نفحات الرحمن في تفسیر القرآن جلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

اشارة

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الثاني

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 2

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

الجزء الثانى

تتمة تفسير سورة آل عمران

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 57

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (57)

ثمّ أردف سبحانه التّهديد و الوعيد بالوعد و التّرغيب، بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته، و عبوديّتك و رسالتك وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ التي يكون الالتزام بها من وظائف الإيمان، و داوموا على العبادات و الطّاعات فَيُوَفِّيهِمْ اللّه، و يكمل لهم أُجُورَهُمْ و ثواب إيمانهم و أعمالهم، من غير نقص وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ بل يبغضهم أشدّ البغض. و فيه بيان علّة تعذيبه الكافرين، و توفيته ثواب المؤمنين.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 58

ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ (58)

ثمّ استدلّ سبحانه على نبوّة خاتم النّبيّين بأنّ جميع هذه القضايا ممّا لا يمكن اطّلاع محمّد صلّى اللّه عليه و آله عليها إلاّ بالوحي من اللّه، لا بالتّعلّم من عالم، و لا بالقراءة في كتاب، حيث قال: ذلِكَ المذكور من نبأ عيسى بدوا و ختما نَتْلُوهُ و نقرأه عَلَيْكَ بالوحي، و بتوسّط جبرئيل، حال كون المتلوّ مِنَ اَلْآياتِ و الأدلّة الدّالّة على صحّة نبوّتك، من حيث إعجاز البيان، و كونه من الأخبار المغيّبات، وَ من اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ و القرآن المحكم المصون من تطرّق الخلل إليه، أو المشتمل على الحكم البالغة في نظمه و تأليفه و كثرة علومه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 59 الی 61

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ (61)

ثمّ أنّه نقل المفسّرون أنّ وفد نجران لمّا قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا سلّمت أنّه لا أب لعيسى من البشر، وجب أن يكون أبوه هو اللّه، فنزل دفعا لهذه الشّبهة (1)إِنَّ مَثَلَ عِيسى و شأنه البديع المنتظم لغرابته في سلك الأمثال عِنْدَ اَللّهِ و في

تقديره و حكمه كَمَثَلِ آدَمَ و نحو خلقته العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب، و لا ينازع فيها منازع.

ص: 5


1- . تفسير الرازي 8:74.

ثمّ بيّن سبحانه وجه المماثلة بقوله: خَلَقَهُ اللّه بقدرته الكاملة مِنْ تُرابٍ و سوّى جسده من طين لازب ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا و حيّا سويّا، و أراد أن يوجد إنسانا كاملا فَيَكُونُ و يوجد كما أراد من غير ريث، فإن كنتم عجبتم من خلق عيسى بلا آب، و لذلك قلتم: إنّه ابن اللّه، فلا بدّ أن يكون تعجّبكم من خلق آدم أكثر، و قولكم بأنّه ابن اللّه أولى.

فذلك البناء من كيفيّة خلق عيسى هو اَلْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّكَ لا قول النّصارى فَلا تَكُنْ بعد وحي اللّه إليك مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ في كيفيّة خلق عيسى، و الشّاكّين فيها، مع أنّه لا يمكن في حقّك الامتراء و الشّكّ.

فَمَنْ حَاجَّكَ في شأن عيسى و أمّه [و]

جادلك فِيهِ لجاجا و جهلا بالأقاويل الباطلة و الآراء الزّائغة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ بالحقّ و ظهور الصّواب من الآيات البيّنات، و أقمت الحجج عليهم، فلم يرتدعوا عمّا هم عليه من الغيّ و الضّلال فَقُلْ لهم تَعالَوْا و هلمّوا بالرأي و العزيمة نَدْعُ نحن و أنتم أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ و تخصيص الأبناء بالذّكر؛ لأنّهم أعزّ من البنات وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ و ذكرهنّ لكونهنّ من بعد الأبناء أعزّة الأهل، و يجعل الإنسان نفسه وقاية لهنّ في المهالك، وَ ندع وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ إلى المباهلة، و احضروا حتّى نحمل نفوسنا، و من هو بمنزلة الرّوح منّا و ألصق بقلوبنا، على التّوطين للهلاك ثُمَّ نَبْتَهِلْ و نتلاعن فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ و عذابه عَلَى اَلْكاذِبِينَ منّا و منكم.

في (العلل) : عن الجواد عليه السّلام قال: «و لو قال: (تعالوا نبتهل فنجعل لعنت اللّه عليكم) لم يجيبوا للمباهلة، و قد عرف أن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله مؤدّ عنه [رسالته]و ما هو من الكاذبين، و كذلك عرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه صادق فيما يقول، و لكن أحبّ أن ينصف من نفسه» (1).

في شرح قضية المباهلة :

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أورد الدّلائل على النّصارى، ثمّ أنّهم أصرّوا على جهلهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك. فلمّا رجعوا قالوا للعاقب (2)، و كان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: و اللّه، لقد عرفتم يا معشر النّصارى أنّ محمّدا نبيّ مرسل، و لقد جاءكم بالكلام [الحقّ]في أمر صاحبكم، و اللّه ما باهل قوم نبيّا قطّ، فعاش كبيرهم، و لا نبت صغيرهم، و لئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم [إلاّ]الإصرار على دينكم، و الإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرّجل و انصرفوا إلى بلادكم.

ص: 6


1- . علل الشرائع:129/1، عن الإمام الهادي عليه السّلام.
2- . العاقب: هو من يخلف سيّد القوم في الرتبة، و هو صاحب الرأي.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [قد]خرج و عليه مرط من شعر أسود-و المرط كساء من صوف-و كان صلّى اللّه عليه و آله قد احتضن الحسين عليه السّلام و أخذ بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه، و عليّ عليه السّلام خلفها، و هو يقول: إذا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النّصارى، إنّي لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله [بها]، فلا تباهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

ثمّ قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرّك على دينك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما على المسلمين» فأبوا، فقال: «فإنّي أناجزكم القتال» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، و لكن نصالحك على أن لا تغزونا و لا تردّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك في كلّ عام ألفي حلّة؛ ألفا في صفر و ألفا في رجب، و ثلاثين درعا عاديّة من حديد، فصالحهم على ذلك، و قال: «و الذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستأصل اللّه نجران و أهله حتّى الطّير في رؤوس الشّجر، و لما حال الحول على النّصارى حتّى يهلكوا» .

أقول: هذا عين ما رواه الفخر الرازي في تفسيره (1)، و قريب ممّا رواه غيره من المفسّرين (2).

و قال البيضاوي بعد نقله: هذا دليل على نبوّته، و فضل من أتى بهم من أهل بيته (3).

و أقول: هذا دليل على أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه (4)، و أفضل من سائر البريّة، و أنّه خليفته.

ثمّ قال الفخر: و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خرج في المرط الأسود فجاء الحسن عليه السّلام فأدخله، ثمّ جاء الحسين عليه السّلام فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ عليهما السّلام، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (5). ثمّ قال: و اعلم أنّ هذه الرّواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التّفسير و الحديث (6).

في (العلل) : عن الكاظم عليه السّلام: «لم يدّع أحد أنّه أدخله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحت الكساء عند مباهلة النّصارى إلاّ عليّ بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين عليهما السّلام، فكان تأويل قوله عزّ و جلّ: أَبْناءَنا الحسن و الحسين عليهما السّلام، و نِساءَنا فاطمة عليها السّلام و أَنْفُسَنا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (7).

و عن القمي في رواية عن الصادق عليه السّلام، بعد ذكر آية فَمَنْ حَاجَّكَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللّعنة عليكم، و إن كنت كاذبا أنزلت عليّ» فقالوا: أنصفت. فتواعدوا

ص: 7


1- . تفسير الرازي 8:80.
2- . تفسير البيضاوي 1:163، تفسير أبي السعود 2:46، تفسير الصافي 1:318.
3- . تفسير البيضاوي 1:163.
4- . أي نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
5- . الأحزاب:33/33.
6- . تفسير الرازي 8:80.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:85/9، تفسير الصافي 1:318 عن عيون أخبار الرضا عليه السّلام، و لم نجده في العلل.

للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم، السيّد و العاقب و الأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنّه ليس نبيا، و إن باهلنا بأهل بيته خاصّة فلا نباهله، فإنّه لا يقدم على أهل بيته إلاّ و هو صادق.

فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن، و الحسين عليهم السّلام، فقال النّصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: إنّ هذا ابن عمّه و وصيّه و ختنه عليّ بن أبي طالب، و هذه ابنته فاطمة، و هذان ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام، ففرقوا و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الجزية و انصرفوا (1).

في أن ابن البنت

ابن حقيقة

قال الفخر: هذه الآية دالّة على أنّ الحسن و الحسين ابنا رسول اللّه، حيث وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن و الحسين عليهما السّلام فوجب أن يكونا ابنيه، و ممّا يؤكّد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إلى قوله: وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى (2)و معلوم أنّ عيسى انتسب إلى إبراهيم بالأمّ لا بالأب، فثبت أنّ ابن البنت قد يسمّى ابنا (3).

أقول: عصبيته منعته من أن يقول: فثبت أنّ ابن البنت ابن حقيقة، و قال: قد يسمّى ابنا.

في أنّ علي بن أبي

طالب عليه السّلام أفضل

من سائر الأنبياء

ثمّ قال: إنّه كان بالرّي رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، و كان معلّم الاثني عشريّة، و كان يزعم أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال: و الذي يدلّ عليه قوله تعالى: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ، و ليس المراد بقوله: أَنْفُسَنا نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، و أجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النّفس هي عين تلك النّفس، فالمراد أنّ هذه النّفس هي مثل تلك النّفس، و ذلك يقتضي الإستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حقّ النّبوّة و في حقّ الفضل، لقيام الدّلائل على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان نبيّا، و ما كان عليّ كذلك، و لانعقاد الإجماع على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أفضل من عليّ عليه السّلام، فيبقى فيما وراءه معمولا به، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عليّ عليه السّلام أفضل من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية (4).

ثمّ قال الفخر [نقلا عن محمود الحمصي المتقدم]: و يؤيّد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول

ص: 8


1- . تفسير القمي 1:104، تفسير الصافي 1:318.
2- . الأنعام:6/84 و 85.
3- . تفسير الرازي 8:81.
4- . و للشيخ المفيد تفصيل في المقام ذكره في كتابه (تفضيل أمير المؤمنين عليه السّلام) المنشور في ج 7 من مصنفات الشيخ المفيد، فراجع.

عند الموافق و المخالف، و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من أراد أن يرى آدم فى علمه، و نوحا في طاعته، و إبراهيم في خلّته، و موسى في هيبته، و عيسى في صفوته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب» . فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرّقا فيهم، و ذلك يدلّ على أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا سائر الشّيعة فقد كانوا قديما و حديثا يستدلّون بهذه الآية على أن عليّا أفضل من سائر الصّحابة؛ و ذلك لأنّ الآية لمّا دلّت على أنّ نفس عليّ عليه السّلام (1)مثل نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ فيما خصّه الدّليل، و كان نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل من الصّحابة، فوجب أن يكون عليّ أفضل أيضا من سائر الصّحابة. هذا تقرير كلام الشّيعة.

في نقل كلام الفخر

ورده

ثمّ قال الفخر: و الجواب: أنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من عليّ عليه السّلام، انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ، و أجمعوا على أن عليّا عليه السّلام لم يكن نبيّا، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء. أنتهى كلام الفخر (2).

و فيه: أنّ دعوى الإجماع على أنّ كلّ نبيّ أفضل من غير النبي، في غاية البطلان، بل الإجماع على خلافه، لوضوح أنّ مريم كانت أفضل من أنبياء بني إسرائيل، و لم يكن في كمالاتها النّفسانيّة قصور عن أهليّتها لمنصب النّبوّة، غير أنّ صفة الأنوثية منعتها عن نيله، و الشّاهد على ذلك أنّها كانت تحدّث الملائكة مشافهة، و زكريّا مع كونه نبيّا، لم يعلم أنّه رأى ملكا، و إنّما كان يسمع النّداء.

و كذلك لم يكن في كمالات عليّ عليه السّلام قصور عن قابليّة رتبة النّبوّة، و لو لا ختم النّبوّة بوجود خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله لكان عليّ عليه السّلام نبيّا.

في إثبات أفضلية

الصديقة الطاهرة

على غير أبيها

من الأنبياء

بل اعتقاد الإماميّة أنّ فاطمة عليها السّلام؛ التي كانت دون عليّ عليه السّلام في الفضل، كانت أفضل من سائر الأنبياء، حيث قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فاطمة روحي التي بين جنبي» (3). و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ، آدم و من دونه» (4).

و هذا الحديث و الحديث السّابق المتّفق عليه صريحان في أفضليّة علي عليه السّلام من سائر الأنبياء، نعم الإجماع منعقد على أنّ كلّ نبيّ أفضل من أمّته و ممّن هو تحت تبعيّته و حكمه، لا أنّه لا بدّ أن يكون

ص: 9


1- . (أفضل من سائر. . . عليّ عليه السّلام) ليس في المصدر.
2- . تفسير الرازي 8:81.
3- . أمالي الصدوق:175/2.
4- . الكافي 1:383/10، من لا يحضره الفقيه 3:249/1183، التهذيب 7:470/1882، الفردوس 3:373/5130، مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزمي 1:66.

أفضل من كلّ من لا يكون نبيّا، و لو من سائر الأمم حتّى أوصياء خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

و الحاصل: أنّ القائل بأفضليّة عليّ عليه السّلام لم يكن منحصرا بذلك الفاضل الحمصي، بل هو قول جميع علماء الإماميّة، بل يمكن دعوى كونه من ضروريّات مذهبهم.

ثمّ أنّ في واقعة المباهلة دلالة واضحة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة نبوّته، لوضوح أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أعقل النّاس، و أنّه أقدم على المباهلة و خوّف النّصارى بنزول العذاب عليهم بدعائه، فلو لم يكن قاطعا بنبوّته، لكان ذلك منه سعيا في ظهور كذبه، و نقض غرضه، و إهلاك نفسه، حيث إنّ النّصارى إن كانوا أقدموا على المباهلة و رأوا أنّه لم ينزل عليهم العذاب، كان يتّضح عندهم كذبه صلّى اللّه عليه و آله و فضاحته بين النّاس، مع أنّه لا شبهة أنّ القوم تركوا مباهلته، فلو لم يظهر لهم نبوّته، لم يمكن عادة امتناعهم عن مباهلته، مع شدّة إصرارهم على تكذيبه، و إبطال دعواه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أكّد اللّه سبحانه الحجج التي أقامها على النّصارى بقوله: إِنَّ هذا المذكور من نبأ عيسى و أمّه، و كونهما مخلوقين للّه و عبديه، و من الأدلّة المفصّلة عليها لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ و البيانات المقرونة بالصّدق و الصّواب التي نتيجتها قوله: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ وحده لا شريك له، و لا ولد وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب على كلّ شيء، القادر على جميع ما يريد اَلْحَكِيمُ العالم بجميع الأمور و عواقبها، و بحكم كافّة الأشياء و مصالحها، لا يشابهه غيره في القدرة و الحكمة حتّى يشاركة في الألوهيّة.

إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قبول الإسلام، و استنكفوا عن الاعتراف بتوحيد اللّه و رسالتك، فاعلم أنّه ليس ذلك التّولّي إلاّ عن العناد و إرادة الفساد، فإذن لا تبال بهم، و لا تحزن عليهم، و أعرض عنهم، و اقطع الكلام معهم، و فوّض أمرهم إلى اللّه فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ مطّلع على خبث ذاتهم و سوء نيّاتهم، خبير بأهوائهم الزّائغة و أغراضهم الفاسدة، قادر على مجازاتهم بأسوأ الجزاء. و في ذكر اسم الجلالة، تربية الرّوعة و المهابة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 64

ص: 10

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بمباهلة أهل الكتاب، و إعراضه عن مجادلتهم-مع كونه صلّى اللّه عليه و آله حريصا في إيمانهم، و مصرّا على هدايتهم-أمره بأن يعدل في دعوتهم عن طريق المجادلة و المحاجّة إلى نهج يشهد كلّ عقل سليم أنّه عدل و إنصاف، ليس فيه شائبة التّعصّب، بقوله: قُلْ يا محمّد للنّصارى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا و هلمّوا بالتّصميم و توطين النّفس إِلى كَلِمَةٍ ذات سَواءٍ و قول فيه عدل و إنصاف بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ لا يتصوّر فيها لأحد جور و ميل على صاحبه؛ و هي تواطئنا على أَلاّ نَعْبُدَ أحدا من الخلق، و شيئا من الموجودات إِلاَّ اَللّهَ المستحقّ بالذّات للالوهيّة و العبادة وَ لا نُشْرِكَ بِهِ في عبادتنا شَيْئاً من مخلوقاته مسيحا كان، أو صنما، أو غيرهما وَ لا يَتَّخِذَ و لا يختار بَعْضُنا بَعْضاً آخر من الأحبار و الرّهبان أَرْباباً و مطاعين في تحليل الأشياء و تحريمها مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ (64)

في بيان المراد

من الأقانيم

فإنّ جميع هذه الأمور الثّلاثة (1)ممّا تسالمت عليها العقول السّليمة و الطّباع المستقيمة، و اتّفقت عليها الرّسل و الكتب المنزلة، و مع ذلك خالفت النّصارى كلّها، إذ كان بعضهم يقولون بالوهيّة عيسى عليه السّلام وحده و يعبدونه، و بعضهم يشركون باللّه غيره، و يقولون بالأقانيم الثّلاثة: أب، و ابن، و روح القدس، حيث قالوا: إنّ اقنوم الكلمة تدرّعت بناسوت المسيح، و اقنوم روح القدس بناسوت مريم، و لولا [كون]هذين الاقنومين ذاتين مستقلّتين، لما جازت عليها مفارقة ذات الأب و التّدرّع بناسوت عيسى و مريم عليهما السّلام، فلذا أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلّة، و كذا اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا، حيث كانوا يطيعونهم في التّحليل و التّحريم، و يسجدون لهم.

روي أنّه لمّا نزلت اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ (2)قال عديّ بن حاتم: ما كنّا نعبدهم يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ ليس كانوا يحلّون لكم و يحرّمون، فتأخذون بقولهم؟» قال: نعم، قال: «هو ذلك» (3).

قيل: إنّ من مذهبهم أنّ من صار كاملا في الرّياضة و المجاهدة يظهر منه (4)أثر حلول اللاّهوت، فيقدر على إحياء الأموات، و إبراء الأكمه و الأبرص. فإنّهم و إن لم يطلقوا عليه اسم الرّبّ، إلاّ أنّهم أثبتوا فيه (5)معنى الرّبوبيّة (6).

و روي أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما تريد إلاّ أن نتّخذك ربّا كما اتّخذت النّصارى عيسى، و قالت

ص: 11


1- . أي الواردة في الآية.
2- . التوبة:9/31.
3- . تفسير أبي السعود 2:47.
4- . في تفسير الرازي: فيه.
5- . في تفسير الرازي: في حقه.
6- . تفسير الرازي 8:86.

النّصارى: يا محمّد، ما تريد إلاّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنزل اللّه هذه الآية (1). و عليها يكون الخطاب لأهل الكتابين.

ثمّ قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا عن سلوك طريق الإنصاف و اتّباع العقل، و استنكفوا عن قبول ما دعوتهم إليه من التّوحيد و ترك الإشراك فَقُولُوا أيّها الموحّدون لأهل الكتابين: اِشْهَدُوا و اعترفوا بعدما لزمتكم الحجّة بِأَنّا خاصّة مُسْلِمُونَ للّه منقادون لما دعانا إليه من التّوحيد، و عدم الإشراك في العبادة؛ ببيان العقل، و لسان الرّسل. و فيه دلالة ظاهرة على أنّ أصل جميع الدّيانات هو التّوحيد، و الإخلاص في العبادة.

في توقيع سيد

الرسل إلى قيصر

الروم

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كتب إلى قيصر الرّوم: «من محمّد رسول اللّه، إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد: فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، و إن تولّيت فإنّ عليك إثم الأوليين (2)، و يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً إلى قوله: فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» (3).

روي أنّ هرقل سأل عن حال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عرفها ممّن جاء بكتابه، فقال هرقل: لو كنت عنده لقبّلت قدميه؛ لمعرفته صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة، لكن خاف من ذهاب الرّئاسة.

ثمّ أنّه كتب جواب كتابه صلّى اللّه عليه و آله: إنا نشهد أنّك نبيّ، و لكنّا لا نستطيع أن نترك الدّين القديم الذي اصطفاه اللّه لعيسى. فعجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة أبدا» .

و كتب إلى كسرى ملك فارس فمزّق كتابه، و رجع الرّسول بعدما أراد قتله، فدعا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «خرّق اللّه ملكهم، فلا ملك لهم أبدا» ، فكان كذلك (4).

فى مبالغة

النبي صلّى اللّه عليه و آله في دعوة

النصارى و حسن

التدّرج في

الحجاج

قال بعض: انظر ما روي في هذه القضيّة من المبالغة في الإرشاد، و حسن التّدرّج في الحجاج بيّن أوّلا أحوال عيسى، و ما تعاور (5)عليه من الأطوار المنافية للإلاهيّة، ثمّ ذكر كيفيّة دعوته للنّاس إلى التّوحيد و الإسلام، ثمّ ذكر ما يحلّ عقدتهم، و يزيح شبهتهم، فلمّا ظهر عنادهم و لجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثمّ لمّا

ص: 12


1- . تفسير الرازي 8:85.
2- . في تفسير روح البيان: الاريسيّين، و هم الخدم و الخول، أو هم عبدة النار، أو الملوك و العشارون. انظر: مكاتيب الرسول:105-107.
3- . تفسير روح البيان 2:46.
4- . تفسير روح البيان 2:46.
5- . تعاور: أي تداول عليه.

أعرضوا و انقادوا بعض الانقياد، عاد عليهم بالإرشاد، و سلك طريقا أسهل و ألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى و الإنجيل و سائر الأنبياء و الكتب، ثمّ لمّا ظهر عدم إجدائه، و علم أنّ الآيات و النّذر لا تغن عنهم، أعرض عن ذلك بقوله: اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ .

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 65

ثمّ أنّه-لمّا كان كلّ من اليهود و النّصارى يدّعون أنّ إبراهيم كان على دينهم، و يستدلّون بذلك على صحّة ملّتهم، لتسالم جميع الفرق على علوّ مقام إبراهيم عليه السّلام، و استقامة طريقته، و حسن سيرته، و صحّة عقيدته-ردّ اللّه عليهم بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى لِمَ تُحَاجُّونَ و تنازعون فِي دين إِبْراهِيمَ أنّه يهوديّ أو نصرانيّ وَ الحال أنّه ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ اللذين بهما حدث الدّينان إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ بقرون كثيرة، و لم يكونا في زمانه أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّ هذه الدّعوى واضحة البطلان؟ و كيف لا تفهمون أنّ هذا القول من الفساد بمكان.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65)قيل: إنّ بين إبراهيم و موسى عليهما السّلام و نزول التّوراة ألف سنة، و بين موسى و عيسى عليهما السّلام و نزول الإنجيل ألفا سنة (1).

وهم و دفع

إن قيل: إنّ المسلمين أيضا يدّعون أنّ إبراهيم كان مسلما، و هذه الدّعوى كدعوى أهل الكتابين من المحالات، حيث إنّه ما أنزل القرآن و الإسلام إلاّ من بعده، فكلّ ما يقول المسلمون في توجيه دعواهم، تقول الطّائفتان أيضا.

قلنا: المراد من الإسلام: هو التّوحيد الخالص، و تنزيهه تعالى عن التّجسّم و الولد و الحاجة. و هذ الدّين كان من أوّل الدّنيا، و يكون إلى يوم القيامة. و المراد باليهوديّة: هو القول بالشّرك، و التّجسّم، و إثبات الولد له تعالى. و كذا النّصرانيّة.

و هذه العقائد الفاسدة كانت عندهم منسوبة إلى الكتابين، أو حدثت في اعتقادهم بعد الكتابين؛ لأنّ اليهود ذهبوا إلى القول بأنّ العزير ابن اللّه لتلاوته التّوراة بعد ذهابها من بين النّاس عن ظهر القلب، و النّصارى قالوا: إنّ المسيح الجائي بالإنجيل كان هو اللّه أو شريكه أو ولده؛ لأنّه كان بلا أب، أو كان عيسى عليه السّلام يعبّر في الإنجيل عن اللّه بالأب.

و أمّا العقائد الإسلاميّة فلم يكن حدوثها بنزول القرآن، بل أخبر القرآن بأنّها كانت من لدن آدم

ص: 13


1- . تفسير أبي السعود 2:48، تفسير روح البيان 2:48.

و قبله.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ إنّه سبحانه وبّخ أهل الكتاب على دعواهم الفاسدة بقوله: ها تنبّهوا يا أهل الكتاب أَنْتُمْ هؤُلاءِ الحمقاء، البعيدون عن العقل، الممتازون بغاية السّفاهة، حيث إنّكم حاجَجْتُمْ و جادلتم في كثير من الدّعاوى الباطلة، متمسّكين بالتّوراة و الإنجيل المحّرفين، كدعوى كون كثير من أحكامهما مخالفا لدين الإسلام، و تدّعون أنّ جدالكم فيه جدال فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لوجود هذه المخالفة في الكتاب الذي تسمّونه بالتّوراة و الإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ و تجادلون فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من دين إبراهيم عليه السّلام أنّه كان يهوديّا، أو نصرانيّا، أو مسلما، لعدم تعيينه في الكتابين المحرّفين وَ اَللّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور، منها دين إبراهيم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئا إلاّ ما علّمكم اللّه.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (67)

فإن أردتم أن تعلموا دين إبراهيم فاعلموا أنّه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا فإنّ مقامه أرفع من التّديّن بالدّينين الباطلين وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً و مائلا عن جميع العقائد الباطلة و مُسْلِماً منقادا للّه وحده وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ و فيه تعريض بأنّهم مشركون، و ردّ على مشركي العرب؛ حيث كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم عليه السّلام.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 68

ثمّ أنّه تعالى عرّف الذين هم على دين إبراهيم عليه السّلام بقوله: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ و أحقّهم بالاتّصال بِإِبْراهِيمَ برابط الدّين، فريقان: الأوّل: لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ في زمانه و الأعصار بعده، في التّوحيد الخالص، و الانقياد للّه، وَ الثاني: هذَا اَلنَّبِيُّ المعظّم وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا من المسلمين وَ اَللّهُ وَلِيُّ اولئك اَلْمُؤْمِنِينَ فينصرهم على مخالفيهم، و يؤيّدهم بالحجّة، و يوفّقهم لكلّ خير في الدّنيا، و يجازيهم بأحسن الجزاء في الآخرة.

إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ (68)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 69

ص: 14

ثمّ أنّه تعالى-لمّا بيّن أنّ المؤمنين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله هم الذين يكونون على ملّة إبراهيم، دون اليهود و النّصارى-بيّن أنّهم لا يقتصرون على ضلالة أنفسهم عن نهج الحقّ، بل يريدون إضلال المؤمنين، بقوله: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ و تمنّوا لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أيّها المؤمنون عن دينكم الحقّ مع غاية ثباتكم عليه، و الحال أنّهم وَ ما يُضِلُّونَ عن سبيل الهداية و طريق الجنّة إِلاّ أَنْفُسَهُمْ لرسوخ الإيمان في قلوبكم، و عدم تخطّيهم الضّلال وَ ما يَشْعُرُونَ باختصاصهم به، و رجوع وبال ذلك الضّلال إليهم.

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69)قيل: نزلت هذه الآية في معاذ و عمّار بن ياسر و حذيفة [لمّا]دعاهم اليهود إلى دينهم (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 70

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب التّوبيخي إليهم بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ الناطقة بصحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنّها آيات اللّه في خلواتكم، و قيل: المراد: لم تنكرون القرآن و أنتم تشهدون بقلوبكم و عقولكم كونه معجزا (2).

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 71

ثمّ وبّخهم ثانيا بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ و تخلطون اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ و تجتهدون في إلقاء الشّبهات، حتّى لا يتميّز الرّشد من الغيّ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ و تخفون دلائله الواضحة وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بها و بدلالتها، و قبح الكتمان و التّلبيس و بعقابهما الاخرويّ.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 72 الی 73

ثمّ بيّن اللّه أحد أنواع تلبيساتهم بقوله: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ رؤساء أَهْلِ اَلْكِتابِ لأتباعهم- قيل: إنّها كانت كعب بن أشرف و مالك بن الصيف من رؤساء اليهود، لأتباعهما و أصحابهما، لمّا

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

ص: 15


1- . جوامع الجامع:61.
2- . تفسير الرازي 8:92.

تحوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة-: آمِنُوا في الظّاهر بألسنتكم بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد، من تحويل القبلة، و قولوا بأفواهكم: إنّه الحقّ، و صلّوا إليها وَجْهَ اَلنَّهارِ و في أوّله.

و عن العيّاشي: و هو صلاة الصّبح (1)، حتّى يعتقد المؤمنون أنّكم اعتقدتم عن صميم القلب وَ اُكْفُرُوا به و تجاهروا بإنكاره و صلّوا إلى الصّخرة آخِرَهُ

عبّاس (2)-كي يكون ذلك سببا لوقوع الشّبهة في قلوبهم بأن يقولوا في أنفسهم: إنّ اليهود أعلم منّا، فآمنوا بالتّحويل من غير تأمّل و غرض، ثمّ بعد التّامّل و التّفكّر ظهر لهم بطلانه فرجعوا لَعَلَّهُمْ بهذه الشّبهة يَرْجِعُونَ عن الإيمان بمحمّد، و بتحويل القبلة.

و قيل: كانت الطّائفة اثني عشر رجلا من أحبار خيبر، حيث تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أوّل النّهار، و يقولوا آخره: نظرنا في كتابنا، و شاورنا علماءنا، فلم نجد محمّدا بالنّعت الذي ورد في التّوراة، لعلّ أصحابه يشكّون فيه (3).

وَ قالوا لأتباعهم، و وصّوا إليهم بأن لا تُؤْمِنُوا إيمانا واقعيّا، و لا تصدّقوا عن صميم القلب لأحد إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من اليهود، لا لمن تبع دين محمّد من المسلمين.

قيل: إنّ المراد: لا تظهروا الإيمان وجه النّهار إلاّ للمسلمين الّذين كانوا على دينكم من قبل، فإنّ رجوعهم أرجى و أهمّ (4).

و في الإخبار بهذه الأسرار الخفيّة معجزة ظاهرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حفظ قلوب المؤمنين عن الشّكّ، و ردع المنافقين عن السّعي في إلقاء الشّبهات.

ثمّ لما سمّوا طريقتهم الباطلة بالدّين و الهداية ردّهم اللّه بقوله: قُلْ إِنَّ اَلْهُدى و الدّين هُدَى اَللّهِ و دينه، لا مذهب اليهوديّة. أو المراد: قل لهم إنّ الهداية و التّوفيق هداية اللّه و توفيقه، يهدي بها من يشاء إلى الإيمان، و يثيبه عليه، و لا يضرّه كيدكم و حيلكم.

ثمّ إنّ الأظهر أنّه تعالى-بعد الجملة الاعتراضيّة التي جاء بها، لشدّة الاهتمام بالتّنبيه بها-عاد إلى حكاية بقيّة كلام الرؤساء لاتباعهم، و كأنّهم قالوا لهم: و لا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ من العرب أو غيرهم مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من المعجزات، و الكتاب، و الأحكام، و العلوم، فإنّ ذلك من المحالات غير

ص: 16


1- . تفسير الرازي 8:94 عن ابن عبّاس، و لم نعثر عليه في تفسير العياشي.
2- . تفسير الرازي 8:94.
3- . تفسير البيضاوي 1:165، تفسير أبي السعود 2:49.
4- . تفسير البيضاوي 1:165، تفسير أبي السعود 2:49.

القابلة للتّصديق أَوْ أنّ المسلمين يُحاجُّوكُمْ و يغلبوا عليكم عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة، فاثبتوا بغاية الثّبات على دينكم، فإنّه غير منسوخ. و في الآية احتمالات اخر يكون التكلّف فيها أكثر.

ثمّ رد اللّه عليهم بقوله: قُلْ لهم إِنَّ اَلْفَضْلَ من النّبوّة، و العلم، و الكتاب، و الهداية، و التّوفيق أمره بِيَدِ اَللّهِ و إرادته و مشيئته و قدرته يُؤْتِيهِ و يصيب به مَنْ يَشاءُ من عباده على حسب قابليّته و كمال وجوده، و لا يختصّ بطائفة خاصّة و أشخاص مخصوصة وَ اَللّهُ واسِعٌ قدرة و رحمة و فضلا عَلِيمٌ باستحقاقات الخلائق و قابليّاتهم، و مطّلع على جميع مصالح الأمور و مفاسدها.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 74

ثمّ أكّد سبحانه سعة قدرته و فضله بقوله: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من نعمه و كرامته مَنْ يَشاءُ إنعامه و إكرامه، قيل: إنّ الرّحمة أعلى من الفضل وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ بحيث لا نفاد لفضله، و لا نهاية لكرمه.

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (74)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 75

ثمّ لمّا كان أهل الكتاب مدّعين أولويّتهم بمنصب النّبوة من غيرهم من العرب، نفى اللّه أهليتهم له، بكون غير المسلمين منهم خائنين في أموال النّاس، بقوله: وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ كعبد اللّه بن سلام، و أضرابه من المؤمنين منهم مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ قيل: هو كناية عن المال الكثير يُؤَدِّهِ و يردّه إِلَيْكَ و لا يخونه (1)شيئا.

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)عن ابن عبّاس: أودع رجل عبد اللّه بن سلام ألفا و مائتي أوقيّة ذهبا، فأدّاه إليه (2).

وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ قيل: هو كناية عن المال القليل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ و يخونك فيه، في أي وقت من الأوقات، و أي حال من الأحوال إِلاّ ما دُمْتَ من حين التّأمين عَلَيْهِ قائِماً و له ملازما، لا تفارقه في وقت أو حال. قيل: هو كناية عن المبالغة في المطالبة و التّشديد فيها.

عن ابن عبّاس: أنّ فنخاص بن عازورا استودعه رجل قرشيّ دينارا فجحده (3).

ص: 17


1- . خان المال: نقصه.
2- . تفسير الرازي 8:100.
3- . تفسير الرازي 8:100، تفسير البيضاوي 1:166، تفسير أبي السعود 2:50.

و قيل: إنّ المراد من المأمونين: النّصارى، و من الخائنين: اليهود، لكون الغالب فيهم الخيانة (1).

ثمّ ذكر سبحانه علّة خيانتهم بقوله: ذلِكَ العمل القبيح من الخيانة، و ترك أداء الأمانة و شيوعه فيهم، معلّل بِأَنَّهُمْ قالُوا تعصّبا و عنادا و غرورا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي شأن اَلْأُمِّيِّينَ و العرب الذين ليسوا من أهل العلم و الكتاب سَبِيلٌ و مؤاخذة و عتاب من اللّه. روي أنّ اليهود بايعوا رجالا في الجاهليّة، فلمّا أسلموا طالبوهم بالأموال، فقالوا: ليس لكم علينا حقّ؛ لأنّكم تركتم دينكم (2).

وَ هم لخبث ذاتهم يَقُولُونَ و يفترون عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ حيث إنّهم كانوا ينسبون هذا القول الباطل إلى التوراة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ هذا القول و النّسبة كذب و فرية.

في وجوب ردّ

الأمانة و لو إلى

الكافر

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كذب أعداء اللّه، ما من شيء كان في الجاهليّة إلاّ و هو تحت قدمي، إلاّ الأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البرّ و الفاجر» (3).

أقول: فيه دلالة على وجوب ردّ الأمانة، و لو إلى الكافر الحربي غير المحترم المال. و يعاضده روايات أخر، و قد عمل بها الأصحاب، و ادّعي عليه الشّهرة، و نسب قول أبي الصّلاح- القائل بعدم الوجوب-إلى الشّذود (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 76

ثمّ لمّا كان هذا الافتراء مبنيّا على ادّعائهم أنّهم أبناء اللّه و أحبّاؤه، ردّ اللّه عليهم بقوله: بَلى عليكم في الأمّيين سبيل، و لستم أحبّاء اللّه، إنّما أحبّاؤه كلّ مَنْ أَوْفى و عمل بِعَهْدِهِ و تكاليفه و أحكامه وَ اِتَّقى الشّرك و الخيانة في الأمانة فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ و يثيب المتحرّزين عن الخيانة و نقض العهود.

بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (76)عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، و من كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق، حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، و إذا حدّث كذب، و إذا عاهد غدر، [و إذا خاصم فجر]» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 77

إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ ÙΙęЙʙř̠(77)

ص: 18


1- . تفسير أبي السعود 2:50.
2- . تفسير الرازي 8:102.
3- . تفسير الرازي 8:102.
4- . راجع مفتاح الكرامة 6:40، جواهر الكلام 27:124.
5- . تفسير روح البيان 2:52.

ثمّ لمّا كانت الخيانة نقض عهد اللّه، و إنكار أخذ الأمانة مستلزما للأيمان الكاذبة غالبا، هدد اللّه عليهما بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ و يستبدلون بِعَهْدِ اَللّهِ و ميثاقه، [سواء]

كان على الإيمان بالرّسول أو الوفاء بالأمانات أو غيرهما وَ أَيْمانِهِمْ الكاذبة، سواء كانت على إنكار أخذ الأمانة، أو على أنّهم يؤمنون بالرّسول و ينصرونه. و يأخذون بعوض الوفاء بالعهد، و أداء الأمانة، و برّ اليمين ثَمَناً و بدلا قَلِيلاً من متاع الدّنيا، و الرّئاسات الباطلة.

أُولئِكَ المتخلّقون بتلك الأخلاق الذّميمة، المتّصفون بتلك الصّفات القبيحة لا خَلاقَ و لا نصيب لَهُمْ من النّعم و الرّحمة فِي اَلْآخِرَةِ و الدار الباقية وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ بما يسرّهم، أو بكلام أصلا، و إنّما يقع ما يقع من السّؤال و التقريع و التّوبيخ في أثناء الحساب، من الملائكة.

و قيل: إنّ المراد أنّهم لا ينتفعون بكلمات اللّه و ألطافه، و قيل: إنّ الجملة كناية عن شدّة الغضب و السّخط (1).

وَ لا يَنْظُرُ اللّه إِلَيْهِمْ بنظر الرّحمة و الرّأفة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ لغاية سقوطهم و هوانهم وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يطهّرهم من أوساخ الأوزار، و دنس الذّنوب، كما يطهّر المذنبين من المؤمنين وَ لَهُمْ بحسب الاستحقاق عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ و موجع في الغاية.

روي أنّها نزلت في أبي رافع، و لبابة بن الحقيق، و حيي بن أخطب، حرّفوا التّوراة، و بدّلوا نعت الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أخذوا الرّشوة على ذلك (2).

و قيل: نزلت في الأشعث بن قيس، حيث كان بينه و بين رجل نزاع في بئر، فاختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: «شاهداك، أو يمينه» فقال الأشعث: إذن يحلف و لا يبالي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من حلف على يمين يستحق بها مالا، هو فيها فاجر، لقي اللّه و هو عليه غضبان» (3).

و قيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السّوق، فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به (4).

و الجمع بين الرّوايات أنّ جميع الوقائع لاقترانها كان شأن النّزول.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 78

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

ص: 19


1- . تفسير الرازي 8:105. (2 و 3 و 4) . تفسير أبي السعود 2:51.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّهم نقضوا عهد اللّه بخيانتهم في أموال النّاس، ذكر أنّهم نقضوا عهده بخيانتهم في التّوراة التي هي أعظم ودائع اللّه في خلقه، و تحريفهم إيّاها، بقوله: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً و طائفة ككعب بن أشرف و حيي بن أخطب و أضرابهما يَلْوُونَ و يفتلون أَلْسِنَتَهُمْ عند التّلفّظ بِالْكِتابِ المنزل عليهم، و حين قراءة آياته الدّالّة على نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتغيير الحركات و الإعراب، و كيفيّة تأدية الحروف بحيث يوجب تحريف كلام اللّه، و تغيير مدلوله المنزل إلى المحرّف لِتَحْسَبُوهُ و تتوهّموه أنّه بالنّحو الذي يقرأونه مِنَ جملة اَلْكِتابِ المنزل، وَ الحال أنّه ما هُوَ مِنَ جملة ذلك اَلْكِتابِ في نفس الأمر، و في اعتقادهم، وَ مع ذلك يَقُولُونَ بالصّراحة، لا بالكناية و التّعريض لمحرّفهم: هُوَ الكتاب المنزل مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ حتّى في اعتقادهم وَ يَقُولُونَ بهذه النّسبة عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ و الافتراء تجرّيا و غرورا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون مفترون، و فيه تسجيل عليهم بالتعمّد في الكذب.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ النّفر الّذين لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة، و لا ينظر إليهم، كتبوا كتابا شوّشوا فيه نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و خلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قالوا: هذا من عند اللّه (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 79 الی 80

ثمّ لمّا كان كذب أهل الكتاب غير مختصّ باللّه و تحريفهم بنعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله، بل كانوا يكذبون و يفترون على أنبيائهم و يحرّفون كلماتهم، كافتراء النّصارى على عيسى بأنّه كان يدّعي الالوهيّة، و يأمر النّاس بعبادة نفسه، نزّه اللّه تعالى أنبياءه عن هذه الأباطيل، ردّا على المفترين، بقوله: ما كانَ صالحا لِبَشَرٍ بلغ في كمال القوّة النظريّة و العمليّة إلى أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ و يهبه اَلْكِتابَ الناطق بالحقّ، الآمر بالتّوحيد، النّاهي عن الشّرك وَ أن يؤتيه اَلْحُكْمَ قيل: هو كناية عن الفهم و العلم و السّنن، وَ أن يهبه اَلنُّبُوَّةَ الّتي هي منصب إلهي للنفوس الكاملة الطّيّبة الزّكيّة كي يقوموا بهداية الخلق و تعليمهم و تربيتهم ثُمَّ يَقُولَ ذلك البشر، مع كونه في مرتبة البشريّة المنافية للالوهيّة، و بعد ما شرّفه اللّه بما ذكر من التّشريفات، و عرّفه الحقّ، و أطلعه على شؤونه العالية لِلنّاسِ كُونُوا

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

ص: 20


1- . تفسير الرازي 8:107.

