288.
5- . تفسير أبي السعود 7:131.
6- . الكافي 8:345/542، تفسير الصافي 4:218.
7- . المائدة:5/67.
8- . تفسير القمي 2:201، تفسير الصافي 4:218.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وخامة عاقبة الشّرك و الكفران، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإبطال مذهب الشّرك، و تبكيت المشركين بقوله: قُلِ يا محمد، للمشركين تهكّما اُدْعُوا و نادوا الأصنام اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ و توهّمتم أنّهم آلهة مِنْ دُونِ اَللّهِ و عبدتموهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ حتى يجيبوكم، كلا لا يقدرون على شيء من ذلك لأنّهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير و شرّ و نفع و ضرّ، لا فِي اَلسَّماواتِ السبع وَ لا فِي اَلْأَرْضِ و ليس لهم تصرّف فيهما وَ ما لَهُمْ فِيهِما خلقا و ملكا و تصرّفا مِنْ شِرْكٍ و دخل وَ ما لَهُ تعالى مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ و عون كي يعجز عن إنفاذ إرادته عند تركهم المعاونة،

فان تتوقّعون شفاعتهم عند اللّه فاعلموا أنّه لا تفيد وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ من أحد لأحد عِنْدَهُ إِلاّ إذا كانت لِمَنْ أَذِنَ لَهُ في الشفاعة حَتّى إِذا فُزِّعَ و ازيل الخوف عَنْ قُلُوبِهِمْ بالاذن لهم في الشفاعة، قام المذنبون المنتظرون لشفاعتهم و قالُوا لهم: أيّها الشّفعاء ما ذا قالَ رَبُّكُمْ و أيّ شيء أوحى إليكم في شأن الشفاعة فأجابهم الشّفعاء و قالُوا: قال ربنا القول اَلْحَقَّ و هو الإذن في شفاعة المذنبين من المؤمنين دون غيرهم وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ و العظيم سلطانا، فليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلّم إلاّ بإذنه.

و قيل: إنّ المراد من الفزع: الفزع الذي عند الوحي، فانّ من في السماوات يفزعون عند نزول الوحي، ثمّ يزيل اللّه عنهم الفزع، فيقولون لجبرئيل: ماذا قال اللّه؟ فيقول: قال الحقّ، أي الوحي (1).

عن الباقر عليه السّلام: «و ذلك أنّ أهل السماوات لم يسمعوا [و حيا]فيما بين أن بعث عيسى بن مريم عليه السّلام إلى أن بعث محمد صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا بعث اللّه جبرئيل إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا، فصعق أهل السماوات، فلمّا فرغ من الوحي انحدر جبرئيل، كلّما مرّ بأهل سماء فزّع عن قلوبهم. فقال بعضهم لبعض: ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ و هو العليّ الكبير» (2).

و قيل: إنّ اللّه تعالى يزيل الفزع عن القلوب وقت الموت، فيعترف كلّ أحد بأنّ ما قال اللّه تعالى هو الحقّ، فينفع ذلك القول من سبق ذلك منه في حياته (3).

و قيل: إنّ المراد الفزع من قيام الساعة، لأنّ الوحي إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله من أشراطها، فاذا أوحي إليه فزّع أهل السماوات من قيام الساعة حتى إذا ازيل الفزع من قلوبهم قالوا لجبرئيل: ماذا قال ربّكم؟ (4)

ص: 218


1- . تفسير الرازي 25:255.
2- . تفسير القمي 2:202، تفسير الصافي 4:219.
3- . تفسير الرازي 25:255.
4- . تفسير الرازي 25:255.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 24 الی 26

ثمّ قرّر سبحانه عدم مالكية الأصنام شيئا بقوله: قُلْ يا محمد، تبكيتا للمشركين: أيّها المشركون مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماواتِ بإنزال الأمطار وَ اَلْأَرْضِ باخراج النباتات و لا تنتظر الجواب منهم، و قُلْ يرزقكم اَللّهُ لأنّهم لا ينكرونه بقلوبهم، و إن لم يقرّوا باللسان خوفا من الإلزام، ثمّ دارهم في المجادلة، و لا تنسبهم إلى الضلال بالصراحة، بل قل: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى مركّب هُدىً و رشاد، نسير به إلى المقصد الأعلى أَوْ منغمر فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ و واضح عن الحقّ.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللّهُ وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّاحُ اَلْعَلِيمُ (26)

ثمّ بالغ في الإنصاف و المداراة معهم قُلْ أنتم أيّها المشركون لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا و لا تؤاخذون بذنوبنا وَ نحن لا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ من عمل سوء، و في نسبة الاجرام إلى نفسه و اتباعه و العمل إلى الخصم، حطّ النفس، و حفظ الخصم عن التعصّب المانع عن النظر مع كون الجملتين باعثتين إليه.

ثمّ أمر سبحانه بالمبالغة في الحثّ على النظر و التفكّر بقوله: قُلْ يا محمد لهم: اعلموا أنّه يَجْمَعُ بَيْنَنا و بينكم يوم القيامة رَبُّنا حين الحشر للحساب ثُمَّ يَفْتَحُ و يحكم بَيْنَنا و بينكم بِالْحَقِّ بعد ظهور حال كلّ منّا و منكم، بأن يدخل المحقّين الجنّة، و المبطلين النار، فانّ اللّه أعلم بالحقّ و الباطل وَ هُوَ اَلْفَتّاحُ اَلْعَلِيمُ بما يحقّ أن يحكم به، و بمن يحكم له و من يحكم عليه، كما أنّه عليم بغيرها من الأمور.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عجز الأصنام عن أن يضرّوا أو ينفعوا، بيّن عدم وجود كمال فيها يوجب استحقاقها العبادة (1)بقوله: قُلْ أيّها المشركون أَرُونِيَ الأصنام اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ إيّاهم بِهِ تعالى من حيث كونهم شُرَكاءَ له تعالى في الالوهية، لأنظر بأيّ صفة ألحقتموهم باللّه الذي ليس كمثله شيء، و جعلتموهم شركاء له، هل يخلقون أو يرزقون؟ كَلاّ ليس لهم ما يجب أن يكون في

قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (27) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)

ص: 219


1- . في النسخة: استحقاقهم العباد.

الإله و المعبود بَلْ المعبود بالحقّ و الإله المستحقّ للعبادة هُوَ اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ و الغالب القاهر، و العالم بجميع الامور، فأين شركاؤكم التي هي أخسّ الأشياء و أذلّها من هذه المرتبة العالية و درجة الالوهية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الشّرك و إثبات التوحيد، بيّن صدق رسالة الرسول إلى عامة الناس بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد برسالة إِلاّ رسالة تكون كَافَّةً و عامة أو شاملة لِلنّاسِ كلّهم إلى يوم القيامة، أو المراد ما أرسلناك في حال من الأحوال إلاّ حال كونك جامعا لهم في التبليغ بحيث لا يخرج منهم أحد، كما في الحديث: «فضّلت على الأنبياء بستّ-إلى أن قال-: و ارسلت إلى الخلق كافة» (1).

و عن السجاد عليه السّلام: «أنّ أبا طالب قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يابن أخ، إلى الناس كافة ارسلت، أم إلى قومك خاصة؟ قال: لا، بل إلى الناس أرسلت كافة، الأبيض و الأسود، و العربي و العجميّ، و الذي نفسي بيده لأدعونّ إلى هذا الأمر الأبيض و الأسود، و من على رؤوس الجبال، و من في لجج البحار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه أعطى محمدا شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى-إلى أن قال-: و أرسله كافة إلى الأبيض و الأسود، و الجنّ و الإنس» (3). بَشِيراً للمؤمنين بالثواب وَ نَذِيراً للكافرين بالعقاب وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لغفلتهم و إنهماكهم في الشهوات و تركهم النظر في دلائل صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله لا يَعْلَمُونَ منصبه الرفيع، و عظم نعمة رسالته حتى يؤمنوا به، و يشكروا هذه النعمة، فيحملهم الجهل على مخالفته و عصيانه.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 29 الی 33

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا اَلْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اَلْقَوْلَ يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ اَلْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا اَلنَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

ص: 220


1- . تفسير روح البيان 7:294 و 295.
2- . تفسير الصافي 4:220.
3- . الكافي 2:14/1، تفسير الصافي 4:220.

ثمّ أردف سبحانه ذكر الرسالة بذكر المعاد الذي هو الأصل الثالث بقوله: وَ يَقُولُونَ من فرط جهلهم بطريق الاستهزاء: يا محمد، و يا أتباعه، أنتم تعدوننا بمجيء القيامة، فقولوا مَتى و في أيّ وقت يكون إنجاز هذَا اَلْوَعْدُ و وقوعه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيه؟

قُلْ يا محمّد، تهديدا لهم: اعلموا أيّها المنكرون للمعاد أنّ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ عظيم، و وعد وقت شديد كثير الأهوال لا تَسْتَأْخِرُونَ ذلك الموعود عن ذلك الوقت، و لا تقدرون على تعويقه عَنْهُ ساعَةً و دقيقة وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ عليه.

ثمّ حكى عنهم إنكار جميع اصول الدين من التوحيد و الرسالة و المعاد، و جميع أحكام اللّه بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عنادا و طغيانا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا اَلْقُرْآنِ الذي يدّعي محمد أنّه من اللّه، و لا بما فيه من الاصول و الفروع وَ لا بِالَّذِي نزل بَيْنَ يَدَيْهِ و قلبه.

ثمّ لمّا يأّسوا النبي صلّى اللّه عليه و آله من إيمانهم، وعده سبحانه بأنّهم في القيامة في أذلّ أحوال الموقوفين للحساب بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمد، أو أيّها العاقل إِذِ الكفّار اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بإنكار المعاد مَوْقُوفُونَ و محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ و في موقف حساب أعمالهم يَرْجِعُ و يرد بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ آخر منهم اَلْقَوْلَ و يجادل كلّ مع غيره، لعجبت ممّا ترى.

ثمّ كأنه قيل: ما يقولون فقال سبحانه: يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا و استحقروا من السّفلة لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و تعظّموا عن عبادة اللّه و الانقياد للأنبياء، لرئاستهم و كثرة أموالهم: أيّها الرّؤساء لَوْ لا أَنْتُمْ و صدّكم لنا عن الايمان لَكُنّا و اللّه في الدنيا مُؤْمِنِينَ باللّه و رسله

قالَ الرّؤساء اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و تأنّفوا عن الايمان و التبعية للرسل لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا إنكارا لقولهم و ردّا عليهم: أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ و منعناكم عَنِ قبول اَلْهُدى و الايمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى و مقتضيه من الرسول و الكتاب و المعجزات، لا و اللّه بَلْ كُنْتُمْ لخبث ذاتكم و انهماككم في الشهوات مُجْرِمِينَ و طاغين

وَ قالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا: نعم، أنتم صددتمونا عن الهدى، و لكن لا بالاجبار و القهر بَلْ مَكْرُ كم في اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و حيلكم في صرفنا عن اتّباع الحقّ، صدّنا عنه إِذْ تَأْمُرُونَنا و ترغّبوننا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ تعالى أَنْداداً و شركاء.

ثمّ كلا الفريقين أضمروا وَ أَسَرُّوا و أخفوا في قلوبهم اَلنَّدامَةَ و الحسرة على ما فعلا من الضلال و الاضلال، خوفا من التعيير، أو عجزا عن الاظهار لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ.

ص: 221

وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلالَ من النار فِي أَعْناقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالحقّ من التوحيد و الرسالة و المعاد في الدنيا من المتبوعين و التابعين لكفرهم هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ جزاء ما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي، لا و اللّه لا يجزون إلاّ بعملهم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 34 الی 36

ثمّ لمّا يأّسوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من إيمانهم بقولهم: (لن نؤمن) أبدا (بهذا القرآن) سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بذكر عدم إيمان التابعين للهوى و المحبّين للدنيا بالرسل في الأعصار السابقة أيضا بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ و بلدة مِنْ نبي نَذِيرٍ للناس إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها و متنعّموها و رؤساؤها تكبّرا و عنادا للنّذر: إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من التوحيد و المعاد و الأحكام كافِرُونَ و منكرون، هذه سيرة أغنياء جميع الامم المتبوعين للفقراء و السّفلة، فلا يهمّك إنكار أكابر قومك رسالتك، بل لم يقنعوا بالانكار،

و استدلّوا على بطلان دعوى رسالتهم وَ قالُوا نَحْنُ أحبّ إلى اللّه منكم لأنّا أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً منكم في الدنيا، و هذه علامة حبّه لنا وَ ما نَحْنُ في الآخرة على تقدير وقوعها بِمُعَذَّبِينَ لأنّ من أكرمه اللّه في الدنيا لا يهينه في الآخرة، أو لأنّه لا عذاب في الآخرة لأحد.

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم يا محمد إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ في الدنيا لِمَنْ يَشاءُ بسطه و توسعته له، مؤمنا كان أو كافرا وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء تقديره و تضييقه عليه من مؤمن أو كافر حسب اقتضاء حكمته البالغة، فليس بسطه دليلا على قرب المبسوط له منه، و تضييقه دليلا على بعد من قدّر عليه عنه، فانّ القرب و البعد و الثواب و العقاب منوطان بالايمان و الكفر و الطاعة و العصيان، كما في الحديث: «الدنيا عرض حاضر ينال منها البرّ و الفاجر، و الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر» (1). وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ الذين هم أهل الغفلة و الخذلان لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيزعمون أنّ بسط الرزق للكرامة عند اللّه، و الضيق للهوان عليه، مع أنّ كثيرا ما يكون الأول للاستدراج، و الثاني لرفع الدرجة (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 37 الی 39

وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ اَلضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (39)

ص: 222


1- . تفسير روح البيان 7:299.
2- . تفسير أبي السعود 7:135.

ثمّ قرّر سبحانه ذلك، و صرّح ببطلان زعمهم بقوله: وَ ما أَمْوالُكُمْ أيّها الناس وَ لا أَوْلادُكُمْ التي تفتخرون و تفتنون بها بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ و تحبّبكم من الخصال، أو الحسنات عِنْدَنا زُلْفى و قربة و محبوبية موجبة للإكرام و الثواب إِلاّ أموال مَنْ آمَنَ بما يجب الايمان به وَ عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيّا عند اللّه، بانفاقها في سبيل اللّه، و أولادهم بتعليمهم الخير و ترغيبهم إليه و تربيتهم على الطاعة و الصلاح. و قيل: يعني و لكن إيمان من آمن و عمل صالحا يقرّبه (1). فَأُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمْ في الآخرة جَزاءُ اَلضِّعْفِ و ثواب عشرة أعمال فما فوق على عمل واحد بِما عَمِلُوا من الحسنات وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ و القصور العالية في الجنة ساكنون، و آمِنُونَ من زوال النّعم و سائر المكاره.

ثمّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعد بيان حسن حال المؤمنين، بيّن سوء حال الكفّار بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي ردّ آياتِنا و الطعن فيها بظنّ أنّهم يكونون مُعاجِزِينَ لنا عن تعذيبهم ف أُولئِكَ فِي اَلْعَذابِ مُحْضَرُونَ و داخلون.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ البسط و التضييق في الرزق يكون للمؤمنين أيضا بقوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ البسط له مِنْ عِبادِهِ المؤمنين تارة وَ يَقْدِرُ لَهُ و يضيّق عليه اخرى ابتلاء و حكمة، فلا تخشوا الفقر بالانفاق حيث إنّ ما بذلتم وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أموالكم في سبيل اللّه فَهُوَ يُخْلِفُهُ و يعطيكم عوضا باقيا لكم في الآخرة وَ هُوَ تعالى خَيْرُ الذين ترونهم اَلرّازِقِينَ للخلق كالسلاطين و الموالي و غيرهم، حيث إنّه تعالى يرزق بلا منّة و توقّع عوض.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 40 الی 42

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)

ص: 223


1- . تفسير مجمع البيان 8:615، تفسير الرازي 25:262.

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المتكبّرين المعارضين للرّسل بالحضور في العذاب، هدّدهم بالفضيحة و الهوان يوم القيامة بقوله: وَ ذكّرهم يَوْمَ يبعث اللّه المشركين العابدين للملائكة و يَحْشُرُهُمْ إلى المحشر جَمِيعاً المستكبرين منهم و المستضعفين ثُمَّ يَقُولُ توبيخا و تفضيحا لهم و إقناطا لهم من شفاعة معبوداتهم لِلْمَلائِكَةِ الذين هم أشرف شركائهم: أيّها الملائكة أَ هؤُلاءِ الكفّار إِيّاكُمْ كانُوا في الدنيا يَعْبُدُونَ؟

فأجاب الملائكة و قالُوا تنزيها له تعالى عن الشريك: سُبْحانَكَ و ننزّهك من أن نعبد غيرك أَنْتَ وَلِيُّنا و معبودنا و حافظ صلاحنا مِنْ دُونِهِمْ إذن كيف نلتفت إلى عبادتهم إيانا، و نرضى بخضوعهم لنا! إنّهم لم يكونوا يعبدوننا حقيقة بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ و الشياطين الآمرين لهم بالشّرك، و المربين عنده عبادة غيرك أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ بقلوبهم مُؤْمِنُونَ و بتسويلاتهم يصدّقون، و أنت المطّلع على ضمائر جميعهم. و قيل: إنّ ضمير الجمع في (أكثرهم) راجع إلى الإنس (1). و قيل: إنّ الأكثر هنا بمعنى الكلّ (2).

فَالْيَوْمَ أيّها الملائكة الذين كان المشركون يرجون شفاعتكم و خيركم لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ آخر منكم، فكيف لغيركم من الإنس، أو لبعض الإنس نَفْعاً وَ لا ضَرًّا و قيل: إنّ الخطاب إلى الكفّار (3)وَ نَقُولُ اللّه لِلَّذِينَ ظَلَمُوا على اللّه بتضييع حقّه، و على أنفسهم باختيار الكفر و تعريضها للعذاب: ذُوقُوا عَذابَ اَلنّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا بِها و بوعدها تُكَذِّبُونَ الرّسل.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 43 الی 45

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيب الامم السابقة رسلهم، حكى تكذيب هذه الامّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية و دلائل التوحيد حال كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدلالات على صدق الرسول قالُوا إنكارا لرسالة الرسول ما هذا الذي يدّعي الرسالة إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ و يصرفكم (عن) عبادة ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام في الأزمنة

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

ص: 224


1- . تفسير أبي السعود 7:137، تفسير روح البيان 7:303.
2- . تفسير أبي السعود 7:137.
3- . تفسير الرازي 25:265، تفسير أبي السعود 7:137.

المتطاولة، و يستتبعكم و يترأس عليكم وَ قالُوا إنكارا لصدق القرآن: ما هذا القرآن إِلاّ إِفْكٌ و كلام مموّه مُفْتَرىً و مكذوب على اللّه وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من المشركين و أهل الكتاب لِلْحَقِّ و القرآن الصدق لَمّا جاءَهُمْ من قبل اللّه: إِنْ هذا القرآن، و ما هو إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ .

ثمّ لامهم سبحانه على اتّخاذهم الدين بغير دليل بقوله: وَ ما آتَيْناهُمْ و ما أنزلنا عليهم مِنْ كُتُبٍ سماوية دالة على صحّة مذهب الشّرك يَدْرُسُونَها و يقرؤونها مكرّرا بتفكّر و تأمل وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إلى الشرك، و يخوّفهم بالعقاب على تركه.

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ كَذَّبَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم آيات اللّه و رسله كما كذّبوك وَ الحال أنّ هؤلاء ما بَلَغُوا و ما وجدوا مِعْشارَ ما أعطينا اولئك الامم السابقة، و عشرا، و عشر عشر ما آتَيْناهُمْ من القوى الجسمانية و كثرة الأموال و الأولاد و الأعوان.

ثمّ فسر سبحانه التكذيب بقوله: فَكَذَّبُوا رُسُلِي المبعوثين إليهم في دعوى الرسالة و دعوتهم إلى توحيدي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ و إنكاري لهم و غضبي عليهم بإنزال عذاب الاستئصال و قطع دابرهم، فما خطر اولئك المكذّبين لك بجنبهم، فليحذروا من ما ابتلي به اولئك الامم.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 46

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إصرار قومه عليه السّلام على إنكار توحيد اللّه و رسالة الرسول و صدق القرآن، و توبيخهم على التديّن بالشرك بغير دليل قاطع عليه، بل بتقليد الآباء و تهديدهم بالعذاب، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنصحهم بألطف بيان، و حثّهم على التفكر في أمر رسالته بقوله: قُلْ يا محمد، لقومك: يا قوم إِنَّما أَعِظُكُمْ و أنصح لكم بِواحِدَةٍ مهمة من الخصال، أو الحسنات، و هي أَنْ تَقُومُوا من مجلسكم أو مجلس رسولكم، و تتفرّقوا من مجامعكم عنده لِلّهِ و لرضاه و وجهه. و قيل: يعني أن تقوموا لعبادة اللّه وحده (1)مَثْنى و اثنين اثنين وَ فُرادى و واحدا واحدا، فانّ في الكثرة و الازدحام يقلّ الانصاف و يكثر الخلاف، و يشوّش الخاطر، و يثور الغضب ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أنفسكم في أمر رسالتي و بياناتي، و أخلاقي و أعمالي، و سيرتي و معجزاتي، حتى تعلموا أنّه ما بِصاحِبِكُمْ و بمن يدعوكم إلى توحيد اللّه و معارفه، و يأمركم بالحسنات و صالح الأعمال و الأخلاق،

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)

ص: 225


1- . تفسير الرازي 25:268، تفسير أبي السعود 7:138.

و يزجركم عن القبائح، و يعلّمكم المواعظ و الحكم الكثيرة شيء مِنْ جِنَّةٍ و خفّة العقل يدعوه إلى دعوى النبوة و تحمّل أعباء الرسالة، كما زعمتم، فاذا علمتم أنّه أرجح أهل العالم عقلا، و أنزههم نفسا، و أصدقهم قولا، وجب عليكم اتّباعه و الايمان به أَنْ صاحبكم، و ما هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ و مخوّف لَكُمْ من ربكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ و قبل ابتلائكم به في الآخرة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ اللّه جلّ ذكره أنزل عزائم الشرائع و آيات الفرائض في أوقات مختلفة، كما خلق السماوات و الأرض في ستّة أيام، و لو شاء أن يخلقها في أقلّ من لمح البصر لخلق، لكنّه جعل الأناة (1)و المداراة مثالا لامنائه، و إيجابا للحجّة على خلقه، فكان أوّل ما قيّدهم به الاقرار بالوحدانية و الربوبية و الشهادة بأن لا إله إلاّ اللّه، فلمّا اقرّوا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه بالنبوة، و الشهادة له بالرسالة، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة، ثمّ الصوم، ثمّ الحجّ، ثمّ الجهاد، ثمّ الزكاة، ثمّ الصدقات و ما يجري مجراها من مال الفيء، فقال المنافقون: هل بقي لربّك علينا شيء آخر يفرضه فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره؟ فأنزل اللّه في ذلك: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يعني الولاية» الخبر (2).

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ أمره سبحانه بتأمين قلوبهم من الطمع في أموالهم بقوله: قُلْ إن كنتم لا تؤمنون لخوفكم من طمعي في أموالكم، فاعلموا أنّ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على رسالتي فَهُوَ لَكُمْ.

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اَللّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (48)قيل: لمّا نزل قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى (3)قال عليه السّلام: «لا تؤذوني في قرابتي» فلمّا سبّ الأصنام، قال المشركون: ما أنصفنا محمد يسألنا أن لا نؤذيه في قرابته، و هو يؤذينا بسبّ آلهتنا! فنزلت هذه الآية (4). يعني إن شئتم آذوا قرابتي إِنْ أَجْرِيَ و ما ثوابي إِلاّ عَلَى اَللّهِ لأنّ عملي له وَ هُوَ على خلوص نيّتي مطّلع، أو على رسالتي شاهد لأنّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل قومه أن يوادّوا أقاربه و لا يؤذوهم، و أمّا قوله: فَهُوَ لَكُمْ يقول: ثوابه لكم» (5).

و عنه عليه السّلام: «يعني أجر المودة التي لم أسألكم غيره فهو لكم، تهتدون به، و تنجون من عذاب يوم

ص: 226


1- . الأناة: الحلم و الوقار.
2- . الاحتجاج:254، تفسير الصافي 4:225.
3- . الشورى:42/23.
4- . تفسير روح البيان 7:308.
5- . تفسير القمي 2:204، تفسير الصافي 4:226.

القيامة» (1).

و عنه عليه السّلام أيضا: «أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي و ذخره، فهو لكم دوني» (2).

ثمّ لمّا كان الكفّار يستبعدون تخصيص الوحي و الرسالة به عليه السّلام، ردّهم سبحانه بقوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ و يرمي بِالْحَقِّ و ينزله على من يراه أهلا له، أو يرمي به الباطل فيدمغه و يعدمه، و هو عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ فيعلم ضمائر خلقه و استعداداتهم، و يعلم خفايا الامور و منها أمر الآخرة.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإخبار بمجيء الحقّ الذي أخبر بأنّه تعالى يقذفه بقوله: قُلْ يا محمد جاءَ اَلْحَقُّ الموعود قذفه، و هو التوحيد و دين الاسلام وَ ما يُبْدِئُ اَلْباطِلُ و الشرّ وَ ما يُعِيدُ قيل: هو كناية عن زواله و ذهابه (3).

قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ اَلْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)عن ابن مسعود: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله دخل مكّة و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما، و جعل يطعنها بعود في يده، و يقول: «جاء الحقّ و زهق الباطل قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ اَلْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ» (4).

و عن الرضا، عن آبائه عليهم السّلام، ما يقرب منه (3).

ثمّ قرّر رسالته بقوله: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحقّ فَإِنَّما أَضِلُّ و وباله عَلى نَفْسِي و لا يتعدّى إلى غيري وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ إلى الحقّ و وصلت إليه فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من الحكمة و البيان إِنَّهُ تعالى سَمِيعٌ لمقالي و مقال أعدائي (عليم) بما هو الحقّ منهما و ما هو الباطل و قَرِيبٌ منّا يأخذ المبطل بلا تحمّل زحمة البعد و تأخير الأخذ.

سوره 34 (سبإ): آیه شماره 51 الی 54

ثمّ هدّد المشركين بقوله: وَ لَوْ تَرى المشركين و العصاة يا محمد، أو يا ابن آدم إِذْ فَزِعُوا من

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَ قالُوا آمَنّا بِهِ وَ أَنّى لَهُمُ اَلتَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

ص: 227


1- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:226.
2- . مجمع البيان 8:620، تفسير الصافي 4:226. (3 و 4) . تفسير روح البيان 7:308.
3- . أمالي الطوسي:336/683، تفسير الصافي 4:226.

رؤية العذاب عند الموت، أو حين البعث، أو يوم بدر. و عن الباقر عليه السّلام: «إذ فزعوا من الصوت، و ذلك الصوت من السماء» (1)لرأيت أمرا هائلا معجبا فَلا فَوْتَ لهم من عذاب اللّه، و لا نجاة بهرب أو تحصّن، أو سائر وسائل الحفظ، و إن أخّر عقوبتهم، و إنّما يستعجل من يخاف الفوت.

عن ابن عباس: أنّ ثمانين ألفا، و هم السفياني و قومه، يخرجون في آخر الزمان، فيقصدون الكعبة ليخرّبوها، فاذا دخلوا البيداء خسف بهم، فلا ينجو منهم إلاّ السري الذي يخبر عنهم، و هو جهينة، فلذلك قيل: و عند جهينة الخبر اليقين (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «لكأني أنظر إلى القائم و قد أسند ظهره إلى الحجر-إلى أن قال-: فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني، فيأمر اللّه عزّ و جلّ الأرض فتأخذ بأقدامهم، و هو قوله عزّ و جلّ: وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال: من تحت أقدامه خسف بهم» (3)و قيل: من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار، أو من صحراء بدر إلى قليبها (4).

وَ قالُوا عند معاينة العذاب، لدفعه عن أنفسهم بإقرارهم به، أو بدين محمد صلّى اللّه عليه و آله، أو بقيام القائم: آمَنّا بِهِ و لا ينفعهم عند معاينة العذاب، و بعد انقضاء زمان التكليف، و هو لخروجهم عنه صار بعيدا عنهم وَ أَنّى لَهُمُ اَلتَّناوُشُ و تناول الايمان مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و هو الدنيا

وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ و في زمان التكليف وَ كانوا يَقْذِفُونَ و يرمون بِالْغَيْبِ و يتكلّمون بما لم يطّلعوا عليه كمن (5)يرمي الحجارة مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ إلى ما لا يراه من المرماة

وَ حِيلَ و أوجد المانع من الوصول بَيْنَهُمْ بعد الموت وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من النجاة من العذاب و الوصول إلى النعيم الدائم كَما فُعِلَ ذلك بِأَشْياعِهِمْ و الذين كانوا قبلهم من المكذّبين الذين أهلكوا بالعذاب مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ ممّا يجب الايمان به مُرِيبٍ و موقع لقلوبهم في الاضطراب.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ الحمدين حمد سبأ و حمد فاطر في ليله، لم يزل في ليلته في حفظ اللّه و كلاءته و إن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، و اعطي خير الدنيا و خير الآخر، ما لم يخطر على قلبه، و لم يبلغ مناه» (6).

رزقنا اللّه توفيق تلاوتهما في الليل و النهار، كما وفّقنا لاتمام تفسير الاولى منهما، و له الحمد و المنّة على نعمه الظاهرة و الباطنة.

ص: 228


1- . تفسير القمي 2:205، تفسير الصافي 4:226.
2- . تفسير أبي السعود 7:140، تفسير روح البيان 7:310.
3- . تفسير القمي 2:205 و 206، تفسير الصافي 4:227.
4- . تفسير أبي السعود 7:140.
5- . في النسخة: كما.
6- . ثواب الأعمال:110، تفسير الصافي 4:228.

في تفسير سورة فاطر

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة سبأ المبدوءة بحمد اللّه على نعمة الإبداء و الإعادة، و توبيخ المشركين و منكري المعاد، و محاجّتهم و تهديدهم بالعذاب، و ذمّهم على شكّهم في اصول التوحيد و الرسالة و دار الجزاء، نظم بعدها سورة فاطر المبدوءة بحمد اللّه على نعمه الظاهرية، و هي خلق الموجودات، و نعمه الباطنية و هي إنزال العلوم و المعارف و الأحكام و الآداب بتوسّط الملائكة و الأنبياء و الرسل و الأولياء، و ذكر الأدلة الدالّة على التوحيد و المعاد الرافعة للشكّ فيهما عن القلوب، فابتدأ فيهما بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ أردفها بحمد ذاته المقدّسة بقوله:

اَلْحَمْدُ و الثناء الجميل لِلّهِ ثمّ وصف ذاته بالقدرة الكاملة و النّعم الفاضلة الموجبتين لاستحقاقه الحمد بقوله: فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما من غير مثال سابق و جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً و وسائط بينه و بين أنبيائه و رسله و أوليائه، يبلّغون إليهم العلوم و المعارف و الحكم و الأحكام و الآداب بالوحي و الإلهام و الرّؤى الصادقة المتّصفين بكونهم أُولِي أَجْنِحَةٍ و ذويها كالطيور.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

في كيفية خلق

الملائكة

ثمّ بيّن عدد أجنحتهم (1)بقوله: مَثْنى و اثنين اثنين وَ ثُلاثَ و ثلاث ثلاث وَ رُباعَ و أربع أربع. قيل: إنّ تفاوتهم في عدد أجنحتهم حسب تفاوت مراتبهم (2)، فانّهم مع خفّة أجسادهم و لطافتها محتاجون إليها، فانّهم ينزلون من السماء إلى الأرض، و يعرجون منها إلى محلّهم من السماء في طرفة عين و يَزِيدُ اللّه فِي اَلْخَلْقِ منهم جثّة و قامة و حسنا و جناحا ما يَشاءُ منها.

ص: 229


1- . في النسخة: جناحهم.
2- . تفسير البيضاوي 2:267، تفسير أبي السعود 7:141، تفسير روح البيان 7:312.

روي أنّ صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، بجناحين منها يلفّون أجسادهم، و بآخرين منها يطيرون فيما امروا به، و جناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من اللّه (1).

و لعلّ كثرة بعد مقامهم من الأرض من موجبات كثرة أجنحتهم، روت العامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج و له ستمائة جناح اثنان منها يبلغان من المشرق إلى المغرب (2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «خلق اللّه الملائكة مختلفة، و قد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل و له ستمائة جناح» الخبر (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج و له ستمائة ألف جناح (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ للّه تعالى ملكا يقال له دردائيل، كان له ستة عشر ألف جناح» (3)إذن تحمل الآية و ما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-من أنّ الملائكة على ثلاثة أجزاء، جزء له جناحان، و جزء له ثلاثة أجنحة، و جزء له أربعة أجنحة (4)-على بيان وجود هذه الأصناف فيهم، لا إرادة الحصر فيها.

إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في (التوحيد) عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن قدرة اللّه عزّ و جلّ، فقام خطيبا، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: «إنّ للّه تبارك و تعالى ملائكة لو أن ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه و كثرة أجنحته، و منهم من لو كلّفت الجنّ و الإنس أن يصفوه ما وصفوه، لبعد ما بين مفاصله، و حسن تركيب صورته، و كيف يوصف من ملائكتة من سبعمائة عام ما بين منكبيه و شحمة اذنيه، و منهم من يسدّ الافق، بجناح من أجنحته دون عظم بدنه، و منهم من السماوات إلى حجزته، و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه، و منهم من لو ألقي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها، و منهم من لو القيت السفينة في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين، فتبارك اللّه أحسن الخالقين» (5).

و اعلم أنّ الروايات دالّة على كون الملائكة أجساما لطيفة في غاية الكثرة، فلا يجوز إنكاره و إنكار وجود الأجنحة لهم، أو تأويل الجناح بالجملة، كما حكى عن جماعة أنّهم قالوا: إنّ الملائكة له وجه إلى اللّه يأخذون منه نعمه، و يعطون من دونهم ممّا أخذوه بإذن اللّه، كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ (6)و قوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوى (7)و قال تعالى في حقّهم: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (8)

ص: 230


1- . تفسير القمي 2:206، تفسير روح البيان 4:229.
2- . تفسير الصافي 4:229.
3- . كمال الدين:282/36، تفسير الصافي 4:229.
4- . الكافي 8:272/403، تفسير الصافي 4:229.
5- . التوحيد:278/3، تفسير الصافي 4:230.
6- . الشعراء:26/194.
7- . النجم:53/5.
8- . النازعات:79/5.

فهما جناحان، و فيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة، فالفاعل بواسطة فيه ثلاث جهات، و منهم من له أربع جهات و أكثر (1).

و قيل: إنّ المراد بالأجنحة الصفات الملكية و القوى الرّوحانية، و ليست كأجنحة الطير (2).

و في (الكافي) عن الثّمالي، قال: دخلت على علي بن الحسين عليهما السّلام فاحتبست في الدار ساعة، ثمّ دخلت البيت و هو يلتقط شيئا، و أدخل يده من وراء السّتر، فناوله من كان في البيت، فقلت: جعلت فداك، هذا الذي أراك تلتقطه أي شيء هو؟ قال: «فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا، نجعله سيحا (3)لأولادنا» فقلت: جعلت فداك، فانّهم ليأتونكم؟ فقال: «يا أبا حمزة، إنّهم ليزاحمونا على تكآئتنا» (4).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 2 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته بخلق السماوات و الأرض و الملائكة، و استخدامهم في الامور، بيّن تفرّده في تدبير العالم و إعطاء النّعم بقوله: ما يَفْتَحِ اَللّهُ لِلنّاسِ مِنْ باب من أبواب رَحْمَةٍ عامة كالسّعة و الصحّة و النّصرة و نظائرها من النّعم، أو رحمة خاصة كالتوفيق و العلم و الحكمة و نظائرها، و يرسلها فَلا مُمْسِكَ لَها و لا مانع من إرسالها من خلقه، و لا قادر على حبسها ممّا سواه وَ ما يُمْسِكْ اللّه و يمنع من إعطائه و إرساله فَلا مُرْسِلَ و لا معطي لَهُ ممّا سوى اللّه و مِنْ بَعْدِهِ فلا يكون العطاء و المنع إلاّ له تعالى، لعدم وجدان غيره شيئا و قدرته على شيء وَ هُوَ تعالى وحده اَلْعَزِيزُ القادر على كلّ شيء، و القاهر على كلّ شيء، فلا ينازعه في إعطائه و منعه أحد اَلْحَكِيمُ العالم بالمصالح و المفاسد، و المطّلع على المحلّ القابل للاعطاء و غيره، فهو المستحقّ للحمد و الثناء و العبادة و الخضوع.

ما يَفْتَحِ اَللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اَللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (3) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (4)

ص: 231


1- . تفسير الرازي 26:3.
2- . تفسير روح البيان 7:313.
3- . السيح: ضرب من البرود، و في بعض نسخ المصدر: سبحا: جمع سبحة، و قد يراد بها القلادة تجعل في سلك و تعلّق على الأولاد للعوذة. قال في (المرآة) : في (بصائر الدرجات) : سخابا لأولادنا، في أخبار كثيرة، السّخاب: خيط ينظم فيه خرز و يلبسه الصبيان و الجواري، و قيل: هو قلادة من قرنفل و مسك و نحوه، و ليس فيها من اللؤلؤ و الجوهر شيء. مرآة العقول 4:290.
4- . الكافي 1:324/53، تفسير الصافي 4:231، و التّكآت: جمع تكأة، ما يعتمد عليه حين الجلوس.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفرّده بالقدرة الكاملة و الحكمة البالغة الموجبتين لحمده و شكره و عبادته، دعا عموم الناس إلى تذكّر نعمه و إقبالهم إلى شكره بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ من الأبيض و الأسود و الأحمر اُذْكُرُوا و اعرفوا نِعْمَتَ اَللّهِ و تفضّله عَلَيْكُمْ بالخلق و الرزّق و الصحة و الأمنية و غيرها من النّعم، و أدّوا حقّها بالقيام بالشّكر و العبادة، و انصفوا من أنفسكم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اَللّهِ و مفضّل بنعمة الايجاد لشيء من الأنبياء سوى اللّه و هو يَرْزُقُكُمْ ما يوجب بقاءكم مِنَ اَلسَّماءِ بالمطر و الرياح النافعة وَ من اَلْأَرْضِ بالنباتات و الزروع و الأشجار، لا و اللّه لا خالق و لا رازق غيره، فاذن خصّوه بالعبادة لأنّه لا إِلهَ و لا معبود بالاستحقاق إِلاّ هُوَ تعالى وحده فَأَنّى و من أي وجه، و أي جهة تُؤْفَكُونَ و تصرفون من توحيده إلى الشرك، و من عبادته إلى عبادة غيره من الأصنام و الملائكة و الكواكب و غيرها

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ في إدّعاء التوحيد و الرسالة، و أصرّوا على إنكارهما، فليس تكذيب الرسول أمرا بديعا منهم فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ كثيرة أولو شأن خطير و معجزات باهرة، أرسلناهم إلى أمم كثيرة مِنْ قَبْلِكَ و قبل إرسالك إلى قومك، فصبروا على تكذيبهم و إيذاء قومهم، فظفروا بمقاصدهم من الغلبة و النّصرة و إعلاء الكلمة وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ و ترد عواقبها، فيجازي الصابر على صبره و المكذّب على تكذيبه.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 5 الی 6

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و الدعوة إلى الاقرار به، دعا الناس إلى الإيمان بالحشر بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اعلموا إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالحشر و المعاد و دار الجزاء حَقٌّ و صدق لا خلف فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ و لا تذهلنّكم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و شهواتها عن السعي لها بطاعة اللّه و ترك معاصيه وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ و لا يوقعنّكم في خطر العذاب و الحرمان من الثواب بِاللّهِ اَلْغَرُورُ و الشيطان الموسوس في الصدور، بأن يمنّيكم عفو اللّه عن المعاصي لكرمه و سعة رحمته، إنّه أكرم الأكرمين في موضع العفو و الرحمة، و أشدّ المعاقبين في موضع النّكال و النّقمة.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ (5) إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ (6)

ثمّ فسّر سبحانه الغرور و عرّفه بالعداوة الموجبة للاحتراز منه بقوله: إِنَّ اَلشَّيْطانَ الذي أخرج أبويكم من الجنة لعداوته لهما لَكُمْ أيضا عَدُوٌّ مبين، فاذا علمتم عداوته فَاتَّخِذُوهُ بمخالفتكم إياه في العقائد و الأعمال عَدُوًّا و كونوا منه على حذر في جميع الأحوال و الأوقات،

ص: 232

و أعلموا أنّه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ و يحرّض جماعة أتباعه على العمل بأوامره و وساوسه لِيَكُونُوا بمخالفة اللّه مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ و الخالدين في نار الجحيم، لا لوصولهم إلى المنافع الدنيوية كما هو مقصد المتحابّين في الدنيا الغافلين عن المفاسد الاخروية.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ بيّن سبحانه حال حزبه و حزب الشيطان في الآخرة مبالغة في الزجر بقوله: اَلَّذِينَ اتّبعوا الشيطان و كَفَرُوا باللّه و رسوله لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ لا يمكن بيان حدّ شدّته و كيفيتها وَ اَلَّذِينَ اتّبعوا اللّه و رسوله و آمَنُوا بهما و بما يجب الايمان به وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ و المرضيات عند اللّه، و صبروا على مشاقّ طاعته لَهُمْ بإزاء إيمانهم مَغْفِرَةٌ عظيمة للذنوب و ستر لها عن غيره بإخفائها عن الناس في الدنيا، و محوها من ديوانهم أو تبديلها بالحسنات في الآخرة وَ أَجْرٌ و ثواب كَبِيرٌ لا غاية له على أعمالهم.

اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)

ثمّ بيّن سبحانه وجوب كون الكفّار معذّبين، و كون المؤمنين الصالحين منعّمين، و عدم إمكان التساوي بينهما بقوله: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ من قبل النفس و الشيطان سُوءُ عَمَلِهِ و قبيح فعله فَرَآهُ و توهّمه حَسَناً و جميلا لجهله و ضعف عقله، يمكن أن يكون كمن رأى القبيح قبيحا فاجتنبه، و الحسن عند اللّه حسنا فارتكبه لقوّة عقله و علمه بعواقب الأمور في الآخرة و دار الجزاء، لا و اللّه لا يمكن ذلك أبدا.

ثمّ لمّا كان كفر الكافر ثقيلا على قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله سلاّه سبحانه، و بيّن أن الكفر و الايمان بمشيئته بقوله: فَإِنَّ اَللّهَ بالخذلان المسبّب عن خبث الطينة و سوء الأعمال يُضِلُّ و يحرف عن الحقّ و سبيل الخير مَنْ يَشاءُ خذلانه و ضلاله وَ يَهْدِي و يرشد و يوصل إلى الحق و الدين المرضيّ عنده بتوفيقه المسبّب عن حسن الفطرة و طيب الطينة و حسن الأعمال و الأخلاق مَنْ يَشاءُ توفيقه و هدايته، فاذا علمت أن ضلال الكفّار بارادة اللّه فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ و لا تهلك عَلَيْهِمْ و على ضلالهم و كفرهم لأجل حَسَراتٍ و أحزان متوالية تعتريك، لإصرارهم على الكفر و التكذيب، و إنّما عليك النّصح و التبليغ، و قد خرجت عن عهده ما عليك، و ليس عليك إيمانهم، و لا

ص: 233

يضرّك كفرهم إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ و يعملون من القبائح، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 9

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد بالحشر و المعاد، استدلّ على إمكانه بقدرته المحسوسة على إحياء الأرض الميتة بقوله: وَ اَللّهُ تعالى هو القادر اَلَّذِي أَرْسَلَ و هيّج اَلرِّياحَ المختلفة كالجنوب و الشّمال و الصّبا فَتُثِيرُ و تنشر (1)سَحاباً ممطرا بين السماء و الأرض فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ و أرض يابسة لا نبات لها، لإنزال المطر فيها فَأَحْيَيْنا بِهِ أو بالسّحاب الممطر اَلْأَرْضَ الميتة، و صيّرناها خضراء بالنبات بَعْدَ مَوْتِها و يبسها كَذلِكَ الإحياء الذي تشاهدونه في الأرض اَلنُّشُورُ بعد موتكم و حشركم من القبور بعد كونكم ترابا و رفاتا في صحّة المقدورية و بسهولة الثاني من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الإلف في الأول دون الثاني.

وَ اَللّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ اَلنُّشُورُ (9)عن العسكري عليه السّلام: «أنّ اللّه عز و جل ينزل بين نفختي الصّور بعدما ينفخ النفخة الاولى من دون السماء الدنيا من البحر المسجور الذي قال اللّه تعالى: وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ (2)و هو منيّ كمنيّ الرجال، و يمطر ذلك على الأرض، فيلقي الماء المنّى على الأموات البالية، فينبتون من الأرض و يحيون» (3).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 10

ثمّ لمّا كان المشركون يتوهّمون عزّهم في عبادة الأصنام، و المنافقون يطلبون العزّ بموافقة المشركين، دفع سبحانه التوهّم بعد إثبات التوحيد بقوله: مَنْ كانَ من المشركين و المنافقين يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ و الشرف فَلِلّهِ وحده اَلْعِزَّةَ و الشرافة الدنيوية و الاخروية جَمِيعاً فليطلبها من عنده بطاعته و عبادته، فانّ الشيء لا يطلب إلاّ من عند صاحبه و مالكه، و في الحديث: «أنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزّ الدارين، فليطع العزيز» (4)و لذا أثبت العزة لرسوله و للمؤمنين في الآية الاخرى، لأنّهم أطاعوه.

مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

ص: 234


1- . في النسخة: تنتشر.
2- . الطور:52/6.
3- . التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليهم السّلام:282/140، تفسير الصافي 4:233.
4- . مجمع البيان 8:628، تفسير الصافي 4:233.

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: نحن لا نعبد من لا نراه، فانّ البعد من المعبود ذلّ و هوان، فردّهم سبحانه بقوله: إِلَيْهِ تعالى يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ الذي تتكلّمون به من كلمة التوحيد و سائر الأذكار المندوبة و الاستغفار و الدعاء، فان لم تروه فانّه يسمع كلامكم، و يقبل الطيّب من أقوالكم وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ المصدّق للكلم و القول يقوّى ذلك القول و يَرْفَعُهُ إلى محلّ القبول.

عن الصادق عليه السّلام: «الكلم الطيّب: قول المؤمن: لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه، عليّ وليّ اللّه و خليفة رسول اللّه، و العمل الصالح: الاعتقاد بالقلب أنّ هذا هو الحقّ من عند اللّه لا شكّ فيه من ربّ العالمين» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه: إنّ لكلّ قول مصدّقا من عمل يصدّقه أو يكذّبه، فاذا قال ابن آدم و صدّق قوله بعمله، رفع قوله بعمله إلى اللّه، و إذا قال و خالف عمله قوله، ردّ قوله على عمله الخبيث و هوى به في النار» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من قال: لا إله إلاّ اللّه مخلصا، طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّقّ الأبيض، فاذا قال ثانية: لا إله إلاّ اللّه مخلصا، خرقت أبواب السماء و صفوف الملائكة حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة أمر اللّه، فاذا قال ثالثة مخلصا: لا إله إلا اللّه، لم تنته دون العرش، فيقول الجليل: اسكني فوعزّتي و جلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه» ثمّ تلا هذه الآية إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ يعني إذا كان عمله خالصا ارتفع قوله و كلامه (1).

ثمّ بيّن سبحانه ما يترتّب على القول و العمل الخبيثين، و ما يستحقّ فاعلهما بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات اَلسَّيِّئاتِ كمكرات قريش في إطفاء نور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كمكرات أصحاب السقيفة في غصب خلافة الوصي عليه السّلام، و مكر كلّ مبطل في إذهاب الحقّ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ لا توصف شدّته وَ مَكْرُ أُولئِكَ الماكرين هُوَ يَبُورُ و يفسد و يفنى بلا نتيجة، بخلاف العمل الصالح فانّه يبقى و يفيد بحال عامله.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 11

وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ (11)

ص: 235


1- . الاحتجاج:260، تفسير الصافي 4:234.

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على قدرته و علمه الموقوف عليهما المعاد بقوله: وَ اَللّهُ هو القادر الذي خَلَقَكُمْ أولا مِنْ تُرابٍ بخلق أبيكم آدم منه ثُمَّ خلق ذرّيته مِنْ نُطْفَةٍ و ماء يخرج من بين الصّلب و الترائب ثُمَّ جَعَلَكُمْ يا بني آدم أَزْواجاً و أصنافا كالأسود و الأبيض و الأحمر و الذّكر و الانثى وَ ما تَحْمِلُ و لا تحبل مِنْ أُنْثى و مرأة وَ لا تَضَعُ حملها إِلاّ حال كونها ملتبسة بِعِلْمِهِ تعالى، و تابعة لمشيئته، يعلم مكان حملها و وضعها و وقتهما، و أحوال طفلها من الذكورة و الانوثة و النقص و التمام و غير ذلك وَ ما يُعَمَّرُ و لا تطول حياة مِنْ مُعَمَّرٍ و طويل الحياة وَ لا يُنْقَصُ مِنْ مدّة حياة أحد على حسب الاقتضاء الأول و عُمُرِهِ لعروض المانع إِلاّ أنّه مكتوب فِي كِتابٍ و لوح محفوظ عند اللّه يقرأه الملائكة المقرّبون و النفوس القدسية المتصلة باللّوج المحفوظ إِنَّ ذلِكَ المذكور من خلقكم من تراب إلى آخر ما في الآية، أو من ثبت زيادة الأعمار و نقصها في الكتاب عَلَى اَللّهِ القادر على كلّ شيء الغني في أفعاله عن الأسباب يَسِيرٌ و سهل.

قال جمع: أنّ عمر شخص واحد لا يزيد و لا ينقص، و الحقّ أنّ لكلّ أحد بمقتضى الحكمة الأولية مع قطع النظر عن العوارض و الطوارئ أجلا معينا مكتوبا في لوح المحو و الإثبات، ثمّ تلك الحكمة تتغيّر بالعوارض، فقد يعرض أمر يقوّي مقتضى البقاء و زيادة الحياة، و يغيّر المصلحة الأولية، فيزيد في العمر، و قد يعرض أمر مقتضى لنقص لنقصه، و يسمى ذلك بالأجل المعلّق، و لا يموت أحد به، و من المعلوم أنّ اللّه من أوّل الخلق عالم بالمصلحة الأولية و عروض العوارض و وقوع الموت في أي وقت و أي ساعة بلا تأخّر و لا تقدّم، و يسمى ذلك بالأجل الحتمي، و لا يبقى أحد بعد بلوغه، و لا يعقل البداء للّه.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «الصدقة وصلة الرّحم تعمّران البلاد، و تزيدان في الأعمار» (1).

و عنه عليه السّلام: «برّ الوالدين يزيد في العمر» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ المرء ليصل رحمه و ما بقي من عمره إلاّ ثلاثة أيام (أو ثلاث سنين) فينسئه (فيزيده) اللّه إلى ثلاثين سنة، و إنّه ليقطع رحمه و قد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيردّه اللّه إلى ثلاثة أيام» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلاّ صلة الرّحم حتى إنّ الرجل يكون أجله ثلاث

ص: 236


1- . جوامع الجامع:387، تفسير الصافي 4:234، تفسير روح البيان 7:328. (2 و 3) . تفسير روح البيان 7:328.

سنين، فيكون وصولا للرّحم، فيزيد اللّه في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا و ثلاثين سنة، و يكون أجله ثلاثا و ثلاثين سنة، فيكون قاطعا للرّحم، فينقصه اللّه عزّ و جلّ ثلاثين سنة و يجعل أجله إلى ثلاث سنين» (1).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 12

ثمّ بالغ سبحانه في إثبات قدرته بالآثار الظاهرة بقوله: وَ ما يَسْتَوِي اَلْبَحْرانِ المتشابهان في الصورة في طعم الماء، بل يقال لواحد منهما: هذا الماء عَذْبٌ و حلو و فُراتٌ و طيّب و سائِغٌ شَرابُهُ و مرئ ماؤه وَ للآخر هذا الماء مِلْحٌ أُجاجٌ هو مرّ شديد الملوحة وَ مِنْ كُلٍّ منها مع هذا الاختلاف تصيدون السّموك و الطّيور و تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا جديدا لأنّه يفسد بترك التسارع إلى أكله وَ تَسْتَخْرِجُونَ من كلّ منهما، أو من الملح الاجاج اللؤلؤ و المرجان، و تجعلونهما حِلْيَةً و زينة تَلْبَسُونَها قيل: إسناد اللّبس إلى الرجال باعتبار لبس النساء لهم، فكأنّهم لبسوها (2).

وَ ما يَسْتَوِي اَلْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)اقول: لا يحتاج إلى هذا التكلّف بعد كون الخطاب إلى الناس و النساء منهم وَ تَرَى أيّها الرائي اَلْفُلْكَ و السفينة فِيهِ العذب منه و الملح مَواخِرَ و شواقّ للماء بجريها مقبلة و مدبرة لِتَبْتَغُوا و تطلبوا بعضا مِنْ نعم ربّكم و فَضْلِهِ بالنقلة فيها وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه و تقومون بحقّها حيث ترون أنّه تعالى جعل المهالك سببا لوجود المنافع و حصول المعايش.

قال جمع من مفسّري العامة: إنّ المراد من الآية ضرب المثل في حقّ الكفر و الايمان، و الكافر و المؤمن، فالبحر العذب مثل للايمان أو المؤمن، و البحر الملح الاجاج مثل للكفر أو الكافر، فكما لا يشبّه البحر العذب بالبحر الاجاج، كذلك لا يشبّه الايمان أو المؤمن بالكفر أو الكافر، بل حال الكفر أو الكافر أدون من البحر الاجاج؛ لأنّه يشارك البحر العذب في كثير من المنافع، كالمنافع المذكورة، و لا نفع للكفر أو الكافر (3).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 13 الی 14

يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

ص: 237


1- . الكافي 2:122/17، تفسير الصافي 4:234.
2- . تفسير روح البيان 7:330.
3- . تفسير الرازي 26:10، تفسير روح البيان 7:330.

ثمّ ذكر سبحانه من آثار قدرته بقوله: يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ و قد مرّ تفسيرهما مكرّرا وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و قهرهما تحت إرادته كُلٌّ منهما يَجْرِي و يسير في فلكه بحركته الخاصة و على المدارات اليومية بحركته القسرية لِأَجَلٍ مُسَمًّى و معين قدّره اللّه لجريهما، و هو يوم القيامة.

أيّها الناس ذلِكُمُ القادر الحكيم الذي فعل هذه الأعاجيب هو اَللّهُ الذي هو رَبُّكُمْ و اعلموا أنّ لَهُ وحده اَلْمُلْكُ و السلطنة التامة في عالم الوجود من الملك و الملكوت و الجبروت، إذن خصّوا العبادة به، و لا تشركوا به غيره.

ثمّ بيّن أنّ الأصنام فاقدون لصفات الالوهية بقوله: وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ و القشرة البيضاء الرقيقة الملتفّة على النّواة

إِنْ تَدْعُوهُمْ و تنادوهم أو تسألوهم حاجة لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنّهم جمادات وَ لَوْ سَمِعُوا على الفرض دعاءكم مَا اِسْتَجابُوا لَكُمْ و ما أجابوكم، لعدم قدرتهم على النّطق، أو ما قضوا حاجتكم لعجزهم عن دفع الضرر عن أنفسهم و جلب نفع إلى أنفسهم بوجه، فكيف بدفع الضرر عنكم، أو إيصال النفع إليكم؟ هذا في الدنيا، و أما في الآخرة بعد صيرورتهم أحياء ناطقين يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ إيّاهم باللّه، و ينكرون أنّكم تعبدونهم من دون اللّه، وَ اعلم أنّه لا يُنَبِّئُكَ و لا يخبرك يا محمد بواقع الامور أحد مِثْلُ إله خَبِيرٍ بجميع الامور و حقائقها و واقعياتها بحيث لا يمكن السهو و الغلط و الاشتباه في إخباره.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 15 الی 18

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عجز الأصنام من إجابة عابديها، و عدم نفعهم لهم في الدنيا و الآخرة، بل يضادّوا عابديهم فيها، أعلن في الناس بحاجة جميع الخلق إليه تعالى بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ الأبيض و الأحمر و الأسود أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ و المحتاجون إِلَى اَللّهِ في وجودكم و بقائكم و رزقكم و عزّكم و دينكم في الدنيا، و نجاتكم و نيلكم بالدرجات العالية في الآخرة وَ اَللّهُ الواجب الوجود

ص: 238

هُوَ وحده اَلْغَنِيُّ عن كلّ شيء ممّا سواه اَلْحَمِيدُ و المستحقّ للثناء الجميل على نعمه العامة و الخاصة.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اَللّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (18)قيل: لمّا كثر الدعاء من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عبادة اللّه و الامتناع منها من الكفّار، قالوا: لعلّ اللّه محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا أمرا بالغا، و يهدّدنا على تركها مبالغا، فأنزل اللّه أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ (1).

ثمّ بيّن قدرته و غناه عنهم بقوله: إِنْ يَشَأْ إذهابكم و إهلاككم يُذْهِبْكُمْ عن وجه الأرض، و يهلككم جميعا بالعذاب وَ يَأْتِ مكانكم بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أقوى و أحسن و أطوع منكم

وَ ما ذلِكَ الإذهاب و الإتيان عَلَى اَللّهِ القادر على كلّ شيء الغنيّ عن الأسباب بِعَزِيزٍ و متعذّر و لا صعب و متعسّر، بل عليه هيّن يسير.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إصرار النبي صلّى اللّه عليه و آله على دعوتهم ليس لتضرّره بكفرهم بقوله: وَ لا تَزِرُ و لا تحمل نفس وازِرَةٌ و حاملة ثقل العصيان وِزْرَ نفس أُخْرى و ثقل عصيانها، بل إنّما تحمل كلّ نفس إثم نفسها الذي اكتسبته في الدنيا، و لا يؤاخذ شخص إلاّ على ما ارتكبه من الذنب، لا على ما ارتكبه غيره وَ إِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ و متحمّلة للمعصية أحدا إِلى حِمْلِها و ثقلها الذي عليها من الذنوب ليحمل شيئا منه لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ و لو كان قليلا، و لا يجيب دعوتها وَ لَوْ كانَ المدعوّ ذا قُرْبى من الداعي كالأب و الامّ و الولد و الأخ، إذ لكلّ منهم يومئذ شأن يغنيه و حمل يعجزه، فكفركم و عصيانكم لا يضرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 18 الی 21

ثمّ لمّا كان فيه تهديد شديد، و ما كاد يؤثّر في قلوب المصرّين على الشّرك، سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ و يفيد إنذارك و عظتك المؤمنين اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ و يخافون رَبَّهُمْ الكائنين عنه تعالى بِالْغَيْبِ المحجوبين عن رؤيته وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ و راعوا حدودها و شرائطها، فانّهم المنتفعون بانذارك دون المتمرّدين الطاغين من الناس، و ليس عليك إيمانهم، و إنّما عليك الإنذار، و قد أدّيت ما عليك و أبلغت، ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما لا يضرّ عصيان أحد غيره، لا ينفع طاعة أحد

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (18) وَ ما يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ (19) وَ لاَ اَلظُّلُماتُ وَ لاَ اَلنُّورُ (20) وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ (21)

ص: 239


1- . تفسير الرازي 26:13.

غيره بقوله: وَ مَنْ تَزَكّى و تطهّر نفسه من الذنوب فَإِنَّما يَتَزَكّى و يتطهّر و نفعه لِنَفْسِهِ و قيل: إنّ المراد من أعطى الزكاة فانّما ثوابه لنفسه (1)وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ و المرجع لكلّ من الكافر و المؤمن، فيجازي كلاّ على حسب استحقاقه.

وَ ما يَسْتَوِي عنده في المجازاة الكافر الذي هو اَلْأَعْمى القلب وَ المؤمن الذي هو اَلْبَصِيرُ بالحقّ و وظائفه الإلهية

وَ لاَ فنون الباطل التي هي اَلظُّلُماتُ في الآخرة وَ لاَ الحقّ الذي هو اَلنُّورُ و أفراده، لأنّ الحقّ واحد

وَ لاَ اَلظِّلُّ الذي هو كناية عن ثواب اللّه و الراحة الأبدية وَ لاَ اَلْحَرُورُ الذي هو كناية عن عذاب النار.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 22 الی 26

ثمّ ضرب سبحانه مثلا للمؤمن و الكافر بقوله: وَ ما يَسْتَوِي المؤمنون الذين هم اَلْأَحْياءُ وَ لاَ الكفّار الذين هم اَلْأَمْواتُ.

وَ ما يَسْتَوِي اَلْأَحْياءُ وَ لاَ اَلْأَمْواتُ إِنَّ اَللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ (23) إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ اَلْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)ثمّ بيّن قدرته على قهرهم بالايمان بقوله: إِنَّ اَللّهَ بقدرته يُسْمِعُ كلامه و يفهمه مَنْ يَشاءُ إسماعه و إفهامه بإحياء قلبه وَ ما أَنْتَ يا محمّد بِمُسْمِعٍ كلامك مَنْ هو كالميت الذي فِي اَلْقُبُورِ لعدم قدرتك على ذلك

إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ و ما أنت إلاّ مخوّف للناس من عذاب اللّه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إنذاره ليس من قبل نفسه بقوله: إِنّا أَرْسَلْناكَ إلى النّاس حال كونك مصحوبا بِالْحَقِّ و ملتبسا بالصدق، لتكون لهم بَشِيراً بالثواب على إيمانهم وَ نَذِيراً لهم بالعقاب على كفرهم و شركهم وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ و ما من جماعة و أهل عصر إِلاّ خَلا و مضى فِيها نَذِيرٌ مبعوث من أللّه لإنذارهم و هدايتهم إلى الحقّ، من رسول أو وصيّ رسول، فلست بدعا من الرسل، و في الآية دلالة على أنّه لا يخلو زمان من حجّة إما ظاهر مشهور أو غائب مستور، كما دلّت عليه الروايات الكثيرة (2).

ص: 240


1- . تفسير روح البيان 7:337.
2- . الكافي 1:194/6، تفسير القمي 2:209، عنهما تفسير الصافي 4:236.

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على تكذيب قومه بقوله: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فلا تبال تكذيبهم، و لا تحزن عليه فَقَدْ كَذَّبَ الامم العاتية الطاغية اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم رسلهم، ثمّ كأنّه قيل: هل كان لهم رسل؟ فأجاب سبحانه بقوله: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ مستدلّين على صدق رسالتهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات الدالات على صدقهم و صحة نبوّتهم وَ بِالزُّبُرِ و الصّحف السماوية كصحف شيث و إدريس و إبراهيم عليهم السّلام وَ بِالْكِتابِ اَلْمُنِيرِ الموضح للحقّ المبين،

لما يحتاج إليه من الحكم و الأحكام و المواعظ و الأمثال و الوعد و الوعيد و نحوها، كالتوراة و الإنجيل ثُمَّ أَخَذْتُ بعذاب الاستئصال اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا رسالتهم و كذّبوهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ و تعييري عليهم بالعقوبات الشديدة التي صارت عبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة، و فيه وعيد لمكذّبي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وعد له بالنّصر و الظّفر.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيب الرسل في دعوى التوحيد و الرسالة، شرع في الاستدلال على توحيده بقوله: أَ لَمْ تَرَ يابن آدم، أو يا محمد، و لم تعلم أَنَّ اَللّهَ بقدرته الكاملة أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بالأمطار.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ اَلْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ اَلنّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)ثمّ عدل من الغيبة إلى التكلّم إظهارا لكمال الاعتناء ببديع صنعه بقوله: فَأَخْرَجْنا من الأرض و الأشجار بِهِ ثَمَراتٍ كثيرة مُخْتَلِفاً أَلْوانُها و أنواعها كالرّمان و التّفاح و التين و العنب و غيرها، و أصنافها أو هياتها من الصّفرة و الحمرة و البياض و السواد و غيرها وَ مِنَ اَلْجِبالِ جُدَدٌ و خطط و طرق ظاهرة. و قيل: يعني ذو جدد بِيضٌ وَ حُمْرٌ كلّ واحدة من البيض و الحمر مُخْتَلِفٌ أيضا أَلْوانُها بالشدّة و الضّعف و جدد سود وَ غَرابِيبُ و بالغات أعلى درجة السواد بحيث لا يمكن الاختلاف فيها.

ثمّ بيّن سبحانه السّود المحذوف الموكّد بالغرابيب بقوله: سُودٌ فعلى ما فسرّنا الآية يكون المقصود بيان اختلاف الطرق في اللون كاختلاف الثّمار في اللون، و يمكن أن يكون المقصود بيان اختلاف نفس الجبال في اللون،

ص: 241

منهم أبيض، و منهم أحمر، و منهم أسود، و منهم أصفر، و منهم على لون آخر كَذلِكَ الاختلاف الكائن في الثّمار و الجبال.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ لمّا خصّ سبحانه تأثير الإنذار بالذين يخشون ربّهم بالغيب، بيّن اختصاص الخشية بالعارفين باللّه بقوله: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ بين عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ باللّه العارفون بشؤونه و عظمته و قهاريته لا غيرهم، لأنّ الخشية متوقّفة على معرفة المخشيّ منه بالعظمة و المهابة و القدرة و القهارية، كما بيّن سبحانه علّة وجوب خشيته بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على من عصاه، و قادر على الانتقام ممنّ عاداه و خالفه غَفُورٌ لمن يخشاه و يطيعه، فمن كان أعلم به تعالى كان أخشى منه كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أخشاكم من اللّه، و أتقاكم له» (1).

وَ مِنَ اَلنّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللّهِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أيّنا أعلم؟ قال: «أخشاكم من اللّه» (2).

عن السجاد عليه السّلام، قال: «ما العلم باللّه و العمل إلاّ إلفان مؤتلفان، فمن عرف اللّه خافه، و حثّه الخوف على العمل بطاعة اللّه، و إنّ أرباب العلم و أتباعهم الذين عرفوا اللّه فعملوا له و رغبوا إليه، و قد قال اللّه: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ» إلى آخره (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «دليل الخشية التعظيم للّه و التمسّك بخالص الطاعة و أوامره، و الخوف و الحذر، و دليلهما العلم» (4)ثمّ تلا هذه الآية.

أقول: و لذا مدح اللّه العلماء بالعمل بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللّهِ حقّ تلاوته، و يهتمّون بالعبادات البدنية التي أفضلها الصلاة كما قال تعالى: وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ بآدابها و شرائطها، و بالعبادات المالية كما قال سبحانه: وَ أَنْفَقُوا في سبيل اللّه مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من الأموال سِرًّا و خفية من الناس، لإدراك فضيلة الصدقة السرّية وَ عَلانِيَةً و جهارا لترغيب الناس إليه، و هم بأعمالهم و عباداتهم يَرْجُونَ تِجارَةً و مبايعة مع ربّهم في سوق الدنيا لَنْ تَبُورَ و لن تخسر تلك التجارة أبدا

لِيُوَفِّيَهُمْ و يعطيهم على أعمالهم أُجُورَهُمْ التي وعدهم بلسان نبيه في

ص: 242


1- . تفسير أبي السعود 7:151، تفسير روح البيان 7:344.
2- . تفسير روح البيان 7:344.
3- . الكافي 8:16/2، تفسير الصافي 4:237.
4- . مصباح الشريعة:23، تفسير الصافي 4:237.

كتابه بقوله: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ (1)وَ يَزِيدَهُمْ اللّه على ما يستحقّون ما لم يخطر ببالهم مِنْ فَضْلِهِ وجوده و خزائن رحمته، كقبول شفاعتهم في العصاة من أقربائهم و أصدقائهم و محبّيهم إِنَّهُ تعالى غَفُورٌ و ستّار لفرطاتهم شَكُورٌ لطاعاتهم، و مجازيهم عليها أفضل الجزاء.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 31 الی 32

ثمّ لمّا ذكر سبحانه تلاوة العلماء كتابه الكريم مدح كتابه بقوله: وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل مِنَ اَلْكِتابِ الحميد و القرآن المجيد هُوَ بالخصوص اَلْحَقُّ الذي يجب الأخذ به، و العمل بما فيه، و أدلّ الدليل على حقّانيته و صدقه، و كونه منزلا من اللّه، إنّه يكون مُصَدِّقاً و موافقا في العلوم و المعارف و أصول الأحكام و الحكم و المواعظ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ و ما قبله من الكتب السماوية كالتوراة و الانجيل و الزّبور و غيرها، مع كون من جاء به امّيا لم يقرأ الكتب، و لم يجالس أحدا من علماء أهل الكتاب، و إن اعترض المشركون عليك و قالوا: لم أوحي إليك و لم يوح إلى رجل من القريتين عظيم؟ فقل: إِنَّ اَللّهَ بِعِبادِهِ القابلين للإيحاء إليهم و غير القابلين له لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم بواطنهم و من قوة عقولهم و نورانية طينتهم و قلوبهم، و يرى ظواهرهم من حسن أخلاقهم و سيرتهم، فيصطفي لوحيه و رسالته أعقلهم و أفضلهم و أكملهم،

و لا ينظر إلى كثرة جاههم و مالهم و أولادهم و أعوانهم ثُمَّ بعد إعطائك الكتاب العظيم و إيجابه إليك أَوْرَثْنَا و أعطينا ذلك اَلْكِتابَ المنزل إعطاء إرث الوالد لولده اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا هم و انتجبناهم مِنْ عِبادِنا للإعطاء و الإكرام فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بمخالفته لأحكامه و عصيانه ربّه وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ و متوسّط في العمل بالكتاب، لا مجدّ فيه و لا مسامح و مساهل وَ مِنْهُمْ سابِقٌ و متقدّم على جميع الناس في العمل بِالْخَيْراتِ الأعمال الصالحات بِإِذْنِ اَللّهِ و إرادته و توفيقه ذلِكَ المذكور من إيراث الكتاب و السّبق بالخيرات هُوَ بالخصوص اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ من اللّه الكبير، و الإنعام الجزيل من المنعم القدير.

وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتابِ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اَللّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اَللّهِ ذلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ (32)

ص: 243


1- . التوبة:9/111.

قال المفسرون من العامة: إنّ المراد من المصطفين في الآية جميع الامّة (1). ورووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا نزلت هذه الآية فرح فرحا شديدا و قال ثلاثا: «امّتي و ربّ الكعبة» (2).

و اختلفت أقوالهم في المراد من الفرق الثلاث؛ قيل: الظالم من رجحت سيئاته حسناته، و المقتصد من تساويا، و السابق من رجحت حسناته (3). و قيل: الظالم هو الموحّد غير المطيع، و المقتصد: هو الموحّد المطيع، و السابق: هو الموحّد الذي لا يتوجّه إلى غير اللّه (4). و قيل: الظالم هو المرتكب للكبائر، و المقتصد هو المرتكب للصغائر، و السابق هو المعصوم (5). و قيل: الظالم أصحاب المشأمة، و المقتصد أصحاب الميمنة، و السابق بالخيرات (4)، السابقون المقربون (5)، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

و في روايات أهل البيت عليهم السّلام: أنّ المراد من المصطفين الذين أورثوا الكتاب أولاد عليّ و فاطمة عليهما السّلام (6). و في بعضها: المراد من الظالم من لا يعرف الإمام، و من المقتصد العارف به، و من السابق الإمام، كما عن الباقر (7)و الصادق (8)و الرضا (9)و العسكري (10)عليهم السّلام.

و في بعضها: المراد من الظالم من استوت حسناته و سيئاته، و من المقتصد العابد للّه حتى يأتيه اليقين، و من السابق من دعا إلى سبيل ربّه، و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر، و لم يكن للمضلّين عضدا، و لا للخائنين خصيما، و لم يرض بحكم الفاسقين إلاّ من خاف على نفسه و دينه و لم يجد أعوانا، كما عن الصادق عليه السّلام (11).

و عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الظالم لنفسه هاهنا من عمل صالحا و أخّر سيئا، و أما المقتصد فهو المتعبّد المجتهد، و أمّا السابق بالخيرات فعليّ و الحسن و الحسين و من قتل من آل محمد عليهم السّلام شهيدا» (12).

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 33 الی 35

جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) اَلَّذِي أَحَلَّنا دارَ اَلْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

ص: 244


1- . تفسير أبي السعود 7:153، تفسير روح البيان 7:346.
2- . تفسير روح البيان 7:347.
3- . تفسير الرازي 26:24. (4 و 5) . تفسير الرازي 26:25.
4- . زاد في النسخة: و السابقون.
5- . تفسير الرازي 26:25.
6- . بصائر الدرجات:65/3، تفسير الصافي 4:238.
7- . الكافي 1:167/1، تفسير الصافي 4:238.
8- . الكافي 1:167/2، تفسير الصافي 4:238.
9- . الكافي 1:167/3، تفسير الصافي 4:238.
10- . الخرائج و الجرائح 2:687/9، تفسير الصافي 4:238.
11- . معاني الأخبار:105/2، تفسير الصافي 4:239.
12- . مجمع البيان 8:639، تفسير الصافي 4:239.

ثمّ بيّن سبحانه فضله الكبير بملاحظة أنّه سبب للتفضّلات المذكورة بقوله: جَنّاتُ عَدْنٍ و بساتين إقامة و استقرار لا رحيل منها، أو المراد بساتين خاصة اسمها عدن يَدْخُلُونَها يوم القيامة، ثمّ يُحَلَّوْنَ و يزيّنون فِيها رجالا و نساءا مِنْ أَساوِرَ مصوغة مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً و درّا بالنصب عطفا على محلّ الذهب، و المعنى و يحلّون لؤلؤا وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ و ثوب رقيق من إبريسم

وَ قالُوا عند الدخول في الجنات تشكّرا لما صنع بهم رّبهم: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ و أزال عَنَّا بتفضّله علينا بالجنّة اَلْحَزَنَ و الغمّ.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أمّا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، و أمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، و أما الظالم لنفسه فيحبس في المقام، ثمّ يدخل الجنّة، فهم الذين قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ» (1).

إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ للمطيعين بإثابتهم إلى غير نهاية

اَلَّذِي أَحَلَّنا و أنزلنا دارَ اَلْمُقامَةِ و البقاء، و جنّة لا خروج منها أبدا مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه بلا حقّ لنا عليه لا يَمَسُّنا و لا يصيبنا فِيها نَصَبٌ و تعب و وجع، كما كان يصيبنا في الدنيا وَ لا يَمَسُّنا و لا يعترينا فِيها لُغُوبٌ و كلال و عناء، إذ لا تكليف فيها و لا كدّ، فبيّن سبحانه أنّ لهم السرور بالنجاة من العذاب، و بالدخول في الجنات، و بالاكرام بتحليتهم بأعلى الحليّ التي يتحلّى بها الملوك، و باللباس الذي هو أفضل الألبسة، و بالخلود في النّعم، و الراحة من جميع المكاره و الآلام.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين بيّن سوء حال الكفّار في الآخرة بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و بكتابه لَهُمْ في الآخرة نارُ جَهَنَّمَ بسبب كفرهم و أشدّ العذاب بارتكابهم أكبر الكبائر و أقبح القبائح لا يُقْضى و لا يحكم عَلَيْهِمْ بالموت فَيَمُوتُوا و يستريحوا منه وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ طرفة عين مِنْ عَذابِها بل كلّما خبت زادوا سعيرا كَذلِكَ الجزاء الفظيع

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

ص: 245


1- . مجمع البيان 8:638، تفسير الصافي 4:240.

نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ و مبالغ في الكفران، أو مصرّ على الطّغيان

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ و يستغيثون و يضجّون فِيها و يقولون حال استغاثتهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها، و خلّصنا من عذابها، و ردّنا إلى الدنيا نؤمن بك في الدنيا و نَعْمَلْ صالِحاً فيها غَيْرَ العمل اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ و نحسبه صالحا، فيقال لهم توبيخا و تبكيتا: ألم نعطكم المهلة أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ و نبقيكم في الدنيا مقدار ما يَتَذَكَّرُ و يتنبّه فِيهِ من الزمان مَنْ تَذَكَّرَ و تتمكّنون فيه من التفكّر و إصلاح العقائد و الأعمال.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من عمّره اللّه ستين سنة، فقد أعذر إلية» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «العمر الذي أعذر اللّه إلى ابن آدم ستّون سنة» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو توبيخ لابن ثمان عشرة سنة» (3).

وَ جاءَكُمُ من قبل اللّه اَلنَّذِيرُ المخوّف من عذاب هذا اليوم فَذُوقُوا العذاب، لأنّكم ظلمتم أنفسكم بالكفر و الطّغيان على ربّكم و تكذيب نبيّكم فَما لِلظّالِمِينَ في هذا اليوم مِنْ نَصِيرٍ يدفع عنهم العذاب، و معين يعينهم في الخلاص منه.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ لمّا قطع سبحانه رجاءهم العود إلى الدنيا، و أخبرهم بدوام عذابهم إلى الأبد، بيّن علمه بخبث ذاتهم و عودهم إلى الكفر و العصيان إنّ عادوا إلى الدنيا، و بنيّتهم أنّهم لو بقوا في الدنيا إلى الأبد لبقوا على الشّرك و العصيان بقوله: إِنَّ اَللّهَ عالِمُ غَيْبِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خفيّاتهما، فيعلم خبث طينة المصرّين على الشّرك بحيث لو رجعوا إلى الدنيا رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشّرك و العصيان، و إنّهم كاذبون في قولهم: أخرجنا نعمل صالحا، و إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و النيّات السوء التي في القلوب، فيعلم أنّ نية المشركين كانت في الدنيا أنّهم لو كانوا باقين فيها أبد الدهر لداموا على الشرك، و لذا يعذّبهم أبدا على نيّاتهم، فليس لأحد أن يقول: لا يجوز العذاب الأبدي على الشّرك في أيام معدودة.

إِنَّ اَللّهَ عالِمُ غَيْبِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (38) هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَساراً (39)

ثمّ ذكر سبحانه بعد تهديد المشركين بعذاب النار في القيامة منّته عليهم إثباتا لتوحيده، و إتماما

ص: 246


1- . مجمع البيان 8:641، تفسير الصافي 4:241.
2- . نهج البلاغة:533/326، مجمع البيان 8:641، تفسير الصافي 4:241.
3- . مجمع البيان 8:641، تفسير الصافي 4:241.

لحجّته، و تقريرا لعدم رجوعهم عن شركهم إذا رجعوا إلى الدنيا بقوله: هُوَ اللّه القادر اَلَّذِي جَعَلَكُمْ بقدرته و فضله خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ و متصرّفين فيها، و مسلّطين على الانتفاع بها و بنعمها، أو خلفاء ممّن كان قبلكم من الامم، و أورثكم ما كان لهم من الأمتعة، و نبّهكم بسوء حال الماضين من المشركين، و أعلمكم بما نزل على الأقدمين من العاصين، و مع ذلك ما تنبّهتم و ما اتّعظتم فَمَنْ كَفَرَ باللّه و الدار الآخرة فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ و وبال شركه و جحوده الحقّ من الطرد و النار، لا يتعدّاه إلى غيره وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً و غضبا شديدا يوجب لهم العذاب الأبد وَ لا يَزِيدُ اَلْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَساراً و ضررا عظيما لا يتصوّر فوقه الضرر، و هو فوات النّعم الأبدية و الراحة السّرمدية.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإلزام المشركين على إبطال الشّرك، و توبيخهم على عبادة ما لا يليق للعبادة، و لا دليل على جوازها بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني شُرَكاءَكُمُ و الأصنام اَلَّذِينَ سميتموهم من قبل أنفسكم أندادا لربّكم و تَدْعُونَ و تعبدونهم مِنْ دُونِ اَللّهِ الذي هو خالقكم و المنعم عليكم أَرُونِي و عيّنوا لي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ و أيّ جزء من أجزائها أوجدوه حتى يمكنكم أن تقولوا إنّهم آلهة في الأرض و اللّه إله السماء؟ ! أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ مع اللّه فِي خلق اَلسَّماواتِ حتى تقولوا إنّهم آلهة السماوات؟ ! أَمْ أعطينا الأصنام أو المشركين و آتَيْناهُمْ كِتاباً كتبنا فيه أنّ لهم الشفاعة، أو يجب عليكم عبادتهم فَهُمْ إذن عَلى بَيِّنَةٍ من اللّه و حجّة كائنة مِنْهُ ليس أحد من الامور حتى يجوز عقلا أو تعبّدا عبادتهم بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ السابقون أو الرؤساء بَعْضاً اللاحقين أو التابعين بأنّه يشفعون عند اللّه و يقضون حوائج عابديهم إِلاّ غُرُوراً و باطلا لا أصل له، و إيقاعا في خطر العذاب.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً (40) إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

ثمّ بيّن سبحانه أن عظمة القول بالشّرك ممّا يزيل السماوات و الأرض عن مقرّهما بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ و يحفظ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته من أَنْ تَزُولا أو كراهة أن تزولا من مقرّهما بسبب قول المشركين بالشّرك باللّه.

ص: 247

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً (40) إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

ثمّ بيّن سبحانه أن عظمة القول بالشّرك ممّا يزيل السماوات و الأرض عن مقرّهما بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ و يحفظ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته من أَنْ تَزُولا أو كراهة أن تزولا من مقرّهما بسبب قول المشركين بالشّرك باللّه.

عن الرضا عليه السّلام، قال: «بنا يمسك اللّه السماوات و الأرض أن تزولا» (1).

وَ باللّه وَ لَئِنْ زالَتا عن مكانهما و مقرّهما، كما يزولان في يوم تبدّل الأرض فيه غير الأرض، و تطوى السماء كطّي السّجل للكتب إِنْ أَمْسَكَهُما و ما حفظهما من الزوال (2)مِنْ أَحَدٍ من الموجودات غير اللّه و مِنْ بَعْدِهِ أو من بعد نزولهما إِنَّهُ تعالى كانَ حَلِيماً غير معاجل بعقوبة الكفّار بإنزالهما بقولهم بالشّرك، مع أنّه مقتض لهدّهما هدّا، و مع ذلك يمسكهما و يمنعهما من الزوال و غَفُوراً لمن رجع عن الشّرك و تاب من الكفر.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين التوحيد، حكى إنكارهم الرسالة و إصرارهم عليه بقوله: وَ أَقْسَمُوا و حلفوا بِاللّهِ مع أنّ الحلف باسم اللّه العظيم يكون جهد أيمانهم و أكيده و غليظه، و قالوا: و اللّه لَئِنْ جاءَهُمْ نبيّ نَذِيرٌ و مخوّف من قبل اللّه، كما أدّعى كثير من الامم مجيئه فيهم لَيَكُونُنَّ أَهْدى و أطوع له مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ كاليهود و النصارى و غيرهم، لكوننا أكثر استعدادا و عقلا و فهما و ذكاء منهم فَلَمّا جاءَهُمْ محمد صلّى اللّه عليه و آله و هو نَذِيرٌ من النّذر، و أفضلهم، بالمعجزات الباهرات الدالّة على صدقه

ما زادَهُمْ مجيؤه أو ذلك النذير إِلاّ نُفُوراً و تباعدا عن طاعته و الاهتداء بهدايته، و كان نفورهم اِسْتِكْباراً و تعظيما فِي اَلْأَرْضِ وَ عتوّا على اللّه، و مكروا مَكْرَ اَلسَّيِّئِ أو المراد ما زادهم إلا استكبارا، و مكر السيء، و التدبير الشنيع، و الحيلة القبيحة في قتله و إبطال دعوته وَ الحال أنّه لا يَحِيقُ و لا يحيط اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ و وباله و عذابه إِلاّ بِأَهْلِهِ و فاعله.

وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً (42) اِسْتِكْباراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّهِ تَحْوِيلاً (43)في الحديث: «لا تمكروا و لا تعينوا ماكرا، فانّ اللّه يقول: وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ» (3).

ص: 248


1- . كمال الدين 202/6، تفسير الصافي 4:243.
2- . في النسخة: النزول.
3- . تفسير الرازي 26:34، تفسير روح البيان 7:361.

و في الآخر: «المكر و الخديعة في النار» (1).

روي أنّ قريشا بلغهم قبل مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، فقالوا: لعن اللّه اليهود و النصارى، أتتهم الرسل فكذّبوهم، و حلفوا كما حكى اللّه عنهم (2).

ثمّ هددهم سبحانه بقوله: فَهَلْ المشركون يَنْظُرُونَ و ينتظرون إِلاّ سُنَّتَ اللّه في الامم اَلْأَوَّلِينَ و طريقته المألوفة الجارية في المكذبين السابقين و ماكريهم بالنبيين من تعذيبهم و إهلاكهم فَلَنْ تَجِدَ يا محمد، أو يابن آدم لِسُنَّتِ اَللّهِ و طريقة معاملته مع أعدائه و أعداء رسله تَبْدِيلاً بأن يعفو عن المكذّبين الماكرين الذين كان بناؤه على تعذيبهم وَ لَنْ تَجِدَ أبدا لِسُنَّتِ اَللّهِ تَحْوِيلاً و نقلا لعذابه من المكذّبين إلى غيرهم، و من المستحقّين إلى من عداهم، و عدم وجدانهما دليل على عدم وجودهما.

سوره 35 (فاطر): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ استشهد سبحانه على سنّته السابقة في الامم بالآثار الباقية من المعذّبين الماضين بقوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا قيل: إنّ التقدير أقعد المشركين في منازلهم (3)و لم يسافروا فِي اَلْأَرْضِ و لم يذهبوا إلى الشام و اليمن و العراق للتجارة أو غيرها فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار إلى الديار الخربة التي بقيت من الامم المهلكة، فيعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ تكذيب الامم اَلَّذِينَ عتوا على اللّه و كذّبوا الرّسل مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود و قوم سبأ؟ وَ الحال أنّهم كانُوا في حياتهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فما أغنى عنهم شدّة القوى و عظمة الأجساد و طول الأعمار، مع أنّهم لم يكذّبوا مثل محمد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ عن إنفاذ إرادته و تعذيب أعدائه مِنْ شَيْءٍ كائن فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ و لم يفته، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه و لا يفوتوه إِنَّهُ تعالى كانَ عَلِيماً بأعمالهم و عقائدهم الفاسدة و أخلاقهم الرذيلة قَدِيراً على تعذيبهم و إهلاكهم.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

ص: 249


1- . تفسير روح البيان 7:361.
2- . تفسير أبي السعود 7:156، تفسير روح البيان 7:360.
3- . تفسير أبي السعود 7:157، تفسير روح البيان 7:362.

ثمّ بيّن سبحانه لطفه بالكفّار و العصاة بإمهالهم و عدم مؤاخذة كلّهم مع استحقاقهم لتعجيل العذاب عليهم بقوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ و يعجّل عقوبتهم بِما كَسَبُوا و كفرهم و عصيانهم في الأرض ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها واحدا مِنْ جنس دَابَّةٍ و متحرّك يتحرّك فيها بإنزال العذاب وَ لكِنْ بلطفه يُؤَخِّرُهُمْ و يمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معين قدّره لموتهم بحكمته البالغة، أو قدّره لنزول العذاب عليهم، أو قدّره لحساب الناس، و هو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المقدّر فَإِنَّ اَللّهَ يؤاخذهم و كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً لا يؤاخذهم أزيد من استحقاقهم، و لا أقلّ منه، و لا يأخذ البرئ بالمجرم و المؤمن بالكافر، بل يجازي كلاّ بعمله، إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ.

و قد مرّ ثواب تلاوة السورة المباركة في آخر سورة سبأ، و للّه الحمد و المنّة على توفيقه لاتمام تفسير السورة و له الشكر.

ص: 250

في تفسير سورة يس

سوره 36 (يس): آیه شماره 1 الی 6

ثمّ لمّا ختمت سورة الملائكة المبدؤة بإظهار غاية عظمة ذاته المقدّسة بجعل الملائكة رسلا المختتمة بلوم المشركين على كذبهم في دعوى أنّه إن جاءهم نذير لكانوا أشدّ تسليما و أكثر اتّباعا له من اليهود و النصارى لقوله: فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً (1)، أردفها بسورة يس المبتدئة ببيان منّته عليهم بإرسال خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و عظمة الكتاب النازل عليه، و هو القرآن المشتمل على الحكم و الأحكام، و جعله من أعظم معجزاته، و بيان إصرار المشركين على معارضته و تكذيبه، و غيرها من المطالب المرتبطة بالسورة السابقة، فافتتحها على دأبة بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ و قد مرّ تفسيره.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يس (1) وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)

ثمّ ابتدأ بذكر الحروف المقطّعة بقوله: يس. قيل: رمز عن خطاب يا أيّها السامع للوحي، كما عن الصادق عليه السّلام في (معاني الأخبار) (2)و عليه تكون (يا) حرف نداء و (السين) رمز عن السامع، و قيل: إنّها رمز عن كلمة سيّد البشر، أو سيّد المرسلين (3)، و الظاهر أنّه المراد من الروايات الكثيرة الدالة على أن يس اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ عظّم سبحانه القرآن بحلفه به على صدق نبوة نبيّه بقوله: وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ و الكتاب الجامع للحكم التي لا نهاية لها، أو المحكم الذي لا يكسره شيء، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، أو الحاكم بين الخلق إلى يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، حيث يجب الرجوع إليه فيه.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله: إِنَّكَ يا محمد لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ من قبل اللّه إلى خلقه

ص: 251


1- . فاطر:35/42.
2- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:244.
3- . تفسير روح البيان 7:365.

لهدايتهم و إرشادهم إلى ما هو الصواب من امور الدنيا و الآخرة، فليس للكفار أن يقولوا: لست مرسلا،

و إنك ثابت أو متمكّن عَلى صِراطٍ و طريق مُسْتَقِيمٍ موصل إلى أعلى مراتب كمال الانسانية و القرب منه، و أعلى درجات الجنة و الرضوان بلا انحراف و اعوجاج، و هو الاسلام المركّب من التوحيد و المعارف الإلهية و الأحكام العملية و الأخلاق الربانية، و إنّما وصف دينه بالاستقامة مع كون شرائع سائر الأنبياء مستقيمة لكون استقامته و إيصاله إلى المقصد الأعلى فوق استقامتها، و في توصيف القرآن البالغ حدّ الاعجاز في حسن الاسلوب و فصاحة البيان بالحكمة البالغة، أو الحكومة بين الناس مع كون الآتي به اميا، إشارة إلى كونه أقوى الأدلة على كونه واجدا للوصفين، و إنّما أتى بالدليل بصورة الحلف للتنبيه بعظمة القرآن، فانّ الحلف لا يكون إلاّ بأمر عظيم عند الحالف، و بأنّ البرهان قد اقيم على الأمرين مرارا بأبلغ بيان، فلم يبق إلاّ الحلف على المدّعى برجاء كونه سببا لوثوق المنكر به، فجمع سبحانه بين الاستدلال و الحلف بقوله: وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ أعني

تَنْزِيلَ الإله اَلْعَزِيزِ و القاهر لكلّ شىء، و القادر على عقوبة منكر القرآن و رسالة رسوله و دينه اَلرَّحِيمِ بمن أقرّ بالجميع، و العطوف بمن أطاعه و أطاع رسوله، أو المراد القاهر لعباده بجعل الأحكام الوجوبية و التحريمية، الرحيم بهم بجعل الأحكام الندبية و الكراهية و الإباحية، و إنّما وصفه بكونه تنزيلا من اللّه لكمال ظهور آثار النزول فيه، بحيث صحّ أن يقال مبالغة: إنّ هذا لمنزل عين النزول.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إرسال رسوله و تنزيل كتابه بقوله: لِتُنْذِرَ يا محمد و تخوّف قَوْماً و طائفة تكون فيهم ما أُنْذِرَ به و خوّف بتوسط سائر الأنبياء آباؤُهُمْ من العذاب. و قيل: يعني قوما الذين انذر آباؤهم (1)، أو قوما نحو ما انذر آباؤهم، كما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لتنذر القوم الذين أنت فيهم، كما انذر آباؤهم» (2).

أقول: على هذا يكون (ما) مصدرية. و قيل: إنّها نافية، و المعنى لتنذر قوما الذين ما انذر آباؤهم الأقربون لطول مدّة الفترة (3)و غيبة الأنبياء من بينهم، و إن انذر آباؤهم الأبعدون الذين كانوا في زمان إسماعيل و من بعده من الأنبياء العرب و العجم، فبعد غلبة الكفر و شيوعه و غيبة الأنبياء لم ينذروا، فصار الناس جميعا غافلين عن التوحيد و المعارف و المعاد، فصارت هذه الغفلة سببا لوجوب إنذارهم، كما قال سبحانه: فَهُمْ غافِلُونَ عن اللّه، و عن رسوله، و عن وعيده، كما عن الصادق عليه السّلام (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 7 الی 9

لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

ص: 252


1- . تفسير الرازي 26:42، تفسير القرطبي 15:6.
2- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 4:245.
3- . تفسير روح البيان 7:368.
4- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 4:245.

ثمّ بيّن سبحانه لجاج القوم و امتناعهم من الايمان بقوله: لَقَدْ حَقَّ و ثبت و وجب اَلْقَوْلُ و الوعد الذي سبق منّا عند تهديد إبليس-حيث قلنا: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ (1)أو قولنا: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (2)- عَلى أَكْثَرِهِمْ لوضوح كونهم أهل الشّقاوة و الشّقاق فَهُمْ لخبث ذاتهم و انطباع قلوبهم لا يُؤْمِنُونَ بك و بكتابك و إنذارك أبدا، و لا يطيعونك في شيء أصلا.

ثمّ شبّه سبحانه الأخلاق الرذيلة المانعة عن إيمانهم بالغلّ العريض الذي يكون في العنق فيمنع الرأس من تطأطئه و انحنائه بقوله: إِنّا بتجبّلهم على الحسد و الكبر و الشّقاء، كأنّه جَعَلْنا و صيّرنا فِي أَعْناقِهِمْ و جيادهم أَغْلالاً غلاظا ثقالا فَهِيَ لكثرة غلظها و عرضها منتهية من الصدور إِلَى اَلْأَذْقانِ فَهُمْ لتلك الأغلال مُقْمَحُونَ رؤوسهم و رافعوها غير قادرين على تطأطئها و الالتفات بها.

فحاصل المعنى أنّ كفّار مكة لكثرة تكبّرهم و شدّة حسدهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أبوا]تسليما و انقيادا له، و أن يلتفتوا إلى الحقّ، و أن يفتحوا عيونهم لرؤية معجزاته و آياته، و أن ينظروا إليه و إليها، و أن يؤمنوا بما جاء به.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «هذا في الدنيا، و في الآخرة في نار جهنم مقمحون» (3).

ثمّ شبّه سبحانه امتناعهم عن سلوك طريق الحقّ و الصراط المستقيم، و وقوفهم على الكفر [الذي]

عماهم عن رؤية المعجزات، بمن كان في أطرافه سدّ عظيم لا يمكنه الخروج منه، و لا رؤية ما في العالم من الأشياء بقوله: وَ جَعَلْنا و خلقنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ و تلقاء وجوههم سَدًّا عظيما وَ مِنْ خَلْفِهِمْ و ورائهم أيضا سَدًّا عظيما لا يمكنهم المشي لا من القبال و لا من الخلف، فلا يقدرون على الذّهاب إلى المقصد، و الرجوع إلى المأوى و المأمن فَأَغْشَيْناهُمْ و غطّينا رؤوسهم و أبصارهم بسبب السدّين، لغاية تقاربهما و ارتفاعهما، أو بغشاء آخر مانع عن إبصارهم فَهُمْ لذلك لا يُبْصِرُونَ شيئا من آيات الآفاق و الأنفس الدالات على وحدانية اللّه، و من المعجزات الدالة على نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و حقّانية دينه.

عن الباقر عليه السّلام: «يقول فأعميناهم فهم لا يبصرون الهدى، أخذ اللّه سمعهم و أبصارهم و قلوبهم،

ص: 253


1- . سورة ص:38/85.
2- . السجدة:32/13.
3- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 4:245.

فأعماهم عن الهدى» (1).

روي أنّها نزلت في أبي جهل و صاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنّه يرضخ رأس محمد صلّى اللّه عليه و آله إن رآه في الصلاة، فرآه يوما (2)يصلي، فأخذ صخرة فرفعها ليرسلها على رأسه، فالتزقت بيده، و يده بعنقه، فرجع خائبا إلى قومه (3)، فنزلت: إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً إلى آخره، فقام الوليد بن المغيرة الخزومي، و قال: أنا أقتله بهذه الصخرة، فأخذ الصخرة، فجاء نحو النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا قرب منه عمي بصره، فكان يسمع صوته و لا يرى شخصه، فرجع إلى صاحبيه فلم يرهم حتى نادوه فأخبرهم بالحال، فنزل في حقّه: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إلى آخره.

و عن القمي: أنّها نزلت في أبي جهل بن هشام و نفر من أهل بيته، و ذلك أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قام يصلّي و قد حلف أبو جهل اللعين: لئن رآه يصلّي ليدمغه، فجاء و معه حجر و النبي صلّى اللّه عليه و آله قائم يصلي، فجعل كلّما رفع الحجر ليرميه، أثبت اللّه يده إلى عنقه، و لا يدور الحجر بيده، فلمّا رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده، ثمّ قام رجل آخر، و هو من رهطه أيضا، فقال: أنا أقتله، فلمّا دنا منه جعل يسمع قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فارعب و رجع إلى أصحابه، فقال: بيني و بينه [كهيئة]الفحل (4)يخطر بذنبه، فخفت أن أتقدّم (5).

سوره 36 (يس): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة امتناعهم عن الانقياد للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و عدم سلوكهم طريق الحقّ، و عدم رؤيتهم معجزاته، صرّج بعدم تأثير إنذاره في قلوبهم بقوله: وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ و لا يتفاوت في حقّهم أَ أَنْذَرْتَهُمْ و خوّفتهم من عذاب اللّه على الشرك و تكذيبهم نبوّتك و كتابك أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ و لم تعظهم، فانّ قلوبهم شرّ القلوب لأنّها لا تتّعظ بالعظة، فاعلم إذن أيّها النبي أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بك حتى يأتيهم الموت، لكون ذواتهم في أعلى درجة الشقاوة، و قلوبهم في أقصى مرتبة القساوة، فلا تتعب نفسك في دعوتهم إلى الايمان، و لا تكن حريصا في وعظهم و إنذارهم، بل اكتف بما تتمّ به الحجّة عليهم.

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

ثمّ بيّن سبحانه اختصاص نفع الإنذار و الدعوة إلى الايمان بأصحاب القلوب الصافية و الآذان

ص: 254


1- . تفسير القمي 2:212، تفسير الصافي 4:244.
2- . زاد في النسخة: أن.
3- . تفسير الرازي 26:44، تفسير أبي السعود 7:160.
4- . في المصدر: العجل.
5- . تفسير القمي 2:212، تفسير الصافي 4:245.

السامعة بقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الإنذار النافع في الهداية و الارشاد مَنِ لان قلبه و اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ و العظة، أو آمن بالقرآن و سلّم للبرهان وَ خَشِيَ بإنذارك اَلرَّحْمنَ و الإله الذي وسعت رحمته كلّ شيء و هو بِالْغَيْبِ و الحجاب عنهم، فيؤمن به و يعمل لمرضاته، أو خشي عقوبة الرحمن في الآخرة و أهوال القيامة التي تكون محجوبة عن أبصارهم فَبَشِّرْهُ يا محمّد، بعد الإنذار و تأثّره بالعظة و اتّباعه لها و قيامه بالأعمال الصالحة بِمَغْفِرَةٍ عظيمة لذنوبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ و ثواب جسيم مرضيّ له على إيمانه و أعماله.

سوره 36 (يس): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببشارة المؤمنين بالثواب أخبر بمجيء الآخرة التي هي دار المغفرة و الثواب بقوله: إِنّا نَحْنُ بقدرتنا الكاملة نُحْيِ اَلْمَوْتى و نبعثهم بعد انقضاء الدنيا من القبور لجزاء الأعمال وَ نَكْتُبُ في الصّحف، و نثبت في الدفاتر بتوسّط الكرام الكاتبين، أو نكتب في اللّوح المحفوظ ما قَدَّمُوا و أسلفوا و أتوا به في زمان حياتهم من الأعمال خيرا أو شرا حسنة أو سيئة، وَ نكتب فيها آثارَهُمْ و ما أبقوه بعد موتهم من سنّة حسنة أو سيئة، أو ما يوجب انتفاع الناس به من علم أو كتاب، أو وقف أو حبس، و إشاعة باطل، أو بدعة، أو تأسيس ظلم، أو صنعة فيها فساد كاختراع آلة لهو، أو بناء كنيسة أو غيرها.

إِنّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)و قيل: إنّ المراد آثار أقدام الماشين إلى المساجد (1)، روى بعض العامة: أنّ جماعة من الصحابة بعدت دورهم عن مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، فأرادوا النفير (2)إلى جوار المسجد، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يكتب خطواتكم و يثيبكم عليها، فالزموا بيوتكم» (3).

و عن (المجمع) : أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد منازلهم من المسجد و الصلاة معه، فنزلت الآية» (4).

ثمّ بيّن سبحانه سعة علمه بكلّ شيء فضلا عن أعمال العباد بقوله: وَ كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء، و كلّ موجود من الموجودات من الجواهر و الأعرض و الأعمال و الأفعال و الأقوال، أو أجل أو رزق أو نصيب، أو إحياء و إماته أَحْصَيْناهُ و أثبتناه فِي إِمامٍ و أصل عظيم الشأن مُبِينٍ و مظهر

ص: 255


1- . تفسير روح البيان 7:375.
2- . في تفسير روح البيان: النقلة.
3- . تفسير روح البيان 7:375.
4- . مجمع البيان 8:653، تفسير الصافي 4:246.

لجميع الأشياء و الامور، و هو اللّوح المحفوظ. قيل: سمّي إماما لأن الملائكة يتّبعونه و يعملون به (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا و اللّه الامام المبين، أبيّن الحقّ من الباطل، ورثته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (2).

و عن (الاحتجاج) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-قال: «معاشر الناس، ما من علم إلاّ علّمنيه ربّي، و أنا علّمته عليا، و قد أحصاه اللّه فيّ، و كلّ علم علمته أحصيته في إمام المتقين» (3).

و عن الباقر، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام قال: «لمّا نزلت الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام أبو بكر و عمر من مجلسيهما، و قالا: يا رسول اللّه، هو التوراة؟ قال: لا. قال: هو الإنجيل؟ قال: لا. قال: فأقبل أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هو هذا، إنّه الإمام الذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شيء» (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 13 الی 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله من المرسلين، و أن وظيفته إنذار قومه، و أنّ طائفة منهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، و طائفة منهم يؤمنون به و يفيد الانذار لهم فلنشملهم الرحمة و المغفرة، أمره سبحانه أنّ يذكر لقومه قصّة الرّسل المبعوثين إلى بلدة إنطاكية، و تطابق حالهم و حال قومهم لحاله و حال قومه بقوله: وَ اِضْرِبْ يا محمّد، و أذكر عند قومك، و بيّن لَهُمْ لتوضيح حالك و حالهم، و لطف اللّه بك و قهره على أعدائك مَثَلاً و قصة عجيبة هي في الغرابة كالمثل، و أعني بها أَصْحابَ اَلْقَرْيَةِ.

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ اَلرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ (15)قيل: إنّ التقدير مثل أصحاب القرية التي كانت بالرّوم تسمّى أنطاكية (5)إِذْ جاءَهَا و حين دخلها اَلْمُرْسَلُونَ و المبعوثون من قبل اللّه، أو من قبل عيسى الذي كان مبعوثا و رسولا من اللّه.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية مجيئهم إليها بقوله: إِذْ أَرْسَلْنا أولا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ من الرسل يدعوانهم إلى التوحيد و الايمان بشريعة عيسى عليه السّلام فَكَذَّبُوهُما في دعوى الرسالة و التوحيد فَعَزَّزْنا هما و قوّيناهما بِثالِثٍ من الرسل يقال له شمعون الصفا، و كان وصيّ عيسى عليه السّلام بعد رفعه إلى السماء فَقالُوا جميعا لأهل القرية: يا أهل القرية إِنّا إِلَيْكُمْ من جانب اللّه مُرْسَلُونَ فأنكروا رسالتهم،

و قالُوا في جوابهم: ما أَنْتُمْ أيها المدّعون للرسالة إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تأكلون الطعام

ص: 256


1- . تفسير الرازي 26:50.
2- . تفسير القمي 2:212، تفسير الصافي 4:347.
3- . الاحتجاج:60، تفسير الصافي 4:347.
4- . معاني الأخبار:95/1، تفسير الصافي 4:247.
5- . تفسير روح البيان 7:377.

و تمشون في الأسواق، لا مزيّة لكم علينا، و لا فضيلة لكم كي تخصّون بالرسالة دوننا، و لو كان للّه رسولا لكان ملكا، ثمّ بالغوا في التكذيب بقولهم: وَ ما أَنْزَلَ اللّه الإله الذي تقولون إنّه اَلرَّحْمنُ و من شأنه الرحمة و الرسل إليكم من السماء مِنْ شَيْءٍ من الكتاب و الملائكة إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ في دعوى الرسالة و التوحيد و نزول الكتاب، و ما أنتم إلاّ تفترون على اللّه في أنّه أرسلكم إلينا لهدايتنا.

سوره 36 (يس): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ لمّا رأى الرسل إصرار القوم في تكذيبهم، بالغوا في الدعوى، و أكّدوها بالحلف، و قالُوا يا قوم رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ من قبله، و إن كذّبتمونا، و لا يضرّنا إنكاركم علينا، لأنّه ليس وظيفتنا

وَ ما الواجب عَلَيْنا من قبل ربّنا اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ الواضح بإظهار رسالتنا، و إظهار المعجزات الشاهدة على صدقنا، و ما قصّرنا في العمل بما هو وظيفتنا و أداء ما هو في عهدتنا، و أمّا إجباركم على الايمان، فليس بواجب علينا، و لا في وسعنا، فإن أصررتم على الكفر كان وباله عليكم.

قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (17)حكى بعض العامة: أنّ عيسى عليه السّلام بعث رجلين من الحواريين قبل رفعه إلى السماء إلى بلدة أنطاكية، و كان أهلها يعبدون الأصنام، فلمّا أمرهما أن يذهبا إلى البلدة، قالا: يا نبي اللّه، انّا لا نعرف لسان القوم، فدعا اللّه لهما فناما مكانهما فلمّا استيقظا، و قد حملتهما الملائكة و ألقتهما إلى أرض أنطاكية، فكلّم كلّ واحد صاحبه بلغة القوم، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له، و هو حبيب النجار، و كان ينحت الأصنام، و يقال له صاحب يس، لأنّ اللّه تعالى ذكره في سورة يس، فسلّما عليه، فقال لهما: من أنتما؟ فأخبراه بأنّهما رسل عيسى، و قالا: جئنا لنهديكم إلى دين الحقّ، و نرشدكم إلى الصراط المستقيم، و هو توحيد اللّه و عبادته. فقال الشيخ: ألكما على صدق دعواكم دليل واضح؟ قالا: نعم، نحن نشفي المريض و نبرئ الأكمه و الأبرص باذن اللّه، و كان لهما ما لعيسى من المعجزة بدعاء عيسى عليه السّلام، فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مجنونا قد عجزت الأطباء من علاجه، فاشفياه من مرضه، فذهب بهما إلى داره، فدعوا اللّه و مسحا المريض، فقام باذن اللّه صحيحا، فآمن حبيب، و فشا الخبر، و شفي على أيديهما خلق كثير، و بلغ حديثهما إلى الملك، و اسمه بحناطيس الرّومي، أو انطيخس، أو شلاحن، فطلبهما فأتياه، فاستخبر عن حالهما، فقالا: نحن رسل عيسى عليه السّلام، ندعوك إلى عبادة ربّ واحد. فقال: ألنا ربّ غير آلهتنا؟ قالا: نعم، و هو من أوجدك و آلهتك، من آمن به دخل الجنة، و من

ص: 257

كفر به دخل النار، فغضب الملك و ضربهما و حبسهما.

فانتهى ذلك إلى عيسى عليه السّلام فبعث ثالثا و هو شمعون لينصرهما، فجاء شمعون القرية متنكّرا، فعاشر [حاشية الملك]حتى استأنسوا به، و رفعوا حديثه إلى الملك، فطلبه و أنس به، و كان شمعون يظهر موافقته في دينه، حيث كان إذا دخل معه على الصنم يصلّي و يتضرّع، و هو يظنّ أنّه من أهل دينه، فقال شمعون يوما للملك: بلغني أنّك حبست رجلين دعواك إلى إله غير إلهك، فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلامهما و أخاصمهما عنك؟ فدعاهما.

و في بعض الروايات: أنّ شمعون لمّا ورد أنطاكية دخل السجن أولا حتى انتهى إلى صاحبيه، فقال لهما: ألم تعلما أنّكما لا تطاعان (1)إلاّ بالرّفق و اللّطف؟ إنّ مثلكما مثل المرأة لم تلد زمانا من دهرها، ثمّ ولدت غلاما، فأسرعت بشأنه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغصّ به فمات، فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء.

ثمّ انطلق إلى الملك، فاستدعاهما-بعد التقرّب إليه-للمخاصمة، فلمّا حضرا قال لهما شمعون: من أرسلكما؟ قالا: اللّه الذي خلق كلّ شيء، و ليس له شريك. فقال: صفاه و أوجزا. قالا: يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد. قال: و ما برهانكما على ما تدّعيانه؟ قالا: ما يتمنّى الملك. فجيء بغلام مطموس العينين بحيث لا يتميّز موضع عينيه من جبهته، فدعوا اللّه حتى انشّق له موضع البصر، فاخذا بندقتين من الطين، فوضعاهما في حدقتيه، فصارتا مقلتين ينظر بهما، فتعجّب الملك، فقال له شمعون: أرايت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك و له الشرف؟ قال: ليس لي عنك سرّ مكتوم، إنّ إلهنا لا يبصر و لا يسمع و لا يضرّ و لا ينفع.

ثمّ قال لهما الملك: إنّ هنا غلاما مات منذ سبعة أيام، كان لأبيه ضيعة قد خرج إليها، و أهله ينتظرون قدومه، و استأذنوا في دفنه، فأمرتهم أن يؤخّروه حتى يحضر أبوه، فهل يحييه ربّكما؟ فأمر بإحضار ذلك الميت، فدعوا اللّه علانية، و دعا شمعون سرّا، فقام الغلام الميت حيّا بإذن اللّه، و قال: لمّا متّ و فارق روحي من جسدي برزت على سبعة أودية من النار لموتي على الكفر، و أنا احذّركم عمّا أنتم عليه من الشّرك، و رأيت أنّ أبواب السماء مفتوحة، و عيسى عليه السّلام قائما تحت العرش، و هو يقول: ربّ انصر رسلي. فأحياني اللّه و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ عيسى روح اللّه و كلمته، و أنّ هؤلاء الثلاثة رسل اللّه. قال الملك: و من الثلاثة؟ قال الغلام: شمعون، و هذان. فتعجّب الملك، فلمّا رأى شمعون أنّ قول الغلام أثّر في الملك أخبره بالحال، و أنّه رسول المسيح إليهم و نصحه، فآمن الملك فقط

ص: 258


1- . في النسخة: تطلقان.

خفية على خوف من عتاة ملّته، و أصرّ قومه على الكفر، فرجموا الرّسل بالحجارة، و قالوا: إنّ كلمتهم واحدة، و قتلوا حبيب النجّار و أبا الغلام الذي أحيي لأنّه أيضا كان قد آمن (1). و قيل: إنّ الملك أيضا أصر [على]كفره (2).

عن القمي رحمه اللّه، عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل عن تفسير هذه الآية، فقال: «بعث اللّه رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية، فجاءهم بما لا يعرفون، فغلّظوا عليهما، فأخذوهما و حبسوهما في بيت الأصنام، فبعث اللّه الثالث، فدخل المدينة فقال: أرشدوني إلى باب الملك، فلمّا وقف على الباب قال: أنا رجل كنت أتعبّد في فلاة من الأرض، و قد أحببت أن أعبد إله الملك، فأبلغوا كلامه الملك، فقال: أدخلوه إلى بيت الآلهة. فأدخلوه، فمكث سنة مع صاحبيه، فقال لهما: أينقل من دين إلى دين بالخرق، أفلا رفقتما؟ ثمّ قال لهما: لا تقرّان بمعرفتي.

ثمّ ادخل على الملك، فقال له الملك: بلغني أنّك كنت تعبد إلهي، فلم أزل و أنت أخي فسلني حاجتك فقال: مالي حاجة أيّها الملك، و لكن رأيت رجلين في بيت الآلهة، فما حالهما؟ فقال الملك: هذا رجلان أتياني ببطلان ديني، و يدعواني إلى إله سماويّ. فقال: أيها الملك فمناضرة جميلة، فان يكن الحق لهما اتبعناهما، و إن يكن الحقّ لنا دخلا معنا في ديننا، و كان لهما ما لنا، و عليهما ما علينا.

فبعث الملك إليهما، فلمّا دخلا عليه، قال لهما صاحبهما: ما الذي جئتما به؟ قالا: جئنا ندعو إلى عبادة اللّه الذي خلق السماوات و الأرض، و يخلق في الأرحام ما يشاء، و يصوّر كيف يشاء، و أنبت الأشجار و الثمار، و أنزل القطر من السماء.

فقال لهما: إلهكما هذا الذي تدعوان إليه و إلى عبادته، إن جئنا بأعمى يقدر أن يردّه صحيحا؟ قالا: إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء. قال: أيّها الملك عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قطّ. فأتي به، فقال لهما: ادعوا إلهكما أن يردّ بصر هذا. فقاما و صلّيا ركعتين، فاذا عيناه مفتوحتان، و هو ينظر إلى السماء. فقال: أيّها الملك عليّ بأعمى آخر. فاتي به فسجد سجدة، ثمّ رفع رأسه، فاذا الأعمى يبصر.

فقال: أيّها الملك حجّة بحجّة. عليّ بمقعد. فاتي به، فقال لهما مثل ذلك، فصلّيا و دعوا اللّه، فاذا المقعد قد أطلقت رجلاه و قام يمشي، فقال: أيّها الملك، عليّ بمقعد آخر فاتي به، فصنع به كما صنع أوّل مرّة، فانطلق المقعد، فقال: أيّها الملك، قد أتيا بحجّتين، و أتينا بمثلهما، و لكن بقي شيء آخر، فان كانا فعلاه دخلت معهما في دينهما، ثمّ قال: أيّها الملك، بلغني أنّه كان لك ابن واحد و مات، فان

ص: 259


1- . تفسير روح البيان 7:378.
2- . تفسير روح البيان 7:380.

أحياه إلههما، دخلت معهما في دينهما. فقال له: و أنا أيضا معك.

ثمّ قال لهما: قد بقيت خصلة واحدة، قد مات ابن الملك، فادعوا إلهكما أن يحييه، فخرّا ساجدين للّه عزّ و جلّ، و أطالا السّجود، ثمّ رفعا رأسهما، و قالا للملك: ابعث إلى قبر ابنك تجده قد قام من قبره إن شاء اللّه، فخرج الناس ينظرون، فوجوده قد خرج من قبره ينفض رأسه من التّراب، فاتي به إلى الملك، فعرف أنّه ابنه، فقال: ما حالك يا بني؟ قال: كنت ميتا، فرأيت رجلين بين يدي ربّي الساعة ساجدين يسألانه أن يحييني فأحياني. قال: يا بني، تعرفهما؟ قال: نعم، فأخرج الناس إلى الصحراء، فكان يمرّ عليه رجل رجل فيقول أبوه: انظر، فيقول: لا، ثمّ مرّوا عليه بأحدهما بعد جمع كثير، فقال: هذا أحدهما، و أشار بيده إليه، ثمّ مرّوا أيضا بقوم كثيرين حتى رأى صاحبه الآخر، و قال: هذا الآخر، فقال النبيّ صاحب الرجلين: أمّا أنا فقد آمنت بإلهكما، و علمت أنّ ما جئتما به هو الحقّ. فقال الملك: و أنا أيضا آمنت بإلهكما، و آمن أهل مملكته كلّهم» (1).

سوره 36 (يس): آیه شماره 18 الی 21

ثمّ لمّا عجز القوم عن الاحتجاج، و ضاقت عليهم الحيل، سلكوا طريق العناد و اللّجاج و قالُوا: أيّها المدّعون للرسالة إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ و تشأمنا بقدومكم في بلدنا، إذ منذ قدمتم انقطع عنّا المطر، و ابتلينا بالبلايا و الشرور-على ما قيل-فاخرجوا من بيننا، أو انتهوا عن دعوتكم (2)، و اللّه لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عمّا تقولون، و لم تمتنعوا عن مقالتكم، و لم ترتدعوا عن دعوتكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ و لنرمينّكم بالحجارة وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ و ليصيبكم مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ و هو القتل بالأحجار.

قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ (20) اِتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21)

و قيل: إنّ المراد بالرجم السبّ و الشتم، و المعنى لنشتمنّكم، بل لا نكتفى به، فان لم ترتدعوا بالشتم لنضربنّكم و نقتلنكم (3)، فأجابهم الرّسل و قالُوا: يا قوم طائِرُكُمْ و سبب شؤمكم مَعَكُمْ و هو كفركم باللّه، و طغيانكم عليه، و تكذيبكم رسله، فانّه سبب ابتلائكم بالبلايا و الشرور، و ليس ذلك منّا. ثمّ لاموهم على تطيّرهم و توعيدهم بقولهم: أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ و وعظتم و ارشدتم إلى ما فيه خيركم و سعادتكم و نصحتم بما فيه صلاح دنياكم و آخرتكم، و تطيّرتم بالمرشد الناصح، أو توعّدتموه

ص: 260


1- . تفسير القمي 2:213، تفسير الصافي 4:247. (2 و 3) . تفسير روح البيان 7:381.

بالرّجم و التعذيب؟ ! ليس هذا طريق الإنصاف و سلوك الشاعر العاقل بَلْ أَنْتُمْ أيها الناس قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و متجاوزون عن حدّ العقل و الانصاف، متوغلون في الجهل و العدوان و الظلم و الظّغيان، فلمّا سمع حبيب النجّار الذي آمن بالرسل قبل ورودهم في المدينة معارضة القوم للرسل، و تصميمهم على قتلهم،

جاء لنصرتهم كما حكاه سبحانه بقوله: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ و أبعد مكان منها، و هو ما يقرب من بابها، و كان دورها اثني عشر ميلا على ما قيل (1)رَجُلٌ عظيم الشأن عند اللّه لإيمانه و كماله في الصفات الوجودية، و هو يَسْعى و يسرع في مشيه، لئلا يفوت عنه نصرة الرسل بقتلهم و رجمهم، و قالَ إشفاقا لقومه: يا قَوْمِ إن أردتم خير الدنيا و الآخرة اِتَّبِعُوا و أطيعوا هؤلاء اَلْمُرْسَلِينَ الذين يدعونكم إلى توحيد اللّه و خلوص العبادة له.

قيل: إنّه بعد ذلك سأل الرسل: أتريدون على رسالتكم أجرا؟ قالوا: لا. فقال: يا قوم (2)اِتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ و لا يطلب منكم أَجْراً و مالا على إرشادكم إلى الحقّ، و تعليمكم المعارف و الأحكام الإلهية وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى خير دينكم و دنياكم، عالمون بما فيه صلاح معاشكم و معادكم، فبيّن وجود المقتضي لاتّباعهم، و هو كونهم مهتدين و عالمين بالمصالح و المفاسد، و عدم المانع و هو الضرر المالي فيه.

سوره 36 (يس): آیه شماره 22 الی 24

ثمّ بالغ في ترغيبهم إلى اتّباعهم ببيان أنّهم لا يدعون إلاّ إلى ما يحكم به كلّ عقل سليم، و إن ما يرغّبهم فيه هو الذي اختاره لنفسه بقوله: وَ ما لِيَ و أي داع يدعوني إلى أن أعبد الأخشاب و الأحجار التي لا تنفعني و لا تضرّني و لا أَعْبُدُ الإله القادر اَلَّذِي فَطَرَنِي و أخرجني بقدرته من كتم العدم إلى عالم الوجود، و أنعم عليّ بنعمة الحياة في البدو؟ وَ أنتم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت، و تعاقبون على الإشراك به و تكذيب رسله، فجمع بين غاية الترغيب و الترهيب.

وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

ثمّ بيّن كون عبادة غير اللّه سفها لا يرتكبه من شمّ رائحة العقل بإنكاره من نفسه بقوله: أَ أَتَّخِذُ و أختار لنفسي غير الإله الذي فطرني و مِنْ دُونِهِ آلِهَةً و معبودين كالأصنام و الكواكب و غيرهما مع أنّه إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمنُ و الإله الواسع الرحمة بِضُرٍّ و مكروه لسوء عملي لا تُغْنِ عَنِّي و لا

ص: 261


1- . تفسير روح البيان 7:383.
2- . تفسير القرطبي 15:18.

تنفعني شَفاعَتُهُمْ عنده في حقّي شَيْئاً يسيرا من النفع، لعدم كونهم أهلين للشفاعة وَ لا هم بقدرتهم يُنْقِذُونِ ني و يخلّصونني من الضرّ، لكون عجزهم إلى الغاية.

ثمّ بيّن غاية ضلال عبدة الأصنام بألطف بيان بقوله: إِنِّي إِذاً و حين اتّخاذي إلها غير اللّه، و اللّه لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن طريق العقل و مسلك العقلاء، بحيث لا يخفى على أحد ممّن شمّ رائحة العقل و الإدراك.

سوره 36 (يس): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ لمّا بيّن وجوب اتّباع الرسل الدّعاة إلى التوحيد، و كون الشّرك غاية السّفه و الضلال بالبرهان المطويّ في كلامه، أعلن بإيمانه بقوله: إِنِّي يا قوم آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي هو ربّي و ربّ كلّ شيء، فاسمعوني و أجيبوني في وعظي و نصحي، و أقبلوا قولي.

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ (27)قيل: إنّه خاطب الرسل بذلك حين أراد القوم قتله، و مقصوده إصغاؤهم إلى إقراره بالتوحيد، ليشهدوا به عند اللّه (1).

قيل: أطال الكلام مع القوم ليشغلهم عن قتل الرسل، إلى أن قال: إني آمنت بربكم فَاسْمَعُونِ فوثبوا عليه فقتلوه، و باشتغالهم بقتله تخلّص الرسل (2).

قيل: إنّهم وطئوه حتى خرجت أمعاؤه من دبره (3). و قيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه (4)، و قيل: خرقوا خرقا في حلقه، ثمّ علقوه (5)من وراء سور المدينة (6). و قيل: ألقوه في بئر يقال له الرّس، و قبره في سوق أنطاكية (7).

قيل: إنّ اسم ابيه مري، و كان من نسل إسكندر الرومي (8).

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «سبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: علي بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون» (9).

أقول: هذا مناف لما حكوه من أنّه كان ينحت الأصنام و آمن في سنّ الشيخوخة على يدي الرسل،

ص: 262


1- . مجمع البيان 8:658.
2- . تفسير روح البيان 7:386.
3- . تفسير القرطبي 15:19.
4- . تفسير القرطبي 15:19، تفسير روح البيان 7:386.
5- . في تفسير القرطبي: حرقوه حرقا، و علقوه.
6- . تفسير القرطبي 15:19.
7- . تفسير روح البيان 7:386.
8- . تفسير روح البيان 7:383.
9- تفسير روح البيان 7:383.

و في (المجالس) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس الذي يقول: اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ، و حزقيل مؤمن آل فرعون، و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم» (1).

و في (الخصال) عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين: مؤمن آل يس، و علي بن أبي طالب، و آسية امرأة فرعون» (2).

ثمّ حكى سبحانه لطفه به بعد قتله بقوله تعالى: قِيلَ له بشارة من قبل اللّه بأنّه من أهل الجنة، أو إكراما، أو إذنا: يا حبيب اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ التي اعدّت للمتّقين، فلمّا رأى كرامته على اللّه بتوحيده و إيمانه قالَ تمنّيا لعلم قومه بما ناله من الكرامة و النّعم الدائمة: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي من ذنوبي وَ جَعَلَنِي عنده بلطفه مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ و المتنعمين في الجنة، فيحملهم علمهم بحالي على التوبة من الكفر، و قبول الايمان، و القيام بطاعة اللّه. في الحديث العامي: «نصح قومه حيا و ميتا» (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 28 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إكرامه للمؤمن، بيّن قهره على أعدائه و كيفية اهلاكهم بقوله: وَ ما أَنْزَلْنا إذ قتل حبيب عَلى قَوْمِهِ الذين عادوه و قتلوه مِنْ بَعْدِهِ لإهلاكهم مِنْ جُنْدٍ و عسكر من الملائكة مِنَ اَلسَّماءِ كما أنزلنا يوم بدر و احد و الخندق وَ ما كُنّا و لم يكن مناسبا لقدرتنا و حكمتنا أن نكون مُنْزِلِينَ للملائكة لإهلاك قوم و نصرة نبي، بل كان إنزال الملائكة من خصائصك و كرامتك،

بل إِنْ كانَتْ و ما وجدت بأمرنا لاهلاكهم إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً.

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ ما كُنّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)روي أنّ اللّه بعث جبرئيل، فصاح عليهم صيحة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ و ميّتون، لا يسمع لهم حسيس، و لا ترى لهم حركة، و كانوا كسراج اطفي بريح، أو كنار خمدت بماء في السهولة السرعة (4). قيل: وقعت الصيحة في اليوم الذي قتلوه (5). و قيل: في الساعة التي عادوا فيها بعد قتله إلى منازلهم فرحين مستبشرين (6). و قيل: في اليوم الثالث من قتله (7).

ص: 263


1- . أمالي الصدوق:563/760، تفسير الصافي 4:250.
2- . الخصال:174/230، تفسير الصافي 4:250.
3- . تفسير روح البيان 7:387.
4- . تفسير روح البيان 7:388.
5- . تفسير روح البيان 7:389.
6- . تفسير روح البيان 7:389.
7- . تفسير روح البيان 7:388.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أربعة مدائن من مدائن النار: أنطاكية، و عمّورية، و قسطنطينة، و ظفار اليمن» . قيل: إنّه بلدة قريبة من صنعاء ينسب إليها الجزع (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إهلاك أهل أنطاكية، أظهر حبّه بعباده المخلوقين بقدرته بإظهار التحسّر على المكذّبين بالرّسل، و إراءة ذاته المقدّسة كالمتحسّر عليهم مع تقدّسه عن العوارض البشرية و الإمكانية بقوله: يا حَسْرَةً شديدة عَلَى اَلْعِبادِ المخلوقين في العالم لتحصيل العلوم و المعارف الإلهية، و تكميل النفوس لنيل الرحمة و النّعم الدائمة احضري، فانّ هذا الوقت الذي يصرّ العباد على الكفر وقت حضورك، فانّهم ما يَأْتِيهِمْ من قبل اللّه مِنْ رَسُولٍ لهدايتهم و تعليمهم و تربيتهم لطفا بهم و رحمة عليهم إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مع أنّ في قبولهم نصائحه و اتّباعهم أوامره سعادة الدارين.

قيل: إنّ بإنشاء هذا النداء حضرت محضر الحسرة في النفوس القدسية و الأوراح المجرّدة و القلوب الزاكية المطهّرة، بل في جميع الحيوانات و النباتات و الجمادات.

سوره 36 (يس): آیه شماره 31

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار الحسرة على المكذّبين بالرّسل الذين كانوا في القرون الماضية، و في عصر خاتم النبيين، أظهر العجب من عدم اعتبارهم من هلاك الامم المستهزئة بالرسل بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا أولئك المكذّبون و المستهزئون، و لم يعلموا علما يشابه الرؤية أنا كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال قَبْلَهُمْ و في الأعصار و الأزمنة السابقة على عصرهم مِنَ اَلْقُرُونِ و الامم المكذبة بالرسل المستهزئة بهم؟ ! و لم يروا بعد إهلاكهم أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ في الدنيا لا يَرْجِعُونَ بل انقطعوا عن الدنيا بالكلية.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31)و ممّا تضحك به الثكلى ما قاله إسماعيل الحقّي في (روح البيان) من أنّه يجب إكفار الروافض في قولهم بأنّ عليا و أصحابه يرجعون إلى الدنيا، فينتقمون من أعدائهم، و يملأون الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و ذلك القول مخالف للنصّ، نعم إنّ روحانية [علي رضى اللّه عنه]من وزراء المهدي في آخر الزمان على ما عليه أهل الحقائق (2). فانّ كلامه سخيف-لظهور فساده، و دلالته على عدم فهمه و عدم اطلاّعه على مذهب الطائفة المحقّة الذين هم أعلى شأنا من أن يجري اسمهم على لسان هذا الصوفي العاميّ-لا بأهل للجواب.

ص: 264


1- . تفسير روح البيان 7:377.
2- . تفسير روح البيان 7:390.

قيل: إنّ المراد أنّ الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب و لا ولادة، و هو كناية عن انقطاع نسلهم من الدنيا (1).

سوره 36 (يس): آیه شماره 32 الی 35

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم رجوعهم إلى الدنيا و انقطاعهم عنها، أخبر باجتماعهم مع الباقين في القيامة بقوله: وَ إِنْ كُلٌّ من المهلكين و الباقين، و ما واحد منهم لَمّا جَمِيعٌ و مجتمع مع الآخرين لَدَيْنا يوم القيامة مُحْضَرُونَ و إلى موقف الحساب يساقون للحساب و الجزاء.

وَ إِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنا فِيها جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ اَلْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بما نزل على الامم المهلكة، و حضورهم بعد الموت في محضر عدله، ذكر بعض الآيات العظيمة الدالّة على وحدانيته و قدرته على البعث بعد الموت بقوله: وَ آيَةٌ عظيمة و دلالة واضحة لَهُمُ على التوحيد و كمال قدرته على البعث بعد الموت اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ و اليابسة التي لا نبات لها، أمّا كيفية آيتيتها هو أنّا أَحْيَيْناها و أنبتنا فيها نباتات مختلفة كثيرة، و من أهمّ منافع إحيائها أنّا أنبتنا وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا عظيم النفع كالبرّ و الشعير اللذين يتقوّت بهما فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ و به يتعيّشون

وَ جَعَلْنا في الأرض و خلقنا فِيها جَنّاتٍ و بساتين متشكّلة مِنْ نَخِيلٍ و أنواع مختلفة من شجر التمر وَ من أعناب متنوعة وَ فَجَّرْنا و شققنا فِيها كثيرا مِنَ اَلْعُيُونِ النابعة

لِيَأْكُلُوا بعد خلق ما ذكر من البساتين، أو بعد تفجير العيون مِنْ ثَمَرِهِ الحاصل منه، وَ من ما عَمِلَتْهُ و اتّخذته أَيْدِيهِمْ منه من العصير و الدّبس و نحوهما.

و قيل: إنّ كلمة (ما) نافية، و الحال أنّ الثمر ليس ممّا عملته أيديهم، بل يكون ممّا خلقه اللّه (2).

ثمّ وبّخ سبحانه الناس على ترك شكر هذه النعمة بقوله تعالى: أَ فَلا يَشْكُرُونَ المنعم بالإقرار بتوحيده تقديسه و تحميده، مع أنّ الواجب بحكم العقل شكر المنعم.

سوره 36 (يس): آیه شماره 36 الی 38

سُبْحانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (38)

ص: 265


1- . تفسير روح البيان 26:64.
2- . تفسير أبي السعود 7:166، تفسير روح البيان 7:394.

ثمّ لمّا كان المشركون كفروا هذه النّعم بجعل الشريك له تعالى، نزّه ذاته عن الشريك بقوله: سُبْحانَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته الكاملة اَلْأَزْواجَ و الأصناف من المخلوقات كُلَّها ثمّ فصّل سبحانه أنواع الممكنات و المخلوقات بقوله: مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ كالأشجار و الثّمار و الزّروع و الحبوب و الحشائش و غيرها ممّا يأكل الناس و الأنعام وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ذكرانا و إناثا وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ به و لا يطّلعون عليه من المجرّدات و المادّيات و البرّيات و البحريات.

قيل: إنّ دوابّ البرّ و البحر ألف صنف لا يعلم الناس أكثرها (1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النّطفة تقع من السماء إلى الأرض على النبات و الثمر و الشجر، فيأكل الناس منه و البهائم، فتجري فيهم» (2).

وَ آيَةٌ عظيمة اخرى لَهُمُ تدلّ على وحدانية رّبهم، و هي اَللَّيْلُ المظلم و بيان كيفية آيتيته هو أنّا نَسْلَخُ و نزيل مِنْهُ اَلنَّهارَ بحيث لا يبقى منه شيء من ضوئه، كما يزال جلد الغنم منه فَإِذا هُمْ بعد كشف النهار عن مكانه مُظْلِمُونَ و محاطون بسواد الليل.

و عن الباقر-في تأويله- «يعني قبض محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ظهرت الظّلمة، فلم يبصروا فضل أهل بيته» (3).

وَ كذا اَلشَّمْسُ المضيئة المشرقة آية عظيمة لهم حيث إنّها تَجْرِي و تسير لِمُسْتَقَرٍّ لَها و إلى حدّ ينتهي إليه دورها في آخر السنة، كسير المسافر إلى المقصد الذي ينتهي إليه سيره.

و قيل: إنّ مستقرّها وسط السماء، فشبّه سبحانه بطء سيرها و حركتها هناك بالوقوف (4).

و قيل: إنّ مستقرّها هو البرج الذي يكون بعد البرج الذي تكون فيه، فانّ سيرها في برجها يترتّب عليه استقرارها في البرج الذي بعده شهرا (5).

و قيل: إنّ المستقرّ اسم زمان انقطاع سيرها، و هو عند خراب العالم، أو المراد وقت قرارها و تغير حالها بالطّلوع من مغربها (4)، كما عن أبي ذرّ في رواية عامية، قال: دخلت المسجد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس، فلمّا غابت الشمس قال: «يا أبا ذرّ، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» فقلت: لا، اللّه و رسوله أعلم. فقال: «تذهب و تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، و يوشك أن تسجد و لا يقبل منها،

ص: 266


1- . تفسير روح البيان 7:395.
2- . تفسير القمي 2:215، تفسير الصافي 4:253.
3- . الكافي 8:380/574، تفسير الصافي 4:253. (4 و 5) . تفسير روح البيان 7:397.
4- . تفسير روح البيان 7:398.

و تستأذن فلا يؤذن لها، و يقال لها: أرجعي إلى حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله: وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» (1).

و في (المجمع) عنهما عليهما السّلام: «لا مستقرّ لها» (2).

ذلِكَ الجري البديع الموافق للحكم الكثيرة التي عجزت عن فهمها العقول و الأفهام تَقْدِيرُ الإله اَلْعَزِيزِ القاهر بقدرته لكلّ شيء، و بإرادته و تدبيره اَلْعَلِيمِ بمصالح العالم و جميع الحكم. قيل: إنّ من تفكّر في سير الشمس علم أنّه على الوجه الأنفع الأصلح لنظام العالم، و لا يكون ذلك إلاّ بتدبير العليم الحكيم، فانّ من المعلوم أنّها في كلّ يوم من ستة أشهر يكون خطّ سيرها غير خطّ السير الذي يكون لها في الأيام الاخر، لأنّه لو كان سيرها في جميع الأيام على خطّ واحد لا حترقت الأرض المسامتة لمسيرها، و فسدت الأراضي غير المسامتة لاستيلاء الرطوبات المجتمعة فيها في الأشياء، و لذا قدّر سبحانه قربها من جميع قطعات الأرض بالتدريج، لتخرج النباتات من قطعات الأرض، و الثّمار من أشجارها، و تنفتح و تجفّ، ثمّ تبعد كيلا تحترق الأرض و الأشجار (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 39 الی 40

ثمّ أنّه تعالى قدّر لها طلوعا و غروبا، لئلا تكلّ القوى بكثرة السير و التعب، و لا يختلّ النظام بسبب الظّلمة الدائمة، ثمّ أنّه تعالى قدّر لها سيرا أبطأ من سير القمر، و أسرع من سير زحل، فلو كانت بطيئة السير لدامت زمانا طويلا في مسامته شيء واحد فتحرقه، و لو كانت سريعة السير لما حصل منها النفع المقصود من تخفيف الرطوبات و نضج الأثمار و تربية المعادن و الأبدان و غيرها.

وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ (39) لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سابِقُ اَلنَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)وَ قدرنا اَلْقَمَرَ يعني قَدَّرْناهُ و عيّنا له مَنازِلَ كلّ ليلة ينزل في منزل لا يتخطّاه و لا يتقاصر عنه حَتّى عادَ في الدقّة و الصّفرة و التقوّس كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ و عود العذق العتيق من شمراخه و رأسه إلى منبته، فإنّه إذا يبس و عتق صار أدقّ و أقوس، و عود القمر إلى هذه الحالة في ليلة السابع و العشرين في عيون الناظرين، و إن كان في الواقع عظيما.

ثمّ بين سبحانه كون الشمس و القمر مسخّرين و سائرين على وفق الحكمة بقوله: لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي و يتيسّر و يصحّ لَها مع إرادة اللّه كونها أبطأ سيرا و متأخرة من القمر أَنْ تُدْرِكَ في

ص: 267


1- . تفسير روح البيان 7:398.
2- . مجمع البيان 8:663، و لم ينسبه إليهما عليهما السّلام، تفسير الصافي 4:253.
3- . تفسير الرازي 26:72.

سيرها اَلْقَمَرَ و تساوقه فيه، بأن تسير في بروجها الاثني عشر في شهر كما يسير القمر في بروجها الاثني عشر، و إلاّ يلزم حصول الفصول الأربعة فيه.

و احتمل بعض كون المراد من الإدراك البلوغ في الآثار، و إنّ لكلّ منهما أثرا يخصّه لا يمكن للآخر وجدان ذلك الأثر، أو المراد البلوغ في المكان، فانّ لكلّ منهما فلكا لا يمكن اجتماعهما في مكان واحد وَ لاَ اَللَّيْلُ سابِقُ اَلنَّهارِ و معجزه من أن يأتي بعده و ينتهي إليه، فتكون جميع الأوقات ليلا، بل النهار يناوبه.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «يقول الشمس سلطان النهار، و القمر سلطان الليل، لا ينبغي للشمس أن تكون مع ضوء القمر بالليل، و لا يسبق الليل النهار، يقول لا يذهب الليل حتى يدركه النهار» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «النهار خلق قبل الليل» و في قوله: وَ لاَ اَللَّيْلُ سابِقُ اَلنَّهارِ قال: «أي سبقه النهار» (2).

أقول: لأنّ الليل هو الظّلمة الحاصلة بعد غروب الشمس.

و قيل: إنّ المراد بالليل سلطان الليل، و هو القمر، و المراد بالنهار سلطان النهار، و هو الشمس، فيكون المعنى لا يسبق القمر الشمس في السير بأن يجتمعا في وقت واحد مع كونهما نيّرين، بل إذا كان القمر في افق المشرق، كانت الشمس في افق المغرب، و هذا في حركتهما اليومية، و لذا عبّر عنهما بالليل و النهار (3).

وَ كُلٌّ منهما فِي فَلَكٍ غير فلك الآخر، و سماء غير سماء الآخر يَسْبَحُونَ و يسيرون بسرعة و سهولة، كالسابح في الماء.

روت العامة: أنّ اللّه خلق بحرا دون السماء جاريا في سرعة السّهم، قائما في الهواء بأمر اللّه تعالى، لا تقطر منه قطرة تجري فيه الشمس و القمر و النجوم، فذلك قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ و القمر يدور دوران العجلة في لجّة غمر ذلك البحر، فاذا أحبّ اللّه أن يحدث الكسوف حرف الشمس عن العجلة، فتقع في غمر ذلك البحر، و يبقى سائرا على العجلة النصف أو الثلث، أو ما شاء الربّ (4).

و إتيان صيغة الجمع مع أنّ السابح اثنان، لاسناده إلى الكلّ الذي هو جمع في المعنى، أو للكثرة

ص: 268


1- . تفسير القمي 2:214، تفسير الصافي 4:253.
2- . مجمع البيان 8:664، و تفسير الصافي 4:253 عن الرضا عليه السّلام.
3- . تفسير الرازي 26:73.
4- . تفسير روح البيان 7:403.

العارضة لهما بسبب العوارض، أو كون المراد جميع الكواكب، و إتيانه بالواو و النون لتنزيل الكوكبين منزلة العقلاء، لاسناد السياحة التي هي فعلهم إليهما.

سوره 36 (يس): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اختلاف الليل و النهار، ذكر نعمة اختلاف الفلك في البحر، أو لمّا ذكر نعمة سير النيّرين، ذكر نعمة تهيئة وسيلة سير الانسان في البرّ و البحر بقوله: وَ آيَةٌ عظيمة اخرى لَهُمْ و دلالة واضحة على توحيد ربّهم أَنّا حَمَلْنا و ركّبنا ذُرِّيَّتَهُمْ و نسلهم الضّعاف الذين يصعب عليهم السفر في البرّ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ و السفينة المملوءة منهم و من غيرهم

وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ نظير الفلك و مِثْلِهِ في سهوله السير به ما يَرْكَبُونَ عليه في البراري و الجبال من الإبل و سائر الحيوانات الحمولة.

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)قيل: إنّ المراد من الفلك فلك نوح (1)، و من ضمير الجمع نوع الانسان (2)، و المعنى أنّا حملنا ذرية بني آدم في فلك نوح المملوء منهم و من سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء، و لو لا حمل الذّرية في الفلك لما بقي لبني آدم نسل و عقب، و خلقنا لهم ممّا يماثل ذلك الفلك من السفن و الزوارق، و على هذا قوله: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ بدل (حملناهم) مشعر بكمال النعمة و عدم اختصاصها بهم، بل تكون متعدية إلى أعقابهم إلى يوم القيامة.

و قيل: في التخصيص بذريتهم إشارة إلى عدم الفائدة في حملهم، لكونهم كفارا، و إنّما الفائدة في حمل ذرّيتهم المؤمنين. و قيل: إنّ المراد بالذّرية جنس بني آدم، و يشمل الآباء و الأولاد (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 43 الی 47

وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاّ رَحْمَةً مِنّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)

ص: 269


1- . تفسير البيضاوي 2:282، تفسير أبي السعود 7:168.
2- . تفسير الرازي 26:79.
3- . تفسير الرازي 26:79.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الركوب ليس علّة للعبور من البحر بالسلامة، بل اللّه هو الحافظ للراكب و المركوب بقوله: وَ إِنْ نَشَأْ إغراقهم نُغْرِقْهُمْ في البحر مع كونهم في الفلك فَلا صَرِيخَ و لا معين لَهُمْ يحرسهم من الغرق قبله وَ لا هُمْ بعد الغرق في البحر يُنْقَذُونَ و يخلّصون منه بسبب من الأسباب

إِلاّ رَحْمَةً عظيمة كائنة مِنّا عليهم وَ مَتاعاً و انتفاعا منهم بالحياة و النّعم الدنيوية إِلى حِينٍ موتهم و الأجل المقدّر لهم، فانّ الرحمة و العيشة المقدّرة منجية و مغيثة لهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم اهتدائهم و اعتنائهم بالآيات، بيّن عدم تأثّرهم و اتّعاضهم بالمواعظ بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ نصحا وعظة أيّها المشركون آمنوا باللّه و اِتَّقُوا بايمانكم ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ و ما نزل من العذاب على الامم الذين كانوا من قبل بسبب الشرك و الطّغيان على اللّه و رسله، و احذروا من أن ينزل عليكم مثله وَ احذروا ما خَلْفَكُمْ و ما أعدّ لكم من العذاب الأليم الدائم في الآخرة. -عن الصادق عليه السّلام، قال: «معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب، و ما خلفكم من العذاب» (1). لَعَلَّكُمْ و يرجى أنكم بإيمانكم تُرْحَمُونَ من قبل اللّه، لأنّ النجاة من الشدائد لا تكون إلاّ برحمة اللّه، و لا تشملكم رحمته إلاّ بالايمان و التقوى-أعرضوا عن النّصح البليغ، بل عاندوا و كابروا الناصح الشفيق، و أعجب من ذلك أنّهم ما يرون

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ و معجزة من معجزات رسولهم إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ و بها غير معتنين

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ نصحا و إشفاقا على الفقراء: أَنْفِقُوا على الفقراء و المحتاجين بعضا و شيئا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ من الأموال، و أعطاكم من النعم تفضّلا و إحسانا، لتردّوا به البلاء عن أنفسكم و أهليكم قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا نعم اللّه، و أنكروا توحيده لِلَّذِينَ آمَنُوا و نصحوا إنكارا عليهم و استهزاء بهم: أَ نُطْعِمُ من أطعمتنا مَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ إطعامه أَطْعَمَهُ بقدرته كما أطعمنا على زعمكم أنّ اللّه أعطانا هذه الأموال، و تحسبون أنّه لو شاء لأغنى الفقراء و أعزّ الأذلاّء إِنْ أَنْتُمْ و ما تكونون إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن الحقّ، و خطأ ظاهر عن طريق الصواب، حيث لا تسألون اللّه الانفاق عليهم، و تأمروننا بما يخالف مشيئة اللّه.

سوره 36 (يس): آیه شماره 48 الی 50

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

ص: 270


1- . مجمع البيان 8:667، تفسير الصافي 4:254.

ثمّ حكى سبحانه عنهم إنكار البعث و استهزاءهم به بقوله: وَ يَقُولُونَ هؤلاء المشركون للرسول و المؤمنين إنكارا للمعاد و استهزاء بهم: مَتى و في أيّ وقت ينجز هذَا اَلْوَعْدُ الذي تعدوننا به من قيام الساعة و الحساب و الجزاء على الأعمال؟ عيّنوا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الوعد به.

ثمّ لمّا كانت الحكمة البالغة مقتضية لاخفائها، أجابهم سبحانه من قبل المؤمنين بذكر علاماته الموحشة و أهواله العظيمة بقوله: ما يَنْظُرُونَ و ما ينتظرون في وقوعه إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً لا يحتاج معها إلى الثانية، و هي نفخ إسرافيل في الصّور المرة الاولى التي تكون نفخة الصّعق و الموت، و هي تَأْخُذُهُمْ و تنالهم مفاجأة بالقهر و سائر الناس وَ الحال أنّ هُمْ يَخِصِّمُونَ و يتنازعون في تجاراتهم و معاملاتهم، و في سائر امور دنياهم.

عن ابن عباس: تهيج الساعة و الرجلان يتبايعان [قد]نشرا أثوابهما فلا يطويانها، و الرجل يلوط حوضه فلا يستقي منه، و الرجل قد انصرف بلبن لفجته (1)فلا يطعمه، و الرجل قد رفع لقمته أو أكلته إلى فيه فلا يأكلها، ثمّ تلا هذه الآية تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (2).

و قيل: إنّ المراد أنّهم يختصمون في أمر البعث (3)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً و لا يقدرون عليها لمفاجأتهم بالموت، فلا يدع لهم مجال الأمر بأداء الواجبات، أو ردّ مظلمة، فضلا عن فعله وَ لا يمهلهم كي إِلى أَهْلِهِمْ و أزواجهم و أولادهم يَرْجِعُونَ من السوق، بل يموتون في مكانهم.

القمي، قال: ذلك في آخر الزمان، يصاح فيهم صيحة و هم في أسواقهم يتخاصمون، فيموتون كلّهم في مكانهم، لا يرجع أحد إلى منزله، و لا يوصي وصية (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 51 الی 52

ثمّ بيّن سبحانه الأهوال التي بعد الصيحة و الموت بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ بعد موت كافة الناس النفخة الثانية فَإِذا هُمْ من غير لبث مِنَ اَلْأَجْداثِ و القبور التي دفنوا فيها إِلى محضر عدل رَبِّهِمْ و موقف حساب أعمالهم يَنْسِلُونَ و يسرعون جبرا و عنفا.

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ اَلْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ اَلرَّحْمنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ (52)

ثمّ كأنه قيل: ما يقول المنكرون للمعاد و البعث بعد خروجهم من قبورهم و مشاهدتهم صدقه؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالُوا تأسّفا على إنكارهم البعث، و خوفا ممّا ينزل بهم من العذاب: يا

ص: 271


1- . كذا، و في تفسير روح البيان: لقحته.
2- . تفسير روح البيان 7:409.
3- . تفسير الرازي 26:87.
4- . تفسير القمي 2:215، تفسير الصافي 4:255.

وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر في هذا الوقت، آن وقت حضورك، ثمّ لمّا يوهموا أنّهم كانوا نائمين، ثمّ تيقّظوا قالوا تعجبّا: مَنْ بَعَثَنا و أقامنا مِنْ مَرْقَدِنا و منامنا؟ ثمّ التفتوا إلى وعد الرسل بالبعث بعد الموت فقالوا: هذا البعث من القبر و الحياة بعد الموت هو ما وَعَدَ نا به اَلرَّحْمنُ في الدنيا بلسان الرسل وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ في إخبارهم عن اللّه بالعالم الآخرة و الحساب و الجزاء، و قلنا لهم استهزاء متى هذا الوعد؟

و قيل: إنّهم لمّا قالوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أجابهم الملائكة و المؤمنون: إنّ هذا البعث ليس التيقّظ من النوم، بل هو ما وعده الرحمن (1).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ القوم كانوا في القبور، فلمّا قاموا حسبوا أنّهم كانوا نياما، قالوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ اَلرَّحْمنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «كان أبو ذرّ يقول في خطبة: و ما بين الموت و البعث إلاّ كنومة نمتها، ثمّ استيقظت منها» (3).

سوره 36 (يس): آیه شماره 53 الی 55

ثمّ بيّن سبحانه سهولة إحيائهم و إحضارهم في محضر عدله بقوله: إِنْ كانَتْ النفخة الثانية للخلق، و ما صدرت من إسرافيل إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً غير محتاجة إلى الثانية فَإِذا هُمْ بتلك الصيحة من غير لبث ما جَمِيعٌ و مجموع لَدَيْنا و في موقف الحساب مُحْضَرُونَ.

إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)

ثمّ أعلن سبحانه بعدله في المجازاة بقوله: فَالْيَوْمَ الذي حضرتم أيّها الناس عندنا لجزاء الأعمال لا تُظْلَمُ من قبلنا نَفْسٌ من النفوس مؤمنة كانت أو كافرة بنقص الثواب أو زيادة العقاب شَيْئاً يسيرا، و لو كانت مثقال ذرّة وَ لا تُجْزَوْنَ أيّها الكفار و الفجّار إِلاّ جزاء ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان، و أمّا المؤمنون، فانّهم يجزون اليوم بما لم يعملوا فضلا و رحمة عليهم، كما قال: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.

ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المؤمنين في ذلك اليوم، ازديادا لحسرة الكفّار بقوله: إِنَّ المؤمنين

ص: 272


1- . تفسير البيضاوي 2:284، تفسير روح البيان 7:412.
2- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:255.
3- . الكافي 2:108/18، تفسير الصافي 4:256.

الذين يكونون أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ و أهلها اَلْيَوْمَ كائنون فِي شُغُلٍ عظيم و عمل يصرفهم عن الالتفات إلى أهوال اليوم و شدائده بحيث لا يحزنهم الفزع الأكبر فاكِهُونَ و متنعّمون بنعم الجنة، و متلذّذون بلذاتها، مسرورون بما نالوا من درجاتهم.

قيل: إنّ فاكهون تفسير لشغلهم، و المراد أنّهم شغلوا باللذّة و السرور، لا بالويل و الثبور (1).

القمي، قال: فِي شُغُلٍ يعني في افتضاض العذارى فاكِهُونَ قال: يفاكهون النساء و يلاعبونهنّ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «شغلوا بافتضاض العذارى، قال: و حواجبهنّ كالأهلّة، و أشفار أعينهن كقوادم النّسر» (3).

و في الحديث العامي: «إنّ الرجل ليعطى مائة رجل في الأكل و الشرب و الجماع» (4).

و في الحديث: «أنّ أحدهم ليفتضّ في الغداة الواحدة مائة عذراء» (5).

و عن عكرمة: تكون الشهوة في اخراهنّ كالشهوة في أوّلهن، كلّما افتضّها رجعت على حالها عذراء (6).

روي أنّه جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهنّ في الدنيا؟ قال: «و الذي نفسي بيده إنّ المؤمن ليفضي في يوم واحد إلى ألف عذراء» (7).

و قيل: إنّ الشّغل هو سماع الأصوات الطيبة و النّغمات اللذيدة (8).

و قيل: إنّ المؤمن إذا اشتهى سماع الغناء أرسل اللّه تعالى إسرافيل فيقوم إلى الجانب الأيمن من المؤمن فيقرأ القرآن، و يقوم داود على جانبه الأيسر فيقرأ الزّبور (9).

و قيل: إنّ الشّغل هو التزاور، فانّ المؤمنين يتزاورون في الجنة (4).

سوره 36 (يس): آیه شماره 56 الی 58

ثمّ بيّن سبحانه كمال النعمة عليهم بقوله: هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ المؤمنات الّلاتي كنّ لهم في الدنيا مستقرّون فِي ظِلالٍ و راحة أبدية، لا يشوبها تعب و لا نصب.

هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى اَلْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)قيل: أي في عزّة و منعة (5)، متمكّنون عَلَى اَلْأَرائِكِ و السّرر المزيّنة التي تكون في الحجال

ص: 273


1- . تفسير الرازي 26:91.
2- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:256.
3- . مجمع البيان 8:671، تفسير الصافي 4:257. (4 و 5 و 6) . تفسير روح البيان 7:414. (7 و 8 و 9) . تفسير روح البيان 7:414.
4- . تفسير روح البيان 7:415.
5- . تفسير روح البيان 7:417.

مُتَّكِؤُنَ و معتمودن على النّمارق.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمة انسهم بأزواجهم، و استغراقهم في الراحة، و تمكّنهم على السّرر التي هي أحسن المجالس، و فراغهم من جميع المشاغل، بيّن مأكولهم في الجنة بقوله: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ و أغذية لذيذة غاية اللذّة، بلا اضطرار لهم إلى أكلها من جهة تألّمهم بالجوع و ضعف القوى و إصلاح المزاج وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ و يشتهون من المأكولات اللّذيذة و الأشربة الطيبة.

قيل: إنّ المراد لهم ما يدعون اللّه أن يعطيهم فيستجيب دعاءهم (1).

و قيل: لهم ما كانوا يدعونه في الدنيا من الجنّة و درجاتها (2)و نعمها، و على أيّ تقدير يكون في قوله: لَهُمْ دلالة على كون الفاكهة و غيرها من النّعم ملكا لهم و تحت سلطنتهم و اختيارهم.

ثمّ ختم سبحانه ذكر نعمه على المؤمنين بذكر أعلاها بقوله: سَلامٌ. قيل: إنّ التقدير سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (3)قَوْلاً كائنا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ بالمؤمنين عطوف بعباده الصالحين.

قيل: إنّ (سَلامٌ) بدل من (ما يَدَّعُونَ) و المعنى لهم سلام (4)و تحيّة، يقال لهم قولا من جهة ربّ رحيم بواسطة الملك أو بدون واسطة مبالغة في تعظيمهم (5).

في الحديث: «بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع نور فرفعوا رؤوسهم، فاذا الربّ تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقال: السّلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فينظر إليهم و ينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النّعم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، و يبقى نوره و بركته عليهم» (6).

أقول: المراد من إشرافه عليهم ظهور رحمته الخاصة بالخلّص (7)، و تجلّي النور الخاصّ الذي هو من آثار رضوانه، و من نظره إليهم إدامة ذلك التجلّي، و من نظرهم إليه محوهم فيه.

القمي، قال: السّلام منه هو الأمان (8).

و قيل: إنّه كلام منقطع عمّا قبله، و يكون ذلك إخبارا منه تعالى لنا في كلامه، فانّه لمّا بيّن كمال حسن حالهم قال: سَلامٌ عليهم كما قال: سَلامٌ عَلى نُوحٍ و سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ و سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ فهو إحسان على عباده المؤمنين كإحسانه على المرسلين (9)، و إنّما وصف ذاته

ص: 274


1- . تفسير روح البيان 7:418.
2- . تفسير البيضاوي 2:285.
3- . تفسير روح البيان 7:419.
4- . تفسير الرازي 26:94.
5- . تفسير روح البيان 7:418.
6- . تفسير روح البيان 7:418.
7- . في النسخة: بالخلّصين.
8- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:257.
9- . تفسير الرازي 26:94.

بالربوبية المشعرة بمالكيته و سيادته، للدلالة على نهاية التعظيم المعجب، فانّ تسليم المالك المنعم العظيم الشأن على عبده الضعيف من العجائب الدالة على نهاية التعظيم و العطوفة.

سوره 36 (يس): آیه شماره 59 الی 61

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال حسن المؤمنين و إكرامهم في الآخرة، بيّن سوء حال الكفار و إهانتهم فيها بقوله: وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ و تفرّقوا عن المؤمنين أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ و العصاة، و ادخلوا مساكنكم التي اعدّت لكم في جهنم.

وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)و قيل: يعني تفرّقوا و تلاشوا من الحسرة و الندامة، لما ترون من رفعة منزلة المؤمنين و حسن حالهم، أو تفرق بعضكم من بعض على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع الأزواج و التزاور بينهم، و امتازوا و تفرّقوا من شفعائكم و قرنائكم، فما لكم اليوم من شفيع و لا حميم، أو امتازوا عمّا ترجون، و اعتزلوا من كلّ خير، أو امتازوا و تبيّنوا من بين الناس، فتظهر فيهم سيماء يعرفون بها، و هو السواد الذي يظهر في وجوهم (1).

أقول: المجرمون الذين يخلدون في النار هم المنكرون للصانع و توحيده، و المنكرون للرسالة، و المنكرون للولاية أو واحد من ضروريات الدين، كالشفاعة و ظهور المهدي عليه السّلام في آخر الزمان.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المجرمين بالامتياز، أخذهم بالتقريع و التبكيت بقوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ و لم أوص في عالم الذّر، أو في الدنيا بلسان الرسل إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا و لا تطيعوا اَلشَّيْطانَ الذي أخرج أبويكم من الجنة، و لم أقل إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ و مبغض ظاهر البغضاء بحيث لا تخفى عداوته على ذي مسكة؟ ! و إنّما نسب سبحانه إليهم عبادة الشيطان مع أنّ أحدا لا يعبده؛ لأنّ عبادة غير اللّه بأمره هي عبادته.

عن الصادق عليه السّلام: «من أطاع رجلا في معصية، فقد عبده» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق يروي (3)عن اللّه فقد عبد اللّه تعالى، و إن كان الناطق يروي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (4).

وَ ألم أعهد إليكم أَنِ اُعْبُدُونِي و أخلصوا لي العبادة هذا العهد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ

ص: 275


1- . تفسير الرازي 26:95.
2- . الكافي 2:293/8، تفسير الصافي 4:258.
3- . في الكافي: يؤدي، و كذا التي بعدها.
4- . الكافي 6:434/24، تفسير الصافي 4:258.

مؤصل لكم إلى كلّ خير و سعادة.

سوره 36 (يس): آیه شماره 62 الی 65

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم، و بيّن أنّ خلافهم لم يكن منحصرا بنقض عهدي، بل كان به و بعدم اتعاظهم بما شاهدوا و علموا من العقوبات النازلة على الامم السابقة بطاعتهم الشيطان بقوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ الشيطان مِنْكُمْ أيّها المجرمون جِبِلاًّ و خلقا كَثِيراً فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة التي ملأ الآفاق أخبارها، و بقي مدى الدهر آثارها أَ فَلَمْ تَكُونُوا قيل: إنّ التقدير أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تَعْقِلُونَ و تفهمون أنّها لضلالهم و طاعتهم الشيطان، فترتدعوا عنها كيلا يحيق بكم العقاب؟ ! (1)

وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

ثمّ أنّه تعالى بعد تقريع المجرمين، أراهم نتيجة ضلالتهم بقوله: هذِهِ النار الموقدة التي ترونها هي جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا تُوعَدُونَ هاو تهدّدون بها على ألسنة الرسل في أزمنة متطاولة.

قيل: ثمّ يقادون إلى شفيرها (2)

ثمّ يقال لهم: اِصْلَوْهَا و ألقوا أنفسكم فيها، و قاسوا حرّها اَلْيَوْمَ الذي يكون يوم المجازاة بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَكْفُرُونَ باللّه و برسله.

عن أبي هريرة، قال: أوقدت النار ألف عام فابيضّت، ثمّ اوقدت النار ألف عام فاحمرّت، ثمّ اوقدت ألف عام فاسودّت فهي سوداء كالليل المظلم، و هي سجن اللّه تعالى للمجرمين (3).

ثمّ لوى سبحانه الخطاب إلى الغيبة إيذانا بأنّ ذكر أحوالهم الفظيعة مقتضية للإعراض عنهم، ثمّ حكى أحوالهم القبيحة لغيرهم بقوله: اَلْيَوْمَ نمنعهم من التكلّم، كأنّا نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ فلا يقدرون على النّطق وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ و تعترف

جوارحهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ في الدنيا و يعملون من السيئات و القبائح، و ذلك حين عاينوا صحائف أعمالهم، و أنكروا شركهم و سيئاتهم.

عن أنس، قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضحك، فقال: «أتدرون مم ضحكت؟» قلنا: اللّه و رسوله أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربّه يقول: يا رب ألم تجزني (4)من الظّلم؟ يقول: بلى. فيقول: ما أجيز عن

ص: 276


1- . تفسير روح البيان 7:423.
2- . تفسير أبي السعود 7:176، تفسير روح البيان 7:424.
3- . تفسير روح البيان 7:424.
4- . في تفسير روح البيان: تجرني.

نفسي إلاّ شاهدا منّي. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، و بالكرام الكاتبين [شهودا]. فيختم على فيه، و يقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثمّ يخلّى بينه و بين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ و سحقا، فعنكنّ كنت اناضل» (1).

القمي، قال: إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة، دفع إلى كلّ انسان كتابه فينظر فيه، فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئا، فتشهد عليهم الملائكة فيقول: يا ربّ، ملائكتك يشهدون لك، فيحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا، و هو قول اللّه يوم يبعثهم اللّه جميعا، فيحلفون له كما يحلفون لكم، فاذا فعلوا ذلك ختم اللّه على ألسنتهم، و تنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون (2).

و في (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «ليست الجوارح تشهد على المؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال اللّه عزّ و جلّ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً» (3).

أقول: الرواية مختصّة بالشهادة على المؤمن، فلا ينافي ما ورد في الحديث: «أنّ اللّه تعالى يخاطب العبد المؤمن يوم القيامة و يقول: ما أتيت من العبادات و الخيرات؟ فيستحي المؤمن أن يعرض عباداته و حسناته، فينطق اللّه جوارحه فيشهدون بحسناته و أعماله الخيرية حتى أنّ أنامله تشهد بأنّه عدّ تسبيحاته بها» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لبعض النساء: «عليكنّ بالتسبيح و التهليل و التقديس، و اعقدن بالأنامل، فانّهنّ مسؤلات مستنطقات» (5).

اقول: لا ينافي هذا لما سبق، لأنّه شهادة له، بل لا ينافي شهادة جوارح بعض المؤمنين عليه، لإظهار فضله وسعة رحمته. كما ورد أنّ عبدا تشهد عليه أعضاؤه بالزلّة فتتطاير شعرة من جفن عينيه، فتستأذن بالشهادة له، فيقول اللّه: تكلّمي يا شعرة جفن عبدي، و احتجّي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، فينادي مناد: هذا عتيق اللّه بشعرة (6).

سوره 36 (يس): آیه شماره 66 الی 67

وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ فَأَنّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67)

ص: 277


1- . تفسير روح البيان 7:425.
2- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 4:258.
3- . الكافي 2:27/1، تفسير الصافي 4:258، و الآية من سورة الإسراء:17/71.
4- . تفسير روح البيان 7:426.
5- . تفسير روح البيان 7:426.
6- . تفسير روح البيان 7:425.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ حكمته البالغة اقتضت إيكال الناس إلى اختيارهم في الكفر و العصيان و الايمان و الطاعة، و إلاّ كان قادرا على سلب قوى الكفّار و تعجيزهم عن العصيان بقوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ بالمشيئة التكوينية طمس أعينهم و محوها لَطَمَسْنا و جعلنا المحو عَلى أَعْيُنِهِمْ و سوّينا مكانها بحيث لا يبقى لها ضوء و لا يبدو لها شقّ و لا جفن، كما ختمنا على قلوبهم و محونا بصائرهم فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ و تبادروا إلى الصراط المستقيم الواسع الذي اعتادوا سلوكه فَأَنّى يُبْصِرُونَ ذلك الطريق، و كيف يرون موضع أقدامهم منه حتى يمكنهم المشي فيه؟ و فيه تهديد لمكذّبي الرسول بما فعل بقوم لوط حين كذّبوه و راودوه عن ضيفه.

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته و تهديد المشركين بقوله: وَ لَوْ نَشاءُ مسخهم و محو صورتهم النوعية لَمَسَخْناهُمْ و غيّرنا صورتهم بأن جعلناهم حجرا أو مدرا أو جمادا آخر، أو مسلوبي القوى عَلى مَكانَتِهِمْ و مقامهم و في محلهم بالفور بحيث لا يكون لهم مجال الانتقال منه فَمَا اِسْتَطاعُوا مُضِيًّا و ذهابا إلى أمامهم و بين أيديهم وَ لا يَرْجِعُونَ إلى ورائهم و خلفهم، و فيه إشعار باستحقاقهم تلك العقوبة في الدنيا، كاستحقاقهم عقوبة الختم في الآخرة، و إنّما المانع الحكمة المقتضية لإمهالهم، فلا يشاء ذلك.

سوره 36 (يس): آیه شماره 68 الی 70

ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على سلب قوتهم بما يرون من سلب قوى المعمّرين بقوله تعالى: وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ و نطيل مدّة حياته في الدنيا نُنَكِّسْهُ و نقلبه فِي اَلْخَلْقِ و الجسم و القوى الظاهرية و الباطنية، و نجعله بخلاف ما كان عليه في صباوة شبابه، فلا يزال تتغير جثّته و يتزايد ضعفه، و تتناقص قواه و بنيته، و يتغيّر شكله و صورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال صباوته في ضعف بدنه و قلّة عقله و فهمه أَ فَلا يَعْقِلُونَ. قيل: إنّ التقدير أترون ذلك فلا تفهمون أنّ من قدر على ذلك قدر على ما ذكر من الطمس و المسخ؟ (1)

وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68) وَ ما عَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكافِرِينَ (70)

ثمّ لما ذكر سبحانه المطالب العالية الراجعة إلى المبدأ و المعاد الدالة على كونها نازلة من اللّه القادر الحكيم، و كان المشركون يكذّبونها و ينسبونها إلى الشعر و يقولون: إنّ محمدا شاعر، فردّ اللّه عليهم

ص: 278


1- . تفسير روح البيان 7:428.

بقوله: وَ ما عَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ و الكلام المنظوم المزخرف المنسوج المبنيّ على التخيّلات و الوهميّات وَ ما يَنْبَغِي و لا يصلح لَهُ و لا يليق به الشعر و الكلام الموزون المركّب من الأوهام و الأكاذيب، لرفعة مقام النبوة عنه، بل إِنْ هذا الكتاب الذي اتي به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وعظة من اللّه للعالمين، و هداية للمهتدين وَ قُرْآنٌ و كتاب سماويّ مُبِينٌ و ظاهر أنّه من اللّه الحكيم، أو فارق بين الحقّ و الباطل، و موضح للعلوم و الحكم و الأحكام،

و إنّما أنزله اللّه تعالى لِيُنْذِرَ محمد صلّى اللّه عليه و آله و يخوّف بالعذاب على الشّرك و العصيان مَنْ كانَ حَيًّا و عاقلا فيهما منوّر الفكر و القلب وَ لئن يَحِقَّ اَلْقَوْلُ و يثبت بإيضاح الحقّ و إتمام الحجّة الوعد بالعذاب عَلَى القوم اَلْكافِرِينَ المصرّين على المعاندة للحقّ، فانّه بتمامية الحجّة عليهم يستحقّون العذاب و تنجيز الوعد به.

سوره 36 (يس): آیه شماره 71 الی 73

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، عاد إلى إثبات التوحيد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا قيل: إنّ التقدير ألم يتفكّروا و لم يعلموا (1)؟ أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ و لانتفاعهم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا و صنعت قدرتنا بغير إعانة الغير و مشاركته أَنْعاماً و أموالا راعية من الإبل و البقر و الغنم و المعز اللاّتي فيها فوائد كثيرة فَهُمْ لَها مالِكُونَ و عليها مسلّطون،

و فيها متصرّفون وَ ذَلَّلْناها و سخّرناها بقدرتنا لَهُمْ بحيث لا تستعصي عليهم في شيء ممّا يريدون بها، فانّ الابل و البقر مع عظمهما و قوّتهما يقودهما طفل صغير فَمِنْها رَكُوبُهُمْ و مركوبهم يقطعون عليها المسافات البعيدة وَ مِنْها يَأْكُلُونَ لحمها و شحمها

وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ كثيرة اخر غير الركوب و الأكل، كالجلود، و الأصواف، و الأشعار، و الأوبار، و النتائج و الحمل و الحرث وَ مَشارِبُ من الألبان أَ فَلا يَشْكُرُونَ المنعم بالإقرار بتوحيده و القيام بطاعته؟ !

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73)

سوره 36 (يس): آیه شماره 74 الی 76

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76)

ص: 279


1- . تفسير روح البيان 7:433.

ثمّ وبّخهم سبحانه على كفرانهم بقوله: وَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ و ما سواه آلِهَةً و معبودين من الأصنام لَعَلَّهُمْ و برجاء أنّهم يُنْصَرُونَ من جهتهم و يعاونون من قبلهم في الامور، أو برجاء أنّها يشفعون لهم يوم القيامة،

مع أنّ أولئك الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ و لا يقدرون على إعانتهم في شيء، لا في الدنيا و لا في الآخرة، لغاية عجزهم وَ هُمْ باتّباعهم و عبادتهم الأصنام في الدنيا يكونون لَهُمْ في الآخرة جُنْدٌ و عسكر يتّبعونهم حين سوقهم إلى النار، و كلّهم العابد و المعبود مُحْضَرُونَ في جهنم مجتمعون فيها، أمّا العابد فلاستحقاقه، و أمّا المعبود فلأن يكون وقودا لها و حسرة لهم.

روي أنّه يؤتى بكلّ معبود من دون اللّه و معه أتباعه كأنّهم جنده، فيحضرون في النار (1).

أقول: هذا إذا كان المعبود جمادا، أو كان راضيا بعبادة غيره إيّاه، و فيه بيان غاية عجز الأصنام عن نصرتهم.

ثمّ لمّا كان عداوة المشركين و سوء أقوالهم مؤثرا في انكسار قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، سلّى سبحانه حبيبه بقوله: فَلا يَحْزُنْكَ و لا يؤلم قلبك عداوة المشركين و قَوْلُهُمْ إنّ محمدا شاعر أو مجنون إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ و يضمرون من بغضك و عداوتك وَ ما يُعْلِنُونَ من سبّك و شتمك، أو ما يسترون من النفاق، و ما يعلنون من الشّرك، أو ما يسرّون من العلم بنبوتك، و ما يعلنون من إنكار صدقك، أو ما يسرّون من العقائد الفاسدة، و ما يعلنون من الأعمال القبيحة.

سوره 36 (يس): آیه شماره 77 الی 79

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و النبوة، رفع شبهتهم في المعاد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسانُ و لم يعلم أَنّا خَلَقْناهُ و صوّرناه بقدرتنا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا مع نضارته و بهجته، و كونه ذا أجزاء مختلفة بالماهية و الطبيعة مِنْ نُطْفَةٍ قذرة متشابهة الأجزاء، و جعلناه بعد افتقاده لجميع القوى ذا نطق و فطنة و عقل و فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ لنا و مجادلنا بالباطل مُبِينٌ و مظهر للحجّة علينا في خصومته.

أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)قيل: إنّ قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ كناية عن صيرورته ناطقا، فإنّ إبداع الفهم و النّطق في الجماد

ص: 280


1- . تفسير روح البيان 7:434.

أغرب من خلق الجسم (1)، و ذكر الخصومة مكان النّطق لكونها أعلى منه؛ لأنّ الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبين كلامه مع غيره عند المخاصمة، فقوله: مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى أدنى ما كان عليه و قوله: خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى أعلى مرتبة كماله الظاهري.

ثمّ بيّن سبحانه خصومته مع ربّه بقوله: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً و تكلّم في ردّ المعاد الذي وعدنا به كلاما غريبا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ ابتداء من تراب، ثمّ من نطفة و قالَ استبعادا لصحّة المعاد حين أخذ عظم رميم بيده مَنْ يقدر على أن يُحْيِ هذه اَلْعِظامَ و يصيّرها إنسانا سويا وَ هِيَ الآن رَمِيمٌ بالية بعيدة من الحياة غايته

قُلْ يا محمّد، ردّا لهذا المخاصم الغبيّ، و تبكيتا له: يُحْيِيهَا الإله القادر اَلَّذِي أَنْشَأَها و خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ و حين لم يكن شيئا، فانّ الخلق ثانيا أهون من الخلق أولا مع قابلية المادة و بقاء القدرة، لاستحالة التغيّر في ذاته تعالى وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ من الإنشاء و الإعادة عَلِيمٌ و مبالغ في الاحاطة بتفاصيل كيفياته، و بجميع الأجزاء المتبدّدة المتفتّتة لكلّ من الأشخاص، و أوضاع بعضها من بعض من الاتصال و الانفصال و الاجتماع و الافتراق، فيعيد كلاّ على النّمط السابق مع القوى التي كانت لها قبل.

قيل: إنّ فيه رفع شبهة الآكل و المأكول، و هي أنّه إذا أكل إنسان إنسانا، و صار المأكول أجزاء للآكل، فان اعيدت أجزاء المأكول إليه لا تبقى أجزاء للآكل حتى يعاد، و إن اعيد إلى الآكل لا يبقى للمأكول شيء، فأبطلها اللّه بقوله: وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ و تقريره أنّ لكلّ من الآكل و المأكول أجزاء أصلية و أجزاء فضلية، و تصيّر الأجزاء الأصلية من المأكول أجزاء فضلية من الآكل، و اللّه تعالى عالم بالأجزاء الأصلية من كلّ منهما، فيجمعها و ينفخ فيها الروح، فيحيي الآكل و المأكول من الآجزاء الأصلية التي كانت لكلّ منهما (2).

روى بعض العامة أنّ الآيتين نزلت في أبي بن خلف حيث أخذ عظما باليا، و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال: إنّك تقول: إنّ الهك يحيي هذه العظام؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نعم و يدخلك جهنّم» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «جاء ابي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففتّته، ثمّ قال: يا محمد، إذا كنّا عظاما و رفاتا ءإنا لمبعوثون، فنزلت» (4).

و عنه عليه السّلام: «إنّ الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق

ص: 281


1- . تفسير الرازي 26:108.
2- . تفسير الرازي 26:109، تفسير روح البيان 7:438.
3- . تفسير أبي السعود 7:180، تفسير روح البيان 7:436.
4- . تفسير العياشي 3:56/2533، تفسير الصافي 4:261.

و ظلمة، و البدن يصير ترابا كما منه خلق، و ما تقذف به السباع و الهوام مما أكلته و فرّقته، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض، و يعلم عدد الأشياء و وزنها، و إنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فاذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، و الزبد من اللبن إذا مخض، فيجمع تراب كلّ قالب إلى قالبه، فينتقل باذن اللّه القادر إلى حيث الروح، فتعود بإذن المصوّر كهيئتها، و تلج الروح فيها، فاذا استوى لا ينكر من نفسه شيئا» (1)

سوره 36 (يس): آیه شماره 80 الی 81

ثمّ لمّا كان من شبهات منكري البعث و المعاد عدم إمكان تعلّق الروح بالأجزاء الترابية اليابسة و العظام النخرة، دفعها سبحانه بتوصيف ذاته المقدّسة بالقدرة على الجمع بين النار و الشجر الرطب مع المضادة بينهما بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ و خلق بقدرته لَكُمْ و لنفعكم مِنَ اَلشَّجَرِ الرطب اَلْأَخْضَرِ مع انتشار الماء في أجزائه و خلله ناراً محرقة.

اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ اَلْخَلاّقُ اَلْعَلِيمُ (81)قيل: إنّ العرب تتخذ زنودهم من المرخ و العفار، و هما شجران في بواديهم، يقعطعون منهما غصنين كالمسواكين، فيسحق المرخ و هو الذكر على العفار و هو انثى، فتنقدح منهما النار (2)، مع كونهما أخضرين يقطر منهما الماء فَإِذا خرجت النار من الشجر أَنْتُمْ أيّها العرب مِنْهُ تُوقِدُونَ و تشعلون النار في الحطب، فكما لا مجال لأن تشكّوا في خروج النار من الشجر الرطب، ليس لكم أن تشكّوا في أنّ اللّه قادر على إيلاج الروح في الأجزاء اليابسة بأن يجعلها غضّة طرية كما كانت قبل الموت، و إحيائها كما كانت في الدنيا.

ثمّ أنكر سبحانه على من أنكر قدرته على جمع أجزاء البدن و إحيائها ثانيا بقوله: أَ وَ لَيْسَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ مع كبر جسمهما و عظم شأنها بِقادِرٍ في اعتقاد المشركين عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الحقارة و الصّغر بالنسبة إليهما بَلى قادر على أن يخلق مثلهم ببديهة العقل، بل أقدر وَ هُوَ اَلْخَلاّقُ للممكنات، و الموجد لجميع الموجودات اَلْعَلِيمُ بكيفياتها و كمياتها و مصالحها و مفاسدها.

ص: 282


1- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 4:261.
2- . تفسير روح البيان 7:439.

عن الصادق عليه السّلام: «أمّا الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجادل من جحد البعث بعد الموت و إحياءه له، فقال عزّ و جلّ حاكيا عنه: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ الآية، فأراد من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ان يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام و هي رميم! قال: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، أفيعجز من ابتدأه لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى؟ بلى ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته.

ثمّ قال: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً أي إذا كمنت النار الحارة في الشجر الأخضر الرّطب، ثمّ يستخرجها، فعرّفكم أنّه على إعادة من بلي أقدر. ثمّ قال: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقادِرٍ الآية، أي إذا كان خلق السماوات و الأرض أعظم و أبعد في أوهامكم و قدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من اللّه خلق هذا الأعجب عندكم، و الأصعب لديكم، و لم تجوّزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي؟» (1).

سوره 36 (يس): آیه شماره 82 الی 83

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته على إيجاد كلّ شيء من الأشياء بلا حاجة إلى إله و معاون و عدّة مدّة بقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ عزّ شأنه إِذا أَرادَ و شاء أن يكون المعدوم شَيْئاً موجودا عظيما كان أو حقيرا، جليلا كان أو دقيقا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ و أن يريده بالإرادة التكوينية فَيَكُونُ و يوجد من غير ريث و تأخير.

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّما كلامه سبحانه فعل [منه]أنشأه، قال يقول لا بلفظ. . . و يريد و لا يضمر» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «كُنْ منه تعالى صنع، و ما يكون به المصنوع» (3).

و إنّما عبّر عن إرادته بقول: كُنْ تمثيلا لتأثير قدرته و إرادته تعالى فيما أراد وجوده بأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير توقّف على شيء ما، لوضوح أنّه لا يكون هنا قول و لا أمر و لا مأمور، إذ لا معنى لأمر المعدوم أن يوجد نفسه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال ذاته، و بيان قدرته الكاملة على الإنشاء و الإعادة و عدم تخلّف مراداته

ص: 283


1- . الاحتجاج:21، تفسير الصافي 4:262.
2- . نهج البلاغة:274 الخطبة 186، تفسير الصافي 4:262.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:173/1، تفسير الصافي 4:262.

عن إرادته، علّم الناس تنزيه ذاته المقدّسة و تسبيحه بقوله تبارك و تعالى: فَسُبْحانَ الإله القادر اَلَّذِي بِيَدِهِ و بإرادته و قدرته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ و وجود جميع الموجودات و جميع الممكنات، فانّ كلّ موجود مركب عن جزء ملكي و هو الماهية، و جزء ملكوتي و هو وجوده.

و قيل: إنّ المراد نزّهوا اللّه الذي تحت قدرته ملك كلّ شيء و ضبطه و تصرّفه عمّا و صفوه به من العجز، و تعجّبوا ممّا قالوه في شأنه من النّقصان (1).

و قيل: إنّ ملكوت الشيء ما يقوم به من الأرواح و الملائكة (2).

وَ إِلَيْهِ وحده أيّها الناس تُرْجَعُونَ بعد الموت للحساب و جزاء الأعمال.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة يس في عمره مرّة كتب اللّه له بكل خلق في الدنيا و بكلّ خلق في الآخرة و في السماء بكلّ واحد ألفي ألف حسنة، و محا عنه مثل ذلك، و لم يصبه غرم و لا هدم و لا نصب و لا جنون و لا جذام و لا وسواس و لا داء يضرّه، و خفّف اللّه عنه سكرات الموت و أهواله، و ولي قبض روحه، و كان ممّن يضمن اللّه له السّعة في معيشته، و الفرح عند لقائه، و الرضا بالثواب في آخرته، و قال اللّه لملائكته أجمعين من في السماوات و من في الأرضين: قد رضيت عن فلان، فاستغفروا له» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ لكلّ شيء قلبا، و إنّ قلب القرآن يس» (4).

أقول: لعلّ وجهه أنّ القلب به حياة الشيء، و لمّا كانت سورة يس مصدّرة بذكر خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و رسالته، و كانت حياة القرآن بوجوده و بعثته، صارت السورة بمنزلة القلب للقرآن.

و قيل: إنّ وجهه أنّ صحّة الايمان بالاعتراف بالحشر و الحشر مقرّر في هذه السورة بأبلغ وجه (5).

و قيل: إنّ وجهه أنّه ليس فيها إلاّ تقرير الاصول الثلاثة (6)بأقوى البراهين، فانّه تعالى ابتدأها بالرسالة بقوله تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ و دليلها ما قدّمه عليه من قوله وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ و ما أخرّه عنه من قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً و ختمها ببيان التوحيد و الحشر بقوله تعالى: فَسُبْحانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى التوحيد، و بقوله: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى الحشر، و من حصّل هذه الثلاثة فقد حصّل نصيب قلبه، و هو التصديق بالجنان.

إلى أن قال: فلمّا لم يكن فيها إلاّ أعمال القلب سمّاها قلبا، و لهذا ورد أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ندب إلى تلقين

ص: 284


1- . تفسير روح البيان 7:442.
2- . تفسير الصافي 4:263.
3- . ثواب الاعمال:111، تفسير الصافي 4:263.
4- . مجمع البيان 8:646، تفسير الصافي 4:263.
5- . تفسير الرازي 26:113، تفسير روح البيان 7:442.
6- . تفسير الرازي 26:113.

يس لمن دنا منه الموت عند رأسه؛ لأنّ في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة، و الأعضاء الظاهرة ساقطة البنية، لكن القلب راجع إلى اللّه عن كلّ ما سواه، و مقبل إليه، فيقرأ عند رأسه ماتزداد به قوة قلبه، و يشتدّ تصديقه بالاصول (1).

قد تمّ تفسير السورة المباركة بتوفيق اللّه و عونه.

ص: 285


1- . تفسير الرازي 26:113.

ص: 286

في تفسير سورة الصافات

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة يس المبدوءة بذكر خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و تعظيمه و رسالته المتضمّنة للتوحيد و المعاد، المختتمة بردّ شبهة منكرية، نظمت بعدها سورة الصافات المبدوءة بتعظيم المؤمنين بالحلف بهم، المتضمّنة للأصلين المذكورين، و تجليل آل يس، و هم آل النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتسليم عليهم، فابتدأها على دأبه بقوله بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ اَلصَّافّاتِ صَفًّا (1) فَالزّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتّالِياتِ ذِكْراً (1)

ثمّ لمّا كانت عادة العرب تأكيد الدعوى بالحلف بالامور العظيمة الشريفة المحبوبة عندهم، حلف سبحانه بجماعات المؤمنين التالين للقرآن بقوله تبارك و تعالى: وَ اَلصَّافّاتِ للّه أقدامهم، و القائمات بعبادته صَفًّا محمودا عند اللّه، و هو الصفّ و القيام على خط مستقيم في جماعة الصلاة،

أو في ميدان الجهاد فَالزّاجِراتِ و الجماعات الناهيات للناس عن المنكرات، أو للشيطان عن الوساوس، أو المانعات للكفّار عن الاستيلاء على المسلمين زَجْراً بليغا

فَالتّالِياتِ و القارئات ذِكْراً عظيم الشأن، كالقرآن و التسبيح و التحميد و التهليل.

قيل: إنّ الفقرات الثلاث في المصلّين جماعة؛ الصافات عند أداء الصلاة جماعة، الزاجرات للشيطان بالاستعاذة بعد التكبير، التاليات للقرآن بعدها (1).

و قيل: إنّها صفات العلماء؛ الصافات الذين يقومون منهم للدعوة إلى دين اللّه، و الزاجرات الذين يزجرون العوامّ عن الضلال و يدفعون شبهاتهم، و يتلون عليهم ما يرغّبهم في العمل بشرائع اللّه تبارك و تعالى (2).

و قيل: إنّها صفات الملائكة حيث إنّهم يقفون صفوفا، أما في السماوات لأداء العبادة (3)، أو يصفّون

ص: 287


1- . تفسير الرازي 26:114.

أجنحتهم في الهواء و يقفون لانتظار أمر اللّه إليهم، و يزجرون الناس عن المعاصي بالإلهامات (1)، أو الشياطين عن التعرّض لبني آدم بالشرّ و الإيذاء (2)، أو عن استراق السمع (3)، أو يزجرون السّحاب للسوق من بلد إلى بلد (4)، و يتلون القرآن و التسبيحات.

و قيل: إنّ المراد بالصافات الطيور، و بالزاجرات كلّ ما يردع الناس عن المعاصي، و بالتاليات كلّ من يتلو كتاب اللّه (5).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 4 الی 10

ثمّ ذكر سبحانه المحلوف عليه بقوله: إِنَّ إِلهَكُمْ و معبودكم المستحقّ للعبادة لَواحِدٌ لا شريك له و لا ضدّ و لا ندّ،

و هو رَبُّ اَلسَّماواتِ السبع و ما فيها من الكواكب وَ اَلْأَرْضِ و ما عليها من الجبال وَ ما بَيْنَهُما من الملائكة و الثّقلين و الطيور و عجائب الخلق، و مالكها و حافظها و مبلغها إلى الكمالات اللائقة بها وَ رَبُّ اَلْمَشارِقِ العديدة التي تكون للكواكب، و هي ثلاثمائة و ستون بعدد أيام السنة، و بحسبها المغارب، و لذا اكتفى بذكرها.

إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ اَلْمَشارِقِ (5) إِنّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

ثمّ لمّا كان من أدلّة التوحيد حسن نظام العالم، نبّه عليه بقوله: إِنّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا و القربى منكم و حسّنا منظرها بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ و النجوم من حيث تلألؤها و أوضاعها سواء أكانت مركوزة فيها،

أو فيما فوقها من السماوات وَ حفظناها حِفْظاً كاملا، أو لتكون حافظا مِنْ قرب كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ طاغ صاعد إليها برمي الشهب،

و لذا لا يَسَّمَّعُونَ و لا يستمعون، أو لا يصغون إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى و جماعة الملائكة الساكنين في السماوات العلى، المطّلعين على أسرار اللّوح المحفوظ على ما قيل (6).

و قيل: إنّ المراد بالملأ الأعلى أشراف الملائكة و كيفية حفظ السماء منهم (7)، و منعهم عن الاستماع أنّهم يرمون بالشّهب وَ يُقْذَفُونَ كما يقذف العدوّ بالحجارة مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء

ص: 288


1- . تفسير الرازي 26:114.
2- . تفسير الرازي 26:115.
3- . تفسير روح البيان 7:445.
4- . تفسير روح البيان 7:445.
5- . تفسير الرازي 26:116.
6- . تفسير روح البيان 7:449.
7- . تفسير روح البيان 7:449.

إذا قصدوا الصعود إليها،

ليكون القذف و الرمي بالشّهب دُحُوراً و طردا لهم عنها.

و قيل: إنّ التقدير يدحرون دحورا (1). قيل: إنّ الدّحور هو الطّرد مع أشدّ الصّغار و الذّلّ (2) .

وَ لَهُمْ في الآخرة مضافا إلى عذابهم في الدنيا بالشهب عَذابٌ واصِبٌ و دائم بالنار. القمي رحمه اللّه: أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم (2). و قيل: إنّ الرجم بالشّهب عذاب دائم لهم (3).

قال المفسّرون: إنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء، فلمّا سمعوا كلام الملائكة، و عرفوا به ما سيكون، و كانوا يخبرون الكهنة به، و يوهمونهم أنّهم يعلمون الغيب، فمنعهم اللّه تعالى من الصّعود إلى قرب السماء بالشّهب (4)،

فلا يسمع شيطان كلام الملائكة إِلاّ مَنْ خَطِفَ من الشياطين، و اختلس كلام الملائكة، و أخذه بسرعة اَلْخَطْفَةَ الواحدة، و اختلاسا فاردا فَأَتْبَعَهُ بالفور و لحقه بسرعة شِهابٌ ثاقِبٌ و شعلة مضيئة من النار غاية الإضاءة، كأنّها تثقب بنورها الجوّ، و هو يحدث في النجوم ثم ينفصل منها، كما ينفصل السهم من القوس، فكون النجوم رجوما من جهة كونها سببا لرمي الشّهب، لا أن نفس النجوم تصير شهبا، لوضوح أنّ النجوم لا تنقص بالشّهب، و القول بأنّ الكواكب قسمان: قسم باق في الملك مدى الدهر، و قسم حادث لا يبقى، و هو الحادث بتصاعد الأجزاء الأرضية مع الأبخرة و احتراقها بالقرب من الأثير، أو باشتعال الهواء القريب من الأثير بالحركة، خلاف القرآن العظيم، لظهوره في كون تلك الكواكب التي تكون زينة للسماء تكون حفظا و رجوما للشياطين.

قال قتادة: جعل اللّه النجوم لثلاث: زينة للسماء، و رجوما للشياطين، و علامات يهتدى بها (5).

روي عن ابن عباس، أنه قال: بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس في نفر من أصحابه، إذ رمي بنجم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية؟» فقالوا: يموت عظيم، أو يولد عظيم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه لا يرمى لموت أحد و لا لولادته، و لكن اللّه إذا قضى أمرا يسبّحه حملة العرش، و يقول أهل السماء السابعة لحملة العرش: ماذا قال ربّكم؟ فيخبرونهم، فيستخبر أهل كلّ سماء أهل سماء، حتى ينتهي الخبر إلى سماء الدنيا، فتخطفه الجنّ فيرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ، و لكنّهم يزيدون و يكذبون، فما ظهر صدقه فهو من قسم ما سمع من الملائكة، و ما ظهر كذبه فهو من قسم ما قالوه منه (6).

ص: 289


1- . تفسير الرازي 26:123.
2- . تفسير القمي 2:221، و تفسير الصافي 4:265 عن الباقر عليه السّلام.
3- . تفسير أبي السعود 7:185.
4- . تفسير الرازي 26:120.
5- . تفسير روح البيان 7:450.
6- . تفسير روح البيان 7:449.

و من التواريخ و بيان الحكماء الذين كانوا قبل الاسلام، يظهر أنّ الشّهب كانت قبل الاسلام، و ظاهر الآيات أنّها لرجم الشياطين، و ظاهر قوله تعالى: أَنّا لَمَسْنَا اَلسَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (1)أن الشهب حدثت بعد بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلا بدّ من الحمل على كثرة الشّهب و شدّة المنع.

ثمّ أنّ مبدأ خلقة الجنّ من النار لا ينافي احتراقهم بها، لأنّ لازم كونهم جسما احتراقهم بها، لأنّ النار تحرق الجسم و إن كان لطيفا.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 11 الی 17

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده بخلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و خلق مشارق الكواكب، و تزيين السماء بها، شرع في إثبات الحشر و المعاد بقوله تبارك و تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أيّها الرسول و أسألهم بمحاجة توبيخا (2)أو تقريرا أَ هُمْ مع صغر جثّتهم و ضعف بنيتهم أَشَدُّ خَلْقاً و أمتن بنية، أو أصعب خلقا على خالقهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة و السماوات و الأرض و الكواكب و المشارق و الجنّ و الشياطين؟ و إنّما ذكر كلمة (من) لتغليب العقلاء. ثمّ نقول: لو فرضوا أنّهم كانوا أشدّ خلقا من السماوات و الأرض و غيرهما من الموجودات ألا يقرّون و لا يقولون: إِنّا خَلَقْناهُمْ بقدرتنا أول مرّة مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق باليد، فاذا علموا أنّ الطين المركّب من التّراب و الماء قابل لأن يصيّره القادر الحكيم إنسانا ذا شعور و نطق و عقل، كان عليهم أن يعتقدوا إمكان خلقهم مرّة اخرى، لبقاء تلك القابلية في ترابهم، و عدم إمكان زوال القدرة عن الخالق القادر الذي خلقهم أول مرّة،

لكون قدرته ذاتية غير قابلة للزوال بَلْ لا تستفتهم لكونهم معاندين حيث إنّك عَجِبْتَ من إنكارهم إمكان البعث و وقوعه مع غاية وضوح دليله وَ هم يَسْخَرُونَ منك و يستهزئون بك حيث تدعوهم إلى الإقرار و الإيمان به مع كونهم مستبعدين إياه.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ (17)و عن قتادة: أنّه عجب نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا القرآن حين انزل و ضلال بني آدم، و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يظنّ أنّ كلّ من يسمع القرآن يؤمن به، فلمّا سمع المشركون القرآن سخروا منه و لم يؤمنوا،

ص: 290


1- . الجن:72/8.
2- . في النسخة: بحاجة قريحا.

عجب من ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال اللّه تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (1)* وَ إِذا ذُكِّرُوا و وعظوا و هدّدوا على إنكارهم البعث أو القرآن لا يَذْكُرُونَ و لا يتّعظون، أو إذا نبّهوا على أدلّة البعث أو جهات إعجاز القرآن لا يتنبّهون لكثرة عنادهم و قلّة فهمهم و فكرهم

وَ إِذا رَأَوْا آيَةً و معجزة دالة على صدق رسالتك و إخبارك بوقوع الحشر و النشر يَسْتَسْخِرُونَ و يبالغون في الاستهزاء بك، أو يحملون غيرهم على الاستهزاء، فلا بالبراهين يلتزمون، و لا بالموعظة يتّعظون،

و لا بالمعجزة يؤمنون وَ قالُوا للمعجز الذي تأتيهم به: إِنْ هذا الفعل الخارق للعادة، و ما هو إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة بحيث لا يشكّ فيه أحد،

كيف يمكن أن يكون ما أتى به معجزة دالة على صدقه في دعوى البعث مع أنّها كذب ظاهر أَ نبعث إِذا مِتْنا و دفّنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً بالية.

ثمّ بالغوا في الإنكار بإعادة أداة الاستفهام، كأنّهم قالوا: أنصفوا أيّها العقلاء أَ إِنّا مع ذلك لمحيون بعد الموت لَمَبْعُوثُونَ و مخرجون من القبور،

فرضنا أنّا نبعث لقرب عهدنا بالحياة و اجتماع ترابنا في قبورنا أَ وَ يبعث آباؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ و أجدادنا الأقدمون مع تفرّق ترابهم في أطراف العالم، و محو أثر قبورهم، هيهات هيهات!

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 18 الی 23

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة الأدلة السابقة على إمكان البعث و الإعادة بعد الموت، و عدم المجال لإقامة البرهان، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمعارضة إنكارهم بالاثبات بقوله تبارك و تعالى: قُلْ لهؤلاء المشركين المعاندين: نَعَمْ على رغم أنوفكم يبعثون جميعا وَ أَنْتُمْ أيضا تبعثون داخِرُونَ و صاغرون في المحشر و أذلاّء بين الناس، حيث منعكم التكبّر و الخيلاء عن تبعيّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و قبول قوله و تصديقه في ادّعاء إمكان البعث، مع أنّه مضافا إلى إمكانه ليس على اللّه بصعب،

بل في غاية السّهولة فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ و صيحة واحِدَةٌ من إسرافيل، و نفخة من الصّور من غير حاجة إلى الثانية فَإِذا هُمْ يحيون و يقومون من قبورهم يَنْظُرُونَ إلى أنفسهم و جوانبهم كالحيارى، أو ينظر بعضهم إلى بعض نظر الحيرة، و ينظرون كما كانوا يبصرون و ينظرون في زمان حياتهم في الدنيا،

أو

قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ اَلدِّينِ (20) هذا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اَللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ (23)

ص: 291


1- . تفسير روح البيان 7:451.

ينتظرون ما يفعل بهم وَ قالُوا حين رأوا أنّهم مبعوثون تحسّرا و ندامة: يا وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر، فهذا أوان حضورك هذا اليوم يَوْمُ اَلدِّينِ و وقت الجزاء على الأعمال، و العقوبة على السيئات.

فيقول اللّه أو الملائكة، أو يقول بعضهم لبعض توبيخا و تقريعا: هذا اليوم يَوْمُ اَلْفَصْلِ و القضاء بما تستحقّون من الثواب أو العقاب، أو يوم الفرق بين المؤمنين و المهتدين و الكافرين و الضالين، و هو اليوم اَلَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ و تقولون: لا بعث و لا حساب و لا عقاب.

فيقول اللّه للملائكة: اُحْشُرُوا و اجمعوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على اللّه بكفرانهم نعمه و تضييعهم حقّه، و على أنفسهم بتعريضها للعقاب الدائم و الهلاك الأبد، وَ أحشروا أَزْواجَهُمْ و أشباههم من أهل الشّرك و الكفر و النفاق و العصيان، أو قرناءهم من الشياطين أو نساءهم اللاّتي كنّ على دينهم وَ احشروا ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام و غيرها معهم لازدياد حسرتهم و تخجيلهم، أو الشياطين الذين زيّنوا لهم الكفر فَاهْدُوهُمْ و سوقوهم، أو أرشدوهم إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ و الطريق المستقيم إليها، و فيه تهكّم بهم.

قيل: إنّ كلّ ظالم يحشر مع من كان معينا له و موافقا له، فاليهود مع اليهود، و النصارى مع النصارى، و المجوس مع المجوس، و شارب الخمر مع شارب الخمر، و الزاني مع الزاني (1)، و هكذا كلّ من كان على عقيدته.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 24 الی 26

ثمّ لمّا ساق الملائكة المجرمين إلى جهنّم نادى اللّه: يا ملائكة العذاب الذين يسوقون الكفار إلى جهنّم، احبسوهم وَ قِفُوهُمْ على الصراط، أو على شفير جهنّم.

وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)ثمّ بيّن سبحانه علّة توقيفهم بقوله: إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أعمالهم و عقائدهم في الدنيا سؤال توبيخ و تقريع.

و قيل: يسألهم خزنة جهنّم هناك و يقولون: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ بالبينات؟ فيقولون بَلى

ص: 292


1- . تفسير روح البيان 7:453.

وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذابِ عَلَى اَلْكافِرِينَ (1) .

و عن (العلل) عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال في تفسير الآية: «لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، و عن عمره فيما أفناه، و عن ماله من أين جمعه و فيما أنفقه، و عن حبّنا أهل البيت عليهم السّلام» (2).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

و يحتمل أنّ من السؤال قوله: ما لَكُمْ أيّها الكفرة، و لأيّ سبب لا تَناصَرُونَ؟ عن ابن عباس: أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا تتناصرون، و ذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين؟

و قيل: يقال للكفار ما لشركائكم لا ينصرونكم، و لا يمنعونكم من العذاب؟ (4)و على أي تقدير لا ناصر لهم بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ منقطعون عن جميع الحيل في نجاتهم، و مُسْتَسْلِمُونَ و منقادون لحكم اللّه و متمكّنون لعذابه.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 27 الی 32

ثمّ بين سبحانه أنّهم مع عدم كونهم متناصرين كلّهم متخاصمون بقوله: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ و هم أتباع الرؤساء أو الشياطين عَلى بَعْضٍ الآخر و هم الرؤساء أو الشياطين يَتَساءَلُونَ و يتخاصمون.

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ اَلْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنّا كُنّا غاوِينَ (32)

ثمّ كأنّه قيل: كيف يكون تساؤلهم (5)و تخاصمهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالُوا الأتباع لرؤسائهم، أو الكفرة لقرنائهم من الشياطين: إِنَّكُمْ أيّها الرؤساء أو الشياطين كُنْتُمْ في الدنيا تَأْتُونَنا و تحملوننا على الكفر و العصيان عَنِ اَلْيَمِينِ و بالقوة القهرية على ما قيل (6)، و تجبروننا على الكفر و العصيان.

ص: 293


1- . تفسير الرازي 26:132، و الآية من سورة الزمر:39/71.
2- . علل الشرائع:218/2، تفسير الصافي 4:266.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:59/222، أمالي الطوسي:290/564، تفسير الصافي 4:266.
4- . تفسير الرازي 26:133.
5- . تفسير روح البيان 7:455.
6- . تفسير الرازي 26:134، تفسير البيضاوي 2:292.

و قيل: يعني عن ناحية الحلف و اليمين، فانّ روساءهم كانوا يحلفون لأتباعهم المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحقّ المبين، فكانوا يثقون بأيمانهم (1).

و قيل: إنّ المراد أنّكم كنتم تخدعوننا، و توهمون لنا أنّ دعوتكم إيّانا ليست إلاّ نصرة الحقّ و تقوية للصدق (2). فأجابهم الرؤساء و قالُوا لهم: ما أجبرناكم على الكفر و أضللناكم عن الايمان بَلْ لَمْ تَكُونُوا في الدنيا مُؤْمِنِينَ حتى تقولوا إنّا صرفناكم عن الايمان

وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ شيء مِنْ سُلْطانٍ و قهر و إجبار يسلب به اختياركم بَلْ كُنْتُمْ في الدنيا قَوْماً و جمعا طاغِينَ على اللّه باختياركم،

و مصرّين على العصيان بشهوة أنفسكم فَحَقَّ و ثبت و لزم عَلَيْنا في اليوم قَوْلُ رَبِّنا و وعيده بالعذاب على الكفر و العصيان، لعدم جواز خلف الوعد عليه، فاليوم إِنّا لَذائِقُونَ طعم ذلك العذاب باستحقاقنا،

و لمّا كنتم راغبين الى الكفر فَأَغْوَيْناكُمْ و دعوناكم إليه من غير إكراه و إجبار، فاستبجبتم لنا باختياركم و هوى أنفسكم، فليس لكم حق الاعتراض علينا إِنّا كُنّا غاوِينَ و ضالّين عن الحقّ، فأحببنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية و الضّلال.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 33 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تخاصم الرؤساء و الأتباع، أخبر عن سوء حالهم في جهنّم بقوله: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذابِ و دخول النار و الابتلاء بالشدائد مُشْتَرِكُونَ لاشتراكهم في الغواية و الضلال و العصيان.

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا اَلْعَذابِ اَلْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

ثمّ بيّن سبحانه عدله و حكمته في تعذيبهم بقوله: إِنّا كَذلِكَ الفعل الفضيع، و مثل هذه المعاملة الهائلة نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ و نعامل معهم لإنكارهم التوحيد و الرسالة و المعاد،

كما نبّه سبحانه عليه بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق النّصح و العظة و الدّعوة إلى التوحيد. قولوا: لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ و يتأنّفون عن القول به، و يتعصّبون لآلهتهم،

و يصرّون على الشّرك وَ يَقُولُونَ في جواب الداعي إلى التوحيد و القائل به و هو النبي الامّي صلّى اللّه عليه و آله الآتي بالقرآن: أَ إِنّا لَتارِكُوا عبادة آلِهَتِنا و أصنامنا اتّباعا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ حيث إنّه يدّعي خلاف ما وجدنا عليه

ص: 294


1- . تفسير الرازي 26:134.
2- . تفسير الرازي 26:134.

آباءنا.

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: بَلْ جاءَ من جانب اللّه بِالْحَقِّ و ما هو ثابت بالبراهين القاطعة، و محقّق عند العقل السليم من التوحيد الذي أخبر به جميع الأنبياء وَ صَدَّقَ محمد صلّى اللّه عليه و آله بما أخبر به جميع اَلْمُرْسَلِينَ فيما أخبروا به من التوحيد

إِنَّكُمْ أيّها المشركون و اللّه لَذائِقُوا اَلْعَذابِ اَلْأَلِيمِ للاشتراك و الاستكبار و تكذيب الرسول الأمين، و في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب إظهار لشدّة الغضب عليهم.

ثمّ نبّه سبحانه على أن ليس في تعذيبهم (1)شائبة الظلم و العمل بخلاف الكرم، بل هو ما يستحقّونه بقوله: وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاّ مقدار جزاء ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و العصيان لا تزادون (2)و لا تنقصون.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ بيّن حسن حال المؤمنين بقوله: إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ له في العبادة.

إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42)قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن عباد اللّه المخلصين (3)لا يذوقونه، و المخلصون بالفتح: الذين أخصلهم اللّه لعبادته، و برّأهم من عبادة غيره.

ثمّ بيّن سبحانه بعد خلاصهم من العذاب نيلهم بغاية الفضل بقوله: أُولئِكَ الأجلاء الرفيعو المقام، الممتازون عن غيرهم بطيب الطينة و حسن الفطرة و الخلوص في العبادة لَهُمْ بمقابل حسن عقيدتهم و أعمالهم رِزْقٌ لا يمكن وصف كماله و حسنه مَعْلُومٌ عندهم في الآخرة وجودا و قدرا و حسنا و لذة و طيبا،

و ذلك الرزق فَواكِهُ كثيرة و نعم لذيذة من الثّمار و غيرها تؤكل للّذّة لا للحاجة.

و قيل: إنّ المراد بالفواكه خصوص الثّمار؛ لأنّ رزق أهل الجنّة كلّه من الثّمار (4)، أو لأنّ ذكرها مغن عن ذكر غيرها، لأنّها من أتباع سائر الأطعمة (5)، فاذا كانت الفاكهة التي هي أدنى من غيرها حاضرة على الدوام، كان غيرها أولى بالحضور.

و قيل: لمّا كانت الفاكهة في بلاد العرب عزيزة الوجود، خصّها بالذّكر لازدياد التشويق (6).

ص: 295


1- . في النسخة: أن في تعذيبهم ليس.
2- . في النسخة: لا تزدادون.
3- . تفسير الرازي 26:136. (4 و 5 و 6) . تفسير روح البيان 7:458.

ثمّ لمّا كان الرزق المقرون بالإهانة غير معتن به عند النفوس الأبية و الهمم العالية، بيّن سبحانه إكرامهم بقوله: وَ هُمْ مُكْرَمُونَ عند اللّه تبارك و تعالى غاية الإكرام معظّمون نهاية التعظيم.

عن الباقر عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث- «أمّا قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ بأن يعلمه الخدّام فيأتون به أولياء اللّه قبل أن يسألوهم إيّاه، و أمّا قوله: فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ قال: إنّهم لا يشتهون شيئا في الجنّة إلاّ اكرموا به» (1).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 43 الی 49

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر مأكولهم وصف كمال مجلسهم و مشروبهم بقوله: فِي جَنّاتِ و بساتين ذوات اَلنَّعِيمِ و هم متمكّنون فيها

عَلى سُرُرٍ حال كونهم مُتَقابِلِينَ و مواجهين، ليفرحوا بحسن حال الأحبّة و رؤيتهم و يتآنسوا (2). روي أنّهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم (3)،

ثمّ وصف سبحانه كمال مجلسهم و مشروبهم بقوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ و يدور الغلمان حولهم بِكَأْسٍ و إناء من زجاجة فيه خمر مِنْ نهر مَعِينٍ و جار على وجه أرض الجنّة، أو من شراب معين و ظاهر للعيون، أو جار من العيون،

و تلك الخمرة على خلاف خمور الدنيا بَيْضاءَ.

فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)قيل: إنّ خمرا منه أشدّ بياضا من اللّبن (4).

ثمّ بالغ سبحانه في بيان لذتها بقوله: لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ حيث إنّه تعالى جعلها عين اللّذة بخلاف خمور الدنيا، فانّها-على ما قيل-لا لذّه لها (3)

لا فِيها غَوْلٌ و صداع، أو فساد من صداع أو وجع بطن وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ و يسكرون. القمي، قال: لا يطردون عنها (4).

ثمّ وصف سبحانه منكوحهم بقوله: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ و حابسات الأبصار عن غير أزواجهن، بل يكون نظرهنّ إلى أزواجهن، لحسنهم في نظرهن و عفّتهن، و هن عِينٌ قيل: يعني حسان الأعين و عظامها (5)

كَأَنَّهُنَّ في البياض و النظافة بَيْضٌ مَكْنُونٌ و مستور مصون من الغبار. قيل: شبّههن سبحانه في البياض ببيض النّعام، لأنّ لونها بياض مخلوط بالصّفرة، و هو أحسن ألوان

ص: 296


1- . الكافي 8:100/69، تفسير الصافي 4:268.
2- . في النسخة: و يتوانسوا. (3 و 4) . تفسير الرازي 26:137.
3- . تفسير روح البيان 7:459.
4- . تفسير القمي 2:222، تفسير الصافي 4:268.
5- . تفسير روح البيان 7:461.

الأبدان (1).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 50 الی 57

ثمّ حكى سبحانه بعض محاورات أهل الجنّة، كما حكى بعض محاورات أهل النار بقوله: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ و يتحادثون.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ اَلْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ (57)قيل: إنّ الكلام عطف على قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ (2)و المراد أنّ أهل الجنّة يشربون و يتحادثون على الشّرب، كما هو عادة أهل شرب الخمر في الدنيا، فيقبل بعضهم على بعض حال كونهم يتساءلون عمّا جرى عليهم في الدنيا (3)

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في تضاعيف محاوراته و أثناء كلامه: إِنِّي كانَ لِي في الدنيا قَرِينٌ و جليس

يَقُولُ على سبيل التوبيخ على إيماني بالبعث و الحساب: أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ بالبعث كيف تقرّ بما تستبعده العقول؟

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً بعد الموت منتشرا في وجه الأرض وَ عِظاماً بالية أَ إِنّا لمحيون ثانيا و لَمَدِينُونَ و مجزون على أعمالنا؟ ! هيهات هيهات لا يكون ذلك أبدا!

ثمّ قالَ ذلك القائل: هَلْ أَنْتُمْ يا أصحابي مُطَّلِعُونَ على أهل النار، و مشرفون عليهم حتى اريكم ذلك القرين المكذّب بالبعث؟

فَاطَّلَعَ القائل و أشرف على قرينه فَرَآهُ مستقرّا فِي سَواءِ اَلْجَحِيمِ و وسطها ثم

ّ قالَ ذلك القائل لقرينة الهالك تَاللّهِ إِنْ كِدْتَ و قد قاربت لَتُرْدِينِ و إلى أن تهلكني كما هلكت

وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي عليّ بالهداية و العصمة لَكُنْتُ معك مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ في العذاب، و المساقين إلى النار، كما احضرت أنت و أمثالك.

عن ابن عباس: في الجنّة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار و يناظرونهم، لأنّ لهم في توبيخ أهل النّار لذّة و سرورا (4).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 58 الی 61

أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ اَلْعامِلُونَ (61)

ص: 297


1- . تفسير أبي السعود 7:191، تفسير الصافي 4:269.
2- . الصافات:37/45.
3- . تفسير الرازي 26:138، تفسير البيضاوي 2:294، تفسير أبي السعود 7:191، تفسير روح البيان 7:461.
4- . تفسير روح البيان 7:462.

ثمّ أقبل القائل إلى جلسائه و قرنائه في الجنّة بعد الإعراض عن قرينة الذي رآه في النار، و حاورهم في الخلود في الجنّة سرورا بفضل اللّه، و التذاذا بتحديث [جلسائه عن]

نعمه، فقال لهم: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ قيل: إنّ التقدير أنحن مخلّدون، فما نحن بميتين؟ (1)

إِلاّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى كانت في الدنيا، و قبل بعثنا من القبور. و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن موتتنا الاولى قد كانت في الدنيا (2). و قيل: إنّ (إلاّ) هنا بمعنى بعد و سوى (3)(وَ ما نَحْنُ) كالكفّار بِمُعَذَّبِينَ أبدا.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا دخل أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار، جيء بالموت فيذبح كالكبش بين الجنّة و النّار، ثمّ يقال: خلود فلا موت أبدا. فيقول أهل الجنّة: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ* إِلاّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» (4).

إِنَّ هذا الخلود في الجنّة، و دوام النعمة، و الأمن من العذاب، و اللّه لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و الظّفر بأقصى المطالب،

و هو السعادة الأبدية التي لا سعادة فوقها و لِمِثْلِ هذا المقصد الأعلى فَلْيَعْمَلِ اَلْعامِلُونَ و ليجتهد المجتهدون، لا للمقاصد الدنيوية السريعة الزوال و الانقطاع.

قيل: إنّه من كلام اللّه ترغيبا للناس في طلب ثواب الآخرة (5).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعم أهل الجنّة و مأكلهم و مشربهم، ذكر سبحانه مأكول أهل النار و مشروبهم، بقوله: (قل) يا محمد، لقومك المشركين بعد تلاوة الآيات النازلة عليك في وصف نعم أهل الجنّة: أنصفوا يا قوم أَ ذلِكَ الرزق المعلوم الذي هو فاكهة الجنّة خَيْرٌ و أحسن من كونه نُزُلاً و تهيئة لورودكم يوم القيامة، أو خيرا حاصلا مع كون حاصلة اللّذة و السّرور أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ التي حاصلها الألم و الغمّ.

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ (62) إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ (63)قيل: إنّ المفسرين لم يذكروا لشجرة الزّقّوم تفسيرا (6).

و قيل: إنّ الزّقّوم اسم شجرة صغيرة الورق مرّة كريهة الرائحة، تكون بتهامة، يعرفها المشركون (7).

ص: 298


1- . تفسير أبي السعود 7:193، تفسير روح البيان 7:462.
2- . تفسير روح البيان 7:463.
3- . تفسير روح البيان 7:463.
4- . تفسير القمي 2:223، تفسير الصافي 4:270.
5- . تفسير روح البيان 7:463.
6- . تفسير الرازي 26:141.
7- . تفسير روح البيان 7:464.

و قيل: إنّ شجرة الزّقّوم هي أطعمة كريهة في النار (1).

و قيل: إنّ ظاهر القرآن أنّها شجرة كريهة الطعم، نتنة الرائحة، شديدة الخشونة (2)

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال ابن الزّبعرى شاعر قريش: أكثر اللّه في بيوتكم الزّقّوم، فانّ اليمن يسمّون الزّبد و التمر بالزّقّوم. و قال أبو جهل لجاريته: زقّميني، فأتته بزبد و تمر، و قال تزقّموا (3).

و قيل: إنّ المشركين لمّا سمعوا الآية قالوا: كيف يعقل أن ينبت الشجر في جهنّم مع أنّ النار تحرق الشجر؟ (4)

فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله تعالى: إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً و سببا لشبهة موجبة لتمادي الكفّار في كفّرهم لِلظّالِمِينَ و المشركين و قيل: إنّ المراد من الفتنة المحنة و العذاب (5). و قيل: إنّ المراد الامتحان و الابتلاء في الدنيا، حيث إنّ الكفار لمّا سمعوا كون الشجر في النار طعنوا في القرآن و النبوة، و إنّ المؤمنين لمّا سمعوا آمنوا و فوّضوا علمه إلى اللّه (6).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 64 الی 68

ثمّ وصف سبحانه الشجرة بقوله: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ و تنبت فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ و قعرها، و ترتفع أغصانها إلى دركاتها، و ما كان منبته النار لم يحترق بها.

و فيه ردّ على من قال: كيف يعقل أن ينبت الشجر في النّار مع أنّ النار تحرق الشجر طَلْعُها و ثمرها الذي يظهر منها في تناهي القبح و الايحاش كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّياطِينِ قيل: إنّه تشبيه بالمخيّل، فانّ الناس يتخيّلون أن صورة الشياطين أقبح الصّور و أكرهها، و لذا لو وصفوا شيئا بغاية القباحة، قالوا: كأنّه شيطان، كما أنّهم لو وصفوا شيئا بغاية الحسن قالوا: كأنّه ملك (7).

إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ (68)و قيل: إنّ الشيطان اسم حيّة لها رأس و عرف، و هي من أقبح الحيّات، و بها يضرب المثل في القبح (8).

و قيل: إن رؤوس الشياطين نبت معروف قبيح الرأس (9)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها بالإكراه و الإجبار، أو

ص: 299


1- . تفسير روح البيان 7:464.
2- . تفسير الرازي 26:141.
3- . تفسير الرازي 26:141.
4- . تفسير الرازي 26:141، تفسير روح البيان 7:465.
5- . تفسير البيضاوي 2:295.
6- . تفسير الرازي 26:142.
7- . تفسير الرازي 26:142، تفسير روح البيان 7:465. (8 و 9) . تفسير الرازي 26:142.

لشدّة الجوع فَمالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ.

ثمّ لمّا كان لازم الشّبع و ملأ (1)البطن العطش و شدّته، بيّن سبحانه مشروبهم، كما بيّن مشروب أهل الجنّة بعد ذكر طعامهم بقوله: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ بعد الأكل من الشجرة و اشتداد العطش و طول الاستسقاء عَلَيْها لَشَوْباً و خليطا مِنْ حَمِيمٍ و ماء متناه في الحرارة.

قيل: يعني شربا من دم أو قيح أسود أو صديد ممزوجا و مشوبا بماء حار غاية الحرارة يقطع أمعاءهم (2).

قيل: إنّ كلمة (ثمّ) دالة على التراخي الزماني، فيفهم منها أنّ أهل النار يملأون بطونهم من شجرة الزّقّوم و هي حارة تحرق بطونهم، فيعظم عطشهم، فيستسقون فلا يسقون إلاّ بعد مدة طويلة ليكمل تعذيبهم. و قيل: إن كلمة (ثمّ) دالة على التراخي في الرّتبة، فتدلّ على أنّ مشروبهم في الشناعة أشدّ من مأكولهم (3).

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ بعد أكل الزّقّوم و شرب الحميم، كما عن مقاتل (4)لَإِلَى اَلْجَحِيمِ قيل: إنّ موضع الحميم خارج من الجحيم، فهم يوردون الحميم لأجل الشّرب كما تورد الإبل إلى الماء، ثمّ يردّون إلى الجحيم، كما دلّ عليه قوله: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (5)و قيل: إنّ الزّقّوم و الحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخول الجحيم (6).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 69 الی 74

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم هذا العذاب الشديد بقوله: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا و وجدوا آباءَهُمْ و كبراءهم ضالِّينَ و منحرفين عن طريق الحقّ و الهدى بعبادتهم الأصنام

فَهُمْ بلا تدبّر في صحّة مذهب آبائهم، و تحصيل دليل على حقانية دينهم مع وضوح بطلانه بأدنى تفكّر عَلى آثارِهِمْ و عقبهم، أو إلى تقليدهم يُهْرَعُونَ و يسرعون بكمال الشدّة، و يتبعونهم مع غاية العصبية.

ثمّ لمّا كان إصرار الناس على الكفر و الضلال سببا لتألم قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حزنه، سلاّه سبحانه

إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ (73) إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (74)

ص: 300


1- . في النسخة: و ملأنه.
2- . تفسير روح البيان 7:465.
3- . تفسير روح البيان 7:465.
4- . تفسير الرازي 26:143.
5- . تفسير الرازي 26:143، و الآية من سورة الرحمن:55/44.
6- . تفسير روح البيان 7:465.

بقوله: وَ لَقَدْ ضَلَّ و اللّه قَبْلَهُمْ بإضلال إبليس أَكْثَرُ القرون اَلْأَوَّلِينَ و الامم الماضين

وَ و اللّه لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ من قبلنا أنبياء مُنْذِرِينَ و مخوّفين لهم من العذاب على الشّرك و العصيان مع المعجزات الباهرة و البراهين القاطعة، فبيّنوا لهم بطلان عقائدهم، و سوء عاقبة كفرهم،

فما اعتنوا بإنذارهم فَانْظُرْ أيّها النبيّ، أو الناظر كَيْفَ كان عاقِبَةُ أمر الامم اَلْمُنْذَرِينَ و مآل كفرهم و طغيانهم،

فقد علمت أنّ عاقبتهم كانت أوخم العواقب و أسوأها إِلاّ عاقبة الذين كانوا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ فانّ عاقبتهم خير العواقب و أحسنها.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 75 الی 80

ثمّ لمّا ذكر سبحانه إرساله الرسل إلى الامم الضالة، ذكر بعض الأنبياء العظام و لطفه بهم بقوله: وَ لَقَدْ نادانا و دعانا نُوحٌ لتخليصه من إيذاء قومه و قتلهم إياه، و الأمن [من]

الغرق بالطّوفان فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ نحن لدعائه.

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ (79) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (80)

ثمّ بيّن سبحانه حسن إجابته له لقوله: وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أقاربه مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ و الغمّ الشديد، و هو أذى قومه،

أو الغرق بالطّوفان وَ جَعَلْنا بعد هلاك الخلق بالطّوفان ذُرِّيَّتَهُ و نسله فقط هُمُ اَلْباقِينَ على وجه الأرض.

روي أنّه مات كلّ من معه في السفينة غير أبنائه و أزواجهم، و هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة (1).

وَ تَرَكْنا على نوح، و أبقينا عَلَيْهِ فِي الامم اَلْآخِرِينَ الثناء و حسن الذكر

سَلامٌ من اللّه، أو من الملائكة و الثّقلين عَلى نُوحٍ و ذلك السّلام و التحية باق عليه فِي اَلْعالَمِينَ و امّة بعد أمّة. قيل: إنّ المراد الدعاء بثبوت هذه فيهم جميعا، كأنّه أثبت اللّه التسليم على نوح و أدامه في الملائكة و الثقلين، فيسلّمون عليه بكليّتهم (2).

قال القرطبي: جاءت الحية و العقرب لدخول السفينة، فقال نوح: لا أحملكما لأنّكما سبب الضرر و البلاء. فقالا: احملنا و نحن نضمن لك أن لا نضرّ أحدا ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرّتهما

ص: 301


1- . تفسير روح البيان 7:467.
2- . تفسير الرازي 26:145، تفسير روح البيان 7:468.

سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ لم يضرّاه (1).

عن الصادق عليه السّلام-في حديث-: «و بشّرهم نوح بهود، و أمرهم باتّباعه، و أن يقيموا الوصيّة كلّ عام فينظروا فيها، و يكون عيدا لهم، كما أمرهم آدم عليه السّلام، فظهرت الجبرية من ولد حام و يافث، فاستخفى ولد سام بما عندهم من العلم، و جرت على سام بعد نوح الدولة لحام و يافث، و هو قول اللّه عز و جل: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ يقول: تركت على نوح دولة الجبّارين، و يعزّي (2)اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بذلك. قال: و ولد لحام: السند و الهند و الحبش، و ولد لسام العرب و العجم، و جرت عليهم الدولة، و كانوا يتوارثون الوصية عالم بعد عالم حتى بعث اللّه هودا (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمه على نوح، بيّن استحقاقه لها بقوله: إِنّا كَذلِكَ و مثل تلك النّعم نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ و نفضّل عليهم بسبب إحسانهم.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 81 الی 85

ثمّ أثنى على نوح و ذكر إحسانه بقوله: إِنَّهُ كان أحدا مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ بتوحيدي و بما يجب الايمان به من البعث و غيره. و فيه بيان أنّ من أعظم درجات الانسان الايمان باللّه و الانقياد لطاعته.

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ (82) وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85)

ثمّ بين سبحانه غضبه على أعداء نوح بقوله: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بالطّوفان الأقوام اَلْآخَرِينَ المعاندين لنوح، و هم الكفار و المشركون.

قيل: إنّ كلمة (ثم) لبيان غاية البعد و تفاوت الرّتبة بين إنجاء نوح و أهله، و الإغراق المتراخي الزماني (4).

ثمّ بيّن سبحانه قصّة إبراهيم عليه السّلام الذي كان من اولي العزم بعد نوح عليه السّلام بقوله: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ و أتباعه و السالكين على منهاجه في التوحيد و الدعوة إليه، و الثبات على الحقّ، و تحمّل أذى القوم لَإِبْراهِيمَ. عن ابن عباس: من أهل دينه، و على سنته، أو ممّن شايعه في مصابرة المكذّبين (5).

قيل: كان بين نوح [و إبراهيم]ألفان و ستمائة و أربعون [سنة]و ما كان بينهما إلاّ نبيان: هود،

ص: 302


1- . تفسير القرطبي 9:32.
2- . في كمال الدين: و يعزّ.
3- . كمال الدين:135/3، تفسير الصافي 4:272.
4- . تفسير روح البيان 7:468.
5- . تفسير أبي السعود 7:196، تفسير روح البيان 7:468.

و صالح (1).

أقول: الظاهر أنّ المراد النبي المعروف، لأنّه لا شبهة أن الأرض لا تخلو من حجّة.

و عن الكلبي: أنّ المراد أنّ من شيعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله إبراهيم (2)، و إن لم يذكر اسمه الشريف قبل الآية، و كان إبراهيم قبل نبينا بكثير، لكنّه تابع له في الحقيقة (3).

إِذْ جاءَ رَبَّهُ و حين أقبل إلى خالقه و مالكه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الآفات النفسانية، و الهواجس الشيطانية، و العلائق الدنيوية. عن ابن عباس: إنّه يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه، و سلم جميع الناس من غشّه و ظلمة، و أسلمه اللّه تعالى فلم يعدل به أحدا (4).

و قيل: إنّ (إذ) متعلّق باذكر المقدّر (5).

و كان ظهور مجيئه ربّه و إقباله إلى مالكه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ الذين كانوا عبدة الأصنام إنكارا عليهم و توبيخا لهم ما ذا تَعْبُدُونَ و أيّ شيء هذه الأصنام التي لها تسجدون.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 86 الی 99

ثمّ بالغ في توبيخهم و لومهم بقوله: أَ إِفْكاً و كذبا أو باطلا آلِهَةً و معبودين دُونَ اَللّهِ و سوى المعبود المستحقّ للعبادة تُرِيدُونَ و تطلبون.

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ (98) وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)قيل: إنّ (إفكا) مفعولا له، و إنّما قدّمه لكون الأهمّ عنده أن يقرّر عندهم أنّهم على إفك و باطل في شركهم (6). و قيل: إنّه مفعول ل(تريدون) (7)أو حال، و المعنى أتريدون آلهة من دون اللّه آفكين (8).

فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ و حسبانكم في حقّه، أتظنون أنّه جعل لنفسه من الجمادات شركاء

ص: 303


1- . تفسير أبي السعود 7:197، تفسير روح البيان 7:469.
2- . تفسير الرازي 26:146، تفسير القرطبي 15:91.
3- . تفسير روح البيان 7:469.
4- . تفسير الرازي 26:146.
5- . تفسير البيضاوي 2:297.
6- . تفسير الرازي 26:147، تفسير روح البيان 7:469.
7- . تفسير الرازي 26:147.
8- . تفسير الرازي 26:147.

في العبادة، أو أنّه من جنس هذه الجمادات حتى جعلتموها مساوية له، أو تظنّون أنّه لا يؤاخذكم بإشراككم، أو أنّه غافل عن سيئات أعمالكم، و هو ربّ العالمين، لا يساويه (1)و ليس كمثله شيء، و لا يرضى بعبادة غيره، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

ثمّ صمّم إبراهيم عليه السّلام على أن يلزم قومه الحجّة على عدم قابلية (2)الأصنام للعبادة حتى خرج القوم إلى عيد لهم، فقالوا: يا إبراهيم، اخرج معنا إلى الصحراء و إلى عيدنا (3)، و كانوا على ما قيل يتعاطون علم النجوم (4)فَنَظَرَ إبراهيم نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فرآى موقعها و اتصالاتها، أو نظر في علم النجوم

فَقالَ اعتذارا من الخروج إِنِّي سَقِيمٌ و مريض لا يصلح لي الخروج.

عن ابن عباس: أنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم على مقتضى عادتهم، و ذلك أنّه أراد أن يكايدهم في أصنامهم، ليلزمهم الحجّة في أنّها غير معبودة، و كان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، فأراد أن يتخلّف عنهم، ليبقى خاليا في بيت الأصنام، فيقدر على كسرها (5).

قيل: إنّ المراد من قوله: إِنِّي سَقِيمٌ إنّي سأسقم، و كانت تأتيه سقامة كالحمّى في بعض ساعات الليل و النهار (6).

و قيل: كان له نجم مخصوص، كلّما طلع على صفة مخصوصة مرض (7).

و قيل: إنّ هذا الكلام منه على سبيل التعريض، و مراده أنّ الإنسان في أكثر أحواله لا ينفكّ عن حالة مكروهة (8)إمّا في بدنه، و إمّا في قلبه، و كل ذلك سقم (9).

و قيل: يعني سقيم القلب غير عارف بربّي، و كان ذلك قبل بلوغه (10).

و قيل: يعني مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر و الشرك (11).

و عن الباقر عليه السّلام: «و اللّه ما كان سقيما و ما كذب» (12).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّه حسب فرأى ما يحلّ بالحسين عليه السّلام، فقال: إنّي سقيم لما يحلّ 0بالحسين» (13).

قيل: إنّ القوم توهّموا من قوله إِنِّي سَقِيمٌ أنّه ابتلي بالطاعون لكثرته في زمانه (14)

فَتَوَلَّوْا

ص: 304


1- . في النسخة: لا يساومه.
2- . يريد استحقاق.
3- . في النسخة: معيدنا.
4- . تفسير روح البيان 7:469.
5- . تفسير الرازي 26:147.
6- . تفسير الرازي 26:147.
7- . تفسير الرازي 26:147.
8- . في النسخة: مكرهة.
9- . تفسير الرازي 26:148.
10- . تفسير الرازي 26:147.
11- . تفسير الرازي 26:147.
12- . الكافي 8:100/70، تفسير الصافي 4:273.
13- . الكافي 1:387/5، تفسير الصافي 4:273.
14- . تفسير أبي السعود 7:107، تفسير الصافي 4:273، تفسير روح البيان 7:470.

و أعرضوا عَنْهُ حال كونهم مُدْبِرِينَ و هاربين منه، لخوف السّراية،

فلمّا ذهب القوم و تركوه جاء إلى بيت الأصنام فَراغَ و ذهب خفية إِلى آلِهَتِهِمْ فرآى أنّ القوم وضعوا عندهم الطّعام لتحصل له البركة على ما قيل (1)فَقالَ لهم استهزاء بهم: أَ لا تَأْكُلُونَ من هذا الطعام؟

ثمّ بالغ في الاستهزاء بهم و قال ما لَكُمْ و أي حال عرض لكم أنّكم لا تَنْطِقُونَ و لا تكلّمون معي و لا تجيبوني؟

فَراغَ و أقبل عَلَيْهِمْ خفية فضربهم ضَرْباً شديدا بِالْيَمِينِ و بتمام القوّة التي كانت له. قيل: إنّ المراد فأقبل عليهم حال كونه ضاربا لهم بسبب الحلف على ضربهم بقوله: تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فلمّا رجع القوم من عيدهم (2)جاءوا إلى الأصنام على حسب رسمهم، فوجدوها مكسورة، فظنّوا بالقرائن أنّه عمل إبراهيم (3)

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ و توجّهوا نحوه، و هم يَزِفُّونَ و يسرعون في المشي.

ثمّ أنّه بعد ما جرت بينه و بين القوم من المحاورات التي حكاها سبحانه في سورة الأنبياء قالَ توبيخا لهم: أَ تَعْبُدُونَ يا قوم، و أنتم عقلاء ما تَنْحِتُونَ بأيديكم من الأحجار و الأخشاب؟ !

وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ بقدرته مادة و صورة وَ خلق ما تَعْمَلُونَ من الأصنام بإقداركم على نحتها.

و لمّا عجز نمرود و خواصه من إبطال حجّته قالُوا: يا قوم اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً رفيعا عظيما، و املأوه حطبا، و أشعلوا فيه النار لإحراق إبراهيم فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ و النار الشديدة الإيقاد. قيل: إنّ القائل رجل من أعراب فارس اسمه الهيزن (4).

عن ابن عباس، أنّه قال: بنوا حائطا من حجر، طوله في السماء ثلاثون ذراعا، و عرضه عشرون ذراعا، و ملأوه حطبا، و أشعلوا فيه نارا (5).

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً و شرّا عظيما، و هو إحراقه بالنار فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ و الأذلّين بإبطال كيدهم، و جعل النار عليه بردا و سلاما، و سعيهم في إهلاكه سببا لظهور حجّته و وضوح صدقه و علوّ رتبته

وَ قالَ للوط و لمن آمن به من بعد إنجاء اللّه إياه من النار: إِنِّي ذاهِبٌ و مهاجر من هذه القرية الظالم أهلها، و هي حرّان، أو بابل، أو هرمز بحرة (6)التي كانت بين البصرة و الكوفة إِلى بلاد الشام التي أمرني رَبِّي بالذّهاب إليها.

ص: 305


1- . تفسير روح البيان 7:470.
2- . في النسخة: معيدهم.
3- . تفسير روح البيان 7:470.
4- . تفسير روح البيان 7:471.
5- . تفسير روح البيان 7:471.
6- . الذي في معجم البلدان: هرمز جرد: ناحية في أطراف العراق، و هرمز قرة: قرية في طرف نواحي مرو، و لعل ما في المتن مصحف ما عن: هرمز جرد. معجم البلدان 5:463.

و قيل: أمر بالذّهاب إلى أرض فلسطين و هي بين الشام و مصر (1). أو المراد إلى موضع يكون فيه صلاح ديني (2)، أو إلى بيت المقدس، كما عن الصادق (1). و عن أمير المؤمنين عليهما السّلام في رواية: «فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى اللّه» (2). إنّه بلطفه سَيَهْدِينِ إلى الموضع الذي أمرني بالذّهاب إليه، و يرشدني إليه البتة على لطفه أو وعده.

روي أنّ إبراهيم لمّا جعل اللّه عليه النار بردا و سلاما، و أهلك عدوّة نمرود، و تزوّج بسارة، و كانت أحسن النساء وجها، و كانت تشبه حوّاء في حسنها، عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام (3).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 100 الی 111

ثمّ أن سارة اشترت هاجر، فوهبتها لإبراهيم (4)، فلمّا ملكها دعا ربّه بقوله: رَبِّ هَبْ لِي ولدا يكون مِنَ عبادك اَلصّالِحِينَ و الكاملين في العلم و العمل و الأخلاق، ليكون عونا لي على الطاعة و الدعوة،

و يؤنسني في الغربة فَبَشَّرْناهُ إجابة لدعائه بِغُلامٍ حَلِيمٍ و ولد صالح متحمّل للمشاقّ، صبور عند إصابة المكاره، لا يغلب عليه الغضب، و لا يعجل في الامور.

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّابِرِينَ (102) فَلَمّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْبَلاءُ اَلْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (111)قيل: إنّه تعالى جمع فيه بشارات ثلاث: الاولى: إنّه غلام، و الثانية: إنّه يبلغ أوان الحلم، و الثالثة: إنّه حليم، و من حلمه أنّه استسلم للذبح (5). قيل: ما نعت اللّه نبيا بالحلم لعزّة وجوده غير إبراهيم و ابنه (6).

فلما وهب له إسماعيل، و نشأ إلى أن بلغ رتبة [أن]

يعاون إبراهيم في حوائجه و مشاغله فَلَمّا بَلَغَ إبراهيم مَعَهُ اَلسَّعْيَ في مشاغله و مصالحه، أو السعي الذي هو أحد أعمال الحجّ، أراد اللّه أن

ص: 306


1- . الكافي 8:371/560، تفسير الصافي 4:274.
2- . التوحيد:266/5، تفسير الصافي 4:274.
3- . تفسير روح البيان 7:473.
4- . في النسخة: فوهبها من إبراهيم.
5- . تفسير الرازي 26:151، تفسير أبي السعود 7:199، تفسير روح البيان 7:473.
6- . تفسير البيضاوي 2:298، تفسير أبي السعود 7:199، تفسير الصافي 4:275.

يريه كمال حلم ولده، فأمره في المنام بذبحه.

قصة رؤيا إبراهيم،

و إقدامه بذبح ولده

روي أنّ إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأنّ قائلا يقول له: إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا، فلمّا أصبح تروّى في ذلك من الصباح إلى الرّواح، أمن اللّه هذا الحكم أم من الشيطان، فمن ثمّ سمّي يوم التروية، فلمّا أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنّه من اللّه، فسمّي يوم عرفة، ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره فسمّي يوم النحر (1).

و في (الكافي) عنهما عليهما السّلام: «لمّا كان يوم التروية قال جبرئيل لابراهيم: تروّ من الماء، فسمّي تروية، ثمّ أتى منى فأباته بها، ثمّ غدا إلى عرفات، فضرب خباءه بنمرة دون عرفة، و بنى مسجدا بأحجار بيض-إلى أن قال-: عمد به الى عرفات فقال: هذه عرفات، فاعرف بها مناسكك، و أعترف بذنبك، فسمّي عرفات. ثمّ أفاض إلى المزدلفة، فسمّيت المزدلفة لأنّه ازدلف إليها» (2).

و على أي تقدير، فجاء إبراهيم باسماعيل إلى منى، و هو ابن ثلاث عشر سنة على ما قيل (3)و قالَ له تلطّفا و إشفاقا يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنامِ ما يوجب عليّ أَنِّي أَذْبَحُكَ قربانا للّه. و قيل: إنّه رأى أنّه يذبحه (4)فَانْظُرْ و تفكّر فيما قلت ما ذا تَرى و أيّ شيء هو رأيك و مختارك؟ و إنّما استكشف رأيه ليعلم أنّه صابر في البلاء و منقاد لأمر اللّه أو جزوع آب من التسليم، و ليكون سنة في المشاورة، أو ما ترى من نفسك من الصبر و التسليم؟ فلمّا سمع إسماعيل ذلك من أبيه قالَ بلا ريث و تأمّل يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ به من ذبحي، و إنّما قال ما تؤمر و لم يقل ما امرت، للدلالة على أنّ انقياده لا يختصّ بخصوص الذبح الذي امر به، بل يعمّ لكلّ ما يؤمر به في حقّه سَتَجِدُنِي يا أبه إِنْ شاءَ اَللّهُ أن أكون صابرا مِنَ اَلصّابِرِينَ على الذبح، أو قضاء اللّه، و من المنقادين لأمر اللّه.

فَلَمّا أَسْلَما و انقادا لأمر اللّه، عن قتادة: أسلم إبراهيم ابنه، و إسماعيل نفسه (5)وَ تَلَّهُ و صرعه إبراهيم لِلْجَبِينِ و ألقاه على شقّه بحيث وقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر و جلد وَ نادَيْناهُ من جانب الجبل، أو من ميسرة مسجد الخيف أَنْ يا إِبْراهِيمُ كفّ عن ذبح ولدك،

فانّك قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا و عملت بما رأيت في المنام من العزم على الذبح، و إتيان مقدّماته التي كانت تحت يدك و قدرتك. قيل: إنّه تعالى أمرّ السّكّين بقوّته على منحره فلم يقطع، ثمّ وضع السّكّين على قفاه فانقلب السكّين (6).

ص: 307


1- . تفسير الرازي 26:153، تفسير البيضاوي 2:298، تفسير أبي السعود 7:200، تفسير روح البيان 7:473.
2- . الكافي 4:207/9، تفسير الصافي 4:277.
3- . مجمع البيان 8:706، تفسير الرازي 26:152.
4- . تفسير الرازي 26:153.
5- . تفسير الرازي 26:157، تفسير روح البيان 7:474.
6- . تفسير روح البيان 7:475.

قيل: إنّ جواب (لمّا) محذوف، و التقدير لمّا فعل ذلك و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، سعد سعادة عظيمة، و آتاه اللّه نبوّة ولده، و أجزل له الثواب (1).

و قيل: إنّ التقدير كان ما كان ممّا لا يحيط (2)به نطاق البيان من استبشارهما و شكرهما اللّه على ما أنعم عليهما من رفع البلاء بعد حلوله، و التوفيق لما لم يوفقّ أحد لمثله، و إظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم (3)إِنّا كما جزينا إبراهيم و ابنه بإحسانهما و طاعتهما كَذلِكَ نَجْزِي جميع اَلْمُحْسِنِينَ بالاحسان و الطاعة، أو إنّا كما فرّجنا عنهما الكربة بإحسانهما،

كذلك نجزي غيرهما من المحسنين إِنَّ هذا البلاء الذي ابتلينا به إبراهيم و ابنه و اللّه لَهُوَ اَلْبَلاءُ و الابتلاء اَلْمُبِينُ و المظهر للمخلص من غيره، أو إنّ ما فعلنا لهو المحنة البيّنة الصعوبة،

إذ لا شيء أصعب منها، و نجّينا إسماعيل من الذبح وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الجثّة أو عظيم القدر.

قيل: إنّ عظمة قدر هذا الفداء، لكونه فداء إسماعيل النبي و خاتم الأنبياء الذي كان في صلبه (4).

عن ابن عباس: أنّه الكبش الذي قرّبه هابيل فتقبّل منه، و كان يرعى في الجنّة حتى فدى به إسماعيل (5).

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «فلمّا كان في الليل أتى إبراهيم آت من ربّه، فأراه في الرؤيا ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكّة، فأصبح إبراهيم حزينا للرؤيا التي رآها، فلمّا حضر موسم ذلك العام حمل إبراهيم هاجر و إسماعيل في ذي الحجّة من أرض الشام، فانطلق بهما إلى مكّة ليذبحه في الموسم، فبدأ بقواعد البيت الحرام، فلمّا رفع قواعده خرج إلى منى حاجّا، و قضى نسكه بمنى، ثمّ رجع إلى مكّة، فطاف بالبيت اسبوعا، ثمّ انطلقا فلمّا صارا في السعي (6)، قال إبراهيم لاسماعيل: يا بني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك في الموسم عامي هذا، فما ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر. فلمّا فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى منى، و ذلك يوم النحر، فلمّا انتهى إلى الجمرة الوسطى، أضجعه لجبينه الأيسر و أخذ الشّفرة ليذبحه، نودي: أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا إلى آخره، و فدي إسماعيل بكبش عظيم، فذبحه و تصدّق بلحمه على المساكين» (7).

و في رواية عنهما عليهما السّلام: «ثمّ قام على المشعر الحرام، فأمره اللّه أن يذبح ابنه، و قد رأى شمائله و خلائقه، و آنس ما كان إليه، فلمّا أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لامّه: زوري البيت أنت.

ص: 308


1- . تفسير الرازي:26:157 و في النسخة: و اجزاله الثواب.
2- . في النسخة: يطاق.
3- . تفسير و روح البيان 7:476.
4- . تفسير و روح البيان 7:476.
5- . تفسير أبي السعود 7:201، تفسير روح البيان 7:477.
6- . في مجمع البيان: المسعى.
7- . مجمع البيان 8:710، تفسير الصافي 4:276.

و احتبس الغلام، فقال: يا بني هات الحمار و السكّين حتى اقرّب القربان، فانّ ربّك أين هو يا بني أنت و اللّه هو، إنّ اللّه تعالى قد أمرني بذبحك، فانظر ما ذا ترى؟ قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّابِرِينَ فلمّا عزم على الذبح قال: يا أبه خمّر (1)وجهي و شدّ وثاقي. قال: يا بني الوثاق مع الذبح! و اللّه لا أجمعهما عليك اليوم» .

إلى أن قال الباقر عليه السّلام: «فأضجعه عند الجمرة الوسطى، ثمّ أخذ المدية فوضعها على حلقه، ثمّ رفع رأسه الى السماء، ثمّ انتحى (2)عليه بالمدية فقلبها جبرئيل عن حلقه، فنظر إبراهيم فاذا هي مقلوبة، فقلبها إبراهيم على حدّها، و قلبها جبرئيل على قفاها، ففعل ذلك مرارا، ثمّ نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا و اجتّر الغلام من تحته، و تناول جبرئيل الكبش من قلّة ثبير (3)فوضعه تحته» (4).

و في رواية القمّي: «و نزل الكبش على الجبل الذي عن يمين مسجد منى، نزل من السماء، و كان يأكل في سواد، و يمشي في سواد، أقرن» . قيل: ما كان لونه؟ قال: «أملح، أغبر» (5).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «فلمّا عزم على ذبحه، فداه اللّه بذبح عظيم؛ بكبش أملح، يأكل في سواد، و يشرب في سواد، و ينظر في سواد، و يمشي في سواد، و يبول و يبعر في سواد، و كان يرتع (6)قبل ذلك في رياض الجنّة أربعين عاما، ما خرج من رحم انثى، و إنّما قال اللّه له كن فكان، ليفتدى به إسماعيل، فكلّما يذبح بمنى فهو فدية لاسماعيل إلى يوم القيامة.

إلى أن قال: و العلّة التي لأجلها دفع اللّه عزّ و جلّ الذبح عن إسماعيل هي العلّة التي من أجلها دفع اللّه الذبح عن عبد اللّه، و هي كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة في صلبهما، فببركة النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة دفع اللّه الذبح عنهما، فلم تجر [السنّة]في الناس بقتل أولادهم، و لو لا ذلك لوجب على الناس كلّ أضحى التقرّب إلى اللّه تعالى ذكره بقتل أولادهم، و كلّ ما يتقرّب به الناس من اضحيّة فهو فداء لإسماعيل إلى يوم القيامة» (7).

و عنه عليه السّلام: «لو خلق اللّه مضغة أطيب من الضأن، لفدى بها إسماعيل عليه السّلام» (8).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «لمّا أمر اللّه إبراهيم أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه،

ص: 309


1- . في النسخة: غمّر.
2- . انتحى: أي اعتمد و مال.
3- . ثبير: هو أعلى جبال مكة و أعظمها.
4- . الكافي 4:207/9، تفسير الصافي 4:277.
5- . تفسير القمي 2:226، تفسير الصافي 4:279.
6- . في النسخة: يربع.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:210 و 212/1، تفسير الصافي 4:279.
8- . الكافي 6:310/1، تفسير الصافي 4:280.

تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، و أنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: يا إبراهيم، من أحبّ خلقي إليك؟ قال: يا ربّ، ما خلقت خلقا أحبّ إلي من حبيبك محمد. فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم، هو أحبّ إليك أم نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي. قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح بيدك في طاعتي؟ قال: يا رب، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، إنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما و عدوانا، كما يذبح الكبش، و يستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم لذلك، فتوجّع قلبه، و أقبل يبكي، فأوحى اللّه تعالى إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين و قتله، و أوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (1).

ثمّ بيّن سبحانه زيادة تشريفه لإبراهيم بقوله، وَ تَرَكْنا و أبقينا عَلَيْهِ فِي الامم اَلْآخِرِينَ حسن الذّكر و الثّناء الجميل إلى يوم القيامة،

أو التحية له بقولهم: سَلامٌ من اللّه، أو من الملائكة و الثقلين عَلى إِبْراهِيمَ كما أبقينا على نوح هذه التحية

كَذلِكَ الجزاء الجزيل، و مثل هذا الأجر الجميل نَجْزِي جميع اَلْمُحْسِنِينَ الذين منهم إبراهيم حيث

إِنَّهُ مِنْ جملة عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ و أوليائنا المخلصين، لا من عباد الدنيا و أتباع النفس و الهوى.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 112 الی 122

ثمّ بيّن سبحانه زيادة تفضّله و إنعامه على إبراهيم بقوله: وَ بَشَّرْناهُ مع غاية كبره و عقم زوجته سارة و يأسها من الولد بِإِسْحاقَ و جعلنا ذلك الولد نَبِيًّا صالحا مِنَ جملة الأنبياء

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ (112) وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ اَلْغالِبِينَ (116) وَ آتَيْناهُمَا اَلْكِتابَ اَلْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي اَلْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (122)

ص: 310


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:209/1، تفسير الصافي 4:279.

اَلصّالِحِينَ و في وصفه بالصلاح بعد النبوة غاية تعظيم لشأنه،

و دلالة على كونه أعلى مراتب كمال الانسانية وَ بارَكْنا على إبراهيم و أنعمنا عَلَيْهِ بكثرة الأولاد وَ كذا عَلى ابنه إِسْحاقَ حيث أخرجنا من صلبه بني إسرائيل وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما و نسلهما مُحْسِنٌ كأنبياء بني إسرائيل الذين منهم موسى و عيسى و غيرهما من الرسل، وَ منهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ باختيار الكفر و ارتكاب المعاصي مُبِينٌ و ظاهر ظلمه. و فيه ردّ على اليهود حيث افتخروا بكونهم من ولد إسحاق و يعقوب، و دلالة على أنّ النسب لا أثر له في الصلاح و الفساد و الطاعة و العصيان. و في الحديث: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم، و تأتوني بأنسابكم» (1).

ثمّ بيّن سبحانه تفضّله على موسى و أخيه هارون بقوله: وَ لَقَدْ مَنَنّا و أنعمنا عَلى مُوسى وَ أخيه هارُونَ بنعمة النبوة و الرسالة و غيرهما من النّعم الدينية و الدنيوية

وَ نَجَّيْناهُما برحمتنا وَ نجّينا ببركتهما و بتبعهما قَوْمَهُما بني إسرائيل مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ و الغمّ الشديد الذي كان لهم من تعذيب فرعون و قومه

وَ نَصَرْناهُمْ على أعدائهم فَكانُوا بنصرتنا هُمُ اَلْغالِبِينَ على عدوّهم بعد أن كانوا مغلوبين و مقهورين،

و أنزلنا على موسى و هارون وَ آتَيْناهُمَا بعد نجاتهما و قومهما و إهلاك عدوّهما اَلْكِتابَ اَلْمُسْتَبِينَ و التوراة الواضح لجميع ما يحتاج إليه الناس من المعارف و الأحكام و الأخلاق و غيرها

وَ هَدَيْناهُمَا بالوحي و إيتاء الكتاب اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ و دللناهما على الطريق الواضح إلى قربنا و خير الدنيا و الآخرة و جنات النعيم

وَ تَرَكْنا و أبقينا عَلَيْهِما حسن الذّكر و الثناء فِي الامم اَلْآخِرِينَ و هم امّة خاتم النبيين

سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ و هو كلام اللّه كما في نظائره

إِنّا كما جزيناهما النّعم العظام كَذلِكَ نَجْزِي جميع اَلْمُحْسِنِينَ بإحسانهم إِنَّهُما مِنْ جملة عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 123 الی 125

في بيان دعوة إلياس

و غيبته

ثمّ ذكر سبحانه رسالة إلياس و كيفية دعوة قومه بقوله: وَ إِنَّ إِلْياسَ بن ياسين من سبط هارون على ما قيل (2)لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ من جانب اللّه إلى قومه.

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخالِقِينَ (125)

و قيل: إنّه إدريس النبي (3)، و على أيّ تقدير: اذكر يا محمد إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ نصحا و إنكارا عليهم الشّرك: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه و عذابه على الشّرك و العصيان.

ص: 311


1- . تفسير روح البيان 7:479. (2 و 3) . تفسير الرازي 26:161، تفسير روح البيان 7:481.

روي أنّه بعث بعد موسى يوشع بن نون، ثمّ كالب بن يوقنا، ثمّ حزقيل، فلمّا قبض حزقيل عظمت الأحداث في بني إسرائيل، و نسوا عهد اللّه، و عبدوا الأصنام و الأوثان، و كانت الأنبياء يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة، و بنو إسرائيل كانوا متفرّقين بأرض الشام، و كان سبط منهم حلّوا ببعلبك و نواحيها من أرض الشام، و هم السبط الذين كان منهم إلياس، فلمّا أشركوا و عبدوا الصنم و تركوا العمل بالتوراة، بعث اللّه إليهم إلياس نبيا (1).

فدعاهم إلى التوحيد، و قال لهم: ويلكم أَ تَدْعُونَ و تعبدون الجماد الذي سمّيتموه بَعْلاً مع أنّه لم يخلق ذبابا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخالِقِينَ و تتركون عبادته، مع أنّه خلق السماوات و الأرض و غيرهما بقدرته؟ !

قيل: إنّ بعلا كان اسم صنم لأهل بلدة بك من بلاد الشام، و هو اليوم معروف ببعلبك، و كان من ذهب طوله عشرون ذراعا و له أربعة أوجه، و في عينيه يا قوتتان كبيرتان، فتنوا به و عظّموه حتى أخدموه أربعمائة سادن، و جعلوهم أنبياء، فكان الشيطان يدخل جوفه، و يتكلّم بشريعة الضلالة، و السّدنة يحفظونها، و يعلّمونها الناس (2).

نقل كلام الفخر

وردّه

قال الفخر الرازي: هذا مشكل، لقدحه في كثير من معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله، كتكلّم الذئب و الجمل معه (3).

و فيه: أنّ المعجزة دليل الصدق في مورد إمكانه كنبوة نبينا، لا في مورد امتناع الصدق، فمن ادّعى النبوة، و دعا الناس إلى عبادة غير اللّه، هو كاذب و لو أتى بألف معجزة.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 126 الی 132

ثمّ صرّح الناس بالتوحيد و نفي الشرك، حيث فسّر أحسن الخالقين بقوله: اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ الذين كانوا قبل صنعكم هذا الصنم، فاذا لم يكن البعل ربّ آبائكم لا يكون ربّكم

فَكَذَّبُوهُ مع إتمامه الحجّة عليهم عنادا و لجاجا فَإِنَّهُمْ بتكذيب رسولهم و معارضتهم للحقّ لَمُحْضَرُونَ و يدخلون في النار يوم القيامة، و لا ينجو من اولئك القوم

إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ و الموحّدين الذين أخلصهم اللّه لنفسه

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ.

اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (132)

ص: 312


1- . تفسير روح البيان 7:482.
2- . تفسير روح البيان 7:481.
3- . تفسير الرازي 26:161.

سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. قيل: إنّ إلياس و إلياسين واحد، كما أنّ سيناء و سينين واحد (1). و قيل: إنّ ياسين اسم والد إلياس، و آله هو إلياس (2). و قيل: إنّه جمع اريد به إلياس و أتباعه المؤمنين به، كما يقال المهلّبيون (3).

و قال كثير من مفسّري العامة: إنّ (يس) اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المراد من آل يس آله كما عن ابن عباس (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ اللّه سمّى النبي صلّى اللّه عليه و آله بهذا الاسم، حيث قال: يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ لعلمه أنّهم يسقطون السّلام على آل محمد كما أسقطوا غيره» (5).

و عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام-في هذه الآية-قال: «يس محمد، و نحن آل يس» (6).

أقول: على هذا الشكل ارتباط الآية بما قبلها و ما بعدها من قوله: إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ.

روى بعض العامة أن إلياس دعا على قومه فقحطوا ثلاث سنين، فلم يرتدعوا عن الشرك، فلمّا رأى إلياس منهم ذلك دعا اللّه أن يريحه منهم، فقيل له: اخرج يوم كذا إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه. فخرج إلياس في ذلك اليوم مع خادمه اليسع، فوصل الموضع الذي أمر، فاستقبله فرس من النار، فركب عليه، فانطلق الفرس به إلى جانب السماء، فناداه اليسع، ما تأمرني، فألقى كساءه إليه من الجوّ فرفع اللّه إلياس، و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب، و كساه الريش (7).

و قيل: إنّه في الأرض غائب عن الانظار كالخضر، و هما آخر من يموت من بني آدم، و إلياس موكّل بالصحارى، و الخضر موكّل بالبحار (8).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 133 الی 138

قصة لوط عليه السّلام

ثمّ ذكر سبحانه لطفه بلوط، و غضبه على أعدائه و قومه بقوله: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إلى أهل سدوم،

و اذكر يا محمد إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ و عياله

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاّ عَجُوزاً فِي اَلْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)

ص: 313


1- . تفسير الصافي 4:282، تفسير روح البيان 7:482.
2- . تفسير الصافي 4:282، تفسير روح البيان 7:482.
3- . تفسير الرازي 26:162، تفسير أبي السعود 7:204.
4- . جوامع الجامع:401.
5- . الاحتجاج:253، تفسير الصافي 4:282.
6- . معاني الأخبار:122/2، تفسير الصافي 4:281.
7- . تفسير روح البيان 7:483.
8- . تفسير روح البيان 7:483.

أَجْمَعِينَ من العذاب

إِلاّ امرأة عَجُوزاً مسنّة، قدّرنا أن تكون فِي اَلْغابِرِينَ و الباقين في العذاب و الهلاك، أو في الماضين و الهالكين

ثُمَّ بعد انجائهم دَمَّرْنَا و أهلكنا بالعذاب اَلْآخَرِينَ من قومه بكفرهم و طغيانهم

وَ إِنَّكُمْ يا أهل مكّة و اللّه لَتَمُرُّونَ في أسفاركم إلى الشام عَلَيْهِمْ و على ديارهم المخروبة و منازلهم المنهدمة حال كونهم مُصْبِحِينَ وَ متلبّسين بِاللَّيْلِ قيل: إنّ المراد تعميم الأوقات يعني ليلا و نهار (1)أَ تشاهدون ذلك فَلا تَعْقِلُونَ و لا تدركون أنّهم كانوا مثكلم في الكفر و العصيان؟ فتخافوا أن ينزل بكم ما نزل بهم، و أن يصيبكم مثل ما أصابكم من العذاب.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم القرآن تقرأون ما قصّ اللّه عليكم من خبرهم» (2).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 139 الی 148

قصة يونس بن

متى عليه السّلام

ثمّ ذكر سبحانه قصة يونس بن متى بقوله: وَ إِنَّ يُونُسَ بن متّى، الملقب بذي النون من أولاد هود على ما قيل (3)لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ من اللّه إلى بقية قوم ثمود بنينوى من بلاد الموصل على ما قيل (4)، و عن ابن عباس: أنّه كان يسكن فلسطين (5).

و اذكر يا محمد إِذْ أَبَقَ و هرب يونس من قومه خجلا أو خوفا من أن يظنّوه كاذبا في وعيده بإهلاكهم بلا انتظار الوحي إلى ناحية البحر، فانتهى إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ و المملوء من الناس و المتاع.

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)روي أنّه لما دخل السفينة و توسّط البحر، و احتبست من الجري و وقفت، فقال الملاحون: هنا عبد آبق من سيده، و هذا رسم السفينة إذا كان آبق لا تجري (6).

و قيل: إنّهم قالوا: إنّ فيكم عاصيا، و إلاّ لم يحصل ما نراه من غير ريح و لا سبب ظاهر، و قال التجّار:

ص: 314


1- . تفسير روح البيان 7:485.
2- . الكافي 8:249/349، تفسير الصافي 4:282.
3- . تفسير روح البيان 7:486.
4- . تفسير روح البيان 7:486.
5- . تفسير الرازي 26:164.
6- . تفسير روح البيان 7:487.

قد جرّبنا مثل هذا، فاذا رأينا ذلك نقرع، فمن خرج اسمه نرميه في البحر، لأنّ غرق الواحد خير من غرق الكلّ (1).

فَساهَمَ و أقرع أهل السفينة، أو يونس مع أهل الفلك ثلاث مرات فَكانَ يونس مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ و المغلوبين بالقرعة، فقال يونس: أنا العبد الآبق، و أنا و اللّه العاصي، فتلفّف في كسائه، و قام على رأس السفينة، فرمى بنفسه في البحر (2).

فَالْتَقَمَهُ و ابتلعه اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ نفسه على خروجه من بين قومه بلا إذن من اللّه تعالى.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّه لمّا ركب مع القوم، فوقفت في اللّجّة، و استهموا فوقع السّهم على يونس ثلاث مرات، فمضى يونس إلى صدر السفينة، فاذا الحوت فاتح فاه، فرمى بنفسه» (3).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «فلمّا توسطوا البحر، بعث اللّه حوتا عظيما، فحبس عليهم السفينة، فنظر إليه يونس، ففزع منه، و صار إلى مؤخرّ السفينة، فدار إليه الحوت، ففتح فاه، فخرج أهل السفينة فقالوا: فينا عاص، فتساهموا فخرج سهم يونس، و هو قول اللّه تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ فأخرجوه، و ألقوه في البحر، فالتقمه الحوت، و مرّ به في الماء» (4).

روي أنّ اللّه تعالى أوحى إلى السمكة: أنّي لم أجعله لك رزقا، و لكن جعلت بطنك له وعاء، فلا تكسري منه عظما، و لا تقطعي منه وصلا (5).

قيل: فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى (6)، فمكث في بطنه أربعين ليلة (7). و قيل: شهرا، و قيل: عشرين يوما. و قيل: سبعة أيام. و قيل: ثلاثة أيام (8). و كان يسبّح اللّه بقوله: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ.

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ و الذاكرين اللّه كثيرا بالتسبيح،

أو من القائمين بحقوق اللّه قبل البلاء لَلَبِثَ و مكث حيا أو ميتا فِي جوف الحوت و بَطْنِهِ من حين دخوله فيه إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من القبور للحساب و جزاء الأعمال، أما ببقائهما حيّين أو ميتين فيكون بطن الحوت قبر يونس، و لكن لم يلبث لكونه من المسبّحين، و فيه الحثّ على ذكر اللّه بالتسبيح و التهليل.

ص: 315


1- . تفسير الرازي 26:164، تفسير روح البيان 7:487.
2- . تفسير الرازي 26:165، تفسير روح البيان 7:487.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:51/173، تفسير الصافي 4:283.
4- . تفسير القمي 1:318، تفسير الصافي 4:283.
5- . تفسير روح البيان 7:487.
6- . تفسير روح البيان 7:487.
7- . تفسير أبي السعود 7:206، تفسير روح البيان 7:487.
8- . تفسير الرازي 26:165.

روي عن ابن عباس أنّ السمكة أخرجته إلى نيل مصر، ثمّ إلى بحر فارس، ثمّ إلى بحر البطائح، ثمّ إلى دجلة (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ الحوت قد طاف به في أقطار الأرض و البحار، و مرّ بقارون» (2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يسبّح يونس في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربّنا إنّا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة؟ فقال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك [منه]في كلّ يوم و ليلة عمل صالح؟ فقال: نعم، فشفعوا له، فأمر الحوت فقدّمه في الساحل،

فذلك قوله تبارك و تعالى: فَنَبَذْناهُ» (3). و ألقيناه بِالْعَراءِ و المكان الخالي من الشجر و النبات وَ هُوَ سَقِيمٌ و عليل لضعف بدنه، حيث إنّه صار كالفرخ المنتوف لا لحم له و لا شعر. قيل: سقيم بمعنى سليب (4). قيل: ألقاه الحوت بأرض نصيبين (5)

وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ و قرع لتظلّه من الشمس، و تمنع بدنه من الذّباب، فانّه على ما قيل لا يقع عليه الذّباب (6). و كان يأكل من ثمرها حتى تشدّد.

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تحب القرع؟ قال: «بلى، هي شجرة أخي يونس» (7).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيّام-إلى أن قال-: فاخرجه الحوت و ألقاه بالساحل، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين-و هو القرع-فكان يمصّه و يستظلّ به و بورقه، و كان تساقط شعره، ورقّ جلده» (8).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فأمر الحوت أن يلفظه على ساحل البحر، و قد ذهب جلده و لحمه، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين-و هي الدّبّاء-فأظلّته من الشمس فسكن، ثمّ أمر اللّه الشجرة فتنحّت عنه، و وقعت الشمس عليه فجزع، فأوحى اللّه إليه: يا يونس، لم ترحم مائة ألف أو يزيدون، و أنت تجزع من ألم ساعة! قال: ربّ عفوك عفوك، فرّد اللّه عليه بدنه» (9).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-: «فلمّا قوي و أشتدّ بعث اللّه دودة فأكلت أسفل القرع، فذبلت القرعة، ثمّ يبست، فشقّ ذلك على يونس، فظلّ حزينا، ثمّ أوحى اللّه إليه مالك حزينا يا يونس؟ قال: يا ربّ هذه الشجرة التي كانت تنفعني، فسلّطت عليها دودة فيبست. قال: يا يونس، أحزنت لشجرة لم

ص: 316


1- . تفسير الرازي 26:165.
2- . تفسير نور الثقلين 4:435.
3- . تفسير الرازي 26:165، تفسير روح البيان 7:488.
4- . تفسير الرازي 26:166.
5- . تفسير روح البيان 7:488.
6- . تفسير البيضاوي 2:302، تفسير روح البيان 7:489.
7- . تفسير البيضاوي 2:302، تفسير أبي السعود 7:206، تفسير روح البيان 7:489.
8- . تفسير القمي 1:319، تفسير الصافي 4:284.
9- . تفسير القمي 1:319، تفسير الصافي 4:284.

تزرعها، و لم تسقها، و لم تعن (1)بها أن يبست حين استغنيت عنها، و لم تحزن لأهل نينوى، أكثر من مائة ألف أردت أن ينزل عليهم العذاب» (2).

و قيل: إنّ اليقطين كلّ شجرة لا تقوم على ساق، و تمتدّ على وجه الأرض كالدّبّاء و الحنظل و البطّيخ (3)و قيل: إنّه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع. فقال: و من جعل القرع بين الشجر يقطينا؟ كلّ ورقة اتسعت و سترت فهي يقطين (4).

و قال: أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، فكان يستظلّ بها، و يأكل من ثمرها حتى تشدّد، ثمّ إنّ الأرضة أكلتها، فخرّت من أصلها، فحزن يونس لذلك حزنا شديدا، فقال: يا ربّ كنت استظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس و الريح، و امصّ من ثمرها، و قد سقطت؟ فقيل له: يا يونس، تحزن على شجرة أنبتت في ساعة، و قلعت في ساعة، و لا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم، فانطلق إليهم (5).

و في الرواية الباقرية عليه السّلام: «قال اللّه تعالى: إنّ أهل نينوى آمنوا و اتّقوا، فارجع إليهم» (6). كما قال سبحانه: وَ أَرْسَلْناهُ ثانيا إلى قومه الذين خرج من بينهم، و كان عددهم بالغا إِلى مِائَةِ أَلْفٍ نفس أَوْ يَزِيدُونَ على مائة ألف بثلاثين ألف، كما عن الصادق عليه السّلام (7)، أو بعشرين ألف في نظر الرائي و تقديره (8).

قيل: إنّ المراد إرساله فيهم قبل التقامه الحوت حيث إنّه أخبر أولا بأنّه من المرسلين، و الواو لمطلق الجمع (9)، و ذكره بعد قصة هربه و ما بعده، للدلالة على مقدار من أرسل إليهم عددا. و قيل: إنّه لم يكن قبل التقامه الحوت نبيا، و كانت رسالته بعده (10).

عن ابن عباس، قال: إنّه كان يسكن مع قومه فلسطين، فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا، و بقي سبطان و نصف، و كان اللّه أوحى إلى بني إسرائيل: إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة، فادعوني استجب لكم. فلمّا نسوا ذلك و اسروا، أوحى تعالى بعد حين إلى نبيّ من أنبيائهم: أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام و قل له حتّى يبعث إلى بني إسرائيل نبيا. فاختار يونس [لقوّته] و أمانته. قال يونس: اللّه أمرك بهذا؟ قال: لا، و لكن امرت أن أبعث قويا أمينا و أنت كذلك. فقال

ص: 317


1- . في تفسير القمي: تعي.
2- . تفسير القمي 1:319، تفسير الصافي 4:284.
3- . تفسير الرازي 26:166، تفسير أبي السعود 7:206.
4- . تفسير الرازي 26:166.
5- . تفسير الرازي 26:165.
6- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 4:285.
7- . تفسير الصافي 4:284.
8- . تفسير روح البيان 7:489.
9- . تفسير الرازي 26:166.
10- . تفسير الرازي 26:163.

يونس: و في بني إسرائيل من هو أقوى منّي، فلم لا تبعثه؟ فألحّ الملك عليه، فغضب يونس منه، و خرج حتّى أتى بحر الروم، و وجد سفينة مشحونة (1). و ذكر قصة الحوت، قال: كانت رسالته بعد ما نبذه الحوت (2).

أقول: هذا مخالف لرواياتنا.

روي أنّ يونس خرج من العراء و مرّ بجانب نينوى، فرآى هناك غلاما يرعى، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس. قال: فاذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم منّي السّلام، و أخبرهم أنّك لقيت يونس و رأيته. فقال الغلام: إن تكن يونس [فقد]تعلم أنّ من يحدّث و لم تكن له بينة قتلوه، و كان في شريعتهم أن من كذّب قتل، فمن يشهد لي؟ فقال له يونس: تشهد لك هذه الشجرة و هذه البقعة. فقال الغلام ليونس: مرهما بذلك؟ فقال: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له. قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فأتى الملك، فقال: إني لقيت يونس، و هو يقرأ عليكم السّلام، فأمر الملك أن يقتل. فقال: إنّ لي بينة. فأرسل معه جماعة، فانتهوا إلى الشجرة و البقعة. فقال لهما الغلام: أنشدكما اللّه عزّ و جلّ هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم. فرجع القوم مذعورين، فأتو الملك فحدّثوه بما رأوا، فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في منزله، و قال له: أنت أحقّ مني بهذا المقام و الملك؟ فأقام بهم الغلام أربعين سنة (3).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «فانطلق يونس إلى قومه، فلمّا دنا من نينوى، استحيى أن يدخل، فقال لراع لقيه: إئت أهل نينوا فقل لهم: إنّ هذا يونس قد جاء. فقال الراعي: أتكذب، أما تستحي و يونس قد غرق في البحر و ذهب؟ قال يونس: اللهمّ إنّ هذه الشاة تشهد لك أنّي يونس. و انطقت الشاة له بأنّه يونس، فلما أتى الراعي و أخبرهم أخذوه و همّوا بضربه. فقال: إنّ لي بينة أقول. قالوا: فمن يشهد لك؟ قال: هذه الشاة تشهد. فشهدت بأنّه صادق و أن يونس قد ردّه اللّه إليكم.

فخرجوا يطلبونه، فوجدوه فجاءوا به فَآمَنُوا بيونس بعد رجوعه إليهم و حسن إيمانهم» كما عن الباقر عليه السّلام (4).

و روى بعض العامة أنّ قومه آمنوا فسألوه أن يرجع إليهم فابى يونس، لأنّ النبي إذا هاجر لم يرجع إليهم مقيما فيهم (5).

و قيل: إنّ المراد فآمنوا باللّه بعد مشاهدتهم آثار نزول العذاب (6)، و تابوا من الشرك و العصيان فَمَتَّعْناهُمْ و نفعناهم بالحياة الدنيا و نعمها إِلى حِينٍ قدّرناه لهم، و الوقت الذي جعلناه أجلا

ص: 318


1- . تفسير الرازي 26:164.
2- . تفسير الرازي 26:166.
3- . تفسير روح البيان 7:489.
4- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 4:285.
5- . تفسير روح البيان 7:490.
6- . تفسير أبي السعود 7:206، تفسير روح البيان 7:489.

لكلّ واحد منهم، و إنّما أخّر سبحانه قصة يونس، لأنّ في قصص سائر الأنبياء ترغيب إلى الصبر و تحمّل الأذى، و في قصته تهديد على قلّة الصبر، و الترغيب مقدّم على الترهيب، كذا قيل (1).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 149 الی 150

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أدلة التوحيد و المعاد، و وصف ذاته المقدسة بنعوت الكمال و غاية العظمة و الجلال و التفرّد بالخلق و الربوبية، و بّخ قريشا و بني مليح و جهينة و خزاعة و بني سلمة القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ يا محمّد و استطلع رأيهم على سبيل التوبيخ و التجهيل أَ لِرَبِّكَ الخالق لجميع الموجودات الغنيّ عن الكائنات اَلْبَناتُ من الأولاد مع استنكافهم منهنّ بحيث يقتلونهنّ إذا ولدن لهم أو يدفنونهن أحياء وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ الذين هم أرفع الأولاد بحيث يفتخرون بهم؟ ! لا يمكن ذلك أبدا، فانّ الخالق لا يختار لنفسه الأحسن، و لمخلوقاته الأرفع.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَناتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150)قيل: إنّهم قالوا: إنّ اللّه تعالى تزوّج من الجنّ، فخرجت منها الملائكة، فهم بنات اللّه، لذا سترن من العيون (2).

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخهم و تبكيتهم بقوله: أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلائِكَةَ الذين هم أشرف الموجودات و أبعدهم من الصفات الجسمانية و الرذائل الطبيعية إِناثاً مع أنّ الانوثة من خسائس صفات البشرية وَ هُمْ شاهِدُونَ أنوثتهم، فانّ الحكم بانوثة حيوان لا يمكن إلاّ بالمشاهده، لعدم الطريق للعقل إلى درك الامور الجزئية، و عدم نقل ممّن شاهد الملائكة كالأنبياء و الرسل، مع أنّهم ينكرون رسالة البشر.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 151 الی 157

ثمّ أنّ الأقبح من إسناد الانوثة إلى الملائكة إسناد الولادة إلى اللّه الخالق لجميع الموجودات الغنيّ عن الكائنات، و لذا أعلن في العالم بغاية جهالتهم بقوله: أَلا تنبهّوا أيّها العقلاء إِنَّهُمْ مِنْ أجل

أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اَللّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى اَلْبَناتِ عَلَى اَلْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)

ص: 319


1- . تفسير الرازي 26:263، تفسير روح البيان 7:491.
2- . تفسير روح البيان 7:491.

إِفْكِهِمْ و توغّلهم في الباطل، و حرصهم على أسوأ الكذب و أقبح الافتراء لَيَقُولُونَ ما تشهد العقول على بطلانه و فساده،

و هو قولهم: إنّه وَلَدَ اَللّهُ الملائكة وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم كذبا لا يشكّ فيه ذو مسكة، لوضوح أنّ الولادة من خصائص الجسمانيات، و اللّه خالق جميع الأجسام و غيرها من الموجودات، مع أنّ طلب الولد من لوازم الحاجة، و اللّه تعالى هو الغنيّ المطلق له ما في السماوات و الأرض.

ثمّ على فرض المحال إمكان الولادة منه تعالى أَصْطَفَى و هل اختار لنفسه اَلْبَناتِ التي هي أحسن الأولاد عَلَى اَلْبَنِينَ الذين هم أكمل الأولاد، مع أنّه تعالى أكمل الموجودات، و لا يمكن للأكمل أن يختار لنفسه إلاّ الأكمل

ما لَكُمْ أيّها الجهّال كَيْفَ تَحْكُمُونَ على اللّه القادر على كلّ شيء الغنيّ عن كلّ شيء بهذا الحكم الذي تحكم ببطلانه بديهة العقل، و يتنفر منه جميع العقلاء؟

أَ تقولون ذلك القول فَلا تَذَكَّرُونَ و لا تفهمون شناعته، و لا تتنبّهون بنهاية قباحته؟ ! أتدّعون انوثة الملائكة بهوى أنفسكم، أو بتقليد آبائكم و كبرائكم

أَمْ لَكُمْ على هذه الدعوى سُلْطانٌ مُبِينٌ و حجّة واضحة، و دليل قاطع من أخبار نبيّ أو كتاب منزل عليكم من السماء، فيه بيان صفات الملائكة؟ !

فان نزل عليكم كتاب فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الناطق بصحّة دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تدّعون من كون الملائكة إناثا، و في نزول الكتاب إليكم.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 158 الی 160

ثمّ أنّ جمعا من الزنادقة (1)كانوا قائلين على ما قيل بأنّ الشيطان أخ اللّه، فاللّه تعالى خالق الخير، و الشيطان خالق الشر (2). فوبّخهم اللّه سبحانه على هذا القول بقوله: وَ جَعَلُوا بهوى أنفسهم بَيْنَهُ تعالى وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ و الشياطين نَسَباً خاصا، و هو القرابة بالاخوة.

وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ (159) إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (160)و قيل: إنّ المراد بالجنّة جماعة الجنّ (3)، و بالنسب المصاهرة و المزاوجة، كما مرّ حكايته عن بعض المشركين. قيل: إنّ كفار قريش لمّا قالوا: الملائكة بنات اللّه. قال أبو بكر: فمن امهاتهم؟ قالوا: سروات

ص: 320


1- . و هم المجوس القائلون بيزدان و أهرمن، كما في تفسير الرازي.
2- . تفسير الرازي 26:168، تفسير أبي السعود 7:208.
3- . في النسخة: بالجنة الأجنة، و ما أثبتناه من تفسير روح البيان، ذلك لأن الأجنة جمع جنين، اما الجن فهي اسم جنس يدل على الجمع، و واحده جني. تفسير روح البيان 7:492.

الجن (1).

و قيل: إنّ المراد بالجنّة الملائكة، لاجتنانهم و اختفائهم عن الأبصار (2)، و النسب الولادة حيث قالوا: إنّ الملائكة بنات اللّه.

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ بالمعنى الأول و الثاني إِنَّهُمْ أنفسهم لَمُحْضَرُونَ في النار، و المعذّبون فيها، و لو كان الشياطين اخوة اللّه أو الجنّ (3)أزواجه ما احضروا في النار، و على الوجه الثالث يكون مرجع ضمير الجمع القائلون بكون الملائكة بنات اللّه،

ثمّ نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن تلك النّسب القبيحة غير اللائقة بالالوهية بقوله: سُبْحانَ اَللّهِ و تنزّه واجب الوجود عَمّا يَصِفُونَ به و ينسبون إليه من الولد و الأخ و الزوج.

و قيل: إنّ التسبيح من الملائكة، و المراد: و لقد علمت الملائكة أنّ المشركين لمحضرون، و قالوا: سبحان اللّه عما يصفون (4).

ثمّ استثنوا أنفسهم عن أولئك الواصفين بقوله: إِلاّ عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ و المعنى: و لكن عباد اللّه المخلصين الذين نحن منهم براء من ذلك التوصيف، بل نصفه بالصفات العليا، و على كونه كلام اللّه يكون المعنى: و لكن عباد اللّه المخلصين لا يصفونه بتلك الصفات.

و قيل: إنّ الاستثناء راجع إلى ضمير الجمع في (محضرون) و المعنى لكن عباد اللّه المخلصين لا يحضرون، بل هم ناجون (5).

و قيل: إن الاستثناء من معنى ضمير الجمع في قوله: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً (6)و الأقرب هو الوجه الثاني.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 161 الی 164

ثمّ عاد سبحانه إلى خطاب المشركين، و نبّههم بأنّ إضلالهم الناس لا أثر له إلاّ فيمن قدّر اللّه دخوله في النار بقوله: فَإِنَّكُمْ أيّها المشركون وَ ما تَعْبُدُونَ من دون اللّه من الأصنام و غيرها

ما أَنْتُمْ بتوصيفكم اللّه بصفات غير لائقة بجنابه عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ و مضلّين أحدا من الناس

إِلاّ مَنْ هُوَ في علم اللّه و تقديره صالِ اَلْجَحِيمِ و ملق نفسه فيها في الآخرة لخبث ذاته و سوء اختياره و رذالة

فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاّ مَنْ هُوَ صالِ اَلْجَحِيمِ (163) وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164)

ص: 321


1- . تفسير الرازي 26:168، تفسير أبي السعود 7:209.
2- . تفسير الرازي 26:168، تفسير روح البيان 7:493.
3- . في النسخة: أو الأجنة.
4- . تفسير أبي السعود 7:209، تفسير روح البيان 7:494.
5- . تفسير الرازي 26:169.
6- . تفسير الرازي 26:169.

صفاته.

قيل: إنّ كلمة (الواو) في قوله: وَ ما تَعْبُدُونَ بمعنى مع، و الجملة خبر كلمة (إنّ) (1)و المعنى: إنّكم دائما مع ما تعبدون لا تفارقونه و لا تتركون عبادته أبدا، و إنّ ضمير (عليه) راجع إلى كلمة (ما) في (وَ ما تَعْبُدُونَ) و المعنى: ما أنتم أيّها المشركون على ما تعبدون بفاتنين و بباعثين و حاملين على طريق الفتنة و الاضلال إلاّ من هو صال الجحيم مثلكم (2).

ثمّ ردّ اللّه سبحانه القائلين بكون الملائكة بنات اللّه بما يظهر الملائكة المقرّبون في مقام العبودية و الانقياد للخدمة من قولهم: وَ ما مِنّا أحد إِلاّ و يكون لَهُ مَقامٌ و شغل معين في إصلاح العالم، و عبادة موظّفة كلّها مَعْلُومٌ لنا لا نقدر أن نتجاوز و لا نستطيع أن ننزل منه خضوعا لعظمة اللّه، و خشوعا لهيبته و تواضعا لجلاله.

روي أنّ منهم راكعا لا يقيم صلبه، و ساجدا لا يرفع رأسه (3). و عن ابن عباس: ما في السماوات موضع شبر إلاّ و عليه ملك يصلّي و يسبّح (4).

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 165 الی 170

ثمّ بيّنوا قيامهم للخدمة بقولهم: وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ لأداء الطاعة و الاشتغال بالخدمة وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ للّه، و منزّهونه عن الشريك و الولد، و سائر ما لا يليق بمقام ربوبيته و وجوب وجوده. قال بعض العامة: الأوّل إشارة إلى درجاتهم في الطاعة، و الثاني إلى درجاتهم في المعرفة (5).

وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ (165) وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ (168) لَكُنّا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)و عن (نهج البلاغة) في وصف الملائكة: «صافّون لا يتزايلون، مسبّحون لا يسأمون» (6).

القمي رحمه اللّه: قال جبرئيل: إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ* وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «كنّا أنوارا صفوفا حول العرش، نسبّح فيسبّح أهل السماء بتسبيحنا، إلى أن هبطنا إلى الأرض فسبّحنا، فسبّح أهل الأرض بتسبيحنا وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ* وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ» (8).

ص: 322


1- . تفسير الرازي 26:169.
2- . تفسير الرازي 26:169.
3- . تفسير روح البيان 7:495.
4- . تفسير روح البيان 7:495.
5- . تفسير البيضاوي 2:304، تفسير الصافي 4:286.
6- . نهج البلاغة:41، تفسير الصافي 4:286.
7- . تفسير القمي 2:227، تفسير الصافي 4:286.
8- . تفسير القمي 2:228، تفسير الصافي 4:286.

قيل: إنّ في قولهم إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ* وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ دلالة على حصر الصفّ في العبادة، و التسبيح بهم، فدلّ على أنّ عبادة غيرهم من الثقلين و تسبيحهم بالنسبة إلى عبادتهم و تسبيحهم كالعدم (1).

و إن كان تأويله في الأئمة عليهم السّلام يدلّ على أنّ عباده الملائكة و تسبيحهم في جنب عبادتهم و تسبيحهم كالعدم، أو المراد العبادة الاستقلالية و الأولية لا التبعية.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين بخلفهم و نقضهم العهد بقوله: وَ إِنْ كانُوا قبل بعثه النبي صلّى اللّه عليه و آله و نزول القرآن لَيَقُولُونَ اعتذارا عن شركهم و تقليد آبائهم

لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً و كتابا مِنَ كتب الامم اَلْأَوَّلِينَ كالتوراة و الإنجيل

لَكُنّا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ و الموحّدين الخالصين، و لما خالفنا كتابنا كما خالفت الامم كتبهم، و لمّا لم ينزل علينا كتاب ناطق بالتوحيد و بطلان عبادة الأصنام، قلّدنا آباءنا الأقدمين، و قلنا بما قالوا. فلمّا جاءهم ذكر هو سيد الأذكار، و كتاب مهيمن على سائر الكتب متضمّن للتوحيد و المعارف و الحكم و الأحكام و دلائل الصدق

فَكَفَرُوا بِهِ و أنكروا صدقه، و نسبوه إلى الشعر و السحر و الكهانة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و خامة عاقبة كفرهم و سوء نتيجته، و هو الخذلان و القتل و الأسر في الدنيا، و العذاب الأليم الدائم في الآخرة.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 171 الی 175

ثمّ أنّ اللّه تبارك و تعالى بعد تهديد الكفّار و المشركين بالخذلان و العذاب، ذكر نصرته لانبيائه عليهم السّلام بقوله: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ و و اللّه لقد تقدّمت في الأزل، أو في اللّوح المحفوظ كَلِمَتُنا و وعدنا لِعِبادِنَا الخلّصين و أنبيائنا اَلْمُرْسَلِينَ إلى الناس لهدايتهم و دعوتهم إلى التوحيد، و معرفة اللّه بصفات الكمال و الجلال،

و تلك الكلمة و ذلك الوعد هو قولنا: إِنَّهُمْ فقط لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ من قبلنا في الدنيا و الآخرة على مخالفيهم

وَ إِنَّ جُنْدَنا و عسكرنا، و هم المرسلون و أتباعهم الذين يحامون عن ديننا و كتبنا لَهُمُ اَلْغالِبُونَ على أعدائهم بالمال، و إن فرضت الجولة و الدولة لغيرهم في برهة من الزمان، و أمّا الغلبة بالحجّة فهي لهم في جميع الأزمان و الأوان، و لا يكون لغيرهم و لو في آن.

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ اَلْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)

ثمّ أنّ اللّه تبارك و تعالى بعد تقوية قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّصرة، أمره بترك مقاتلة أعدائه بقوله: فَتَوَلَّ

ص: 323


1- . تفسير الرازي 26:171.

يا محمّد، عن المشركين المعاندين، و أعرض عَنْهُمْ و اصبر على أذاهم، و لا تقاتلهم حَتّى حِينٍ و وقت معين نأمرك فيه بقتالهم قيل: هو يوم بدر، و قيل: يوم الفتح (1)،

وَ أَبْصِرْهُمْ في ذلك الوقت، أو في الحال على أسوأ حال و أفظع نكال حلّ بهم من القتل و الأسر و الأمر بالإبصار في الحال للإيذان بقربه، كأنّه بين يديه يبصره في الوقت فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ و عن قريب يعاينون ما يحلّ بهم من الشرور.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 176 الی 179

ثمّ لمّا كان في الآية تهديد المشركين بالعذاب، كانوا يقولون استهزاء به: متى ينزل ذلك العذاب؟ أنكر اللّه سبحانه عليهم استعجالهم الناشيء عن الجهل بقوله: أَ فَبِعَذابِنا المستأصل لهم يَسْتَعْجِلُونَ لا و اللّه لا ينبغي الاستعجال به فانّه جهل و سفة

فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ و حلّ بفنائهم ذلك العذاب الموعود كالجيش المغير على قوم فَساءَ و بئس صَباحُ اَلْمُنْذَرِينَ بالعذاب.

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ اَلْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)قيل: إنّ الإغارة لمّا كثرت من العرب في الصباح، كنّى بالصباح (2)عن وقت الإغارة، و [إن كان]نزول البلاء و الشدة أي وقت كان (3).

ثمّ أنّه تبارك و تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب، و كان فيه تقوية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله في معارضة القوم، أكّد سبحانه الأمر بالتولّي و الإعراض عنهم إلى زمان نزول العذاب، أو نزول الأمر بقتالهم بقوله: وَ تَوَلَّ يا محمّد و أعرض عَنْهُمْ و لا تقدم على قتالهم حَتّى حِينٍ و إلى وقت معلوم

وَ أَبْصِرْ ما يفعل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ و عن قريب يرون ما يوعدون، و في إعادته غاية التهديد و التهويل.

و قيل: إنّ المراد من هذا الكلام فيما تقدّم أحوال الدنيا، و هنا أحوال الآخرة (4).

القمي رحمه اللّه: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ يعني العذاب إذا نزل ببني امية و أتباعهم في آخر الزمان، قوله:

فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قال: أبصروا حين لا ينفعهم البصر. قال: فهذه في أهل الشّبهات و الضلالات من أهل القبلة (5).