عِباداً خاضعين منقادين لِي و أطيعوني مِنْ دُونِ اَللّهِ قيل: إنّ المراد: متجاوزين اللّه في العبادة.

روي أنّ أبا رافع القرظيّ، و السيّد النجراني قالا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتريد أن نعبدك و نتّخذك ربّا؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه، و أن نأمر بعباده غيره» (1)فنزلت [الآية].

و نقل أنّه قال رجل من المسلمين: يا رسول اللّه، نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيّكم، و اعرفوا الحقّ لأهله» (2).

أقول: يمكن كون مرجع ضمير (أهله) هو النبيّ، لا (الحقّ) فيكون أمرا بمعرفة آله بالولاية، و وجوب الطّاعة.

وَ لكِنْ البشر العالم المعلّم للخلق، يقول لهم: كُونُوا رَبّانِيِّينَ و العلماء الكاملين في معرفة اللّه، المتمسّكين بدينه، القائمين بطاعته، المقبلين على عبادته، و ذلك الاهتمام في العلم و العمل بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ النّاس اَلْكِتابَ السّماوي المشحون بالمعارف و الحكم و الأحكام وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ كتاب اللّه و تقرأونه، فإنّ دراسة كتاب اللّه و تلاوته-التي هي ذريعة المعرفة و العمل، و التّصدي لتربية الخلق و تكميلهم-سبب لاهتمام المربّي بتربية نفسه. و إنّما قدّم التّعليم على الدّراسة لشرفه عليها.

وَ لا يصلح أنّه يَأْمُرَكُمْ و يبعثكم ذلك البشر المبعوث لهداية النّاس إلى أَنْ تَتَّخِذُوا و تختاروا لأنفسكم اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً و آلهة معبودين من دون اللّه كمشركي العرب و الصّابئين حيث قالوا بأنّ الملائكة بنات اللّه، و كاليهود حيث قالوا بأنّ العزير ابن اللّه، و كالنّصارى حيث قالوا بأنّ المسيح ثالث ثلاثة، أو ابن اللّه.

ثمّ لإظهار غاية شناعة نسبة هذه الأمور إلى النبيّ العارف باللّه حقّ معرفته، بل امتناع وقوعها منه، أنكر سبحانه على القائلين بها بقوله: أَ يَأْمُرُكُمْ النبيّ الدّاعي إلى الإسلام و التّوحيد بِالْكُفْرِ و الشّرك، لا سيّما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحّدون.

قيل: فيه دلالة على أنّ المخاطبين كانوا مسلمين، [و هم]الذين استأذنوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله [في]أن يسجدوا له (3).

ص: 21


1- . تفسير الرازي 8:109، تفسير أبي السعود 2:52.
2- . تفسير أبي السعود 2:52.
3- . تفسير الرازي 8:113.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ لمّا ظهر من الآية أنّ منصب النّبوّة ملازم للتّوحيد و الدّعوة إلى اللّه و عبادته، أشار [سبحانه]

إلى أنّ كلّ نبيّ و أمّته لا بد أن يكونوا مصدّقين لجميع الأنبياء، و أنّ اللّه أخذ منهم العهد على ذلك بقوله: وَ إِذْ قيل: إنّ المراد اذكر يا محمّد حين أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ .

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (82)قيل: إنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق من النّبيّين خاصّة أن يصدّق بعضهم بعضا، و أخذ العهد على كلّ نبيّ أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، و ينصره إن أدركه، و أن يأمر قومه بالإيمان به و بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، و منهما أن يؤمنا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: المأخوذ منهم الميثاق أممهم.

عن (المجمع) : عن الصادق عليه السّلام قال: «معناه: و إذ أخذ اللّه ميثاق أمم النّبيّين، كلّ امّة بتصديق نبيّها و العمل بما جاءهم به، [و أنّهم خالفوهم فيما بعد]فما وفوا به، و تركوا كثيرا من شرائعهم، و حرّفوا كثيرا منها» (1).

و عن الباقر صلّى اللّه عليه و آله، في رواية قال: «هكذا أنزلها اللّه» يعني طرح منها (امم) (2).

و كان ذلك الميثاق و العهد أنّه لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ و شرّفتكم بالعلم بالأحكام و السّنن و المعارف ثُمَّ جاءَكُمْ و بعث إليكم في زمانكم رَسُولٌ من عندي، و هو مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ و معترف بصحّة ما آتاكم اللّه من الكتاب و الحكمة، و اللّه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ و لتصدّقنّه وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و لتعيننّه على أعدائه.

في (المجمع) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «إنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا أممهم بمبعثه و نعته، و يبشّروهم [به]و يأمروهم بتصديقه» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه قال: «ما بعث اللّه نبيّا، آدم و من بعده، إلاّ أخذ عليه العهد لئن بعث اللّه محمّدا و هو حيّ، ليومنن به و لينصرنّه، و أمره أن يأخذ العهد بذلك على قومه» (4).

و عن العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «ما بعث اللّه نبيّا، من لدن آدم فهلمّ جرّا، إلاّ و يرجع إلى الدّنيا

ص: 22


1- . مجمع البيان 2:784، تفسير الصافي 1:325.
2- . تفسير الصافي 1:325.
3- . مجمع البيان 2:784، تفسير الصافي 1:325.
4- . مجمع البيان 2:786، تفسير الصافي 1:325.

و ينصر أمير المؤمنين عليه السّلام، و هو قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ لَتَنْصُرُنَّهُ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام» (1).

أقول: توضيحه أنّه بعد ما ثبت بآية المباهلة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نفس الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ثبت أنّ نصرته نصرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، مضافا إلى أنّه لا معنى لنصرته إلاّ نصرة دينه، و لا شبهة أن نصرة عليّ عليه السّلام نصرة دين الرّسول.

عن الباقر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: إنّ اللّه أحد واحد تفرّد في وحدانيّته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثمّ خلق من ذلك النّور محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و خلقني و ذرّيّتي، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت روحا فأسكنه اللّه في ذلك النّور، و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلماته، فبنا احتجب عن خلقه، فما زلنا في ظلّة (2)خضراء، حيث لا شمس و لا قمر و لا ليل و لا نهار و لا عين تطرف، نعبده و نقدّسه و نسبّحه، و ذلك قبل أن يخلق خلقه.

و أخذ ميثاق الأنبياء بالإيمان و النّصرة لنا، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ يعني لتؤمننّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لتنصرنّ وصيّه، و سينصرونه جميعا، و إنّ اللّه أخذ ميثاقي مع ميثاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله بنصرة بعضنا [لبعض].

و قد نصرت محمّدا، و جاهدت بين يديه، و قتلت عدوّه، و وفيت للّه بما أخذ عليّ من الميثاق و العهد و النّصرة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم ينصرني أحد من أنبياء اللّه و رسله، و ذلك لمّا قبضهم اللّه إليه، و سوف ينصرونني و يكون لي ما بين مشرقها و مغربها، و ليبعثهم اللّه أحياء، من آدم إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّ نبيّ مرسل، يضربون بين يدي بالسّيف هام الأموات و الأحياء و الثّقلين جميعا.

فيا عجباه! و كيف لا أعجب من أموات يبعثهم اللّه أحياء، يلبّون زمرة زمرة بالتّلبية: لبّيك لبّيك يا وليّ (3)اللّه، قد أظلّوا بسكك الكوفة، قد شهروا سيوفهم على عواتقهم، يضربون بها هام الكفرة و جبابرتهم و أتباعهم من جبابرة الأوّلين و الآخرين، حتّى ينجز اللّه ما وعدهم في قوله تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (4)أي يعبدونني آمنين لا يخافون أحدا في عبادتي، ليس عندهم تقيّة، و أنّ لي الكرّة و الرّجعة (5)،

ص: 23


1- . تفسير القمي 1:106، تفسير الصافي 1:325.
2- . في النسخة: ظلمة.
3- . في تفسير الصافي: داعي.
4- . النور:24/55.
5- . في تفسير الصافي: الكرة بعد الكرة و الرجعة بعد الرجعة.

و أنا صاحب الرّجعات و الكرّات، و صاحب الصّولات و النّقمات و الدّولات العجيبات، و أنا قرن من حديد» الحديث (1).

في توضيح

الرواية الباقرية

أقول: يحتمل أن يكون المراد من التّكلّم بالكلمة: هو إشراق فيض الوجود، و من صيرورتها نورا: وجود العقل الكلّي، و من خلق محمّد و عليّ و ذرّيّته عليهم السّلام من ذلك النّور: جعل قوام حقيقتهم به، و من إسكان أرواحهم الطيّبة في النّور: إحاطة العقل بأرواحهم و اتّصالها و تكميلها به، و من إسكان أرواحهم في أبدانهم: تعلّقها بقوالبهم المثاليّة في عالم الأشباح و الصّور، و من قوله: «فنحن روح اللّه و كلماته» : كون أرواحهم أشرف الأرواح و أكمل بدائعه تعالى، و من احتجابه تعالى بهم عن خلقه: جعلهم وسائط فيوضاته بينه و بين جميع الموجودات، فكأنّهم قائمون بينه و بينهم، و هم الأوّلون و سائر الخلق من ورائهم، و من ثباتهم في ظلّة (2)خضراء: بقاؤهم في عالم الأشباح حيث لا وجود لعالم الأجسام، و كان أخذ الميثاق عن الأنبياء في عالم الذّرّ أو عالم الأرواح، و تكون نصرتهم له و وفاؤهم بالعهد في زمان الرّجعة.

ثمّ قالَ اللّه للأنبياء وحيا، و لأممهم بلسانهم تقريرا و تأكيدا للعهد عليهم: أَ أَقْرَرْتُمْ بذلك الميثاق و الإيمان و النّصرة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لسائر الأنبياء وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ الميثاق إِصْرِي و عقدي الذي عقدته عليكم و التزمتم بالعمل به قالُوا إنّ الجواب: ربّنا أَقْرَرْنا بذلك العهد و التزمنا بالوفاء به.

ثمّ قالَ سبحانه: فَاشْهَدُوا أيّها الأنبياء و الأمم بعضكم على بعض. ثمّ قال تأكيدا و تحذيرا عن الرّجوع: وَ أَنَا أيضا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ على إقراركم و مصاحب لكم

فَمَنْ تَوَلّى منكم عن العهد، و أعرض عن الوفاء به بَعْدَ ذلِكَ الميثاق المؤكّد بالإقرار به و الإشهاد عليه فَأُولئِكَ المعرضون هُمُ اَلْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه و انقياده، المتجاوزون عن حدود العقل، المنحرفون عن طريق الخير.

أقول: بعد ثبوت عصمة الأنبياء، و عدم إمكان نقضهم عهد اللّه و إعراضهم عن الميثاق، لا بدّ من الالتزام بكون التّهديد راجعا إلى الأمم خاصّة، و كان أجرأهم عليه بنو إسرائيل، حيث إنّهم بعدما أخذ اللّه عليهم الميثاق بالإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و نصرته، خالفوه و عارضوه و نصروا أعداءه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 83

أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

ص: 24


1- . تفسير الصافي 1:325.
2- . في النسخة: ظلمة.

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نصرته دين اللّه الذي لو كان موسى بن عمران و عيسى بن مريم في زمانه كان عليهما متابعته، كما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، أما و اللّه لو كان موسى بن عمران حيّا لما وسعه إلاّ اتّباعي» (1).

و ظهر أنّ اللّه أخذ على الامم الميثاق باتّباعه، و كان ذلك الميثاق مذكورا في التّوراة و سائر الكتب السّماوية، و كانوا عارفين به، و كانوا عالمين بصدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النّبوّة، بشهادة الكتب السّماوية، و دلالة المعجزات، فلم يكن سبب لكفرهم و جحودهم إلاّ كونهم طالبين دينا غير دين اللّه.

و هذا في غاية الشّناعة و العجب من العاقل، و لذا وبّخهم سبحانه عليه بقوله: أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ من الوثنيّة و اليهوديّة و النّصرانيّة يَبْغُونَ و يطلبون، مع أنّ حقيقة دين الإسلام هو التّوحيد الخالص، و التّسليم و الانقياد للّه، وَ الحال أنّ لَهُ وحده أَسْلَمَ و أخلص و انقاد مَنْ هو كائن فِي اَلسَّماواتِ من الكرّوبيّين و الملائكة المقرّبين وَ من في اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس طَوْعاً و رغبة بالمشاهدة و البراهين وَ كَرْهاً بما فيهم من آثار الصّنع، فإنّ اقتضاء الحدوث و الإمكان و المعلوليّة نفوذ قدرته فيهم، بتصريفهم كيف يشاء إلى صحّة و مرض، و غنى و فقر، و سرور و حزن، بحيث لا يمكنهم دفع قضائه و قدره.

وَ إِلَيْهِ و إلى حكمه بالموت و البعث في الآخرة يُرْجَعُونَ فلا يملكون لأنفسهم في محكمة عدله و قضائه نفعا و لا ضرّا، فيعذّب من أعرض عن دينه و طلب غيره بالعذاب الشّديد الدّائم.

روي أنّ فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السّلام، فقالوا: ما نرضى بقضائك، و لا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية (2).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 84

ثمّ لمّا كان ميثاقه تعالى على الأنبياء، أو على أممهم أن يؤمنوا برسول مصدّق لما معهم، أمر سبحانه نبيّه بأن يعلن بأنّ دينه دين اللّه، و بتصديقه جميع الأنبياء و ما أنزل عليهم، بقوله: قُلْ يا محمّد من قبل نفسك، و عن جميع المؤمنين بك: نحن آمَنّا بِاللّهِ وحده، و اعترفنا بأنّه المستحقّ بالذّات

قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

ص: 25


1- . تفسير الرازي 8:115.
2- . تفسير الرازي 8:122.

للعبادة، لا إله و لا معبود سواه-و إنّما قدّمه لأنّه الأصل في الدّيانات وَ آمنّا بجميع ما أُنْزِلَ من عند اللّه عَلَيْنا من القرآن و المعارف و العلوم و الأحكام.

و قيل: إنّ المراد من الضّميرين نفسه المقدّسة، و إنّما امر أن يعبّر عن نفسه بضمير الجمع لإظهار جلالة قدره، و رفعة محلّه، كما هو الدّأب في تكلّم الملوك (1).

و إنّما قدّم الإيمان بما انزل إليه على الاعتراف بصدق ما انزل على غيره من قبل؛ لأنّه المعروف له، و المبتلى به فعلا.

ثمّ شهد بصدق ما انزل على غيره من الأنبياء بقوله: وَ آمنّا بكلّ ما أُنْزِلَ من اللّه عَلى أنبيائه إِبْراهِيمَ وَ ابنيه إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ ولده يَعْقُوبَ من الصّحف و الأحكام و السّنن وَ على اَلْأَسْباطِ الاثني عشر؛ حفدة يعقوب، و فيهم كثير من الأنبياء.

وَ آمنّا بكلّ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى من التّوراة و الإنجيل، و المعجزات التي ظهرت بأيديهما -و تخصيصهما بالذّكر، مع كونهما من الأسباط، لعلوّ شأنهما، و كون الكلام مع اليهود و النّصارى - وَ بما أوتي اَلنَّبِيُّونَ غير المذكورين مِنْ مواهب رَبِّهِمْ و مليكهم اللّطيف بهم.

و لمّا لم يكن فرق بينهم في دلائل صدق النّبوّة، و شواهد الرّسالة، فنحن أيضا لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان و التّصديق، كما فرّق اليهود و النّصارى بينهم، بأن آمنوا ببعض و كفروا ببعض؛ و ذلك لأنّا للّه منقادون وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بخلاف أهل الكتابين فإنّهم لهوى أنفسهم متّبعون، و باللّه مشركون.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا منافاة بين الإيمان بنبوّة الأنبياء السّابقة و صحة دينهم، و بين الاعتقاد بانقضاء مدّة نبوّتهم و نسخ دينهم، لوضوح أنّ المراد من الإيمان الاعتراف بصحّة نبوّتهم المؤقتة، و وجوب الالتزام بدينهم على جميع أممهم.

و في الاقتصار على تصديق الأنبياء السّابقين إشعار بختم النّبوّة و الدّين به صلّى اللّه عليه و آله و بدينه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 85

ثمّ قرّر سبحانه كون الإسلام دين اللّه دون غيره، بتشديد التّهديد على مخالفته و التّديّن بغيره، بقوله: وَ مَنْ يَبْتَغِ و يختار لنفسه غَيْرَ دين اَلْإِسْلامِ الذي قد سبق أنّ حقيقته التّوحيد الخالص، و التّسليم لأحكام اللّه و طلب مرضاته دِيناً ينتحل إليه، كالوثنيّة و اليهوديّة و النّصرانيّة و غيرها فَلَنْ

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (85)

ص: 26


1- . تفسير روح البيان 2:58.

يُقْبَلَ ذلك الدّين الباطل مِنْهُ أبدا، و لا يؤجر عليه شيئا وَ هُوَ مع ذلك فِي اَلْآخِرَةِ محسوب مِنَ اَلْخاسِرِينَ المغبونين، حيث إنّه ضيّع فطرته السّليمة التي فطر النّاس عليها، و حرّم على نفسه الثّواب الجزيل الدائم، و النّعم العظيمة الباقية، ثمّ اشترى العذاب الشّديد الأبد، فيدخله من التأسّف و التّحسّر على ما فاته في الدّنيا من الأعمال الصّالحة و حلاوة العبادة، و على ما تحمّله من التّعب و المشقّة في تحصيل الحطام الدّنيوي و تقرير ذلك الدّين الباطل ما لا يتصوّر و لا يعلمه إلا اللّه.

في أن ولاية آل

الرسول داخلة في

الاسلام الحقيقي

المرادف للايمان

ثمّ اعلم أنّ لفظ الإسلام كان مرادفا للإيمان، و حقيقته حقيقته، و هو الإقرار بالشّهادتين، و التّصديق بجميع ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، عن صميم القلب، فيدخل فيه ولاية آل الرّسول صلوات اللّه عليهم و خلافة علي و المعصومين من ذرّيّته.

فمن أنكر ولايتهم و وجوب طاعتهم، فقد اختار لنفسه دينار غير الإسلام، حيث إنّ من أنكر واحدا ممّا جاء به الرّسول يكون كمن أنكر جميعه.

نعم، يكون لمن أقرّ بالشّهادتين، و لو كان منافقا على الأظهر، أحكام خاصّة من طهارة الجسد، و احترام المال، و جواز المناكحة، و وجوب غسل ميّته و تكفينه و دفنه، دون غيرها من الأحكام كحرمة غيبته، و جواز الاقتداء به، و إعطائه الزّكاة الواجبة و الكفّارات، و قبول الرّواية و الشّهادة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 86

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان عظمة دين الإسلام، و أنّه دينه الذي ارتضاه لملائكته و سائر خلقه، و المبالغة في تهديد المعرضين عنه، و عدّهم من الخاسرين-بالغ في التوعيد و التّهديد على من خرج عنه بعد دخوله فيه، و جحده بعد ما أقرّ به، بقوله استعجابا و إنكارا: كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ إلى طريق الحقّ، و يوّفق للرّشاد بالعنايات الخاصّة قَوْماً و رهطا كَفَرُوا بالرّسول، و ارتدّوا عن دين الإسلام بَعْدَ إِيمانِهِمْ بهما.

كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (86)قيل: هم عشرة رهط ارتدوا بعدما آمنوا و لحقوا بمكّة (1)، و قيل: هم يهود قريظة و النّضير و من دان بدينهم، و أنّهم كفروا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه، و كانوا يشهدون له بالنّبوّة، فلمّا بعث صلّى اللّه عليه و آله و جاءهم بالبيّنات و المعجزات كفروا به بغيا و حسدا (2). و كلاهما مرويّ عن ابن عبّاس.

ص: 27


1- . تفسير الرازي 8:126.
2- . تفسير الرازي 8:126.

ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب استبعاد كفرهم بقوله: وَ شَهِدُوا قيل: إنّ المراد و بعد أن شهدوا و أعترفوا في مجامع النّاس و مشاهدهم، أو و الحال أنّهم اعترفوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ و دعواه صدق وَ جاءَهُمُ من القرآن و سائر المعجزات و خوارق العادات اَلْبَيِّناتُ و الشّواهد الواضحات على صدقه، بحيث لم يتوهّم في حقّهم الشّبهة فيه، و في صحّة دينه، فكان ارتدادهم من أقبح القبائح؛ لأنّ زلّة العالم أقبح من زلّة الجاهل، و كفرهم و رجوعهم عن الإسلام غاية الظّلم على النّفس وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى الحقّ، و لا يوفّق للخير اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ المتمرّنين على الظّلم، المصرّين على الفساد، المنهمكين في الشّهوات، لغاية خبث ذاتهم، و رذالة صفاتهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ بالغ سبحانه في التّهديد و الوعيد بقوله: أُولئِكَ المرتدّون جَزاؤُهُمْ المقرّر على مقتضى استحقاقهم أَنَّ عَلَيْهِمْ استقرّت لَعْنَةَ اَللّهِ و البعد عن رحمته، الموجب للحرمان عن النّعم الأخرويّة، و للعذاب بالنّار وَ عليهم لعنة اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ .

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)قيل: إنّ المراد خصوص المؤمنين منهم، و قيل: إنّ المراد هو العموم، حيث إنّ الكفّار أيضا يلعنون في الدّنيا كلّ مبطل كافر، غير أنّهم يدّعون أنهم أنفسهم مؤمنون محقّون.

كما أنّ ظالمي آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله يلعنون ظالميهم و يدّعون أنّهم غيرهم، حال كونهم خالِدِينَ فِيها قيل: أي مقيمين في اللّعنة، و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: خالدين في جهنّم (1)أبدا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ في جهنّم اَلْعَذابُ الشّديد وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و يمهلون ساعة، و لا يؤخّرون لحظة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 89

ثمّ دفع اللّه سبحانه توهّم أنّ اللّعنة الدّائمة و العذاب الخالد لكلّ من تلبّس بالكفر و الارتداد، و إن تاب و أسلم بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا و رجعوا إلى الإسلام الحقيقي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر و الارتداد، و آمنوا عن صميم القلب وَ أَصْلَحُوا قلوبهم و أعمالهم الفاسدة، فإنّهم تقبل توبتهم، و يتفضّل عليهم فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بعباده الصّالحين.

إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)عن الصادق عليه السّلام: «نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد بن الصّامت، و كان

ص: 28


1- . تفسير الرازي 8:129.

قتل المجذّر بن زياد (1)البلويّ غدرا، و هرب و ارتدّ عن الإسلام و لحق بمكّة، ثمّ ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هل لي من توبة؟ فنزلت فحملها رجل من قومه إليه، فقال: إنّي لأعلم أنّك لصدوق، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصدق منك، و أن اللّه تعالى أصدق الثّلاثة. و رجع إلى المدينة، و تاب و حسن إسلامه» (2).

و الظّاهر أنّ الآيات في المرتدّ الذي تاب عن ارتداده حقيقة، و رجع إلى الإسلام واقعا و خالصا.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 90

ثمّ أنّه سبحانه بعد بيان هذا القسم من المرتدّين، ذكر القسم الثّاني منهم؛ و هم الّذين استمرّوا على ارتدادهم باطنا، و لكن تابوا نفاقا، أو حين الاحتضار، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله بَعْدَ إِيمانِهِمْ به، و ارتدّوا عن دين الإسلام بعد اعترافهم به، و دخولهم فيه ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً استمرّوا عليه.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ (90)و قيل: إنّ المراد: الّذين كفروا بعيسى و الإنجيل بعد إيمانهم بموسى و التّوراة، ثمّ ازدادوا كفرا بجحودهم نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه.

و قيل: الّذين كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بعد بعثته، بعد إيمانهم به قبلها، ثمّ ازدادوا كفرا بالإصرار عليه، و الطّعن فيه، و الصّدّ عن الإيمان به، و نقض الميثاق.

و روي أنّ الآية نزلت في الّذين ارتدّوا و ذهبوا إلى مكّة، و ازديادهم الكفر أنّهم قالوا: نقيم بمكّة نتربّص بمحمّد ريب المنون (3)، أو قالوا: نرجع إليه فننافقه.

فهؤلاء لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عن ذنب ارتدادهم أبدا، لعدم إخلاصهم فيها، أو عدم صدورها عنهم إلاّ عند الاحتضار و معاينة عالم الآخرة.

و قال جمع من العامّة: إنّه تعالى لمّا قدّم ذكر من كفر بعد الإيمان، و أنّه تقبل توبته، ذكر في هذا الآية أنّه لو كفر مرّة اخرى بعد [تلك]التّوبة، فإنّ التّوبة الاولى تصير غير مقبوله، و تصير كأنّها لم تكن (4). و فيه نظر ظاهر.

ثمّ بعد تهديد هم بعدم قبول توبتهم، ذمّهم بقوله: وَ أُولئِكَ المرتدّون لتناهيهم في الضّلال،

ص: 29


1- . كذا في اسد الغابة 1:332، و في جمهرة أنساب العرب 1-2:337: المجذّر بن ذياد، و في النسخة: المحذّر بن زياد.
2- . مجمع البيان 2:789، تفسير الصافي 1:327.
3- . تفسير الرازي 8:130.
4- . تفسير الرازي 8:130.

و فرط ثباتهم فيه كأنّه هُمُ اَلضّالُّونَ عن طريق الحقّ و الصّواب، لا ضالّ غيرهم. و فيه غاية المبالغة في ضلالهم لكمالهم فيه، و عدم توقّع اهتدائهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 91

ثمّ ذكر القسم الثالث من المرتدّين؛ و هم الّذين لا يتوبون، لا ظاهرا و لا واقعا حتّى يموتوا، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله و ارتدّوا عن دين الإسلام وَ بعد ارتدادهم ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ غير تائبين عن كفرهم و ارتدادهم إلى الموت فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ لدفع العذاب عنهم في الآخرة مِلْءُ اَلْأَرْضِ شرقها و غربها على الفرض المحال ذَهَباً خالصا، و هو كناية عن أعزّ الأموال وَ لَوِ اِفْتَدى الكافر بِهِ لخلاص نفسه.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ اِفْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)قيل: إنّما آثر التّعبير بالافتداء على الإهداء لأنّ الفداء آثر في العفو من الهدية، حيث إنّ المولى قد لا يقبل الهديّة من عبده، و لكن يقبل الفداء منه.

و حاصل المراد: أنّ الكافر لو فرض قدرته يوم القيامة على أعزّ الأموال، و كان بالغا إلى غاية الكثرة، فبذله-و لو بعنوان الفدية، ليتوسّل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب اللّه-لا يفيده في نيل مقصوده. أُولئِكَ المتّصفون بأشنع الصّفات؛ و هو الكفر، البعيدون عن رحمة اللّه لَهُمْ بالاستحقاق عَذابٌ أَلِيمٌ و عقوبة موجعة وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون عنهم العذاب، فهم آيسون من تخليص أنفسهم؛ لانقطاع جميع الوسائل العاديّة للخلاص من الشّدائد عنهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 92

ثمّ لمّا ظهر من الآية أنّ بذل المال في الآخرة غير نافع في الخلاص من العذاب، بيّن سبحانه أنّ وسيلة الخلاص منه، و موجب نيل كلّ خير، هو الإنفاق من أحبّ الأموال في الدّنيا، بقوله: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ و لا تصلون إلى الخير و الثّواب في الدّنيا و الآخرة أبدا، بوجه من الوجوه حَتّى تُنْفِقُوا و تبذلوا في سبيل اللّه و طلب مرضاته شيئا مِمّا تُحِبُّونَ و بعضا ممّا يعجبكم من كرائم الأموال، أو منها و من غيرها مهجة كان، أو عملا، أو علما، أو جاها، أو غيرها.

لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)و من الواضح أنّ الإنفاق بالمحبوب لا يكون إلاّ إذا أيقن المنفق بأنّ إنفاقه وسيلة النيل بالأحبّ و الأشرف من المبذول، فالإنسان لا ينفق محبوبه في الدّنيا لوجه اللّه إلاّ إذا أيقن بالمبدأ و المعاد

ص: 30

و بالجزاء الجزيل على إنفاقه، و على هذا يلزمه القيام بطاعة اللّه و التجنّب عن معاصيه، أو التّخلّق بالأخلاق الجميلة.

في بيان فضيلة

الإنفاق

ثمّ رغّب سبحانه في الإنفاق، و بالغ فيه بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ تحبّونه، أو خبيث تكرهونه، أو كثير في العلانية، أو قليل في الخفية فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ حيث إنّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السّماء، فيجازيكم بحسبه جيّدا كان المال أو رديئا، قليلا كان أو كثيرا، خفية كان الإنفاق أو علانية.

قيل: فيه غاية التّحذير من بذل الرّديء، و التّرغيب في بذل الطّيّب، فإنّ الآخرة هي عالم النّور و البقاء، فلا وقع فيه للامور الظلمانيّة. فالوصول إلى المحبوب لا يكون إلاّ ببذل المحبوب بنحو محبوب، من خلوص النيّة، و استجماع الخصال المرضيّة.

روي أنّه لمّا نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول اللّه، إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حاء؛ و هو ضيعة له في المدينة مستقبل مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).

و في رواية: قال: لي حائط بالمدينة، هو أحبّ أموالي، أنا أتصدّق به.

و في رواية: قال: فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بخ بخ، ذاك مال رابح (2)أو رائج، و إنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسّمها في أقاربه (3).

و في رواية: أنّه جعلها بين حسّان بن ثابت و أبيّ بن كعب (4).

و روي أنّ زيد بن ثابت جاء عند نزول الآية بفرس له كان تحته، فجعلها (5)في سبيل اللّه، فحمل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسامة، فوجد [زيد]في نفسه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه قد قبلها» (6).

و عن (المجمع) : اشترى عليّ عليه السّلام ثوبا فأعجبه، فتصدّق به و قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من آثر على نفسه آثره اللّه يوم القيامة بالجنّة، و من أحبّ شيئا فجعله للّه، قال اللّه يوم القيامة: قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف، و أنا اكافيك اليوم بالجنّة» (7).

و عن الحسين بن عليّ، و عن الصادق عليهم السّلام أنّهما كانا يتصدّقان بالسّكر، و يقولان: «إنّه أحبّ الأشياء إلينا، و قد قال اللّه تعالى: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» (8).

ص: 31


1- . تفسير الرازي 8:134، تفسير روح البيان 2:63.
2- . في النسخة: رائح.
3- . مجمع البيان 2:792، تفسير الرازي 8:134، تفسير روح البيان 2:63.
4- . تفسير الرازي 8:134.
5- . في تفسير الرازي: كان يحبه و جعله.
6- . تفسير الرازي 8:134.
7- . مجمع البيان 3:792.
8- . تفسير الصافي 1:328.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 93

ثمّ عطف اللّه سبحانه كلامه المجيد إلى ما كان من محاجّة اليهود و النّصارى. و كان من شبهاتهم و اعتراضاتهم على دين الإسلام [أولا]

: وقوع النّسخ فيه، مع كونه محالا على اللّه في أحكامه؛ لرجوعه إلى البداء المستلزم لجهله تعالى بمصالح الأشياء و مفاسدها.

كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)و ثانيا: أنّ محمّدا يدّعي أنّ دينه دين إبراهيم، و الحال أنّه مغاير له، حيث إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحلّ في دين الإسلام لحوم الإبل و ألبانها، مع حرمتهما في دين إبراهيم، فمن تحليلها يلزم النّسخ و المغايرة.

فردّ اللّه عليهم بقوله: كُلُّ اَلطَّعامِ و كافة المطعومات من المأكولات و المشروبات كانَ في دين إبراهيم حِلاًّ و مباحا لجميع النّاس، و لِبَنِي إِسْرائِيلَ إلى مدّة بعد بعثة موسى بن عمران عليه السّلام.

نقل أنّه لمّا نزّل قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (1)الآية، و قوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى قوله ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ (2)أنكر اليهود، و غاظهم ذلك و برأوا ساحتهم من الظّلم، و جحدوا بما نطق به القرآن، و قالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه تلك المطعومات، و ما هو إلاّ تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح و إبراهيم و من بعده، و هلّم جرّا حتّى انتهى التّحريم إلينا.

و غرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالبغي و الظّلم، و الصّدّ عن سبيل اللّه، و أكل الرّبا، و ما عدّد من مساوئهم التي كلّما ارتكبوا منها كبيرة، حرّم عليهم نوعا من الطّيّبات عقوبة لهم (3).

فكذّبهم اللّه و ردّهم بأنّ جميع ما يطعمه الإنسان كان حلالا في الأديان السّابقة على دين موسى إِلاّ ما حَرَّمَ يعقوب، و لقبه إِسْرائِيلَ من لحم الإبل و لبنها، بسبب النّذر عَلى نَفْسِهِ .

روي من طريق العامّة أنّ يعقوب عليه السّلام نذر إن وهب اللّه له اثني عشر ولدا، و أتى بيت المقدس صحيحا، أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة، فقال له: يا يعقوب، إنّك رجل قويّ، فهل لك في الصّراع؟ فعالجه فلم يصرع واحدا منهما صاحبه، فغمزه الملك، فعرض له عرق النساء من ذلك، ثمّ قال الملك: أما إنّي لو شيئت أن أصرعك لفعلت، و لكن غمزتك هذه الغمزة؛ لأنّك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، فجعل اللّه لك بهذه الغمزة مخرجا من ذلك الذّبح.

ثمّ أنّ يعقوب عليه السّلام لمّا قدم بيت المقدس، أراد ذبح ولده و نسي قول الملك، فأتاه الملك فقال: إنّما

ص: 32


1- . النساء:4/160.
2- . الأنعام:6/146.
3- . تفسير روح البيان 2:64.

غمزتك للمخرج، و قد و فى نذرك، فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك.

ثمّ أنّه حين ابتلي بذلك المرض لقي من ذلك بلاء شديدا، و كان لا ينام اللّيل من الوجع، فحلف لئن شفاه اللّه، لا يأكل أحبّ الطّعام إليه، فحرّم لحوم الإبل و ألبانها، إمّا حمية للدّين، أو حمية للنّفس (1).

و روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ يعقوب مرض مرضا شديدا، فنذر لئن عافاه اللّه ليحرّ من أحبّ الطّعام و الشّراب عليه، و كان أحبّ الطّعام إليه لحمان الإبل، و أحبّ الشّراب إليه ألبانها» (2).

و نقل أنّ في التّوراة: أنّ يعقوب لمّا خرج من حرّان إلى كنعان، بعث بريدا إلى عيص أخيه، إلى أرض ساعير، فانصرف الرّسول إليه و قال: إنّ عيص هو ذا يتلقّاك و معه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب و حزن جدّا، فصلّى و دعا، و قدّم هدايا لأخيه، [و ذكر القصّة]إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرّجل و وضع إصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة و جفّت. فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق (3).

و قيل: إنّ في بعض الرّوايات: أنّ الذي حرّم يعقوب على نفسه زوائد الكبد و الشّحم إلاّ ما على الظّهر (4).

و عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصرة، فحرّم على نفسه لحم الإبل. و هذا قبل أن تنزّل التّوراة» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه: أن يعقوب كان يصيبه عرق النّسا، فحرّم على نفسه لحم الجمل (6)الخبر.

و من الواضح أنّ هذا التّحريم كان مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ على بني إسرائيل اَلتَّوْراةُ و قبل بعثة موسى و تشريع دينه.

و كانت تلك الأشياء حلالا على غير يعقوب ما دام بقاء دين إبراهيم و في برهة بعد بعث موسى، ثمّ حرّم اللّه عليهم طيّبات أحلّت لهم، منها: لحم الإبل، و شحم البقر و الغنم إلاّ ما حملت ظهورهما.

فإن ادّعت اليهود حرمة هذه الأشياء في دين نوح و إبراهيم و موسى، فقد ادّعوا خلاف ما في التّوراة، التي هم معترفون بصحّتها و صدق ما فيها، و إن استندوا [في]دعواهم إلى التّوراة قُلْ لهم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ و أحضروها على رؤوس الأشهاد فَاتْلُوها و اقرأوها بمحضر منّا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم قدمة هذه الأشياء، فإنّها ناطقة بأنّ حرمتها حدثت في دين موسى عقوبة على

ص: 33


1- . تفسير روح البيان 2:64.
2- . تفسير الرازي 8:138.
3- . تفسير الرازي 8:139.
4- . تفسير الرازي 8:139.
5- . الكافي 5:306/9، تفسير الصافي 1:329.
6- . تفسير القمي 1:107، تفسير الصافي 1:329.

ظلم بني إسرائيل.

روي أنّهم لم يجسروا على إحضار التّوراة، فبهتوا و انقلبوا صاغرين (1).

فثبت جواز النّسخ، و موافقة دين الإسلام لدين إبراهيم، و اتّضح كذب اليهود، و أنّهم نسبوا إلى التّوراة ما ليس فيها، و ظهر صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النّبوّة؛ لأنّ هذا الإخبار منه صلّى اللّه عليه و آله، مع كونه امّيّا، كان إخبارا بالغيب.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 94

ثمّ أنّه تعالى بعد إلزامهم و تبكيتهم، هدّدهم بقوله: فَمَنِ اِفْتَرى و اختلق عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ بقوله حرمة هذه الأشياء في دين إبراهيم، و من قبله، و من بعده، و نسبته إلى إخبار اللّه به في التّوراة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التّبكيت و الإلزام فَأُولئِكَ المجترئون على اللّه، المفترون عليه، هُمُ بالخصوص اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالضّلال، و تعريضها للهلاك و العذاب، و تفضيحها للدّنيا و الآخرة، و على غيرهم بالإضلال، و تقريبهم إلى النّار، و تبعيدهم عن رحمة اللّه.

فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (94)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 95

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات موافقة دين الإسلام لدين إبراهيم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتصديق اللّه في إخباره، بموافقة دين الإسلام لدين إبراهيم، بقوله: قُلْ يا محمّد صَدَقَ اَللّهُ في إخباره بحلّية لحوم الإبل و ألبانها، في دين إبراهيم، و موافقته لدين الإسلام، و كذبتم أيّها اليهود في دعوى حرمتها فيه، و مخالفة دين الإسلام له، إذن فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ باتّباع دين الإسلام، الموافق لها اصولا مطلقا، و فروعا كذلك أو بحسب الغالب، و انصرفوا عن اليهودية المخالفة لملّة إبراهيم؛ لأنّ في دين اليهوديّة كثيرا من الأباطيل، و كان إبراهيم حَنِيفاً و مائلا عن كلّ باطل، و معرضا عن كلّ زائغ؛ و لأنّ في دين اليهوديّة و النّصرانيّة الإشراك باللّه وَ ما كانَ إبراهيم محسوبا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بل كان من أفضل الموحّدين. فثبت أنّه عليه السّلام ما كان يهوديّا و لا نصرانيا.

قُلْ صَدَقَ اَللّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (95)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 96 الی 97

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ (97)

ص: 34


1- . تفسير أبي السعود 2:59، تفسير روح البيان 2:65.

ثمّ استشهد سبحانه على مغايرة دين اليهود لملّة إبراهيم بإعراض اليهود عن تعظيم الكعبة، الذي هو من أعظم شعائر ملّته عليه السّلام، بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ في العالم وُضِعَ من جانب اللّه، و جعل معبدا لِلنّاسِ و قبلة لكافّة الخلق، و اللّه (1)لَلَّذِي هو كائن بِبَكَّةَ و البلد الحرام، و اسمه المعروف مكّة.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّما سمّيت مكّة بكّة، لأنّه يبك (2)بها الرّجال و النّساء، و المرأة تصلّي بين يديك و عن يمينك و [عن]شمالك (3)و معك، و لا بأس بذلك، إنّما يكره في سائر البلدان» (4).

و قيل: لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة، يعني تدقّها (5).

و قيل: إنّ بكّة هي عين الكعبة (6).

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية، «البيت بكّة، و القرية مكّة» (7).

و في (العلل) : عنه عليه السّلام: «إنّما سمّيت مكّة بكّة؛ لأنّ النّاس يبكّون (8)فيها» (9)يعني يزدحمون.

و في رواية أخرى: «لبكاء النّاس حولها» (10).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا أراد اللّه أن يخلق الأرض أمر الرّياح فضربت متن (11)الماء حتّى صار موجا، ثمّ أزبد فصار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلا من زبد، ثمّ دحا الأرض من تحته، و هو قول اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» (12).

و زاد في (الفقيه) : «فأوّل بقعة خلقت من الأرض الكعبة، ثمّ مدّت الأرض منها» (13).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام قال: «كان موضع الكعبة ربوة من الأرض بيضاء، تضيء كضوء الشّمس و القمر، حتّى قتل ابنا آدم أحدهما صاحبه فاسودّت، فلمّا نزل آدم عليه السّلام رفع اللّه له الأرض كلّها حتّى رآها، ثمّ قال: هذه كلّها لك، قال: يا ربّ، ما هذه الأرض البيضاء المنيرة قال: هي حرمي (14)في أرضي، و قد جعلت عليك أن تطوف بها في كلّ يوم سبعمائة طواف» (15).