ص: 324


1- . تفسير الرازي 26:172، تفسير الصافي 4:287.
2- . في النسخة: الصباح.
3- . تفسير أبي السعود 7:211، تفسير الصافي 4:288، تفسير روح البيان 7:499.
4- . تفسير الرازي 26:173.
5- . تفسير القمي 2:227، تفسير الصافي 4:288.

سوره 37 (الصافات): آیه شماره 180 الی 182

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية مقالات المشركين و دفعها، و وعد الرسل بالغلبة و النّصرة، و أكّد تنزيه ذاته المقدّسة عمّا يقول الظالمون بقوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ يا محمّد، و نزّهه غاية التنزيه، و هو أيضا رَبِّ اَلْعِزَّةِ و الغلبة و العظمة و مالكها و صاحبها، فلا عزّة إلاّ له، و لا غلبة إلاّ منه، فهذا الربّ مستحقّ للتنزيه عَمّا يَصِفُونَ به اولئك المشركون، و ينسبون إليه ممّا لا يليق بساحة كبريائه من الشّركاء و الأزواج و الأولاد، و خلف الوعد بالعذاب على الأعداء و النّصرة للأولياء.

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ (181) وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (182)

ثمّ أعلن سبحانه بإكرامه لرسله، و إن أهانهم أعداؤهم، بالتسليم على عامّتهم من آدم إلى الخاتم بعد التسليم على عدّة من اولى العزم منهم، كنوح و إبراهيم و موسى بقوله: وَ سَلامٌ من اللّه المنبيء بالأمان من جميع المكاره الدنيوية و الاخروية، و الفوز بجميع المقامات العالية عَلَى جميع الأنبياء اَلْمُرْسَلِينَ و المبعوثين من جانب اللّه لهداية الخلق و نشر الشرائع.

في الحديث: «إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فانّما أنا منهم» (1).

وروي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا صلّيتم عليّ فعمّوا» (2).

ثمّ أتبع سبحانه تنزيه ذاته و لطفه و إكرامه بعباده المرسلين، بالثناء الجميل على نفسه بقوله: وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على تكميل نعمه على المرسلين، و إفاضته عليهم من فنون الكرامات السّنية و الكمالات الدينية و الدنيوية، و على أتباعهم من الآلاء الظاهرية و الباطنية الموجبة لحمده.

قيل: إنّ اختصاص الحمد بذاته دالّ على اختصاص جميع الكمالات به، و أنّه لا كمال لأحد إلاّ و هو منه و راجع إليه، و كلّ النّعم منه فلا منعم غيره (1).

و قيل: في هذه الآية إشارة إلى وصفه بالصفات الثبوتية بعد التنبيه على اتّصافه بالصفات السّلبية، و إيذان باستثناء بالأفعال الجميلة التي منها إكرام الرسل و المؤمنين بهم بأسنى الكرامات، و فيها إشعار بتحقّق النصر و الغلبة للرسول. و في الآيات تعليم كيفية تسبيحه تبارك و تعالى، و التسليم على الرسل، و تحميده (2).

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم

ص: 325


1- . تفسير روح البيان 7:500.
2- . تفسير أبي السعود 7:212، تفسير روح البيان 7:500.

القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ* وَ سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ* وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» (1).

و في (الكافي) و (الفقيه) ما يقرب منه (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الصافات في كل يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بلية في الحياة الدنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، و لم يصبه في ماله و ولده و لا بدنه سوء من الشيطان و لا من جبار عنيد، و إن مات في يوم أو ليلة بعثه اللّه شهيدا و أماته شهيدا و أدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّها لم تقرأ عند مكروب من موت إلاّ عجّل اللّه راحته» (4).

قد تمّ تفسير السورة المباركة و للّه الحمد.

ص: 326


1- . تفسير البيضاوي 2:305، تفسير أبي السعود 7:212، تفسير روح البيان 7:500.
2- . الكافي 2:360/3، عن الباقر عليه السّلام، من لا يحضره الفقيه 1:213/954، تفسير الصافي 4:288.
3- . ثواب الأعمال:112، مجمع البيان 8:681، تفسير الصافي 4:288.
4- . الكافي 3:126/5، تفسير الصافي 4:289.

في تفسير سورة ص

سوره 38 (ص): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة الصافّات المبدوءة بتعظيم التالين للذكر، و بيان التوحيد و المعاد بالأدلّة القاطعة، و تعجّب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من عدم إيمان المشركين بهما، المتضمنة لحكاية مخاصمة أهل النار بعضهم مع بعض، و ذكر مسكن المؤمنين في الآخرة و طعامهم و شرابهم و منكوحهم، و مسكن المشركين في الآخرة و مأكولهم و مشروبهم، و حكاية ألطاف اللّه بجماعة من الأنبياء كنوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس و لوط و يونس، نظمت بعدها سورة ص المبدوءة بتعظيم القرآن بالحلف به، و بيان كونه الذكر، و تعجّب المشركين من رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و دعوته إلى التوحيد، و بيان ألطافه الخاصة بجماعة من الأنبياء كداود و سليمان و أيوب و إبراهيم و بعض آخر منهم، و ذكر مسكن المتّقين في الآخرة و مأكولهم و مشروبهم، و مسكن أهل النار و مأكولهم و مشروبهم، و حكاية مخاصمة بعضهم مع بعض، و غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها على دأبه بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ:

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ (1) بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2)

ثمّ افتتحها بحرف ص من الحروف المقّطعة، لجلب توجّه الناس إلى المطالب المهمة التي بعدها، قيل: هو اسم للسورة (1). و قيل: رمز عن الأسماء الحسنى التي فيها حرف الصاد كصادق، و صمد، و بصير و نظائرها (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه اسم من أسماء اللّه، به أقسم اللّه» (1).

و قيل: إنّه رمز عن صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في كلّ ما أخبر عن اللّه، و عليه يكون هو المقسم عليه، و كذا على الوجه الأوّل إذ التقدير بناء عليه: هذه ص أي السورة المنزلة من اللّه بطريق الإعجاز (2).

ص: 327


1- . مجمع البيان 8:726، تفسير الصافي 4:290.
2- . تفسير الرازي 26:174.

و عن ابن عباس: أنّ ص كان بحرا [بمكة و]كان عليه عرش الرحمن، إذ لا ليل و لا نهار (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا ص فعين تنبع من تحت العرش، و هي التي توضّأ النبي صلّى اللّه عليه و آله منها لمّا عرج به، و يدخلها جبرئيل كلّ يوم دخلة فينغمس فيها، ثمّ يخرج منها فينفض أجنحته، فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلاّ خلق اللّه تبارك و تعالى منها ملكا يسبّح اللّه و يقدّسه و يكبّره و يحمده إلى يوم القيامة» (2).

و عنه عليه السّلام-في حديث المعراج-: «ثمّ أوحى اللّه إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله: ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهّرها، وصلّ لربك. فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من صاد، و هو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن» الخبر (3).

و عن الكاظم عليه السّلام-في حديث-أنّه سئل ما صاد الذي امر أن يغتسل منه-يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-لمّا اسري به؟ فقال: «عين تنفجر من ركن من أركان العرش، يقال لها: ماء الحياة، و هو ما قال اللّه عز و جل: ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ» (4)و المواعظ و العبر، فانّ فيه قصص الأنبياء و الامم. و قيل: يعني ذي الشرف و الذّكر في ألسنة الناس إلى يوم القيامة (3). و قيل: إنّ المقسم عليه محذوف، و هو إنّه لحق، و إنّ محمدا لصادق (4).

بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء قريش و المصرّين على مخالفته كائنون فِي عِزَّةٍ و حمية و أنفة عن قبول تبعيته، و استكبار عن الاعتراف بنبوته و تصديق كتابه، وَ في شِقاقٍ بعيد و عداوة شديدة له.

سوره 38 (ص): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: كَمْ أَهْلَكْنا و كثيرا ما استأصلنا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السابقة على عصرهم مِنْ قَرْنٍ و أهل عصر واحد بالعذاب على كفرهم و المشاقة مع رسولهم فَنادَوْا ربّهم أو أعوانهم حين نزول العذاب استغاثة أو توبة و استغفارا لينجوهم منه و يغيثوهم من الهلاك، وَ الحال أنّه لاتَ حِينَ مَناصٍ و ليس الوقت وقت الفرار و الخلاص.

كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (5) وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ اَلْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ (6)قيل: إنّ قريشا إذا ضاقت عليهم الأرض في القتال نادوا: مناص مناص، أي اهربوا (7).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من العجائب أنّهم استبعدوا وَ عَجِبُوا من أَنْ جاءَهُمْ رسول مُنْذِرٌ

ص: 328


1- . تفسير روح البيان 8:2.
2- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:290.
3- . تفسير الرازي 26:175.
4- . تفسير البيضاوي 2:306.
5- . الكافي 3:485/1، تفسير الصافي 4:290.
6- . علل الشرائع:335/1، تفسير الصافي 4:290.
7- . تفسير روح البيان 8:4.

ينذرهم من عذاب اللّه، و هو مِنْهُمْ و بشر مثلهم يأكل و يمشي بينهم، و لم يتعجّبوا من أن تكون المنحوتات آلهة، مع أنّ الثاني من العجائب لا الأول، فلمّا رأوا المعجزات الصادرة منه وَ قالَ اَلْكافِرُونَ هذا هو ساحِرٌ فيما يظهره من الخوارق للعادة و كَذّابٌ في دعوى الرسالة و التوحيد و نزول الوحي و الآيات إليه من السماء، و كون ما يأتي به معجزة أقدره اللّه عليها للشهادة على صدقه.

سوره 38 (ص): آیه شماره 5 الی 7

ثمّ استشهدوا على كذبه بادّعائه التوحيد مع بعده في زعمهم بقوله: أَ جَعَلَ محمد اَلْآلِهَةَ الكثيرة التي نعبدها إِلهاً واحِداً في زعمه إِنَّ هذا [أي]

الدعوى لَشَيْءٌ عُجابٌ و أمر بعيد عن الأذهان لم يقل به أحد من آبائنا الأولين. قيل: إنّهم قالوا ثلاثمائة و ستين إلها لا تكفي لتنظيم امور أهل مكة، فكيف ينتظم أمر العالم بآله واحد (1).

أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اِخْتِلاقٌ (7)روي أنه بعد إسلام حمزة و عمر، جاء أشراف قريش كالوليد بن المغيرة، و أبي سفيان، و أبي جهل و أضرابهم إلى أبي طالب، و قالوا: يا عبد مناف، أنت شيخنا و كبيرنا، قد علمت ما فعل هؤلاء السّفهاء- يعنون المسلمين-فجئنا لتقضي بيننا و بين ابن أخيك. فاستحضر أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا بن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كلّ الميل على قومك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ماذا يسألونني؟» فقالوا: ارفضنا و ارفض ذكر آلهتنا، و ندعك و إلهك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أرايتم إن أعطيتكم ما سألتم، أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم العجم» . قالوا: نعم. قال: «تقولون لا إله إلاّ اللّه» فقاموا و قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا (2).

وَ اِنْطَلَقَ و ذهب اَلْمَلَأُ من قريش و الأشراف مِنْهُمْ و هم على ما قيل خمسة و عشرون من مجلس أبي طالب (3)بعد ما شاهدوا تصلّب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دينه، و يئسوا ممّا كانوا يرجونه من المصالحة بتوسّط أبي طالب، و قال لهم عقبة ابن أبي معيط على ما قيل: أَنِ اِمْشُوا يا قوم على طريقتكم، و سيروا على مذهبكم، و لا تكلّموا محمدا بعد، فانّه لا فائدة في مكالمته (4). وَ اِصْبِرُوا

ص: 329


1- . تفسير روح البيان 8:5.
2- . تفسير روح البيان 8:5، تفسير الرازي 26:177، تفسير البيضاوي 2:307، تفسير أبي السعود 7:215.
3- . تفسير الرازي 26:177، تفسير أبي السعود 7:215، تفسير روح البيان 8:5.
4- . تفسير روح البيان 8:6.

و اثبتوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ و أصنامكم إِنَّ هذا الصبر و الثبات على الدين لَشَيْءٌ يُرادُ و أمر يطلب.

قيل: يعني أنّ هذا الذي شاهدنا من محمد من أمر التوحيد و نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة إمضائه و إنفاذه لا محالة من غير صارف يلويه و لا عاطف يثنيه، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه بواسطة أبي طالب و شفاعته، و حسبكم أن لا تمنعوا عن عبادة آلهتكم بالكلية، فاصبروا عليها، و تحمّلوا ما تسمعون في حقّها من القدح و سوء المقال (1).

و قيل: يعني أنّ هذا الهتك الذي نراه بآلهتنا، و القدح الذي نسمع فيهم، لأمر يراد بنا، و مكر يمكر علينا (2)، أو المراد أنّ دينكم لشيء يستحقّ أن يطلب، فيكون ترغيبا فيه، و تعليلا للأمر بالصبر (3). أو المراد أنّ هذا الذي نرى من محمد من المخالفة لديننا، هو شيء يراد بنا من حوادث الزمان الذي لا مناصّ منه (4).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «أقبل أبو جهل و معه قوم من قريش، فدخلوا على أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا و آذى آلهتنا، فادعه و أمره أن يكفّ عن آلهتنا، و نكفّ عن آلهته. فبعث أبو طالب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدعاه، فلمّا دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ير في البيت إلاّ مشركا. فقال: السّلام على من أتّبع الهدى. ثمّ جلس، فخبّره أبو طالب بما جاءوا له. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا، يسودون بها العرب و يطؤون أعناقهم (2)؟ فقال أبو جهل: نعم، و ما هذه الكلمة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: تقولون لا إله إلاّ اللّه، فوضعوا أصابعهم في آذانهم،

و خرجوا هرّابا و هم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ (3). قيل: أرادوا من الملّة ملّة قريش التي أدركوا آبائهم عليها (4). و قيل: أرادوا ملّة النصارى (8).

إِنْ هذا القول و ما هذه الكلمة إِلاَّ اِخْتِلاقٌ و كذب مخترع من قبل نفسه، و باطل لا يقول به عاقل، فانّه لو كان حقّا لقال به آباؤنا.

سوره 38 (ص): آیه شماره 8

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكارهم التوحيد تمسّكا بكونه خلاف ما عليه آباؤهم، حكى عنهم إنكار نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ أُنْزِلَ من اللّه عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ و الكتاب السماويّ مِنْ بَيْنِنا و نحن أحقّ

أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ (5)

ص: 330


1- . تفسير أبي السعود 7:215، تفسير روح البيان 8:6. (2و3و4) . تفسير روح البيان 8:6.
2- . في النسخة: أقدامهم.
3- . الكافي 2:474/5، تفسير الصافي 4:292.
4- . تفسير الرازي 26:178، تفسير روح البيان 8:6.
5- . تفسير الرازي 26:178، تفسير البيضاوي 2:307، تفسير أبي السعود 7:215.

بنزول الذكر منه، لكوننا أكبر (1)سنا، و أكثر سنا، و أكثر مالا و أعوانا، و أعظم شأنا، و أبسط يدا و أنفذ قولا من محمد الذي لا مال له و لا ولد و لا أعوان و لا رياسة، و كما فضّلنا اللّه عليه بتلك النّعم الظاهرة، كان عليه أن يفضّلنا عليه بإنزال الوحي و الكتاب و منصب الرسالة، و مع فرض كونه مساويا لنا فترجيحه علينا بتلك الكرامات ترجيح بغير مرجّح، و من الواضح أنّ هذا الاعتراض ليس إلاّ من جهة عدم التأمّل في جهات إعجاز القرآن الموجب لليقين بكونه كلام اللّه الخالق لكلّ شيء، و ليس ممّا اختلقه محمّد صلّى اللّه عليه و آله من قبل نفسه، و ليس ترك تأمّلهم فيه من جهة قطعهم بأنّه كلام البشر بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ و ترديد مِنْ ذِكْرِي و إعجاز كتابي، لا في نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لو تأمّلوا فيه علموا بأنّه كتابي، و محمّد رسولي، و مع الشكّ يجب عليهم التأمّل و التفكّر بحكم العقل بَلْ لَمّا يَذُوقُوا و لم يطعموا بعد عَذابِ فاذا ذاقوا و طعموا طعمه، علموا أنّ القرآن ذكري، و محمدا رسولي، و لمّا كانوا في شكّ و لم يذوقوا العذاب على ترك التدبّر، كانوا مذبذبين بين الأوهام، تارة يقولون إنّه سحر، و اخرى شعر، و ثالثة إنّه كهانة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ ردّهم سبحانه بأنّ منصب النبوة برحمة اللّه و اختياره و إعطائه بيده بقوله: أَمْ عِنْدَهُمْ و بيدهم خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهّابِ حتّى يعطوها من شاءوا، و يمنعوها عمّن شاءوا، و يحكموا فيها بآرائهم، فيختاروا للنبوة بعض زعمائهم و يمنعوك عنها، ليس الأمر كذلك، فانّ النبوة عطية من اللّه، و درجة عالية لا يقدر على إعطائها إلاّ من لا نهاية لقدرته، و لا غاية لجوده، و هو اللّه العزيز الوهّاب، فانّه الغالب الذي لا يغالب،

و الوهّاب الذي يهب ما يشاء لمن يشاء أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما حتّى يكون لهم التصرّف فيهما و فيما بينهما، كيف يشاءون فينصبون أحدا للنبوة، و يعزلون منها أحدا، و ينزلون من السماء ملكا بالوحي أو الكتاب على ما يشاءون؟ ! كلا ليس لهم ذلك، فان كان لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا و ليصعدوا فِي اَلْأَسْبابِ و المعارج التي يتوصّل بها إلى العرش حتّى يجلسوا عليه، و يدبّروا أمر العالم، و ينزلوا الوحي على من يرونه أهلا له. و فيه نهاية التهكّم، فاذا لم يكن لهم و في تصرّفهم ملك السماوات و الأرض و ما بينهما و السلطنة فيهما، لا يكون بيدهم خزائن الرحمة، و ليس لهم إنزال رحمة أو منعها، و لا نصب أحد و لا عزله.

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبابِ (10)

ص: 331


1- . في النسخة: أكثر.

و قيل: إنّ المراد بالأسباب الفلكيات، و أستدلّ به على أنّ الفلكيات أسباب للحوادث السّفلية (1).

سوره 38 (ص): آیه شماره 11 الی 16

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ المشركين لا يملكون السماوات و الأرض، بيّن عجز الجند منهم فضلا عن العشرة و العشرين بقوله: جُنْدٌ ما و عسكر قليل منهم كلّما كثروا هُنالِكَ و في ذلك المكان الذي أنكروا التوحيد، و عجبوا من رسالتك، و تكلّموا بالكلمات التي لا تليق بمقامك مَهْزُومٌ و منكسر و مغلوب عن قريب، و ذلك الجند مِنَ جملة اَلْأَحْزابِ و الجماعات القوية الذين (2)تحزّبوا و اجتمعوا على تكذيب الرسل و معارضتهم.

جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ أُولئِكَ اَلْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسابِ (16)و قيل: إنّ (هُنالِكَ) إشارة إلى يوم بدر. قال قتادة: إنّ اللّه أخبر بمكة أنّه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر. و قيل: يوم الخندق. و قيل: يوم فتح مكة، فانّ مكة هو الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات (3). فهو إخبار بكونهم منهزمين في مكّة، و هو من المعجزات. و قيل: إنّ المعنى هم كجند ما من الكفار المتحزّبين على الرسل، مهزوم و مكسور عمّا قريب، فلا تبال بقولهم، و لا تكترث بهذيانهم (4).

ثمّ ذكر سبحانه الأحزاب الذين جعل قريش منهم بقوله: كَذَّبَتْ كما كذّبتك يا محمّد قومك قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ و نوحا وَ عادٌ هودا وَ فِرْعَوْنُ موسى، و هو من كثرة ظلمه، أو قوّته كان ذُو اَلْأَوْتادِ و إنّما وصف فرعون بهذا الوصف، لأنّه على رواية بعض العامة كانت له أوتاد من حديد يعذّب الناس عليها بأن يمدّ (5)من غضب عليه مستلقيا بين أربعة أوتاد و يشدّ (6)كلّ يد و رجل منه بسارية، و كان كذلك في الهواء بين السماء و الأرض حتّى يموت، أو كان يمدّ الرجل مستلقيا على الأرض، ثمّ يشدّ يديه و رجليه و رأسه على الأرض بالأوتاد (7).

و قيل: إنّه كان يمدّ المعذّب بين أربعة أوتاد في الأرض، و يرسل عليه العقارب و الحيّات (8).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن قوله: وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتادِ فقال عليه السّلام: «إنّه كان إذا عذّب رجلا

ص: 332


1- . تفسير الرازي 26:180.
2- . في النسخة: التي.
3- . تفسير الرازي 26:181.
4- . تفسير أبي السعود 7:216، تفسير روح البيان 8:8.
5- . في السخة: مدّ.
6- . في النسخة: شدّ.
7- . تفسير روح البيان 8:9.
8- . تفسير الرازي 26:182، تفسير أبي السعود 7:217.

بسطه على الأرض على وجهه، و مدّ يديه و رجليه و رأسه على الأرض، فأوتدها بأربعة أوتاد، و ربما بسطه على خشب منبسط (1)فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد، ثمّ تركه على حاله حتّى يموت» الخبر (2).

و قيل: ينصب الخشب في الهواء، و كان يمدّ يدي المعذّب و رجليه إلى تلك الخشب الأربع، و يضرب على [كلّ]واحد من هذه الأعضاء و تدا، و يتركه معلقا في الهواء إلى أن يموت (3).

و عن قتادة: كانت أوتادا و أرسانا و ملاعب يلعب بها عنده (4).

و قيل: إنّ عساكره كانوا كثيرين، و كانوا كثيري الاهبة عظيمي النّعم، و كانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام (5).

و قيل: إنّ المعنى ذو الجموع الكثيرة، و سمّى الجموع الكثيرة أوتادا لأنّهم يشدّون ملكه، كما يقوّي الوتد البناء (6).

و قيل: إنّ المعنى ذوا الملك الثابت، فانّه استقام له الأمر أربعمائة سنة من غير منازع (7)، و إنّما استعير الأوتاد لثبات الملك، لأنّ أكثر بيوت العرب كانت خياما و ثباتها بالأوتاد (8).

وَ كذّبت ثَمُودُ صالحا وَ قَوْمُ لُوطٍ لوطا، و كانوا-على ما قيل-أربعمائة ألف بيت في كلّ بيت عشرة (9)وَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ و أهل الغيظة شعيبا قيل: نسبوا إلى الغيظة لأنّهم كانوا يسكنونها (10). و قيل: الأيكة اسم بلد (11)أُولئِكَ الامم المذكورة هم اَلْأَحْزابُ الذين تجمّعوا على أنبيائهم

إِنْ كُلٌّ من هؤلاء الامم، و ما حزب منهم إِلاّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ الذين ارسلوا إليهم فَحَقَّ و ثبت عِقابِ كلّ منهم حسب استحقاقهم، منهم عوقبوا بالصيحة، و منهم بريح صرصر عاتية، و منهم بالغرق بالطّوفان، و منهم بالغرق في البحر، و منهم بالصاعقة، و منهم بالرّجفة، و منهم بتقليب بلادهم و إمطار الحجارة عليهم

وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ الكفرة الذين كذّبوك، و ما ينتظرون إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً و هي النفخة الثانية. و قيل: هي النفخة الاولى (3).

روي عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في هذه الآية: «يأمر اللّه إسرافيل فينفخ نفخة الفزع، فيمدّها و يطولها، و هي التي يقول: ما لَها مِنْ فَواقٍ» (4).

و قيل: إن المراد عذاب يفجأهم و يأخذهم بغتة و دفعة (5)ما لتلك الصيحة، و ليس لَها مِنْ تأخير و توقّف و لو مقدار فَواقٍ ناقة، و هو الفصل ما بين حلبتيها، و قيل: يعني ما لها من سكون أو

ص: 333


1- . في النسخة: الخشب ينبسط.
2- . علل الشرائع:69/1 باب 60، تفسير الصافي 4:293. (3 و 4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 26:182. (7 و 8) . تفسير روح البيان 8:9. (9 و 10 و 11) . تفسير روح البيان 8:9.
3- . تفسير الرازي 26:183، تفسير البيضاوي 2:308.
4- . تفسير الرازي 26:183.
5- . تفسير الرازي 26:182.

رجوع إلى السكون (1).

و في الآيتين تسلية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، لئلا يحزن من تكذيبهم و عدم إيمانهم بأنّ قومه جند قليل من الأحزاب الذين كذبوا الرسل، فاستأصلهم اللّه بالعذاب، مع كونهم في غاية الكثرة و الشّوكة و القوّة، فكيف بقومه الذين هم ضعفاء قليلون، و تهديد لمكذّبيه و معارضيه وَ مع ذلك قالُوا استهزاء بالرسول حين سمعوا خبر تأخير العذاب إلى الآخرة: رَبَّنا و إلهنا عَجِّلْ لَنا بلطفك قِطَّنا و نصيبنا من العذاب الذي وعدنا محمّد قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسابِ و النفخ في الصّور، و لا تؤخّره إليه.

سوره 38 (ص): آیه شماره 17 الی 20

و لمّا كان في قولهم هذا زيادة السخرية و الاستهزاء به، (2)بالغ سبحانه في تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: و اِصْبِرْ يا محمد عَلى ما يَقُولُونَ من الاستهزاء و التكذيب، و طب نفسا بما فضّلناك على جميع الرسل من الكتاب و الحكمة و السّلطنة في الملك و الملكوت و جوامع الكلم و فصل الخطاب وَ اُذْكُرْ لتسلية قلبك ما أعطيناه عَبْدَنا المخلص لنا، أعني داوُدَ بن ايشا ذَا اَلْأَيْدِ و القوة في البدن و الدين، و مع ذلك إِنَّهُ أَوّابٌ و رجّاع إلى اللّه بالتضرّع و التوبة، و التسبيح و التقديس،

و لذا إِنّا بقدرتنا سَخَّرْنَا و ذللّنا اَلْجِبالَ له يسيرون مَعَهُ و تبعا له حال كونهنّ يُسَبِّحْنَ للّه حالا بعد حال كرامة له بِالْعَشِيِّ و آخر النهار وَ اَلْإِشْراقِ أوّل النهار،

وَ سخّرنا اَلطَّيْرَ بأنواعها حال كونها مَحْشُورَةً و مجموعة إليه من كلّ جانب، ثمّ كُلٌّ من الجبال و الطير حال تسبيح داود عليه السّلام لَهُ أَوّابٌ و رجّاع بالتسبيح و التقديس.

اِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ (17) إِنّا سَخَّرْنَا اَلْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْراقِ (18) وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطابِ (20)عن ابن عباس: كان داود عليه السّلام إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، و اجتمعت إليه الطير فسبّحت، و ذلك حشرها (3).

و قيل: إنّ ضمير (له) راجع الى اللّه، و المعنى: أنّ داود و الجبال و الطير للّه أواب و مسبّح (4).

روي أنّ اللّه تعالى لم يعط أحدا من خلقه ما أعطى داود من حسن الصوت، فلمّا وصل إلى الجبال ألحان داود تحرّكت من لذّة السّماع، فوافقته في الذّكر و التسبيح، و لما سمعت الطيور نغماته صفرت

ص: 334


1- . تفسير الرازي 26:183.
2- . زاد في النسخة: ثمّ. (3 و 4) . تفسير الرازي 26:186، تفسير روح البيان 8:13.

بصفير التنزيه و التقديس، و لمّا أصغت الوحوش إلى صوته دنت منه حتّى كانت تؤخذ بأعناقها (1).

وَ شَدَدْنا و قوّينا ملكه و سلطنته بالوزراء الناصحين، و بالهيبة و إلقاء الرعب في قلوب المخالفين، و بصنعة اللّبوس و سائر آلات الحرب، ممّا لم يكن لغيره من السلاطين، إلى غير ذلك ما يوجب استحكام مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ و أعطيناه اَلْحِكْمَةَ و المعارف الإلهية و أحكام الشريعة و العلم بحقائق الأشياء وَ فَصْلَ اَلْخِطابِ و وضوح البيان بحيث يفهمه كلّ أحد.

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّه معرفة اللغات» (2).

و قيل: هو الافصاح بحقيقة الأمر، و قطع القضايا و الحكم باليقين (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو قوله البينة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه» (4).

سوره 38 (ص): آیه شماره 21 الی 25

ثمّ لمّا ذكر سبحانه ألطافه بداود، حكى ابتلاءه بالحزن الشديد، لارتكابه ما لم يكن لائقا بمقامه، كابتلاء نبينا صلّى اللّه عليه و آله بالحزن على تكذيب القوم، و صدّر ذكر القضية بالاستفهام التعجّبي (5)المشوّق إلى سماعها الموذن بغرابتها بقوله: وَ هَلْ أَتاكَ يا محمّد، و قرع سمعك الشريف نَبَأُ اَلْخَصْمِ و الخبر العظيم الجدير بأن يسمعه كلّ أحد في موضوع تنازع الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا و تصعدوا اَلْمِحْرابَ و سور الغرفة التي كان يتعبّد فيها،

و نزلوا فيها إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ و وردوا عليه بغتة مع كون بابها مغلقا فَفَزِعَ و دهش مِنْهُمْ لكون ورودهما على خلاف العادة، فلمّا رأوا فزعه و دهشته قالُوا إزالة لفزعه: يا داود لا تَخَفْ منّا إنا خَصْمانِ و منازعان جئناك لتحكم

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اِهْدِنا إِلى سَواءِ اَلصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25)

ص: 335


1- . تفسير روح البيان 8:13.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:228/3، تفسير الصافي 4:294.
3- . تفسير روح البيان 8:15.
4- . جوامع الجامع:404، تفسير الصافي 4:294، تفسير روح البيان 8:15.
5- . في النسخة: التعجيبي.

بيننا، أمّا إجمال المخاصمة أنّه بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ و ظلم أحدنا الآخر فَاحْكُمْ بَيْنَنا و اقطع خصومتنا بِالْحَقِّ و العدل وَ لا تُشْطِطْ في الحكم و لا تجر في القضاء وَ اِهْدِنا بحكمك إِلى سَواءِ اَلصِّراطِ و وسط الطريق بزجر الباغي عن ما سلكه من طريق الجور، و إرشاده إلى منهج العدل،

ثمّ حكى سبحانه تفصيلها بقوله: إِنَّ هذا الرجل الذي يكون معي أَخِي في الدين، أو في الصحبة، أو في النسب على الفرض لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً و الضأن الانثى وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ليس لي غيرها فَقالَ مع اخوّته المقتضية لتعطّفه: أَكْفِلْنِيها و ملّكنيها لتكون لي مائة نعجة وَ عَزَّنِي و غلبني فِي اَلْخِطابِ و الحجج.

عن ابن عبّاس: كان أعزّ منّي و أقوى في مخاطبتي، لأنّه كان ملكا (1).

فلمّا سمع داود ذلك قالَ و اللّه لَقَدْ ظَلَمَكَ أخوك بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ الواحدة ليضمّها إِلى نِعاجِهِ الكثيرة وَ ليس هذا الظلم منه أمرا بديعا، بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطاءِ و الشركاء، أو المصاحبين لَيَبْغِي و يتعدّى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و لا يراعي حقّ الصحبة و الشّركة إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فانّهم يراعون حقوق الناس و لا يظلمون أحدا سواء أكان شريكا أو مصاحبا أو غيرهما، وَ لكن قَلِيلٌ ما و يسير في الغاية هُمْ في الأزمنة كلّها.

قصة داود و تزويجه

ميشاوع زوجة

اوريا

حكى بعض العامة أن أوريا خطب ميشاوع أو ميشاويع (2). بنت شايع، فأجابته قومها، ثمّ غاب أوريا و ذهب إلى قتال البلقاء قبل أن يعقد عليها، ثمّ خطبها داود فزوّجت منه لجلالة قدره، فاغتم لذلك أوريا، فعاتبه اللّه تعالى على أنه خطب على خطبة أخيه المسلم مع عدم حاجة، لأنّه كان تحته و في حبالته تسع و تسعون امرأة، و لم يكن لأوريا غير التي خطبها (3).

و قيل: إنّ داود رأى امرأة أوريا، فمال قلبه إليها، و ابتلي بحبّها، فسأله داود أن يطلّقها، فاستحيى أن يردّه، فتزوجها و ولد منها سليمان، و كان ذلك جابرا في شريعته معتادا بين امّته، خلا أنّه عليه السّلام لعظمة منزلته و علوّ شأنه نبّه بالتمثيل على أنّه لم يكن ينبغي له أن يسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها و يتزوجّها مع كثرة نسائه (4).

روي أنّ داود قال للخصم: إنّ رمت ذلك ضربنا منك هذا و هذا-و أشار إلى الأنف و الجبهة-فقال:

ص: 336


1- . تفسير روح البيان 8:17.
2- . في تفسير روح البيان 8:18: بنشاوع أو بنشاويع.
3- . تفسير روح البيان 8:19.
4- . تفسير أبي السعود 7:222، تفسير روح البيان 8:19.

يا داود، أنت أحقّ أن يضرب منك هذا و هذا، و قد فعلت كيت و كيت. ثمّ نظر داود فلم ير أحدا (1). وَ لذا ظَنَّ و علم داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ و أردنا تنبيهه على قبح ما صدر منه.

و قيل: إنّ سبب علمه أنّه لمّا قضى بينهما، نظر أحد المتخاصمين إلى الآخر فضحك، ثمّ صعد إلى السماء (2).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: وَ ظَنَّ داوُدُ: «أي علم، و ذكر عليه السّلام أنّ داود كتب إلى صاحبه أن لا تقدّم أوريا بين يدي التابوت و ردّه، فقدم أوريا إلى أهله، و مكث ثمانية أيام ثمّ مات» (3).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام قيل له: يابن رسول اللّه، ما قصّة داود مع أوريا؟ قال: «إنّ المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، فأوّل من أباح اللّه تعالى أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل، و انقضت عدتها» (4).

و قال بعض العامة: كانت زلّة داود المسارعة في الحكم قبل السؤال عن المدّعى عليه (5).

و عن الرضا عليه السّلام-في رواية-فقيل: يابن رسول اللّه، فما كانت خطيئة داود؟ فقال: «ويحك! إنّ داود إنّما ظنّ أنّه ما خلق اللّه تعالى خلقا أعلم منه، فبعث اللّه الملكين فتسوّروا المحراب، فقالا له: خصمان بغى بعضنا على بعض-إلى أن قال-فعجل داود على المدعّى عليه، فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. و لم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، و لم يقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئته» (6)و قالوا فيه وجوه اخر لا نطيل بذكرها.

و على أي تقدير فَاسْتَغْفَرَ داود رَبَّهُ من زلّته التي كانت بالنسبة إليه ذنبا بعد ما التفت إليه وَ خَرَّ و سقط على الأرض حال كونه راكِعاً قيل: إنّ المراد من الركوع هنا السجود (7)، و المعنى خرّ للسجود حال كونه مصليا تسمية للصلاة باسم الركوع، لكونه من أعظم أجزائها.

عن ابن عباس رضى اللّه عنه، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنه سجد في ص و قال: سجدها داود توبة، و نسجدها شكرا» (8).

وَ أَنابَ داود و رجع إلى ربّه بالتوبة. روي أنّه بقي في سجود أربعين يوما و ليلة لا يرفع رأسه إلاّ لصلاة مكتوبة، أو لما لا بدّ منه، و لا يرقأ دمعه حتى نبت منه العشب حول رأسه، و لم يشرب ماء إلاّ

ص: 337


1- . تفسير الرازي 26:196.
2- . تفسير الرازي 26:198، تفسير أبي السعود 7:221.
3- . تفسير القمي 2:234، تفسير الصافي 4:296.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:194/1، تفسير الصافي 4:296.
5- . تفسير الرازي 26:198.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:194/1، تفسير الصافي 4:295.
7- . تفسير روح البيان 8:18.
8- . تفسير روح البيان 8:18.

ثلثاه دمع، و جهد نفسه راغبا إلى اللّه في العفو عنه حتّى كاد يهلك، و اشتغل بذلك عن الملك حتّى وثب له ابن يقال له إيشا على ملكه،

و اجتمع إليه أهل الزيع من بني إسرائيل (1)فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الذنب الذي استغفر منه في شهر ذي الحجّة على ما قيل (2). فلمّا نزلت توبته حارب ولده فهزمه وَ إِنَّ لَهُ عليه السّلام عِنْدَنا بعد المغفرة لَزُلْفى و قربا و كرامة في الدنيا وَ حُسْنَ مَآبٍ و مرجع بعد الموت، و هو الجنّة العالية المعدّة للأنبياء.

سوره 38 (ص): آیه شماره 26

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضّلاته الخاصة على داود، و ذكر ابتلائه بالحزن الشديد، بيّن زيادة إنعامه عليه بقوله: يا داوُدُ إِنّا بعد أن غفرنا لك جَعَلْناكَ خَلِيفَةً و ملكا نافذ الحكم فِي اَلْأَرْضِ و سلطانا مقتدرا على جميع الناس مع النبوة و الزّلفى، إذن فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ و العدل، و في منازعاتهم بحكم اللّه، كما هو مقتضى الخلافة الإلهية وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى في حكومتك، و لا تقض بميل نفسك فَيُضِلَّكَ و يحرفك الهوى و ميل النفس عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و طريق القرب إليه، و هو العدل في الحكم، فانّ هوى النفس يدعو إلى جلب المنافع الشخصية و رعاية القريب و الصديق، و إعمال البغضاء في حقّ من أساء إلى الحاكم، و كلّ ذلك يصرف نظر الحاكم عن الحقّ و إعطائه لمن هو له و يمنعه عن العدل.

يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ (26)ثمّ هدّد سبحانه متّبعي الهوى و الضالين عن الهدى بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ باتّباع الهوى و الجور في الحكومة، و تضييع الحقوق، معدّ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ بالنار بِما نَسُوا و لم يذكروا يَوْمَ اَلْحِسابِ و غفلوا عن أهوال القيامه و شدائدها، و كان نسيانهم ذلك اليوم و غفلتهم سببا لاستحقاقهم أشدّ العذاب و أشدّ العقاب، و لو كانوا متذكّرين له لتداركوا قبائح أعمالهم بالتوبة و أعدّوا له الاهبة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 27 الی 28

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ (28)

ص: 338


1- . تفسير أبي السعود 7:223، تفسير روح البيان 8:18.
2- . تفسير روح البيان 8:18.

ثمّ لمّا حكى سبحانه شدّة إنكار المشركين للحشر حتّى بلغوا في إنكارهم إلى أن استهزءوا بأخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله به، شرع في الاستدلال على لزوم الحشر بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما خلقا باطِلاً و عبثا بلا حكمة فيه ذلِكَ الخلق الباطل و العبث ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ و هلاك لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ عذاب اَلنّارِ لكفرهم و إنكارهم الحشر، بل إنّما كان خلق العالم عن حكمة بالغة، و هي تكميل الاستعدادات و فعليّتها، فالنفوس الزكية بالمعارف و العلم و العمل يرتقون إلى مدارج كمال الانسانية و السعادة، و النفوس الخبيثة ينحطّون إلى مهاوي دركات الحيوانية و الشقاوة، و من المعلوم أنّه لا بدّ لكلّ من الكمال و النقص و الإرتقاء و الانحطاط أثر و نتيجة، قابل لأن يصير منظورا للعقلاء، و متعلقا لهم، و لو لم يكن عالم آخر لاستوى الناقص و الكامل، و الشقي و السعيد،

و هذا في غاية القبح، كما أشار إليه سبحانه بقوله: أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ بالكفر و المعاصي، لا و اللّه لا نجعلهم سواء، لكونه خلاف العدل، و اللّه الحكيم منزّه عنه أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ من ربّهم و عذابه بالعمل بالطاعات و اجتناب السيئات كَالْفُجّارِ و أهل الفسوق و الطغيان، حاشا لا يجوز التسوية بينهما على اللّه لكونه قبيحا في الغاية، فلا بدّ من عالم آخر يثاب فيه المؤمن و المتقي بأفضل الثواب، و يجازى فيه المفسد و الفاجر بأسوأ الجزاء، و يرى كلّ منهم نتيجة أعمالهم.

روي أنّ كفّار قريش قالوا للمؤمنين: إنّا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون، بل أكثر، فردّهم اللّه بقوله: أَمْ نَجْعَلُ إلى آخره (1).

أقول: و يمكن كون قولهم هذا على سبيل الاستهزاء، أو على تقدير وقوع الآخر.

عن الصادق عليه السّلام قال: «لا ينبغي لأهل الحقّ أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل، لأن اللّه لم يجعل عنده أهل الحقّ بمنزلة أهل الباطل، ألم يعرفوا وجه قول اللّه في كتابه إذ يقول: أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا إلى آخره؟ !» (2).

سوره 38 (ص): آیه شماره 29 الی 33

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (29) وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصّافِناتُ اَلْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْناقِ (33)

ص: 339


1- . تفسير روح البيان 8:24.
2- . الكافي 8:12/1، تفسير الصافي 4:297.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه العلوم الكثيرة في القرآن من المعارف و أدلّة التوحيد و المعاد، و خصائص الأنبياء، و تفضلاّته عليهم، و قصصهم، بيّن فضل القرآن، و كونه نازلا منه، لدلالة ما فيه عليه بقوله: كِتابٌ قيل: إنّ التقدير هذا القرآن (1)كتاب أَنْزَلْناهُ بتوسّط جبرئيل إِلَيْكَ يا محمّد مُبارَكٌ و كثير الخير و النفع الديني و الدنيوي، لمن آمن به و صدّقه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ و يتفكّروا فيها بالفكر السليم عن التعصّب و العناد، فيعرفوا ما فيها من المطالب العالية و اللطائف الفائقة و البيانات الرائقة، فيومنوا به وَ لِيَتَذَكَّرَ و يتّعظ بمواعظه و يعتبر بما فيه أُولُوا اَلْأَلْبابِ و أصحاب العقول السليمة عن شوائب الأوهام، و إنّما خصّ سبحانه الاتّعاظ به و العمل بما فيه باولي الألباب، لتوقّفه على العقل الغالب على الأهواء الزائغة و الشهوات المردية.

ذكر بعض أحوال

داود عليه السّلام

ثمّ عاد سبحانه تعالى بعد الاستدلال على المعاد و الرسالة إلى ذكر أعظم تفضلاّته على داود عليه السّلام بقوله تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ و أنعمنا عليه بذلك الولد الذي كان خليفة له و وارث نبوته و سلطنته.

روي أنّ داود عاش مائة سنة، و مات يوم السبت، و كان له غرفة و محراب يصعد فيه و ينزل، و كان يوم السبت في محرابه إذ جاءه ملك الموت و قال: جئتك لأقبض روحك فقال: دعني حتّى أنزل و ارتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل، نفدت الأيام و الشهور و السنون و الآثار و الأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها، فسجد داود على مرقاة من الدّرج، فقبض نفسه على تلك الحالة، و أوصى لابنه سليمان بالخلافة (2).

ثمّ مدح سبحانه سليمان بقوله: نِعْمَ اَلْعَبْدُ سليمان إِنَّهُ كأبيه أَوّابٌ و رجّاع إلى اللّه في جميع الأحوال في النّعمة بالشكر،

و في المحنة بالصبر و التضرّع، و اذكر يا محمد إِذْ عُرِضَ و أظهر عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ و وقت العصر الخيول اَلصّافِناتُ و القائمات على قوائم ثلاث مع تثنية الرابعة أو وضعها على طرف السّنبك و اَلْجِيادُ و السريعات في العدو.

و عن ابن عباس: الجياد الخيل السوابق، و إذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها (3)، و الصفتان من أحمد صفات الخيل.

ص: 340


1- . تفسير روح البيان 8:25.
2- . تفسير روح البيان 8:26.
3- . تفسير روح البيان 8:27.

في ردّ العامة

قيل: إنّ سليمان غزا أهل دمشق و نصيبين، و هي قاعدة ديار ربيعة، فأصاب ألف فرس عربي (1). و قيل: أصابها أبوه من العمالقة و ورثها سليمان (2)على خلاف رواية أبي بكر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (3).

و قيل: إنّها خيول بحرية جاء بها الجنّ لسليمان (4). و على أي تقدير قيل: قعد سليمان يوما بعد صلاة الظهر على كرسيّه، و كان يريد جهادا، فاستعرض تلك الخيول عليه، فلم يزل تعرض عليه و هو ينظر إليها و يتعجّب من حسنها حتّى ذهب وقت فضيلة العصر، أو وقت ذكر كان يواظب عليه (5).

ذكر فضيلة لأمير

المؤمنين عليه السّلام

و قال بعض العامة: حتى غربت الشمس وفات وقت صلاة العصر (6)فَقالَ تأسّفا و تحسّرا على ما صدر منه: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ و جعلت حبّ الخيل بدلا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي و اشتغلت بالنظر إليه حَتّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ و سترت بستر افق المغرب،

فبعد غروب الشمس قال للملائكة: رُدُّوها عَلَيَّ فردّت الملائكة الشمس باذن اللّه إلى محلّ فضيلة العصر، فصلاّها في وقتها، كما ردّت الشمس لعلي بن أبي طالب عليه السّلام حين فات وقت صلاة العصر منه لنوم النبي صلّى اللّه عليه و آله في حجره على ما روته العامة و الخاصة (7)فَطَفِقَ و أخذ يمسح مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْناقِ.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّ سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردوا الشمس عليّ حتّى اصلّي صلاتي في وقتها، فردّوها. فقام فمسح ساقيه و عنقه، و أمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك، و كان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قام فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس و طلعت النجوم، و ذلك قول اللّه عز و جل: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ إلى قوله: وَ اَلْأَعْناقِ» (8).

أقول: ظاهر الآية أنّ سليمان مسح بالسوق و الأعناق، لا هو و أصحابه.

ص: 341


1- . تفسير البيضاوي 2:312، تفسير أبي السعود 7:225، تفسير روح البيان 8:27.
2- . تفسير البيضاوي 2:312، تفسير أبي السعود 7:225، تفسير روح البيان 8:27.
3- . تفسير روح البيان 8:27.
4- . تفسير روح البيان 8:27.
5- . تفسير روح البيان 8:28.
6- . تفسير أبي السعود 7:225.
7- . فضيلة رد الشمس لعلي عليه السّلام مروية في البداية و النهاية 6:80، و ترجمة الامام علي عليه السّلام من تاريخ دمشق لابن عساكر 2:283، و الصواعق المحرقة:128، و مناقب ابن المغازلي:96/140 و:98/141، و مناقب الخوارزمي:217، و الرياض النضرة 3:140، و مجمع الزوائد 8:297 و تفسير روح البيان 8:31، و نور الأبصار:33، و اثبات الهداة 5: 58/427، و بحار الأنوار 41:166-190.
8- . من لا يحضره الفقيه 1:129/607، تفسير الصافي 4:298.

و عن ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: «ما بلغك فيها؟» قلت: بلى، سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة. فقال: ردّوها عليّ-يعني الأفراس-و كانت أربعة عشر، و أمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها، فسلب اللّه ملكه أربعة عشر يوما، لأنّه ظلم الخيل بقتلها.

فقال عليّ عليه السّلام: «كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض أفراس ذات يوم، لأنّه أراد جهاد العدوّ حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر اللّه للملائكة الموكّلين بالشمس: ردّوها عليّ، فردّت فصلّى العصر في وقتها، و إنّ الأنبياء لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم، لأنّهم معصومون مطهّرون» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن قول اللّه عز و جل: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قال: «يعني مفروضا، و ليس معنى وقت فوتها إذا جاز ذلك ثمّ صلاها، لم تكن صلاته هذه مؤدّاة، و لو كان ذلك لهلك سليمان بن داود حين صلاها لغير وقتها» (2).

أقول: يمكن كون النظر إلى الخيول و الاطلاع بحالها للجهاد، كان أهمّ من الصلاة، و لمّا أحبّ أن يؤدّي الصلاة لوقتها أمر برّد الشمس، فكان حاله حال أمير المؤمنين عليه السّلام، و نظر سليمان إلى الأفراس كنوم النبي صلّى اللّه عليه و آله في حجر أمير المؤمنين عليه السّلام، و على أي تقدير ليست الروايات متواترة و لا حجّة في غير الأحكام الشرعية.

و قيل: إنّ رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينه كما في ديننا، و كان سليمان احتاج إلى الغزو، فجلس و أمر باحضار الخيل و إجرائها، و ذكر أنّي لا أحبّ الخيل لأجل الدنيا، و إنّما احبّها لأمر اللّه، و طلب تقوية دينه. و ذلك معنى إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ أي حبّ الخيل، و ذلك الحبّ الشديد حصل عن ذكري ربي و كتابة أوامره، لا عن الشهوة و الهوى، ثمّ إنّه أمر باعدائها و تسييرها حتّى توارت الخيل بالحجاب، و غابت عن نظره، ثمّ قال للرائضين: ردّوا الخيل عليّ، فلمّا عادت إليه جعل يمسح سوقها و أعناقها تشريفا لها و إظهارا لعزّتها (3)، أو ليعلم صحّتها و مرضها (4).

أقول: نعم التفسير هو، لو لا أن يكون بالرأي و مخالفا للروايات.

سوره 38 (ص): آیه شماره 34

وَ لَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)

ص: 342


1- . مجمع البيان 8:741، تفسير الصافي 4:298.
2- . الكافي 3:294/10، من لا يحضره الفقيه 1:129/606، تفسير الصافي 4:298.
3- . تفسير الرازي 26:206، تفسير روح البيان 8:29.
4- . تفسير الرازي 26:206.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فتنة أبيه داود، ذكر فتنته بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنّا و ابتلينا سُلَيْمانَ و كانت فتنته على ما روته بعض العامة أنّه قال يوما: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة أو تسعين أو تسع و تسعين أو مائة، تأتي كلّ واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه، و لم يقل: إن شاء اللّه. فقال له صاحبه و وزيره آصف بن برخيا: قل إن شاء اللّه، فلم يقل، فطاف عليهنّ تلك الليلة فلم تحمل إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ ولد له عين واحدة، و يد واحدة، و رجل واحدة، فألقته القابلة على كرسيّه (1)، و هو قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ و سريره الذي كان يقعد عليه جَسَداً.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون (2).

و روي أنّه نسي أن يقولها لينفذ مراد اللّه تعالى (3).

و في رواية اخرى: أنّ سليمان ولد له ابن، فاجتمعت الشياطين على قتله، و ذلك أنّهم كان يقدّرون في أنفسهم أنّهم يستريحون ممّا هم فيه من تسخير سليمان إياهم على التكاليف الشاقّة، فعلم سليمان بذلك، فأمر السّحاب بحمله، و كانت الريح تعطيه غذاءه، و ربّي فيه خوفا من مضرّة الشياطين، فابتلاه اللّه لأجل خوفه هذا و عدم توكّله في أمر ابنه على ربّه بموت ابنه حيث مات في السّحاب، و القي ميتا على كرسيّه» (1).

و قريب منه ما عن الصادق عليه السّلام، فانّه قال: «إنّ الجنّ و الشياطين لمّا ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض: إن عاش له له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء، فأشفق منهم عليه، فاسترضعه في المزن-و هو السّحاب-فلم يشعر إلاّ و قد وضع على كرسيه ميتا، تنبيها على أنّ الحذر لا ينفع من القدر، و إنّما عوتب على خوفه من الشياطين» (2).

قيل: لمّا القي ابنه الميت على كرسيه جزع سليمان عليه، إذ لم يكن له إلاّ ابن واحد، فدخل عليه ملكان، فقال أحدهما: إنّ هذا مشى في زرعي فأفسده. فقال له سليمان: لم مشيت في زرعه؟ قال: لأنّ هذا الرجل زرع في طريق الناس، فلم أجد مسلكا غير ذلك. فقال سليمان: لم زرعت في طريق الناس. أما علمت أنّ الناس لا بدّ لهم من طريق يمشون فيه؟ فقال لسليمان: صدقت. لم ولدت على طريق الموت، أما علمت أنّ ممرّ الخلق على الموت، ثمّ غابا، فاستغفر سليمان (3)ثُمَّ أَنابَ و رجع إلى اللّه تعالى.

و قيل: إنّ ابتلاءه كان سبب ملكه، و ذلك أنّ سليمان بلغه خبر مدينة في البحر، فخرج إليها بجنوده

ص: 343


1- . تفسير روح البيان 8:32.
2- . مجمع البيان 8:741، تفسير الصافي 4:299.
3- . تفسير روح البيان 8:32.

تحمله الريح، فأخذها و قتل ملكها، و أخذ بنتا اسمها جرادة من أحسن النساء وجها، فاصطفاها لنفسه، و أسلمت فأحبّها، و كانت تبكي أبدا على أبيها، فأمر سليمان الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكسوها مثل كسوة أبيها، و كانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة و عشيا مع جواريها تسجد لها، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة، و عاقب المرأة، ثمّ خرج إلى فلاة من الأرض، و فرش الرماد و جلس عليه تائبا إلى اللّه.

و كانت له امّ ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، و كان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوما، فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة سليمان، و قال: يا أمينة، خاتمي. فتختّم به و جلس على كرسي سليمان، فأتى عليه الطير و الجنّ و الإنس.

و تغيّرت هيئة سليمان، فأتى أمينة لطلب الخاتم. فأنكرته و طردته، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفّف، و إذا قال: أنا سليمان، حثوا التراب عليه و سبّوه، ثمّ أخذ يخدم السمّاكين، ينقل لهم فيعطونه كلّ يوم سمكتين، فمكث عليه بهذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف و عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان، و سأل آصف نساء سليمان، فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها، و لا يغتسل من جنابة. و قيل: نفذ حكمه في كلّ شيء إلاّ فيهنّ. ثمّ طار الشيطان، و قذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة، و وقعت السمكة في يد سليمان، فشقّ بطنها، فاذا هو بالخاتم، فتختّم به، و وقع ساجدا للّه، و رجع إليه ملكه، و أخذ ذلك الشيطان، و أدخله في صخرة، و ألقاها في البحر (1).

أقول: عليه يكون الجسد الملقى على كرسيّه ذلك الشيطان بتأويلات، و هذه الرواية مردودة بوجوه كثيرة، منها: أنّ الشياطين لا يتصوّرون بصور الأنبياء، و أنّ سليمان لم يكن عاصيا حتى يعاقب عليه إلى غير ذلك.

و قيل: إنّ فتنته كانت بسبب مرض ابتلاه اللّه بحيث صار كالجسد الملقى على كرسيّه لا قوة له و لا روح، ثمّ أناب و رجع إلى الصحّة (2).

سوره 38 (ص): آیه شماره 35 الی 40

قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ اَلشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَ غَوّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40)

ص: 344


1- . تفسير الرازي 26:207.
2- . تفسير الرازي 26:209.

ثمّ سأل اللّه تبارك و تعالى أهمّ حوائجه الاخروية حيث قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي زلاتي التي لا تليق بمقام نبوّتي، ثمّ أردفه بطلب ما فيه إصلاح امور دنياه و قوة ترويجه للدين بقوله: وَ هَبْ لِي يا ربّ، و أعطني مُلْكاً و سلطانا عظيما لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من خلقك مِنْ بَعْدِي و يكون أرفع من أن يناله غيري حتّى تكون لي معجزة دالة على صدق نبوتي، و وسيلة لا نجاح مقاصدي من هداية خلقك، و رفع الظلم و إشاعة العدل، و ترويج الدين إِنَّكَ لا تردّ دعائي و مسألتي لأنّك أَنْتَ اَلْوَهّابُ و كثير العطاء لا نقص في خزائنك، و لا بخل في ساحتك، و لا مانع من جودك

فَسَخَّرْنا و ذللّنا لَهُ اَلرِّيحَ إجابة لدعائه بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ حال كونها رُخاءً أو طيبة حَيْثُ أَصابَ سليمان و قصد من البلاد و الأماكن البعيدة

وَ سخّرنا اَلشَّياطِينَ له، أعني كُلَّ بَنّاءٍ منهم، ليبني له ما أراد من الأبنية وَ كلّ غَوّاصٍ يغوص في البحر فيخرج له اللاليء و المرجان و النفائس

وَ آخَرِينَ منهم مُقَرَّنِينَ و مقيّدين فِي اَلْأَصْفادِ و القيود.

و من المعلوم أنّ لطافة أجسامهم لا تنافي صلابتها، بحيث يقدرون على تحمّل الأشياء الثقيلة، كحمل ملك بلاد قوم لوط، و نرى الرياح تحمل الأحجار الثقيلة في الغاية و تخريب الأبنية العظيمة، و لا ينافي تقييدهم بالقيود التي لا يقدرون على قطعها و كسرها.

و قيل: إنّ تقييدهم كناية عن منعهم من الشرور و الفساد (1)بحيث لا يقدرون على شيء منها.

ثمّ قلنا له: هذا الملك العظيم عَطاؤُنا الخاصّ بك، لم نعطه أحدا قبلك، و لا نعطه أحدا بعدك فَامْنُنْ و أعط ما شئت لمن شئت أَوْ أَمْسِكْ و امنع ما شئت عمّن شئت حال كونك متلبّسا بِغَيْرِ حِسابٍ و مأخذة على شيء من عطائك و منعك، لتفويض التصّرف إليك على الإطلاق.

عن ابن عباس: أعط من شئت و امنع من شئت بغير حساب، لا حرج عليك فيما أعطيت، و فيما أمسكت (2).

قيل: ما أنعم اللّه على أحد نعمة إلاّ كانت عليه تبعة إلاّ سليمان فان أعطى اجر عليه، و إن لم يعط لم يكن عليه تبعة (3).

و قيل: إنّ قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ متعلق بعطائنا، و المعنى أنّ هذا العطاء لا يمكن حسابه لغاية

ص: 345


1- . تفسير أبي السعود 7:227، تفسير روح البيان 8:37.
2- . تفسير الرازي 26:211.
3- . تفسير روح البيان 8:39.

كثرته (1).

و قيل: إنّ المراد من المنّ و الإمساك بالنسبة إلى الشياطين المقيّدين، و المعنى امنن على من شئت منهم بفكّه، و أمسك من شئت منهم في القيد (2)وَ مع ذلك إِنَّ لَهُ عِنْدَنا في الدنيا لَزُلْفى و قربة حيث إنّهمن المرسلين المكرمين وَ له حُسْنَ مَآبٍ بعد الموت، و في الآخرة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 41 الی 44

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بافتتان داود و سليمان بزلّتهما مع ما كان لهما من النبوة و السلطنة، و سلامة نبينا منه، أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصبر على الأذى ببيان صبر أيوب عليه السّلام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد عَبْدَنا أَيُّوبَ بن آموص من ولد إسحاق إِذْ نادى رَبَّهُ و دعاه، و كان دعاؤه أَنِّي مَسَّنِيَ و أصابني اَلشَّيْطانُ بنفخة فيّ، أو بدعائه بِنُصْبٍ و تعب و مشقّة وَ عَذابٍ و مرض موجع و ألم شديد، و أنت أرحم الراحمين، كما في سورة الانبياء،

فاستجابنا و قلنا له: يا أيوب اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ و اضربها على الارض بقوة، فضربها فنبعت عين من محلّ ضرب رجله، فقلنا له: هذا الماء الذي خرج من العين مُغْتَسَلٌ بارِدٌ تغتسل به وَ شَرابٌ تشرب منه، فاغتسل في ذلك الماء يبرأ ظاهرك، و اشرب منه يبرأ باطنك.

وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41) اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (44)و قيل: مغتسل بارد يبرّد حرارة الظاهر، و شراب يبرّد حرارة الباطن (3)فاغتسل من الماء و شرب منه، فذهب ما به [من]الداء من ظاهره و باطنه، فقام صحيحا سالما من الأمراض، و عاد إليه شبابه و جماله أحسن ما كان (4).

عن ابن عباس رحمه اللّه: مكث أيوب في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة أيام و سبع ساعات، لم يغمّض فيهنّ، و لم ينقلب في المدّة من جنب إلى جنب (5)، فكشفنا ما به من ضرّ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ و أولاده الذين هلكوا حين ابتلائه بهدم البناء عليهم وَ وهبنا مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكان له من الأولاد ضعف ما كان قبل البلاء.

ص: 346


1- . تفسير أبي السعود 7:228، تفسير روح البيان 8:39.
2- . تفسير الرازي 26:211.
3- . تفسير روح البيان 8:41. (4 و 5) . تفسير روح البيان 8:41.

عن الصادق عليه السّلام: أحيا اللّه أهله الذين ماتوا قبل البلية، و أحيا اللّه الذين ماتوا حين البلية» (1)و كان ذلك رَحْمَةً عظيمة مِنّا عليه. قيل: يعني لرحمة عظيمة عليه من عندنا (2)وَ ليكون ذِكْرى و عظة و عبرة لِأُولِي اَلْأَلْبابِ ليصبروا على الشدائد كما صبر أيوب، و يلجأوا إلى اللّه فيما نزل بهم كما لجأ أيوب إليه، ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة، كما تمّ لمّا حلف أيوب أن يضرب (رحمة) زوجته لتقصير توهّمه في حقّها، كما مرّ تفصيله في سورة الأنبياء، و كان مغتما على حلفه بعد اطّلاعه على عذرها فيه، كشف اللّه غمّه بقوله:

وَ خُذْ يا أيوب بِيَدِكَ ضِغْثاً و حزمة أو قبضة من ريحان أو حشيش يكون عدده مائة فَاضْرِبْ بِهِ رحمة و أبرّ قسمك وَ لا تَحْنَثْ في يمينك.

ثمّ مدحه سبحانه بالصبر و القيام بوظائف العبودية و الرجوع إلى اللّه و عدم الشكوى إلى غيره بقوله: إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً على البلايا (3)العظام التي أصابته في نفسه و أهله و ماله نِعْمَ اَلْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوّابٌ إلى اللّه رجّاع إليه لا إلى غيره.

روي عن ابن مسعود أنّه قال: أيوب رأس الصابرين إلى يوم القيامة (4).

روي أنّه لمّا كشف اللّه البلاء عن أيوب خطر في قلبه أنّه حسن صبره فيما نزل عليه من البلاء فنودي: يا أيوب، أأنت صبرت أم نحن صبّرناك؟ يا أيوب، لو لا أنّا وضعنا تحت كلّ شعرة من البلاء جبلا من الصبر لم تصبر (5).

و في قوله: إِنَّهُ أَوّابٌ دلالة على أنّه علّة مدحه بالعبودية. قيل: لمّا نزل نِعْمَ اَلْعَبْدُ في حقّ سليمان، و في حقّ أيوب، عظم الغمّ في قلوب المؤمنين، و قالوا: لا سبيل لنا إلى تحصيل هذا الشرف؛ لأنّ سليمان ناله بملك لا ينبغي لأحد بعده، و أيوب ناله بالصبر على البلايا (4)التي نزلت عليه، و لا نقدر على أحدهما. فأنزل اللّه تعالى: نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ (5)و المراد أنّك إن لم تكن نعم العبد، فانّا نعم المولى، و إن كان منك تقصير، فمنّي الرحمة و التيسير (6).

سوره 38 (ص): آیه شماره 45 الی 49

وَ اُذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصارِ (45) إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيارِ (47) وَ اُذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)

ص: 347


1- . تفسير القمي 2:242، تفسير الصافي 4:301.
2- . تفسير أبي السعود 7:229، تفسير روح البيان 8:42.
3- . في النسخة: البلاء. (4 و 5) . تفسير روح البيان 8:45.
4- . في النسخة: البلاء.
5- . الأنفال:8/40.
6- . تفسير الرازي 26:216.

ثمّ ذكر سبحانه أحوال جمع من الأنبياء العظام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد عِبادَنا المخلصين إِبْراهِيمَ كيف ابتلي بنار نمرود وَ إِسْحاقَ كيف ابتلي بالمصائب العظيمة وَ يَعْقُوبَ كيف ابتلي بفراق يوسف حتّى ابيضّت عيناه من الحزن مع أنّهم كانوا أُولِي اَلْأَيْدِي و القوة في العبادة وَ ذوي اَلْأَبْصارِ و المعارف الإلهية

إِنّا أَخْلَصْناهُمْ و برّأناهم من حبّ الدنيا و الشهوات و رذائل الأخلاق، أو محّضناهم لنا بسبب صفة كريمة بِخالِصَةٍ من الخصال العالية التي لا شوب فيها، و هي ذِكْرَى اَلدّارِ الآخرة، بحيث نسوا الدنيا و ما فيها، بل نسوا أنفسهم.

و قيل: إنّ المراد خصصناهم بفضيلة و كرامة خالصة لهم، و هي ذكرهم بالعظمة و علوّ الرّتبة في الدار الآخرة، أو في الدنيا إلى يوم القيامة استجابة لدعائهم بقوله: وَ اِجْعَلْ لنا لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ (1).

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا و في علمنا، أو في نظرنا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ و المختارين من أولاد آدم و المتجبين من الخلق، لكمال قربنا، و التمحّض لعبادتنا، و تحمّل أعباء رسالتنا، و من اَلْأَخْيارِ الذين لا يتمشّى منهم إلاّ ما فيه رضا ربهم و صلاح دينهم و نفع أبناء جنسهم،

و في الوصفين دلالة على عصمتهم وَ اُذْكُرْ يا محمّد جدّك إِسْماعِيلَ بن إبراهيم وَ اَلْيَسَعَ بن أخطوب خليفة إلياس-على ما قيل-نبيّ من أنبياء بني إسرائيل (2)وَ ذَا اَلْكِفْلِ قيل: هو إلياس (3). و قيل: إنّه ابن عمّ اليسع (4)و قيل: إنّه يوشع (5)و قيل: إنّه ابن ايوب (6)، كيف قاسوا الشدائد و الآفات، و صبروا على البلايا و الأذيات وَ كُلٌّ منهم مِنَ اَلْأَخْيارِ المشهورين بالخير و الصلاح

هذا المذكور من افتتان الانبياء و صبرهم على المحن ذِكْرٌ و عظة لك و تذكرة و تسلية لقلبك، حيث إنّ من شأنك أن تصبر على ما لا يصبر عليه غيرك.

قيل: إنّ المراد هذا الذي تلونا عليك ذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون به إلى آخر الدهر (7).

ثمّ سلاّه سبحانه بذكر المثوبات التي تترتّب على التقوى و إطاعة أحكام اللّه الموجبة للصبر عليها بقوله: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ و المطيعين لأوامر اللّه و نواهيه مع مالهم من الشرف و الذّكر الجميل لَحُسْنَ مَآبٍ و مرجع بعد الخروج من الدنيا.

ص: 348


1- . تفسير الرازي 26:217، و الآية من سورة الشعراء:26/84.
2- . تفسير البيضاوي 2:314، تفسير أبي السعود 7:230، تفسير روح البيان 8:47.
3- . تفسير روح البيان 8:47.
4- . تفسير البيضاوي 2:314، تفسير أبي السعود 7:231، تفسير روح البيان 8:47.
5- . تفسير روح البيان 8:47.
6- . تفسير البيضاوي 2:314، تفسير روح البيان 8:47.
7- . تفسير روح البيان 8:48.

سوره 38 (ص): آیه شماره 50 الی 58

ثمّ بيّن سبحانه حسن مآبهم بقوله: جَنّاتِ عَدْنٍ و بساتين تكون لهم الإقامة فيها أبدا. و قيل: إنّ عدن علم الجنات، لما روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أن اللّه تعالى بنى جنة عدن بيده، و بناها بلبنة من ذهب و لبنة من فضّة، و جعل ملاطها المسك، و ترابها الزعفران، و حصيائها الياقوت (1).

جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَ إِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ اَلْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)و على أيّ تقدير إذا جاءها المتّقون وجدوها مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوابُ منها فيدخلونها بلا انتظار لأن يفتحها البوّابون و أن يوذن لهم في الدخول، بل يستقبلهم الملائكة بالترحيب و التبجيل و التسليم.

و قيل: إنّ فتح ابوابها كناية عن عدم منعهم من الدخول (2)، فاذا دخلوا الجنة جلسوا على السرير كالملوك حال كونهم مُتَّكِئِينَ على النّمارق المصفوفة و معتمدين عليها فِيها مستريحين منعمّين يَدْعُونَ فِيها لتلذّذهم بِفاكِهَةٍ و أنواع كَثِيرَةٍ من ثمار الجنة وَ شَرابٍ من خمر و عسل و لبن و غيرها.

ثمّ بيّن سبحانه منكوحهم بقوله: وَ عِنْدَهُمْ فيها أزواج قاصِراتُ اَلطَّرْفِ على أزواجهنّ، لا ينظرون إلى غيرهم، و أَتْرابٌ و متساويات مع أزواجهنّ في السنّ، لا فيهن عجوزة و لا صغيرة. قيل: لأنّ التحابّ بين الأقران أرسخ (1).

في الحديث: «يدخل أهل الجنة [الجنة]جردا مكحّلين أبناء ثلاث و ثلاثين سنة، لكلّ رجل منهم زوجتان، على كلّ زوجة سبعون حلّة، يرى مخّ ساقيها من ورائها» (2).

و يقول لهم الملائكة: هذا الذي ترون من الثواب العظيم و النعمة الجسيمة هو ما كنتم تُوعَدُونَ في الدنيا على لسان نبيكم على الايمان و التقوى لِيَوْمِ اَلْحِسابِ و وقت جزاء الأعمال

إِنَّ هذا الذي أنتم فيه من أنواع النّعم و الكرامات لَرِزْقُنا و عطاؤنا لأوليائنا و المتّقين من عبادنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ و انقطاع أبدا و زوال أصلا.

عن ابن عباس: ليس لشيء نفاد، ما اكل من ثمارها خلّف مكانه مثله، و ما أكل من حيوانها و طيرها

ص: 349


1- . تفسير روح البيان 8:48.
2- . تفسير روح البيان 8:49.

عاد مكانه حيا (1).

هذا الذي قلنا للمتّقين في الآخرة، و أمّا الكفّار فبيّن سبحانه أنّهم في ضدّ حال المتّقين بقوله: وَ إِنَّ لِلطّاغِينَ على اللّه، و المكذّبين للرسل، و المتجاوزين عن الحدّ في العصيان لَشَرَّ مَآبٍ و أسوأ مرجع بعد الموت، و إن كانوا في الدنيا أحسن حالا من المؤمنين،

و اعلموا أنّ مآبهم جَهَنَّمَ التي لا شرّ منها، و هم يَصْلَوْنَها و يدخلون فيها بعنف، لأنّهم مهّدوها لأنفسهم في الدنيا فَبِئْسَ اَلْمِهادُ و الفراش جهنّم. قيل إطلاق المهاد و الفراش عليها من التهكّم و السّخرية (2).

هذا الذي هيّئناه لهم و أحضرناه عندهم فَلْيَذُوقُوهُ و ليطعموه، و هو حَمِيمٌ و مائع متناه في الحرارة و الحرقة وَ غَسّاقٌ و مائع متناه في البرودة. عن ابن عباس: هو الزّمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها (3). و قيل: إنّه ما يسيل من قيح أهل النار (4).

و قيل: إنّه مائع منتن لو قطرت قطرة منه في المشرق لأنتنت أهل المغرب (5).

و عن كعب: أنّه عين في جهنم يسيل إليها سمّ كلّ ذي سمّ من عقرب و حيّة (2).

و القمي، قال: الغسّاق: واد في جهنّم فيه ثلاثمائة و ثلاثون قصرا، في كلّ قصر ثلاثمائة بيت، في كلّ بيت أربعون زاوية، في كلّ زاوية شجاع (3)في كلّ شجاع ثلاثمائة و ثلاثون عقربا، في حمة (4)كلّ عقرب ثلاثمائة و ثلاثون قلّة من سمّ، لو أنّ عقربا منها نفحت سمّها على أهل جهنّم لوسعهم سمّها (5).

قيل: إنّ في الآية تقديما و تاخيرا، و المراد هذا حميم و غسّاق فليذوقوه (6).

وَ عذاب آخَرُ أو مذوق آخر من مثل هذا العذاب أو المذوق، و مِنْ شَكْلِهِ في التعذيب و الإيلام و الشدّة و الفظاعة أَزْواجٌ و أجناس مختلفة. قيل: إنّه صفة للحميم و الغسّاق و العذاب الآخر (7).

سوره 38 (ص): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء حال الكفّار في أنفسهم، بيّن حالهم مع أتباعهم و مواليهم الذين كانوا معهم

هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا اَلنّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ اَلْقَرارُ (60)

ص: 350


1- . تفسير روح البيان 8:50. (2 و 3) . تفسير روح البيان 8:51. (4 و 5) . تفسير الرازي 26:221، تفسير أبي السعود 7:232، تفسير روح البيان 8:51.
2- . تفسير الرازي 26:221.
3- . الشّجاع: ضرب من الحيات.
4- . الحمة: الإبرة التي تضرب بها العقرب.
5- . تفسير القمي 2:242، تفسير الصافي 4:306.
6- . تفسير الرازي 26:221.
7- . تفسير الرازي 26:221.

في الدنيا مخاطبا للرؤساء بقوله: هذا الفوج و الجمع السريع اللحوق بكم في دخول النار أيّها الرّؤساء فَوْجٌ و جمع مُقْتَحِمٌ و داخل مَعَكُمْ بالقهر و الشدّة في النار، كما كانوا يتبعونكم في الدنيا، و يسارعون في قبول قولكم في الكفر و الضلال بالاختيار. قيل: هو حكاية لقول الخزنة لرؤساء الكفار (1).

قيل: يضرب الزبانية المتبوعين و الأتباع معا بالمقامع، فيسقطون في النار خوفا من تلك المقامع (2).

ثمّ لمّا رأى الرّؤساء ضيق مكانهم بدخول الأتباع معهم قالوا في جواب الخزنة: لا مَرْحَباً بِهِمْ و لا كرامة لهم إِنَّهُمْ أيضا صالُوا اَلنّارِ و داخلوها فيضيّقون علينا المكان، و يسوئوننا بقبح منظرهم و سوء صحبتهم.

القمي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ النار تضيق عليهم كضيق الزّجّ بالرمح» (3).

فلمّا سمع الأتباع سوء مقال الرؤساء في حقّهم قالُوا بَلْ أَنْتُمْ أيّها الرؤساء أحقّ بالدعاء عليكم، و أن يقال لكم: لا مَرْحَباً بِكُمْ و لا كرامة لكم إذ أَنْتُمْ تدعوننا إلى الكفر و تزيينه في نظرنا و ترغيبنا إليه، و ابتليتمونا بالعذاب و الصلي في النار و قَدَّمْتُمُوهُ لَنا و أوقعتمونا فيه، و جعلتم النار لنا مقرّا فَبِئْسَ اَلْقَرارُ و ساء المقرّ جهنّم.

سوره 38 (ص): آیه شماره 61 الی 64

ثمّ أعرض الاتباع عن مكالمة رؤسائهم و مخاصمتهم، و قالوا متضرّعين إلى اللّه بقولهم: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا العذاب أو الصّلي فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً و مضاعفا فِي اَلنّارِ لضلالهم و إضلالهم.

قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي اَلنّارِ (61) وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ اَلنّارِ (64)عن القمي: تأويل الطاغين بالاول و الثاني و بني امية، و تأويل الأزواج ببني العباس، و قوله: لا مَرْحَباً بِكُمْ يقول بنو امية لا مرحبا بهم وَ قالُوا يعني بنو فلان: لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا يعني بدأتم بظلم آل محمد قالُوا يعني بنو امية: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا يعنون الأول و الثاني (4).

ص: 351


1- . تفسير أبي السعود 7:232، تفسير روح البيان 8:52.
2- . تفسير روح البيان 8:52.
3- . مجمع البيان 8:753، تفسير الصافي 4:307، و لم أعثر عليه في تفسير القمي، و الزّج: الحديدة في أسفل الرمح.
4- . تفسير القمي 2:242.

وَ أمّا شرح حال الطاغين مع أعدائه المؤمنين، فهو أنّهم إذا نظروا إلى أطراف جهنّم لا يرون المؤمنين قالُوا تعجّبا و توبيخا ما لَنا و أيّ حال عرض علينا بسببه لا نَرى في جهنم رِجالاً كانوا في الدنيا و كُنّا فيها نَعُدُّهُمْ و نحسبهم مِنَ اَلْأَشْرارِ و المفسدين لمخالفتهم إيّانا في الدين، و سبّهم آلهتنا، و تشتيت شملنا، و إلقاء البغضاء بيننا. و قيل: أرادوا بالأشرار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدّونهم من الأراذل و السّفلة الذين لا خير فيهم،

و يسخرون منهم كسلمان و بلال و أضرابهما (1)أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا و ما كانوا كما توهّمنا، فلم يدخلوا النار أَمْ دخلوها و زاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصارُ و انحرفت عنهم الأنظار، فلم نلتفت إليهم.

و قيل: إنّ المراد توبيخ أنفسهم عن الاستسخار منهم في الدنيا أو تحقيرهم فيها، و المعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أو الازدراء بهم و تحقيرهم، فأنكروا كلا من الفعلين على أنفسهم توبيخا لها (2).

و قيل: إنّ (أم) منقطعة، و المعنى اتخذناهم سخريا، بل زاغت عنهم أبصارنا في الدنيا تحقيرا لهم، و كانوا خيرا منّا و نحن لا نعلم (3)إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا و أخبرنا بوقوعها يوم القيامة لَحَقٌّ و صدق و واقع البتة، و هو تَخاصُمُ أَهْلِ اَلنّارِ وجدا لهم فيها بعضهم مع بعض.

سوره 38 (ص): آیه شماره 65 الی 68

ثمّ لمّا ذكر سبحانه قصص الأنبياء الذين صبروا على البلايا و المحن، تسلية للنبي، و حثا له على الصبر على أذى قومه، و ذكر بعده ثواب الايمان و التقوى، و عقاب الكفر و العصيان لما ذكر، و ليصير داعيا للكفار الى الايمان، و رادعا لهم عن الكفر و مخالفة الرسول، عاد إلى بيان الرسالة و التوحيد بقوله تبارك و تعالى: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ مخوّف لكم من عذاب اللّه على الكفر و العصيان، و قل لهم: ما مِنْ إِلهٍ و معبود بالاستحقاق في عالم الوجود إِلاَّ اَللّهُ الذي هو اَلْواحِدُ ذاتا و صفاة بحيث لا يمكن تصوّر الكثرة و التعدّد فيه بجهة من الجهات أصلا، و هو اَلْقَهّارُ لكلّ شيء، و الغالب على كلّ شيء بقدرته يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء، فكيف تدّعون له شركاء و لا تخافون قهره و عقابه؟ !

قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (65) رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)

ص: 352


1- . تفسير روح البيان 8:53.
2- . تفسير أبي السعود 7:233، تفسير الصافي 8:54.
3- . تفسير روح البيان 8:54.

ثمّ أكّد سبحانه وحدته و قدرته بقوله: رَبُّ اَلسَّماواتِ السبع وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا من آلهتكم و غيرها، و مالك جميع الموجودات، و مدبّر جميع العوالم، و هو اَلْعَزِيزُ الذي لا يغلب في أمر من الامور، فلا يكون لشيء عزّة و لا قوة و لا غلبة بوجه من الوجوه.

ثمّ إنّه تعالى بعد ترهيب المشركين بتوصيف ذاته المقدسة بالقهارية، رغّبهم بالتوبة بتوصيف ذاته بالغفارية، كأنه قال: هو مع قهاريته، و عظمة سلطنته، و كمال قدرته على الانتقام اَلْغَفّارُ لمن خالفه و عصاه، و مع عفوه ستّار لقبائح أعماله إذا تاب و آمن و عمل صالحا. في الحديث: «إذا قال العبد: يا رب اغفر لي. قال اللّه: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أنّ له ربا يغفر الذنوب و ما يؤاخذ (1)به، أشهدكم أنّي قد غفرت له» (2). و إنّما قدّم ذكر وصف القهارية لمناسبته للانذار.

قُلْ يا محمد، للمشركين: إنّ القرآن الذي جئتكم به هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ و خبر ذو فائدة مهمة، و ذو شأن جسيم، نازل من اللّه الكريم، ينبّئكم بالتوحيد و النبوة و المعاد، و كيفية الحشر و الجنة و النار، و العلوم الكثيرة و الحكم الوفيرة، و الأحكام و الأخلاق و الآداب، و كلّ ما تحتاجون إليه من امور المعاش و المعاد و

أَنْتُمْ أيّها المشركون لانغماركم في الضلال عَنْهُ مُعْرِضُونَ و لتصلّبكم في دينكم به لا تعتنون، مع أنّ جميع الامور المذكورة من أعظم موجبات السعادة، و الجهل بها من أعظم أبواب الشّقاوة، و بداهة العقل تحكم بوجوب النظر و التفكّر فيها و عدم جواز المساهلة فيها و التغافل عنها.

سوره 38 (ص): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ استدلّ سبحانه على أنّ القرآن كلام اللّه تعالى، و أنّه نازل منه إليه بالوحى بقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ ما بوجه من الوجوه بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى و أحوال الملائكة الساكنين في السماوات العلى، و مكالماتهم بطريق السماع من العلماء و قراءة الكتب و الحضور عندهم إِذْ يَخْتَصِمُونَ و حين يقولون للّه بعد قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً (3)أ تجعل فيها خلقا تغلب عليهم الشهوة و الغضب، فيفسدون فيه و يسفكون الدماء، و نحن مطهّرون من الرذيلتين و منزّهون ممّا يترتّب عليهما من قبائح الأعمال، و مع ذلك نسبّحك و نقدّس لك. فردّه اللّه بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (4)و إنّما

ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

ص: 353


1- . في تفسير روح البيان: و يأخذ.
2- . تفسير روح البيان 8:55.
3- . البقرة:2/30.
4- . البقرة:2/30.

عبّر سبحانه عن تلك المكالمة بالمخاصمة، لكونها بصورة الاعتراض و الردّ، و إن كان غرض الملائكة السؤال عن الحكمة.

عن الباقر عليه السّلام-في حديث المعراج-: «قال: يا محمّد. قلت: لبيك، قال: فيما اختصم الملأ و الأعلى؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلاّ ما علّمتني: قال: فوضع يده-أي يد القدرة-بين كتفيّ، فوجدت بردها بين ثدييّ. قال: فلم يسألني عمّا مضى و عمّا بقي إلاّ علمته، فقال: يا محمّد، فيما اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات و الدرجات و الحسنات» (1).

و في رواية (المجمع) : «فأمّا الكفارات فإسباغ الوضوء في السّبرات (2)، و نقل الأقدام إلى الجماعات، و انتظار الصلاة بعد الصلاة، و أمّا الدرجات فإفشاء السّلام، و إطعام الطعام، و الصلاة بالليل و الناس نيام» (3).

و على أي تقدير، لا يتصوّر لي طريق إلى العلم بهذه الامور المذكورة في الكتب السماوية إلاّ بالوحي من اللّه إليّ و إِنْ يُوحى إِلَيَّ و ما ينزل هذه المغيبات عليّ إِلاّ لأجل أَنَّما أَنَا رسول من اللّه إليكم نَذِيرٌ لكم من عذاب اللّه على الكفر و العصيان مُبِينٌ و ظاهر إنذارتي و رسالتي عندكم بالدلائل الموضّحة لها و المعجزات الباهرة.

سوره 38 (ص): آیه شماره 71 الی 85

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

ص: 354


1- . تفسير القمي 2:243، تفسير الصافي 4:309.
2- . السّبرات: جمع سبرة، الغداة الباردة.
3- . مجمع البيان 8:756، تفسير الصافي 4:309.

ثمّ لمّا كان المانع عن إيمان المشركين الحسد و الكبر، و كان امتناع إبليس عن السجود لآدم ذلك المذكورين، حكى سبحانه خصومة الشيطان معه في أمره بالسجود له في الملأ الأعلى بقوله: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الساكنين في الأرض أو لعمومهم إِنِّي بعد حين خالِقٌ بقدرتي بَشَراً و إنسانا ظاهر الجلد في الأنظار مِنْ طِينٍ و تراب مبلول

فَإِذا سَوَّيْتُهُ و صنعت جسده، و أكملت خلق أجزائه، و صوّرته بالصورة الإنسانية وَ نَفَخْتُ فِيهِ بعد تسويته، و أفضت عليه الجوهر القدسي الذي كانه لشرفه و عظمته مِنْ رُوحِي و ليس لي روح فَقَعُوا أيّها الملائكة و خرّوا لَهُ حال كونكم ساجِدِينَ تكريما و تعظيما له، لاستحقاقه منصب الخلافة الإلهية.

ثمّ لمّا أتمّ اللّه تعالى خلقه، و نفخ فيه الروح، قام من مكانه فَسَجَدَ له اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ من غير ريث و تأخير طاعة للّه و تعظيما لآدم. قيل: أوّل من سجد إسرافيل، و لذا جوزي بولاية اللّوح المحفوظ (1).

ثمّ سجد سائر الملائكة إِلاّ إِبْلِيسَ لأنّه اِسْتَكْبَرَ و تأنّف من السجود له و تعظيمه وَ كانَ لذلك مِنَ اَلْكافِرِينَ لنعم ربّه، و منكري علمه و حكمته، أو كان في علم اللّه من بدو خلقته من الكافرين، و إن كان في الظاهر معدودا من الملائكة لكثرة عبادته،

فلمّا امتنع الملعون من السجود قالَ اللّه مشافهة له: يا إِبْلِيسُ أخبرني ما مَنَعَكَ و أي رادع ردعك من أَنْ تَسْجُدَ إكراما و تعظيما لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و أوجدته بقدرتي بلا توسّط أب و امّ و دخالة شيء من الأسباب.

عن الرضا عليه السّلام، قال: «يعني بقدرتى و قوّتي» (2).

قيل: إنّ تثنية اليد كناية عن كمال القدرة في خلقه (3).

و قيل: اريد يد القدرة و يد النعمة (4).

و قيل: لمّا كان مباشرة السلطان حمل شيء بيده دليل على كمال عنايته به، كنّى سبحانه عن غاية عنايته بخلق آدم بقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (5).

أَسْتَكْبَرْتَ الآن، و هل تعظّمت في نفسك بغير جهة أَمْ كُنْتَ في الواقع، أو من قبل مِنَ الأكابر و اَلْعالِينَ شأنا بالاستحقاق؟ !

قيل: إنّ المراد من العالين الملائكة الذين لم يؤمروا بالسجود، و هم الأرواح الجرّدة (6)، أو المراد

ص: 355


1- . تفسير روح البيان 8:59.
2- . التوحيد 153/2، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:120/13، تفسير الصافي 4:310.
3- . تفسير روح البيان 8:60.
4- . تفسير الرازي 26:230 و 231، تفسير روح البيان 8:60.
5- . تفسير الرازي 26:231.
6- . تفسير روح البيان 8:61.

أشباح محمد صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه الذين كانوا يعبدون اللّه عند ساق العرش (1).

قالَ إبليس: سجود الأفضل للمفضول قبيح، و أَنَا خَيْرٌ من آدم و أفضل مِنْهُ ذاتا و خلقة؛ لأنّك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ متصاعدة بالطبع نوارنية لطيفة بالذات، و أين أنا من آدم الذي أوجدته وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هابط بالطبع ظلماني، كثيف بالذات!

بيان وجوه خيرية

التراب على النار

و الحاصل أن آدم لو كان مخلوقا من النار ما سجدت له، لكونه مثلي، فكيف أسجد و أخضع له و هو دوني، و هذا المانع الذي أبداه في الظاهر-و إن كان مانعه في الحقيقة الكبر و الحسد-في غاية الفساد؛ لأنّ مباشرته تعالى خلقته بذاته المقدّسة و نفخه فيه من روحه و إفاضة العلم الذي لا يعلمه الملائكة المقرّبون عليه، من أقوى الأدلّة على فضله عليه و على سائر الملائكة مع أنّه قيل: إنّ التراب خير من النار لوجوه.

منها: أنّ طبع النار الفساد و إتلاف ما تعلّقت به، بخلاف التراب فانّه إذا وضع فيه البذر أخرجه أضعاف ما وضع فيه، بخلاف النار فانّها آكلة له.

و منها: أنّ طبع النار الخفّة و الطّيش و الحدّة، بخلاف التراب فانّ طبعه الرّزانة و السّكون و الثّبات.

و منها: أنّ التّراب يتكوّن فيه و منه أرزاق الحيوانات و أقواتهم، و لباس الناس و زينتهم، و آلات معايشهم و مساكنهم، و ليس في النار تلك الفوائد.

و منها: أنّ التّراب ضروريّ للحيوانات لا يستغنون عنه في حال و لا عمّا يتكون فيه و منه، و النار يستغني عنها الحيوان مطلقا إلاّ الإنسان، و هو أيضا يستغني عنها أياما و شهورا، و منها أنّ النار لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محلّ تقوم به يكون حاملا لها، و التراب يقوم بنفسه لا يفتقر إلى حامل.

أقول: فيه نظر ظاهر.

و منها: أنّ النار مفتقرة إلى التراب، لأنّ المحلّ الذي تقوم به لا يتكوّن إلاّ من تراب أو فيه، [فهي المفتقرة إلى التراب]و التراب غنيّ عنها.

أقول: و فيه نظر.

و منها: أنّ مادة إبليس هي المارج من نار، و هو ضعيف تتلاعب به الأهوية، فيميل معها كيف ما مالت، و لذا غلب الهوى على المخلوقين منه فأسره و قهره، بخلاف مادة آدم، و هي التراب، فهو قوّي لا يذهب مع الهواء أين ذهب، فهو قهر هواه و أسره، و رجع إلى ربّه فاجتباه، فكان الهواء الذي مع مادة آدم سريع الزوال فزال، و عاد آدم إلى الثبات و الرزانة التي كانت أصلا له، و كان إبليس بالعكس،

ص: 356


1- . فضائل الشيعة:49/7، تأويل الآيات 2:508/11.

فعاد كلّ إلى أصله و عنصره، آدم إلى أصله الطيب الشريف، و اللّعين إلى أصله الرديء الخبيث.

و منها: أنّ النار و إن كان لها بعض المنافع كالطبخ و التسخين و الاستضاءة بها، إلاّ أن الشرّ كامن فيها، لا يصدّها عنه إلاّ قسرها و حبسها، و لو لا ذلك لأفسدت الحرث و النسل، و أمّا التراب فالخير و البركة كامن فيه، كلّما اثير و قلب ظهر خيره و بركته و ثمرته.

و منها: أنّ اللّه تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه، و أخبر عن منافعها، و أنّه جعلها، مهادا و فراشا و بساطا و قرارا و كفاتا للأحياء و الأموات، و دعا عباده إلى التفكّر فيها، و النظر في آياتها و عجائبها و ما أودع فيها، و لم يذكر النار إلاّ في معرض العقوبة و التخويف و العذاب، إلاّ موضعا أو موضعين ذكرها فيه بأنّها تذكرة و متاع للمقوين، تذكرة بنار الآخرة، و تمتّع الآخرة، و تمتّع بها بعض الناس، و هم النازلون بالقواء، و هي الأرض الخالية، إذا نزل بها المسافر، فانّه يتمتّع بالنار في منزله.

و منها: أنّ اللّه تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه عموما، كما في قوله: وَ بارَكَ فِيها (1)و خصوصا كما في قوله: وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا فِيها (2)الآية، و نحوها. و أمّا النار فلم يخبر أنّ فيها بركة، بل المشهور أنّها مذهبة للبركات.

و منها: أنّ اللّه جعل الأرض محلّ بيوته التي يذكر فيها اسمه و يسبّح له فيها بالغدوّ و الآصال عموما، و بيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا و هدى للعالمين خصوصا، فلو لم يكن في الأرض إلاّ بيته الحرام لكفاها شرفا و فخرا على النار.

و منها: أنّ اللّه أودع في الأرض من المعادن و الأنهار و العيون و الثمرات و الحبوب و الأقوات و أصناف الحيوانات و أمتعتها، و الجبال و الرّياض و المراكب البهيّة و الصور البهيجة مالم يودع في النار.

و منها: أنّ غاية النار أنّها وضعت خادمة لما في الأرض، فانّ محلّها محلّ الخادم لهذه الأشياء فهي تابعة لها، فاذا استغنت عنها طردتها، و إذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمه (3).

فلمّا أظهر اللّعين التكبّر على آدم قالَ اللّه تعالى: فَاخْرُجْ يا إبليس من الجنّة، أو من السماوات، أو من بين الملائكة، و ابعد مِنْها قيل: تبيعده بإهباطه إلى الأرض (4).

ثمّ بيّن سبحانه علّة أمره بخروجه بقوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ و مطرود من ساحة رحمتي و كلّ خير و بركة، و إنّما كنّى عن الطرد بالرجم، لأنّ كلّ مطرود مهان يرجم بالحجارة. و قيل: إنّ المراد مرجوم

ص: 357


1- . فصلت:41/10.
2- . الأنبياء:21/71.
3- . تفسير روح البيان 8:62.
4- . تفسير روح البيان 8:64.

بالشّهب (1)

وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي و الانقطاع عن رحمتي و فيوضاتي مستمرا و إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ و وقت جزاء الأعمال، فلا توفّق لعمل يوجب نجاتك من النار، و من كان ملعونا قبل اليوم كان ملعونا إلى الأبد و مبتلى بعذاب شديد هو نتيجة اللعن في الدنيا

قالَ إبليس: رَبِّ إذا آل أمري إلى الطرد و اللعن فَأَنْظِرْنِي و مهّلني في الدنيا و لا تمتني إِلى يَوْمِ القيامة الذي يحيل فيه آدم و ذرّيته و يُبْعَثُونَ من قبورهم للحساب. و لمّا كان إمهاله إلى يوم البعث مستلزما لعدم موته أبدا، لم يجبه اللّه تعالى [إلى]

مسؤوله،

بل قالَ سبحانه: فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ و الممهلين جزاء لعبادتك، و لكن

إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ عند اللّه غير معلوم لغيره، و هو النفخة الاولى على قول، أو الرجعة لا إلى يوم البعث.

فلمّا ظهر قهر اللّه و طرده في الدنيا و تعذيبه في الآخرة قالَ: إذن فَبِعِزَّتِكَ و قهرك و سلطانك، لآخذ ثأري من ذريّة آدم لَأُغْوِيَنَّهُمْ أحملنهم على العصيان بالوساوس و التسويلات، و لأضلّنهم عن الحقّ بإلقاء الشكوك و الشّبهات فيهم أَجْمَعِينَ.

ثمّ لمّا رأى علوّ مقام الخلّصين من عباده و عجزه عن إغوائهم قال: إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ أعني اَلْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لنفسك و طاعتك، عصمتهم من الزلاّت و التوجه إلى غيرك، لئلا يقع الخلف في وعيده،

و الكذب في إخباره قالَ اللّه تعالى تهديدا لابليس و التابعين له من ذرّيته: فَالْحَقُّ قسمي، أو أنا الحقّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ و قيل: إنّ المعنى فالحقّ تقول،

و الحقّ أقول و عزّتي لَأَمْلَأَنَّ يوم القيامة جَهَنَّمَ مِنْكَ و من جنسك من الشياطين وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ من ذرّية آدم و أطاعك مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ لا أترك من التابعين و المتبوعين أحدا.

سوره 38 (ص): آیه شماره 86 الی 88

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالاستدلال على بنوّته، و صدق كتابه، باشتماله على المغيبات التي لا تعلم إلاّ بالوحي، من تخاصم الملائكة، و تمرّد الشيطان من أمره بالسجود لآدم، و هو المقتضي للايمان، أمره بالاعلان بعدم طمعه في أموال الناس المانع لايمانهم بقوله قُلْ يا محمد: أنا مأمور من قبل اللّه بتبليغ كتابه، و إرشادكم إلى التوحيد و الطريق الحقّ و ما أَسْئَلُكُمْ و لا أطمع منكم عَلَيْهِ شيئا يسيرا مِنْ أَجْرٍ و مال، لأنّ عملي للّه و أجري عليه وَ ما أَنَا في دعوتي بنبوتي

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

ص: 358


1- . تفسير الرازي 26:234، تفسير روح البيان 8:64.

و كتابي مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ و المتعسّفين في دعوى شيء لا واقع له و لا حقيقة، بل دعوتكم إلى ما دلّ عليه البرهان و حكم به العقل السليم و المعجزات الباهرات.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا برئ من التكلّف و صالح امّتي» (1).

و في حديث آخر: «أنا و الأتقياء من امّتي برآء من التكلّف» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم» (1).

و عن ابن مسعود: يا أيّها الناس، من علم شيئا فليقل، و من لم يعلم شيئا فليقل: اللّه أعلم، فانّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: اللّه أعلم، فانّه تعالى قال لنبيه: وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ» (2).

عن الباقر عليه السّلام: «قال لأعداء اللّه أولياء الشيطان أهل التكذيب و الإنكار: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ يقول: متكلّفا أن أسألكم ما لستم بأهله» (3).

و عن الرضا عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه: لو أكرهت يا رسول اللّه من قدرت عليه من الناس على الاسلام لكثر عددنا و قوينا على عدونا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنت لألقى اللّه تعالى ببدعة لم يحدث لي فيها شيئا، و ما أنا من المتكلّفين» (4).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «المتكلّف يخطئ و إن أصاب، و المتكلّف لا يستجلب في عاقبة أمره إلاّ الهوان، في الوقت إلاّ التعب و العناء و الشّقاء، و المتكلّف ظاهره رياء، و باطنه نفاق، و هما جنّاحان بهما يطير المتكلّف، [و]ليس بالجملة من أخلاق الصالحين و لا من شعار المتّقين التكلّف في أيّ باب كان، قال اللّه لنبيه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ» (5).

ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن تنزيلا من اللّه، بأنّه لو كان من الخلق لكان فيه الترغيب إلى الدنيا، و الإلهاء عن ذكر اللّه، و القصص الكاذبة، و المطالب الباطلة. و إِنْ هذا القرآن، و ما هُوَ من أوله إلى آخره إِلاّ ذِكْرٌ وعظة لِلْعالَمِينَ و هدى و رحمة للمتقين من الجنّة و الناس أجمعين

وَ اللّه لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ و الخبر العظيم الشأن الذي فيه من الوعد و الوعيد و الترغيب و التهديد، أو خبره من حيث الصدق و الكذب بَعْدَ حِينٍ و زمان مبهم قريب. قيل: هو وقت الموت. و قيل: يوم القيامة (6). و كلّ آت قريب، أو عند خروج القائم عليه السّلام كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (7)، و في غاية التهديد (8).

ص: 359


1- . جوامع الجامع:408، تفسير الصافي 4:311، تفسير روح البيان 8:67.
2- . تفسير روح البيان 8:67.
3- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:311.
4- . التوحيد:342/11، تفسير الصافي 4:311.
5- . مصباح الشريعة:140، تفسير الصافي 4:311.
6- . تفسير أبي السعود 7:239، تفسير روح البيان 8:68.
7- . الكافي 8:287/432، تفسير الصافي 4:312.
8- . تفسير أبي السعود 7:239، تفسير روح البيان 8:68.

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة «ص» في ليلة الجمعة اعطي من خير الدنيا و الآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلاّ نبي مرسل أو ملك مقرّب، و أدخله الجنة، و كل من أحبّ من أهل بيته حتى خادمه الذي يخدمه، و إن كان لم يكن في حدّ عياله و من يشفّع فيه» (1).

قد تمّ تفسير السورة بعون اللّه بتارك و تعالى.

ص: 360


1- . ثواب الاعمال:112، مجمع البيان 8:723، تفسير الصافي 4:312.

في تفسير سورة الزّمر

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا كانت سورة «ص» متضمنة لبيان التوحيد و النبوة و المعاد، باثبات كون القرآن نازلا من اللّه تبارك و تعالى، نظمت بعدها سورة الزّمر المتضمّنة لبيان التوحيد و المعاد، المبدوءة بعد افتتاحها بذكر الاسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ بكون القرآن منزلا من اللّه بقوله: تَنْزِيلُ هذا اَلْكِتابِ المسمّى بالقرآن يكون مِنَ جانب اَللّهِ اَلْعَزِيزِ القادر على كلّ شيء اَلْحَكِيمِ و العالم بجميع الأشياء و صلاحها، فبقدرته ألفّه من الحروف المتداولة في الإنس، بكيفية عجزت الإنس و الجنّ عن الإتيان بمثله، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا. و بحكمته جعله مشتملا على الحكم التي لا يحيط بها أحد، و على جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (1) إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ (2)و قيل: إنّ الوصفين للكتاب (1)، و المعنى تنزيل الكتاب من اللّه، و هو كتاب عزيز حكيم لظهور الوصفين فيه، بجريان أحكامه، و نفاذ أوامره و نواهيه من غير مدافع و لا مانع، و ابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة.

ثمّ لمّا كان لازم الايمان بكون القرآن نازلا من اللّه القيام بعبوديته و ترك عبادة غيره، أكّد سبحانه نزوله من اللّه بقوله: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد اَلْكِتابَ المقرون بِالْحَقِّ و دلائل الصدق، من إعجاز البيان، و اشتماله على العلوم الكثيرة، و الامور الغيبية.

و قيل: إنّ الأول لبيان شأن المنزل، و الثاني لبيان شأن المنزل إليه، فلا تكرار، و ذكر لفظ الكتاب في موضع ضميره لبيان عظمته و علوّ شأنه (2).

ص: 361


1- . تفسير روح البيان 8:69.
2- . تفسير أبي السعود 7:240، تفسير روح البيان 8:69.

و قيل: إنّ معنى بالحقّ بسبب الحقّ و إثباته و إظهاره، أو المعنى كوننا محقّين في ذلك (1).

ثمّ رتّب عليه الأمر بالعبادة الخالصة له بقوله: فَاعْبُدِ اَللّهَ يا محمد، حال كونك مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ الذي أوحينا إليك، و ممحضا له الطاعة من شوائب الشرك و الرياء و الشك و الهوى، و من المعلوم أنّ المخاطب في الظاهر هو النبي صلّى اللّه عليه و آله، و في الحقيقة هو امّته.

[سوره 39 (الزمر): آیه شماره 3]

ثمّ كون الخطاب إلى العموم بقوله: أَلا أيّها العقلاء تنبّهوا على أنّ لِلّهِ خاصة اَلدِّينُ اَلْخالِصُ من الشرك و الشكّ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه أَوْلِياءَ و أربابا هم مشركون، و إذا قيل لهم: لم تعبدون الأصنام مع اعترافكم بأنّ اللّه خالقكم و خالق السماوات و الأرض و ما بينهما؟ قالوا: لا ندعوا الأصنام و ما نَعْبُدُهُمْ لغرض من الأغراض إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى و قربى، و ليكونوا وسيلة علوّ منزلتنا عنده.

أَلا لِلّهِ اَلدِّينُ اَلْخالِصُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ (3)ثمّ هدّد سبحانه المشركين المعارضين و المخالفين للمخلصين بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ يوم القيامة بَيْنَهُمْ بعدله فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بتعذيب المشركين و إكرام المخلصين، أو المراد يحكم بين المشركين و معبوديهم، حيث إنّ المشركين يرجون شفاعة أصنامهم و أصنامهم يلعنونهم.

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى يأتي يوم القيامة بكلّ شيء يعبد من دونه من شمس أو قمر أو غير ذلك، ثمّ يسأل كل إنسان عمّا كان يعبد، فيقول من عبد غيره: ربّنا إنّا كنّا نعبده ليقرّبنا إليك زلفى. قال: فيقول اللّه تبارك و تعالى للملائكة: أذهبوا و بما كانوا يعبدون إلى النار، ما خلا من استثنيت، فانّ اولئك عنها مبعدون» (2).

ثمّ هدّدهم بحرامانهم عن الحقّ، و وصولهم إلى المقصود في الدنيا بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوفّق للوصول إلى الحقّ و المقصود مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ و لا يوفّق للوصول إلى الحقّ و المقصود مَنْ هُوَ كاذِبٌ في القول بألوهية الأصنام، و تقريبهم عبدتهم إلى اللّه، و شفاعتهم عنهم عند اللّه

ص: 362


1- . تفسير أبي السعود 7:240، تفسير روح البيان 8:69.
2- . قرب الإسناد:85/279، تفسير الصافي 4:313.

و كَفّارٌ و مبالغ في تضييع حقوق نعم اللّه، أو مصرّ في كفرهم و عبادتهم غير اللّه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين شرع في إبطال مذاهبهم التي منها القول بأنّ الملائكة بنات اللّه بقوله: لَوْ أَرادَ اَللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ و يختار لنفسه وَلَداً كما زعمه بعض المشركين و اليهود و النصارى لاَصْطَفى و انتخب مِمّا يَخْلُقُ و يقدر على اتخاذ ما يَشاءُ أن يكون ولده، و من الجواهر القدسية و العقول المجرّدة، لا عيسى و مريم و عزير، و لا البنات التي تكرهونها لأنفسكم سُبْحانَهُ و تقدّس ذاته عمّا نسبوا إليه من الولد، لا متناعه له، بل هُوَ اَللّهُ الواجب الوجود اَلْواحِدُ من جميع الجهات لا تركيب له و لا ثاني له و لا صاحبة و لا ولد، هو اَلْقَهّارُ الذي يقهر جميع الموجودات بقدرته، فلا يحتاج إلى ولد يعاونه في الامور و يقوم مقامه بعد الموت.

لَوْ أَرادَ اَللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (4) خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهارَ عَلَى اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّارُ (5)

ثمّ أكّد سبحانه كمال قدرته و غناءه بقوله: خَلَقَ بقدرته الكاملة، بلا مشارك و لا معاون اَلسَّماواتِ السبع وَ اَلْأَرْضَ و ما بينهما، و الحال أنّ خلقها بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة، لا بالعبث و الباطل و يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ و يغلبه عَلَى اَلنَّهارِ بحيث يذهب النهار عن الأبصار وَ يُكَوِّرُ و يغلب اَلنَّهارِ بنوره عَلَى اَللَّيْلِ المظلم بحيث يزيل ظلمته، فشبّه سبحانه النور و الظلمة بعسكرين مهيبين عظيمين قد يغلب هذا ذاك، و قد يغلب ذاك هذا. و قيل: إنّ التكوير بمعنى الإقبال (1)، و على أي تقدير اريد زيادة أحدهما و نقص الآخر، و ذلك دليل على كونهما تحت تدبيره و قدرته وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ التي هي سلطان النهار وَ اَلْقَمَرَ الذي هو سلطان الليل، و ذلّلهما تحت قدرته و سلطانه، و جعلهما منقادين لأمره و إرادته، فبارادته كُلٌّ منهما يَجْرِي و يسير في الفلك على وفق صلاح العالم لِأَجَلٍ و وقت مُسَمًّى و معين قدّره اللّه بحكمته، و هو منتهى دورته في كلّ يوم، أو في كلّ شهر أو منتهى حركته و سيره، و هو يوم القيامة الذي فيه تطوى السماء كطيّ السّجّل للكتب.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الآيات العظيمة على قدرته الكاملة، أعلن في الناس بانحصار القدره في ذاته

ص: 363


1- . تفسير الرازي 26:244.

المقدّسة بقوله، أَلا أيّها العقلاء اعلموا أنّ اللّه تعالى هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب القادر على كلّ شيء.

ثمّ لما كانت قدرته موجبا لارعاب القلوب و ترهيب النفوس منه، أعلن بكمال رحمته و رأفته بعباده بقوله: اَلْغَفّارُ بعباده لا يقطع عنهم رحمته بعصيانهم، و لا يعاجل بالعقوبة على سيئاتهم.

قيل: الغفّار و هو ستّار القبائح، فكما ستر قبائح الأبدان و قذاراتهم في باطنهم، يستر خواطرهم المذمومة و إرادتهم السيئة، كارادة الغشّ و الخيانة و الظنون الرديئة في ضميرهم، مع أنّه لو كانت ظاهرة لمقتوا أصحابها، بل قتلوهم، و كذلك يستر ذنوبهم التي موجبة للافتضاح بها عن الناس، بتبديلها بالحسنات إذا مات على الإيمان (1).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 6

ثمّ إنه تعالى بعد استدلاله على التوحيد بالآيات الآفاقية، استدلّ عليه بالآيات الأنفسية بقوله: خَلَقَكُمْ اللّه بقدرته مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هي آدم أبو البشر ثُمَّ جَعَلَ و خلق من جنس تلك النفس أو من جزء مِنْها و هو الضلع الذي يلي الخاصرة، أو من بقية طينتها زَوْجَها حوّاء وَ أَنْزَلَ لَكُمْ إلى الأرض من الجنّة على قول (2)، أو خلق لانتفاعكم، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (3)مِنَ اَلْأَنْعامِ الأربعة: الإبل، و البقر، و الضأن، و المعز، للإبل قسمان: بخاتي (4)و عراب، و للثلاثة الاخر أيضا قسمان: أهلي، و وحشي، أو لكلّ قسمان: الذكر، و الأنثى، فيصير المجموع ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و أصناف، و لمّا كان انتفاع الناس بالأنعام أكثر، أو لكونها أشرف الحيوانات، خصّها بالذّكر.

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُصْرَفُونَ (6)ثمّ لمّا ذكر سبحانه مبدأ خلق الانسان، و كونهم من نفس واحدة، ذكر كيفية خلقهم بقوله: يَخْلُقُكُمْ أيّها الناس فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ و أرحامهنّ خَلْقاً تدريجيا و متأخّرا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ سابق فخلقكم إنسانا سويا من بعد تكسية عظامكم بلحم، و ذلك بعد خلقكم عظاما، و ذلك بعد خلقكم مضغة، و ذلك بعد خلقكم علقة، و ذلك بعد خلقكم نطفة، و كلّ ذلك كائن فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ: ظلمة البطن، و ظلمة الرّحم، و ظلمة المشيمة، كما عن الباقر عليه السّلام (5)أو ظلمة الصّلب، و ظلمة

ص: 364


1- . تفسير روح البيان 8:73.
2- . تفسير الرازي 26:245.
3- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 4:314.
4- . البخاتي: الإبل الخراسانية.
5- . مجمع البيان 8:766، تفسير الصافي 4:315.

البطن، و ظلمة الرّحم (1).

ذلِكُمُ القادر الحكيم اَللّهُ و هو رَبُّكُمْ و مكمّل وجودكم في تلك الأطوار و ما بعدها، أو مالككم المنعم عليكم في جميع العوالم، المستحقّ لعبادتكم و لَهُ وحده اَلْمُلْكُ و السّلطنة المطلقة الكاملة لا لغيره، فاذن لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه، فاذا عرفتم خالقكم و مالككم و المنعم عليكم، و السلطان المقتدر عليكم فَأَنّى تُصْرَفُونَ و كيف تردون عن عبادته، و تعرضون عن إطاعته، و تشتغلون بعبادة الأصنام و الجمادات؟ !

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 7

ثمّ أنتم-أيّها الناس-بعد الإحاطة بما تلونا عليكم من آيات وحدانيته و قدرته و حكمته، و تنزّهه عن الشريك و الولد إِنْ تَكْفُرُوا بوحدانيته و نعمه فَإِنَّ اَللّهَ بذاته غَنِيٌّ عَنْكُمْ و عن إيمانكم و عبادتكم، بل عن العالمين، فانّه واجب الوجود من جميع الجهات، و كامل الصفات بالذات، لا يتصوّر فيه الحاجة حتى يقضي بكم حاجته، وَ لكن لا يَرْضى لِعِبادِهِ اَلْكُفْرَ لطفا بهم و رحمة عليهم، حيث إنّ الكفر يضرّهم و يسقطهم عن أهلية الرحمة و الإنعام، و يحرمهم عن الفيوضات الابدية الدنيوية و الاخروية. القمي: هذا كفر النّعم (2).

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (7)وَ إِنْ تَشْكُرُوا نعمه بالايمان و القيام بالعبودية، روي أنّ الشكر الولاية و المعرفة (3)، يحبّ اللّه الشكر و يَرْضَهُ لَكُمْ لأنّه سبب فوزكم بسعادة الدارين و النشأتين لا لانتفاعه تعالى به.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه غضبه و سخطه على الكفر، نبّه بأنّ ضرره و تبعاته لا تتعدّى الكافر، و لا تسرى إلى غيره بقوله: وَ لا تَزِرُ و لا تحمل نفس وازِرَةٌ و حاملة للكفر و ثقل العصيان وِزْرَ نفس أُخْرى و حملها من الذنب و المعصية، بل كلّ نفس تحمل وزر نفسها و يعاقب عليه ثُمَّ بعد الموت إِلى رَبِّكُمْ و مالك أمركم وحده مَرْجِعُكُمْ و مصيركم بالبعث و النشور فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم عند ذلك بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الكفر و الايمان و الطاعة و العصيان بالمحاسبة و المجازاة، و الثواب و العقاب، و فيه غاية التهديد على الكفر.

ص: 365


1- . مجمع البيان 8:766، تفسير الرازي 26:245، تفسير روح البيان 8:75.
2- . تفسير القمي 2:246، تفسير الصافي 4:315.
3- . المحاسن:149/65، تفسير الصافي 4:315.

ثمّ لمّا كان الخوف من العقاب متوقّفا على علم المعاقب بالعصيان، أعلن سبحانه بسعة علمه بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و المضمرات في القلوب، فكيف بغيرها من الأعمال الظاهرة؟

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 8

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال على التوحيد بالأدلة الواضحة و إظهار سخطه على الشرك، بيّن شدّة لجاج المشركين و كفرانهم نعمه بقوله: وَ إِذا مَسَّ و أصاب اَلْإِنْسانَ الجهول المشرك ضُرٌّ و سوء حال من فقر أو مرض أو غيرهما من الشدائد دَعا رَبَّهُ في كشف ذلك الضّرّ، و نادى مالكه القادر على دفعه للخلاص من تلك البلية حال كونه مُنِيباً و راجعا إِلَيْهِ بالتوبة و إخلاص العمل، و خاضعا له، و متضرّعا عنده ثُمَّ إِذا أزال اللّه عنه و خَوَّلَهُ و أعطاه نِعْمَةً عظيمة مِنْهُ من الغنى و الصحة و الراحة نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا اللّه إِلَيْهِ من الضّرّ يسأله كشفه مِنْ قَبْلُ أو نسي ربّه الذي كان ذلك الكافر يدعوه و يتضرّع اليه من قبل التحوّل و الإعطاء، و مرّ كأن لم يدعه لم يتضرّع إليه، و رجع إلى عبادة الاوثان وَ جَعَلَ في حسبانه تلك الأوثان لِلّهِ أَنْداداً و شركاء في العبارة، أو أمثالا في القدرة، أو أضدادا في الالوهية، و هذا من أعجب الأعاجيب، حيث إنّهم في حال الضرر يعتقدون توحيده و قدرته على جميع الامور، و في حال الرّخاء يعتقدون كون الجمادات امثالا له في القدرة، و شركاء له في الالوهية. و من الواضح أنّ ارتكاب هذين المتناقضين لا يكون إلاّ بهوى النفس و اتّباع الشهوة، ليضل بنفسه عن سبيل اللّه لِيُضِلَّ الناس أيضا عَنْ سَبِيلِهِ إلى قربه، و إلى كلّ خير و هو التوحيد.

وَ إِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ (8)ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهذا الكافر: تَمَتَّعْ و انتفع من نعم الدنيا بِكُفْرِكَ الذي تخيّلته وسيلة إلى نيل تلك النّعم و الانتفاع بها تمتّعا و انتفاعا قَلِيلاً أو زمانا يسيرا، و لكن لا تفرح بذلك إِنَّكَ في الآخرة مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ و ملازمها، و من الواضح أنّ لذة تمتّعك في تمام عمر الدنيا لا يعدّ في جنب عذاب الآخرة بشيء.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه السّلام: «نزلت في أبي الفصيل، إنّه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنده ساحرا، فكان إذا مسّه الضرر، يعني السّقم دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ يعني تائبا إليه، من قوله في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يقول: ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً يعني العافية نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ يعني

ص: 366

نسي التوبة إلى اللّه تعالى ممّا يقول في رسول اللّه إنّه ساحر، و لذلك قال اللّه تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ يعني إمرتك على الناس بغير حقّ من اللّه تعالى و من رسوله» (1).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 9

ثمّ إنّه تعالى بعد ذمّ المشرك و تهديده، مدح الموحّد المنقطع إلى اللّه بقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ و عابد للّه آناءَ اَللَّيْلِ و ساعاته حال كونه ساجِداً للّه وَ قائِماً في الصلاة و باجتهاده في العبادة يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ و يتقّي من أهوالها، وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ و مغفرته، و فضله عليه بالجنة و نعمها الدائمة، لا إنّه يحذر ضرر الدنيا و يرجو منافعها فقط، كمن يعرض عن عبادة اللّه و يشرك به مخلوقاته الخسيسة، حاشا أن يكونا متساويين.

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اَللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (9)عن ابن عباس: من أحبّ أن يهوّن اللّه عليه الموقف يوم القيامة، فليره اللّه في سواد الليل ساجدا و قائما، يحذر الآخرة، و يرجو رحمة ربّه» (2).

ثمّ أكّد سبحانه إنكار التساوي بين الموحدّين المطيعين و المشركين العاصين بقوله: قُلْ يا محمّد، للعقلاء المنصفين هَلْ يَسْتَوِي في نظركم و حكم عقلكم اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ المبدأ و المعاد، و ما ينجون به من المهالك، و ما فيه صلاحهم وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شيئا؟ بل في جهلهم و ضلالهم يعمهون، لا يستوون أبدا، بل بينهما بون بعيد، لوضوح أنّ الأولين في أعلى درجات السعادة و الخير، و الآخرين في أنزل دركات الشقاوة و الشرّ، و فيه تنبيه على أنّ القانتين هم العلماء، و غيرهم هم الجهّال، و إن حصّلوا العلوم الظاهرية.

قال بعض العامة: إنّ الآية نزلت في عثمان، لأنّه كان يحيي الليل في ركعة واحدة يقرأ القرآن فيها (3).

أقول: لا شبهة في أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان أعبد أصحاب الرسول و أعلمهم، فنزوله في شأنه أولى، كما عن الصادق عليه السّلام في الرواية السابقة. قال: «ثمّ عطف القول من اللّه في عليّ عليه السّلام يخبر بحاله و فضله عند اللّه، فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ إلى أن قال: اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنّ محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أنّ محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو أنّه ساحر كذّاب» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ فهم التفاوت بينهم شأن العقلاء بقوله: إِنَّما يَتَذَكَّرُ و يفهم ذلك التفاوت

ص: 367


1- . الكافي 8:204/246، تفسير الصافي 4:315.
2- . تفسير روح البيان 8:81.
3- . تفسير الرازي 26:251.
4- . الكافي 8:204/246، تفسير الصافي 4:316.

بين الفرق، و قيل: يعني إنّما يتّعظ بهذه البينات الواضحة أُولُوا اَلْأَلْبابِ (1)و ذوو العقول الخالصة عن شوائب الأوهام.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّما نحن الذين يعلمون، و عدونا الذين لا يعلمون، و شيعتنا اولو الألباب» (2). و عن الصادق عليه السّلام ما يقرب من ذلك (3).

و عن المجتبى عليه السّلام: «اولوا الألباب هم اولو العقول» (4).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 10

ثمّ لمّا بيّن سبحانه علوّ رتبة المجتهدين في العبادة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بحثّ المؤمنين على التقوى و الطاعة بقوله: قُلْ يا محمد، للمؤمنين على حسب رسالتك: إنّ اللّه يقول لكم يا عِبادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيدي اِتَّقُوا رَبَّكُمْ و احذروا عذابه بالالتزام بطاعته و الاجتناب عن معصيته.

قُلْ يا عِبادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)ثمّ رغّبهم في طاعته بذكر فائدتها الدنيوية بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أعمالهم بالاخلاص و صدق النية فِي هذِهِ اَلدُّنْيا و مدّة العمر فيها فائدة حَسَنَةٌ من التوفيق و التأييد، و الانس باللّه، و اطمئنان القلب و بذكره، و الحبّ في قلوب المؤمنين، و العزّة عند الناس، و المهابة في قلوب الكفّار.

و قيل: إنّ المراد الصحة و العافية (5).

و قيل: الصحة و الأمن و الكفاية، لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن، و الصحّة، و الكفاية» (6).

و عن أمير المؤمنين: «أنّ المؤمن يعمل لثلاث من الثواب: أمّا الخير فانّ اللّه يثيبه بعمله في الدنيا- ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال-: فمن أعطاه اللّه في الدنيا لم يحاسبه به في الآخرة» (7).

و قيل: إنّ الظرف متعلّق بقوله: أَحْسَنُوا و المعنى: أنّ الذين أحسنوا في الدنيا فلهم حسنة في الآخرة، و هي الجنة و النّعم الدائمة (8).

ثمّ لمّا كان كثير من المقصّرين في الطاعة (9)و الاحسان في العمل، دفع اللّه سبحانه عذرهم بقوله: وَ أَرْضُ اَللّهِ و بلاده واسِعَةٌ و كثيرة، فمن تعسّر عليه توفير الطاعة (10)في بلدة و وطنه، فعليه أن

ص: 368


1- . تفسير أبي السعود 7:245.
2- . الكافي 1:166/2، تفسير الصافي 4:316.
3- . الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 4:316.
4- . الكافي 1:15/12، تفسير الصافي 4:316.
5- . تفسير الرازي 26:252، تفسير البيضاوي 2:321، تفسير أبي السعود 7:246.
6- . تفسير الرازي 26:252.
7- . أمالي الطوسي:35/31، تفسير الصافي 4:316.
8- . تفسير الرازي 26:252. (9 و 10) . كذا، و الظاهر أن الصواب: التوفّر على الطاعة.

يهاجر منه إلى بلد آخر يتمكّن فيه من ذلك، كما هو سنّة الأنبياء و الصالحين، و يصير على مفارقة الوطن المألوف، و البعد من الأحبّة و الأقارب و مشاقّ الطاعة إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ على البلايا و المحن في حفظ دينه و العمل بطاعة اللّه و يعظون أَجْرَهُمْ كاملا بمقابلة ما كابدوا من الصبر بِغَيْرِ حِسابٍ و إحصاء لعجز المحاسبين عنه.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أنّه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة و الصدقة و الحجّ، فيوفّون بها اجورهم، و لا تنصب لأهل البلاء، بل يصبّ عليهم الأجر صبّا حتى يتمنّى أهل المعافاة في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض ممّا يذهب به أهل البلاء من الفضل» (1).

قيل: لمّا نزل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (2)قال النبي صلّى اللّه عليه و آله «ربّ زد لامّتي» فنزل: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ (3)إلى آخره. فقال: «ربّ زد لامّتي» فنزل: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً (4)فقال: «ربّ زد لامّتي» فنزل: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فانتهى رسول صلّى اللّه عليه و آله (5).

و عن الصادق عليه السّلام. قال «قال رسول صلّى اللّه عليه و آله: إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان، و لم ينشر لهم ديوان» (6).

في فضيلة الصبر

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس (7)فيأتون باب الجنة فيضربونه فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون كنا نصبر على طاعة اللّه، و نصبر على معاصي اللّه. فيقول اللّه عزّ و جلّ: صدقوا، ادخلوا الجنة، و هو قول اللّه عز و جل: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (8).

أقول: ظاهر الروايتين الأخيرتين أنّ المراد من قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ أنّهم لا يقومون يوم القيامة في مقام الحساب، و لا يحاسبون على شيء من أعمالهم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 11 الی 13

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)

ص: 369


1- . تفسير الرازي 26:254، تفسير البيضاوي 2:321، تفسير أبي السعود 7:246، تفسير روح البيان 8:85.
2- . الأنعام:6/160.
3- . البقرة:2/261.
4- . البقرة 2:2/245.
5- . تفسير روح البيان 8:85.
6- . مجمع البيان 8:767، تفسير الصافي 4:317.
7- . أي جماعة منهم.
8- . الكافي 2:60/4، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 4:317.

ثمّ إنّه تعالى بعد الأمر بالتقوى، و التأكيد في ملازمة العبادة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ وجوب الاخلاص فيها بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ و امتثل أوامره و نواهيه حال كوني مُخْلِصاً و ممحضا لَهُ اَلدِّينَ و العبادة من الشرك الرياء و الأغراض الدنيوية

وَ أُمِرْتُ من قبله تعالى لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ و أقدمهم في التسليم و الانقياد له تعالى، كي أكون أقدمهم في الآخرة في نيل الثواب و الدخول في الجنة.

قيل: إنّ لام (لِأَنْ أَكُونَ) ليست زائدة، بل هي للتعليل. و المعنى: إنّما امرت بالعبادة و الإخلاص فيها، لأجل أن أكون مقدّما في الدنيا و الآخرة (1).

روى أنّ كفّار مكة قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ الاّ تنظر إلى ملة آبائك و سادات قومك يعبدون الّلات و العزّى، فتأخذ بتلك الملّة، فنزلت (2).

ثمّ هدّد سبحانه الناس على ترك العبادة الخاصة بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله باظهار خوف نفسه من العقوبة على تركها مع كونه حبيب اللّه وصفيّه بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنِّي مع عظم شأني و علوّ قدري عند اللّه أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك العبادة الخالصة و اشرك غيره فيها عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الدواهي و الأهوال، فأنتم أولى بالخوف منّي. و فيه غاية التهديد و الزجر عن العصيان.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 14 الی 16

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإخبار بالتزامه بامتثال ما أمر به من العبادة الخالصة، و إعراضه عما يعبد من دونه، قطعا لطمح المشركين من موافقته عليه السّلام لهم بقوله: قُلِ يا محمد اَللّهَ الذي خلقني و ربّاني و كفاني بالخصوص أَعْبُدُ امتثالا لأمره حال كوني مُخْلِصاً لَهُ دِينِي و عبادتي من شوب الشّرك و الرياء و الهوى، و أرى هذا صلاحي، فان وافقتموني عليه فقد نلتم سعادة الدارين،

و إلاّ فَاعْبُدُوا يا معشر الكفار ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ من الأصنام و الأوثان و الملائكة و الشمس و القمر و غيرها من مخلوقاته، و سترون سوء عاقبة عبادتكم.

قُلِ اَللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ اَلْخاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اَللّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)ثمّ لمّا كان الكفّار يقولون: خسرت يا محمّد حيث خالفت دين آبائك. أمره سبحانه بجوابهم بقوله:

ص: 370


1- . تفسير أبي السعود 7:247.
2- . تفسير الرازي 26:254.

قُلْ يا محمد لهم إِنَّ اَلْخاسِرِينَ و المتضرّرين الذين هم أعظم خسرانا و ضررا في العالم هم اَلَّذِينَ خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ و أهلكوها الهلاك الأبدي (1)بضلالها و اختيار الكفر لها وَ أهلكوا أَهْلِيهِمْ من الأزواج و الأولاد و الأقارب يَوْمَ اَلْقِيامَةِ.

عن ابن عباس: إنّ لكلّ رجل منزلا و أهلا و خدّاما في الجنّة، فان اطاع اعطي ذلك، و إنّ كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه و أهله و منزله، و ورثه غيره من المسلمين (2).

ثمّ بيّن سبحانه غاية فظاعة خسرانهم بقوله: أَلا اعلموا أيّها العقلاء ذلِكَ الخسران هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ و الضرر و الغبن الفاحش الواضح الذي لا يشكّ فيه ذو مسكة، فانّ صرف العمر و العقل و القوى التي يمكن أن يستفاد منها الحياة الأبدية و الجنة و النّعم الدائمية و الراحة السرمدية في تحصيل الهلاكة الأبدية و العذاب الدائم، تضييع لرأس المال، و وقوع في أعظم الخسران الذي لا يتصوّر خسران مثله.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية خسران الخاسرين بقوله: لَهُمْ يوم القيامة في جهنّم مِنْ فَوْقِهِمْ و على رؤوسهم ظُلَلٌ و أغشية و طبقات مِنَ اَلنّارِ مانعة من نظرهم إلى الفوق لغلظها و كثافتها، و إنّما أطلق عليه الظّلل مع أنّ الظّلّة ما يستظلّ به من حرّ الشمس و يطلب للتبريد للتهكّم بهم وَ مِنْ تَحْتِهِمْ أيضا ظُلَلٌ و طبقات من النار، و إطلاق الظّلة عليها من باب إطلاق اسم أحد الضدّين على الآخر، أو لأجل المشابهة، أو لكونها ظلاّ لمن في الدّركات السافلة. و حاصل المعنى أنّهم بين طبقتين من النار محاطون بها من جميع الجوانب ذلِكَ العذاب الفضيع، و إن كان معدّا للكفّار، و لكن ذكره في القرآن لأنّه يُخَوِّفُ اَللّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين ليخلصوا إيمانهم، و يثبتوا عليه، و يتّقوه بالطاعة يا عِبادِ إذن فَاتَّقُونِ ي، و احذروا سخطي، و لا تتعرّضوا لما يوجب عقوبتي.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ لمّا أوعد اللّه عبدة الأصنام بالنار، و ذمّهم بالجهل و الخسران، وعد الموحّدين بالثواب، و مدحهم بالهداية إلى كلّ خير و سعادة، و الفضل و الكرامة و كمال العقل بقوله: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها و أعرضوا عن عبادة الشيطان و الأوثان وَ أَنابُوا و رجعوا بالكلية إِلَى اَللّهِ وحده،

وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (18)

ص: 371


1- . في النسخة: الأبدية.
2- . تفسير الرازي 26:255 و 256.

و أعرضوا عمّا سواه لَهُمُ خاصة اَلْبُشْرى بالثواب و الرّضوان من الرسل في الدنيا، و من الملائكة عند الموت و حين البعث بالجنة و النعم الدائمة فَبَشِّرْ أنت يا رسول اللّه حسب رسالتك بالهداية إلى كلّ خير و سعادة و الفضل و الكرامة عندي عِبادِ ي المؤمنين

اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ من أفواه الناس، فيتفكّرون فيما يستمعون، لتمييز الحق و الباطل، و الصواب و الخطأ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ و أصوبه و أحقه، فاذا سمعوا القول بالتوحيد و القول بالشّرك، و القول بوجوب إرسال الرسول على اللّه و نصب الامام عليه و القول بعدمه، و القول بكون محمد صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه و علي عليه السّلام الامام بعده و القول بانكارهما، و القول بوجوب جعل الثواب و العقاب على الأعمال و وجوب خلق العالم الآخر لجزاء الأعمال و القول بعدمها، و اختاروا التوحيد، و وجوب إرسال الرسول، و نصب الامام، و كون محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام هو الامام بعده، و وجوب جعل الثواب و العقاب على الناس و وجود دار الجزاء لقيام الأدلة القاطعة على كلّ منها، و ظهور كون أساس غيرها على التقليد و الهوى و العصبية.

قال بعض العامة: إنّ الآية نزلت في عثمان بن عفان، و عبد الرحمن بن عوف، و سعد، و سعيد، و طلحة، و الزبير، حين سألوا أبا بكر، فأخبرهم بايمانه فآمنوا (1).

أقول: لا يمكن القول بذلك مع ثبوت مطاعن كثيرة في حقّهم.

و مدحهم بما في ذيل الآية، عن ابن عباس: أنّ المراد منه الرجل يجلس مع القوم و يسمع الحديث، و فيه محاسن و مساوئ، فيحدّث بأحسن ما سمع، و يترك ما سواه (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الذي يسمع الحديث فيحدّث به كما سمع لا يزيد و لا ينقص منه» (3).

و في رواية: «هم المسلّمون لآل محمد صلّى اللّه عليه و آله الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه و لم ينقصوا منه، جاءوا به كما سمعوه» (4).

ثمّ مدحهم سبحانه بقوله: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ إلى الدين الحقّ، و كلّ خير وَ أُولئِكَ هُمْ بالخصوص أُولُوا اَلْأَلْبابِ و ذوو العقول السليمة عن شوائب الأوهام الفاسدة و الأهواء الزائغة.

عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ اللّه بشّر أهل العقل و الفهم في كتابه فقال: فَبَشِّرْ الآية» (5).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 19 الی 20

أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنّارِ (19) لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَعْدَ اَللّهِ لا يُخْلِفُ اَللّهُ اَلْمِيعادَ (20)

ص: 372


1- . تفسير روح البيان 8:89.
2- . تفسير الرازي 26:262.
3- . الكافي 1:41/1، تفسير الصافي 4:318.
4- . الكافي 1:322/8، تفسير الصافي 4:318.
5- . الكافي 1:10/12، تفسير الصافي 4:318.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال المشركين و حسن حال الموحّدين، بيّن عدم تأثير الدعوة الى التوحيد في قلوب المصرّين على الإشراك، و عدم الفائدة في إتعاب النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه الشريفة في ترغيبهم إلى الإيمان بقوله: أَ فَمَنْ حَقَّ و وجب عَلَيْهِ بسوء فطرته و خبث طينته كَلِمَةُ اَلْعَذابِ و وعده من اللّه تعالى بقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (1)إلى آخره. أنت يا محمد تهديه إلى الحقّ و تسوقه إلى الجنة أَ فَأَنْتَ يا نبي الرحمة تُنْقِذُ و تخرج مَنْ تمكّن فِي اَلنّارِ منها؟ ! لا و اللّه لا تهدي من أضله اللّه، و لا تخلّص من النار من جعله اللّه من أصحابها، فلا تتعب نفسك الزكية في دعوتهم، و لا تحزن على عدم إيمانهم.

ثمّ لمّا بيّن استحقاق المشركين للعذاب، استدرك حال المتّقين بقوله: لكِنِ المؤمنون اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ و احترزوا من الشّرك و العصيان لَهُمْ مع كونهم آمنين من العذاب غُرَفٌ في الجنة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ اخرى مَبْنِيَّةٌ (2)نحو بناء المنازل على الأرض في الرصانة و الاستحكام، كلّها من درّ و ياقوت و زبرجد.

عن الباقر عليه السّلام: «سأل علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير هذه الآية: بماذا بنيت هذه الغرف يا رسول اللّه؟ فقال: يا علي، تلك الغرف بناها اللّه لأوليائه بالدّرّ و الياقوت و الزّبرجد، سقوفها الذهب، محبوكة بالفضة، لكلّ غرفة ألف باب من ذهب، على كلّ باب منها ملك موكّل به، و فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الدّيباج بألوان مختلفة، و حشوها المسك و العنبر و الكافور، و ذلك قول اللّه: وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» (3).

ثمّ أكّد سبحانه وعده للمتقين بقوله: وَعْدَ اَللّهِ الذي وعده لا يُخْلِفُ اَللّهُ اَلْمِيعادَ لقبح خلف الوعد عليه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 21

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (21)

ص: 373


1- . الأعراف:7/18، هود:11/119.
2- . لم يذكر بقية الآية و هي: تجري من تحتها الأنهار.
3- . تفسير القمي 2:246، الكافي 8:97/69، تفسير الصافي 4:318.

ثمّ لمّا كان سبب الإعراض عن اللّه و عبادته حبّ الدنيا و شهواتها، بيّن سبحانه سرعة زوالها الموجبة للنّفرة منها بقوله: أَ لَمْ تَرَ أيّها الرائي أَنَّ اَللّهَ بقدرته الكاملة أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ، أو جهة العلوّ ماءً مباركا بطريق الأمطار فَسَلَكَهُ و أجراه في عروق الأرض، فيكون يَنابِيعَ و عيونا فِي اَلْأَرْضِ ليخرج منها شيئا فشيئا ثُمَّ يُخْرِجُ اللّه منها بذلك الماء، و ينبت بِهِ بقدرته زَرْعاً نافعا مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و أصنافه كالبرّ و الشعير و نحوهما، و كيفياته كالأحمر و الأبيض و الأصفر و غيرها، و طعومه كالحلو و غيره ثُمَّ يَهِيجُ ذلك الزرع و ييبس بعد طراوته و نضرته، أو يحضر فَتَراهُ مُصْفَرًّا من يبسه بعد أن كان مخضرّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللّه حُطاماً و فتاتا و متكسّرا من شدّة يبسه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور مفصّلا لَذِكْرى و تنبيها على سرعة زوال الدنيا و تغيّر حالاتها لِأُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السليمة، فلا يغترّون بإقبالها و بهجتها، و لا يفتنون بزهرتها.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 22

ثمّ إنّه تعالى بعد ترغيب العباد الى الطاعة و التهديد بالعذاب على العصيان و بيان ثناء الدنيا بين ان تلك البيانات لا تؤثر إلاّ مع شرح الصدر و تنوّر القلب بقوله: أَ فَمَنْ قيل: إنّ التقدير أكل الناس سواء؟ (1)شَرَحَ اَللّهُ و وسّع صَدْرَهُ و ليّن قلبه، و أكمل استعداده لِلْإِسْلامِ و قبول دين الحقّ بأن خلقه من طينة طيبة، و جعله ذا فكرة صائبة فَهُوَ باقتضاء طينته، وسعة صدره، و نورانية قلبه، و إصابة فكره مستقر عَلى نُورٍ عظيم و بصيرة كاملة و هداية فائضة مِنْ رَبِّهِ اللطيف به.

أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)قيل: إنّ شرح الصدر بقوة الأدلة التي نصبها اللّه، و هو مختصّ بالعلماء و بالألطاف الخاصة التي تتجدّد حالا بعد حال، كما قال اللّه تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً (2)و بتأكّد الأدلة و حلّ الشّبهات و إلقاء الخواطر (3).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه قرأ هذه الآية فقال: «إنّ النور إذا وقع في القلب انفتح له و انشرح» قالوا: يا رسول اللّه، هل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت. قبل حلول الفوت» (4).

ص: 374


1- . تفسير أبي السعود 7:250.
2- . سورة محمد:47/17.
3- . مجمع البيان 8:722.
4- . تفسير أبي السعود 7:250، تفسير روح البيان 8:96.

و قيل: إنّ التقدير أفمن شرح اللّه صدره للاسلام كمن قسى قلبه من ذكر اللّه (1). و حاصل المعنى و اللّه أعلم: أنّه كما لا يستوي النور و الظّلمة و العلم و الجهل، لا يستوي من على النور و من على الظّلمة.

قال بعض العامة: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، و علي بن أبي طالب عليه السّلام (2).

و قال القمي: نزلت في أمير المؤمنين (3).

فَوَيْلٌ و هلاك لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ و الغليظة أفئدتهم الحاصلة تلك القوة مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ و لأجله، فانّ النفوس الخبيثة و الأرواح الظّلمانية تزيد خبثها و كدورتها بسماع ذكر اللّه، كما أنّه في القلوب المنورة و الصدور المنشرحة يزيد تنورا و انشراحا و اطمئنانا، و لذا قال سبحانه: أُولئِكَ المتّصفون بقساوة القلب فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن طريق الحقّ و سبيل الخير، بحيث لا يشكّ فيه من له أدنى شعور و إدراك. قيل: إنّه نزل في أبي لهب و ولده (4).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 23

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون من له شرح الصدر على نور و هداية عظيمة من ربّه، بيّن أعظم وسائل الهداية بقوله: اَللّهُ نَزَّلَ بلطفه بعباده لهدايتهم إلى كلّ خير أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ و أطيب الكلام من حيث الفصاحة و البلاغة، و الملاحة و الحزانة، و حسن الأسلوب و الاشتمال على العلوم الكثيرة و الحكم الوفيرة و المعارف و المواعظ النافعة، و القصص المنبّهة، و أحوال الامم الماضية، و كيفيات الآخرة، إلى غير ذلك ممّا لا يدانيه كتاب من الكتب السماوية، فضلا عن غيرها، و مع ذلك يكون كِتاباً مُتَشابِهاً متماثلة (5)آياته في الفصاحة و البلاغة و الإعجاز و صحة المعنى، و الدلالة على الحقّ، و استتباع المنافع الدنيوية و الأخروية مَثانِيَ و مكررات مواعظة و عبرة، و قصصه و أمثاله، و وعده و وعيده. و قيل: يعني مكررة (6)تلاوته مع عدم ذهاب رونقه و عدم زوال لذّة قراءته و استماعه، مع أنّ

اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اَللّهِ ذلِكَ هُدَى اَللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)

ص: 375


1- . تفسير الرازي 26:266.
2- . تفسير الصافي 4:319، تفسير أبي السعود 7:250، تفسير روح البيان 8:96.
3- . تفسير القمي 2:248، تفسير الصافي 4:319.
4- . تفسير روح البيان 8:96.
5- . في النسخة: و متماثلا.
6- . في النسخة: مكرر.

كلّ كلام يملّ تكراره (1).

و لظهور عظمة اللّه فيه، و غضبه على أعدائه و عصاته تَقْشَعِرُّ و ترتعد مِنْهُ جُلُودُ المؤمنين اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و أبدان الذين عرفوا خالقهم بالعظمة و القهارية. قيل: هو مثل لشدة الخوف (2)ثُمَّ إذا تلوا، أو استمعوا آيات الوعد و الرحمة تَلِينُ جُلُودُهُمْ و لتسكن أبدانهم، و زال عنها ما كان بها من الخوف و الارتعاد، و تبدلت خشيتهم بالرجاء، و رهبتهم بالرغبة وَ قُلُوبُهُمْ تطمئن إِلى ذِكْرِ اَللّهِ و رحمته و غفرانه، فلذا ذلِكَ الكتاب الذي بيّنا أوصافه هُدَى اَللّهِ و ما به رشاد الخلق إلى الحقّ يَهْدِي اللّه و يرشد بِهِ إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية مَنْ يَشاءُ هدايته و إرشاده من النفوس الزكية، و القلوب الطاهرة، و الذوات المستعدة القابلة لنيل الفيوضات الإلهية وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يخذله بسبب خبث ذاته، و قساوة قلبه، و رذالة صفاته و أخلاقه فَما لَهُ بعد اللّه مِنْ هادٍ يهديه إلى الحقّ و يخلّصه من ورطة الضلال.

روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللّه، تحاتّت عنه ذنوبه، كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» و في رواية اخرى: «حرّمه اللّه على النار» (3).

«و عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن الزبير، قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول اللّه يفعلون إذا قرئ القرآن عليهم؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللّه تدمع أعينهم و تقشعر جلودهم. قال: فقلت لها: إنّ ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم (4).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 24 الی 26

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه عجز جميع الخلق عن هداية من أراد اللّه ضلالته، بيّن عجز الضالّ عن دفع العذاب عن نفسه في الآخرة بقوله: أَ فَمَنْ قيل: إنّ التقدير أكل الناس سواء (5)؟ فمن يَتَّقِي

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذابِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اَللّهُ اَلْخِزْيَ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)

ص: 376


1- . تفسير روح البيان 8:98.
2- . الكشاف 4:124، تفسير الرازي 26:273.
3- . تفسير روح البيان 8:100.
4- . تفسير روح البيان 8:100.
5- . تفسير أبي السعود 7:252، تفسير روح البيان 8:101.

و يتوقّى بِوَجْهِهِ الذي هو أشرف أعضائه سُوءَ اَلْعَذابِ و شديدة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ لعجزه عن الاتقاء بغيره، مع أنّ سائر الأعضاء تكون وقاية له، كمن هو آمن من العذاب في ذلك اليوم، و لا يعتريه مكروه حتى يحتاج إلى الأتقاء وَ قِيلَ بعد وقوعهم في النار من جهة خزنة جهنم لِلظّالِمِينَ الذين ضيّعوا حقوق اللّه، و كفروا نعمه، و وضعوا الكفر موضع الايمان، و تكذيب الرسول موضع تصديقه، و العصيان موضع الطاعة: أيّها الظالمون ذُوقُوا و أطعموا طعم ما كُنْتُمْ في الدنيا تَكْسِبُونَ و تحصلون لأنفسكم من العذاب بالكفر و العصيان.