ص: 35


1- . لقسم على أن البيت كائن في مكّة، لكن في روح البيان 2:66(لذي ببكة) خبر لأنّ.
2- . أي يزدحم الرجال و النساء فيها لكثرتهم.
3- . زاد في النسخة: و عن يسارك.
4- . علل الشرائع:397/4، تفسير الصافي 2:330.
5- . تفسير أبي السعود 2:60.
6- . جوامع الجامع:64.
7- . علل الشرائع:397/3، تفسير الصافي 2:330.
8- . في المصدر: يتباكّون.
9- . علل الشرائع:397/1، تفسير الصافي 1:330.
10- . علل الشرائع:397/2، تفسير الصافي 1:330.
11- . في الكافي: فضربن وجه.
12- . الكافي 4:189/7، تفسير الصافي 1:330.
13- . من لا يحضره الفقيه 2:156/670.
14- . (حرمي) ليس في المصدر.
15- . الكافي 4:189/4.

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه أنزله (1)لآدم من الجنة، و كانت (2)درّة بيضاء فرفعه اللّه إلى السّماء و بقي اسّه، و هو بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه عزّ و جلّ إبراهيم و إسماعيل ببنيان البيت على القواعد» (3).

في بدو بناء الكعبة

في أن ولاية آل

الرسول داخلة في

الاسلام الحقيقي

المرادف للايمان

و روي أنّ اللّه وضع تحت العرش بيتا؛ و هو البيت المعمور، و أمر الملائكة أن يطوفوا به، ثمّ أمر الملائكة الّذين هم سكّان الأرض أن يبنوا على الأرض بيتا على مثاله فبنوا، و أمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السّماوات بالبيت المعمور (4).

و روي أنّ الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، فلمّا اهبط آدم إلى الأرض قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت، فلقد طفنا حوله قبلك بألفي عام، فطاف به آدم و من بعده إلى زمن نوح عليه السّلام، فلمّا أراد اللّه الطّوفان حمل إلى السّماء الرّابعة، و هو البيت المعمور بحيال الكعبة يطوف به ملائكة السّماوات (5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه أوّل بيت بناه آدم في الأرض. و على هذا فنسبة بناء الكعبة إلى إبراهيم؛ لرفعه قواعدها، و إحياء ما درس منها، حيث إنّ موضع الكعبة اندرس بعد الطّوفان، و بقي مختفيا إلى أن بعث اللّه جبرئيل إلى إبراهيم، و دلّه على مكان البيت، و أمره بعمارته (6).

قيل: لمّا كان الآمر بالبناء هو اللّه، و المبلّغ و المهندس هو جبرئيل، و الباني هو الخليل، و التّلميذ المعين له إسماعيل عليهما السّلام، فليس في العالم بناء أشرف منه (7).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن أوّل بيت وضع للنّاس، فقال: «المسجد الحرام، ثمّ بيت المقدس» و سئل كم بينهما؟ فقال: «أربعون سنة» (8).

و روي أنّه لمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة، طعن اليهود في نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: إنّ بيت المقدس أفضل من الكعبة، و أحقّ بالاستقبال؛ لأنّه وضع قبل الكعبة، و هو أرض المحشر، و مهاجر الأنبياء و قبلتهم، و الأرض المقدّسة التي بارك اللّه فيها للعالمين، و فيها الجبل الذي كلّم اللّه موسى عليه، فتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل. فنزلت ردّا عليهم إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ الآية (9).

ثمّ وصف اللّه البيت بكونه مُبارَكاً كثير الخير و النّفع لمن حجّه و اعتمره و اعتكف فيه و طاف

ص: 36


1- . في المصدر: أنزل الحجر.
2- . في المصدر: و كان البيت.
3- . الكافي 4:188/2.
4- . تفسير روح البيان 2:67.
5- . تفسير روح البيان 2:67.
6- . نفس المصدر.
7- . تفسير روح البيان 2:67.
8- . و أيضا.
9- . تفسير روح البيان 2:66.

حوله، لتحصيلهم بهذه الأعمال تكفير الذّنوب، و الثّواب العظيم، و نفي الفقر، و سعة الرّزق وَ كونه هُدىً و رشادا إلى رضوان اللّه و معرفته؛ لِلْعالَمِينَ لأنّه قبلتهم و معبدهم.

و فيه آيات عجيبة دالّة على عظيم قدرته، و سعة حكمته، كما نبّه عليه بقوله: فِيهِ آياتٌ كثيرة بَيِّناتٌ و شواهد واضحات على عظمة قدرته، كانحراف الطّيور عن موازاته مدى الأعصار، و مخالطة ضواري السّباع الطيور (1)في الحرم من غير تعرّض لها لحرمته، و قهر اللّه لكلّ جبّار قصده بسوء، كاصحاب الفيل.

و قيل: إنّ المراد من الآيات العديدة هو مَقامُ إِبْراهِيمَ لكونه بمنزلة الآيات الكثيرة، لظهور شأنه و قوّة دلالته على قدرة اللّه و نبوّة إبراهيم، و عظمة شأنه و شأن البيت.

ثمّ ذكر سبحانه من فضائله و فضائل البيت كونه آمنا، بقوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من التّعرّض له بحرمته في نفسه، و لدعاء إبراهيم عليه السّلام بقوله: رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (2)قيل: إنّ من سكن مكّة أمن من النّهب و الغارة.

و قد مرّ في سورة البقرة ذكر روايات دالّة على أنّ المراد كونه آمنا من عذاب الآخرة (3).

و في الحديث: «من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمنا» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الحجون (5)و البقيع يؤخذ بأطرافهما و ينشران في الجنّة» (6).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ثنيّة (7)الحجون، و ليس بها يومئذ مقبرة فقال: «يبعث اللّه تعالى من هذه البقعة و من هذا الحرم سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنّة بغير حساب، يشفع كلّ واحد منهم في سبعين ألفا» (8)الخبر.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من صبر على حرّ مكّة ساعة من نهار، تباعدت عنه جهنّم مسيرة مائتي عام» (9).

و لا يذهب عليك أنّ الأمان من العذاب مختصّ بالعصاة من أهل الإيمان، لدلالة الأدلّة القطعيّة، و قيام الضّرورة على أنّ الكفّار، و من في حكمهم من منكري الولاية و ظالمي آل محمّد عليهم السّلام، خالدين فيه، و لو كانوا مدفونين في مكّة أو مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و في (العلل) : عن الصادق عليه السّلام أنّه قال لأبي حنيفة: «أخبرني عن قول اللّه: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أين ذلك من الأرض؟» قال: الكعبة قال: «أفتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على

ص: 37


1- . في النسخة: الصيود، و ما أثبتناه من روح البيان 2:67.
2- . البقرة:2/126.
3- . راجع تفسير الآية.
4- . تفسير روح البيان 2:68.
5- . الحجون: جبل بمكّة.
6- . تفسير روح البيان 2:68.
7- . الثّنيّة: الطريق في الجبل.
8- . تفسير روح البيان 2:68.
9- . تفسير الرازي 8:151.

ابن الزّبير في الكعبة فقتله، كان آمنا فيها؟» فسكت.

فسئل عليه السّلام عن الجواب، فقال: «من بايع قائمنا، و دخل معه فيه، و مسح على يده، و دخل في عقدة (1)أصحابه كان آمنا» (2).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من الرّواية بيان البطن و التّأويل.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فضائل البيت، أمر النّاس بحجّه، بقوله: وَ لِلّهِ ثابت عَلَى عهده كافّة المكلّفين من اَلنّاسِ رجالهم و نسائهم و مؤمنيهم و كفّارهم حِجُّ ذلك اَلْبَيْتِ و قصد زيارته، للنّسك المخصوصة.

قيل: حجّ، بالكسر: لغة أهل نجد (3).

روي عن الصادق عليه السّلام: «يعني به الحجّ و العمرة؛ لأنّهما مفروضان» (4).

ثمّ خصّ سبحانه تكليف عموم العباد بالحجّ بخصوص مَنِ اِسْتَطاعَ منهم استطاعة عرفيّة إِلَيْهِ سَبِيلاً و أطاق إلى البيت ذهابا. و لا شبهة أنّها بوجدان الزّاد، و الرّاحلة، و صحّة البدن، و تخلية السّرب (5). و أمّا الاقتصار في رواية أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله-على ذكر الزّاد و الرّاحلة (6)؛ فلوضوح اعتبار القوّة البدنيّة، و عدم الخوف على النّفس و المال، من حكم العقل، و أدلّة نفي الحرج.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «الصّحّة في بدنه، و القدرة في ماله» (7).

و عنه عليه السّلام، في رواية أخرى: «من كان صحيحا في بدنه، مخلّى سربه، له زاد و راحلة، فهو ممّن يستطيع الحجّ» (8).

و في رواية ثالثة، بعد السّؤال عن الآية، فقال: «ما يقول النّاس؟» فقيل: الزّاد و الرّاحلة. فقال: «قد سئل أبو جعفر عليه السّلام عن هذا فقال: هلك النّاس إذا، لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله، و يستغني به عن النّاس، ينطلق إليهم

فيسألهم إيّاه [و يحجّ]لقد هلكوا [إذا]» .

فقيل له: فما السّبيل؟ قال: فقال: «السّعة في المال، إذا كان يحجّ ببعض، و يبقي بعضا يقوت به عياله، أ ليس قد فرض اللّه الزّكاة فلم يجعلها إلاّ على من يملك مائتي درهم» (9).

ص: 38


1- . في المصدر: عقد.
2- . علل الشرائع:90 و 91/5.
3- . تفسير الرازي 8:152.
4- . الكافي 4:264/1.
5- . السّرب: الطريق، يقال: خلّ له سربه، أي طريقه، و فلان مخلّى السّرب: أي موسّع عليه غير مضيّق عليه.
6- . تفسير أبي السعود 2:62.
7- . تفسير العيّاشي 1:332/756.
8- . تفسير العياشي 1:331/111.
9- . تفسير العياشي 1:331/752.

أقول: بل الأظهر اعتبار عوده إلى الكفاية، فمن كان له ما يكفيه للذّهاب و الإياب، و لمونة عياله في سفره، و لكن إذا رجع لا يمكنه الإعاشة إلاّ بالعسر و الذّلّة، لا يجب عليه الحجّ، لعدم صدق (المستطيع) عليه عرفا، و لنفي العسر و الحرح شرعا، و لمنافاته لسماحة الدّين و سهولته.

و ما عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما السّبيل؟ قال: «أن يكون له ما يحجّ» قال: قلت: من عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا؟ قال: «نعم، ما شأنه يستحي! و لو يحجّ على حمار أجدع أبتر، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليحجّ» (1).

و في رواية: «يخرج و يمشي إن لم يكن عنده» . قيل: لا يقدر على المشي؟ قال: «يمشي و يركب» . قيل: لا يقدر على ذلك؟ قال: «يخدم القوم، و يخرج معهم» (2)فمحمول على الاستحباب على الأظهر.

في ذكر وجوه دلالة

الآية على تأكّد

وجوب الحجّ

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الوجوب بالتّهديد الشّديد على تركه، بقوله: وَ مَنْ كَفَرَ و ترك ذلك الواجب المهمّ، مع القدرة عليه فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عنه و عَنِ اَلْعالَمِينَ و عن جميع ما في السّماوات و الأرضين، فلا يحتاج إلى حجّكم و عباداتكم.

و في التّعبير عن ترك الحجّ ب(من كفر) تنبيه على أنّهما-في خبث الذّات، و شناعة العمل، و شدّة العقوبة-واحد. و في ذكر الغناء عنه إشعار بغاية الإعراض عنه، و نهاية السّخط عليه.

و عن الصادق عليه السّلام، وَ مَنْ كَفَرَ قال: «يعني: من ترك» (3)، و في رواية، قال: «هو كفر النّعم (4)» .

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: قال: وَ مَنْ كَفَرَ أي جحد فرض الحجّ، أنّه ليس بواجب.

و عن سعيد بن المسيّب: نزلت في اليهود، قالوا: الحجّ ليس بواجب (5).

و في (الفقيه) : في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا عليّ، تارك الحجّ و هو مستطيع كافر، قال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ يا عليّ، من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثه اللّه (6)يهوديّا أو نصرانيّا» (7).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من لم تحبسه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، و لم يحجّ، فليمت (8)يهوديّا أو نصرانيّا» (9).

و عن (الكافي) و (التهذيب) : عن الصادق عليه السّلام: «من مات و لم يحجّ حجّة الإسلام، و لم يمنعه من

ص: 39


1- . الكافي 4:266/1 عن الباقر، تفسير الصافي 1:334.
2- . تفسير الصافي 1:334.
3- . التهذيب 5:18/52، تفسير الصافي 1:335.
4- . تفسير العياشي 1:332/754، تفسير الصافي 1:335.
5- . تفسير أبي السعود 2:62.
6- . زاد في المصدر: يوم القيامة.
7- . من لا يحضره الفقيه 4:266/824، تفسير الصافي 1:334.
8- . زاد في تفسير روح البيان: إن شاء.
9- . تفسير روح البيان 2:68.

ذلك حاجة تجحف، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّا أو نصرانيّا» (1).

روي أنّه لمّا نزل صدر الآية، جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرباب الملل (2)، فخطبهم فقال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ فحجّوا» فآمنت به ملّة واحدة، و هم المسلمون، و كفرت به خمس ملل، فنزلت [الآية] (3).

قيل: لقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحجّ، و التّشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالّة على التحقّق، و ابرزت في صورة الجملة الاسميّة الدالّة على الثّبات و الاستمرار، على وجه يفيد أنّه حقّ واجب للّه تعالى في ذم النّاس، لا انفكاك لهم عن أدائه و الخروج عن عهدته.

و سلك بهم أوّلا مسلك التعميم، ثم التّخصيص و الإبهام ثانيا، ثمّ التّبيين و الإجمال ثالثا، ثمّ التّفصيل، لما في ذلك من مزيد تحقيق و تقرير، و عبّر عن تركه بالكفر، و جعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن بشدّة المقت و عظيم السّخط، لا من تاركه فقط-فإنّه قد ضرب عنه صفحا، إسقاطا له عن درجة الاعتبار، و استهجانا بذكره-بل من جميع العالمين ممّن فعل و ترك، ليدلّ على نهاية شدّة الغضب (4).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «حجّوا قبل أن لا تحجّوا، فإنّه قد هدم البيت مرّتين، و يرفع إلى السّماء في الثالثة» . و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «حجّوا قبل أن يمنع البرّ جانبه» (5).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: حجّوا هذا البيت قبل أن ينبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابّة إلاّ نفقت (6). و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لو ترك النّاس الحجّ عاما واحدا ما نوظروا» (7).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 98

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أزال الشّبهات، و نبّه على ما في البيت من الآيات البيّنات، و جحد أهل الكتاب جميعها، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يلومهم على ذلك بلسان ليّن، بقوله: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ و حفّاظ التّوراة و الإنجيل لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ و حججه التي أقامها على صدق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و شرافة بيته؟ و لأيّ سبب وداع تجحدونها بعد عرفانكم بها، و علمكم بصحّتها، و وضوح صدق محمّد، و شرف الكعبة

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98)

ص: 40


1- . الكافي 4:268/1، التهذيب 5:17/49، تفسير الصافي 1:334.
2- . في تفسير أبي السعود: أهل الأديان كلهم.
3- . تفسير أبي السعود 2:62.
4- . تفسير أبي السعود 2:62.
5- . تفسير أبي السعود 2:62.
6- . تفسير أبي السعود 2:62.
7- . جوامع الجامع:64.

بدلالتها؟ وَ اَللّهُ العظيم الغالب الشّديد العقاب شَهِيدٌ و مطّلع عَلى ما تَعْمَلُونَ من القبائح، و ما يصدر منكم من جحود آياته، و معارضة رسوله، فيجازيكم أسوأ الجزاء، و يعذّبكم في الآخرة أشدّ العذاب. فاطّلاعه على أعمالكم، و الخوف من عقوبته على عصيانكم من أقوى الزّواجر و أتمّ الرّوادع عمّا تأتونه و ترتكبونه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 99

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بتوبيخهم على كفرهم و ضلالهم، أمره بتوبيخهم على إضلالهم عباده المؤمنين، و صدّهم عن سبيله، بقوله: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ و يا تلاة الصّحف و الزّبر المنزلة و غيرها، جزنا عن اللّوم على ضلالتكم لِمَ تَصُدُّونَ و تصرفون عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دينه الحقّ الموصل إلى السّعادة الأبديّة؟ و تضلّون عنه بإلقاء الشّبهات و الحيل و التسويلات مَنْ آمَنَ بالرّسول و دين الإسلام، و لم تطلبون لتلك السّبيل و تَبْغُونَها مع كمال استقامتها، و كونها أقوم السّبل عِوَجاً و انحرافا عن القصد و الاستقامة، و توهمون أن في تلك السّبيل ميلا عن الحقّ، و تسعون في صرف النّاس عنها؟ بسبب تغيير صفات النبيّ و علائمه المذكورة في الكتب السّماويّة، و إلقاء شبهة امتناع نسخ دين موسى أو عيسى في قلوب العوامّ، و تقريب أفضليّة بيت المقدس من الكعبة في الأذهان.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99)وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ قيل: إنّ المراد: و الحال أنّ النّاس يستشهدونكم في القضايا و الأمور العظام، فشأنكم الصّدق و تأدية الحقّ، لا تضييعه.

و قيل: إنّ المعنى: أنّكم شاهدون بأنّ دين الإسلام سبيل الحقّ لا تحوم حولها شانئة الإعوجاج، و أنّ الصّدّ عنها إضلال عن نهج الحقّ و الطريق المستقيم.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أي أنتم شهداء على أنّ في التّوراة: أنّ دين اللّه الذي لا يقبل غيره هو الإسلام (1). فمن كان كذلك، لا يليق به الإصرار على الكفر، و السّعي في إضلال النّاس.

ثمّ أخذ سبحانه في تهديدهم بقوله: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ من إضلال النّاس، و إلقاء الشّبهات في قلوب المؤمنين، و صدّهم عن سبيل الحقّ، و كتمان الشّهادة بصفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: لمّا كان كفرهم بآيات اللّه بطريق العلانية، ختمت الآية السّابقة بشهادته تعالى على ما يعملون، و لمّا كان صدّهم عن سبيل اللّه بطريق الخفية، ختمت هذه الآية بما يقطع وسائل حيلهم، عن علمه

ص: 41


1- . تفسير الرازي 8:158.

و اطّلاعه بجميع أعمالهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 100 الی 101

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ أهل الكتاب يصدّون المؤمنين عن سبيل اللّه، و يحتالون في صرفهم عن الحقّ، و ردّهم إلى الأعقاب صرف الخطاب إلى المؤمنين تكريما لهم، و نهاهم عن اتّباعهم لطفا بهم، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا بالرّسول و بدين الإسلام إِنْ تُطِيعُوا و تتّبعوا فَرِيقاً و طائفة كافرة مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ دون فريق المؤمنين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله كعبد اللّه بن سلام و أضرابه يَرُدُّوكُمْ بحيلهم و تلبيساتهم بَعْدَ إِيمانِكُمْ بمحمّد و دينه و مع ثباتكم عليه، إلى أعقابكم، و أخلاق جاهليتكم، حال كونهم كافِرِينَ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله مرتدّين عن دين الإسلام.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

ثمّ أنكر سبحانه عليهم الكفر، و استبعد منهم الارتداد تثبيتا لهم على الدّين، بقوله: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ و أي سبب يبعثكم في الارتداد، و أي داع يدعوكم إليه وَ أَنْتُمْ في حال و شأن مقتض للثّبات على الإيمان، و هو أنّه تُتْلى و تقرأ عَلَيْكُمْ حينا بعد حين، و ساعة بعد ساعة آياتُ اَللّهِ القرآنيّة المشتملة على إعجاز البيان و الحكم و العلوم، و المواعظ البالغة من ربّكم، و هي نور لقلوبكم، و شفاء لما في صدوركم، و ضياء لأبصاركم، و هدى و رحمة لكم، وَ مع ذلك يكون فِيكُمْ و معكم رَسُولُهُ الذي يقرّر لكم كلّ حجّة، و يزيل عنكم كلّ شبهة بعبارة وافية، و يزجركم عن كلّ سوء بمواعظ شافية.

و من الواضح أنّ هاتين النّعمتين من أعظم موجبات الثّبات، و أقوى على الإيمان، و أقوى الزّواجر عن الكفر و الارتداد.

ثمّ حثّهم إلى الإلتجاء إلى رسوله عند توارد الشّبهات، بقوله: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ بالالتجاء إلى رسوله في موارط الفتن، و الاستمساك بذيله عند تلاطم أمواج البلايا و الشّبهات، و في مزال الأقدام عند منازلة أعداء الدّين و جهاد النّفس و الشّياطين فَقَدْ هُدِيَ بتوفيق اللّه، و ارشد بدلالته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق قويم موصل إلى كلّ خير مؤدّ إلى رضوان اللّه و النّعم الدّائمة.

في وقوع التنازع بين

الأوس و الخزرج في

زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و بيان قوة

تأثير القرآن

في النفوس

روي أنّ نفرا من الأوس و الخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون، فمرّ بهم شاس بن قيس

ص: 42

اليهودي و كان شديد الحسد للمسلمين، فغاضه ما رأى منهم من تآلف القلوب، و اتّحاد الكلمة، و اجتماع الرّأي، بعد ما كان فيهم (1)من العداوة و الشنآن، فأمر شابّا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم و يذّكرهم يوم بعاث (2)-و كان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيّان، و [كان]الظّفر فيه للأوس-و ينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل، فتفاخر القوم و تغاضبوا حتّى تواثبوا و قالوا: السّلاح السّلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق كثير.

فعند ذلك جاءهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه فقال: «أتدعون الجاهليّة و أنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم اللّه تعالى بالإسلام، و قطع به عنكم أمر الجاهليّة، و ألّف بينكم؟ !» ، فعلموا أنّها نزغة من الشّيطان، و كيد من عدوّهم، فألقوا السّلاح و استغفروا، و عانق بعضهم بعضا، و انصرفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (3).

و قال الواحدي: اصطفّوا للقتال، فنزلت الآيات إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (4)فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى وقف بين الصّفّين فقرأهنّ و رفع صوته، فلمّا سمعوا صوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنصتوا له، و جعلوا يستمعون له، فلمّا فرغ ألقوا السّلاح، و عانق بعضهم بعضا، و جعلوا يبكون (5). فما كان أقبح أوّلا، و أحسن آخرا من ذلك اليوم!

أقول: انظروا إلى قوّة تأثير القرآن في النّفوس، كيف انقلبوا باستماعه من أسوأ الأحوال إلى أحسنها! و حاصل معنى الآيتين: أنّه إن لان المؤمنون لليهود و قبلوا قولهم، أدّى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفّارا، و الكفر موجب للهلاك في الدّنيا و الآخرة.

أمّا في الدّنيا فبوقوع العداوة و البغضاء، و هيجان الفتن، و ثوران المحاربة المؤدّي إلى سفك الدّماء، و تلف النّفوس. و أمّا في الآخرة فبعذاب الأبد، و مع أنّه يكفي وجود هذه المفاسد العظيمة فيه، الموجبة لعدم توجّه العاقل إليه، تكون الصّوارف و الزّواجر الخارجية عنه موجودة لكم، فعند ذلك لا يتوقّع صدوره منكم، بل لا يعقل اختياره من العاقل المختار إلاّ للجهل، و اتّباع هوى النّفس، و تأثير وساوس الشّيطان، و لا عاصم منه إلاّ الاعتصام باللّه و برسوله، فمن اعتصم بهما حصل له الاهتداء إلى كلّ خير، و الفوز بجميع النّعم، و انسدّ عليه باب الضّلال، و الوقوع في المهالك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 103

وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

ص: 43


1- . في تفسير أبي السعود: كان بينهم ما كان.
2- . بعاث: موضع قرب يثرب، و فيه اقتتل الأوس و الخزرج في الجاهلية.
3- . تفسير أبي السعود 2:64.
4- . آل عمران 3:103.
5- . تفسير أبي السعود 2:64.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالتّقوى و الثّبات على الدّين، بيّن طريق الاعتصام باللّه و برسوله الذي جعله وسيلة للهداية، بقوله: وَ اِعْتَصِمُوا و تمسّكوا بِحَبْلِ اَللّهِ و دينه، أو كتابه المجيد، حال كونكم جَمِيعاً و متّفقين في الاعتصام بحيث لا يشذّ منكم أحد.

فشبّه سبحانه دين الإسلام أو القرآن بالحبل الوثيق المأمون من الانقطاع و الانفصام، فكما أنّ المتمسّك بذلك الحبل مأمون من التّردّي من المكان المرتفع، كذلك المتمسّك بدين الإسلام أو القرآن العزيز مأمون من الوقوع في الكفر و الضّلال في الدّنيا، و من التّردّي في نار جهنّم في الآخرة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أما أنّها ستكون فتنة» قيل: فما المخرج منها؟ قال: «كتاب اللّه؛ فيه نبأ من قبلكم، و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، و هو حبل اللّه المتين» (1).

و يحتمل أن يكون مراده صلّى اللّه عليه و آله من الفتنة فتنة السقيفة، و غصب الخلافة، و من قوله: «فيه نبأ من قبلكم» : قضيّة السّامريّ و العجل.

و عن ابن مسعود: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «هذا القرآن حبل اللّه تعالى» (2).

و روى الفخر الرّازي في تفسيره: عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب اللّه تعالى حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي» (3).

عن القمّي رحمه اللّه: الحبل: التّوحيد و الولاية (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله حبل اللّه المتين الذي أمر بالاعتصام به» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام: «عليّ بن أبي طالب عليه السّلام حبل اللّه المتين» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «نحن الحبل» (7).

و عن السجّاد عليه السّلام قال: «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوما، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، و لذلك لا يكون إلاّ منصوصا» فقيل له: يا بن رسول اللّه، فما معنى المعصوم؟ فقال: «المعتصم بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن (8)، و القرآن يهدي إلى الإمام، و ذلك قول اللّه تعالى: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ

ص: 44


1- . تفسير الرازي 8:162.
2- . تفسير الرازي 8:162.
3- . تفسير الرازي 8:162.
4- . تفسير القمي 1:108، تفسير الصافي 1:337.
5- . تفسير العياشي 1:334/762، تفسير الصافي 1:337.
6- . تفسير العياشي 333/761، تفسير الصافي 338.
7- . أما لي الطوسي:272/510.
8- . زاد في معاني الأخبار: لا يفترقان إلى يوم القيامة، و الإمام يهدي إلى القرآن.

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (1) .

أقول: مآل جميع الرّوايات واحد.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالاجتماع على الحقّ، نهى عن التفرّق عنه، بقوله: وَ لا تَفَرَّقُوا عن الحقّ كتفرّق أهل الكتاب، و لا تختلفوا أنتم كما اختلفوا على مذاهب كثيرة.

روى الفخر الرازي في تفسيره: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ستفترق (2)أمّتي على نيّف و سبعين فرقة، النّاجي منهم واحد، و الباقي في النّار» ، فقيل: و من هم يا رسول اللّه؟ قال: «الجماعة» . و في رواية: «السّواد الأعظم» . و في أخرى: «ما أنا عليه و أصحابي» (3).

أقول: لا ريب أنّ ذيل الرّواية من المجعولات، لوضوح مخالفة عليّ و المعصومين من ذرّيّته مع الجماعة، و قد اتفّق الفريقان على رواية قوله صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ» (4). و قوله: «إنّي تارك فيكم الثّقلين؛ كتاب اللّه، و عترتي. . .» (5)الخبر، و قوله: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق» (6).

و قيل: إنّ المراد لا تفرّقوا كتفرّق أهل الجاهليّة، يحارب بعضكم بعضا.

و قيل: أي لا تحدثوا ما يوجب الافتراق، و يزيل الالفة التي أنتم عليها (7).

أقول: كنصب أبي بكر للخلافة، حيث إنّه أحدث بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلافا و افتراقا عظيما بين الصّحابة، و من بعدهم إلى يوم القيامة، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوصى باتّباع علي عليه السّلام و أهل بيته، و جعلهم أحد الثّقلين، و حبلا من حبلي اللّه الممدودين. و من المسلّم بين الأمّة أنّ عليّا عليه السّلام أفضل عترته، و أشرف أهل بيته.

ثمّ لمّا كان الاعتصام بحبل اللّه من مشاقّ الأعمال، لتوقّفه على ترك الرّئاسات، و مخالفة الأهوية (8)و الشّهوات، بالغ سبحانه في التّرغيب إليه بتذكيرهم نعمه، بقوله: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ ثم لمّا كانت نعمة الأمن و الاتّحاد و الائتلاف من أعظم النّعم، خصّها بالتذكير بقوله: إِذْ كُنْتُمْ في زمان الجاهليّة و الأعصار المتمادية أَعْداءً متباغضين، يقتل بعضكم بعضا، و يغير

ص: 45


1- . معاني الأخبار:132/1، تفسير الصافي 1:338، و الآية من سورة الإسراء:17/9.
2- . في النسخة: ستفرق.
3- . تفسير الرازي 8:163.
4- . تاريخ بغداد 14:321، ترجمة علي عليه السلام من تاريخ دمشق 3:153/1172.
5- . صحيح مسلم 4:1873، سنن الترمذي 5:662، مسند أحمد 3:14 و 17 و 4:367 و 371.
6- . مستدرك الحاكم 2:343 و 3:151، الخصائص الكبرى 2:466، الجامع الصغير 2:533.
7- . تفسير أبي السعود 2:66.
8- . كذا، و الظاهر الأهواء؛ لأن الأهوية جمع هواء، و الأهواء جمع هوى، و مراد المصنف الأخير.

بعضكم على بعض فَأَلَّفَ اللّه سبحانه بفضله بَيْنَ قُلُوبِكُمْ المختلفة، حيث وفّقكم للإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هداكم إلى دين الإسلام فَأَصْبَحْتُمْ و صرتم بعد التباغض بِنِعْمَتِهِ العظيمة، من بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ديانة الإسلام، و ألفة القلوب، و اتّحاد الكلمة إِخْواناً في الدّين، متحابّين في اللّه، متّفقين على الحقّ، متزاحمين متناصحين متذلّلين بعضكم لبعض.

قيل: إنّ الأوس و الخزرج كانا أخوين لأب و أمّ واحد، فوقعت بينهم العداوة، و تطاولت الحروب مائة و عشرين سنة، إلى أن أطفأ اللّه ذلك بالإسلام (1).

و عن (المجمع) : عن مقاتل: افتخر رجلان من الأوس و الخزرج فقال الأوسيّ: منا خزيمة، و منا حنظلة، و منّا عاصم، و منّا سعد بن معاذ الذي اهتزّ عرش الرّحمن له، و رضي اللّه بحكمه في بني قريظة، و قال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد، و منّا سعد بن عبادة. فجرى الحديث بينهما، فغضبا و تفاخرا و ناديا، فجاء الأوس إلى الأوسي، و الخزرج إلى الخزرجي، و معهم السّلاح، فبلغ [ذلك]النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فركب حمارا فأتاهم، فأنزل اللّه [هذه]الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا (2).

ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة العظيمة الدّنيويّة، ذكّرهم اللّه تعالى أعظم نعمه الأخروية، بقوله: وَ كُنْتُمْ في زمان كفركم مقيمين عَلى شَفا و طرف حُفْرَةٍ مملوءة مِنَ اَلنّارِ و في شفير جهنّم، حال كونكم مشرفين على الوقوع فيها بالموت فَأَنْقَذَكُمْ اللّه و نجّاكم مِنْها بسبب تأخير موتكم، و توفيقكم لقبول الإسلام.

عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، قال: «فأنقذكم منها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (3).

أقول: الظّاهر أنّه بيان المراد من الآية، لا أنّ كلمة (محمّد) كانت جزءا منها، و المراد من قوله: (نزل بها جبرئيل) أنّه أنزلها بهذا التّفسير، لبطلان القول بالتّحريف.

كَذلِكَ البيان و التّوضيح الوافي يُبَيِّنُ اَللّهُ و يوضّح لَكُمْ آياتِهِ المنزلة الدالّة على المعارف و الأحكام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى ما فيه خيركم و صلاحكم، أو المراد لكي تثبتوا على ما أنتم عليه من الإسلام، و الازدياد في كمال الإيمان و قوّة اليقين.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 104 الی 105

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)

ص: 46


1- . تفسير الرازي 8:164.
2- . مجمع البيان 2:804.
3- . الكافي 8:183/208.

ثمّ أنّه تعالى-لمّا ذمّ أهل الكتاب، بكونهم ضالّين في أنفسهم مضلّين لغيرهم-أمر المؤمنين بالسّعي في إرشاد غيرهم، و الاهتمام بهداية أبناء نوعهم، بعد أمرهم بالثّبات على الإيمان، و السّعي في تكميل أنفسهم، و القيام بطاعة ربّهم، على خلاف أهل الكتاب، بقوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ و جماعة كاملة النّفس، عالمة بالمعارف الإلهيّة و الأحكام الشّرعيّة يَدْعُونَ النّاس إِلَى اَلْخَيْرِ و ما فيه صلاح الدّين و الدّنيا، من التّديّن بالإسلام، و التزام الطّاعات، و التّخلّق بالأخلاق الكريمة، و التنزّه من الصّفات الذّميمة وَ يَأْمُرُونَ العباد بِالْمَعْرُوفِ و ما استحسنه الشّرع و العقل وَ يَنْهَوْنَ الجهّال عَنِ ارتكاب اَلْمُنْكَرِ و ما استقبحه الشّرع و العقل. و في تخصيصهما بالذّكر إيذان بغاية فضلهما.

ثمّ وعدهم بأفضل الثّواب بقوله: وَ أُولئِكَ الجماعة القائمة بالدّعوة إلى اللّه بأصنافها هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون إلى كلّ (1)مطلوب.

في وجوب الأمر

بالمعروف و النهي

عن المنكر

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أمر بالمعروف، و نهى عن المنكر [كان]خليفة اللّه في أرضه، و خليفة رسوله، و خليفة كتابه» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر» .

و عنه عليه السّلام: «من لم يعرف بقلبه معروفا، و لم ينكر منكرا، نكّس و جعل أعلاه أسفله» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى، فمن نصرهما أعزّه اللّه، و من خذلهما خذله اللّه» (4).

أقول: يحتمل أن يكون المراد من قوله: (خلقان من خلق اللّه) أنّهما حكمان من أحكام اللّه، أو أنّهما موجودان من الموجودات الجوهريّة في عالم الصّور، يظهران في القيامة بصورتهما المثاليّة، كما تظهر الصّلاة و الصّوم بصورة، و القرآن بصورة.

و عن (التهذيب) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف، و نهوا عن المنكر، و تعاونوا على البرّ [و التقوى]، فإن لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، و سلّط بعضهم على

ص: 47


1- . كذا، و الظاهر: و الفائزون بكلّ.
2- . تفسير الرازي 8:168.
3- . تفسير الرازي 8:168.
4- . الكافي 5:59/11، تفسير الصافي 1:339.

بعض، و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السّماء» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في رواية: «أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصّادقين، و فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحلّ المكاسب، و تردّ المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، و الفظوا بألسنتكم، و صكّوا بها جباههم، و لا تخافوا في اللّه لومة لائم، فإن اتّعظوا، و إلى الحقّ رجعوا، فلا سبيل عليهم إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، و ابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطانا، و لا باغين مالا، و لا مريدين بالظّلم ظفرا، حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه و يمضوا على طاعته» .

قال أبو جعفر عليه السّلام: «و أوحى اللّه إلى شعيب النبيّ: إنّي معذّب من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم، و ستّين ألفا من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: إنّهم داهنوا أهل المعاصي، و لم يغضبوا لغضبي» (3).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، أواجب على الأمّة جميعا؟ فقال: «لا» ، فقيل: و لم؟ قال: «إنّما هو على القويّ، المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضّعفة الّذين لا يهتدون سبيلا إلى أيّ من أيّ-يعني إلى الحقّ من الباطل-و الدّليل على ذلك كتاب اللّه: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ -إلى أن قال-: فهذا خاصّ غير عامّ» (4)الخبر.

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر» ما معناه؟ قال: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، و هو مع ذلك يقبل منه» (5).

و عنه عليه السّلام: «إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر [مؤمن]فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سيف و سوط فلا» (6).

و في (نهج البلاغة) قال عليه السّلام: «و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنّما امرتم بالنّهي بعد التّناهي» (7).

و قال: «لعن اللّه الآمرين بالمعروف و التّاركين [له، النّاهين]عن المنكر العاملين به» (8).

ص: 48


1- . التهذيب 6:181/373، تفسير الصافي 1:339.
2- . الشورى:42/42.
3- . الكافي 5:55/1، التهذيب 6:181/372، تفسير الصافي 1:340.
4- . الكافي 5:59/16، التهذيب 6:177/9، تفسير الصافي 1:338.
5- . الكافي 5:60/16، التهذيب 6:178/360، تفسير الصافي 1:339.
6- . الكافي 5:60/2، التهذيب 6:178/362، تفسير الصافي 1:339.
7- . نهج البلاغة:152/105، تفسير الصافي 1:339.
8- . نهج البلاغة:188/129، تفسير الصافي 1:339.

و عن القمّي: عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «فهذه لآل محمّد صلّى اللّه عليهم و من تابعهم يدعون إلى الخير، و يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر» (1).

وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون في خبث النّفس، و حبّ الدّنيا، و اتّباع الشّهوات كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا بالقلوب، و تباينوا بالأخلاق، و تشتّتوا بالأهواء وَ اِخْتَلَفُوا في العقائد كاليهود و النّصارى؛ حيث صاروا فرقا كثيرة مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ من قبل اللّه الآيات اَلْبَيِّناتُ و الدّلائل الواضحات على الحقّ، من التّوحيد و التّنزيه و أحوال المعاد، مع أنّ كثرة الدّلائل على شيء و وضوحها موجبة للاتّفاق عليه وَ أُولئِكَ المتفرّقون بالقلوب، المختلفون في العقائد الفاسدة معدّ لَهُمْ عند اللّه عَذابٌ عَظِيمٌ عقوبة على تفرّقهم و اختلافهم.

في نقل كلام بعض

العامة في عدم تحقق الاتفاق إلاّ

بالإمام

و قال بعض العامّة: لمّا أمر اللّه هذه الأمّة بالأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر-و ذلك لا يتمّ إلاّ إذا كان الآمر بالمعروف و النّاهي عن المنكر-قادرا على تنفيذ هذا التّكليف على الظّلمة و المتغلّبين، و لا تحصل هذه القدرة إلاّ إذا حصلت الألفة و المحبّة بين أهل الحقّ و الدّين-فلا جرم حذّرهم اللّه عن التّفرّق و الاختلاف، لكيلا يصير [ذلك]سببا لعجزهم عن القيام بهذا التّكليف.

فعلى المؤمنين أن يتركوا مقتضى طباعهم من اتّباع الهوى، و يتّفقوا على كلمة واحدة باتّباع إمام داع إلى اللّه على بصيرة، كالرّسول و أصحابة، يجمعهم على طريقة واحدة، فإن لم يكن مقتدى و إمام تتّحد عقائدهم و سيرهم و آراؤهم بمتابعته، و تتّفق كلمتهم و عاداتهم و آهواؤهم لمحبّته و طاعته، كانوا متفرّقين، فرائس للشّيطان، كشريدة الغنم تكون للذّئب.

و لهذا قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا بدّ للنّاس من إمام بارّ أو فاجر، و لم يرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلين فصاعدا لشأن إلاّ و أمرّ أحدهما على الآخر، و أمر الآخر بمتابعته و طاعته، ليتّحد الأمر و ينتظم، و إلاّ وقع الهرج و المرج، و اضطرب أمر الدّين و الدّنيا، و اختلّ [نظام]المعاش و المعاد» (2).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة (3)الجنّة» .

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «يد اللّه مع الجماعة» ، فإنّ الشيطان مع الفذّ (4)، و هو من الاثنين أبعد، ألا ترى أنّ الجمعيّة الإنسانيّة إذا لم تنضبط برئاسة القلب و طاعة العقل كيف اختلّ نظامها، و آلت إلى الفساد و التّفرّق

ص: 49


1- . تفسير القمي 1:109، تفسير الصافي 1:339.
2- . تفسير روح البيان 2:75.
3- . بحبوحة الشيء: وسطه و خياره.
4- . الفذّ: الفرد المتفرّد.

الموجب لخسارة الدّنيا و الآخرة (1).

أقول: إذا كان وجود الإمام مرتبطا بالنّظام الأتمّ-كما أنّ وجود القلب و العقل مرتبط بنظام الجمعيّة الإنسانيّة-كان واجبا على اللّه نصبه، و الدّلالة عليه، و إيجاب طاعته، و إلاّ لزم خلاف الحكمة و اللّطف، و لا يمكن تفويض تعيينه و نصبه إلى الخلق؛ لأنّه موجب للاختلاف و الفرقة، و نقض الغرض، كما وقع ذلك في السّقيفة و في الصّحابة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا نهيه صلّى اللّه عليه و آله عن مفارقة الجماعة فلا شبهة في أنّ مقصوده الجماعة التي تكون على الحقّ، لا كلّ جماعة، لوضوح أنّ إبراهيم فارق جماعة أهل العالم، و لم يكن ملوما مذموما، و بعد دلالة الأدلّة القاطعة على نصب اللّه عليّا عليه السّلام للخلافة تعيّن أنّ الجماعة الذين أمرنا باتّباعهم، و بالدّخول فيهم، هم: سلمان، و أبو ذرّ، و مقداد، و عمّار، و أضرابهم لا الجماعة الذين بايعوا أبا بكر، و نقضوا البيعة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 106 الی 107

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد على الاجتماع، و الوعيد على التفرّق و الاختلاف، بقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ كثيرة بنور الإيمان و ضياء الملكات الجميلة وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ كثيرة بظلمة الكفر، و كدرة الأخلاق السّيّئة.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)و نصب (يوم) إمّا لكونه ظرفا لمتعلّق الجار، أو لكونه مفعولا ل(اذكروا) المقدّر.