ثمّ استشهد سبحانه على شدّة سخطه و عذابه على الظالمين المكذبين للرسل في الآخرة بانزال العذاب على كثير منهم في الدنيا بقوله: كَذَّبَ كثير من الامم اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم فَأَتاهُمُ و نزل عليهم اَلْعَذابُ المقدّر لكلّ امّة منهم بتكذيبهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ و من الجهة التي لا يحتسبون و لا يتوهّمون نزول العذاب منها، و كانوا آمنين. قيل: أشدّ العذاب ما يكون غير متوقع (1)و قيل: يعني لا يعرفون له مدفعا و لا مرّدا (2)

فَأَذاقَهُمُ اَللّهُ مع عذاب الاستئصال اَلْخِزْيَ و الذّلّ و الصّغار فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كالمسخ بصورة القردة و الخنازير، و الغرق و الخسف، و السبي و الإجلاء، و نحوها من فنون النّكال، و هو العذاب الأدنى لهم وَ و اللّه لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ بالنار المعدّ لهم أَكْبَرُ و أشدّ من العذاب الدنيوي كما و كيفا مدة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كبره و شدّته لما تجرّءوا و ما عصوا اللّه و رسوله، و خلّصوا أنفسهم منه بالايمان و التوبة و القيام بالطاعة.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ما يوجب الاتعاظ من هوان الدنيا، و كون الهداية إلى الحقّ بانشراح و تنوّر القلب، و غير ذلك من المطالب العالية، و الإبلاغ في التخويف و الترهيب، بيّن سبحانه أنّ القرآن في المواعظ و العبر و سائر ما يحتاج إليه الناس من العلوم بالغ حدّ الكمال بقوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا و بيّنا لِلنّاسِ عموما و لأهل مكة خصوصا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ الذي أنزلناه مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و مطلب نافع هو في الحسن و كثرة النفع و الغرابة كالمثل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و ينبّهون لما هو خير لهم في دنياهم و آخرتهم، و يتّعظون به.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

ثمّ مدح القرآن الجامع لجميع المطالب المهمّة النافعة بقوله: قُرْآناً متصفا بكونه عَرَبِيًّا

ص: 377


1- . تفسير روح البيان 8:101.
2- . تفسير روح البيان 8:101.

يفهمه كلّ العرب. و قيل: يعني متلوّ في المحاريب إلى يوم القيامة بلسان العرب مع أنّه أعجز الفصحاء و البلغاء منهم عن معارضته و الإتيان بمثله (1)غَيْرَ ذِي عِوَجٍ و انحراف عن الحقّ و اختلاف و تناقض في مطالبه، كما قال تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً (2)لَعَلَّهُمْ بالتدبّر فيه و التفكّر في جهات إعجازه يَتَّقُونَ و يحترزون عن الكفر و العصيان.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 29 الی 31

ثمّ ضرب سبحانه مثلا لتوضيح فساد مذهب المشركين و قباحة طريقتهم بقوله: ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً معجبا يطابق حال المشركين و الموحدين، و هو أنّه يفرض المشرك الذي يدّعي لنفسه آلهة رَجُلاً مملوكا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ و منازعون في ذلك العبد المملوك يتجاذبونه و يتعاورونه في مهماتهم المتباينة، فانّ هذا العبد يكون متحيّرا متفرّق البال و متوزّع القلب وَ نفرض الموحّد الذي يعتقد أنّ إلهه واحد رَجُلاً سَلَماً و خالصا لِرَجُلٍ واحد لا سبيل لغيره عليه أصلا هَلْ العبدان يَسْتَوِيانِ و يتماثلان مَثَلاً و حالا؟ لا يستويان البتة، بل الأول في غاية التحيّر، و الثاني في غاية الاطمئنان و الراحة، فعلى المؤمنين أن يقولوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ على إظهاره الحجّة على المشركين و قطع خصومتهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك مع غاية ظهوره.

ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)عن أمير المؤمنين قال: «إني مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا فيّ، أنّا السّلم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول اللّه تعالى: وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «أنا ذلك الرجل السّلم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «الرجل السّلم للرجل حقّا عليّ عليه السّلام و شيعته» (5).

و عنه عليه السّلام: «أمّا الذي فيه شركاء متشاكسون، فلان الأول، يجمع المتفرقون ولايته، و هم في ذلك يلعن بعضهم بعضا، و يبرأ بعضهم من بعض، و أمّا رجل سلم لرجل فانّه فلان الثاني حقّا و شيعته» (6).

أقول: المراد من فلان الأول أبو بكر، و من فلان الثاني أمير المؤمنين عليه السّلام، و تخالف أصحاب أبي

ص: 378


1- . تفسير الرازي 26:276.
2- . النساء:4/82.
3- . معاني الأخبار:59 و 60/9، تفسير الصافي 4:321.
4- . مجمع البيان 8:775، شواهد التنزيل 2:119/807، تفسير الصافي 4:321.
5- . مجمع البيان 8:775، تفسير الصافي 4:321.
6- . الكافي 8:224/283، تفسير الصافي 4:321.

بكر من جهة كونهم متّبعي الهوى و الآراء.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بعذاب الدنيا، و بيّن حالهم و حال الموحّدين بضرب المثل، و لم تؤثر تلك البيانات في كثير من القلوب القاسية، و كان قلبه متأثّرا من لجاجهم، سلّى سبحانه حبيبه بقوله: إِنَّكَ يا محمد مَيِّتٌ لا محالة وَ إِنَّهُمْ أيضا مَيِّتُونَ عن قريب البتة

ثُمَّ إِنَّكُمْ جميعا أنت و خصماؤك يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ و مليككم، و في محضر عدل من بيده اموركم تَخْتَصِمُونَ و تحاجّون، فتقول: يا ربّ إنّي بلّغت ما ارسلت به و اجتهدت في دعوة هؤلاء المشركين حقّ الاجتهاد، فكذّبوني و أصرّوا على لجاجي و عنادي. و هؤلاء يقولون: ربّنا أطعنا ساداتنا و كبراءنا فأضلّونا السبيلا، فيحكم اللّه لك عليهم، فلا تبال اليوم بهم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 32 الی 35

ثمّ حكم سبحانه على المشركين في الدنيا بكونهم أظلم الظالمين بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّهِ في نسبة أنّه اتّخذ لنفسه شريكا و ولدا وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ و الأمر الذي هو عين الحقّ، و هو رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و كون القرآن كلام اللّه إِذْ جاءَهُ و حين أتاه من غير تدبّر فيه و النظر في جهات إعجازه، لا و اللّه لا أظلم و لا أكفر منه، ثمّ أردفه بالوعيد بقوله: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ يوم القيامة أيّها العقلاء مَثْوىً و مستقرا أبديا لِلْكافِرِينَ الذين هؤلاء الظّلمة منهم، بل هي مثواهم بالاستحقاق، و بئس المثوى و بئس المصير.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ اَلَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اَللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

ثمّ مدح سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به بقوله: وَ اَلَّذِي جاءَ من جانب اللّه بِالصِّدْقِ و القرآن المشتمل على المعارف الإلهية و الحكم الكثيرة و الأحكام و الآداب و الأخلاق وَ هو لمحمد الامّي و الذي صَدَّقَ بِهِ و أقرّ له و هو أمير المؤمنين عليه السّلام على ما روي عن المعصومين من ذرّيته (1)، بل روى العلامة في (نهج الحق) عن الجمهور عن مجاهد، أنّه قال: هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (2). و رواها

ص: 379


1- . تفسير القمي 2:249، مجمع البيان 8:777، تفسير الصافي 4:322.
2- . نهج الحق:185/19، كفاية الطالب:233، الدر المنثور 7:228، روح المعاني 24:3.

أيضا في (كشف الغمة) (1)عن موسى بن مردويه، عنه. و عن الحافظ، عن جعفر بن محمد عليه السّلام (2).

في الردّ على فخر

الدين الرازي

أقول: يدلّ عليه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله المسلم بين العامة و الخاصة: «سبّاق الامم أو الصدّيقون منهم ثلاثة: مؤمن آل فرعون، و مؤمن آل يس، و علي بن أبي طالب عليه السّلام، و هو أفضلهم» (3)مع أنّه روى أحمد بن حنبل أنّ آية وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ نزلت في علي (4)فلا يعتنى بقول فخر الذين الرازي (5)و بعض أصحابه من أنّه أبو بكر (6)، فانّه على تقدير كونه مصدّقا للرسول و كتابه، لم يكن تصديقه قائلا (7)للذّكر و المدح بقوله: أُولئِكَ المتّصفون بالصدق و التصديق هُمُ خاصّة اَلْمُتَّقُونَ الفائزون بالتقوى إلى أعلى درجة كمال الانسانية في الدنيا، و أعلى درجات الجنة في الآخرة

لَهُمْ بإزاء صدقهم و تصديقهم و تقواهم ما يَشاؤُنَ و يشتهون من النّعم الكائنة عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف به ذلِكَ الجزاء المذكور جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم، المجتهدين في التقوى و عبادة ربّهم

لِيُكَفِّرَ اَللّهُ عَنْهُمْ و يستر عَنْهُمْ يوم القيامة أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا و أقبحه، فضلا عن السيئ و القبيح منه.

قيل: إنّ المعنى: وعدهم اللّه جميع ما يشاؤون من زوال المضارّ و حصول المسارّ (8)، ليكفّر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا دفعا لمضارّهم وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ و يعطيهم ثوابهم بِأَحْسَنِ من اَلَّذِي كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ إعطاء لمنافعهم و مسارّهم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ لمّا كان الكفّار و المشركين يخوّفون المؤمنين بالتخويفات الكثيرة، بل روي أنّ قريشا قالت للنبي صلّى اللّه عليه و آله: نخاف أن تخبلك آلهتنا (9). آمن اللّه رسوله و المؤمنين بقوله: أَ لَيْسَ اَللّهُ القادر الرؤوف بِكافٍ عَبْدَهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به، يدفع عنهم الآفات، و يحفظهم من البليات، كما كفى نوحا الغرق، و إبراهيم الحرق، بل هو كاف جميع مهماته.

أَ لَيْسَ اَللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اَللّهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقامٍ (37)ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ يُخَوِّفُونَكَ يا محمد، هؤلاء المشركون بِالَّذِينَ

ص: 380


1- . كشف الغمة 1:313.
2- . مناقب ابن شهر آشوب 3:92.
3- . فضائل الصحابة لابن حنبل 2:627/1072، و 655/1117، كنز العمال 11/601/32898.
4- . مناقب ابن شهر آشوب 3:90.
5- . تفسير الرازي 26:279.
6- . تفسير الرازي 26:279، روح المعاني 24:3.
7- . في النسخة: قابلة.
8- . تفسير روح البيان 8:108.
9- . تفسير الرازي 26:281، تفسير البيضاوي 2:326، تفسير أبي السعود 7:255.

يعبدونهم مِنْ دُونِهِ من الأصنام و الأوثان الذين لا يقدرون على شيء لغاية جهلهم و ضلالهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ، كهؤلاء المشركين فَما لَهُ في العالم مِنْ هادٍ يهديه و يوصله إلى الحقّ

وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يوفّقه للسلوك على الصراط المستقيم فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يصرفه عن السلوك فيه بالحجّة و البرهان و التخويف و التطميع.

ثمّ هدّد سبحانه المشركين المخوّفين بقوله: أَ لَيْسَ اَللّهُ بِعَزِيزٍ و غالب على كلّ شيء و ذِي اِنْتِقامٍ من أعدائه لأوليائه؟ بلى و اللّه هو الغالب القادر المنتقم، ينتقم من هؤلاء المشركين أشدّ الانتقام.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 38

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين مع اعترافهم بأنّ اللّه هو القادر الذي خلق بقدرته جميع الموجودات، كيف يدّعون أنّ الجمادات التي لا قدرة لها و لا حسّ و لا شعور يضرّون عباد اللّه؟ ! مع أنّ اللّه عزّ و جلّ حافظهم بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ و قلت لهم أيّها العقلاء مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما بينهما؟ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ و ليعترفون بأنّ لا خالق غيره، فاذا اعترفوا بذلك قُلْ لهم: أَ فَرَأَيْتُمْ و أخبروني أنّ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و تعبدونه من الأصنام و الأوثان، على فرض كونهم قادرين، هل يمكنهم أن يعارضوا اللّه في إرادته مثلا إِنْ أَرادَنِيَ اَللّهُ بِضُرٍّ و مكروه كالمرض و الفقر و الذّلّ و نظائرها هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ و مزيلات سوء الحال الذي أراده أَوْ إن أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ و نعمة كالصحة و الغنى و الأمن و الراحة و أمثالها هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ و مانعات عن وصول نعمه إليّ؟ ! لا و اللّه لا هنّ كاشفات الضرّ، و لا ممسكات الرحمة، بل هنّ أعجز من كل شيء، و أضعف من كلّ ضعيف.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اَللّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ (38)روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا سألهم سكتوا و لم يجيبوه بشيء فنزل (1). و إنّما أتى سبحانه بالجموع و الضمائر المؤنثة للاشارة إلى ضعف أصنامهم، أو لأنّهم سمّوا أصنامهم باسم الأناث كاللات و العزّى و مناة.

ثمّ أمر نبيّه بإظهار الاعتماد على ربّه بقوله: قُلْ يا محمد لهم: إن تظاهر عليّ أهل العالم، فانّي لا

ص: 381


1- . تفسير البيضاوي 2:326، تفسير أبي السعود 7:256.

ابالي، لأنّ حَسْبِيَ اَللّهُ و هو كاف في جميع اموري، و ناصري على أعدائي، و حافظي من كلّ شرّ و ضرّ عَلَيْهِ وحده يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم بأنّ ما سواه تحت قدرته و ملكوته و نفوذه و إرادته.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 39 الی 41

ثمّ أمره بالابلاغ في إظهار توكّله على اللّه و عدم مبالاته بالمشركين بقوله: قُلْ يا محمّد، مخاطبا لقريش: يا قَوْمِ اِعْمَلُوا و اسعوا في الاضرار عليّ، و إبطال أمري، و الإخلال في رسالتي، و اجتهدوا في مكركم و كيدكم، مع أنّكم عَلى ما تعتقدون من مَكانَتِكُمْ و حالتكم من القوة و الشوكة و العداوة إِنِّي أيضا عامِلٌ و ساع في التبليغ و الإنذار، و إعلاء كلمة التوحيد، و تقرير دين الاسلام ما استطعت، ما أنا عليه من مكانتي و حالتي من قلّة الناصر و عدم المال فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

من ينصره اللّه و يغلبه و مَنْ يَأْتِيهِ من قبله تعالى عَذابٌ يستأصله يُخْزِيهِ وَ يذلّه في الدنيا، و من يَحِلُّ و ينزل عَلَيْهِ في الآخرة عَذابٌ مُقِيمٌ و دائم لا يفارقه، لسعيه فيما يوجب غضب اللّه عليه من الكفر و الضلال.

قُلْ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعҙęΙřϙșƙΠ(39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ لِلنّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اِهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في إتمام الحجّة على المشركين المعاندين، و بيان بطلان مذهبهم بالأدلة الواضحة القاهرة، و ضرب المثل، و تهديدهم بالعذاب الدنيوي و الاخروي، ردع نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن الجدّ و الاهتمام في دعوتهم إلى التوحيد و الايمان بصدق كتابه بقوله: إِنّا بلطفنا و حكمتنا و مقام ربوبيتنا أَنْزَلْنا بتوسّط جبرئيل عَلَيْكَ يا نبي الرحمة اَلْكِتابَ العظيم الشأن الذي فيه المعارف و الحكم و الأحكام، إرشادا لِلنّاسِ إلى مصالحهم و منافعهم الدنيوية و الاخروية، و إتماما للحجّة حال كونه مقرونا بِالْحَقِّ و دلائل الصدق، أو حال كوننا محقّين في إنزاله فَمَنِ اِهْتَدى به إلى ما فيه فَلِنَفْسِهِ فوائد هدايته و عمله وَ مَنْ ضَلَّ عن سبيل الحقّ، بأن كذّبه و لم يعمل به فَإِنَّما يَضِلُّ و كان وبال ضلاله على نفسه، و ضرره عَلَيْها لا علينا و لا عليك وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ من قبل ربّك بِوَكِيلٍ و قيّم حتّى تجبرهم على الايمان به و اتباع أحكامه، بل إنّما عليك البلاغ، و قد بلّغت، فلا تتعب نفسك في معارضتهم و حثّهم على الإيمان، و استرح من كلفة تحملهم على قبول الحقّ و تصديق كتابك.

ص: 382

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 42

ثمّ لمّا كانت الهداية هي الحياة الحقيقية، و الضلال الدائم هو الموت و المؤقّت بمنزلة النوم، عاد سبحانه بعد ترويح قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الاستدلال على توحيده بكون النوم و اليقظة و الموت بيده، كما أنّ الهداية و الضلال بإرادته بقوله:

اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)اَللّهُ وحده يَتَوَفَّى بقدرته اَلْأَنْفُسَ و يميت الأشخاص حِينَ وصول وقت مَوْتِها وَ انقضاء أجل حياتها، و يتوفّى اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ و يقبض روحها فِي وقت مَنامِها لا كاملا، بل بحيث يبقى فيها شعاعها.

و قيل: إنّ المراد بالأنفس الأرواح، و المعنى يقبض الأرواح كاملا من أبدانها حين موت أبدانها، و يقبض الأرواح التي لم تمت أبدانها في وقت نوم الأبدان (1). و إنّما أطلق التوفّي على الإنامة لشباهتها في عدم العقل و التمييز بالإماتة، كما ورد أنّ النوم أخ الموت.

بيان كيفية النوم

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ الروح يخرج عند النوم، و يبقى شعاعه في الجسد، فلذلك ترى الرؤيا» (2)فَيُمْسِكُ اللّه الأنفس اَلَّتِي قَضى و حكم عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ و يمنعها من الرجوع إلى أبدانها وَ يُرْسِلُ الأنفس اَلْأُخْرى التي لم يقض عليها الموت عند الانتباه و اليقظة مرة بعد مرة إِلى انقضاء أَجَلٍ مُسَمًّى و مدّة حياتها المقدّرة.

عن سعيد بن جبير: أنّ أرواح الأحياء و أرواح الأموات تلتقي في المنام، فيتعارف منها ما شاء اللّه أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، و يرسل الاخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدّة حياتها (3).

عن الباقر عليه السّلام قال: «ما من أحد ينام إلاّ عرجت نفسه إلى السماء، و بقيت روحه في بدنه، و صار بينهما سبب كشعاع الشمس، فان أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، و ان أذن اللّه في ردّ الرّوح أجابت النفس الروح، و هو قول اللّه: يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الآية» (4).

أقول: الظاهر أنّ المراد بالنفس في الرواية الرّوح الانساني، و بالرّوح الرّوح الحيوانى. و إسناد التوفّي إلى اللّه لأنّه الآمر، فلا ينافي إسناده إلى ملك الموت و أعوانه من الملائكة بالمباشرة. نعم.

ص: 383


1- . تفسير روح البيان 8:112 و 115.
2- . تفسير روح البيان 8:115.
3- . تفسير روح البيان 8:115.
4- . مجمع البيان 8:781، تفسير الصافي 4:323.

روي أنّ اللّه تعالى باشر قبض النفوس الطيبة الزكية كروح الحسين بن علي عليه السّلام (1).

و الصدّيقة الطاهرة، روى بعض العامة أنّ فاطمة الزهراء رضى اللّه عنه لمّا نزل عليها ملك الموت لم ترض بقبض روحها، فقبض اللّه تعالى روحها (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من التوفّي على الوجهين، و الامساك في أحدهما، و الإرسال في الآخر لَآياتٍ عجيبة و دلالات واضحة على كمال قدرة اللّه و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في آثار قدرة اللّه التي منها كيفية الموت و النوم، فيعلمون أنّ العاقل لا يعبد الجماد الذي لا قدرة له و لا إدراك، بل يعبد الإله الذي له القدرة الكاملة و الحكمة البالغة.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ لمّا كان قول مشركي مكّة: إنّا لا نعبدهم لكونهم آلهة، بل نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى، و يشفعوا لنا عند اللّه، أنكر سبحانه عليهم القول بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا قيل: كلمة (أم) منقطعة، و المعنى: بل اتّخذوا و اختاروا لأنفسهم (3)مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه شُفَعاءَ يشفعون لهم عند اللّه.

أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)ثمّ أمر سبحانه بتوبيخهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء السّفهاء أيشفعونكم أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الأشياء، و لا يقدرون على دفع شيء عن أنفسهم، فضلا عن شفاعتكم عند اللّه، و دفع عذابه عنكم وَ لا يَعْقِلُونَ و لا يدركون شيئا حتّى نفع أنفسهم، فضلا عن عبادتكم التي لا نفع (4)لهم فيها

قُلْ يا محمّد إرشادا لهم لِلّهِ وحده اَلشَّفاعَةُ الصادرة عن كلّ شافع جَمِيعاً لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلاّ بإذنه، كما قال: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ (5)لأنّ لَهُ تعالى وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و ما بينهما و السّلطنة فيها، فلا يتنفّس متنفّس و لا يتحرّك متحرّك و لا يتكلّم متكلّم إلاّ بإذنه و إرادته ثُمَّ إِلَيْهِ بعد الموت تُرْجَعُونَ و إلى محضر عدله تردّون، فيحاسب أعمالكم و يجازيكم على حسب استحقاقكم، فاحذروا سخطه، و احترزوا عذابه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 45 الی 46

وَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَحْدَهُ اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اَللّهُمَّ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ عالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)

ص: 384


1- . تفسير روح البيان 8:114.
2- . تفسير روح البيان 8:114.
3- . تفسير روح البيان 8:117.
4- . في النسخة: يقع.
5- . البقرة:2/255.

ثمّ حكى سبحانه شدّة تعصّبهم في مذهبهم و غاية حمقهم بقوله: وَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَحْدَهُ عندهم بأن يقول أحد: لا اله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له اِشْمَأَزَّتْ و نفرت من ذكر التوحيد قُلُوبُ المشركين لأنّهم اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدّقون بِالْآخِرَةِ و امتلأت غيظا و غما، لعداوتهم للّه، و عدم خوفهم من عقوبته في القيامة وَ إِذا ذُكِرَ عندهم الأصنام اَلَّذِينَ يعبدونهم مِنْ دُونِهِ فرادى، أو مع ذكر اللّه إِذا هُمْ لفرط افتتانهم بها يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون حتى تبسط وجوههم له.

ثمّ إنّه تعالى بعد حكاية إصرارهم على ما يشهد العقل بفساده، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالالتجاء إلى اللّه من لجاجهم و عنادهم بقوله: قُلِ يا محمد، عند رؤيتك هذه الحالة العجيبة و عجزك عن هدايتهم: اَللّهُمَّ يا فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خالقهما على النحو البديع، و يا عالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ و المطّلع على ما لا تدركه الحواسّ و ما تدركه أَنْتَ تعلم ما عليه هؤلاء، و تقدر على الانتقام منهم تَحْكُمُ يوم القيامة بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فاحكم بيني و بين هؤلاء المشركين المصرّين على الباطل، المعاندين للحقّ.

روى بعض العامة عن أبي سلمة، قال: سألت عائشة: بم كان يفتتح رسول اللّه صلاته بالليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم ربّ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل، فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنّك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» (1).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ بيّن سبحانه حكمه يوم القيامة على المشركين بشدّة العذاب و عدم خلاصهم منه بقوله: وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ أشركوا و ظَلَمُوا على ربّهم بتضييع حقوقه، و على أنفسهم باهلاكها الدائم ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً من الأموال و الأمتعة و الأملاك وَ مِثْلَهُ مَعَهُ على سبيل الفرض لاَفْتَدَوْا بِهِ و بذلوه ليتخلّصوا مِنْ سُوءِ اَلْعَذابِ و شديد العقاب يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ما تخلّصوا منه، و لا يخفف عنهم و لو ساعة وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اَللّهِ و ظهر لهم من عذابه ما لَمْ يَكُونُوا في الدنيا يَحْتَسِبُونَ

وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذابِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اَللّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)

ص: 385


1- . تفسير الرازي 26:286، تفسير روح البيان 8:120.

و يتوهّمون. و فيه بيان غاية شدّة عذابهم و كثرة أنواعه، كما أن في قوله صلّى اللّه عليه و آله في صفة ثوابهم في الجنة «بما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر في قلب بشر» (1)بيان نهاية حسنه و كثرة أنواعه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ العذاب المذكور من آثار أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا بقوله: وَ بَدا و ظهر لَهُمْ يوم القيامة سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و آثار قبائح أعمالهم التي عملوها حين عرض صحفه عليهم وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ من كلّ جانب ما كانُوا بِهِ في الدنيا يَسْتَهْزِؤُنَ من عذاب الآخرة عند إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به، و كانوا يقولون: متى هذا الوعد؟

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 49 الی 51

ثمّ لمّا حكى سبحانه اشمئزاز المشركين عن ذكر اللّه وحده، و استبشارهم بذكر أصنامهم، بيّن أنّهم مع عداوتهم للّه يلتجأون إليه وحده عند ابتلائهم بالشدائد بقوله: فَإِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ و أصابه ضُرٌّ و مكروه و سوء حال كفقر أو مرض أو خوف أو نظائرها دَعانا و التجأ إلينا وحدنا، و سألنا كشفه، مع اشمئزازه عن ذكرنا متفرّدا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ و أعطيناه نِعْمَةً من غنى أو صحة و نحوهما تفضلا مِنّا عليه لم يرها منّا، بل قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ و وجدته عَلى عِلْمٍ كان لي بوجوه كسبه، أو لعلمي بأنّي ساعطاه لما لي من الفضل و الاستحقاق، و الحال أنّه ليس كذلك بَلْ تلك النّعمة إنّما هِيَ فِتْنَةٌ و اختبار له، أيشكر أم يكفر وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لحمقهم لا يَعْلَمُونَ أنّها استدراج و اختبار لهم.

فَإِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)

و اعلم أنّ تلك الكلمة الباطلة ليست مختصة بهم بل قَدْ قالَهَا جمع من الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقارون و قومه، حيث قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (2)فابتلوا بالعذاب لقولهم ذلك فَما أَغْنى و ما دفع عَنْهُمْ العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأمتعة الدنيوية و يجمعون منها،

و لم تنفعهم النعمة في الخلاص من النّقمة فَأَصابَهُمْ و وصل إليهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و أسوأ جزاء ما عملوا في الدنيا من الكفر و القبائح و المعاصي.

ثمّ أوعد سبحانه كفّار مكة، أو من في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله منهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم

ص: 386


1- . تفسير الرازي 26:287.
2- . القصص:28/78.

باختيار الشرك و الغرور مِنْ هؤُلاءِ القوم الذين جاوروك في مكة، أو في زمانك، و عاندوك في الحقّ سَيُصِيبُهُمْ و عن قريب يصل إليهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و عقوبات ما عملوا من الكفر و المعاصي في الدنيا و الآخرة وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اللّه القادر على كلّ شيء من تعذيبهم بالهرب و القوة و الشوكة.

قيل: قد أصابهم في الدنيا حيث قحطوا سبع سنين، و قتل أكابرهم في بدر (1)و سائر الغزوات.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 52 الی 59

ثمّ عاد سبحانه إلى جواب قولهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بقوله: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا اولئك الحمقاء. قيل: إنّ التقدير أيقولون ذلك و لم يعلموا (2)بالتفكّر في أنّ الغنى و الفقر كثيرا يكونان على خلاف العادة، و يتبدّلان في شخص واحد بغير اختياره أَنَّ اَللّهَ بقدرته و حكمته يَبْسُطُ و يوسّع اَلرِّزْقَ و النّعمة لِمَنْ يَشاءُ أن يوسّعه عليه لصلاح في نظره من امتحان و جزاء عمل أو لغيرهما، لا لرفعة قدره عنده وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء أن يقدر و يضيّق عليه، لعلمه بصلاح في حقّه، أو لنظام العالم، لا لضعة قدره، و لا باختياره إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من البسط تارة و القبض اخرى، و في مورد دون مورد لَآياتٍ و دلالات على بسط الرزق و قبضة، بل كلّ الحوادث في العالم، بيد اللّه و إرادته وحده، لا بتدبير أحد، و لكن إنّما يكون نفع تلك الآيات و التفكّر فيها لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه، إذ هم المتفكّرون و المتدبّرون فيها، و المنتفعون بها، و أمّا غيرهم غافلون عنها غير

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ اَلسّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اَللّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اِسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (59)

ص: 387


1- . تفسير أبي السعود 7:259، تفسير روح البيان 8:122.
2- . تفسير روح البيان 8:122.

معتنين بها.

ثمّ إنّه تعالى بعد توعيد المشركين و الكفّار الظالمين على أنفسهم بالكفر و الشرك و العصيان، و تهديدهم بالعذاب الشديد، أعلن سبحانه بسعة رحمته بالنسبة إلى عباده المؤمنين بقوله: قُلْ يا نبي الرحمة للمؤمنين من قبلي يا عِبادِيَ المؤمنين اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا و أفرطوا في الخيانة عَلى أَنْفُسِهِمْ بتجاوز الحدّ في العصيان لا تَقْنَطُوا و لا تيأسوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ و تفضلّه عليكم بالعفو و المغفرة.

ثمّ كأنّه قيل: لم لا يقنطون مع كثرة المعاصي؟ فأجاب سبحانه بقوله: إِنَّ اَللّهَ بكرمه و تفضّله يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ للمؤمنين جَمِيعاً و لو كانت بعدد النجوم و الرمال و أوراق الأشجار.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بقوله: إِنَّهُ بالخصوص هُوَ اَلْغَفُورُ للذنوب و ستّارها اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين بعد الغفران بإعطاء الثواب.

قيل: إنّ الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا لا يغفر لهم ما ارتكبوا من الذنوب العظام، كقتل النفس و الزنا و معاداة النبي صلّى اللّه عليه و آله و القتال معه، فأنزل اللّه هذه الآية (1)، ففرح النبي صلّى اللّه عليه و آله بها، و رآها أصحابه أنها أوسع الآيات في مغفرة الذنوب.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنه قال: «ما في القرآن آية أوسع من يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا» (2).

و روي أنّ وحشيا قاتل حمزة كتب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يسأله هل له من التوبة؟ و كتب أنّه سمع فيما أنزل اللّه بمكّة من القرآن آيتين أنستاه من كلّ خير و هما قوله: وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: مُهاناً (3)فنزلت: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً (4)فكتب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخاف وحشي و قال: لعليّ لا أبقى حتى أعمل صالحا، فأنزل اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (5). فقال وحشي: إني أخاف أن لا أكون في مشيئة اللّه، فأنزل اللّه: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى آخره فأقبل وحشي و أسلم (6).

القمي، قال: نزلت في شيعة علي بن أبي طالب عليه السّلام خاصة (7).

و عن الباقر عليه السّلام: «و في شيعة ولد فاطمة أنزل اللّه هذه الآية خاصة» (8).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «لقد ذكركم اللّه في كتابه إذ يقول: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية، قال:

ص: 388


1- . أسباب النزول للواحدي:208.
2- . مجمع البيان 8:784، تفسير الصافي 4:326.
3- . الفرقان:25/68 و 69.
4- . الفرقان:25/70.
5- . النساء:4/116.
6- . اسباب النزول للواحدي:190.
7- . تفسير القمي 2:250، تفسير الصافي 4:325.
8- . تفسير القمي 2:250، معاني الأخبار:107/4، تفسير الصافي 4:225.

و اللّه ما أراد بهذا غيركم» (1).

و عنه عليه السّلام: «ما على ملّة إبراهيم غيركم، و ما يقبل إلاّ منكم، و لا يغفر الذنوب إلاّ لكم» (2).

أقول: المراد من النزول في شيعة على نزولها في حقّ غير المرتدّين بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم شيعة علي و ولده، إذ هم الذين لم ينكروا النصّ الجليّ في عليّ عليه السّلام.

إن قيل: الآية موجبة لعدم خوف المؤمنين من اللّه و عقابه، مع أنّه ثبت أنّه يجب على المؤمن أن يكون خائفا راجيا، لوضوح أن الأمن من مكر اللّه و عقابه من المعاصي الكبيرة، كاليأس من رحمة اللّه.

قلنا: لا شبهة أن كثرة المعاصي قد تؤذي إلى الكفر و ذهاب الايمان، فالمؤمن لا يعلم أنّه يموت على الايمان، فيخاف من زوال إيمانه و لو حين الموت، مع أنّ الوعد بالمغفرة إنّما هو في القيامة، و المؤمن يخاف من عقوبة اللّه في البرزخ، كما ورد «أنّ أخوف ما أخاف عليكم البرزخ» مع أنّه يحتمل تقييدها، لأنّه بالتوبة المقبولة، و مع التوبة لا يعلم قبولها، كما قيل: إنّ ابن مسعود قرأ: (إنّ اللّه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء) (3).

و روي ذلك عن ابن عباس (4)أيضا.

فليس في الآية إغراء إلى المعصية كما توهّم، بل يجب على المؤمن الإنابة و التوبة إلى اللّه بقوله تعالى: وَ أَنِيبُوا أيّها الناس و ارجعوا إِلى رَبِّكُمْ

بالتوبة عن المعاصي وَ أَسْلِمُوا و اخلصوا لَهُ تعالى أعمالكم من شوب الشرك و الهوى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ في الدنيا و الآخرة ثُمَّ بعد نزوله لا تُنْصَرُونَ و لا تمنعون منه من قبل أحد

وَ اِتَّبِعُوا أيّها المؤمنون أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ و هو القرآن، و عملوا بما فيه.

و قيل: يعني ما هو أنجى و أسلم كالإنابة و المواظبة على الطاعة، أو المعنى الزموا طاعته و اجتنبوا معصيته (5)مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ الدنيوي، أو الاخروي بإتيان الموت بَغْتَةً و غفلة وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لوقت مجيئه حتى تتداركوا و تتأهّبوا له،

و إنّما امرتكم بما ذكرت كراهة أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ حين نزول العذاب تحسّرا و استغاثة بها على ما هو دأب المتحسرين: يا حَسْرَتى و يا أسفاه عَلى ما فَرَّطْتُ و قصّرت فِي جَنْبِ اَللّهِ و ناحيته على تجاوزي عن الحدّ في عدم رعاية حقوقه، و عدم سلوك طريقه وَ إِنْ كُنْتُ في الدنيا و قد عددت فيها لَمِنَ اَلسّاخِرِينَ

ص: 389


1- . الكافي 8:35/5، تفسير الصافي 4:225.
2- . المحاسن:147/56، تفسير الصافي 4:225.
3- . تفسير الرازي 27:5، تفسير روح البيان 8:126.
4- . مجمع البيان 8:785، عن عبد اللّه.
5- . تفسير روح البيان 8:128.

و المستهزئين بدينه و برسوله و كتابه، و لم اكتف بترك طاعتهما أَوْ تَقُولَ نفس: لَوْ أَنَّ اَللّهَ هَدانِي و أرشدني إلى الحقّ لَكُنْتُ في الدنيا مِنَ اَلْمُتَّقِينَ عن الشّرك و المعاصي.

روي أنّه ما من أحد من أهل النار يدخل النار حتى يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أنّ اللّه هداني لكنت من المتّقين، فيكون عليه حسرة (1).

أَوْ تَقُولَ نفس تمنّيا حِينَ تَرَى اَلْعَذابَ عيانا و مشاهدة: لَوْ أَنَّ لِي الآن كَرَّةً و رجوعا إلى الدنيا فَأَكُونَ فيها مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ الصالحين في العقيدة و العمل. قيل: إنّ كلمة (أو) الدالة على الترديد، لها دلالة على أنّ كل نفس من الكفّار لا تخلو عن هذه الأقوال تحيّرا و تعللا ما لا طائل تحته، أو ندما حين لا ينفع (2).

و قيل: إنّها تتحسّر بالتفريط عند تطاير الكتب، ثمّ تتعلّل بفقد الهداية عند مشاهدة المتّقين و اغتباطهم، بتمنّي الرجعة عند الاطّلاع على النار و رؤية العذاب (3). و قيل: إنّ كلّ قول يكون لقوم (4).

ثمّ لمّا كان في القول الثاني إنكار الهداية من اللّه و نفيها، ردّها اللّه تعالى بقوله بَلى قد هديتك، فانّه قَدْ جاءَتْكَ آياتِي التي أنزلتها لهداية الناس مع دلائل الصدق بتوسّط رسولي فَكَذَّبْتَ بِها و أنكرت أنّها كلامي عنادا و لجاجا وَ اِسْتَكْبَرْتَ من قبولها و اتّباعها، و تعظّمت عن الايمان بها وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكافِرِينَ لنعمي، و المضيّعين لحقوقي عليك من إرسال الرسول إنزال الكتاب بعد إعطائك العقل و الحواسّ و سائر القوى.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 60 الی 61

ثمّ لمّا حكى سبحانه كذب المشركين على اللّه بقولهم: إنّ اللّه ما هدانا، هدّد الكاذبين على اللّه بقوله: وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تَرَى يا محمد، أو يأمن من شأنه الرؤية الكفّار اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّهِ و نسبوا إليه ما لا يليق به من أخذه الشريك، أو أختياره الصاحبة و الولد، أو تركه هداية الناس و نحوها وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ و مظلمة لسواد قلوبهم و ظلمتها بسبب الكفر و الجهل.

وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَ يُنَجِّي اَللّهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)و يحتمل أن يكون المراد بسواد الوجه الفضيحة بين الناس و الذلّة، كما يقال: الفقر سواد الوجه.

ص: 390


1- . تفسير روح البيان 8:129.
2- . تفسير روح البيان 8:129.
3- . تفسير روح البيان 8:130.
4- . تفسير روح البيان 8:129.

و يقال للكاذب: ثبت كذبك، و أسوّد وجهك.

ثمّ بيّن كمال استحقاقهم الخلود في جهنّم بقوله تبارك و تعالى: أَ لَيْسَ أيّها العقلاء فِي جَهَنَّمَ يوم القيامة مَثْوىً و مأوى أبديا لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الايمان باللّه و برسوله و إطاعته و اتّباع آياته.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «إن في جهنم لواد للمتكبرين يقال لها سقر، شكا إلى اللّه من شدّة حرّه، و سأله أن يتنّفس، فأذن له فتنفّس، فأحرق جهنّم (1).

اقول: على هذه الرواية يكون المراد من الآية أنّ في جهنم مثوى خاصا للمتكبرين أسوأ من مثوى غيرهم.

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيده للمشركين وعد المتّقين من الشرك و الكذب بقوله تعالى: وَ يُنَجِّي اَللّهُ يوم القيامة المؤمنين اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشرك و الكذب على اللّه من جهنّم و عذابها مقرونين بِمَفازَتِهِمْ و نجاحهم بأعلى المطالب و هو الجنّة و نعمها.

و قيل: إنّ باء (بمفازة) سببية و المعنى أنّ اللّه ينجّى المتقين من العذاب (2)بسبب سعادتهم و فوزهم في الدنيا بالطاعات و الخيرات.

ثمّ كأنّه قيل: كيف ينجيّهم؟ فقال سبحانه: لا يَمَسُّهُمُ و لا يصيبهم اَلسُّوءُ و المكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من نعم الدنيا و لا يغمّم الفزع الأكبر.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ إنّه تعالى بعد شرح الوعد و الوعيد، بيّن كمال قدرته الدالّ على توحيده، و على إنجازهما بقوله: اَللّهُ وحده خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الممكنات وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الموجودات وَكِيلٌ و قيّم و وليّ، يتصرف فيه كيف يشاء، و متكفّل بمصالح عباده،

و الكافي لهم في جميع امورهم لَهُ وحده مَقالِيدُ خزائن اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مفاتيحها، لا يتصرّف فيها غيره، و يعطي منها ما يشاء لمن يشاء.

اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (63)قيل: إنّ خزائن السماوات المطر، و خزائن الأرض النبات (3).

ص: 391


1- . تفسير القمي 2:251، تفسير الصافي 4:327.
2- . تفسير أبي السعود 7:261.
3- . تفسير روح البيان 8:132.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن تفسير مقاليد السماوات و الأرض، فقال: «تفسيرها لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر، و سبحان اللّه و بحمده، و أستغفر اللّه، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العليّ العظيم، هو الأول و الآخر، و الظاهر و الباطن، بيده الخير، يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير» (1).

أقول: على هذه الرواية يكون معنى الآية له هذه الكلمات، و هي مفاتيح جميع الخيرات، فمن قالها أصاب خير الدنيا و الآخرة.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ربح المؤمن في سوق تجارة الدنيا، ذكر خسران الكفار بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ التنزيلية و التكوينية الآفاقية و الأنفسية الدالة على توحيد اللّه في ذاته و صفاته الجلالية و الجمالية أُولئِكَ البعيدون عن ساحة رحمة اللّه هُمُ اَلْخاسِرُونَ خسرانا لا خسارة ورائه، لأنّهم سدّوا على أنفسهم أبواب رحمته و لطفه، و فتحوا عليها أبواب سخطه و عذابه.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 64 الی 65

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ ذاته المقدسة خالق كلّ شيء، و مدبّر امور عالم الوجود، و معطي الخيرات و مانعها، أمر نبيّه و حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بالانكار على من توقّع منه عبادة غيره، و إظهار التعجّب من طمعهم بقوله: قُلْ يا محمد، في جواب من يتوقع منك الايمان بالأصنام، و يسأل منك الإقدام بعبادتها: أَ فَغَيْرَ اَللّهِ قيل: إنّ التقدير أبعد مشاهدة آيات قدرة اللّه (2)و حكمته و وحدانيته، و معرفتي إياه بجميع الصفات الكمالية، فغير اللّه من المخلوقات التي أنا أفضل و أكمل من جميعها تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ و تسألوني أن أقول بألوهيتها، و تقولون أن أستلمها.

قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (65)قيل: كانوا يقولون: يا محمد، استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك (3). أَيُّهَا اَلْجاهِلُونَ بحكم العقل و العقلاء، فانّ من الواضح أنّ العقل حاكم بقبح عبادة الجماد الذي لا يضرّ و لا ينفع، و ترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ خير و شرّ و نفع و ضرّ.

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخ المشركين على طمعهم في إشراكه و إظهار أنه عين الجهل و الحمق، بالغ سبحانه في قطع طمعهم فيه، بتهديد حبيبه عليه بقوله: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ، يا محمد، من قبلنا وَ إِلَى الأنبياء اَلَّذِينَ جاءوا مِنْ قَبْلِكَ و كان ما اوحي إليك و إلى كلّ واحد منهم،

ص: 392


1- . تفسير الرازي 27:11، تفسير البيضاوي 2:330، تفسير أبي السعود 7:261، تفسير روح البيان 8:132.
2- . تفسير روح البيان 8:132.
3- . تفسير الرازي 27:12، تفسير أبي السعود 7:262.

هو أنّه و اللّه و لَئِنْ أَشْرَكْتَ بي على فرض المحال لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و ليبطلنّ سعيك، و إن كنت أحبّ الخلق إليّ، و أكرمهم عليّ وَ اللّه لَتَكُونَنَّ البتّة مِنَ اَلْخاسِرِينَ في صفقتك، و فيه إيذان بغاية شناعة الشرك و قبحه، و كونه عبث ينهى عنه من يستحيل منه فضلا عن غيره.

و قيل: إنّ المخاطب هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد امّته (1).

و عن ابن عباس: هذا أدب لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و تهديده لغيره، لأنّ اللّه عصمة من الشرك و مداهنة الكفّار (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «تفسيرها لئن أمرت بولاية أحد مع لاية عليّ عليه السّلام من بعدك ليحبطنّ عملك، و لتكوننّ من الخاسرين» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني إن اشرك (4)في الولاية غيره» الخبر (5).

أقول: هذه الروايات تأويل للآية.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد التوحيد بقوله: بَلِ اَللّهَ وحده فَاعْبُدْ و قيل: إنّ التقدير لا تعبد ما آمرك المشركون بعبادته، بل إن عبدت شيئا فاعبد اللّه (6)وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمة هدايتك إلى توحيده و معرفته و عبادته بتقوية عقلك و نصب الأدلّة القاطعة و الوحي إليك.

بَلِ اَللّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (66) وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ اَلسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (67)عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه بعث نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأياك أعني و اسمعي يا جارة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: بَلِ اَللّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ يعني بل اللّه فاعبد بالطاعة، و كن من الشاكرين أن عضدتك بأخيك و ابن عمّك» (7).

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوصيف المشركين له بالشرك و الجهل، فسّر جهلهم بقوله: وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ ما عرفوه حقّ معرفته، و اعظموه بما يليق بعظمته، حيث جعلوا له من مخلوقاته شركاء، و ساووه مع الجمادات التي لا شعور لها و لا قدرة على شيء، و الحال أنّه اَلْأَرْضُ بطبقاتها الظاهرة و الباطنة، و أجزائها الكبيرة و الصغيرة جَمِيعاً وكّلا قَبْضَتُهُ و في

ص: 393


1- . تفسير القمي 2:251، تفسير الصافي 4:328.
2- . تفسير روح البيان 8:133.
3- . تفسير القمي 2:251، تفسير الصافي 4:328.
4- . في الكافي: أشركت.
5- . الكافي 1:353/76، تفسير الصافي 4:328.
6- . تفسير روح البيان 8:133.
7- . تفسير القمي 2:251، إلى نهاية الآية، تفسير الصافي 4:328.

يد قدرته، و تحت تصرّفه يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يقلّبها مع غاية عظمتها، كما يقلّب الانسان حصاة أو خاتما في كفّه وَ اَلسَّماواتُ السبع مع سعتها و غاية ضخامتها مَطْوِيّاتٌ و مدرجات و ملفوفات كلفّ الثياب بِيَمِينِهِ و قدرته.

عن ابن عباس، قال: ما السماوات السبع و الأرضون السبع في يد اللّه إلاّ كخردلة في يد أحدكم (1).

عن الصادق عليه السّلام: «قبضته يعني ملكه، لا يملكها معه احد. . .» قال: «اليمين: اليد، و اليد: القدرة و القوة مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ يعني بقدرته و قوته» (2).

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته و سلطانه و قدرته، نزّه ذاته المقدّسة عن الشريك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى و ترفّع عَمّا يُشْرِكُونَ من الشركاء و الأصنام.

عن ابن عباس و ابن مسعود: أنّ حبرا من اليهود أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا محمد، أشعرت أنّ اللّه يضع يوم القيامة السماوات على إصبع، و الجبال على إصبع، و الأرضين على إصبع، و الماء و الثرى و الأشجار على إصبع، و جميع الخلائق على إصبع، ثمّ يهزّهنّ و يقول: أنا الملك، و أين الملوك؟ فضحك رسول اللّه تعجبّا منه، و تصديقا له، فانزل اللّه [هذه الآية]» (3).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 68 الی 70

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار عظمته قدرته بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ نفخة واحدة فَصَعِقَ و فزع و مات مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الحيوانات إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ أن لا يصعق، قيل: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، أو هم و حملة العرش، فانّهم لا يموتون عند النفخة الاولى (4). و قيل: هم الحور و الغلمان و خزنة الجنة و النار» (5).

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية: «من الذين لم يشأ اللّه أن يصعقهم؟» قال: «هم الشهداء يتقلّدون أسيافهم حول العرش» (6).

ص: 394


1- . تفسير روح البيان 8:135.
2- . التوحيد:161/2، تفسير الصافي 4:329.
3- . تفسير الرازي 27:15، تفسير روح البيان 8:134.
4- . تفسير أبي السعود 7:263، تفسير روح البيان 8:137.
5- . تفسير روح البيان 8:137.
6- . تفسير الرازي 27:18، تفسير روح البيان 8:138.

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أهل الاستثناء محمّد و أهل بيته عليهم السّلام و أهل المعرفة» (1).

أقول: هذان الخبران مبنيّان على أنّ المراد بالصّعق أعمّ من الموت و الغشوة، كما نسب ذلك إلى بعض المحققين (2)، فالأحياء يموتون بالنفخة، و الأرواح الذين ذاقوا الموت يغشى عليهم، و عند ذلك يقول اللّه تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ، مع أنّه لا بعد في كون محمد و آله أهل الاستثناء، لأنّهم بوجه هو، كما روي أنّهم قالوا: «إنّ مع اللّه حالات، نحن هو، و هو نحن» (3).

ثُمَّ بعد أربعين سنة على رواية (4)نُفِخَ فِيهِ النفخة ال أُخْرى و هي نفخة الإحياء فَإِذا هُمْ قِيامٌ و ناهضون من قبورهم على أرجلهم، أو واقفون من شدّة الحيرة في مكانهم حال كونهم يَنْظُرُونَ إلى الأطراف و الجوانب كالمبهوتين، أو إلى السماء كيف غيّرت و طويت، إلى الأرض كيف بدّلت، و إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الموقف، أو إلى الآباء و الامّهات و الأولاد كيف ذهبت شفقتهم و اشتغلوا بأنفسهم، أو إلى خصمائهم ما ذا يفعلون بهم.

و قيل: يعني ينتظرون ما يفعل بهم (5).

في بيان كيفية

الصور، و النفخ فيه،

و المدّة الكائنة بين

النفختين

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أوّل من ينشقّ عنه القبر» (6).

و عن السجاد عليه السّلام أنّه سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: «ما شاء اللّه» .

قيل: أخبرني يابن رسول اللّه كيف ينفخ فيه فقال: «أما النفخة الاولى» فانّ اللّه يأمر إسرافيل، فيهبط إلى الدنيا، و معه الصّور، و للصّور رأس واحد و طرفان، و بين رأس كل طرف منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض، و إذا رأت الملائكة إسرافيل قد هبط إلى الدنيا و معه الصّور قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، و في موت أهل السماء.

قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس، و هو مستقبل الكعبة، فاذا رأوه أهل الأرض قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض، فينفخ فيه نفخة، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض، فلا يبقى في الارض ذو روح إلاّ صعق و مات، و يخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماء، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ صعق و مات إلاّ إسرافيل، فيقول اللّه لإسرافيل: مت فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثمّ يأمر السماوات فتمور، و يأمر الجبال فتسير، و هو قوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّماءُ مَوْراً* وَ تَسِيرُ اَلْجِبالُ سَيْراً (5).

ص: 395


1- . تفسير روح البيان 8:138.
2- . تفسير روح البيان 8:137.
3- . لم نعثر عليه.
4- . تفسير الرازي 27:18. (5 و 6) . تفسير روح البيان 8:138.
5- . الطور:52/9 و 10.

إلى أن قال: «فينفخ الجبار نفخة اخرى في الصّور، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماوات، فلا يبقى في السماوات أحد إلاّ حي و قام كما كان، و يعود حملة العرش، و تحضر الجنة و النار، و يحشر الخلائق للحساب» (1).

قال الغزالي: اختلف الناس في أمد المدة الكائنة بين النفختين، فاستقرّ جمهورهم على أنّها أربعون سنة. قال: و حدثني من لا أشكّ في علمه: أنّ أمد ذلك لا يعلمه إلاّ اللّه، لأنّه من أسرار الربوبية، فاذا أراد اللّه إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش، فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض-فاذا هو كمنيّ الرجال-بعد أن كانت عطشى، فتحيى و تهتزّ، و لا يزال المطر عليها حتى يعمّها، و يكون الماء فوقها أربعين ذراعا، فإذا الأجسام تنبت من عجب الذّنب (2)، و هو أول ما يخلق من الانسان، بدأ منه و منه يعود، و هو عظم على قدر الحمّصة، و ليس له مخّ، فاذا نبت كما ينبت البقل، تشتبك بعضها في بعض، فإذا رأس هذا في منكب هذا، و يد هذا في جنب هذا، أو فخذ هذا على حجر هذا لكثرة البشر، الصبىّ صبيّ، و الكهل كهل، و الشيخ شيخ، و الشاب شابّ، ثمّ تهبّ ريح من تحت العرش فيها نار، فتنسف ذلك عن الأرض، و تبقى الأرض بارزة مستوية، كأنّها صحيفة واحدة، ثمّ يحيي اللّه إسرافيل، فينفخ في الصّور من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح لها دويّ كدويّ النحل، فتملأ الخافقين، ثمّ تذهب كلّ نفس إلى جثّتها بإعلام اللّه تعالى حتى الوحش و الطير و كلّ ذي روح، فاذا الكلّ قيام ينظرون (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا اراد اللّه أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا، فتجمع الاوصال، و تنبت اللحوم» (4).

وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ و أضاءت بِنُورِ رَبِّها و الذي خلقه لإضاءة العرصة.

و قيل: إنّ المراد بالنور عدل ربّهم، و إنّما استعير له النور لأنّه يزيّن البقاع، و يظهر الحقوق، كما يسمّى الظّلم ظلمة (5).

و في الحديث: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» (6).

و قيل: إنّ هذا من المكتوم الذي لا يفسّر (7).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ربّ الأرض إمام الأرض» . قيل: إذا خرج يكون ما ذا؟ قال: «إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس و القمر، و يجتزون بنور الإمام» (8).

ص: 396


1- . تفسير القمي 2:252، تفسير الصافي 4:230.
2- . أي أصله عند رأس العصعص.
3- . تفسير روح البيان 8:139.
4- . تفسير القمي 2:253، تفسير الصافي 4:330.
5- . تفسير روح البيان 8:140.
6- . تفسير الرازي 27:19، تفسير أبي السعود 7:263.
7- . تفسير روح البيان 8:140.
8- . تفسير القمي 2:253، تفسير الصافي 4:331.

و عنه عليه السّلام: «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها، و استغنى العباد عن ضوء الشمس، و ذهبته الظّلمة» (1).

وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ و صحائف الأعمال في أيدي الناس.

قيل: هو كناية عن الشروع في حساب أعمال الناس، كما يضع المحاسب دفتر المحاسبة بين يديه عند الشروع في الحساب (2).

و قيل: إنّه اللّوح المحفوظ الذي فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى القيامة (3).

وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَداءِ الذين استشهدوا نصرة للدين، فاذا دعي النبيّون و الشهداء الذين هم أفضل الناس للحساب، فكيف يكون حال الامم.

و قيل: إنّ المراد بالشهداء الشهود على الامم من الملائكة و الأولياء (4).

القمي: الشهداء الأئمۀ و الدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الحجّ: لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا أنتم يا معشر الأئمّة شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ (5).

وَ قُضِيَ بين الناس و حكم بَيْنَهُمْ في ذلك اليوم بِالْحَقِّ و العدل؛ ثمّ بعد إثبات العدل نفي الظلم على العباد بقوله: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب عمّا وعد، و زيادة العقاب على ما أوعد.

ثمّ أكّد ذلك سبحانه بقوله: وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس و اعطيت كاملا جزاء ما عَمِلَتْ من الخير و الشرّ.

ثمّ لمّا كان إيفاء الحقّ متوقّفا على العلم الكامل بأعمال العباد و مقاديرها و كيفياتها، بيّن علمه بها مضافا إلى كونها مثبوتة في الكتاب بقوله: وَ هُوَ تعالى أَعْلَمُ من غيره حتى من العامل بِما كانوا في الدنيا يَفْعَلُونَ فيمتنع منه الخطأ في الحكم.

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 71 الی 72

ثمّ بيّن سبحانه ما يحكم به يوم القيامة في حقّ الكفّار و المتقّين بقوله: وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذابِ عَلَى اَلْكافِرِينَ (71) قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ (72)

ص: 397


1- . إرشاد المفيد 2:381، تفسير الصافي 4:331.
2- . تفسير روح البيان 8:140.
3- . تفسير الرازي 27:20.
4- . تفسير روح البيان 8:140.
5- . تفسير القمي 2:253، تفسير الصافي 4:231.

و يذهب به بالعنف و الدفع إِلى جَهَنَّمَ بأمره بعد الحساب، و الحكم عليهم باستحقاق العقاب حال كونهم زُمَراً و جماعات و أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض على حسب ترتّب طبقاتهم في الكفر و الشرارة حَتّى إِذا جاؤُها بالاكراه (1)و الاضطرار و فُتِحَتْ بأمر مالك خازن جهنّم أَبْوابُها السبعة ليدخلوها.

قيل: فائدة إغلاقها إلى وقت مجيئهم تهويل شأنها، كما هي حال المسجون، و إيقاد حرّها (2).

وَ قالَ لَهُمْ، تقريعا و توبيخا الملائكة الذين هم خَزَنَتُها و حفّاظها: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيّها الكفرة في الدنيا رُسُلٌ مِنْكُمْ و أنبياء من جنسكم، ليسهل عليكم مراجعتهم و فهم كلامهم، و هم يَتْلُونَ و يقرأون عَلَيْكُمْ و يؤدّون إليكم آياتِ رَبِّكُمْ التي أنزلت لهدايتكم وَ يُنْذِرُونَكُمْ و يخوّفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا و شدائده و أهواله؟

قالُوا للخزنة: بَلى قد أتونا، و تلوا علينا، و أنذرونا وَ لكِنْ ما اعتنينا بهم، و لذا حَقَّتْ و وجبت كَلِمَةُ اَلْعَذابِ و وعده من اللّه عَلَى اَلْكافِرِينَ الذين نحن منهم.

فلمّا اعترفوا باستحقاقهم للعذاب قِيلَ لهم: اُدْخُلُوا قهرا و قسرا أَبْوابَ جَهَنَّمَ حال كونكم خالِدِينَ فِيها ملازمين لعذابها، بحيث لا تنفكّون منه أبدا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ و ساء مأوى المستنكفين عن الايمان و طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله تعظّما، هذا المنزل و المأوى، و فيه دلالة على أنّه مع وفور آيات الحقّ و تمامية الحجّة، لم يكن لهم مانع عن الايمان به إلاّ التكبّر على الرسل، و التعظّم عن تبعيّتهم. قيل: إنّه إيهام القائل لتهويل المقول (3).

سوره 39 (الزمر): آیه شماره 73 الی 75

ثمّ ذكر سبحانه حسن حال المتقين بقوله تعالى: وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و احترزوا من الاشراك به، و يذهب بهم الملائكة باسراع و إعزاز و إكرام بلا تعب و لا نصب ليوصلونهم إِلَى اَلْجَنَّةِ و دار

وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (74) وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (75)

ص: 398


1- . في النسخة: بلا إكراه.
2- . تفسير روح البيان 8:142.
3- . تفسير روح البيان 8:142.

الراحة و الكرامة في أسرع وقت حال كونهم زُمَراً و جماعات متفاوتين حسب تفاوتهم في الإيمان و العبادة و المعرفة و الفضل، و تحمّل المشاقّ، و الصبر على المكاره و الشدائد، و حبّ الرسول و آله حَتّى إِذا جاؤُها و قد وَ فُتِحَتْ قبل وصولهم إليها أَبْوابُها الثمانية، فيدخلوها بلا توقّف عندها و رؤية وصب الانتظار لفتحها.

قيل: إنّ جواب (إذا) قوله: (فتحت) و زيادة الواو للايذان بكونها مفتّحة قبل مجيئهم، و لا ينافي ذلك (1)ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أوّل من يستفتح باب الجنة» (2). و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا أول من يقرع باب الجنّة» (3)لإمكان أن يريد اللّه أن يعلم الناس بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كما فتح عليكم في الدنيا أبواب المعرفة و العبادة و تكميل النفس و تهذيب الأخلاق، فتح له في الآخره أبواب الجنة و الرحمة و النّعم الدائمة، فيصير ببركته مفتوحا لهم قبل وصولهم إليه.

و قال عليه السّلام: «الجنّة محرّمة على جميع الامم حتى أدخلها أنا و امّتي الأوّل فالأول» (4).

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها الرضوان و اتباعه عن الملائكة الذين هم سدنة الجنة و حين استقبالهم إياهم دخلوهم فيها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أيّها المتّقون، و أمان لكم من كلّ آفة و مكروه طِبْتُمْ نفسا، أو نظفتم منا الاقذار الظاهرية و الباطنية، و صلحتم لدخول الجنة، إذن فَادْخُلُوها حال كونكم خالِدِينَ و مقيمين فيها أبدا لا خروج لكم منها.

عن الصادق، عن أبيه، عن جدّه، عن علي عليهم السّلام قال: «إنّ للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعوا و أقول: ربّ شيعتي و محبّي و أنصاري و أوليائي و من تولاني في دار الدنيا. فاذا النداء من بطنان العرش: قد أجبت دعوتك، و شفعت في شيعتك، و ليشفّع كلّ رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و لم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت» (5).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «أحسنوا الظّن باللّه، و اعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب، عرض كلّ باب منها مسيرة أربعة سنين» (6).

و في رواية عامية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إنّ للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلاّ بينهما سير الراكب

ص: 399


1- . تفسير روح البيان 8:145.
2- . تفسير روح البيان 8:144.
3- . تفسير روح البيان 8:144.
4- . تفسير روح البيان 8:144.
5- . الخصال:407/6، تفسير الصافي 4:332.
6- . الخصال:408/7، تفسير الصافي 4:332.

سبعين عاما، و ما بين كلّ مصراعين من مصارع الجنّة مسيرة سبع سنين» (1).

و في رواية: «كما بين مكة و بصرى» (2).

و تحيّة الملائكة لهم بالسلام حين الدخول، و تحيّتهم من اللّه بالسلام بقوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ إنّما هو بعد استقرارهم فيها. و قيل: إنّ سلام الملائكة لعوامّهم، و سلام اللّه لخواصّهم (1).

وَ قالُوا أولئك المتقون بعد دخولهم في الجنّة و نيلهم بنعمها العظام: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث و الثواب على الايمان الأعمال على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله: وَ أَوْرَثَنَا هذه اَلْأَرْضَ التي جعلها مقرّا لأوليائه-و قد مرّ تفسير التوريث في قوله تبارك و تعالى: أُولئِكَ هُمُ اَلْوارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ (2)- نَتَبَوَّأُ و نتمكّن مِنَ اَلْجَنَّةِ التي أعطانا و خصّنا بها حَيْثُ نَشاءُ و في أيّ مكان نريد. روي أنّ امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله تدخل أولا الجنّة، فتنزل حيث تشاء منها، ثمّ يدخل سائر الامم (3)فَنِعْمَ الأجر أَجْرُ العابدين اَلْعامِلِينَ له و هو الجنّة و نعمها.

ثمّ لمّا حكى اللّه سبحانه حمد المتقين إياه في الجنّة، حكى استغراق أقرب الملائكة إليه في التحميد و التسبيح له بقوله تعالى: وَ تَرَى يا محمّد اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ و محدقين مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ و جوانبه يُسَبِّحُونَ اللّه و ينزّهونه عمّا لا يليق به، حال كونهم مقرنين تسبيحه بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تلذّذا به وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإقامة كلّ في مقامه اللائق به حسب التفاضل بينهم بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة.

و قيل: إنّه بيان خاتمة القسمة بالقضاء بين الخلق بالحقّ بادخال أهل الجنّة في الجنّة، و إدخال أهل النار في النار (4).

وَ قِيلَ: و القائل الملائكة على التفسير الأول، و المتقون على الثاني: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على قضائه بالحقّ بين عباده.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الزّمر استخفاها (5)من لسانه، أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة، و أعزّه بلا مال و لا عشيرة حتى يهابه من يراه، و حرّم جسده على النار، و بنى له في الجنّة ألف مدينة، في كلّ مدينة ألف قصر، و في قصر مائة حوراء، و له مع هذا عينان تجريان، و عينان نضّاختان، و جنّتان مدهامّتان، و من كلّ فاكهة زوجان» (6).

الحمد للّه على توفيقه لاتمام السورة المباركة الشريفة.

ص: 400


1- . تفسير روح البيان 8:145.
2- . المؤمنون:23/10 و 11.
3- . تفسير روح البيان 8:147.
4- . تفسير روح البيان 8:148.
5- . في ثواب الاعمال: استحقها، و في تفسير الصافي: استخفافا.
6- . ثواب الاعمال:112، مجمع البيان 8:760، تفسير الصافي 4:333.

في تفسير سورة غافر

سوره 40 (غافر): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة الزّمر المبدوءة ببيان عظمة القرآن، و الأمر باخلاص الدين للّه، و الحكم بخسران المكذّبين بآيات اللّه و استحقاقهم للعذاب، و المختتمة ببيان أهوال القيامة، و قضاء اللّه فيه بالحقّ، و حكاية حمد الملائكة الحافّين حول العرش، نظمت سورة المؤمن البدوءة أيضا ببيان عظمة القرآن و تهديد المكذبين بالآيات، و بيان استحقاقهم للنار، و حكاية تحميد الملائكة الحاملين للعرش و المحيطين به، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة، فبابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تعالى:

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (2) غافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقابِ ذِي اَلطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (3)

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: حم و قد مرّ أنّ الحرفين رمزان من اسمين من الأسماء الحسنى.

عن الصادق عليه السّلام: «معناه الحميد المجيد» (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه اسم من أسمائه تعالى» (2).

و قيل: إنّه اسم للسورة، و عليه هو مبتدأ و خبره قوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ (3).

و إنزال هذا القرآن مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ القادر على كلّ شيء اَلْعَلِيمِ بكلّ شيء فبقدرته رتّبه من الحروف المتداولة على نحو عجز العاملون عن الاتيان بمثله، و بعلمه جعله حاويا للعلوم الكثيرة التي لا يحوي عشرها الكتب السماوية.

و قيل: إنّ العزيز بمعنى الذي لا مثل (4)له في حسن البيان و النّظم و الاسلوب، بحيث لا يدانيه كتاب

ص: 401


1- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:334.
2- . تفسير روح البيان 8:149.
3- . تفسير الرازي 27:26.
4- . تفسير الرازي 27:26، تفسير روح البيان 8:150.

سماويّ فضلا عن غيره، و يمكن كون النّكتة في توصيف ذاته هنا بالوصفين، التنبيه على قدرته على إثابة المؤمنين به العاملين بما فيه، و تعذيب المكذبين المعرضين عنه، و على علمه بأحوال العباد من الكفر و الايمان و الطاعة و العصيان.

ثمّ أعلن سبحانه بسعة رحمته و شدّة قهره و عذابه بقوله: غافِرِ اَلذَّنْبِ و ساتره حتى عن المذنب و إن لم يتب وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ العذر من الذنب و العصيان، عاف عمّا يتب منه، و إن كان أكبر الكبائر. ثمّ أعلن بشدّة قهره و عذابه بقوله: شَدِيدِ اَلْعِقابِ على المشركين و العصاة.

ثمّ لمّا كانت رحمته سابقة على غضبه، عاد إلى ذكر كرمه بقوله: ذِي اَلطَّوْلِ و الفضل و الاحسان على جميع الخلق في الدنيا و على المؤمنين في الآخرة، فاذا كان ذاته المقدّسة بتلك الصفات الجليلة، ثبت أنه لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا مستحّق للعبادة في عالم الوجود إلاّ ذاته، فإذن فاعبدوه

و لا تعبدوا غيره، و اعلموا أنه إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ و المنقلب بعد خروجكم من الدنيا، فيجازيكم على عبادتكم إياه، يعاقبكم على عبادتكم غيره.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون القرآن نازلا منه، ذمّ الكفّار الذين جادلوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيه و نسبوه إلى السحر أو الشعر أو الكهانة بقوله تعالى: ما يُجادِلُ و لا ينازع فِي آياتِ اَللّهِ المنزلة بالطعن فيها إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بها لجاجا و عنادا، و اصرّوا على محق الحقّ و تشييد الباطل، فاذا علمت يا محمد أنّهم كفار مطرودون عن ساحة الرحمة و مستحقّون للعذاب فَلا يَغْرُرْكَ و لا يوقفك في توهّم سلامتهم من عذابي إمهالهم و تَقَلُّبُهُمْ و تصرّفهم فِي اَلْبِلادِ كالشام و اليمن للتجارة و كسب المعاش و جمع الأموال، فانّي و إن امهلهم و لكن سآخذهم و أنتقم منهم، كما أخذت أمثالهم من الامم الماضية، فانّ تكذيب الرسول، و المجادلة في الآيات، ليس من خصائص قومك،

ص: 402

بالعذاب عقوبة على كفرهم و همّهم بالرسل فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ربّك الذي عاقبهم به بعد ما رأيت آثاره من خراب الديار و محو الآثار عبرة للنظّار، ألم يكن مهلكا مستأصلا لهم؟

ما يُجادِلُ فِي آياتِ اَللّهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)

سوره 40 (غافر): آیه شماره 6 الی 9

ثمّ وعد سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بأخذه قومه كما أخذ اولئك الامم بقوله: وَ كَذلِكَ العذاب الذي حقّ و ثبت على اولئك الامم حَقَّتْ و وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ و وعده بالعذاب عَلَى قومك اَلَّذِينَ كَفَرُوا بربّهم، و تحّزبوا عليك، و جادلوك بالباطل لأجل أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلنّارِ و مستحقّوها أشدّ الاستحقاق.

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلنّارِ (1) اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (9)و قيل: إنّ المراد مثل وجوب العذاب الدنيوي على الامم السابقة، وجبت كلمة ربّك على اولئك الكفرة، و هي كونهم أصحاب النار في الآخرة (2).

ثمّ لمّا حكى سبحانه شدّة استنكاف المشركين عن التوحيد، و عداوتهم للموحّدين، بيّن رأفة الملائكة بالموحّدين، و شفقتهم عليهم من أن يبتلوا بعذاب النار، و رحمتهم عليهم بقوله: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ و الجسم المحيط بعالم الوجود، منه ينزل قضاء اللّه و قدره، و اولئك الحملة في الدنيا أربعة على قول (3)، و ثمانية على آخر (4)، و في الآخرة ثمانية بالاتّفاق (5)وَ مَنْ حَوْلَهُ و في جوانبه من الملائكة المكرمين. قيل: هم سبعون ألف صفّ من مائة ألف صفّ، قد وضعوا أيمانهم على شمائلهم (6)يُسَبِّحُونَ اللّه و ينزّهونه من كلّ ما لا يليق بشأنه الجليل مقرنين تسبيحهم بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على نعمائه التي لا تتناهى. قيل: كلّ يسبّح بما لا يسبّح به الآخر (6)وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانا حقيقا بحالهم و مقامهم، و إنّما صرّح بايمانهم مع كفاية تسبيحهم و تحميدهم عنه، إظهارا لفضيلة الايمان

ص: 403


1- . تفسير روح البيان 8:156.
2- . تفسير الرازي 27:30.
3- . تفسير روح البيان 8:155.
4- . تفسير الرازي 27:31.
5- . تفسير الرازي 27:31، تفسير روح البيان 8:155.
6- . تفسير روح البيان 8:156.

و شرف أهله، و تنبيها على أنّ اللّه تعالى لا يكون حاضرا في العرش مشاهدا لهم، بل هم كغيرهم مؤمنون به و ممدوحون بايمانهم به، و لو كانوا مشاهدين إيّاه لم يمدحوا بايمانهم وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا من البشر شفقة عليهم. قيل: كمال السعادة في تعظيم اللّه و الشّفقة على خلق اللّه (1).

عن الرضا عليه السّلام: «للذين آمنوا بولايتنا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ للّه ملائكة يسقطون عن ظهور شيعتنا الذنوب، كما يسقط الريح الورق في أوان سقوطه، و ذلك قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ» الآية (3).

و يقولون: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ و أحطت بكلّ شيء رَحْمَةً وَ عِلْماً قيل: يعني ملأ كلّ شيء نعمتك و علمك (4)، فإذا كنت واسع الرحمة فَاغْفِرْ برحمتك لِلَّذِينَ تابُوا و ندموا من الشرك و العصيان، وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ و عملوا بدينك و أحكامك و ما فيه رضاك وَ قِهِمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ و احفظهم منه، و هو تأكيد لطلب المغفرة التي بها النجاة من العذاب،

و يقولون بعد طلبهم النجاة من العذاب للمؤمنين رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ و بساتين إقامة، أو بساتين اسمها جنّات عدن اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ على لسان أنبيائك على الايمان بك وَ أدخل معهم مَنْ صَلَحَ لدخول الجنة مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ ليتمّ سرورهم، و يتضاعف ابتهاجهم إِنَّكَ أَنْتَ بالخصوص اَلْعَزِيزُ و القادر على إنجاز وعدك و إجابة دعاء كلّ داع اَلْحَكِيمُ الذي يمتنع منه خلف الوعد الذي هو من القبائح.

عن سعيد بن جبير، قال: يدخل المؤمن الجنّة فيقول: أين أبي، أين ولدي، أين زوجي؟ فيقال لهم: إنّهم لم يعملوا مثل عملك. فيقول: إنّي كنت أعمل لي و لهم؟ فيقال: أدخلوهم الجنة (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين أن أخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، فينادى: أن امضوا إلى الجنّة» (6)الخبر.

وَ قِهِمُ يا ربّ اَلسَّيِّئاتِ وَ احفظهم من جميع مكاره القيامة و أهوالها مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئاتِ و تحفظه منها يَوْمَئِذٍ و في ذلك اليوم العظيم الشديد الأهوال فَقَدْ رَحِمْتَهُ و تفضّلت عليه غاية الرحمة و التفضّل.

قيل: إنّ المراد بالسيئات المعاصي في الدنيا، و المعنى: و قهم المعاصي في الدنيا، و من تقيه من

ص: 404


1- . تفسير روح البيان 8:157.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:262/22، تفسير الصافي 4:235.
3- . الكافي 8:304/470، تفسير الصافي 4:235.
4- . تفسير روح البيان 8:157.
5- . تفسير روح البيان 8:158.
6- . تفسير روح البيان 8:158.

المعاصي فيها فقد رحمته في الآخرة (1). وَ ذلِكَ المذكور من الوقاية و الرحمة هُوَ فقط اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و الظّفر بأعلى المقاصد، أو أهمّ المطالب الذي ليس وراءه مطمع لطامع.

القمي رحمه اللّه، قال في تأويل الآية: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأوصياء عليهم السّلام من بعده، يحملون علم اللّه عزّ و جلّ وَ مَنْ حَوْلَهُ يعني الملائكة وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يعني شيعة آل محمد صلّى اللّه عليه و آله لِلَّذِينَ تابُوا يعني من ولاية فلان و فلان و بني امية وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي ولاية وليّ اللّه وَ مَنْ صَلَحَ يعني تولّى عليا عليه السّلام، و ذلك صلاحهم فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني يوم القيامة وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لمن نجّاه اللّه من ولاية فلان و فلان (2).

و روى الكلينى رحمه اللّه: «أنّ اللّه تعالى أعطى النائبين ثلاث خصال، لو اعطي كلّ خصلة منها أهل السماوات و الأرض لنجوا بها» ثمّ تلا الآية (3).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 10 الی 12

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان رأفة الملائكة المقرّبين بالمؤمنين، و دعائهم في حقّهم، حكى سبحانه غضبهم على الكافرين و نداءهم إيّاهم بما فيه توبيخهم و تقريعهم و تهويلهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللّه و رسله و الدار الآخرة يُنادَوْنَ يوم القيامة بعد دخولهم في جهنّم و مقتهم و غيظهم على أنفسهم الأمّارة بالسوء، و المنادي الملائكة الذين هم خزنة جهنّم: أيّها الكفرة و اللّه لَمَقْتُ اَللّهِ و سخطه عليكم في الدنيا أَكْبَرُ و أشدّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ و سخطكم عليكم في هذا اليوم، و إنّما كان مقت اللّه و سخطه عليكم إِذْ تُدْعَوْنَ و حين تنادون من جهة الأنبياء إِلَى اَلْإِيمانِ بتوحيد اللّه و رسالة رسله فَتَكْفُرُونَ و تأبون من إجابتهم استكبارا عليهم و اتّباعا لهوى أنفسكم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اَللّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى اَلْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اَللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ (12)قيل: إنّ كلمة (إذا) متعلّقة باذكروا المقدّر (4).

ثمّ حكى سبحانه عنهم الاعتراف بالذنب و استحقاقهم العذاب بقوله: قالُوا حين تقريع خزنة

ص: 405


1- . تفسير روح البيان 8:159.
2- . تفسير القمي 2:255، تفسير الصافي 4:235.
3- . الكافي 2:315/5، تفسير الصافي 4:336.
4- . تفسير روح البيان 8:160.

جهنّم إياهم رَبَّنا إنّا شاهدنا أنّك أَمَتَّنَا إماتتين اِثْنَتَيْنِ إحداهما حين انقضاء آجالنا في الدنيا، و الاخرى بعد إحيائنا في القبور لسؤال منكر و نكير وَ أَحْيَيْتَنَا احياءتين اِثْنَتَيْنِ إحداهما في القبور للسؤال و التعذيب، و الاخرى في القيامة، و كنّا ننكر جميعها.

و عن الصادق عليه السّلام: «ذلك في الرجعة» (1).

فَاعْتَرَفْنا لمّا شاهدناها بِذُنُوبِنا التي منها تكذيب الأنبياء، و إنكار الحياة بعد الموت، و دار الآخرة، و الثواب و العقاب فَهَلْ بعد اعترافنا هذا إِلى خُرُوجٍ سريع أو بطيء من النار، أو مِنْ هذه الدار إلى دار الدنيا و العمل سَبِيلٍ و طريق فنسلكه و نخلص من العذاب، أو نعمل غير الذي كنّا نعمل؟ فيقال لهم: لا سبيل إلى ذلك

ذلِكُمْ العذاب الذي أنتم فيه و ابتليتم به معلّل بِأَنَّهُ كان حالكم في الدنيا أنّه إِذا دُعِيَ اَللّهُ و ذكر، أو عبد وَحْدَهُ و بلا شريك و منزّها عنه كَفَرْتُمْ بتوحيده، و اشمأزّت منه قلوبكم وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ و يجعل له ندّ أو ولد تُؤْمِنُوا بالإشراك به، و لو رجعتم إلى الدنيا ثانيا فَالْحُكْمُ بأنّه لا غفران للمشرك و لا نجاة له من النار لِلّهِ الحاكم بالحقّ اَلْعَلِيِّ من أن يكون له شريك، المتعالي من أخذ الندّ و الصاحبة و الولد، و من خلف الوعد، الحكيم اَلْكَبِيرِ الذي ليس كمثله شيء.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 13 الی 15

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالعقوبة، أعلن بلطفه و منّته على الناس بنصب الأدلّة القاطعة على توحيده المحيى للقلوب، و بإنزال المطر الموجب لحياة الأبدان، ترغيبا لهم إلى الايمان به بقوله تعالى: هُوَ اللّه وحده اللطيف اَلَّذِي يُرِيكُمْ بلطفه آياتِهِ الدالة على وحدانيته و كمال ذاته و صفاته، و ليحيى بالتفكّر فيها قلوبكم وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ الأمطار النافعة ليوجد بها رِزْقاً و معاشا، فيحيي به أبدانكم وَ ما يَتَذَكَّرُ و ما يتنبّه بتلك الآيات، و ما يتّعظ بها إِلاّ مَنْ يُنِيبُ و يرجع إلى ربّه بالتفكّر فيها، فيعرف نعمه الظاهرة و الباطنة،

فاذا كان الأمر كذلك فَادْعُوا اَللّهَ و أعبدوه أيّها المؤمنون حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ و مخصّصين به العبادة و الدعاء وَ لَوْ كَرِهَ توحيدكم و إخلاصكم اَلْكافِرُونَ فانّه لا ينبغي أن يصدّكم عن التوحيد و الاخلاص له

هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاقِ (15)

ص: 406


1- . تفسير القمي 2:256، تفسير الصافي 4:336.

غيظهم و غضبهم عليكم، لكونهم فيكم رفيعي المنزلة و عالي المقام،

فانّ اللّه تعالى رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ في الكمال، و أعلى الموجودات في صفات الجمال و الجلال.

قيل: إن الموجودات من العقل و النفس الكلّيين و الطبيعة الكلّية و العرش و الكرسي و السماوات و الكرات و الحيوانات و النباتات و المعادن، كلّها [من]الدرجات و المراتب الرحمانية، التي هو تعالى أعلى و أرفع من جميعها (1).

و قيل: إن المراد رافع درجات الأنبياء و العلماء و الأولياء و المؤمنين في الجنّة (2)، أو رافع درجة كلّ موجود من الموجودات في العالم، حيث إنّ للأنبياء درجة، و لكلّ من الملائكة درجة، و لكلّ من العلماء درجة، و لكلّ من الأجسام درجة، و لكلّ فرد من الانسان درجة في العلم و الرزق و الأجل و السعادة و الشقاوة (3). و الحاصل أنّ لكلّ شيء يكون له فضيلة و منقبة، فهو بايجاده تعالى و إعطائه.

و هو تعالى ذُو اَلْعَرْشِ العظيم، الذي له على ما قيل أربعمائة ركن، ما بين كلّ ركن إلى ركن أربعمائة ألف سنة، و هو فوق جميع الموجودات من الكرسيّ و السماوات، خلقه سبحانه إظهارا لعظمته و قدرته، لا مكانا لذاته، و جعله محلّ نزول بركاته و رحمته، و مطافا لملائكته، و قبلة لدعائه، و معراجا لخاتم أنبيائه، و ظلّة يوم الحشر لأوليائه (4).

و قيل: إنّ المراد من العرش هنا الملك العظيم، ذكره إظهارا لهيبته، و نفاذ قدرته، و استيلائه على جميع مخلوقاته (5).

و هو سبحانه يُلْقِي و ينزل اَلرُّوحَ و الوحي الذي به حياة القلوب، أو الملك المسمّى بالروح، و هو الخاصّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام على رواية القمي (6)، أو المسمى بجبرئيل كما عن بعض (7)، حال كون إنزاله ناشئا مِنْ أَمْرِهِ تعالى و إرادته عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ المصطفين للرسالة و تبليغ الوحي لِيُنْذِرَ ذلك الرسول الموحى إليه الناس يَوْمَ اَلتَّلاقِ و الحشر الذي تتلاقى فيه الأرواح و الأبدان، أو الأولون و الآخرون، أو أهل السماوات و أهل الأرض، كما عن الصادق عليه السّلام (8)، أو العاملون و الأعمال، أو الظالمونن و المظلومون، أو أهل النار و الزبانية، و يخوّفهم من أهواله و شدائده.

ص: 407


1- . تفسير روح البيان 8:165.
2- . تفسير روح البيان 8:164.
3- . تفسير روح البيان 8:164، تفسير الرازي 27:43.
4- . تفسير روح البيان 8:165.
5- . تفسير روح البيان 8:166.
6- . تفسير القمي 2:256، تفسير الصافي 4:337.
7- . تفسير روح البيان 8:166.
8- . تفسير القمي 2:256، معاني الأخبار:156/1، تفسير الصافي 4:337.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 16

ثمّ عرّف سبحانه ذلك ببيان ما فيه من الأهوال و الشدائد بقوله: يَوْمَ يحشر الناس و هُمْ بارِزُونَ و ظاهرون، و لا يسترهم جبل و لا أكمة و لا بناء، لكون الأرض مستوية، و لا ثياب لكونهم عراة، كما في الحديث: «يحشرون حفاة عراة، أو المراد هم بارزون و خارجون من قبورهم (1).

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اَللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ (16)و قيل: بروزهم كناية عن ظهور أعمالهم و أسرارهم (2).

لا يَخْفى عَلَى اَللّهِ مِنْهُمْ مع كثرتهم شَيْءٌ من أعيانهم و أعمالهم الجليّة و الخفية السابقة و اللاحقة، فينادي مناد حين ظهورهم و ظهور أعمالهم: يا أهل المحشر لِمَنِ اَلْمُلْكُ و السّلطنة المطلقة اَلْيَوْمَ ثمّ يقول ذلك المنادي على قول (3)، أو أهل المحشر على قول (4)، أو اللّه تعالى على قول (5): الملك اليوم لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ.

قيل: يقول المؤمنون ذلك تلذّذا حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، و يقوله الكفّار تحسّرا و ندامة على فوت هذا الذّكر منهم في الدنيا (6).

و قيل: إنّ المجيب هو إدريس النبيّ، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (7)، و في رواية قال: «و يقول اللّه: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ثمّ تنطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون: لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ» (8).

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث إماتة اللّه أهل الأرض و أهل السماء و الملائكة-قال: «ثمّ لبث مثل ما خلق اللّه الخلق، و مثل ذلك كلّه، و أضعاف ذلك، ثمّ يقول اللّه تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ؟ ثمّ يردّ على نفسه: للّه الواحد القهار. أين الجبّارون، أين الذين ادّعوا معي إلها آخر، أين التكبّرون و نخوتهمّ ثمّ يبعث الخلق» (9)الخبر.

قيل: إنّما خصّ النداء بيوم القيامة مع أنّ ملك الوجود له تعالى من الأزل إلى الأبد، و أنّه قاهر الممكنات تحت إرادته من بدو الخلق إلى آخر الدهر، و نداء لِمَنِ اَلْمُلْكُ منه تعالى باق في المعنى في الدنيا و الآخرة؛ لأنّ الدنيا دار الأسباب، و لو لا الأسباب لما ارتاب المرتاب، و في القيامة

ص: 408


1- . تفسير روح البيان 8:167.
2- . تفسير الرازي 27:45.
3- . تفسير روح البيان 8:167.
4- . تفسير روح البيان 8:167.
5- . تفسير الرازي 27:47.
6- . تفسير الرازي 27:46.
7- . تفسير روح البيان 8:167، و لم نسبه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.
8- . التوحيد:23/1، تفسير الصافي 4:337.
9- . تفسير القمي 2:256 و 257، تفسير الصافي 4:337.

تزول الأسباب، و تنعزل الارباب، و لا يبقى غير حكم مسبّب الأسباب (1).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ أعلن سبحانه بعدله في المجازات بقوله: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من النفوس بِما كَسَبَتْ و عملت في الدنيا خيرا أو شرا لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ بوجه من الوجوه على أحد، لا بزيادة العقاب، و لا بنقص الثواب إِنَّ اَللّهَ تعالى مع كثرة الخلق سَرِيعُ اَلْحِسابِ بحيث يحاسب جميعهم في أقرب زمان، إذ لا يشغله شأن عن شأن.

اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (17) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)عن ابن عباس رضى اللّه عنه: إذا أخذ اللّه في حسابهم، لم يقل أهل الجنّة إلاّ فيها، و لا أهل النار إلاّ فيها (2).

ثمّ بالغ سبحانه في تخويف الكفّار من أهوال القيامة بقوله: وَ أَنْذِرْهُمْ يا محمّد يَوْمَ القيامة اَلْآزِفَةِ و القريبة الوقوع؛ لأنّ كلّ آت قريب إِذِ اَلْقُلُوبُ فيه ترتفع من مكانها من شدّة الخوف و الفزع و تقف لَدَى اَلْحَناجِرِ و تلتصق بالحلقوم، فلا تعود فيتنفّسوا أو يستروحوا، و لا تخرج فيموتوا، قيل: تنتفح الرّئة من الفزع، فيرتفع القلب إلى الحنجرة (3)، حال كون أصحاب القلوب كاظِمِينَ و حابسين غيظهم في أنفسهم بالصبر، و ساكتين حال امتلائهم بالغمّ و الكرب، و عاجزين عن إظهارهما و النّطق بهما من شدّة غلبتهما عليهم، و عظم اضطرابهم من أهوال ذلك اليوم، و رؤية العذاب المعدّ لهم و ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم في الدنيا بالكفر و الطغيان ما به نجاتهم منه مِنْ حَمِيمٍ و قريب مشفق يدفع عنهم العذاب ببذل النفس و المال وَ لا لهم في ذلك اليوم من شَفِيعٍ يشفع لهم و يُطاعُ في شفاعته، و يقبل قولهم و التماسهم النجاة لهم. و فيه ردّ على المشركين الزاعمين أنّ الأصنام شفعائهم عند اللّه، و يقبل شفاعتهم البتة.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر أعظم موجبات الخوف، بيّن علمه بجميع أعمال العباد و ذنوبهم، بحيث لا

يَعْلَمُ خائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي اَلصُّدُورُ (19) وَ اَللّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (20)

ص: 409


1- . تفسير الرازي 27:47 قطعة منه.
2- . تفسير روح البيان 8:169.
3- . تفسير روح البيان 8:170.

يخفى عن علمه مثقال ذرّة بقوله: يَعْلَمُ اللّه خائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ و استراق النظر إلى ما لا يحلّ، مع كونه أخفى أعمال الجوارح، فكيف بغيره وَ يعلم ما تُخْفِي اَلصُّدُورُ و تضمره القلوب من الخطرات و النيّات السوء، و العقائد الفاسدة، و حبّ الأصنام و المعاصي،

و بغض التوحيد و الاخلاص و أهلهما وَ اَللّهُ الحكيم يَقْضِي و يحكم في عباده بِالْحَقِّ و العدل في كلّ ما دقّ و جلّ، و لا يغمض عنه بالهوى و الرّشاء. و فيه أعظم التخويف و التهويل.

ثمّ قطع رجاء المشركين من أصنامهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون هؤلاء المشركون مِنْ دُونِهِ تعالى، و ممّا سواه من الأصنام و غيرها لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فكيف يرجون شفاعتهم؟ ! إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقالات المشركين من ثناء آلهتهم و طعنهم في التوحيد و اَلْبَصِيرُ الذي يبصر خضوعهم لها و عبادتهم إياها.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ إنّه تعالى بعد الابلاغ في تخويف المشركين بأهوال القيامة و عذابها، هدّدهم بعذاب الدنيا بقوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا و لم يسافروا للتجارة و غيرها فِي اَلْأَرْضِ التي تكون فيها طريقهم إلى الشام و اليمن فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم اَلَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، و مآل أمر القرون السابقة عليهم من الأحزاب المكذّبة للرسل، المهلكة بسبب شركهم و معارضتهم للحقّ، كعاد و ثمود و قوم لوط كانُوا هُمْ في عصرهم أعظم جثة من هؤلاء المشركين و أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أكثر آثاراً و أحكمها فِي اَلْأَرْضِ كالقلاع الحصينة، و القصور الرفيعة، و المدن المتينة فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ و عاقبهم بِذُنُوبِهِمْ و أهلكهم بمعاصيهم من الكفر و تكذيب الرسل وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ مِنْ واقٍ و حافظ يقيهم و يحفظهم

ذلِكَ الأخذ و العذاب إنّما كان معلّلا بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ مستدلّين على صدقهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، أو مصاحبين للأحكام الظاهرات فَكَفَرُوا بها و كذّبوا الرسل و عارضوهم فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ أخذا شديدا عاجلا، و أهلكهم إهلاكا فظيعا إِنَّهُ تعالى قَوِيٌّ و قادر على إنفاذ إرادته شَدِيدُ اَلْعِقابِ على من كفر و عصاه.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (22)

ص: 410

سوره 40 (غافر): آیه شماره 23 الی 27

ثمّ ذكر سبحانه من الرسل الذين أتوا قومهم بالبينات موسى بن عمران عليه السّلام، الذي كان عظيم الشأن، كثير المعجزات تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بن عمران عليه السّلام متمسّكا و مستدلا على صدقه في دعوى الرسالة و التوحيد بِآياتِنا الباهرات و المعجزات الظاهرات وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة عقلية واضحة.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ (24) فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اُقْتُلُوا أَبْناءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اِسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (25) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسادَ (26) وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسابِ (27)

و قيل: إنّ المراد به معجزة العصا خصّها بالذكر مع كونها من جملة الآيات تفخيما لشأنها (1)إِلى فِرْعَوْنَ سلطان مصر وَ هامانَ وزيره وَ قارُونَ الاسرائيلي الذي ارتدّ بعد إيمانه بموسى و حفظه التوراة، و أتباعهم من القبط و غيرهم، فدعاهم إلى الإيمان بالتوحيد و رسالته، و أظهر لهم المعجزات فَقالُوا عنادا و لجاجا: هو ساحِرٌ يظهر خوارق العادة بالسّحر كَذّابٌ في دعوى توحيد الإله و رسالة نفسه من قبله، و إنّما أتى بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة لتكرّر الدعوة منه، و لم يبالغوا في نسبة السحر إليه لعدم تكرّره منه، و لزعمهم أنّ سحرتهم أسحر منه، و لذا قالوا في حقّهم: سحّار عليم.

ثمّ بيّن سبحانه شدّة عناد القوم له بقوله: فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ و أظهر لهم المعجزات التي كانت له مِنْ عِنْدِنا و بأقدارنا قالُوا أيّها القبط: اُقْتُلُوا أَبْناءَ بني إسرائيل اَلَّذِينَ آمَنُوا بموسى و يكونون مَعَهُ في الايمان بالتوحيد، لئلا ينشأوا على دين موسى و يعينوه عليه وَ اِسْتَحْيُوا و أبقوا نِساءَهُمْ و بناتهم ليخدمنكم، كما تفعلون ذلك من قبل وَ ما كَيْدُ هؤلاء اَلْكافِرِينَ و مكرهم و سوء صنيعهم إِلاّ فِي ضَلالٍ و ضياع و بطلان، لا يفوزون به إلى مقصودهم، و لا يمنعون به عن نفوذ إرادة اللّه و جريان قضائه. و قيل: يعني ما كيدهم إلاّ في ازدياد ضلالهم (2).

وَ قالَ فِرْعَوْنُ لملئه ذَرُونِي و دعوني أَقْتُلْ مُوسى وَ خلّوه لْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يدّعي أنّه

ص: 411


1- . تفسير روح البيان 8:173.
2- . تفسير روح البيان 8:174.

أرسله حتى يخلّصه من القتل، فانّي أرى صلاح مملكتي في قتله إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله من أَنْ يُبَدِّلَ و يغيّر دِينَكُمْ الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام أَوْ أَنْ يفسد ديناكم و يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ التي تسكنونها، و المملكة التي تعيشون فيها اَلْفَسادَ و لا اختلاف بأن يجتمع عليه قومه، فيقع القتال و الخصومات، و تثار (1)الفتن.

قيل: إنّ ملأ فرعون كانوا يمنعونه من قتل موسى، و يقولون: لا تقتله إنّه ساحر ضعيف، لا يمكنه أن يغلب سحرتك، و إن قتلته دخلت الشّبهة على الناس، و قالوا: إنّه كان محقّا، و هم عجزوا عن جوابه (2).

و قيل: إنّه لم يمنعه أحد من قتله، و أوهم اللعين أنّهم كفّوه عن قتله، و لولاهم لقتله، و ما منعه عنه إلاّ ما في نفسه من الفزع الهائل العاجل إن همّ بقتله، لعلمه بنبوته (3).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن (4)هذه الآية: ما منعه؟ قال: «منعته رشدته، و لا يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلاّ أولاد الزّنا» (5).

وَ قالَ مُوسى لقومه بعد ما سمع حديث قتله: يا قوم إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ و التجأت إليه، و امتنع بحصنه المنيع مِنْ شرّ كُلِّ شخص مُتَكَبِّرٍ و متعظّم عن التسليم للّه و لرسوله، و الايمان بهما و لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسابِ فانّ المتكبّر المؤمن بالمعاد قد يرتدع من المعاصي العظام، لخوف المعاد، بخلاف المتكبر غير المؤمن فانّه لا يبالي من شيء، و إنّما لم يسمّ فرعون لتعميم الاستعاذة، و للتنبيه على علّة القساوة و الجرأة على اللّه، و لرعاية حقّ التربية التي كانت لفرعون عليه.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 28 الی 33

وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اَللّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ اَلرَّشادِ (29) وَ قالَ اَلَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

ص: 412


1- . في النسخة: و تثير.
2- . تفسير الرازي 27:54، تفسير روح البيان 8:174.
3- . تفسير روح البيان 8:175.
4- . في النسخة: في.
5- . علل الشرائع:57/1، تفسير الصافي 4:339.

فلمّا استعاذ موسى بربّه من شرّ فرعون، و انتشر همّه بقتل موسى، حكى سبحانه دفعه القتل عنه ببعث رجل يردّ عنه بقوله تعالى: وَ قالَ إذن رَجُلٌ كامل في صفات الرجولية مُؤْمِنٌ باللّه و بموسى في نفسه، كائن مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و أقاربه. قيل: كان ابن عمّه، يقال له شمعان (1). و قيل: جبر (2). و قيل: حبيب و هو النجّار الذي عمل التابوت الذي وضعت فيه امّ موسى و ألقته (1)في البحر (2). و قيل: حزقيل (3)بن نوحائيل (6). و قيل: حزقيل (7).

ذكر سبّاق الامم

فانّه روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «سبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: حزقيل: مؤمن آل فرعون، و حبيب النجّار صاحب يس، و علي بن أبي طالب عليه السّلام، و هو أفضلهم (4).

و على أيّ حال كان يَكْتُمُ إِيمانَهُ باللّه و بموسى و يستره من فرعون و قومه، لكون قوله مقبولا عندهم، و كان إيمانه بعد بعثه موسى، و قيل: قبله بمائة سنة (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقيه له، و التقية ترس المؤمن (6)، فانّ مؤمن آل فرعون لو أظهر إيمانه (7)لقتل» (8).

يا قوم أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً لأجل أَنْ يَقُولَ أو كراهة قوله: رَبِّيَ اَللّهُ الذي خلقني و خلق السماوات و الأرض و ما بينهما لا غيره، وَ الحال أنّه قَدْ جاءَكُمْ و أتاكم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الظاهرات مِنْ رَبِّكُمْ و خالقكم اللطيف بكم.

ثمّ إنّه بعد القطع بكون موسى نبيا بالبينات و المعجزات، احتجّ على قبح قتله باحتمال الضرر في قتله بقوله: وَ إِنْ يَكُ موسى كاذِباً في دعواه فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ و وبال افترائه و ضرره، لا يتعدّى إلى غيره تحتاج في دفعه إلى قتله وَ إِنْ يَكُ صادِقاً فيما يدّعيه من التوحيد و الوعد بالعذاب على إنكاره و مخالفة قوله، فكذّبتموه و قصدتموه بسوء يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ به ان لم يصبكم

ص: 413


1- . في النسخة: و ألقاه.
2- . تفسير روح البيان 8:176.
3- . في النسخة: خربيل. (6 و 7) . تفسير روح البيان 8:176.
4- . تفسير روح البيان 8:176.
5- . تفسير روح البيان 8:176.
6- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: ترس اللّه في الأرض.
7- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: الإسلام.
8- . مجمع البيان 8:810، تفسير الصافي 4:340.

كلّه، فانّ في إصابتكم البعض كفاية في هلاككم.

و قيل: ان البعض هنا بعنى الكلّ، أو المراد من البعض العذاب الدنيوي، الذي هو بعض ما يعدهم؛ لأنّه كان يعدهم بالعذاب الدنيوي و الاخروي (1).

إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى الخير و المقصود مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ و متجاوز عن الحدّ في العصيان، و من هو كَذّابٌ على اللّه و كثير الافتراء عليه. قيل: هو احتجاج آخر عليهم، و المراد أنّه لو كان مسرفا كذّابا لما هداه اللّه إلى المعجزات القاهرة التي أظهرها لكم، أو المراد أنّه لو كان كذلك خذله اللّه و أهلكه، فلا حاجة إلى قتله (2).

ثمّ قال المؤمن: يا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ و السّلطنة اَلْيَوْمَ حال كونكم ظاهِرِينَ و غاليين على بني إسرائيل، أو على سائر الناس فِي هذه اَلْأَرْضِ و تلك المملكة، و هي مملكة مصر، لا يقاومكم في هذا الوقت أحد، و مع ذلك الاقتدار الذي يكون لكم فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اَللّهِ و أخذه، و من يدفع عنّا عذابه إِنْ جاءَنا فلا تتعرّضوا لقتله بعد ما علمتم أنّه إن جاءنا لا يمنعنا منه أحد، و إنّما نسب ما يسترهم من الملك و الغلبة إليهم لتطيب قلوبهم، و أدخل نفسه فيهم في الابتلاء بالعذاب ليؤذن بأنّه ناصح لهم، سارع في دفع ما يرديهم كسعيه في نفسه، ليقبلوا نصحه قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع نصح المؤمن: يا قوم ما أَراكُمْ و ما اشير عليكم إِلاّ ما أَرى و أعتقد صلاحه، و هو قتله، لتنحسم مادة الفساد و الفتنة وَ ما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي، و ما أرشدكم إِلاّ سَبِيلَ اَلرَّشادِ و الصواب.

قيل: كان كاذبا في إظهار الجلادة، لأنّه كان في غاية الخوف من موسى، و لولاه لما استشار في قتله أحدا (1).

في نصائح مؤمن آل

فرعون

وَ قالَ: الرجل اَلَّذِي آمَنَ من آل فرعون نصحا لقومه: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من أن ترون يوما يكون مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزابِ السالفة و الامم الماضية و الطوائف المختلفة المهلكة بالعذاب على تكذيب الرسل في الأزمنة السابقة، أعني

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ و حالهم وَ قوم عادٍ وَ قوم ثَمُودَ حيث أهلكوا بالطّوفان و الريح الصّرصر و الصّيحة وَ حال اَلَّذِينَ كانوا مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط و أضرابهم، و إنّما كان هلاكهم باستحقاقهم له وَ مَا اَللّهُ الحكيم العادل يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ بأن يعذّبهم قبل إتمام الحجّة، أو بغير ذنب.

ثمّ لمّا رأى إصرار فرعون على قتل موسى بقوله: ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى أظهر إيمانه بموسى،

ص: 414


1- . تفسير أبي السعود 7:275، تفسير روح البيان 8:179.

و خوّفهم أولا بعذاب الدنيا، ثمّ خوّفهم بعذاب الآخرة، بقوله: وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من عذاب اللّه تعالى يَوْمَ اَلتَّنادِ و التصايح بالويل و الثّبور، أو يوم ينادي بعضكم بعضا للاستغاثة كقولهم: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا (1)أو ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، و أصحاب النار أصحاب الجنّة،

و على أي تقدير المراد يوم القيامة، أعني يَوْمَ تُوَلُّونَ و تردّون من موقف الحساب حال كونكم مُدْبِرِينَ و منصرفين عنه إلى النار، أو فارين من النار، و الحال أنّه ما لَكُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ و بأسه مِنْ عاصِمٍ و حافظ يعصمكم و يحفظكم منه، فان قبلتم نصحى فقد هديتم إلى خيركم، و إن لم تقبلوه فقد أضلّكم اللّه و خذلكم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى ما فيه رشده و صلاحه.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ بيّن المؤمن غاية ضلالهم و اتّباعهم الهوى بقوله: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يا أهل مصر يُوسُفُ بن يعقوب، و قيل: يعني يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب (2)مِنْ قَبْلُ بالرسالة من قبل اللّه مستدلا على دعوته إلى التوحيد و الرسالة بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الظاهرات القاهرات فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ و ترديد مِمّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين الحقّ و دمتم عليه حَتّى إِذا هَلَكَ و مات قُلْتُمْ تشهيّا و تكذيبا للرسل الذين بعده أيضا: لَنْ يَبْعَثَ اَللّهُ أبدا مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً قيل: إنّ مقصودهم أنّه لمّا لم نطع يوسف لن يجرأ أحد على دعوى الرسالة بعده (3)كَذلِكَ الضلال الفظيع يُضِلُّ اَللّهُ و يحرف عن طريق الحقّ بخذلانه مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ و متجاوز عن الحدّ في العصيان مُرْتابٌ و شاكّ في رسالة الرسل و معجزاتهم، لغلبة الهوى و عدم التفكّر في العواقب.

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اَللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اَللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اَللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (35)

ثمّ عرّف المسرف المرتاب بقوله: اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و ينازعون المؤمنين فِي آياتِ توحيد اَللّهِ و يطعنون فيها بِغَيْرِ سُلْطانٍ و حجّة و برهان أَتاهُمْ من قبل اللّه يصحّ التمسّك به كَبُرَ و عظم الجدال في آيات اللّه مَقْتاً و من جهة البغض و النفور عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا

ص: 415


1- . الأعراف:7/53. (2 و 3) . تفسير روح البيان 8:181.

عن ابن عباس: يمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال (1)، و ليس هذا الجدال إلاّ من طبع القلب و كَذلِكَ الطبع الفظيع يَطْبَعُ اَللّهُ و يختم عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن أتباع الرسل، أو قبول الحقّ جَبّارٍ و متعال على الناس بغير حقّ، أو ظالم عليهم.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 36 الی 38

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تكبّر فرعون و تجبّره، بيّن غاية حمقه و جهله بقوله: وَ قالَ فِرْعَوْنُ لوزيره هامان عتوّا و استكبارا و حمقا: يا هامانُ قيل: إنّ اللعين في أثناء مواعظ حزقيل (2)أراد قطع كلامه خوفا من أن يؤثّر في القلوب، فدعا هامان، و قال له (3): اِبْنِ لِي صَرْحاً و بناء عاليا مشيدا بالآجر لَعَلِّي بالصعود عليه أَبْلُغُ اَلْأَسْبابَ و أصل إلى الطّرق الموصلة إلى مقصودي،

أعنى أَسْبابَ اَلسَّماواتِ و طرقها من سماء إلى سماء عن ابن عباس، قال: منازلها (4)فَأَطَّلِعَ و استعلى عليه لانظر إِلى إِلهِ مُوسى لأنّه يمتنع العلم بصدق موسى إلاّ برؤية إلهه وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ في دعوى أنّه مرسل من قبله كاذِباً فاشتغل هامان ببنائه، كما مر في سورة القصص (5).

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ اَلسَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ (37) وَ قالَ اَلَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشادِ (38)و قيل: إنّه قال ذلك تمويها (6). و قيل: إنّه لم يرد بناء الصرح، لعلم كلّ عاقل بانّه يمتنع بناء صرح يتمكّن بالصعود عليه من دخول السماوات، بل كان مقصوده بيان امتناع رؤية إلهه، فلا يمكن العلم بوجوده (7).

و قيل: إنّ اللّه أعماه و خلاّه نفسه، ليتفرّغ لبناء الصّرح، ليرى منه آية اخرى له، و يتأكّد استحقاقه العقوبة بذلك (8)، كما أشار إليه تعالى بقوله: وَ كَذلِكَ التزيين البليغ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ و شنيع فعله، فانهمك فيه انهماكا لا يرعوي عنه وَ صُدَّ و منع عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ المنتهي إلى الخير و الصّلاح وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ و مكره ببناء الصرّح، و سعيه في إبطال الآيات إِلاّ فِي تَبابٍ و خسار و هلاك.

ص: 416


1- . تفسير روح البيان 8:181.
2- . في تفسير روح البيان: خربيل.
3- . تفسير روح البيان 8:183.
4- . مجمع البيان 8/815.
5- . القصص:28/38.
6- . تفسير روح البيان 8:183.
7- . تفسير الرازي 27:65، تفسير روح البيان 8:183.
8- . تفسير روح البيان 8:183.

ثمّ حكى سبحانه دعوة المؤمن إلى دين موسى بقوله: وَ قالَ الرجل اَلَّذِي آمَنَ بموسى نصحا لقومه: يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ و اسمعوا قولي أَهْدِكُمْ و أرشدكم سَبِيلَ اَلرَّشادِ و طريقا يوصل سالكه إلى مصالح الدين و الدنيا، و لا تتّبعوا فرعون فانّه يسلك بكم سبيل الغيّ و الضلال.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 39 الی 42

ثمّ لمّا كان أقوى الصوارف عن اتّباع الحقّ حبّ الدنيا، بدأ بذمّها بقوله: يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و لذّاتها مَتاعٌ قليل و انتفاع يسير، يزول بأسرع وقت وَ إِنَّ دار اَلْآخِرَةَ بالخصوص هِيَ دارُ اَلْقَرارِ و البقاء، لخلودها و دوام ما فيها، فعليكم بالاعراض عن الدنيا، و الاقبال إلى الآخرة و العمل لها،

فانّه مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلاّ مِثْلَها عدلا من اللّه سبحانه وَ مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيا عند اللّه، أيّ عمل كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و برسله و اليوم الآخر، فانّ قبول الأعمال مشروط بالايمان فَأُولئِكَ المؤمنون العاملون يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ في الآخرة جزاء لايمانهم و أعمالهم و يُرْزَقُونَ فِيها و يتنعّمون بِغَيْرِ حِسابٍ و بلا تقدير و تقتير و موازنة بالعمل، بل أضعافا مضاعفة فضلا من اللّه.

يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دارُ اَلْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلنَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى اَلنّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ اَلْغَفّارِ (42)

ثمّ بالغ المؤمن في إظهار الشّفقة على قومه، و إيقاظهم من سنة الغفلة بتكرير ندائهم بقوله: وَ يا قَوْمِ ما لِي و العجب منّي و منكم حيث إنّي أَدْعُوكُمْ إِلَى سبب اَلنَّجاةِ من النار وَ تَدْعُونَنِي أنتم إِلَى سبب الدخول في اَلنّارِ ثمّ بين السببين بقوله:

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّهِ و أنكر وجوده مع دلالة الآثار و الادلة القاطعة على وجوده و قدرته و حكمته، أو أقرّ به وَ أُشْرِكَ بِهِ في الوهيّته ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ و لم يقم على شركته له دليل قاطع. و هو سبب الدخول في النار وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الايمان بالإله اَلْعَزِيزِ القادر على كلّ شيء، و على الانتقام ممّن أنكره، أو اشرك به اَلْغَفّارِ لمن تاب عن العقائد الفاسدة و عصيانه، و رجع إليه بالايمان و الطاعة، و هو سبب النجاة، فلا ييأس الذين اصرّوا على الكفر و الطغيان مدّة مديدة من رحمته و إحسانه، فانّه يغفر كفر مائة سنة بايمان لحظة.

ص: 417

سوره 40 (غافر): آیه شماره 43 الی 45

ثمّ بالغ في إبطال الشرك بقوله: لا جَرَمَ قيل: هي كلمة مستقلّة في إثبات ما بعدها (1)أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ و تتوقّعون منّي عبادته من الأصنام لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيا إلى عبادته بإرسال الرسول و إنزال الكتاب و النّطق و البيان، لأنّها جماد وَ لا فِي اَلْآخِرَةِ بل يتبرأ ممّن عبده.

لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لا فِي اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اَللّهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ اَلنّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اَللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذابِ (45)قيل: إنّ المعنى حقّ و ثبت أنّ إلهكم ليس له استجابة دعوة عابدية في الدنيا بالبقاء و الصحّة و الغناء و غيرها، و لا في الآخرة بالنجاة (2)و رفعة الدرجات و نحوها، فكيف يكون مع غاية العجز، ربّا؟ ! أو المراد ليس له دعوة مستجابة.

وَ ثبت أَنَّ مَرَدَّنا و مرجعنا بعد الموت و الخروج من الدنيا إِلَى اَللّهِ وحده، فيجازينا على أعمالنا في الدنيا وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ و المتجاوزين عن حدود العقل بالاشراك و الظلم على الناس هُمْ بالخصوص أَصْحابُ اَلنّارِ و ملازموها يعذّبون فيها أبدا.

ثمّ قيل: لمّا خوّفه القوم بالقتل خوّفهم بقوله (3): فَسَتَذْكُرُونَ و عن قريب تعلمون ما أَقُولُ لَكُمْ من عدم الفائدة في عبادة الأصنام، و أن المرجع هو اللّه، و إنّ المشركين معذّبون في النار عند الموت، أو حين مشاهدة العذاب، وَ أنا أُفَوِّضُ أَمْرِي في دفع كيدكم و تظاهركم عليّ إِلَى اَللّهِ القادر على نصرة أوليائه، و أتوكّل عليه إِنَّ اَللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعلم المحقّ و المبطل، و من يعارضه و يتوكّل عليه فينصره، و يثيب المحقّ و المتوكّل، و يخذل المبطل و المعارض له و يعاقبه.

في بيان نجات

مؤمن آل فرعون من

القتل

ثمّ أمر فرعون بقتله فَوَقاهُ اَللّهُ حفظه من سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا و شدائد ما همّوا به من الايذاء و القتل.

قال بعض العامة: إنّ المؤمن هرب إلى جبل، و اشتغل بالصلاة و العبادة، فبعث اللّه السباع فأحاطوا به و حرسوه، و بعث فرعون جماعة من خواصه ليأخذوه، فجاؤا فوجدوه يصلّي و السباع محيطة به، فخافوا من السباع، و رجعوا إلى فرعون و أخبروه بما رأوا من حال المؤمن، فقتل

ص: 418


1- . تفسير أبي السعود 7:278، تفسير روح البيان 8:187.
2- . تفسير روح البيان 8:187.
3- . تفسير الرازي 27:71.

فرعون جميعهم، لئلا يفشوا الخبر (1).

و قيل: انّ بعضهم أكلته السباع، و بعضهم رجع إلى فرعون و أخبره بالقصة، فاتهمه و صلبه (2).

و عن مقاتل: إنّ القوم قصدوا قتله، فهرب إلى الجبل، فلم يقدروا عليه (3).

و قيل: نجا حزقيل مع موسى (4)وَ حاقَ و نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ و بنفسه في الدنيا سُوءُ اَلْعَذابِ و شديده، و هو الغرق في البحر.

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث-أنّه قال: «كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد اللّه، و نبوة موسى، و تفضيل محمد على جميع الرسل و خلقه، و تفضيل علي بن أبي طالب عليه السّلام و الخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيين، و إلى البراءة من ربوبية فرعون، فوشى به الواشون إلى فرعون، و قالوا: إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك، و يعين أعداءك على مضادّتك. فقال لهم فرعون: ابن عمّي، و خليفتي على ملكي، و وليّ عهدي، إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي، و إن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ العذاب لإيثاركم الدخول في مساءته.

فجاء بحزقيل، و جاء بهم فكاشفوه، و قالوا: أنت تجحد ربوبية فرعون الملك و تكفر بنعمائه. فقال حزقيل: أيّها الملك، هل جرّبت عليّ ذنبا قطّ؟ قال: لا. قال: فسألهم من ربهم؟ قالوا: فرعون هذا. قال: و من خالقكم؟ قالوا: فرعون هذا. قال: و من رازقكم الكامل لمعايشكم، و الدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا. قال حزقيل: أيّها الملك، فأشهدك و كلّ من حضرك أنّ ربّهم هو ربّي، و خالقهم هو خالقي، و رازقهم هو رازقي، و مصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي و لا خالق و لا رازق غير ربّهم و خالقهم و رازقهم، و اشهدك و اشهد من حضرك أنّ كلّ ربّ و رازق و خالق سوى ربّهم و خالقهم و رازقهم، فأنا برىء منه و من ربوبيته، و كافر بإلهيته.

يقول حزقيل هذا، و هو يعني أنّ ربّهم هو اللّه ربّي، و لم يقل: إنّ الذي قالوا هو ربّهم ربّي، و خفي هذا على فرعون و من حضره، و توهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي و خالقي و رازقي. فقال لهم فرعون: يا رجال السوء، و يا طلاّب الفساد في ملكي، و مريدي الفتنة بيني و بين ابن عمىّ، و هو عضدي، أنتم المستحقّون لعذابي، لإرادتكم فساد أمري، و إهلاك ابن عمي، و الفتّ في عضدي.

ثمّ أمر بالاوتاد، و جعل في ساق كلّ واحد منهم و تدا، و في صدره و تدا، و أمر أصحاب أمشاط

ص: 419


1- . تفسير أبي السعود 7:278، تفسير روح البيان 8:189.
2- . تفسير روح البيان 8:189.
3- . تفسير الرازي 27:72.
4- . تفسير روح البيان 8:189، و فيه: خربيل، بدل حزقيل.

الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال تعالى: فَوَقاهُ اَللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا به لمّا وشوا إلى فرعون ليهلكوه وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذابِ و هم الذين وشوا بحزقيل إليه، لمّا أوتد فيهم الأوتاد، و مشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط (1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «و اللّه لقد قطّعوه إربا إربا، و لكن وقاه اللّه أن يفتنوه عن دينه» (2).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 46

ثمّ بيّن سبحانه تعذيبه القوم في البرزخ بقوله: اَلنّارُ بعد هلاك فرعون و قومه يُعْرَضُونَ عَلَيْها و يعذّبون و يحرقون بها في البرزخ غُدُوًّا وَ عَشِيًّا و في أول النهار و آخره.

اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذابِ (46)قيل: إمّا يعذّبون بين الوقتين بعذاب آخر، أو ينفّس عنهم (3).

و قيل: إنّه كناية عن الدوام، كما في قوله تعالى (4): وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (5). و قيل: إنّ المراد بالعرض الإظهار و الإراءة (6).

و عن ابن مسعود: أنّ أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار مرّتين، فيقال: يا آل فرعون، هذه داركم (7).

و في حديث عامي: «أنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشيّ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، و إن كان من أهل النار فمن النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه يوم القيامة» (8).

أقول: لعلّ المراد من الطير السود القوالب المثالية، و إنّما عبّر عنها بالطير لسرعة سيرها و ارتفاعها في الجوّ.

عن الصادق عليه السّلام: «ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة، لأنّ في النار القيامة لا يكون عذوّا و عشيا» ثمّ قال: «إن كانوا يعذّبون في النار غدوا و عشيا، ففيما بين ذلك هم [من]السعداء، و لكن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة، ألم تسمع قوله تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ. . . ؟ !» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ للّه تعالى نارا بالمشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفّار، و يأكلون من زقّومها، و يشربون من حميمها ليلهم، فاذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت، أشدّ حرّا من

ص: 420


1- . الاحتجاج:370، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:357/247، تفسير الصافي 4:343.
2- . تفسير القمي 2:258، تفسير الصافي 4:342.
3- . تفسير روح البيان 8:189.
4- . تفسير الرازي 27:73.
5- . مريم:19/62. (6و7و8) . تفسير روح البيان 8:189.
6- . مجمع البيان 8:818، تفسير الصافي 4:343.

نار الدنيا، كانوا فيه يتلاقون و يتعارفون، فاذا كان المساء عادوا إلى النار، فهم كذلك إلى يوم القيامة» (1).

وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و وقت الحشر و الحساب يقول اللّه تعالى للملائكة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ جهنّم و عذّبوهم فيها أَشَدَّ اَلْعَذابِ.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ لمّا انتهى الكلام إلى ذكر القيامة، و دخول الكفّار في النار، حكى سبحانه مناظرة الأتباع و الرؤساء في النار بقوله: وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ و يتنازعون فِي اَلنّارِ.

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي اَلنّارِ فَيَقُولُ اَلضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مِنَ اَلنّارِ (47) قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اَللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبادِ (48)ثمّ شرح سبحانه تخاصمهم فيها بقوله: فَيَقُولُ الكفّار اَلضُّعَفاءُ و الاقلّون في القدر و المنزلة و الثروة لِلَّذِينَ ترأسوا و اِسْتَكْبَرُوا عن اتّباع الرسل، و تعظّموا عن قبول الحقّ، و استتبعوا الضعفاء إِنّا كُنّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً و مطيعين لأوامركم، و أجبناكم فيما دعوتمونا من الشرك و تكذيب الرسل، و فصار اتّباعنا إياكم سببا لدخولنا في جهنّم فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ و دافعون عَنّا بالسعي و التحمّل نَصِيباً و بعضا مِنَ عذاب اَلنّارِ باتّباعنا إيّاكم، كما كنّا ندفع عنكم كثيرا من البليّات،

و نتحمّل عنكم الزّحمات في الدنيا قالَ الرؤساء اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا في جوابهم: كيف ندفع النار عنكم؟ أما ترون إِنّا و إياكم كُلٌّ داخلون فِيها و معذّبون بها، و لو قدرنا لدفعناه عن أنفسنا إِنَّ اَللّهَ الحكيم قَدْ حَكَمَ بالحقّ بَيْنَ اَلْعِبادِ بأن أدخل المؤمنين الجنّة، و الكافرين النار، و لا معقّب لحكمه.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ إنّهم لمّا يأسوا من رؤسائهم، حكى اللّه التماسهم إلى الخزنة بقوله: وَ قالَ جميع اَلَّذِينَ ادخلوا فِي اَلنّارِ من الضعفاء و المستكبرين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ و الملائكة المأمورين بتعذيبهم: يا خزنة جهنّم اُدْعُوا رَبَّكُمْ شفاعة لنّا إنّه يُخَفِّفْ عَنّا في مقدار زمان يكون يَوْماً من أيام

وَ قالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذابِ (49) قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (50)

ص: 421


1- . الكافي 3:247/1، تفسير الصافي 4:344.

الدنيا شيئا مِنَ اَلْعَذابِ الذي نحن فيه. فأجابتهم الخزنة و قالُوا بعد مدة طويلة-على ما قيل- توبيخا لهم (1):

أَ وَ لَمْ تَكُ قيل: إنّ التقدير ألم تنبّهوا على هذا، و لم تك (2)تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ في الدنيا واحدا بعد واحد مستدلّين على صدقهم بِالْبَيِّناتِ و الحجج الظاهرة فيما أخبروكم من سوء عاقبة الكفر و التكذيب؟ ! قالُوا كلّهم: بَلى أتونا و أخبرونا فكذّبناهم، إذن قالُوا إقناطا لهم: إذا كان الأمر كذلك، فلا ترجوا منّا هذا الدعاء، لاستحالته علينا فَادْعُوا أنتم لأنفسكم ما تريدون وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ في حقّ أنفسهم، أو دعاء غيرهم لهم بتخفيف العذاب أو رفعه عنهم إِلاّ فِي ضَلالٍ و ضياع، لأنّه لا يجاب، لوجوب تعذيبهم على اللّه بمقتضى الحكمة و العدل.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 51 الی 52

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عدم إجابته دعاء الكفّار و إعراضه عنهم في الآخرة بيّن لطفه برسله و بالمؤمنين بهم بقوله: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا كما نصرنا موسى وَ ننصر اَلَّذِينَ اتّبعوهم و آمَنُوا بهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و نغلّبهم على أعدائهم بالظّفر بالحجّة و القوة، و لو في العاقبة.

إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ اَلظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ (52)عن ابن عباس: أنّه لم يقتل من الأنبياء إلاّ من لم يؤمر بقتال، و كلّ من امر بقتال نصر (1).

وَ ننصرهم يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهادُ بإعلاء درجتهم و إكرامهم في مجمع الخلق، أو المراد يوم إقامة الشهود على تبليغهم، و العمل بما كان وظيفتهم من الملائكة و النبيين، كما قال اللّه تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (2)إلى آخره.

عن الصادق عليه السّلام: «ذلك في الرجعة، أمّا علمت أن أنبياء كثيرة لم ينصروا في الدنيا و قتلوا، و أئمّة من بعدهم قتلوا و لم ينصروا، و ذلك في الرجعة» (3).

ثمّ عرّف سبحانه اليوم بما فيه فرح الرسل و المؤمنين بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ اَلظّالِمِينَ الذين هم أعداؤهم مَعْذِرَتُهُمْ عن كفرهم و طغيانهم على الرسل و المؤمنين، لعدم قبولها إن اعتذروا، و لذا لا يعتذرون، و لا يؤذن لهم فيعتذرون، و قيل: إنّهم يعتذرون في وقت، و لا يؤذن لهم في الاعتذار في وقت آخر (4)وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ و البعد عن الرحمة وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ و شرّ المقام، لكونهم أسوأ الناس و شرّ الخلق، بخلاف المؤمنين فانّهم تقبل معذرتهم عن خطاياهم، بل تقبّل شفاعتهم، و لهم الرحمة،

ص: 422


1- . تفسير روح البيان 8:193.
2- . النساء:4/41.
3- . تفسير القمي 2:259، تفسير الصافي 4:345.
4- . تفسير روح البيان 8:193.

و لهم حسن الدار.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 53 الی 55

ثمّ استشهد سبحانه على نصرته رسله و المؤمنين بنصرته موسى و قومه بقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بفضلنا و رحمتنا مُوسَى بن عمران اَلْهُدى و المعجزات الدالة على صدقه في دعوى نبوّته و صحة شريعته وَ أَوْرَثْنا قومه بَنِي إِسْرائِيلَ منه اَلْكِتابَ الذي انزل إليه-و هو التوراة- ليكون ذلك الكتاب

هُدىً من الضلال وَ ذِكْرى و موعظة لِأُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السليمة من شوائب الأوهام.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ (53) هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ (55)و قيل: إنّ الهدى ما يكون دليلا في نفسه، و الذكرى ما يذكر (1)في الكتب الإلهية المتقدّمة الذي صار منسيا (2).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه نصرته لموسى و سائر الأنبياء، سلّى نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَاصْبِرْ يا محمد، على مخالفة الكفّار و معارضة الأعداء بعد ما سمعت من وعدي بنصرة الرسل و نصرتي موسى و المؤمنين به إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بنصرك و ظهور دينك و إعلاء كلمتك حَقٌّ و صدق، لا يمكن الخلف فيه وَ اِسْتَغْفِرْ ربّك أولا لِذَنْبِكَ و ما صدر منك أحيانا من ترك الأفضل و الأولى وَ سَبِّحْ بعد الاستغفار مقرنا له بِحَمْدِ رَبِّكَ على نعمه عليك بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ قيل: إنّه كناية عن (3)الدوام (4). و قيل: إنّ الإبكار هو: أول النهار إلى نصفه. و العشيّ: من الزوال إلى أوّل يوم البعد، فيكون المعنى الحقيقي جميع الأوقات (5). و قيل: إنّ المراد طرفي النهار (6)، و هما أفضل أوقات التسبيح.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 56

ثمّ بيّن سبحانه أنّ لا علّة لمجادلتهم إلاّ الكبر بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و يخاصمون الرسول و المؤمنين فِي إبطال آياتِ اَللّهِ الطعن فيها، و يجحدون بها بِغَيْرِ سُلْطانٍ و برهان أَتاهُمْ

إِنَّ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (56)

ص: 423


1- . زاد في النسخة: ما.
2- . تفسير الرازي 27:77، تفسير روح البيان 8:195.
3- . في النسخة: من.
4- . تفسير روح البيان 8:196.
5- . تفسير الرازي 27:78، تفسير روح البيان 8:196.
6- . تفسير الرازي 27:78.

من قبل اللّه مع أنّ التكلّم فيها و في أمر الدين لا بدّ أن يكون بسلطان مبين و برهان متين إِنْ فِي صُدُورِهِمْ و ما في قلوبهم إِلاّ كِبْرٌ و تعظّم من قبول الحقّ، و تبعية الرسول، و التفكّر و النظر الصحيح في معجزاته و كلماته، بل إرادة الرئاسة و التقدّم عليه، مع أنّه ما هُمْ بمدركي غرضهم من الكبر و التعظّم، و ليسوا بِبالِغِيهِ و هو إبطال الآيات و الإخلال في أمر نبوتك و إذلالك، فإنّي ناشر آياتك، و مشرق نورك، و رافع منزلتك في الناس، و معلّ قدرك في الآفاق فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ و التجأ إليه من شرّهم و كيدهم فانّه القادر على دفعهم و على كلّ شيء و إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقالك و مقال أعدائك اَلْبَصِيرُ باهتمامك في التبليغ و اهتمام أعدائك في المنع عنه، فيجازيك أفضل الجزاء، و يجازي أعداءك أسوأه.

قيل: إنّ المراد بالمجادلين اليهود، فانّهم كانوا يقولون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح بن داود، أو يوسف بن مسيح بن داود (1).

و قيل: إنّهم أرادوا الدجّال الذي يخرج في آخر الزمان و قالوا: إنّه يبلغ سلطانه البرّ و البحر، و تسير معه الأنهار، و هو آية من آيات اللّه، فيرجع إلينا الملك (2).

و قيل: إنّ المراد بقوله: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ التجئ إليه من فتنة الدجّال، فإنّه ليس فتنة أعظم من فتنته (3). و روت العامة أحاديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الاستعاذة من فتنة الدجّال و خروجه و كيفية إفتتان الناس به (4).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 57 الی 58

ثمّ لمّا كان أكثر مجادلة المشركين في البعث و إمكان المعاد و إنكار الآيات الدالة عليه، استدلّ سبحانه عليه بقوله: لَخَلْقُ اَلسَّماواتِ السبع مع سعتها و عظمتها وَ خلق اَلْأَرْضِ بطبقاتها و ضخامتها أَكْبَرُ و أعظم مِنْ خَلْقِ اَلنّاسِ ثانيا، و من هو قادر على الأعظم قادر على خلق الأصغر و الأضعف، و هذا من أعظم البراهين على صحة المعاد و البعث و إمكانه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ المنكرين للمعاد لا يَعْلَمُونَ كون إعادة الناس أسهل و أهون، لقصور نظرهم، و فرط غفلتهم، و لذا يقولون: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (1)؟

لَخَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ ما يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ لاَ اَلْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)

ص: 424


1- . يس:36/78.

ثمّ بيّن سبحانه رفعة شأن المستدليّن بالآيات، و المتفكّرين فيها، و عدم تساويهم مع الجهّال المقلّدين بقوله: وَ ما يَسْتَوِي الكافر الذي هو اَلْأَعْمى قلبه عن رؤية الآيات وَ اَلْبَصِيرُ الذي يراها بعين قلبه، و يتفكّر فيها وَ كذا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ و بادروا إلى الحسنات وَ لاَ اَلْمُسِيءُ في العقائد و الأعمال، و هم الكفّار و العصاة، فلو لم يكن حشر و معاد و دار الجزاء، لزم تساوي الفريقين، و هو باطل ببديهة العقل، فأنتم-أيّها الكفار المجادلون-تعلمون عدم التساوي بين العالم و الجاهل و المحسن و المسيء، و لكن قَلِيلاً ما و مقدارا يسيرا تَتَذَكَّرُونَ و تتنبّهون إلى ما يلزمه من صحّة المعاد، و إنّما قدّم ذكر المؤمن المحسن على المسيء لمجاورة البصير.

و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين يعلمون أنّ العلم خير من الجهل، و أنّ العمل الصالح خير من العمل السيء، و لكن لا يميّزون بين العلم و الجهل، و العمل الصالح و السيّء فيعتقدون الجهل و التقليد علما و معرفة، و الحسد و الكبر صالحا و طاعة (1).

و قيل: إنّ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ في معنى لا يتذكّرون أصلا، كما يقال: هو قليل الحياء، و المراد أنّه لا حياء له (2).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ لمّا أثبت سبحانه إمكان المعاد بتوضيح كمال قدرته و سهولته، أخبر بوقوعه بقوله: إِنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة لَآتِيَةٌ البتة لا رَيْبَ و لا مجال للشك فِيها و في إتيانها، لوضوح شواهدها، و اتقان براهينها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و هم الكفّار المنكرون له لا يُؤْمِنُونَ باتيانها، لقصور أنظارهم، و شدّة تعصّبهم، و إلفهم بما اعتقده آباؤهم.

إِنَّ اَلسّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَ قالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

ثمّ إنّه تعالى بعد إتيان إمكان المعاد، و الإخبار بوقوعه، أمر الناس بعبادته المنجية من أهواله بقوله: وَ قالَ رَبُّكُمُ: أيّها الناس اُدْعُونِي وحدي لحوائجكم، و اعبدوني خالصا مخلصا لنجاتكم من الشدائد أَسْتَجِبْ لَكُمْ و دعاءكم، و اقض حوائجكم، إما في الدنيا أو في الآخرة، و انجكم من شدائدهما إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ و يستنكفون عَنْ عِبادَتِي التي منها الدعاء، و يتعظّمون عن

ص: 425


1- . تفسير الرازي 27:79.
2- . تفسير روح البيان 8:199.

طاعتي سَيَدْخُلُونَ في الآخرة جَهَنَّمَ حال كونهم داخِرِينَ و ذليلين جزاء لتكبّرهم على اللّه.

في فضيلة الدعاء

عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «هو الدعاء، و أفضل العبادة الدعاء» (1).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل: أي العبادة أفضل عند اللّه؟ قال: «أن يسأل و يطلب ما عنده، و ما من أحد أبغض إلى اللّه تعالى ممنّ يستكبر عن عبادته، و لا يسأل ما عنده» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر، فانّ الدعاء هو العبادة، إنّ اللّه يقول. . .» و تلا هذه الآية (3).

و عن السجاد عليه السّلام-في (الصحيفة) بعد ذكر الآية-: «فسميّت دعاءك عبادة، و تركه استكبارا، و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» (4).

و روي أنه سئل الصادق عليه السّلام: أ ليس اللّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و قد نرى المضطرّ يدعوه و لا يجاب له، و المظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟ قال: ويحك ما يدعو أحد إلا استجاب له! أمّا الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب، و أمّا المحقّ فإذا دعاه استجاب له، و صرف عنه البلاء من حيث لا يعلم، أو ادّخر له ثوابا ليوم حاجته، و إن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه أمسك عنه، و المؤمن العارف باللّه ربما عزّ عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ (5).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 61

ثمّ ذكر سبحانه دلائل توحيده و استحقاقه للعبادة بقوله: اَللّهُ هو القادر اَلَّذِي جَعَلَ و خلق نفعا لَكُمُ أيها الناس اَللَّيْلَ المظلم لِتَسْكُنُوا و تستريحوا فِيهِ بسبب برودته المسكّنة للقوى المحرّكة، و المظلمة المسكّنة للحواسّ، وَ جعل اَلنَّهارَ بضوئه مُبْصِراً للأشياء، و طرق تحصيل المعاش، و إنّما لم يذكر لتبصروا فيه، و أسند الابصار إلى النهار مجازا، للاشعار بكون النور الذي به قوام النهار هو العلّة للرؤية عند البصير، و تكون دلالة تنوّر النهار على وحدانية اللّه أقوى من دلالة الفعل، و إنّما قدّم ذكر الليل لأنّه عدم النور، و العدم مقدّم على الوجود، و الليل سابق في الوجود على النهار.

اَللّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)ثمّ لمّا ذكر سبحانه النعمتين العظيمتين، نبّه (6)على فضله و إحسانه على الناس، و وبّخهم على ترك

ص: 426


1- . الكافي 2:338/1، تفسير الصافي 4:346.
2- . الكافي 2:338/2، تفسير الصافي 4:346.
3- . الكافي 2:339/5، تفسير الصافي 4:346.
4- . تفسير الصافي 4:346.
5- . الاحتجاج:343، تفسير الصافي 4:346.
6- . في النسخة: تنبّه.

شكره بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ و إحسان عظيم عَلَى اَلنّاسِ يخلق الليل و النهار بحيث لا يوازيه فضل و إحسان وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لجهلهم بالمنعم و عدم التفاتهم إلى هذه النعمة لا يَشْكُرُونَ فضل اللّه و إنعامه، و إنّما كرّر سبحانه ذكر الناس للتنصيص بتخصيص الكفران بهم.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 62 الی 65

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان قدرته و نعمته و حكمته، أعلن بالوهيته و ربوبيته و وحدانيته بقوله تبارك و تعالى: ذلِكُمُ القادر الحكيم المنعم هو اَللّهُ الذي يتألّه إليه جميع الموجودات، و هو رَبُّكُمْ و ربّ العالمين و خالقكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ممكن، و هو الإله الذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه، إذن فَأَنّى تُؤْفَكُونَ أيّها المشركون، و كيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟

كَذلِكَ الإفك و الانصراف العجيب الذي يكون لقومك يُؤْفَكُ و يصرف عن عبادة اللّه الامم اَلَّذِينَ كانُوا قبل قومك بِآياتِ اَللّهِ و دلائل توحيده و كمال صفاته يَجْحَدُونَ و يكذّبون عنادا و لجاجا و تقليدا.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بقوله: اَللّهُ هو القادر الحكيم اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته و حكمته لَكُمُ أيّها الناس اَلْأَرْضَ قَراراً وَ منزلا في حال حياتكم و مماتكم، كما عن ابن عباس (1)! و المراد جعلها ثابتة و ساكنة لتتمكّنوا من التصرّف فيها، و جعل اَلسَّماءَ بِناءً و سقفا مبنيا، و قبّة مرفوعة فوقكم.

ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ (63) اَللّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَراراً وَ اَلسَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (64) هُوَ اَلْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (65)ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الآفاقية على توحيده، استدلّ بالآيات الأنفسية بقوله: وَ صَوَّرَكُمْ في الأرحام فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء. عن ابن عباس: خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل و يتناول بيده (2)وَ رَزَقَكُمْ مِنَ المأكولات اَلطَّيِّباتِ و اللذيذات ذلِكُمُ القادر المنعم عليكم بتلك النّعم هو اَللّهُ الذي هو رَبُّكُمْ لا ربّ سواه فَتَبارَكَ و تقدّس عن الشريك اَللّهُ الذي هو رَبُّ اَلْعالَمِينَ و مالك الملائكة و الجنّ و الإنس أجمعين، و رافع كلّ من حضيض النقص على أوج الكمال اللائق به، و كلّ تحت

ص: 427


1- . تفسير الرازي 27:84.
2- . تفسير روح البيان 8:205.

ملكوته،

و مفتقر إليه في ذاته و وجوده و ما به بقاؤه و كماله و هُوَ اَلْحَيُّ بالذات الذي به حياة كلّ حيّ، فمن له تلك الصفات الجمالية و الجلالية؟ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود بالاستحقاق سواه، فاذا عرفتموه بالتفرّد و القدرة و الحكمة و الرحمة فَادْعُوهُ وحده لحوائجكم، و اعبدوه مُخْلِصِينَ و ممحضين لَهُ اَلدِّينَ و العبادة، و لا تشركوا به شيئا، و قولوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على ما هدانا و أنعم علينا بالنّعم العظام.

عن ابن عباس: من قال لا إله إلاّ اللّه، فليقل على أثرها: الحمد للّه ربّ العالمين (1).

و عن السجاد عليه السّلام: «إذا قال أحدكم لا اله الا اللّه، فليقل: الحمد للّه رب العالمين، فانّ اللّه يقول: هُوَ اَلْحَيُّ» (2)الآية.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 66

ثمّ لمّا أمر سبحانه الناس بعبادته خالصا من الشرك، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بترغيبهم فيها، باظهار أنّه اختار لهم ما اختاره لنفسه، التي هي أعزّ النفوس عنده بقوله تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين، ترغيبا لهم إلى التوحيد: إِنِّي نُهِيتُ من قبل ربّي عن أَنْ أَعْبُدَ الأصنام اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ لَمّا جاءَنِي اَلْبَيِّناتُ القرآنية، أو الهمت بالشواهد و الأدلّة الواضحة مِنْ قبل رَبِّي و مالكي اللطيف بي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ أمري، و اخلص ديني لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لَمّا جاءَنِي اَلْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (66)

سوره 40 (غافر): آیه شماره 67 الی 68

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده بأطوار خلق الانسان بقوله: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ يا بني آدم أولا مِنْ تُرابٍ حيث إنّ الدم الذي يتكوّن منه المنيّ من الأغذية المتكونة من التّراب، أو إنه خلقكم منتهيا إلى خلق أبيكم آدم، و هو مخلوق من تراب ثُمَّ خلقكم مِنْ نُطْفَةٍ و ماء صاف متكوّن من الدم في صلب الرجل ثُمَّ خلقكم عَلَقَةٍ و دم جامد متكوّن من النّطفة في الرّحم، ثمّ

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

ص: 428


1- . تفسير روح البيان 8:206.
2- . تفسير القمي 2:260، تفسير الصافي 4:347.

يخلق أعضاءكم منها، و يصوّركم فيه، و ينفخ فيكم الروح، و يحييكم ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من رحم امّكم حال كونكم طِفْلاً صغيرا عاجزا عن جلب نفع أو دفع ضرر ثُمَّ يبقيكم في الدنيا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و كمال قوتكم الظاهرية و الباطنية، و هو حدّ الشباب.

قيل: هو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين (1). و قيل: من إحدى و عشرين سنة إلى ثلاث و ثلاثين (2). ثُمَّ يبقيكم لِتَكُونُوا شُيُوخاً قيل: إنّ الشيخوخة من خمسين أو إحدى و خمسين إلى الموت، أو إلى ثمانين (3)وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى و يقبض روحه مِنْ قَبْلُ أن يتولّد، فيسقط جنينا، أو من قبل بلوغ الأشدّ، أو من قبل الشيخوخة وَ ذلك الأطوار في الخلق لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى و وقتا معينا في تقدير اللّه لا تتجاوزونه وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون ما في ذلك الانتقال من طور إلى طور من فنون الحكم و العبر، و تستدلّون به على خالقكم القدير الحكيم.

ثمّ لمّا وصف سبحانه ذاته المقدسة بالحياة الذاتية، نبّه على أنّ حياة كلّ حي و موته بقدرته بقوله: هُوَ تعالى وحده القادر اَلَّذِي يُحْيِي كلّ ميت أراد احياءه وَ يُمِيتُ كلّ حيّ أراد إماتته.

ثمّ بيّن سبحانه نهاية سهولة خلق الأشياء و تغييرها و التصرّف فيما عليه بقوله: فَإِذا قَضى أَمْراً قدّر شيئا، أو أراد تكوينه و إيجاده فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و يريد وجوده بالارادة التكوينية فَيَكُونُ و يوجد بلا ريث و تأخير و توقف على شيء، سواء كان ذلك الأمر عظيما كالسماوات و الأرضين، أو حقيرا كالذرّة، أو تغييرا كتغيير التّراب و صيرورته دما، و صيرورة الدم نطفة، و صيرورة النّطفة علقة، أو تبديلا كإعدام هذا العالم، أو إعدام الخلق و إيجاد عالم آخر، أو خلق آخر.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 69 الی 74

ثمّ إنّه تعالى بعد حكمه في أول السورة المباركة بكفر المجادلين في الآيات، و بيان كونهم مبغوضين عنده و عند المؤمنين، و كون قلوبهم مطبوعة، و بيان علّة جدالهم، و هو التعظّم و التكبّر عن طاعة اللّه و رسوله في وسطها، و بعد ذكر الآيات الدالة على توحيده، عاد إلى ذمّ المشركين المجادلين

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ أَنّى يُصْرَفُونَ (69) اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ اَلْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ اَلسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اَللّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اَللّهُ اَلْكافِرِينَ (74)

ص: 429


1- . تفسير روح البيان 8:208.
2- . تفسير روح البيان 8:208.
3- . تفسير روح البيان 8:208.

في الآيات، و تهديدهم بعذاب الآخرة بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد، أو أيّها الرائي، و لم تنظر نظر التعجّب و العبرة إِلَى المشركين اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و يخاصمون فِي آياتِ اَللّهِ الواضحة المقتضية للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال و المكابرة فيها، أنّهم أَنّى يُصْرَفُونَ عن تلك الآيات و التصديق بها، و كيف يعرضون عنها؟ أعني بالمجادلين المشركين

اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ المنزل من السماء مع دلائل الصدق وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب و الأحكام فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء عاقبة تكذيبهم و جدالهم، و عن قريب يرون مآل كفرهم و طغيانهم،

و ذلك إِذِ تجعل اَلْأَغْلالُ و حين توضع القيود من النار فِي أَعْناقِهِمْ. قيل: تغلّ أيديهم إلى أعناقهم مضمونة إليها (1)وَ اَلسَّلاسِلُ أيضا تجعل عليهم حال كونهم يُسْحَبُونَ و يخرّون على الأرض على وجوههم بعنف، يجرّهم الملائكة الزبانية و خزنة جهنّم فِي اَلْحَمِيمِ و المائع المتناهي في الحرارة.

قيل: في كلمة (في) إشعار بإحاطة حرارة النار أو الماء لجميع جوانبهم، كأنّهم في عين الحميم و يسحبون فيها (2).

و عن مقاتل: يُسْحَبُونَ* فِي اَلْحَمِيمِ أي في حرّ النار، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ (1).

ثُمَّ إنّه بعد جرّهم بالسلاسل إلى الحميم فِي اَلنّارِ يُسْجَرُونَ و يحرقون، ففي الآيات دلالة على أنّهم يعذّبون بأنواع العذاب.

ثُمَّ بعد إحراقهم في النار قِيلَ لَهُمْ تقريعا و توبيخا: أيّها المشركون أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِ اَللّهِ رجاء شفاعتهم، أو إعانتهم إياكم في الشدائد، ادعوهم اليوم ليشفعو لكم، أو يعينوكم، و ينجوكم من العذاب قالُوا في جواب خزنة جهنّم تحسّرا و ندامة: إنّ أصنامنا ضَلُّوا عَنّا و غابوا عن أبصارنا، فلا نعرفهم، و ذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم و أصنامهم، أو المراد من الضلال الهلاك، و المعنى هلكوا و ضاعوا عنّا، فنزّل عدم نفعهم لهم منزلة عدمهم، ثمّ قالوا: بَلْ الآن تبيّن لنا أنّا لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا و نعبد مِنْ قَبْلُ و في الدنيا شَيْئاً قابلا للعبادة، بل الاعتناء و الاعتداد. قيل: إنّ المراد مما كنّا مشركين كَذلِكَ الضلال و التحيّر الذي يكون لهم في الآخرة حتى يفزعوا إلى الكذب، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم يُضِلُّ اَللّهُ و يحيّر اَلْكافِرِينَ في الدنيا و المشركين

ص: 430


1- . تفسير روح البيان 8:211، و الآية من سورة القمر:54/48.

حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة.

قيل: إنّ المراد مثل ضلال آلهتهم عنهم، يضلّهم اللّه عن آلهتهم حتى أنّهم لو طلبوها أو طلبتهم لم يجد أحدهما الآخر (1)و قيل: يعني يضلّهم عن طريق الجنّة (2).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب إلى الكفّار في الدنيا مبالغة في توبيخهم و تقريعهم بقوله: ذلِكُمْ الضلال أيّها الكفرة، أو العذاب الشديد الذي ابتليتم به في الآخرة من الأغلال و السلاسل و الجرّ إلى الحميم و الحرق بالنار جزاء بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَفْرَحُونَ و تبطرون فِي وجه اَلْأَرْضِ و في زمن الحياة بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بعين الباطل من الشرك باللّه الطّغيان عليه و على رسله وَ بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَمْرَحُونَ و تتكبّرون عن قبول دين الحقّ، أو تتوسّعون في البطر و الأشر بحيث تغفلون عن إتيان هذا اليوم و الابتلاء بشدائده و أهواله (3)،

فالحال اُدْخُلُوا أيّها الكفرة جزاء على كفركم و فرحكم بشرككم و بطركم في الباطل أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة، و هي مفتوحة و مقسومة لكم من أيّ باب شئتم حال كونكم خالِدِينَ فِيها و مقيمين بها أبدا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ عن قبول الحقّ و إطاعة اللّه و رسله، و ساء منزلهم و مأواهم جهنّم.

ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)

ثمّ لمّا كان جدال المشركين في آيات التوحيد و الرسالة سببا لتأثر قلب الرسول سلاّه سبحانه بقوله: فَاصْبِرْ يا محمد، على أذى المشركين و إيحاشهم إيّاك بتلك المجادلات، فانّا نخذلهم و ننصرك عليهم، و اعلم إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بنصرك و تعذيبهم حَقٌّ و صدق لا خلف فيه أبدا فَإِمّا نُرِيَنَّكَ في هذه الدنيا بَعْضَ العذاب اَلَّذِي نَعِدُهُمْ كالقتل و الأسر فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ بعد الخروج من الدنيا، فنعذّبهم بأعمالهم أشدّ العذاب، و ننتقم منهم أشدّ الانتقام.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 78

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اَللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ (78)

ص: 431


1- . تفسير روح البيان 8:212.
2- . تفسير الرازي 27:88.
3- . في النسخة: بشدائدها و اهوالها.

ثمّ لمّا كان من جدال المجادلين نسبة معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى السحر، اقتراحهم عليه معجزات زائدة على ما أتى به، مع كونها فوق الكفاية، ردّهم سبحانه بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً كثيرة إلى أقوام كثيرة مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على بعثك بعضا مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أحوالهم و معجزاتهم، و كيفية دعوتهم، و صبرهم على أذى قومهم، كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام و أضرابهم، وَ بعضا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ و لم نسمّيهم لك، و لم نخبرك بأحوالهم.

روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كم عدد الأنبياء؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا» . فقال: قلت: فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر جمّا غفيرا» (1).

و في (الخصال) عنهم عليهم السّلام: «أنّ عددهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا» (2).

و روى بعض العامة عن علي عليه السّلام: «بعث اللّه نبيا أسود لم يقصّ علينا قصّته» (3).

قيل: إنّ الذين قصّ اللّه قصّتهم على نبيه في القرآن ثمانية عشر (4)، وعدّ منهم ذا القرنين و لقمان، و لم تثبت نبوتهما، بل وردت روايات دالة على عدم نبوتهما.

وَ ما كانَ يصح لِرَسُولٍ من الرسل، و إن كان في غاية عظمة الشأن و علوّ المنزلة أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ و معجزة لقومه إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ لأنّها من عطاياه، قسّمها بينهم على ما أقتضته الحكمة، و لذا لم يأتوا بكلّ ما اقترح عليهم قومهم عنادا و لجاجا و تعنّتا، و ما كان ذلك قادحا في نبوتهم، كذلك ليس عدم إيتانك بما أقترح عليك قادحا في رسالتك، مع أنّك أتيت بما أقمت به الحجّة و أزيد، فليس بعد اتمام الحجّة إلاّ العذاب فَإِذا جاءَ أَمْرُ اَللّهِ بالعذاب في الدنيا، أو الآخرة قُضِيَ و حكم بين الرسل و مكذّبيهم بالرسالة بِالْحَقِّ و العدل، فعند ذلك ربح المحقّون وَ خَسِرَ هُنالِكَ و في تلك (5)المحكمة اَلْمُبْطِلُونَ منهم المجادلون في الآيات و المقترحون للمعجزات.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 79 الی 80

ثمّ بعد التوعيد على الشرك و تكذيب الرسل، عاد سبحانه إلى بيان آيات التوحيد بقوله: اَللّهُ

اَللّهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

ص: 432


1- . تفسير روح البيان 8:215.
2- . الخصال:524، تفسير الصافي 4:349.
3- . تفسير روح البيان 8:215، مجمع البيان 8:830، تفسير الصافي 4:349.
4- . تفسير روح البيان 8:215.
5- . في النسخة: ذلك.

تعالى هو اَلَّذِي جَعَلَ و خلق لَكُمُ اَلْأَنْعامَ الثمانية لِتَرْكَبُوا بعضا مِنْها كالإبل في الأسفار وَ بعضا مِنْها تَأْكُلُونَ كالبقر و الغنم و المعز، و إنّما غير النّظم في الجملة الثانية لرعاية الفواصل، و للإشعار بأصالة الركوب.

و قيل: إنّ المراد بالأنعام الإبل خاصّة (1)لكثرة استعمالها فيه وَ لَكُمْ أيّها الناس فِيها مَنافِعُ كثيرة غير الركوب و الأكل كالألبان و الأوبار و الأشعار و الجلود وَ لِتَبْلُغُوا بتوسّط الأنعام و حمل أثقالكم عَلَيْها و نقلها من بلد إلى بلد حاجَةً كائنة فِي صُدُورِكُمْ و قلوبكم من المعاملة و الاسترباح وَ عَلَيْها في البراري وَ عَلَى اَلْفُلْكِ في البحار تُحْمَلُونَ.

قيل: إنّ المراد بالحمل على الابل حمل النسوان و الولدان، و لذا فصل بينه و بين الركوب، و ذكر الفلك للمناسبة بينه و بين الإبل حتى قالوا: الابل سفينة البرّ، و إنّما لم يقل: في الفلك (2)، لصحّة استعمال (في) و (على) في المقام، و كون (على) هنا للمزاوجة، و إنّما أدخل على الركوب و البلوغ حرف التعليل، لأنّهما قد يكونان لأغراض دينية كالجهاد و الحجّ بخلاف الأكل و سائر المنافع، فانّها من المباحات، فلا يعدّان من الأغراض الإلهية.

سوره 40 (غافر): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر الدلائل الكثيرة على توحيده و قدرته و حكمته، نبّه على ظهور تلك الآيات و الدلائل بقوله تعالى: وَ يُرِيكُمْ اللّه أيّها الناس بلطفه آياتِهِ و دلائل توحيده فَأَيَّ آياتِ اَللّهِ تُنْكِرُونَ فانّ كلا منها في (3)غاية الظهور بحيث لا يجترئ على إنكارها من له عقل، و إنّما أضاف الآيات إلى اسمه الجليل، لتربية المهابة، و تهويلا لانكارها.

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اَللّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي اَلْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)

ثمّ لمّا كان سبب إنكار الآيات ليس إلاّ الكبر و حبّ الدنيا و الرئاسة، و بخهم على ترك التفكّر في و خامة عاقبة المتكبّرين بقوله تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا قيل: إنّ التقدير اقعدوا في مكانهم، فلم يسيروا و لم يسافروا (4)فِي أقطار اَلْأَرْضِ للتجارة و غيرها فَيَنْظُرُوا نظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المتكبّرين و المتمرّدين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ فانّها لم تكن إلاّ الهلاك و البوار مع

ص: 433


1- . تفسير الرازي 27:89، تفسير أبي السعود 7:286.
2- . تفسير روح البيان 8:218.
3- . في النسخة: من.
4- . تفسير روح البيان 8:219.

أنّهم كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وَ أَشَدَّ منهم قُوَّةً في الأبدان وَ أزيد منهم آثاراً باقية فِي اَلْأَرْضِ بعدهم من المدن و القصور و الحصون و البساتين و القنوات و الأنهار فَما أَغْنى و ما دفع عَنْهُمْ العذاب ما كانُوا في مدّة أعمارهم يَكْسِبُونَ و يحصلون من الأموال و الأولاد و العدد، فلمّا لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة و الدولة القاهرة إلاّ الخيبة و الخسار و البوار، فكيف يكون حال الفقراء و الضّعفة؟

و قيل: إنّ كلمة (ما) في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ استفهامية، و في قوله: ما كانُوا مصدرية، و المعنى أي شيء أغنى عنهم كسبهم (1).

سوره 40 (غافر): آیه شماره 83 الی 85

ثمّ بيّن سبحانه غرور المتكبّرين بقوله: فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ و دعوهم إلى دين الحقّ مستدلّين على صدقهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات فَرِحُوا و اغترّوا اولئك المتكبّرون بِما عِنْدَهُمْ و مالهم مِنَ اَلْعِلْمِ بعقائدهم الفاسدة و شبهاتهم الباطلة، أو بامور الدنيا و تدبيرها، و استحقروا علم الرسل و استهزءوا بهم و بما أخبروا به من عذاب الدنيا و الآخرة وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الأخبار بالعذاب الدنيوي و الاخروي.

فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْكافِرُونَ (85)و قيل: إنّ المراد فرح الرّسل بعلمهم، و المعنى أنّ الرّسل لمّا رأوا من قومهم غاية الجهل و الاغماض عن الحقّ، فرحوا بما أتوا من العلم، و شكروا اللّه عليه، و حاق بالكافرين جزاء جهلهم و استهزائهم (2).

و قيل: إنّ المراد فرح الكافرين بما عند الرسل من العلم، و معنى فرحهم ضحكهم و استهزائهم به (3).

فَلَمّا رَأَوْا اولئك الامم المهلكة بَأْسَنا و عذابنا الشديد النازل عليهم بأمرنا قالُوا اضطرارا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ و صدّقنا بتفرّده في الالوهية و استحقاق العبادة وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بسبب الايمان بِهِ و عبادته مُشْرِكِينَ باللّه من الأصنام و بترّأنا منهم

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ و لم يمكن أن يفيدهم

ص: 434


1- . تفسير الرازي 27:91، تفسير أبي السعود 7:287، تفسير روح البيان 8:220.
2- . تفسير الرازي 27:91، تفسير أبي السعود 7:287.
3- . تفسير الرازي 27:91، تفسير أبي السعود 7:287.

إِيمانُهُمْ الاضطراري لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا و عذابنا في الدنيا، أو عند الموت و رؤية أهوال الآخرة، لعدم قدرتهم على الكفر، كما لم ينفع إيمان فرعون بعد الغرق، و هذه المعاملة مع الكفّار المكذّبين للآيات و الرسل من عدم قبول إيمانهم عند معاينة العذاب، تكون سُنَّتَ اَللّهِ و عادته الجارية اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ و مضت فِي عِبادِهِ و الطّغاة المكذّبين من الامم السالفة وَ خَسِرَ و غبن أو هلك هُنالِكَ و في ذلك الوقت اَلْكافِرُونَ بوحدانية اللّه كما عن ابن عباس رضى اللّه عنه (1).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة غرّق اللّه فرعون و قد آمن و اقرّ بوحيده؟ قال عليه السّلام: «لأنّه آمن عند رؤية البأس، و الايمان عند رؤية البأس غير مقبول، و ذلك حكم اللّه تعالى ذكره في السلف [و الخلف]، قال اللّه عز و جل: فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا الآيتان (2).

و في (الكافي) : قدّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحدّ. فأسلم، فقيل: قد هدم إيمانه شركه و فعله و قيل: يضرب ثلاثة حدود. و قيل غير ذلك، فأرسل المتوكّل إلى الامام الهادي عليه السّلام، و سأله عن ذلك، فكتب عليه السّلام: «يضرب حتى يموت» فأنكروا ذلك، و قالوا: هذا شيء لم ينطق به كتاب، و لم تجيء به سنّة، فسألوه ثانيا البيان، فكتب عليه السّلام هاتين الآيتين بعد البسملة، فأمر المتوكّل فضرب حتى مات (3).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ حم المؤمن في كلّ ليلة، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و ألزمه كلمة التقوى، و جعل الآخرة له خيرا من الدنيا» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «الحواميم رياحين القرآن» (5).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة و المسمّاة بالمؤمن، و نشكره على نعمه و آلائه.

ص: 435


1- . تفسير روح البيان 8:222.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:77/7، تفسير الصافي 4:350.
3- . الكافي 7:238/2، تفسير الصافي 4:350.
4- . ثواب الاعمال:130، تفسير الصافي 4:351.
5- . ثواب الاعمال:114، تفسير الصافي 4:451.

ص: 436

في تفسير سورة فصّلت

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لما ختمت سورة المؤمن البدوءة بتعظيم القرآن المتضمّنة لإثبات التوحيد و ذمّ المجادلين في الآيات، و ذكر أدلّة التوحيد و تهديد منكريه، نظم بعدها سورة حم السجدة المبدوءة أيضا بتعظيم القرآن، المشتملة على ذمّ المعرضين عن آياته، و المشركين المعارضين للرسول، و ذكر أدلّة التوحيد و تهديد المعرضين عنه و غيرها من المطالب العالية المناسبة لما في السورة المباركة السابقة، فابتدأ سبحانه على دأبه بذكر الأسماء المباركات تيمّنا و تبرّكا و تعليما للعباد بقوله تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: حم جلبا للقلوب إلى المطالب التي بعدها، و قد مرّ أنّها رمز عن الأسماء الحسنى. و قيل: إنّها اسم للسورة (1)، أو القرآن (2).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

ثمّ عظّم سبحانه القرآن حيث وصفه بقوله: تَنْزِيلٌ و منزل بتوسّط الروح الأمين مِنَ اللّه اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ على رسوله الذي هو رحمة للعالمين، رحمة منه على الخلق أجمعين إلى يوم الدين،

و هو كِتابٌ عظيم الشأن، جامع لعلوم الأولين و الآخرين، و لكلّ ما يحتاج إليه في المعاش و المعاد و الدنيا و الدين فُصِّلَتْ و فرّقت آياتُهُ و جعلت تفاصيل و تبيانا لصفات اللّه الجمالية و الجلالية، من كمال علمه و قدرته و حكمته و رحمته و قهاريته، و لبدو خلق السماوات و الأرض و الكواكب و الانسان و الجانّ و حكمته، و حكمة خلق الليل و النهار و تعاقبهما، و للأحكام و السّنن و الآداب، و أدلة المعاد و الوعد و الوعيد و الثواب و العقاب، و درجات أهل الجنّة و دركات أهل النار،

ص: 437


1- . تفسير روح البيان 8:225.
2- . تفسير روح البيان 8:225.

و المواعظ و العبر و غير ذلك من المطالب العالية المختلفة.

قيل: إنّه ليس بين الناس كتاب اجتمع فيه العلوم المختلفة و المطالب المتباينة مثل القرآن (1).

ثمّ بالغ سبحانه في مدح الكتاب بقوله: قُرْآناً قيل: إنّ المعنى اريد من هذا الكتاب المفصّل، أو حال كونه قرآنا (2)عَرَبِيًّا كائنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يفهمون اللغة العربية، كما قال تعالى: ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ (3)ليكون ذلك الكتاب

بَشِيراً و مبشّرا لمصدّقيه و المطيعين لأحكامه بالجنّة وَ نَذِيراً و محذّرا لمكذّبيه و مخالفيه بالنار.

ثمّ حكى سبحانه شقاوة القوم الذين نزل القرآن بلغتهم بقوله تعالى: فَأَعْرَضَ عنه أَكْثَرُهُمْ فلم يتدبّروا فيه مع كونه بلغتهم فَهُمْ كأنهم (4)صمّ لا يَسْمَعُونَ آياته، أو المراد فهم لا يسمعونه سماع القبول، و هم مع ذلك عارضوه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

وَ قالُوا يا محمّد، أنت تدعونا إلى الإيمان بكتابك و توحيد ربّك، و الحال أنّه قُلُوبُنا كائنة فِي أَكِنَّةٍ و أغطية متكاثفة تمنعها (من) فهم ما تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وَ كائن فِي آذانِنا وَقْرٌ و ثقل، أو صم لا يمكننا سماع صوتك و استماع آيات كتابك وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ مع ذلك حِجابٌ و ساتر و مانع من رؤيتك.

قيل: إنّ كلمة (من) دالة على قوّة الحجاب و استيعابه للمسافة الكائنة بينهم و بينه (5)، و لما كان القلب و السمع و البصر آلة للإدراك، و اقتصروا على ذكرها، و فيه بيان لغاية إعراضهم و نفرتهم عنه.

ثمّ قالوا: يا محمّد، إذن فَاعْمَلْ و اجتهد في ترويج دينك و تشييد رسالتك و إِنَّنا أيضا عامِلُونَ و ساعون في إبطال دينك و الإخلال في أمرك. و قيل: يعني اعمل أنت على دينك، و إنّا أيضا عاملون على ديننا (6).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ أمر سبحانه بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا قدرة لي على إجباركم و قهركم على الايمان و قبول التوحيد، و إنّما المائز بيني و بينكم أنّه يُوحى إِلَيَّ من قبل ربّي و لا يوحى إليكم، و وظيفتي تبليغ ما يوحى إليّ، و هو أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و هو ربّ العالمين،

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)

ص: 438


1- . تفسير روح البيان 8:226.
2- . تفسير الرازي 27:94، تفسير روح البيان 8:226.
3- . إبراهيم:14/4.
4- . في النسخة: كأنّه.
5- . تفسير الرازي 27:97.
6- . مجمع البيان 9:5، تفسير روح البيان 8:228.

لا الأصنام المنحوتة و المصنوعة، و أقول: إذا كان هو ربّكم فَاسْتَقِيمُوا و توجّهوا إِلَيْهِ بقلوبكم و جوارحكم، و أخلصوا له دينكم وَ اِسْتَغْفِرُوهُ ممّا أنتم عليه من الشرك، و توبوا إليه من طغيانكم عليه.

ثمّ هدّدهم على الشرك بعد دعوتهم إلى التوحيد بقوله: وَ وَيْلٌ و عذاب شديد لِلْمُشْرِكِينَ بربّهم،

و هم اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ للّه، و يصرفون الأزيد منها من أموالهم للأصنام وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار جزاء الأعمال هُمْ بالخصوص كافِرُونَ جاحدون لا يرجون لأعمالهم ثوابا، و لا يخافون عقابا، و لذا ينهمكون في الشهوات و طلب الدنيا و لذّاتها.

قيل: إنّ اللّه قرن ترك الزكاة بالكفر بالآخرة، وصف المشركين به لزيادة التحذير من منعها (1).

و عن ابن عباس: أنّ تفسير (لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ) لا يقولون لا إله إلاّ اللّه، فانّها زكاة الأنفس (2). و المعنى لا يطهّرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، فانّما المشركون نجس.

و قيل: إنّ الزكاة إن كانت في القرآن مقرونة بالصلاة، كقوله: أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ (3)و قوله: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ (4)فالمراد بها زكاة المال؛ و إن كانت منفردة كقوله: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً (5)و قوله: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً (6)و قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (7)فالمراد بها طهارة النفس (8).

في الردّ على بعض

المفسّرين

أقول: في الثاني نظر، بل منع واضح لقوله: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ (9)ثمّ لا يخفى أنّ الآية بناء على التفسير الأول تدلّ على تكليف الكفّار بالزكاة، و ما عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «اترى أنّ اللّه طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به حيث يقول: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .

قيل: جعلت فداك، فسّر لي. فقال: «ويل للمشركين الذين أشركوا بالامام الأول، و هم بالأئمة الآخرين كافرون، إنّما دعا اللّه العباد إلى الايمان به، فاذا آمنوا باللّه و برسوله افترض عليهم الفرائض» (10)مطروح أو مؤوّل، مع أنّ فيه حمل الاشراك على الاشراك بالامام، و حمل الآخرة على

ص: 439


1- . تفسير أبي السعود 8:3، تفسير روح البيان 8:229.
2- . تفسير أبي السعود 8:3، تفسير روح البيان 8:230.
3- . البقرة:2/43.
4- . المائدة:5/55.
5- . الكهف:18/81.
6- . مريم:19/13.
7- . الأعلى:87/14.
8- . تفسير روح البيان 8:230.
9- . الروم:30/39.
10- . تفسير القمي 2:262، تفسير الصافي 4:253.

الأئمة الآخرة، مع كونهما في الآية بقرينة الآيات السابقة و اللاحقة كالنصّ في الاشراك باللّه و الدار الآخرة.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 8 الی 11

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين، وعد المؤمنين الموحّدين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضّيات عند اللّه، الخالصات من شوب الشرك الجليّ و الخفيّ لَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ عليهم، فينكدر بالمنّة، لأنّه سمّى ما يعطيهم أجرا، و لا منّة في الأجر.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ (10) ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)قيل: نزلت في المرضى و الزّمنى، إذا عجزوا عن الطاعة، كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون (1).

و قيل: إنّ المراد لهم أجر غير مقطوع، أو غير محسوب عليهم (2)، كما قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (3).

ثمّ لمّا هدد سبحانه المشركين، و بّخهم على إشراكهم مع دلالة الأدلّة القاطعة على توحيده بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين توبيخا لهم أَ إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ بقدرته و حكمته اَلْأَرْضَ مع عظمها و بسطها فِي مقدار يَوْمَيْنِ من أيّام الدنيا من الزمان تعليما للعباد التأنّي في الامور و ترك العجلة، و إلاّ فمن المعلوم إمكان إيجادها في آن واحد.

قيل: خلق اللّه الأرض في يوم الأحد، و بسطها في الاثنين (4). و قيل: إنّ المراد من اليومين دفعتين (5). و القمي قال: في وقتين؛ ابتداء الخلق و انقضاؤه (6).

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ مع هذه القدرة الكاملة من الجمادات أَنْداداً و شركاء في الالوهية و العبادة،

ص: 440


1- . تفسير الرازي 27:100، تفسير البيضاوي 2:349، تفسير أبي السعود 8:4.
2- . تفسير روح البيان 8:230.
3- . الزمر:39/10، و في النسخة: لهم أجرهم بغير حساب.
4- . تفسير أبي السعود 8:6، تفسير روح البيان 8:231.
5- . تفسير أبي السعود 8:4، تفسير روح البيان 8:231.
6- . تفسير القمي 2:262، تفسير الصافي 4:353.

و الحال أنّه يمتنع أن يكون له ندّا و ضدّا ذلِكَ الاله القادر الحكيم هو رَبُّ اَلْعالَمِينَ و خالق الموجودات و مربّيها،

فكيف يتصوّر أن يكون أخسّ مخلوقاته ندا له و شريكا وَ جَعَلَ فِيها جبالا رَواسِيَ و ثوابت مِنْ فَوْقِها لتمنعها من الميلان، و لتكون منافعها ظاهرة.

في بيان بدو خلق

السماء و الأرض،

و ما فيهما، و عدد

الجبال

عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أوّل ما خلق اللّه من شي القلم، و قال له: اكتب-إلى أن قال-ثمّ بسط الأرض على ظهر النون، و فاضطرب النون، فمادت الأرض، فأوتدت بالجبال (1).

قيل: إنّ اللّه تعالى طوّق الأرض بجبل محيط بها، و هو من صخرة خضراء (2).

و قيل: أوّل جبل نصب على وجه الأرض جبل أبو قبيس (3)، و إنّ مجموع الجبال التي عرفت في الاقاليم السبعة مائة و ثمانية و سبعون جبلا (4). و قيل: عددها ستة آلاف و ستمائة و ثلاثة و سبعون جبلا سوى التّلول (5).

وَ بارَكَ سبحانه في الأرض و أكثر الخير فِيها بخلق أنواع الحيوانات و النباتات التي منها معايش الانسان وَ قَدَّرَ في الارض، و قسّم لمن يحتاج إلى القوت فِيها بقدرته و حكمته أَقْواتَها و الأرزاق التي تتولّد منها و توجد فيها من البرّ و الشعير و غيرهما.

و قيل: إنّ المراد أقوات نفسها من المطر حيث إنّ اللّه قدّر لكلّ أرض حظّها من المطر (6). و قيل: يعني الأقوات التي اختصّ حدوثها بأرض خاصة حيث إنّ اللّه جعل كلّ بلد معدنا لنوع من الأشياء المطلوبة لرغبة الناس في التجارة و الضرب في الأرض لكسب الأموال (7)، كل ذلك فِي تتمّة أَرْبَعَةِ أَيّامٍ كاملة من أيام الدنيا، و تلك الأيام استوت سَواءً بلا زيادة و نقصان.

القمي: يعني في أربعة أوقات، و هي التي تخرج فيها أقوات العالم من الناس و البهائم-إلى أن قال- : و هو الربيع، و الصيف، و الخريف، و الشتاء-إلى أن قال-: و جعل اللّه هذه الأقوات في أربعة أوقات في الشتاء، و الربيع، و الصيف، و الخريف، و قام به العالم و استوى و بقي، و سمّى اللّه هذه الأوقات أياما لِلسّائِلِينَ يعني المحتاجين؛ لأنّ كلّ محتاج سائل، و في العالم من خلق اللّه من لا يسأل و لا يقدر على السؤال من الحيوان، فهم سائلون و إن لم يسألوا (8).

و قيل: إنّ المراد أنّ الحصر في أربعة للسائلين عن مدّة خلق الأرض و ما فيها (9).

ص: 441


1- . تفسير روح البيان 8:232.
2- . تفسير روح البيان 8:232.
3- . تفسير روح البيان 8:233.
4- . تفسير روح البيان 8:232.
5- . تفسير روح البيان 8:233.
6- . تفسير الرازي 27:102.
7- . تفسير الرازي 27:103.
8- . تفسير القمي 2:262، تفسير الصافي 4:353.
9- . تفسير أبي السعود 8:5، تفسير روح البيان 8:234.

عن ابن عباس، قال: سمعت رسول اللّه و أنا رديفة يقول: «خلق اللّه الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة، و خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل و لمن لم يسأل، و أنا من الذين لم يسألوا، و من سأل جهل» (1).

أقول: فيه دلالة على أنّ لام السائلين متعلقة بسواء.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-: «الرزق أشدّ طلبا لصاحبه من صاحبه له» (2).

ثُمَّ بعد خلق الأرض اِسْتَوى سبحانه، و توجّه إِلَى خلق اَلسَّماءِ و قصد نحوها بإرادته و مشيئته وَ هِيَ في النظر دُخانٌ و أجزاء أرضية لطيفة متصاعدة في الهواء مع الحرارة، و في الواقع مادة ظلمانية. قيل: اريد به الأجزاء التي لا تتجزأ، و من ظلمتها إبهامها (3). و قيل: إنّ المراد من الدخان البخار المرتفع من الماء تشبيها له به (4).

عن ابن عباس في جواب نافع بن الأزرق الحروري: أنّ أول ما خلق اللّه العرش على الماء، و الماء من جوهرة خضراء أذابها اللّه، ثمّ ألقى فيها نارا، فصار الماء يقذف بالغثاء و الزّبد، فخلق الأرض من الغثاء، ثمّ استوى إلى الدّخان الذي صار من الماء، فسمكه سماء، ثمّ بسط الأرض، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء، و بسط الأرض، و أرسى الجبال، و تقدير الأرزاق، و خلق الأشجار و الدوابّ و البحار و الأنهار بعد خلق السماء (2).

فَقالَ اللّه لَها وَ لِلْأَرْضِ حين اقتضاء الحكمة إيجادهما: اِئْتِيا من زاوية العدم إلى عالم الوجود، و كونا على ما ينبغي أن تأتيا و تكونا عليه من الشكل و الوصف، من كون الأرض مدحوّة و قرارا و مهادا، و السماء مقيية و سقفا، سواء كان إتيانكما و تكوّنكما طَوْعاً و رغبة إلى طاعة أمري أَوْ كَرْهاً و بغير رغبة قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين غير كارهين، و هذا تمثيل لتأثير قدرته و نفوذ إرادته في إيجادهما، و تشبيه له بالسلطان القاهر الذي يقول لأدنى رعيّته: لا بدّ لك من أن تفعل هذا شئت أم لم تشأ: فيقول: سمعا و طاعة.

ثمّ لا يخفى أنّ الآية مسوقة لبيان خلق السماء بعد خلق الأرض، و لكن لمّا لم يبن كيفية خلق الأرض مع كمال عظمتها، قرنه ببيان كيفية خلق السماء التي هي أعظم منها، و في بعض الروايات دلالة على أنّ الخطاب إلى السماء و الأرض بعد خلقهما.

في حديث: «أنّ موسى قال: يا ربّ لو أنّ السماوات و الأرض حيث قلت لهما: ائتينا طوعا أو كرها

ص: 442


1- . تفسير روح البيان 8:234. (2و3و4) . تفسير روح البيان 8:235.
2- . تفسير روح البيان 8:235.

عصياك، ما كنت صانعا بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبلعهما» (1).

القمي رحمه اللّه: سئل الرضا عليه السّلام عمّن كلّم (2)اللّه لا من الجنّ و لا من الإنس؟ فقال: «السماوات و الأرض في قوله: اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (3).

أقول: عليه يكون المراد من إتيانهما طاعتهما إياه في الحركات و السكنات و غيرهما.

ثمّ قيل: إنّ أول ما أجاب اللّه تعالى من الأرض موضع الكعبة، و من السماء ما بحذائها، فجعل اللّه لها حرمة على سائر الأرض حتى كانت كعبة الاسلام و قبلة للأنام (4).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 12

ثمّ بيّن سبحانه ما أوجده بإرادته النافذة بقوله: فَقَضاهُنَّ و أتمّ خلقهنّ حال كونهن، أو كان قضاهن سَبْعَ سَماواتٍ طباق عظام بحيث تكون الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كنسبة حصاة صغيرة إلى الفلاة الواسعة، و كذا السماء الاولى بالنسبة إلى الثانية، و هكذا إلى السابعة فِي مقدار يَوْمَيْنِ من أيام الدنيا من الزمان.

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (12)قيل: خلق سبحانه ما في الأرض في يوم الثلاثاء و الأربعاء، و السماوات و ما فيهنّ في يوم الخميس إلى آخر ساعة من يوم الجمعة، و في الساعة الآخرة منها خلق آدم، و هي الساعة التي فيها القيامة (5).

وَ أَوْحى اللّه تعالى فِي كُلِّ سَماءٍ بعد خلقهن أَمْرَها قيل: يعني خلق فيها شمسها و قمرها و نجومها، و خلق في كلّ منها ما فيها من الملائكة و جبال البرد و البحار (6).

و قيل: يعني حكم في كلّ منها بما أراد، فانّ له تعالى على أهل كلّ سماء تكليفا خاصّا بأهلها، منهم قيام لا يقعدون، و منهم ركوع لا ينتصبون، و منهم سجود لا يرفعون رؤوسهم إلى غير ذلك (7)، و إضافة الأمر إلى نفس السماء للملابسة (8).

وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا و القريبة من الأرض بكواكب متلألئة تشبّه بِمَصابِيحَ مضيئة، بعضها ثوابت، و بعضها سيّارات، وَ حفظناها حِفْظاً بديعا من الآفات، و صعود الشياطين إليها،

ص: 443


1- . تفسير روح البيان 8:236.
2- . في النسخة: تكلم.
3- . تفسير القمي 2:263، تفسير الصافي 4:254.
4- . تفسير روح البيان 8:236.
5- . تفسير الرازي 27:107، تفسير أبي السعود 8:6، تفسير روح البيان 8:239.
6- . تفسير روح البيان 27:107.
7- . تفسير الرازي 27:107، تفسير روح البيان 8:238.
8- . تفسير روح البيان 8:238.

و استراق السمع منها، بالشّهب المنفصلة من الكواكب.

في فضيلة أهل

البيت عليهم السّلام

في (الإكمال) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «النجوم أمان لأهل السماء، فاذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، و أهل بيتي أمان لأهل الأرض، فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» (1).

ذلِكَ المذكور المفصّل من بدائع الخلق تَقْدِيرُ الإله اَلْعَزِيزِ و القدير الذي لا تناهي لقدرته اَلْعَلِيمِ الذي لا نهاية لعلمه، فيفعل ما يشاء، و يعلم مصالح الامور.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته، أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتهديد المشركين بقوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الايمان باللّه و بتوحيده، و لم يتفكّروا فيما خلقه اللّه إبداعا من الموجودات العلوية و السّفلية فَقُلْ لهم يا محمّد: إنّي أَنْذَرْتُكُمْ و خوّفتكم من أن ينزل اللّه عليكم صاعِقَةً من السماء و عذابا شديدا، يكون مِثْلَ صاعِقَةِ قوم عادٍ وَ قوم ثَمُودَ و العذاب النازل عليهم، لأنّكم إذن كالحطب اليابس الذي لا يليق إلاّ للاحراق بالنار، و إنّما خصّ سبحانه القبيلتين بالذكر لأنّ أهل مكّة كانوا كثيرا يمرّون في أسفارهم إلى الشام و اليمن على ديارهم،

و يرون آثار العذاب فيها إِذْ جاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ الذين أرسلوا إليهم، و حين دعوهم إلى الايمان بالتوحيد و المعاد مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ و اجتهدوا في إرشادهم من جميع الجهات و الجوانب.

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)قيل: هو كناية عن انحاء النصح من الرفق و العنف و الترغيب و الترهيب (2)، و يحتمل كونه كناية عن شدّة إصرارهم على دعوتهم، و تبليغ ما ارسلوا به، و هو أَلاّ تَعْبُدُوا أيّها القوم إِلاَّ اَللّهَ وحده، فاجابهم قومهم و قالُوا استخفافا بهم و تكذيبا لهم لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال رسول من قبله إلينا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته حتى لا نشكّ في صدقهم، و نسارع إلى الايمان بهم، فلمّا لم تكونوا ملائكة، بل تكونون بشرا مثلنا، لا فضيلة لكم علينا فَإِنّا برسالتكم و بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من التوحيد على زعمكم كافِرُونَ و جاحدون.

روي أنّ ابا جهل قال يوما في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما

ص: 444


1- . كمال الدين:205/19، تفسير الصافي 4:354.
2- . تفسير روح البيان 8:242.

بالشعر و السّحر و الكهانة فكلّمه، ثمّ أتانا ببيان عن أمره. فقال عتبة بن ربيعة: و اللّه لقد سمعت السحر و الشعر و الكهانة، و علمت من ذلك علما، و ما يخفى عليّ. فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد اللّه؟ لم تشتم آلهتنا و تضلّلنا؟ فان كنت تريد الرئاسة عقدنا لك اللواء، فكنت رئيسنا، و إن يكن بك الباء زوّجناك عشر نسوة تختارهنّ، أيّ بنات شئت من قريش، و إن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ساكت. فلمّا فرغ عتبة قال صلّى اللّه عليه و آله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم* تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ إلى قوله: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (1).

فأمسك عتبة على فيه، و ناشده بالرّحم، و رجع إلى أهله، و لم يخرج إلى قريش، فلمّا احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلاّ قد صبا، فانطلقوا إليه، و قالوا: يا عتبة، ما حبسك عنّا إلاّ أنّك قد صبأت. فغضب و أقسم أنّه لا يكلّم محمدا أبدا، ثمّ قال: و اللّه لقد كلّمته فأجابني بشيء ما هو بشعر و لا سحر و لا كهانة. فلمّا بلغ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ أمسكت بفي و ناشدته بالرّحم، و لقد علمت أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب (2).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 15 الی 18

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كفر عاد و ثمود، بيّن طغيانهم بقوله: فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا و تعظّموا في أنفسهم فِي وجه اَلْأَرْضِ التي كانوا فيها بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بلا استحقاق للكبر و التعظّم، و إنّما رأوا عظم أجسامهم و شدّة قوّتهم وَ قالُوا اغترارا بها مَنْ هو أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً؟

فَأَمّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ اَلْعَذابِ اَلْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18)ثمّ ردّهم سبحانه و وبّخهم على اغترارهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا لم يعلموا اولئك المغرورون أَنَّ اَللّهَ القادر اَلَّذِي خَلَقَهُمْ و أعطاهم تلك القوة هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً و أكثر منهم قدرة، إذ من الواضح أنّ قوة المخلوق من عطاء الخالق و كمال قوته و قدرته وَ كانُوا من غاية عتوّهم

ص: 445


1- . فصلت 41/1-13.
2- . تفسير الرازي 27:111، تفسير أبي السعود 8:8، تفسير روح البيان 8:242.

و استكبارهم بِآياتِنا المنزلة على الرسل، أو دلائل توحيدنا و قدرتنا يَجْحَدُونَ و ينكرون عنادا و لجاجا، فلمّا جمعوا بين التكبّر و الغرور و إنكار الآيات، صاروا مستحقين لعذاب الاستئصال

فَأَرْسَلْنا غضبا عَلَيْهِمْ رِيحاً عقيما صَرْصَراً و باردا كما عن الباقر عليه السّلام (1)، لها صوت شديد هائل في هبوبها فِي أَيّامٍ و ليال نَحِساتٍ و مشؤومات، ليس فيها خير-على ما قيل-من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء، الذي كان آخر الشهر (2). قيل: ما عذّب قوم إلاّ في الأربعاء (3).

قيل: أمسك اللّه عنهم المطر ثلاث سنين، و دامت عليهم الرياح من غير مطر (4).

عن جابر بن عبد اللّه: إذا أراد اللّه بقوم خيرا أرسل عليهم المطر، و حبس عنهم كثرة الرياح، و إذا أراد اللّه بقوم شرّا حبس عنهم المطر، و سلّط عليهم كثرة الرياح (5).

و على أيّ حال كان إرسال الريح عليهم لِنُذِيقَهُمْ اللّه بها عَذابَ الاستئصال الذي كان سبب اَلْخِزْيِ و الذّلّ لهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا قبل عذاب الآخرة وَ و اللّه وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ الذي أعدّ لهم في القيامة أَخْزى و أكثر إذلالا لهم و افتضاحا حال كونه في مشهد خلق الأولين و الآخرين وَ هُمْ حين ابتلائهم لا يعاونون على دفعه و لا يُنْصَرُونَ من أحد بوجه من الوجوه، لا في الدنيا و لا في الآخرة.

و إنّما عذّبهم اللّه بالريح لأنّهم اغترّوا بعظم أجسادهم و شدّة قوّتهم، حتى ظنّوا أن شيئا لا يقاومهم، فسلّط اللّه عليهم الريح، لينبهّهم أنّهم لا يقاومون الريح التي هي أخفّ و ألطف من سائر الأشياء، فكيف بأجسام هي أثقل و أقوى منها؟ فصارت تلك الأجسام العظيمة كريشة طير أو تبن في الهواء.

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح، و يقول: «اللهمّ اجعلها رحمة و لا تجعلها عذابا، اللهمّ اجعلها لنا رياحا و لا تجعلها ريحا» (4).

أقول: الظاهر أنّ (الرياح) إشارة إلى قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ (5)و إلى قوله: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (6)و يُرْسِلَ اَلرِّياحَ مُبَشِّراتٍ (7)و قوله: رِيحاً إشارة إلى قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً.

وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ إلى الحقّ و إلى طريق الجنّة و الراحة الأبدية، بارسال الرسول و نصب

ص: 446


1- . تفسير القمي 2:263، تفسير الصافي 4:355.
2- . تفسير روح البيان 8:244.
3- . تفسير البيضاوي 2:351، تفسير أبي السعود 8:9، تفسير روح البيان 8:244. (4 و 5) . تفسير روح البيان 8:244.
4- . تفسير روح البيان 8:245.
5- . الحجر:15/22.
6- . الفرقان:25/48.
7- . الروم:30/46.

الدلائل عليه فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى و الضلال و عدم البصيرة، و آثروه عَلَى اَلْهُدى و البصيرة، و اختاروا الكفر و رجّحوه على الايمان.

عن الصادق عليه السّلام: «عرّفناهم فاستحبوا العمى على الهدى و هم يعرفون» (1).

و عنه عليه السّلام: «عرّفناهم وجوب الطاعة، و تحريم المعاصي، و هم يعرفون» (2).

فَأَخَذَتْهُمْ عقوبتنا على كفرهم و طغيانهم صاعِقَةُ اَلْعَذابِ و الداهية التي هي في إفادتها لهوانهم بلغت إلى مرتبة يصحّ أن يقال هي عين اَلْهُونِ و الذّلّ، و ذلك الأخذ معلّل بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و يعملون من ترجيح الضلالة على الهدى، و اختيار الكفر و العصيان على الايمان و الطاعة

وَ نَجَّيْنَا من ذلك العذاب اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و برسوله صالح وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشّرك و العصيان.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 19 الی 21

ثمّ إنّه تعالى بعد حكاية عذابهم الدنيوي، أخبر عن عذابهم الاخروي بقوله: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ و التقدير و اذكر يا محمد لقومك يوم يحشر و يجمع الأقوام المذكورون الذين هم أَعْداءُ اَللّهِ و يساقون إِلَى شفير اَلنّارِ و باب من أبواب جهنّم فَهُمْ يُوزَعُونَ و يحبسون في الطريق ليتلاحقوا.

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اَللّهِ إِلَى اَلنّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)

عن الباقر عليه السّلام: «يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا» (3)فهم كذلك حَتّى إِذا ما حضروا النار، و جاؤُها أنكروا صدور الأعمال القبيحة منهم، و استحقاقهم النار، فعند ذلك شَهِدَ عَلَيْهِمْ على رؤوس الأشهاد سَمْعُهُمْ و اذنهم بما سمعت من الأقوال و الأصوات المحرّمة وَ أَبْصارُهُمْ بما بصرت من المحرمات وَ جُلُودُهُمْ و قشور أبدانهم بما لا مست من المحرّمات و بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الجرائم و الشرور.

قيل: إنّ المراد بالجلود سائر الجوارح و الأعضاء (4)، فتخبر كلّ جارحة بما صدر من الأعمال السيئة

ص: 447


1- . التوحيد:411/4، تفسير الصافي 4:355.
2- . اعتقادات الصدوق: ، تفسير الصافي 4:355.
3- . تفسير الصافي 4:356، مجمع البيان 9:12، و تفسير أبي السعود 8:9، لم ينسباه إلى أحد.
4- . تفسير روح البيان 8:247.

من صاحبها روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ضحك يوما حتى بدت نواجذه، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «ألا تسألون ممّ ضحكت؟» قالوا: ممّ ضحكت يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، قال: يقول: يا رب، أ ليس قد وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فانّ لك ذلك. قال: فإنّي لا أقبل شاهدا إلاّ من نفسي. قال اللّه تعالى: أو ليس كفى بي شهيدا، أو بالملائكة الكرام الكاتبين؟ فيقول: أي ربّ، أجرني من الظّلم، فلن أقبل شاهدا إلاّ من نفسي. فيختم على فيه، و تتكلّم الأركان بما [كان]يعمل، قال: فيقول: بعدا لكنّ و سحقا عنكنّ، كنت اجادل» (1). و قد مرّ ما يقرب منه في سورة يس.

عن القمي: نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها، و يقولون: ما عملنا شيئا منها فأشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم، قال: قال الصادق عليه السّلام: «فيقولون للّه: يا ربّ، هؤلاء ملائكتك يشهدون لك. ثمّ يحلفون اللّه ما فعلوا من ذلك شيئا-إلى أن قال-فعند ذلك يختم اللّه على ألسنتهم، و ينطق جوارحهم، فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم اللّه، و يشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم اللّه عز و جل، و تشهد اليدان بما أخذتا، و تشهد الرجلان بما سعتا فيما حرّم اللّه عزّ و جل، و يشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم اللّه» الخبر (2).

وَ قالُوا توبيخا لِجُلُودِهِمْ و أعضائهم، أو خصوص قشورهم: أيّها الجلود لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مع أنّا كنّا ندافع عنكم؟ قيل: إنّ تخصيص الجلود بالتوبيخ، لكونها بمرأى منه، أو أبعد من الشهادة، لعدم كون شأن الإدراك اللازم في الشهادة، و هو الادراك بالرؤية و السمع (3).

أقول: فيه ما فيه.

و عن ابن عباس: المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج، لأنّها لا تخلو من الجلود، و اللّه حيّي يكنّي (4).

و عن الصدوق، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «يعني بالجلود الفروج» (5).

و عن الصادق عليه السّلام «يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ» (6).

و إنّما خصّ الأعضاء الثلاثة بالشهادة بناء على إرادة القشور أو الفروج من الجلود، لكون المعاصي الصادرة بها أكبر و أعظم من المعاصي الصادرة بالشمّ و الذوق، بل ما يصدر بالذوق داخل في معاصي الجلود.

قالُوا لأصحابهم ببيان لائق بهم، كما أنّ لكلّ شيء نطقا و بيانا مناسبا لشأنه: أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي

ص: 448


1- . تفسير روح البيان 8:248.
2- . تفسير القمي 2:264، تفسير الصافي 4:356.
3- . تفسير روح البيان 8:248.
4- . تفسير الرازي 27:116، تفسير روح البيان 8:248.
5- . من لا يحضره الفقيه 2:381/1627، تفسير الصافي 4:356.
6- . الكافي 2:30/1، تفسير الصافي 4:356.

أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ بتسبيحه و غيره، فمع قدرتنا على النّطق، لم يكن لنا أن نكتم الشهادة عند اللّه بما عملتم بواسطتنا من القبائح وَ هُوَ القادر الذي خَلَقَكُمْ و أوجدكم أَوَّلَ مَرَّةٍ في الدنيا وَ إِلَيْهِ بعد خروجكم منها تُرْجَعُونَ فكيف يستبعد منه إنطاق جوارحكم و أعضائكم.

و قيل: إنّه ابتداء كلام اللّه لا كلام الجلود (1).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 22 الی 25

ثمّ قرّر سبحانه كلام الجلود بتوبيخ أعدائه و تقريعهم في ذلك اليوم بقوله: وَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَتِرُونَ أعمالكم مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ في هذا اليوم سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ على قبائح أعمالكم عند اللّه، لعدم اعتقادكم بالبعث و جزاء الأعمال، و عدم تصوركم إمكان شهادتها عليكم وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ و توهّمتم حين استتاركم أَنَّ اَللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ من القبائح خفية و سرا، فلا يؤاخذكم بها في الآخرة على تقدير وقوعها و فرض إمكانها، و لذلك أجترأتم على ما فعلتم خفية.

وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ (24) وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)عن ابن مسعود، قال: كنت مستترا باستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر: ثقفيان و قرشي، أو قرشيان و ثقفي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم. فقال أحدهم: أترون أنّ اللّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا، و لا يسمع إن أخفينا. فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى: وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآية (2).

وَ ذلِكُمْ الظنّ يا أعداء اللّه ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ المحيط بكم و بأعمالكم الخفية و الجلية أَرْداكُمْ و أهلككم فَأَصْبَحْتُمْ و صرتم بسببه مِنَ جملة اَلْخاسِرِينَ و المتضررين بأعظم الضرر في الآخرة، حيث ضيّعوا أعمارهم و عقولهم و جوارحهم التي سببا

ص: 449


1- . تفسير روح البيان 8:248.
2- . تفسير الرازي 27:117، تفسير أبي السعود 8:10، تفسير روح البيان 8:249.

لتحصيل سعادة الدارين،

و حصّلوا بها شقاوة النشأتين فَإِنْ يَصْبِرُوا على ألم النار، و لم يجزعوا، و لم يستغيثوا إلى أحد برجاء الفرج فَالنّارُ الموقدة مَثْوىً و مأوى لَهُمْ أبدا وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا و يطلبوا رضا ربّهم و يسألوا منه النجاة فَما هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ و المجابين إلى مسؤولهم، فيكون صبرهم و جزعهم سواء، لا يفيد شيء منهما خلاصهم من النار و نجاتهم من العذاب.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب ابتلائهم بالكفر بقوله: وَ قَيَّضْنا و قدّرنا لَهُمْ في الدنيا قُرَناءَ و أصدقاء من شياطين الإنس و الجنّ بأن خلّينا بينهم و بين هؤلاء المعاندين، و سلبنا عنهم التوفيق فَزَيَّنُوا هؤلاء الشياطين القرناء لَهُمْ و حسّنوا في نظرهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من امور الدنيا وَ ما خَلْفَهُمْ من امور الآخرة، بأن أروهم أن لا بعث و لا حساب.

و قيل: لمّا كان كلّ أحد مقبلا إلى الآخرة، كان ما بين أيديهم امور الآخرة، و ما خلفهم نسيان الذنوب (1).

وَ حَقَّ و ثبت عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ و الوعد بالعذاب فِي أُمَمٍ و قرون قَدْ خَلَتْ و مضت من الدنيا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ على الكفر و الطّغيان.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أن الظانّين باللّه ظنّ السوء من جملة الخاسرين، و في زمرة الامم الماضية المهلكة، قال: إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ الذين اولئك الظانّون من جملتهم و في زمرتهم.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 26 الی 29

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة أعدائه، و شدّة عذابهم في الآخرة، بيّن شدّة عداوة قريش للّه و لرسوله، و سعيهم في صرف الناس عن استماع القرآن و الايمان به بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء المشركين لأبتاعهم و ضعفائهم، أو بعضهم لبعض: لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ إذا قرأ به محمد أو أحد من المؤمنين به وَ اِلْغَوْا فِيهِ و اشتغلوا حين قراءته بالأباطيل كقصص رستم و إسفنديار، و التصفيق و الصّفير و الرّقص، على ما قيل (2)لَعَلَّكُمْ بهذه الأفعال و الأقوال تَغْلِبُونَ على قراءته،

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اَللّهِ اَلنّارُ لَهُمْ فِيها دارُ اَلْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ (29)

ص: 450


1- . تفسير روح البيان 8:251.
2- . تفسير روح البيان 8:252.

فلا يتمكّن القارئ من القراءة، و لا المستمع من الاستماع، لتشتّت حواسّهم و التشويش و التلبيس عليهم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: فَلَنُذِيقَنَّ هؤلاء اَلَّذِينَ كَفَرُوا و سعوا في تلبيس الحقّ بالباطل، و لغوا في القرآن عَذاباً شَدِيداً لا يقادر قدره، و لا يمكن في هذا العالم وصفه وَ و اللّه لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الجزاء اَلَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.

عن ابن عباس: عذابا شديدا يوم بدر، و اسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة (1).

ذلِكَ الجزاء الأسوأ هو جَزاءُ أَعْداءِ اَللّهِ و هي اَلنّارُ و قيل: إنّ النار مبتدأ و خبره قوله: لَهُمْ، و على الوجه الأوّل من كون النار بيانا للجزاء، يكون المعنى لَهُمْ فِيها دارُ اَلْخُلْدِ و منزل الإقامة الأبدية (2).

و قيل: إنّ المراد أنّ لهم في النار المشتملة على الدركات دارا مخصوصة يخلّدون فيها (3)، أو اسمها دار الخلد.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ ذلك الجزاء هو مقتضى العدل بقوله: جَزاءً بِما كانُوا في الدنيا بِآياتِنا المنزلة تصديقا لرسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و هداية إلى الدين الحقّ يَجْحَدُونَ و يلغون فيها بسبب جحودهم إياها. قيل: إنّ التقدير يجزون جزاء (4)، و يحتمل كون (جزاء) مفعولا لأجله، و المعنى أنّ الخلود في النّار لأجل كونه جزاء بعوض جحودهم الآيات

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حين دخولهم في النار، و تقلّبهم في العذاب رَبَّنا أَرِنَا و عرّفنا الشياطين اَلَّذَيْنِ أَضَلاّنا و حرفانا عن صراط دينك مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ بالتسويل و التزيين.

و قيل: إنّ المراد من الإنس قابيل الذي سنّ القتل ظلما، و من الجنّ الشيطان الذي سنّ الكفر (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعنون إبليس الأبالسة، و قابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية» (6).

و عن السجاد عليه السّلام: «تأويل الإنس بفلان» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «تأويلهما بهما» (8).

ص: 451


1- . تفسير أبي السعود 8:12، تفسير روح البيان 8:252.
2- . تفسير روح البيان 8:252.
3- . تفسير أبي السعود 8:12، تفسير روح البيان 8:253.
4- . تفسير روح البيان 8:253.
5- . تفسير أبي السعود 8:12، تفسير روح البيان 8:253.
6- . مجمع البيان 9:17، تفسير الصافي 4:358.
7- . تفسير نور الثقلين ج 4:545.
8- . الكافي 8:334/523، تفسير الصافي 4:358، و فيهما: قال: هما، ثم قال: فلان شيطانا.

نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما (1)بها لِيَكُونا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ و الأذلّين أو الأنزلين منّا مكانا، و الأشدّين منّا عذابا، تشفيّا منهما بذلك، أو نجعلها في الدّرك الأسفل من النار.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 30

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في وعيد أعدائه و المشركين، و أطنب في تهديدهم، بيّن لطفه بالموحّدين و إحسانه باوليائه المؤمنين بقوله: إِنَّ المؤمنين اَلَّذِينَ قالُوا بألسنتهم و قلوبهم: رَبُّنَا اَللّهُ وحده لا شريك له في الوهيته و ربوبيته ثُمَّ اِسْتَقامُوا على التوحيد، و ثبتوا على ذلك الاعتقاد و القول، لم يزلّ قدمهم عن صراط عبوديته، و أخلصوا دينهم له، و أعرضوا عمّا سواه، و عملوا بمقتضاه من اجتناب الكبائر، و أداء الفرائض إلى أن خرجوا من الدنيا.

إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «إنّي متكلّم بعدّة اللّه و حجّته، قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا الآية» . ثمّ قال: «فاستقيموا على كتابه، و على منهاج أمره، و على الطريقة الصالحة من عبادته، لا تمرقون منها، و لا تبتدعون فيها، و لا تتخلّفون عنها» (2).

و عن القمي: استقاموا على ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام (3).

و عن الرضا عليه السّلام، أنّه سئل ما الاستقامة؟ قال: «هي و اللّه ما أنتم عليه» (4).

تَتَنَزَّلُ من قبل اللّه عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ عند الموت-كما عن القمي (5)-بالبشارة، و هي أَلاّ تَخافُوا أيّها الموحّدون من إصابة مكروه بعد الموت و بعد اليوم وَ لا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من نعم الدنيا و مفارقة ما خلّفتم من الأهل و الأولاد و الأحبّة وَ أَبْشِرُوا و افرحوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا تُوعَدُونَ بها على إيمانكم و أعمالكم الصالحة في كتاب اللّه و على لسان رسوله.

عن العسكري عليه السّلام-في حديث يذكر حضور ملك الموت عند المؤمن حين نزعه-قال: «فيقول ملك الموت: فانظر فوقك، فينظر فيرى درجات الجنان و قصورها التي تقصر عندها الأماني، فيقول ملك الموت: تلك منازلك و نعمك و أموالك و أهلك و عيالك، و من كان من أهلك هاهنا و ذرّيتك صالحا فهم هنالك معك، أفترضى بهم بدلا ممّا هاهنا؟ فيقول: بلى و اللّه. ثمّ يقول: انظر فينظر فيرى محمدا و عليا صلوات اللّه عليهما و الطيّبين من آلهما في أعلى علّيين. فيقول: أتراهم هؤلاء ساداتك

ص: 452


1- . في النسخة: ندسهما.
2- . نهج البلاغة:253/176، تفسير الصافي 4:358.
3- . تفسير القمي 2:265، تفسير الصافي 4:358.
4- . مجمع البيان 9:17، تفسير الصافي 4:359.
5- . تفسير القمي 2:265، تفسير الصافي 4:358.

و أئمّتك؟ هم هنالك حلاّسك و انّاسك، أفما ترضى بهم بدلا ممّا تفارق هنا. فيقول: بلى و ربّي، فذلك ما قال اللّه عز و جل: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ إلى قوله: أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا فما أمامكم من الأهوال قد كفيتموها و لا تحزنوا على ما تخلفونه من الذراري و العيال، فهذا الذي شاهدتموه في الجنان بدلا منهم وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ هذه منازلكم، و هؤلاء ساداتكم و أنّاسكم و جلاسكم» (1).

و قيل: إنّ البشارة في المواقف الثلاثة عند الموت، و في القبر، و عند البعث إلى القيامة» (2).

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 31 الی 33

ثمّ لمّا أخبر سبحانه عن كون شياطين الإنس و الجنّ قرناء الكفّار و المشركين، بشّر بأنّ الملائكة أولياء الموحّدين المؤمنين، حيث حكى عن الملائكة أنّهم يقولون للمؤمن: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ و أصدقائكم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعماركم فيها، و أعوانكم في امور دينكم، بالهامكم الحقّ و إرشادكم إلى ما فيه خيركم و صلاحكم، و يحفظكم من الزّلات بدل و ساوس الشياطين و تسويلاتهم في قلوب الكفّار و إضلالهم إياهم.

نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اَللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (33)روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: من لاحظ في أعماله الثواب و الأغراض، كانت الملائكة أولياءه، و من عملها على مشاهدته تعالى فهو وليّه لأنّه يقول: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا (3).

وَ فِي اَلْآخِرَةِ بتبشيركم بالجنّة، و شفاعتكم، و تلقّيكم بالسلام و التحية و الإكرام، و هدايتكم إلى الجنّة وَ لَكُمْ فِيها من النّعم الجسمانية ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ و تلذّ أعينكم وَ لَكُمْ فِيها من الحظوظ الروحانية ما تَدَّعُونَ و ما تتمنّون، كما عن ابن عباس (4).

و في تكرار لَكُمْ فِيها و عدم الاقتصار بعطف (ما تدعون) على (ما تشهى) إيذان باستقلال كلّ منهما بالبشارة حال كونهما نُزُلاً و رزقا مهيئا للضيف مِنْ قبل إله غَفُورٍ للذنوب، و مبدّل للسيئات بالحسنات رَحِيمٍ بالمؤمنين الصالحين باعلاء درجاتهم، و فنون إكراماتهم، و في التعبير-كما ذكر-بالنّزل و تقديمه

ص: 453


1- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:239/117، تفسير الصافي 4:360.
2- . تفسير الرازي 27:122، تفسير روح البيان 8:255.
3- . تفسير روح البيان 8:256.
4- . تفسير الرازي 27:123.

الضيف، دلالة على أن ما أعدّ لهم بعد ذلك من عظائم الامور بالنسبة إلى ما ذكر أكثر بمراتب (1).

ثمّ لمّا حكى سبحانه الأقوال السيئة عن الكفّار، كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ . . . وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (2)و قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا اَلْقُرْآنِ (3)أخبر بأنّ أقوال المسلمين أحسن الأقوال بقوله:

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً من أطيب كلاما مِمَّنْ دَعا الناس إِلَى اَللّهِ و إلى توحيده، و معرفة صفاته الكمالية، و طاعته و عبادته وَ عَمِلَ نفسه عملا صالِحاً فانّ أعظم الطاعات دعوة الخلق إلى الحقّ، مع كون عمله موافقا لقوله، و اختار دين الاسلام الذي هو الدين المرضيّ عند اللّه وَ قالَ ابتهاجا به: إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ.

قيل: إنّ المراد من الداعي إلى اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (4). و قيل: هم المؤذّنون (5)، قيل: كان بلال يؤذّن و يقول اليهود: غراب أسود يدعو إلى الصلاة! فنزلت الآية (6).

و عن العياشي: أنّها في عليّ عليه السّلام (7). و قيل: إنّ المراد هو العموم (8).

أقول: من المعلوم أنّ أكمل مصاديق الداعي هو النبيّ و الوصيّ صلوات اللّه عليهما و الكمّلون من أصحابهما.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 34

ثمّ رغّب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في الدعوة إلى الحقّ بعد بيان كونها أحسن الأقوال بقوله: وَ لا تَسْتَوِي الأقوال اَلْحَسَنَةُ التي منها دعوتك إلى الدين الحقّ، و الصبر على أذى قومك وَ لا الأقوال اَلسَّيِّئَةُ و التي منها الصادرة من المشركين المعاندين للحقّ، كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ و نظائره في الجزاء و العاقبة، فانّ أقوالك الحسنة موجبة لعظمتك في الدنيا و علوّ درجاتك في الآخرة، و الأقوال السيئة من أعدائك موجبة لانحطاطهم و عقوبتهم في الدارين، فلا يفتّرك سيئات أقوالهم و أعمالهم في اجتهادك في الدعوة، بل عليك بالجدّ و الصبر على أذاهم و اِدْفَعْ سيئتهم التي اعترضتك بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و الطرق في دفعها، و هي الرفق و المداراة و مقابلة إساءتهم

وَ لا تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)

ص: 454


1- . تفسير روح البيان 8:257.
2- . فصلت:41/5.
3- . فصلت:41/26.
4- . تفسير الرازي 27:125، تفسير روح البيان 8:257.
5- . تفسير الرازي 27:125، تفسير أبي السعود 8:14، تفسير روح البيان 8:257، و في النسخة: هو المؤذنون.
6- . تفسير روح البيان 8:259.
7- . تفسير الصافي 4:361.
8- . تفسير أبي السعود 8:14.

بالاحسان، و سفاهتهم و سوء صنيعهم بالصبر و الحلم و حسن البشر و لين الكلام فَإِذَا قابلت إساءتهم بالاحسان، و خرقهم بالرّفق، و سفاهتهم بالحلم، و افعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة، يستحي منك العدوّ، و يترك أفعاله القبيحة، و انقلب من البغضة إلى المحبة، و يصير اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كأبي سفيان و أضرابه كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ و صديق قريب.

روى بعض العامة أنّها نزلت في أبي سفيان، و ذلك أنّه لان للمسلمين بعد الشدّة بالمصاهرة التي حصلت بينه و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ أسلم فصار وليا بالاسلام، حميما بالقرابة» (1).

عن الصادق عليه السّلام-في الآية-قال: «الحسنة التقية، و السيئة الإذاعة» (2)الخبر.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 35 الی 37

ثمّ عظّم سبحانه تلك السجية بقوله: وَ ما يُلَقّاها و لا ينالها إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على المكاره و الشدائد، و حبسوا أنفسهم عن إظهار الغضب، و لا يعطى تلك الخصلة و السّجية، أو خصلة الصبر وَ ما يُلَقّاها من قبل اللّه إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من كمال النفس و حسن الأخلاق و فضائل الانسانية، أو ذو حظّ عظيم من المثوبات الآخروية، أو من الجميع.

وَ ما يُلَقّاها إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (36) وَ مِنْ آياتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (37)عن الصادق عليه السّلام: «إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا في الدنيا على الأذى (3)وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير و كمال النفس» .

ثمّ لمّا كان الغضب و الخرق من الشيطان، ذكر سبحانه طريق دفعه بقوله: وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ و يهيّجنك إلى مقابلة الاساءة بالاساءة، و الإقدام على الانتقام مِنَ قبل اَلشَّيْطانِ الموسوس نَزْغٌ و مهيّج فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ من شرّه و وسوسته، و اسأل اللّه حفظك من تسويلاته إِنَّهُ تعالى وحده هُوَ اَلسَّمِيعُ لاستعاذتك، و المجيب لدعائك اَلْعَلِيمُ بخلوص نيّتك، و صميمية دعائك.

القمي، قال: المخاطبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى للناس (4).

ص: 455


1- . تفسير أبي السعود 8:14، تفسير روح البيان 8:262.
2- . الكافي 2:173/6، مجمع البيان 9:20، تفسير الصافي 4:361.
3- . مجمع البيان 9:20، تفسير الصافي 4:361.
4- . تفسير روح البيان 8:265.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إذا غضبت و كنت قائما فاقعد، و إن كنت قاعدا فقم، و استعذ باللّه من الشيطان» (1).

ثمّ لما مدح سبحانه الدعوة إلى اللّه و إلى توحيده، شرع في بيان أدلّة توحيده و قدرته و حكمته بقوله: وَ مِنْ أدلّة توحيده و آياتِهِ الدالّة على قدرته و حكمته اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهارُ و تعاقبهما، و قد مرّ نكتة تقديم الليل.

ثمّ لمّا كان جمع من المشركين عبدة الشمس و القمر، ذكرهما لمناسبة الليل و النهار بقوله: وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ دائبان بأمره، ثمّ نهى عن عبادتهما بقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا أيّها الناس لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ لأنّهما حادثان مربوبان مسخّران تحت أمر خالقهما وَ اُسْجُدُوا لِلّهِ القادر اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ بقدرته لنظام العالم إِنْ كُنْتُمْ بالسجود لهما للّه تسجدون و إِيّاهُ تَعْبُدُونَ فانّ السجود خضوع خاصّ بمقام الربوبية و الالوهية، لا يجوز لغير اللّه.

قيل: إنّ الصابئين كانوا يسجدون للنّيّرين (2)و يقولون: إنّا نسجد لها، و نقصد به السجود للّه، فنهوا عن عبادته بتلك الواسطة (3).

أقول: يمكن أن يقال: علّة سجودهم للنّيّران (4)أوّل ابتداعه ذلك، إلاّ أنّه انتهى الأمر إلى الاعتقاد بخالقيتهما.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ لمّا كان السجود لهما بهذا الاعتقاد من باب الاشتباه في المصداق، حيث إنّهم كانوا يعتقدون أنّ مصداق الخالق هو الشمس مثلا، و الحال أنّه هو اللّه، ففي الحقيقة كان سجودهم للّه، فيكون المراد إن كنتم تعبدون الخالق الذي هو اللّه في الواقع، لا تسجدوا للشمس، بل اسجدوا للّه الذي هو تكوّن الشمس من مخلوقاته فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا و تعظّموا عن عبادة اللّه الذي تقول بألوهيته، فانّه غنيّ عن عبادتهم و سجودهم له فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة المقرّبين يعبدونه دائما و يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و ينزّهونه عن الشريك وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ و لا يملّون عن عبادته و تسبيحه.

فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ اَلَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ اَلْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

ص: 456


1- . تفسير روح البيان 8:265.
2- . النّيّرين: الشمس و القمر.
3- . تفسير روح البيان 8:266.
4- . في النسخة: لينروان.

قيل: إنّ المراد إن استكبروا عن إطاعة أمرك، و لم يسجدوا للّه، لا يقلّ بذلك عدد من يخلص عبادته للّه (1)، فانّ الملائكة المقرّبين مع كثرتهم و قربهم للشمس و القمر، يعبدون اللّه، و يسبّحونه دائما، و لا يسجدون لهما.

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الفلكية، استدلّ بالآيات الأرضية بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ أيّها الانسان الشاعر البصير تَرَى اَلْأَرْضَ قبل نزول المطر عليها خاشِعَةً و منحطّة يابسة لا نبات فيها و لا بركة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ بالأمطار اِهْتَزَّتْ و تحرّكت بالنبات و الزّرع وَ رَبَتْ و انتفخت بسبب انتشار اصول الحشائش و الزروع فيها، فتكون كالميت الذي نفخ فيه الروح فيحيي. ثمّ استدلّ سبحانه على المعاد بقوله: إِنَّ اَلَّذِي أَحْياها بقدرته لَمُحْيِ اَلْمَوْتى من الأولين و الآخرين يوم البعث إِنَّهُ من الأشياء من الإبداء و الاعادة قَدِيرٌ لا تناهي لقدرته.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 40 الی 43

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض آيات التوحيد، هدّد المجادلين فيها بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ و يحرفون عن سبيل الحقّ بالطعن فِي آياتِنا و إلقاء الشّبهات فيها لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا و لا يسترون منّا، و لا يغيبون عنا، فنسوقهم يوم القيامة إلى النار، و نلقيهم فيها، إذن فانظروا أيّها العقلاء أَ فَمَنْ يُلْقى بالعنف فِي اَلنّارِ على وجهه خَيْرٌ مألا و أحسن حالا أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من كلّ مكروه يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و يدخل في جنّة عدن، لا شكّ أنّ الثاني خير.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي اَلنّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ اَلْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)ثمّ بالغ في التهديد بقوله: اِعْمَلُوا أيّها الكفّار ما شِئْتُمْ من القبائح و الفواحش، فانّكم لا تخرجون من سلطان اللّه، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمالكم، فيجازيكم عليها أسوأ الجزاء، و لم يمنع استعجاله في العذاب إلا الحكمة، فانّها اقتضت إمهالكم، و لا يخاف الفوت.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الملحدين في آياته ازديادا لإرعاب قلوبهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 457


1- . تفسير روح البيان 8:266.

بِالذِّكْرِ و ألحدوا في القرآن لَمّا جاءَهُمْ و حين قرى عليهم من غير تفكّر و تدبّر فيه من وجوه الإعجاز، سيعذّبون بكفرهم و إلحادهم أشدّ العذاب، و كيف يكفرون به وَ الحال إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ و قاهر بالحجّة على سائر الكتب، و مهيمن عليه، أو كثير النفع لعامة الناس،

أو بلا نظير و شبيه لعدم كون كتاب معجزا إلاّ هو لا يَأْتِيهِ اَلْباطِلُ و لا يتطرّق إليه المعارض مِنْ الكتب التي بَيْنِ يَدَيْهِ و من قبله وَ لا من الكتب و الدفاتر التي مِنْ خَلْفِهِ و من بعده، و إنّما اطلق الباطل على المعارض، تنبيها على أنّ كلّ معارض له باطل و فاسد.

قيل: إنّ المراد بالباطل الذي بين يديه النقيصة، و الذي من خلفه الزيادة (1).

و قيل: إنّ المعنى لا يجد الباطل إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يتصل به (2)، فعبّر عن جميع الجهات بأظهرها، و هو القدّام و الخلف، أو المراد لا يأتيه الباطل فيما أخبر به عمّا مضى، و لا فيما أخبر به عمّا يأتى (3).

و عنهما عليهما السّلام: «ليس في إخباره عمّا باطل، و لا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقه لمخبراتها» (4)كلّ لأنّه تَنْزِيلٌ و كتاب منزل مِنْ إله حَكِيمٍ و عالم بحقائق الامور و مصالح الأشياء، لا يفعل و لا يقول شيئا إلاّ بالحكم الكثيرة، و لا ينزل كتابا على من يشاء إلاّ بمصالح و فيرة حَمِيدٍ في أحكامه و أفعاله، محمود على نعمه الجسمانية و الروحانية، التي منها هذا الكتاب العظيم.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ألا إنّها ستكون فتنة. فقلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال: كتاب اللّه، فيه نبأ ما قبلكم، و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة و لا يشبع منه العلماء، و لا يخلق من كثرة الردّ، و لا تنقضي عجائبه، و هو الذي لم تنته الجنّ حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ من قال به صدق، و من عمل به رشد، و من حكم به عدل، و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (5).

و من العجب أنّه مع عظمة هذا القرآن، و ظهور كونه معجزا نازلا إليك يا محمد ما يُقالُ لَكَ من

ص: 458


1- . تفسير الرازي 27:131.
2- . تفسير الرازي 27:132، تفسير روح البيان 8:270.
3- . تفسير روح البيان 8:270.
4- . مجمع البيان 9:23، تفسير الصافي 4:362.
5- . تفسير روح البيان 8:270.

جهة كفّار قومك في شأنك و شأن كتابك إِلاّ ما قَدْ قِيلَ من جهة الامم الماضية لِلرُّسُلِ العظام الذين كانوا مِنْ قَبْلِكَ في حقّهم من أنّهم سحرة، أو كهنة، أو مجانين. و في حقّ الكتب السماوية المنزلة عليهم من أنّها أساطير و نحوها.

و قيل: يعني ما يقال لك من قبل اللّه إلاّ ما قيل من قبله للرسل (1)من الأمر بالصبر على سفاهة القوم و أذاهم.

و إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لأوليائه المؤمنين بك و بهم وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لأعدائه الكافرين بك و بهم، المكذّبين لكتابك و كتبهم، فاسع أنت يا حبيبي في التبليغ و الدعوة إلى الحقّ، ثمّ فوّض أمر الناس إليّ، فانّي اعاملهم على حسب استحقاقهم.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 44

ثمّ بيّن سبحانه قطع عذر العرب في الايمان بالقرآن بقوله: وَ لَوْ أنزلنا القرآن و جَعَلْناهُ قُرْآناً و كتابا أَعْجَمِيًّا و منّظما بلغة العجم لَقالُوا اعتراضا عليك و توبيخا لك: لَوْ لا فُصِّلَتْ و هلاّ بيّنت آياتُهُ بلسان نفهمه ءَ كلام، أو كتاب أَعْجَمِيٌّ يوتى إلينا وَ نحن قوم عَرَبِيٌّ لا نفهم شيئا منه؟ و هذا من الغرائب الدالة على كذب كتابك.

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنه ليس لمشركي العرب الاعتذار من عدم إيمانهم بعدم فهمهم القرآن، و كونه بغير لسانهم، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبيّن لهم علّة عدم إيمانهم، و كون قلوبهم منصرفة عنه، و عدم سماعهم آياته، كما قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ . . . وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (2)بقوله: قُلْ يا محمد لهم: هُوَ لِلَّذِينَ لم يكن في قلوبهم تعصّب و عناد و لجاج و آمَنُوا بالطوع و الرغبة و طلبا للحقّ هُدىً من الضلال و رشاد إلى الحقّ و جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية وَ شِفاءٌ من الأمراض الباطنية كالشكّ و الأخلاق الرذيلة وَ اَلَّذِينَ يستكبرون عن قبول الحقّ، و يصرّون على تقليد الآباء و الكبراء و لا يُؤْمِنُونَ عنادا و لجاجا، كأنّه فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ و ثقل و صمم، لا يسمعون القرآن وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى و موجب لذهاب بصرهم و بصيرتهم، بحيث لا يرون ما فيه من الإعجاز، و ما في الرسول من دلائل الصدق، كما قالوا: بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ (3)بل أُولئِكَ البعداء عن ساحة

ص: 459


1- . مجمع البيان 9:25.
2- . فصلت:41/5.
3- . فصلت:41/5.

رحمة اللّه و سعادة الدارين، إذا تليت عليهم الآيات، أو ذكرت عندهم المواعظ و العبر، كأنّهم يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عنهم غايته، بحيث لا يكاد يسمع منه الكلام، بل إنّما يسمع النداء و الصوت.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ لمّا كان عناد المشركين و إنكارهم صدق القرآن و طعنهم فيه سببا لايذاء قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله، سلاّه سبحانه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى بن عمران التوراة، و أنزلنا إليه ذلك اَلْكِتابَ لهداية قومه فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمنهم من آمن به، و منهم من كفر، كما اختلف قومك في كتابك، فمنهم من صدّقه، و منهم من كذّبه، فليس اختلاف قومك في صدق كتابك أمرا بديعا مختصا بقومك، بل هي عادة قديمة للامم وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ و عدة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حقّ امّتك المكذّبة بالإمهال و عدم استئصالهم بالعذاب في الدنيا بقوله: بَلِ اَلسّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ (1)و قوله: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ (2)تاللّه لَقُضِيَ و حكم بَيْنَهُمْ باستئصال المكذّبين بالعذاب، كما فعل بمكذبي الامم السابقة وَ إِنَّهُمْ ليسوا بقاطعين بكذب كتابك، بل هم و اللّه لَفِي شَكٍّ من صدق كتابك و ترديد مِنْهُ ترديد مُرِيبٍ و موقع قلبهم في الغلق و الاضطراب، فلا تستعظم استيحاشك من تكذيبهم،

و اعلم أنّه مَنْ عَمِلَ صالِحاً من الايمان بكتابك و تعظيمه، و التمسّك به، و العمل بأحكامه فَلِنَفْسِهِ نفعه لا يتعدّى إلى غيره وَ مَنْ أَساءَ و أعرض عنه، و كفر به و طعن فيه فَعَلَيْها ضرره لا عليك و لا على أحد غيره.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)ثمّ قرّر ذلك سبحانه بقوله: وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ بل هو العادل الذي لا يمكن منه الجور، فلا يعذّب غير المسيء، و لا المسيء زائدا على استحقاقه، و لا يضيع أجر المحسنين، و لا ينقص منه. قيل: من ظلم و علم أنّه ظلم فهو ظلاّم. و قيل: إنّ صيغة المبالغة باعتبار كثرة العبيد، لا باعتبار كثرة الظلم. و قيل: إنّ اصله: و ما ربك بظالم، ثمّ نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة، فكانت المبالغة راجعة إلى النفي، و المعنى أنّ الظلم منفيّ عنه نفيا موكّدا مضاعفا (3).

ص: 460


1- . القمر:54/46.
2- . الأنفال:8/33.
3- . تفسير روح البيان 8:274.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ لمّا هدّد سبحانه الكفّار بأنّ ضرر كفرهم راجع إليهم، كان مجال السؤال عن وقته، فأجاب سبحانه تعالى بقوله: إِلَيْهِ تعالى وحده يُرَدُّ عِلْمُ وقت عذابهم، و هو يوم اَلسّاعَةِ و القيامة. ثمّ بيّن سبحانه إحاطته بالحوادث المستقبلة في هذا العالم بقوله تعالى: وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ ذات أكمام و قشور، أو أوعية مِنْ أَكْمامِها و أوعيتها أو قشورها العليا (1)كالجوز و اللوز و نظائرهما وَ ما تَحْمِلُ و لا تحبل مِنْ أُنْثى من الانسان و سائر الحيوانات وَ لا تَضَعُ حملها بِعِلْمِهِ و مقرونا باحاطته، و إنّه إذا سئل أحد عن (2)هذه الامور، لا بدّ له من ردّ علمه إلى اللّه، و يقول: اللّه يعلم، كما يرد العلم بسائر الحوادث الكونية إليه، و لعلّ ذكر الجمل الثلاث من خروج الأثمار و الحمل و الوضع لشباهتها بالبعث من القبور، فليس لأحد أن يسأل عن وقت الساعة من (3)أحد، و له أن يسأل عنها بأهوالها وَ هو يَوْمَ يُنادِيهِمْ قيل: إنّ التقدير: و اذكر يا محمد لقومك يوم يناديهم اللّه (4)، توبيخا لهم، و يقول: أيّها المشركون أَيْنَ شُرَكائِي الذين زعمتم فادعوهم ليخلّصوكم اليوم من عذابي قالُوا يا ربّ آذَنّاكَ و أسمعناك، كما عن ابن عباس (5)ما من أحد مِنّا مِنْ شَهِيدٍ يشهد بأنّ الأصنام شركاءك، إذ تبرّأنا منهم لمّا عاينّا الحال، أو المراد ما منّا أحد يشاهدهم، إذ ضلّوا عنّا،

كما قال سبحانه: وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ و يعبدونه مِنْ قَبْلُ و في زمان حياتهم في الدنيا وَ ظَنُّوا و أيقنوا بأنّه ما لَهُمْ في ذلك اليوم مِنْ مَحِيصٍ و مهرب من العذاب، و مخلص من النار.

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنّاكَ ما مِنّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)و قيل: إنّ قوله: ما مِنّا مِنْ شَهِيدٍ كلام الأصنام، و المعنى ما منّا من شهيد بصحّة ما نسبوا إلينا من الشركة، و على هذا يكون معنى وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أنّه لا ينفعهم (6)، فيكون حضورهم كغيبتهم.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 49 الی 50

لا يَسْأَمُ اَلْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ اَلسّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)

ص: 461


1- . في النسخة: الأعلى.
2- . في النسخة: من.
3- . في النسخة: عن.
4- . تفسى روح البيان 8:276.
5- . تفسير الرازي 27:136.
6- . تفسير الرازي 27:137.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه يأس المشركين فى القيامة من الخلاص من العذاب، بيّن يأسهم في الدنيا من رحمة اللّه عند ابتلائهم بالضرر بقوله: لا يَسْأَمُ و لا يملّ اَلْإِنْسانُ بالطبع و الجبلّة مِنْ دُعاءِ اَلْخَيْرِ و طلب النفع الدنيوي و الاخروي وَ لكن إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ و أصابه الضرر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ و مبالغ في قطع الرجاء من الرحمة، بحيث تظهر آثار اليأس في وجهه و أعضائه.

و حاصل المراد-و اللّه أعلم-أنّ حال جنس الانسان و طبيعته دائر بين الحرص إلى الفوائد بحيث لا يقف على حدّ كلّما وجد طلب الزيادة، و القنوط الذي هو شدّة اليأس.

ثمّ ذمّه سبحانه على سوء حاله و مقاله عند عود النعمة بقوله: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ و أنعمنا عليه رَحْمَةً و نعمة كائنة مِنّا و بتفضّلنا كالصحة و الغنى و الأمن و نحوها مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ و بلية أصابته من فقر و مرض و خوف و أمثالها لَيَقُولَنَّ غرورا و جهلا هذا الخير العائد إلى حقّ لِي وصل إليّ بفضلي و علميّ لا يزول عنّي أبدا، فيشتغل بالنعمة عن المنعم، و جهل أنّه عطاء من ربّه ليبلوه أيشكر أم يكفر، بل يبالغ في الكفر بقوله: وَ ما أَظُنُّ أنّ اَلسّاعَةَ قائِمَةً و القيامة آتية، كما يزعم المؤمنون بالمعاد وَ لَئِنْ رُجِعْتُ ورددت إِلى رَبِّي على تقدير قيامها و صحة قول القائلين بالمعاد و دار الجزاء، و بعثت من القبر للحساب عند اللّه إِنَّ لِي عِنْدَهُ و اللّه لَلْحُسْنى و الدرجة العليا من النّعم و الكرامة، لأنّ استحقاقي للنعم الدنيوية ملازم لاستحقاقي للنّعم الاخروية مع كون قياس أمر الآخرة على أمر الدنيا من الأوهام الفاسدة و الأماني الكاذبة فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و لنعلمنّهم يوم القيامة بِما عَمِلُوا من الكفر و المعاصي بتجسّم أعمالهم بالصور الواقعية التي تكون لها فينفر منها حتى يتمنّى أن بينه و بينها أمدا بعيدا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ و نطعمنّهم مِنْ طعم عَذابٍ غَلِيظٍ و عقاب شديد لا يمكن وصفه، و لا يعرف كنهه، بدل ما توهّموه من أنّ لهم عند اللّه المثوبة الحسنى و الكرامة العليا.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 51 الی 52

ص: 462

ثمّ بعد حكاية أقواله السيئة، حكى سبحانه أفعاله الشنيعة بقوله: وَ إِذا أَنْعَمْنا بنعمة عَلَى اَلْإِنْسانِ أبطرته و أَعْرَضَ عن الشكر، و كفر بتلك النعمة وَ نَأى بِجانِبِهِ و تباعد بكلّيته عن التّوجّه إلى منعمه تكبّرا و تعظّما، و تولّى بركنه عن طاعة ربّه وَ إِذا مَسَّهُ و أصابه اَلشَّرُّ و الضرر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ و تضرّع طويل.

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى اَلْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)

ثمّ بعد إثبات التوحيد، و حكاية إعراض المشركين عن القرآن و مجادلتهم، و تهديدهم بالعذاب، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالترغيب إلى الايمان بالقرآن بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المشركين المعرضين عن القرآن أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني أيّها العقلاء إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و نازلا منه، ثمّ أنتم كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر و تدبّر مع وضوح كونه منه بأدنى نظر، أ لستم في شقاق من اللّه و عناد معه؟ و مَنْ أَضَلُّ و أبعد من طريق الحقّ مِمَّنْ هُوَ كائن فِي شِقاقٍ و خلاف بَعِيدٍ عن الوفاق، و معاداة بعيدة عن الموالاة.

سوره 41 (فصلت): آیه شماره 53 الی 54

ثمّ لمّا كان عمدة أسباب إعراض المشركين عن القرآن نهيه عن الشرك، و دعوته إلى التوحيد، بيّن سبحانه أنّ جميع الموجودات أدلّة التوحيد بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا و أدلّة توحيدنا أنّا بعد آن و مرة بعد اخرى بذكر أحوال الموجودات فِي اَلْآفاقِ و أقطار السماوات و الأرض، و التنبيه على ما فيها من عجائب الصّنع وَ فِي أَنْفُسِهِمْ و عجائب خلقتهم و أحوالهم حَتّى يَتَبَيَّنَ و يتّضح لَهُمْ توحيد خالقها، و أَنَّهُ اَلْحَقُّ الذي لا يمكن للعاقل الترديد فيه أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ و لم يغنه عن إراءة الآيات أن يروا بفكرهم أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ و كلّ موجود من النّقير القطمير شَهِيدٌ و ناظر، يدبّره كيف يشاء على وفق صلاحه، كما قيل: سبحان من هو عند كلّ شيء و قبله و بعده (1). و روي أنّه ما رأيت شيئا إلاّ و رأيت اللّه قبله و بعده و معه (2).

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)و عن الصادق عليه السّلام: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد من العبودية وجد في الربوبية، و ما خفي عن الربوبية اصيب في العبودية. قال اللّه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ إلى قوله: شَهِيدٌ أي موجود في غبيتك و حضرتك» (1).

ص: 463


1- . مصباح الشريعة:7، تفسير الصافي 4:365.

أقول: يحتمل أن يكون المراد أنّه يعرف حقيقة الربوبية بمعرفة العبودية، فما فقد من العبودية من الكبرياء و العزّة و الغنى المطلق و العلم بحقائق الأشياء و خفاياها و المغيبات و القدرة الكاملة و غيرها من الكمالات، وجد في الربوبية، فانّ العبودية ذلّة و مسكنة و فقر و جهل و عجز و عدم و فناء، و ما خفي من الربوبية من الكمالات اصيب في العبودية، فانّ العبد بالتفكّر فيما له من الصفات الكمالية، يعلم الكمالات الربوبية؛ لأنّه يرى الكمالات الحاصلة من ربّه، و لا يمكن أن يكون معطى الشيء فاقدا.

قيل: إنّ المراد بالآيات الآيات الدالة على حقّانية القرآن، و كونه من عند اللّه (1)، و المراد بالآيات الافاقية ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله من الحوادث الآتية، كغلبة الروم على فارس في بضع سنين، و ما وقع في الامم الماضية الموافقة لما هو المضبوط في كتب التواريخ و الأنبياء السابقة، مع كون النبي اميا لم يقرأ و لم يتعلّم (2)، أو ما وقع له من الفتوحات و الغلبة على آفاق الدنيا على وجه خارق للعادة (3)، و من قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ هو القحط في مكّة و ما حلّ بأهلها من الخوف و القتل و الأسر (4).

و قيل: إنّ المراد من آيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة (3)، و من آيات أنفسهم فتح مكّة (4).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ عدم تفكّر المشركين في الآيات لجرأتهم على اللّه، لعدم اعتقادهم بالآخرة بقوله: أَلا أيّها العقلاء إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ و شكّ عظيم، و شبهة شديدة مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ بعد الموت، و حضورهم عنده للحساب و جزاء الأعمال، و لذا يجترئون على اللّه في مخالفته و ترك التفكر في آيات توحيده، و رسالة رسوله، و صدق كتابه، فيقولون ما يقولون، و يعملون ما يعملون أَلا أيّها المشركون باللّه، المنكرون للقائه إِنَّهُ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ ظاهره و باطنه مُحِيطٌ بحيث لا يخفى عليه منهم خافية، فيجازيكم على كفركم و سوء نياتكم و جدالكم في الحق أسوأ الجزاء.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ حم السجدة، كانت له نورا يوم القيامة لبصره و سرورا، و عاش في الدنيا محمودا مغبوطا» (5).

و عن (الخصال) عنه: «إنّ العزائم أربع» وعدّ منها هذه السورة (6).

الحمد للّه على إتمام تفسيرها.

ص: 464


1- . تفسير أبي السعود 8:19، تفسير روح البيان 8:281.
2- . تفسير روح البيان 8:281. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 8:19، تفسير روح البيان 8:281.
3- . تفسير الرازي 27:139.
4- . تفسير أبي السعود 8:19.
5- . ثواب الاعمال:113، تفسير الصافي 4:365.
6- . الخصال:252/124، تفسير الصافي 4:365.

في تفسير سورة الشورى

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت، و كانت مبتدئة ببيان عظمة القرآن، و كونه بلغة العرب، و بيان مجادلة المشركين فيه، و طعنهم عليه و ذمّهم، و الجواب عنهم، و بيان أدلّة التوحيد و المعاد و النبوة المختتمة بالوعد بإراءة الآيات الدالّة على التوحيد و صدق القرآن، نظمت سورة حمعسق المبدوءة بتعظيم ما أوحي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، المشتملة على بيان النبوة، و إظهار المنّة على العرب بإنزال القرآن بلسانهم، و ذكر الآيات الدالة على التوحيد، و تهديد المجادلين فيها بقوله: وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا (1)و غير ذلك من المطالب العالية المناسبة للسورة السابقة، فابتدأها بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (3)

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله: حم* عسق جلبا لتوجّه القلوب إلى المطالب المهمة المذكورة بعدها، و قد مرّ مرارا أنّ كلّ حرف رمز عن الأسماء الحسنى.

عن الصادق عليه السّلام: «معناه الحكيم المثيب العالم السميع القادر القوي» (2). و أيضا رمز عن العلوم الكثيرة، ليستنبطها الراسخون في العلم، و قيل: كلّ واحد من حم و عسق اسم لهذه السورة، و لذا يفصل بينهما (3).

ثمّ عظّم سبحانه المطالب المذكورة في هذه السورة بقوله: كَذلِكَ الموحى في هذه السورة، و مثل ما بها من التوحيد و المعاد و النبوة، و ما فيه صلاح العباد في المعاش و المعاد، أو مثل ذلك الايحاء يُوحِي إِلَيْكَ في سائر السور إِلَى الرسل اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكَ في الكتب المنزلة عليهم اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ و الإله القادر العليم، الذي لا تناهي لعلمه و قدرته و حكمته، فانّ

ص: 465


1- . الشورى:42/35.
2- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:366.
3- . تفسير البيضاوي 2:358، تفسير أبي السعود 8:21، تفسير روح البيان 8:285.

إيحاء هذه المطالب العالية و المباحث القدسية الإلهية ببيان معجز، لا يصدر إلاّ ممّن له كمال القدرة و العلم، و إنّما أتى بصيغة المضارع مع أنّ المناسب ذكر لفظ الماضي، بلحاظ ذكر الرسل السابقة، للدلالة على أنّه عادته المستمرة و تجدّده وقتا بعد وقت.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم ما أوحي بتعظيم ذاته المقدسة بقوله: لَهُ تعالى بالملكية الإشراقية الإيجادية ما فِي اَلسَّماواتِ السبع وَ ما فِي اَلْأَرْضِ ظاهرها و باطنها وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ و المرتفع عن أن تدركه العقول و الأوهام اَلْعَظِيمُ الذي تصغر عنده العظماء

تَكادُ اَلسَّماواتُ مع عظمهنّ و غاية ثخونتهنّ يَتَفَطَّرْنَ و يتشققن من عظمته و خشيته و مهابته مِنْ العرش الذي هو في فَوْقِهِنَّ إلى السماء الدنيا التي هي أسفل من كلّهن، بأن لا تبقى سماء إلاّ سقطت، و إنّما خصّ بدو التفطّر بالعرش لظهور عظمته منه.

لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ (1) تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ اَلْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَلا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (2)قيل: إنّ المراد من قوله: مِنْ فَوْقِهِنَّ المبالغة في حصول الإشقاق إلى الجميع، كقوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ (3).

و قيل: إنّ ضمير (فوقهن) راجع إلى الأرضين (4)وَ اَلْمَلائِكَةُ الذين لا يعلم عددهم و عظمة خلقهم إلاّ اللّه يُسَبِّحُونَ و ينزّهون مقرونا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ عبودية و تعظيما له وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ من المؤمنين، كما عن الصادق عليه السّلام (5)، إشفاقا بهم.

في الحديث: «ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ و فيه ملك واضع جبهته ساجدا للّه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ (4).

و قيل: إنّ المراد بالملائكة حملة العرش خاصة (5).

أقول: في الآية دلالة على أنّ كمال العبادة التوجّه إلى اللّه، و الاشفاق على الخلق.

قيل: إنّ الجواهر الروحانية لها جهتان: جهة الاستفاضة من المبدأ الأعلى، وجهة الإفاضة إلى العالم الجسماني الأدنى (6)، فقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إشارة إلى الجهة الاولى، و قوله:

ص: 466


1- . تفسير روح البيان 8:287.
2- . تفسير روح البيان 8:287.
3- . تفسير الرازي 27:144.
4- . تفسير أبي السعود 8:22.
5- . جوامع الجامع:427، تفسير الصافي 4:367.
6- . الرازي 27:245.

وَ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى الجهة الثانية.

ثمّ لمّا كان تنزيه الذات عن النقائص الامكانية مقدّما على كونه مفيضا للخيرات، قدّم التسبيح الدالّ على التنزيه على الحمد الدالّ على فيّاضيّته.

و قيل: إنّ المراد باستغفارهم لأهل الأرض، تأثيرهم في نظم أحوال العالم على النحو الأصلح و الأصوب (1).

و قيل: هو شفاعتهم في حقّ المؤمنين، و دعاؤهم في حقّ الكفّار بأن لا يعجّل اللّه في عقوبتهم، أو يوفّقهم للإيمان (2).

ثمّ حثّ سبحانه الناس على طلب المغفرة للذنوب، و سؤال ما يحتاجون إليه في دينهم و دنياهم من اللّه تعالى بقوله: أَلا أيّها الناس إِنَّ اَللّهَ هُوَ وحده اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين، فتوجّهوا إليه و اسألوه غفران ذنوبكم و خير دنياكم و آخرتكم.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ ذمّ سبحانه المشركين الذين توجّهوا إلى غيره، و طلبوا الخير من الأصنام و هدّدهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ تعالى مع أنّه ولي المؤمنين أَوْلِياءَ و جعلوا له شركاء اَللّهُ العظيم حَفِيظٌ و رقيب عَلَيْهِمْ و على أحوالهم و أعمالهم لا يفوته شيء منها، يحاسبهم عليها وَ ما أَنْتَ يا محمد عَلَيْهِمْ من قبل اللّه بِوَكِيلٍ و مفوّض إليك أمرهم حتى تسأل عنهم و تؤاخذهم، إنّما أنت منذر،

و عليك البلاغ وَ كَذلِكَ الوحي الذي كان للأنبياء من قبلك بلسان قومهم أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد قُرْآناً عَرَبِيًّا و كتابا عظيم الشأن بلسان قومك لِتُنْذِرَ العرب الذين يسكنون أُمَّ اَلْقُرى و أصل البلدان، و هو مكّة، لكون الأرض مدحوّة من تحتها وَ مَنْ حَوْلَها و في أطرافها من سائر الأرض وَ تُنْذِرَ الناس و تخوّفهم يَوْمَ اَلْجَمْعِ و الحشر الذي يجتمع فيه أهل السماوات و أهل الأرضين من الأولين و الآخرين و الجنّة و الناس أجمعين، فانّه لظهور وجوب وقوعه لا رَيْبَ فيه، و لا مجال لشكّ يعتريه، ثمّ إنهم بعد الجمع يفترقون فرقتين: فَرِيقٌ منهم-و هم المؤمنون-يدخلون و يسكنون فِي اَلْجَنَّةِ بفضل اللّه وَ فَرِيقٌ آخر منهم-

وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اَللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ (7)

ص: 467


1- . تفسير الرازي 27:145.
2- . تفسير الرازي 27:145.

و هم الكفار-يصلون فِي اَلسَّعِيرِ و النار الملتهبة غضبا عليهم.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ لما قال سبحانه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: لا تكون على المشركين وكيلا، و لا تقدر على جمعهم على الحقّ، بيّن أنّ تلك القدرة للّه بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ اجتماع جميع الناس على الحقّ لَجَعَلَهُمْ بالقهر أُمَّةً واحِدَةً و فريقا واحدا متّفقين على دين واحد، كما عن ابن عباس (1)وَ لكِنْ لم يشأ اللّه ذلك، لاختلاف طينتهم، و اقتضاء الحكمة ايكالهم إلى إرادتهم و اختيارهم، و جعل التكليف عليهم، ليميّز الخبيث من الطيّب، و الشقيّ من السعيد، فإذن يُدْخِلُ اللّه مَنْ يَشاءُ توفيقه لطيب طينته، و قوّة عقله، و سلامة نفسه فِي رَحْمَتِهِ و دينه الحقّ في الدنيا، و جنّته في الآخرة، لأنّه وليّه و ناصره وَ أمّا اَلظّالِمُونَ الذين اتّخذوا من دونه أولياء ما لَهُمْ في الدنيا، و لا في الآخرة مِنْ وَلِيٍّ و حافظ لصلاح، يعينهم على ما فيه خيرهم و صلاحهم وَ لا نَصِيرٍ يدفع عنهم العذاب الدنيوي و الاخروي.

وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللّهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

ثمّ أكّد سبحانه توبيخ المشركين على اتّخاذهم الاصنام أولياء بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ لأنفسهم من الأصنام التي لا قدرة لها و لا شعور أَوْلِياءَ لا و اللّه هذا غاية السّفه و الحمق، فمن طلب وليا يستفيد من ولايته فَاللّهُ وحده هُوَ اَلْوَلِيُّ الحقيقي الذي بيده الامور كلّها من الخير و الشرّ وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتى و ليس في عالم الوجود من له هذه القدرة، بل وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ إيجادا و إعداما و تصرّفا و تقلّبا قَدِيرٌ.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 10

ثمّ لمّا بيّن تفرّق الناس و اختلافهم في الدين، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنهي المؤمنين عن مخاصمة الكفّار و منازعتهم في شيء و التوّكل على اللّه في دفع كيدهم بقوله: وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ قيل: إنّ التقدير: قل يا محمد للمؤمنين ما اختلفتم فيه أيّها المؤمنون مع الكفّار مِنْ شَيْءٍ من امور الدين فَحُكْمُهُ

وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللّهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

ص: 468


1- . تفسير أبي السعود 8:23، تفسير روح البيان 8:290.

راجع إِلَى اَللّهِ من إثابة المؤمنين المحقّين، و تعذيب الكفّار المبطلين يوم الفصل و القضاء (1).

قيل: إنّ المراد فما أختلفتم فيه، فتحاكموا إلى الرسول (2).

و قيل: يعني و ما اختلفتم فيه من الامور التي لا ترتبط بالأحكام كمسألة الروح، فقولوا: اللّه أعلم (3). و ما اختلفتم فيه من المتشابهات، فارجعوا إلى المحكمات ذلِكُمُ الحاكم بالحقّ اَللّهِ الذي هو رَبِّي و ربّكم عَلَيْهِ خاصّة تَوَكَّلْتُ في جميع اموري التي منها دفع شرّ الأعداء و المشركين وَ إِلَيْهِ وحده أُنِيبُ و أرجع في جميع المهمّات و المعضلات، و لمّا كان التوكّل أمرا وحدانيا مستمرا، أتى بصيغة الماضي، و أمّا الإنابة فهي متجدّدة حسب تجدّد الحوائج، و لذا أتى بصيغة المضارع، فكلوا أنتم يا أتباعي على اللّه، و أنيبوا إليه.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ لمّا كان التوكّل التامّ و الإنابة في جميع الامور و الحوائج موقوفا على العلم بكمال قدرة اللّه و لطفه و رأفته، عرّف سبحانه قدرته و رأفته. و علمه بقوله: فاطِرُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ خالقهما و جَعَلَ لَكُمْ و خلق لطفا بكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم بقدرته و لطفه و إحسانه أَزْواجاً وَ حلائل، و خلق مِنَ اَلْأَنْعامِ للأنعام أَزْواجاً و قيل: يعني و خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا و إناثا (2)، لترتفقوا بها، و هو بسبب الإزدواج يَذْرَؤُكُمْ و يكثركم أيّها الناس و الأنعام، أو يبثّكم بهذا التدبير الذي به التوالد و التناسل، و فِيهِ و إنّما ذكر سبحانه كلمة (فيه) في محلّ (به) تنزيلا للتدبير و الازدواج منزلة المعدن للبثّ و التكثير، و في استعمال ضمير (كم) الذي هو للخطاب إلى جماعة العقلاء، مع أنّ الأنعام غير عقلاء، و غائبة لتغليب العقلاء، و الخطاب على غير العقلاء و الغيب (3).

فاطِرُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)لَيْسَ كَمِثْلِهِ و شبيه نظيره على تقدير وجود المثل و النظير له شَيْءٌ و موجود من الموجودات، فكيف بأن لا يكون له مثل و نظير؟ ففيه مبالغة في نفي المثل له تعالى. و قيل: إنّ الكاف

ص: 469


1- . تفسير أبي السعود 8:24. (2 و 3) . تفسير الرازي 27:149.
2- . تفسير أبي السعود 8:24، تفسير روح البيان 8:292.
3- . في تفسير روح البيان 8:293: ففيه تغليبان، تغليب المخاطب على الغائب، حيث لم يقل يذرأكم و أياهن لأن الأنعام ذكرت بلفظ الغيبة، و تغليب العقلاء على غيرهم، حيث لم يقل يذرأها و أياكم فان (كم) مخصوص بالعقلاء.

هنا زائدة (1).

و على أي تقدير لا شبهة أنّ مثل الشيء هو المشابه له في الذات و الصفات، و لا مشابهة بين الممكن و الواجب، لا في الذات و لا في الصفات، و إن تشاركا في صدق بعض المفاهيم كالموجود و العالم و القادر و السميع و البصير و نظائرها، إلاّ أن بين مناشيها في الواجب و الممكن غاية المغايرة، كما هو محقّق في محلّه.

و لمّا كان سمّاع الوكيل و مرجع الحوائج لمقال المتوكّل و المنيب و رؤية ابتلائهما معتبرا في قضاء الحوائج، وصف ذاته المقدّسة بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لجميع المسموعات اَلْبَصِيرُ بكلّ المبصرات بغير جارحة، بل باحاطته بجميع الموجودات التي منها الأصوات و الأفعال و الكيفيات

لَهُ تعالى مَقالِيدُ خزائن خيرات اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مفاتيحها، لا يتصرّف فيها إلاّ هو يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ و يوسعه لِمَنْ يَشاءُ توسعة رزقه وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء ضيقه حسب علمه بمصالح نظام العالم و مصالح الأشخاص إِنَّهُ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء و مصالحها و مضارّها عَلِيمٌ و خبير.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 13

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بأنّه عالم بالمصالح و المفاسد، و أنّه يوحي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إلى الأنبياء من قبله، بيّن ما أوحى إليه و رآه مصلحة للعباد (2)بقوله: شَرَعَ اللّه و سنّ لَكُمْ يأ امّة محمد مِنَ اَلدِّينِ المرضي عنده ما وَصّى بِهِ نُوحاً الذي [هو]

أول اولي العزم من الرسل، و أمره به أكيدا وَ الدين اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد و خاتم الرسل و آخر اولي العزم منهم، و في تلوين الخطاب من الغيبة إلى التكلّم، و التعبير عن الوصية بالايحاء إليه دلالة واضحة على تعظيمه و رسالته، ردا على المنكرين لها وَ ما وَصَّيْنا و أمرنا بِهِ أكيدا سائر أولي العزم من الرسل الذين بينهما، أعني إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى و ذلك الموصى به و الموحى إليك أمر واحد، و هو أَنْ أَقِيمُوا و أشيعوا متّفقا في النّاس اَلدِّينِ المرضيّ عند اللّه، و هو الاسلام المركّب من التوحيد، و المعارف

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اَللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)

ص: 470


1- . تفسير روح البيان 8:293.
2- . في النسخة: العباد.

الإلهية، و المعاد، و الأخلاق، و الزّهد في الدنيا، و الإقبال إلى الآخرة، و تظاهروا على حفظه و المواظبة عليه وَ لا تَتَفَرَّقُوا و لا تختلفوا فِيهِ.

أقول: فيه دلالة على أنّ أصل الدين من أول الدنيا الاسلام، و الأحكام فروعه التي تختلف باختلاف الاعصار.

و قيل: إنّ المراد اجتمعوا على التوحيد، و لا تتفرّقوا بآلهة كثيرة، فانّ ذلك خلاف العقل، و مع ذلك كَبُرَ و ثقل و شقّ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ قبول ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد و رفض عبادة الأصنام، لخبث طينتهم، و ضعف عقولهم و اَللّهُ يَجْتَبِي و يجمع و يجلب إِلَيْهِ و يوفّق لقبول توحيده مَنْ يَشاءُ توفيقه و جلبه وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالإرشاد و الإمداد و ألطافه الخاصّة مَنْ يُنِيبُ و يقبل إليه بقلب سليم.

روي أنّه تعالى قال: من تقرّب منّي شبرا، تقرّبت منه ذراعا، و من أتاني يمشي أتيته هرولة (1).

قيل: إنّ المعنى من أقبل إليّ بطاعته، أقبلت إليه بهدايتي و إرشادي بأن أشرح صدره و أسهّل أمره (2).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه بعث نوحا إلى قومه أن أعبدوا اللّه و اتّقوه و أطيعوني، ثمّ دعاهم إلى اللّه وحده، و أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا، ثمّ بعث الأنبياء على ذلك، إلى أن بلغوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله فدعاهم إلى أن يعبدو اللّه، و لا يشركوا به شيئا، و قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ إلى قوله: مَنْ يُنِيبُ فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و الإقرار بما جاء من عند اللّه، فمن آمن مخلصا، و مات على ذلك، أدخله اللّه الجنّة بذلك، و ذلك أنّ اللّه ليس بظلام للعبيد، و ذلك إن اللّه لم يكن يعذّب عبدا (1)حتى يغلّظ عليه في القتل و المعاصي التي أوجب اللّه عليه بها النار، فلمّا استجاب لكلّ نبيّ من استجاب له من قومه من المؤمنين، جعل لكلّ نبيّ شرعة و منهاجا، و الشرعة (2)و المنهاج سبيل و سنّة» (3).

و عن الرضا عليه السّلام في تأويله: «نحن الذين شرع اللّه لنا دينه، فقال في كتابه: شَرَعَ لَكُمْ يا آل محمد مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً و وصّينا بما وصّى به نوحا، وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى فقد أعلمنا و بلّغنا علم ما علمنا، و استودعنا علمهم، نحن ورثة أولوا العزم من الرسل أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ يا آل محمد وَ لا تَتَفَرَّقُوا و كونوا على جماعة كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ من أشرك بولاية عليّ ما تَدْعُوهُمْ من ولاية علي، إنّ اَللّهُ يا محمّد يَهْدِي

ص: 471


1- . في النسخة: أنه إن لم يكن يعذب أبدا.
2- . في النسخة: و الشرع.
3- . الكافي 2:24/1، تفسير الصافي 4:369.

إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ من يجيبك إلى ولاية عليّ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ قال: «الامام وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كناية عن أمير المؤمنين ما تَدْعُوهُمْ من ولاية عليّ مَنْ يَشاءُ كناية عن عليّ عليه السّلام. . .» (2).

أقول: لا يخفى اغتشاش الروايتين على ما وجدتهما.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ بيّن سبحانه علّة اختلاف الامم بعد اتفاق الأنبياء في الدين، و نهي الناس عن التفرّق فيه بقوله: وَ ما تَفَرَّقُوا و ما اختلفوا في الدين الحقّ في وقت إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ و حصل لهم اَلْعِلْمُ بحقّانية ذلك الدين المتّفق عليه، بالحجج الظاهرة، و البراهين القاطعة بَغْياً و طلبا للدنيا و شهواتها و جاهها، أو ظلما و عنادا بَيْنَهُمْ لا لخفاء الحقّ و الشّبهة فيه وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ وعدة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بإمهالهم و تأخير عقوبتهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معين عند اللّه، و هو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدّرة، و اللّه لَقُضِيَ و حكم بَيْنَهُمْ باستئصالهم بالعذاب لغاية استحقاقهم و عظمة عصيانهم بالكفر بالتوحيد، و إنكار رسالة الرسول، مع ظهور معجزاته و كثرة دلائل صدقه وَ إِنَّ اليهود و النصارى اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتابَ السماوي من سبابقيهم، و وصل إليهم التوراة و الإنجيل مِنْ بَعْدِهِمْ و في عصر نبيّكم، لا يكونون بقاطعين بكذب القرآن، بل هم و اللّه لَفِي شَكٍّ مِنْهُ و ترديد في صدقه مُرِيبٍ و موقع لقلوبهم في القلق و الاضطراب.

وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (15)

و قيل: إنّ المراد أنّهم لفي شكّ من كتابهم لا يؤمنون به حقيقة (3)فَلِذلِكَ التفرّق و الشكّ الذي يكون لهم في كتابك، أو كتابهم فَادْعُ جميع الناس إلى دين اللّه و توحيده و كتابه وَ اِسْتَقِمْ و اثبت على الدعوة كما أُمِرْتَ من قبل ربّك وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ.

روي أنّه قال الوليد بن المغيرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ارجع عمّا أنت عليه إلى دين آبائك، اعطك نصف مالي.

ص: 472


1- . بصائر الدرجات:139/1، الكافي 1:174/1، تفسير الصافي 4:368.
2- . تفسير القمي 2:274، تفسير الصافي 4:368.
3- . تفسير روح البيان 8:299.

و قال له شيبة بن ربيعة: إن رجعت إلى دين آبائك ازوّجك بنتي. فنزلت وَ اِسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (1).

وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة، و لست كالذين قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض وَ أُمِرْتُ أيضا من قبل ربّي لِأَعْدِلَ في الحكم بَيْنَكُمُ إذا تحاكمتم إليّ، أو المراد لاسوّي بين ضعيفكم و قويكم و وضيعكم و شريفكم في الدعوة و الهداية، أو اسوّي بينكم و بين نفسي بأن احبّ لكم ما احبّ لنفسي، و لا افرّق بين نفسي و بينكم، بأن آمركم بما لا أعمل به، و أنهاكم عمّا لا انتهي عنه اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ليس ربي غير ربّكم لَنا أَعْمالُنا و جزاؤها، لا اعذّب بسيئاتكم، و لا تعذّبون بسيئاتي، فوجب أن يهتمّ كلّ أحد باصلاح عمل نفسه لا حُجَّةَ باقية، و لا مجال بعد للمحاجّة بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ لأنّه أقمت عليكم حجّتي، و وضح عندكم صدقي، فاذا جاء يوم القيامة اَللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا في صعيد واحد وَ إِلَيْهِ وحده اَلْمَصِيرُ و إلى حكمه المرجع، لا يحكم بين الخلق إلاّ هو، و لا يمتنع أحد عن نفوذ حكمه عليه، فيجازينا و إيّاكم على أعمالنا بعد تمامية الحجّة علينا في الدنيا.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ لمّا كان لليهود و النصارى مجال الاحتجاج على صحّة دينهم، بأنّه ممّا اتفق عليه، فلزم أن يكون حقا، ردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ و يخاصمون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين فِي دين اَللّهِ الذي دعا إليه الرسول مِنْ بَعْدِ ما اُسْتُجِيبَ لَهُ من قبل كثير من الناس، أو من قبل المحاجّين في عالم الذرّ و يوم الميثاق حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ و باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ لأنّهم اتّفقوا على وجوب الايمان بمن أدّعى الرسالة، و أتى بمعجزة دالة على صدقه، و لذا آمنوا بموسى و عيسى عليهما السّلام، فلزم من ذلك الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله حيث أتى بمعجزات شاهدوها دالة على صدق دعوى رسالته، فليس لهم التفكيك بين الايمان بموسى عليه السّلام و الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.

وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اُسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اَللّهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ اَلْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ أَلا إِنَّ اَلَّذِينَ يُمارُونَ فِي اَلسّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

ص: 473


1- . تفسير روح البيان 8:299.

ثمّ هدّدهم سبحانه على أباطيلهم بقوله: وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ شديد من اللّه لمكابرتهم الحقّ بعد ظهوره وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يوصف بالبيان على كفرهم.

ثمّ أكد نزول القرآن من اللّه بقوله: اَللّهُ هو اللطيف اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتابَ الجامع للعلوم و الأحكام مقرونا بِالْحَقِّ، و شواهد الصدق، وَ أنزل اَلْمِيزانَ قيل: هو الشرع الذي يوزن به الأعمال، و يعيّن به وزن الأشخاص، و يعتبر به الحقوق (1). و قيل: هو كناية عن نفس العدل في الحقوق، و إنزاله كناية عن الأمر به (2)، أو المراد به معناه الحقيقي لما (3)روي أنّ جبرئيل نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح، فقال له: مر قومك يزنوا به (4).

و قيل: إنّ المراد به خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله (1). و قال القمي: هو أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

أقول: لا شكّ أن المعنيين واحد، و إنّما قرن اللّه الميزان بالكتاب تنبيها على أن العدل في الحقوق أهمّ الامور بعد التوحيد، و أنّه المقصود المهمّ من الكتاب، و أنّ العدل و ميزان الأعمال هو المهمّ في القيامة، و لذا ذكرها بعده بقوله: وَ ما يُدْرِيكَ يا محمد، و أيّ شيء يعلمك بحال الساعة التي هي من العظم و الشدّة و الخفاء بحيث لا يعلم وقت وقوعها أحد إلاّ بإعلامنا لَعَلَّ تلك اَلسّاعَةَ التي نطق بمجيئها الكتاب شيء قَرِيبٌ مجيئها، فكونوا منها على حذر، و تهيئوا لها بأعمالكم، و العجب أنّه مع ذلك

يَسْتَعْجِلُ بِهَا و سأل سرعة مجيئها استهزاء بالكتاب و بالنبي المخبرين بوقوعها الكفّار اَلَّذِينَ لا يعتقدون بالساعة و لا يُؤْمِنُونَ بِها لعدم خوفهم منها، و يقولون: متى هي؟ ليتها قامت حتى يظهر أنّا على الحقّ أم محمد وَ لكن اَلَّذِينَ آمَنُوا بها بإخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه كلّهم مُشْفِقُونَ و خائفون مِنْها و يتداركون لها، و يتمنّون تأخيرها، لأنّهم يتيقّنون وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ الواقع لا محالة أَلا أيّها العقلاء اعلموا إِنَّ السّفهاء اَلَّذِينَ يُمارُونَ و يجادلون النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين فِي إمكان وقوع اَلسّاعَةِ و ينكرون مجيئها عنادا و لجاجا، و اللّه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحقّ، لوضوح إمكانه، و كمال قدرة اللّه على إتيانها، و وضوح وجوب الوفاء بالوعد على اللّه، و وجوب وقوعها، لأنّ استيفاء حقّ المظلوم من الظالم، و عدم التسوية بين المطيع و العاصي واجب، فلو لم تجيء الساعة لزم تضييع حقّ المظلوم و المطيع، و هو محال على اللّه.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 19

اَللّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ (19)

ص: 474


1- . مجمع البيان 9:40، تفسير روح البيان 8:302.
2- . تفسير القمي 2:274، تفسير الصافي 4:370.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه إنزاله الكتاب و الميزان، نبّه كونه لطفا بعباده بقوله: اَللّهُ لَطِيفٌ و كثير الاحسان بِعِبادِهِ المؤمنين، حيث هداهم إلى الإيمان و الخيرات الدنيوية و الاخروية بإنزال الكتاب و إرسال الرسول.

ثمّ لمّا كان مجال القول بأنّ الرزق لطف، و هو للكفّار أكثر من المؤمنين، نبّه بأنّه ليس من جهة اللّطف بقوله: يَرْزُقُ من نعمه الدّنيوية مَنْ يَشاءُ أن يرزقه من المؤمن و الكافر وَ هُوَ اَلْقَوِيُّ القادر على ما يشاء اَلْعَزِيزُ الذي لا يغالب و لا يدافع، و يحتمل أن لا تكون قضية يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ لدفع الدّخل المقدّر، بل للاستشهاد بها على عموم لطفه، و المعنى أنّ شاهد لطفه أنّه يرزق من يشاء أن يرزقه كيفما يشاء، فيخصّ كلا من عباده بنوع من الرزق على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة البالغة.

روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «لطفه في الرزق الحلال، و تقسيمه على الأحوال» (1).

و قيل: يرزق من يشاء بغير حساب (2).

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام. قيل له: اللّه لطيف بعباده يرزق من يشاء. قال: «ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 20

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار لطفه بعباده، حثّهم على العمل للآخرة بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله حَرْثَ اَلْآخِرَةِ فانّه كالبذر لفوائدها و الثمرات الأبدية نَزِدْ و نضاعف لَهُ فِي حَرْثِهِ و أجره و ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ اَلدُّنْيا و فوائدها من الأمتعة و الأموال و الجاه و الرئاسة نُؤْتِهِ شيئا مِنْها حسبما قسمنا له.

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت نيّته الآخرة، جمع اللّه شمله، و جعل غناه في قلبه، و أتته الدنيا و هي راغمة، و من كانت نيّته الدنيا، فرّق اللّه عليه أمره، و جعل فقره بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب اللّه له» (4)وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ شيء مِنْ نَصِيبٍ من الثواب، و حظّ من النّعم، إذ كانت همّته مقصورة على الدنيا، و لكلّ امرئ ما نوى.

ص: 475


1- . تفسير روح البيان 8:305.
2- . تفسير روح البيان 8:304.
3- . الكافي 1:361/92، تفسير الصافي 4:371.
4- . مجمع البيان 9:41، تفسير الصافي 4:371.

عن الصادق عليه السّلام: «المال و البنون حرث الدنيا، و العمل الصالح حرث الآخرة، و قد يجمعها اللّه لأقوام» (1).

و عنه عليه السّلام: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب، و من أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خير الدنيا و الآخرة» (2).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 21 الی 23

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار منّته على العباد، بتشريع الدين المرضيّ عنده لهم، و إنزال الكتاب و الميزان، و بّخ المشركين بقوله: أَمْ لَهُمْ من الأصنام. قيل: إنّ المعنى بل لهم من شياطين الانس و الجنّ (3)الذين زيّنوا لهم عبادة الأصنام شُرَكاءُ للّه شَرَعُوا و سنّوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّهُ و لم يرض به من الشرك و إنكار البعث و حرمة السائبة و الوصيلة و أخواتهما وَ لَوْ لا كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ و الوعد السابق بإمهالهم و تأخير عذابهم إلى الموت، أو الوعد بأنّ الفصل يكون القيامة، و اللّه لَقُضِيَ بين الكافرين و المؤمنين، أو بين المشركين و شركائهم، و يحكم بَيْنَهُمْ بنزول العذاب وَ إِنَّ المشركين الذين هم أظلم اَلظّالِمِينَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ و عقاب موجع غايته.

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى اَلظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ اَلْجَنّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ (22) ذلِكَ اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّهُ عِبادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

ثمّ شرح سبحانه حال المشركين و الموحّدين في الآخرة بقوله: تَرَى يا محمد، أو أيّها الرائي المشركين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بإهلاكها بسبب سوء العقائد و الأعمال مُشْفِقِينَ و خائفين غاية الخوف (من) عذاب ما كَسَبُوا و عملوا من القبائح و السيئات وَ هُوَ لا محالة واقِعٌ بِهِمْ و هم واقعون فيه، [سواء]

كان مشفقين منه أم لا وَ أما اَلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد اللّه وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ فانّهم متمكّنون فِي رَوْضاتِ اَلْجَنّاتِ و أطيب البساتين و أنزهها لَهُمْ ما يَشاؤُنَ و يشتهون من النّعم و اللّذات المدّخرة عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف

ص: 476


1- . تفسير القمي 2:274، تفسير الصافي 4:371.
2- . الكافي 1:37/2، تفسير الصافي 4:371.
3- . تفسير روح البيان 8:308.

بهم ذلِكَ المذكور من المسكن الطيّب و النّعم الفائقة المعدّة للمؤمنين هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ و الإنعام العظيم الذي تصغر دونه الدنيا بحذافيرها ألف ألف مرّة

ذلِكَ الفضل الكبير هو الثواب اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّهُ به في الدنيا عِبادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ على لسان نبيه، و فيه غاية تعظيم الأجر المذكور على الايمان و العمل الصالح.

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى ثمّ لمّا كان مجال توهّم الجاهل طمع النبي صلّى اللّه عليه و آله في الأجر على تبليغ الكتاب و تبشير المؤمنين بالأجر العظيم، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاعلان بأن لا طمع له في الأجر بالمال و الجاه من أحد بقوله: قُلْ يا محمد، للناس: إنّي لا أَسْئَلُكُمْ و لا أتوقّع منكم على التبليغ و التبشير عَلَيْهِ أَجْراً و عوضا دنيويا من مال و جاه و غيرهما، كما لا يطلب اللّه منكم على هدايتكم و إنعامه عليكم و لا الأنبياء السابقون على تبليغهم أجرا و عوضا إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ الكائنة فِي ذوى اَلْقُرْبى و من انتسب إليّ بالنسب.

روى بعض العامة أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم: أترون أن محمدا لا يسأل على ما يتعاطاه أجرا، فنزلت (1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع و قدم المدينة، أتته الأنصار، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ اللّه تعالى قد أحسن إلينا، و شرّفنا بك، و بنزولك بين ظهرانينا، فقد فرّح اللّه صديقنا، و كبت عدوّنا، و قد تأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم، فيشمت بك العدوّ، فنحبّ أن تأخذ ثلث أموالنا، حتى إذا قدم عليك وفد مكّة وجدت ما تعطيهم. فلم يرد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم شيئا، و كان ينتظر ما يأتيه من ربّه، فنزل جبرئيل عليه و قال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى و لم يقبل أموالهم. فقال المنافقون: ما أنزل اللّه هذا على محمد، و ما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه، و يحمل علينا أهل بيته، يقول أمس من كنت مولاه، فعلي مولاه، و اليوم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى» (2).

روى بعض العامة: أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول اللّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «علي و فاطمة و ابناي الحسن و الحسين» (3).

ص: 477


1- . تفسير أبي السعود 8:30، تفسير روح البيان 8:310.
2- . الكافي 1:234/3، تفسير الصافي 4:372.
3- . تفسير الرازي 27:166، تفسير البيضاوي 2:362، تفسير أبي السعود 8:30، تفسير روح البيان 8:311.

و روى العلامة عن الجمهور في الصحيحين، و أحمد بن حنبل في مسنده، الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس، قال: لمّا نزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى قالوا: يا رسول اللّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «علي و فاطمة و ابناهما» (1).

و ردّ بعض العامة هذه الرواية بأنّ السورة مكّية من غير استثناء منها، و لم يكن لفاطمة حينئذ أولاد (2).

في ردّ بعض العامة

أقول: فيه أنّ الدعوى ممنوعة، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّها مدنية (3)، مع أنّه يحتمل تكرار نزولها، و كان السؤال بعد نزولها في المدينة.

و عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه: «لما نزلت هذه الآية، قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أيّها الناس، إنّ اللّه تبارك و تعالى قد فرض عليكم فرضا، فهل أنتم مؤدّوه؟ فلم يجبه أحد منهم، فانصرف. فلمّا كان من الغد قام فقال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، ثمّ قام فقال مثل ذلك في اليوم الثالث، فلم يتكلّم أحد، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ليس من ذهب و لا فضّة و لا مطعم و لا مشرب. قالوا: فألقه إذا. قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل عليّ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى فقالوا: أمّا هذه فنعم» .

قال الصادق عليه السّلام: «فو اللّه ما و فى بها إلاّ سبعة: سلمان، و أبو ذرّ، و عمّار، و المقداد بن الأسود الكندي، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و مولى لرسول اللّه، و زيد بن أرقم» (4).

أقول: هذه الرواية منافية لما روي عنه عليه السّلام في شأن نزولها، إلاّ أن يقال إنّ قيامه كان في مجمع جمع من المنافقين، لم يكن فيهم أحد من الخلّصين كسلمان و أضرابه، و من الذين التمسوا منه قبول ثلث أموالهم للبذل للوفّاد.

و عن عليّ عليه السّلام، قال: «فينا في حم آية، لا يحفظ مودّتنا إلاّ كلّ مؤمن» ثمّ قرأ هذه الآية (5).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «ما يقول أهل البصرة في هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً الآية؟ قيل: إنّهم يقولون إنّها لأقارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال: «كذبوا، إنّما نزلت فينا خاصة؛ في أهل البيت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين أصحاب الكساء» (6).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «هم الأئمّة عليهم السّلام» (7).

و عن عليّ عليه السّلام، أنّه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لم يحبّ عترتي فهو لإحدى ثلاث: إمّا منافق،

ص: 478


1- . نهج الحق:175/4.
2- . تفسير روح البيان 8:311.
3- . لم نعثر عليه و على فرض وجود تلك الرواية اريد بها بعض آياتها كما هو معلوم و صرح به في بعض الروايات.
4- . قرب الإسناد:78/254، تفسير الصافي 4:372.
5- . مجمع البيان 9:43، تفسير الصافي 4:373.
6- . الكافي 8:93/66، تفسير الصافي 4:373.
7- . الكافي 1:342/7، تفسير الصافي 4:373.

و إمّا لزنية، و إمّا حملت به امه في غير طهر» (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى، و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة أنا أصلها، و علي فرعها، و فاطمة لقاحها، و الحسن و الحسين ثمارها، و أشياعنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، و من زاغ هوى، و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام حتى يصير كالشّنّ (2)البالي، ثمّ لو يدرك محبّتنا، أكبّه اللّه على منخريه في النار، ثمّ تلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى (3).

روى الزمخشري في (الكشاف) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من مات على حبّ آل محمد مات شيهدا، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات مغفورا له، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات تائبا، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات مستكمل الايمان، ألا و من مات على حبّ آل محمد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمد يزف إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمد فتح له من قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمد، جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات على السنّة و الجماعة.

ألا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللّه، ألا و من مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا و من مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنة» (4).

و قال الفخر الرازي: أنا أقول: آل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أوّل امره إليه أشدّ و أكمل، كان هو الآل، و لا شكّ أنّ فاطمة و عليا و الحسن و الحسين كان التعلق بينهم و بين رسول اللّه أشدّ التعلّقات، و هذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل. إلى أن قال: فاذا ثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلّى اللّه عليه و آله، وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم. إلى أن قال: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، لذلك جعل خاتمة التشهّد في الصلاة، و هو قوله: «اللهمّ صلّ على محمد و آل محمد، و ارحم محمدا و آل محمد» و هذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل (5).

في ردّ فخر الرازي

أقول: جميع ما قال هذا الرجل يدلّ على تقدّم عليّ عليه السّلام على آئمّته، و على أفضلية فاطمة على عائشة، و كونها سيّدتها و سيّدة نساء العالمين.

ص: 479


1- . الخصال:110/82، تفسير الصافي 4:374.
2- . الشّن: القربة الخلق الصغيرة.
3- . مجمع البيان 9:43، تفسير الصافي 4:373.
4- . الكشاف 4:220، تفسير الرازي 27:165.
5- . تفسير الرازي 27:165.

ثمّ قال: قوله: إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى فيه منصب عظيم للصحابة، لأنّه قال: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ (1)أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ (2)فكلّ من أطاع اللّه كان مقرّبا عند اللّه، فدخل تحت قوله: إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى.

أقول: هذا الكلام ممّا تضحك به الثكلى، لأنّه يتمّ بناء على كون المراد من القربى الذين تقرّبوا إلى اللّه و رسوله بالعبادة و الطاعة، لا القرب النسبي، و لا الأشخاص المعيّنة في الروايات النبوية بطرق عامية و خاصية، و لم يقل به أحد.

و على الثاني لا يدخل في الآية غير الأربعة، أو المعصومين من ذرّيته، بناء على التعدّي إلى نظائر الأربعة، و على الأول يدخل فيه الأشخاص الكثيرة، و لا اختصاص له بالسابقين من الصحابة.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 23

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على مودّة ذوى القربى بقوله: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ و يكتسب فعلة أو خصلة حَسَنَةً عظيمة، و هي مودّة المذكور نَزِدْ لَهُ في تلك الحسنة في الدنيا و الآخرة، و نضاعف فِيها حُسْناً أمّا في الدنيا فبالتوفيق و التأييد و الإخلاص، و أمّا في الآخرة فبالمغفره و الدرجات العالية و النّعم التي يكون فهمها و فهم حسنها خارجا من طوق البشر.

ذلِكَ اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّهُ عِبادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم هذه الحسنة باظهار شكره لها بقوله: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لذنوب محبّي ذوي القربى و شَكُورٌ لاحسانهم عليه بهذه المودة التي هي أحبّ الأمور عنده، فانّ الشكر هو فعل ما ينبيء عن تعظيم المنعم لكونه منعما، و الوادّ لآل الرسول صلّى اللّه عليه و آله كأنّه أنعم على اللّه بمودّته لهم، فشكر سبحانه هذه النعمة بتوفية ثوابها، و التفضّل عليه بما لا يقادر قدره، و بإكرامه غايته.

قال الفخر الرازي: قيل: إنّها نزلت في أبي بكر، و الظاهر أنّها للعموم في أي حسنة كانت، إلاّ أنّها لمّا كانت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ على أن المقصود التأكيد في تلك المودّة (3).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت فينا أهل البيت، أصحاب الكساء» (4).

و عن الحسن المجتبى عليه السّلام، أنه قال في خطبة له: «إنّا من أهل بيت افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلى قوله: حُسْناً فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت» (5).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «من توالى الأوصياء من آل محمد و تبع آثارهم، فذاك نزيده (4)

ص: 480


1- . التوبة:9/100.
2- . الواقعة:56/10.
3- . تفسير الرازي 27:167. (4 و 5) . مجمع البيان 9:44، تفسير الصافي 4:374.
4- . في الكافي: يزيده، و في النسخة: تزيده.

ولاية من مضى من البيين و المؤمنين الأولين حتى تتصّل ولايتهم إلى آدم» (1)و عنه عليه السّلام «الاقتراف التسليم لنا و الصدق علينا و لا يكذب علينا» (2).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 24

ثمّ لمّا بيّن سبحانه في أوّل السورة عظمة القرآن، و أنّه بوحي اللّه، و ذكر بعده المطالب العالية التي لا تصدر من النبي الامّي إلاّ بوحي، و بّخ المشركين على طعنهم فيه و نسبة الكذب إليه بقوله: أَمْ يَقُولُونَ قيل إنّ المعنى بل أيقول (3)هؤلاء المشركون: إنّ القرآن ليس وحيا من اللّه، بل اِفْتَرى محمد بدعوى الرسالة من اللّه، و نسبة القرآن إليه عَلَى اَللّهِ كَذِباً مع تسالمهم على كونه صادقا في سائر الامور، امينا من جميع الجهات، و أنّه امّي لا يقرأ كتابا، و لم يجالس عالما، و لم يتعلّم من أحد، فهذه النسبة إليه من غاية الحمق.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اَللّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اَللّهُ اَلْباطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (24)ثمّ لوّن الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَإِنْ يَشَإِ اَللّهُ ختم قلبك يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ و يطبع عليه حتى تفتري على اللّه مثل هذا الافتراء العظيم، فانّه لا يصدر من أحد إلاّ كان مطبوع القلب مختوما عليه، و فيه غاية استبعاد الافتراء منه صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّ المراد إن يشأ اللّه يربط على قلبك بالصبر على أذى المشركين حتى لا يشقّ عليك نسبتهم الافتراء إليك (4).

و قيل: إنّ المعنى إن يشاء اللّه عدم صدور القرآن منك لمنعك عن التكلم بأن يختم على قلبك، فلا يخطر بقلبك معانية، و لا ينطق لسانك بحرف من حروفه، و حيث لم يكن الأمر كذلك، بل تواتر الوحي به حينا بعد حين، تبيّن أنّه من عند اللّه (5).

و بعبارة اخرى المراد أنّ اللّه قادر على أن يختم على قلبك، و لو كنت مفتريا عليه لختم على قلبك، و لمّا لم تكن مفتريا عليه، لم يختم على قلبك.

ثمّ أكّد سبحانه نفي الافتراء عن القرآن بقوله: وَ يَمْحُ اَللّهُ بلطفه الافتراء اَلْباطِلَ و يمحقه حتى لا يبقى على الأرض وَ يُحِقُّ و يثبت اَلْحَقَّ بين الناس إلى يوم القيامة بِكَلِماتِهِ و حججه و بيّناته، أو بوحيه و قضائه، أو بسبب مواعيده المكرّرة المؤكّدة.

ص: 481


1- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:374.
2- . الكافي 1:321/4، تفسير الصافي 4:374.
3- . تفسير أبي السعود 8:30، تفسير روح البيان 8:313.
4- . تفسير أبي السعود 8:31.
5- . تفسير أبي السعود 8:31، تفسير روح البيان 8:313.

أقول: يحتمل أن يكون هذا وعدا من اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله بأنّه يمحو الباطل الذي عليه المشركون من البهت و الفرية و التكذيب، و يثبت الحقّ الذي كان عليه محمد صلّى اللّه عليه و آله، أو القرآن الذي أتى به.

إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و مطّلع على الضمائر، فيعلم ما في قلبك و قلوب أعدائك، فيجري الأمر على حسب ذلك، و لا يخفى عليه صدق نيّتك و سوء ظنّ المشركين في حقّك، فيجزى كلاّ على حسب ما في قلبه.

عن الباقر عليه السّلام-تأويل الآية-يقول: «لو شئت حبست عنك الوحي، فلم تكلّم بفضل أهل بيتك و لا بمودّتهم، و قال اللّه: وَ يَمْحُ اَللّهُ اَلْباطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ يقول: يحقّ لأهل بيتك الولاية إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ يقول: بما ألقوه في صدورهم من العداوة لأهل بيتك و الظّلم بعدك» (1).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 25

ثمّ ندب سبحانه المشركين إلى التوبة ممّا هم فيه من الشرك و سوء الظنّ بالنبي بقوله: وَ هُوَ الإله العطوف اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ العاصين، و يتجاوز عن سيئاتهم التي تابوا منها، و ندموا عليها.

وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)عن ابن عباس: هي عامة للمؤمن و الكافر، و الوليّ و العدوّ، فمن تاب منهم قبل اللّه توبته (2).

في شرائط التوبة

المقبولة

روى بعض العامة عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري: أنّ أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: اللهمّ إنّي استغفرك و أتوب إليك، و كبّر فلمّا فرغ من صلاته قال له علي عليه السّلام: «يا هذا، إنّ اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، و توبتك هذه تحتاج إلى التوبة» .

فقال: يا أمير المؤمنين، ما التوبة؟ قال: «التوبة تقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، و على تضييع الفرائض بالإعادة، و ردّ المظالم، و إذابة النفس في الطاعة كما ربيّتها في المعصية، و إذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته» (3).

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار الرأفة بعباده بقوله: وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ صغيرها و كبيرها، لمن يشاء برحمته، و إن لم يتوبوا وَ إنّه تعالى يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من خير و شرّ، فيجازي التائب، و يتجاوز عن غير تائب حسبما تقتضيه مشيئته البليغة المبتنية على الحكم و المصالح.

عن الحسين بن علي سيد الشهداء عليه السّلام قال: «اجتمع المهاجرون و الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 482


1- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:374.
2- . تفسير روح البيان 8:314.
3- . تفسير الرازي 27:168، تفسير أبي السعود 8:31، تفسير روح البيان 8:314.

فقالوا: إنّ لك-يا رسول اللّه-في نفقتك، و فيمن يأتيك من الوفود حاجة، و هذه أموالنا مع دمائنا، فاحكم بارّا مأجورا، أعط ماشئت، و أمسك ما شئت من غير حرج.

قال: فأنزل اللّه قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول اللّه على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثنا (1)على قرابته من بعده، إن هو إلاّ شيء افتراه محمد في مجلسه. و كان ذلك من قولهم عظيما، فأنزل اللّه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اَللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ (2)فبعث إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي و اللّه يا رسول اللّه، لقد قال بعضنا كلاما عظيما كرهناه، فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية، فبكوا و اشتدّ بكائهم، فأنزل اللّه عز و جل: وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الآية» (3).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 26

ثمّ أعلن سبحانه بفضله على المطيعين من المؤمنين بقوله: وَ يَسْتَجِيبُ اللّه دعاء اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إذا دعوه، و يثيبهم على طاعتهم. قيل: شبّه سبحانه إثابة المؤمنين على طاعتهم باستجابة دعائهم؛ لأنّ في طاعته طلب الثواب (4)وَ يَزِيدُهُمْ على ما سألوه مِنْ فَضْلِهِ و كرمه.

وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)و قيل: يعني و يستجيب المؤمنون للّه بالطاعة، و يزيدهم اللّه على ما استحقّوه من الثواب تفضّلا (5)، كما قال: اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ فكأنّه قال تعالى: و اللّه يدعو إلى دار السّلام، و يستجيب الذين آمنوا.

و قال بعض العامة: الزيادة مفسّرة بالشفاعة لمن وجبت له النار (6). و رواه في (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (7).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا [قال:] «هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب، فيقول له الملك: آمين، و يقول العزيز الجبّار: و لك مثلا ما سألت، و قد أعطيت ما سألت لحبّك إياه» (8).

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار لطفه بالمؤمنين، أعلن بغضبه على الكفار بقوله: وَ اَلْكافِرُونَ باللّه و رسله

ص: 483


1- . في النسخة: ليحبنا.
2- . الاحقاف:46/8.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:235/1، تفسير الصافي 4:375.
4- . تفسير روح البيان 8:316.
5- . تفسير روح البيان 8:316.
6- . تفسير روح البيان 8:317.
7- . مجمع البيان 9:46، تفسير الصافي 4:376.
8- . الكافي 2:368/3، تفسير الصافي 4:376.

و كتبه و الدار الآخرة لَهُمْ فيها عَذابٌ شَدِيدٌ بالنار، و القول بأنّ الآية تدلّ بدليل الخطاب على ثبوت العذاب غير الشديد للمؤمن فاسد، لعدم حجّته دليل الخطاب.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 27

ثمّ لمّا وعد سبحانه إجابة دعاء المؤمن، كان مجال السؤال أنّه كيف يكون ذلك مع ضيق معيشة كثير من المؤمنين و ابتلائهم بالشدّة من جهتها مع استجابة دعائهم؟ فأجاب سبحانه عن ذلك بقوله تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ وسّعه عليهم في الدنيا، و اللّه لَبَغَوْا و طغوا فِي وجه اَلْأَرْضِ و لهو عن ذكر اللّه، و انهمكوا في الشهوات و المعاصي، أو لتكبّروا في أنفسهم.

وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)عن ابن عباس: بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة، و مركبا بعد مركب، و ملبسا بعد ملبس (1).

و قيل: يعني يظلم بعضهم بعضا (2).

وَ لكِنْ لطفا بالعباد يُنَزِّلُ اللّه رزقهم بِقَدَرٍ معين، وحدّ محدود في علمه ما يَشاءُ أن ينزله من الرزق بما تقتضيه مشيئته و حكمته، و ما يكون صلاحهم في دينهم و دنياهم.

عن الصادق عليه السّلام: «لو فعل لفعلوا، و لكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض، و استعبدهم بذلك، و لو جعلهم كلّهم أغنياء لبغوا» (1).

إِنَّهُ تعالى بِعِبادِهِ و بخفايا امورهم و مصالحهم و جلاياها خَبِيرٌ بَصِيرٌ.

ذكر حديث قدسي

عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، أنّه قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، و إنّي لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، و إنّي لأغضب لهم كما يغضب الليث الجريء، و ما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه، و ما زال عبدي المؤمن يتقرّب إلى بالنوافل حتى احبّه، فاذا أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا مؤيدا، إن دعاني أجبته، و إن سألني أعطيته» .

إلى أن قال: «و إنّ من عبادي المؤمنين لمن يسأل الباب من العبادة فأكفه عنه، لئلا يدخله عجب فيفسده ذلك، و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ الغنى، و لو افقرته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ الصحّة، و لو اسقمته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح

ص: 484


1- . تفسير القمي 2:276، تفسير الصافي 4:376.

إيمانه إلاّ السّقم، و لو أصححته لأفسده ذلك، إنّي ادبّر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إنّي بعبادي خبير بصير» (1).

روي عن خبّاب بن الأرتّ: أنّ الآية فينا نزلت، و ذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني قريظة و بني النّضير و بني قينقاع فتمنيناها (2). و قيل: نزلت في أهل الصّفّة، تمنّوا سعة الرزق و الغنى (3).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إنزال رزق العباد على حسب مصالحهم، بيّن سعة جوده و كرمه بقوله: وَ هُوَ القادر الجواد اَلَّذِي بجوده و قدرته يُنَزِّلُ من السماء اَلْغَيْثَ و المطر النافع لأهل الأرض حين احتاجوا إليه، و مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا و يأسوا من نزوله، و إنّما قيّد سبحانه نزوله بذلك لايجابه كمال الفرج و الشكر وَ يَنْشُرُ على عباده رَحْمَتَهُ و يبثّ عليهم أنواع بركاته. قيل: هي الشمس بعد المطر، فانّها عظيمة النفع و الوقع (4).

وَ هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ اَلْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)و في الحديث القدسيّ: لو أنّ عبادي أطاعوني أمطرتهم بالليل، و أطلعت عليهم الشمس بالنهار، و ما أسمعتهم صوت الرعد (5).

وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ لهم الناظر في خيرهم و صلاحهم، و مالك امورهم اَلْحَمِيدُ و المستحقّ للحمد على إنعامه، المحمود على افعاله و إحسانه.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه آية قدرته و رحمته، ذكر آية اخرى على قدرته و الوهيته بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ و أدلّة قدرته و الوهيته خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ على عظمتها، و ما هما عليه من تعاجيب الصّنع الدالة على عظمته وَ خلق ما بَثَّ و فرّق فِيهِما مِنْ دابَّةٍ و موجودات فيه متحركة بالارادة من الملائكة و الجّن و الإنس و سائر الحيوانات، فانّ الملائكة ماشون كما يطيرون وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ جمعهم لمصلحة فيه كالمحاسبة قَدِيرٌ.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 30 الی 31

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31)

ص: 485


1- . تفسير روح البيان 8:318، مجمع البيان 9:46 «قطعة» .
2- . تفسير الرازي 27:171، تفسير روح البيان 8:319، و في النسخة: فتمناها.
3- . تفسير الرازي 27:171، تفسير روح البيان 8:319.
4- . تفسير روح البيان 8:319.
5- . تفسير روح البيان 8:320.

ثمّ لمّا بيّن رأفته و رحمته على الناس، بيّن علّة ابتلائهم بالمصائب بقوله: وَ ما أَصابَكُمْ أيّها الناس، و إن نزلت بكم مِنْ مُصِيبَةٍ و بلية، كالفقر و المرض و غيرهما فَبِما كَسَبَتْ و عملت أَيْدِيكُمْ و جوارحكم من المعاصي و الذنوب، و إنّما نسب الكسب إلى اليد، لكون غالب الأعمال بها. روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يصيب بن آدم خدش عود إلاّ بذنب» (1).

وَ يَعْفُوا اللّه عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب. عن الصادق عليه السّلام: «ليس من التواء عرق و لا نكبة حجر (2)و لا عثرة قدم و لا خدش عود إلاّ بذنب، و أمّا ما يعفو اللّه أكثر ممّا عجلّ اللّه عقوبته في الدنيا، فانّ اللّه أجل و أكرم و أعظم من أن يعود في عقوبته في الآخرة» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل: أرايت ما أصاب عليا و أهل بيته من بعده، أهو بما كسبت أيديهم و هم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتوب إلى اللّه و يستغفره في كلّ يوم مائة مرة من غير دنب، و إنّ اللّه تعالى يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم من غير ذنب» (4).

و عن (المجمع) عن علي عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خير آية في كتاب اللّه هذه الآية. يا علي، ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلاّ بذنب، و ما عفاه اللّه عنه في الدنيا أكثر، فهو أكرم من أن يعود فيه، و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثنّي على عبده» (5).

ثمّ اعلم أنّ الخطاب للمكلّفين، فلا يشمل البهائم و الأطفال و المجانين، نعم قد تكون مصائبهم [في]

مالكي البهائم و والدي الأطفال و المجانين و أقاربهم، فتكون كفّارة لذنوبهم وَ ما أَنْتُمْ أيّها العصاة بِمُعْجِزِينَ اللّه فِي اَلْأَرْضِ و فائتين منه بالهرب، إن أراد ابتلاءكم و عقوبتكم بذنوبكم وَ ما لَكُمْ في العالم مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه مِنْ وَلِيٍّ يدفع عنكم العقوبة بالموالاة وَ لا نَصِيرٍ و معين يدفعها عنكم بالقوة.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 32 الی 35

وَ مِنْ آياتِهِ اَلْجَوارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

ص: 486


1- . تفسير الرازي 27:172.
2- . نكبت الحجارة رجله: لثمتها و أدمتها.
3- . الكافي 2:323/6، تفسير الصافي 4:377.
4- . تفسير القمي 2:277، الكافي 2:326/2، تفسير الصافي 4:377.
5- . مجمع البيان 9:47، تفسير الصافي 4:377.