قيل: يوسم أهل الحقّ ببياض الوجه، و الصّحيفة، و سعي النّور بين أيديهم و بأيمانهم. و أهل الباطل بأضداد ذلك.

و قيل: إنّ بياض الوجه كناية عن الفرح و السّرور بالفوز بالمطلوب، و سواده كناية عن الخيبة منه و وصول المكروه؛ كما قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا (2)

ثمّ بعد بيان سيماء الفريقين من الحسن و القباحة بيّن سبحانه معاملته معهما بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم توبيخا و تقريعا: أَ كَفَرْتُمْ بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و بدين الإسلام بَعْدَ إِيمانِكُمْ و تصديقكم عن صميم القلب، و اعترافكم لسانا و جنانا بهما؟ !

عن أبيّ بن كعب: أي في عالم الذّرّ (3).

ص: 50


1- . تفسير روح البيان 2:76.
2- . النحل:16/58.
3- . مجمع البيان 2:808.

و قيل: يعني قبل بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أو بعد إيمان أسلافكم به (1).

و على الوجهين الأخيرين يكون العتاب خاصّا بأهل الكتابين.

و قيل: اريد خصوص بني قريظة و النّضير.

و قيل: عموم أهل البدع من هذه الأمّة (2)، أو المرتدّين في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعده.

عن الثّعلبي في تفسيره: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و الذي نفسي بيده، ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام، حتّى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ: أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم (3)ارتدّوا على أعقابهم» (4).

و في روايات كثيرة: ارتدّ النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ خمسة (5).

و على أي تقدير يقال لهم: إذن فَذُوقُوا و اطعموا اَلْعَذابَ في هذا اليوم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .

قيل: إنّ الفصحاء متّفقون على أنّ من المحسّنات البديعيّة أن يكون مطلع الكلام و مقطعه ما تسر به القلوب (6)؛ و لذا بدأ في الآية ببيض الوجوه و ختمها بذكر حالهم، بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ بنور الإيمان و الطّاعة فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ من جنّته و نعمه مستقرّون، و هُمْ خاصّة فِيها خالِدُونَ دائمون، لا يخرجون منها، و لا يموتون.

قيل: في الآية إشعارات بغلبة جانب الرّحمة؛ حيث ابتدأ فيها بذكر أهل الرّحمة و ختمها بهم، و عبّر عن تعذيب الكفّار بالذّوق، و عن إثابة المؤمنين بالاستقرار في الرّحمة، و علّل العذاب بالكفر المستند إلى أنفسهم، و الثّواب بالرّحمة المضافة إلى ذاته المقدّسة، و لم يصرّح بخلود الكفّار في العذاب، مع كونهم خالدين فيه، و صرّح بخلود أهل الرّحمة فيها.

عن القمّي رحمه اللّه، عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه، قال: لمّا نزلت هذه الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ترد عليّ أمّتي يوم القيامة على خمس رايات؛ فراية مع عجل هذه الأمّة، فأسألهم: ما فعلتم بالثّقلين [من]بعدي؟ فيقولون: أما الأكبر فحرّفناه (7)و نبذناه وراء ظهورنا، و أمّا الأصغر فعاديناه

ص: 51


1- . مجمع البيان 2:808.
2- . مجمع البيان 2:809، تفسير الرازي 8:173.
3- . في المصدر: بعد إيمانهم.
4- . مجمع البيان 2:809.
5- . راجع: رجال الكشي:8/17 و 11/24 و فيه: ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة.
6- . تفسير الرازي 8:172.
7- . الظاهر أنه ليس المراد بالتحريف هنا الزيادة و النقصان، للاجماع على سلامة القرآن الكريم من التحريف بهذا المعنى، بل لعلّ المراد بالتحريف هنا التأويل الباطل الذي يخرج بالنص القرآني عن معناه الصحيح الموافق لمراده تعالى، و يؤيد ذلك حديث الإمام الباقر عليه السّلام في مراسلته لسعد الخير و التي جاء فيها: «و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه و حرّفوا حدوده، فهم يروونه و لا يرعونه-إلى أن قال عليه السّلام-: و كان من نبذهم الكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى، و أصدروهم إلى الردى، و غيروا عرى الدين» الحديث. الكافي 8:53/16.

و أبغضناه و ظلمناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية مع فرعون هذه الامّة، فأقول لهم: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه و مزّقناه و خالفناه، و أمّا الأصغر فعاديناه و قاتلناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية مع سامري هذه الأمّة، فأقول [لهم]: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فعصيناه و تركناه، و أمّا الأصغر فخذلناه و ضيّعناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج و آخرهم، فأقول: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فمزّقناه و برئنا منه، و أمّا الأصغر فقاتلناه و قتلناه، فأقول: ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية إمام المتّقين، و سيّد الوصيّين، و قائد الغرّ المحجّلين، و وصيّ رسول ربّ العالمين، فأقول لهم: ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فاتّبعناه و أطعناه، و أمّا الأصغر فأحببناه و واليناه و نصرناه، حتّى اهريقت فيه دماؤنا، فأقول: ردوا الجنّة رواء مرويّين، مبيضّة وجوهكم» ، ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى قوله خالِدُونَ (1).

و في هذه الرّواية شهادة على أنّ المراد بالآية أهل البدع و الأهواء الزّائغة من هذه الأمّة، و قد روي ذلك عن أمير المؤمنين عليه السّلام. أو المراد عموم المرتدّين و أهل البدع منهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 108 الی 109

ثمّ أشار سبحانه إلى دلالة هذه الآيات على صدق النّبوّة، بقوله: تِلْكَ الآيات المبشّرة للمؤمنين بياض الوجه في الآخرة و النّعم الأبدية و المنذرة للكافرين بسواد الوجه و العذاب الدّائم، العالي شأنها من أن يطّلع عليها أحد إلاّ بالوحي آياتُ اَللّهِ و دلائله القاطعة، التي أنزلها لإثبات كونك بشيرا و نذيرا من جانب اللّه، حيث إنّها-لعلوّ معانيها و إعجاز عباراتها-تنادي بأنّها ليست من البشر، بل نَتْلُوها و نقرؤها عَلَيْكَ يا محمّد بوساطة جبرئيل، حال كونها ملتبسة بِالْحَقِّ و العدل،

تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (109)

ص: 52


1- . تفسير القمي 1:109.

ليس فيها شائبة الجور من انتقاص الثّواب عن حدّ الاستحقاق، و زيادة العقاب عليه وَ مَا اَللّهُ الحكيم الغنيّ المنزّه من كلّ نقص و عيب يُرِيدُ ظُلْماً بوجه من الوجوه و لو مثقال ذرّة لِلْعالَمِينَ من الأوّلين و الآخرين، فإذا لم يمكن تحقّق إرادته منه تعالى لكونه من أقبح القبائح، فكيف يمكن صدوره منه تعالى؟ لوضوح أنّ العاقل لا يرتكب القبيح إلاّ للجهل، أو شدّة الضرورة و الحاجة.

وَ لِلّهِ وحده بالملكية الحقيقيّة الإشراقيّة ما وجد فِي اَلسَّماواتِ السّبع كلّها وَ ما يكون فِي اَلْأَرْضِ كافّة من الموجودات الخارجة من الحصر وَ إِلَى اَللّهِ و إلى حكمه و قضائه خاصّة تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ من الإيجاد و الإعدام، و الإحياء و الإماتة، و التّصرّف و التّربية، و الإثابة و العقوبة، لا يشركه فيها ندّ، و لا يزاحمه فيها ضدّ، فإذن كان علمه بلا نهاية، و قدرته بلا غاية، و غناؤه غير محدود، و عطاؤه غير مجذوذ.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 110

ثمّ أنّه تعالى-بعد أمر المؤمنين بالاتّفاق على الحقّ، و الدّعوة إلى طاعته، و نهيهم عن الفرقة و الاختلاف، و وعد المطيعين، و وعيد العاصين-مدح المتّفقين السّاعين في الإرشاد منهم، بقوله: كُنْتُمْ في علمي، و في اللّوح المحفوظ عندي خَيْرَ أُمَّةٍ من الامم، و أفضلهم في العالم.

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ (110)عن الصادق عليه السّلام قال: «يعني الأئمّة (1)التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه السّلام، فهم الأمّة التي بعث اللّه فيها و منها و إليها، و هم الامّة الوسطى، و هم خير أمّة اخرجت للنّاس» (2).

و عن العياشي: عنه عليه السّلام قال: «في قراءة عليّ: (كنتم خير أئمّة اخرجت للنّاس) ، قال: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «إنّما نزلت هذه الآية على محمّد فيه و في الأوصياء خاصّة، فقال: (أنتم (4)خير أئمّة اخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر) هكذا نزل بها جبرئيل، و ما عنى بها إلاّ محمّدا و أوصياءه» (5).

ص: 53


1- . في تفسير العياشي: الامّة.
2- . تفسير العياشي 1:335/769، تفسير الصافي 1:343.
3- . تفسير العياشي 1:335/767، تفسير الصافي 1:342.
4- . في تفسير العياشي: كنتم.
5- . تفسير العياشي 1:335/768، تفسير الصافي 1:342.

أقول: قد مرّ أنّ المراد من إنزال جبرئيل تفسيره حين إنزالها (خير أمّة) بالأئمّة، لا وقوع التّحريف فيها، و عليه تحمل سائر الرّوايات.

و عن القمّي رحمه اللّه عنه عليه السّلام أنّه قرئ عليه كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ فقال [أبو عبد اللّه عليه السّلام: «خير أمّة]يقتلون أمير المؤمنين، و الحسن و الحسين عليهم السّلام؟ !» فقال القارئ: جعلت فداك، كيف نزلت؟ فقال: «نزلت (كُنْتُمْ خَيْرَ أئمّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ) ألا ترى مدح اللّه لهم: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ؟» (1).

و عن (المناقب) : عن الباقر عليه السّلام أنّه: «خير أمّة (2)بالألف، نزل بها جبرئيل، و ما عنى بها إلاّ محمّدا و عليّا و الأوصياء من ولده» (3).

قال بعض العامّة: لو شاء اللّه تعالى لقال: (أنتم خير أمّة) حتّى يشمل جميع الامّة إلى يوم القيامة، و لكن قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ليختصّ بالمخصوصين، و قوم معيّنين من أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ و هم السّابقون الأوّلون.

و روي من طريق عامّيّ عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الّذين هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة (4).

و عن الضّحّاك: أنّهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة (5).

أقول: لا ريب أنّ المراد من (الأمّة) في الآية ليس جميعهم إلى يوم القيامة، و لا جميع الحاضرين في زمان الخطاب من الصّحابة، للقطع بفسق كثير منهم؛ كأبي سفيان و معاوية. و لا دليل على تعيين خصوص المهاجرين، بعد القطع بعدم إرادة المعنى الحقيقي و هو العموم، فلا بدّ من حملها على المتيقّن و هو أمير المؤمنين و من يحذو حذوه.

في بيان عدم حجية

الاجماع إلاّ بموافقة

رأي المعصوم

و قال الفخر الرازي في تفسيره: احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ إجماع الامّة حجّة (6). و فيه مضافا إلى منع الدّلالة: أنّ المراد إن كان اتّفاق جميع الامّة-كما هو ظاهر اللّفظ -فنحن نقول به، لكن لا من حيث الاتّفاق، بل لوجود الإمام المعصوم الذي هو أفضل الأمّة فيهم. و إن كان المراد اتّفاق بعضهم، فمع أنّه ليس بإجماع حقيقة [فانّ]إرادة خصوص أهل البيت-الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّهم حبل اللّه» (7)،

ص: 54


1- . تفسير القمي 1:110، تفسير الصافي 1:342.
2- . في المصدر: أنتم خير أمّة اخرجت للنّاس.
3- . مناقب ابن شهر آشوب 4:2، تفسير الصافي 2:343.
4- . تفسير أبي السعود 2:71.
5- . تفسير أبي السعود 2:71.
6- . تفسير الرازي 8:178.
7- . كتاب سليم بن قيس:134.

و أوجب حبّهم و ولايتهم-أولى من إرادة غيرهم، مع أن قوله تعالى: أُخْرِجَتْ و أبرزت من كتم العدم، نفعا لِلنّاسِ قرينة ظاهرة على إرادة خصوص جماعة يكون وجودهم نافعا لعامّة الخلق، و لطفا تامّا من اللّه تعالى بكافّة الأنام إلى يوم القيامة، و ليست إلاّ الأئمّة الاثني عشر الّذين نعتقد بأنّهم أوصياء الرّسول، و حجج اللّه على العباد.

و ما رواه التّرمذي عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ : «أنتم (1)تتمّون سبعين أمّة، أنتم خيرها و أكرمها على اللّه» (2)فمحمول- على تقدير صحّتها-على كون هذه الامّة أكرم من حيث كرامة نبيّها، و كمال دينها، و أفضليّة أئمتّها. فلا ينافي كون كثير منهم أشقى الأمم.

و من شواهد كون (خير أمّة) خصوص الهداة المهديّين: تعليله تعالى خيريّتهم بقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فإنّه يخصّ الوصف بالّذين يكون همّهم في تربية الخلق و تكميل نفوسهم.

ثمّ بقوله: وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ إيمانا خالصا عن شوب الشّرك الجليّ و الخفيّ و الأخفى، و من المعلوم أنّه كما لا يكون إلاّ للأوحدي من هذه الأمّة.

قيل: إنّ تأخير الإيمان باللّه في الذّكر على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر مع تقدّمه عليهما في الوجود، لكون دلالتهما على خيرهم و نفعهم للنّاس أظهر من دلالته عليه، و لأن يقترن به قوله: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى بوحدانيّة اللّه، و رسالة رسوله، و بدين الإسلام، عن صميم القلب، كإيمانكم لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة من الكفر و الرّئاسات الباطلة و الزّخارف الدّنيويّة؛ حيث إنّ بالإيمان يجمع لهم حظوظ الدّارين.

ثمّ لمّا كان لفظ (أهل الكتاب) في القضيّة الشّرطية ظاهرا في عمومهم، نصّ اللّه سبحانه بإيمان بعضهم بقوله: مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ كعبد اللّه بن سلام و أضرابه وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ المتمرّدون عن طاعة اللّه، المصرّون على مخالفته، الخارجون عن حدود دينه، في اعتقادهم و عند أهل ملّتهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 111

ثمّ لمّا كان توصيف الكافرين بالكثرة موهما لقوّتهم و غلبتهم، بشّر اللّه المؤمنين اطمئنانا لقلوبهم بأنّهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ أبدا بوجه من الوجوه، مع كثرتهم إِلاّ أَذىً قليلا، و ألما يسيرا، لا عبرة به

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)

ص: 55


1- . في المصدر: قال: إنكم.
2- . سنن الترمذي 5:226/3001.

و لا التفات إليه، كالطّعن باللّسان، و الإساءة بالقول، و السّعي في الإضلال.

وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يتظاهروا على حربكم، لا يقاوموكم، بل يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ و يلجئهم الخوف من بأسكم إلى الفرار، من غير أن يصيبوكم بقتل، أو جرج، أو أسر ثُمَّ بعد انهزامهم لا يُنْصَرُونَ من جهة أحد، و لا يتقوّون بمدد، و لا يتوقّع لهم شوكة، و لا ينتظر لهم قوّة.

و فيه تثبيت لمن آمن منهم و بشارة بأنّهم لا يفارقون الخذلان، و لا ينهضون بجناح، و لا ترجع إليهم سلطة و نجاح، كما كان من حال بني قريظة، و النضير، و قينقاع، و يهود خيبر.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 112

ثمّ أكّد خذلانهم بقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ و أحاطت بهم اَلذِّلَّةُ و المهانة، كإحاطة الفسطاط المضروب بأهله أَيْنَ ما ثُقِفُوا و في أي مكان كانوا، و إلى أي حال تحوّلوا إِلاّ إذا تمسّكوا بِحَبْلٍ وثيق كائن مِنَ اَللّهِ و اعتصموا بدينه القويم، و كتابه الحكيم وَ حَبْلٍ متين مِنَ اَلنّاسِ و هو ولاية أهل بيت النبيّ صلوات اللّه عليهم و متابعتهم، لنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خبر الثّقلين، المتّفق على روايته بأنّ كتاب اللّه و العترة حبلان ممدودان، من تمسّك بهما لن يضلّ أبدا (1).

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)و عن العياشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «الحبل من اللّه: كتاب اللّه، و الحبل من النّاس: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (2).

و العجب من مفسّري العامّة أنّهم فسّروا الحبل من النّاس بذمّة المسلمين (3)، و لم يحتملوا إرادة العترة الطّاهرة منه، مع أنّ دأبهم في التّفسير التّمسّك بأضعف الشّواهد.

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآيات دلالة ظاهرة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دعوى النّبوّة، لأنّها أخبار صادقة بالمغيّبات، لوقوع جميع ما أخبر به كما أخبر، حيث إنّ اليهود لم يقاتلوا المسلمين إلاّ انهزموا، و ما أقدموا على محاربة، و لا طلبوا رئاسة إلاّ خذلوا.

إن قيل: أهل الكتاب شامل للنّصارى، مع أنّهم لم يزالوا في شوكة و سلطنة قاهرة إلى عصرنا هذا، فكيف طابق الخبر المخبر؟

ص: 56


1- . مجمع البيان 2:805.
2- . تفسير العياشي 1:336/770، تفسير الصافي 1:343.
3- . تفسير أبي السعود 2:72، تفسير روح البيان 2:79.

قلنا: اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من الآيات خصوص اليهود، و يشهد لذلك ما روي في شأن نزولها: من أنّ مالك بن الصّيف و وهب بن يهوذا اليهوديّين، مرّا بنفر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فيهم ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و سالم مولى حذيفة، فقالا لهم: نحن أفضل منكم و ديننا خير ممّا تدعوننا إليه. فنزلت [الآية] (1).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه سوء حالهم في الآخرة بقوله: وَ باؤُ و رجعوا في الآخرة، أو المراد تمكّنوا و استقرّوا بِغَضَبٍ و عذاب عظيم كائن مِنَ اَللّهِ العظيم. و فيه أشّد التّهديد.

ثمّ لمّا كان همّ اليهود في الرّئاسات الباطلة و الحطام الدنيوي، زاد سبحانه في تهديدهم بالأخبار بحرمانهم منها في الدّنيا بقوله: وَ ضُرِبَتْ و اشتملت عَلَيْهِمُ اشتمال القبّة على من فيها اَلْمَسْكَنَةُ و الفقر و المقهورية، في أيدي المسلمين و سائر الملل، فلا يكون لهم ملك و سلطان و رئاسة و ثروة ظاهرة، حيث إنّهم و إن كثرت ثروتهم يظهرون الفقر بين النّاس.

و قيل: إنّ المراد بالمسكنة هي الجزية (2).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة هذه العقوبات بقوله: ذلِكَ المذكور من الشّدائد الدّنيويّة و الاخرويّة معلّل بِأَنَّهُمْ كانُوا من زمان بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الاستمرار يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ النّاطقة بنبوّته، و ينكرون علائمه المذكورة في التّوراة، و يحرّفون عباراتها المبشّرة ببعثه، الدّالّة على أوصافه و علائمه، و يجحدون إعجاز القرآن و سائر معجزاته وَ بأنّهم كانوا يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ من بني إسرائيل، كزكريّا، و يحيى و غيرهما، مع علمهم بأنّ قتلهم بِغَيْرِ حَقٍّ يوجبه أو يجوّزه.

قيل: إنّ إسناد القتل إلى الّذين كانوا في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لرضاهم بفعل أسلافهم، و تصويبهم له (3).

عن (الكافي) و العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «و اللّه ما قتلوهم بأيديهم، و لا ضربوهم بأسيافهم، و لكنّهم سمعوا أحاديثهم فأضاعوها، فاخذوا عليها فقتّلوا» (4).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من الرّواية بيان وجه نسبة قتلهم إلى مؤمني بني إسرائيل، مع وضوح عدم مباشرتهم له، و إنّما كان المباشر منهم.

ثمّ بيّن اللّه علّة بلوغهم إلى هذه الدّرجة من الشّقاوة بقوله: ذلِكَ المذكور من الكفر و الطّغيان معلّل بِما عَصَوْا اللّه و خالفوا أوامره و نواهيه، و مسبّب عن الإصرار على صغائر الذّنوب و كبائرها،

ص: 57


1- . تفسير أبي السعود 2:71.
2- . تفسير الرازي 8:185.
3- . تفسير روح البيان 2:79.
4- . الكافي 2:275/6، تفسير العياشي 1:336/770، تفسير الصافي 1:343.

وَ بما كانُوا يَعْتَدُونَ [على]حدود اللّه، و يداومون على التّجاوز عنها، من غير مبالاة، و لا ارعواء.

فإنّ الإصرار على الصّغائر مفض إلى مباشرة الكبائر، و الاستمرار على الكبائر موجب لزيغ القلب و طبعه الملازم للكفر و الطّغيان، و إليه أشار سبحانه بقوله: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (1)و قوله: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (2).

قال بعض العرفاء: من ابتلي بترك الأدب وقع في ترك السّنن، و من ابتلي بترك السّنن وقع في ترك الفريضة، و من ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشّريعة، و من ابتلي بذلك وقع في الكفر (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله في رواية: «و من ارتكب الشّبهات وقع في المحرمات؛ كالرّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 113 الی 114

ثمّ أنّه تعالى-بعد ذمّ أكثر أهل الكتاب بسوء اعتقادهم و أخلاقهم و أعمالهم، و تهديدهم على كفرهم و طغيانهم-ذكر التّباين بينهم و بين المؤمنين منهم بقوله: لَيْسُوا سَواءً في الاتّصاف بالكفر و القبائح، و لا يكونون مشاركين و لا مشابهين فيها.

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ (114)ثمّ شرع في مدح من آمن منهم بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و بيان عدم المساواة بينهم بقوله: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ كعبد اللّه بن سلام و أضرابه.

روي أنّه لمّا أسلم هو و أصحابه قال لهم بعض كبار اليهود: لقد كفرتم و خسرتم، فأنزل اللّه لبيان فضلهم هذه الآية (6).

و قيل: إنّها نزلت في أربعين من نصارى نجران، و اثنين و ثلاثين من الحبشة، و ثلاثة من الرّوم كانوا

ص: 58


1- . المطففين:83/14.
2- . الروم:30/10.
3- . تفسير روح البيان 2:80.
4- . سنن الترمذي 4:634/2451، تفسير روح البيان 2:80.
5- . تفسير روح البيان 2:80.
6- . تفسير الرازي 8:187.

على دين عيسى، و صدّقوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و كان جمع من الأنصار-قبل قدوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-منهم: أسعد بن زرارة، و البراء بن معرور، و محمّد بن مسلمة، و أبو قيس صرمة بن أنس، كانوا موحّدين يغتسلون من الجنابة، و يقومون بما يعرفون من شرائع الحنيفيّة، حتّى بعث اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فصدّقوه و نصروه (1).

و على أي تقدير، ذكر اللّه سبحانه وجه عدم المساواة بين المؤمنين منهم و الكافرين، و هو أنّ المؤمنين منهم أُمَّةٌ و جماعة قائِمَةٌ بالعدل، مستقيمة في العقائد و الأعمال، لا يتحرّفون إلى الباطل، و لا يميلون إلى الفساد، و هم يَتْلُونَ و يقرأون بخلوص النّيّة آياتِ اَللّهِ القرآنية آناءَ اَللَّيْلِ و ساعاته وَ هُمْ في حال تلاوتهم يَسْجُدُونَ .

قيل: إنّ السّجود كناية عن الصّلاة لعدم الفضيلة لتلاوة القرآن في السّجود، بل ثبوت كراهيّتها لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ألا إنّي نهيت أن أقرأ راكعا و ساجدا» (2).

و وجه التّعبير عن الصّلاة بالسّجود كونه أعظم أجزائها، و أشرف أركانها، و أدلّ على كمال الخضوع. و إنّما صرّح بتلاوتهم القرآن في الصّلاة، مع اشتمال كلّ صلاة عليها، لزيادة تحقيق المخالفة بين هؤلاء و غيرهم من منكري القرآن، لتوضيح عدم المساواة بينهم و بين الّذين وصفهم اللّه-آنفا-بالكفر بالنبيّ و كتابه.

و لعلّ هذا هو الوجه في تقديم هذا الوصف في الذّكر على توصيفهم بالإيمان بقوله: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ إيمانا حقيقيّا، مطابقا لما نطق به الشّرع، و رضي به اللّه.

فيدخل في الإيمان الحقيقي باللّه الإيمان بملائكته و كتبه و رسله و بخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن المجيد. و في الإيمان بالآخرة تصديق خلافة أمير المؤمنين و وجوب طاعته و طاعة المعصومين من ذرّيّته، و البراءة من أعدائهم، و القيام بأداء الفرائض، و التّحرّز عن المحرّمات.

و حاصل الآيتين من قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ إلى هنا، مدحهم بكمال القوة النظريّة و العمليّة.

ثمّ بعد مدحهم بكمالهم في أنفسهم، مدحهم بأنّهم غير مقتصرين على ذلك، بل يكون همّهم معدّ إلى إرشاد النّاس و تكميلهم، بقوله: وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بتوحيد اللّه، و بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ أي ينهون عن الشّرك باللّه، و عن إنكار نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (3).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من المعروف و المنكر هو الأعمّ من العقائد و الأعمال.

ص: 59


1- . تفسير أبي السعود 2:73.
2- . تفسير أبي السعود 2:73، تفسير روح البيان 2:81.
3- . تفسير الرازي 8:190.

ثمّ مدحهم بصفة جامعة لفنون المحاسن، بقوله: وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ بأصنافها؛ لخوف الفوت بالموت، و لفرط الرّغبة، و يبادرون إليها لغاية الشّوق.

و في ذكر الأوصاف تعريض على الفسّاق من أهل الكتاب، فإنّهم أمّة قائمة بالجور و الفساد، منحرفة العقائد، مائلة إلى الفساد، ساعية في إضلال النّاس، متباطئة في الخيرات، مسارعة في الشّرور، كافرة باللّه و اليوم الآخر.

ثمّ مدحهم اللّه تعالى بأكرم الصّفات، بقوله: وَ أُولئِكَ النّفوس المقدّسة، الكريمة الصّفات معدودون مِنَ زمرة اَلصّالِحِينَ و من جملة من حسنت أحوالهم عند اللّه، و استحقّوا رضاه و ثناءه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 115

ثمّ بشّرهم بالثّواب العظيم بقوله: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح؛ كائنا ما كان، من قليل أو كثير فَلَنْ يُكْفَرُوهُ و لن يعدموا ثوابه، و لم ينقصوا من أجره شيئا.

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)و في التّعبير عن ترك الإثابة بالكفران الذي هو محال على اللّه، دلالة واضحة على أنّ الثّواب بالاستحقاق كدلالة إطلاق الشّكر على الإثابة.

ثمّ قرّر اللّه سبحانه وعده بقوله: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مطّلع على أحوالهم و ضمائرهم، فيوفّيهم أجورهم في الدّنيا و الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ المؤمن مكفّر، و ذلك أنّ معروفه يصعد إلى اللّه فلا ينتشر في النّاس، و الكافر مشهور، و ذلك أنّ معروفه للنّاس ينتشر في النّاس و لا يصعد إلى السّماء» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 116

ثمّ-لمّا ذكر اللّه سبحانه حسن حال المؤمنين في الآخرة، و عظّم ثوابهم-ذكر سوء حال الكفّار فيها، و شدّة عقابهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله لَنْ تُغْنِيَ و لن تجزي عَنْهُمْ في الآخرة أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ تعالى شَيْئاً يسيرا، فلا وسيلة لهم إلى النّجاة منه.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)و تخصيص المال و الأولاد بالذّكر لكونهما أنفع الأمور، و أوثق الوسائل في دفع المكاره

ص: 60


1- . علل الشرائع:560/1، تفسير الصافي 1:344.

وَ أُولئِكَ المتباعدون عن رحمة اللّه، الخارجون عن وظائف الإنسانيّة أَصْحابُ اَلنّارِ و ملازموها و هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، لا مناصّ لهم و لا خلاص.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: يريد بني قريظة و النضير؛ لأنّ مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرّسول ما كان إلاّ المال و الولد (1).

و قيل: إنّما نزلت في أبي سفيان، فإنّه أنفق مالا كثيرا على المشركين يوم بدر و أحد في عداوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: إنّما نزلت في مشركي قريش، فإنّ أبا جهل كان كثير الافتخار بماله (3).

و قيل: إنّها عامّة لجميع الكفّار، فإنّ جميعهم كانوا يتعزّزون بكثرة الأموال و الأولاد، و كانوا يعيّرون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه بالفقر، و يقولون: لو كان محمّد على الحقّ لما تركه ربّه في هذا الفقر و الشدّة (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 117

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ أموال الكفّار لا تفيدهم شيئا-و هم كثيرا ما كانوا ينفقون أموالهم في الخيرات؛ كالصّدقة على الفقراء، و إعانة الضّعفاء-فكان مجال توهّم أنّهم ينتفعون بأموالهم في الآخرة، فأزال اللّه ذلك التّوهّم بقوله: مَثَلُ كفرهم في إبطال ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا قربة، أو مفاخرة، أو سمعة و طلبا لحسن الذّكر بين النّاس، أو رياء و خوفا كإنفاق المنافقين كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ و برد شديد مهلك.

مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)و قيل: إنّ المعنى: فيها نار محرقة، للهبها صرّ و صوت. و كلاهما مرويّ عن ابن عبّاس (5).

أَصابَتْ تلك الرّيح المهلكة حَرْثَ قَوْمٍ و زرع طائفة ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي فَأَهْلَكَتْهُ و استأصلته، بحيث لم يبق لهم ثمر و لا نفع بوجه من الوجوه، و لم يحصل لهم إلاّ الخيبة و الحسرة.

و قيل: إنّ المراد تشبيه ما أنفق الكفّار-في وجوه الخيرات و القربات، أو في معارضة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و قتال المسلمين، كإنفاق أبي سفيان في بدر و احد، و سائر أعمالهم الحسنة التي يرجى منها النّفع و لو كان دنيويّا-في الهلاك و الضّياع و البطلان، بما يحرثه الكفّار، فضربته صرّ فأبادته بحيث لم يكن لهم

ص: 61


1- . تفسير الرازي 8:192.
2- . تفسير الرازي 8:193.
3- . تفسير الرازي 8:192.
4- . تفسير الرازي 8:193.
5- . تفسير الرازي 8:195.

فيه منفعة. فهو من التّشبيه المركّب.

و إنّما وصف القوم بكونهم كفّارا، لأنّ الإهلاك عن السّخط أقطع و أفظع وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ بإهلاك ما أنفقوا من الأموال، و بإحباط ما عملوا من الخيرات وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث إنّهم أنفقوها مع الكفر، أو عصيان اللّه و طغيانا عليه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 118

ثمّ-لمّا بيّن اللّه المباينة بين المؤمنين و الكفّار، و تضادّ قلوبهم و أخلاقهم-حذّر المؤمنين من مخالطتهم و موالاتهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا لأنفسكم بِطانَةً و خليطا كائنا مِنْ دُونِكُمْ و لا تودعوا أسراركم عند الأجانب من دينكم، فإنّهم لا يَأْلُونَكُمْ و لا يقصّرون لكم خَبالاً و فسادا بمكرهم و خديعتهم، و لا يتركون جهدهم في الإضرار بكم، في ما يورثكم الشّرّ وَدُّوا ما عَنِتُّمْ و تمنّوا مشقّتكم، و شدّة ضرركم في دينكم و دنياكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ اَلْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)قيل: إنّ معنى الجملتين: أنّهم لا يقصّرون ضررا في أمر دينكم و دنياكم، فإن عجزوا فحبّ ذلك ثابت في قلوبهم (1).

حتّى أنّهم قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ و ظهرت شدّة عداوتهم في كلامهم، حيث إنّهم لا يتمالكون-مع مبالغتهم في حفظ أنفسهم-أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. و فيه غاية المبالغة؛ حيث فرض كلامهم-من ظهور العداوة و البغض فيه-عين البغضاء، لا دالاّ عليها، فخروج الكلام من أفواههم، لامتلاء قلوبهم بالبغض، نفس خروج البغض، وَ الحال أنّ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ و ما تستّر في قلوبهم من البغض و الحسد أَكْبَرُ و أكثر ممّا بدأ و ظهر.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة و الصّداقة و الحلف، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

و عن مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين، فنهوا عن ذلك (3).

و قيل: إنّ المسلمين كانوا يشاورون اليهود في أمورهم و يؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع

ص: 62


1- . تفسير روح البيان 2:85.
2- . تفسير أبي السعود 2:76.
3- . تفسير أبي السعود 2:76.

و الحلف (1).

و الظّاهر أنّ المراد النّهي عن موالاة عموم الكفّار، و إن كان مورد النّزول خاصّا.

ثمّ لمّا كان الإخبار بالضمائر و الأسرار إخبارا بالمغيّبات، الخارج عن طوق البشر، و متوقّفا على الوحي، نبّه اللّه سبحانه على كون هذا الإخبار من علائم صدق النّبوّة، بقوله: قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ أيّها المؤمنون اَلْآياتِ الدّالّة على صدق محمّد في دعواه إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ و تعدّون من زمرة أهل الفهم و الإدراك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 119

ثمّ أنّه تعالى بعد تنبيه المؤمنين على خطئهم في اعتقاد النّصح في اليهود، بالغ في الرّدع عن موالاتهم بقوله: ها أيّها المؤمنون و تنبّهوا أَنْتُمْ أُولاءِ المشتبهون فيهم، حيث إنّكم تُحِبُّونَهُمْ بتخيّل أنّهم يحبّونكم، وَ الحال أنّهم لا يُحِبُّونَكُمْ و لا يريدون خيركم و صلاح حالكم، وَ أنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ المنزل من اللّه كُلِّهِ [سواء]

كان هو التّوراة و الإنجيل، أو القرآن، و تعتقدون أنّ جميعها حقّ، و هم لتصلّبهم في دينهم لا يؤمنون بكتابكم.

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (119)قيل: فيه توبيخ شديد بأنّهم أصلب في باطلهم منكم في حقّكم.

ثمّ ذكّر اللّه تعالى من جملة الرّوادع عن مخالطتهم شدّة نفاقهم بقوله: وَ إِذا لَقُوكُمْ و واجهوكم قالُوا بألسنتهم نفاقا: نحن آمَنّا بنبيّكم و كتابكم كإيمانكم وَ إِذا خَلَوْا و تفرّدوا منكم أظهروا شدّة العداوة و الغيظ عليكم، حتّى تبلغ الشدّة إلى أن عَضُّوا عَلَيْكُمُ و استمسكوا شديدا بالأسنان اَلْأَنامِلَ و رؤوس الأصابع مِنَ أجل اَلْغَيْظِ و شدّة الغضب تأسّفا و تحسّرا، حيث لم يجدوا إلى التّشفّي سبيلا، كما هو فعل من اشتدّ غضبه، و عظم تحسّره على حرمانه من مطلوبه.

قيل: إنّما حصل لهم هذا الغيظ الشّديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، و اجتماع كلمتهم، و صلاح ذات بينهم (2).

ثمّ أمر اللّه نبيّه بتقريعهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء الحاسدين الغائظين: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ و اهلكوا بسبب شدّة عداوتكم و حسدكم.

ص: 63


1- . تفسير الرازي 8:197.
2- . تفسير الرازي 8:201، تفسير روح البيان 2:85.

قيل: إنّه كناية عن أنّه لا وسيلة للخلاص من هذا الغيظ إلاّ الموت، فمن رام التّخلّص منه فليتمنّى الموت و قيل: إنّه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنّونه (1).

ثمّ أمره عليه السّلام بتهديدهم، بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و مطّلع على جميع ما تخفونه و تكتمونه في قلوبكم من نيّات السّوء، و الحقد و الحسد على المؤمنين، و يجازيكم بأشدّ العذاب. و قيل: إنّه جملة مستأنفة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 120

ثمّ بيّن اللّه تعالى شدّة حسدهم، و تناهي عداوتهم للمؤمنين، بقوله: إِنْ تَمْسَسْكُمْ و تصل إليكم حَسَنَةٌ و خير من ربّكم من قوّة دينكم، و ضعف أعدائكم، و ظهوركم عليهم، و الغنيمة منهم، و الألفة و المحابة بينكم، و خصب معيشتكم، و سعة رزقكم تَسُؤْهُمْ و تحزنهم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ و ترد عليكم سَيِّئَةٌ و بليّة من مرض أو فقر أو جرح أو قتل يَفْرَحُوا و يسرّوا بِها و يشتموكم منها.

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)ثمّ لمّا كانت هذه المرتبة من العداوة و الحسد موجبا للخوف منهم، أمّن اللّه سبحانه المؤمنين بقوله: وَ إِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم، و امتثال أحكام دينكم وَ تَتَّقُوا ربّكم في مخالفة تكاليفه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ و مكرهم و حيلتهم-التي يحتالونها لأجلكم- شَيْئاً من الضّرر، فإنّكم في حفظ اللّه الموعود للصابرين و المتّقين.

قال بعض العلماء: إنّ اللّه تعالى إنّما خلق الخلق للعبوديّة كما قال: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2)فمن وفى بعهد العبوديّة، فاللّه سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الرّبوبيّة، في حفظه عن الآفات و المخافات، و إليه الإشارة بقوله: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (3)و قوله: وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (4)إشارة إلى أنّه يوصل إليه كلّ ما يسرّه.

و قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك، فاجتهد في اكتساب الفضائل (5).

ثمّ سلّى سبحانه قلوب المؤمنين بقوله: إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ في عداوتكم من الكيد و الإيذاء مُحِيطٌ علما، و مدرك له كاملا، فيعاقبهم عليه أشدّ العقاب.

ص: 64


1- . تفسير الرازي 8:201.
2- . الذاريات:51/56.
3- . الطلاق:65/2.
4- . الطلاق:65/3.
5- . تفسير الرازي 8:203.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 121 الی 123

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد الحفظ و النّصرة مطلقا، على الصّبر و التّقوى، المستلزم لانتفائهما عند انتفائهما، أتبعه بقضيّة احد الشّاهدة عليه، بقوله: وَ ذكّر المؤمنين إِذْ غَدَوْتَ يا محمّد، و حين خرجت أوّل النّهار مِنْ عند أَهْلِكَ و زوجتك قاصدا للذّهاب إلى أحد، كي تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ و تنزلهم، أو تهيّىء لهم مَقاعِدَ و أماكن ينتظرون فيها للعدوّ، و يقفون فيها لِلْقِتالِ و إنّما سمّيت تلك الأماكن بالمقاعد؛ لأنّهم كانوا يقعدون فيها منتظرين للعدوّ، فإذا جاءهم قاموا للمحاربة وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لمقال أصحابك في مشاورتك إيّاهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من النّيّات الحسنة و السّيّئة.

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

في سبب وقعة

احد

عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام قال: «سبب غزوة احد أنّ قريشا لمّا رجعت من بدر إلى مكّة-و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر؛ لأنّه قتل منهم سبعون، و اسر منهم سبعون-قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم، فإنّ الدّمعة إذا خرجت أذهبت الحزن (1)و العداوة لمحمّد (2)، فلمّا غزوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [يوم احد]أذنوا لنسائهم بالبكاء و النّوح، و خرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس، و ألفي راجل، و أخرجوا معهم النّساء، فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أصحابه و حثّهم على الجهاد. . .» (3).

و روي أنّ المشركين نزلوا باحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه، و دعا عبد اللّه بن ابيّ بن سلول، و لم يدعه قطّ قبلها باستشارة (4)، فقال عبد اللّه و أكثر الأنصار: يا رسول اللّه، أقم بالمدينة و لا تخرج إليهم و اللّه، ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلاّ أصاب منّا، و لا دخل عدوّ علينا إلاّ أصبنا منه، و كيف و أنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشرّ موضع، و إن دخلوا قاتلهم الرّجال في وجوههم، و رماهم النّساء و الصّبيان بالحجارة، و إن رجعوا رجعوا خائبين (5).

و قال سعد بن معاذ و غيره من الأوس: يا رسول اللّه، ما طمع فينا أحد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يظفرون بنا و أنت فينا؟ ! لا حتّى لا نخرج إليهم و نقاتلهم، فمن قتل منّا فهو شهيد،

ص: 65


1- . زاد في المصدر: و الحرقة.
2- . زاد في المصدر: و يشمت بنا محمّد و أصحابه.
3- . تفسير القمي 1:110، تفسير الصافي 1:345.
4- . في تفسير الرازي: فاستشاره.
5- . تفسير الرازي 8:205.

و من يحيا منّا كان مجاهدا في سبيل اللّه (1)، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب (2)لئلاّ يظنّوا أنّا خفناهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي قد رأيت في منامي بقرة (3)تذبح حولي، فأوّلتها خيرا، و رأيت في ذباب (4)سيفي ثلما، فأوّلته هزيمة، و رأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم [أن] تقيموا بالمدينة و تدعوهم» .

فقال قوم من المسلمين؛ من الّذين فاتتهم بدر، و أكرمهم اللّه بالشّهادة يوم احد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا به حتّى دخل بيته و لبس لامته، فلمّا لبس ندم القوم و قالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الوحي يأتيه، فقالوا له: اصنع يا رسول اللّه ما رأيت، فقال: «لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتّى يقاتل» (5).