ثمّ نبّه سبحانه على آية اخرى داله على قدرته و رحمته بقوله: وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على كمال عظمته و رحمته السفن اَلْجَوارِ و السائرات فِي اَلْبَحْرِ بالرياح الطيبة كَالْأَعْلامِ و الجبال العظيمة

إِنْ يَشَأْ اللّه يُسْكِنِ اَلرِّيحَ التي تجري السفن بها فَيَظْلَلْنَ و يبقين رَواكِدَ و ثوابت و غير جاريات في البحر، و غير سائرات عَلى ظَهْرِهِ فلا يقدر أحد على تحريك الريح و إجراء السفن، فيقع سكّانها في الاضطراب و خوف الغرق إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من كون جري السّفن و ركودها بإرادة اللّه لَآياتٍ عديدة و أدلة واضحة على قدره اللّه و رحمته، و إنّما الاستدلال و الانتفاع بها لِكُلِّ صَبّارٍ على البلايا و المحن شَكُورٍ لنعم اللّه، فانّ المؤمن إذا كان صبورا في البلاء شكورا لنعم اللّه، لا يصرفه الابتلاء بركود السفن و البطر بجريها عن التفكّر في تلك الآيات.

و قيل: إنّ المراد من الصبّار الشكور المؤمن الكامل الايمان، فانّ الايمان نصفه الصبر عن المعاصي، و نصفه الشكر باتيان الواجبات (1).

أَوْ يُوبِقْهُنَّ قيل: هو عطف على (يسكن) و المعنى إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها عاصفة فيغرقهنّ و يغرق أهلهنّ جميعا (2)بِما كَسَبُوا و عملوا و يهلك بعضهم وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من أهلهنّ، فينجيهم من الغرق، و ذلك الايباق و الاهلاك لينتقم من العاصي (1)

وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ و ينازعون فِي آياتِنا بأنّه ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ و مخلص من عذابنا، إذا وقفت السّفن، أو عصفت الرياح، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأنّ الضارّ و النافع هو اللّه لا غيره.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 36 الی 39

ثمّ لمّا كان عدم التفكّر في الآيات و المجادلة فيها بسبب حبّ الدنيا، و الانهماك في شهواتنا، و الحرص على جميع أمتعتها، بيّن سبحانه حقارة الدنيا، و سرعة زوالها المقتضية لعدم الاعتناء بها و الإعراض عنها بقوله: فَما أُوتِيتُمْ أيّها الناس، و اعطيتم من قبل ربّكم مِنْ شَيْءٍ ترغبون إليه و تتنافسون فيه من الأموال و المزارع و الأولاد و الرئاسة و الجاه فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا تتمتّعون بها

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ اَلَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ اَلْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

ص: 487


1- . في النسخة: المعاصي.

في مدّة أعمارهم فيها، و انتفاعات قليلة تنقطع بخروجكم منها وَ ما عِنْدَ اَللّهِ من المثوبات الاخروية خَيْرٌ من جميع الدنيا و ما فيها وَ أَبْقى و أدوم منها، حيث لا انقطاع و لا زوال له أبدا، و هي خالصة لِلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و أخلصوا له دينهم وَ عَلى رَبِّهِمْ وحده في جميع امورهم يَتَوَكَّلُونَ و يعتمدون

وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ و يحترزون كَبائِرَ اَلْإِثْمِ و عظائم الذنوب، و هي التي أوعد اللّه عليها النار.

و عن ابن عباس: كبير الإثم هو الشرك (1)، و لعلّ المراد الشرك الخفي حتى يجتمع مع الايمان.

وَ يحترزون اَلْفَواحِشَ و المعاصي المتناهية في القبح، و هي من عطف الخاصّ على العام، للإيذان بغاية شناعته، و قيل: الكبائر و الفواحش واحد، و إنّما التغاير باعتبار الوصف (2)وَ إِذا ما غَضِبُوا على أحد هُمْ يَغْفِرُونَ و يحلمون و لا ينتقمون.

عن الباقر عليه السّلام: «من كظم غيضا و هو يقدر على إمضائه، حشى اللّه قلبه أمنا و إيمانا يوم القيامة، و من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا غضب، حرّم اللّه جسده على النار» (3).

وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ حين دعاهم بلسان رسوله إلى الايمان و التسليم و الطاعة، و إنّما خصّه بالذكر مع أنّه عين الايمان المذكور في السابق، لمزيد التشريف.

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الايمان، فاستجابوا له (4).

و قيل: إنّ المراد الاستجابة عن صميم القلب، و هو الرضا بقضاء اللّه، بحيث لا تكون في قلبه منازعة في أمر من الامور (5).

وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ اليومية التي هي أهمّ الواجبات و رأسها، إن قبلت قبل ما سواها. في الحديث: أوّل ما يحاسب العبد يوم القيامة بصلاته، فان صلحت أفلح و انجح، و إن فسدت خاب و خسر (6).

وَ أَمْرُهُمْ إذا وقعت واقعة شُورى و تشاور بَيْنَهُمْ لا يتفرّدون برأي، و لا يقدمون على عمل إلاّ بعد تبادل الآراء، و اجتماع ذوي الرأي منهم عليه، و تصويبهم إيّاه.

في الحثّ على

المشاورة في الامور

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نعم الموازنة المشاورة، و بئس الاستعداد الاستبداد» (7).

ص: 488


1- . تفسير الرازي 27:176، تفسير أبي السعود 8:34، تفسير الصافي 8:327.
2- . تفسير روح البيان 8:330.
3- . تفسير القمي 2:277، تفسير الصافي 4:378.
4- . تفسير أبي السعود 8:34، تفسير روح البيان 8:331.
5- . تفسير الرازي 27:176، تفسير روح البيان 8:331.
6- . تفسير روح البيان 8:331.
7- . تفسير روح البيان 8:331.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما من رجل يشاور أحدا إلاّ هدي إلى الرّشد» (1).

و عن القمي: يشاورون الإمام [فيما يحتاجون إليه]من أمر دينهم (2).

وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ من الأموال و الأمتعة و النّعم يُنْفِقُونَ في مرضاة اللّه، و يحتمل كون المراد من قوله: مِمّا رَزَقْناهُمْ مطلق البرّ و المعروف. عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ معروف صدقة» (3).

وَ اَلَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ اَلْبَغْيُ و وقع عليهم الظّلم من ذي شوكة جريء على اللّه، لا يرضون بالذّلّ و الهوان لأنفسهم بتحمّل الظّلم، بل هُمْ يَنْتَصِرُونَ و ينتقمون من الظالم على الوجه الذي جعل اللّه له و رخّصه فيه، لدفع الذّلّ عن نفسه، و ردع الظالم من الجرأة على الضعفاء، و هو وصفهم بالشجاعة و الصلابة في الدين بعد وصفهم بسائر امّهات الفضائل، و لا تنافي بين مدحهم بالعفو عند الغضب و كظم الغيض، و بين مدحهم بعدم الرضا بالظلم عليهم، و تحمّل الذّلّ، و تضييع حقّهم، و إقدامهم على إحقاق حقّهم من الظالم، فانّه من إباء النفس الذي هو من الفضائل.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 40

ثمّ لمّا رخّص سبحانه في الانتقام من الظالم، بيّن حكمه بقوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ و جناية صادرة من المسيء و الجاني إن أردتم المجازاة سَيِّئَةٍ و جناية مِثْلُها لا تزيد عليها، و إنّما اطلق اسم السيئة على الجزاء باعتبار أنّه يسوء الآخر فَمَنْ عَفا عن المسيىء، و لم يقابل إساءته بإساءة وَ أَصْلَحَ بينه و بين من يعاديه بالعفو و الإغضاء فَأَجْرُهُ العظيم عَلَى اَللّهِ و في إيهام الأجر إشعار بغاية عظمته، بحيث لا يمكن وصفه و تحديده.

وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (40)

في فضيلة العفو عن

المسيىء

روي أنّ أبا بكر كان عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و رجل من المنافقين يسبّه، و أبو بكر لم يجبه، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ساكت يتبسّم، فأجابه أبو بكر، فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و ذهب. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، ما دام يسبّني كنت جالسا، فلمّا أجبته قمت؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ ملكا يجيبه عنك، فلمّا أجبته ذهب و جاء الشيطان، و أنا لا أكون في مجلس يكون هناك الشيطان» فنزل فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ (4).

و في حديث عامي: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين العافون عن الناس؟ هلمّوا إلى ربّكم،

ص: 489


1- . مجمع البيان 9:51، تفسير الصافي 4:378.
2- . تفسير القمي 2:277، تفسير الصافي 4:378.
3- . صحيح مسلم 2:697/1005، صحيح البخاري 8:20/51، تفسير روح البيان 8:332.
4- . تفسير روح البيان 8:235.

و خذوا اجوركم، و حقّ لكلّ مسلم إذا عفا أن يدخله الجنّة» (1).

و عنه عليه السّلام: «إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس، و هم قليلون، فينطلقون سراعا إلى الجنّة، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة، فمن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: و ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا، و إذا سيء إلينا اغتفرنا، و إذا جهل علينا حلمنا، فيقولون لهم: ادخلوا الجنّة، فنعم أجر العاملين» (2).

و عن (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على اللّه فليدخل الجنّة؟ فيقال: من ذا الذي أجره على اللّه؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنّة بغير حساب» (3).

و عن الصادق عليه السّلام. قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بالعفو، فان العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّا، فتعارفوا يعزّكم اللّه» (4).

ثمّ أعلن سبحانه بغضبه على الظالمين الذين منهم من اقتصّ زائدا على المثل بقوله: إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ و يقطع عنهم رحمته، سواء كانوا مبتدئين بالظلم، أو متجاوزين في القصاص على المثل.

قيل: في إخباره تعالى بعدم حبّه للظالمين بعد الحثّ على العفو عنه، تنبيه على أنّ العفو عن المؤمن-الذي هو حبيب اللّه-أولى، و فيه ما لا يخفى (5).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 41 الی 43

ثمّ نبّه سبحانه على أنّه لا مؤاخذة على المظلوم في انتصاره و انتقامه بقوله: وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ و انتقم من الظالم بَعْدَ ظُلْمِهِ و إسائته إليه فَأُولئِكَ المنتصرون ما عَلَيْهِمْ لأحد مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة أو المؤاخذة؛

لأنّهم فعلوا ما ابيح لهم من الانتصار (6)إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ بالمعاقبة عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ بأن يبدؤهم بالظلم، أو يعتدوا في الانتقام وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ و يتجبّرون فيها بِغَيْرِ اَلْحَقِّ بأن يدّعوا الالوهية أو النبوة أو الامامة أُولئِكَ الظالمون و الباغون لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لظلمهم و بغيهم مضافا إلى القصاص و الحدّ في الدنيا

وَ و اللّه لَمَنْ صَبَرَ

وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (43)

ص: 490


1- . تفسير روح البيان 8:235.
2- . تفسير روح البيان 8:236.
3- . مجمع البيان 9:51، تفسير الصافي 4:379.
4- . الكافي 2:88/5، تفسير الصافي 4:379.
5- . تفسير الرازي 27:181.
6- . في النسخة: الانصار.

على أذى المؤمنين و إساءتهم إليه وَ غَفَرَ لمن ظلمه و آذاه و لم ينتصر، و فوّض أمره إلى اللّه إِنَّ ذلِكَ الصبر لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ و واجبات الأعمال، لكونه من كمال النفس، و صفات الربّ، و كرائم الأخلاق، و في تأكيد الخبر باللام دلالة على غاية محبوبيته عند اللّه.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 44 الی 46

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الظالمين بقوله: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن طريق الجنّة بخذلانه حتى يرتكب الظلم على المؤمنين فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ و مراعي صلاح يوفّقه للخير و سلوك طريق الصواب و الجنّة مِنْ بَعْدِهِ تعالى و بعد خذلانه وَ تَرَى يا محمد، أو يأمن له البصر اَلظّالِمِينَ على أنفسهم، و على المؤمنين لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ يوم القيامة يَقُولُونَ تحسّرا و تمنّيا: يا ربّ هَلْ إِلى مَرَدٍّ و رجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ حتى نتدارك ما فاتنا من الأعمال الصالحة،

و نتوب ممّا ارتكبنا من الظلم و الأعمال السيئة وَ تَراهُمْ أيّها الرائي أنّهم يساقون إلى النّار و يُعْرَضُونَ عَلَيْها حال كونهم خاشِعِينَ و حقيرين، أو مرخين أجفانهم بسبب مالهم مِنَ اَلذُّلِّ و الهوان، و هم يَنْظُرُونَ إلى النّار مِنْ طَرْفٍ و تحريك ضعيف لأجفانهم خَفِيٍّ على غيرهم نظرهم إليها، يعبّر عن هذا النظر باستراق النظر، لأنّهم لا يقدرون على أن يملأوا عيونهم منها من شدّة الخوف و غاية الذلّ.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى اَلظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ اَلذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَلْخاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَلا إِنَّ اَلظّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)و قيل: إنّ المراد أنّهم ينظرون النار بابصار قلوبهم لا بأعينهم؛ لأنّهم يحشرون عميا، أو يسحبون على وجوههم (1). و قيل: لا يرفعون أجفانهم من خجلة المؤمنين (2).

وَ قالَ اَلَّذِينَ آمَنُوا حين رأوهم على تلك الحالة توبيخا لهم: إِنَّ اَلْخاسِرِينَ أشدّ الخسران هم الكفّار و العصاة اَلَّذِينَ خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للعذاب بسبب اختيارهم الشرك، و ارتكابهم العصيان وَ أضرّوا أَهْلِيهِمْ من أزواجهم و أولادهم و أقاربهم، بمنعهم عن الايمان، و ترغيبهم إلى الكفر و الطّغيان، و لم يقوهم من النار يَوْمَ اَلْقِيامَةِ.

ص: 491


1- . تفسير روح البيان 8:338.
2- . تفسير روح البيان 8:338.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية خسرانهم بقوله تبارك و تعالى: أَلا اعلموا أيّها العقلاء إِنَّ اَلظّالِمِينَ و الكافرين في الآخرة متمكّنون فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم لا انقطاع له أبدا. قيل: إنّه من تمام كلام المؤمنين (1)

وَ ما كانَ لَهُمْ في ذلك اليوم مِنْ أَوْلِياءَ و أصدقاء يَنْصُرُونَهُمْ بدفع العذاب مِنْ دُونِ اَللّهِ حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا من أصنامهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ يؤدّي سلوكه إلى النجاة من العذاب.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ إنّه تعالى بعد التهديدات الشديدة، وعظ الناس بقوله تبارك و تعالى: اِسْتَجِيبُوا أيّها الناس لِرَبِّكُمْ اللطيف بكم حين دعاكم بلسان رسوله إلى الايمان مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ كم يَوْمٌ كثير الأهوال لا مَرَدَّ و لا دافع لَهُ مِنَ قبل اَللّهِ القادر العظيم بعد ما حكم و وعد به، أو المراد من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يمكن ردّه لأحد.

اِسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاغُ وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ اَلْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)و قيل: إنّه يوم الموت، و معنى لا مَرَدَّ لَهُ أنّه لا يقبل التقديم و التأخير (2).

و قيل: إنّه يوم القيامة، و معنى (لا مردّ له) أنّه لا يمكن فيه الردّ إلى الدنيا (3). ما لَكُمْ أيّها العصاة من عذاب اللّه مِنْ مَلْجَإٍ و مخلص يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ينكر علينا تعذيبكم، فيرفع العذاب عنكم باعتراضه علينا، أو المراد ليس لكم إنكار ما اقترحتموه من المعاصي؛ لأنّها مدوّنة في صحائف أعمالكم، و تشهد عليها الكرام الكاتبين و جوارحكم (4).

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله كي لا يتأثّر قلبه الشريف من اعتراض المشركين و المعاندين عن دعوة اللّه إيّاهم إلى الإيمان و وعده و وعيده بقوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن استجابة دعوة اللّه إلى الايمان، و لم يعتنوا بدعائك إليه فَما أَرْسَلْناكَ إليهم لتكون عَلَيْهِمْ حَفِيظاً و رقيبا تمنعهم عن الكفر و الأعمال السيئة، و تقهرهم على الاستجابة إِنْ عَلَيْكَ و ما شأنك و وظيفتك إِلاَّ اَلْبَلاغُ و أداء ما ارسلت به إليهم، و قد أدّيت بأكمل الأداء، فلا يهمّك إعراضهم، فانّ ضرره عليهم لا عليك.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 48

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاغُ وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ اَلْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)

ص: 492


1- . تفسير أبي السعود 8:36.
2- . مجمع البيان 9:54، تفسير الرازي 27:183.
3- . مجمع البيان 9:54، تفسير الرازي 27:183.
4- . تفسير أبي السعود 8:36.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ سبب إعراضهم ليس إلاّ الغرور بالدنيا، و الانهماك في شهواتها، و كفرانهم نعم اللّه بقوله: إِنّا إِذا أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا و بلطفنا رَحْمَةً و نعمة من الصحة و الغنى و الأمن و الأولاد و الرئاسة و الجاه فَرِحَ و اغترّ بِها و بطر لأجلها، و يظنّ أنّه بهذا القدر من نعم الدنيا فاز بكلّ المنى، و وصل إلى أعلى السعادات، لعدم تصوّره السعادة الاخروية التي جميع الدنيا و ما فيها بالنسبة إلى أقلّ قليل منها كالقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط وَ إِنْ تُصِبْهُمْ و وردت عليهم سَيِّئَةٌ و بلية كالفقر و المرض و الخوف و نحوهما بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و بسبب ما أرتكبته جوارحهم من المعاصي و القبائح فَإِنَّ اَلْإِنْسانَ لاستعظامه تلك البلية ينسى النعم الإلهية، لأنّه بالطبع كَفُورٌ مبالغ في الإعراض عن الشكر، إلاّ من وفّقه اللّه لأدائه، و عصمه من الكفران.

قيل: في تصدير الشرطية الاولى بإذا، و إسناد الإذاقة إلى نون العظمة، تنبيه على أنّ إيصال النعمة محقّق كثير الوقوع، و أنّه مقتضى ذاته المقدسة، و في تصدير الثانية بأن الشرطية، و إسناد الإصابة إلى السيئة، و تعليلها بأعمالهم السيئة إيذان بندرة وقوعها، و أنّها بالعارض في وضع الظاهر موضع الضمير دلالة على أنّ الكفران مقتضى طبع الانسان (1).

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ نعم الدنيا على الانسان برحمته، و ابتلائه بالبليات بمعاصيه و سيئاته، بيّن قدرته الكاملة على التصرّف في جميع الموجودات السماوية و الأرضية، و سلطنته المطلقة بقوله تعالى: لِلّهِ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السلطنة التامّة في عوالم الملك و الملكوت، ليس لغيره فيها ملك و ملك يغترّ به، بل كلّما كان لغيره من النّعم فهو بعطائه، و عليه الشّكر، و كلّما أصابه من البلية فهو بارادته تعالى، و عليه الصبر و التسليم و الرضا، و من دلائل سلطنته أنّه تعالى يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه، و لا يقدر غيره على خلق شيء، و من أظهر تصرّفاته أنّه بقدرته و حكمته يَهَبُ و يعطي بلا عوض لِمَنْ يَشاءُ من نوع الانسان أولادا إِناثاً فقط وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ منهم اَلذُّكُورَ من الأولاد فقط.

لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ اَلذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

ص: 493


1- . تفسير البيضاوي 2:366، تفسير أبي السعود 8:36، تفسير روح البيان 8:341.

عن الباقر عليه السّلام: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني ليس معهنّ ذكر (1)وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ اَلذُّكُورَ يعني ليس معهم انثى» .

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً و يجعلهما معا لشخص واحد، فيكون له البنين و البنات. و في الرواية الباقرية: «أي يهب لمن يشاء ذكرانا و إناثا جميعا، يجمع له البنين و البنات» (2)الخبر.

في فضيلة احسان

الوالدين إلى البنات

و إنّما قدّم سبحانه ذكر الإناث أولا على ذكر الذكور، قيل: لأنّها أكثر، لتكثير النسل، و لتطييب قلوب آبائهنّ، باظهار العناية بهنّ، و التشريف لهنّ، و التوبيخ لمن كان يكرهها و يدفنها في التراب في [حال حياتها]، و لرعاية الترتيب الواقع في الوجود حيث وهب اللّه لآدم أولا حوّاء (3).

و في الحديث: «من بركة المرأة تبكيرها بالبنات، ألم تسمع قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ اَلذُّكُورَ حيث بدأ بالإناث (4)، و للتنبيه بأنّ الالتفات إلى الضعيف أولى، و الإحسان إليه ألزم. و في الحديث: «من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهنّ، كنّ له سترا من النار» (5).

و في تقديم الذّكور على الإناث في الآية إيماء إلى فضيلة الذكور على الإناث، كما أنّ في تعريف الذكور في الآية الاولى إيماء إلى ذلك، مضافا إلى المحافظة على الفواصل، و إنّما لم يذكر الهبة في إعطائهما؛ لأنّ المقصود بيان نعمة اقترانهما لشخص واحد بعد بيان كون كلّ واحد منهما من مواهب اللّه وَ يَجْعَلُ اللّه بقدرته مَنْ يَشاءُ عقمه و عدم التولّد منه عَقِيماً لا تلد و لا يولد له إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بحقائق الأشياء و مصالحها، و الحكم الكامنة فيها قَدِيرٌ على إنقاذ إرادته، فيفعل بحكمته و قدرته كلّما فيه حكمة و صلاح.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 51

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و سلطنته و حكمته، بيّن علوّ شأنه، و رفعه مقامه من أن يواجهه أحد بالكلام، و كيفية تعليمه الأنبياء و الرسل العلوم و الحقائق بقوله تبارك و تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ و ما صحّ، و ما أمكن لإنسان أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ و يخاطبه إِلاّ بأحد الوجوه الثلاثة: إمّا يكلّمه وَحْياً و إلهاما و قذفا في القلب في اليقظة أو النوم باراءته الرؤيا أَوْ يشافهه بالكلام في اليقظة

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

ص: 494


1- . في النسخة: الذكور.
2- . تفسير القمي 2:278، تفسير الصافي 4:381.
3- . تفسير روح البيان 8:342.
4- . تفسير روح البيان 8:342.
5- . تفسير روح البيان 8:342.

بايجاد الصوت و الكلام من غير رؤية المتكلّم كتكلّم من يتكلّم مِنْ وَراءِ حِجابٍ و ستر أَوْ يكلمه بتوسّط الملك بأن يُرْسِلَ من قبله رَسُولاً من الملائكة كجبرئيل عليه السّلام فَيُوحِيَ ذلك الملك إلى البشر الذي أرسله اللّه إليه بِإِذْنِهِ و أمره ما يَشاءُ أن يوحيه إليه من المطالب و الحقائق.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون بذلك نبيا، و منهم من ينفث في اذنه و قلبه فيكون بذلك نبيا، و إنّ جبرئيل يأتيني فيكلّمني كما يكلّم أحد صاحبه» (1).

و عن عائشة: أنّ الحارث بن هشام سأل رسول اللّه: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، و هو أشدّه عليّ، فيفصم (2)عنّي و قد وعيت عنه ما قال، و أحيانا يتمثّل الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» قالت: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم (3)عنه و إنّ جبينه ليتفصّد عرقا (4).

إِنَّهُ تعالى عَلِيٌّ عن مواجهة الناس و مشابهة المخلوقين، متعال عن صفاتهم، فلا يكون المفاوضة بينه و بينهم إلاّ بالوجوه المذكورة حَكِيمٌ و عليم بجميع المصالح و قابليات الأشخاص، فيكلّم بعض الأنبياء بلا واسطة، و بعضهم بالواسطة، و بعضهم إلهاما على حسب اختلاف درجاتهم و كمالهم.

سوره 42 (الشورى): آیه شماره 52 الی 53

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كيفية الإيحاء إلى الأنبياء، عظّم شأن ما أوحى إلى رسوله بقوله: وَ كَذلِكَ الإيحاء البديع الذي كان لسائر الأنبياء و مثله أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد، القرآن الذي يكون رُوحاً و سببا للحياة الطيبة الأبدية للقلوب الميتة بالجهل و الضلال و الكفر. قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل، و إيحاءه إليه إرساله إليه بالوحي (5).

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ أَلا إِلَى اَللّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ (53)

ص: 495


1- . تفسير روح البيان 8:345.
2- . أفصم الشيء: ذهب و انكشف.
3- . في النسخة: فيفصد.
4- . تفسير روح البيان 8:345، و فيه: جبينيه لينفصد عرقا.
5- . تفسير أبي السعود 8:38، تفسير روح البيان 8:347.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه خلق من خلق اللّه أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبره و يسدّده، و هو مع الأئمّة من بعده» (1).

و على أي تقدير، كان ذلك الإيحاء بالقرآن مِنْ أَمْرِنا في وقت ما كُنْتَ تَدْرِي في ذلك الوقت مَا اَلْكِتابُ و أيّ شيء القرآن وَ لاَ تدري ما اَلْإِيمانُ و تضاعيف ذلك من الامور التي لا يدركها البشر إلاّ بالوحي وَ لكِنْ أنزلنا القرآن و جَعَلْناهُ نُوراً و ضياء نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا بالتوفيق لتصديقه، و النظر فيه وَ إِنَّكَ يا محمد لَتَهْدِي بالدعوة و التبليغ عموم الناس إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الدين القويم الذي لا أعوجاج فيه.

ثمّ عظّم سبحانه ذلك الصراط و مدحه بقوله تعالى: صِراطِ اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا، و فيه تقرير استقامته، و تقرير وجوب سلوكه.

ثمّ هدّد الناس على التخلّف عنه بقوله تعالى: أَلا اعلموا أيّها الناس أنّه إِلَى اَللّهِ العظيم المالك لعالم الملك و الملكوت تَصِيرُ و ترجع اَلْأُمُورُ المتعلّقة بجميع الموجودات، و بيده في الدنيا و الآخرة تدبيرها، لا يخرج شيء عن حكمه، و لا يمتنع من قضائه، فيجازيكم بأعمالكم، و يعاقبكم على عصيانكم.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة حم عسق بعثه اللّه يوم القيامة كالثلج، أو كالشمس، حتى يقف بين يدي اللّه عز و جل فيقول: عبدي أدمنت قراءة حمعسق و لم تدر ثوابها، أما لو دريت ما هي و ما ثوابها ما مللت من قراءتها، و لكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنة، و له فيها قصر من ياقوتة حمراء، أبوابها و شرفها و درجها، يرى ظاهرها من باطنها، و باطنها من ظاهرها، و له فيها حوراوان من حور العين، و ألف جارية و ألف غلام من الغلمان المخلّدين الذين وصفهم اللّه تعالى» (2).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسرها و تلاوتها

ص: 496


1- . الكافي 1:214/1، تفسير الصافي 4:381.
2- . ثواب الأعمال:113، مجمع البيان 9:31، تفسير الصافي 4:383.

في تفسير سورة الزخرف

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة الشورى المبدوءة بتعظيم القرآن و مدحه، المتضمّنة للمنّة على العرب بإنزاله بلغتهم و لسانهم، و للاستدلال على التوحيد و المعاد، و ذمّ المجادلين في الآيات المختصّة بمدح القرآن، و التهديد على مخالفته، نظمت سورة الزخرف المبدوءة بتعظيم القرآن و مدحه، و إظهار المنّة على العرب بانزاله بلغتهم و لسانهم، ثمّ تهديد المعارضين له و الطاعنين فيه، المتضمّنة لأدلة التوحيد و ذمّ المجادلين فيه، و غير ذلك من المطالب العالية المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)

ثمّ افتتحها جلّ شأنه بلفظ حم و قد مرّ أنّ الحرفين رمزان من اسمين من الاسماء الحسنى، أو أنّها اسم للسورة، أو القرآن، و على هذين القولين يكون المعنى هذه السورة أو هذا القرآن حم.

ثمّ حلف سبحانه بكتابه إظهارا لعظمته بقوله: وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و الواضح الدلالة للذين انزل اليهم، أو المظهر للدين الحقّ، و الصراط المستقيم، أو المبين للهدى من الضلال و الحقّ من الباطل، و الخير من الشرّ، و السعادة من الشقاوة.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله: إِنّا أنزلنا و جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا و ركبّناه من الكلمات المتداولة على ألسنتكم أيّها العرب على نحو عجزت جميع الفصحاء عن إتيان سورة مثله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون ما فيه من العقائد الحقّة، و الأحكام المحكمة، و العلوم النافعة، و الحكم البالغة، و المواعظ الشافية، و العبر الوافية.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 4

ثمّ بالغ سبحانه في مدحه بقوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ و اللّوح المحفوظ الذي هو أصل الكتب السماوية مثبوت و مضبوط، و هو لَدَيْنا و عندنا و اللّه لَعَلِيٌّ قدرا، و رفيع شأنا، أو لعليّ عن طروّ

ص: 497

الفساد و البطلان، أو لعليّ على سائر الكتب السماوية، لكونه معجزة باقية إلى آخر الدهر و حَكِيمٌ و محكم لا يتطرّق إليه النّسخ، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، أو محكم في البلاغة و البداعة، أو ذو حكمة بالغة، و قيل: إنّ الوصفين للوّح المحفوظ-كما عن ابن عباس رحمه اللّه-و إنّما خصّه اللّه بالتشريف لكونه جامعا لأحوال جميع المحدثات (1).

وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (1)عن ابن عباس: إنّ أول ما خلق اللّه القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق (2).

قيل: إنّ ذلك ليشاهد الملائكة موافقة المحدثات لما في ذلك اللّوح، فيعلموا كمال علم اللّه و حكمته (2).

و قيل: إنّ المراد من امّ الكتاب الآيات المحكمات، و المعنى أنّ حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأصل و الامّ (4).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويله: «هو أمير المؤمنين عليه السّلام في امّ الكتاب، يعني الفاتحة، فانّه مكتوب فيها في قوله: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (5)قال: الصراط المستقيم هو أمير المؤمنين عليه السّلام و معرفته» .

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 5 الی 8

ثمّ أنكر سبحانه على نفسه بعد بيان جعل القرآن عربيا أن يترك اللّطف بالعرب، أو بقريش بقوله: أَ فَنَضْرِبُ و نصرف عَنْكُمُ. قيل: إنّ التقدير أنهلككم أيّها العرب، أو يا قريش؟ فننحّي اَلذِّكْرَ و نبعد القرآن عنكم، و نترك الأمر و النهي و الوعد و الوعيد (3)بالنسبة إليكم، أو نردّ عنكم المواعظ و النصائح (4)، أو ذكر العذاب (5)صَفْحاً و إعراضا عنكم لأجل أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ و متجاوزين عن الحدّ في الإصرار على الشرك و العصيان. و لا و اللّه لا نفعل ذلك لسعة رحمتنا، بل نتمّ الحجّة عليكم بإرسال الرسول و إنزال الكتاب بلسانكم، لئلاّ تقولوا يوم القيامة: إِنَّما أُنْزِلَ اَلْكِتابُ

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (6) وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ (8)

ص: 498


1- . تفسير الرازي 27:194.
2- . تفسير الرازي 27:194.
3- . تفسير روح البيان 8:351.
4- . تفسير الرازي 27:195.
5- . تفسير الرازي 27:195.
6- . معاني الأخبار:32/3، «بتقديم و تأخير» ، تفسير الصافي 4:384.

عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (1) .

عن قتادة: لو أنّ هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمّة لهلكوا، و لكن اللّه برحمته كرّره عليهم و دعاهم إليه عشرين سنة (2).

و الحاصل و اللّه أعلم: إنا لا نترككم مع سوء اخيتاركم، بل نذكّركم و نعظكم كي ترجعوا عمّا أنتم عليه إلى الدين الحقّ.

ثمّ ذكر سبحانه عادة الامم السابقة في تكذيب الرسل و الكتب السماوية و إهلاكهم بالعذاب عظة للمشركين و تهديدا لهم و تسلية للرسول بقوله: وَ كَمْ أَرْسَلْنا و كثيرا ما بعثنا مِنْ نَبِيٍّ من قبلنا فِي الامم اَلْأَوَّلِينَ و القرون الماضين

وَ كان دأبهم أنّه ما يَأْتِيهِمْ من قبلنا مِنْ نَبِيٍّ يدعوهم إلى الإيمان بالتوحيد و العمل بالدين الحقّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و منه يسخرون، فلا تتأذّيا محمد من تكذيب قومك و استهزائهم بك، فانّ البلية إذا عمّت طابت

فَأَهْلَكْنا هم بالعذاب مع أنّهم كانوا أَشَدَّ من قومك و أكثر مِنْهُمْ بَطْشاً و قوة و عدة، و لم يمنعنا عن إهلاكهم بطشهم و قوّتهم، و ما قدروا على معارضتنا وَ مَضى و سلف في القرآن مَثَلُ الامم اَلْأَوَّلِينَ و حكينا لك قصّتهم التي حقّها أن يضرب بها المثل في الغرابة، كقصة عاد و ثمود و قوم لوط و إضرابهم، فعلى قومك أن يعتبروا بهم، و يتركوا اتّباعهم.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 9 الی 12

ثمّ إنّه تعالى بعد إسراف المشركين و إصرارهم على الشرك، بيّن اعترافهم بالفطرة بالتوحيد بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد، تقريرا لهم مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و عوالم الملك و الملكوت؟ و اللّه لَيَقُولُنَّ بالفطرة في الجواب و يعترفن البتة بأنّه خَلَقَهُنَّ اللّه الذي هو اَلْعَزِيزُ الغالب على ملكه اَلْعَلِيمُ بجميع مخلوقاته و أحوالهم، لعدم إمكان خلقهنّ من العاجز الجاهل كالأصنام و الأوثان.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ (9) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَ اَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12)

ص: 499


1- . الأنعام:6/156.
2- . تفسير الرازي 27:195.

قيل: جوابهم خلقهن اللّه (1)، و لمّا كان لازم اعترافهم كون الخلق واجدا للقدرة و العلم، وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالوصفين، و فيه توبيخهم بأنّه مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره و ينكرون قدرته على البعث.

ثمّ شرع سبحانه في وصف ذاته بكمال القدرة و الحكمة مخاطبا للمشركين بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ و صيّر لَكُمُ أيّها المشركون اَلْأَرْضَ مَهْداً و مكانا تستقرّون عليه، و مسكنا تنامون و تتقلّبون عليه، كما يتقلّب أحدكم على فراشه وَ جَعَلَ بلطفه لَكُمْ فِيها سُبُلاً و طرقا سهّل العبور منها، تسلكونها في أسفاركم للتجارة و سائر المقاصد الدينية و الدنيوية لَعَلَّكُمْ بسلوكها تَهْتَدُونَ إلى مقاصدكم، و كي تصلوا إلى البلاد التي فيها محاويجكم، أو لكي تهتدوا بالتفكّر فيها إلى توحيد ربّكم الذي هو المقصد الأسنى

وَ اَلَّذِي نَزَّلَ بقدرته و رحمته مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ، أو من جهة العلوّ ماءً نافعا بالأمطار بِقَدَرٍ و حدّ ينفعكم و لا يضرّكم فَأَنْشَرْنا بذلك الماء و أحيينا بِهِ بَلْدَةً و مكانا مَيْتاً و يابسا لا نبات له، و لا انتفاع به كَذلِكَ الإحياء تحيون ثانيا، و مثل إخراج النبات من الأرض تُخْرَجُونَ من القبور، و تحشّرون للحساب،

و في التعبير عن إحيائهم بالإخراج تهوين لأمر البعث وَ اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلْأَزْواجَ و الأنواع المختلفة من الموجودات كُلَّها كالأبيض و الأسود، و الذكر و الانثى، و الحلو و الحامض، كما عن ابن عباس (2).

قيل: إنّ جميع ما سوى اللّه زوج كالفوق و التحت، و اليمين و الشمال، و القدّام و الخلف، و الماضي و المستقبل، و الذوات و الصفات، و الصيف و الشتاء، و الربيع و الخريف، و الليل و النهار، إلى غير ذلك (3).

أقول: جميع الممكنات زوج تركيبي مركّب من الماهية و الوجود و الجنس و الفصل و المادّة، و الصورة، فالتفرّد مختصّ بالذات الواجب الوجود.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ إنّه تعالى بعد إظهار المنّة على العباد بجعل السبيل، بيّن تسهيله السير بخلق المركب للسير بقوله: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ و السفن الجارية في البحار وَ من اَلْأَنْعامِ كالإبل و الأفراس و البغال و الحمير ما تَرْكَبُونَ عليه في البحر و البرّ، و تقديم الفلك على الأنعام، لكون الفلك أدلّ

وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

ص: 500


1- . تفسير روح البيان 8:353. (2 و 3) . تفسير الرازي 27:197، تفسير أبي السعود 8:41.

على قدرة اللّه و حكمته

لِتَسْتَوُوا و تستعلوا عَلى ظُهُورِهِ و تستقرّوا عليه، و إفراده الضمير باعتبار اللفظ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عليكم إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ و استعليتم عَلَيْهِ و تحمدوه و تشكروه وَ تَقُولُوا مستعظمين قدرته و إنعامه حين الركوب سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ و ذلّل لَنا هذا المركوب بقدرته و إحسانه مع كونه أقوى منّا وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ و مماثلين في القوة و الشدّة،

و قادرين على تذليله و ضبطه إذا استصعب علينا وَ إِنّا حين انقضاء آجالنا إِلى رَبِّنا على مركب الخشب لَمُنْقَلِبُونَ و راجعون و مسافرون، كما ينقلب من بلد إلى بلد على هذا المركب، أو كما جئنا في الدنيا من عند ربّنا و بقدرته في أوّل الأمر، ننقلب إليه و نرجع.

قيل: لمّا كان ركوب الفلك و الدابة تعريض النفس للهلاك بانكسار الفلك و عثار الدابة و شموسها، أمرنا بتذكّر الموت و الانقلاب إلى اللّه و التوجّه إليه (1).

في دعاء الركوب

و السفر

روى الزمخشري عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا وضع رجليه في الرّكاب قال: «بسم اللّه» فاذا استوى على الدابة قال: «الحمد للّه على كلّ حال سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله: لَمُنْقَلِبُونَ» (2).

و روى القاضي أبو بكر أنّ الحسن بن علي عليهما السّلام رأى رجلا ركب الدابة، و قال: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا فقال له: «ما بهذا امرت، امرت أن تقول: الحمد للّه الذي هدانا للاسلام، الحمد للّه الذي منّ علينا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، و الحمد الذي جعلنا من خير امّة اخرجت للناس، ثمّ تقول: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» (3).

و روى الفخر الرازي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا سافر و ركب راحلته كبّر ثلاثا، ثم يقول: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ثمّ قال: اللهمّ إنّي أسألك في سفري هذا البرّ و التقوى، و من العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، و أطوعنا بعد الأرض، اللهمّ أنت الصاحب في السفر، و الخليفة على الأهل، اللهمّ أصحبنا في سفرنا، و أخلفنا في أهلنا» و كان إذا رجع إلى أهله يقول: «آيبون تائبون، لربّنا حامدون» (4).

في (الكافي) عن الرضا عليه السّلام: «إن ركبت الظهر فقل سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا الآية» (5).

و عن أبيه عليه السّلام: «هي إن خرجت برّا فقل الذي قال اللّه عز و جل: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا

ص: 501


1- . تفسير روح البيان 8:356.
2- . الكشاف 4:239، تفسير الرازي 27:199.
3- . تفسير الرازي 27:199.
4- . تفسير الرازي 27:199.
5- . الكافي 5:256/3، تفسير الصافي 4:385.

الآية، فانّه ليس من عبد يقولها عند ركوبه، فيقع من بعير أو دابّة، فيصيبه شيء بإذن اللّه» (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أنّه خالق الممكنات و الموجودات، و اعتراف المشركين بذلك، و بّخهم على القول بأنّ الملائكة أولاده بقوله: وَ جَعَلُوا و أثبتوا لَهُ تعالى مِنْ عِبادِهِ و هم الملائكة جُزْءاً و ولدا مع أنّ الولد الذي جزء من والده منفصل عنه، لا يمكن أن يكون عبده و ملكه، و هذا القول ليس منهم ببعيد و عجيب إِنَّ اَلْإِنْسانَ بالطبع لَكَفُورٌ مبالغ في الكفر و مُبِينٌ و مظهر لكفره، و لذا يقول ما يقول.

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اِتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)

ثمّ ذمّهم بأنّهم لم يقنعوا بهذا القول الشنيع، بل أثبتوا له أخسّ الأولاد، و هو البنات، و أنكر ذلك عليهم بقوله: أَمِ اِتَّخَذَ اللّه و اختار لنفسه مِمّا يَخْلُقُ بقدرته يا قريش بَناتٍ موهونة عندكم، مكروهة في طباعكم وَ أَصْفاكُمْ و آثركم على نفسه بتفضيلكم بِالْبَنِينَ الذين هم خير الأولاد و أكملهم و أشرفهم، و هذا ممّا لا يقول به ذو مسكة، و إنّما نبّه على حقارة البنات بتنكير اللفظ، و على فخامة البنين بتعريفه، و إنّما قدّم ذكر نسبة البنات إلى اللّه، لكونها أنكر من اصطفائهم البنين، و في تلوين الخطاب تأكيد الإلزام و تشديد التوبيخ.

و حاصل المراد و اللّه العالم: حيث إنّكم قلتم: إنّ للّه ولدا، مع وضوح امتناعه و استحالته، كيف أمكن منكم القول بأنّه اختار لنفسه أخسّ الأولاد، و آثركم على نفسه بخيرهم و أشرفهم و أفضلهم، فانّه خلاف بديهة العقل.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ بيّن شدّة كراهتهم للبنات بقوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ و أخبر بِما ضَرَبَ و جعل لِلرَّحْمنِ و الإله الفيّاض على الممكنات مَثَلاً و شبيها، فانّ الولد يجانس و يماثل والده ظَلَّ و صار وَجْهُهُ من سوء ما بشّر به و شدّة الغيظ عليه مُسْوَدًّا و أسود في الغاية. و قيل: إنّ اسوداد الوجه

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)

ص: 502


1- . الكافي 3:472/5، عن الرضا عليه السّلام، تفسير الصافي 4:385.

كناية عن شدّة كراهته (1)لما اخبر به من تولّد البنت له وَ هُوَ بسبب إخباره لولادة البنت كَظِيمٌ و مملوء من الكرب و الحزن و الغضب، فاذا نقص البنت بهذه الدرجة، كيف يختارها اللّه لنفسه، و كيف ينسبونها إليه، و هل يجوز للعاقل إثباتها له؟

ثمّ بالغ سبحانه في الإنكار و التوبيخ عليهم بنسبة البنات إليه بقوله: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا و يربّى فِي اَلْحِلْيَةِ و الزّينة. قيل: إنّ التقدير اجترءوا و جعلوا له تعالى (2)من شأنه أن يربّى في الزّينة لنقص نفسه و هُوَ مع ذلك فِي اَلْخِصامِ و مواقع الجدال مع غيره غَيْرُ مُبِينٍ و غير قادر على تقرير دعواه، و تبيين حجّته، لضعف لسانه، و قلّة عقله، و بلادة ذهنه. قيل: قلّما أرادت المرأة أن تتكلّم بحجّتها إلاّ تكلّمت بما كان حجّة عليها (3).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ ذمّهم سبحانه بنسبة الانوثة إلى الملائكة الذين هم أشرف المخلوقات بعد الأنبياء و الرسل و الأولياء بقوله تعالى: وَ جَعَلُوا و حكموا بأنّ اَلْمَلائِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبادُ اَلرَّحْمنِ و أكمل الخلق و أكرمهم على اللّه إِناثاً و الحال أنّه لا يمكن الاطلاع على انوثتهم بإدراك العقول، بل لا بدّ من أن يكون اطّلاعهم على ذلك بإخبار نبيّ، و هم لا يقولون به، أو برؤية خلقة الملائكة، إذا فاسألوهم أيّها العقلاء أَ شَهِدُوا و حضروا خَلْقَهُمْ و رأوا انوثتهم حتى يحكموا بها؟ لا و اللّه ما شهدوا و ما رأوا، بل كان حكمهم بتقليد آبائهم الكاذبين، و نحن سَتُكْتَبُ البتة في ديوان أعمالهم شَهادَتُهُمْ هذه وَ يُسْئَلُونَ يوم القيامة عنها، و يعذّبون بها، فعلم من تفسيرنا أنّ السين للتأكيد. و قيل: إنّها للاستقبال و الاستعطاف إلى التوبة قبل الكتابة (4).

وَ جَعَلُوا اَلْمَلائِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبادُ اَلرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19) وَ قالُوا لَوْ شاءَ اَلرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (20)

ثمّ حكى سبحانه استدلالهم على صحّة عبادتهم الملائكة الموجب لازدياد كفرهم بقوله تبارك و تعالى: وَ قالُوا استدلالا على صحّة عبادتهم الملائكة، و كونها مرضية عند اللّه لَوْ شاءَ اَلرَّحْمنُ أن لا نعبد الملائكة ما عَبَدْناهُمْ فلمّا عبدناهم علمنا أنّه شاء منّا عبادتهم. ثمّ ردّهم سبحانه بأنّه ما لَهُمْ بِذلِكَ التلازم بين فعلهم و إرادة اللّه التشريعية مِنْ عِلْمٍ مستند إلى الدليل

ص: 503


1- . تفسير روح البيان 8:358.
2- . تفسير روح البيان 8:358.
3- . مجمع البيان 9:66، تفسير الرازي 27:202.
4- . تفسير روح البيان 8:360.

إِنْ هُمْ و ما اولئك الكافرون إِلاّ يَخْرُصُونَ و يكذبون كذبا مستندا إلى الحدّس الباطل، لوضوح أنّ الإرادة التكوينية غير الإرادة التشريعية، و غير مستلزمة لها، و إلاّ لما عذّب المشركين في الدنيا بشركهم.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 21 الی 24

ثمّ لمّا أبطل سبحانه دليلهم المذكور، بيّن كون الملائكة بنات اللّه لا بدّ أن يستند إلى كتاب سماويّ من قبله تعالى، و أنكره عليهم بقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ و أنزلنا عليهم كِتاباً من السماء ناطقا بأنّ الملائكة بنات اللّه، و يجوز عبادتهم، خلافا للقرآن المبطل لها و الناهي عنها، سابقا على نزول القرآن و مِنْ قَبْلِهِ و قيل: يعني من قبل [القرآن أو]

الرسول، أو من قبل ادعّائهم أنّ الملائكة بنات اللّه (1)فَهُمْ في ادّعائهم ذلك بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ و مستدلّون، و عليه معتمدون؟ لا و اللّه ما آتيناهم كتابا، فلا دليل لهم على مدّعاهم،

لا عقلا و لا نقلا بَلْ لا مستمسك لهم إلاّ تقليد آبائهم و اسلافهم حيث إنّهم قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا الأقدمين ثابتين عَلى أُمَّةٍ و دين مجتمع عليه، و هو عبادة الملائكة و اعتقاد أنّهم بنات اللّه وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ و سنّتهم و طريقتهم مُهْتَدُونَ و في مواضع أقدامهم سالكون، و لخطواتهم متّبعون.

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تمسّك الجهّال بالتقليد ليس أمرا بدعيا مختصّا بقومك، بل كان دأبهم من قديم الدهر بقوله: وَ كَذلِكَ القول الصادر من قومك ما أَرْسَلْنا في القرون التي مضت مِنْ قَبْلِكَ و قبل إرسالك فِي قَرْيَةٍ من قرى الأرض و بلدة من البلدان مِنْ نبيّ نَذِيرٍ و مخوّف قومه من العذاب على الشرك إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها و جبابرتها و رؤساؤها المتنعمّون الذين أبطرتهم النّعمة، و صرفتهم إلى التقليد في جواب ذلك الرسول: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا و أسلافنا الذين كانوا أعقل و أعلم منّا ثابتين عَلى أُمَّةٍ و دين اتّفقوا على صحّته وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ و سنّتهم الباقية منهم مُقْتَدُونَ و لهم (2)مقلّدون

قالَ كلّ رسول لقومه الذين تمسّكوا بالتقليد أَ تقلّدونهم وَ لَوْ جِئْتُكُمْ من

ص: 504


1- . تفسير روح البيان 8:361.
2- . في النسخة: و بهم.

قبل اللّه بِأَهْدى و أرشد إلى الحقّ مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الدين؟ على فرض كونه هداية و رشادا، مع أنّه ليس كذلك قالُوا عنادا و لجاجا و تعصّبا: يا أيها الرسل إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من التوحيد كافِرُونَ و منكرون، و إن كان أهدى و أرشد ممّا وجدنا عليه آباءنا.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 25 الی 28

فلمّا أعلنوا بالتعصّب و الإصرار على دينهم، و تبعية آبائهم، و بارزوا الرسل بالتكذيب و الاستهزاء، و يأس الرسل من إيمانهم فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ باستئصالهم بالعذاب، و أهلكناهم بأفظع الهلاك فَانْظُرْ يا محمّد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر الأمم اَلْمُكَذِّبِينَ لرسلهم، و إلى ما صار مآلهم، فلا تكترث بتكذيب قومك، فانّ اللّه سينتقم منهم كما أنتقم من الامم المكذّبة لرسلهم.

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (25) وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

ثمّ حكى سبحانه قصّة دعوة إبراهيم الذي كان يفتخر العرب بانتسابهم إليه، و أنّه تبرّأ من التقليد، و تمسّك في دينه بالبرهان، مع كونه أعقل الناس و أعظمهم شانا، و أمتنهم رأيا، و أصوبهم طريقة في اعتقاد الكلّ بقوله: وَ إِذْ قالَ قيل: إنّ التقدير و اذكر يا محمد لقومك وقتا (1)قال إِبْراهِيمُ الذي يجب عليكم أيّها العرب اتّباعه، دعوة إلى التوحيد، و تنفيرا من الشرك لِأَبِيهِ آذر وَ قَوْمِهِ الذين كانوا يعبدون الكواكب و الأصنام تقليدا لأبائهم: يا قوم إِنَّنِي بَراءٌ و منزجر قلبا (من) عبادة جميع ما تَعْبُدُونَ من الكواكب و الأصنام و غيرها،

فلا أعبد شيئا إِلاَّ اللّه، لأنّه اَلَّذِي فَطَرَنِي و بدأ خلقي من غير مثال.

قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى أنّي بري من عبادة الأصنام، لكن الذي خلقني لا أبرأ من عبادته (2)فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ و يرشدني إلى معالم دينه، و كيفية عبادته و طاعته، و درجات قربه، و عليه يكون السين للتأكيد، و قيل: إنّه للتسويف، و المعنى سيثبّتني على الهداية، و سيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن (1).

و قيل: إنّ في قوله في سورة الشعراء: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (2)و قوله هنا: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ دلالة على استمرار الهداية في الحال و الاستقبال (3).

ص: 505


1- . تفسير البيضاوي 2:371، تفسير أبي السعود 8:44، تفسير روح البيان 8:363.
2- . الشعراء 26:78.
3- . تفسير الرازي 27:208.

و على أيّ تقدير أنّه عليه السّلام دعا الناس إلى كلمة التوحيد، و هو قول: لا إله إلاّ اللّه، المستفاد من تبريّة من جميع ما يعبدون إلاّ خالقه

وَ جَعَلَها -بقوله: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ (1)- كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ و نسله و ذرّيته إلى يوم القيامة لَعَلَّهُمْ بدعوة الموحّدين منهم يَرْجِعُونَ من الشرك إلى التوحيد، فيكون فيهم أبدا من يوحّد اللّه و يدعو إلى التوحيد، و يكون إماما و حجّة على الخلق.

عن السجّاد عليه السّلام قال: «فينا نزلت هذه الآية وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ و الإمامة في عقب الحسين عليه السّلام باقية إلى يوم القيامة» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خطبة الغدير: «معاشر الناس، القرآن يعرفكم أنّ الأئمة من بعده ولده، و إنّي عرّفتكم أنّهم منّي و [أنا]منه، حيث يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ» (3).

و في (المناقب) عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «الامامة في عقب الحسين عليه السّلام، يخرج من صلبه تسعة من الأئمة، منهم مهدي هذه الامّة» (4).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع جعله لإبراهيم كلمة التوحيد باقية في ذرّيته، لم يؤمن به كلّهم بقوله: بَلْ مَتَّعْتُ و نفعت بالنّعم الدنيوية من الصحة و طول العمر، و كثرة المال و الأولاد و غيرها هؤُلاءِ المشركين المعاصرين للرسول من أهل مكّة وَ آباءَهُمْ السابقين، فمع أنّ حقّ تلك النّعم أن يشكروا المنعم و يوحدّوه و يعبدوه، انهمكوا في الشهوات، و اغترّوا و اشتغلوا بها عن كلمة التوحيد، و استمرّوا على الشرك حَتّى جاءَهُمُ من قبل اللّه القرآن الذي هو اَلْحَقُّ و عين الصدق وَ رَسُولٌ مُبِينٌ و ظاهر الرسالة بالمعجزات الباهرات، أو مظهر للتوحيد بالحجج القاهرات

وَ لَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ و القرآن الذي فيه وجوه من الاعجاز ليوقظهم عن نوم الغفلة، و يرشدهم إلى التوحيد، عاندوا الحقّ، و طعنوا في القرآن، و كونه معجزة، و قالُوا هذا القرآن الذي لا نقدر على الإتيان بمثله سِحْرٌ لا معجزة وَ إِنّا بِهِ و بكونه من جانب اللّه و كلامه كافِرُونَ و عنه معرضون.

بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتّى جاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنّا بِهِ كافِرُونَ (30)

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 31

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)

ص: 506


1- . إبراهيم:14/35.
2- . كمال الدين:323/8، تفسير الصافي 4:387.
3- . الاحتجاج:65، تفسير الصافي 4:388.
4- . مناقب ابن شهر آشوب 4:46، تفسير الصافي 4/488.

ثمّ حكى سبحانه عنهم الاعتراض على الرسالة و دعوى نزول القرآن من اللّه بقوله: وَ قالُوا جهلا بملاك الرسالة، و خطأ في تطبيق العظمة عند اللّه على العظمة عند الناس: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ إن كان منزلا من اللّه عَلى رَجُلٍ مِنَ أهالي إحدى اَلْقَرْيَتَيْنِ مكة و الطائف عَظِيمٍ عند الناس بالمال و الجاه، كالوليد بن المغيرة المخزومي الساكن في مكّة، و عروة بن مسعود الثقفي الساكن في الطائف.

و قيل: إنّ المراد من الرجل خصوص عروة بن مسعود، فانّه كان يسكن كلتا القريتين، حيث إنّه كان في الطائف بساتينه و ضياعه، و في مكة تجارته و أمواله، و لذا كان يتردّد إليهما (1)، و يحسب من أهلهما.

و حاصل المراد-و اللّه أعلم-أنّ الرسالة منصب جليل عظيم لا يليق به إلاّ العظيم بين الناس، و هو من له جاه و مال كعروة و الوليد، لا محمد فانّه ليس له مال و رئاسة، فهو كاذب في دعوى الرسالة و نزول القرآن عليه.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 32

ثمّ ردّ سبحانه اعتراضهم بإنكار قابليتهم للرأي و التكلّم في المناصب الإليهة من النبوة و الامامة بقوله: أَ هُمْ مع ضعف عقولهم و غاية عجزهم و قصورهم يَقْسِمُونَ بين الناس رَحْمَتَ رَبِّكَ و فضله بالنبوة و الامامة، و يضعونها حيث شاءوا؟ لا و اللّه هم أعجز و أحقر من أن يتصرّفوا في تفضّلاته الدنيوية، و يقسّموا نعمه الظاهرية، بأن يفقروا الغني، و يغنوا الفقير، و يعزّوا الذليل، و يذلّوا العزيز نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ و أرزاقهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ في الرزق و سائر النّعم فَوْقَ بَعْضٍ إلى دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف و قويّ، و فقير و غنيّ، و وضيع و شريف، و جاهل و عالم، و غبيّ و ذكيّ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً في مصالحهم سُخْرِيًّا ذليلا و مطيعا، و لو سوّينا بينهم في جميع الامور لم يصر أحد مسخّرا لغيره، و لم يخدم أحد غيره، فيختلّ نظام العالم، و ينتهي إلى خرابه وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ و رسالته، و ما فيه سعادة الدارين خَيْرٌ و أفضل لأهلها مِمّا يَجْمَعُونَ الناس من الحطام الدنيوية الزائلة، و إنّما العظمة المعتبرة في إعطاء تلك الرحمة العظيمة، هي عظمة النفس بالصفاء و النورانية،

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (32)

ص: 507


1- . تفسير روح البيان 8:365.

و التخلّق بأخلاق اللّه، و التنزّه عن الرذائل، و كمال العقل و الذكاء، و الإعراض عن الدنيا و عمّا سوى اللّه، و الاقبال إلى اللّه و الدار الآخرة. و قليل من تلك المكارم خير من الدنيا بحذافيرها، و لا يلازم وجود النّعم الدنيوية وجود تلك الكمالات النفسانية و قرب واجدها إلى اللّه، بل كثيرا ما لا يجتمعان.

في مخاصمة

النبي صلّى اللّه عليه و آله مع

المشركين

روى في (الاحتجاج) أنّ عبد اللّه بن أبي امية قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مجمع سائر قريش: لو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولا، لبعث أجلّ من فيما بيننا مالا، و أحسن حالا، فهلاّ نزّل هذا القرآن الذي تزعم أنّ اللّه أنزله عليك، و أنّه بعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة، و إمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟ ثمّ ذكر اشياء اخر.

إلى أن قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و أمّا قولك: لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة، و إمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فانّ اللّه ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت، و لا خطر عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به شربة ماء، و ليس قسمة اللّه إليك، بل اللّه القاسم للرحمات، و الفاعل لما يشاء في عبيده و إمائه، و ليس هو عزّ و جلّ ممّن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله و حاله فعرفته بالنبوّة لذلك، و لا ممّن يطمع في أحد في ماله و حاله كما تطمع فتخصّه بالنبوّة لذلك، و لا ممّن يحبّ أحدا محبّة الهوى كما تحبّ أنت فتقدّم من لا يستحقّ التقديم، و إنّما معاملته بالعدل، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين و جلاله إلاّ الأفضل في طاعته، و الأجدّ في خدمته، و كذلك لا يؤخّر في مراتب الدين و جلاله إلاّ أشدّهم تباطؤا عن طاعته، و إذا كان هذا صفته، لم ينظر إلى مال، و لا إلى حال، هذا المال و الحال من تفضّله، و ليس لأحد من عباده [عليه]ضربة لازب (1).

فلا يقال له: إذا تفضّلت بالمال على عبد، فلا بدّ أن تتفضّل عليه بالنبوة أيضا، لأنّه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده، و لا إلزامه تفضلا، لأنّه تفضّل قبله بنعمة، ألا ترى-يا عبد اللّه-كيف أغنى واحدا و أقبح صورته، و كيف أحسن صورة واحد و أفقره، و كيف أغنى واحدا، و كيف شرّف واحدا و أفقره و وضعه؟

ثمّ ليس لهذا الغنيّ أن يقول: هلاّ اضيف إلى يساري جمال فلان؟ و لا للجميل أن يقول: هلاّ اضيف إلى جمالي مال فلان؟ و لا للشريف أن يقول: هلاّ اضيف إلى شرفي مال فلان؟ و لا للوضيع أن يقول: هلاّ أعطيتني شرف فلان؟ و لكن الحكم للّه، يقسم كيف يشاء، و يفعل كما يشاء، و هو حكيم في

ص: 508


1- . صار الأمر ضربة لازب، أي لازما ثابتا.

افعاله محمود في أعماله، و ذلك قوله: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. قال اللّه تعالى: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يا محمد نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فأحوجنا بعضا إلى بعض، أحوج هذا إلى مال ذلك، و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته، فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب، إمّا سلعة منه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلاّ به، و إمّا باب من العلوم و الحكم، و هو فقير إلى أن يستفيده من ذلك الفقير، فهذا الفقير يحتاج إلى ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير و رأيه أو معرفته، ثمّ ليس للملك أن يقول: هلاّ اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير؟ و ليس للفقير أن يقول: هلاّ اجتمع إلي رأيي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ؟» (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 33 الی 35

ثمّ بيّن سبحانه حقارة الدنيا و حطامها عنده، ردّا لمن استعظمها و ادّعى أولوية واجدها بالرسالة بقوله تعالى: وَ لَوْ لا كراهة أَنْ يَكُونَ اَلنّاسُ في الكفر أُمَّةً واحِدَةً و جماعة متّفقة على الشرك لرغبتهم فيه، إذا رأوا جميع الكفّار في التنعّم و السّعة، و اللّه لَجَعَلْنا لحقارة الدنيا و هوانها عندنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ و يشرك به مع كونه شرّ الخلائق و أقلّهم قدرا، أعني لِبُيُوتِهِمْ و مساكنهم سُقُفاً معمولة مِنْ جنس فِضَّةٍ خالصة وَ مَعارِجَ و مدارج و مصاعد من فضة أيضا عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ يعلمون السطوح و القصور،

و جعلنا لِبُيُوتِهِمْ و مساكنهم أَبْواباً من فضّة وَ سُرُراً أيضا من فضّة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ و يعتمدون حال الجلوس

وَ و جعلنا زُخْرُفاً و زينة عظيمة من الذهب لهم.

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)و قيل: إنّ المعنى و نجعل لهم مع ذلك ذهبا كثيرا (2). و قيل: إنّه عطف على محلّ (مِنْ فِضَّةٍ) و المعنى سقفا من فضّة و زخرف بمعنى الذهب، أي سقفا بعضها من فضة و بعضها من ذهب (3).

ص: 509


1- . الاحتجاج:30-33، تفسير الصافي 4:389.
2- . تفسير الرازي 27:211.
3- . جوامع الجامع:434.

عن الصادق عليه السّلام: «لو فعل اللّه ذلك بهم لما آمن أحد، و لكنّه جعل في المؤمنين أغنياء، و في الكافرين فقراء، و جعل في المؤمنين فقراء، و في الكافرين أغنياء، ثمّ امتحنهم بالأمر و النهي، و الصبر و الرضا» (1).

و عن السجاد عليه السّلام-في رواية- «لو فعل اللّه ذلك بامّة محمد صلّى اللّه عليه و آله لحزن المؤمنون و غمّهم، و لم يناكحوهم، و لم يوارثوهم» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما كان من ولد آدم مؤمن إلاّ فقيرا و لا كان كافر إلاّ غنيا، حتى جاء إبراهيم فقال: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا (3)فصيّر اللّه في هؤلاء أموالا و حاجة، و في هؤلاء أموالا و حاجة» (4).

ثمّ بيّن سبحانه سرعة زوال تلك النّعم بقوله: وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ و ما جميع هذه النّعم لَمّا مَتاعُ اَلْحَياةِ و إلاّ امور ينتفع بها في مدّة العمر لا بقاء لها، بل تزول بالموت و الخروج من الدنيا وَ اَلْآخِرَةُ بما فيها من أنواع النّعم التي لا توصف بالبيان باقية أبدية لا زوال لها، و هي عِنْدَ رَبِّكَ و في حكمه لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الكفر و الشرك و العصيان، و لمّا كانت الدنيا دار الامتحان، ليميز الخبيث من الطيب، لم يوفّر النّعم على المؤمنين حتى يجتمع الناس على الايمان، لعدم حصول الامتحان، و عدم تبيّن المخلص عن المنافق.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ بيّن سبحانه أنّ طعن المشركين في القرآن و إعراضهم عن الرسول من تسويل الشياطين و إلقائهم بقوله تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ و تعامى عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمنِ و كتابه المنزل لوعظ الناس -و هو القرآن-أو عن التوجّه إلى اللّه نُقَيِّضْ لَهُ و نسلّط عليه، و نضمّ إليه شَيْطاناً يغويه فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ و مصاحب لا يفارقه، و لا يزال يوسوسه، و يزيّن له العمى على الهدى، و الكفر على الايمان.

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أراد اللّه بعبد شرا، قيّض له شيطانا قبل موته بسنة، فلا يرى حسنا إلاّ قبّحه عنده حتى لا يعمل به و لا يرى قبيحا إلاّ حسّنه حتى يعمل به» (5).

ص: 510


1- . تفسير القمي 2:284، تفسير الصافي 4:390.
2- . علل الشرائع:589/33، تفسير الصافي 4:390.
3- . الممتحنة:60/5.
4- . الكافي 2:202/10، تفسير الصافي 4:391.
5- . تفسير روح البيان 8:369.

و في (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من تصدّى بالإثم عمي (1)عن ذكر اللّه تبارك و تعالى، و من ترك الأخذ بمن أمر اللّه بطاعته، قيّض له شيطانا فهو له قرين» (2).

ثمّ بيّن سبحانه ضرر الشياطين بقوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ بتسويلاتهم و إغوائهم لقرنائهم، و اللّه لَيَصُدُّونَهُمْ و يمنعونهم عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ المودّي إلى الحقّ، و إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية، وَ الحال أنّ العاشين يَحْسَبُونَ و يتوهّمون في أنفسهم، لشدة ضلالتهم أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحقّ. قيل: إنّ مرجع الضمير [إلى]

الشياطين (3). و المعنى أنّهم يحسبون أنّ الشياطين الذين اتّبعوهم مهتدون.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ إنّهم مستمرون على مصاحبة الشياطين و حسبانهم الباطل حَتّى إِذا جاءَنا كلّ واحد منهم مع قرينه يوم القيامة و رأى وخامة عاقبة اتّباعه للشيطان الذي قارنه قالَ مخاطبا له: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ في الدنيا بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ و فصل ما بينهما.

حَتّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)قيل: إنّ التثنية على التغليب، و المراد منها المشرق و المغرب (4). و قيل: على الحقيقة، و المراد مشرق الشمس و مشرق الكواكب، و هو مغرب الشمس. و قيل: مشرق الشمس في الصيف و الشتاء، و بينهما بعد عظيم (5).

و على أيّ تقدير المقصود تمنّي البعد الذي لا أبعد منه فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ أنت يا شيطان،

ثمّ يقال له من قبل اللّه تعالى توبيخا و تقريعا: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ تمنّي التباعد إِذْ ظَلَمْتُمْ أنفسكم، و لأجل أن عصيتم ربّكم باتّباعكم في الدنيا إياهم في الكفر و الطغيان أَنَّكُمْ أيّها التابعون و المتبوعون فِي اَلْعَذابِ الأليم مُشْتَرِكُونَ كما كنتم في الدنيا مشركين في سببه، و هو العصيان.

و قيل: إنّ فاعل (لَنْ يَنْفَعَكُمُ) قوله: أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ و المعنى أنّ اشتراككم في العذاب لا ينفعكم في التشفّي، إذ تقولون رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذابِ (6)و لا في التخفيف عنكم؛ لأنّ شدّة العذاب تذهل كلا عن الآخر.

ص: 511


1- . في المصدر: صدىء بالاثم عشى.
2- . الخصال:633، تفسير الصافي 4:391.
3- . تفسير أبي السعود 8:47، تفسير روح البيان 8:370.
4- . تفسير أبي السعود 8:47، تفسير روح البيان 8:370.
5- . تفسير الرازي 27:213.
6- . تفسير أبي السعود 8:48، تفسير روح البيان 8:370، و الآية من سورة الأحزاب:33/68.

فحاصل الآيات أنّ كثرة المال و النّعم الدنيوية تعمي الإنسان عن مطالعة آيات اللّه و كتابه، و ذلك العمى يجعل الانسان قرينا للشيطان، و هو يضلّه عن الهدى، فيشتركان في العذاب، كما كانا مشتركين في الكفر و العصيان.

عن الباقر عليه السّلام-في تأويله- «نزلت هاتان الآيتان هكذا: حَتّى إِذا جاءَنا يعني فلانا و فلانا، يقول أحدهما لصاحبه حين يراه: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ فقال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: قل لفلان و فلان و أتباعهما لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ آل محمد» (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ لمّا وصف اللّه سبحانه المصرّين على الكفر و الشرك بالعمى و العشيّ و التعامي، بالغ في ذمّهم بأن وصفهم بالعمى و الصّمم، فلا يمكن هدايتهم إلى الطريق الحقّ بالدعوة و البيان بقوله: أَ فَأَنْتَ يا محمد تُسْمِعُ اَلصُّمَّ و فاقدي قوّة السّمع دعوتك و آيات كتابك أَوْ تَهْدِي و تدلّ اَلْعُمْيَ و فاقدي قوّة البصر إلى الطريق الحقّ و دين الاسلام وَ تدلّ مَنْ كانَ غائرا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح لجميع العقلاء عن الحقّ و سبيل الخير؟ لا و اللّه لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم مع كمال نبوتك، و شماخة مقامك، فلا تتعب نفسك الشريفة في دعوتهم إلى الايمان، و فيه إشعار بأنّ الوصفين لتمكّنهم في الضلال المفرط.

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يتعب نفسه في دعاء قومه، و هم لا يزيدون إلاّ غيا و تعاميا ممّا يشاهدونه من المعجزات، و تصامما عما يسمعونه من الآيات، فنزلت (2).

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ من الدنيا إلى جوار رحمتنا قبل أن نريك عذابهم، و نشفي غليل صدرك و صدر المؤمنين باهلاكهم فَإِنّا لا محالة مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ في الدنيا و الآخرة بعد ذهابك من الدنيا.

روى العلامة في (نهج الحق) عن ابن عباس في الآية، أنّه قال: بعليّ عليه السّلام (3).

و قال القاضي: الرواية عن طريق ابن عباس قد رواها ابن مردويه.

ص: 512


1- . تفسير القمي 2:286، تفسير الصافي 4:392.
2- . تفسير روح البيان 8:371.
3- . نهج الحق:205، مناقب ابن المغازلي:275/321، و شواهد التنزيل 2:153/852، عن جابر الانصاري.

روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: اري ما يصيب امّته بعده، فما رؤي مستبشرا ضاحكا حتى قبض.

و روى القاضي التّستري، عن الطبرسي، عن جابر بن عبد اللّه، قال: إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجة الوداع بمنى حين قال: «لألقينكم» ثمّ التفت إلى خلفه و قال: «أو علي» ثلاث مرات، فرأينا أن جبرئيل عمزه، فأنزل اللّه تعالى على أثر ذلك: فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعلي.

و في رواية اخرى عنه، قال: إنّي لادناهم من رسول اللّه في حجّة الوداع بمنى، حتى قال: «لألقينكم ترجعون بعدي كفّارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم» ثمّ التفت إلى خلفه فقال: «أو علي» ثلاث مرات، فرأينا أنّ جبرئيل غمزه، فأنزل اللّه فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعلي بن أبي طالب (1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «فإمّا نذهبنّ بك يا محمد من مكّة إلى المدينة، فانّا رادّوك إليها، و منهم منتقمون بعلي بن أبي طالب» (2).

أَوْ نُرِيَنَّكَ قيل: إنّ المعنى أو ان أردنا أن نريك (3)اَلَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب فَإِنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لا يفوتوننا و لا يخرجون من سلطاننا.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في معارضة قومه، أمره بالثّبات على ما هو عليه بقوله: فَاسْتَمْسِكْ يا محمد بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من القرآن الذي لم يوح إلى أحد من الرسل مثله في الفصاحة و البلاغة، و تضمّن العلوم و الحكم و الأحكام، و التزم بما فيه، و لا تعتن بمعارضة قومك، و تكذيبهم إيّاه، و طعنهم فيه، سواء عجّلنا لك عذابهم، أو أخّرناه إِنَّكَ بلطف ربّك كائن، أو مارّ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق سوّي لا عوج له، و هو التوحيد، و دين الاسلام،

و أحكام القرآن وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ و شرف عظيم لَكَ خصوصا وَ لِقَوْمِكَ و امّتك عموما، كما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ لكلّ شيء شرفا يباهي به، و إنّ بهاء امّتي و شرفها بالقرآن» (4).

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)و قيل: إنّ المراد من قومه خصوص قريش، حيث يقال: إنّ هذا الكتاب العظيم نزل على رجل من هؤلاء (5).

ص: 513


1- . إحقاق الحق 3:445.
2- . تفسير القمي 2:284، تفسير الصافي 4:392.
3- . تفسير أبي السعود 8:48، تفسير روح البيان 8:372.
4- . تفسير روح البيان 8:373.
5- . تفسير روح البيان 8:373.

ثمّ جمع سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قومه في الخطاب التهديدي بقوله: وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ هل أدّيتم شكر إنعامنا عليكم بإنزال القرآن و الذّكر الجميل، أو هل حفظتموه و عملتم بما فيه من الأحكام، و أديتموه إلى الناس.

عن الصادق عليه السّلام: «الذّكر القرآن، و نحن قومه، و نحن المسؤولون» (1).

و عنه عليه السّلام: «إيّانا عنّى، و نحن أهل الذّكر، و نحن المسؤولون» (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 45

ثمّ لمّا كان معارضة القوم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و طعنهم في القرآن، لتصريحهما ببطلان الشرك و الدعوة إلى التوحيد، بيّن سبحانه أنّه ليس من خواصّك و خواصّ كتابك، بل جميع الأنبياء و الرسل مطبقون على التوحيد و إنكار الشرك بقوله: وَ سْئَلْ يا محمد مَنْ أَرْسَلْنا قيل: إنّ التقدير امم من أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا و علمائهم الذين يقرأون كتبهم (3)أَ جَعَلْنا لهم مِنْ دُونِ اَلرَّحْمنِ و ممّا سواه آلِهَةً يُعْبَدُونَ و هل حكمنا في ملّة من الملل بجواز عبادة غير اللّه.

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)روي عن عائشة: لمّا نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنا بالذي أشكّ، و لا أنا بالذي أسأل» (4).

و قيل: إنّ المراد السؤال من أشخاص الرسل، لمّا روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا اسري به إلى المسجد الحرام حشر إليه الأنبياء و المرسلون من قبورهم، و مثّلوا له، فأذّن جبرئيل و أقام، و قال: يا محمد، تقدّم وصلّ بإخوانك الأنبياء و المرسلين، فلمّا فرغ من صلاته قال له جبرئيل: زعمت قريش أن للّه شريكا، و زعمت اليهود و النصارى أنّ للّه ولدا، سل يا محمد هؤلاء النبيين: هل كان للّه شريك؟ ثمّ قرأ وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا إلى آخره فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا أسأل، و قد اكتفيت، و ليس بشاكّ فيه» فلم يشكّ و لم يسأل (5).

و قال بعض مفسري العامة: إنّ هذه الآية نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله ببيت المقدس ليلة المعراج، فلمّا نزلت و سمعها الأنبياء أقروا للّه بالوحدانية و قالوا: بعثنا بالتوحيد (6). و عن عطاء، عن ابن عباس: لمّا اسري به إلى المسجد الأقصى بعث له آدم و جميع المرسلين من ولده فأذّن جبرئيل ثمّ أقام فقال: يا

ص: 514


1- . الكافي 1:164/5، تفسير الصافي 4:393.
2- . الكافي 1:164/2، تفسير الصافي 4:393.
3- . تفسير أبي السعود 8:49، تفسير روح البيان 8:374.
4- . تفسير روح البيان 8:374.
5- . تفسير روح البيان 8:374.
6- . تفسير روح البيان 8:374.

محمد، تقدّم وصلّ بهم. فلمّا فرغ قال له جبرئيل: وَ سْئَلْ يا محمد مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا الآية. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا أسأل لأنّي لست شاكّا فيه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: من ذا الذي سأله محمد، و كان بينه و بين عيسى خمسمائة سنة، فتلا هذه الآية: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا (2)فكان [من]الآيات التي أراها اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله حين أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر اللّه له الأولين و الآخرين من النبيين و المرسلين، ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا، و أقام شفعا، ثمّ قال في إقامته: حيّ على خير العمل، ثمّ تقدّم محمد صلّى اللّه عليه و آله فصلّى بالقوم، فأنزل اللّه عليه: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الآية، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: على ما تشهدون، و ما كنت تعبدون؟ فقالوا: نشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، و أنّك رسول اللّه، أخذت (3)على ذلك مواثيقنا و عهودنا» (4).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 46 الی 52

ثمّ حكى سبحانه إرساله موسى مع كونه عديم المال و الجاه، إلى فرعون الذي كان له ملك مصر و أموال كثيرة، ردّا على قريش الذين قالوا: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ (5)الآية، بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى مع كونه فقيرا و مهينا عند القبط حال كونه مستدلا على صدقه بِآياتِنا و معجزاته التي أعطيناه إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه المطاعين عند القبط فَقالَ لهم موسى: يا قوم إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ إليكم، لأدعوكم إلى توحيده و طاعته،

و جئتكم بآيات و معجزات من ربّكم فَلَمّا جاءَهُمْ بِآياتِنا و أراهم المعجزات الدالّة على صدقه إِذا هُمْ مِنْها

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (46) فَلَمّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا اَلسّاحِرُ اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ اَلْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52)

ص: 515


1- . تفسير الرازي 27:216.
2- . الإسراء:17/1.
3- . في الكافي: أخذ.
4- . تفسير القمي 2:285، الكافي 8:121/93، تفسير الصافي 4:393.
5- . الزخرف:43/31.

يَضْحَكُونَ كذبا، و بها يستهزئون، فكان يريهم آية بعد آية،

و يأتيهم بمعجزة بعد معجزة وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات و معجزة من المعجزات إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ و أعظم مِنْ أُخْتِها و قرينتها وَ أَخَذْناهُمْ و ابتليناهم بعد أن يستهزئوا بالمعجزات بِالْعَذابِ و البلاء من الطوفان، و الجراد، و القمل، و الدم، و الطمس لَعَلَّهُمْ بسبب العذاب و البلاء يَرْجِعُونَ عما هم عليه من الكفر و الطغيان إلى الايمان و التسليم، فلما اشتد الأمر على فرعون و ملئه،

جزعوا وَ قالُوا تضرعا إلى موسى: يا أَيُّهَا اَلسّاحِرُ في زعم الناس. و قيل: إنهم كانوا يقولون للعالم [الماهر]

ساحر (1)، و المعنى: أيها العالم، إن تك صادقا في دعوى الرسالة اُدْعُ لَنا رَبَّكَ الذي أرسلك ليكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ من النبوة المحفوظة عِنْدَكَ أو من استجابة دعوتك، أو من كشف العذاب عمن آمن بك، و الباء على هذا للسببية، أو المعنى بحق ما عهد عندك من النبوة إِنَّنا على تقدير كشف العذاب لَمُهْتَدُونَ و مؤمنون بك.

فَلَمّا كَشَفْنا و رفعنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ بدعاء موسى إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ و ينقضون عهدهم بالاهتداء و الايمان، و بادروا إليه من غير ريث،

و أصروا على الكفر و العناد وَ كان من نقضهم أنه نادى فِرْعَوْنُ بنفسه، أو بمناد من قبله فِي ما بين قَوْمِهِ و هم القبط، قالَ تعظما و افتخارا: يا قَوْمِ إن كان إله غيري كنت أولى بالرسالة من قبله أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ و هي على ما قيل أربعون فرسخا في أربعين (2). وَ أ ليس هذِهِ اَلْأَنْهارُ الأربعة المتشعبة من النيل، و هي على ما قيل نهر الإسكندرية، و نهر طولون، و نهر دمياط، و نهر تنيس (3). تَجْرِي مِنْ تَحْتِي قيل: كانت تلك الأنهار تجري في بستان له فيه قصره. و قيل: يعني تجري من أمري (4). أَ فَلا تُبْصِرُونَ يا قوم سلطنتي و جاهي و ما لي، يا قوم أموسى خير مني مع ما تبصرون من سلطنتي و عظمتي

أَمْ أَنَا خَيْرٌ و أفضل مِنْ هذَا الرجل اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ و ضعيف و حقير بينكم؟

و قيل: إن المعنى أَ فَلا تُبْصِرُونَ أنا خير منه (5). و قيل: (أنا خير) لابتداء الكلام، و المعنى (أَ فَلا تُبْصِرُونَ) أم تبصرون (6)ما يكون.

ثم قال: (أنا خير منه) و قيل: إن كلمة (أم) بمعنى بل (7). و قيل: بمعنى الاستفهام و بل، فكأنه قال أثر

ص: 516


1- . تفسير الرازي 27:218.
2- . تفسير روح البيان 8:377.
3- . تفسير الرازي 27:218، تفسير روح البيان 8:377.
4- . تفسير روح البيان 8:377.
5- . تفسير روح البيان 8:377.
6- . تفسير الرازي 27:218.
7- . تفسير الرازي 27:218، تفسير روح البيان 8:378.

تعديد موجبات فضله و مبادئ خيريته: يا قوم، أثبت عندكم ما قلت؟ بل أنا خير منه (1). وَ الحال أنه لا يَكادُ يُبِينُ و يوضح كلامه، لرتة في لسانه، فكيف يليق للرسالة؟ و قيل: إنه قال ذلك بلحاظ اطلاعه على حاله السابق، و ما كان يعلم زوال رتته منه بدعائه. و قيل: إن المراد لا يكاد يبين حجته على رسالته، لا أنه لا يقدر على الكلام (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 53 الی 56

ثم قيل: إن عادة القبط كانت جارية بأن من جعلوه رئيسا مطاعا سوروه بسوار من ذهب، و طوقوه بطوق من ذهب (3)، فلذا قال فرعون توبيخا لموسى: فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ من قبل ربه أَسْوِرَةٌ و أقلبه مِنْ ذَهَبٍ التي هي مقاليد الملك، إن كان صادقا في دعوى الرسالة؟ أَوْ جاءَ مَعَهُ اَلْمَلائِكَةُ حال كونهم مُقْتَرِنِينَ لموسى و منضمين إليه، أو منقادين له؟ كي يعينونه على أمره، و يصدقونه في دعوى رسالته.

فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ اَلْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمّا آسَفُونا اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

فَاسْتَخَفَّ فرعون بما ذكر من التلبيسات قَوْمَهُ و أراد بالتمويهات خفة عقولهم، و حملهم على الجهل، كي يطيعوه فيما أراد منهم مما يأباه أرباب العقول السليمة. و قيل: طلب منهم خفة الأبدان، و هي كناية عن إسراعهم في طاعته، أو المراد وجد أحلامهم خفيفة، يغترون بالتسويلات و التمويهات الباطلة (4)، أو وجدهم خفافا في أبدانهم و عزائمهم (5). فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به من معارضة موسى، و الأعراض عنه، لفرط ضلالهم.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن حدود العقل و عبودية الله، فلذلك استعظموا فرعون بماله و ملكه، و سارعوا إلى طاعته، و استحقروا موسى لفقر و ضعفه، فخالفوه أمنا من ضرره.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «و لقد دخل موسى و معه أخاه هارون على فرعون، و عليهما مدارع الصوف، و بأيديهما عصا، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه، فقال: ألا تعجبون من هذين، يشترطان لي دوام العز، و بقاء الملك، و هما بما ترون من حال الفقر و الذل، فهلا القي عليهما أساور من ذهب؟ ! إعظاما للذهب و جمعه، و احتقارا للصوف و للبسه. و لو أراد الله لأنبيائه حيث بعثهم كنوز

ص: 517


1- . تفسير أبي السعود 8:50، تفسير روح البيان 8:378.
2- . تفسير الرازي 27:219.
3- . تفسير الرازي 27:219.
4- . تفسير روح البيان 8:379.
5- . تفسير روح البيان 8:380.

الذهبان و معادن الأقيان و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طيور السماء و و حوش الأرضين لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء» .

إلى أن قال: «و لكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، و ضعفه فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى، و خصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذى، و لو كانت الأنبياأ أهل قوة لا ترام، و عزة لا تضام، و ملك تمد نحوه أعناق الرجال و تشد إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، و أبعد لهم عن الاستكبار، و لآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، و كانت السيئات مشتركة، و الحسنات مقتسمة، و لكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله، و التصديق بكتبه، و الخشوع لوجهه، و الاستكانة لأمره، و الاستسلام لطاعته امورا له خاصة، لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلما كانت البلوى و الاختبار أعظم، كانت المثوبة و الجزاء أجزل» (1).

فَلَمّا آسَفُونا و شددوا عليهم سخطنا بالافراط في الطغيان و العناد للحق اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ و عجلنا في إنزال العذاب عليهم فَأَغْرَقْناهُمْ في البحر المطاع و المطيعين أَجْمَعِينَ بحيث لم نترك منهم أحدا.

قيل: لما افتخر فرعون بجريان الماء من تحته، غرقه الله في الماء (2).

عن الصادق عليه السلام، قال في هذه الآية: «إن الله تبارك و تعالى لا يأسف كأسفنا، و لكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون، و هم مخلوقون و مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، و سخطهم سخط نفسه، و ذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه، و الأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك» .

إلى أن قال: «و لو كان يصل إلى الملكوت الأسف و الضجر، و هو الذي أحدثهما و أنشأهما، لجاز لقائل أن يقول: إن الملكوت يبيد يوما، لأنه إذا دخله الضجر و الأسف، دخله التغير، و إذا دخله التغير، لم يؤمن عليه الإبادة» (3)الخبر.

و قيل: إن الأسف و الغضب من الله إرادة العذاب الذي هو أثر الغضب، و الانتقام هو التعذيب لجرم سابق (4).

ثم بين سبحانه أن فائدة إهلاكهم صيرورتهم عبرة لمن بعدهم بقوله: فَجَعَلْناهُمْ وصيرناهم سَلَفاً و قدوة لمن بعدهم من الكفار الذين يسلكون مسلكهم في استيجاب ما حل به من العذاب،

ص: 518


1- . نهج البلاغة:291 الخطبة 192، تفسير الصافي 4:395.
2- . تفسير روح البيان 8:381.
3- . الكافي 1:112/6، التوحيد:168/2، تفسير الصافي 4:396.
4- . تفسير الرازي 27:219.

أو سلفا و قدوة في دخول النار أ وَ مَثَلاً وعظة لِلْآخِرِينَ من الناس، لئلا يسلكوا مسلكهم.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 57

ثم إنه تعالى بعد حكاية جدال قريش مع النبي صلى الله عليه و آله بقولهم: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1)حكى جدالهم الآخر بقوله: وَ لَمّا ضُرِبَ و جعل عيسى اِبْنُ مَرْيَمَ في إبطال قول النبي صلى الله عليه و آله مَثَلاً و مقياسا؛ روي أنه لما نزل: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (2)قرأه رسول الله صلى الله عليه و آله على قريش، فامتعضوا و غضبوا غضبا شديدا، و شق عليهم ذلك، فقال عبد الله بن الزبعرى بطريق الجدال: هذا لنا و لآلهتنا، أو لجميع الامم؟ فقال: «هو لكم و لا لهتكم و لجميع الامم» فقال: خصمتك و رب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح، و أنت تزعم أنه نبي و تثني عليه و على امه، و قد علمت أن النصارى يعبدونهما، و اليهود يعبدون عزيزا، و بنو المليح يعبدون الملائكة، فان كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم، فسكت رسول الله صلى الله عليه و آله فنزلت (3).

وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)و لما ضرب ابن مريم مثلا إِذا قَوْمُكَ قريش يا محمد، لما سمعوا المثل مِنْهُ يَصِدُّونَ و يضجون، و يرفعون أصواتهم فزعا و سرورا لظنهم أنك صرت ملزما بذلك المثل.

و عن (المعاني) عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال في الآية «الصدود في العربية الضحك» (4).

و في روآية فضل بن روزبهان: أن النبي صلى الله عليه و آله قال في جواب ابن الزبعرى: «ما أجهلك بلسان قومك!» (5)فان (ما) لا يراد به ذوو العقول، و عيسى من ذوي العقول، فأنزل الله: وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إلى آخره.

في فضيلة أمير

المؤمنين عليه السلام

و روى العلامة في (نهج الحق) عن العامة: أن النبي صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام: «أن فيك مثلا من عيسى، أحبه قوم فهلكوا فيه، و أبغضه قوم فهلكوا فيه» فقال المنافقون: أما ترى له مثلا إلا عيسى ابن مريم؟ فنزلت هذه الآية (6).

و قال القاضي نور الله: قد روى أحمد بن حنبل في مسنده ما في الحديث الذكور من طرق ثمانية، منها: ما رواه مسندا إلى علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: «يا علي، إن فيك مثلا من عيسى، أبغضه اليهود حتى بهتوا امه، و أحبه النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له» . قال: قال علي عليه السلام: «يهلك

ص: 519


1- . الزخرف:43/31.
2- . الأنبياء:21/98.
3- . تفسير الرازي 27:221، تفسير روح البيان 8:381.
4- . معاني الأخبار:220/1، تفسير الصافي 4:396.
5- . تفسير روح البيان 8:382، و ليست عن ابن روزبهان.
6- . نهج الحق:202/62.

في رجلان: محب يفرطني بما ليس في، و مبغض شنأني على أن يبهتني» .

و كذا ابن المغازلي في كتاب (المناقب) ، و محمد بن عبد الواحد في (جواهر الكلام) ، و ابن عبد ربه في (العقد) ذكروا ما في معناه (1). و قريب من هذا المضمون روآيات عديدة بطرق أصحابنا.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 58 الی 60

و احتمل الفخر الرازي أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى، قالوا: إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، و إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة (2). فحكى سبحانه قولهم بقوله: وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ من عيسى أَمْ هُوَ خير من آلهتنا؟ و ما قالوا ذلك المثل و ما ضَرَبُوهُ لَكَ يا محمد لغرض من الأغراض إِلاّ جَدَلاً و لأجل الخصام و الغلبة عليك، لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك بَلْ هُمْ و ما اولئك المجادلون إلا قَوْمٌ خَصِمُونَ و مصرون على الجدال، و مبالغون في الخصومة.

وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

ثم بين سبحانه منزلة عيسى ردا على من قال بألوهيته بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ من عبادنا مربوب بتربيتنا أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بنعمة النبوة، و تفضلنا عليه بفضيلة الرسالة، لا هو ابننا و لا شريكنا في الالوهية و استحقاق العبادة وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً و عبرة عجيبة حقيقة بكونها كالمثل السائر لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعتبرون به، إنا خلقناه من غير أب، كما خلقنا آدم، و آتيناه معجزات كثيرة.

ثم لما ذكر سبحانه كون عيسى عبرة و آية من حيث تولده من غير أب، بين كمال قدرته في أمر الو لا دة بقوله: وَ لَوْ نَشاءُ و الله لَجَعَلْنا و لخلقنا بطريق الو لا دة مِنْكُمْ مع أنكم رجال من الإنس ليس من شأنكم الو لا دة مَلائِكَةً مستقرين فِي اَلْأَرْضِ أمثال أولادكم يَخْلُفُونَ كم، و يقومون مقامكم في مباشرة أعمالكم التي تباشرونها، كما خلقناهم بطريق الابداع، و أسكناهم في السماوات يسبحون و يقدسون، و من الواضح أن توليد الملائكة من رجال الانس أبدع من توليد عيسى من الانثى الإنسية من غير أب، و فيه تنبيه على أنهم غير أهلين للعبادة، لأنهم مخلوقون مربوبون.

في (الكافي) عن أبي بصير، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه و آله ذات يوم جالس، إذ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام،

ص: 520


1- . إحقاق الحق 3:403.
2- . تفسير الرازي 27:220.

فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: «إن فيك شبها من عيسى ابن مريم، لو لا أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى ابن مريم، لقلت فيك قولا لا تمر بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك، يلتمسون بذلك البركة» قال: فغضب الأعرابيان و المغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم، فقالوا: ما رضي أن يضرب لا بن عمه إلا عيسى، فأنزل الله على نبيه: وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إلى قوله: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي من بني هاشم مَلائِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (1).

و قيل: إن الله تعالى بعد حكاية جدال القوم مع الرسول صلى الله عليه و آله هددهم و قال: لو نشاء لأهلكناكم و جعلنا بدلا منكم ملائكة يسكنون الأرض بعدكم و يعمرونها و يعبدونني (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 61 الی 62

ثم بين سبحانه خصيصة عيسى عليه السلام بقوله: وَ إِنَّهُ عليه السلام بنزوله من السماء لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ و علامة لقربها، و شرط من أشراطها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أيها الناس، و لا تشكن فيها، و لا تجادلن بوقوعها لوجوب إتيانها علي وَ اِتَّبِعُونِ و آمنوا برسولي، و اعملوا بشريعتي، فان هذا الاتباع الذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ و عن القمي رحمه الله في تأويله: ثم ذكر خطر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ و في قوله: وَ اِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ قال: يعني أمير المؤمنين عليه السلام (3).

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ عن اتباعي و لا يمنعكم عن سلوك صراطي اَلشَّيْطانُ و إعلموا إِنَّهُ لَكُمْ أيها الناس عَدُوٌّ مُبِينٌ و مبغض ظاهر العداوة و البغض.

في الحديث العامي: «أنّ عيسى ينزل على ثنيّة بالأرض المقدّسة يقال لها أفيق أغبر (4).

و في حديث آخر: «الأنبياء أولاد علات (5)، و أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، ليس بيني و بينه نبي، إنّه أول ما ينزل يكسر الصليب، و يقتل الخنزير، و يقاتل على الاسلام» (6).

أقول: يعني ليس بينه و بين نبينا صلّى اللّه عليه و آله نبيّ [من]اولي العزم، لأنّه لا تخلو الأرض من حجّة.

و في حديث آخر: «ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب» (7)الخبر.

ص: 521


1- . الكافي 8:57/18، تفسير الصافي 4:397.
2- . تفسير روح البيان 8:383.
3- . تفسير القمي 2:286، تفسير الصافي 4:398.
4- . تفسير روح البيان 8:384.
5- . العلّة: الضرّة، و بنو العلاّت: بنو رجل واحد من امّهات شتّى، و يريد بالحديث أن الانبياء عليهم السّلام إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة.
6- . تفسير روح البيان 8:384.
7- . تفسير روح البيان 8:384.

و رووا أنه يجتمع عيسى و المهدي، فيقوم عيسى بالشريعة، و المهدي بالسيف (1). و قال بعضهم: أنّ عيسى يصلّي بالناس، و المهدي يقتدي به (2)، و قال بعضهم: يؤمّ المهدي، و يقتدي به عيسى (3)، و اتّفق أصحابنا على أنّ عيسى يقتدي بالمهدى عليه السّلام فانّ السلطنة الإلهية للمهدي، و عيسى معينة و تبعة.

و قيل: إنّ ضمير (إنه) راجع إلى القرآن (4)، و المعنى أنّ القرآن لعلم للساعة، لما فيه من الإعلام بها، و الدلالة عليها.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 63 الی 66

ثمّ لمّا بيّن سبحانه عظمة شأن عيسى، حكى دعوته إلى التوحيد و المعارف الإلهية بقوله: وَ لَمّا جاءَ عِيسى من جانب اللّه إلى بني إسرائيل مستدلا على رسالته بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات كاحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و غيرهما قالَ يا بني إسرائيل، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ و المعارف الإلهية التي يجب عليكم تعلّمها وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ و تتنازعون فِيهِ من الامور الدينية التي بيانها وظيفة الأنبياء. و عن ابن عباس: أنّ البعض هنا بمعنى الكلّ (5).

وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اَللّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)فَاتَّقُوا اَللّهَ يا بني إسرائيل، و خافوه في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ و اقبلوا منّي ما ابلّغكم من ربي، و اعملوا به، و اعلموا أنّ أهمّ ما ابلّغكم به التوحيد،

فانّي أقول: إِنَّ اَللّهَ تعالى وحده هُوَ بالخصوص رَبِّي وَ رَبُّكُمْ و ربّ كلّ شيء، لا شريك له في الالوهية و استحقاق العبادة، إذا علمتم ذلك فَاعْبُدُوهُ وحده بخلوص النية، و لا تعبدوني و لا تعبدوا غيري ممّا سواه هذا التوحيد و الإخلاص في عبادته صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصل سالكه إلى جميع الخيرات،

و يؤدّيه إلى أكمل السعادات فَاخْتَلَفَ اليهود و النصارى في أمر اللّه و شأن عيسى بعد ثلاثمائة سنة من رفعه، على ما قيل (6)، و حدثت اَلْأَحْزابُ و الفرق العديدة مِنْ بَيْنِهِمْ فحزب قالوا: إنّه رسول اللّه و عبده،

ص: 522


1- . تفسير روح البيان 8:384.
2- . تفسير روح البيان 8:385.
3- . تفسير روح البيان 8:385.
4- . جوامع الجامع:436، تفسير أبي السعود 8:53.
5- . تفسير روح البيان 8:385.
6- . تفسير روح البيان 8:386.

و حزب قالوا: إنه ابن اللّه، و حزب قالوا: إنّه ثالث ثلاثة، و حزب قالوا: إنّه هو اللّه، و حزب قالوا: إنّه- نعوذ باللّه-ولد زنا، و جميعهم إلاّ الفرقة الاولى ظلموه فَوَيْلٌ و أسوأ الأحوال في القيامة لِلَّذِينَ ظَلَمُوا و كفروا به، و خالفوا قوله مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ عذابه، و هو يوم القيامة، و هؤلاء الظالمون

هَلْ يَنْظُرُونَ و ينتظرون شيئا في ابتلائهم بالعذاب إِلاَّ اَلسّاعَةَ و القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً و فجاءة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و لا يحتملون إتيانها، لكونهم منكرين له.

قيل: ذكر إيتانها بغتة لم يكن مغنيا عن ذكر عدم شعورهم به، لأن إتيانها بغتة يجتمع مع الشعور بوقوعه و الاستعداد له (1).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 67

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال الساعة بقوله: اَلْأَخِلاّءُ و الأصدقاء يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ و مبغض، لظهور مضارّ الخلّة، و التحابب بينهم إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ الذين كانوا منتفعين في الآخرة بخلّتهم و موادّتهم، لكونهم في الدنيا متعاونين على البرّ و التقوى، فتكون خلّتهم في الدنيا باقية إلى القيامة، بل تزداد بمشاهدة آثارها من الثواب و الشفاعة و رفع الدرجات.

اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (67)و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال في هذه الآية: «كان خليلان مؤمنان، و خليلان كافران، فمات أحد المؤمنين، فقال: يا ربّ، إنّ فلانا كان يأمرني بطاعتك و طاعة رسولك، و يأمرني بالخير و ينهاني عن الشرّ، و يخبرني أنّي ملاقيك، يا ربّ فلا تضلّه بعدي، و اهده كما هديتني، و أكرمه كما أكرمتني. فاذا مات خليله المؤمن، يجمع بينهما، فيقول كلّ واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ و نعم الصاحب، فيثني عليه خيرا.

قال و يموت أحد الكافرين فيقول: إنّ فلانا كان ينهاني عن طاعتك و طاعة رسولك، و يأمرني بالشرّ، و ينهاني عن الخير، و يخبرني أنّي غير ملاقيك، فلا تهده بعدي و أضلله كما أضللتني، و أهنه كما أهنتني، فاذا مات خليله الكافر جمع بينهما، فيقول كلّ واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ و بئس الخليل، فيثني عليه شرّا» (2).

و في الحديث: «أنّ اللّه يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي، اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي» (3).

ص: 523


1- . تفسير روح البيان 8:386.
2- . تفسير روح البيان 8:388.
3- . تفسير روح البيان 8:388.

و في رواية اخرى: «يقول اللّه تعالى: المتحابّون فيّ [أي في اللّه]بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون و الشهداء» (1).

و عن ابن عباس: يقول أحبّ للّه، و أبغض للّه، و وال للّه، و عاد للّه، فانّه ينال ما عند اللّه بهذا، و لن ينفع أحدا كثرة صومه و صلاته و حجّه حتى يكون هكذا، و قد صار الناس اليوم يحبّون و يبغضون للدنيا، و لن ينفع ذلك أهله، ثمّ قرأ الآية (2).

في فضيلة مؤاخاة

المتّقين

و عن الصادق عليه السّلام: «و اطلب مؤاخاة الأتقياء، و لو في ظلمات الأرض، و إن أفنيت عمرك في طلبهم، فانّ اللّه عز و جل لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض بعد النبيين، و ما أنعم اللّه على عبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم، قال اللّه تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (3).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 68 الی 71

ثمّ بيّن سبحانه إكرامه و لطفه بالمتّقين يوم القيامة بأن يباشر مخاطبتهم فيه بقوله: يا عِبادِ الموحّدين لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ من أهوال اَلْيَوْمَ و شدائده وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ على ما فاتكم من نعم الدنيا و الحرمان عن الدرجات العالية في الجنّة.

يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69) اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)

ثمّ عرّف سبحانه عباده المبشرين بتلك البشارة بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا و كمال صفاتنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ و منقادين لأحكامنا،

مطيعين لأوامرنا و نواهينا اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ التي كنتم توعدون بها في الدنيا أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ المؤمنات حال كونكم تُحْبَرُونَ و تسرّون (4)سرورا نظهر أثره في وجوهكم، أو تزيّنون بثياب من سندس و إستبرق، و أساور من ذهب و فضّة،

أو تكرمون، فاذا دخلوا الجنة فرحين مسرورين و مكرمين و مزيّنين يُطافُ و يدار عَلَيْهِمْ بأيدي الغلمان و الولدان بِصِحافٍ و قصاع واسعة مدوّرة الأفواه مصنوعة مِنْ ذَهَبٍ فيها طعامهم وَ أَكْوابٍ و كوز من ذهب لا عروة لها و لا خرطوم، فيها شرابهم، يشربون منها حيث يشاءوا.

ص: 524


1- . تفسير روح البيان 8:388.
2- . تفسير روح البيان 8:388.
3- . مصباح الشريعة:150، تفسير الصافي 4:399.
4- . في النسخة: و تسترون.

عن ابن عباس: يطاف بسبعين ألف صحفة من ذهب، في كلّ صحفة سبعون ألف لون، كلّ لون له طعم غير طعم الألوان الاخر، هذا لأسفل درجة، و أما الأعلى فيوتى بسبعمائة الف صحفة (1).

و في الحديث: «أنّ أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع درجات، و هو على السادسة، و فوقها السابعة، و إنّ له ثلاثمائة خادم، و إنه يغدى عليه و يراح في كلّ يوم بثلاثمائة صحفة، في كلّ صحفة لون من الطعام ليس في الأخرى، و إنّه ليلذّ أوله كما يلذّ آخره، و إن له من الأشربة ثلاثمائة إناء، في كلّ إناء شراب ليس في الآخر، و إنّه ليلذّ أوله كما يلذّ آخره، و إنّه ليقول: يا ربّ، لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنّة و سقيتهم، و لم ينقص ذلك ما عندي شيئا، و إن له من الحور العين ثنتين و سبعون زوجة سوى أزواجه من الدنيا» (2).

وَ لكم يا أهل الجنّة فِيها بتفضل اللّه ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ من أنواع المشتهيات كالمطاعم و المشارب و المناكح و الملابس و نحوها وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ بمشاهدته وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ و دائمون لا تموتون، و لا منها تخرجون.

عن القائم عجّل اللّه فرجه: أنّه سئل عن أهل الجنّة، هل يتوالدون إذا دخلوها؟

فأجاب: «أنّ الجنة لا حمل فيها للنساء و لا ولادة، و لا طمث و لا نفاس، و لا شقاء بالطفولية، و فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين، كما قال اللّه، فاذا اشتهى المؤمن ولدا خلقه اللّه بغير حمل و لا ولادة على الصورة التي يريد، كما خلق آدم عبرة» (3).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 72 الی 76

ثمّ قرّر سبحانه خلودهم فيها بقوله: وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوها و ملكتموها ملك الوارث عن مورّثه بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة و

لَكُمْ سوى الطعام و الشراب فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع و الأصناف، وافر كل صنف مِنْها تَأْكُلُونَ.

وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ اَلظّالِمِينَ (76)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه حسن حال المتّقين في الآخرة من حيث المطعم و المشرب و المسكن و سائر اللذائذ و خلودهم فيها، بيّن سوء حال المشركين و الطّغاة في الآخرة بقوله: إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ

ص: 525


1- . تفسير روح البيان 8:390.
2- . تفسير روح البيان 8:391.
3- . الاحتجاج:488، تفسير الصافي 4:399.

و العصاة فِي عَذابِ جَهَنَّمَ و شدائدها خالِدُونَ و مقيمون أبدا، لا ينقطع عنهم لحظة و

لا يُفَتَّرُ و لا يخفّف عَنْهُمْ ساعة وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ و آيسون من الخلاص. عن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من النار، ثمّ يقفل عليه، فيبقى فيه لا يرى و لا يرى (1).

ثمّ نبّه سبحانه بأن عذابهم بمقتضى العدل بقوله: وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإخلادهم في العذاب الشديد وَ لكِنْ كانُوا في الدنيا هُمُ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم، حيث اختاروا الكفر و العصيان.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 77 الی 78

ثمّ بيّن سبحانه شدّة عذابهم بقوله: وَ نادَوْا تمنّيا أربعين سنة، أو مائة، أو الف سنة، كما عن ابن عباس (2)يا مالِكُ جهنّم لِيَقْضِ عَلَيْنا و ليميتنا رَبُّكَ حتى نستريح.

وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)روي أنّه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا، فيدعون: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (3)و لا ينافي هذه الاستغاثة إياسهم من الخلاص، فانّ الإياس يكون من الخروج و العفو، و السؤال راجع إلى الموت، و قيل في رفع التنافي: إنّ أوقاتهم و أحوالهم مختلفة، فيسكتون أوقاتا لغلبة يأسهم، و يستغيثون أوقاتا لشدّة عذابهم (4).

و على أي تقدير قالَ مالك في جوابهم بعد مدة إهانة لهم: يا أهل النار إِنَّكُمْ إلى الأبد ماكِثُونَ و مقيمون فيها، لا خلاص لكم منها بموت و لا بغيره.

ثمّ قال لهم من قبل اللّه: و اللّه لَقَدْ جِئْناكُمْ في الدنيا بِالْحَقِّ و أعلمناكم بتوسّط الرسول و الكتاب السماوي بالدين المرضي عند ربّكم وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ و ذلك الدين كارِهُونَ و منه متنفّرون، و عنه معرضون، لمنافاته لشهواتكم، فكان تماديكم في الكفر و انهما ككم في الشهوات سببا لبقائكم في العذاب و خلودكم في النار، فلا مجال لتوقّع النجاة.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 79 الی 81

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ (81)

ص: 526


1- . تفسير روح البيان 8:393، و لم ينسب إلى أحد.
2- . تفسير الرازي 27:227، تفسير أبي السعود 8:55.
3- . تفسير الرازي 27:227.
4- . تفسير الرازي 27:227.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان شدّة عذاب الكفار في الآخرة لكراهتهم الحقّ في الدنيا، ذكر سعيهم في الدنيا مع ذلك في إطفاء نور الحقّ، و مكرهم بالرسول، و تعاهدهم على قتله بقوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا و بل أحكموا أَمْراً معهودا، و هو كيدهم و مكرهم بالرسول. عن مقاتل: نزلت في تدبيرهم في دار الندوة (1)، في المكر بالرسول و تشاورهم في قتله فَإِنّا مُبْرِمُونَ و متقنون كيدنا بهم حقيقة لا هم

أَمْ يَحْسَبُونَ و بل يتوهّمون أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ و ما حدّثوا به في أنفسهم من الكيد في أمر الرسول وَ نَجْواهُمْ و تشاورهم خفية من الرسول و المؤمنين بَلى نحن نسمعهما و نطلع عليهما وَ رُسُلُنا الحافظون عليهم أعمالهم حاضرون لَدَيْهِمْ أينما كانوا و يَكْتُبُونَ في ديوان أعمالهم كلّما يصدر عنهم من الاعمال و الأقوال سرّا و علانية، ثمّ تعرض عليهم يوم القيامة، و يعاقبون عليها أشدّ العقاب.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه عناد المشركين للرسول، و همّهم بقتله لقوله بتوحيد اللّه، و تنزّهه عن الولد، أمره بإعلامهم بأنّ عدم موافقته لهم في الاعتقادات الفاسدة ليس لأجل العناد الموجب للقتل، بل إنّما لعلمه بامتناع وجود الشريك و الولد له تعالى بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين إِنْ كانَ في الواقع و نفس الأمر لِلرَّحْمنِ الخالق لجميع الموجودات وَلَدٌ ذكرا كان أم انثى، كما تزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ لذلك الولد، و أسبقكم إلى تعظيمه و الانقياد له، لأنّي أعلم الناس بعظمة اللّه الموجبة لتعظيم ولده، لكونه من لوازم تعظيم الوالد، حيث إنّ الولد جزء منفصل من الوالد، و لكن لمّا حكم عقلي بامتناع التركيب في الواجب الوجود حتى ينفصل منه الجزء، امتنع منّي القول بثبوت الولد له و عبادتي إياه، فليس إنكاري كون الملائكة بنات اللّه للعناد و اللّجاج حتى استحقّ القتل و الطرد.

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 82 الی 83

ثمّ أعلن بتنزّهه تعالى عن الولد و الشريك بقوله: سُبْحانَ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ ربّ اَلْأَرْضِ و ما فيهما و رَبِّ اَلْعَرْشِ الذي هو اعظم من جميع الموجودات، و تنزّه عَمّا يَصِفُونَ و ينسبون إليه من الولد و الشريك.

سُبْحانَ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ (83)و قيل: يعني سبّحوا ربّ هذه الأجسام العظام؛ لأنّ مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كلّ

ص: 527


1- . تفسير الرازي 27:228.

مربوب، و نزّهوه عن كلّ ما يصفه الكافرون به من صفات الأجسام، فانّه لو كان جسما لم يقدر على خلق هذا العالم و تدبيره (1).

ثمّ هدّدهم سبحانه على عدم إذعانهم للحقّ بعد إلزامهم عليه بالبرهان القاطع بقوله: فَذَرْهُمْ يا محمد، و اتركهم حتى يَخُوضُوا وَ يستغرقوا في أباطيلهم و شهواتهم يَلْعَبُوا بدنياهم و يشتغلوا بملاهيهم ليزدادوا شقاوة و استحقاقا للعقوبة حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ و يصلوا إلى وقتهم اَلَّذِي كانوا يُوعَدُونَ فيه بالعذاب من قبلنا، فيروا صدق وعدنا و سوء عاقبة خوضهم و لعبهم، أو يوعدون على لسانك بمجيئه، و هو يوم القيامة، و هم ينكرون مجيئه.

و قيل: هو يوم موتهم، لأنه متّصل بيوم القيامة، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «من مات فقد قامت قيامته» و لذا جعل خوضهم و لعبهم منتهيين إليه (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 84 الی 86

ثمّ أعلن سبحانه بتوحيده بقوله تعالى: وَ هُوَ تعالى وحده اَلَّذِي فِي اَلسَّماءِ إِلهٌ وَ معبود بالحقّ فِي اَلْأَرْضِ أيضا إِلهٌ و معبود لا معبود فيهما سواه وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ الذي يدبّر بحكمته البالغة امور العوالم اَلْعَلِيمُ بأحوال جميع الموجودات أزلا و أبدا

وَ تَبارَكَ و تعالى عن الولد و الشريك، أو كثر خير الاله اَلَّذِي لَهُ بالإشراق و الإيجاد مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات و السلطنة التامة عليها إيجادا و إعداما و تصرّفا و تدبيرا وَ عِنْدَهُ و خاصته وحده عِلْمُ اَلسّاعَةِ التي تقوم فيها القيامة وَ إِلَيْهِ أيّها الناس تُرْجَعُونَ بالموت و تردّون للحساب و الجزاء، فاستعدوا للقائه، و بادروا إلى تحصيل مرضاته.

وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّماءِ إِلهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ (84) وَ تَبارَكَ اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86)

ثمّ إنّه تعالى بعد إبطال القول بأنّ الملائكة بنات اللّه، نفى كونهم و كون غيرهم من المعبودين شفعاء عنده بقوله: وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ هؤلاء المشركون و يعبدونهم مِنْ دُونِهِ تعالى اَلشَّفاعَةَ عند اللّه للعصاة، و لا يقدر عليها إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ و أعترف بتوحيد اللّه في الالوهية و العبادة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ما يشهدون به عن بصيرة، و يوقنون به عن شهود أو برهان، كالملائكة،

ص: 528


1- . تفسير روح البيان 8:396.
2- . تفسير روح البيان 8:397.

و عيسى، و عزير. و من الواضح أنّهم لا يشفعون لمن خالفهم في العقائد.

و قيل: إنّ المعنى أنّهم لا يقدرون على الشفاعة إلاّ لمن شهد بالحق (1)، و اعترف به، من اختصاص استحقاق العبادة باللّه، و هم المؤمنون الموحّدون، فليس للمشركين أن يرجوا الشفاعة.

روي أنّ النّضر بن الحارث و نفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولّى الملائكة، فهم أحقّ بالشفاعة من محمد، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

سوره 43 (الزخرف): آیه شماره 87 الی 89

ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين مجبولون على التوحيد بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ و أخرجهم من كتم العدم إلى الوجود، و اللّه لَيَقُولُنَّ اَللّهُ خلقنا، لعدم إمكان غير ذلك لأحد ممّن يشمّ [منه]

رائحة العقل فَأَنّى يُؤْفَكُونَ و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع اعترافهم بأنّهم كلّهم مخلوقون له، أو المراد لم يكذّبون على اللّه بأنّه أمرهم بعبادة الأصنام؟

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر علمه بالسعة التي لا يعلمها غيره ذكر علمه بشكوى نبيه صلّى اللّه عليه و آله من قومه بقوله: وَ قِيلِهِ و شكواه من قومه بقوله: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ الكفّار قَوْمٌ و جمع لا يُؤْمِنُونَ بي و بكتابي.

و قيل: إنّ واو (و قيله) واو القسم (3)، و المعنى: اقسم بقول رسولي يا ربّ، و جواب القسم: إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون، فيكون المجموع كلام اللّه. و في حلفه تعالى بقول رسوله إظهار لكمال عظمته، و رفعة شأنه، و تفخيم دعائه، و التجائه إليه.

و عن ابن عباس: أنّ المعنى: و قيل يا ربّ، و الهاء زائدة (4).

ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله: فَاصْفَحْ يا حبيبي، و أعرض عَنْهُمْ و اقنط عن إيمانهم وَ قُلْ متاركة لهم سَلامٌ عليكم، تسلمون أنتم من إيذائي، و أسلم أنا من كيدكم، لا خلاف بيني و بينكم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و خامة عاقبة كفرهم، و متاركة إياهم، و إن تأخّر ذلك، فانّ كلّ آت قريب.

ص: 529


1- . تفسير الرازي 27:232.
2- . تفسير الرازي 27:232.
3- . تفسير أبي السعود 8:57، تفسير روح البيان 8:399.
4- . تفسير الرازي 27:234.

عن ابن عباس: أنّ قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ منسوخ بآية السيف (1).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة الزخرف آمنه اللّه في قبره من هوامّ الأرض و ضغطة القبر حتى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ، ثمّ جاءت به حتى تدخله الجنة» (2).

الحمد للّه ربّ العالمين على إنعامه عليّ بالتوفيق لإتمام السورة المباركة الزخرف.

ص: 530


1- . تفسير الرازي 27:235.
2- . ثواب الأعمال:113، مجمع البيان 9:59، تفسير الصافي 4:402.

في تفسير سورة الدخان

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختمت سورة الزخرف المبدوءة بتعظيم القرآن، و بإظهار المنّة على العرب بإنزاله بلسانهم، المختتمة بذكر أدلّة التوحيد و تهديد منكريه، و حكاية شكاية الرسول صلّى اللّه عليه و آله من عدم إيمان قومه، و أمره تعالى إياه بمتاركتهم المتوسطة بذكر دعوة موسى إلى التوحيد، و معارضة فرعون ملأه معه، نظمت سورة الدخان المبدوءة بتعظيم القرآن، و إنزاله في أشرف الأوقات، و بيان أدلّة التوحيد، و تهديد منكريه، و تسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله بحكاية معارضة فرعون و قومه موسى عليه السّلام، و شكاية موسى من عدم إيمان قومه، و سؤاله منهم المتاركة، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله تبارك و تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بذكر كلمة حم المركّبة من حرفين، و قد مرّ أنّ كلّ حرف منها رمز من اسم من الأسماء الحسنى، و قلنا إنّها اسم للسورة عند بعض، و اسم للقرآن عند آخر، و قيل: إنّ المعنى على هذا القول بحقّ حم (1).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (3)

وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الواضح المعنى للعرب، لكونه بلسانهم. و قيل: إن حم خبر لمبتدأ محذوف (2)، و المعنى هذه السورة حم، ثمّ أقسم بالقرآن بقوله: وَ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ.

إِنّا أَنْزَلْناهُ بلطفنا على الخلق فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ و هي ليلة القدر. عن قتادة، قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، و التوراة لستّ ليال منه، و الزّبور لاثنتي عشرة مضت منه، و الإنجيل لثمان عشرة مضت منه، و القرآن لأربع و عشرين مضت من رمضان، و هي ليلة القدر (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «أي أنزلنا القرآن، و الليلة المباركة هي ليلة القدر» (4).

و عن الكاظم عليه السّلام مثله، و زاد: «أنزل اللّه سبحانه القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ

ص: 531


1- . تفسير روح البيان 8:400.
2- . مجمع البيان 9:92.
3- . تفسير الرازي 27:238.
4- . مجمع البيان 9:92، تفسير الصافي 4:403.

نزل من البيت المعمور على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طول عشرين سنة» (1).

و روى بعض العامة أنّ عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ و قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ (2)كيف يصحّ ذلك، مع أنّ اللّه أنزل القرآن في جميع الشهور؟ فقال ابن عباس: يا بن الأسود، لو هلكت أنا، و وقع هذا في نفسك، و لم تجد جوابه لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور، و هو في السماء الدنيا، ثمّ نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالا بعد حال (3).

و عن الكاظم عليه السّلام أنه سأله نصراني عن تفسير هذه الآية في الباطن فقال: «أما حم فهو محمد، و هو في كتاب هود الذي انزل عليه [و هو]منقوص الحروف، و الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، و أمّا الليلة ففاطمة» (4).

ثمّ ذكر سبحانه علّة إنزاله بقوله: إِنّا كُنّا من بدو الخلق مُنْذِرِينَ للناس و مخوّفيهم من العذاب على الشرك و العصيان، و شأننا هدايتهم إلى الحقّ.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 4 الی 6

ثمّ بيّن سبحانه فضيلة الليلة بقوله: فِيها يُفْرَقُ و يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ و متقن من الآجال و الأرزاق و سائر الامور من الليلة إلى مثلها من السنة القابلة.

فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (6)عن الكاظم عليه السّلام: «فِيها يُفْرَقُ يعني في ليلة القدر كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي يقدّر اللّه عزّ و جلّ كلّ أمر من الحقّ و الباطل، و ما يكون في تلك السنة، و له فيه البداء و المشيئة، يقدّم ما يشاء، و يؤخّر ما يشاء من الآجال و الأرزاق، و البلايا و الأعراض و الأمراض، و يزيد فيه ما يشاء، و ينقص ما يشاء، و يلقيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و يلقيه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الأئمّة بعده، حتى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه الشريف، و يشترط له فيه البداء و المشيئة و التقديم و التأخير» (5).

ثمّ بيّن سبحانه الأمر الحكيم بقوله تعالى: أَمْراً حاصلا مِنْ عِنْدِنا على مقتضى حكمتنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ رسلنا بالكتاب، لإنذار الخلق،

و لتكمل عليهم رَحْمَةً كائنة مِنْ رَبِّكَ بمقتضى

ص: 532


1- . تفسير القمي 2:290، و لم ينسب إلى احد، تفسير الصافي 4:403.
2- . القدر:97/1.
3- . تفسير الرازي 27:239.
4- . الكافي 1:399/4، تفسير الصافي 4:404.
5- . تفسير القمي 2:290، لم ينسب إلى أحد، تفسير الصافي 4:401.

ربوبيته على وفق حاجات المحتاجين إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لتضرّعاتهم اَلْعَلِيمُ بحاجاتهم.

فتحصّل من الآيات المباركات بيان شرف القرآن و عظمته، ذاتا بقسمه تعالى به، و توصيفه بكونه مبينا، و انتسابا بنسبة إنزاله إلى ذاته المقدّسة، و بيان زمان نزوله، و هو أشرف الأزمنة، و غاية هي إنذار الخلق و تكميل الرحمة عليهم.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ بالغ سبحانه في تعظيم كتابه بتعظيم نفسه الذي أنزله بقوله: رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ لها ربا، أو موقنين بشيء، فانّ اليقين بهذا أولى من اليقين بسائر الأشياء لغاية وضوحه. و قيل: يعني إن كنتم طالبين لليقين، فأيقنوا بذلك (1).

رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ (8)

فاذا كان اللّه تعالى خالق جميع الموجودات العلوية و السّفلية، ثبت أنّه لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود بالاستحقاق سواه و هو يُحْيِي الموتى وَ يُمِيتُ الأحياء، و هو رَبُّكُمْ و خالقكم و مكمّل وجودكم وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ و أجدادكم السابقين من آدم و من بعده من أولاده.

روى بعض العامة عن الباقر عليه السّلام: «أنّه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف آدم و أكثر» (2).

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 9 الی 12

ثمّ أضرب سبحانه عن كونهم موقنين بقوله: بَلْ هُمْ مع تلك الآيات الدالة على التوحيد فِي شَكٍّ ممّا ذكر من التوحيد و سائر شؤونه تعالى غير موقنين في إقرارهم بأنّه ربّ السماوات و الأرض يَلْعَبُونَ بإقرارهم، و يهزؤون باعترافهم، و لا يقولون عن جدّ و إذعان. و قيل: إنّ المعنى بل هم حال شكّ مستقر في قلوبهم، يلعبون (3)بزخارف الدنيا، و لا يكونون بصدد إزالة شكّهم.

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى اَلنّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ (12)

إذا كان ذلك حال الكفار فَارْتَقِبْ يا محمد، و انتظر لهم يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّماءُ أو المراد فانتظر وعد اللّه في يوم تأتي السماء بِدُخانٍ مُبِينٍ ظاهر لا يشك أحد في أنّه دخان.

قيل: إن الدخان كناية عن المجاعة و القحط، فانّ الجائع يرى بينه و بين السماء كهيئة الدّخان من

ص: 533


1- . تفسير روح البيان 8:405.
2- . تفسير روح البيان 8:405.
3- . تفسير روح البيان 8:406.

شدّة الجوع، أو لأنّ في عام القحط يظلمّ الهواء لقلة الأمطار و كثرة الغبار، أو لأنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخانا، و إسناد إتيانه إلى السماء؛ لأنّه بسبب كفّها عن الأمطار (1).

روي هذا عن ابن عباس، و ابن مسعود، و قالا: ذلك لمّا دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أهل مكّة حين أصرّوا على تكذيبه و إيذائه بقوله: «اللهمّ اشدد و طأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنينا كسنيّ يوسف» فأصابتهم سنة حتى أكلوا الجيف و الجلود و العظام و العلهز (2)و الكلاب، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ناشده باللّه و الرّحم، و وعده إن دعا لهم و أزال عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به (3)، فلمّا أزال اللّه عنهم ذلك رجعوا إلى الكفر و الشرك.

في ذكر بعض

اشراط الساعة

و قيل: إنّه الدّخان الذي عدّ من أشراط الساعة، فانّه يظهر في العالم، فيحصل لأهل الايمان منه حالة تشبه الزّكام، و لأهل الكفر السّكر، و تصير رؤوسهم كالحنيذ (4). روى بعض العامة هذا القول عن علي عليه السّلام و ابن عباس (5).

و رووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أول الآيات الدّخان، و نزول عيسى بن مريم، و نار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر» قال حذيفة: يا رسول اللّه، و ما الدّخان؟ فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية، و قال: «دخان يملأ ما بين المغرب و المشرق، يمكث أربعين يوما و ليلة، أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزّكمة، و أما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه و اذنيه و دبره» (6).

و في رواية اخرى ذكر صلّى اللّه عليه و آله من الآيات طلوع الشمس من مغربها، و الدجّال، و الدّخان، و الدابّة (7).

و روى في (الجوامع) عن علي عليه السّلام أنّه قال: «دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة، يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالحنيذ، و يعتري المؤمن كهيئة الزّكام، و تكون الأرض كلّها كبيت اوقد فيه، ليس فيه خصاص (8)و يمتد ذلك أربعين يوما» (9).

يَغْشَى ذلك الدّخان اَلنّاسَ و يشملهم من كلّ جانب، و هم يقولون: هذا الدّخان عَذابٌ أَلِيمٌ عظيم،

ثمّ يقولون تضرّعا إلى اللّه: رَبَّنَا اِكْشِفْ و ارفع عَنَّا هذا اَلْعَذابَ

ص: 534


1- . تفسير روح البيان 8:406.
2- . العلهز: القراد الضخم، و طعامه من الدم و الوبر كان يتّخذ في المجاعة.
3- . تفسير روح البيان 8:406، و لم ينسبه إلى أحد.
4- . الحنيذ: الشيء المشوي، فعيل بمعنى مفعول، و منه لحم حنيذ، و عجل حنيذ، أي محنوذ.
5- . تفسير الرازي 27:242.
6- . تفسير الرازي 27:242.
7- . تفسير الرازي 27:243.
8- . الخصاص: جمع خصّ. و هو البيت المتّخذ من الشجر أو القصب، أو الذي سقفه من الخشب.
9- . جوامع الجامع:438.

الذي أحاط بنا إِنّا بعد رفعه مُؤْمِنُونَ بك و برسولك.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 13 الی 16

ثمّ يقول اللّه تعالى ردّا عليهم: أَنّى لَهُمُ اَلذِّكْرى وَ كيف لهم الاتعاظ برؤية هذه الداهية، و الحال أنه قَدْ جاءَهُمْ من قبل اللّه رَسُولٌ عظيم الشأن مُبِينٌ و مظهر لهم رسالته بالمعجزات الباهرة، أو مظهر لهم مناهج الحقّ،

و أتاهم من المواعظ و العبر ما يحرّك صمّ الجبال ثُمَّ مع ذلك تَوَلَّوْا و أعرضوا عَنْهُ بل لم يقنعوا بالتولّي و الإعراض حتى أطالوا اللسان عليه وَ قالُوا تارة مُعَلَّمٌ يعلّمه بشر، و يفتري على اللّه بأنّ كتابه كتاب اللّه و كلامه أنزله إليه بالوحي، و تارة قالوا: إنّه مَجْنُونٌ و خفيف العقل حيث يدّعي ما لم يقل به عقلاء قومه، أو يصيبه الجنّ حين يعرض له (1)الغشي، فيلقون إليه ما يدّعي أنّه كلام اللّه. و قيل: إنّ بعضهم قالوا: معلم، و بعضهم قالوا: إنّه مجنون (2)، فإذا كان خبث ذاتهم و رذالة صفاتهم بهذه المرتبة، لا يتوقّع منهم الايمان و الاتّعاظ.

أَنّى لَهُمُ اَلذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنّا كاشِفُوا اَلْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرى إِنّا مُنْتَقِمُونَ (16)

ثمّ لوّن سبحانه الخطاب إليهم تسجيلا عليهم الخلف بقوله: إِنّا كاشِفُوا و رافعو اَلْعَذابِ الذي تسألون كشفه و رفعه زمانا قَلِيلاً و هو بقية مدّة أعمارهم إلى القيامة، أو كشفا قليلا، و لكن إِنَّكُمْ بعد كشفه عائِدُونَ و راجعون البتة إلى الكفر و العتوّ و الطّغيان، و اذكر يا محمد،

أو ذكّرهم يَوْمَ نَبْطِشُ فيه و نأخذ الكفّار بعنف و صولة اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرى و نعاقبهم العقوبة العظمى، و في ذلك اليوم إِنّا مُنْتَقِمُونَ منهم أشدّ الانتقام.

عن ابن عباس: أنّه قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر، و أنا أقول هي يوم القيامة (3).

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 17 الی 19

ثمّ حكى سبحانه حال قوم فرعون، و معارضتهم موسى بن عمران، و إهلاكهم بالعذاب، تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و تهديدا لقومه بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنّا و امتحنّا في العصر السابق على عصر قومك و قَبْلَهُمْ بزمان طويل قَوْمَ فِرْعَوْنَ و كان امتحانهم بأن أتاهم وَ جاءَهُمْ من قبلنا لهدايتهم إلى

وَ لَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اَللّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اَللّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)

ص: 535


1- . في النسخة: يعرضه.
2- . تفسير الرازي 27:243 و 244.
3- . تفسير الرازي 27:244.

الحقّ موسى بن عمران الذي هو رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللّه عظيم الشأن عنده، أو كريم و شريف عند الناس، أو حسن الخلق،

فقال: أَنْ أَدُّوا يا قوم، و سلّموا إِلَيَّ بني إسرائيل الذين هم يكونون عِبادَ اَللّهِ و ارسلوهم معى و لا تعذبوهم. قيل ان المعنى ادو إلى عباد اللّه ما هو واجب عليكم من الايمان باللّه، و قبول دعوتي و طاعتي (1).

ثمّ ذكر علّة أمره بتأدية بني إسرائيل، أو تأدية حقّ اللّه إليه بقوله: إِنِّي يا قوم لَكُمْ و إليكم رَسُولٌ من قبل اللّه أَمِينٌ على وحيه و رسالته،

غير متّهم بالكذب و الخيانة وَ أَنْ لا تَعْلُوا و لا تتكبّروا عَلَى اَللّهِ بالإهانة بوحيه و برسوله و بعباده، أو لا تتأنّفوا من طاعته و الإيمان به.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 19 الی 28

ثمّ ذكر علّة نهيه بقوله: إِنِّي آتِيكُمْ من جانب اللّه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة على رسالتي من قبله، و صدقي فيما دعوتكم إليه، و هي المعجزات الباهرات، و في تعليل وجوب التأدية عليهم بأمانة نفسه، و حرمة العلوّ على اللّه بإتيان السلطان المبين، ما لا يخفى من اللّطافة و الجزالة

وَ إِنِّي يا قوم عُذْتُ و التجأت بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ القادر على دفع كلّ شرّ و خير من أَنْ تَرْجُمُونِ بالحجارة، الذي هو أفظع القتل، أو بالقول السيء من الشتم و السبّ و النسبة إلى الكذب و السحر، أو من أن تؤذونني بالضرب و الشتم.

وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اَللّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28)و قيل: لمّا قال: وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اَللّهِ توعدّوه بالقتل (2).

وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا و تذعنوا لِي و كابرتم عقولكم، و لم تصدّقوني فيما أقول فَاعْتَزِلُونِ و اتركوني على ما أنا عليه، و لا تتعرّضوا لي بشرّ و لا أذى،

فأصرّ القبط على تكذيبه و إيذائه فَدَعا موسى رَبَّهُ و كان دعاؤه: أَنَّ هؤُلاءِ القبط قَوْمٌ مُجْرِمُونَ و طاغون مصرّون على الكفر بك و تكذيبي، فافعل بهم ما يستحقون بجرمهم.

فأوحى اللّه إليه إذا كان حال القبط ذلك فَأَسْرِ أنت يا موسى بِعِبادِي بني إسرائيل لَيْلاً

ص: 536


1- . تفسير الرازي 27:245.
2- . تفسير روح البيان 8:410.

من مصر، و أخرجهم منها على غفلة من أعدائهم إِنَّكُمْ بعد خروجكم من مصر مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون و جنوده، إن علموا بخروجكم ليقتلوكم، فاذا قربوا منكم، و وصلتم إلى بحر القلزم، فاضرب بعصاك البحر فينفلق،

و جاوز ببني إسرائيل البحر وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ حال كونه رَهْواً و ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته، و لا تضربه بعصاك لينطبق.

و قيل: إنّ الرّهو الفرجة الواسعة (1). و المعنى: اتركه حال كونه ذا فرجة واسعة حتى يدخله القبط إِنَّهُمْ إذا جُنْدٌ مُغْرَقُونَ في البحر، لانطباق الماء عليهم بعد دخولهم فيه.

ثمّ فعل موسى عليه السّلام ما أمره اللّه من إخراج قومه من مصر ليلا، فاتّبعه فرعون و جنوده، فأدركهم الغرق فغرقوا و كَمْ تَرَكُوا و كثيرا أبقوا في الدنيا ما حصّلوه في مدّة أعمارهم مِنْ جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار وَ عُيُونٍ و أنهار كثيرة الماء المنشعبة من النّيل،

على ما قيل (2)وَ زُرُوعٍ من الحبوب و الثمار وَ مَقامٍ كَرِيمٍ و محافل مرتّبة، و منازل مستحسنة، أو منابر كانوا يمدحون فرعون عليها (3)

وَ نَعْمَةٍ و نضارة عيش كانُوا فِيها فاكِهِينَ و متنعمّين و متلذّذين

كَذلِكَ السلب سلبناهم إياها، و مثل ذلك الخروج أخرجناهم منها وَ أَوْرَثْناها و ملّكناها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة و لا دين و لا ولاء، و هم بنو إسرائيل الذين كانوا مستعبدين في أيديهم أذلاّء بينهم.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 29

ثمّ بيّن سبحانه هوان القبط عليه، و عدم اكتراثه بهلاكهم بقوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ بعد هلاكهم اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ قيل: هو كناية عن عدم الاعتداد بوجودهم (4).

فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)و قيل: هو من التهكّم و السّخرية، حيث إنّهم كانوا يستعظمون أنفسهم، و يتخيّلون أنّهم إذا ماتوا بكت السماء و الأرض عليهم، فأخبر اللّه أنّهم ما كانوا في القدر و الشأن بهذا الحدّ الذي كانوا يتخيّلون لأنفسهم، بل كانوا أدون من ذلك (5).

و قيل: إنّ المعنى فما بكت أهل السماء و أهل الأرض من المؤمنين عليهم، بل كانوا مسرورين بهلاكهم (6).

ص: 537


1- . تفسير الرازي 27:246.
2- . تفسير روح البيان 8:411.
3- . تفسير الرازي 27:246.
4- . تفسير أبي السعود 8:63، تفسير روح البيان 8:413.
5- . تفسير الرازي 27:247.
6- . تفسير الرازي 27:247.

و قيل: إنّ الكلام على حقيقته (1)من غير حذف و إضمار، لرواية أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «ما من عبد إلاّ و له في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، و باب يدخل فيه عمله، فاذا مات فقداه، و بكيا عليه» و تلا هذه الآية، قال: «و ذلك لأنّهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا، فتبكي عليهم، و لم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب و لا عمل صالح، فتبكي عليهم» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه مرّ عليه رجل عدوّ للّه و لرسوله، فقال فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّماءُ وَ اَلْأَرْضُ و قال: «و ما بكت السماء و الأرض إلاّ على يحيى بن زكريا، و على الحسين» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «بكت السماء على يحيى بن زكريا و على الحسين ابن علي عليه السّلام أربعين صباحا، و لم تبك إلاّ عليهما» قيل: فما بكاؤهما؟ قال: «تطلع حمراء، و تغيب حمراء» (4).

و روى بعض العامة عن زيد بن أبي زياد: لمّا قتل الحسين بن علي عليه السّلام أحمرّ له آفاق السماء أشهرا، و احمرارها بكاؤها (5).

و عن ابن سيرين، قال: أخبرونا أنّ الحمرة التي مع الشّفق لم تكن حتّى قتل الحسين (6).

ثمّ بيّن سبحانه عدم إمهاله القبط بقوله: وَ ما كانُوا لمّا جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ و ممهلين ساعة، بل عجّل إهلاكهم، فاجتمع لهم عذاب الدنيا و الآخرة.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 30 الی 33

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر غضبه على القبط، ذكر لطفه ببني إسرائيل بقوله تبارك و تعالى: وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ بإغراق أعدائهم من القبط مِنَ اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ و المذلّ الذي كانوا معذبين به،

أعني مِنْ عذاب فِرْعَوْنَ أو من العذاب المهين الذي كان يصيبهم من فرعون إِنَّهُ كانَ عالِياً و متكبّرا، و كان مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ على أنفسهم بالظلم،

المتجاوزين عن الحدّ في الكفر و الطّغيان وَ و اللّه لَقَدِ اِخْتَرْناهُمْ و اصطفيناهم حال كوننا عَلى عِلْمٍ باستحقاقهم للاختيار و التفضّل، أو على علم بجناياتهم و فرطاتهم عَلَى اَلْعالَمِينَ و الجماعات الكثيرة في أعصارهم، بأن آتيناهم الكتاب و النبوة و الملك

وَ آتَيْناهُمْ مِنَ اَلْآياتِ و دلائل التوحيد و القدرة و الحكمة،

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اِخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ اَلْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)

ص: 538


1- . تفسير روح البيان 8:413.
2- . تفسير الرازي 27:246.
3- . تفسير القمي 2:291، تفسير الصافي 4:407.
4- . مجمع البيان 9:98، تفسير الصافي 4:407.
5- . تفسير روح البيان 8:413.
6- . تفسير روح البيان 8:413.

كفلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، التي لم يعهد مثلها في غيرهم ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ و نعمة عظيمة ظاهرة، أو ما فيه امتحان و اختبار لهم، أنّهم كيف يعملون، هل يشكرون أو يكفرون؟

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 34 الی 37

ثمّ لمّا كان الكلام في ذمّ أهل مكّة و إصرارهم على الكفر، و إنّما ذكر قصة موسى تسلية للنبي و تهديدا لهم، عاد سبحانه إلى ذمّ أهل مكّة بقوله: إِنَّ هؤُلاءِ المشركين المنكرين للبعث لَيَقُولُونَ في جواب المؤمنين القائلين بأنّ عاقبة حياتهم الموت ثمّ البعث للحساب:

إِنْ العاقبة، و ما هِيَ عندنا إِلاّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولى المزيلة للحياة الدنيوية وَ ما نَحْنُ بعدها بِمُنْشَرِينَ و مبعوثين.

إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا اَلْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)و قيل: إنّ المعنى و ما الحياة إلاّ حياة موتتنا الاولى (1).

و قيل: يعني ما الحالة إلاّ حالة موتتنا الاولى، و إن كان البعث و النشور ممكنا. فَأْتُوا ايّها المدّعون للبعث بعد الموت بِآبائِنا و أحيوهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تعدوننا من البعث.

قيل: كانوا يطلبون من الرسول و المؤمنين أن يدعوا اللّه فينشر لهم قصيّ بن كلاب، ليشاوروه و يسألوا منه أحوال الموت و صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النبوة و البعث في الآخرة (2)، و هم طلبوه في الدنيا جهلا و عنادا،

فبادر سبحانه في جوابهم أولا بتهديدهم بقوله: أَ هُمْ خَيْرٌ و أفضل في القوة و الشوكة التي بها يدفع الضرّ و الشرّ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ملك اليمن الذين كانوا قريب الدار منهم وَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم عاد و ثمود و أضرابهم من الجبابرة الذين كانوا أولي قوة و بأس، لا شكّ أنّ قوم تبّع و أضرابهم كانوا أشدّ من كفّار مكة قوة و شوكة، و مع ذلك أَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستئصال بحيث لم يبق منهم أحد.

كأنّه قيل: ما سبب إهلاكهم؟ فقال سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا في عصرهم مُجْرِمِينَ و مصرّين على الكفر و الطّغيان، فاذا أهلك هؤلاء الأقوام الكثيرة القوية بسبب إجرامهم، كان إهلاك أهل مكّة مع ضعفهم أولى.

ص: 539


1- . تفسير روح البيان 8:417.
2- . تفسير الرازي 27:249، تفسير روح البيان 8:417.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 38 الی 42

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة البعث ثانيا بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات حال كوننا لاعِبِينَ بخلقها،

و قاصدين عملا لا حكمة فيه ما خَلَقْناهُما و ما بينهما بداع من الدواعي، و غرض من الأغراض إِلاّ بِالْحَقِّ و داع الحكمة، و غرض الايمان و الطاعة المكمّلين للنفوس المستعدّة للكمال، و لازم ذلك خلق عالم آخر للحساب و الجزاء و بعث الناس، و الإلزام تساوي الكامل و الناقص، و المطيع و العاصي، بل يلزم أن يكون المطيع أسوء حالا من العاصي وَ لكِنَّ أهل مكّة أَكْثَرَهُمْ بسبب إنهماكهم في الشهوات و عدم تفكّرهم في الآيات لا يَعْلَمُونَ أنّ لازم خلق هذا العالم خلق آخر و بعث الناس فيه، و لذا ينكرونه.

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاّ مَنْ رَحِمَ اَللّهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (42)

ثمّ صرّح سبحانه نتيجة الدليل المذكور بقوله: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ و القضاء بين الحقّ و الباطل، و تمييز الأعمال الصحيحة و الفاسدة، و هو يوم القيامة، موعد الخلائق و مِيقاتُهُمْ و وقت اجتماعهم أَجْمَعِينَ لا يشذّ منهم أحد،

أعني يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى و محبّ من الأقرباء و الأصدقاء عَنْ مَوْلًى شَيْئاً من الإغناء، و لا يدفع أحد عن أحد قليلا من العذاب، و لا تنفع نفس نفسا يسيرا من النفع وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و يمنعون ممّا ينزل بهم من الشدائد

إِلاّ مَنْ رَحِمَ اَللّهُ عليه بالعفو و قبول الشفاعة في حقّه، و هم المؤمنون إِنَّهُ تعالى هُوَ وحده اَلْعَزِيزُ القاهر الذي لا ينصر من أراد تعذيبه اَلرَّحِيمُ بمن أراد أن يرحمه.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 43 الی 50

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر اجتماع الناس في القيامة، و عدم نفع أحد أحدا، ذكر سوء حال الكفّار بقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ التي منبتها قعر جهنم، ثمرتها التي في غاية المرارة و الحرارة

طَعامُ اَلْأَثِيمِ و غذاء الكافر الكثير العصيان،

و ذلك الثمر في شدّة الحرارة كَالْمُهْلِ و الصّفر أو النّحاس المذاب، فاذا أكل يَغْلِي ذلك الثمر فِي اَلْبُطُونِ و الأجواف

ص: 540

الشديد الحرارة. قيل: إنّه يقطّع الأمعاء (1).

إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ (43) طَعامُ اَلْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ اَلْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ اَلْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

ثمّ يقول اللّه للملائكة الغلاظ الشداد غضبا على الكافر الأثيم: خُذُوهُ بالنواصي و الأقدام فَاعْتِلُوهُ و جرّوه بالعنف و القهر إِلى سَواءِ اَلْجَحِيمِ و وسط جهنّم

ثُمَّ صُبُّوا و أهريقوا فَوْقَ رَأْسِهِ و من أعلى جسده مِنْ عَذابِ ذلك اَلْحَمِيمِ و في نسبة الصبّ إلى العذاب دون الحميم مع أنّه المصبوب غاية المبالغة، فيعذّب ظاهره بالحميم، و باطنه بالزّقّوم.

روي أنّه إذا دخل الكافر النار يطعم الزقّوم، ثمّ إنّ خازن النار يضرب على رأسه بمقمعة يسيل منها دماغه على جسده، ثمّ يصبّ الحميم فوق رأسه، فينفذ إلى جوفه، فيقطع الأمعاء و الأحشاء (2)،

و يقال له استهزاء و تقريعا: ذُقْ هذا العذاب المهين المذلّ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ على زعمك و زعم قومك،

مع أنّك بخلاف ما زعمت إِنَّ هذا العذاب الذي تذوقه هو ما كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تَمْتَرُونَ و فيه تشكّون، أو فيه تمارون و تجادلون.

روي أنّ أبا جهل قال: ما بين جبلي مكة أعزّ و أكرم منّي، فو اللّه ما تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعل بي شيئا، فنزلت الآية (3).