و في رواية القمّي رحمه اللّه: و خرج صلّى اللّه عليه و آله مع نفر من أصحابه يتبوّأون (6)موضع القتال (7).

في نقل كلام الفخر

في طهارة عائشة

و ردّه

قال الفخر الرازي في تفسيره: يروى أنّه صلّى اللّه عليه و آله غدا من منزل عائشة، فمشى على رجليه إلى احد. و هذا قول مجاهد و الواقدي، فدلّ هذا النصّ على أن عائشة كانت أهلا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال تعالى: اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ (8)، فدلّ هذا النصّ على أنّها كانت مطهّرة مبرّأة من كلّ قبيح. ألا ترى أنّ ولد نوح لمّا كان كافرا قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (9)و كذا امرأة لوط؟ (10).

أقول: في كلامه خلل لا يكاد يخفى على عاقل، فضلا عن فاضل، فإنّ إطلاق (الأهل) على عائشة- على تقدير إرادتها منه-غير مشعر أصلا بكمال و شرف لها زائدا على شرف الانتساب إليه صلّى اللّه عليه و آله؛ كما كان هذا الشّرف لزوجة نوح و لوط، بل الإشعار فيه بإسلامها، لوضوح أنّ الزّوجة-في اللّغة و العرف- أحد المصاديق الحقيقية للأهل.

و من الواضح أنّ اللّه تعالى أطلق اسم الأهل على زوجة لوط، حيث قال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ فلو لم تكن زوجته داخلة في (الأهل) لم يصحّ الاستثناء بقوله: إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ (11)فصحّة الاستثناء دليل على شمول لفظ (الأهل) لها حقيقة، و إخراجها منه حكما. و كذا أطلق نوح اسم الأهل على ابنه بقوله: رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي (12)مع علمه بكفره.

ص: 66


1- . تفسير القمّي 1:111.
2- . الأكلب: جمع كلب.
3- . في تفسير الرازي: بقرا.
4- . ذباب السيف: حدّ طرفيه.
5- . تفسير الرازي 8:205.
6- . في تفسير القمي: يبتغون.
7- . تفسير القمي 1:111.
8- . النور:24/26.
9- . هود:11/46.
10- . تفسير الرازي 8:206.
11- . هود:11/81.
12- . هود:11/45.

و أمّا قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (1)فلا شبهة أنّه مجاز في السّلب بعلاقة انتفاء الآثار، كما يقال: يا رجال و لا رجال.

و أمّا قوله تعالى: اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ فقد قيل في تفسيره: إنّ المراد: الطّيّبات من القول و الكلم، أو المبرّأة من الزّنا، فيكون مثل قوله: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

و يؤيّد ذلك أنّ الآية (3)بعد آية رمي المحصنات من قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْغافِلاتِ اَلْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ (4)و لا شبهة أنّ أزواج الأنبياء بريئات من الزّنا، و إن كنّ كافرات، لوضوح أنّ هذا الفحش منهنّ شين عليهم، مع أنّ البراءة من كلّ قبيح يساوق العصمة، مع أنّه لم يقل أحد في سائر أزواجه صلّى اللّه عليه و آله ذلك.

مع أنّه لا شبهة أنّ الخطاب في قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ (5)لحفصة و عائشة، و فيه دلالة واضحة على عصيانهما، و عدم تنزّههما من القبيح، مع تواتر أنّها (6)تبرّجت بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تبرّج الجاهليّة، و خرجت على إمام زمانها. و قد ذكر ابن أبي الحديد أنّ منشأ عداوة أبي بكر و عمر لفاطمة و عليّ عليهما السّلام شدّة حسد عائشة و حفصة عليهما، و سعايتهما عليهما عند أبويهما (7).

و الحاصل: أنّه لا ينبغي لذي مسكة أن يتخيّل أنّ عائشة كانت مبرّأة من كلّ قبيح (8).

في ذكر وقعة

احد

ثمّ إنّ الآية و الرّوايات و إن دلّتا على خروجه من بيت أهله أوّل النّهار، إلاّ أنّ في بعض

ص: 67


1- . هود:11/46.
2- . النور:24/3.
3- . أي آية وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ .
4- . النور 24/23.
5- . التحريم:66/4.
6- . أي عائشة.
7- . راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9:192-199.
8- . و اعلم أن التطهير من الرجس يشمل أهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير من سورة الأحزاب:33 و هم أهل البيت: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و ليس غيرهم، و قد روى ذلك مسلم في صحيحه 4: 1883/2424، و الحاكم في المستدرك 3:146، و قال الفخر الرازي في تفسيره 8:85 إن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير. و اعلم أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخرج أمّ سلمة مع جلالتها من أهل البيت فقال لها: إنك على خير و لم يقل إنك منهم، أخرجه الترمذي في السنن 5:351/3205، و الحاكم في المستدرك 2:415. كما أن السيرة العملية لبعض نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تخرجهن عن دائرة العصمة و الطهارة من الذنوب فقد قال تعالى في بعضهن: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ [التحريم:66/4] و الآية تدلّ على وقوع المعصية، لأنّ التوبة مترتبة على المعصية، و قال تعالى في نفس الآية: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي مالت عن الحق، و قال تعالى في نفس الآية: وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ و المراد حفصة و عائشة، كما في البخاري 6: 277/407، و الكشاف 4:571. و ذلك يخرج صاحبه عن حد الطهارة و العصمة من الآثام، و عليه فان التطهير لا يشمل نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل مخصوص بالخمسة أهل الكساء من أهل البيت عليهم السّلام دون غيرهم.

الرّوايات أنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج من المدينة يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة، و أصبح بالشّعب من احد يوم السّبت للنّصف من شوّال لسنة ثلاث من الهجرة، فمشى على رجليه، و جعل يصفّ أصحابه للقتال كأنّما يقوّم بهم (1)القدح، إن رأى صدرا خارجا قال: تأخّر. و كان نزوله في جانب الوادي، و جعل ظهره عسكره إلى احد، و أمّر عبد اللّه بن جبير على الرّماة و قال: «ادفعوا عنّا بالنّبل، حتّى لا يأتونا من ورائنا» ، و قال صلّى اللّه عليه و آله: «اثبتوا في هذا المقام، فلن نزال غالبين ما ثبتم في مكانكم» .

ثمّ إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لمّا خالف [رأي]عبد اللّه بن أبيّ، شقّ عليه ذلك و قال: «أطاع الولدان و عصاني» ثمّ قال لأصحابه: إنّ محمّدا إنّما يظفر بعدوّه بكم، و قد وعد أصحابه أنّ أعداءه إن عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا، فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمّد.

فلمّا التقى الفريقان انهزم عبد اللّه بالمنافقين، و كان جملة عسكر المسلمين ألفا، أو تسعمائة و خمسين، فانهزم عبد اللّه بن أبيّ مع ثلاثمائة، فبقيت سبعمائة أو ستمائة و خمسين، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري فقال: أنشدكم اللّه في نبيّكم و أنفسكم، فقال عبد اللّه: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم.

و كان حيّان من الأنصار؛ بنو سلمة من الخزرج، و بنو حارثة من الأوس، جناحين من عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهمّ الحيّان باتّباع عبد اللّه، فتفضّل اللّه عليهما و على المؤمنين بأن ثبّتهما و قوّى قلوبهما (2)، فذكّر المؤمنين هذه النّعمة بقوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون أَنْ تَفْشَلا و تضعفا عن القتال جبنا و ترجعا إلى المدينة. عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أضمروا أن يرجعوا، فعزم اللّه لهم على الرّشد (3). وَ اَللّهُ بفضله عليهما و على المؤمنين وَلِيُّهُما و عاصمهما من اتّباع تلك الخطرة (4)وَ عَلَى اَللّهِ وحده دون من عداه استقلالا و اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ و ليعتمد اَلْمُؤْمِنُونَ في جميع امورهم، فإنّه حسبهم و نعم الوكيل.

فإنّ من آمن و تيقّن بقدرة اللّه و لطفه بعباده المؤمنين، و عونه و نصرته لهم، لا يعرضه الفشل في الأمور، و لا يطروه الخوف من غيره تعالى، سيّما في الجهاد في سبيله و نصرة دينه.

ثمّ استشهد سبحانه على نصرته المؤمنين عند الصّبر و التّقوى، بنصرته لهم في وقعة بدر، حيث قال تعالى تذكيرا لهم: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ على أعدائكم بِبَدْرٍ قيل: هو اسم ماء بين مكّة و المدينة، كان لرجل اسمه بدر بن كلدة (5)، فسمّي باسمه، و قيل: سمّي به لصفائه [كالبدر]

و استدارته، (6)

ص: 68


1- . في النسخة: به.
2- . تفسير الرازي 8:205، تفسير أبي السعود 2:78، تفسير روح البيان 2:88.
3- . تفسير أبي السعود 2:79.
4- . الخطرة: ما يخطر على القلب.
5- . الذي في معجم البلدان 1:425: ينسب إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، أو بدر بن قريش بن الحارث بن يخلد.
6- . تفسير أبي السعود 2:79.

و قيل: هو اسم الموضع أو الوادي (1).

و كانت الوقعة في السّابع عشر من شهر رمضان، سنة اثنتين من الهجرة، و كانت الوقعة آية عظيمة، و لذا بيّن اللّه عظمتها بقوله: وَ أَنْتُمْ أيّها المؤمنون في تلك الوقعة أَذِلَّةٌ ضعفاء من حيث قلّة العدد و المال و السّلاح و المركوب، و مع ذلك قهرتم خصومكم، و ظفرتم على أعدائكم، مع كثرة عددهم و سلاحهم و شوكتهم، و فزتم بمطلوبكم بفضل اللّه و نصره.

و لمّا شاهدتم النّصر الخارق للعادة في تلك الوقعة عند صبركم في نصرة الرّسول و طاعتكم للّه فَاتَّقُوا اَللّهَ في الثّبات في هذه الوقعة أيضا، و اصبروا لَعَلَّكُمْ بنصرته لكم فيها، و بنعمته عليكم تَشْكُرُونَ كما شكرتم ما أنعم عليكم من النّصر في تلك الوقعة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 124 الی 125

ثمّ وجّه اللّه سبحانه الخطاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تشريفا له، و إيذانا بأنّ النّصر كان ببشارته صلّى اللّه عليه و آله، و عيّن وقت وقوعه بقوله: إِذْ تَقُولُ يا محمّد تبشيرا لِلْمُؤْمِنِينَ يوم بدر، حين أظهروا الضّعف و العجز عن المقاتلة. و ذلك منسوب إلى أكثر المفسّرين.

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)و عن ابن عبّاس، و الواقدي، و جماعة: أنّه صلّى اللّه عليه و آله حين غدا من منزل أهله للخروج إلى احد (2)، قال للمؤمنين تقوية لقلوبهم: أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ و يغنيكم للنّصر و الغلبة على أعدائكم أَنْ يُمِدَّكُمْ و يعينكم رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ حال كونهم مُنْزَلِينَ من السّماء بأمره تعالى لنصركم.

في ذكر الاختلاف

في أن التبشير

بامداد الملائكة كان

في بدر أو احد

قيل: إنّ اللّه أنزل الملائكة يوم احد لنصرة المؤمنين، و لمّا كان النصر مشروطا بالصّبر و التّقوى، و هم في ذلك اليوم لم يصبروا، و لم يتّقوا، فلم يمدّوهم.

و عن مجاهد و الواقدي، قالا: حضرت الملائكة يوم احد، و لكنّهم لم يقاتلوا.

و يؤيّده ما روي من أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أعطى اللّواء مصعب بن عمير فقتل مصعب، فأخذه ملك في صورة مصعب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا مصعب» فقال الملك: لست بمصعب، فعرف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أنّه ملك امدّ به (3).

ص: 69


1- . تفسير أبي السعود 2:79.
2- . تفسير الرازي 8:209.
3- . تفسير الرازي 8:210.

و عن سعد بن أبي وقّاص قال: كنت أرمي السّهم يومئذ، فيردّه إليّ رجل أبيض حسن الوجه، و ما كنت أعرفه فظننت أنّه الملك (1).

و أمّا القائلون بأنّ هذه البشارة كانت في بدر، [فقد]جمعوا بينها و بين قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (2)بأنّ اللّه تعالى أمدّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه أولا بألف، ثمّ زاد فيهم ألفين [فصاروا ثلاثة آلاف]، ثمّ زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسة آلاف، فكأنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لهم: «أ لن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بألف من الملائكة؟» فقالوا: بلى، ثمّ قال: أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ. . . (3).

ثمّ بلغ أصحاب بدر أنّ بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير، و نقل أنّه بلغهم أنّ كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين، فشقّ ذلك على المسلمين (4)، فبشّرهم اللّه تعالى لطمأنة قلوبهم بقوله: بَلى يكفيكم ذلك.

ثمّ وعدهم الزّيادة بشرط الصّبر و التّقوى حثّا لهم عليهما، و تقوية لقلوبهم بقوله: إِنْ تَصْبِرُوا أيّها المؤمنون على منازلة الأعداء و مناهضتهم وَ تَتَّقُوا معصية اللّه، و مخالفة الرّسول، وَ المشركون يَأْتُوكُمْ بخيلهم و رجلهم مِنْ فَوْرِهِمْ هذا و ساعتهم هذه، بلا ريث و تأخير يُمْدِدْكُمْ و يقوّيكم رَبُّكُمْ الذي هو بلطفه ناصركم و حافظكم حين إتيانهم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ حال كونهم مُسَوِّمِينَ معلمين (5)أنفسهم أو خيولهم.

روي أنّهم كانوا بعمائم بيض إلاّ جبرئيل فإنّه كان بعمامة صفراء (6).

و في رواية: أنّهم كانوا قد أعلموا (7)في نواصي الخيل. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: «تسوّموا فإنّ الملائكة [قد]تسوّمت» (8).

قالوا: إنّ العرب كانوا يجعلون في الحروب لأنفسهم علامة يعرفون بها.

و نقل أنّ حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريش نعامة، و أنّ عليّا كان يعلم بصوفة بيضاء، و أنّ الزّبير كان يتعصّب بعصابة صفراء، و أنّ أبا دجانة (9)كان يعلم بعصابة حمراء (10).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 126

وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (126)

ص: 70


1- . تفسير الرازي 8:211.
2- . الأنفال:8/9.
3- . تفسير الرازي 8:211.
4- . تفسير الرازي 8:212.
5- . أي جاعلين لها علامة مميّزة.
6- . تفسير أبي السعود 2:80.
7- . زاد في تفسير أبي السعود: بالعهن.
8- . تفسير أبي السعود 2:81.
9- . أبو دجانة، هو سماك بن خرشة الخزرجي الأنصاري، صحابي، من الشجعان، شهد بدرا، و ثبت يوم احد، و اصيب بجراحات كثيرة، و استشهد باليمامة سنة 11 ه. الأعلام/الزركلي 3:138.
10- . تفسير الرازي 8:215.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إمداد المؤمنين و نصرتهم بالملائكة، مع كونه تعالى قادرا عليها بلا واسطة؛ بقوله: وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ بإنزال الملائكة، لعلّة من العلل إِلاّ لكونه بُشْرى و سرورا لَكُمْ بالنّصر وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ و تسكن إليه أفئدتكم من الخوف، كما كانت السّكينة لبني إسرائيل، حيث إنّ نظر العامّة إلى الأسباب وَ مَا اَلنَّصْرُ و الغلبة لأحد على عدوّه إِلاّ و هو كائن مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وحده، لا من العدّة و العدد؛ لأنّه اَلْعَزِيزِ الغالب في حكمه و قضائه، لا يغالب اَلْحَكِيمِ العالم بحقائق الأمور، لا يفعل ما يفعل إلاّ بالنّظر إلى الحكمة البالغة، و الصّلاح الأتمّ.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 127

ثمّ أنّه تعالى بعدما بيّن علّة نصر الرّسول و المؤمنين بواسطة إنزال الملائكة-الذي هو من قبيل الأسباب، مع عدم حاجته تعالى في فعله إليها بوجه من الوجوه؛ لأنّه المسبّب للأسباب-بيّن سبحانه و تعالى علّة أصل نصرة المؤمنين على الكفّار، بقوله: لِيَقْطَعَ و ينقص طَرَفاً و طائفة مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر، فإنّه قتل من رؤسائهم و صناديدهم سبعون و أسر سبعون أَوْ يَكْبِتَهُمْ و يغيضهم بخزيهم و قهرهم فَيَنْقَلِبُوا إلى أماكنهم، و يرجعوا إلى منازلهم خائِبِينَ محرومين من الظّفر، منهزمين عن القتال. و كلمة (أو) هنا للتّنويع، لا التّرديد.

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 128

ثمّ إنّه تعالى-لإظهار شدّة الغضب على قريش، أو خصوص الحاضرين منهم في بدر أو احد، و لإعذار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند أرحامه و عشيرته-سدّ باب شفاعته لهم، بقوله: لَيْسَ لَكَ مع كونك أقرب الخلق إليّ، و أحبّهم لديّ مِنَ اَلْأَمْرِ الراجع إلى هؤلاء الكفّار شَيْءٌ من الدّخالة و الشّفاعة فضلا عن غيرك، بل الأمر كلّه للّه المالك القاهر.

لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)فإذن يتعامل معهم بأحد هذين الأمرين أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن يتوبوا و يسلموا، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بالقتل و الأسر و الذّل و الفقر و المرض في الدّنيا، و بالنّار و الزّقّوم و الضّريع في الآخرة، إن أقاموا على الكفر، و أصرّوا على الضّلال. و ليس لأحد الاعتراض على اللّه في تعذيبهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ على رسوله و على المؤمنين، و الظلم لكونه أشدّ القبائح، موجب لاستحقاق أشدّ العذاب.

ص: 71

في ذكر ما أصاب

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في

أحد

روي أنّ عتبة بن أبي وقّاص شجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في احد، و كسر رباعيته (1)، فجعل يمسح الدّم عن وجهه، و سالم مولى حذيفة يغسل الدّم عن وجهه، و هو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدّم، و هو يدعوهم إلى ربّهم» ثمّ أراد أن يدعو عليهم فنزلت (2).

و روي أنّه دعا على عتبة بأن لا يحول عليه الحول حتّى يموت كافرا، فمات كافرا قبل أن يحول الحول (3).

و قيل: إنّه أراد أن يدعو عليهم، فنهاه اللّه تعالى لعلمه بأنّ منهم من يؤمن (4).

و في رواية: أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يمسح الدّم عن وجهه و يقول: «اللّهمّ اهد قومي، فإنّهم لا يعلمون» (5).

و عن عبد اللّه بن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن أقواما، فقال: «اللّهمّ العن أبا سفيان، اللّهمّ العن حارث بن هشام، اللّهمّ العن صفوان بن أميّة» فنزلت هذه الآية: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب اللّه على هؤلاء و حسن إسلامهم (6).

أقول: يعلم حال ابن عمر من تحسينه إسلام أبي سفيان المعروف بين الفريقين بالفسق و النّفاق، و لعلّ مقصوده أنّ إسلامه كان أحسن من إسلام نفسه.

و قيل: إنّها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا رآه و رأى ما فعلوا به من المثلة قال: «لأمثلنّ منهم بثلاثين» فنزلت. و قيل: إنّها نزلت بسبب أنّه صلّى اللّه عليه و آله أراد أن يلعن المسلمين الّذين خالفوا أمره، و الّذين انهزموا، فمنعه اللّه من ذلك، و هو مرويّ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (7).

و لعلّ حكمة المنع مع كونهم مستحقّين له، تأليف قلوبهم، و ازدياد شوكة الإسلام بظاهر إسلامهم.

و قيل: إنّ (أو) في قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بمعنى إلاّ أنّ، و المراد: أنّه ليس لك من الأمر شيء إلاّ أن يتوب عليهم (8).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه قرئ عنده لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ، قال: «بلى و اللّه، إنّ له من الأمر شيئا و شيئا، و ليس حيث ذهبت، و لكن اخبرك: أنّ اللّه تعالى لمّا أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يظهر ولاية عليّ، ففكّر في عداوة قومه له؛ في ما فضّله اللّه به عليهم في جميع خصاله، و حسدهم له عليها، ضاق عن ذلك، فأخبر اللّه أنّه ليس له من هذا الأمر شيء، إنّما الأمر فيه إلى اللّه أن يصيّر عليّا وصيّه و وليّ الأمر بعده.

ص: 72


1- . الرباعية: السّن بين الثنيّة و الناب، و هنّ أربع، رباعيتان في الفك الأعلى، و رباعيتان في الفك الأسفل.
2- . تفسير الرازي 8:217، تفسير أبي السعود 2:83، تفسير الصافي 1:350.
3- . مجمع البيان 2:831.
4- . تفسير أبي السعود 2:83.
5- . مجمع البيان 2:831.
6- . تفسير الرازي 8:217.
7- . تفسير الرازي 8:217.
8- . تفسير الرازي 8:219.

فهذا عنى اللّه، و كيف لا يكون له من الأمر شيء و قد فوّض اللّه إليه أن جعل ما أحلّ فهو حلال، و ما حرّم فهو حرام؟ !» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 129

ثمّ أنّه [تعالى]

-لمّا ذكّر أنّ أمر المغفرة و التّعذيب إليه، و لا دخل لغيره فيه-ذكر أنّ جميع امور الموجودات راجعة إليه، بقوله: وَ لِلّهِ بالملكية التّامة؛ بلا مشارك و لا مضادّ ما وجد فِي اَلسَّماواتِ وَ ما خلق فِي اَلْأَرْضِ فامور جميع الموجودات-إيجادا و إعداما، و إحياء و إماتة، و تصرّفا و ترتيبا-راجعة إليه، لا مدخل لغيره فيها، فهو سبحانه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له، بحسب الحكمة و التّفضّل وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذّبه، بحسب العدل و الاستحقاق.

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)و إنّما قدّم المغفرة على التّعذيب، للدّلالة على غلبة جانب الرّحمة على الغضب، و للإشعار بأنّ المغفرة أصل في الغرض من الخلقة، و التّعذيب مقصود بالعرض.

و لذا ختم الآية بتوصيف ذاته المقدّسة-بعد ذكر التّعذيب-بالمغفرة و الرّحمة، بقوله: وَ اَللّهُ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالعباد. و تقديم المغفرة على الرّحمة، لتقدّم الأمن من العذاب على الوعد بالرّحمة و الثّواب.

قيل: إنّ الآية صريحة في نفي وجوب التّعذيب (2)، لتعليقه على مشيئته [تعالى].

و فيه: إنّ مشيئته [تعالى]لا تكون إلاّ عن حكمة بالغة، و معنى الوجوب: عدم إمكان تخلّفه عن مقتضاها، لا الوجوب التّكليفي، كما هو واضح على ذي مسكة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 130 الی 132

في حرمة الربا

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أناط السّلامة من كيد العدوّ و ضرّه بالصّبر و التّقوى، و هدّد الكفّار بأنّه يعذّبهم في الآخرة إن لم يتوبوا و يسلموا، نبّه على إناطة السّلامة من عذاب النّار في الآخرة باجتناب أكل الرّبا و التّقوى، و أنّ للمؤمنين معصية تشارك الكفر في العقوبة، بقوله: يا أَيُّهَا

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

ص: 73


1- . تفسير العياشي 1:337/778، تفسير الصافي 1:350.
2- . تفسير البيضاوي 1:179.

اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا و لا تأخذوا اَلرِّبَوا حال كونه أَضْعافاً مُضاعَفَةً و رباءات كثيرة متكرّرة.

قيل: كان الرّجل في الجاهليّة إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، و لم يكن المديون واجدا لذلك المال، قال: زدني في المال حتّى أزيدك في الأجل، فربّما جعله مائتين، ثمّ إذا حلّ الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثمّ إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها (1).

و تقييد الرّبا بهذه الحال ليست لتقييد النّهي بها، حتّى تنتفي الحرمة بانتفائها، بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة، مع زيادة التّشنيع.

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في جميع ما نهيتم عنه، و منه الرّبا لَعَلَّكُمْ بالتّقوى، و ترك أكل الرّبا تُفْلِحُونَ و تفوزون بأهمّ المقاصد و تنالون خير الدّارين

وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ و هيّئت في الآخرة لِلْكافِرِينَ و لا تشاركوهم بأكل الرّبا في التّعذيب بنارهم.

ثمّ أكّد الأمر بالتّقوى بالأمر بالطّاعة بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ في ما أمراكم به من الجهاد و سائر العبادات، و ما نهياكم عنه من أخذ الرّبا الذي يماثل الكفر، و غيره من المحرّمات لَعَلَّكُمْ بالطّاعة تُرْحَمُونَ فإنّها موجبة لرجاء الرّحمة.

في دلالة الآية على

غاية التغليظ

في حرمة الربا

قيل: إنّ في الآيات من المبالغة في التّهديد على الرّبا ما لا يخفى على الفطن حيث أتى سبحانه ب(لعلّ) في فلاح من أتّقاه و اجتنبه؛ لأنّ تعليق إمكان الفلاح و رجائه بالاجتناب منه، يستلزم امتناع الفلاح لهم إذا لم يجتنبوه و يتّقوه مع إيمانهم، ثمّ أوعد عليه بالنّار التي أعدّت للكافرين، مع كونهم مؤمنين. فما أعظمها من معصية توجب عقاب الكفّار للمؤمنين، و ما أشدّه من تغليظ عليه! ثمّ أيّد التّغليظ بالأمر بإطاعة اللّه و رسوله؛ تعريضا بأنّ آكل الرّبا منهمك في المعصية و لا طاعة له.

ثمّ علّق رجاء المؤمنين رحمة اللّه بالطّاعة؛ إشعارا بأنّه لا رجاء للرّحمة مع هذا النّوع من العصيان، فهو يوجب اليأس من رحمته للمؤمنين لانتفائها لهم معه. فانظر كيف درّج التّغليظ في التّهديد، حتّى ألحقه بالكفّار في الجزاء و العقاب، انتهى (2).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه آكل الرّبا، و موكله، و شاهده، و كاتبه، و المحلّل» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 133

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

ص: 74


1- . تفسير الرازي 9:2، تفسير روح البيان 2:92.
2- . تفسير روح البيان 2:93.
3- . تفسير روح البيان 2:93.

ثمّ بعد أمره سبحانه بالاجتناب عن الرّبا و التّحرّز عن النّار، أمر بالمسارعة إلى العبادات الموجبة للمغفرة و الدّخول في الجنّة، بقوله: وَ سارِعُوا و بادروا إِلى تحصيل مَغْفِرَةٍ كائنة مِنْ رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، بالمبادرة إلى موجباتها من الإسلام و التّوبة و الإخلاص، و أداء الواجبات و ترك المحرّمات. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إلى أداء الفرائض» (1).

وَ إلى جَنَّةٍ وسيعة عَرْضُهَا و وسعتها اَلسَّماواتُ السّبع وَ اَلْأَرْضُ قيل: ذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسّعة على طريق التّمثيل، فإنّ العرض في العادة يكون أدنى و أقصر من الطّول (2).

أقول: هذا الوجه مبنيّ على إرادة العرض المقابل للطّول، لا إرادة مطلق السّعة منه.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا وضعوهما (3)» ، و بسط يديه إحداهما مع الأخرى (4).

و عن ابن عبّاس: كسبع سماوات، و سبع أرضين لو وصل بعضها ببعض (5).

روي أنّ رسول هرقل (6)سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّك تدعو إلى جنّة عرضها السّماوات و الأرض اعدت للمتّقين، فأين النّار؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سبحان اللّه! فأين اللّيل إذا جاء النّهار؟» (7).

قال الفخر الرازي في تفسيره: و المعنى، و اللّه أعلم: أنّه إذا دار الفلك حصل النّهار في جانب [من العالم]، و اللّيل في ضد ذلك الجانب (8).

و قال الطبرسي رحمه اللّه: هذه معارضة فيها إسقاط المسألة؛ لأنّ القادر على أن يذهب اللّيل حيث يشاء، قادر على أن يخلق النّار حيث يشاء (7).

و قال الفيض رحمه اللّه: و السّرّ فيه أنّ إحدى الدّارين لكلّ إنسان، إنّما تكون مكان الاخرى بدلا عنها، كما في اللّيل و النّهار (8).

و لعلّ المراد أنّه ليس بين العالمين في الآخرة تزاحم كتزاحم الأجسام الكثيفة، فكلّ مشغول بعالمه، و لا يكون له عالم آخر، و في الآية دلالة على وجود الجنّة فعلا.

ثمّ وصف سبحانه تلك الجنّة الوسيعة بأنّها أُعِدَّتْ و خلقت مهيّأة لِلْمُتَّقِينَ للتّنبيه بأنّه لا حظّ للعصاة فيها، فمن رجاها بغير التّقوى فهو مغرور.

ص: 75


1- . مجمع البيان 2:836، تفسير الصافي 1:351.
2- . تفسير روح البيان 2:94.
3- . في المصدر: وضعوها كذا.
4- . تفسير العياشي 1:339/781، تفسير الصافي 1:351.
5- . تفسير أبي السعود 2:85.
6- . اسم ملك الروم. (7 و 8) . تفسير الرازي 9:6.
7- . مجمع البيان 2:837، تفسير الصافي 1:351.
8- . تفسير الصافي 1:351.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «فإنّكم لن تنالوها إلاّ بالتّقوى» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 134

ثمّ وصف المتّقين بصفات جميلة هي أعظم وسائل نيل المغفرة و الجنّة، بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ ما يقدرون على إنفاقه فِي حالتي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ و في وقت سرورهم بالإنفاق؛ كوقت الغنى و السّعة، و في وقت كراهتهم له، كوقت الفقر و الضّيق. و المراد أنّهم ينفقون في جميع الأحوال؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن إحدى الحالتين.

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ الكاتمين له على امتلائهم منه، الممسكين عليه، الكافّين عن إمضائه، مع القدرة عليه. قيل: الغيظ توقّد حرارة القلب من الغضب (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كظم غيظا، و هو قادر على إنفاذه، ملأ اللّه قلبه أمنا و إيمانا» (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من كظم غيظا، و لو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ اللّه قلبه (4)رضاه» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كظم غيظا، و هو يستطيع أن ينفذه، زوّجه اللّه من الحور العين حيث يشاء» (6).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «ما من جرعتين أحبّ إلى اللّه من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بحسن صبر و عزاء، و من جرعة غيظ كظمها» (7).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ليس الشّديد بالصّرعة، لكنّه الذي يملك نفسه عند الغضب» (6).

وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ التّاركين عقوبة من استحقّها منهم و يحتمل كون ذكر الوصفين بسبب غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على من فرّ من الزّحف يوم احد، فندب إلى كظم الغيظ و العفو عنهم، أو بسبب غضبه صلّى اللّه عليه و آله حين مثّلوا بحمزة رضى اللّه عنه و قال: «لأمثلنّ بهم» و كان عفوه تركه للمثلة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هؤلاء في امّتي قليل إلاّ من عصمه اللّه، و قد كانوا كثيرا في الامم التي مضت» (7).

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: عليكم بالعفو، [فإنّ العفو]لا يزيد العبد إلاّ عزّا، فتعافوا يعزّكم اللّه» (8).

ص: 76


1- . الخصال:633/10، تفسير الصافي 1:351.
2- . تفسير روح البيان 2:94.
3- . تفسير الرازي 9:7.
4- . زاد في الكافي: يوم القيامة.
5- . الكافي 2:90/6، تفسير الصافي 1:351. (6 و 7) . تفسير الرازي 9:7.
6- . تفسير الرازي 9:8.
7- . تفسير روح البيان 2:95.
8- . الكافي 2:88/5، تفسير الصافي 1:351.

و روي أنّه ينادي مناد يوم القيامة: أين الّذين كانت اجورهم على اللّه؟ فلا يقوم إلاّ من عفا (1).

و إنّما ذكر سبحانه الإنفاق بصيغة المضارع لكونه ممّا يتجدّد و يحدث، و الكظم و العفو بصيغة الفاعل لكونهما من الملكات المستمّرة.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة تخصيصه الجنّة بالمتّقين و تهيئتها نزولا لهم، بقوله: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ الّذين تمّت فضائلهم، و عمّت فواضلهم، فاستحقّوا بحبّه إيّاهم هذا التّشريف و التّكريم، و بإحسانهم إلى الغير، بالإنفاق و كظم الغيظ و العفو و الإحسان الجسيم من اللّه.

و قيل: إنّ الصّفات الثّلاث لمّا كانت مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير، خصّ المتّصفين بها بثواب أعظم من الجنّة و نعيمها، و هو حبّ اللّه لهم.

و قيل: إنّ الآية جامعة لجميع جهات الإحسان إلى الغير، فإنّه إمّا يكون بإيصال النّفع إليه، أو بدفع الضّرر عنه أمّا إيصال النّفع إليه، فهو المراد بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ فإنّه يدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين، و هداية الضّالّين، و إنفاق القوى بالسّعي في قضاء الحوائج، و إنفاق المال في وجوه الخيرات و أمّا دفع الضّرر عن الغير، فهو إمّا في الدّنيا، و هو أن لا يشتغل بإساءة في مقابل إساءة، و إمّا في الآخرة، فهو أن يبرئ ذمّته من التّبعات و المطالبات.

روى بعض العامّة أنّ خادما كان قائما على رأس الحسن بن عليّ عليهما السّلام، و هو مع أضيافه في المائدة، فأنحرفت قصعة كانت في يد الخادم، فسقط منها شيء على الحسن فقال: وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ قال عليه السّلام: «قد عفوت عنك» فقال: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ . قال عليه السّلام: «أنت حرّ لوجه اللّه، و قد زوّجتك فلانة فتاتي، و عليّ ما يصلحكما» (2).

و عن السّجاد عليه السّلام من طرق أصحابنا: أنّ جارية له صبت على يديه الماء، فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية: وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ قال عليه السّلام لها: «كظمت غيظي» . فقالت: وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ فقال عليه السّلام: «عفا اللّه عنك» . فقالت: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ . قال عليه السّلام: «ارجعي، أنت حرّة لوجه اللّه» (3).

أقول: يستفاد من الرّوايتين أنّ التّذييل لبيان صفة رابعة؛ و هي الإحسان إلى المسيء ببذل المال، و إيصال النّفع إليه، أو دفع الضّرر عنه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 135

وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135)

ص: 77


1- . تفسير روح البيان 2:95.
2- . تفسير روح البيان 2:95.
3- . مجمع البيان 2:838، تفسير الصافي 1:351.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اهتمامهم بالطّاعة، وصفهم بالمسارعة إلى التّوبة عند الزّلّة و التّقصير في الطاعة، بقوله: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا و ارتكبوا فعلة فاحِشَةً و معصية شديدة القباحة، كالزّنا، و قتل النّفس أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب الصّغائر من الذّنوب، كالنّظر إلى الأجنبية و أمثاله، أو بالتّقصير في الطّاعة.

و قيل: إنّ المراد بالفاحشة: الظّلم على الغير (1)؛ كالغيبة و البهتان، و من الظّلم على النّفس: الذّنوب التي لا تضرّ بالغير، كشرب الخمر و أضرابه.

ذَكَرُوا اَللّهَ و التفتوا إلى عظمته و عظيم حقّه الموجبين للحياء منه، أو إلى وعيده و سخطه المورثين للخشية.

و قيل: إنّ المراد: ذكر اللّه بالثّناء و التّعظيم، فإنّ من موجبات كمال الدّعاء و قربه إلى الإجابة، الثّناء على اللّه قبله.

فَاسْتَغْفَرُوا و طلبوا السّتر لِذُنُوبِهِمْ بلا تأخير و تسويف، و تابوا توبة خالصة، ناشئة عن حقيقة النّدم الملازم للعزم على التّرك في المستقبل.

ثمّ حثّ سبحانه على الاستغفار و الإنابة إليه بقوله: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ و يتجاوز عنها إِلاَّ اَللّهُ فإنّه يستحيل غفرانها من غيره، فلا مفزع للمذنبين إلاّ فضله و كرمه. و فيه بشارة لهم بوصف ذاته بسعة الرّحمة، و قبول التّوبة، و قرب المغفرة.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ هذه الآية نزلت في رجلين أنصاري و ثقفي، و الرّسول صلّى اللّه عليه و آله [كان قد]آخى بينهما، و كانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثّقفي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالقرعة في السّفر، و خلّف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم، فكان يفعل ذلك، ثمّ قام إلى امرأته ليقبّلها، فوضعت كفّها على وجهها فندم الرّجل، فلمّا وافى الثّقفي مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لم ير الأنصاري، و كان قد هام في الجبال للتّوبة، فلمّا عرف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله سكت حتّى نزلت (2).

و قيل: إنّ نبهان (3)التّمار أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا، فقال لها: هذا التّمر ليس بجيّد، و في البيت تمر أجود منه، فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه و قبّلها، فقالت له: اتّق اللّه، فتركها و ندم على ذلك. و أتى [الرسول]صلّى اللّه عليه و آله و ذكر له ذلك، فنزلت (4).

ص: 78


1- . تفسير أبي السعود 2:86.
2- . تفسير الرازي 9:9.
3- . في النسخة: تيهان، راجع: اسد الغابة 5:13.
4- . تفسير أبي السعود 2:86.

في ذكر توبة

الشاب النبّاش

و روي أنّ معاذ بن جبل دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكيا فسلّم، فردّ عليه السّلام و قال: «ما يبكيك يا معاذ؟» فقال: يا رسول اللّه، إنّ بالباب شابّا طريّ الجسد، نقيّ اللّون، حسن الصّورة، يبكي على شبابه بكاء الثّكلى على ولدها، يريد الدّخول عليك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أدخل عليّ الشّابّ يا معاذ» فأدخله عليه فسلّم، فردّ عليه ثمّ قال: «ما يبكيك يا شابّ؟» . قال: كيف لا أبكي، و قد ركبت ذنوبا إن أخذني اللّه عزّ و جلّ ببعضها أدخلني نار جهنّم! و لا أراني إلاّ سيأخذني بها، و لا يغفر لي أبدا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «هل أشركت باللّه شيئا؟» ، قال: أعوذ باللّه أن اشرك بربّي شيئا، قال: «أقتلت النّفس التي حرّم اللّه؟» . قال: لا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كانت مثل الجبال الرّواسي» . قال الشّاب: فإنّها أعظم من الجبال الرّواسي.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يغفر اللّه [لك]ذنوبك و إن كانت مثل الأرضين السّبع، و بحارها، و رمالها، و أشجارها، و ما فيها من الخلق» . قال الشّاب: فإنّها أعظم من الأرضين السّبع و بحارها و رمالها و أشجارها و ما فيها من الخلق.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يغفر اللّه لك ذنوبك و إن كانت مثل السّماوات و نجومها، و مثل العرش و الكرسيّ» . قال: فإنّها أعظم من ذلك.

قال: فنظر إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كهيئة الغضبان، ثمّ قال: «ويحك يا شابّ، ذنوبك أعظم أم ربّك؟» ، فخرّ الشّابّ لوجهه و هو يقول: سبحان ربّي، ما من شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم-يا نبيّ اللّه-من كلّ عظيم [فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فهل يغفر الذّنب العظيم إلاّ الربّ العظيم» قال الشابّ: لا و اللّه يا رسول اللّه. ثمّ سكت الشّابّ].

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ويحك يا شابّ، ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟» . قال: بلى اخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، اخرج الأموات و أنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حملت إلى قبرها و دفنت، و انصرف عنها أهلها، و جنّ عليها اللّيل، أتيت قبرها فنبشتها، ثمّ استخرجتها و نزعت ما كان عليها من أكفانها، و تركتها مجرّدة على شفير قبرها، و مضيت منصرفا، فأتى (1)الشّيطان فأقبل يزيّنها لي و يقول: أما ترى بطنها و بياضها؟ أما ترى و ركيها (2)، فلم يزل يقول لي هذا حتّى رجعت [إليها]و لم أملك نفسي حتّى جامعتها و تركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي

ص: 79


1- . في أمالي الصدوق: فأتاني.
2- . الورك: ما فوق الفخذ.

يقول: يا شابّ، ويل لك من ديّان يوم الدّين يوم يقضيني و إيّاك (1)، تركتني عريانة في عساكر الموتى، و نزعتني من حفرتي، و سلبتني إهابي (2)، و تركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النّار. فما أظنّ أنّي أشمّ ريح الجنّة أبدا، فما ترى يا رسول اللّه؟

فقال النبيّ: «تنحّ عنّي يا فاسق، إنّي أخاف أن احترق بنارك، فما أقربك من النّار!» ، ثمّ لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يقول و يشير إليه حتّى أمعن من بين يديه فذهب.

فأتى المدينة فتزوّد منها، ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها و لبس مسحا (3)، و غلّ يديه جميعا إلى عنقه و نادى: يا ربّ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني و زلّ منّي ما تعلم سيّدي، يا ربّ إنّي أصبحت من النّادمين، و أتيت نبيّك تائبا فطردني و زادني خوفا، فأسألك باسمك و جلالك و عظم سلطانك أن لا تخيّب رجائي سيّدي، و لا تبطل دعائي، و لا تقنّطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما و ليلة، تبكي له السّباع و الوحوش.

فلمّا تمّت له أربعون يوما و ليلة، رفع يديه إلى السّماء و قال: اللّهمّ ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي، و غفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيّك، و إن لم تستجب دعائي و لم تغفر لي خطيئتي و أردت عقوبتي، فعجّل بنار تحرقني، أو عقوبة في الدّنيا تهلكني، و خلّصني من فضيحة يوم القيامة.

فأنزل اللّه تعالى على نبيّه وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني الزّنا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا، و هو نبش القبور، و أخذ الأكفان ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يقول: خافوا اللّه فعجّلوا التّوبة وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ يقول اللّه: أتاك عبدي يا محمّد تائبا فطردته، فأين يذهب، و إلى من يقصد، و من يسأل أن يغفر له ذنبه غيري؟ ثمّ قال تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يقول: لم يقيموا على الزّنا، و نبش القبور، و أخذ الأكفان.