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 51 الی 55

ثمّ إنّه تعالى بعد وعيد الكفّار، وعد المؤمنين المتقين بقوله: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن الشّرك و العصيان، متمكّنون في الآخرة فِي مَقامٍ و منزل أَمِينٍ و مأمون من الآفات و المكاره و الزوال،

و أعني فِي جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار وَ عُيُونٍ و أنهار لا يمكن توصيفها من حيث النزاهة و الصفا،

يَلْبَسُونَ فيها ألبسة مِنْ سُندُسٍ و حرير رقيق وَ إِسْتَبْرَقٍ و حرير غليظ، و هما من أرفع أنواع اللباس، حال كونهم في المجالس مُتَقابِلِينَ و مواجهين، ليأنس بعضهم ببعض. و قيل: إنّ المراد متقابلين بالمحبة، غير متدابرين بالبغض و الحسد (4).

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)

ثمّ عظّم سبحانه ذلك الثواب بقوله: كَذلِكَ قيل: يعني الأمر كذلك (5)الذي ذكرنا، أو مثل ذلك

ص: 541


1- . تفسير روح البيان 8:427.
2- . تفسير روح البيان 8:428.
3- . تفسير الرازي 27:252، تفسير روح البيان 8:428.
4- . تفسير روح البيان 8:430.
5- . تفسير روح البيان 8:430.

الثواب العظيم آتيناهم وَ زَوَّجْناهُمْ و قرناهم بِحُورٍ عِينٍ و نسوة بيض (1)واسعة الأعين حسانها، أو الشديدات بياض أعينهن و سوادها.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، بعث ربّ العزة عليا فأنزلهم منازلهم من الجنّة و زوّجهم، فعليّ و اللّه الذي يزوّج أهل الجنّة في الجنة، و ما ذاك إلى أحد غيره، كرامة من اللّه، و فضلا فضّله اللّه، و منّ به عليه» (2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «المؤمن يزوّج ثمانمائة عذراء و ألف ثيّب (3)، و زوجتين من الحور العين» (4).

و قيل: إنّ الحور العين من نساء الدنيا (5).

و عن أبي هريرة: أنّهنّ لسن من نساء الدنيا (6).

ثمّ بيّن سبحانه مأكول أهل الايمان بعد منازلهم و ملابسهم و مناكحهم بقوله: يَدْعُونَ و يطلبون فِيها في أيّ مكان كانوا بِكُلِّ فاكِهَةٍ أرادوا حال كونهم آمِنِينَ من ضررها و انقطاعها و زوالها و الاعتراض من اكثارها.

سوره 44 (الدخان): آیه شماره 56 الی 59

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان نعم الجنة، و تنعّمات المتّقين و أزواجهم، و تلذّذاتهم فيها، بشّر بخلودهم فيها بقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ أبدا، أيّ نحو كان إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى التي ذاقوها في الدنيا، إن أمكن ذوقها في الآخرة، مع أنّه محال، فيستحيل موتهم فيها.

لا يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)و قيل: إنّ المعنى إلاّ ذوق تذكّر الموتة الاولى، فكما يصحّ نسبة الذوق إلى شيء إذا علم به، يصحّ نسبته إليه إذا تذكّره. و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى و لكن الموتة الاولى قد ذاقوها (7).

ثمّ نبّه سبحانه على أعظم التفضّلات عليهم بقوله: وَ وَقاهُمْ و حفظهم أوّل الأمر، و قبل النّعم المذكورة عَذابَ اَلْجَحِيمِ و نجّاهم منه، كلّ ذلك من النجاة من النار، و الدخول في الجنّة، و التنعم بالنّعم الأبدية،

يكون فَضْلاً و إحسانا مِنْ رَبِّكَ يا محمد على المتقين المستحقين للإحسان

ص: 542


1- . في النسخة: بيضاء.
2- . الكافي 8:159/154، تفسير الصافي 4:410.
3- . في تفسير القمي: و أربعة آلاف ثيّب.
4- . تفسير القمي 2:82، تفسير الصافي 4:410.
5- . تفسير روح البيان 8:431.
6- . تفسير روح البيان 8:431.
7- . تفسير الرازي 27:254.

و التفضّل ذلِكَ المذكور الذي خصّ اللّه المتّقين به هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و النيل بأعلى المقاصد.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض من إنزال الكتاب المبين و القرآن المجيد، و ذكر دلائل التوحيد و المعاد و الوعد و الوعيد بقوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ و لسان قومك، و أنزلناه بلغتكم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و يفهمون ما فيه، و يتّعظون و يعملون به، و مع ذلك هم ينكرونه و يكذّبونك و يخاصمونك

فَارْتَقِبْ و انتظر لما يحلّ بهم من العذاب إِنَّهُمْ أيضا مُرْتَقِبُونَ لما يحلّ بك من الدوائر و المضارّ، و سترى ما يحلّ بهم، و لا ينالون ما يأملون فيك.

روت العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة، أصبح مغفورا له» (1).

و رووا أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة، بنى اللّه له بيتا في الجنّة» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أدمن سورة الدخان في فرائضه و نوافله، بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة، و ظلّله تحت عرشه، و حاسبه حسابا يسيرا، و أعطاه كتابه بيمينه» (3).

في الكافي عنه عليه السّلام، أنّه سئل: كيف أعرف أنّ ليلة القدر تكون في كلّ سنة؟ قال: «إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرّة، فاذا أتت ليلة ثلاث و عشرين فانّك ناظر إلى تصديق ما سألت عنه» (4).

الحمد للّه على التوفيق.

ص: 543


1- . تفسير البيضاوي 2:385، تفسير روح البيان 8:433.
2- . تفسير روح البيان 8:433.
3- . ثواب الأعمال:114، مجمع البيان 9:91، تفسير الصافي 4:411.
4- . الكافي 1:196/8، تفسير الصافي 4:411.

ص: 544

في تفسير سورة الجاثية

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختمت سورة حم الدخان المشتملة على تعظيم القرآن، و بيان أدلة التوحيد و المعاد، و التفضّلات العظيمة ببني إسرائيل، نظمت سورة حم الجاثية المشتملة على تلك المطالب، فابتدأها بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بذكر كلمة حم و قد مرّ تأويلها مرارا.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

ثمّ بين عظمة شأن القرآن الكريم بقوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ العظيم الشأن مِنَ جانب اَللّهِ اَلْعَزِيزِ القادر على إيجاد الممكنات التي منها جعل القرآن من أعظم المعجزات اَلْحَكِيمِ المطّلع على جميع العلومات، و لذا اشتمل كتابه على حكم كثيرة و علوم و فيرة.

قيل: إن حم قسم، و المعنى اقسم بحم الذي هو تنزيل الكتاب، و جواب القسم قوله: إِنَّ فِي خلق اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)أو في أنفسهما خلقا و مقدارا و كيفية لَآياتٍ و أدلّة واضحة على توحيد خالقهما، و كمال قدرته و ربوبيته، و لكن الانتفاع بها لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم يتفكّرون فيها، و يستدلّون بالخلق على الخالق،

و بالمصنوع على الصانع و توحيده و قدرته و حكمته وَ فِي خَلْقِكُمْ أيّها الناس من التّراب أولا، و من النطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من المضغة إلى تمام الخلق وَ في ما يَبُثُّ و يفرّق في الأرض مِنْ دابَّةٍ و ذي حياة متحرّك على اختلاف أنواعها و أصنافها و صورها و هيآتها آياتٌ و شواهد مقتضية لليقين بتوحيد موجودها و مفرّقها و حكمته و قدرته لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بشيء في العالم، فانّ من لم يكن شكّاكا، بل كان ممّن يحصل له اليقين بشىء، يحصل له

ص: 545


1- . تفسير الرازي 27:256.

اليقين بما دلّت عليه تلك الآيات بطريق أولى،

لأنّه من الظهور كالشمس في رائعة النهار وَ في اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ في ما أَنْزَلَ اَللّهُ بقدرته و حكمته مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماء نافع هو سبب رِزْقٍ الانسان و سائر الحيوانات بأصنافها فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بإخراج أنواع الزروع و الأشجار و الثّمار و النباتات منها بَعْدَ مَوْتِها و يبسها و عدم الانتفاع بها وَ في تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ و تحويلها من جهة إلى جهة، و تبديلها من حال إلى حال آياتٌ و براهين متقنة على قدرة اللّه و رحمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يدركون واقعيات الامور غير المحسوسة بالنظر إلى المحسوسات.

قيل: إنّ في اختلاف الفواصل إشارة إلى أنّ الناس إن كانوا مؤمنين، فعليهم أن يفهموا هذه الدلائل بقوة إيمانهم، و إن لم يكونوا من أهل الايمان، بل كانوا طلاب الحقّ و اليقين به، فعليهم أيضا أن يتفكّروا في تلك الآيات، و يطلبوا اليقين بقوّة النظر و الفكر، و إن لم يكونوا من أهل الايمان، و لا من طلاّب اليقين، فلا أقلّ يكونون من زمرة العقلاء، فعليهم أيضا أن يتفكّروا فيها، و يدركوا الحقّ بقوّة عقلهم (1).

أقول: و الأولى أن يقال إنّ حدوث السماوات و الأرض، لمّا لم يكن من المحسوسات، و كان محتاجا إلى التأمّل التامّ أدلّة حدوثهما، و لا باعث إلى ذلك التأمّل إلاّ الايمان، خصّ دلالتهما بأهل الايمان، و أمّا الآيات الاخر من خلق الانسان و الحيوانات و نزول الغيث و تصريف الرياح، فلمّا كان حدوثها محسوسا و مشاهدا لكلّ أحد، كان دليلا على وجود القادر الحكيم من غير حاجة إلى ترتيب القياس، لوضوح احتياج الحادث إلى المحدث، إلاّ أنّ بعضها لمّا أمكن إسنادها إلى الأسباب الطبيعية، كنزول المطر الذي يمكن إسناده إلى تصاعد الأبخرة، و كتصريف الريح الممكن إسناده إلى سقوط الأدخنة، لا بدّ من قوّة عقل يدرك بها أنّ العلل لا بدّ أن تنتهي إلى علّة العلل، و إن كان الاستدلال بكلّ آية محتاجا إلى العقل و لذا ذكر سبحانه الآيات جميعها في آية واحدة و ذيلها بقوله: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ عظّم سبحانه تلك الآيات لتوجيه النفوس إليها، و توبيخ من لا يتفكّر فيها بقوله: تِلْكَ الآيات التكوينية العظيمة التي ذكرناها في الآيات السابقة القرآنية آياتُ اَللّهِ و دلائل وجوده و توحيده،

تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (7)

ص: 546


1- . تفسير الرازي 27:259.

و كمال صفاته التي نَتْلُوها عَلَيْكَ يا محمد، بتوسّط جبرئيل، حال كونها مقرونة بِالْحَقِّ و دلائل الصدق بعيدة عن الباطل و الكذب.

ثمّ ذمّ المشركين بقوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و بيان يحثّهم إلى الايمان، أو أي برهان على التوحيد بَعْدَ حديث اَللّهِ وَ آياتِهِ المنزلة على سبيل الاعجاز، و المبينة للدلائل الواضحة، أولئك المشركون يُؤْمِنُونَ بالتوحيد، فانّه ليست آية و معجزة أعظم من تلك الآيات، و ليس برهان على التوحيد أتقن من تلك البراهين، و ليس بيان أوضح و أفصح من بيان اللّه، فاذا لم يؤمنوا بها لم يؤمنوا بغيرها أبدا. قيل: إنّ المعنى فبأيّ حديث بعد آياته يؤمنون (1)و انما ذكر سبحانه اسم الجلالة في الآية تعظيما للآيات.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إصرار المشركين على الشرك، و امتناعهم عن الايمان، هدّدهم سبحانه بقوله: وَيْلٌ و عذاب شديد لِكُلِّ أَفّاكٍ و كذّاب في إخباره بأنّ القرآن سحر أو شعر أو كلام بشر أَثِيمٍ و مصرّ على الذنب و العصيان.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 8

ثمّ ذكر سبحانه من عظام ذنوبه أنّه يَسْمَعُ آياتِ القرآن المنزل من اَللّهِ حين تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِ لأن يؤمن بها، و ينقاد لما فيها ثُمَّ يُصِرُّ على كفره، و يدوم على ضلالته و معارضته، مع أنّ حقّها الإذعان و الانقياد لها، لما فيها من جهات الاعجاز، و هو يعرض عنها حال كونه مُسْتَكْبِراً و متأنّفا عن الايمان بها، و تعظّما نفسه عن التسليم لما فيها، معجبا بما عنده من الأباطيل، و هو في عدم تأثّر قلبه بها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها و في عدم الانتفاع بها كأن لم يشعر بها فَبَشِّرْهُ يا محمد، و سرّ قلبه بإخباره بِعَذابٍ أَلِيمٍ حيث إنّه باصراره بما يوجبه، وجده في إيجاد أسبابه، كأنّه طالب و شائق إليه.

يَسْمَعُ آياتِ اَللّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8)قيل: نزلت في النّضر بن الحارث بن عبد الدار، كان يشترى من أحاديث الأعاجم كحديث رستم و إسفنديار، و يشغل الناس بها عن استماع القرآن (2).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 9 الی 11

وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اِتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

ص: 547


1- . تفسير أبي السعود 8:68، تفسير روح البيان 8:437.
2- . تفسير روح البيان 8:438.

ثمّ ذمّه سبحانه بعدم قناعته بالتكذيب و الإصرار على الكفر، بل يستهزئ بالآيات بقوله: وَ إِذا عَلِمَ ذلك الأفاك مِنْ آياتِنا المنزلة شَيْئاً قليلا كان، أو كثيرا اِتَّخَذَها هُزُواً و جعلها مهزوءا بها و مورد للسّخرية أُولئِكَ المستهزئون بالآيات، المستكبرون عن الايمان بها لَهُمْ بسبب كبرهم الباعث على الاستهزاء عَذابٌ مُهِينٌ و مذلّ لهم، مذهب لعزّهم الذي تخيّلوه لأنفسهم،

ثمّ فسّر سبحانه العذاب المهين الذي هدّد به هؤلاء المقبلين بقلوبهم إلى الدنيا بقوله: مِنْ وَرائِهِمْ و في خلفهم، و هو الدار الآخرة التي ولّوا عنها جَهَنَّمُ و قيل: إنّ الوراء هنا بمعنى القدّام (1)وَ لا يُغْنِي و لا يدفع العذاب عَنْهُمْ في الآخرة ما كَسَبُوا و حصّلوا في الدنيا من الأموال و الزخارف شَيْئاً قليلا وَ لا مَا اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْلِياءَ من الأصنام و الأوثان، على خلاف زعمهم من أنّهم شفعاء عند اللّه وَ لَهُمْ في جهنم (2)عَذابٌ عَظِيمٌ و شديد في الغاية مضافا إلى كونه مهينا.

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المعرضين عن آيات القرآن و المستهزئين بها، بالغ في توصيف القرآن بالهداية، باخباره عنه بأنه عينها بقوله: هذا القرآن هُدىً و عين رشاد إلى مصالح الدين و الدنيا، و دالّ إلى كلّ خير، و إلى أعلى الكمالات الائقة بالبشر وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ القرآن النازلة من رَبِّهِمْ اللطيف بهم لَهُمْ في الآخرة استحقاق و عدل عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ و شديدة أَلِيمٌ ذلك العذاب غايته.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر كثير من الآيات الدالة على توحيده و قدرته و حكمته، و تهديد المعرضين عنها و المستهزئين بها، عاد إلى ذكر آيات و أدلة اخر على توحيده بقوله: اَللّهُ تعالى هو القادر اَلَّذِي سَخَّرَ و ذلّل لَكُمُ اَلْبَحْرَ بأن جعله ليّنا مائعا ساكنا لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ و السّفن فِيهِ بِأَمْرِهِ

اَللّهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

ص: 548


1- . تفسير الرازي 27:261، تفسير أبي السعود 8:69.
2- . في النسخة: في تلك الجهنم.

و إرادته وَ لِتَبْتَغُوا و تطلبوا بالركوب في السفن للتجارة، و بالغوص في البحر و إخراج اللؤلؤ و المرجان منه، و بصيد السّموك مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه،

و لكي تؤدّون حقّ إحسانه وَ سَخَّرَ و ذلّل أيضا لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الموجودات، بأن جعلها نافعة لكم في حياتكم و بقائكم و معاشكم، و معارفكم و كمال أنفسكم حال كونها جَمِيعاً و كلا كائنة مِنْهُ تعالى موجودة بقدرته و مشيئته إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة على توحيد خالقها و مسخّرها و إنما كماله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنع اللّه و عظائم نعمه.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 14

ثمّ إنه تعالى بعد ذكر الأدلّة المتقنة على توحيده و تهديد المشركين، أمر المؤمنين بالمداراة معهم و العفو عن إساءتهم بقوله: قُلْ يا محمد لِلَّذِينَ آمَنُوا بك يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اَللّهِ و ثوابه، و لا يخافون عقابه، و لا يخشون نزول مثل ما نزل على الامم الماضية، كما عن ابن عباس (1).

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اَللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)و هم الكفّار و المشركون المنكرون للمعاد، إذا أساءوا إليهم باللسان و اليد لِيَجْزِيَ اللّه قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.

قيل: إنّ المراد من القوم المؤمنون، و تنكيره لتعظيم شأنهم، و المراد ممّا يكسبون مغفرتهم للمسيئين إليهم، و المعنى أمرهم بالمغفرة ليجزي اللّه يوم القيامة قوما، أي قوم كانوا بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذى الكفّار و إساءتهم، و الإغضاء عنهم بكظم الغيظ و احتمال المكروه (2).

و قيل: إنّ المراد الكفار، و تنكيره للتحقير، و المعنى: قل للمؤمنين يتجازوا عن إساءة الكفّار، ليجزي اللّه الكفّار بما كسبوا من الإثم و الإساءة، و المراد لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن (3).

قيل: إنّ الآية منسوخة بآية السيف و القتال (4).

روى بعض العامة عن ابن عباس: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني عمر يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اَللّهِ يعني عبد اللّه بن ابي، و ذلك أنّهم نزلوا في عزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع،

ص: 549


1- . تفسير الرازي 27:263.
2- . تفسير أبي السعود 8:70، تفسير روح البيان 8:442.
3- . تفسير الرازي 27:263.
4- . تفسير البيضاوي 2:388، تفسير روح البيان 8:441.

فأرسل عبد اللّه غلامه ليستقي الماء، فابطأ عليه، فلمّا أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر، فما ترك احدا يستقى حتى ملأ قرب النبي و قرب أبي بكر و ملأ لمولاه. فقال عبد اللّه: ما مثلنا و مثل هؤلاء إلاّ كما قيل: سمّن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر، فاشتمل بسيفه يريد التوجّه إليه، فنزلت (1).

و قيل: شتم رجل من كفّار قريش عمر بمكة، فهمّ أن يبطش به، فأمر اللّه بالعفو و التجاوز، و أنزل اللّه هذه الآية (2).

و روى ميمون بن مهران أنّ فنحاس (3)بن عازورا اليهودي، لمّا نزل قوله: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً (4)قال: ربّ محمد احتاج، فسمع بذلك عمر، فاشتمل على سيفه، و خرج في طلبه، فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله في طلبه وردّه (5).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 15 الی 18

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يجزي كلّ أحد جزاء عمله، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ، بقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً و مرضيا عند اللّه فَلِنَفْسِهِ عمله و نفعه، و إليه عائد ثوابه، لا إلى اللّه، و لا إلى غيره وَ مَنْ أَساءَ و عصى ربّه، و تبع هوى نفسه فَعَلَيْها وزره و ضرره و عقابه، لا على نفس غيره، فأوامره تعالى و نواهيه ألطاف منه تعالى إلى العبيد، و تقريب إلى مصالحهم، تبعيد عن مضارّهم و مفاسدهم ثُمَّ بعد خروجكم من الدنيا، و دخولكم في دار الجزاء إِلى رَبِّكُمْ و مالك اموركم تُرْجَعُونَ و إلى محكمة عدله تساقون، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، و إن شرا فشرّ، ففيه حثّ على العمل الصالح، و منه العفو عن المسييء، و تحذير عن العمل السيء.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (16) وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ طريقة قوم خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله طريقة قوم موسى في الايمان و الكفر مع نزول

ص: 550


1- . تفسير الرازي 27:263، تفسير روح البيان 8:441.
2- . تفسير الرازي 27:263.
3- . في تفسير الرازي: فنحاص.
4- . البقرة:2/245.
5- . تفسير الرازي 27:263.

الكتاب إليهم، و إتيان المعجزات لهم، و وفور النّعم عليهم بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أعطيناهم بفضلنا اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ قيل: هي العلم بالأحكام (1). و قيل: إنّها العلم بفصل القضاء (2). و قيل: إنّها المعارف الإلهية (3)وَ اَلنُّبُوَّةَ فانّ إبراهيم كان شجرة الأنبياء، و كان أكثر الأنبياء في نسله.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان نعمه الدينية بيّن نعمه الدنيوية التي أعطاهم بقوله: وَ رَزَقْناهُمْ في الدنيا مِنَ اَلطَّيِّباتِ و اللذائذ كالمنّ و السّلوى و أموال القبط وَ فَضَّلْناهُمْ بفلق البحر لهم، و تظليل الغمام عليهم و نظائرهما عَلَى اَلْعالَمِينَ قيل: إنّ المراد عالمي زمانهم (1)

وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ و أدلّة ظاهرة مِنَ اَلْأَمْرِ و الدين، أو معجزات ظاهرة على صحّة نبوتهم.

عن ابن عباس: يعني بيّن لهم من أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، و يكون أنصاره من أهل يثرب (2)، و مع ذلك اختلفوا في أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو في التوحيد، فمنهم من آمن، و منهم من كفر فَمَا اِخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بحقيته و حقيقته، فجعلوا ما يرفع الخلاف سببا لوجوده، و لم يكن هذا الاختلاف لحدوث شكّ في قلوبهم، بل كان لأجل أن أحدثوا بَغْياً و عداوة بَيْنَهُمْ لطلبهم الدنيا و الرئاسة، فصار ذلك العدوان سببا لاختلافهم و تنازعهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي يوم القيامة بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين بإثابة المحقّين، و تعذيب المبطلين.

ثُمَّ بعد انقضاء نبوة بني إسرائيل جَعَلْناكَ يا محمد-لكرامتك عليّ، و نورانية قلبك، و كمال عقلك و عظمة خلقك-مستويا عَلى شَرِيعَةٍ و طريقة عظيمة الشأن مِنَ اَلْأَمْرِ و الدين الذي خصصناك به فَاتَّبِعْها و اعمل بأحكامها، و بلّغها إلى الناس وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الضالين اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شيئا من الحقائق، و لا تأخذ بآراء قوم يجهلون الدين، بل لا دين لهم إلاّ ما يشتهون من غير حجّة على ما يتديّنون.

عن الكلبي: أنّ رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة: ارجع إلى دين آبائك، فهم كانوا أفضل منك، و أسنّ فنزلت (3).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 19 الی 20

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

ص: 551


1- . تفسير الرازي 27:265، تفسير روح البيان 8:443.
2- . تفسير الرازي 27:265.
3- . تفسير الرازي 27:265.

ثمّ هدّد سبحانه حبيبه صلّى اللّه عليه و آله على اتباع أهواء قومه بقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ و لا يفيدوك لو ملت إلى أديانهم الباطلة، و لن يمنعوك مِنَ عذاب اَللّهِ على اتّباعك شهواتهم التي سمّوه دينا شَيْئاً قليلا من الإغناء، و بوجه من الوجوه وَ إِنَّ المشركين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر بَعْضُهُمْ في الدنيا و الآخرة أَوْلِياءُ بَعْضٍ و أتباعه، للتجانس في الخبث، و رذالة الصفات و الأخلاق، و لا تنفعهم تلك الولاية، و أنت وليّ اللّه وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ من الشرك و اتّباع الهوى و الأديان الباطلة، و أنت قدوتهم، و هو بولايته لهم وصّلهم إلى جميع الخيرات و السعادات الدنيوية و الاخروية، و ما أبين الفرق بين الولايتين!

ثمّ بيّن سبحانه فوائد القرآن المشتملة على ادلّة دين الحق بقوله: هذا القرآن العظيم المشتمل على البيانات الشافية و المواعظ الوافية آياته بَصائِرُ للقلوب و أنوار للعيون النازلة لِلنّاسِ من ربكم و مالك أمركم اللطيف بكم وَ هُدىً و رشاد من الضلال وَ رَحْمَةٌ و نعمة عظيمة من اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بصدقه و بأنّه كلام ربّه.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «القرآن يدلّ على دائكم و دوائكم» (1).

أقول: الداء الشرك، و أعظم دوائه التفكّر في أدلّة التوحيد، ثمّ بعده الذنوب و دواؤه الاستغفار، ثمّ حبّ الدنيا و دواؤه التفكّر في فنائها.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 21

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ولايته للمتقين، بيّن علّة ذلك، و هو وضوح فضيلة المتقين على الظالمين بقوله: أَمْ حَسِبَ الكفّار اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا و اكتسبوا اَلسَّيِّئاتِ و الأعمال الشنيعة، و اشتغلوا بها، و غفلوا عن اللّه و الدار الآخرة أَنْ نَجْعَلَهُمْ و نصيّرهم في الألطاف و الإكرام كَالَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الايمان به من التوحيد و رسالة الرسول و الدار الآخرة وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ المرضيات عندنا، و نعاملهم معاملتهم، و يكون سَواءً و مساويا مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ و دنياهم و آخرتهم؟ كلا ليس الظالمون كالمتقين، و العصاة المسيئون كالمطيعين الصالحين، بل الطائفة الاولى في ذلّ الكفر و العصيان، و الثانية في عزّ الايمان و الطاعة، و لا تستوي حياتهم و موتهم، فانّ الطائفة الاولى حياتهم أسوأ الحياة، لابتلائهم فيها بالتعب لجمع الأموال و حفظها، و اشتغال قلوبهم بحبّ

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21)

ص: 552


1- . تفسير روح البيان 8:444.

الدنيا و الأموال و الأولاد و الرئاسة و كونهم في خوف من العدوّ و الضرر و المرض و الذلّ، و في حزن ممّا يفوتهم ممّا يأملون، و موتهم أسوأ الموت، لصعوبة انقطاعهم من الدنيا، و شدّة ابتلائهم بالعذاب. و الطائفة الثانية حياتهم حياة طيبة، لأنسهم باللّه، و قناعتهم بما رزقهم اللّه، و توكلّهم على اللّه، و فراغ قلبهم من همّ الدنيا، و أمنهم من الأعداء، و سرورهم بما أعدّ اللّه لهم من الكرامة و الثواب.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا رأى أصحاب الصّفّة (1)في المسجد: «المحيي محياكم و الممات مماتكم» (2).

عن ابن عباس: يعني أحسبوا أنّ حياتهم و مماتهم كحياة المؤمنين و مماتهم؟ كلا فإنهم يعيشون كافرين و يموتون كافرين، و المؤمنون يعيشون مؤمنين و يموتون مؤمنين، و ذلك لأنّ المؤمن ما دام في الدنيا يكون وليه اللّه، و أنصاره المؤمنون، و حجّة اللّه معه، و الكافر بالضدّ (3).

و قيل: إنّ المعنى أحسبوا أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة؟ فانّ المؤمنين يستوون [مع]الكفّار في الرزق و الصحة و الكفاية، بل قد يكون الكافر أحسن حالا من المؤمن، و إنّما الفرق بينهما في الممات (4).

و قيل: إنّ الجملة مستأنفة، و المعنى الكافر محياه و مماته سواء، و المؤمن كذلك فكل يموت على ما عاش عليه (5).

ثمّ لمّا كان المشركون يقولون: نحن أحسن حالا من المؤمنين في الآخرة، ردّهم اللّه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ و بئس شيئا يقولون عن جزم من أنهم أحسن حالا من المؤمنين.

قال الفخر الرازي: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في عليّ و حمزة و أبي عبيدة بن الجرّاح، و في ثلاثة من المشركين: عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: و اللّه ما أنتم على شيء، و لو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر اللّه عليهم هذا الكلام (3).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 22 الی 23

وَ خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)

ص: 553


1- . الصّفّة: مكان مظلّل في مسجد المدينة، كان يأوي إليه فقراء المهاجرين، و يرعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هم أصحاب الصّفّة.
2- . تفسير روح البيان 8:446. (3و4و5) . تفسير الرازي 27:267.
3- . تفسير الرازي 27:266.

ثمّ لمّا حكم اللّه سبحانه بعد مساواة الكافر و المؤمن في الحياة و في الممات، استدلّ على وجود عالم آخر، و هي دار الجزاء بقوله: وَ خَلَقَ اَللّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لا للّغو و العبث، بل معلّلا بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة، و هو تكميل النفوس و ظهور استعداداتها، بسبب جعل التكاليف و الأحكام وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من النفوس بِما كَسَبَتْ و حصلت لها من الأعمال الصالحة و السيئة. و قيل: إنّ التقدير ليدلّ بها على قدرته و لتجزى (1). و قيل: إنّه معطوف على قوله: بِالْحَقِّ و المعنى: لأجل إظهار الحقّ و لتجزى، و على أيّ تقدير يكون الحاصل أنّ المقصود من خلق العالم إظهار العدل و الرحمة، و لا يتمّ إلاّ إذا حصل البعث و التفاوت في الدرجات و الدركات بين المحقّين و المبطلين (2)، و المحسنين و المسيئين وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثواب و زيادة العقاب على الاستحقاق.

ثمّ إنّه تعالى بعد نهي نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن اتّباع هوى المشركين الجهّال، ذمّ المشركين باتّباعهم الهوى، و أظهر التعجّب من سفههم بقوله: أَ فَرَأَيْتَ يا محمد، قيل: إنّ التقدير أنظرت فرأيت (1)مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ و معبوده هَواهُ و شهوة نفسه، و ترك الهدى و طاعة ربّه، و ذلك ممّا يقضي التعجّب. قيل: كانوا يستحسنون حجرا فيعبدونه، فاذا أرادوا أحسن منه رفضوه (2).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه بخذلانه بقوله: وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ و حرفه عن طريق الهدى بخذلانه عَلى عِلْمٍ من إيصال بالطريق الحقّ و الصواب، أو علم من اللّه بأنّ ذاته الخبيثة غير قابلة للهداية وَ خَتَمَ و طبع عَلى سَمْعِهِ بحيث لا تدخله المواعظ، و لا يسمع الحقّ وَ على قَلْبِهِ بحيث لا يفهم كلام اللّه، و لا يتفكّر في آياته، و لا يتأثّر بالنّذر وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً و غطاء مانعا عن رؤية المعجزات و بدائع الصّنع الدالة على توحيد الصانع فَمَنْ يَهْدِيهِ و أي شخص و مرشد يرشده إلى الحقّ مِنْ بَعْدِ اَللّهِ و ممّا سواه، أو من بعد إضلاله إياه، لا و اللّه لا يهديه أحد غير اللّه أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ذلك و تنبّهون؟ قيل: إنّ التقدير ألا تلاحظون فلا تذكّرون و لا تتفكّرون، فتعلموا أن الهداية بيد اللّه؟ (3).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 24

وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (24)

ص: 554


1- . تفسير أبي السعود 8:73، تفسير روح البيان 8:448.
2- . تفسير البيضاوي 2:389، تفسير أبي السعود 8:73.
3- . تفسير أبي السعود 8:573، تفسير روح البيان 8:449.

ثمّ و بّخهم سبحانه على إنكارهم البعث و المعاد بقوله: وَ قالُوا من غاية جهلهم و ضلالهم: ليس حياتنا و ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا في اَلدُّنْيا التي نحن فيها نَمُوتُ فيها تارة وَ نَحْيا فيها اخرى، و ليس وراء ذلك حياة في عالم آخر، كما تدّعون، و تأخير (نحيى) لمراعاة شبه الفواصل، و الواو لمطلق الجمع، كذا قيل (1). و قيل: إنّهم كانوا يقولون بالتناسخ (2). و قيل: إنّ المراد بالموت كونهم نطفا في أصلاب الآباء و أرحام الامهات (3). و قيل: إنّ المراد بالحياة المذكورة بعد الموت حياتهم بسبب بقاء الأولاد (4). و قيل: إنّ المراد موت بعض، و حياة بعض (5).

ثمّ حكى سبحانه إنكارهم كون الموت بقبض ملك الموت أرواح الناس، بل هو بالطبيعة بقوله حكاية عنهم: وَ ما يُهْلِكُنا و يميتنا شيء إِلاَّ اَلدَّهْرُ و طول زمان الحياة، أو حركات الأفلاك و تأثير الطبائع، فليس الموت بيد الفاعل المختار، فجمعوا بين إنكار الإله و إنكار المعاد، فردّهم سبحانه بقوله: وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ القول من حصر الحياة بالحياة الدنيوية، و كون الموت بتأثير الطبيعة و الدهر شيء مِنْ عِلْمٍ و حجّة قاطعة تورث اليقين، بل إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ بسبب تقليد آبائهم، و لا ينبغي للعاقل أن يعتمد في هذه العقائد التي في خطئها خطر عظيم على الظنّ و الحسبان، بل لا بدّ من الحجّة القاطعة العقلية و النقلية، كما هو طريقة المؤمنين.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 25 الی 27

ثمّ حكى سبحانه معارضتهم الآيات الدالة على البعث، فردّهم إياها بما يكون فساده أظهر من الشمس بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ لإثبات البعث آياتُنا الدالة على إمكانه و وقوعه مع كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدلالات عليه، و كقولنا: إِنَّ اَلَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ اَلْمَوْتى (3)و قولنا: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (4)و قولنا: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ (5).

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا اِئْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اَللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ اَلْمُبْطِلُونَ (27)ما كانَ حُجَّتَهُمْ بزعمهم و دليلهم على إبطال ما نطقت به الآيات شيء إِلاّ أَنْ قالُوا سفها

ص: 555


1- . تفسير روح البيان 8:449.
2- . تفسير البيضاوي 2:389، تفسير أبي السعود 8:73، تفسير روح البيان 8:449. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 27:269.
3- . فصلت:41/39.
4- . الروم:30/27.
5- . يس:36/79.

و عنادا و لجاجا: أيّها المدّعون للحياة بعد الموت اِئْتُوا بِآبائِنا و أحيوهم ثانيا، و أحضروهم عندنا يشهدون بصحّة قولكم بالبعث و الحساب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إخباركم به.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلِ يا محمد لهم: أيّها الجهّال اَللّهُ القادر على خلق كلّ شيء يُحْيِيكُمْ في الدنيا بقدرته و حكمته ثُمَّ بعد انقضاء آجالكم هو يُمِيتُكُمْ بقدرته، لا الطبيعة و الدهر، و لا حركات الأفلاك، و لا تأثير الكواكب ثُمَّ بعد إحياكم في القبور يَجْمَعُكُمْ حال كونكم منتهين إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ للحساب و جزاء الأعمال لا رَيْبَ في جمعكم في ذلك اليوم، و لا شكّ للعاقل فِيهِ لوجوبه على اللّه بحكم العقل، و من الواضح عدم التلازم بين إمكان الإحياء في الآخرة، و إمكانه في الدنيا، و لا يلزم من قدرة اللّه على ذلك قدرة المخبرين به عن اللّه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ دلالة حدوث الانسان و سائر الموجودات على وجود الإله القادر الحكيم، و على قدرته على الإحياء ثانيا و وجوبه عليه،

ثمّ بيّن قدرته الكاملة على إيجاد جميع الموجودات، وسعة سلطنته بقوله: وَ لِلّهِ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السلطنة التامة على جميع الموجودات علويا و سفليا، إيجادا و إعداما، و تصرّفا و تدبيرا، فمن كان بهذه القدرة لا يعجز عن إيجاد الانسان و إحيائه ثانيا بعد موته و صيرورته رميما و ترابا، فثبت المعاد بالدليل القاطع.

ثمّ هدّد المنكرين بقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّاعَةُ و القيامة يَوْمَئِذٍ و وقت قيامها يَخْسَرُ و يتضرّر اَلْمُبْطِلُونَ و القائلون بأن لا إله و لا بعث، لأنّهم ضّيعوا أعمارهم و عقولهم و قواهم التي أنعم اللّه بها عليهم، و جعلها بمنزلة رأس مالهم في سوق الدنيا، كرأس مال التجار، ففي إتلافها و تضييعها خسارة لا خسارة فوقها.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ ذكر بعض أهوال القيامة بقوله: وَ تَرى يا محمد، أو أيّها الرائي كُلَّ أُمَّةٍ من الاممّ و جماعة من الجماعات مؤمنيهم و كفّارهم من هول ذلك اليوم جاثِيَةً و باركة على ركبهم، لذهاب قوة القيام عنهم.

وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)عن كعب الأحبار أنّه قال لعمر: ان جهنّم تزفر زفرة يوم القيامة فلا يبقى ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ جثا على ركبتيه، حتى يقول إبراهيم الخليل: يا ربّ، أسألك اليوم إلاّ نفسي (1).

ص: 556


1- . تفسير روح البيان 8:453.

و قيل: يجثون لإظهار الخضوع و الخشوع (1).

و قيل: جاثية: يعني قائمة على اطراف الأصابع (2)، ليروا ما ينزل بهم.

قيل: إنّ المؤمن و الكافر مشاركون في الخوف حتى يظهر المحقّ و المبطل (3).

و عن ابن عباس، قال: يعني مجتمعة (4)، لا يخلط بعضهم بعض، و عند ذلك كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا و صحيفة أعمالها لتقرأها، و تكرير كلمة (كل امة) للاغلاظ و الوعيد، ثمّ يقال لهم: اَلْيَوْمَ يوم تُجْزَوْنَ فيه أيتها الامم ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من خير أو شرّ، و طاعة أو عصيان.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة جاء الايمان و الشرك فيجثيان بين يدي الربّ تعالى، فيقول اللّه للايمان: أنطلق أنت و أهلك إلى الجنّة، و يقال للشرك: انطلق أنت و أهلك إلى النار» (3).

ثمّ يقال للامم بعد إعطاء كلّ كتابه بيده: هذا الكتاب الذي فيه أعمالكم كِتابُنا الذي كتبه الكرام الكاتبين بأمرنا يَنْطِقُ بأعمالكم في الدنيا، و يشهد عَلَيْكُمْ بما فعلتم و أرتكبتم مقرونا بِالْحَقِّ و الصدق بلا زيادة و لا نقصان إِنّا كُنّا في الدنيا الدنيّة نَسْتَنْسِخُ و نستكتب بتوسّط الملائكة ما كُنْتُمْ في مدّة أعماركم تَعْمَلُونَ من الحسنات و السيئات صغيرة و كبيرة.

قيل: ما من صباح و مساء إلاّ و ينزل فيه ملك من عند إسرافيل إلى كاتب أعمال كلّ إنسان، ينسخ عمله الذي يعمله في يومه و ليلته، و ما هو لاق فيهما (4).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أول ما خلق اللّه القلم، و كتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول برّ أو فجور، و أحصاه في الذكر، و اقرءوا إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهل يكون النسخ إلاّ من شيء قد فرغ منه» (5).

و عن ابن عباس: أنّ اللّه و كلّ ملائكة يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده كلّ عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيعارضون به حفظة اللّه على عباده كلّ عشية خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة و لا نقصان، فإذا أفنى الورق ممّا قدّر و انقطع الأمر و انقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة، و قالوا: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فيرجع الحفظة فيجدونه قد مات.

ثمّ قال ابن عباس: أ لستم قوما عربا؟ هل يكون الاستنساخ إلاّ من أصل و هو اللّوح المحفوظ من

ص: 557


1- . تفسير الجامع 16:174.
2- . تفسير روح البيان 8:453. (3 و 4) . تفسير الرازي 27:272، تفسير روح البيان 8:453.
3- . تفسير روح البيان 8:454.
4- . تفسير روح البيان 8:454.
5- . تفسير روح البيان 8:454.

التغيير و التبديل و الزيادة و النقصان على ما عليه مما كتبه القلم الأعلى؟ (1)

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن نون وَ اَلْقَلَمِ قال: «إنّ اللّه خلق القلم من شجرة في الجنة، يقال لها الخلد، ثمّ قال لنهر في الجنة: كن مدادا، فجمد النهر، و كان أشدّ بياضا من الثلج، و أحلى من الشهّد، ثمّ قال للقلم: اكتب، قال: يا رب، ما أكتب؟ قال عزّ و جلّ: اكتب ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب القلم في ورق أشدّ بياضا من الفضّة، و أصفى من الياقوت، ثمّ طواه فجعله في ركن العرش، ثمّ ختم على فم القلم، فلم ينطق و لا ينطق أبدا، فهو الكتاب المكنون الذي منه النّسخ كلّها، أو لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام، و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب، أو ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر من الأصل، و هو قوله: إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (2).

و في حديث ذكر فيه الملكين الموكّلين بالعبد، قال: «إنّهما إذا أرادا النزول صباحا و مساء، ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللّوح المحفوظ، فيعطيهما ذلك، فاذا صعدا صباحا و مساء بديوان العبد، قابله إسرافيل بالنّسخ التي استنسخ لهما حتى يظهر أنّه كان كما نسخ منه» (3).

قيل: إلزام الحجّة على العبد يوم القيامة بشهود الملائكة صدور الطاعة أو العصيان من العبد في وقته المخصوص و كتابتهم أعمالهم (4).

و قيل: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال العبيد، ثمّ يقابلونها بما في اللّوح المحفوظ، فما فيه ثواب أو عقاب أثبت، و ما لم يكن فيه شيء منهما محي، و ذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ (5).

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 30 الی 35

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ (30) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ اَلسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا اَلسّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

ص: 558


1- . تفسير روح البيان 8:454.
2- . تفسير القمي 2:379، تفسير الصافي 5:9.
3- . سعد السعود:226، تفسير الصافي 5:9.
4- . تفسير روح البيان 8:454.
5- . تفسير روح البيان 8:454، و الآية من سورة الرعد:13/39.

ثمّ بيّن سبحانه معاملته مع المؤمنين بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ من كلّ امة من الامم فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ بفضله فِي جنّته التي هي محلّ رَحْمَتِهِ و مظهرها و ذلِكَ الإدخال في الجنّة هُوَ اَلْفَوْزُ و الظّفر اَلْمُبِينُ و الظاهر على المقصد الأعلى، بحيث لا فوز وراءه، و لا ظفر على مقصود فوقه.

ثم ذكر سبحانه عتابه على الكفار بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فيقول اللّه لهم تقريعا و توبيخا: أيّها الكفّار أَ فَلَمْ تَكُنْ قيل: إنّ التقدير ألم يكن تأتيكم رسلي، فلم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ (1)؟ بلى، قد كانت تتلى عليكم فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الايمان بها، و كذّبتموها وَ كُنْتُمْ بسبب الاستكبار و التكذيب قَوْماً مُجْرِمِينَ و جمعا معاقبين، أو المراد قوما عادتهم الإجرام.

ثمّ إنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر باللّه و بآياته، و استكبارهم عن الايمان بالمبدأ، و بّخهم على إنكارهم البعث و المعاد بقوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ في الدنيا لكم إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالحشر و البعث و جزاء الأعمال حَقٌّ و صدق لا ريب فيه وَ إنّ اَلسّاعَةُ و القيامة قائمة لا محالة و لا رَيْبَ فِيها و لا شكّ في صّحة وقوعها، قُلْتُمْ أيّها العتاة استغرابا و إنكارا لها: إنّا ما نَدْرِي مَا اَلسّاعَةُ و لا نعلم أي شيء هي إِنْ نَظُنُّ بقيامها و ما نحسب إتيانها إِلاّ ظَنًّا ضعيفا و حسبانا واهنا، لكثرة ما سمعنا من الرسول من الوعد بها و الاستدلال عليها وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بقيامها، و عالمين بوقوعها، لما رأينا من إنكار آبائنا و أكابرنا إيّاها.

أقول: الظاهر أنّ الطائفة المظهرين للشكّ غير الطائفة الذين قالوا: ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ (2)عن يقين و جزم.

وَ بعد ذلك بَدا للكفّار، و ظهر لَهُمْ صور البرزخيّة التي تكون عليها سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا و قبائحه، و هم في الدنيا كانوا يعدّونه حسنات، أو المراد و خامة عاقبته.

و قيل: إنّ المراد جزاء أعمالهم القبيحة، كالشرك و المعاصي (3)وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ من كلّ جانب ما كانُوا في الدنيا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و منه يسخرون من جزاء أعمالهم، و العقاب الموعود على شركهم و عتوّهم و معاصيهم، و فيه إيذان بأنّ قولهم: إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا كان على سبيل الاستهزاء و السّخرية.

وَ قِيلَ لهم من جانب اللّه تعالى: اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ أيّها الكفّار، و نترككم في جهنم و عذابها،

ص: 559


1- . تفسير البيضاوي 2:390، تفسير روح البيان 8:455.
2- . الجاثية:45/24.
3- . تفسير روح البيان 8:458.

كترك الشيء المنسيّ الذي لا يبالي به كَما نَسِيتُمْ و ما راعيتم لِقاءَ عذاب اللّه في يَوْمِكُمْ هذا و لم تلتفتوا إليه، و لم تبالوا به، بأن تركتم ما يدفع به من الايمان و الأعمال الصالحة وَ مَأْواكُمُ و منزلكم، أو مرجعكم اَلنّارُ لأنّها مأوى من نسيناه وَ ما لَكُمْ اليوم أبدا أحد مِنْ ناصِرِينَ ينصركم، و يدفع عذاب النار عنكم، و يخلّصكم عنه.

ذلِكُمْ الترك في العذاب، و تمكّنكم في النار معلّل بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ و براهين توحيده و ما ينزل من كتابه الناطق بالحقّ هُزُواً و جعلتموها ممّا يسخر به وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و خدعتكم شهواتها، فشغلتم بها، و انهمكتم فيها، و غفلتم عن اللّه و الدار الآخرة، حتى أنّكم أنكرتم اللّه و دار الجزاء، و حسبتم أن لا حياة بعد الموت، و لا حساب و لا جزاء.

سوره 45 (الجاثية): آیه شماره 35 الی 37

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم إيذانا بغاية مهانتهم، و خروجهم عن أهلية الخطاب، و وجّه خطابه إلى العقلاء بقوله: فَالْيَوْمَ و في هذا العالم لا يُخْرَجُونَ من النار و لا يخلّصون مِنْها أبدا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و يطالبون بأن يرضوا عنهم ربّهم بالتوبة و الإنابة و الطاعة، لفوات وقته و أوانه، ثمّ لما كان المطالب العالية و الوعد و الوعيد المفصّلة في هذه السورة من ألطاف اللّه بعباده و نعمه الروحانية عليهم، و من شؤون ربوبيته لهم، ختم سبحانه السورة بحمد ذاته المقدّسة على نعمه بقوله:

فَلِلّهِ وحده اَلْحَمْدُ بأنواعه و أصنافه لأنّه رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ كلّها من عالم الجبروت، و عالم الملكوت، و عالم الملك.

ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلّهِ اَلْحَمْدُ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ اَلْكِبْرِياءُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (37)

ثمّ أثنى سبحانه على نفسه بقوله تعالى: وَ لَهُ اَلْكِبْرِياءُ و العظمة و السّلطنة المطلقة فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و جميع عوالم الوجود وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الذي لا عزّة لغيره إلاّ به، و القادر الذي لا قدرة لغيره إلاّ بإعطائه و اَلْحَكِيمُ الذي لا يصدر منه إلاّ ما فيه أكمل الصلاح و أتمّ الحكمة، فلإختصاص الحمد به أحمدوه على نعمه، و لاختصاص العظمة و الكبرياء به كبروه، و لاختصاص العزّة و الحكمة به وحدّوه و اعبدوه.

في الحديث: «أنّ للّه ثلاثة أثواب: أتّزر بالعزّة، و أرتدى بالكبرياء، و تسربل بالرحمة، فمن تعزّز

ص: 560

بغير اللّه أذلّه اللّه، فذلك الذي يقول اللّه تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ (1)، و من تكبّر فقد نازع اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: لا ينبغي لمن نازعني أن ادخله الجنّة، و من يرحم الناس يرحمه اللّه، فذلك الذي سربله اللّه سرباله الذي ينبغي له» (2).

و في الحديث القدسي: «يقول اللّه: الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، و لا يسمع زفير جهنّم و شهيقها، و هو في الجنّة مع محمد صلّى اللّه عليه و آله» (2).

الحمد للّه على التوفيق لإتمام تفسيرها.

ص: 561


1- . الدخان:44/49. (2 و 3) . تفسير روح البيان 8:459.
2- . ثواب الأعمال:114، مجمع البيان 9:106، تفسير الصافي 5:10.

ص: 562

في تفسير سورة الأحقاف

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ بعد ختم سورة الجاثية المتضمّنة لبيان عظمة القرآن، و أدلّة التوحيد و المعاد، و ذمّ المشركين الذين أعرضوا عن الرسول و كتابه، و تهديدهم بالعذاب، و الإخبار بوقوع القيامة و شدّة أهوالها، نظمت سورة الأحقاف المتضمّنة لجميع تلك المطالب العالية النافعة، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)

ثمّ افتتحها بما افتتح به السورة السابقة من الحروف المقطّعة، و هو قوله: حم ثمّ عظّم القرآن

بقوله: تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ و قد مرّ تفسيره.

ثمّ شرع في ذكر دليل التوحيد و المعاد بقوله: ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات العلوية و السّفلية بداع من الدواعي إِلاّ بِالْحَقِّ و داعي الحكمة و الصلاح الأتم، و هو تكميل النفوس بالمعرفة و العلم و الأخلاق و الأعمال الصالحة، ليصرن (1)قابلات للفيوضات الأبدية و النعم غير المتناهية و الرحمة الموصولة وَ مقرونات بتقدير أَجَلٍ و وقت مُسَمًّى و معين ينتهي إليه الكلّ، و هو يوم القيامة، و عالم الآخرة، و دار الجزاء، و تميّز النفوس الزكية و الخبيثة، لا لتبقى أبدا.

ثمّ ذمّ المشركين على غفلتهم عن عالم الآخرة، و دليل وجوبه، و عدم اعتنائهم بما وعظوا به من المجازاة فيه بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا باللّه، و أنكروا دار الجزاء عَمّا أُنْذِرُوا به و خوّفوا من يوم القيامة و أهوالها مُعْرِضُونَ و بما وعظوا به من عذاب الآخرة على الشرك و العصيان لا

ص: 563


1- . في النسخة: ليصيروا.

يعتنون و لا يبالون، مع قيام البراهين القاطعة على صحّته، و إخبار الرّسل بوقوعه، و نطق الكتب السماوية به.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 4

ثمّ إنه تعالى بعد إثبات التوحيد، ردّ مذهب الشرك بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المشركين أَ رَأَيْتُمْ أيها المشركون، و أخبروني ما تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام و الأوثان أَرُونِي و بيّنوا لي ما ذا خَلَقُوا و أيّ جزء أوجدوا مِنْ أجزاء اَلْأَرْضِ متفردين بخلقه و إيجاده؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ مع اللّه و دخل فِي إيجاد اَلسَّماواتِ أو ملكها أو تدبيرها حتى يكون لهم شأنية استحقاق للعبادة؟ لا و اللّه ليس لهم دخل في وجود شيء منهما، فإذن تكون عبادتهم محض السّفه، لعدم استحقاقهم لها، بل الاستحقاق لخالقهما و خالق غيرهما من الموجودات، و إنّ قلتم: إنّ الخالق المستحقّ بالذات للعبادة أمرنا بعبادة هذه الجمادات اِئْتُونِي بِكِتابٍ و سند على ما تدّعون من قبل اللّه نازل عليكم مِنْ قَبْلِ هذا القرآن الناطق بالتوحيد و النهي عن عبادة غيره أَوْ أَثارَةٍ و بقية بقت عندكم من علم مختصّ بالأنبياء و الرسل، أو رواية رويتم مِنْ عِلْمٍ الأولين خصصتم به، و لم يطّلع عليها غيركم.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّماواتِ اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)عن ابن عباس، أنّه قال: أَوْ أَثارَةٍ علم الخطّ الذي يخطّ في الرمل (1).

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى أمر اللّه بهذا، فإذا لم يكن في الكتب السماوية، و لا فيما نقل عن الأنبياء ما يدلّ على صحّة دينكم، كان بطلانه ظاهرا واضحا، مع أنّه قد دلّت الأدلّة القطعية العقلية و النقلية على خلافه.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 5 الی 7

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَ إِذا حُشِرَ اَلنّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

ص: 564


1- . تفسير الرازي 28:5.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه عدم استحقاق غير اللّه العبادة بالذات، و لا يأمر اللّه، بيّن غاية ضلال المشركين بعبادتهم ما لا شعور له و لا إدراك بقوله: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يترك عبادة اللّه و دعاءه و يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ القادر على كل شيء، العالم بالخفيات مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ دعاءه إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لعدم قدرتهم على الجواب وَ هُمْ مع عجزهم عن إجابة دعاء الداعين عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ و به غير شاعرين، لكونهم جمادات، و فيه تهكّم بالأصنام و بعبدتها.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان عدم نفع الأصنام بعابديهم في الدنيا، بيّن عدم نفعهم إياهم في الآخرة بقوله: وَ إِذا حُشِرَ اَلنّاسُ حين قيام الساعة، و جمعوا في عرصة القيامة، و أحيا اللّه الأصنام كانُوا لَهُمْ أَعْداءً و أنكروا عبادة المشركين وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ و مكذّبين، و قالوا: ما كنتم إيّانا تعبدون، بل كنتم تعبدون أهواءكم.

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و إبطال الشرك، حكى إنكار المشركين معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية المشتملة على جهات من الاعجاز ليؤمنوا بها و بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله حال كون تلك الآيات بَيِّناتٍ و واضحات الدلالة على كونها من اللّه، و على رسالة محمد، و حشر الناس للجزاء قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عنادا لِلْحَقِّ أو كفروا لأجل الحقّ و شأنه، و هو الآيات المتلوّة عليهم لَمّا جاءَهُمْ ذلك الحقّ، و بمحض سماع الآيات من غير تدبّر فيها و تأمّل: هذا الذي جاءنا و تلي علينا سِحْرٌ مُبِينٌ و باطل ظاهر بطلانه، و واضح أنّه لا حقيقة له.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 8

ثمّ أنكر سبحانه عليهم قولهم الآخر الأعجب من الأول بقوله: أَمْ يَقُولُونَ إنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله اختلق هذا القرآن و اِفْتَراهُ على اللّه، و نسبه كذبا إليه.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اَللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (8)ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء الكفّار: إِنِ اختلقت القرآن من قبل نفسي و اِفْتَرَيْتُهُ على اللّه على سبيل الفرض كما تقولون، فانّ اللّه يعاجلني بعقوبة هذا الافتراء، و إن عاجلني بالعقوبة فَلا تَمْلِكُونَ لِي و لا تقدرون على أن تدفعوا عنّي مِنَ عذاب اَللّهِ شَيْئاً يسيرا إن كنتم مؤمنين بي و مدافعين عنّي، فكيف يمكن أن اقدم على الافتراء، و أعرّض نفسي للعقوبة التي لا مخلص منها!

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: هُوَ تعالى أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ و ما تخوضون

ص: 565

فِيهِ من القدح و الطعن في القرآن، و نسبته إلى السحر تارة، و إلى الافتراء اخرى كَفى بِهِ تعالى شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فانّه يشهد بصدقي في دعوى الرسالة، حيث أنزل عليّ أفضل الكتب السماوية، و صدّق كتابي حيث جعله محتويا لجهات من الإعجاز، فيجازيني على صدقي أفضل الجزاء، و يعاقبكم على تكذيبي أشدّ العقوبة وَ هُوَ اَلْغَفُورُ لمن رجع عن الكفر و آمن بتوحيده اَلرَّحِيمُ بمن تاب و عمل صالحا بإعطاء جزيل الثواب، و بمن أصرّ على الكفر بتأخير عقوبته إلى يوم الحساب.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 9

ثمّ لمّا اقترح المشركون على النبي صلّى اللّه عليه و آله معجزات غير ما أتى به، أو بإخباره بالمغيبات على ما قيل (1)، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المقترحين ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ و أوّل من أرسل إلى البشر، لوضوح أنّه أرسل قبلي كثير من الرسل، و كلّهم دعوا الناس إلى ما أدعوكم إليه من توحيد اللّه و عبادته و طاعته، و ما أتوا إلاّ بما آتاهم اللّه من المعجزات، و لم يجيبوا اممهم بجميع ما سألوهم من خوارق العادات، و لم يخبروهم إلاّ بما اوحي إليهم من ربّهم، فكيف تنكرون منّي أن دعوتكم إلى ما دعا إليه من قبلي من الرسل؟ و كيف تقترحون عليّ ما لم يؤتيه اللّه إياي؟

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)وَ ما أَدْرِي و لا أعلم بغير الوحي من اللّه ما يُفْعَلُ بِي و أي شيء يصيبني فيما يغير من الحوادث وَ لا بِكُمْ و إلى ما يصير أمري و أمركم في الدنيا، و إنّما اخبركم ببعض الحوادث من هجرتي، و غلبتي عليكم، و ظهور ديني على سائر الأديان بالوحي من اللّه إِنْ أَتَّبِعُ و ما أقول و ما أفعل إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ من ربّي، لا أتجاوزه وَ ما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ و مخوّف من عقاب اللّه مُبِينٌ و موضح إنذاري لكم بلسانكم، و بالمعجزات الدالة على صدقي.

عن ابن عباس: لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة، رأى في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخل و شجر و ماء، فقصّها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، و رأوا أنّ ذلك فرج ممّا هم فيه من اذى المشركين ثمّ انهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك، فقالوا: يا رسول اللّه، ما رأينا الذي قلت، متى تهاجر الى الأرض التي رأيتها في المنام؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ و هو شيء رأيته في المنام، و أنا لا أتّبع إلاّ ما أوحاه اللّه إليّ (2).

ص: 566


1- . تفسير الرازي 28:7.
2- . تفسير الرازي 28:8.

و قيل: إنّ المراد لا أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي، و لا أدري ما يفعل بكم أيّها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الامم (1).

و روي أيضا عن ابن عباس: أنّه لمّا نزلت هذه الآية، فرح المشركون و المنافقون و اليهود، و قالوا: كيف نتّبع نبيا لا يدري ما يفعل به و بنا؟ فأنزل اللّه إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إلى قوله: وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اَللّهِ فَوْزاً عَظِيماً (2)، فبيّن تعالى ما يفعل به و بمن اتّبعه، و نسخت هذه الآية، و أرغم اللّه أنف المنافقين و المشركين (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 10

ثمّ حثّ سبحانه المشركين على الايمان بالقرآن بقوله: قُلْ يا محمد، للمشركين: أَ رَأَيْتُمْ أيّها المشركون، و أخبروني إِنْ كانَ ما أتيتكم به من القرآن نازلا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و بوحيه كما أقول، لا سحر و لا مفترى كما تزعمون وَ أنتم كَفَرْتُمْ بِهِ و جحدتم بنزوله من عند اللّه وَ شَهِدَ شاهِدٌ عظيم الشأن مِنْ علماء بَنِي إِسْرائِيلَ الواقفين على ما في التوراة من التوحيد و الوعد و الوعيد على الايمان و الكفر و كيفية المعاد عَلى انطواء التوراة بنظير ما في القرآن و مِثْلِهِ فعلم بسبب مطابقة القرآن للتوراة أن القرآن من جنس الوحي الناطق بالحقّ.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (10)و قيل: إنّ المراد إن كان القرآن من عند اللّه و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما أقول (4)لدلالة المعجزات فَآمَنَ بالقرآن أنّه كلام اللّه و ليس من اختلاق البشر وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ و تأنّفتم عن الإقرار به، أ لستم أضلّ الناس و أظلمهم على أنفسكم، حيث وضعتم الجحود و الإنكار موضع الايمان، و الاقرار عنادا و لجاجا؟ فبذلك الظلم سلب عنهم التوفيق للايمان و الهداية إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوفّق للايمان اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالإصرار على الكفر.

في ذكر إيمان

عبد اللّه ابن سلام

عن سعد بن أبي وقّاص، قال: ما سمعت رسول اللّه يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنّه من أهل الجنّة إلاّ لعبد اللّه بن سلاّم، و فيه نزل وَ شَهِدَ شاهِدٌ إلى آخره (5). كان من أحبار اليهود، و كان اسمه الحصين (6)، فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه،

ص: 567


1- . تفسير الرازي 28:8.
2- . الفتح:48/1-5.
3- . تفسير الرازي 28:8.
4- . تفسير الرازي 28:10.
5- . تفسير الرازي 28:9، تفسير روح البيان 8:470.
6- . في النسخة: الحفتين.

قيل: إنّه لمّا سمع بمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة أتاه فنظر إلى وجهه الكريم، فعلم أنّه ليس بوجه كذّاب، و تأمّله فتحقّق أنّه النبي الموعود المنتظر، فقال له: إنّي أسألك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلاّ نبي: ما أول أشراط الساعة، و أول طعام يأكله أهل الجنّة، و الولد ينزع إلى أبيه أو إلى امّه؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أمّا أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من الشرق إلى الغرب، و أمّا أوّل طعام أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت، و أمّا الولد فان سبق ماء الرجل نزعه، و إن سبق ماء المرأة نزعته» .

فقال: أشهد أنّك رسول اللّه حقا، فقام ثمّ قال: يا رسول اللّه، إنّ اليهود قوم بهت، فان علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك. فجاءت اليهود و هم خمسون فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أيّ رجل عبد اللّه فيكم؟» قالو: خيّرنا و ابن خيّرنا، و سيدنا و ابن سيدنا، و أعلمنا و ابن أعلمنا.

فقال: «أرايتم إن أسلم عبد اللّه؟» قالوا: أعاذه اللّه من ذلك. فخرج عبد اللّه إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أنّ محمدا رسول اللّه. فقالوا: شرّنا و ابن شرّنا و انتقصوه. قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه و أحذر (1).

و قيل: إنّ المراد بالشاهد غير عبد اللّه؛ لأنّ الحواميم كلّها مكيّة، و كان إسلام عبد اللّه بعد الهجرة قبل وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعامين، و ورد بأنّ الحواميم و إن كان مكية إلاّ هذه الآية، فانّها مدنية، وضعت في السورة المكية بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: إنّ الشاهد موسى بن عمران، و شهادته ما في التوراة من بعث (3)الرسول، و نزول القرآن عليه (4).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 11

ثمّ بيّن سبحانه شدّة كفر المشركين بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من عتاة قريش تعظيما لأنفسهم مخاطبة لِلَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و هم في نظرهم من أدنى الناس و فقرائهم، ثمّ ترك سبحانه حكاية خطابهم، و انتقل إلى الغيبة بقوله تعالى: لَوْ كانَ دين الاسلام حقا و القرآن خَيْراً و نافعا ما سَبَقُونا اولئك الأرذال و السّفلة إِلَيْهِ و إلى الايمان به.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)و قيل: إنّ معنى لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجل إيمان الذين آمنوا (5)، فليس الكلام للمشافهة و المخاطبة.

و قيل: إنّ الكفّار لمّا سمعوا إيمان جماعة من الفقراء بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و القرآن قالوا للمؤمنين

ص: 568


1- . تفسير روح البيان 8:469.
2- . تفسير الرازي 28:10، تفسير روح البيان 8:470.
3- . في تفسير البيضاوي: نعت.
4- . تفسير البيضاوي 2:393، تفسير أبي السعود 8:81.
5- . تفسير الرازي 28:11.

الحاضرين عندهم، لو كان خيرا ما سبقنا إليه اولئك الفقراء الغائبون (1).

قيل: إنّ هذا كلام كفّار مكّة (2)، و قيل: لمّا أسلمت جهنية و مزنية و غفّار و أسلم، قالت بنو عامر و غطفان و أسد و أشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء اليهم (3).

و قيل: إنّ أمّة لعمر أسلمت، و كان عمر يضربها حتى يفتر، و يقول: لو لا إنّي فترت لزدتك ضربا، فكان كفّار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقّا، ما سبقنا إليه أمة عمر (4).

و قيل: لمّا أسلم عبد اللّه بن سلام قالت اليهود ذلك (3).

ثمّ ردّهم بقوله: وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بالقرآن، كما اهتدى به المؤمنون، و لم يرشدوا إلى الحقّ بِهِ لعدم تدبّرهم فيه، و عدم وقوفهم على جهات إعجزاه، ظهر عنادهم و قالوا ما قالوا فَسَيَقُولُونَ بعد نفيهم الخير في القرآن: هذا القرآن إِفْكٌ و كذب قَدِيمٌ دائر في ألسنة السابقين.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ ردّ سبحانه تكذيبهم القرآن بقوله: وَ مِنْ قَبْلِهِ نزل كِتابُ مُوسى و هو التوراة حال كونه إِماماً يؤتمّ به، و مقتدى يقتدى به في دين اللّه وَ رَحْمَةً و نعمة عظيمة من اللّه. لمن آمن به و عمل بأحكامه، و قد سلّم جميع أهل الكتاب حقّانيته و صدقه وَ هذا القرآن الذي يكذّبونه كِتابُ عظيم الشأن مُصَدِّقٌ لذلك الكتاب الذي جاء به موسى، و مطابق له، و لما بين يديه من الكتب السماوية في العلوم و المعارف، و بيان أحوال المعاد و المواعظ و العبر، و التزهيد عن الدنيا، و الترغيب إلى الآخرة.

وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)و لمّا كان قوم النبي صلّى اللّه عليه و آله عربا جعل لسانه لِساناً عَرَبِيًّا لتفهم العرب ما فيه و لِيُنْذِرَ و يخوّف ذلك الكتاب بالوعد بالعذاب اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر و العصيان وَ ليكون بُشْرى بالثواب العظيم في الآخرة لِلْمُحْسِنِينَ في العقائد و الأعمال المطيعين للّه مخلصين.

و حاصل المراد-و اللّه أعلم-أنّ الغرض من إنزال الكتاب إنذار العاصين، و بشارة المطيعين، فلا

ص: 569


1- . تفسير الرازي 28:11.
2- . الكشاف 4:300، تفسير الرازي 28:11. (3 و 4) . الكشاف 4:300، تفسير الرازي 28:11.
3- . الكشاف 4:300، تفسير الرازي 28:11.

يمكن أن يكون مثل هذا الكتاب كذبا.

ثمّ بيّن سبحانه المحسنين المبشرين بالثواب بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا بألسنتهم و قلوبهم رَبُّنَا اَللّهُ وحده لا شريك له في الربوبية و العبادة ثُمَّ اِسْتَقامُوا و ثبتوا على شريعته و دينه من الأحكام، و اجتهدوا في العمل بمقتضى عبوديته و توحيده، فلم يروا منعما و لا مطاعا غيره، و لا مستحقا للشكر و الطاعة سواه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بعد الموت من عذاب و مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب

أُولئِكَ الموحّدون المستقيمون على وظائف العبودية إلى الموت أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و أهاليها، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا لا يخرجون منها و لا يموتون أصلا، و إنّما يعطون ذلك ليكون جَزاءً لهم بِما كانُوا في الدنيا يَعْمَلُونَ من الإيمان و الحسنات.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 15

ثمّ بيّن سبحانه أنواع الحسنات بقوله: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ و أمرناه بأن يحسن بِوالِدَيْهِ إِحْساناً بليغا.

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (15)ثمّ بيّن سبحانه علّة وجوب الإحسان إلى الامّ مع كونها وعاء و كون الأب هو الأصل و المنعم بقوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في (1)بطنها كُرْهاً و على مشقّة لثقله بعد أربعة أشهر إلى وضعه وَ وَضَعَتْهُ من بطنها على الأرض كُرْهاً و على مشقّة لشدة وجع المخاض عليها وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ و فطامه من المدّة ثَلاثُونَ شَهْراً تمضي عليها بمقاساة الشدائد لأجله.

و فيه دلالة على أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر، بالنظر إلى الآية التي حدّ فيها الرّضاع التامّ بحولين كاملين، فاذا أتت المرأة بالولد لستة أشهر من دخول الزوج بها، يلحق بالزوج و لا تتّهم المرأة.

في ذكر خبط عمر

في الحكم

بالرجم

روى الفخر الرازي أنّ امرأة رفعت إلى عمر، و كانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي عليه السّلام: «لا رجم عليها» و استدلّ بالآية على النحو الذي ذكرنا (2).

و قال المفيد في (الارشاد) : رووا أنّ عمر اتي بأمرأة ولدت لستة أشهر، فهمّ برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك، إنّ اللّه يقول: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً و يقول: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ (3)فاذا أتمّت الرّضاعة لسنتين، و كان حمله و فصاله ثلاثين شهرا، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلّى عمر

ص: 570


1- . في النسخة: على.
2- . تفسير الرازي 28:15.
3- . البقرة:2/233.

سبيل المرأة، و ثبت الحكم بذلك، يعمل به الصحابة و التابعون، و من أخذ عنه إلى يومنا هذا (1).

أقول: و العجب أنّ مع ظهور هذا الخبط و الغلط و الحكم بغير العلم في دين اللّه من عمر، و بيان الحكم الحقّ من أمير المؤمنين عليه السّلام و شيوعه بين الصحابة و التابعين، وقع عين هذا الخبط و الحكم بغير ما أنزل اللّه به من عثمان.

فان الفخر الرازي روى عن عثمان أنّه همّ بذلك، فقرأ ابن عباس عليه ذلك (2).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ بيّن سبحانه حال الولد البارّ المحسن بوالديه بقوله: حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل: إنّ الانسان أخذ ما وصّيناه به من البرّ و الاحسان بوالديه حتى إذا بلغ وقت كمال قواه و عقله (3)وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً و هو أكثر مدّة بلوغ الأشدّ، كما عن الصادق عليه السّلام، قال: «إذا بلغ العبد ثلاث و ثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه» الخبر (4).

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ اَلْجَنَّةِ وَعْدَ اَلصِّدْقِ اَلَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)و قيل: هو آخر سنّ الكهولة (5)، و قيل: بلوغ الاشدّ هو آخر سنّ النشوء و النماء، و الأربعين آخر الشباب، و من ذلك الوقت تأخذ القوى الحيوانية في الانتقاص، و القوة العقلية في الاستكمال (6).

فعند ذلك قالَ تضرّعا إلى اللّه رَبِّ أَوْزِعْنِي و ألهمني، كما عن ابن عباس (7)، أو وفّقني (8)أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من الوجود و العقل و كمال الأعضاء، و الرزق و الصحة و الأمان و غيرها ممّا لا يحصى وَ عَلى والِدَيَّ الذين نعمتها عليّ أعظم بعد نعمتك عليّ، فانّي لا أقدر على مكافأة نعمهما عليّ إلاّ بالدعاء في حقّهما وَ أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً تَرْضاهُ و تقبله منّي، فانّه لا يمكنني ذلك إلاّ بتوفيقك.

وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي بان تجعل الايمان و العمل الصالح ساريا و راسخا فيهم، و لا تجعل

ص: 571


1- . إرشاد المفيد 1:206، تفسير الصافي 5:14.
2- . تفسير الرازي 28:15.
3- . تفسير روح البيان 8:474.
4- . الخصال:545/23، تفسير الصافي 5:14.
5- . تفسير الرازي 28:17.
6- . تفسير الرازي 28:18.
7- . تفسير الرازي 28:20.
8- . تفسير روح البيان 8:474.

للشيطان فيهم نصيبا و سبيلا، يا رب إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ مما فرط منّي من الزلاّت و المعاصي قبل أن أدعوك وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ الذين أخصلوا لك دينهم.

أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجليلة اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات التي كلّها أحسن الأعمال وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ و زلاّتهم بأنواعها، تابوا عنها أو لم يتوبوا، لكونها مكفورة بأعمالهم الحسنة، بل مبدّلة بالحسنات حال كونهم فِي زمرة أَصْحابِ اَلْجَنَّةِ و منتظمين في سلكهم في الآخرة، كلّ ذلك يكون وَعْدَ اَلصِّدْقِ من اللّه لهم اَلَّذِي كانُوا في الدنيا يُوعَدُونَ به على ألسنة الرسل.

في نقل كلام

مفسري العامة في

نزول الآية وردّه

حكى الفخر الرازي عن الواحدي أنّه حكى عن كثير من مفسّري العامة أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر (1)، ثمّ قال قالوا: و الدليل عليه أنّ اللّه تعالى قد وقّت الحمل و الفصال هاهنا بمقدار يعلم أنّه قد ينقص و قد يزيد عنه بحسب اختلاف الناس في هذه الأحوال، فوجب أن يكون المقصود شخصا واحدا حتى يقال: إنّ هذا التقدير إخبار عن حاله، فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله و فصاله هذا المقدار.

أقول: فيما ذكر ما لا يخفى من الوهن، فانّ ذكر الوقتين لبيان اقلّ الحمل و أكثر مدّة الرّضاع، و لا يختلف الناس فيهما و في تعيينهما حكم و أحكام كثيرة مذكورة في محلّه، ثمّ على تقدير كون المراد شخصا خاصا، و إمكان كون حمل أبي بكر و فصاله هذا المقدار من المدّة، لا بوجوب كون المراد منه ذلك الرجل، لوجود هذا الاحتمال في كثير من الصحابة الخلّصين.

ثمّ قالوا: ثمّ قال اللّه تعالى في صفة ذلك الانسان: حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي إلى آخره، و معلوم أنّه ليس كلّ إنسان يقول ذلك القول، فوجب أن يكون المراد إنسانا معينا. قال هذا القول، و أمّا أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السنّ، لأنّه كان أقلّ سنا من النبي صلّى اللّه عليه و آله بسنتين و شيء، و النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث عند الأربعين، و كان أبو بكر قريبا من الأربعين، و هو قد صدّق النبي صلّى اللّه عليه و آله و آمن به، فثبت بما ذكرناه أنّ هذه الآية صالحة لأن يكون المراد منها أبا بكر.

أقول: فيه أنّه قد ذكرنا أنّ المراد بيان حال الانسان الذي أخذ بوصية اللّه في حقّ الوالدين في تمام عمره بالبّر و الإحسان، و رأى النّعم التي على والديه نعما على نفسه، و ناب عنهما في الشكر عند اكمال أربعين سنة و كمال قوّة عقله، و ليس المراد بيان حال شخص معين، كما أنّ الآية التي فيها بيان حال الولد العاقّ لوالديه ليس المراد منها شخصا معينا، مع أنّ أبا بكر لم يكن له وقت إيمانه أربعين سنة باعترافهم، كما أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا لم يكن له ذلك السنّ وقت إيمانه، و القرب و البعد لا

ص: 572


1- . تفسير الرازي 18:21، أسباب النزول:213.

يوجب الصلاحية للقريب و عدمها للبعيد، بعد أن لم يكونا بالغين ذلك الحدّ من السنّ، مع أن الظاهر نيابة الولد الشكر عن الوالدين غير الكافرين، و أبو بكر كان أبواه كافرين، و لا ينفع شكر الولد في حقّها، و علي عليه السّلام كان أبواه مؤمنين في اعتقادنا.

ثمّ قالوا: و إذا ثبت القول بهذه الصلاحية، فنقول: ندّعي أنّه هو المراد من هذه الآية، و يدلّ عليه أنّه تعالى قال في آخر هذه الآية: أُولئِكَ اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ اَلْجَنَّةِ و هذا يدلّ على أنّ المراد من هذه الآية أفضل الخلق، لأنّ الذي يتقبّل اللّه عنه أحسن أعماله، و يتجاوز عن سيئاته، يجب أن يكون أفضل الخلق، و أجمعت الامّة على أنّ أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إمّا أبو بكر و إمّا عليّ، و لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب، لأنّ هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد، و عند القرب من أربعين سنة، و علي بن أبي طالب ما كان كذلك، انتهى.

أقول: هذا الاستدلال ممّا يضحك به الثكلى، لوضوح أنّ من تقبّل اللّه أحسن أعماله، و يجاوز عن سيئاته، لا يجب أن يكون أفضل الخلق، فانّ كلّ من يدخل الجنة يكون كذلك، لأنّه لا يمكن أن لا يتقبّل اللّه أحسن الأعمال، و لا يمكن أن يدخل الجنة من له ذنب غير مغفور، ثمّ لا شبهة أنّ عليا عليه السّلام كان أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا ينكره إلاّ من كان له عناد و عصبية، و لا في أنّ الآية إنّما تليق بمن أتى بهذه الكلمة بعد بلوغ أربعين سنة، لا عند القرب منه.

و إنّما الغرض من نقل كلامهم بطوله الذي لا ينبغي التفوّه به من عاقل، فضلا من عالم و فاضل، وضوح أنّ القول بنزول الآية في حقّ أبي بكر لا مستند له إلاّ الاجتهاد الفاسد، المبني على حبّ ترويج الباطل، و إطفاء نور الحقّ، و اللّه متمّ نوره و لو كره المشركون.

ذكر فضيلة

الحسين عليه السّلام

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين عليه السّلام، جاء جبرئيل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ فاطمة ستلد غلاما تقتله امّتك من بعدك، فلمّا حملت فاطمة بالحسين عليهما السّلام كرهت حمله، و حين وضعته كرهت وضعه، ثمّ قال: «لم تر امّ تلد غلاما تكرهه، و لكنّها كرهته لمّا علمت أنّه سيقتل» قال: «و فيه نزلت هذه الآية» (1).

أقول: لعلّ المراد أنّه لم يكن لهذا الكلي الذي تضمّنته الآية مصداق تامّ المطابقة إلاّ الحسين عليه السّلام و فاطمة عليها السّلام.

و في رواية اخرى، قال: «ثمّ هبط جبرئيل فقال: يا محمد، إنّ ربّك يقرئك السّلام، و يبشّرك بأنّه

ص: 573


1- . الكافي 1:386/3، تفسير الصافي 5:14.

جاعل في ذرّيته الإمامة و الولاية و الوصية، فقال: إنّي رضيت، ثمّ بشّر فاطمة بذلك فرضيت» (1).

أقول: يحتمل الجمع بأنّ بشارة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و رضا فاطمة عليها السّلام كانا بعد وضعه عليه السّلام.

ثمّ قال الصادق عليه السّلام: «فلو لا أنّه قال: وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي لكانت ذرّيته كلّهم أئمة» قال: «و لم يرتضع الحسين من فاطمة عليها السّلام و لا من انثى، كان يؤتى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيضع إبهامه في فيه، فيمصّ منها ما يكفيه اليومين و الثلاث، فنبت لحم الحسين عليه السّلام من لحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دمه» (2).

أقول: قال السيد الأجل بحر العلوم:

للّه مرتضع لم يرتضع أبدا *** من ثدي انثى و من طه مراضعه (3)

و قال الصادق عليه السّلام: و لم يولد لستة أشهر إلاّ عيسى بن مريم، و الحسين عليه السّلام» (4).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان برّ الولد الصالح بوالديه، و أخذه بوصية اللّه في حقّهما، بيّن سبحانه حال الإنسان العاقّ لوالديه، الكافر بربّه و بالدار الآخرة بقوله: وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما له إلى الايمان باللّه و بالدار الآخرة شفقة عليه و إحسانا إليه، تضجّرا من قولهما و كراهة له، يا والدي أُفٍّ لَكُما و النكبة الدائمة عليكما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ حيا من القبر بعد الموت و صيرورتي ترابا و عظاما رميما، و ابعث حيا وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ و مضت أهالي الأعصار السابقة من الدنيا مِنْ قَبْلِي و لم يبعث منهم أحد، و لم تحيا منهم نفس وَ هُما حرصا على إيمان ولدهما يَسْتَغِيثانِ اَللّهَ و يدعوانه أن يغيثه و يوفقه للايمان، و يقولان لذلك الولد: وَيْلَكَ آمِنْ بالبعث و الحساب، و صدّق بالاخراج من القبر للجزاء إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالبعث و النشور للحساب و جزاء الأعمال حَقٌّ و صدق، لا يمكن الخلف فيه، لتنزّهه تعالى عنه فَيَقُولُ الولد تكذيبا لوالديه: ما هذا الوعد الذي تنسبانه إلى اللّه إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أكاذيب الامم السابقين التي كانوا يسطّرونها في دفاترهم، كأحاديث رستم و إسفنديار.

وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اَللّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18)

ص: 574


1- . الكافي 1:386/4، تفسير الصافي 5:14.
2- . الكافي 1:386/4، تفسير الصافي 5:14.
3- . أدب الطف 6:50.
4- . الكافي 1:386/4، تفسير الصافي 5:14.

قيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، كان أبواه يدعوانه إلى الاسلام فيأبى (1).

روي أنّه لمّا دعاه أبواه إلى الاسلام، و أخبراه بالبعث بعد الموت، قال: أتعدانني أن أخرج من القبر، و قد خلت القرون من قبلي، فلم أر أحدا منهم بعث؟ فأين عبد اللّه بن جدعان، و أين فلان، و أين فلان؟ (2).

و روي أنّه لمّا كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هر قلية، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: أيّها الناس، هو الذي قال اللّه فيه: وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما و به قال الكلبي من العامة، و القمي رحمه اللّه (3).

و قيل: إنّه لم يرد به شخصا معينا (4).

ثمّ قال سبحانه: أُولئِكَ العاقون الكافرون باللّه، المنكرون للحشر، هم اَلَّذِينَ حَقَّ و ثبت عَلَيْهِمُ في علم اللّه اَلْقَوْلُ و الوعد بالعذاب الأبد بقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (5)و هم فِي زمرة أُمَمٍ مستحقّة للعذاب قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ من الدنيا إِنَّهُمْ السابقين و اللاحقين جميعا كانُوا خاسِرِينَ في سوق الدنيا، لإتلافهم ما هو بمنزلة رأس مال تجارتهم من الفطرة الأصلية، و العقل السليم، و العمر و النّعم التي تفضّل اللّه عليهم بها.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان فريقين من الأولاد البارّين بالوالدين و العاقّين لهما، بيّن أن لكلّ فريق مراتب و درجات مختلفة بقوله: وَ لِكُلٍّ من الفريقين المذكورين دَرَجاتٌ مختلفة في الايمان و الكفر و الطاعة و العصيان، أو في الثواب و دركات متفاوتة في العقاب مسبّبة مِمّا عَمِلُوا في الدنيا من الخير و الشرّ وَ لِيُوَفِّيَهُمْ ربّهم أَعْمالَهُمْ و يعطيهم أجرة طاعاتهم و معاصيهم وافية تامة وَ هُمْ لا

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

ص: 575


1- . تفسير الرازي 28:23.
2- . تفسير الرازي 28:23.
3- . تفسير الرازي 28:23، تفسير القمي 2:297، تفسير الصافي 5:15.
4- . تفسير الرازي 28:23.
5- . السجدة:32/13.

يُظْلَمُونَ بنقص ثواب المطيعين، و زيادة عقاب العاصين.

قيل: إنّ (ليوفيهم) علّة لمقدّر، يدلّ الكلام عليه، و المعنى: قدّر جزاء أعمالهم، و جعل الثواب درجات، و العقاب دركات، ليوفيهم و لا يظلمهم (1).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّه يوصل حقّ كلّ أحد إليه، بيّن أحوال أهل العقاب بقوله تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ و يقربون منها، و يوقفون عليها، ليروا أهوالها. أو المراد يصلون فيها، فيقول لهم: ايّها الكفّار أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ و أصبتم حظوظكم و لذائذكم التي قدّرت لكم فِي حَياتِكُمُ في اَلدُّنْيا و عمّركم فيها وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بنعم اللّه، و انتفعتم بِها فلم يبق لكم في الآخرة منها شيء فَالْيَوْمَ و في هذا الوقت تُجْزَوْنَ من اللّه عَذابَ اَلْهُونِ و جزاء بالنار فيه ذلّ و حقارة بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ على الناس فِي اَلْأَرْضِ و تتأنّفون عن الايمان و طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و بلا مقتضى للاستكبار و التأنّف وَ بِما كُنْتُمْ فيها تَفْسُقُونَ و تعصون بترك الواجبات و إيتان المحرّمات.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه دخل على أصحاب الصّفّة، و هم يرقعون ثيابهم بالأدم، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة و يروح في اخرى، و يغدى عليه بجفنة و يراح عنه باخرى، و يستر بيته كما تستر الكعبة؟» . قالوا: نحن يومئذ خير. قال: «بل [أنتم]اليوم [خير]» (2)

روي عن عمر أنّه دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على سرير، و قد أثر بجنبيه الشريط، فبكى عمر، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما يبكيك يا عمر؟» قال: ذكرت كسرى و قيصر، و ما كانا فيه من الدنيا، و أنت رسول ربّ العالمين، قد أثّر بجنبيك الشريط! فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اولئك قوم قد عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، و نحن قوم قد اخّرت طيباتنا في الآخرة» .

قالت عائشة: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللّه، و أول بدعة حدثت بعده الشّبع.

و قالت أيضا: و قد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، و ما هو إلاّ الماء و التمر، غير أنّه جزى اللّه عنّا نساء الأنصار، كنّ ربما أهدين لنا شيئا من اللّبن (3).

عن أبي هريرة قال: رأيت سبعين من أصحاب الصّفّة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار أو كساء، قد

ص: 576


1- . تفسير الرازي 28:25.
2- . تفسير الرازي 28:25.
3- . تفسير روح البيان 8:480.

ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، و منها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (1).

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، قال: «اتي النبي صلّى اللّه عليه و آله بخبيص (2)، فأبى أن يأكله، فقيل: أتحرّمه؟ قال: لا، و لكني أكره ما تتوق إليه نفسي، ثمّ تلا هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا» (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 21 الی 25

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد، و توعيد الكفّار المنهمكين في الشهوات، ذكر قصّة قوم عاد، الذين كانوا أقوى و أكثر نعمة من أهل مكّة، ليعتبروا بهم بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمد، لقومك هود الذي كان أَخا عادٍ و من قومه، ليعتبروا من حال قومه إِذْ أَنْذَرَ و خوّف قَوْمَهُ الذين كانوا يسكنون بِالْأَحْقافِ و هو أرض قريبة من حضرموت من بلاد اليمن، على ما قيل (4)، و كانوا من قبيلة إرم. و قيل: إنّ بلاد عاد كانت في اليمن، و لهم كانت إرم ذات العماد، و الأحقاف جبل مستطيل معوجّ من الرّمل (5).

وَ اُذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ (25)أقول: هذا مناف لقول علي عليه السّلام: «شرّ واد بين الناس وادي الأحقاف» إلاّ أن يقال: إنّ الوادي سمّي باسم الجبل الذي فيه، قال: «و واد بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفّار» (6).

وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ و مضت الرّسل من الدنيا من قبل هود و مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و بعده، و كان إنذاره (ان) يا قوم لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ و لا تشركوا به شيئا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يا قوم إن أشركتم به عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أهواله،

و شديد بلاؤه قالُوا في جواب هود: يا هود أَ جِئْتَنا

ص: 577


1- . تفسير روح البيان 8:480.
2- . الخبيص: الحلواء المخلوطة من التمر و السمن.
3- . المحاسن:409/133، تفسير الصافي 5:15.
4- . تفسير روح البيان 8:480.
5- . تفسير روح البيان 8:481.
6- . تفسير روح البيان 8:481.

لِتَأْفِكَنا و تصرفنا عَنْ

عبادة آلِهَتِنا إلى عبادة إلهك، و هذا لا يكون أبدا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب العظيم على عبادة أصنامنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في وعدك به

قالَ هود: لا شكّ في وقوعه، و إِنَّمَا اَلْعِلْمُ بوقت نزوله عِنْدَ اَللّهِ و مختصّ به، و هو يأتيكم به في الوقت الذي يعلمه، و يرى فيه صلاح إتيانه به، و ليس في قدرتي شيء، و إنّما أنا رسول من اللّه إليكم وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من واجب الرسالة التي من جملتها تحذيركم بنزول العذاب عليكم، إن لم تنتهوا عن الشرك وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ خيركم و صلاحكم، و لا تعلمون وظيفة الرسول، إنّها التبليغ لا إتيان العذاب.

في حكاية نزول

العذاب على قوم

عاد

ثمّ قيل: إنّ اللّه تعالى حبس عنهم المطر أياما، ثمّ ساق إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث (1)فَلَمّا رَأَوْهُ حال كونه عارِضاً يعرض في السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ و متوجّها إلى أراضيهم قالُوا مستبشرين و مسرورين بعروضه و استقباله: يا قوم هذا السّحاب عارِضٌ و ظاهر في السماء و هو مُمْطِرُنا و منزل الغيث علينا. قال هود: ليس الأمر كما توهّمتم بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب، و هو رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ فاذا جاءتهم ريح عقيم كانت

تُدَمِّرُ و تهلك كُلَّ شَيْءٍ من نفوسهم و أموالهم و مواشيهم بِأَمْرِ رَبِّها و إرادته، كالجند الذي لا يسير و لا يقف إلاّ بأمر الرئيس و الأمير فَأَصْبَحُوا و صاروا من ذلك العذاب هالكين بحيث لا يُرى من آثارهم إِلاّ مَساكِنُهُمْ الخالية منهم كَذلِكَ الجزاء الفظيع، و بمثل ذلك العذاب المستأصل نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ و الطاغين على ربّهم.

قيل: جاءت ريح باردة من قبل المغرب، و أوّل ما عرفوا أنّه عذاب، أن راوا ما كان في الصحراء من رحالهم و مواشيهم تطير بها الريح بين السماء و الأرض، و ترفع الظعينة في الجوّ حتى ترى كأنّها جرادة، فتدمغها بالحجارة، فدخلوا بيوتهم، و أغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب و صرعتهم، فأمال اللّه الأحقاف عليهم، فكانوا تحتها سبع ليال و ثمانية أيام، لهم أنين، ثمّ كشفت الريح عنهم الأحقاف، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر (2).

و قيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار (3).

ص: 578


1- . تفسير روح البيان 8:482.
2- . تفسير الرازي 28:28، تفسير أبي السعود 8:86، تفسير روح البيان 8:483.
3- . تفسير الرازي 28:28، تفسير أبي السعود 8:86.

و روي أنّ هودا لمّا أحسّ بالريح، خطّ على نفسه و على المؤمنين خطّا إلى جنب عين تبنع، فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هاوية طيبة، و الريح التي تصيب القوم ترفعهم من الأرض، و تطير بهم إلى السماء، و تضربهم على الأرض (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «ما أمر اللّه خازن الرياح أن يرسل إلى عاد إلاّ مثل مقدار الخاتم» ثمّ انّ ذلك المقدار أهلكهم بكلّيتهم (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا رأى الريح فزع، و قال: «اللهم إنّي أسألك خيها و خير ما أرسلت به، و أعوذ بك من شرّها و شرّ ما أرسلت به» (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 26 الی 28

ثمّ بيّن سبحانه فضل قوم عاد على كفّار أهل مكّة بكمال القوة و كثرة النعم و الأموال بقوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاهُمْ و اقدرناهم و ملّكناهم فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ من السّعة و البسطة و القوّة و سائر التصرفات، و إنّما لم يقل: فيما ما مكّناكم فيه، لركاكة التّكرار. و قيل: إنّ كلمة (إن) زائدة (4). و قيل: شرطية، و جزاء الشرط كان بغيكم أكثر (5).

وَ لَقَدْ مَكَّنّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْقُرى وَ صَرَّفْنَا اَلْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)أقول: لا يفيد القولان ما هو المقصود من بيان كونهم أقوى و أقدر منكم، و مع ذلك لم ينجوا من العذاب، فكيف بكم؟

وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليستعملوها في سماع دلائل التوحيد و المواعظ و العبر وَ أَبْصاراً ليستعملوها في النّظر إلى بدائع صنع اللّه، و ما فيه دلائل توحيده و كمال صفاته و معجزات الرسول وَ أَفْئِدَةً يتفكّرون بها في عجائب الخلق و عواقب الامور فَما أَغْنى عَنْهُمْ و لم يفدهم سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ في كمال نفوسهم و حصول سعادتهم و ارقتائهم عن حضيض الحيوانية

ص: 579


1- . تفسير الرازي 28:28.
2- . تفسير الرازي 28:28.
3- . تفسير الرازي 28:28.
4- . تفسير الرازي 28:29، تفسير روح البيان 8:484.
5- . تفسير روح البيان 8:484.

مِنْ شَيْءٍ من الإغناء و الفائدة، حيث إنّهم لم يستعملوا شيئا منها فيما خلقت له، و لم يؤدّوا شكرها.

إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اَللّهِ و يتعصّبون في إنكار دلائل التوحيد و المعاد و رسالة الرسول وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، حيث كانوا يستعجلونه سخرية و أستهزاء.

وَ تاللّه لَقَدْ أَهْلَكْنا يا أهل مكة بأنواع مختلفة من العذاب ما حَوْلَكُمْ و في أطرافكم مِنَ أهالي اَلْقُرى و البلدان الكثيرة كقرى عاد و ثمود و قوم لوط باليمن و الشام، بسبب شركهم و طغيانهم وَ صَرَّفْنَا اَلْآياتِ و كرّرنا عليهم الحجج و أنواع العبر، لكي يعتبر بها اولئك الأهالي لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عمّا هم عليه من الشّرك و الطّغيان، و يتوبوا من معاصيهم،

و مع ذلك لم يرجع أحد منهم فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ و هلاّ خلّصهم من العذاب الأصنام اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه، لكونهم بزعمهم قُرْباناً و وسائل للزّلفى إلى اللّه آلِهَةً و معبودين.

و قيل: إنّ المعنى اتّخذوهم آلهة حال كونهم متقرّبين بعبادتهم إلى اللّه، حيث كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى (1).

و قيل: إنّ المفعول الثاني لا تخذوا هو (قربانا) و (آلهة) عطف بيان له (2). و على كلّ تقدير فيه غاية التقريع.

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله: بَلْ ضَلُّوا و غابوا، أو ضاعوا عَنْهُمْ فحرموا عن نصرتهم و شفاعتهم، لعجزهم عن ذلك وَ ذلِكَ المذكور من اتخاذهم الأصنام قربانا آلهة إِفْكُهُمْ و قولهم الباطل الذي صرفهم عن الحقّ وَ ما كانُوا في الدنيا يَفْتَرُونَ على اللّه من أنّ اللّه جعل الأصنام شفعاءهم و رضى بعبادتها.

قيل: يعني: و ذلك الضياع أثر إفكهم و أثر ما يفترون (3).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 29 الی 31

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)

ص: 580


1- . تفسير روح البيان 8:485.
2- . تفسير الرازي 28:30، تفسير البيضاوي 2:397.
3- . تفسير أبي السعود 8:88.

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد أهل مكة على الكفر و مخالفة الحقّ، رغّبهم في الايمان بالقرآن بذكر إيمان الجنّ به بقوله: وَ إِذْ صَرَفْنا و وجّهنا إِلَيْكَ يا محمد نَفَراً و جماعة مِنَ اَلْجِنِّ و ألقينا في قلوبهم الميل و الرغبة إلى الحضور عندك يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ حين تلاوتك إيّاه فَلَمّا حَضَرُوهُ عند تلاوته قالُوا اولئك النّفر بعضهم لبعض أَنْصِتُوا و اسكتوا لسماعه فَلَمّا قُضِيَ القرآن و فرغت من تلاوته، آمنوا به و أجابوا إلى ما سمعوه، و وَلَّوْا عنك و رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ حال كونهم مُنْذِرِينَ لهم و داعين إيّاهم إلى الإيمان به.

في إيمان الجن

بالقرآن، و دعوة

قومهم إليه

روى بعض العامة: أنّ الجن كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء و رجموا بالشّهب قالوا: ما هذا إلاّ لنبأ حدث، فنهض سبعة نفر من أشراف جنّ نصيبين و رؤسائهم (1)، و قيل: كانوا من ملوك جنّ نينوى بالموصل (2).

و عن ابن عباس: أنّهم كانوا تسعة، و أسماؤهم سليط، و شاصر، و باصر (1)، و حاصر، و حسا، و مسا، و عليم، و أرقم، و أدرس، فضربوا في الأرض حتى بلغوا تهامة، ثمّ اندفعوا إلى وادي نحلة بين مكة و الطائف، فوافوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قائم في جوف الليل (2)-و في رواية: يصلّي صلاة الفجر- فاستمعوا لقراءته و هو يقرأ طه (3)، فجاءوا إلى قومهم،

و قالُوا يا قَوْمَنا إِنّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ كتاب مُوسى من السماء، يكون مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ و موافقا لما قبله من الكتب الإلهية السماوية في التوحيد و المعارف و النبوة و المعاد، و التزهيد في الدنيا و الترغيب إلى الآخرة، و تهذيب الأخلاق و غيرها من المطالب العالية، و هو يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ من العقائد وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى قرب اللّه و الجنّة من الشرائع و الأعمال الصالحة.

قيل: إنّما قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى لأنّهم كانوا يهودا (6). و عن ابن عباس: أنّهم لم يسمعوا بأمر عيسى (7). و قيل: لأنّ شريعة عيسى مقرّرة لشريعة موسى لا ناسخة (4). و يحتمل أنّه من جهة عظمة التوراة من بين الكتب السماوية.

ثمّ قالوا: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ و كتابه أو رسوله الذي يدعوكم إلى كلّ خير و سعادة وَ آمِنُوا

ص: 581


1- . في تفسير روح البيان: و ماصر.
2- . تفسير روح البيان 8:487.
3- . تفسير روح البيان 8:487. (6 و 7) . تفسير روح البيان 8:489.
4- . تفسير روح البيان 8:489.

بِهِ يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ بعضا مِنْ ذُنُوبِكُمْ و هو ما كان من حقوق اللّه على ما قيل (1)وَ يُجِرْكُمْ و يعذبكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ معدّ للكفار.

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 32

ثمّ بعد ذكر المرغبّات إلى الايمان تبيّنوا مضارّ تركه بقوله: وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اَللّهِ و لا يؤمن برسوله أو كتابه فَلَيْسَ بقادر على دفع عذاب اللّه، و لا بِمُعْجِزٍ ه تعالى عن تعذيبه فِي اَلْأَرْضِ بالهرب من أقطارها، أو الدخول في أعماقها وَ لَيْسَ لَهُ ممّا سوى اللّه مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ و أنصار يدفعون عنه العذاب بالمعارضة و الشفاعة أُولئِكَ الذين لا يجيبون داعي اللّه، و لا يؤمنون به، متمكّنون، أو ثابتون فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ عن الحقّ و الطريق المستقيم بحيث لا يخفى على عاقل.

وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اَللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)روي أنّه سئل ابن عباس: هل للجنّ ثواب؟ قال: نعم، لهم ثواب، و عليهم عقاب، يلتقون في الجنّة، و يزدحمون على أبوابها (2).

في بيان تشرف

الجن بحضور

الرسول و ايمانهم به

روي أنّ النفر من الجنّ لمّا انصرفوا من بطن نخلة، جاءوا إلى قومهم منذرين، ثمّ جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكّة، و هم ثلاثمائة، أو اثنا عشر ألفا، فانتهوا إلى الحجون-و هو موضع فيه مقابر مكة-فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك، فوعده صلّى اللّه عليه و آله ساعة من الليل، ثمّ قال لأصحابه، : «إنّي امرت أن أقرأ على الجنّ الليلة و انذرهم، فمن يتبعني؟» قالها ثلاثا، فأطرقوا إلاّ عبد اللّه بن مسعود، فقام معه قال: فانطلقنا حتى إذا كنّا بأعلى مكّة في شعب الحجون، خطّ لي صلّى اللّه عليه و آله خطّا برجله، و قال لي: «لا تخرج منه حتى أعود إليك، فانّك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة (3). -و في رواية: لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» -ثمّ جلس و قرأ عليهم: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أو سورة الرحمن، و سمعت لغطا شديدا، و غشيته صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ انقطعوا كقطع السحاب، فقال لي: «هل رأيت شيئا؟» قلت: نعم، رجالا سودا كأنّهم رجال الزّطّ. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أولئك جنّ نصيبين» قلت: سمعت لغطا شديدا حتى خفت عليك، إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك، و تقول: اجلسوا؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ

ص: 582


1- . تفسير روح البيان 8:489.
2- . تفسير الرازي 28:31.
3- . تفسير روح البيان 8:488.

الجنّ تداعت في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحقّ» (1).

أقول: اللّغط: اختلاط أصوات الكلام حتى لا يفهم، و الزّطّ: طائفة من السودان.

القمي رحمه اللّه، قال بعد ذكر الآيات: فهذا كلّه حكاية الجنّ، و كان سبب نزول هذه الآية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من مكّة إلى سوق عكاظ، و معه زيد بن حارثة، يدعو الناس إلى الاسلام، فلم يجبه أحد، و لم يجد أحدا يقبله، ثمّ رجع إلى مكّة، فلمّا بلغ موضعا يقال له: وادي مجنّة تهجّد بالقرآن في جوف الليل، فمرّ به نفر من الجنّ، فلمّا سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: أَنْصِتُوا يعني اسكتوا فَلَمّا قُضِيَ أي فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من القراءة وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إلى قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فجاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأسلموا و آمنوا، و علّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شرائع الإسلام، فأنزل اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ (2)السورة كلّها، فحكى اللّه عزّ و جلّ قولهم، و ولّى عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم، و كانوا يعودون إلى رسول اللّه في كلّ وقت، فأمر رسول اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعلّمهم و يفقّهم، فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و يهود و نصارى و مجوس، و هم ولد الجانّ، انتهى.

و سئل العالم عليه السّلام عن مؤمني الجنّ أيدخلون الجنّة؟ فقال: «لا، و لكن للّه حظائر بين الجنّة و النار، يكون فيها مؤمنو الجنّ و فسّاق الشيعة» (3)أقول: و به قال بعض العامّة (4).

سوره 46 (الأحقاف): آیه شماره 33 الی 35

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و النبوة، و استدلّ على المعاد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا قيل: إنّ التقدير و المعنى: أو لم يتفكّروا و لم يعلموا علما جازما يكون بمنزلة الرؤية (5)أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ (35)

ص: 583


1- . تفسير روح البيان 8:488.
2- . الجن:72/1.
3- . تفسير القمي 2:299، تفسير الصافي 2:18.
4- . تفسير روح البيان 8:491.
5- . تفسير أبي السعود 8:89، تفسير روح البيان 8:492.

الكاملة اَلسَّماواتِ السبع وَ اَلْأَرْضَ و أبدعهما من غير مثال سابق وَ لَمْ يَعْيَ و لم يتعب بِخَلْقِهِنَّ مع غاية عظمهنّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى و يخلقهم على المثال الأول مع صغرهم بَلى قادر على ذلك إِنَّهُ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ لا تختصّ قدرته بشيء دون شيء.

ثمّ هدّد سبحانه منكري المعاد بقوله: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ و يوفقون عليها، ثمّ يقال لهم توبيخا و تقريعا: أَ لَيْسَ هذا العذاب الذي ترونه بِالْحَقِّ و الصدق و أنتم كنتم في الدنيا تكذّبونه و تستهزوئون به؟ ! قالُوا بَلى إنّه الحقّ، و وعده مطابق للواقع وَ اللّه رَبِّنا قيل: أكدّوا جوابهم بالقسم طمعا في الخلاص بسبب الاعتراف به (1)قالَ اللّه أو خازن النار فَذُوقُوا اليوم اَلْعَذابَ الذي كنتم تستعجلونه مستلذّين بذوقه و طعمه، و لا تتوهّموا ابتلاءكم به بلا علّة، و لا سبب، بل هو بِما كُنْتُمْ في الدنيا به تَكْفُرُونَ و الكفر به أعظم أسباب الاستحقاق، و تكذيب وعد اللّه أقوى مقتضات الابتلاء به.

فاذا علمت-يا محمد-وخامة عاقبة تكذيبهم و استهزائهم بك فَاصْبِرْ عليهما كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ و ذوو الثبات و الجزم مِنَ اَلرُّسُلِ الذين جاءوا من قبلك، كابراهيم و نوح و موسى و عيسى، فانّك من جملتهم، بل أفضلهم و خاتمهم.

في ذكر اولي العزم

من الرسل و عددهم

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلوات اللّه عليهم» .

قيل: كيف صاروا اولي العزم؟ قال: «لأن نوحا بعث بكتاب و شريعة، و كلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح و شريعته و منهاجه، حتى جاء إبراهيم بالصّحف و بعزيمة ترك كتاب نوح، لا كفرا به، فكلّ من جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم و منهاجه و بالصّحف، حتى جاء موسى بالتوراة و شريعته و منهاجه و بعزيمة ترك الصّحف، فكلّ نبى جاء بعد موسى أخذ بالتوراة و منهاجه، حتى جاء المسيح بالإنجيل، و بعزيمة ترك شريعة موسى و منهاجه، فكلّ نبيّ جاء بعد المسيح أخذ بشريعته و منهاجه، حتى جاء محمد صلّى اللّه عليه و آله فجاء بالقرآن و بشريعته و منهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء اولو العزم من الرسل» (2).

عن الباقر عليه السّلام: «إنّما سمّوا اولى العزم، لأنّه عهد إليهم في محمد صلّى اللّه عليه و آله و لأوصيائه من بعده

ص: 584


1- . تفسير روح البيان 8:493.
2- . الكافي 2:14/2، تفسير الصافي 5:18.

و المهديّ عليه السّلام و سيرته، فأجمع عزمهم على أنّ ذلك كذلك» (1).

وَ لا تَسْتَعْجِلْ يا محمد بالعذاب لَهُمْ فانّه على شرف النزول عليهم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا و لم يمكثوا في الدنيا، و لو عمّروا ألف سنة أو أكثر فيها إِلاّ ساعَةً و زمانا قليلا مِنْ نَهارٍ لأنّ الزمان الطويل في الغاية بعد انقضائه يكون في النظر كالزمان القصير، بل يكون كأن لم يكن، مع أنّ طول عمر الدنيا بالنسبة إلى عمر الآخرة و طول بقائها كالساعة، و الآن هذا الذي ذكرناه في السورة، أو في القرآن بَلاغٌ و كفاية لهم في الوعظ و النّصح و إتمام الحجّة، فان اتّعظوا به فقد هدوا إلى كلّ خير، و حازوا السعادة الأبدية، و نالوا الحياة (2)الدائمة، و إن أعرضوا عنه فَهَلْ يُهْلَكُ بالعذاب إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ و الجماعة الخارجون عن قابلية الاتّعاظ و طاعة اللّه.

ذكر ما يوجب

سهولة الولادة

للمرأة التي عسرت

ولادتها

عن ابن عباس، قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا عسرت على المرأة ولادتها، اخذ إناء نظيف و كتب عليه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ إلى آخره، و قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (3)و آية: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (4)ثمّ يغسل الإناء، و تسقى منه المرأة، و ينضح على بطنها و فرجها» (5).

و في رواية اخرى، عن ابن عباس: إذا عسرت على المرأة الولادة، فليكتب هاتان الآيتان في صحيفة، ثمّ تسقى، و هي هذه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا إله إلاّ اللّه الحكيم الكريم، لا إله إلاّ اللّه العلي العظيم، سبحان اللّه ربّ السماوات السبع و ربّ العرش العظيم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (6).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ كل ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف، لم يصبه اللّه بروعة في الحياة الدنيا، و آمنه من فزع يوم القيامة» (7).

ص: 585


1- . الكافي 1:344/22، علل الشرائع:122/1، تفسير الصافي 5:19، و زاد في المصادر: و الإقرار به.
2- . في النسخة: بالحياة.
3- . النازعات:79/46.
4- . يوسف:12/111.
5- . تفسير روح البيان 8:495.
6- . تفسير روح البيان 8:496.
7- . ثواب الأعمال:114، مجمع البيان 9:123، تفسير الصافي 5:19.

ص: 586

في تفسير سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله

سوره 47 (محمد): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة الأحقاف ببيان إيمان الجنّ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و كفر أهل مكّة بهما، و تهديد الكفّار بالعذاب الدنيوي و الاخروي، نظمت سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله المتضمّنة لذمّ الكفّار، و منعهم الناس عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و دينه و كتابه، و بيان سوء عاقبتهم، و مدح المؤمنين و بيان حسن عاقبتهم، و تحريضهم على قتال الكفّار، و أمرهم بجهادهم، فافتتحها بذكر الاسماء الحسنى بقوله بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

ثمّ شرع في ذمّ الكفّار الصادّين عن سبيل اللّه بقوله: اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على كفرهم، كأبي جهل و أضرابه من قريش و اليهود و غيرهم وَ صَدُّوا و منعوا أنفسهم أو الناس عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و اتّباع أدلّة الحقّ و دين الاسلام أَضَلَّ اللّه و أبطل أَعْمالَهُمْ الحسنة بالذات، كصلة الرّحم، و الانفاق على الفقراء، و إعانة المظلومين و إغاثه الملهوفين و نظائرها، بحيث لا يبقى لهم عمل يؤجرون (1)عليه.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)قيل: لمّا قال في آخر السورة المباركة السابقة فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ كان مجال أن يقال: كيف يهلك الفاسقون مع أنّ لهم في طول أعمارهم صالحة كإطعام الطعام، وصلة الرحم و نحو ذلك، فيكون في إهلاكهم إهدار أعمالهم، مع أنّه تعالى قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ؟ فقال اللّه تعالى: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي لم يبق لهم عمل، و لم يوجد، فلم يمنع إهلاكهم؛ (2)لأنّ الايمان شرط قبول العمل و ترتب الأجر عليه، فما لا يقبل كما لا يوجد، أو لأنّ الكفر يترجّح في الميزان على جميع الحسنات، كما أنّ الايمان بترجّح على جميع السيئات، أو لأن خيرية العمل بحيث يترتّب عليه الأجر، إنّما يكون بقصد العامل إيجاده للّه، و الكافر لا يقصد بأعماله التقرّب إلى اللّه، و تحصيل رضاه، فلا يصدر منه خير حتى يراه.

ص: 587


1- . في النسخة: يؤجر.
2- . تفسير الرازي 28:36.

قيل: إنّ المراد من سبيل اللّه هو الانفاق على المؤمنين (1). و قيل: هو الجهاد (2). و الحق أنّه الاسلام و اتّباع النبي الذي هو الصراط المستقيم.

عن الباقر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام بعد وفاة رسول اللّه في المسجد و الناس مجتمعون بصوت عال: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن، لم قلت؟ ما قلت؟ قال: قرأت شيئا من القرآن. قال: لقد قلته لأمر؟ قال: نعم، إنّ اللّه يقول: وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3)فتشهد على رسول اللّه أنّه استخلف أبا بكر؟ قال: ما سمعت رسول اللّه أوصى إلاّ إليك. قال: فهلا بايعتني؟ قال: اجتمع الناس على أبي بكر، فكنت منهم. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «كما اجتمع أهل العجل على العجل، هاهنا. فتنتم، و مثلكم كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» (1).

أقول: تدلّ الرواية على عموم الكفر للأصلي و الارتدادي الذي حصل بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار، بيّن حسن حال المؤمنين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و كتبه و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و الأعمال المرضيات عند اللّه وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ من القرآن و شرائع الاسلام و عن الصادق عليه السّلام، قال: «بما نزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام» (2).

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْباطِلَ وَ أَنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللّهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)وَ هُوَ اَلْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّهِمْ الحقيق بالايمان به، و تخصيصه بالذكر لتعظيم شأنه كَفَّرَ و ستر عَنْهُمْ بسبب هذا الايمان سَيِّئاتِهِمْ و معاصيهم في الآخرة وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ و حالهم في الدين و الدنيا بالتأييد و التوفيق.

ص: 588


1- . تفسير القمي 2:301، تفسير الصافي 5:20، و الآيتان من سورة البقرة:2/17 و 18.
2- . تفسير القمي 2:301، تفسير الصافي 5:21.
3- . الحشر:59/7.

القمي رحمه اللّه قال: نزلت في أبي ذرّ و سلمان و عمّار و المقدار، لم ينقضوا العهد قال: وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي ثبتوا على الولاية التي أنزلها اللّه وَ هُوَ اَلْحَقُّ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام بالَهُمْ أي حالهم (1).

ثمّ بيّن سبحانه علّة هذا التفاوت بين الفريقين بقوله: ذلِكَ المذكور من إبطال أعمال الكفار، و تكفير سيئات المؤمنين، و إصلاح حالهم بِأَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْباطِلَ و أطاعوا الشيطان و كبراءهم، و عملوا بدين آبائهم عن تقليد و عصبية، ففعلوا ما فعلوا من الكفر و الصدّ عن سبيل اللّه وَ أَنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ النازل مِنْ رَبِّهِمْ و الرسول المبعوث من قبل خالقهم، ففعلوا ما فعلوا من الايمان و الأعمال الصالحات كَذلِكَ الضرب البديع الفصيح الوافي يَضْرِبُ اَللّهُ و يبيّن لِلنّاسِ عامة أَمْثالَهُمْ.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 4

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كون الكفّار غير نافعين لأنفسهم و لغيرهم لضلال أعمالهم، و ضارّين للناس بصدّهم عن سبيل اللّه، أمر المؤمنين بقتلهم و إعدامهم بقوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ و صادفتم أيّها المسلمون اَلَّذِينَ كَفَرُوا في أيّ مكان و أيّ حال فَضَرْبَ اَلرِّقابِ و قطع الأعناق عنهم بالسيف واجب عليكم، و هذا الحكم مستمرّ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ و كسرتم جيشهم بإكثار القتل فيهم، أو أعجزتموهم عن الحركة و المقاومة في قتالكم فَشُدُّوا و استحكموا اَلْوَثاقَ و القيد بأيديهم و أرجلهم، و أسروهم كيلا يفرّوا من أيديكم، فاذا قهرتموهم و أسرتموهم فَإِمّا تمنّون عليهم مَنًّا و تطلقونهم من غير أخذ شيء منهم بَعْدُ الأسر و شدّ الوثاق وَ إِمّا تفدون و تأخذون منهم فِداءً و مالا و تطلقونهم بعوضه.

فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)و حاصل الآية-و اللّه أعلم-أنّه ما دام الحرب قائمة، فالحكم القتل حال المبارزة، فاذا انكسر جيش الكفر و غلب المسلمون عليهم بإكثار القتل فيهم، فالحكم الأسر، و بعد الأسر يتخيّر بين القتل و بين الإطلاق بلا أخذ شيء، و بين الاطلاق مع أخذ شيء، و هذا الحكم باق حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها آلاتها و أثقالها التي لا تقوم إلاّ بها، كالسلاح و الكراع.

و قيل: يعني حتى يضع أهل الحرب أثامهم و شركهم و معاصيهم ظاهرا بحيث لا يبقى إلاّ مسلم أو

ص: 589


1- . تفسير القمي 2:301، تفسير الصافي 5:21.

مسالم (1).

و في التعبير عن القتل بضرب الرقبة إشعار بأنّه ينبغي أن يكون القتل بذلك، و فيه أيضا تصوير له بأشنع صوره.

في ذكر بعض

أحكام الجهاد

عن الصادق عليه السّلام، قال: «كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها و لم يثخن أهلها، فكلّ أسير اخذ في تلك الحال فانّ الامام فيه بالخيار، إن شاء ضرب عنقه، و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف بغير حسم، و تركه يتشحّط في دمه حتى يموت، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ (2)الاية. و الحكم الآخر: إذا وضعت الحرب أوزارها، و اثخن اهلها، فكلّ اسير اخذ على تلك الحال، فكان في أيديهم، فالامام فيه بالخيار، إن شاء منّ عليهم فأرسلهم، و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا» (3).

أقول: قال الحسن البصري من العامة: إنّ الامام بعد الأسر مخيّر بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و ليس له القتل (4).

و قال الفاضل المقداد في آيات أحكامه: المنقول من أهل البيت عليهم السّلام أن الأسير إن اخذ و الحرب قائمة، تعيّن قتله، إمّا بضرب عنقه، أو قطع يديه و رجليه، و يترك حتى ينزف و يموت، و إن اخذ بعد تقضيّ الحرب تخيّر الامام بين المن و الفداء و الاسترقاق، و لا يجوز القتل، و لو حصل منه الاسلام منع القتل خاصّة (5).

أقول: على ما ذكر لا بدّ من القول بالتقديم و التأخير في الآية، و لا بأس به، فتكون الآية: فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثمّ قال: حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً ثمّ في نسبة قطع اليدين و الرجلين إلى أهل البيت عليهم السّلام إشكال، و أمّا حكم الاسترقاق فيعلم من الرواية.

ثمّ قال الفاضل المذكور اختلف القائلون بأنّ الآية لا تقديم فيها و لا تأخير في قوله: حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها قيل: هو غاية لضرب الأعناق، و قيل: غاية لشدّ الوثاق، و قيل: للمنّ و الفداء، و قيل: للمجموع بمعنى أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا تكون حرب بين المشركين بزوال شوكتهم.

ص: 590


1- . تفسير البيضاوي 2:401.
2- . المائدة:5/33.
3- . الكافي 5:32/1، التهذيب 6:143/245، تفسير الصافي 5:21.
4- . كنز العرفان 1:365/2.
5- . كنز العرفان 1:365/3.

و قيل: حتى لا يبقى أحد من المشركين. و قيل: حتى لا يبقى غير دين الاسلام. و قيل: حتى ينزل عيسى (1).

ثمّ أكّد سبحانه الأحكام بقوله: ذلِكَ قيل: إنّ التقدير الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك (2).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 4 الی 6

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على إهلاك الكفّار و عدم حاجته إلى قتال المسلمين معهم بقوله: وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ من الكفّار، و انتقم مِنْهُمْ بإهلاكهم بالخسف أو الرجفة أو الصاعقة أو غيرها من الأسباب، أو بإقباض أرواحهم بلا واسطة سبب من حاجة إلى القتال، أو بقتل الملائكة إياهم من غير حاجة إليكم وَ لكِنْ لم يشأ ذلك لِيَبْلُوَا و يمتحن بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أمركم بقتالهم و الجهاد معهم، فتستوجبوا الثواب العظيم، و يرتدع الكفّار عن كفرهم بظهور شوكتكم و غلبتكم عليهم وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا منكم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته في جهاد أعدائه فَلَنْ يُضِلَّ و لن يضيع أبدا أَعْمالَهُمْ بل يثيبهم أعظم الثواب، و يكون حالهم ضدّ حال الكفّار الذين أضلّ اللّه أعمالهم.

فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ اَلْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)

ثمّ فصّل سبحانه ثواب المجاهدين بقوله: سَيَهْدِيهِمْ و يرشدهم البتة في الدنيا إلى درجات قربه، و طرق تحصيل رضاه وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ و شأنهم بالتوفيق لتهذيب أخلاقهم و تكميل نفوسهم و معارفهم و يقينهم.

و قيل: إنّه وعد لخصوص المقتولين (3)، و يكون المراد سيهديهم في القيامة إلى الجنّة من غير توقّف، و المراد باصلاح بالهم تبديل سيئاتهم بالحسنات.

وَ يُدْخِلُهُمُ في الآخرة اَلْجَنَّةَ التي عَرَّفَها و وصفها لَهُمْ في الدنيا، أو بيّنها لهم بحيث يعلم كلّ أحد حين دخوله الجنة منزله فيها، و يهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق، كما قيل (4). و في الحديث: «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا» (5).

و قيل: (عرّفها) جعل لها عرفا، أي رائحة طيبة، و المعنى زيّنها و طيّبها لهم (6) . و قيل: يعني حدّدها و أفرزها، يعني أنّ جنة كلّ أحد محدودة مفروزة (7) .

ص: 591


1- . كنز العرفان 1:366/4.
2- . تفسير روح البيان 8:499.
3- . تفسير الرازي 28:48. (4-5) . تفسير روح البيان 8:500.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 7 الی 9

ثمّ شجّع سبحانه المؤمنين في جهاد الكفار بقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ و تعينوه في إنجاح مقصوده، و هو إعلاء كلمته، و رواج توحيده، و قمع الكفر يَنْصُرْكُمْ في حرب أعدائكم بتقوية قلوبكم، و إرعاب أعدائكم، و حفظكم من بأسهم، و تأييدكم بالملائكة، و تهيئة الأسباب الغيبية وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في حربهم، و يزلّ أقدام أعدائكم بحيث لا يقدرون على المقاومة في نزالكم. قيل: يثبّت أقدامكم في معارضة الكفّار بالحجّة و القيام بحقوق الإسلام (1).

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً و هلاكا دائما، أو ذلاّ و هوانا، أو عثورا و خيبة لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ و أبطل مساعيهم في النيل بالمقاصد الدنيوية و الاخروية على خلاف المؤمنين، حيث إنّه تعالى لن يضلّ أعمالهم

ذلِكَ المذكور من التّعس و الإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا و أبغضوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ من الكتاب الداعي إلى التوحيد و طاعة اللّه، و لمخافة هوى أنفسهم فَأَحْبَطَ اللّه من درجة القبول أَعْمالَهُمْ كائنا ما كان.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 10 الی 12

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار المعارضين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و الكارهين لدينه بقوله تبارك و تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا و لم يسافروا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا في أسفارهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود و قوم سبأ و قوم لوط.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ اَلْأَنْعامُ وَ اَلنّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)ثمّ كأنّه قيل: كيف كان عاقبتهم؟ فقال سبحانه: دَمَّرَ اَللّهُ و أنزل الهلاك عَلَيْهِمْ بكفرهم، و معارضة الرسل وَ لِلْكافِرِينَ الذين ينكرون التوحيد و الرسالة في عصرك نظائر تلك العواقب

ص: 592


1- . تفسير البيضاوي 2:401.

و أَمْثالُها لكونهم أمثال اولئك

ذلِكَ الهلاك الذي هو نقمة على الكافرين و نعمة على المؤمنين، أو ذلك المذكور من نصر المؤمنين و تدمير الكافرين بِأَنَّ اَللّهَ بلطفه مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا و حافظ صلاحهم، و معينهم في كلّ خير، و ناصرهم على أعدائهم وَ أَنَّ اَلْكافِرِينَ الذين هم مظهر قهره تعالى لا مَوْلى لَهُمْ و لا راعي لصلاحهم، و لا معين يدفع العذاب و الشّرور عنهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من شؤون ولايته للمؤمنين حسن حالهم في الآخرة بقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ تعالى بفضله يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ في الآخرة جَنّاتٍ كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ يتنعّمون فيها بنعم لا قدر لنعم الدنيا عندها، و لذا لم يذكر سبحانه تمتّعهم بنعم الدنيا وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حيث إنّهم لا مولى لهم يَتَمَتَّعُونَ و ينتفعون بنعم الدنيا أياما قلائل كالبهائم، لا همّ لهم إلاّ ذلك وَ يَأْكُلُونَ حريصين على الأكل، مهتميّن به، غافلين عن النّعم، و عن عواقبهم كَما تَأْكُلُ اَلْأَنْعامُ في مسارحها و معالفها حريصة عليه غافلة عمّا يراد بها من النحر و الذبح، غير عارفة بالمنعم عليها وَ اَلنّارُ في الآخرة مَثْوىً و منزل إقامة لَهُمْ باستحقاقهم و سوء أعمالهم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد الكفّار المعارضين للرسول صلّى اللّه عليه و آله بما جرى على الامم الماضية، سلّى رسوله بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كثيرا من بلدة كانت هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً و أكثر أهلا و شوكة مِنْ قَرْيَتِكَ و بلدتك اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ أهاليها منها أَهْلَكْناهُمْ بعتوّهم و طغيانهم أنواع العذاب فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع عنهم العذاب و يمنعهم من الهلاك، و أهل قريتك أولى بذلك لضعفهم و قوّة جنايتهم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)عن ابن عباس: لمّا خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله من مكة إلى الغار، التفت إلى مكة و قال: «أنت أحبّ البلاد إلى اللّه و إليّ، و لو لا أنّ المشركين أخرجوني ما خرجت عنك» فأنزل اللّه هذه الآية (1).

ثمّ بيّن سبحانه استحقاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين للنّصرة و الإكرام، و استحقاق الكفّار للخذلان و الهوان بإنكار التساوي بينهم بقوله: أَ فَمَنْ كانَ مستقرا عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة ظاهرة و برهان باهر كالقرآن و المعجزات التي تكون له مِنْ رَبِّهِ و مالك أمره كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ من قبل الشيطان و النفس

ص: 593


1- . تفسير روح البيان 8:505.

الأمّارة سُوءُ عَمَلِهِ و قبيح فعله كالشرك و غيره من المعاصي وَ اِتَّبَعُوا بسبب ذلك التزيين أَهْواءَهُمْ الزائغة، و انهمكوا في فنون الضلالات من غير شبهة توهم صحّة ما عليه، لا و اللّه لا تساوي بينهما عند اللّه، و إفراد ضمير (له) و (عمله) باعتبار لفظ (من) و جمع ضمير (اتبعوا) و (اهوائهم) باعتبار معناه.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 15

ثمّ بعد بيان الفرق بين الفريقين عنده، بيّن عاقبتهما في الآخرة بقوله: مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ و المؤمنون العاملون بوظائف الايمان من قبل اللّه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و وصفها العجيب الشأن أن فِيها أَنْهارٌ كثيرة مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ و غير متغيّر الطّعم و اللون و الرائحة بطول المكث في منابعه و أوانيه، مع أنّ مياه الدنيا تتغيّر وَ أَنْهارٌ كثيرة مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بالحموضة و غيرها من الطّعوم المكروهة وَ أَنْهارٌ كثيرة مِنْ خَمْرٍ و مسكر عنبي أو غيره لَذَّةٍ و لذيذة لِلشّارِبِينَ كلّهم، ليس فيها كراهة طعم و ريح و خمار (1)، و غائلة سكر و غمار (2)، على خلاف خمر الدنيا.

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي اَلنّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)و قيل: إنّ (لذة) مصدر وصف به الخمر للمبالغة (3).

وَ أَنْهارٌ كثيرة مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى من الشّمع و فضلات النحل و غيرها غير مختلطة بشيء منها. قيل: إنّ الفرق بين الخالص و المصفّى، أنّ الأول يقال لما زال عنه شوبه، و الثاني يقال لما لا شوب فيه أصلا (4).

قيل: إنّما وصف الجنّة بما يستلذّ من أشربة الدنيان لغاية شوق العرب إلى هذه المائعات المجرّدة عمّا ينقصها و ينغّصها، مع وصفها بالغزارة و الاستمرار، و إنّما قدّم أنهار الماء لغرابتها في الحجاز، و شدّة حاجة العرب إليها، و إنّما ثنى باللّبن لكون حاجتهم إليه بعد الماء أكثر، ثمّ ثلّثه بالخمر لكونها

ص: 594


1- . الخمار: صداع الخمر و أذاها.
2- . يقال: اغتمر السكر فلانا: غطّى على عقله و ستره.
3- . تفسير روح البيان 8:506.
4- . تفسير روح البيان 8:507.

عندهم أعزّ، ثمّ ختم بالعسل لكونه أشرف (1).

عن كعب الأحبار، قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كيف أنهار الجنة؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «على حافتها كراسي و قباب مضروبة، و ماؤها أصفى من الدمع، و أحلى من الشّهد، و الين من الزّبد، ألذّ من كلّ شيء، و عرض كلّ نهر مسيرة خمسمائة عام، تدور تحت القصور و الحجال، لا ترطب ثيابهم، و لا توجع بطونهم، و أكبر أنهارها نهر الكوثر، طينه المسك الأذفر، و حافتاه الدّرّ و الياقوت» (2).

عن ابن عباس: ليس هنا ممّا في الجنّة سوى الأسامي (3).

وَ لَهُمْ فِيها مضافا إلى الأنهار الأربعة مِنْ كُلِّ صنف من اَلثَّمَراتِ و الفواكه التي تشتهيها الأنفس. قيل: لمّا كان الأكل في الجنّة للذّة لا للحاجة، لم يذكر من المأكولات إلاّ الثمرات التي تؤكل للذّة (1).

ثمّ بيّن سبحانه بعد إكمال النعمة عليهم، أمنيّتهم من العقوبة و المؤاخذة بقوله: وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و التقدير: و لهم المغفرة لذنوبهم قبل دخول الجنة، أو في الجنّة، لعدم التكليف فيها، فيأكلون فيها و يشربون من غير حساب و مؤاخذة بخلاف الدنيا، فانّ في الأكل و الشرب فيها حساب أو عقاب أو عتاب.

ثمّ كأنه قال سبحانه: انظر أيّها العاقل، أمّن هو خالد في هذه الجنة و متنعّم فيها بفنون النعم، و يسقون من تلك الأنهار الأربعة كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي اَلنّارِ أبدا، و معذّب فيها دائما. و قيل: إنّ التقدير هذه الجنة التي مثلها و صفتها ما ذكر، كمقام من هو خالد في النار (2).

وَ سُقُوا بدل الأشربة التي تكون لأهل الجنّة ماءً حَمِيماً و حارا غاية الحرارة فَقَطَّعَ ذلك الماء من غاية حرارته و سموميته أَمْعاءَهُمْ و أحشاءهم. قيل: إذا دنا منهم شوى وجوههم، و انعزلت فروة وجوههم (3)، فاذا شربوه قطّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم (4). ثمّ اعلم أنّ قطع الأمعاء ليس من أثر الحرارة، و لعلّه من أثر مسمومية الماء، أو أثر خصوص ذلك الماء.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 16 الی 17

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)

ص: 595


1- . تفسير الرازي 28:55.
2- . تفسير الرازي 28:56.
3- . الصحيح: فروة رؤوسهم. راجع روح البيان 8:508.
4- . تفسير روح البيان 8:508.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه حال المؤمن و الكافر أردفها بذكر حال المنافق بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يحضر مجلسك و يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا محمد، و يصغي [إلى]

كلامك، و لا يتأمل فيه تهاونا به حَتّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا استهزاء و سخرية لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ من الصحابة الخلّصين كسلمان و أبي ذرّ و ابن مسعود: ما ذا قالَ محمد آنِفاً و قبلا أو الساعة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «إنّا كنّا عند رسول اللّه، فيخبرنا بالوحي فأعيه [أنا]و من يعيه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا» (1).

أُولئِكَ المستهزئون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بكلامه، هم اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ و ختم عَلى قُلُوبِهِمْ لا يتوجّهون إلى الحقّ، و لا يميلون إلى خير أصلا وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الفاسدة و نفوسهم الأمّارة الخبيثة، و لذا فعلوا ما فعلوا من الإهانة و الاستهزاء.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو أصحابه، فمن أراد اللّه به خيرا سمع و عرف ما يدعوه إليه، و من أراد اللّه به شرا طبع على قلبه، و لا يسمع و لا يعقل، و هو قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ (2).

وَ اَلَّذِينَ آمنوا بالرسول عن صميم القلب و اِهْتَدَوْا ببركته إلى دين الحقّ زادَهُمْ اللّه باستماع كلمات الرسول و مواعظه، أو باستهزاء المنافقين هُدىً و رشادا حيث إنّهم فهموا المطالب العالية التي ألقاها إليهم الرسول، أو استقبحوا استهزاء المنافقين، فصار سببا لكمال توجّههم إلى كلام الرسول و مواعظه وَ آتاهُمْ اللّه تَقْواهُمْ و توفيق العمل بما علموا من وظائف دينهم، أو المراد آتاهم ثواب تقواهم، أو جنّبهم من القول في القرآن بغير حجّة و برهان و التفسير بالرأي، أو ألقى الخشية من القيامة في قلوبهم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 18

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار و المنافقين بقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ و ما ينتظرون إِلاَّ اَلسّاعَةَ و القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً و مفاجأة، أو المعنى فانّهم لا يتّعظون بأخبار الامم السابقة المهلكة، و لا بالإخبار بإتيان الساعة و القيامة، بل ينتظرون في تذكّرهم و اتّعاضهم إتيانها، و ليس ببعيد فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها و ظهرت أماراتها فَأَنّى لَهُمْ و كيف تنفعهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ و اتّعاظهم لاستحالة

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)

ص: 596


1- . مجمع البيان 9:154، تفسير الصافي 5:24.
2- . تفسير القمي 2:303، تفسير الصافي 5:24.

نفعه لانقضاء وقته و عدم قبول التوبة فيه.

في ذكر علائم

القيامة

عن حذيفة بن اليمان، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنه بأعلم من السائل، و لكن لها أشراط: تقارب الأسواق.

أقول: يعنى كسادها و مطر لا نبات له، و تفشو الفتنة، و تظهر أولاد البغية، و يعظّم ربّ المال، و تعلو أصوات الفسقة في المساجد، و يظهر أهل المنكر على أهل الحقّ» (1).

و في الحديث: «إذا ضيّعت الأمانة، فانتظر الساعة» فقيل: كيف إضاعتها؟ فقال: «إذا وسّد الأمر (2)إلى غير أهله، فانتظر الساعة» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجأة» (4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم، و يظهر الجهل، و يشرب الخمر، و يفشو الزنا، و يقلّ الرجال، و تكثر النساء» (5)إلى غير ذلك من الروايات التي لا يهمّنا استقصاء ذكرها، لعدم ارتباطها بمقصودنا من التفسير.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 19

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قرب مجيء الساعة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالالتزام بالتوحيد و الاستغفار من الذنوب، ترغيبا للمؤمنين بقوله تعالى: فَاعْلَمْ يا محمد أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ و التزم بالتوحيد، فانّه المنجي من أهوال الساعة وَ اِسْتَغْفِرْ ربّك لِذَنْبِكَ و ترك الأولى و الأفضل الصادر منك. و قيل: إنّ المراد لذنب أهل بيتك وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ الذين ليسوا من أهلك (6).

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19)و قيل: لمّا حكى اللّه سبحانه إصرار قوم النبي صلّى اللّه عليه و آله على الشرك، و عدم اتّعاظهم إلاّ بقيام الساعة، و كان ذلك ممّا يقتضي حزن حبيبه صلّى اللّه عليه و آله سلاّه سبحانه بأنّ كفر قومك لا يضرّك، فاثبت أنت على التوحيد و تكميل نفسك و نفوس المؤمنين بك بالاستغفار، فانّه يحصل لك ما ترجوه من علوّ الدرجة و رفعة المقام و القرب الكامل إلى اللّه (7).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ و الأمكنة التي تذهبون إليها و ترجعون منها لمعاشكم و معادكم، و أعمالكم

ص: 597


1- . تفسير روح البيان 8:510.
2- . وسّد الأمر إليه: أسنده.
3- . تفسير روح البيان 8:510.
4- . الكافي 3:261/39، تفسير الصافي 5:24.
5- . روضة الواعظين:485، تفسير الصافي 5:24.
6- . تفسير الرازي 28:61.
7- . تفسير الرازي 28:61.

التي تشتغلون بها في حوائجكم الدنيوية و الاخروية وَ مَثْواكُمْ و منزل إقامتكم في الآخرة، فلا يأمركم إلاّ بما فيه خيركم و صلاحكم في الدنيا و الآخرة، فبادروا إلى امتثال ما أمركم به، فانّه المهمّ لكم في المقامين.

عن الصادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الاستغفار، و قول لا إله إلاّ اللّه خير العبادة، قال العزيز الجبار: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» (1).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 20 الی 22

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان التباين بين المؤمنين و المنافقين في فهم كلمات الرسول و الاتّعاظ بها و الاستفادة منها، بيّن الفرق بينهم في الأخذ بما يوحي إليه من التكاليف العملية بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب اشتياقا إلى الوحي، و حرصا على الجهاد الذي فيه شرف الدنيا و الآخرة: لَوْ لا نُزِّلَتْ و هلاّ جاءت من جانب اللّه سُورَةٌ فيها الأمر بجهاد الكفّار حتى نمتثله و نفدي نفوسنا في سبيل اللّه؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ من جانب اللّه سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ واضحة الدلالة على ما فيها وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتالُ و أمر اللّه به، رأيت المؤمنين يفرحون و يستبشرون بها شوقا إلى الشهادة و لقاء اللّه و رَأَيْتَ المنافقين اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ و النفاق و حبّ الحياة الدنيا و زخارفها يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ من شدّة الجبن نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ و من سلب شعوره و قواه مِنَ جهة عروض اَلْمَوْتِ عليه، أو من خوف الموت فَأَوْلى و أحقّ لَهُمْ الموت الذي لا فرار منه؛ لأنّ الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة اللّه و رسوله.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ اَلْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اَللّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)و قيل: إنّ (أولى لهم) دعاء عليهم بأن يليهم المكروه (2). و قيل: إنّه بمعنى فويل لهم (3). و قيل: إنّ المعنى الطاعة أولى لهم (4)،

كما قال سبحانه: طاعَةٌ خالصة وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ مستحسن عند العقلاء، خير لهم و أحسن.

ص: 598


1- . الكافي 2:366/6، تفسير الصافي 5:27.
2- . تفسير روح البيان 8:516.
3- . تفسير الرازي 28:62، تفسير روح البيان 8:516.
4- . تفسير الرازي 28:62.

و قيل: إنّ المعنى أمرهم و شأنهم طاعة للّه و لرسوله و قول معروف أن يجيبوا لما امروا به من الجهاد (1). أو المراد أنّهم يقولون أمرنا طاعة و قول معروف (2)

فَإِذا عَزَمَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو اللّه اَلْأَمْرُ وجدّ في الجهاد، خالفوا و قعدوا مع المتخلّفين فَلَوْ صَدَقُوا اَللّهَ في إخبارهم بايمانهم و طاعتهم أوامره لَكانَ الصدق و اللّه خَيْراً لَهُمْ و أفضل و أنفع من الكذب و النفاق و القعود عن الجهاد.

ثمّ قيل: إنّ المنافقين كانوا يعتذرون بالقتال و الجهاد، و يقولون: كيف و القتل إفساد، و العرب قبائلنا و أرحامنا (3)، فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ و هل يتوقّع منكم أيّها المنافقون إِنْ تَوَلَّيْتُمْ امور الناس، و تأمّرتم عليهم، و صار بيدكم زمام امورهم أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ حرصا على الملك، و تهالكا على الدنيا.

و قيل: إنّ المراد يتوقّع منكم إن تولّيتم و أعرضتم عن الجهاد، لكراهة الفساد و قطع الأرحام، أن تفسدوا في الأرض بالسرقة و الغارة، و تقاتلوا على أدنى شيء، و تقطعوا أرحامكم، كما كان عادة العرب في الجاهلية (4).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت في بني اميّة» (5).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم إظهارا لعدم قابليتهم للمكالمة بقوله: أُولئِكَ المعرضون عن طاعة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله هم اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ و أطردهم عن ساحة رحمته، و عن كلّ خير و سعادة فَأَصَمَّهُمْ و سلب عنهم قوّة استماع الحقّ و مواعظ اللّه و رسوله وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ عمّا يشاهدونه من الآيات الآفاقية و الأنفسية على التوحيد و المعجزات الدالّة على صدق الرسول، و لما كان العمى أقوى في السببية للضلال أطنب فيه تسجيلا له.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)و قيل: إنّ البصر آلة الرؤية، فاذا أصابته آفة حصل العمى بخلاف الاذن، فانّها ليست آلة للسماع، لوضوح أنّ قوة السمع لا يذهب بقطع الاذن، و لذا لم يقل: أصمّ آذانهم، و قال: (أَعْمى أَبْصارَهُمْ) (6).

ص: 599


1- . تفسير روح البيان 8:516.
2- . تفسير الرازي 28:63، تفسير روح البيان 8:516.
3- . تفسير الرازي 28:63.
4- . الكشاف 4:325، تفسير الرازي 28:64.
5- . تفسير القمي 2:308، و الكافي 8:103/76، و تفسير الصافي 5:28، عن الامام علي عليه السّلام.
6- . تفسير الرازي 28:65.

ثمّ لمّا كان التدبّر في القرآن شفاء لما في الصدور من مرض الكفر و الشكّ و النفاق، و بّخ سبحانه المنافقين و الكفّار على ترك تداوي أمراضهم بالتدبّر فيه بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ قيل: إنّ التقدير ألا يلاحظون القرآن فلا يتصفحون ما فيه من المواعظ و العبر و الزواجر حتى تشفى أمراضهم، و لا يقعوا في المعاصي الموبقة (1)، لكونهم ملعونين مبعدين من كلّ خير.

و عن الصادق عليه السّلام: «فيقضوا ما عليهم من الحق» (2).

أَمْ يتدبّرون و يتفكّرون فيه، و لكن عَلى قُلُوبٍ قاسية أَقْفالُها الخاصة بها، و هي أقفال اللّجاج و العناد و العصبية، فلا تدخل فيها معانية.

قيل: إن تنكير القلوب لإفادة البعض (3)، أو للتنبيه على أنّ القلوب لعدم استفادتهم بها كأنّها ليست لهم (4)و لا صاحب لها، أو لتهويل حالها، و تفظيع شأنها في الفساد، و الجهالة بابهامها، كأنّه قيل: على قلوب منكرة لا يعرف حالها و لا يقادر قدرها في القسوة (5).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ لك قلبا و مسامع، و إن أراد اللّه أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه، و إن أراد غير ذلك ختم مسامع قلبه، فلا يصلح أبدا، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (6).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ بيّن سبحانه غاية ضلال المنافقين و المصرّين على الكفر من أهل الكتاب بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا و رجعوا عَلى أَدْبارِهِمْ و كفرهم السابق الذي كانوا عليه، و أصرّوا عليه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و وضح لَهُمُ اَلْهُدَى و طريق الحقّ، و هو نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دين الاسلام بالدلائل و المعجزات، و رؤية نعت محمد صلّى اللّه عليه و آله في التوراة و سائر الكتب السماوية.

إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدَى اَلشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اَللّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)اَلشَّيْطانُ المغوي سَوَّلَ و سهّل لَهُمُ مخالفة الحقّ، و زيّن لهم ارتكاب العظائم وَ أَمْلى و أمدّ لَهُمُ في الأماني بأن يقولوا نعيش أياما، و نؤمن به بعد نيلنا بمقاصدنا الدنيوية.

و قيل: يعني أملى اللّه لهم و أمهلهم، فلم يعاجلهم بالعقوبة (7)ذلِكَ الارتداد و التسويل، أو الإملاء

ص: 600


1- . تفسير روح البيان 8:518.
2- . مجمع البيان 9:158، و تفسير الصافي 5:28، عن الصادق و الكاظم عليهما السّلام.
3- . تفسير الرازي 28:65.
4- . تفسير الرازي 28:66.
5- . تفسير روح البيان 8:518.
6- . المحاسن:200/35، تفسير الصافي 5:28.
7- . تفسير أبي السعود 8:99، تفسير روح البيان 8:519.

لهم، يكون بِأَنَّهُمْ قالُوا سرّا و خفية لِلَّذِينَ كَرِهُوا و أبغضوا ما نَزَّلَ اَللّهُ من القرآن و رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله-قيل: هم اليهود الذين كرهوا نزول القرآن على محمد (1)-: سَنُطِيعُكُمْ و نوافقكم فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ الذي تتوقعون منّا.

قيل: إنّ المنافقين قالوا لليهود: إنّا نوافقكم في إنكار محمد و تكذيبه، و لا نوافقكم في إظهار الكفر و إعلان أمرنا بالفعل قبل قتالهم و إخراجهم من ديارنا، و إنّما لم يوافقوهم في ذلك لما كان لهم في إظهار الايمان من المنافع الدنيوية (2).

و قيل: إنّ القائلين هم اليهود، فانّهم قالوا للمشركين الذين كرهوا ما أنزل اللّه من القرآن الناطق بالتوحيد و الرسالة و الحشر: سنطيعكم في بعض الأمر، و هو إنكار رسالة محمد و تكذيبه، و لا نوافقكم في إنكار مطلق الرسالة و الحشر و إشراك الأصنام باللّه (3).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ و الأقاويل التي قالوها خفية. و قيل: يعني و اللّه يعلم ما في قلوبهم من العلم بصدق النبي صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة ما أتى به من القرآن و الدين، فانّهم كانوا مكابرين معاندين (4).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويل هذه الآية، قال: «فلان و فلان ارتدّوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» .

قال: «نزلت و اللّه فيهما و في أتباعهما، و هو قول اللّه عزّ و جلّ الذي نزل به جبرئيل على محمد صلّى اللّه عليه و آله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اَللّهُ في عليّ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ قال: دعوا بني امية إلى ميثاقهم أن لا يصيّروا هذا الأمر فينا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا يعطونا من الخمس شيئا، و قالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شيء، و لم يبالوا أن لا يكون الأمر فيهم. فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي دعوتمونا إليه، و هو الخمس، أن لا نعطيهم منه شيئا، و الذي نزّل اللّه ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان معهم أبو عبيدة، و كان كاتبهم» الخبر (3).