إلى أن قال: و لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، خرج و هو يتلوها و يتبسّم، فقال لأصحابه: «من يدلّني على ذلك الشّبابّ التّائب؟» . فقال معاذ: يا رسول اللّه، بلغنا أنّه في موضع كذا و كذا، فمضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه، حتّى انتهى إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشّابّ، فإذا هم بالشّابّ قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه، قد اسودّ وجهه، و تساقطت أشفار عينيه من البكاء، و هو يقول: سيّدي قد أحسنت خلقي، و أحسنت صورتي، و ليت شعري ما ذا تريد بي، أفي النّار تحرقني، أم في جوارك تسكنني؟ اللّهمّ إنّك قد أكثرت الإحسان إليّ و أنعمت عليّ، فليت شعري

ص: 80


1- . في أمالي الصدوق: يقفني و إياك كما.
2- . في أمالي الصدوق: أكفاني.
3- . المسح: هو كساء من شعر يلبسه الراهب.

ماذا يكون آخر أمري، إلى الجنّة تزفّني، أم إلى النّار تسوقني، اللّهمّ إنّ خطيئتي أعظم من السّماوات و الأرض، و من كرسيّك الواسع، و عرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي، أم تفضحني بها يوم القيامة.

فلم يزل يقول نحو هذا [و هو يبكي]و يحثو التّراب على رأسه، و قد أحاطت به السّباع، و صفّت فوقه الطّير، و هم يبكون لبكائه، فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلق يديه من عنقه، و نفض التّراب عن رأسه، و قال: «يا بهلول، أبشر فانك عتيق اللّه من النّار» . ثمّ قال لأصحابه: «هكذا تداركوا الذّنوب كما تداركها بهلول» ، ثمّ تلا عليه ما أنزل اللّه عزّ و جلّ فيه، و بشّره بالجنّة (1).

عن البرقي عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلا (2)، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيّدنا لماذا دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشّياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا، فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، فقال: بماذا؟ قال: أعدهم و أمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة، فإذا وقعوا في الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّل بها إلى يوم القيامة» (3).

و عن ابن مسعود: قال المؤمنون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه منّا، فكان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل اللّه هذه الآية و بيّن أنّهم أكرم على اللّه منهم؛ حيث جعل كفّارة ذنبهم الاستغفار (4).

ثمّ أكّد اللّه سرعة المؤمنين إلى الاستغفار، و عزمهم على عدم العود في المعصية، بقوله: وَ لَمْ يُصِرُّوا و لم يديموا عَلى ما فَعَلُوا من الذّنب غير مستغفرين.

عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام قال: «الإصرار: أن يذنب الذّنب فلا يستغفر اللّه، و لا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما أصرّ من استغفر، و إن عاد في اليوم سبعين مرّة» (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «و اللّه، ما خرج عبد من ذنب بإصرار، و ما خرج عبد من ذنب إلاّ بإقرار» (7).

و عنه عليه السّلام: «لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار» (8).

ثمّ قيّد سبحانه قبح الإصرار بقوله: وَ هُمْ يَعْلَمُونَ موضوع المعصية و قبحه و حرمته؛ لأنّ الجهل-

ص: 81


1- . أمالي الصدوق:97/76، تفسير الصافي 1:352. و راجع: اسد الغابة 1:210 ترجمة بهلول بن ذؤيب.
2- . زاد في الأمالي: بمكّة يقال له ثور.
3- . أمالي الصدوق:551/736، تفسير الصافي 1:352.
4- . تفسير الرازي 9:9.
5- . الكافي 2:219/1، تفسير الصافي 1:352.
6- . تفسير أبي السعود 2:87.
7- . الكافي 2:312/4، تفسير الصافي 1:352.
8- . الكافي 2:219/1، تفسير الصافي 1:352.

بالموضوع مطلقا، و بالحكم إذا كان عن قصور-عذر، و مرفوع في الشّريعة، بخلاف ما إذا كان الجهل بالحكم عن التّقصير في التّعلّم، فإنّ الجاهل المقصّر بمنزلة العامة إجماعا.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 136

ثمّ أكّد سبحانه تخصيص الجنّة بالمتّقين الواجدين للصّفات الحميدة، المستلزم لتخصيص المغفرة لهم، بقوله: أُولئِكَ المتّقون المتّصفون بتلك الصّفات جَزاؤُهُمْ و ثوابهم على التّقوى و الاتّصاف بها، أوّلا: مَغْفِرَةٌ كائنة مِنْ رَبِّهِمْ الرّؤوف بهم، وَ ثانيا: جَنّاتٌ عديدة كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ حال كونهم خالِدِينَ مقيمين فِيها أبدا، لا تنقضي ساعاتها، و لا تمضي لذّاتها. و إنّما قدّم المغفرة، لأنّها دفع الضّرر المقدّم على جلب النفع.

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (136)ثمّ مدح سبحانه ما أعدّ لهم من الجزاء لزيادة التّرغيب إليه، بقوله: وَ نِعْمَ الأجر أَجْرُ اَلْعامِلِينَ بمرضاة اللّه، المبالغين في طاعته. و في التّعبير عن تفضّله بالأجر، دلالة على أنّه بالاستحقاق و اللّياقة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 137 الی 138

ثمّ حثّ اللّه عباده على طاعته و طاعة رسوله، و رغّبهم في تربية نفوسهم و جهاد أعدائهم، بتذكيرهم أحوال العصاة من الامم الماضية بقوله: قَدْ خَلَتْ و مضت في الامم الّذين كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون الخالية سُنَنٌ و معاملات من اللّه، و وقائع عظيمة، من الخسف، و الغرق، و الإهلاك بالصّيحة، و الصّاعقة، و الرّجفة، لمخالفتهم الأنبياء و الرّسل حرصا على الدّنيا، و اتّباعا للهوى، و طلبا للذّات، و انغمارا في الشّهوات، و حفظا للرئاسات.

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)و قيل: إنّ المراد من السّنن السيرة المستقيمة الجارية فيهم، من إهلاك عصاتهم و طغاتهم بعذاب الاستئصال.

ثمّ لم يبق منهم أثر، و بقي عليهم اللّعن و العذاب الدّائم المستقرّ، فإن أردتم الاطّلاع على سوء حالهم و وخامة مآلهم فَسِيرُوا و سيحوا فِي وجه اَلْأَرْضِ لتعرفوا أحوالهم بمشاهدة آثارهم، فإنّ أثر المشاهدة أقوى في القلب من أثر السّماع.

و قيل: إنّه ليس المراد المسافرة و المشي بالأقدام، بل المراد تتبّع ما يوجب العلم بوقائعهم،

ص: 82

و تحصيل اليقين بفجائعهم، و لو بسير الكتب.

فَانْظُروا فيها حتّى تعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُكَذِّبِينَ للرّسل، المعارضين للحقّ و أوليائه. عن الصادق عليه السّلام: «انظروا في القرآن» (1).

و لعلّه تعالى أشار إلى هذا المعنى بقوله: هذا القرآن بَيانٌ و إيضاح لسوء عاقبة الامم الماضية، و حجّة قاطعة للعذر لِلنّاسِ كافّة وَ هُدىً و رشدا إلى الصّواب، و دلالة إلى الحقّ وَ مَوْعِظَةٌ زاجرة عن الضّلال لِلْمُتَّقِينَ خاصّة، حيث إنّهم المنتفعون به، المستضيئون بنوره.

ثمّ إنّه قيل: إنّ الآيتين مقدّمة للرّجوع إلى قضية احد، حيث إنّه تعالى بعد تمهيد مبادئ الرّشد و الصّلاح، و ترتيب مقدّمات الفوز و الفلاح، ذكّر المؤمنين أحوال القرون الماضية، و نبههم بأنّ أهل الباطل و إن كانت لهم الصّولة في اليد، و لكن صار مآل أمرهم إلى الضّعف و الخزي و الهلاك، و أهل الحقّ بعد الضّعف صارت دولتهم غالبة، و كلمتهم عالية.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 139 الی 140

ثمّ نهاهم عن الضّعف و الجبن في قتال أهل الباطل بقوله: وَ لا تَهِنُوا و لا تضعفوا في جهاد المشركين، لما ترون من صولتهم وَ لا تَحْزَنُوا لما أصابكم من القتل و الجرح في قتالهم وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ المستولون عليهم بالمآل، و هم مقهورون لكم في العاقبة حسب ما شاهدتم في أحوال أسلافهم، و هذه البشارة من اللّه كافية لقوّة قلوبكم، و سرور خاطركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما يعدكم و يبشّركم من النّصر و الغلبة عليهم، حيث إنّ من لوازم الإيمان الثّقة باللّه، و تصديق وعده، و التّوكّل عليه، و عدم المبالاة بأعدائه.

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (140)

ثمّ سلّى سبحانه قلوبهم بقوله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ و يصبكم منهم قَرْحٌ و جرح فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ المشركين و أصابهم منكم قَرْحٌ و جرح مِثْلُهُ ببدر، و لم يضعف ذلك قلوبهم، و لم يثبّطهم عن معاودتكم بالقتال، بل زاد ذلك في جدّهم فيه.

قيل: قتل المسلمون من المشركين ببدر سبعين، و أسروا سبعين، و قتل المشركون من المسلمين باحد سبعين، و أسروا سبعين (2).

ص: 83


1- . الكافي 8:249/349، تفسير الصافي 1:355.
2- . تفسير روح البيان 2:99.

و حاصل المعنى: إن نالوا منكم يوم احد، فقد نلتم منهم قبله يوم بدر مثل ما نالوا، ثمّ لم تضعف قلوبهم، مع أنّكم أولى بأن لا تضعفوا؛ لأنّكم ترجون من اللّه ما لا يرجون.

و قيل: إنّ المراد: إن نال المشركون في احد منكم آخر النّهار، فقد نلتم منهم أوّل النّهار، فقتل من المشركين في احد أوّلا نيف و عشرون رجلا، و قتل صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة، و عقرت عامّة خيولهم بالنّبل، و كانت الهزيمة عليهم أوّل النّهار.

وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ و الوقائع الجارية في الامم الماضية و الأقوام الآتية من الصّولة و الجولة و القاهريّة و المقهوريّة امور نُداوِلُها و نصرّفها بَيْنَ اَلنّاسِ من الأوّلين و الآخرين، و نجعل الغلبة تارة لطائفة، و اخرى لأخرى.

فإنّه لو كانت المحنة و الشدّة على الكفّار في جميع الأوقات، و الغلبة و الفتح و السّلامة للمؤمنين في جميع الأوقات، لحصل العلم الضّروري و الاضطراري لجميع النّاس بأنّ الإيمان حقّ، و ما سواه باطل، و لو كان كذلك لبطل التّكليف و الثّواب و العقاب.

فلهذا يسلّط اللّه المحنة على أهل الإيمان تارة، و على أهل الكفر اخرى، لتكون الشّبهات باقية، و المكلّف-بالنّظر في الدّلائل، بالاجتهاد الصّائب-يدفعها حتّى يعظم ثوابه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ غلبة الكفّار على المؤمنين-لهذا الوجه و لغيره-من الحكم الخفيّة، و المصالح المكنونة وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا و اخلصوا إيمانهم، و ثبتوا عليه، و يميّزهم بين النّاس من غيرهم وَ لأن يَتَّخِذَ اللّه و يختار طائفة مِنْكُمْ شُهَداءَ في سبيل اللّه، مقتولين في ترويج دينه، و إعلاء كلمته، و هم الّذين أكرمهم اللّه في احد بالشّهادة، و نالوا بهذه الكرامة درجة يغبطهم بها الأوّلون و الآخرون غير البدريّين و الطّفيّين.

ثم أنّه تعالى-لتقرير أنّ غلبة المشركين لم تكن من التّفضّل عليهم و اللّطف بهم، بل كانت لابتلاء المؤمنين عامّة، و لتكريم طائفة منهم خاصّة-أعلن بالغضب على المشركين بقوله: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ بل يبغضهم.

و إنّما عدل سبحانه عن التّعبير ب(المشركين) إلى التّعبير ب(الظالمين) ، للإشارة إلى علّة الغضب و هو الظّلم على أنفسهم، و على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لأن يشمل العنوان جميع من عصى اللّه، [سواء]كان العصيان بالشّرك، أو الفرار من الزّحف.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 141

ص: 84

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان علّتين لغلبة المشركين: من امتحان من يظهر الإيمان، و تمييز الثّابتين عليه من غيرهم، و إكرام جماعة من المؤمنين بالشّهادة-ذكر العلّة الثالثة بقوله: وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا و يطهّرهم من دنس الذّنوب، بسبب ما أصابهم من المحن و الجراحات، فإنّ الشّدائد الدّنيويّة أدب لهم، و كفّارة لزلاّتهم.

وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ (141)ثمّ أشار سبحانه إلى العلّة الرابعة بقوله: وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ الّذين حاربوا رسوله صلّى اللّه عليه و آله و يهلكم قليلا قليلا، بسبب شدّة استحقاقهم لعذابه إن لم يسلموا، و لم يتوبوا من ظلمهم على النبيّ و المؤمنين، و أصرّوا على كفرهم و شقاقهم.

قيل: إنّ اللّه محقهم جميعا، فظهر من الآية: أنّ الدّولة إذا كانت على المؤمنين، كان هلاكهم تطهيرا لذنوبهم، و رفعا لدرجاتهم عند اللّه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 142

ثمّ لمّا كان الامتحان هو الغاية القصوى من المداولة، أكّده سبحانه و قرّره بقوله، مخاطبا للمنهزمين من المؤمنين يوم احد: أَمْ حَسِبْتُمْ قيل: إنّ التّقدير: أعلمتم أنّكم لا تنالون خيرا إلاّ بثباتكم في الإيمان، و صبركم على جهاد أعداء اللّه؟ أم توهّمتم أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ و تنالوا أعلى درجات الخيرات، وَ الحال أنّه لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ و لم يميّز اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ -في سبيل اللّه، بخلوص النّيّة، و الإيمان الرّاسخ-من غيرهم الّذين انهزموا لحبّ الدّنيا و ضعف الإيمان، وَ أن يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ في طاعة اللّه، و مشاقّ التّكاليف، و يميّزهم ممّن يتّبع هواه، و يستريح إلى لذّاته و شهواته.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ (142)و حاصل المراد، و اللّه العالم: أتتوقّعون أيّها المؤمنين أن تدخلوا الجنّة، و تفوزوا بنعيمها، و تصلوا إلى كرامة اللّه و قربة، و الحال أنّه لم يتحقّق منكم الجهاد في سبيل اللّه، و الصّبر على الشّدائد في مرضاته.

فإنّه لا يكون ذلك في حكمة اللّه أبدا، لاستحالة اجتماع خبث الذّات، و ظلمة القلب-المستتبعين لحبّ الدّنيا و لذّاتها-مع السّعادة الاخرويّة، و الكرامات الأبديّة، و النّعم الدّائمة، لغاية التّباين و التّضادّ بينهما.

ص: 85

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية قال: «إنّ اللّه هو أعلم بما هو يكوّنه قبل أن يكونه، و علم و هم ذرّ (1)من يجاهد و من لا يجاهد» (2)الخبر.

و الظّاهر أنّ المراد من الرّواية أنّ نفي العلم ليس على معناه الحقيقي، بل هو كناية عن عدم المعلوم، فنزّل نفي العلم منزلة نفي الجهاد للتأكيد و المبالغة؛ لأنّ وقوع الشيء مستلزم لكونه معلوما للّه تعالى، فانتفاء اللاّزم برهان على انتقاء الملزوم.

ثمّ أنّه كان جماعة من أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لم يشهدوا بدرا، و كانوا يتمنّون أن يشهدوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مشهدا ينالوا فيه ما نال شهداء بدر من الشّهادة و الكرامة، و لذا ألحّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند المشاورة، في الخروج إلى احد، فخرج صلّى اللّه عليه و آله من المدينة و نزل احد.

و قال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: إنّه صلّى اللّه عليه و آله أمر الرّماة أن يلزموا أصل الجبل، و لا ينتقلوا عن ذلك، سواء كان الأمر لهم أو عليهم، فلمّا وقفوا و حملوا على الكفّار هزموهم (3).

في قتل أمير

المؤمنين عليه السّلام

أصحاب لواء

قريش في احد،

و قتل خالد

أصحاب الشعب

و انهزام المسلمين

و في رواية: كان أمير المؤمنين عليه السّلام صاحب راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قاتل قتالا عظيما، حتّى التوى سيفه (4)، و قتل عليه السّلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين، و حمل الزّبير و المقداد و شدّا على المشركين، ثمّ حمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه، فهزموا أبا سفيان لعنه اللّه، و حمل أبو دجانة في نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قتالا شديدا، فقتلوا جماعة من المشركين.

و في رواية: و وقع أصحاب الرّسول في سواد المشركين، و كان خالد بن الوليد على ميمنة الكفّار فانحطّ في مائتي فارس على عبد اللّه بن جبير من قبل الشّعب، فاستقبلوهم بالسّهام فرجع، و نظر أصحاب عبد اللّه بن جبير إلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينتهبون سواد القوم، فقالوا لعبد اللّه بن جبير: غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة، فقال لهم عبد اللّه: اتّقوا اللّه، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد تقدّم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسلّ رجل فرجل؛ حتّى أخلوا مراكزهم، و بقي عبد اللّه في اثني عشر رجلا.

و كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري (5)فقتله عليّ عليه السّلام، فأخذ الرّاية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السّلام، فسقطت الرّاية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السّلام، حتّى قتل تسعة

ص: 86


1- . في تفسير العياشي: بما هو مكوّنه قبل أن يكونه و هم ذرّ، و علم.
2- . تفسير العياشي 1:340/786، تفسير الصافي 1:356.
3- . تفسير الرازي 9:20.
4- . تفسير أبي السعود 2:93.
5- . العبدري: نسبة إلى بني عبد الدار.

من بني عبد الدار، فصار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له صواب، فانتهى إليه عليّ عليه السّلام فقطع يده، فأخذ الرّاية بيده اليسرى، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها بالجذماوين (1)إلى صدره، ثمّ التفت إلى أبي سفيان فقال: هل أعذرت في بني عبد الدار؟ فضربه عليّ عليه السّلام [على رأسه]فقتله، فسقط اللّواء فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعته.

و انحطّ خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير و قد فرّ أصحابه و بقي [في]نفر قليل، فقتلهم على باب الشّعب، ثمّ أتى المسلمين من أدبارهم.

و نظرت قريش في هزيمتها إلى الرّاية قد رفعت فلاذوا بها، و انهزم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هزيمة عظيمة، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كلّ وجه، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه، و قال: «إنّي (2)أنا رسول اللّه، أين تفرّون عن اللّه و عن رسوله؟» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 143

فظهر عند ذلك كذب جماعة، كانوا يتمنّون الشهادة و يلحّون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الخروج عن المدينة لجهاد المشركين، فوبّخهم اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ قبل الوقعة تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ بالشّهادة، و تظهرون اشتياقكم إليه مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ و تشاهدوه بمشاهدة مباديه، و تعرفوا هوله و شدّته، فإن كنتم صادقين في إظهار التّمنّي فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ برؤية أسبابه وَ أَنْتُمْ لفرط قربه إليكم كأنّكم تَنْظُرُونَ إليه و تعاينونه حين قتل بين أيديكم من قتل [من]

إخوانكم و أقاربكم، و شارفتم على أن تقتلوا، فلم هزمتم و فعلتم ما فعلتم و تركتم الرّسول بين أعدائه؟ و فيه غاية التّوبيخ و التّقريع.

وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

في وقعة احد،

و شهادة حمزة عليه السّلام

و روي أنّه كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان في وسط العسكر، و كلمّا انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا و مكحلة و قالت: إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا، و كان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا، و لم يثبت له أحد، و كانت هند [قد] أعطت وحشيّا عهدا: لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لاعطينّك كذا و كذا-و كان وحشيّ عبدا لجبير بن مطعم، حبشيّا-فقال وحشيّ: أمّا محمّد فلا أقدر [عليه]، و أمّا عليّ فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه، و أمّا حمزة فلعلّي أقتله.

ص: 87


1- . الجذماوين: مثنى الجذمة، و هي الأصل الباقي من اليد المقطوعة.
2- . في مجمع البيان: إليّ.
3- . مجمع البيان 2:825، تفسير الصافي 1:346.

فكمن لحمزة، قال: فرأيته يهذّ (1)النّاس هذّا، فمرّ بي فوطئ على طرف (2)نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها، و رميته فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنّته (3)فسقط، فأتيته و شققت بطنه، فأخذت كبده و جئت به إلى هند فقلت: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها، فجعلها اللّه مثل الدّاغصة؛ و هي عظم رأس الرّكبة، فلفظتها و رمت بها.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «فبعث اللّه ملكا فردّها إلى موضعها» . قال وحشيّ: فجاءت هند إليه فقطعت مذاكيره [و قطعت اذنيه]و قطعت يده و رجله.

و لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ عليّ عليه السّلام، و أبو دجانة سماك بن خرشة، فكلّما حملت طائفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استقبلهم عليّ عليه السّلام فدفعهم حتّى انقطع سيفه، فدفع [إليه]رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه ذا الفقار. و انحاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ناحية فوقف، و كان القتال من وجه واحد، فلم يزل عليّ عليه السّلام يقاتلهم حتّى أصابه في وجهه و رأسه و يديه (4)و رجليه سبعون جراحة.

قال: فقال جبرئيل عليه السّلام: إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد، فقال له: «إنّه منّي و أنا منه» .

و قال الصادق عليه السّلام: «نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل عليه السّلام بين السّماء و الأرض على كرسيّ من ذهب، و هو يقول: لا سيف إلاّ ذو الفقار، و لا فتى إلاّ عليّ» (5).

و في رواية: بقي معه صلّى اللّه عليه و آله عليّ عليه السّلام و سماك بن خرشة أبو دجانة رضى اللّه عنه، فدعاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «يا أبا دجانة، انصرف، أنتّ في حلّ من بيعتك و بيعتي، و أمّا عليّ فهو أنا و أنا هو» ، فتحوّل و جلس بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بكى و قال: لا و اللّه، و رفع رأسه إلى السّماء و قال: لا و اللّه، لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي، إنّي بايعتك فإلى من انصرف يا رسول اللّه، إلى زوجة تموت، أو إلى ولد يموت، أو دار تخرّب، أو مال يفنى، و أجل قد اقترب؟ فرقّ له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يزل يقاتل حتّى أثخنته الجراح، و هو في وجه، و عليّ عليه السّلام في وجه، فلمّا سقط احتمله عليّ عليه السّلام فجاء به إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فوضعه عنده، فقال: يا رسول اللّه، أ وفيت ببيعتي، قال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم» . و قال له النبيّ خيرا (6).

و قال ابن عبّاس: إنّه كثر القتل في المسلمين (7).

و في رواية: و كان النّاس يحملون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الميمنة، فيكشفهم عليّ عليه السّلام، فإذا كشفهم أقبلت الميسرة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فلم يزل كذلك حتّى قطع سيفه بثلاث قطع، فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فطرحه بين

ص: 88


1- . هذّ: قطع بسرعة.
2- . في مجمع البيان: جرف.
3- . في النسخة: ثنيته، و ثنته، أي أسفل بطنه.
4- . زاد في مجمع البيان: و بطنه.
5- . مجمع البيان 2:825، تفسير الصافي 1:347.
6- . الكافي 8:318/502، تفسير الصافي 1:357.
7- . تفسير الرازي 9:20.

يديه و قال: «هذا سيفي قد تقطّع» ، فيومئذ أعطاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذا الفقار، و رأى اختلاج ساقيه من كثرة القتال، فرفع رأسه الى السّماء و هو يبكي و قال: «يا ربّ، وعدتني أن تظهر دينك، و إن شئت لم يعيك» (1).

في ارتداد جمع من

الصحابة في

احد

و قال ابن عبّاس: و رمى عبد اللّه بن قميئة الحارثي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحجر فكسر رباعيّته، و شجّ وجهه، و أقبل يريد قتله، فذبّ عنه مصعب بن عمير، و هو صاحب الرّاية يوم بدر و يوم احد، حتّى قتله ابن قميئة، و ظن أنّه قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قد قتلت محمّدا، و صرخ صارخ: ألاّ إنّ محمّدا قد قتل، و كان الصارخ الشيطان لعنه اللّه، ففشا في النّاس خبر قتله صلّى اللّه عليه و آله.

فهنالك قال بعض المسلمين: ليت عبد اللّه بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، و قال قوم من المنافقين: لو كان نبيّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم و إلى دينكم، و قال أنس بن النّضر رضى اللّه عنه-عمّ أنس بن مالك-: يا قوم، إن كان قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ ربّ محمّد حي لا يموت، و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قاتلوا على ما قاتل عليه، و موتوا على ما مات عليه، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي اعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء، ثمّ سلّ سيفه فقاتل حتّى قتل رضى اللّه عنه (2).

و في رواية بعض المفسّرين من العامّة: أنّ أنس بن النضر أقبل إلى عمر بن الخطاب، و طلحة بن عبد اللّه، في رجال من المهاجرين و الأنصار، فقال لهم: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال رضى اللّه عنه: ما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا كراما على ما مات عليه نبيّكم. ثمّ أقبل نحو العدوّ فقاتل حتّى قتل رضوان اللّه عليه (3).

و روي أنّه مرّ بعض المهاجرين بأنصاريّ يتشحّط في دمه فقالوا: يا فلان، أشعرت أنّ محمّدا قد قتل؟ فقال: إن كان قد قتل فقد بلّغ، قاتلوا على دينكم (4).

قال كعب بن مالك: أنا أوّل من عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين، رأيت عينيه من تحت المغفرة (5)تزهران، ينادي بأعلى صوته: «إليّ عباد اللّه» (6). فاجتمعوا إليه، فلامهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول اللّه، فديناك بآبائنا و أمّهاتنا، أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين (7).

ص: 89


1- . الكافي 8:320/502، تفسير الصافي 1:357، و لم يعيك، بمعنى لم يعجزك و لم يتعبك.
2- . تفسير الرازي 9:20.
3- . تفسير روح البيان 2:103.
4- . تفسير الرازي 9:20.
5- . المغفرة أو المغفر: درع منسوج من حلق على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.
6- . زاد في تفسير روح البيان: إليّ عباد اللّه.
7- . تفسير روح البيان 2:104.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 144

و روي أنّه ارتدّ في أحد جمع من المهاجرين و الأنصار، معتذرين بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد قتل (1). و لم يتفحّصوا عن صدق الخبر، مع أنّه لم يكن بين مقامهم و مقامه صلّى اللّه عليه و آله مسافة بعيدة، فوبّخهم اللّه سبحانه على ارتدادهم بعد توبيخهم على فرارهم، بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ كسائر الرّسل يأكل و يمشي و يموت و يقتل، و ليس أمتيازه من سائر البشر إلاّ بكمال النّفس و منصب الرّسالة.

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ (144)و من الواضح أنّه ليس من لوازم هذا المقام الخلود في الدّنيا، ألا ترون أنّه قَدْ خَلَتْ و مضت من الدّنيا بالموت و القتل مِنْ قَبْلِهِ و في الأزمنة السّابقة على بعثته اَلرُّسُلُ المبعوثون على الامم، ثمّ لم يرجع المؤمنون بهم عن دينهم، و لم ينقطع تمسّكهم عن شريعتهم، بل كانوا مستمرّين عليها، فإنّ الغرض من بعث الرّسول الهداية، و تبليغ الدّين، و تبيين الحقّ، و إلزام الحجّة، لا وجوده بين أمّته أبدا.

فالارتداد عن دين الرّسول، و رفع اليد عن شريعته بعد موته أو قتله من البدائع المستنكرة، و لذا أنكر سبحانه على المرتدّين في احد ذلك بقوله: أَ فَإِنْ ماتَ محمّد أَوْ قُتِلَ على حسب الفرض اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ و رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر و الشّرك.

ثمّ اعلم أنّه قد اتّفقت العامّة و الخاصّة على أنّ عمر كان من الفارّين من الزّحف، المولّين الدّبر.

و قال ابن أبي الحديد:

فإن أنس لم أنس اللذين تقدّما *** و فرّهما و الفرّ قد علما حوب (2)

و مراده من اللذين تقدّما: أبو بكر و عمر.

و من العجب مع ذلك أنّه روى الفخر الرازي في تفسيره: أن أبا سفيان صعد الجبل يوم احد، ثمّ قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ و أين ابن الخطّاب؟ فقال عمر: هذا رسول اللّه، و هذا أبو بكر، و أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم، و الأيام دول، و الحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنّة، و قتلاكم في النّار، فقال أبو سفيان: إن كان كما تزعمون، فقد خبنا إذن و خسرنا (3).

و ليت شعري؛ متى حصل لعمر اعتقاد أنّ قتلى المسلمين في الجنّة، أقبل الفرار أم بعد حصول الأمن؟ فإن كان قبل الفرار، فكيف لم يردعه هذا الاعتقاد، و كيف يمكن معه أن يحتبس عن القتال

ص: 90


1- . جوامع الجامع:70.
2- . القصائد العلويات:91، و فيه: و ما أنس لا أنس.
3- . تفسير الرازي 9:15.

حتّى يقول أنس بن النضر: ما يحبسكم عن القتال؟ فيقول: قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1)، و إن كان بعد حصول الأمن، و رجوع الفارّين من الزّحف إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و خيبة المشركين، و توبيخ النبيّ إيّاهم، و اعتذارهم بأنّه أتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا (2)، فهذا إيمان بعد الارتداد، و الظّاهر أنّه كان بعد رجوع أبي سفيان و حزبه إلى مكّة.

ثمّ اعلم أنّ المهاجرين و الأنصار الّذين كان إيمانهم في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه المثابة، لا يبعد منهم الارتداد بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله للأحقاد الجاهليّة و طمع الرّئاسة.

ثمّ أنّه قال الفخر الرازي: إنّ اللّه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقتل، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (3)، و قال: وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ (4)، و قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ (5).

في ذكر اعتذار بعض

العامّة لتجويز عمر

قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و بيان فساده

ثمّ اعتذار أبو السّعود في تفسيره لتجويز عمر و جمع من المهاجرين و الأنصار قتله صلّى اللّه عليه و آله، و قال: تجويزهم لقتله؛ مع قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ لما أنّ كلّ آية لا يسمعها كلّ أحد، و لا كلّ من يسمعها يستحضرها في كلّ مقام، لا سيّما في مثل ذلك المقام الهائل (6).

أقول: في إصلاح الاعتذارين فساد ما صدر من عمر ما لا يخفى، أمّا الاعتذار بأنّ عمر لم يسمع الآيات، فممّا لا يمكن قبوله-سيّما من المعتذر و أصحابه من أهل السّنّة-لاعتقادهم في عمر أنّه كان من بطانة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مع ذلك، كيف يمكن القول بعدم اطّلاعه على هذه الآيات، و عدم سماعه لها، مضافا إلى أنّه لا يمكن أن يعتقد المؤمن برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله قتله في احد، مع إخباره صلّى اللّه عليه و آله قبل خروجه إلى احد برجوعه حيّا إلى المدينة، حيث قال عند ذكره رؤياه: «ثمّ إنّي رأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، أوّلتها أنّي أرجع إلى المدينة» (7).

و أمّا الاعتذار بعدم استحضار الآيات، و نسيانها و الغفلة عنها، ففي غاية البعد، مع كون تلاوة القرآن و التدبّر في آياته من أعظم عبادات المؤمنين، و أهمّ مشاغلهم، بحيث كان مدلول ظواهرها نصب أعينهم راسخا في قلوبهم.

في زلة عمر بعد وفاة

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

ورد الاعتذار له

و من الغرائب: استشهاد أبي السّعود على غفلة الصّحابة عن تلك الآيات، بغفلة عمر عن هذه الآية بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (8)، و تبعه صاحب تفسير (روح البيان) حيث قال:

ص: 91


1- . تفسير روح البيان 2:103.
2- . تفسير روح البيان 2:104.
3- . الزمر:39/30.
4- . المائدة:5/67.
5- . تفسير الرازي 9:21، و الآية من سورة الصف:61/9.
6- . تفسير أبي السعود 2:93.
7- . تفسير أبي السعود 2:78، تفسير روح البيان 2:87.
8- . تفسير أبي السعود 2:93.

لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش، و منهم من اقعد و لم يطق القيام، و منهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، و منهم من أنكر موته بالكلّيّة، حتّى غفل عمر عن هذه الآية الكريمة عند وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و قام في النّاس فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّه عليه السّلام توفّي، إنّ رسول اللّه ما مات، و لكنّه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع، و اللّه ليرجعنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لاقطّعنّ أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنّ رسول اللّه مات.

و لم يزل يكرّر ذلك إلى أن قام أبو بكر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس، من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لا يموت، ثمّ تلا: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ .

قال الرّاوي: و اللّه، لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى تلاها أبو بكر، فاستيقن النّاس كلّهم بموته (1).

و في رواية أبي السعود: قال عمر: و اللّه ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر يتلو فعقرت حتّى لا تحملني رجلاي، و عرفت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات (2)، انتهى.

[و ذلك] (3)لوضوح أنّ ضعف إيمان كثير من الصّحابة و نفاق كثير منهم و حبّهم للحياة، صار سببا لفرارهم في احد قبل سماع خبر قتله صلوات اللّه عليه، لا غفلتهم عن آية وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ؛ فإنّ الآية لم تنزل بعد، و إنّما نزلت في حجّة الوداع.

و أمّا إنكار عمر موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن لغفلته عن آية وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ بل لتغافله عنها، و تدبيره في إلقاء الشّبهة في قلوب النّاس و تفرّقهم عن باب بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ليتمكّن في برهة من الزّمان إلى أغراضه الفاسدة لوضوح أنّ الاعتقاد بموت النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يكن متوقّفا على إخبار اللّه بأنّه يموت، و على الالتفات للآية الكريمة.

بل كان موت الأنبياء من ضروريّات جميع أهل الملل و الأديان، مع إخبار اللّه بموتهم في مواضع من الكتاب الكريم، مضافا إلى كفاية عموم قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ (4)مع عدم ظهور مخصّص له و إخباره صلّى اللّه عليه و آله بموته مكرّرا، حتّى سأل أبو بكر و عمر منه صلّى اللّه عليه و آله و قالا له: يا رسول اللّه، إذا حدث حدث فإلى من نرجع؟

و قوله صلّى اللّه عليه و آله، في الحديث المتفق بين الفريقين: «إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاجيب،

ص: 92


1- . تفسير روح البيان 2:104.
2- . تفسير أبي السعود 2:93.
3- . في النسخة: بياض، و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
4- . آل عمران:83/185.

و إنّي تارك فيكم الثّقلين: أوّلهما: كتاب اللّه، فيه الهدى و النّور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به، و أهل بيتي، أذكّركم اللّه في أهل بيتي خيرا» (1). مضافا إلى تراكم القرائن القطعيّة على موته، من صراخ أهله، و اشتغال عليّ عليه السّلام بتجهيزه، إلى غير ذلك.

و ليت شعري، كيف لم يجوّز هنا موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنكره حتّى اختلق من قبل نفسه أنّه صلّى اللّه عليه و آله ذهب ليناجي ربّه. . . إلى آخر ما نقله شيعته عنه.

و جوّز موته صلّى اللّه عليه و آله في يوم أو يومين قبله، حين دعا صلوات اللّه عليه و آله بدواة و كتف كي يكتب كتابا لا يختلفون فيه و لا يضلّون بعده، حيث قال: حسبنا كتاب اللّه (2)-يعني: بعد موته-

بل قطع بقتله في احد، بمجرد سماع قول القائل: قد قتل محمّد، من غير فحص و تحقيق، مع قرب مكانه من مقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قال لأنس بن النضر معتذرا عن فراره من الزّحف: قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله (3).

و قال بعد توبيخ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أصحابه الفارّين من الزّحف: إنّه أتانا خبر قتلك، فاستولى الرّعب على قلوبنا، فولّينا مدبرين (4).

ثمّ أنّه لا يمكن الاعتذار عن إنكاره موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنسيانه آية وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ، حيث إنّها نزلت في شأنه و شأن أصحابه، بعد فرارهم من الزّحف في واقعة احد؛ لأنّ نسيان تلك الآية كان مشروطا بنسيان تلك الوقعة، و هو من المحالات العاديّة في حقّه. و لا بغفلته عنها لاضطراب خاطره، لدلالة ما اختلقه على جمعيّة حواسّه، و سكون خاطره، و قوّة فكره، و كمال تدبيره.

فتحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ الوجه في صدور هذا القول الشّنيع منه منحصر في كونه حيلة احتالها، لتفريق النّاس عن باب بيت النّبوّة، و صرف القلوب عن التّوجّه إلى عليّ عليه السّلام، و جمع النّاس في السّقيفة. فلمّا التفت أبو بكر إلى أنّ هذا القول فساده أظهر من أن يخفى على ذي مسكة، بادر إلى إظهار خلافه، و صرف عمر عنه، لئلاّ تزداد فضيحتهما.

عن الصادق عليه السّلام: «أتدرون، مات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو قتل؟ إنّ اللّه يقول: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ -ثمّ قال عليه السّلام-: [فسمّ قبل الموت]إنّهما سقتاه قبل الموت» يعني الامرأتين لعنهما اللّه (5).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه المؤمنين على ارتدادهم بقوله: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ و يرجع إلى كفره الأصليّ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ بارتداده و رجوعه إلى الكفر شَيْئاً من الأشياء؛ لأنّه تعالى منزّه عن النّفع

ص: 93


1- . صحيح مسلم 4:1873/2408، سنن الترمذي 5:662/3786 و 3788، مستدرك الحاكم 3:148.
2- . صحيح مسلم 3:1259/22، صحيح البخاري 7:219/30، مسند أحمد 1:324.
3- . تفسير روح البيان 2:103.
4- . تفسير الرازي 9:21، تفسير روح البيان 2:104.
5- . تفسير العياشي 1:342/152، تفسير الصافي 1:359.

و الضّرر، بل يضرّ نفسه أشدّ الضّرر، من خسران الدّنيا، و عذاب الآخرة.

عن (الجمع بين الصّحيحين) ، في مسند سهل (1)، من المتّفق عليه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب، و من شرب لم يظمأ [أبدا]، و ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفونني، ثمّ يحال بيني و بينهم» (2).

أقول: قوله: «أعرفهم و يعرفونني» قرينة على إرادة الصّحابة.

فيقول صلّى اللّه عليه و آله: «إنّهم من أمّتي! فيقال: إنّك ما تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» .

و عنه أيضا-من المتّفق عليه-عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ألا إنّه سيجاء برجال من امّتي، فيوخذ بهم ذات الشّمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصّالح: كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ (3)قال: فيقال لي: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم» (4).

في ارتداد النّاس

بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله

إلاّ ثلاثة

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان النّاس أهل ردّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلاّ ثلاثة» قيل: و من الثّلاثة؟ قال عليه السّلام: «المقداد، و أبو ذرّ، و سلمان الفارسي رحمه اللّه، ثمّ عرف اناس بعد يسير» و قال: «هؤلاء الّذين دارت عليهم الرّحا، و أبوا أن يبايعوا حتّى جاءوا بأمير المؤمنين عليه السّلام مكرها فبايع، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ الآية» (5).

و في خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «حتّى إذا دعا اللّه نبيّه و رفعه إليه لم يك ذلك بعده إلاّ كلمحة من خفقة، أو وميض (6)من برقة، إلى أن رجعوا إلى الأعقاب، و انتكصوا على الأدبار، و طلبوا بالأوتار، و أظهروا الكتائب و ردموا الباب، و فلّوا الدماء (7)، و غيّروا سنن (8)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رغبوا عن أحكامه، و بعدوا عن أنواره، و استبدلوا بمستخلفه بديلا اتّخذوه و كانوا ظالمين، و زعموا أنّ من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّن اختاره الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لمقامه، و أنّ مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرّبّاني؛ ناموس هاشم بن عبد مناف. . .» إلى

ص: 94


1- . هو سهل بن سعد.
2- . الطرائف:376، بحار الأنوار 28:26.
3- . المائدة:5/117 و 118.
4- . الطرائف:376، صحيح البخاري 9:83/2 و 3، مسند أحمد 5:333، صحيح مسلم 4:1796/2297، مستدرك الحاكم 4:74-75.
5- . تفسير العياشي 1:341/787، الكافي 8:245/341، تفسير الصافي 1:359.
6- . الخفقة: النّعاس، و الوميض: اللّمع الخفيّ.
7- . في الكافي: الدّيار.
8- . في الكافي: آثار.

آخره (1).

فعلم من الرّوايات الخاصيّة و العاميّة أنّ كثيرا من الصّحابة الّذين كان يعرفهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم يعرفونه، ارتدّوا بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و غيرّوا أحكامه، و أحدثوا في دينه. و من الضّروري المتفّق عليه أنّهم غير أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و أتباعه كسلمان، و أبي ذرّ، و المقداد، و عمّار، و أضرابهم ممّن يحذوا حذوه، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «علي مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ» (2).

و في (الجمع بين الصّحاح) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «رحم اللّه عليّا، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار» (3).

و روى الجمهور: قال صلوات اللّه عليه لعمّار: «سيكون في أمّتي بعدي هنات (4)و اختلاف، حتّى يختلف السّيف بينهم حتّى يقتل بعضهم بعضا، و يتبرّأ بعضهم من بعض. يا عمّار، تقتلك الفئة الباغية، و أنت إذ ذاك مع الحقّ، و الحقّ معك، إنّ عليّا لن يدليك في ردى، و لن يخرجك من هدى.

إلى أن قال: و إن سلك النّاس كلّهم واديا فاسلك واديا سلكه عليّ، و خلّ النّاس طرّا. يا عمّار، إنّ عليّا لا يزال على هدى. يا عمّار، إنّ طاعة عليّ من طاعتي، و طاعتي من طاعة اللّه» (5).

و عن الجمهور بعدّة طرق، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «الحقّ مع عليّ، و عليّ مع الحقّ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (6). فإذن لا بدّ من كون المرتدّين المفترين المحدثين مخالفيه.

و قال فضل بن روزبهان: إنّهم أهل الرّدّة الّذين قاتلهم أبو بكر، و كان بعضهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه: أنّ الّذين قاتلهم أبو بكر لم يكونوا مرتدّين مستحلّين للزّكاة، بل كانوا ممتنعين عن تأديتها لأبي بكر، لإنكارهم خلافته، مع أن الظّاهر أنّ المراد من قول القائل: «لا تدري ما أحدثوا بعدك» هم الّذين أحدثوا بدعا باقية مستمرة في الأمّة، كغصب الخلافة، و تحريم المتعة، و صلوات التّراويح، و المسح على الخفّ، و التكتّف في الصّلاة، و غير ذلك من البدع، لا منع الزّكاة، و الّذي لم يتجاوز عن مالك بن نويرة و أصحابه، و لم يصر فعلهم سنّة باقية.

ثمّ بشّر اللّه الثّابتين على الإيمان بقوله: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ لنعمه من تعريفهم الحجّة

ص: 95


1- . الكافي 8:29/4، تفسير الصافي 1:359.
2- . تاريخ بغداد 14:321، ترجمة الإمام علي عليه السّلام لابن عساكر 3:153/1172.
3- . مناقب الخوارزمي:56، الطرائف:102.
4- . أي شرور و فساد.
5- . تاريخ بغداد 13:186، بحار الأنوار 38:37/13 و:38/14.
6- . تاريخ بغداد 14:321، ترجمة الإمام علي عليه السّلام 3:153/1172، سنن الترمذي 5:633/3714، مستدرك الحاكم 3:124.

و الهداية لدين اللّه، و التّوفيق لقبوله بالثّبات على الحقّ، و القيام بوظائف العبودية، و العمل بأحكام الإسلام. و فيه إشعار بأنّ الارتداد و الخروج عن الإسلام كفران لنعم اللّه.

عن (الاحتجاج) ، في خطبة الغدير: «معاشر النّاس، أنذركم أنّي رسول اللّه إليكم، قد خلت من قبلي الرّسل، أفإن متّ أو قتلت انقلبتم على أعقابكم وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ، ألا و إنّ عليّا هو الموصوف بالصّبر و الشّكر، ثمّ من بعده ولدي من صلبه» (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ المراد الطائعون للّه تعالى من المهاجرين و الأنصار (2).

و روى الفخر الرازي في تفسيره: عن الطّبري، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «المراد بقوله: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ أبو بكر و أصحابه» (3).

و روي عنه صلوات اللّه عليه أيضا أنّه قال: «أبو بكر من الشّاكرين، و هو من أحبّاء اللّه» (4). و في الرّوايتين من الضّعف و الوهن ما لا يخفى.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 145

ثمّ لمّا أرجف المنافقون بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد قتل، و لو كان نبيّا ما قتل، و قالوا: إنّ الّذين قتلوا من أصحاب النبيّ لو كانوا عندنا، و لم يخرجوا من المدينة إلى احد ما ماتوا و ما قتلوا، ردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ من النّفوس، و حيّ من الأحياء أَنْ تَمُوتَ بسبب من الأسباب، أو بإرادة مريد إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و إرادته، و بسبب أمره ملك الموت بقبض روحه، فلا يؤثّر تراكم الأسباب العاديّة للموت-من الخروج عن الحصن، و تهاجم الأعداء، و تخاذل الأنصار، و غير ذلك-في موت أحد ما لم تكن إرادة اللّه و مشيئته، فإنّه كتب الموت كِتاباً و قدّره تقديرا مُؤَجَّلاً مؤقّتا، لا يؤخّره التّحصّن في البلد و الفرار من الزّحف، و لا يقدّمه الثّبات في الجهاد و الخروج إلى العدوّ، فالمجاهد لا يموت بغير أجله، و القاعد لا يسلم مع حضور أجله.

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ (145)و فيه تعريض على أكثر (3)أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تحريض للمؤمنين على القتال، و تشجيع لهم، و وعد للرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالحفظ و تأخير الأجل.

ص: 96


1- . الاحتجاج:62، تفسير الصافي 1:358.
2- . تفسير أبي السعود 2:94. (3 و 4) . تفسير الرازي 9:22.
3- . كذا، و الظاهر: تعريض بأكثر، أو لأكثر.

ثمّ أنّه تعالى-بعد تحقيق أنّ الحياة و الموت دائران مدار إرادة اللّه و مشيئته، و ليس لغيره فيهما مدخل و صنع-بيّن أنّ ثواب الجهاد و سائر الأعمال دائر مدار نيّة العبد و إرادته، بقوله: وَ مَنْ يُرِدْ بجهاده و سائر عباداته ثَوابَ اَلدُّنْيا من الغنيمة و حسن الذّكر نُؤْتِهِ و نوفّه نصيبه مِنْها على حسب ما تقتضيه الحكمة و المصلحة.

عن أبي هريرة: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل اللّه: في ما ذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتّى قتلت، فيقول تعالى: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان محارب (1)، ثمّ أنّ اللّه تعالى يأمر به إلى النّار» و فيه تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم احد عن الجهاد.

وَ مَنْ يُرِدْ و يطلب بجهاده، أو بجميع أعماله الحسنة ثَوابَ اَلْآخِرَةِ من الجنّة، و الرّحمة المتّصلة، و النّعم الدّائمة نُؤْتِهِ و نوفّه حظّا وافرا مِنْها على حسب أهليّته و استحقاقه، و قابليّته للتّفضّل، و مرتبة خلوصه في النيّة.

و فيه دلالة على أنّ الأعمال الخيريّة لا تخلو عن الأجر و الثّواب إمّا الدّنيوي و إمّا الاخروي.

ثمّ أكدّ اللّه الوعد بقوله: وَ سَنَجْزِي عن قريب جزاء جزيلا لا يسعه البيان، و لا يحويه الكلام اَلشّاكِرِينَ لنعمه، من القوى و الصّحّة، و توفيق الهداية إلى الإسلام، و العلم بالمعارف و الأحكام و غيرها، بصرف ما آتاهم اللّه في مرضاته و طاعته، لا يصرفهم عن ذلك صارف أبدا، فيدخل فيهم المجاهدون و الشّهداء.

في ذكر معجزة

للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله

عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّه أصاب عليّا صلّى اللّه عليه و آله يوم احد ستّون جراحة، و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر أمّ سليم و امّ عطية أن تداوياه فقالتا: إنّا لا نعالج منه مكانا إلاّ انفتق منه مكان، و قد خفنا عليه، و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة، فجعل يمسحه بيده و يقول: إنّ رجلا لقي هذا في اللّه، فقد أبلى و أعذر، فكان القرح الذي يمسحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يلتئم، فقال عليّ عليه السّلام: الحمد للّه، إذ لم أفرّ، و لم أولّي الدّبر، فشكر اللّه له ذلك في موضعين من القرآن، و هو [قوله: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ (2)من الرزق في الدّنيا] وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 146

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكانُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ (146)

ص: 97


1- . تفسير الرازي 9:25، تفسير روح البيان 2:106.
2- . آل عمران:3/144.
3- . مجمع البيان 2:852، تفسير الصافي 1:359.

ثمّ ذكّر اللّه شدّه اهتمام المؤمنين من الأمم السّابقة في جهاد الكفّار، و نصرة أنبيائهم و دينهم، و تحمّلهم الشّدائد في ذلك، تقريعا للمنهزمين في احد على تقصيرهم في الجهاد و نصرة الإسلام، و سوء صنيعهم مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ كَأَيِّنْ قال جمع من المفسرين: إنّ هذه الكلمة مستعملة في الكثير (1)، فيكون المعنى: و كم مِنْ نَبِيٍّ من الأنبياء في القرون السّابقة قاتل أعداء الدّين، لترويج دينه، و إعلاء كلمة الحق، و قاتَلَ مَعَهُ و جاهد الكفّار، مصاحبا له رِبِّيُّونَ و علماء اتقياء كَثِيرٌ!

و قيل: إنّ المراد من (الرّبّيّون) الجموع الكثيرة (2).

و عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «الرّبّيّون: عشرة آلاف (3)» .

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الوف و الوف» (2).

فَما وَهَنُوا في منازلة الأعداء، و ما فتروا في مقاتلة الكفّار لِما أَصابَهُمْ من البلايا و الشّدائد، و لكثرة ما نالهم من القتل و الجرح فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لإعلاء كلمته، و إعزاز دينه، و طلب مرضاته وَ ما ضَعُفُوا في دينهم و عقائدهم، و ما تقاعدوا عن مقاتلة أعدائهم وَ مَا اِسْتَكانُوا و ما خضعوا عندهم لطلب الصّلح و المداهنة.

فإذا كانت سيرة المؤمنين بسائر الأنبياء، و دأب أتباعهم ذلك، فلا ينبغي لكم الوهن في الجهاد، و الضّعف في الإيمان، و الفرار من الزّحف، بل الارتداد عن الإسلام و أنتم أتباع خاتم النّبيّين.

و فيه تعريض عليهم بقولهم: لو كان محمّد نبيّا لما ورد عليه ما ورد. و باستكانتهم لعدوّهم حيث قالوا: ليت ابن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.

و عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «بيّن اللّه سبحانه أنّه لو كان قتل كما أرجف بذلك يوم احد لما أوجب ذلك أن يضعفوا أو يهنوا، كما لم يهن من كان مع الأنبياء بقتلهم» (3).

أقول: هذا التّفسير مبنيّ على قراءة (قتل معه) (4)كما هي مرويّة عن الصادق عليه السّلام (5).

ثمّ بشّر سبحانه أهل الثّبات في الجهاد، بل مطلق الصّابرين على الطّاعات بقوله: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ على ما أصابهم من البأساء و الضّرّاء، في سبيله و مرضاته، و المحتبسين أنفسهم على طاعته. فعليه تعالى أن يكرمهم إكرام الأحبّاء، و يجزيهم في الدّنيا و الآخرة أحسن الجزاء.

ص: 98


1- . تفسير الرازي 9:26، تفسير أبي السعود 2:95، تفسير روح البيان 2:106. (2 و 3) . مجمع البيان 2:854، تفسير الصافي 1:360.
2- . تفسير العياشي 1:342/793، تفسير الصافي 1:360.
3- . مجمع البيان 2:854، تفسير الصافي 1:360.
4- . في المصحف الشريف قاتَلَ مَعَهُ .
5- . تفسير العياشي 1:342/793، تفسير الصافي 1:360.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 147 الی 148

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان كمال استقامتهم على الدّين، و شدّة ثباتهم في الجهاد و نصرة النّبيّين، و قوّة صبرهم على الشدائد و الأهوال-بيّن أنّهم مع ذلك لا همّ لهم و لا مطلوب بعد المغفرة عندهم، إلاّ ازدياد الثّبات و الصّبر، و الغلبة على أعداء الحقّ بقوله: وَ ما كانَ في حال من الأحوال أو عند لقاء العدوّ، و اقتحام مضائق الحرب، و الخوض في غمرات الموت قَوْلَهُمْ و مسؤولهم شيئا من الأشياء إِلاّ أَنْ قالُوا متضرّعين إلى مليكهم اللّطيف بهم رَبَّنَا و يا من إليه تربية نفوسنا، و إصلاح جميع أحوالنا و امورنا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا صغائرها و كبائرها ثمّ بعد التّعميم خصّوا الكبائر بالذّكر لعظمها بقولهم: وَ إِسْرافَنا و تجاوزنا عن حدودك فِي أَمْرِنا و عملنا.

وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (148)و إنّما أضافوا إلى أنفسهم الإسراف مع كونهم ربّانيّين برآء من التّفريط، استحقارا لها، و إسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم، و إنّما قدّموا الدّعاء بالمغفرة لكون النّجاة من سخط اللّه و عذابه أهمّ المقاصد في نظرهم.

ثمّ الأهمّ ما سألوه بقولهم: وَ ثَبِّتْ بتأييدك لنا، و تقوية قلوبنا و يقيننا أَقْدامَنا على دينك القويم و صراطك المستقيم، و في مجاهدة النّفس، و مدافعة الشّيطان الرّجيم، و نصرة الأنبياء، و منازلة الأعداء وَ اُنْصُرْنا بالحجّة و السّيف عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ حتّى تعلو كلمتك، و تتمّ حجّتك.

ففيه دلالة على أنّ المقصد الأعلى عند المؤمنين مغفرة الذّنوب، و الثّبات على الدّين، و نصرة الحقّ. و فيه تعريض بالمنهزمين و المرتدّين في احد.

فَآتاهُمُ اَللّهُ و أعطاهم بسبب حسن حالهم، و كمال ضراعتهم ثَوابَ اَلدُّنْيا من انشراح الصّدر، و قوّة اليقين، و النّصرة على أعداء الدّين و الغنيمة، و حسن الذّكر بين المؤمنين وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ من الجنّة العالية، و النّعم الباقية، و اللّذّات الدّائمة، و الحور و القصور، و الكرامة و السّرور.

و إنّما خصّ اللّه سبحانه ثواب الآخرة بالحسن، للإيذان بفضله و مزيّته على الدّنيا و ما فيها وَ اَللّهُ تعالى لكونه حسن الصّفات و الفعال يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ و يرضى عنهم، و يزيد لهم خير الدّارين.

ففيه دلالة على أنّهم بلغوا-بثباتهم في الدّين، و خضوعهم لربّ العالمين و عدّ أنفسهم في المذنبين و المسرفين-إلى درجة المقرّبين، و العباد المرضيّين.

ص: 99

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 149 الی 150

ثمّ لمّا دعا الكفّار و المنافقون-بعد انتشار خبر قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-بعض ضعفاء المؤمنين إلى الكف و الرّجوع إلى ما كانوا عليه من الشّرك، و ألقوا بعض الشّبهات فيهم، نهى اللّه المؤمنين عن اتّباعهم، و الاعتناء بشبهاتهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تطيعوا المنافقين-في قولهم: ارجعوا إلى دينكم و إخوانكم، و لو كان محمّد نبيّا لما غلب و قتل-فإنّكم إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا كأبي سفيان و غيره من المشركين و اليهود و المنافقين، و تتّبعوا قولهم في أمر الدّين، و تصغوا إلى الشّبهات التي يلقونها في قلوبكم، خصوصا بعد وقعة احد يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ و يخرجوكم عن دينكم، و يصيّروكم كفّارا فَتَنْقَلِبُوا و ترجعوا إلى الشّرك، بعد اهتدائكم إلى التّوحيد و دين الإسلام، حال كونكم خاسِرِينَ في الدّنيا و الآخرة، محرومين من كرامتهما و سعادتهما، لابتلائكم بذلّ الانقياد للعدوّ بدلا من عزّ الإسلام، و بعذاب الخلد بدلا من الثّواب المؤبّد، فلا تتّبعوا بطاعتهم موالاتهم و نصرهم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ (150)

بَلِ اَللّهُ وحده مَوْلاكُمْ في الدّنيا و الآخرة، ناظر في صلاحكم، معط لما فيه خيركم و نفعكم وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ و الأعوان لكم، فإنّه الجواد الذي لا يبخل، و العالم الذي لا يجهل، و القادر الذي لا يعجز، و هو الكافي من كلّ شيء، و لا يكفي منه شيء، فلا ينبغي للمؤمن أن يرجو غيره، و لا ينظر إلى ما سواه، و عليه أن يخصّه بالطّاعة و الاستعانة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 151

في أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

كان منصورا

بالرعب

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى نصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نصرت بالرّعب مسيرة شهر» (1)و لذا هزموا على ضعفهم و قلّة عددهم عسكر المشركين على كثرتهم و شوكتهم في بدر و في احد، ما داموا في طاعة اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا عصوا اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله في احد سلب اللّه الرّعب عن قلوب المشركين، حتّى رجعوا و فعلوا ما فعلوا، فلمّا عادوا إلى طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بشّرهم اللّه بالنّصر بالرّعب في احد و غيرها من المواطن بقوله: سَنُلْقِي و نقذف عن قريب فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ أو يستولي عليهم الخوف منكم بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ و لأجل كفرهم بوحدانيّته و إشراكهم في الوهيته و عبادته ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ و لم

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ (151)

ص: 100


1- . مجمع البيان 2:857، تفسير الصافي 1:361.

يقم على الوهيّته، و استحقاق عبادته سُلْطاناً و حجّة و برهانا.

روي أنّ الكفّار لمّا استولوا على المسلمين و هزموهم، أوقع اللّه الرّعب في قلوبهم، فتركوهم و فرّوا منهم من غير سبب، حتّى أن أبا سفيان صعد الجبل و قال: أين ابن أبي كبشة، و أين ابن أبي قحافة، و أين ابن الخطّاب؟ فأجابه عمر، و دارت بينهما كلمات، و ما تجاسر أبو سفيان أن ينزل من الجبل و الذّهاب إليهم (1).

و نقل أنّ الكفّار لمّا ذهبوا إلى مكّة، قالوا حين كانوا في بعض الطّريق: ما صنعنا شيئا، قتلنا الأكثرين منهم و تركناهم و نحن ظاهرون، ارجعوا حتّى نستأصلهم بالكلّيّة، فلمّا عزموا على ذلك ألقى اللّه الرّعب في قلوبهم (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «ثمّ انهزم النّاس، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: يا عليّ، امض بسيفك حتّى تعارضهم، فإن رأيتهم ركبوا القلاص (1)و جنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة، و إن رأيتهم قد ركبوا الخيل و هم يجتنبون القلاص فإنّهم يريدون المدينة، فأتاهم عليّ عليه السّلام فكانوا على القلاص، فقال أبو سفيان لعليّ عليه السّلام: ما تريد؟ هو ذا نحن ذاهبون إلى مكّة، فانصرف إلى صاحبك، فاتّبعهم جبرئيل عليه السّلام، فلمّا سمعوا وقع حافر فرسه جدّوا في السّير و كان يتلوهم، فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمّد قد أقبل، فدخل أبو سفيان مكّة فأخبرهم الخبر، و جاء الرّعاء و الحطّابون فدخلوا مكّة فقالوا: رأينا عسكر محمّد كلّما رحل أبو سفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم، فأقبل أهل مكّة على أبي سفيان يوبّخونه (2).

أقول: و عليه، فلا بدّ من كون نزول الآية في أثناء الحرب، أو عند انقضائها.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المشركين في الدّنيا، بيّن سوء حالهم في الآخرة بقوله: وَ مَأْواهُمُ و مسكنهم في الآخرة اَلنّارُ لا غيرها وَ بِئْسَ المثوى و المقرّ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ و مقرّهم و ساء المكان الذي خصّهم اللّه به في القيامة، بسبب ظلمهم على أنفسهم بالشّرك، و على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بالمقاتلة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 152

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (152)

ص: 101


1- . قلاص و قلائص: جمع قلوص: و هي الإبل الفتيّة.
2- . الكافي 8:321/502، تفسير الصافي 1:358.

ثمّ قيل: إنّه لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه إلى المدينة، و قد أصابهم ما أصابهم من الجراح و المصيبة قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، و قد وعدنا اللّه النّصر؟ فأنزل اللّه تعالى: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ و أنجز لكم وَعْدَهُ إيّاكم بالنّصر و الغلبة على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن كان ذلك الوعد مشروطا بالتّقوى و الصّبر، و أنتم ما دمتم على طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نصرتم و غلّبتم على المشركين إِذْ تَحُسُّونَهُمْ و تقتلونهم قتلا ذريعا بتيسير اللّه و بِإِذْنِهِ و تأييده.

روي أنّ المشركين لمّا أقبلوا جعل الرّماة من المسلمين يرشقونهم بالنّبل، و الباقون يضربونهم بالسيف، و قتل عليّ عليه السّلام طلحة بن أبي طلحة كبش قريش، و تسعة من أصحاب لوائهم فانهزم المشركون، و المسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا.

فكأنّه قال سبحانه: كنتم على هذه الحالة من النّصر و الغلبة حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ و ضعفتم رأيا في طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ لغلبة الحرص على الغنيمة، و ملتم إليها وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ من الثّبات و الإقامة في المركز، و الذّهاب لأخذ الغنيمة.

روي أنّ بعض الرّماة-حين انهزم المشركون و ولّوا هاربين، و المسلمون على أعقابهم ضربا و قتلا -قالوا: فما موقفنا هنا بعد هذا؟ و قال أميرهم عبد اللّه بن جبير: لا تخالفوا أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه قال: «لا تبرحوا مكانكم، فإنّا لا نزل غالبين ما دمتم في هذا المكان» فثبت عبد اللّه في نفر دون العشرة في مكانه، و نفر الباقون للنّهب.

و إليه أشار سبحانه بقوله: وَ عَصَيْتُمْ اللّه و رسوله مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ اللّه تعالى ما تُحِبُّونَ من الظّفر و الغنيمة، و انهزام العدوّ. و قد مرّ أنّه لمّا رأى المشركون قلّة الرّماة في الشّعب حملوا عليهم، و قتلوا أمير الرّماة و من معه.

ثمّ حملوا على المسلمين من ورائهم، فظهرت سرائر القوم كما بيّنها سبحانه بقوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا و هم الّذين خالفوا أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تركوا المركز طمعا في الغنيمة، و أقبلوا على النّهب.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: ما علمت أنّ أحدا منّا يريد الدّنيا حتّى نزلت هذه الآية (1).

وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ بجهاده، و هم الّذين ثبتوا على طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و لم يخلوا مراكزهم

ص: 102


1- . تفسير روح البيان 2:110.

حتّى نالوا شرف الشّهادة، و حازوا على درجة السّعادة.

ثُمَّ بعد عصيان الرّماة صَرَفَكُمْ اللّه، و كفّ أيديكم عَنْهُمْ و هزمكم منهم بأن أوجد فيكم مقتضى الهزيمة من زوال الرّعب عن قلوب المشركين، و إلقائه في قلوبكم لِيَبْتَلِيَكُمْ و يمتحنكم في الثّبات على الإيمان، و الصّبر في الجهاد، حتّى يمتاز المخلصون الكاملون، و الصّابرون المحتسبون من غيرهم وَ لَقَدْ عَفا اللّه عَنْكُمْ تفضّلا عليكم، أو لما علم من ندمكم على عصيانكم بالفرار من الزّحف، و الهزيمة من الجهاد.

ثمّ لمّا كان امتياز الثّابتين في الإيمان من غيرهم، و العفو عن العصاة، تفضّلا من اللّه تعالى، وصف ذاته المقدّسة بقوله: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كافّة بتكميل نفوس المطيعين منهم، و تعلية درجاتهم، و توفيق العاصين منهم للتّوبة، و تكفير ذنوبهم.

و قيل: إنّ المراد ذو فضل عليهم في جميع أحوالهم [سواء]كانت الدّولة لهم أو عليهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 153

ثمّ بيّن اللّه تعالى وقت صرفهم عنهم بقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ و حين تذهبون في السّهل و الجبل منهزمين من بأس المشركين وَ لا تَلْوُونَ من شدّة الخوف عَلى أَحَدٍ من النّاس، و لا تلتفتون إلى من في يمينكم و شمالكم و ورائكم.

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)و قيل: إنّ المراد: لا يقف بعضكم لبعض، و لا ينظر نفس إلى نفس أنّه والد أو ولد، قريب أو بعيد، صديق أو عدوّ.

وَ اَلرَّسُولُ في هذا الحال، بأعلى صوته يَدْعُوكُمْ و يناديكم-حال كونه واقفا فِي أُخْراكُمْ و ساقتكم (1)، أو في جماعة اخرى منكم، أو في آخركم-بقوله: «إليّ عباد اللّه، أنا رسول اللّه، أين تفرّون عن اللّه، و عن رسوله؟» .

و في رواية: يقول: «من كرّ فله الجنّة» (2)أمرا بالمعروف و هو الكرّ، و نهيا عن المنكر و هو الانهزام، لا استعانة بهم.

فَأَثابَكُمْ اللّه، و جازاكم عن عصيانكم و انهزامكم غَمًّا متّصلا بِغَمٍّ آخر.

ص: 103


1- . السّاقة: مؤخّرة الجيش.
2- . تفسير روح البيان 2:110، تفسير الصافي 1:362.

قيل: إنّ الغموم كانت في احد كثيرة من غلبة العدوّ، و قتل الاحبّة، و ما نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و غير ذلك.

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «فأمّا الغمّ الأوّل: فالهزيمة و القتل، و الغمّ الآخر: فإشراف خالد بن الوليد عليهم» (1).

و قيل: إنّ المراد: غمّا شديدا، بسبب شجّة وجه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و كسر رباعيته، و قتل عمّه حمزة، بعوض غمّ الرّسول بسبب عصيانكم أمره.

في أن أبا بكر و عمر

و عثمان كانوا من

المنهزمين في

احد

ثمّ أن الفخر الرازي قال في تفسيره الكبير: و من المنهزمين عمر، إلاّ أنّه لم يكن من أوائل المنهزمين، و لم يبعد بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2).

أقول: ليت شعري، من أين علم أنّه لم يكن من أوائل المنهزمين؟ ! ثمّ أنه بعدما ثبت أنّه كان من المنهزمين، كيف يصلح فساد عمله عدم كونه من أوائلهم؟

ثمّ قال: و منهم أيضا عثمان، انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد و عقبة، انهزموا حتّى بلغوا موضعا بعيدا، ثمّ رجعوا بعد ثلاثة أيام-إلى أن قال-: و أمّا الّذين ثبّتوا مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فكانوا أربعة عشر رجلا؛ سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار، فمن المهاجرين أبو بكر و عليّ عليه السّلام (3).

أقول: قال بعض: إنّ أبا بكر أيضا كان من المنهزمين (4).

و قال ابن أبي الحديد:

فإن أنس لم أنس اللذين تقدّما *** و فرّهما و الفرّ قد علما حوب (5)

و الظاهر أن مراده أبو بكر و عمر، و يؤيّد ذلك الاعتبار و شهرته بين الشّيعة (6).

ثم قال فخر الدّين: و ذكر أنّ ثمانية من هؤلاء-أي من الأربعة عشر-بايعوه يومئذ على الموت؛ ثلاثة من المهاجرين عليّ عليه السّلام، و طلحة، و الزّبير. . . (7).

أقول: فعلم أنّ أبا بكر-على تقدير كونه من الثّابتين-لم يكن من الّذين بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت، ثمّ أنّ عدّ طلحة منهم مناف لما روي من اعتراض أنس بن النضر عليه و على عمر، بقوله: ما يحبسكم عن القتال؟ فقالوا: قد قتل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ أنّ اللّه تعالى بيّن علّة تراكم الغموم عليهم بقوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من المنافع

ص: 104


1- . تفسير القمي 1:120، تفسير الصافي 1:362.
2- . تفسير الرازي 9:50.
3- . تفسير الرازي 9:50.
4- . راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13:293.
5- . القصائد العلوية:91، و فيه: و ما أنس لا أنس. . .
6- . راجع: إرشاد المفيد 1:83، مناقب ابن شهر آشوب 3:123، كشف الغمة 1:193، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15:21.
7- . تفسير الرازي 9:51.

و الخيرات الدّنيوية وَ لا على ما أَصابَكُمْ من البلايا و المصائب، فإنّ التّمرّن على عدم الاعتداد بالمنافع و المضارّ، و الاعتياد عليه، يهون فوت المنافع و الابتلاء بالمضارّ الدّنيوية.

و قيل: إنّ المراد: لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، و لا ما أصابكم من قتل إخوانكم، أو على ما فاتكم من النّصر، و لا على ما أصابكم من الجراح.

و قيل: إنّ التّعليل للعفو، فإنّ السّرور بالعفو يزيل غمّ فوت الغنيمة و إصابة الجراح، و غمّ الابتلاء بالمعصية.

ثمّ زجرهم اللّه تعالى عن جميع المعاصي بقوله: وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ خفيّه و جليّه، فيجازيكم به، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 154

ثمّ-لمّا كان أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في احد طائفتين؛ إحداهما المؤمنون الصّادقون المخلصون، و الاخرى المنافقون الكاذبون في دعواهم الإيمان-بيّن اللّه تعالى حسن حال المؤمنين منهم، و تفضّله عليهم، أوّلا لشرفهم، بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه عَلَيْكُمْ و أعطاكم مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ الذي اعتراكم بسبب الخوف و الهزيمة أَمَنَةً و سكينة في قلوبكم، و اطمئنانا لنفوسكم من بأس العدوّ و ضرّه، بأن ألقى عليكم لغاية سكون خاطركم في ذلك الوقت نُعاساً و وسنا، و لكن لا على جميعكم، بل كان يَغْشى و يعرض طائِفَةً خاصّة مِنْكُمْ و هم المؤمنون المخلصون.

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (154)و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: المراد من الطائفة: المهاجرون، و عامّة الأنصار (1).

و في إدخال كلمة (عامّة) على الأنصار دون المهاجرين، إشعار بعدم كون جميعهم خلّصين (2)في الإيمان، بل كان بعضهم من المنافقين، أو كان بعضهم في قوّة الإيمان بحيث لم يطرأه خوف (3)، و لم

ص: 105


1- . تفسير أبي السعود 2:101.
2- . كذا و الظاهر: مخلصين.
3- . كذا و الظاهر: لم يطرأ عليه خوف.

يألف عينيه نوم اهتماما بطاعة اللّه و حفظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأمير المؤمنين عليه السّلام.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه، قال: النّعاس في القتال أمنة، و في الصّلاة من الشّيطان (1). و ذلك لأنّه في القتال لا يكون إلاّ من غاية الوثوق باللّه و الفراغ من الدّنيا، و لا يكون في الصّلاة إلاّ من غاية البعد عن اللّه.

في غشيان النعاس

طائفة من الصحابة

و عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه أنّه قال: آمنهم بنعاس يغشاهم بعد خوف، و إنّما ينعس من آمن، و الخائف لا ينام (2).

و عن عبد الرحمن بن عوف، قال: ألقى النّوم علينا يوم احد (3).

نقل أنّ المشركين لمّا انصرفوا كانوا يتوعّدون المسلمين بالرّجوع، فلم يأمنوا كرّتهم، و كانوا تحت الحجف (4)متأهّبين للقتال، فأنزل اللّه عليهم الأمنة فأخذهم النّعاس.

و روي أنّه غشيهم النّعاس في المصاف، حتّى كان السّيف يسقط من يد أحدهم فيأخذه، ثمّ يسقط فيأخذه.

و روي أنّه قال طلحة (5): رفعت رأسي يوم احد، فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلاّ هو يمتدّ تحت حجفته من النّعاس، قال: و كنت ممّن القي عليه النّعاس يومئذ، فكان السّيف يسقط من يدي فآخذه، ثمّ يسقط السّوط من يدي فآخذه (6).

و عن الزّبير، أنّه قال: كنت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين اشتدّ الخوف، فأنزل اللّه علينا النّوم، و اللّه إنّي لأسمع قول معتّب بن قشير و النّعاس يغشاني، ما أسمعه إلاّ كالحلم، يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا (7).

ثمّ بيّن اللّه تعالى سوء حال المنافقين منهم بقوله: وَ طائِفَةٌ اخرى منهم و هم المنافقون كعبد اللّه بن ابيّ و معتّب بن قشير و أصحابهما كانوا قَدْ أَهَمَّتْهُمْ و أوقعتهم أَنْفُسُهُمْ في تدبير النّجاة، لا همّ لهم غيره، و ذلك لكونهم في حال يَظُنُّونَ بِاللّهِ من غاية جهلهم و حمقهم ظنّا غَيْرَ الظّنّ اَلْحَقِّ و الصّواب، بل يكون ظنّهم ظَنَّ أهل اَلْجاهِلِيَّةِ .

قيل: وجه الشّبه كونه من أقبح أنواع الظّنون.

و قيل: إنّ المراد أنّهم يظنّون ظنّا ناشئا عن غاية الجاهليّة و السّفاهة؛ لأنّهم اعتقدوا أنّ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يضمحلّ قريبا، و لن ينصره اللّه أبدا.

ص: 106


1- . تفسير الرازي 9:45.
2- . تفسير أبي السعود 2:101.
3- . تفسير الرازي 9:45.
4- . الحجف: جمع حجفة: و هي التّرس من الجلد. و في النسخة: الجفف.
5- . في تفسير أبي السعود و روح البيان: أبو طلحة.
6- . تفسير أبي السعود 2:101، تفسير روح البيان 2:112.
7- . تفسير أبي السعود 2:101.

و كانوا يَقُولُونَ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، على صورة الاسترشاد، و إنّ كان مقصودهم في الواقع الإنكار: هَلْ لَنا يا رسول اللّه مِنَ اَلْأَمْرِ الذي وعدتنا، و هو النّصر و الغلبة، و قيل: إنّ المراد: هل لنا من التّدبير في الإصلاح مِنْ شَيْءٍ قليل، و حظّ يسير قطّ؟

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه أن قُلْ لهم جوابا: إِنَّ اَلْأَمْرَ من النّصر و الظّفر و التّدبير كُلَّهُ لِلّهِ و هو بالآخرة ينصر أولياءه، و يخذل أعداءه؛ كما قال: فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ظاهر حالهم و مقالهم، كشف عن سرّهم، و ما في قلوبهم بقوله: يُخْفُونَ و يضمرون فِي أَنْفُسِهِمْ و في قلوبهم من الإنكار و التّكذيب، و قيل: إنّ المراد يقول بعضهم لبعض خفية و سرّا ما لا يُبْدُونَ و ضميرا أو كلاما لا يظهرون لَكَ خوفا و نفاقا.

ثمّ لمّا كان مقام السّؤال عمّا يخفون، فأجاب سبحانه قبل المسألة بقوله: يَقُولُونَ بطريق حديث النّفس، أو بألسنتهم فيما بينهم سرّا: لَوْ كانَ لَنا في هذه الحرب مِنَ اَلْأَمْرِ الموعود، و هو النّصر و الغلبة، أو من التّدبير و الرّأي شَيْءٍ من الحظّ و النّصيب ما قُتِلْنا بسيف الأعداء، و ما غلبنا هاهُنا .

قيل: إنّ نظرهم إلى ما رأى عبد اللّه بن أبيّ عند مشاورة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الإقامة بالمدينة و عدم الخروج منها إلى العدوّ، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قُلْ ردّا عليهم: لَوْ كُنْتُمْ مقيمين مستترين فِي بُيُوتِكُمْ و في خبايا منازلكم في المدينة، و حتمتم على أنفسكم أن لا تخرجوا لَبَرَزَ و خرج الأشخاص اَلَّذِينَ كُتِبَ في اللّوح المحفوظ، و حتم في تقدير اللّه و قضائه عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ بسبب من الأسباب، وداع من دواعي الخروج إِلى مَضاجِعِهِمْ و مصارعهم التي قدّر اللّه قتلهم فيها، و قتلوا هنالك ألبتّة، و لم ينفعهم التصميم و العزيمة على الإقامة، فإنّ قضاء اللّه لا يردّ، و حكمه لا يعقّب، و الأجل المحتوم لا يؤخّر.

روي أنّ ملك الموت حضر مجلس سليمان عليه السّلام، فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة، فلمّا قام قال الرّجل: من هذا؟ فقال سليمان: ملك الموت، قال: أرسلني مع الرّيح إلى عالم آخر، فإنّي رأيت [منه]مرأى هائلا، فأمرها عليه السّلام، فألقته في قطر سحيق من أقطار العالم، فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان فقال: كنت امرت بقبض روح ذلك الرّجل في هذه السّاعة في أرض كذا، فلمّا وجدته في مجلسك قلت: متى يصل هذا إليها، و قد أرسلته بالرّيح إلى ذلك المكان، فوجدته هناك، فقضي أمر اللّه في مكانه و زمانه (2).

ص: 107


1- . المائدة:5/56.
2- . تفسير أبي السعود 2:102.

ثمّ-لمّا كان في زعم المنافقين أنّ الخروج من المدينة، و قتل من قتل، مفسدة محضة، لم يكن فيها جهة خير و صلاح-بيّن اللّه تعالى حكمه و مصالحه، و التّقدير: أنّ الأمر بالخروج، و وقوع ما وقع، لتبلغوا إلى مصالح كثيرة وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ و يمتحن بما هو كائن ما فِي صُدُورِكُمْ من الإخلاص و النّفاق، و النّيّات السّيّئة و الحسنة وَ لِيُمَحِّصَ و ليخلّص ما هو كائن ما فِي قُلُوبِكُمْ من العقائد الحقّة عن الشّكوك و الشّبهات و الوساوس وَ اَللّهُ بذاته عَلِيمٌ أزلا بِذاتِ اَلصُّدُورِ و ما في الضّمائر من الأسرار و الخفيّات، فلا يحتاج إلى الاختيار و الامتحان، و إنّما يبرز صورة الابتلاء، لتمرين المؤمنين، و إظهار حال المنافقين.

نقل أنّ ثلث عسكر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كانوا مجروحين، و ثلثهم منهزمين، و ثلثهم ثابتين مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1).

و روي أنّ سعد بن عثمان ورد المدينة و أخبر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قتل، ثمّ ورد بعده رجال و دخلوا على نسائهم فجعل النّساء يقلن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تفرّون! و كنّ يحثين التّراب في وجوههم و يقلن: هاك المغزل و اغزل به (2).

و روي أنّه اصيب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نحو من ثلاثين، كلّهم يجيء و يجثو بين يديه و يقول: وجهي لوجهك الفداء، و نفسي لنفسك الفداء، و عليك السّلام غير مودّع (3).

و روي أنّ ثمانية بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت، ثلاثة من المهاجرين: عليّ عليه السّلام، و طلحة، و الزّبير، و خمسة من الأنصار: أبو دجانة، و الحارث بن الصمّة، و خبّاب بن المنذر، و عاصم بن ثابت، و سهل بن حنيف، ثمّ لم يقتل منهم أحد (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 155

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان علل إيراد البليّات و المصائب على المؤمنين و استيلاء المشركين عليهم- بيّن علّة انهزام المنهزمين، و عدم ثباتهم في الجهاد بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ عن القتال، و انهزموا عند النّزال يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ و تصادف الفريقان من المسلمين و الكفّار، لم يكن تولّيهم و انهزامهم بعلّة خروجهم من المدينة كما توهّم المنافقون، و لا لقوّة المشركين و كثرة شوكتهم، بل إِنَّمَا كان بسبب أنّه اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ و دعاهم إلى الوقوع في الخطيئة، و ارتكاب المعصية

إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

ص: 108


1- . تفسير الرازي 9:50.
2- . تفسير الرازي 9:50.
3- . تفسير الرازي 9:51.
4- . تفسير الرازي 9:51.

الكثيرة، فأجابوه و أسلموا له، و إنّما كان تسليمهم له معلّلا بِبَعْضِ ما كَسَبُوا و ارتكبوا من الذّنوب و المعاصي التي كانت دون ذلك، من مخالفة أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في حفظ الشّعب، و الحرص على الغنيمة، فصارت تلك الذّنوب موجبة لكثرة استيلاء الشّيطان عليهم، حتّى أوقعهم في أعظم المعاصي من الفرار من الزّحف و تسليم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الأعداء حفظا لأنفسهم.

ثمّ بعد التّوبيخ بشّرهم سبحانه بالعفو بقوله: وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ بعد تلك الزّلاّت و المعاصي عَنْهُمْ بفضله و سعة رحمته إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ للذّنوب حَلِيمٌ عن العاصيين، لا يعاجل بعقوبتهم، كي يتوب من في قلبه نور الإيمان، و يجري قضاؤه بمن لا نصيب له منه، و يقع ما في مكنون علمه من الفتن التي منها غصب

خلافة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و تقدّم المنهزمين في الرئاسة الإلهيّة على من بايعه على الموت.

روي أنّ عثمان عوتب في هزيمته يوم احد، فقال: إنّ ذلك و إن كان خطأ، لكنّ اللّه عفا عنه (1).

ففي توصيف ذاته المقدّسة بالمغفرة و الحلم إشعار باختلاف المنهزمين، فبعضهم غفر لهم ذنوبهم، و بعضهم حلم عنهم و أخّر عقوبتهم إلى ما بعد الموت.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 156

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان سوء عقائد المنافقين و شناعة أقوالهم-نهى المؤمنين عن موافقتهم و مماثلتهم، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في فساد العقائد، و شناعة القول كَالَّذِينَ كَفَرُوا بقلوبهم و آمنوا بألسنتهم نفاقا، كعبد اللّه بن ابيّ، و معتّب بن قشير، و أضرابهما، وَ كالّذين قالُوا - في أنفسهم، أو تذاكروا فيما بينهم تلهّفا لِإِخْوانِهِمْ النّسبيّة و الاعتقاديّة و المذهبيّة إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ و سافروا في البراري و الجبال للتّجارة و غيرها من الأغراض، فماتوا في سفرهم أَوْ كانُوا غُزًّى و خرجوا من بلدهم مقاتلين فقتلوا في المعركة-: إنّهم لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا في المدينة ما ماتُوا في السّفر وَ ما قُتِلُوا في الغزو. فإنّهم إنّما قالوا ذلك، و اعتقدوا تلك العقيدة الفاسدة لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ القول و الاعتقاد حَسْرَةً و ندامة شديدة مستقرّة فِي قُلُوبِهِمْ في الدّنيا و الآخرة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

ص: 109


1- . تفسير الرازي 9:51.