و عنهما عليهما السّلام: «أنّهم بنوا امية، كرهوا ما أنزل اللّه في عليّ عليه السّلام» (4).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 27 الی 28

فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اِتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اَللّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)

ص: 601


1- . تفسير أبي السعود 8:100، تفسير روح البيان 8:519.
2- . تفسير أبي السعود 8:100، تفسير روح البيان 8:519. (3 و 4) . تفسير الرازي 28:67.
3- . الكافي 1:348/43، تفسير الصافي 5:28.
4- . مجمع البيان 9:160، تفسير الصافي 5:29.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: فَكَيْفَ حالهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون بقبض الأرواح، و قبضوا أرواحهم.

قيل: إنّ المراد يفعلون في حياتهم ما يفعلون، فكيف يفعلون إذا قبض روحهم الملائكة (1). و قيل: يعني هب أنّهم يسرّون كفرهم، و اللّه لا يظهره في حياتهم، فكيف يخفونه إذا قبض أرواحهم ملائكة (2)العذاب حال كونهم يَضْرِبُونَ بمقامع الحديد أو النار وُجُوهَهُمْ التي أقبلوا بها إلى ما أسخط اللّه، و حوّلوها عن الحقّ وَ أَدْبارَهُمْ و أقفيتهم التي ولّوها عن أهله، و عمّا فيه رضا ربهم.

ذلِكَ التوفّي الهائل، أو الضرب بالمقامع بِأَنَّهُمُ لخبث باطنهم اِتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اَللّهَ و أغضبه عليهم من الكفر و الطغيان و المعاصي وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ و ما يوجب حبّه لهم و رحمته عليهم من الايمان و الطاعة فَأَحْبَطَ اللّه لذلك أَعْمالَهُمْ الحسنة، فلا يفيدهم شيء من نفقاتهم على الفقراء و إحسانهم إلى الناس و نظائرهما من الخيرات و المبرّات التي فعلوها حال إيمانهم، أو حال كفرهم، و لأنّهم لم يطلبوا بها رضا اللّه و طاعته، بل طلبوا رضا الشيطان و الأصنام و موافقة هوى أنفسهم.

عن الباقر عليه السّلام في تأويله قال: «كرهوا عليا عليه السّلام و قد أمر اللّه بولايته يوم بدر، و يوم حنين، و ببطن نخلة، و يوم التروية، و يوم عرفة، نزلت فيه خمس عشرة آية في الحجّة التي صدّ فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المسجد الحرام، و بالجحفة، و بخم» (3).

القمي رحمه اللّه: ما أَسْخَطَ اَللّهَ يعني موالاة فلان و فلان و ظالمي أمير المؤمنين عليه السّلام فَأَحْبَطَ اللّه أَعْمالَهُمْ يعني التي عملوها من الخيرات (4).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 29 الی 31

ثمّ بيّن اللّه سبحانه بعد تهديد المنافقين و الكفّار علّة جرأتهم على ما هم عليه من النفاق بقوله: أَمْ حَسِبَ و بل توهّم المنافقون اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ و عناد الرسول و العصبية أَنْ لَنْ

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)

ص: 602


1- . تفسير روح البيان 8:519.
2- . تفسير الرازي 28:67.
3- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 5:29.
4- . تفسير القمي 2:309، تفسير الصافي 5:29.

يُخْرِجَ اَللّهُ و لن يظهر للمؤمنين أبدا أَضْغانَهُمْ و أحقادهم وعداوتهم للرسول و المؤمنين، فيبقى كفرهم و حقدهم لهم مستورا، و هذا لا يمكن أبدا.

قيل: إن كلمة (أم) استفهامية متصلة، و التقدير: أ حسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم، أم حسب المنافقون أن لن يظهرها الله (1).

وَ لَوْ نَشاءُ إراءتهم لَأَرَيْناكَهُمْ و لعرفناكهم بأعيانهم و أشخاصهم بالأمارات و الدلائل فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ و علامات في وجوههم دالة على نفاقهم.

عن أنس، قال: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه و آله بعد هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، و لقد كنا في بعض الغزوات و فينا تسعة من المنافقين، يشك فيهم الناس، فناموا ذات ليلة و أصبحوا و على وجه كل منهم مكتوب: هذا منافق (2).

وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ و الله يا محمد فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ و فحوى كلامه، و اسلوب محاورته، و صرف الكلام عن سننه الجارية عليه، إما بازالة الإعراب، أو التصحيف، و إما بازالته عن التصريح و صرفه بمعناه إلى التعريض، كقولهم: لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ (3)أو المراد لتعرفنهم في معنى قول الله، كقوله: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا (4)و قيل: لحن القول: الوجه الخفي من القول الذي يعرفه النبي صلى الله عليه و آله دون غيره (5).

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ أيها المؤمنون أَعْمالَكُمْ ظاهرها و باطنها، فيجازيكم على حسب قصودكم و نياتكم.

عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «قلت أربع كلمات أنزل الله تصديقهن، قلت: المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله: وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ» (6).

و عن أبي سعيد الخدري، قال: لحن القول: بغض علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب عليه السلام (7).

وَ بالله لَنَبْلُوَنَّكُمْ و لنختبرن إيمانكم بالأمر بالجهاد و نحوه من التكاليف الشاقة حَتّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ و نميزهم من غير المجاهدين وَ اَلصّابِرِينَ على مشاق الجهاد و سائر التكاليف، و تميزوا من غير الصابرين و الثابتين في المعارك من المولين و الفارين وَ نَبْلُوَا و

ص: 603


1- . تفسير الرازي 28:69.
2- . تفسير أبي السعود 8:101، تفسير روح البيان 8:520.
3- . المنافقون:63/8.
4- . النور:24/62.
5- . تفسير الرازي 28:70.
6- . أما لي الطوسي:494/1082، تفسير الصافي 5:29.
7- . مجمع البيان 9:160، تفسير الصافي 5:30.

نمتحن أَخْبارَكُمْ بأنكم صادقون في الايمان، و أنكم ثابتون في نزال الأعداء، إنه صدق أو كذب.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 32 الی 33

ثم هدد سبحانه الكفار و المنافقين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله في الباطن، أظهر الايمان أو الكفر وَ صَدُّوا و منعوا انفسهم أو غيرهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و العمل بدين الاسلام وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ و عاندوه و عارضوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و و ضح لَهُمُ اَلْهُدى و الحق من رسالة محمد صلى الله عليه و آله و صحة دينه، بما شاهدوا من معجزاته و نعوته في الكتاب السماواة. قيل: اريد منهم بنو قريظة و النضير من اليهود، و رؤساء قريش المطعمون يوم بدر، أولئك (1)لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ تعالى بكفرهم و صدهم و شقاقهم مع الله بشقاقهم مع الرسول شَيْئاً يسيرا من الضرر، بل يضرون أنفسهم أشد الضرر وَ سَيُحْبِطُ الله و يبطل البتة أَعْمالَهُمْ و مكائدهم في إطفاء نور الحق، و اضمحلال كلمة التوحيد، و إبطال دين الاسلام.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)و قيل: إن المراد من الذين كفروا خصوص أهل الكتاب و من أعمالهم الخيرية التي كانوا يعملونها قبل الكفر برسالة النبي صلى الله عليه و آله (2).

ثم لما بين سبحانه أن الكفر و مشاقة الرسول صلى الله عليه و آله يوجب بطلان الأعمال الخيرية، حث المؤمنين على طاعة الله و رسوله، و التحذير عن إبطال الأعمال بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع ما أمراكم به و نهياكم عنه وَ لا تُبْطِلُوا بمخالفة الرسول صلى الله عليه و آله و الرياء و السمعة و العجب أَعْمالَكُمْ كما أبطل الكفار بالكفر و مشاقة الرسول صلى الله عليه و آله أعمالهم. و قيل: إن المعنى لا تبطلوا بالشرك أعمالكم (3).

عن الباقر عليه السلام. قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله: من قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: لا إله إلا الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إن شجرنا في الجنة كثير؟ فقال: نعم، و لكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، و ذلك أن الله تعالى

ص: 604


1- . تفسير روح البيان 8:522.
2- . تفسير الرازي 28:71.
3- . تفسير الرازي 28:72.

يقول: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (1).

سوره 47 (محمد): آیه شماره 34 الی 35

ثم إنه تعالى بعد بيان بطلان أعمالهم الخيرية وعدم فائدتها لهم، بين عدم العفو عن ذنوبهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ ماتُوا و خرجوا من الدنيا وَ الحال أن هُمْ كُفّارٌ حين موتهم فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ ذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا، كثيرة كانت أو صغيرة، لعدم أهليتهم للمغفرة و الرحمة، فاذا علمتم أن الله يعادي الكفار، و لا يقبل أعمالهم الخيرية، و لا يغفر ذنوبهم،

و لا يرحمهم فَلا تَهِنُوا وَ لا تتوانوا في قتالهم، و لا تضعفوا في جهادهم، بل جدوا و اجتهدوا فيه، و لا تجعلوا المشاغل الدنيوية مانعة عنه، و لا تَدْعُوا هم إِلَى اَلسَّلْمِ وَ الصلح. و لا تسئلوا منهم متاركة القتال، فان فيه ذلكم، و الحال أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ و الغالبون عليهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)ثم بين سبحانه علة علوهم و غلبتهم بقوله: وَ اَللّهُ مَعَكُمْ و ناصركم في الدارين وَ لَنْ يَتِرَكُمْ و لن يضيع أَعْمالَكُمْ بل يعطيكم أجرها فوق ما تتوقعون، فيكون لكم في جهادهم شرف الدنيا و ثواب الآخرة، فلا ينبغي لمن له عقل أن يتهاون فيه.

لما بين سبحانه أن الغلبة على الكفار بنصرة الله لا بقوتهم و شوكتهم، كان مجال أن يتوهم أن أجر جهادهم ينقص بسبب كون الغلبة بنصرته تعالى، فدفعه سبحانه و قال: لم ينقص أجر جهادكم بسبب نصرته، بل يعطيكم أجركم كاملا (2).

قيل: إن الآية ناسخة لقوله وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها (3)و فيه: أنه لا تنافي بين الحكمين، فان الآية ظاهرة في حرمة طلب المسلمين الصلح مع الكفار أولا، و الآية الاخرى إذن في إجابة الكفار إن طلبوا الصلح، فان في طلب الصلح منهم ذل و مهانة للمسلمين (4)، و في إجابة دعائهم إلى الصلح شرف و كرامة لهم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 36 الی 37

إِنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)

ص: 605


1- . ثواب الأعمال:11، تفسير الصافي 5:30.
2- . تفسير الرازي 28:73.
3- . الأنفال:8/61.
4- . تفسير القرطبي 16:256.

ثم بالغ سبحانه في حث المؤمنين على الجهاد ببيان مهانة الدنيا و عظمة أجر الآخرة بقوله: إِنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و العمر فيها و الاشتغال بزخارفها و زينتها لَعِبٌ وَ لَهْوٌ و باطل و عمل سفهائي عند العقلاء و أهل البصيرة وَ إِنْ تُؤْمِنُوا أيها الناس بما يجب الايمان به وَ تَتَّقُوا الكفر و العصيان و مخالفة أحكام الله يُؤْتِكُمْ الله أُجُورَكُمْ و مثوبات أعمالكم الصالحة من الايمان و التقوى في الآخرة، كما وعدكم به وَ لا يَسْئَلْكُمْ الله أَمْوالَكُمْ جميعا، فتتضررون في الدنيا بسبب الايمان و التقوى، و يختل معاشكم، حتى يصير الضرر مانعا من الايمان و التقوى، و إنما يسألكم جزءا يسيرا منها بعنوان الزكاة كالعشر و نصف العشر.

و قيل: إن المراد لا يسألكم أموالكم لأنه ليس لكم مال، بل جميع ما في ايديكم مال الله، أو دعه عندكم، و أجازكم في صرفه في محاويجكم تفضلا عليكم، فلا ينبغي أن تمتنعوا عن صرفه فيما أمركم مالكه بصرفه (1).

ثم قرر سبحانه لطفه بالمؤمنين بأن لم يرض بضررهم و حرجهم و فساد باطنهم و ضمائرهم بقوله: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها و يأمركم بصرفها فَيُحْفِكُمْ و يجهدكم بأمركم بصرف الكل في سبيله تَبْخَلُوا و تمتنعوا عن صرف الكل وَ يُخْرِجْ الله بسبب ذلك الأمر و السؤال أو البخل أَضْغانَكُمْ و أحقادكم الحادثة بذلك السؤال، فان ابن آدم ينقم و يبغض من يطمع في ماله، و يوقعه في الضرر، و لذا لم يسالكم جميع أموالكم.

سوره 47 (محمد): آیه شماره 38

ثم و بخهم سبحانه على بخلهم بصرف اليسير من أموالهم بقوله تعالى: ها أَنْتُمْ و تنبهوا أيها المؤمنون بأنكم هؤُلاءِ البخلاء الذين تُدْعَوْنَ من قبل الله لِتُنْفِقُوا يسيرا من أموالكم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و ترويج دينه، و اعانة أوليائه فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ و يمتنع ببخله عن الانفاق، و الحال أن وَ مَنْ يَبْخَلْ بماله على الفقراء و المجاهدين و سائر الوجوه البرية فَإِنَّما يَبْخَلُ و يمسك الخير عَنْ نَفْسِهِ وَ يحرم من منافعه.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اَللّهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)اَللّهِ تعالى هو اَلْغَنِيُّ بذاته عنكم و عن أموالكم و صدقاتكم وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إليه و إلى ما

ص: 606


1- . تفسير الرازي 28:74.

عنده من الخيرات، فما يأمركم به هو عين خيركم و صلاحكم، و فائدته راجعة إليكم.

ثم هدد سبحانه العصاة و المخالفين بقوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا و تعرضوا عن الايمان و الطاعة و الانفاق يهلككم و يَسْتَبْدِلْ و يخلف في أرضكم و مساكنكم قَوْماً آخرين و جماعة غَيْرَكُمْ يعيشون في دياركم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في العصيان و الإعراض عن الايمان و الطاعة، بل يكونون مؤمنين مجدين في التقوى و الطاعة.

قيل: إن كلمة (ثم) دالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب (1).

قيل: إن المخاطب قريش، و البدل الأنصار. و قيل: إن المخاطب العرب، و البدل أهل فارس (2)، لما روي أن النبي صلى الله عليه و آله سئل عن القوم و سلمان كان إلى جنبه، فضرب على فخذه، فقال: «هذا و قومه، و الذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» (3)، و رواه (المجمع) أيضا، و فيه فضيلة عظيمة لأهل فارس (4).

و في الحديث: «خيرتان من خلقه في أرضه: قريش خيرة الله من العرب، و فارس خيرة الله من العجم» (5).

و عن أبي الدرداأ أنه كان يقول بعد قراءة هذه الآية: أكثروا يا بني فروح (6). قيل: إن فروح إن فروح كتنور، أخو إسماعيل و إسحاق، أبو العجم الذين في و سط البلاد (7).

عن الباقر عليه السلام، قال: «إِنْ تَتَوَلَّوْا يا معشر العرب يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني الموالي» (5).

ص: 607


1- . تفسير روح البيان 8:526.
2- . تفسير روح البيان 8:526.
3- . تفسير الرازي 28:76، تفسير أبي السعود 8:103، تفسير روح البيان 8:526.
4- . مجمع البيان 9:164. (5و6و7) . تفسير روح البيان 8:526.
5- . مجمع البيان 9:164، عن الصادق عليه السلام، تفسير الصافي 5:32.

ص: 608

في تفسير سورة الفتح

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 1

ثم لما ختمت سورة محمد صلى الله عليه و آله المتضمنة لبيان فضيلة المؤمنين به باتباعهم دينه الحق، و تفضله عليهم بتكفير ذنوبهم و إصلاح امور دينهم و دنياهم، و أمرهم بنصرته، و الانفاق في ترويج دينه، و الجهاد لإعلاء كلمته و دفع أعدائه، و البشارة بغلبتهم على الكفار، نظمت سورة الفتح المبدوءة ببشارة رسوله صلى الله عليه و آله بفتح مكة أو الحديبية، و نصرته على أعدائه، الموقوف على ثبات المؤمنين في نصره، و الانفاق في الجهاد معه، و بغفران ذنوبه، و سائر تفضلاته عليه صلى الله عليه و آله و على المؤمنين به، فافتتحها عز و جل بذكر أسمائه الحسنى على دأبه تعالى تيمنا و تعليما للعباد و المؤمنين بقوله تعالى: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)

ثم ابتدئها بالبشارة بقوله: إِنّا فَتَحْنا لَكَ يا محمد، مكة و غلبناك على أهلها، و ظفرناك بها عنوة فَتْحاً و ظفرا مُبِيناً ظاهرا، مكشوف الحال لكل أحد، إنه بقدرتنا و تأييدنا.

عن أنس بشر به رسول الله صلى الله عليه و آله عند انصرافه من الحديبية، و إنما أتى سبحانه بصيغة الماضي إيذانا تحقق و قوعه (1).

روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه و آله: «لقد نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا و ما فيها» (2).

و في روآية اخرى: «لقد نزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم (3).

و في ثالثة أنه صلى الله عليه و آله قال لأصحابه: «انزلت علي سورة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» (4)ثم قرأ السورة عليهم، و هنأهم و هنأوه، و في الآية و الروآيات دلالة و اضحة على عظمة شأن هذا الفتح الذي

ص: 609


1- . تفسير أبي السعود 8:103، تفسير روح البيان 9:2.
2- . مجمع البيان 9:165، و فيه: الدنيا كلها، تفسير الصافي 5:33.
3- . تفسير القرطبي 16:260، تفسير روح البيان 9:6 و 7.
4- . تفسير روح البيان 9:6.

فيه قوة الإسلام و رواج شرعه.

روت العامة أن النبي صلى الله عليه و آله رأى في المنام أنه مع أصحابه دخلوا مكة آمنين محلقين رؤسهم و مقصرين، و أنه دخل البيت و أخذ مفتاحه، وطائف هو و أصحابه و اعتمر، فأخبر بتلك الرؤيا أصحابه ففرحوا، ثم أخبرهم أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر، فخرج عليه الصلاة [و السلام ]بعد أن اغتسل في بيته، و لبس ثوبين، و ركب راحلته القصوى من عند بابه، و معه ألف و أربعمائة من المسلمين على روآية، و أبطأ عليه كثير من أهل البواد خشية من قريش، و سائق عليه السلام معه الهدي سبعين بدنة (1)، و كان خروجه يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة، فلما و صل إلى ذي الحليفة (2)، و هو ميقات المدنيين، صلى بالمسجد الذي فيه ركعتين، و أحرم بالعمرة هو و غالب أصحابه، و منهم من أخر الإحرام إلى الجحفة (3)، ثم نفد الماء في الطريق بين أصحابه، فأقبلوا نحوه، و كان بين يديه ركوة (4)يتوضأ منها، فقال: «ما لكم؟» قالوا: يا رسول الله. ليس عندنا ماء نشرب أو نتوضأ منه إلا في ركوتك. فوضع يده في الركوة، ففار الماء من أصابعه الشريفة أمثال العيون، فشربوا و توضأوا، و قال جابر: لو كنا مائة ألف لكفانا (5).

ثم أرسل صلى الله عليه و آله بشر بن سفيان إلى مكة عينا له، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و هو بعسفان (6)، قال: يا رسول الله، قد سمعت قريش بخروجك، فلبسوا النمر-قيل: هو كناية عن إظهار شدة العداوة و الحقد له -و استنفروا من أطاعهم من الأحابيش، و معهم زادهم و نساؤهم و أولادهم، و نزلوا بذي طوى (7)، و تعاهدوا على أن لا تدخلها عليهم أبدا. فقال صلى الله عليه و آله: «أشيروا علي-أيها الناس -أتريدون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟» فقال المقداد: يا رسول الله، إنا لا نقول ما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (8)و لكن نقول: اذهب أنت و ربّك [فقاتلا]إنا معكما مقاتلون. فقال صلّى اللّه عليه و آله «امضوا على اسم اللّه» فساروا.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «هل رجل [يخرجنا]من طريق إلى غير طريقهم التي هم بها» فقال رجل من أسلم اسمه ناجية بن جندب: أنا يا رسول اللّه. فسلك بهم طريقا وعرا، ثمّ أفاضوا إلى أرض سهلة.

ص: 610


1- . البدنة: ناقة أو بقرة تنح قربانا بمكّة.
2- . ذو الحليفة: قرية بينها و بين المدينة ستة أميال أو سبعة.
3- . الجحفة: قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربعة مراحل.
4- . الرّكوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
5- . تفسير روح البيان 9:3.
6- . عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة و مكة.
7- . ذو طوى: موضع عند مكة.
8- . المائدة:5/24.

ثمّ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يسلكوا طريقا يخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكّة، فسلكوا ذلك الطريق، فلمّا نزلوا بالحديبية نزح (1)ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ماء، فشكا الناس إلى رسول اللّه العطش، و كان الحرّ شديدا، فأخرج صلّى اللّه عليه و آله سهما من كنانته، و دفعه إلى البراء بن عازب، و أمره أن يغرزه في جوف البئر (2)-و قيل: تمضمض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ مجّه في البئر-فجاش الماء حتى امتلأت البئر، فشربوا جميعا، وروت إبلهم، و لم ينفد ماؤها (3).

و قيل: لمّا ارتحلوا من الحديبية أخذ البراء السّهم من البئر، فخفضت كأن لم يكن فيها ماء.

فلمّا أطمأن صلّى اللّه عليه و آله بالحديبية، جاءه بديل بن ورقاء، و كان سيد قومه، فسأله ما الذي جاء به؟ فأخبره أنّه لم يأت يريد حربا، إنّما جاء زائرا للبيت، فلمّا رجع إلى قريش و أخبرهم بما قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يطمئنوا بقوله، ثمّ أرسلوا الحليس بن علقمة، و كان سيد الأحابيش، فلم يعتمدوا عليه أيضا، فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي عظيم الطائف، فلمّا قام بالخبر من عنده صلّى اللّه عليه و آله، و قد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يغسل يديه إلاّ ابتدروا وضوءه، و لا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، و لا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و لا يحدّون النظر إليه تعظيما له.

فقال: يا معشر قريش، إنّي جئت كسرى في ملكه، و قيصر في ملكه، و النجاشي في ملكه، ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمد في أصحابه، أخاف أن لا تنصروا عليه.

فقالت له قريش: لا تتكلّم بهذا يا أبا يعفور، لكن نردّه عامنا هذا، أو يرجع من قابل. فقال: ما أراكم إلا سيصيبكم قارعة، ثمّ انصرف هو و من معه إلى الطائف.

ثمّ دعا صلّى اللّه عليه و آله خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش، و حمله على بعير له، يقال له الثعلب، ليبلّغ اشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا جمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أرادوا قتل خراش، فمنعه الأحابيش، فخلّوا سبيله حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما لقي.

ثمّ دعا عمر بن الخطاب، و أمره أن يبلّغ أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول اللّه، إنّي أخاف قريشا على نفسي، و ما بمكّة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، و قد عرفت قريش عداوتي إياها و غلظتي عليها، و لكن أدلّك على رجل أعزّ بها منّي؛ عثمان بن عفان، فانّ بني عمّه يمنعونه.

فدعا عثمان، فبعثه إلى أشراف قريش، و أمره أن يأتي رجالا مسلمين بمكّة و نساء مسلمات، و يدخل عليهم و يخبرهم أنّ اللّه قرب أن يظهر دينه بمكّة حتى لا يستخفى فيها بالايمان، فخرج

ص: 611


1- . يقال: نزح البئر: قل ماؤها أو نفد.
2- . تفسير روح البيان 9:3.
3- . تفسير روح البيان 9:4.

عثمان إلى مكّة و معه عشرة رجال من الصحابة بإذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليزوروا أهاليهم هناك، فلقي عثمان قبل أن يدخل مكّة أبان بن سعيد، فأجاره حتى يبلّغ رسالته، و جعله بين يديه، فأتى عظماء قريش، فبلّغهم الرسالة، و هم يقولون: إنّ محمدا لا يدخل علينا أبدا.

فلمّا فرغ عثمان من الرسالة، قالوا له: إن شئت فطف بالبيت، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللّه. و كانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ عثمان و من معه قتلوا كلّهم، فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» فأمره اللّه بالبيعة، فنادى مناديه: أيّها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فاخرجوا على اسم اللّه، فثاروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو تحت شجرة من أشجار السّمر (1)، فبايعوه على عدم الفرار، و قالوا لها بيعة الرّضوان (2).

أقول: لعلّ وجه التسمية أنّ اللّه قال: لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ (3).

و أول من بايع سنان بن سنان الأسدي، فقال: يا رسول اللّه، ابايعك على ما في نفسك. قال: «و ما في نفسي؟» قال: أضرب بسيفي حتى ينصرك اللّه أو اقتل، و صار الناس يقولون: نبايعك على ما بايعك عليه سنان (4). و روي أن عثمان رجع بعد ثلاثة أيام، فبايع هو أيضا.

و كان محمد بن مسلمة على حرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبعثت قريش أربعين رجلا، عليهم مكرز بن حفص، ليطوفوا بعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلا، رجاء أن يصيبوا منهم أحدا، و يجدوا منهم غفلة، فأخذهم محمد بن مسلمة إلا مكرز فانّه أفلت، و أتى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحبسوا، فبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنّبل و الحجارة، و قتل من المسلمين ابن رسم رمي بسهم، فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا.

و عند ذلك بعثت قريش إلى رسول اللّه جمعا فيهم سهيل بن عمرو، فلمّا رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تفاءل، و قال لأصحابه: «سهل أمركم» فقال سهيل: يا محمد، إنّ ما كان من حبس أصحابك، و ما كان من قتال من قاتل، لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنّا كارهين له حين بلغنا، و كان من سفهائنا، فابعث إلينا أصحابنا الذين اسروا أولا و ثانيا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إني لا ارسلهم حتى ترسلوا أصحابي» فقالوا: نفعل فبعث سهيل و من معه إلى قريش بذلك، فبعثت قريش عثمان و العشرة، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابهم.

و لمّا سمعت قريش بهذه البيعة، كبرت عليهم، و خافوا أن يحاربوا، و أشار أهل الرأي منهم بالصّلح

ص: 612


1- . السّمر: ضرب من شجر الطّلح، واحدته سمرة.
2- . تفسير روح البيان 9:4.
3- . الفتح 48/18.
4- . تفسير روح البيان 9:5.

على أن يرجع و يعود من قابل، و يقيم ثلاثا، فبعثوا سهيلا و مكرز أو حويطب بن عبد العزّى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للصّلح، فلمّا رآه مقبلا قال: «أراد القوم الصّلح» فلمّا أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله الصّلح لم يرض بعض الأصحاب به، و قالوا: علام نعطي الدنية في ديننا، و نحن المسلمون، و هم مشركون؟ فأشار صلّى اللّه عليه و آله بالرضا و متابعة الرسول.

ثمّ دعا عليا عليه السّلام، فقال: «اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم» . فقال سهيل: لا نعرف هذه، و لكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها لأنّ قريشا كانت تقولها.

ثمّ قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك، و لم اصدّك عن البيت، و لكن اكتب اسمك و أسم أبيك. فقال صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: «امح رسول اللّه» . فقال علي عليه السّلام: «و اللّه لا أمحوك» . فقال: «أرنيه» فأراه إياه، فمحاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده الشريفة، و قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو» و قال: «أنا و اللّه رسول اللّه، و إن كذّبتموني» .

و كان الصّلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، و من أتى من قريش ممّن هو على دين محمد صلّى اللّه عليه و آله بغير إذن وليه ردّه إليه ذكرا كان أم انثى، و من أتى قريشا ممّن كان مع محمدا ذكرا كان أو انثى لم ترده إليه، و من أحبّ أن يدخل في عقد محمد صلّى اللّه عليه و آله و عهده دخل فيه، و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه، و أنّ بيننا و بينكم عيبة مكفوفة (1)، لا إسلال و لا إغلال (2)، و أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله يرجع عامة هذا، فلا يدخل مكّة، و إذا كان عام قابل خرج منها قريش و دخلها محمد بأصحابه، و أقاموا بها ثلاثة أيام معهم سلاك الراكب السيوف في القرب و القوس، لا يدخلونها بغيرهما.

فلمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الصّلح، و أشهد عليه رجالا من المسلمين، قام إلى هدية فنحره، و فرّق لحمه على الفقراء، فلمّا رأى المسلمون الصّلح و ما تحملّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، دخلهم من ذلك أمر عظيم، و كانوا لا يشكّون في دخولهم مكّة و طوافهم بالبيت ذلك العام للرؤيا التي رآها النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قال عمر: ألم تقل إنّك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟» قال المسلمون: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله: «فهو كما قال جبرئيل، إنّكم تأتونه و تطوفون به» (3).

و روي أنه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دخل في العام القابل، و حلق رأسه، قال: «هذا الذي وعدتكم» فلمّا كان يوم

ص: 613


1- . أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة. أو منطوية على الوفاء بالصلح.
2- . أي لا سرقة و لا خيانة.
3- . تفسير روح البيان 9:5.

الفتح و أخذ المفتاح قال: «هذا الذي قلت لكم» (1).

أقول: يعلم من تلك الرواية حال عمر و حال كثير من الأصحاب و حال بيعتهم هنا من فرار أكثرهم يوم حنين.

قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله أقام بالحديبية تسعة عشر أو عشرين يوما، ثمّ انصرف إلى المدينة، فلمّا بلغ بكراع الغميم (2)نزلت عليه سورة الفتح، قال بعض الصحابة: ما هو بفتح، لقد صدّونا عن البيت، و صدّوا هدينا، فلمّا بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلامهم السوء، قال صلّى اللّه عليه و آله: «بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح (3)عن بلادهم، و سألوكم الصّلح، و التجأوا إليكم في الأمان، و رأوا منكم ما كرهوا، و ظفركم اللّه عليهم، و ردّكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم احد، و أنا أدعوكم في اخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم؟ و إذ زاغت الأبصار، و بلغت القلوب الحناجر، و تظنّون باللّه الظنونا؟» .

فقال المسلمون: صدق اللّه و رسوله، هو أعظم الفتح، و اللّه يا نبي اللّه ما فكّرنا فيما فكّرت فيه، و لأنت أعلم باللّه و بأمره.

ثمّ أصاب الناس مجاعة شديدة، و همّوا أن ينحروا ظهورهم (4)، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ابسطوا أنطاعكم و عباءكم» ففعلوا ثمّ قال: «من كان عنده بقية من زاد و طعام فلينشره» ثمّ دعا لهم، ثمّ قال: «قرّبوا أوعيتكم» فأخذوا ما شاءوا، ملأوا أوعيتهم، و أكلوا حتى شبعوا؟ و بقي مثله، و قال صلّى اللّه عليه و آله لرجل من أصحابه: «هل من وضوء؟» (5)فجاءه بأداوة فيها ماء قليل، فأفرغها في قدح، و وضع راحلته الشريفة في ذلك الماء، فتوضأ المسلمون كلّهم به (6).

و روى القمي رحمه اللّه عن الصادق عليه السّلام، قال: «سبب نزول هذه السورة و هذا الفتح العظيم، أنّ اللّه عزّ و جلّ أمر رسوله في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف، و يحلق مع المحلّقين، فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا، فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن، و ساق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستة و ستين بدنة، و أشعرها عند إحرامه، أحرموا من ذي الحليفة ملبيّن بالعمرة، و قد ساق من ساق منهم الهدي مشعرات مجلّلات.

فلمّا بلغ قريشا ذلك، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا، ليستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان

ص: 614


1- . تفسير روح البيان 9:7.
2- . كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة و المدينة.
3- . البراح: الزوال و المغادرة.
4- . أي الدوابّ التي يركبونها أو تحمل أثقالهم.
5- . الوضوء-بالفتح-: الماء.
6- . تفسير روح البيان 9:6 و 7.

يعارضه على الجبال، فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر، فأذّن بلال، فصلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالناس، فقال خالد بن الوليد، لو حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم، فانّهم لا يقطعون صلاتهم، و لكن تجبيء لهم صلاة اخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بصلاة الخوف.

فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحديبية، و هي على طرف الحرم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستنفر الأعراب في طريقه معه، فلم يتبعه أحد، و يقولون: أيطمع محمد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنّه لا يرجع محمد و أصحابه إلى المدينة أبدا.

فلمّا نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحديبية، خرجت قريش يحلفون باللات و العزّى لا يدعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدخل مكّة و فيهم عين تطرف، فبعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنّي لم آت للحرب، و إنّما جئت لأقضي مناسكي، و أنحر بدني، و اخلّي بينكم و بين لحماتها.

فبعثوا عروة بن مسعود الثقفي، و كان عاقلا لبيبا، و هو الذي أنزل اللّه فيه: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فلمّا أقبلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عظّم ذلك، و قال: يا محمد، تركت قومك و قد ضربوا الأبنية، و أخرجوا العوذ المطافيل (1)، يحلفون باللات و العزّى لا يدعوك تدخل مكّة و فيهم عين تطرف، أفتريد أن تبير أهلك و قومك يا محمد؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما جئت للحرب، و إنّما جئت لاقضي مناسكي، و أنحر بدني، و أخلّي بينهم و بين لحماتها. فقال عروة: و اللّه ما رأيت أحدا صدّكما صددت.

فرجع إلى قريش، فأخبرهم، فقالت قريش: و اللّه لئن دخل محمد مكّة، و تسامعت به العرب، لنذلنّ و لتجترئنّ علينا العرب. فبعثوا حفص بن الأحنف و سهيل بن عمرو، فلمّا نظر إليهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ويح قريش، قد نهكتهم الحرب، ألا خلّوا بيني و بين العرب، فإن أك صادقا فانّما أجر الملك إليهم مع النبوة، و إن أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب، لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خطّة للّه فيها رضى (2)إلاّ أجبتهم إليه.

فلمّا وافوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قالوا: يا محمد، ألا ترجع عامك هذا إلى أن ننظر إلى ما يصير أمرك و أمر العرب، فانّ العرب تسامعت بمسيرك، فاذا دخلت بلادنا و حرمنا استذلّتنا العرب و اجترأت علينا، و نخلي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك و تنصرف عنّا.

ص: 615


1- . العوذ: الحديثة العهد بالنتاج من الابل و الخيل، و المطافيل: ذوات الطفل.
2- . في المصدر، و تفسير الصافي: سخط.

فأجابهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ذلك.

و قالوا: تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا، و نردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيهم، و لكن على أنّ المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الاسلام، و لا يكرهون، و لا ينكرون عليهم شيئا يفعلونه من شرائع الاسلام، فقبلوا ذلك.

فلمّا أجابهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الصّلح أنكر عامة أصحابه، و اشدّ ما كان إنكار عمر، فقال: يا رسول اللّه، ألسنا على الحقّ، و عدوّنا على الباطل؟ قال نعم. قال: فنعطى الذلّة في ديننا؟ فقال: إنّ اللّه عز و جل وعدني و لن يخلفني. قال: لو أنّ معي أربعين رجلا لخالفته.

و رجع سهيل بن عمر و حفص بن الأحنف إلى قريش، و أخبراهم بالصّلح، فقال عمر: يا رسول اللّه، ألم تقل لنا: إنّا ندخل المسجد و نحلق مع المحلّقين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أمن عامنا هذا وعدتك؟ قلت لك: إنّ اللّه عز و جل قد وعدني أن أفتح مكة و أطوف و أسعى و أحلق مع المحلّقين فلمّا أكثروا عليه قال لهم: إن لم تقبلوا الصّلح فحاربوهم، فمرّوا نحو قريش و هم مستعدون للحرب، و حملوا عليهم، فانهزم أصحاب رسول اللّه ثمّ قال: يا علي، خذ السيف و استقبل قريشا، و أخذ أمير المؤمنين عليه السّلام سيفه، و حمل على قريش، فلمّا نظروا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام تراجعوا، ثمّ قالوا: يا علي، بدا لمحمد فيما أعطانا. قال: لا.

و تراجع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستحيين، و أقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لستم أصحابي يوم بدر، و أنزل اللّه عز و جل فيكم إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ؟ (1)أ لستم أصحابي يوم احد إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ؟ (2)أ لستم أصحابي يوم كذا؟ فاعتذروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ندموا على ما كان منهم، و قالوا: اللّه أعلم و رسوله، فاصنع ما بدا لك.

و رجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالا: يا محمد، قد أجابت قريش إلى ما أشترطت من إظهار الإسلام، و أن لا يكره أحد على دينه. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمكتب (3)، و دعا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال له: اكتب، فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن، اكتب كما كان يكتب آباؤك: باسمك اللهمّ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اكتب باسمك اللهم، فانّه اسم من أسماء اللّه، ثمّ كتب: هذا ما تقاضى عليه محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الملأ من قريش. فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنّك رسول اللّه ما حاربناك، أكتب: هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد اللّه،

ص: 616


1- . الأنفال:8/9.
2- . آل عمران:3/153.
3- . المكتب: قطعة أثاث يجلس عليها للكتابة.

أتانف من نسبك يا محمد؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا رسول اللّه، و إن لم تقرّءوا. ثمّ قال: يا علي امح و اكتب: محمد بن عبد اللّه. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبدا، فمحاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده، ثمّ كتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه و الملأ من قريش، و سهيل بن عمرو، اصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين، و على أن يكفّ بعض من بعض، و على أنّه لا إسلال و لا إغلال، و أنّ بيننا و بينهم عيبة مكفوفة، و أن من أحبّ أن يدخل في عهد محمد و عقده فعل، و من أحبّ أن يدخل في عهد قريش و عقدها فعل، و أنه من أتى محمدا بغير إذن وليه ردّه إليه، و أنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم تردّه إليه، و أن يكون الاسلام ظاهرا بمكة، و لا يكره أحد على دينه، و لا يؤذى و لا يعيّر، و أنّ محمدا يرجع عنهم عامه هذا و أصحابه، ثمّ يدخل عليها في العام القابل مكّة، فيقيم فيها ثلاثة أيام، و لا يدخل عليها بسلاح إلاّ سلاح المسافر: السيوف في القرب. و كتب علي بن أبي طالب و شهد على الكتابة المهاجرون و الأنصار.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة، فو الذي بعثني بالحقّ نبيا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها و أنت مضيض (1)مضطهد، فلمّا كان يوم صفيّن و رضوا بالحكمين، كتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين على بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان. فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك، و لكن اكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب و معاويه بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: صدق اللّه و صدق رسوله، أخبرني رسول اللّه بذلك.

قال: فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة، فقالت: نحن في عهد محمد رسول اللّه و عقده، و قامت بنو بكر و قالت: نحن في عهد قريش و عقدها، و كتبوا نسختين: نسخة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نسخة عند سهيل بن عمر، و رجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انحروا بدنكم، و احلقوا رؤوسكم، فامتنعوا و قالوا: ننحر و نحلق و لم نطف بالبيت، و لم نسع بين الصفا و المروة؟ ! فاغتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك، و شكا ذلك عند امّ سلمة، فقالت: يا رسول اللّه، انحر أنت و احلق. فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حلق، فنحر القوم على حيث يقين و شكّ و ارتياب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعظيما للبدن: رحم اللّه المحلّقين. و قال: قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول اللّه، و المقصّرين؟ لأنّ من يسق هديا لم يجب عليه الحلق. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثانيا: رحم اللّه المحلّقين الذين لم يسوقوا البدن. فقالوا: يا رسول اللّه، و المقصّرين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: رحم اللّه المقصّرين.

ثمّ رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نحو المدينة، فرجع إلى التنعيم بمنزل تحت الشجرة، فجاء اصحابه الذين

ص: 617


1- . مضّ فلان من الشيء: ألم من وجع المصيبة، و أمضّه الشيء: بلغ من قلبه الحزن به، أي أحرقه و شقّ عليه.

انكروا عليه الصّلح، و اعتذروا و أظهروا الندامة على ما كان منهم، و سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستغفر لهم، فنزلت آية الرّضوان (1).

قال جمع من المفسرين: إنّ المراد بالفتح هو فتح الحديبية (2)، كما هو مدلول الروايتين السابقتين العامية و الصادقية.

و عن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم (3). و عن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوا الصّلح (4).

و عن الشّعبي: أنّ السورة نزلت بالحديبية، و أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تلك العزوة ما لم يصب في غزوة، حيث أصاب أن بويع بيعة الرّضوان، و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و بلغ الهدي محلّه، و ظهرت الروم على فارس، ففرح به المسلمون (3).

و عن مجاهد: أنّه ما حصل له في تلك السنة من فتح خيبر (4). و قيل: هو جميع الفتوحات التي حصلت له صلّى اللّه عليه و آله (5).

و قيل: هو ما فتح من الاسلام و النبوة و الدعوة بالحجّة و السيف، و لا فتح أبين و أعظم منه، و هو رأس الفتوح كافّة، إذ لا فتح من فتوح الاسلام إلاّ و هو شعبة من شعبه و فرع من فروعه (6).

و عن قتادة: أنّه بمعنى الحكم و القضاء، و المعنى أنّا قضينا لك أن تدخل مكّة من قابل (7). و الأظهر هو الأول، و قد أيّد بوجوه تعدّ من وجوه النّظم:

منها: أنّ فتح مكّة كان فيه غنائم كثيرة اضعاف ما أنفقوا، فكان مناسبا لما في آخر السورة السابقة وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ (8)لضياع تلك الغنائم الكثيرة عليه و حرمانه منها بسبب بخله عن الانفاق.

و منها: أنّه تعالى قال في السورة السابقة: فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ (9)يعني لا تسألوا الصّلح، بل اصبروا حتى يسأل المشركون منكم الصّلح و الأمان، كما كان في فتح مكّة حيث أنّ صناديد قريش جاءوا إلى المسلمين مؤمنين أو مستأمنين.

و منها: أنه تعالى قال في السورة السابقة: وَ اَللّهُ مَعَكُمْ و قال: وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ و يكون فتح مكّة

ص: 618


1- . تفسير القمي 2:309، تفسير الصافي 5:33.
2- . تفسير الرازي 28:77. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 8:103.
3- . تفسير أبي السعود 8:104.
4- . تفسير أبي السعود 8:103.
5- . تفسير أبي السعود 8:104.
6- . تفسير أبي السعود 8:104.
7- . تفسير أبي السعود 8:104.
8- . محمد صلّى اللّه عليه و آله:47/38.
9- . محمد صلّى اللّه عليه و آله:47/35.

شاهدا عليه.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ بيّن سبحانه غاية الفتح و فائدته المترتّبة عليه بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ يا محمد اَللّهُ العظيم القادر على كلّ شيء بسبب الفتح الذي فيه إعلاء كلمته و ترويج دينه بمكابدة مشاقّ الحروب و اقتحام موارد الخطوب ما تَقَدَّمَ على الفتح مِنْ ذَنْبِكَ و ما فرط منك من إقبالك إلى عالم الخلق و توجّهك إلى غيره لأداء وظيفة الرسالة، أو من تركك الأولى و الأفضل الذي هو ذنب في حقّك وَ ما تَأَخَّرَ منه.

لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (1) وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ نَصْراً عَزِيزاً (2)و قيل: إنّ المعنى ليعرف أنّ اللّه يغفر لك ذنوبك، فانّ الناس كانوا يعتقدون بعد عام الفيل أنّ اللّه لا يسلّط على مكة عدوّه المسخوط عليه، بل لا يفتحها و لا يسلّط عليها إلاّ حبيبه المغفور له (3).

و قيل: إنّ فتح مكّة لمّا صار سببا لتسهيل الحجّ عليه و على امّته، و يكون الحجّ سببا لغفران الذنوب، بيّن سبحانه أنّ الفتح سبب لغفران ذنوبك إن كان لك ذنب، حتى يعلم الناس ما في الحجّ من الثواب (2).

قيل: إنّه بعد ما ثبت عصمته لا بدّ من القول بكون المراد ذنب امّته، و خطابه من باب: إياك أعني و اسمعي يا جارة (3).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه السّلام: «ما كان له ذنب، و لا همّ بذنب، و لكن اللّه حملّه ذنوب شيعته، ثمّ غفرها له» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عنها. فقال: «و اللّه ما كان له ذنب، و لكن اللّه تعالى ضمن له أن يغفر ذنوب شيعته على ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخر» (5).

ثمّ بيّن سبحانه فائدته الاخرى بقوله: وَ يُتِمَّ و يكمل بفضله نِعْمَتَهُ التي أعظمها إعلاء كلمة الحقّ و ضمّ الملك و النبوة، أو إتمام التكاليف عَلَيْكَ فانّ جميع ذلك حصل بعد فتح مكّة وَ يَهْدِيَكَ في تبليغ الرسالة، و إقامة مراسم الرئاسة صِراطاً مُسْتَقِيماً.

ص: 619


1- . مجمع البيان 9:168، تفسير الرازي 28:78.
2- . تفسير الصافي 5:37.
3- . تفسير الرازي 28:78.
4- . تفسير القمي 2:314 مجمع البيان 9:168، تفسير الصافي 5:37.
5- . مجمع البيان 9:168، جوامع الجامع:452، تفسير الصافي 5:37.

قيل: إنّه حصل بعد فتح مكّة من اتّضاح سبيل الحقّ و استقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبله (1)

وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ يا محمد، بذلك الفتح العظيم، على أعدائك نَصْراً عَزِيزاً و قويا و منيعا، أو عزيزا صاحبه، أو نفيسا يقلّ مثله، و إنّما ذكر سبحانه الاسم الجليل لإظهار كمال العناية بذلك النصر، و لكونه خاتمة الغايات.

قيل: إنّه لم يبق بعد الفتح عدوّ يعتنى به، فانّ أغلب العرب صاروا مؤمنين أو مستأمنين (2).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بيّن سبحانه ما هو وسيلة نصره في الظاهر بقوله: هُوَ المتفضّل اَلَّذِي أَنْزَلَ برحمته و فضله اَلسَّكِينَةَ و الطّمأنينة.

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اَللّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)و عنهما عليهما السّلام: «هو الايمان» فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ (3)و جعل فيها بلطفه ثباتا و قرارا، لا تماجّ و لا تزلزل من مشاهدة شوكة العدوّ و قوته و كثرته لِيَزْدادُوا إِيماناً و يقينا بنصر اللّه، فكأنه صار إيمان مقرونا مَعَ إِيمانِهِمْ وَ يقين مضافا إلى يقينهم، أو المراد لينضمّ يقينهم بالأحكام الإلهية بيقينهم بالتوحيد و المعاد، أو يزداد إيمانهم بصدق الرسول على إيمانهم بالتوحيد، أو يزداد إيمانهم الاستدلالي بايمانهم الفطري، و الحال أن لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الملائكة و الجنّ و سائر الحيوانات، بل سائر الموجودات من المياه و الرياح و النار و الرعود و الصواعق و الزلازل و غيرها، فلا حاجة له في نصرة نبيه إلى المؤمنين، بل هو قادر على إهلاك أعدائه بإرادته من غير حاجة إلى الجنود من خلقه.

ثمّ بيّن علمه و إحاطته بالقلوب القابلة لنزول السكينة فيها، و مقدار إيمان المؤمنين و عدد جنوده من الموجودات بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بكلّ شيء ذاتا و قابلية و عددا و حَكِيماً في تقديره و تدبيره، يوجد كلّ شيء في محلّه، و يعامل مع كلّ شيء بما يستحقّه،

و إنّما أراد ازدياد الايمان في القلوب لِيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يوم القيامة بإزاء إيمانهم جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار

ص: 620


1- . تفسير أبي السعود 8:104، تفسير روح البيان 9:10.
2- . تفسير نور الثقلين 5:56.
3- . الكافي 2:12/1، و:13/4، تفسير الصافي 5:39.

كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، ليزداد صفاؤها و بهاؤها و طراوتها (1)وَ يُكَفِّرَ و يستر عَنْهُمْ في تلك الجنّات سَيِّئاتِهِمْ و خطاياهم و زلاّتهم، لئلا يذكرونها فينقص عيشهم الخجلة و الانفعال من ربّهم، و ان صارت مغفورة.

و قيل: يعني يستر عنهم فيها الأدناس الجسمانية كالفضلات، و النفسانية كالغضب و الكبر و الحسد و غيرها، و سترها بازالتها عنهم (2). أو المراد مغفرة ذنوبهم في الآخرة قبل دخول الجنة، و إنما قدّم دخولهم في الجنة على تكفير معاصيهم، مع أنّ وجودهما بالعكس للمسارعة إلى بيان الطلب الأعلى (3).

قيل: إنّ الجملتين متعلقان بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ بناء على أن المراد من ذنبه ذنب امّته، و المعنى ليغفر لك اللّه ذنب امّتك، ليدخل المؤمنين إلى آخره (4).

و قيل: إنّهما متعلّقان بقوله تعالى: وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ و المعنى لينصرك اللّه بالمؤمنين، ليدخل المؤمنين و المؤمنات (5)إلى آخره.

و احتمل تعلّقهما بقوله: إِنّا فَتَحْنا لَكَ حيث روي أنّ المؤمنين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله: هنيئا لك، إن اللّه غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخرن فما ذا لنا؟ فنزلت هذه الآية، و المعنى: فتحنا لك ليدخل المؤمنين (6).

و لا يخفى أنّ الكلّ في غاية البعد غير الأول، و الأبعد من الكلّ، ما قاله أبو السعود من تعلّقهما بما يدلّ عليه قوله: وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من معنى التصرّف و التدبير، و المعنى أنّه تعالى دبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة اللّه في ذلك و يشكروها، فيدخلهم الجنة، و يكفّر عنهم سيئاتهم (4).

وَ كانَ ذلِكَ المذكور من دخول الجنة، تكفير السيئات عِنْدَ اَللّهِ و في علمه فَوْزاً عَظِيماً و ظفرا كاملا بأعلى المقاصد.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 6

وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ اَلظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ اَلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6)

ص: 621


1- . لم يذكر المصنف تفسير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها.
2- . تفسير الرازي 28:83.
3- . تفسير روح البيان 9:14. (4و5و6) . تفسير الرازي 28:83.
4- . تفسير أبي السعود 8:105.

ثمّ بيّن سبحانه غاية اخرى لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين و ازدياد إيمانهم بقوله: وَ يُعَذِّبَ اللّه بسبب إنزال السّكينة في قلوبهم و ازدياد إيمانهم و قوّتهم و كثرتهم اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ من أهل المدينة وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكاتِ من أهل مكة اَلظّانِّينَ بِاللّهِ في حقّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به ظَنَّ اَلسَّوْءِ و الحسبان القبيح الفاسد، أو حسبان الأمر السوء و الفاسد، و هو ظنّهم و حسبانهم أنّ اللّه لا ينصر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، بما قدّمهم على المشركين، حيث حسبوا أنه لا ينصرهم، و أنّه لا يرجع أحد منهم إلى أهله أبدا، و لذا تخلّف عنه المنافقون الذين هم أسوأ حالا من المشركين، و أولى بالعذاب منهم، و لذا قدّمهم على المشركين في الذكر.

ثمّ أكذب اللّه ظنّهم، و قلب ما يظنّونه بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عليهم بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ في الدنيا، و حائق بهم ما يكرهونه من الفساد و الخذلان و الحرمان عن جميع المطالب. و قيل: إنّه دعاء عليهم (1)، كقوله: قاتَلَهُمُ اَللّهُ.

وَ غَضِبَ اَللّهُ في الدنيا و الآخرة عَلَيْهِمْ أشدّ الغضب وَ لَعَنَهُمْ و طردهم عن ساحة رحمته وَ أَعَدَّ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة جَهَنَّمَ يصلونها وَ ساءَتْ جهنّم مَصِيراً و مرجعا لهم، و في عطف اللعن و ما بعده بالواو مع اقتضاء كون اللّعن مسبّبا عن الغضب، و إعداد جهنّم لهم مسبّبا عن اللعن، عطفهما بإلفاء إشعار باستقلال كلّ من الثلاثة في الوعيد.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ إنه تعالى بعد بيان قدرته على نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بكون جنود السماوات و الأرض له، بيّن قدرته على تعذيب المنافقين و المشركين في الدنيا و الآخرة بقوله: وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ.

وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8)قيل: إنّ المراد بالجنود في الآية الاولى جنود الرحمة، و لذا وصف ذاته المقدّسة بالعلم باستحقاق النفوس الزكية، بالحكمة البالغة، و المراد منها في الآية جنود العذاب، و لذا وصف ذاته بالعزّة و الحكمة (2).

وَ كانَ اَللّهُ أزلا و أبدا عَزِيزاً و قديرا على كلّ شيء و حَكِيماً في افعاله، لا يعذّب أحدا إلاّ باستحقاقه، و لا يفعل شيئا إلاّ على مقتضى الحكمة و الصواب، فانّ عادته تعالى توصيف ذاته

ص: 622


1- . تفسير روح البيان 9:15.
2- . تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:16.

بالعزّة في مقام ذكر العذاب و الانتقام.

روي أنّ عبد اللّه بن أبي بن أبي سلول، قال: هب أنّ محمدا هزم اليهود و غلب عليهم، فكيف استطاعته بفارس و الروم؟ فقال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و هم أكثر عددا و أقوى من فارس و الروم (1).

ثمّ إنّه تعالى بعد بشارة رسوله صلّى اللّه عليه و آله بالفتح، بيّن مناصبة الجليلة الموجبة لغاية الإلطاف بقوله: إِنّا أَرْسَلْناكَ يا محمد، و بعثناك على أمّتك لتكون شاهِداً على تصديق من صدّقك، و تكذيب من كذّبك و عصى من أمّتك يوم القيامة، أو شاهدا بين الناس على وحدانية اللّه كما في آية شَهِدَ اَللّهُ (2)وَ مُبَشِّراً للمؤمنين المطيعين بالثواب وَ نَذِيراً للكفّار و العاصين بالعذاب.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى الناس، و بيّن غاية الإرسال و التبشير بقوله: لِتُؤْمِنُوا أيّها الناس بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ الذي أرسله إليكم، و تنصروا اللّه وَ تُعَزِّرُوهُ و تقوّوه بتقوية رسوله و نصرة دينه وَ تُوَقِّرُوهُ و تعظّموه بإطاعة أوامره و السجود له وَ تُسَبِّحُوهُ و تنزّهوه من كلّ ما لا يليق به بقوله سبحان اللّه بُكْرَةً و صباحا وَ أَصِيلاً و مساء و غدوّا و عشيا.

لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)قيل: إنّما خصّ سبحانه الوقتين بالتسبيح، لشرافتهما، و لظهور آثار القدرة فيهما، و لذا ورد عن الأئمّة الأطهار عليه السّلام تأكّد استحباب التسبيح قبل طلوع الشمس و قبل غروبها (3).

و قيل: لما كان المشركون يجتمعون لعبادة الأصنام في الكعبة في الوقتين، أمر اللّه عباده بخلاف ما كان عليه المشركون (4).

و عن ابن عباس: اريد من التسبيح بكرة صلاة الفجر، و بالأصيل صلاة الظهر و العصر (5).

و قيل: اريد بالبكرة صلاة الفجر، و بالأصيل بقية الصلاة (6).

و قيل: إنّ ذكر الوقتين كناية عن الدوام (7).

ص: 623


1- . تفسير روح البيان 9:16.
2- . آل عمران:3/18.
3- . وسائل الشيعة 7: باب 25 و 47.
4- . تفسير الرازي 28:86.
5- . تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:18.
6- . تفسير روح البيان 9:18.
7- . تفسير الرازي 28:86، تفسير روح البيان 9:18.

و قيل: إنّ الضمائر كلّها راجعة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ليس بشيء (1).

ثمّ لمّا أعلن سبحانه برسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله بيّن أنّ يده بمنزلة يده، و بيعته بمنزلة بيعته بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ و يعاهدون معك يا محمد على اتّباعك و طاعتك، و تفدية أنفسهم دونك إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ لأنّك نائبة و مظهره، و قصدك من أخذ بيعتهم أخذ بيعتهم للّه على طاعته و الجهاد في سبيله، فيدك حين البيعة فوق أيديهم، كأنّها يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ و فيه غاية التعظيم ليد الرسول.

عن ابن عباس: يعني يد اللّه بالثواب، و ما وعدهم على بيعتهم من الجزاء، فوق أيديهم بالتصديق و الوفاء (2).

و قيل: يعني قوّة اللّه في نصرة نبيه صلّى اللّه عليه و آله فوق نصرتهم إيّاه، و المراد ثق بنصرة اللّه لا بنصرتهم و إن بايعوك (3).

و قيل: يعني نعمة اللّه عليهم بنبيه صلّى اللّه عليه و آله فوق أيديهم بالطاعة بالمبايعة (4).

و قيل: إنّه كناية عن حفظ اللّه تلك البيعة، فانّ العرب كانوا إذا تصافقوا للبيع وضع ثالث يده على أيدي المتبايعين، و يحفظ يديهما إلى أن يتمّ العقد لا يترك احدهما ان يقبض يده إلى نفسه و يفارق صاحبه قبل اتمام البيع (5).

ثمّ هدّد سبحانه ناقضين العهد و البيعة بقوله: فَمَنْ نَكَثَ البيعة، و نقض عهده مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أعرض عن طاعته و اتّباعه و فرض الجهاد معه فَإِنَّما يَنْكُثُ بيعته و ينقض عهده، و كان ضرره عَلى نَفْسِهِ لا يتخطّاه إلى غيره وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللّهَ من الطاعة و ضرب السيوف بين يدي نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حتى يظهره اللّه على عدوّه أو يقتلوا، و استقام عليه و ثبت فَسَيُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يقادر قدره.

قيل: أبقى ضمّ هاء (عليه) توسّلا إلى تفخيم لام الجلالة (3).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 11

ثمّ لمّا ذكر سبحانه وجوب الثبات على بيعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و حرمة ظنّ السوء باللّه تعالى، ذكر نقض

سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)

ص: 624


1- . تفسير روح البيان 9:18.
2- . مجمع البيان 9:172. (3و4و5) . تفسير روح البيان 9:20.
3- . تفسير روح البيان 9:21.

المنافقين بيعته و ظنّهم السوء باللّه بقوله: سَيَقُولُ لَكَ المنافقون اَلْمُخَلَّفُونَ و المتقاعدون عن الخروج مع النبي صلّى اللّه عليه و آله مِنَ اَلْأَعْرابِ قيل: هم أسلم (1). و قيل: جهنية و مزينة و غفّار، فانّهم استنفرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية فتخلّفوا، و اعتلّوا بعد مراجعة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و اعتذروا بأنّا (2)شَغَلَتْنا و منعتنا عن متابعتك في سفرك أَمْوالُنا التي تكون بأيدينا، فانّا لو كنّا خرجنا معك تلفت و تشتّت و فاتت عنّا منافعها، و كذا منعتنا عيالاتنا وَ أَهْلُونا عن الخروج، فانّه لم يكن لنا من يخلفنا فيهم، و يقوم بامورهم و مصالحهم، و يحميهم عن الضياع و الهلاك، مع أنّ حفظهم أهمّ الامور، و إن كان في القعود عنك ذنب و تقصير منّا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ربّنا ليغفر لنا ذلك الذنب و التقصير.

ثمّ كذّب سبحانه اعتذارهم، و طلب استغفارهم بقوله: يَقُولُونَ لك بِأَلْسِنَتِهِمْ و أفواههم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من الايمان و العذر و النّدم، بل ما أقعدهم إلاّ الشكّ و النفاق و سوء الظنّ باللّه، حيث كانوا يقولون: إنّ قريش كانوا يقاتلون عن باب المدينة، فكيف حالهم إذا دخل المسلمون في بلادهم. ثمّ أمر اللّه رسوله بإبطال عذرهم بقوله: قُلْ يا محمد لهم، إن كنتم تخلّفتم لحفظ أموالكم و أهليكم فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ و يقدّر لأجلكم مِنَ مشيئة اَللّهِ و قضائه شَيْئاً يسيرا من النفع إِنْ أَرادَ اللّه ان يحل بِكُمْ ضَرًّا من هلاك الأهل و المال و ضياعهما حتى تتخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لحفظهما و دفع الضرر الوارد عليكم بتلفهما أَوْ من يقدر على إضراركم إن أَرادَ اللّه أن يوصل بِكُمْ نَفْعاً من حفظ أموالكم و أهليكم، فاذا كان الضرر و النفع بارادة اللّه و مشيئته، فلا ينفع القعود عن متابعة النبي صلّى اللّه عليه و آله في حفظ أموالكم و أهليكم من الضّياع، و لا يؤثر خروجكم في هلاكهما، ليس الأمر كما تقولون بَلْ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال التي من جملتها تخلّفكم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله خَبِيراً و بصيرا.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ أخبر سبحانه بما في قلوبهم بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ و توهّمتم أيّها المتخلّفون لعدم إيمانكم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ و لن يرجع اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ به الذين اتّبعوه في الخروج إلى مكّة إِلى أَهْلِيهِمْ و عشائرهم الذين كانوا في المدينة أَبَداً و أصلا، و تخيّلتم إن كنتم معهم أن يصيبكم مثل ما

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)

ص: 625


1- . تفسير البيضاوي 2:408، تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:26.
2- . تفسير البيضاوي 2:408، تفسير أبي السعود 8:106، تفسير روح البيان 9:26.

يصيبهم وَ زُيِّنَ من قبل الشيطان ذلِكَ الظنّ و التوهّم فِي قُلُوبِكُمْ حتى قطعتم به.

ثمّ قبح سبحانه ذلك الظنّ بقوله: وَ ظَنَنْتُمْ أيّها المخلّفون ظَنَّ اَلسَّوْءِ و توهّمتم التوهّم القبيح الفاسد وَ كُنْتُمْ بذلك الظنّ، و صرتم بهذا التوهّم قَوْماً بُوراً و جمعا هالكين.

و قيل: إنّه بيان لعلّة ظنّهم، و هي كونهم في الأصل قوما هالكين فاسدين مستوجبين سخط اللّه و عقابه (1)، لخبث ذواتهم و نيّاتهم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بعذاب الآخرة بقوله: وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ إيمانا خالصا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ عن صميم القلب، سواء أظهر الكفر كالمشركين، أو أظهر الايمان كالمنافقين، فهو كافر فَإِنّا أَعْتَدْنا و هيّأنا لِلْكافِرِينَ مطلقا في الآخرة سَعِيراً و نارا ملتهبة لا يدرك أحد في الدنيا شدّة حرّها.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ إنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بالمغفرة و الجنّة، و وعيد المنافقين و المشركين بالعذاب، نبّه على سعة قدرته تهويلا للقلوب بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السّلطنة المطلقة التامة في عالم الوجود بحيث يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فهو تعالى يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذّبه بمقتضى عدله و حكمته، بلا دخل لأحد في شيء منهما إيجادا و إعداما.

وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً (15)ثمّ أعلن سبحانه بسعة رحمته، لترغيب الناس إلى التوبة و الرجوع إليه بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لذنوب التائبين رَحِيماً بمن آمن و أصلح.

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا تمّ صلح الحديبية أخبر أصحابه بفتح خيبر، و اختصاص غنائمه بالحاضرين في الحديبية من المؤمنين (2).

ثمّ رجع صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه إلى المدينة في ذي الحجّة سنة ستّ، و أقام بها بقية الشهر من سنة سبع، ثمّ عزم في محرم سنة سبع على الخروج إلى خيبر، فاستدعى المنافقون أن يخرجوا مع المؤمنين، فأكذب سبحانه اعتذارهم عن الخروج إلى مكّة بقوله: سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ المذكورون لكم: ايّها

ص: 626


1- . تفسير أبي السعود 8:107، تفسير روح البيان 9:28.
2- . تفسير أبي السعود 8:108، تفسير روح البيان 9:29.

النبي و المؤمنون إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ و حين ذهبتم إِلى مَغانِمَ خيبر لِتَأْخُذُوها و تحوزوها ذَرُونا و اتركونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر و نشهد معكم قتال أهلها، فانّهم إن كانوا حين خروجكم إلى مكّة صادقين في اعتذارهم باشتغالهم بحفظ أموالهم و أهليهم، فما بالهم يسألونكم ذلك مع بقاء عذرهم اليوم أيضا، فظهر أنّهم كانوا كاذبين في اعتذارهم بعد رجوعكم من مكة، و ليس غرضهم من سؤالهم ذلك أن يعينوكم في الجهاد مع الكفّار بل يُرِيدُونَ أَنْ يشاركوكم في الغنائم و يُبَدِّلُوا و يغيّروا كَلامَ اَللّهِ و وعده باختصاص غنائم خيبر بأهل الحديبية، كما عن ابن عباس (1). أو أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن لا يكون معه إلاّ أهل الحديبية (2)، أو قوله تعالى: غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ و أنّه يعاقبهم، فانّهم لو اتّبعوهم كانوا ممّن رضى اللّه عنه.

فأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأنّ ينهاهم عن الخروج معه بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لَنْ تَتَّبِعُونا و لا تكونون معنا في سفرنا إلى خيبر كَذلِكُمْ القول الذي قلت لكم قالَ اَللّهُ مِنْ قَبْلُ عند انصرافي من الحديبية فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي: ليس ذلك النهي حكم اللّه بَلْ أنتم تَحْسُدُونَنا و تريدون منعنا من هذه النعمة التي نستحقّها.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ ردّ اللّه عليهم كما ردّوا على المؤمنين بقوله: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ و لا يفهمون إِلاّ قَلِيلاً و هو ظاهر النهي لا حكمته و واقعه، فلذا حملوه على ما أرادوا، و علّلوه بالحسد، أو إلاّ فهما قليلا،

و هو فطنتهم لامور الدنيا دون امور الدين قُلْ يا محمد لِلْمُخَلَّفِينَ عن متابعتك عند الخروج إلى مكّة مِنَ اَلْأَعْرابِ المنافقين الذين سألوا الإذن في متابعتك إلى خيبر، و إنّما ذكر الوصف مقام الضمير إيذانا بغاية ذمّهم و شناعة تخلّفهم: إن كنتم تشتاقون إلى الجهاد في سبيل اللّه، فاعلموا أنّكم سَتُدْعَوْنَ من قبلي إِلى جهاد قَوْمٍ من الكفّار أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ و ذوي قوّة و نجدة و شهامة في الحرب. قيل: هم قبيلة هوازن و ثقيف (3). و قيل: هم بنو حنيفة، كانوا من أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذّاب (4)، فانّه كان أوّل غزوهم في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إن طال إلى زمان أبي بكر.

سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)

ص: 627


1- . مجمع البيان 9:174.
2- . مجمع البيان 9:174.
3- . مجمع البيان 9:176، تفسير الصافي 5:41، تفسير روح البيان 9:31.
4- . تفسير أبي السعود 8:109، تفسير روح البيان 9:30.

في ردّ استدلال

بعض العامة على

إمامة أبي بكر

ثمّ كأنه قيل: لماذا ندعى، فأجاب سبحانه بقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ لا يكون إلاّ أحد الأمرين، إمّا المقاتلة، و إمّا الاسلام فَإِنْ تُطِيعُوا أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و تجيبوا دعوته يُؤْتِكُمُ اَللّهُ على طاعتكم أَجْراً حَسَناً في الدنيا و هو الغنيمة و حسن الذّكر، و في الآخرة و هو الجنّة و نعمها وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن إجابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و تعرضوا عن إطاعته كَما تَوَلَّيْتُمْ عن دعوته و تخلّفتم عن الخروج معه مِنْ قَبْلُ في الحديبية كفرا و نفاقا يُعَذِّبْكُمْ اللّه عَذاباً أَلِيماً في الدنيا بالخزي و الحرمان من كلّ خير، و في الآخرة بالنار، فجعل اللّه لصدقهم في الايمان و دعوى الخلوص علامة، و هي إجابة دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الجهاد، لا دعوة غيره كأبي بكر كما ادّعاه بعض العامة، فاستدلال بعضهم بالآية على إمامة أبي بكر بتقريب أنّ اللّه وعد الأجر الحسن على إطاعة دعوة الداعي إلى الجهاد قوم أولي بأس، و كان الداعي إليه أبو بكر، فكانت إطاعته واجبة، في غاية الوهن و الفساد (1).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 17 الی 19

ثمّ إنّه تعالى بعد إيجاب إجابته دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الجهاد، رخّص للمعذورين التخلّف بقوله:

لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ و إثم في التخلّف عن الجهاد وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ و من برجله شلل حَرَجٌ و ضيق و إثم وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ الذي يكون به الضّعف عن القتال حَرَجٌ و إثم لعجز الفرق الثلاث عن الكرّ و الفرّ في القتال وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أوامرهما و نواهيهما يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة جَنّاتٍ ذات قصور و أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة وَ مَنْ يَتَوَلَّ عن طاعة أحكامهما، و يعصي أوامرهما يُعَذِّبْهُ اللّه في الآخرة عَذاباً أَلِيماً لا يمكن وصفه إلاّ بنهاية الإيلام.

ثمّ لمّا ذكر اللّه غضبه على الكفّار و المنافقين، أعلن برضاه عن المؤمنين المخلصين بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ و شملتهم الرحمة الخاصّة إِذْ يُبايِعُونَكَ و حين يعاهدونك على

ص: 628


1- . تفسير روح البيان 9:31.

طاعتك، و جهاد أعدائك (1)، و الضرب بالسيف دونك حتى يظهرك اللّه على عدوّك تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ المعهودة. قيل: هي شجرة السّدر (2). و قيل: هي شجرة سمرة، و هي أم غيلان (3). روى بعض العامة: أنّ عمر قطعها (4)، و هو من مطاعنه.

فَعَلِمَ اللّه ما فِي قُلُوبِهِمْ من الصدق و الاخلاص حين مبايعتهم، فصارت هذه البيعة المقرونة بعلم اللّه بصدقهم سببا لرضا ربّهم عنهم فَأَنْزَلَ اللّه اَلسَّكِينَةَ و الطمأنينة بالنصر و الثبات على الايمان عَلَيْهِمْ بتقوية إيمانهم حتى بايعوك على الموت.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا أول من بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت الشجرة» (5).

وَ أَثابَهُمْ اللّه و جازاهم على بيعتهم عن الصدق و الاخلاص فَتْحاً قَرِيباً و هو فتح خيبر الذي حصل لهم بعد انصرافهم من الحديبية

وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً من اليهود يَأْخُذُونَها و يحوزونها عوض ما فات منهم من غنائم مكّة وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً كامل القدرة لا يحتاج إلى إعانتكم إياه حَكِيماً حيث جعل إذلالكم أعداءكم بأيديكم لتفوز و بالثواب، و تنالوا عزّ الدنيا و الآخرة.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 20

ثمّ لمّا كانت العرب كثيرة الطمع في الغنيمة، و كان مجال توهّم أن لا تكون لهم إلاّ غنيمة خيبر، دفع اللّه سبحانه هذا التوهّم مخاطبا لهم بقوله: وَعَدَكُمُ اَللّهُ أيّها المسلمون مضافا إلى غنيمة خيبر مَغانِمَ اخرى كَثِيرَةً من العرب كهوازن و ثقيف تَأْخُذُونَها و تحوزونها في أوقاتها المقدّرة لكلّ منها فَعَجَّلَ اللّه لَكُمْ يا أهل الحديبية هذِهِ الغنائم التي تأخذونها من أهل خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّاسِ عَنْكُمْ و منعهم مع كثرتهم من قتالكم إتماما للمنّة عليكم، لتطيب بهذه الغنيمة الباردة نفوسكم من غير مسّ مرّ القتال، لئلا تقولوا إنّ هذه الغنيمة فائدة قتالنا و تعبنا.

وَعَدَكُمُ اَللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)و قيل: إنّ المراد كفّ أيدي قبائل أسد و غطفان أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بعد خروجهم إلى خيبر بالقاء الرّعب في قلوبهم (6).

وَ لِتَكُونَ هذه الغنيمة آيَةً و علامة لِلْمُؤْمِنِينَ كافة، يعرفون بها صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله في وعده إياهم بخير الدنيا و الآخرة، كما صدق وعده إياكم بفتح خيبر و غنائمه وَ يَهْدِيَكُمْ بلطفه

ص: 629


1- . في النسخة: و الجهاد مع أعدائك.
2- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:33.
3- . تفسير روح البيان 9:33.
4- . تفسير روح البيان 9:34.
5- . تفسير القمي 2:268، تفسير الصافي 5:42.
6- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:35.

صِراطاً مُسْتَقِيماً و طريقا موصلا إلى قربه و مرضاته، و هو التوكّل عليه و التفويض إليه.

في كيفية غزوة

خيبر و فتحها

قيل: إنّ خيبر اسم حصن معروف سمي باسم رجل من العماليق نزلها، و كان أخا يثرب الذي سميّت المدينة الطيبة باسمه (1).

و قيل: إنّ خيبر بلسان اليهود هو الحصن، و كانت مدينة كبيرة بينها و بين المدينة اثنان و ثلاثون فرسخا، و فيها حصون و مزارع و نخل كثير.

ثمّ رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الحديبية إلى المدينة فأقام بها قريبا من الشهر، ثمّ استنفر من حوله ممّن شهد الحديبية، و أمر مناديا ينادي: لا يخرج الضعيف، و لا من له مركب صعب، فخالف واحد من الصحابة، فنفر مركوبه فصرعه فكسر فخذه فمات، و جاء المخلّفون عنه في الخروج إلى الحديبية، فسألوا الإذن في الخروج معه رجاء الغنيمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أمّا الغنيمة فلا، و أخرج معه من نسائه امّ سلمة، فلمّا أشرف على خيبر، و كان وقت الصبح، رأى عمّالها و قد خرجوا بمساحيهم و قففهم، قالوا: محمد و جيشه العظيم! و أدبروا هربا إلى حصونهم، و كان بها عشرة آلاف مقاتل (2). و قيل: سبعون ألفا، و معهم حلفاؤهم من بني أسد و غطفان، فقذف اللّه في قلوبهم الرّعب (3).

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اللّه أكبر، خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم، و ابتدأ من حصونهم بحصون النطاة، و أمر بقطع نخلها، فقطعوا أربعمائة نخلة، ثمّ نهاهم عن القطع، فمكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة، فلم يرجع من أعطى له الراية بفتح، ثمّ قال: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبانه، يفتح اللّه على يديه» فتطاول لها أبو بكر و عمر و بعض الصحابة من قريش، فدعا عليا عليه السّلام و به رمد، فتفل في عينيه، ثم أعطاه الراية، و كانت بيضاء مكتوب فيها لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه، بالسواد. فقال علي عليه السّلام: «على ما اقاتلهم يا رسول اللّه؟» قال: «على أن يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه، فاذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم و أموالهم» .

و ألبسه صلّى اللّه عليه و آله درعه الحديد، و شدّ سيفه ذا الفقار في وسطه، و وجّهه إلى الحصن، و قال: «لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم [أي من الابل النفيسة التي]تصّدّق بها في سبيل اللّه» .

فخرج علي عليه السّلام بالراية يهرول حتى ركزها تحت حصن الحارث أخي مرحب، و كان معروفا بالشجاعة، فتضاربا فقلته علي عليه السّلام، و انهزم اليهود إلى الحصن، ثمّ خرج إليه مرحب سيد اليهود، و هو

ص: 630


1- . تفسير روح البيان 9:36.
2- . تفسير روح البيان 9:36.
3- . تفسير روح البيان 9:35.

يرتجز و يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب *** شاكي السلاح البطل المجرّب

و ارتجز علي عليه السّلام، و قال:

أنا الذي سمّتني امّي حيدرة *** ضرغام آجام و ليث قسورة

فضرب عليا عليه السّلام فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ عليه السّلام بابا كان عند الحصن، فتترّس به عن نفسه، فلم يزل يقاتل و هو في يده حتى قتل مرحبا، و فتح اللّه عليه الحصن، و هو حصن ناعم من حصون النطاة، و ألقى الباب من وراء ظهره ثمانين شبرا.

ثمّ انتقل النبي صلّى اللّه عليه و آله من حصن ناعم إلى حصن العصب من حصون النطاة، فاقاموا على محاصرته يومين حتى فتحه اللّه، و ما بخيبر حصن أكثر طعاما منه، كالشعير و السّمن و التمر و الزيت و الشحم و الماشية و المتاع.

ثمّ انتقلوا إلى حصن قلة، و هو حصن منيع، آخر حصون النطاة، فقطعوا عنهم ماءهم، ففتحه اللّه. ثمّ سار المسلمون إلى حصار الشق، ففتحوا الحصن الأول من حصونه، ثمّ حاصروا حصن البراء و هو الحصن الثاني من حصون الشق، فقاتلوا قتالا شديدا حتى فتحه اللّه.

ثمّ حاصروا حصون الكتيبة، و هي ثلاثة حصون: القموص، و الوطيح، و سلالم، و كان أعظم حصون خيبر القموص، و كان منيعا، فحاصره المسلمون عشرين ليلة، ثمّ فتحه اللّه على يد علي عليه السّلام، و منه سبيت صفية، و أنتهت المسلمون إلى حصار الوطيح و سلالم آخر حصون خيبر، و مكثوا على حصارهما أربعة عشر يوما، فهذان الحصنان فتحا صلحا، لأنّ أهلهما لمّا أيقنوا بالهلاك سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الصلح على حقن دماء المقاتلة، و ترك الذّرية لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم، و أن لا يصحب أحد منهم إلاّ ثوبا واحدا على ظهره، فصالحهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و وجدوا في الحصنين المذكورين مائة درع، و أربعمائة سيف، و ألف رمح، و خمسمائة قوس عربية بجعابها، و أشياء اخر غاليه القيمة.

في بيان قضية

فدك

ثمّ أرسل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى أهل فدك-و هي قرية بخيبر-يدعوهم إلى الاسلام و يخوّفهم، فتصالحوا معه على أن يحقن دماءهم و يخلّيهم و يخلّون بينه و بين الأموال، ففعل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصارت فدك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه لم توخذ بمقاتلة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينفق منها، و يعود منها على صغار بني هاشم، و يزوج منها أيمهم، فلمّا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ولي أبو بكر الخلافة أرسل إلى فدك و تصرّفها، و سألته فاطمة أن يجعل فدك

ص: 631

لها فأبى، و روى لها أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (1).

أقول: ليت شعري كيف يمكن أن يخفي الرسول صلّى اللّه عليه و آله هذا الحكم عن ابنته فاطمة المعصومة التي أذهب اللّه عنها الرجس و طهّرها تطهيرا، مع أنّه متعلّق بها، حتى تطلب ما ليس لها فيه حقّ، و تفتضح بين الأصحاب بجهلها بتكليف نفسها، و تتوّقع ملكا يحرم عليها تصرّفها فيه، و عن علي بن أبي طالب عليه السّلام الذي هو عيبة علمه، و باب حكمته، و عن سائر الصحابة الذين هم شعاره و دثاره و أسرّه إلى أبي بكر مع كونه جاهلا بأغلب الأحكام؟ ! و أيّ عاقل يحتمل مع ذلك صدق هذه الرواية؟

ثمّ إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر بالغنائم التي غنمت قبل الصّلح فجمعت، و أصاب منها سبايا منها صفية بنت حيي بن أخطب، من سبط هارون أخي موسى بن عمران، فأسلمت ثمّ أعتقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ تزوّجها، و كانت رأت في المنام أنّ القمر وقع في حجرها، فعبّرت بذلك، و نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن إتيان الحبالى و عن غير الحبالى حتى تستبرئ بحيضة.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 21 الی 23

ثمّ وعد سبحانه المسلمين بغنائم غير تلك الغنيمة بقوله: وَ أُخْرى من الغنائم و غير ما ذكرنا لَمْ تَقْدِرُوا في حال كفركم، أو قبل فتح مكة عَلَيْها و لكن قَدْ أَحاطَ اَللّهُ بِها و قدر عليها أو حفظها لكم، و هي كما عن ابن عباس غنائم قسطنطينية و رومية و عمورية و مدائن فارس و الروم و الشام (2).

وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اَللّهُ بِها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَ لَوْ قاتَلَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا اَلْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّهِ تَبْدِيلاً (23)و إنّما لم يقيّد غنائم العرب بعدم قدرتهم عليها؛ لأنّ الغلبة و الغارة على العرب كانت عادتهم القديمة، و لم تكن منهم ببعيد، و أما الاغتنام من الروم و فارس فكان في غاية البعد منهم؛ لأنّ العرب كانت في ذلك الزمان من أذلّ الطوائف و اضعفهم على وجه الأرض، و كان كلّ من الروم و الفرس في غاية القوة و الشوكة، و كانت غلبة العرب عليهم من المحالات العادية (3)، و لذا وصف سبحانه الغنيمة

ص: 632


1- . تفسير روح البيان 9:37.
2- . تفسير روح البيان 9:41.
3- . هذا الاستنتاج غير صحيح، لأنه يقوم على تعليق عدم القدرة في زمان الجاهلية، و ليس هو مراد الآية باتفاق أغلب المفسرين الذين قالوا: إنّ المراد بالغنائم التي لم يقدروا عليها، هي غنائم هوازن، فانّهم لم يقدروا عليها إلى عام الحديبية، و إنّما قدروا عليها عقيب فتح مكّة. كالرازي في تفسيره 28:97، و أبي السعود في تفسيره 8:110، و البروسوي في روح البيان 9:40، و الزمخشري في الكشاف 4:341 و غيرهم. أمّا قوله: (أذلّ الطوائف و أضعفهم على وجه الأرض) فلم يقل به أحد من المفسرين أو المؤرخين، و ليس له ما يؤيده من أدلة الشريعة، بل الواقع التاريخي يناقضه و يعارضه، لأنه يثبت بسالتهم و نجدتهم و شدّة بأسهم و إقدامهم، و أنفتهم من الذلّ و الصغار. و قوله: (من المحالات العادية) غير صحيح، لأن التاريخ يحدثنا عن انتصار قبيلة واحدة، و هي ربيعة، على جيش الفرس الذي أنفذه كسرى لحربهم، في وقعة ذي قار، التي حصلوا فيها على غنائم و فيرة، فضلا عمن قتلوا و أسروا من قادة جيشهم و مقاتليهم، و ذلك في أيام جاهليتهم. راجع الكامل في التاريخ 1:482-490، و تاريخ الطبري 2: 193-212.

منهم بكونها غير مقدورة للمسلمين.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بالقدرة الكاملة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بذاته أزلا و أبدا عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الممكنات قَدِيراً.

و قيل: إنّ المراد من (مَغانِمَ كَثِيرَةً) في الآية السابقة جميع الغنائم التي تحصل للمسلمين إلى يوم القيامة (1)، و من الغنيمة الاخرى غنيمة هوازن (2)، و الأظهر ما ذكرنا.

ثمّ أكّد سبحانه نصرته للمؤمنين بإدخال الرّعب في قلوب الكفّار من غير حاجة إلى بيعة المؤمنين و نصرتهم بقوله: وَ لَوْ قاتَلَكُمُ أيّها المؤمنون اَلَّذِينَ كَفَرُوا جميعهم، أو من أهل مكّة، أو حلفاء أهل خيبر من بني أسد و غطفان لَوَلَّوُا اَلْأَدْبارَ و انهزموا من قتالكم رعبا منكم ثُمَّ لا يَجِدُونَ بعد التولّي لهم وَلِيًّا و صديقا يحرسهم من الهلاك باللّطف وَ لا نَصِيراً و معينا يدفع عنهم بالعنف.

ثمّ أعلم أنّ دفع الكفّار عن المؤمنين و نصرة المؤمنين على الكفّار ليس مختصّا بكم، بل يكون سُنَّةَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ و مضت في الامم السابقة و الأنبياء الماضية مِنْ قَبْلُ و من بدو الدنيا إلى فنائها وَ لَنْ تَجِدَ يا محمد لِسُنَّةِ اَللّهِ و عادته الجارية القديمة تَبْدِيلاً و تغييرا، فلا تحتمل أن يخذلك و لا ينصرك.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 24

ثمّ استشهد سبحانه على فرار الكفّار إذا قاتلوا المؤمنين بفرارهم يوم الحديبية بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي بقدرته أرعب قلوب كفّار مكّة و كَفَّ عن قتالكم أَيْدِيَهُمْ و منعهم عن نزالكم، بأن حملهم على الفرار عَنْكُمْ مع كثرة عددهم، و كونهم في بلدهم مهتمّين للذبّ عن أهليهم

وَ هُوَ اَلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)

ص: 633


1- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:35.
2- . تفسير أبي السعود 8:110، تفسير روح البيان 9:40.

و ذراريهم وَ كف أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ و منعكم عن قتالهم، بأن حملكم على تركهم و الرجوع عنهم بِبَطْنِ مَكَّةَ و في داخلها مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ مع قوة داعيكم إلى قتلهم و استئصالهم، حيث إنّ العادة جارية فيمن ظفر بعدوّه أن يقتله و يستأصله.

روى بعض العامة: أنّ جماعة من مشركي مكّة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين، فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكّة (1).

و عن ابن عباس: أنّ اللّه أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت (2).

و قيل: إنّ المراد من بطن مكة أسفل واديها، و هي الحديبية (3)، حيث إنّها في جانب جدّة.

قيل: إنّ جماعة من المشركين خرجوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل التنعيم (2)عند صلاة الصبح، ليأخذوه و يقتلوا أصحابه، فأسرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ خلّى سبيلهم (5).

و قيل: إنّ المراد من الكفّين ببطن مكة هو ما وقع يوم فتح مكة، و الآية إخبار بالغيب، بناء على نزولها عام الحديبية (6).

وَ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و كفّكم عن قتال الكفّار بَصِيراً و عالما فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء.

قيل: إنّ فتح مكّة كان لنقض قريش عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ رجلا من بني بكر هجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يتغنّى به، فسمعه غلام من خزاعة و كان مسلما، فضربه و شجّه، فثار الشرّ بين الحيّين فأمدّت قريش بني بكر، فبيّتوا على خزاعة، فقتلوا عشرين منهم، فكره ذلك أبو سفيان، و كان رأس قريش، فقال إن زوجتي هند رأت رؤيا كرهتها، رأت دما اقبل من الحجون-و هو جبل في أعلى مكة -يسيل حتى وقف بخندمة و هو اسم جبل آخر بمكة و قال ليغزونا محمد، فكره القوم ذلك.

ثمّ جاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بنقض قريش عهدهم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «نصرت يا عمرو بن سالم» و دمعت عيناه، و كان يقول: «خزاعة منّي، و أنا منهم» و قالت عائشة: أترى قريشا تجترئ على العهد الذي بينك و بينهم؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «نقضوا لأمر يريده اللّه» .

فقالت: خير. قال: خير.

فلمّا ندمت قريش على نقض العهد، أرسلوا أبا سفيان ليشدّ العهد و يزيد في مدّته، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 634


1- . تفسير روح البيان 9:44. (2 و 3) . تفسير روح البيان 9:44.
2- . التّنعيم: موضع بمكة في الحل، و هو بيت مكة و سرف، على فرسخين من مكة. (5 و 6) . تفسير روح البيان 9:44.

«نحن على عهدنا و مدّته» و لم يقبل ذلك من أبي سفيان، فرجع إلى قريش، و أخبرهم بما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: إنّي تتبّعت اصحابه، فما رأيت قوما أطوع لملكهم من أصحاب محمد له.

ثمّ أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالجهاز، و أرسل إلى أهل البادية و من حوله من المسلمين في كل ناحية، يقول لهم: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليحضر في شهر رمضان بالمدينة. فلمّا قدموا قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ خذ العيون و الأخبار من قريش حتى نبلغها (1)في بلادها» .

ثمّ خرج من المدينة لعشر خلون من شهر رمضان، و أفطر بالكديد-و هو محلّ بين عسفان و قديد- و أمر أصحابه بالإفطار، و كان عددهم عشرة آلاف، فيهم المهاجرون و الأنصار، و عقد صلّى اللّه عليه و آله بالقديد الألوية و الرايات، و دفعها للقبائل، ثمّ سار صلّى اللّه عليه و آله حتى نزل بمرّ الظّهران و هو على مرحلة من مكة، و قد أعمى اللّه تعالى أخباره عن قريش إجابة لدعائه، و أمر صلّى اللّه عليه و آله أصحابه أن يوقد كلّ أحد منهم نارا.

فلمّا سمعت قريش بتوجّه النبي صلّى اللّه عليه و آله اليهم أرسلوا أبا سفيان ليأخذ منه الأمان لهم، فوصل إلى مرّ الظّهران ليلا، قال: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ و لا عسكرا، و كان بينه و بين العباس عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله صداقة، فلمّا لقيه أخذ العباس بيده، و جاء به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليأخذ منه الأمان له، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فاذا أصبحت فأتني به، فلمّا أتى به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله عرض عليه الإسلام فتوقّف، فقال له العباس: ويحك أسلم و اشهد أنّه لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه قبل أن يضرب عنقك، فشهد الشهادتين و أسلم.

ثمّ قال: يا رسول اللّه، إن اعتزلت قريش فكفّت أيديها أهم مؤمنون؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم، من كفّ يده و أغلق باب داره فهو آمن» فقال العباس: يا رسول اللّه، إنّ أبا سفيان يحبّ الفخر، فاجعل له شيئا. قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من دخل المسجد الحرام فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من دخل دار حكيم فهو آمن» و استثنى جماعة من الرجال و النساء، و أمر بقتلهم، و إن وجدوا متعلّقين باستار الكعبة، منهم ابن خطل و نحوه، فانّهم كانوا طغاة مردة مؤذين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشدّ الأذى.

و قال صلّى اللّه عليه و آله للعباس: «احبس أبا سفيان في مضيق الوادي حتى تمرّ به جنود اللّه فيراها» فأول من مرّ به خالد بن الوليد في بني سليم، ثمّ قبيلة بعد قبيلة براياتهم، حتى مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه المهاجرون و الأنصار، فقال أبو سفيان: سبحان اللّه يا عباس، من هؤلاء؟ فقال العباس: هذا رسول اللّه في الأنصار، و كان عليهم سعد بن عبادة و معه الراية، و كان المهاجرون سبعمائة و معهم ثلاثمائة فرس، و الأنصار

ص: 635


1- . في تفسير روح البيان: نبغتها.

أربعة آلاف و معهم خمسمائة فرس. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء من قبل و لا طاقة، يا عباس لقد أصبح ملك ابن اخيك اليوم عظيما. فقال العباس: إنّها النبوّة.

ثمّ أمر صلّى اللّه عليه و آله أن يدخل خالد بن الوليد مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة، و قال: لا تقاتلوا إلاّ من قاتلكم، و جمع قريش ناسا بالخندمة ليقاتلوا، فلّما لقيهم خالد منعوه من الدخول و رموه بالنبل، فصاح خالد في أصحابه، فقتل من قتل، و انهزم من لم يقتل، فوصل خالد إلى باب المسجد، و دخل صلّى اللّه عليه و آله بمكة و هو راكب على ناقته القصوى مردفا اسامة بن زيد في صبيحة يوم الجمعة، أو يوم الاثنين، معتمّا بعمامة سوداء، واضعا رأسه الشريف على راحلته تواضعا للّه تعالى ممّا رأى من كثرة المسلمين و فتح مكّة. ثمّ قال: «لا عيش إلاّ عيش الآخرة» و سار و هو يقرأ سورة الفتح، حتى جاء البيت و طاف به اسبوعا على راحلته، و محمد بن مسلمة آخذ بزمامها، و استلم الحجر بمخجن في يده الشريفة، و صلّى بالمقام ركعتين.

و كان في داخل الكعبة و خارجها و فوقها ثلاثمائة و ستون صنما، لكلّ حي من أحياء العرب صنم، و كان هبل و هو أعظم الأصنام، و كان من عقيق في جنب البيت من جهة بابه، فجاء صلّى اللّه عليه و آله و في يده قضيب، فجعل يهوي به إلى كل صنم، فيخرّ لوجهه، و هو يقول: «جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زهوقا» و أمر عليا عليه السّلام فصعد الكعبة، و كسر ما فوقها.

ثمّ أرسل صلّى اللّه عليه و آله بلالا إلى عثمان بن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة، فدخلها و صلى فيها ركعتين، و دعا في نواحيها، ثمّ جلس على الصفا يبايع الناس، فجاء أهل مكّة صغارهم و كبارهم، و رجالهم و نساؤهم، فبايعهم على شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و على العمل بأحكام الإسلام، فدخل الناس في دين اللّه افواجا، و عفا عن عامتهم، و قال: «أيها الناس، إنّ اللّه حرّم مكة يوم خلق السماوات و الأرض و يوم خلق الشمس و القمر، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحلّ لامرىء يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يسفك فيها دما، و لا يعضد (1)فيها شجرة، لم يحلّ لأحد قبلي و لا لأحد بعدي، و لا يحلّ لي إلاّ هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا قد رجعت اليوم كحرمتها بالأمس، فليلّغ الشاهد منكم الغائب» (2).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 25

هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اَللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)

ص: 636


1- . عضد الشجرة: قطعها بالمعضد.
2- . تفسير روح البيان 9:44.

ثمّ بيّن سبحانه علّة كفّ يد المسلمين عن قتل كفّار مكة مع استحقاقهم القتل و الاستئصال بقوله تبارك و تعالى: هُمُ الأشقياء اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ صَدُّوكُمْ و منعوكم أيها المؤمنون عَنِ دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و الصلاة فيه، و الطّواف بالبيت، وَ منعوا اَلْهَدْيَ و النّعم التي جعلتموها للّه تقربا إليه، حال كون الهدي مَعْكُوفاً و محبوسا من أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الذي يجب نحره فيه، و هو للمعتمر عند الصفا، فصاروا بتلك الأعمال القبيحة مستحقين للقتل و الاستئصال وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ في مكة، و أنتم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ بأعيانهم، و لم تعرفوهم باشخاصهم، و هم على ما قيل اثنان و سبعون نفس، كانوا يكتمون إيمانهم (1)، و لو لا كراهة أَنْ تَطَؤُهُمْ و تهلكوهم فَتُصِيبَكُمْ و تصل إليكم مِنْهُمْ و من جهة إهلاكهم مَعَرَّةٌ و مشقّة و مكروه بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم بهم، لوجوب الدّية و الكفّارة، و الأسف عليهم، و الإثم بترك الفحص عنهم و التقصير فيه، و تعبير الكفار عليكم بقتلكم إخوانكم في الدين، و معاملتكم مع أحبائكم معاملتكم مع أعدائكم، لمّا كفّ اللّه أيدكم عنهم، أو لفعل بهم ما أراد، أو لعجّل اللّه في إهلاكهم، و إنّما كفّها عنهم، أو لم يعجّل في إهلاكهم لِيُدْخِلَ اَللّهُ بلطفه فِي رَحْمَتِهِ بهذا الكفّ، أو ترك تعجيل إهلاكهم مَنْ يَشاءُ إدخاله في الرحمة بتوفيقه للدخول في الإسلام، أو لتعلّم أحكامه و العمل بها بلا تقية لَوْ تَزَيَّلُوا و افترقوا اولئك المؤمنون و الكفّار و امتازوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بكفرهم و قبائح أعمالهم عَذاباً أَلِيماً من القتل و الاستئصال حسب استحقاقهم.

و عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية: أنّه سئل ألم يكن علي عليه السّلام قويا في بدنه، قويا في أمر اللّه؟ فقال: «بلى» قيل: فما منعه أن يدفع أو يمتنع؟ قال عليه السّلام: «سألت فافهم الجواب، منع عليا من ذلك آية من كتاب اللّه» فقيل: و أي آية؟ فقرأ لَوْ تَزَيَّلُوا. . . الآية، إنه كان للّه ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين و منافقين، فلم يكن علي عليه السّلام ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلمّا خرجت ظهر على من ظهر و قتله، و كذلك قائمنا أهل البيت، لم يظهر أبدا حتى تخرج و دائع اللّه، فاذا خرجت ظهر على من ظهر فيقتله» (2).

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 26

إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)

ص: 637


1- . تفسير روح البيان 9:48.
2- . تفسير القمي 2:316، تفسير الصافي 5:43.

ثمّ بيّن سبحانه وقت غاية استحقاق الكفّار للتعذيب و نزول العذاب عليهم بقوله: إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكّة و حين مكّنوا فِي قُلُوبِهِمُ القاسية و رسّخوا فيها اَلْحَمِيَّةَ و العصبية و الأنفة من الإقرار للنبي صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة، و استفتاح كتاب الصلح ببسم اللّه الرحمن الرحيم او منعهم إياكم من دخول مكة، حيث قالوا على ما قيل: إنّ المسلمين قتلوا أبناءنا و إخواننا، ثمّ يدخلون علينا، فتتحدّث العرب أنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، و اللاّت و العزّى لا يدخلون علينا، فكانت هذه الحمية حَمِيَّةَ الملّة اَلْجاهِلِيَّةِ التي دخلت في قلوبهم (1)، الحمية الناشئة من الجاهلية التي تمنع من الإذعان للحقّ (2).

و قيل: إنّ الظرف متعلّق بقوله: وَ صَدُّوكُمْ (3)و قيل: فاذكر المقدّر (4).

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر سوء صنيع الكفّار، ذكر حسن صنيع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بتوفيق اللّه بقوله: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ و الطّمأنينة الكائنة من قبله عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ بتبعه، و زاد في ثباتهم على التسليم لأمر اللّه و اتّباع مرضاته، أو ألبسهم الوقار حتى تحمّلوا حميّتهم و صالحوهم و رضوا ان يكتب كتاب الصّلح على ما أرادوا، [و]لم يلحقهم ما لحق الكفّار وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى و قول لا إله إلاّ اللّه، الذي به يتّقى عن الشّرك في الدنيا، و عن النار في الآخرة، و ثبّتهم عليها، و المشركون أبوا منها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أول القول كلمة التقوى» (1).

و عن (العلل) عنه عليه السّلام أنّه قال في تفسير لا إله إلاّ اللّه: «و هي كلمة التقوى، تثقل بها الموازين يوم القيامة» (2).

و قيل: هي (بسم اللّه الرحمن الرحيم) و (محمد رسول اللّه) الذي امتنع المشركون من كتبهما في كتاب الصّلح في الحديبية (3).

و قيل: هو الوفاء بالعهد، فانّ المؤمنين وفوا بعهدهم، و المشركون نقضوه، حيث عاونوا بني بكر على خزاعة (4).

ص: 638


1- . تفسير القمي 1:290، تفسير الصافي 5:44.
2- . علل الشرائع: ، تفسير الصافي 5:44.
3- . تفسير روح البيان 9:50.
4- . تفسير روح البيان 9:50.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «هو الايمان» (1).

و عن (المجالس) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إنّ عليا راية الهدى، و إمام أوليائي، و نور من أطاعني، و هو الكلمة التي ألزمتها المتّقين» (2).

و عن (الخصال) قال صلّى اللّه عليه و آله: «نحن كلمة التقوى، و سبيل الهدى» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «أنا العروة الوثقى و كلمة التقوى» (4).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «نحن كلمة التقوى و العروة الوثقى» (5).

ثمّ بيّن سبحانه استحقاق الرسول و المؤمنين و استئهالهم لهذه النعمة بقوله: وَ كانُوا أَحَقَّ بكلمة التقوى و أولى بِها من الكفّار الذين خلقوا من سجيّن وَ كانوا أَهْلَها و اللائق بها، لحسن فطرتهم و طيب طينتهم وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الموجودات و استعداداتها و قابلياتها عَلِيماً.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 27

ثمّ لمّا أنزل اللّه سكينته على الرسول و المؤمنين، و وقع الصّلح على الرجوع من الحديبية إلى المدينة، قال المنافقون: كذب النبي في إخباره بدخول المسلمين مسجد الحرام محلّقين و مقصّرين، فإنا ما دخلنا المسجد الحرام و لا حلقنا و لا قصّرنا، فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: لَقَدْ صَدَقَ اَللّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيا التي أريناه مقرونا بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة، و جعلها مطابقة للواقع، و كائنة لا محالة في الوقت المقدّر لوقوعها، و قد مرّ تفصيل الرؤيا في أوّل السورة.

لَقَدْ صَدَقَ اَللّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ إِنْ شاءَ اَللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)و قيل: إنّ معنى صدق الرؤيا: أتى بما يدلّ على صدق الرؤيا (6).

و قيل: إن قوله: بِالْحَقِّ صفة للرسول، و المعنى: أنّ اللّه صدّق رسوله بالحقّ الرؤيا (7). و قيل: ففيه تقديم و تأخير (8).

و قيل: إنّ كلمة (بالحق) قسم، فان الحقّ اسم من أسمائه تعالى (9). و المعنى: اقسم بالحقّ لقد صدق،

ص: 639


1- . الكافي 2:13/5، تفسير الصافي 5:44.
2- . أمالي الصدوق:565/765، تفسير الصافي 5:44.
3- . الخصال:432/14، تفسير الصافي 5:44.
4- . التوحيد:165/2، تفسير الصافي 5:44.
5- . كمال الدين:202/6، تفسير الصافي 5:44.
6- . تفسير الرازي 28:105.
7- . تفسير الرازي 28:105.
8- . تفسير الرازي 28:104.
9- . تفسير الرازي 28:104.

و و اللّه لَتَدْخُلُنَّ أيّها المؤمنون في العام القابل اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ لا بمشيئتكم و قدرتكم، بل إِنْ شاءَ و أراد دخولكم فيه، و فيه تعليم للعباد و تنبيه على أنّ إرادة أهل مكّة منعكم من دخوله لا يزاحم إرادة اللّه، و أنكم تدخلونه حال كونكم آمِنِينَ من أعدائكم، و يدوم أمنكم إلى أن تصيروا مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ و مزيلين جميع شعرها وَ مُقَصِّرِينَ و مزيلين بعضه و لا تَخافُونَ من أحد بعد الحلق و التقصير و إحلالكم من الاحرام، مع أن قريش لا يحرّمون من أحلّ من إحرامه.

فَعَلِمَ اللّه بعد ما أرى نبيه صلّى اللّه عليه و آله الرؤيا في تأخير وقوع تعبيرها، أو في تقديم ما يشهد على صدقها ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة و المصلحة فَجَعَلَ سبحانه لأجل تلك المصلحة و استرواح قلوب المؤمنين مِنْ دُونِ وقوع ذلِكَ الموعود من دخول مكّة فَتْحاً وافر الغنيمة قَرِيباً من صلح الحديبية، و هو فتح خيبر.

قيل: إنّه كان بعد خمس عشرة ليلة من الحديبية (1).

و قيل: إنّ المراد من الفتح القريب صلح الحديبية (2)، فانّه أعظم الفتوح كما مرّ.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ أكّد سبحانه صدق رؤيا النبي صلّى اللّه عليه و آله و عدم إمكان كذبها بقوله: هُوَ اللّه الحكيم اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمد إلى الناس جائيا لهم بِالْهُدى و الرّشاد إلى الصراط المستقيم. و قيل: يعني بالقرآن (3)، أو ما اتّفق عليه الرسل (4)، أو بالمعجزات (5)الباهرة وَ دِينِ اَلْحَقِّ و الثابت الذي لا ينسخ إلى يوم القيامة، و هو الاسلام، فإذا كان إرساله للهدايه لا يمكن أن يخبر الناس بوقوع ما لا يقع، فيضلّوا بكذبه في إخباره.

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)و قيل: إنّ باء (بالهدى) للسببية (6)، و المعنى: أرسله بسبب الهدى و لأجله، فلا يصدر عنه ما هو سبب الضلال، و ليس فتح مكة منه ببعيد، مع أن اللّه ارسله بالدين الثابت لِيُظْهِرَهُ و يغلبه و يعليه عَلَى

ص: 640


1- . تفسير روح البيان 9:53.
2- . مجمع البيان 9:191، تفسير الرازي 28:106.
3- . مجمع البيان 9:191، جوامع الجامع:455.
4- . تفسير الرازي 28:106.
5- . تفسير البيضاوي 2:413، تفسير أبي السعود 8:114.
6- . تفسير أبي السعود 8:113، تفسير روح البيان 9:55.

غيره من اَلدِّينِ كُلِّهِ و بجميع أفراده بنسخ ما كان منه حقا من بعض الأحكام المتبدّلة بتبديل الأعصار، و إظهار بطلان ما كان باطلا، أو بتسليط المسلمين على أهل سائر الأديان و قهر ملوكهم و فتح بلادهم، و قد أنجز اللّه وعده حيث أعطى المسلمين من الفتح و الغلبة على ممالك الكفرة ما يستقلّ إليه فتح مكة، أو بذهاب سائر الأديان من وجه الأرض في زمان ظهور الحجة و الإمام الغائب.

وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً على صدق رسوله صلّى اللّه عليه و آله في وعده بدخول المسلمين المسجد الحرام، أو على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى الرسالة، و إن أبت قريش من أنّ يكتب في كتاب الصّلح رسالته.

عن ابن عباس: شهد له بالرسالة (1)بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ إلى كافة الناس إلى القيامة وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بالايمان، و اتّبعوه عن صميم القلب، و أطاعوه عن خلوص النيّة، كأمير المؤمنين و سلمان و أضرابهما، يكون من أخلاقهم الحميدة أنّهم أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ غلاظ عليهم، لا لغلظة قلوبهم و فظاظة خلقهم، بل لما بينهم من التضادّ، كتضادّ النور و الظلمة، و الايمان و الكفر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ متعاطفون بعضهم على بعض كالوالد مع ولده، فهو كقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ (2).

قيل: إنّهم بلغوا من الشدّة على الكفّار أنّهم كانوا يتحرّزون من أن تلزق ثيابهم بثيابهم، و أن تمسّ أبدانهم بأبدانهم، و من ترحمّهم بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه و عانقه (3).

أقول: من شدّتهم على الكفّار أن يتحرّزوا من أن يقع نظرهم إلى وجه الكافر، و من عطوفتهم على المؤمنين أن اشتاقوا إلى النظر إلى وجوههم، و يحزنون لحزنهم، و يفرحون لفرحهم، و يحبّون لهم ما يحبّون لأنفسهم، هذا حال المؤمنين مع الناس، و أما حالهم مع اللّه، فانك تَراهُمْ أيها الرائي رُكَّعاً سُجَّداً للّه في حال اشتغالهم بضروريات معاشهم يَبْتَغُونَ و يطلبون بركوعهم و سجودهم و سائر عباداتهم فَضْلاً و إنعاما مِنَ اَللّهِ عليهم من النار و الدخول في الجنّة وَ رِضْواناً و تحنّنا منه إليهم بالرحمة بخلاف المشركين و المرائين، فانّهم يطلبون بركوعهم و سجودهم رضا غير اللّه سِيماهُمْ و علامة كونهم من أتباع محمد صلّى اللّه عليه و آله أنّك ترى فِي وُجُوهِهِمْ و جباههم شيئا مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ كثفنة البعير، كما كان لزين العابدين عليه السّلام، فانّه يقال له ذو الثّفنات (4).

و قيل: هو التّراب على الجباه (5).

ص: 641


1- . تفسير روح البيان 9:55.
2- . المائدة:5/54.
3- . مجمع البيان 9:192، جوامع الجامع:456، تفسير روح البيان 9:57.
4- . جوامع الجامع:456، تفسير أبي السعود 8:114، تفسير روح البيان 9:58.
5- . مجمع البيان 9:192.

و عن ابن عباس: سيماهم في القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا (1). قيل: تكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر (2).

و قيل: أثر السجود بالليل الحسن الظاهر في وجه الساجد بالنهار. روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من كثر صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار» (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «هو السهر في الصلاة» (4)، ذلِكَ المذكور من نعوتهم الجليلة مَثَلُهُمْ و وصفهم العجيب الشأن المذكور فِي اَلتَّوْراةِ المنزلة على موسى وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ المنزل على عيسى عليهما السّلام.

سوره 48 (الفتح): آیه شماره 29

ثمّ بيّن سبحانه قوّة اصحابه بعد ضعفهم، و كثرتهم بعد قلّتهم، بتشبيههم بالزّرع بقوله: كَزَرْعٍ و التقدير: هم كزرع أَخْرَجَ و أنبت شَطْأَهُ و فرخه و فرعه النابت من جانبه حال كونه أولا في غاية الدقّة و الضّعف فَآزَرَهُ و قوّاه ذلك الزرع فَاسْتَغْلَظَ و صار شديدا و مستحكما بعد ما كان ليّنا، و غليظا بعد ما كان دقيقا فَاسْتَوى الشّطأ، و استقام الفرع لقوّته عَلى سُوقِهِ و أصله بحيث يُعْجِبُ و يسرّ اَلزُّرّاعَ بقوته و غلظته و حسن منظره.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)و عن الحسن البصرى: استوى الاسلام بسيف عليّ (5).

و حاصل المثل أنّ أصحاب خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله قليلون و ضعفاء في بدو الاسلام، ثمّ كثروا و قووا يوما فيوما، بحيث أعجب الناس قوّتهم و كثرتهم.

و قيل: مكتوب في التوراة يخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر (6).

قيل: إنّ ذلك إشارة إلى هذا المثل، و المعنى: أنّ تشبيه أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله بالزرع مذكور في التوراة و الإنجيل (7).

ص: 642


1- . مجمع البيان 9:192.
2- . مجمع البيان 9:192، تفسير روح البيان 9:58.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:300/1373، تفسير أبي السعود 8:114، تفسير روح البيان 9:58.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:299/1369، تفسير الصافي 5:45.
5- . نهج الحق:195.
6- . تفسير أبي السعود 8:115، تفسير روح البيان 9:59.
7- . تفسير أبي السعود 8:115، تفسير روح البيان 9:59.

و قيل: إنّ الكلام قد تمّ عند قوله: مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ و قوله: وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ مبتدأ خبره (كزرع) (1). و على أيّ تقدير إنّما قوّى اللّه أصحاب محمد و كثّرهم لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ و يشتدّ غضبهم بإرغام انوفهم و خزيهم.

و قيل: هو علّة لقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا (2)باللّه و رسوله عن صميم القلب وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ خالصا مِنْهُمْ راجع إلى الكفّار، فيكون الوعد للكفّار الذين يؤمنون بالرسول، فتكون كلمة (من) للتبيين على الأول، و للتبعيض على الثاني (3).

روى الصدوق عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل فيمن نزلت هذه الآية؟ قال: «إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أنور، و نادى مناد: ليقم سيد المؤمنين و معه الذين آمنوا، و قد بعث اللّه محمدا. فيقوم علي بن أبي طالب، فيعطي اللّه اللواء من النور الأبيض بيده، تحته جميع السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار، لا يخالطهم غيرهم، حتى يجلس عليّ على منبر من نور ربّ العزّة، و يعرض الجميع عليه رجلا بعد رجل، فيعطى أجره و نوره، فاذا أتى على آخرهم قيل لهم: قد عرفتم موقفكم و منزلكم من الجنّة، إنّ ربّكم يقول لكم: عندي لكم مغفرة و أجر عظيم-يعني في الجنّة-فيقوم علي بن أبي طالب و القوم تحت لوائه معهم، حتى يدخلهم الجنّة، ثمّ يرجع إلى منبره، و لا يزال يعرض عليه جميع المؤمنين، فيأخذ نصيبه منهم، و يذهب بهم إلى الجنة، و يترك أقواما على النار» (4).

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال «من قرأ سورة الفتح، [فكأنّما]كان ممّن شهد (5)[مع محمد]رسول اللّه فتح مكّة» (6).

و عن الصادق عليه السّلام. قال: «حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملكت أيمانكم من التّلف بقراءة سورة (إنّا فتحنا) فانّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق: أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، و أسكنوه جنات النعيم، و أسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور» (7).

الحمد للّه على التوفيق.

ص: 643


1- . تفسير الرازي 28:108.
2- . تفسير روح البيان 9:60.
3- . تفسير الرازي 28:109.
4- . أمالي الطوسي:378/810، تفسير الصافي 5:46.
5- . في النسخة: يشهد.
6- . تفسير روح البيان 9:61.
7- . ثواب الأعمال:115، مجمع البيان 9:165، تفسير الصافي 5:46.

ص: 644

فهرس المحتوى

في تفسير سورة القصص 5

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم طسم*تلك آيات الكتاب المبين*نتلوا عليك من نبإ5

[7-11]و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم و لا7

[12 و 13]و حرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه10

[14-16]و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزى المحسنين*11

[17]قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين13

[18]فأصبح فى المدينة خائفا يترقب فإذا الذى استنصره بالأمس يستصرخه14

[19-22]فلما أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلنى15

[23-25]و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون و وجد من دونهم17

[26 و 27]قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين*19

[27-29]ستجدنى إن شاء الله من الصالحين*قال ذلك بينى و بينك أيما الأجلين20

[30-31]فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة23

[32-35]اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء و اضمم إليك جناحك24

[36-38]فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى و ما سمعنا25

[38-40]فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى26

[40-42]فانظر كيف كان عاقبة الظالمين*و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار و يوم28

[43 و 44]و لقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس29

[45 و 46]و لكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر و ما كنت ثاويا فى أهل مدين تتلوا30

[47 و 48]و لو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت إلينا32

[48-50]أ و لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا و قالوا إنا بكل32

[50 و 51]و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم33

[52 و 53]الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون*و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا34

[54 و 55]أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرؤن بالحسنة السيئة و مما35

[56]إنك لا تهدى من أحببت و لكن الله يهدى من يشاء و هو أعلم36

ص: 645

[57]و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أ و لم نمكن لهم حرما آمنا39

[58 و 59]و كم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم40

[60 و 61]و ما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا و زينتها و ما عند الله خير و أبقى41

[62-66]و يوم يناديهم فيقول أين شركائى الذين كنتم تزعمون*قال الذين حق42

[67]فأما من تاب و آمن و عمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين43

[68 و 69]و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله و تعالى عما43

[70-73]و هو الله لا إله إلا هو له الحمد فى الأولى و الآخرة و له الحكم و إليه44

[74 و 75]و يوم يناديهم فيقول أين شركائى الذين كنتم تزعمون*و نزعنا من كل45

[76]إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه46

[76 و 77]إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين*و ابتغ فيما آتاك الله الدار47

[78-80]قال إنما أوتيته على علم عندى أ و لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من48

[81 و 82]فخسفنا به و بداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان50

[83]تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض و لا فسادا53

[84 و 85]من جاء بالحسنة فله خير منها و من جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا54

[86-88]و ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا55

في تفسير سورة العنكبوت 59

[2-1]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون59

[3]و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن61

[4 و 5]أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون*من كان62

[6 و 7]و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين*و الذين آمنوا63

[8]و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم64

[9-11]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين*و من الناس64

[12 و 13]و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم و ما هم66

[14 و 15]و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخدهم66

[16-18]و إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله و اتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون*67

[19-22]أ و لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير*قل68

[23 و 24]و الذين كفروا بآيات الله و لقائه أولئك يئسوا من رحمتى و أولئك لهم69

[25-27]و قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم70

[28-33]و لوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من72

[34 و 35]إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون*74.

ص: 646

[36-39]و إلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله و ارجوا اليوم الآخر و لا74

[40 و 41]فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته76

[42-44]إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء و هو العزيز الحكيم*و تلك76

[45]اتل ما أوحى إليك من الكتاب و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن77

[46]و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم79

[47]و كذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به و من هؤلاء79

[48 و 49]و ما كنت تتلوا من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون*80

[50-52]و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير81

[53-55]و يستعجلونك بالعذاب و لو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب و ليأتينهم بغتة82

[56-60]يا عبادى الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون*كل نفس ذائقة83

[61-63]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض و سخر الشمس و القمر ليقولن84

[64-66]و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهى الحيوان لو85

[67-69]أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم أ فبالباطل86

في تفسير سورة الروم 89

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*غلبت الروم*فى أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم89

[7 و 8]يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون*أ و لم92

[9-10]أ و لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا93

[11-16]الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون*و يوم تقوم الساعة يبلس93

[17-19]فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون*و له الحمد فى السماوات94

[20-25]و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون*و من آياته أن95

[26-27]و له من فى السماوات و الأرض كل له قانتون*و هو الذى يبدأ الخلق ثم97

[28]ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فى98

[29-32]بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله و ما لهم99

[33-35]و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا100

[36 و 37]و إذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا101

[38]فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون101

[39 و 40]و ما آتيتم من ربا ليربوا فى أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من102

[41-43]ظهر الفساد فى البر و البحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى103

[44 و 45]من كفر فعليه كفره و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون*ليجزى الذين104

[46]و من آياته أن يرسل الرياح مبشرات و ليذيقكم من رحمته و لتجرى الفلك104

ص: 647

[47]و لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من105

[48 و 49]الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه فى السماء كيف يشاء106

[50-53]فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيى107

[54-57]الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد108

[58-60]و لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل و لئن جئتهم بآية ليقولن109

في تفسير سورة لقمان 111

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*تلك آيات الكتاب الحكيم*هدى و رحمة111

[6 و 7]و من الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم111

[8-11]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم جنات النعيم*خالدين فيها وعد113

[12]و لقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله و من يشكر فإنما يشكر لنفسه و من115

[13-15]و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم*118

[16]يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو فى السماوات121

[17-19]يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما121

[20 و 21]أ لم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات و ما فى الأرض و أسبغ عليكم123

[22-24]و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى و إلى124

[25 و 26]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل125

[27]و لو أنما فى الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما126

[28-30]ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير*أ لم تر أن الله127

[31-32]أ لم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن فى ذلك128

[33]يا أيها الناس اتقوا ربكم و اخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده و لا مولود129

[34]إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما فى الأرحام و ما تدرى130

في تفسير سورة السجدة 133

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم ا لم*تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين133

[4 و 5]الله الذى خلق السماوات و الأرض و ما بينهما فى ستة أيام ثم استوى134

[6-9]ذلك عالم الغيب و الشهادة العزيز الرحيم*الذى أحسن كل شيء خلقه135

[10 و 11]و قالوا ءإذا ضللنا فى الأرض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم136

[13-12]و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا ابصرنا و سمعنا137

[14-17]فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما138

[18-20]ا فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون*أما الذين آمنوا و عملوا141

[21 و 22]و لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون*و من142

ص: 648

[23-27]و لقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقائه و جعلناه هدى لبنى142

[28-30]و يقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين*قل يوم الفتح لا ينفع الذين144

في تفسير سورة الأحزاب 147

[1]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين147

[2-4]و اتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا*و توكل على148

[4-5]و ما جعل أزواجكم اللآئى تظاهرون منهن أمهاتكم و ما جعل أدعياءكم149

[6]النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و أولوا الأرحام150

[7-8]و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى152

[9-13]يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم153

[14 و 15]و لو دخلت عليهم من اقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها و ما تلبثوا بها إلا158

[16-17]قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا159

[18-20]قد يعلم الله المعوقين منكم و القائلين لإخوانهم هلم إلينا و لا يأتون البأس159

[21-22]لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر162

[23 و 24]من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه163

[25-27]و رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال165

[28 و 29]يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين169

[30 و 31]يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين171

[32 و 33]يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول172

[33]إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا173

[34 و 35]و اذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله و الحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا176

[36-39]و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة178

[40]ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين و كان182

[41-42]يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا*و سبحوه بكرة182

[43-44]هو الذى يصلى عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان183

[45-48]يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا*و داعيا إلى الله بإذنه184

[49]يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن184

[50]يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن و ما ملكت185

[51]ترجى من تشاء منهن و تؤى إليك من تشاء و من ابتغيت ممن عزلت فلا187

[52]لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعجبك188

[53]يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير189

ص: 649

[53]و إذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم190

[54]إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما191

[55-56]لا جناح عليهن فى آبائهن و لا أبنائهن و لا إخوانهن و لا أبناء إخوانهن و لا192

[57]إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله فى الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا194

[58]و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا194

[59]يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من195

[60-62]لئن لم ينته المنافقون و الذين فى قلوبهم مرض و المرجفون فى المدينة196

[63-68]يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة197

[69]يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا و كان198

[70-71]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا*يصلح لكم أعمالكم200

[72]إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها200

[73]ليعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و يتوب الله202

في تفسير سورة سبأ 205

[1-2]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى له ما فى السماوات و ما فى الأرض و له205

[3 و 4]و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى و ربى لتأتينكم عالم الغيب لا206

[5-6]و الذين سعو فى آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم*و يرى206

[7 و 8]و قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم207

[9-13]أ فلم يروا إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم من السماء و الأرض إن نشأ208

[13 و 14]اعملوا آل داود شكرا و قليل من عبادى الشكور*فلما قضينا عليه الموت210

[15-17]لقد كان لسبإ فى مسكنهم آية جنتان عن يمين و شمال كلوا من رزق ربكم213

[18 و 19]و جعلنا بينهم و بين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة و قدرنا فيها السير215

[20 و 21]و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين*و ما كان له216

[22 و 23]قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات217

[24-26]قل من يرزقكم من السماوات و الأرض قل الله و إنا أو إياكم لعلى هدى أو218

[27-28]قل أرونى الذين الحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم*و ما219

[29-33]و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*قل لكم ميعاد يوم لا220

[34-36]و ما أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون*222

[37-39]و ما أموالكم و لا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن و عمل222

[40-42]و يوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أ هؤلاء إياكم كانوا يعبدون*223

[43-45]و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما224

ص: 650

[46]قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا ما225

[47 و 48]قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله و هو على كل شيء226

[49 و 50]قل جاء الحق و ما يبدئ الباطل و ما يعيد*قل إن ضللت فإنما أضل على227

[51-54]و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب*و قالوا آمنا به و أنى227

في تفسير سورة فاطر 229

[1]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السماوات و الأرض جاعل الملائكة رسلا229

[2-4]ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من231

[5 و 6]يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله232

[7-8]الذين كفروا لهم عذاب شديد و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة233

[9]و الله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به234

[10]من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب و العمل234

[11]و الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا و ما تحمل من أنثى235

[12]و ما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج و من237

[13 و 14]يولج الليل فى النهار و يولج النهار فى الليل و سخر الشمس و القمر كل237

[15-18]يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد*إن يشأ238

[18-21]إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب و أقاموا الصلاة و من تزكى فإنما239

[22-26]و ما يستوى الأحياء و لا الأموات إن الله يسمع من يشاء و ما أنت بمسمع240

[27-28]أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها و من241

[28-30]إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور*إن الذين يتلون242

[31 و 32]و الذى أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله243

[33-35]جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم244

[36 و 37]و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من245

[38 و 39]إن الله عالم غيب السماوات و الأرض إنه عليم بذات الصدور*هو الذى24690

[40 و 41]قل أ رأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ما ذا خلقوا من247

[42 و 43]و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى248

[44-45]أ و لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم و كانوا249

في تفسير سورة يس 251

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم يس*و القرآن الحكيم*إنك لمن المرسلين251

[7-9]لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون*إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا252

[10 و 11]و سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون*إنما تنذر من اتبع254

ص: 651

[12]إنا نحن نحي الموتى و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في255

[13-15]و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون*إذ أرسلنا إليهم256

[16 و 17]قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون*و ما علينا إلا البلاغ المبين257

[18-21]قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم*260

[22-24]و ما لى لا أعبد الذى فطرنى و إليه ترجعون*أ أتخذ من دونه آلهة إن261

[25-27]إنى آمنت بربكم فاسمعون*قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومى يعلمون*262

[28-30]و ما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء و ما كنا منزلين263

[31]ا لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون264

[32-35]و إن كل لما جميع لدينا محضرون*و آية لهم الأرض الميتة أحييناها265

[36-38]سبحان الذى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا265

[39 و 40]و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم*لا الشمس ينبغى لها267

[41-42]و آية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون*و خلقنا لهم من مثله ما269

[43-47]و إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم و لا هم ينقذون*إلا رحمة منا و متاعا إلى269

[48-50]و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*ما ينظرون إلا صيحة واحدة270

[51 و 52]و نفخ فى الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون*قالوا يا ويلنا من271

[53-55]إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون*فاليوم لا تظلم272

[56-58]هم و أزواجهم فى ظلال على الأرائك متكئون*لهم فيها فاكهة و لهم ما273

[59-61]و امتازوا اليوم أيها المجرمون*أ لم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا275

[62-65]و لقد أضل منكم جبلا كثيرا أ فلم تكونوا تعقلون*هذه جهنم التى كنتم276

[66-67]و لو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون*و لو نشاء277

[68-70]و من نعمره ننكسه فى الخلق أ فلا يعقلون*و ما علمناه الشعر و ما ينبغى278

[71-73]أ و لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون*279

[74-76]و اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون*لا يستطيعون نصرهم و هم لهم279

[77-79]أ و لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين*و ضرب لنا280

[80 و 81]الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون*أ و ليس282

[82-83]إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون*فسبحان الذى بيده283

في تفسير سورة الصافات 287

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم و الصافات صفا*فالزاجرات زجرا*فالتاليات ذكرا287

[4-10]إن إلهكم لواحد*رب السماوات و الأرض و ما بينهما و رب المشارق*288

[11-17]فاستفتهم أ هم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب*بل290

ص: 652

[18-23]قل نعم و أنتم داخرون*فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون*و قالوا291

[24-26]و قفوهم إنهم مسؤلون*ما لكم لا تناصرون*بل هم اليوم292

[27-32]و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين293

[33-39]فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون*إنا كذلك نفعل بالمجرمين*إنهم294

[40-42]إلا عباد الله المخلصين*أولئك لهم رزق معلوم*فواكه و هم295

[43-49]فى جنات النعيم*على سرر متقابلين*يطاف عليهم بكأس من معين*296

[50-57]فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قال قائل منهم إنى كان لى قرين*297

[58-61]أ فما نحن بميتين*إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين*إن هذا لهو297

[62-63]أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم*إنا جعلناها فتنة للظالمين298

[64-68]إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم*طلعها كأنه رؤس الشياطين*299

[69-74]إنهم ألفوا آباءهم ضالين*فهم على آثارهم يهرعون*و لقد ضل قبلهم300

[75-80]و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون*و نجيناه و أهله من الكرب العظيم*301

[81-85]إنه من عبادنا المؤمنين*ثم أغرقنا الآخرين*و إن من شيعته لإبراهيم*302

[86-99]ءإفكا آلهة دون الله تريدون*فما ظنكم برب العالمين*فنظر نظرة فى303

[100-111]رب هب لى من الصالحين*فبشرناه بغلام حليم*فلما بلغ معه السعى306

[112-122]و بشرناه بإسحاق نبيا و بشرناه من الصالحين*و باركنا عليه و على إسحاق310

[123-125]و إن إلياس لمن المرسلين*إذ قال لقومه ألا تتقون*أتدعون بعلا311

[126-132]الله ربكم و رب آبائكم الأولين*فكذبوه فإنهم لمحضرون*إلا عباد الله312

[133-138]و إن لوطا لمن المرسلين*إذ نجيناه و أهله أجمعين*إلا عجوزا فى313

[139-148]و إن يونس لمن المرسلين*إذ أبق إلى الفلك المشحون*فساهم فكان314

[149 و 150]فاستفتهم ألربك البنات و لهم البنون*أم خلقنا الملائكة إناثا و هم319

[151-157]ألا إنهم من إفكهم ليقولون*ولد الله و إنهم لكاذبون*أصطفى البنات319

[158-160]و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا و لقد علمت الجنة إنهم لمحضرون*320

[161-164]فإنكم و ما تعبدون*ما أنتم عليه بفاتنين*إلا من هو صال الجحيم*321

[165-170]و إنا لنحن الصافون*و إنا لنحن المسبحون*و إن كانوا ليقولون*لو أن322

[171-175]و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين*إنهم لهم المنصورون*و إن جندنا323

[176-179]أ فبعذابنا يستعجلون*فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين*و تول324

[180-182]سبحان ربك رب العزة عما يصفون*و سلام على المرسلين*و الحمد لله325

في تفسير سورة ص 327

[1-2]بسم الله الرحمن الرحيم ص و القرآن ذى الذكر*بل الذين كفروا فى عزة327

ص: 653

[3-4]كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص*و عجبوا أن328

[5-7]أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب*و انطلق الملأ منهم أن329

[8]أ أنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا330

[9 و 10]أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب*أم لهم ملك السماوات331

[11-16]جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب*كذبت قبلهم قوم نوح و عاد و فرعون332

[17-20]اصبر على ما يقولون و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب*إنا سخرنا334

[21-25]و هل أتاك نبا الخصم إذ تسوروا المحراب*إذ دخلوا على داود ففزع335

[26]يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع338

[27 و 28]و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل338

[29-33]كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب*و وهبنا339

[34]و لقد فتنا سليمان و ألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب342

[35-40]قال رب اغفر لى و هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت344

[41-44]و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب و عذاب*346

[45-49]و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولى الأيدى و الأبصار*إنا347

[50-58]جنات عدن مفتحة لهم الأبواب*متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة349

[59 و 60]هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار*قالوا بل أنتم لا350

[61-64]قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا فى النار*و قالوا ما لنا لا نرى351

[65-68]قل إنما أنا منذر و ما من إله إلا الله الواحد القهار*رب السماوات352

[69 و 70]ما كان لى من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون*إن يوحى إلي إلا أنما أنا353

[71-85]إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين*فإذا سويته و نفخت فيه354

[86-88]قل ما أسئلكم عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين*إن هو إلا ذكر358

في تفسير سورة الزّمر 361

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم*إنا أنزلنا إليك361

[3]ألا لله الدين الخالص و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا362

[4 و 5]لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله363

[6]خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها و أنزل لكم من الأنعام ثمانية364

[7]إن تكفروا فإن الله غني عنكم و لا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه365

[8]و إذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان366

[9]أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة و يرجوا رحمة ربه قل367

[10]قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة368

ص: 654

[13-11]قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين*و أمرت لأن أكون أول369

[14-16]قل الله أعبد مخلصا له دينى*فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين370

[17 و 18]و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر371

[19 و 20]ا فمن حق عليه كلمة العذاب أ فأنت تنقذ من فى النار*لكن الذين اتقوا372

[21]أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الأرض ثم يخرج به373

[22]ا فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم374

[23]الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين375

[24-26]ا فمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم376

[27 و 28]و لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون*قرآنا عربيا377

[29-31]ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون و رجلا سلما لرجل هل378

[32-35]فمن أظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذ جاءه أ ليس فى جهنم379

[36 و 37]أ ليس الله بكاف عبده و يخوفونك بالذين من دونه و من يضلل الله فما له380

[38]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل أ فرأيتم ما381

[39-41]قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون*من يأتيه382

[42]الله يتوفى الأنفس حين موتها و التى لم تمت فى منامها فيمسك التى383

[43 و 44]أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولوا كانوا لا يملكون شيئا و لا يعقلون*384

[45 و 46]و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة و إذا ذكر384

[47 و 48]و لو أن للذين ظلموا ما فى الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به من سوء385

[49-51]فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم386

[52-59]أ و لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إن فى ذلك لآيات لقوم387

[60 و 61]و يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أ ليس فى جهنم390

[62 و 63]الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل*له مقاليد السماوات391

[64 و 65]قل أ فغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون*و لقد أوحى إليك و إلى392

[66 و 67]بل الله فاعبد و كن من الشاكرين*و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا393

[68-70]و نفخ فى الصور فصعق من فى السماوات و من فى الأرض إلا من شاء الله394

[71 و 72]و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها و قال397

[73-75]و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها و فتحت أبوابها398

في تفسير سورة غافر 401

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم*غافر401

[4 و 5]ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد*402

ص: 655

[6-9]و كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار*الذين403

[10-12]إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى405

[13-15]هو الذى يريكم آياته و ينزل لكم من السماء رزقا و ما يتذكر إلا من ينيب*406

[16]يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد408

[17 و 18]اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب*409

[19 و 20]يعلم خائنة الأعين و ما تخفى الصدور*و الله يقضى بالحق و الذين409

[21 و 22]أ و لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم410

[23-27]و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين*إلى فرعون و هامان و قارون411

[28-33]و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربى412

[34-35]و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى415

[36-38]و قال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الأسباب*أسباب416

[39-42]يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هى دار القرار*من عمل417

[43-45]لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا و لا فى الآخرة و أن418

[46]النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون420

[47-48]و إذ يتحاجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا421

[49-50]و قال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من421

[51 و 52]إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا فى الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد*يوم422

[53-55]و لقد آتينا موسى الهدى و أورثنا بنى إسرائيل الكتاب*هدى و ذكرى423

[56]إن الذين يجادلون فى آيات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم ألا كبر423

[57-58]لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس و لكن أكثر الناس لا424

[59-60]إن الساعة لآتية لا ريب فيها و لكن أكثر الناس لا يؤمنون*و قال ربكم425

[61]الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إن الله لذو فضل على426

[62-65]ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون*كذلك يؤفك427

[66]قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءنى البينات من428

[67 و 68]هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم428

[69-74]أ لم تر إلى الذين يجادلون فى آيات الله أنى يصرفون*الذين كذبوا429

[75-77]ذلكم بما كنتم تفرحون فى الأرض بغير الحق و بما كنتم تمرحون*431

[78]و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص431

[79-80]الله الذى جعل لكم الأنعام لتركبوا منها و منها تأكلون*و لكم فيها منافع432

[81 و 82]و يريكم آياته فأي آيات الله تنكرون*أ فلم يسيروا فى الأرض فينظروا433

ص: 656

[83-85]فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما434

في تفسير سورة فصّلت 437

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل من الرحمن الرحيم*كتاب فصلت آياته437

[6-7]قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه438

[8-11]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون*قل ءإنكم440

[12]فقضاهن سبع سماوات فى يومين و أوحى فى كل سماء أمرها و زينا442

[13-14]فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود*إذ جاءتهم444

[15-18]فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق و قالوا من أشد منا قوة أ و لم445

[19 و 21]و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون*حتى إذا ما جاؤها شهد447

[22-25]و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم449

[26-29]و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون*450

[30]إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا452

[31-33]نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا و فى الآخرة و لكم فيها ما تشتهى453

[34]و لا تستوى الحسنة و لا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك454

[35-37]و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم*و إما ينزغنك من455

[38-39]فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون456

[40-43]إن الذين يلحدون فى آياتنا لا يخفون علينا ا فمن يلقى فى النار خير أم457

[44]و لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته أ أعجمي و عربي قل هو459

[45 و 46]و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضى460

[47 و 48]إليه يرد علم الساعة و ما تخرج من ثمرات من أكمامها و ما تحمل من أنثى461

[49 و 50]لا يسأم الإنسان من دعاء الخير و إن مسه الشر فيؤس قنوط*و لئن461

[51 و 52]و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر فذو دعاء462

[53 و 54]سنريهم آياتنا فى الآفاق و فى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم463

في تفسير سورة الشورى 465

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*عسق*كذلك يوحى إليك و إلى الذين من قبلك465

[4 و 5]له ما فى السماوات و ما فى الأرض و هو العلي العظيم*تكاد السماوات466

[6 و 7]و الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم و ما أنت عليهم بوكيل*467

[8 و 9]و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة و لكن يدخل من يشاء فى رحمته468

[10]و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت و إليه468

[11 و 12]فاطر السماوات و الأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا و من الأنعام469

ص: 657

[13]شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذى أوحينا إليك و ما وصينا به470

[14 و 15]و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من472

[16-18]و الذين يحاجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم473

[19]الله لطيف بعباده يرزق من يشاء و هو القوي العزيز474

[20]من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه و من كان يريد حرث الدنيا475

[21-23]أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله و لو لا كلمة الفصل476

[23]قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى477

[23]و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور480

[24]أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك و يمح الله481

[25]و هو الذى يقبل التوبة عن عباده و يعفوا عن السيئات و يعلم ما482

[26]و يستجيب الذين آمنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله و الكافرون483

[27]و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الأرض و لكن ينزل بقدر ما يشاء إنه484

[28 و 29]و هو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا و ينشر رحمته و هو الولي الحميد485

[30 و 31]و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير*و ما أنتم485

[32-35]و من آياته الجوار فى البحر كالأعلام*إن يشأ يسكن الريح فيظللن486

[36-39]فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا و ما عند الله خير و أبقى للذين487

[40]و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و أصلح فأجره على الله إنه لا يحب489

[41-43]و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل*إنما السبيل على490

[44-46]و من يضلل الله فما له من و لي من بعده و ترى الظالمين لما رأوا العذاب491

[47 و 48]استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ492

[48]إنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم492

[49 و 50]لله ملك السماوات و الأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن493

[51]و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا494

[52 و 53]و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب و لا الإيمان495

في تفسير سورة الزخرف 497

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*و الكتاب المبين*إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم497

[4]و إنه فى أم الكتاب لدينا لعلي حكيم497

[5-8]أ فنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين*و كم أرسلنا من نبي498

[9-12]و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم*499

[12-14]و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون*لتستووا على ظهوره ثم500

ص: 658

[15 و 16]و جعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين*أم اتخذ مما يخلق502

[17 و 18]و إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا و هو كظيم*502

[19 و 20]و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب503

[21-24]أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون*بل قالوا إنا وجدنا آباءنا504

[25-28]فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين*و إذ قال إبراهيم لأبيه505

[29 و 30]بل متعت هؤلاء و آباءهم حتى جاءهم الحق و رسول مبين*و لما جاءهم506

[31]و قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم506

[32]أ هم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا507

[33-35]و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا509

[36 و 37]و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين*و إنهم510

[38 و 39]حتى إذا جاءنا قال يا ليت بينى و بينك بعد المشرقين فبئس القرين*511

[40-42]أ فأنت تسمع الصم أو تهدى العمى و من كان فى ضلال مبين*فإما512

[43 و 44]فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم*و إنه لذكر لك513

[45]و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة514

[46-52]و لقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون و ملئه فقال إنى رسول رب العالمين515

[53-56]فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين*517

[57]و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون519

[58-60]و قالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون*إن520

[61 و 62]و إنه لعلم للساعة فلا تمترن بها و اتبعون هذا صراط مستقيم*و لا521

[63-66]و لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذى522

[67]الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين523

[68-71]يا عباد لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون*الذين آمنوا بآياتنا524

[72-76]و تلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون*لكم فيها فاكهة كثيرة منها525

[77 و 78]و نادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون*لقد جئناكم بالحق526

[79-81]أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون*أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم و نجواهم بلى526

[82-83]سبحان رب السماوات و الأرض رب العرش عما يصفون*فذرهم527

[84-86]و هو الذى فى السماء إله و فى الأرض إله و هو الحكيم العليم*و تبارك528

[87-89]و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون*و قيله يا رب إن هؤلاء529

في تفسير سورة الدخان 531

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*و الكتاب المبين*إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا531

ص: 659

[4-6]فيها يفرق كل أمر حكيم*أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين*رحمة من532

[7 و 8]رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم موقنين*لا إله إلا هو يحيى533

[9-12]بل هم فى شك يلعبون*فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين*يغشى533

[13-16]أنى لهم الذكرى و قد جاءهم رسول مبين*ثم تولوا عنه و قالوا معلم535

[17-19]و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون و جاءهم رسول كريم*أن أدوا إلي عباد الله535

[19-28]إنى آتيكم بسلطان مبين*و إنى عذت بربى و ربكم أن ترجمون*و إن لم536

[29]فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين537

[30-33]و لقد نجينا بنى إسرائيل من العذاب المهين*من فرعون إنه كان عاليا من538

[34-37]إن هؤلاء ليقولون*إن هى إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمنشرين*فأتوا539

[38-42]و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين*ما خلقناهما إلا540

[43-50]إن شجرة الزقوم*طعام الأثيم*كالمهل يغلى فى البطون*كغلي540

[51-55]إن المتقين فى مقام أمين*فى جنات و عيون*يلبسون من سندس541

[56-59]لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى و وقاهم عذاب الجحيم*فضلا542

في تفسير سورة الجاثية 545

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم545

[6 و 7]تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون*546

[8]يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب547

[9-11]و إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين*من547

[12 و 13]الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره و لتبتغوا من فضله548

[14]قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا549

[15-18]من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون*و لقد550

[19 و 20]إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله551

[21]أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا552

[22 و 23]و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و لتجزى كل نفس بما كسبت و هم لا553

[24]و قالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر و ما لهم554

[25-27]و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن555

[28 و 29]و ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون556

[30-35]فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم فى رحمته ذلك هو558

[35-37]فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون*فلله الحمد رب السماوات560

في تفسير سورة الأحقاف 563

ص: 660

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم*ما خلقنا563

[4]قل أ رأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ما ذا خلقوا من الأرض أم لهم564

[5-7]و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة و هم564

[8]أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا هو أعلم بما565

[9]قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدرى ما يفعل بى و لا بكم إن أتبع إلا ما566

[10]قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بنى إسرائيل567

[11]و قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه و إذ لم يهتدوا به568

[12-14]و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر569

[15]و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها و وضعته كرها و حمله570

[15-16]حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك571

[17 و 18]و الذى قال لوالديه أف لكما أ تعداننى أن أخرج و قد خلت القرون من574

[19 و 20]و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون*و يوم575

[21-25]و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف و قد خلت النذر من بين يديه و من577

[26-28]و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة فما579

[29-31]و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا580

[32]و من لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض و ليس له من دونه أولياء582

[33-35]أ و لم يروا أن الله الذى خلق السماوات و الأرض و لم يعى بخلقهن بقادر583

في تفسير سورة محمد 587

[1]بسم الله الرحمن الرحيم الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم587

[2 و 3]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد و هو الحق من588

[4]فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا589

[4-6]و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلوا بعضكم ببعض و الذين قتلوا فى591

[7-9]يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم*و الذين592

[10-12]أ فلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله592

[13 و 14]و كأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكناهم فلا593

[15]مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن594

[16 و 17]و منهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم595

[18]فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا596

[19]فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات و الله يعلم597

[20-22]و يقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها598

ص: 661

[23 و 24]أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم*أ فلا يتدبرون599

[25-26]إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول600

[27 و 28]فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم*ذلك بأنهم601

[29-31]أم حسب الذين فى قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم*و لو نشاء602

[32-33]إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم604

[34 و 35]إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و هم كفار فلن يغفر الله لهم605

[36 و 37]إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و إن تؤمنوا و تتقوا يؤتكم أجوركم و لا يسألكم605

[38]ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا فى سبيل الله فمنكم من يبخل و من يبخل606

في تفسير سورة الفتح 609

[1]بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحا مبينا609

[2 و 3]ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك619

[4-5]هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله620

[6]و يعذب المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات الظانين بالله ظن621

[7 و 8]و لله جنود السماوات و الأرض و كان الله عزيزا حكيما*إنا أرسلناك622

[9 و 10]لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه و تسبحوه بكرة و أصيلا*إن الذين623

[11]سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا624

[12 و 13]بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا و زين ذلك فى625

[14 و 15]و لله ملك السماوات و الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و كان الله626

[15 و 16]بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا*قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم627

[17-19]ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج628

[20]وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه و كف أيدى الناس629

[21 و 23]و أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها و كان الله على كل شيء قديرا*632

[24]و هو الذى كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن633

[25]هم الذين كفروا و صدوكم عن المسجد الحرام و الهدى معكوفا أن يبلغ636

[26]إذ جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته637

[27]لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله639

[28 و 29]هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و كفى640

[29]كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ642

فهرس المحتوى 645

ص: 662

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.