و في جعل القول الذي هو سبب للحسرة عين الحسرة مبالغة في سببيّته لها و عدم انفكاكه عنها، و في ذكر هذه الغاية للقول دلالة على عدم ترتّب فائدة و أثر عليه غيرها.

قيل: إنّ وجه كون هذا الكلام حسرة لهم في الدّنيا، زعمهم أنّ من مات أو قتل منهم إنّما مات أو قتل بسبب تقصيرهم في حفظ القتلى، و منعهم من السّفر و القتال، و من اعتقد ذلك لا شكّ أنّه تزداد حسرته و تلهّفه.

و قيل: إنّ المراد: لا تكونو مثلهم في هذا القول الصادر عن الاعتقاد الفاسد السّيّء، ليكون ذلك القول و الاعتقاد حسرة لهم خاصّة دونكم. أو المراد: لا تكونوا مثلهم، ليكون عدم مماثلتكم حسرة لهم، أمّا في الدّنيا فلأنّهم يرونكم منصورين، مستولين على الأعداء، فائزين بالأماني، حائزين للغنائم الكثيرة، و في الآخرة يرونكم مخصوصين بكرامة اللّه و نعمه، و هم بسبب تثبّطهم عن الجهاد لهذا الاعتقاد، حرموا عن جميع ذلك.

ثمّ ردّ اللّه سبحانه قولهم بقوله: وَ اَللّهُ يُحْيِي كلّ نفس، لا الإقامة في البلد و القعود عن القتال، وَ هو يُمِيتُ كلّ حيّ، لا السّفر و القتال. فإذا أراد اللّه حياة مسافر أو مقاتل يرجعان سالمين و إن تورّطا في المهالك، و إذا أراد اللّه موت مقيم أو قاعد يموتان و إن راعيا جميع أسباب السّلامة.

ثمّ بالغ سبحانه في زجر المؤمنين عن مماثلة الكفّار، و بعد نهيهم عنها بتهديدهم عليها بقوله: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من جعل أنفسكم مماثلة لهم، و موافقتكم إيّاهم في العقائد و الأقوال و الأعمال بَصِيرٌ و مطّلع، لا يخفى عليه سرّكم و علانيتكم، فيعاقبكم على سيّئاتكم بأشدّ العقوبة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 157

ثمّ رغّب سبحانه في الجهاد بوعد الثّواب بعد الزّجر عن التّقاعد، و التّهديد عليه بقوله: وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ أيّها المؤمنون في الجهاد فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه أَوْ مُتُّمْ في المسافرة في طلب مرضاته، من الهجرة إلى الرّسول، و تحصيل العلم، و غير ذلك، يكون ذلك القتل و الموت مستلزمين للمغفرة عن الذّنوب، و الرّحمة الدّائمة من الجنّة و النّعم و لَمَغْفِرَةٌ كائنة مِنَ اَللّهِ لذنوبكم و نجاتكم من عذابه وَ رَحْمَةٌ عظيمة منه تعالى خَيْرٌ لكم، و أنفع مِمّا يَجْمَعُونَ هؤلاء الكفرة، من الزّخارف الدّنيويّة التي يحسبونها من الخيرات، في مدّة أعمارهم.

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (157)

ص: 110

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: خير من طلاع الأرض (1)ذهبة حمراء (2).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 158

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد بقوله: وَ لَئِنْ مُتُّمْ في السّفر لوجه اللّه أَوْ قُتِلْتُمْ في سبيله لَإِلَى اَللّهِ العظيم الشّأن، الواسع الرّحمة، الجزيل الإحسان تُحْشَرُونَ و توفدون، و من الواضح أن الحشر إلى اللّه و الوفود عليه و نيل رضوانه، أعلى و أنبل من الحشر إلى مغفرته و رحمته.

وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ (158)قيل: في الآية إشارة إلى مراتب العبودية، ففي قوله لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ إشارة إلى من يعبده خوفا من العقاب، و في قوله: وَ رَحْمَةٌ إشارة إلى من يعبده طمعا في الثّواب، و في قوله: إلى اَللّهِ تُحْشَرُونَ إشارة [إلى]من يعيده لحبّ ذاته، و لكونه مستحقّا للعبادة.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عمّن قتل أو مات، قال: «لا، الموت موت، و القتل قتل» قيل: ما أحد يقتل إلاّ و قد مات، فقال: «قول اللّه أصدق من قولك، ففرّق بينهما في القرآن قال: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ (3)و قال: وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ، و ليس كما قلت، الموت موت، و القتل قتل» .

قيل: فإن اللّه يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ (4)؟ قال: «من قتل لم يذق الموت-ثمّ قال-: لا بدّ من أن يرجع حتّى يذوق الموت» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 159

ثمّ أنّه قيل: لمّا عاد المنهزمون لم يخاطبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّغليظ و التّشديد، و إنّما خاطبهم بكلام ليّن (6)، فمدحه اللّه تعالى بقوله: فَبِما رَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَ اَللّهِ العظيم، شاملة لك، و ربطه على قلبك، و تخصيصك بمكارم الأخلاق لِنْتَ لَهُمْ و عاملت بالرّفق معهم، و تلطّفت بهم، بعد ما كان منهم من مخالفة أمرك، و تسليمك إلى أعدائك.

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ (159)قيل: إنّ كلمة (ما) في قوله: فَبِما زائدة جيء بها للتّأكيد، و قيل: استفهاميّة في مقام التّعجّب (7)،

ص: 111


1- . طلاع الأرض: ملؤها.
2- . تفسير أبي السعود 2:104.
3- . آل عمران:3/144.
4- . آل عمران:3/185.
5- . تفسير العياشي 1:344/799 عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 1:357.
6- . تفسير الرازي 9:60.
7- . تفسير الرازي 9:61.

و المعنى: فبأيّ رحمة عظيمة من اللّه عليك ظهر منك هذا الخلق الحسن! و في إسناده إلى رحمة اللّه دلالة على أن جميع الأخلاق الحسنة بإفاضة اللّه؛ لأنّها من قبل كمال الوجود المفاض منه تعالى.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله اغتمّ لهم بعد أن خالفوه.

و روى الفخر الرازي في تفسيره: أنّ أمرأة عثمان دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو و عليّ عليه السّلام كانا يغيلان السّلاح، فقالت: ما فعل ابن عفّان؟ أما و اللّه، تجدونه (1)أمام القوم، فقال لها عليّ عليه السّلام: «ألا إنّ عثمان فضح الزّمان» . فقال صلّى اللّه عليه و آله: «مه» (2).

و في رواية: قال صلّى اللّه عليه و آله حينئذ: «أعياني أزواج الأخوات أن يتحابّوا» . ثمّ لمّا دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: «لقد ذهبتم فيها عريضة» (3).

ثمّ أشار سبحانه إلى مصلحة اللّين، و مفسدة خلافه بقوله: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا في القول و الفعل، جافيا في العشرة، كريه الخلق مع أصحابك غَلِيظَ اَلْقَلْبِ و قاسيه، غير رفيق بهم و لا رحيم لاَنْفَضُّوا و تفرّقوا مِنْ حَوْلِكَ و جوانبك، و لم يسكنوا إليك، حتّى تتمّ فائدة الرّسالة، فإنّ حكمة البعثة هي هداية الخلق، و تبليغ الشّريعة.

و من الواضح أنّه لا يتمّ إلاّ إذا مالت القلوب إلى الرّسول، و سكنت النّفوس إليه، و ذلك متوقّف على كون الرّسول عطوفا، رحيما، مداريا، رفيقا، يتجاوز عن سيّئاتهم، و يخصّهم بالبرّ و الشّفقة و المكرمة، و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله: «لا حلم أحبّ إلى اللّه من حلم إمام و رفقه، و لا جهل أبغض إلى اللّه من جهل إمام و خرقه» (2).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، و سوء الخلق» (5).

و قيل: لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما الشّؤم؟ قال: «سوء الخلق» (6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «ألا أنبّئكم بشرّ النّاس؟» قالوا: بلى، يا رسول اللّه، قال: «من نزل وحده، و منع رفده، و ضرب عبده» . ثمّ قال: «ألا أنبّئكم بشرّ من ذلك؟» قالوا: بلى. قال: «من لم يقل عثرة، و لم يقبل معذرة» (3).

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى خصّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بخلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حيث كان له من لين الجانب و الرّفق بالنّاس ما لم يكن لغيره، و اختصّ عمر بخلافه، فإنّه كان له من الغلظة و الفظاظة

ص: 112


1- . في المصدر: لا تجدونه. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:61.
2- . تفسير الرازي 9:61. (5 و 6) . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:337.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:338.

و سوء الخلق ما لم يكن لأحد.

في نقل كلام لابن

أبي الحديد في

فظاظة عمر

روى ابن أبي الحديد: عن الزّبير بن بكّار، أنّ عمر كان إذا غضب على بعض أهله، لم يسكن غضبه حتّى يعضّ يده عضّا شديدا (1)، قال: و لقوّة هذا الخلق فيه أضمر عبد اللّه بن عبّاس في خلافته إبطال القول بالعول (2)، و أظهره بعده، فقيل له: هلا قلت هذا في أيام عمر؟ فقال: هبته.

و قد ارتدّ جبلة بن الأيهم عن الإسلام لتهديد عمر له، و وعيده إيّاه أن يضربه بالدّرّة (3).

و كفى في شراسة خلق عمر و فظاظتة، ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة؛ توجيها لقدح عمر في عليّ عليه السّلام، بقوله: لكنّه امرؤ فيه دعابة (4).

من قوله: و اعلم أنّ الرّجل ذا الخلق المخصوص، لا يرى الفضيلة إلاّ في ذلك الخلق، ألا ترى أنّ الرّجل يبخل فيعتقد أنّ الفضيلة في الإمساك. و البخيل يعيب أهل السّماح و الجود، و ينسبهم إلى التّبذير، و إضاعة الحزم، و كذلك الرّجل الجواد يعيب البخلاء، و ينسبهم إلى ضيق النّفس، و سوء الظّنّ، و حبّ المال. و الجبان يعتقد أنّ الفضيلة في الجبن، و يعيب الشّجاعة، و يعتقد كونها خرقا و تغريرا بالنّفس، و الشّجاع يعيب الجبان، و ينسبه إلى الضّعف، و يعتقد أنّ الجبن ذلّ و مهانة. و هكذا القول في جميع الأخلاق و السّجايا المقسّمة بين نوع الإنسان.

و لمّا كان عمر شديد الغلظة، و عر الجانب، خشن الملمس، دائم العبوس، كان يعتقد أنّ ذاك هو الفضيلة، و أنّ خلافه نقص، و لو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة و سماحة الخلق، لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة و خلافه نقص، حتّى لو قدّرنا أنّ خلقه حاصل لعليّ عليه السّلام، و خلق عليّ عليه السّلام حاصل له، لقال في عليّ عليه السّلام: لو لا شراسة فيه.

فهو غير مطعون (5)عندي في ما قاله، و لا منسوب إلى أنّه أراد التّنقيص (6)من علي عليه السّلام و القدح فيه، و لكنّه أخبر عن خلقه ظانّا أنّ الخلافة لا تصلح إلاّ لشديد الشّكيمة، العظيم الوعورة، و بمقتضى ما كان يظنّه من هذا المعنى تمّم خلافة أبي بكر بمشاركته إيّاه في جميع تدبيراته و سياسته و سائر أحواله، لرفق و سهولة كانت في أخلاق أبي بكر.

و بمقتضى هذا الخلق المتمكّن عنده، كان يشير على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مقامات كثيرة و خطوب

ص: 113


1- . زاد في المصدر:342: حتى يدميها.
2- . العول: أن تزيد السهام في الأرث على المال الموجود.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:343، و الدّرّة: السّوط يضرب به.
4- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:326، و الدّعابة: اللّعب و الممازحة.
5- . في المصدر: غير ملوم.
6- . في المصدر: الغضّ.

متعدّدة، بقتل قوم كان يرى قتلهم، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يرى استبقاءهم و استصلاحهم، فلم يقبل عليه السّلام مشورته على هذا الخلق، كما أشار (1)عليه يوم بدر بقتل الأسرى، حيث أشار أبو بكر بالفداء، فكان الصّواب مع عمر، و نزل القرآن بموافقته، فلمّا كان في اليوم الثاني، و هو يوم الحديبية، أشار بالحرب و كره الصّلح، فنزل القرآن بضدّ ذلك، فليس كلّ وقت يصلح تجريد السّيف، و لا كلّ وقت يصلح إغماده، و السّياسة لا تجري على منهاج واحد، و لا تلزم نظاما واحدا (2).

إلى أن قال: و نحن نذكر كلاما كلّيّا في سبب الغلظة و الفظاظة، و هو الخلق المنافي للخلق الذي عليه أمير المؤمنين عليه السّلام، فنقول: إنّه قد يكون لأمر عائد إلى المزاح الجسماني، و قد يكون لأمر عائد إلى المزاح الجسماني، و قد يكون لإمر راجع إلى النّفس، فأمّا الأوّل فإنّما يكون لغلبة الأخلاط السّوداوية و ترمّدها (3)، و عدم صفاء الدّم و كثرة كدورته و عكره، فإذا غلظ الدّم و ثخن، غلظ الرّوح النّفساني و ثخن أيضا؛ لأنّه متولّد من الدّم فيحدث منه نوع ممّا يحدث لأصحاب الفطرة من الاستيحاش، و النّبوة (4)عن النّاس، و عدم الاستئناس و البشاشة، و صار صاحبه ذا جفاء، و أخلاق غليظة، و يشبّه أن يكون هذا سببا ماديّا. فإنّ الذي يقوى [في نفسي أنّ النّفوس]إن صحّت و ثبتت، مختلفة بالذّات.

و أمّا الرّاجع إلى النّفس فأن يجتمع عندها أقساط و أنصباء من قوى مختلفة مذمومة، نحو أن تكون القوّة الغضبيّة عندها متوفّرة، [و ينضاف إليها تصوّر الكمال في ذاتها و توهمّ النقصان في غيرها، فيعتقد أنّ حركات غيره واقعة على غير الصّواب و أن الصواب ما توهمه]و ينضاف إلى ذلك لجاج و ضيق [في]النفس، و حدّة و استنشاط (5)و قلّة صبر عليه، فيتولّد من مجموع هذه الأمور خلق دنيّ، و هو الغلظة، و الفظاظة، و الوعورة، و البادرة المكروهة، و حبّهم محنة (6)النّاس، و لقاؤهم بالأذى، و قلّة المراقبة لهم، و استعمال القهر في جميع الأمور، و تناول الأمر من السّماء و هو قادر على أن يتناوله من الأرض.

و هذا الخلق خارج عن الاعتدال، و داخل في حيّز الجور، و لا ينبغي أن يسمّى بأسماء المدح، و أعني بذلك أنّ قوما يسمّون هذا النّوع من العنف و الخلق الوعر رجوليّة و شدّة و شكيمة، و يذهبون به مذهب قوّة النّفس و شجاعتها، [الذي]هو بالحقيقة مدح. و شتّان ما بين الخلقين، فإنّ صاحب هذا

ص: 114


1- . في المصدر: و أما إشارته.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6:327.
3- . أي صيرورتها بلون الرّماد.
4- . النّبوة: الجفوة و الابتعاد.
5- . في المصدر: استشاطة.
6- . في المصدر: المكروهة، و عدم حبّه.

الخلق الذي ذممناه، تصدر عنه أفعال كثيرة يجور بها على نفسه، ثمّ على إخوانه، ثم الأقرب فالأقرب (1)، حتّى ينتهي إلى عبيده و حرمه، فيكون عليهم سوط عذاب، لا يقيلهم عثرة، و لا يرحم لهم عبرة، و إن كانوا برآء من الذّنوب، غير مجرمين، و لا مكتسبي سوء، بل يتجرّم عليهم و يهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتّى يبسط يده و لسانه، و هم لا يمتنعون منه، و لا يتجاسرون على ردّه عن أنفسهم، بل يذعنون له، و يقرّون بذنوب لم يقترفوها، استكفافا لعاديته، و تسكينا لغضبه، و هو في ذلك يستمرّ على طريقته، لا يكفّ يدا و لا لسانا.

و أصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنّه مركّب من قوى مختلفة شدّة: القوّة الغضبيّة، فهي الحاملة لصاحب هذا الخلق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة، و الجبه و القحة (2)، و لهذا رأينا و شاهدنا من تشتدّ القوّة الغضبيّة فيه فيتجاوز الغضب عن نوع الإنسان إلى البهائم التي لا تعقل، و إلى الأواني التي لا تحسّ، فربما قام إلى الحمار و البرذون فضربهما و لكزهما، و ربّما كسر الآنية لشدّة غضبه، و ربّما عضّ القفل إذا تعسّر عليه، و ربّما كسر القلم إذا تعلّقت به شعرة من الدّواة و اجتهد في إزالتها فلم تزل.

ثمّ حكى عن الزّبير بن بكّار بعض سيّئات عمر عند غضبه و الشّنان (3)الذي كان بينه و بين طلحة، حتّى همّ أن يوقع به، و حتّى همّ طلحة أن يجاهره، و طلحة هو الذي قال لأبي بكر عند موته: ماذا تقول لربّك و قد ولّيت فينا فظّا غليظا؟ و هو القائل له: يا خليفة رسول اللّه، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته و أنت حيّ تأخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه و أنت ميّت و هو الخليفة؟

ثمّ قال ابن أبي الحديد: و اعلم أنّا لا نريد بهذا القول ذمّه رضى اللّه عنه، و كيف نذمّه و هو أولى النّاس بالمدح و التّعظيم، ليمن نقيبته، و بركة خلافته، و كثرة الفتوح في أيّامه، و انتظام امور الإسلام على يده، و لكنّا أردنا أن نشرح حال العنف و الرّفق، و حال سعة الخلق و ضيقه، و حال البشاشة و العبوس، و حال الطّلاقة و الوعورة (4).

في نقل كلام ابن أبي

الحديد في حسن

خلق أمير

المؤمنين عليه السّلام

و حلمه

إلى أن قال: في حلم أمير المؤمنين عليه السّلام و صفحه ولينه، حلمه و صفحه عن مروان بن الحكم بعد وقعة الجمل، و ظفره عليه؛ مع أنّه من أشدّ النّاس عداوة له، و صفحه عن عائشة و إرجاعها إلى المدينة محترمة مكرّمة، و معاملته مع أهل البصرة معاملة رسول

ص: 115


1- . في المصدر: على الأقرب فالأقرب من معامليه.
2- . الجبه: المقابلة بما يكره الآخر، و القحة: هي قلّة الحياء و الاجتراء على فعل المساوئ.
3- . في المصدر: الشأن.
4- . شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6:340-344.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع أهل مكّة بعد الفتح، مع أنّهم حاربوه و ضربوا وجهه و وجه أولاده بالسّيف، و واجهوه بالشّتم و اللّعن (1).

و قال أيضا في مقدّمة شرحه: إنّه عليه السّلام كان أحلم النّاس. ثمّ استشهد بحلمه عن هؤلاء و غيرهم من أعدائه، مع قدرته على الانتقام. إلى أن قال: و أمّا سجاحة الأخلاق (2)، و بشر الوجه، فإنّه عليه السّلام المضروب به المثل، حتّى عابه بذلك أعداؤه. . . (3)إلى آخره.

و إنّما بسطنا الكلام و خرجنا عمّا هو المقصود من وضع الكتاب في المقام؛ لأن يشهد الورق عند اللّه على ولايتي لأوليائه، و براءتي من أعدائه يوم القيامة.

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح نبيّه باللّين و الرّفق، رتّب عليه الأمر بلوازمه اهتماما به، بقوله: فَاعْفُ و تجاوز عَنْهُمْ في ما يتعلّق بحقوقك، كما عفا اللّه عنهم في ما تعلّق بحقوقه من الذّنب وَ اِسْتَغْفِرْ اللّه لَهُمْ في جميع معاصيهم، إتماما للشّفقة عليهم، و إكمالا للبرّ بهم وَ شاوِرْهُمْ و استطلع آراءهم فِي اَلْأَمْرِ المهمّ عندك، حربا كان أو غيره، لتطييب قلوبهم، و الإحاطة بمراتب عقولهم و خلوصهم و حبّهم، و تعليمهم المشورة في الأمور، و إجراء تلك السّنّة في الامّة.

روى الفخر الرازي: عن الواحدي، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: الذي أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمشاورته في هذه الآية أبو بكر و عمر (4).

ثمّ قال: و عندي فيه إشكال؛ لأنّ الّذين أمر اللّه نبيّه بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره بأن يعفو عنهم و يستغفر لهم، و هم المنهزمون. فهب أنّ عمر كان منهم فدخل تحت الآية، إلاّ أنّ أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟ (5).

في استفادة قدح

الشيخين من رواية

ابن عبّاس

أقول: و بعد أنّه نفسه روى أنّ عمر كان من المنهزمين (4)، و اتّفاق أكثر أصحابه عليه، لم يكن مجال لقوله: (هب أنّه كان منهم) لدلالة هذا الكلام على عدم التّسليم. ثمّ بعد تسليمه دلالة رواية ابن عبّاس بالالتزام على أن أبا بكر كان من المنهزمين، لا وجه لإنكاره، و جعله وجها للأشكال في الرّواية، مع أنّ ابن عبّاس كان أتقن من غيره، و تأيّدها بالاعتبار، لوضوح عدم كون أبي بكر أقوى إيمانا و أربط جأشا من عمر، و لدلالة الإخاء الذي جعله الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بينهما على أنّهما فرسا رهان.

ص: 116


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1:22-23.
2- . سجاحة الأخلاق: ليونتها و سهولتها.
3- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1:25. (4 و 5) . تفسير الرازي 9:67.
4- . تفسير الرازي 9:50.

ثمّ أنّ الرّواية دالّة على قدح عظيم فيهما، حيث إنّها-لدلالتها على تخصيص المشورة بهما، مع وضوح أنّ مشورة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت لتطييب القلوب-دالّة على أنّ حفظ الإسلام كان موقوفا على تطييب قلوبهما، و حفظ خاطرهما أزيد من تطييب قلوب المنهزمين؛ لأنّه لا يؤمن مع ملالة خاطرهما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من إخلالهما في أمره، و إفسادهما في دينه، فافهم.

و عن العيّاشي رحمه اللّه: كتب الجواد عليه السّلام إلى عليّ بن مهزيار «أن سل فلانا أن يشير عليّ و يتخيّر لنفسه، فهو يعلم ما يجوز في بلده، و كيف يعامل السّلاطين، فإنّ المشورة مباركة، قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله في محكم كتابه-و تلا هذه الآية و قال-: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ يعني: الاستخارة» (1).

في (نهج البلاغة) : «من استبدّ برأيه هلك، و من شاور الرّجال شاركها في عقولها» (2).

و فيه: «الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استغنى برأيه» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «و شاور في أمرك الّذين يخشون اللّه» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على وجوب التّوكّل على اللّه في إنجاح المقصود بعد المشاورة؛ بقوله: فَإِذا عَزَمْتَ و أحكمت الرّأي بعد المشاورة على عمل، و اطمأنّت به نفسك، فلا تعتمد عليه، بل إذا أردت إنفاذه فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و اعتمد عليه فيه، حتّى يرشدك إلى ما هو أصلح و أرشد لك، حيث إنّه لا يعلم ما هو الأصلح من جميع الجهات في الواقع إلاّ اللّه، لا أنت و لا من تشاوره.

في معنى التوكل

ثمّ بيّن سبحانه فضيلة التّوكّل ترغيبا إليه بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ في امورهم عليه، حيث إنّ التّوكّل على اللّه، و تفويض الأمور إليه، لا يكون إلاّ بعد معرفته، و معرفته ملازمة لمحبّته، و من أحبّ اللّه أحبّه اللّه، و من أحبّه اللّه نصره و هداه إلى كلّ خير و صلاح.

قيل: إنّ الآية دالّة على أنّ التّوكّل ليس معناه أن يهمل الإنسان نفسه، و لا يراعي الأسباب الظّاهرة، كما توهّمه كثير من الجهّال، و إلاّ لكان أمره تعالى بالمشاورة منافيا لأمره بالتّوكّل، بل معناه أن يراعي الإنسان جميع الأسباب و المعدّات الظاهريّة، و لكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعوّل على لطف اللّه و عصمته.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 160

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (160)

ص: 117


1- . تفسير العياشي 1:348/804، تفسير الصافي 1:364.
2- . نهج البلاغة:500/161، تفسير الصافي 1:364.
3- . نهج البلاغة:506/211، تفسير الصافي 1:364.
4- . الخصال:169/222، تفسير الصافي 1:364.

ثمّ بالغ سبحانه في حثّ المؤمنين على التّوكّل، بتوجيه الخطاب إليهم تشريفا لهم و تحبيبا، بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ أيّها المؤمنون على أعدائكم، كما نصركم يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ من الموجودات، و لا قاهر عليكم من الممكنات، بل أنتم الغالبون القاهرون وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ اللّه، و يترك نصركم، و يخلّي بينكم و بين الأعداء، كما خذلكم يوم احد فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ على الأعداء، و يقدر على عونكم في الأمور مِنْ بَعْدِهِ و عند خذلانه.

ثمّ بعد التّنبيه على أنّ جميع الأمور من النّصر، و الخذلان، و غيرهما، بإرادة اللّه و قضائه، أكّد وجوب التوكل على عباده، بقوله: وَ عَلَى اَللّهِ وحده دون غيره

استقلالا و تشريكا فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ كلّهم في كلّ الأمور، و ليعتمد على لطفه العارفون، لاستلزام العرفان و الإيمان به، سلب القدرة عن النّفس، و تفويض الأمور إليه، و الاعتماد بلطفه و فضله.

في فضيلة التوكل

عن عمران بن حصين، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يدخل سبعون ألفا من أمّتي الجنّة بغير حساب» . قيل: يا رسول اللّه، من هم؟ قال: «هم الّذين لا يكيدون، و لا يسترقون، و لا يتطيّرون، و على ربّهم يتوكّلون» .

فقال عكاشة بن محصن: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم. قال صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منهم» ، ثمّ قام آخر، فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال: «سبقك بها عكاشة» .

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «لو أنّكم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله، يرزقكم كما يرزق الطّير، تغدو خماصا، و تروح بطانا» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 161

ثمّ أنّه روي أنّ الرّماة الّذين تركوا المركز يوم احد، و أفاضوا في طلب الغنيمة، قالوا: نخشى أن يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أخذ شيئا فهو له، و لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّمها يوم بدر، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتّى يأتيكم أمري؟» . فقالوا: تركنا بقيّة إخواننا وقوفا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل ظننتم أنّا نغلّ (2)و لا نقسّم بينكم» (3).

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)فنزّه اللّه تعالى نبيّه عن الغلول و الخيانة بقوله: وَ ما كانَ يصحّ و ينبغي لِنَبِيٍّ و لا يستقيم له، مع

ص: 118


1- . تفسير روح البيان 2:117.
2- . الغلّ: الخيانة.
3- . تفسير روح البيان 2:118.

كونه أمين اللّه في أرضه أَنْ يَغُلَّ المسلمين، و يخونهم في الغنيمة، لغاية التّنافي بين ذلك المنصب، الذي هو أعلى درجة كمال الإنسانيّة، و بين الخيانة التي هي سبب للعار في الدّنيا، و النّار في الآخرة.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعث طلائع، فغنم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعدهم، فقسّمها بين الحاضرين، و لم يترك للطلائع شيئا، فنزلت (1).

و المعنى: ما كان لنبيّ أن يعطي قوما من العسكر الغنيمة، و يمنعها من الآخرين، بل عليه أن يقسّمها بين الكلّ بالسّويّة. و إنّما عبّر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول للتّغليظ في النّهي.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ أشراف النّاس طمعوا أن يخصّهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الغنائم بشيء زائد، فنزلت (2).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله غنم في بعض الغزوات و جمع الغنائم، و تأخّرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم فقالوا: ألا تقسّم غنائمنا؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لو كان لكم مثل احد ذهبا ما حبست عنكم درهما، أتحسبون أنّي أغللكم مغنمكم!» فأنزل اللّه هذه الآية (3).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في حرب بدر، و كان سبب نزولها أنّه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت، فقال رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما لنا لا نرى القطيفة؟ ما أظنّ إلاّ رسول اللّه أخذها! فأنزل اللّه في ذلك هذه الآية، فجاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ فلانا غلّ قطيفة، فاحفرها (2)هنالك، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحفر ذلك الموضع، فأخرج القطيفة (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رضا النّاس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، . . . ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنّه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتّى أظهر اللّه القطيفة، و برّأ نبيّه من الخيانة، و أنزل في كتابه: وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الآية (4). و عن عكرمة ما يقرب منه (5).

و روي أنّها نزلت في أداء الوحي، [حيث]كان صلّى اللّه عليه و آله يقرأ القرآن، و فيه عيب دينهم، و سبّ آلهتهم، فسألوه أن يترك ذلك، فنزلت (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد تنزيه الأنبياء عن الغلول بيّن شدّة قبحه و حرمته تأكيدا لنزاهتهم عنه، بقوله: وَ مَنْ يَغْلُلْ و يخون في مال في الدّنيا يَأْتِ بِما غَلَّ و خان فيه بعينه، حاملا [له]على ظهره يَوْمَ

ص: 119


1- . تفسير روح البيان 2:118. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:70.
2- . في المصدر: فاخبأها.
3- . تفسير القمي 1:126، تفسير الصافي 1:365.
4- . أما لي الصدوق:164/163، تفسير الصافي 1:365.
5- . تفسير الرازي 9:70.
6- . تفسير الرازي 9:70.

اَلْقِيامَةِ .

في حرمة الخيانة

و شدة عذابها

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، أنّه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنّم، ثمّ يقال له: أنزل إليه فخذه، فينزل إليه، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فلا يقبل منه (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ألا لأعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء، و ببقرة لها خوار، و بشاة لها ثغاء، فينادي: يا محمّد، يا محمّد! فأقول: لا أملك لك من اللّه شيئا، فقد بلّغتك» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من بعثناه على عمل فغلّ شيئا، جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» (3).

قيل لأبي هريرة: كيف يأتي بما غلّ و هو كثير كبير، بأن غلّ أموالا جمّة؟ فقال: أ رأيت من كان ضرسه مثل احد، و فخذه مثل جبل (4)، و ساقه مثل ودقان (5)، و مجلسه ما بين المدينة و ريدان (6)، يحمل مثل هذا؟ و قيل: إنّ المراد: يأت بما احتمل من إثمه (7).

ثُمَّ تُوَفّى و تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس ما كَسَبَتْ و حصلت في مدّة عمرها من جزاء عملها، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا، لا بزيادة العذاب، و لا بتنقيص الثّواب.

قيل: كان المناسب أن يقال: ثمّ يوفّى الغالّ ما كسب (8)، و إنّما عدل عنه إلى حكم عموم النّاس ليكون كالبرهان على المقصود، و المبالغة فيه، فإنّه إذا كان كلّ كاسب مجزيّا بعمله، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك (9).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعل سلمان رضوان اللّه عليه على الغنيمة، فجاءه رجل و قال: يا سلمان، كان في ثوبي خرق، فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به، فهل عليّ جناح؟ فقال سلمان: كلّ شيء بقدره، فسلّ الرّجل الخيط من ثوبه، ثمّ ألقاه في المتاع (10).

و روي أنّ رجلا جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشراك (11)أو شراكين من الغنم، فقال: أصبت هذا يوم خيبر، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «شراك أو شراكان من نار» (12).

و روي أنّ رجلا رمي بسهم في خيبر، فقال القوم لمّا مات: هنيئا له الشّهادة، فقال [النبيّ صلّى اللّه عليه و آله]: «كلاّ.

ص: 120


1- . تفسير الرازي 9:73.
2- . تفسير الرازي 9:73، تفسير روح البيان 2:118.
3- . تفسير الرازي 9:69، تفسير روح البيان 2:118.
4- . جبل: منطقة يراد بها العراق.
5- . ودقان: اسم موضع.
6- . ريدان: حصن باليمن.
7- . تفسير روح البيان 2:118.
8- . في النسخة: توفّى الغال ما كسبت.
9- . تفسير روح البيان 2:118.
10- . تفسير الرازي 9:70.
11- . الشّراك: سير النّعل على ظهر القدم.
12- . تفسير الرازي 9:70.

و الذي نفس محمّد بيده، إنّ الشّملة (1)التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلهب (2)عليه نارا» (3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «هدايا الولاة غلول» (4).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 162

ثمّ أكدّ سبحانه تنزّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الخيانة ببيان التّنافي بين مرتبة النّبوة المستلزمة للتّمحّض في طاعة اللّه و طلب مرضاته، و بين ارتكاب الظّلم الذي هو أشدّ القبائح و أكبر المعاصي، بقوله: أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ و سعى في العمل بطاعته، من الإيمان به و باليوم الآخر، و امتثال أحكامه التي منها حرمة الغلول.

أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (162)و قيل: إنّ المعنى: أمن اتّقى فاتّبع رضوان اللّه يمكن أن يكون كَمَنْ باءَ و رجع إلى محضر عدله ملتبسا بِسَخَطٍ عظيم، و غضب شديد، و مستحقا للعذاب الأليم الكائن مِنَ اَللّهِ العظيم بسوء أعماله، و عظم معاصيه؟

عن الصادق عليه السّلام: «الذين اتّبعوا رضوان اللّه هم الأئمّة عليهم السّلام» (5).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و الّذين باءوا بسخط من اللّه هم الّذين جحدوا حقّ عليّ عليه السّلام، و حقّ الأئمّة منّا أهل البيت، فباءوا لذلك بسخط اللّه» (6).

وَ كان مَأْواهُ و مستقرّه في الآخرة جَهَنَّمُ و الدّرك (5)من النّار، وَ هي بِئْسَ اَلْمَصِيرُ قيل: الفرق بين المصير و المرجع: أنّ المصير يجب أن يخالف المقرّ الأوّل، و ليس كذلك المرجع.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 163

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان المباينة بين المطيع و العاصي-نبّه على أنّ النّفوس الإنسانية مختلفة بالماهيّة و الحقيقة، كما عليه جمع من الحكماء، و دلّت عليه روايات الطّينة (6)، و حديث: «النّاس كمعادن الذّهب و الفضّة» (7)بعضها نورانية، و بعضها ظلمانيّة، و بعضها زكيّة، و بعضها بليدة.

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)و لمّا كان اختلافها في درجات القرب و البعد دائرا مدار هذا الاختلاف، عبّر عنه بنفس الدّرجات

ص: 121


1- . الشّملة: ثوب أو كساء من صوف أو شعر، يتغطّى به أو يتلفّف به.
2- . في تفسير الرازي: لتلتهب.
3- . تفسير الرازي 9:70.
4- . تفسير الرازي 9:69. (5 و 6) . تفسير العياشي 1:349/806، تفسير الصافي 1:366.
5- . الدّرك: أسفل كل شيء.
6- . انظر الكافي 2:2 باب 1.
7- . بحار الأنوار 61:65/51.

بقوله: هُمْ بسبب اختلاف أحوالهم و تباين أخلاقهم دَرَجاتٌ و طبقات متفاوتة عِنْدَ اَللّهِ و في علمه و حكمه، فكما أنّ أهل الجنّة مختلفون في الدّرجات، كذلك أهل النّار مختلفون في الدّركات.

عن الرضا عليه السّلام: «الدّرجة ما بين السّماء و الأرض» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأئمّة و اللّه، درجات للمؤمنين، و بموالاتهم و معرفتهم إيّانا يضاعف اللّه لهم أعمالهم، و يرفع لهم الدّرجات العلى» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «[أن]أهون أهل النّار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرّهما دماغه، ينادي: يا ربّ، و هل أحد يعذّب عذابي؟» (3).

قيل: في الآية حذف، و التّقدير: لهم درجات، أو: هم ذوو درجات.

ثمّ لمّا كان توفية جزاء الأعمال، و عطاء الدّرجات بها، متوقّفة على العلم بها، بيّن سعة علمه بقوله: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ و محيط علما بِما يَعْمَلُونَ من الحسنات و السّيّئات، بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 164

ثمّ بالغ سبحانه في الزّجر عن نسبة الغلول و كلّ ما لا يليق بساحة نبيّه إليّه، و وجوب حفظ حرمته، و الالتزام بطاعته، و معرفة قدره، ببيان كونه صلّى اللّه عليه و آله من أعظم نعم اللّه على أهل العالم، بقوله: لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ و تفضّل بنعمة عظيمة عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ من غير توقّع عوض. و تخصيصهم بالامتنان لزيادة انتفاعهم بها، و إن كانت نعمة على المؤمن و الكافر، بل نعمة على العالمين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ و أرسل إليهم رَسُولاً عظيم الشّأن.

لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

في فوائد كون

الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من

العرب

و من كمال تلك النّعمة أنّ ذلك الرّسول كان مِنْ أَنْفُسِهِمْ و من جنسهم ليأنسوا به، و من أهل لسانهم ليفهموا لسانه، و من قبيلتهم ليكونوا واقفين على أخلاقه و كمالاته، و يفتخروا على العالم بالانتساب إليه، أو كونهم قومه، حيث إنّه حصل للعرب بكونه صلّى اللّه عليه و آله عربيّا شرف عظيم بعد كونهم قبل بعثته من أذلّ النّاس و أبعدهم من شؤون الإنسانيّة.

ص: 122


1- . تفسير العياشي 1:350/807، تفسير الصافي 1:366.
2- . تفسير العياشي 1:349/806، تفسير الصافي 1:366.
3- . تفسير الرازي 9:76.

قيل: إنّ من فوائد كونه صلّى اللّه عليه و آله من أنفسهم وجوه:

الأوّل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله ولد فيهم و في بلدهم، و نشأ فيما بينهم، و هم كانوا عارفين بأحواله، مطّلعين على جميع أقواله و أفعاله، فما شاهدوا منه من أوّل عمره إلى آخره إلاّ الصّدق و العفاف، و عدم الالتفات إلى الدّنيا، و البعد عن الأخلاق الرّذيلة و الكذب. ثمّ ادّعى النّبوّة و الرّسالة، التي يكون الكذب في مثل هذه الدّعوى من أقبح أنواع الكذب، فمن عرفه بهذه الكمالات يغلب على ظنّه، بل يتيقّن أنّه صادق في هذه الدّعوى.

الثاني: أنّهم كانوا عالمين بأنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتلمذ لأحد، و لم يقرأ كتابا، و لم يمارس درسا و لا تكرارا، و أنّه إلى تمام الأربعين لم ينطق قطّ بحديث النّبوّة و الرّسالة. ثمّ أنّه بعد الأربعين ادّعى الرّسالة، و ظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على لسان أحد من العالمين، و ذكر قصص المتقدّمين و أحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم، فكلّ من له عقل سليم علم أنّ هذا لا يتأتّى إلا بالوحي السّماوي، و الإلهام الإلهي.

الثالث: أنّه بعد ادّعاء النّبوّة، عرضوا عليه الأموال الكثيرة و الأزواج ليترك هذه الدّعوى، فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر و صبر على المشقّة، و لمّا علا أمره، و عظم شأنه، و أخذ البلاد، و عظمت الغنائم، لم يغيّر طريقه في البعد عن الدّنيا، و الدّعوة إلى اللّه. و الكاذب إنّما يقدم على الكذب ليجد الدّنيا، فإذا وجدها تمتّع بها، و توسّع فيها، فلمّا لم يفعل شيئا من ذلك علم أنّه كان صادقا.

الرابع: أنّ الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلاّ تقرير التّوحيد، و التّنزيه، و العدل، و النّبوّة، و إثبات المعاد، و شرح العبادات، و تقرير الطّاعات. و معلوم أنّ كمال الإنسان في أن يعرف الحقّ لذاته، و الخير لأجل أن يعمل به، و لمّا كان كتابه ليس إلاّ في تقرير هذين الأمرين، علم كلّ عاقل أنّه صادق في ما يقوله.

الخامس: أنّ قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان، و هو عبادة الاوثان، و أخلاقهم أرذل الأخلاق، و هي الغارة، و النّهب، و القتل، و أكل الأطعمة الرّديئة. ثمّ لمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله نقلهم اللّه ببركة مقدمه (1)، من تلك الدّرجة التي هي أخسّ الدّرجات، إلى أن صاروا أفضل الامم في العلم و الزّهد و العبادة، و عدم الالتفات إلى الدّنيا و طيّباتها. و لا شكّ أنّ فيه أعظم النّعمة و المنّة.

إذا عرفت هذه الوجوه، فنقول: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ولد فيهم، و نشأ فيما بينهم، و كانوا مشاهدين لهذه

ص: 123


1- . في النسخة: بلغهم اللّه بتركه مقدمة.

الأحوال، مطّلعين على هذه الدّلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة الأحوال أسهل ممّا إذا لم يشاهدوها، و لم يطّلعوا عليها (1).

و روي عن أبي طالب رضوان اللّه عليه أنّه قال في خطبته، عند تزويج خديجة: ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه، من لا يوزن به فتى من قريش إلاّ رجح به، و هو و اللّه له نبأ (2)عظيم (3).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أعظم فوائد بعثته من تكميل قوّتي العلميّة و العمليّة فيهم، بقوله: يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْهِمْ أوّلا، لإثبات صدق دعوته، و كونه مبعوثا من جانب اللّه آياتِهِ القرآنيّة المشتملة على علوم كثيرة، مع إعجاز البيان الدّالّ على كونها ممّا أوحي إليه بعدما كانوا جهّالا لم يسمعوا الوحي، وَ بعد ذلك يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من أدناس العقائد الفاسدة، و الأهواء الزّائغة، و الأرجاس الجاهليّة، و أنجاس الأخلاق الرّذيلة، و الأعمال السّيّئة وَ يُعَلِّمُهُمُ بعد التّلاوة ذلك اَلْكِتابَ المنزل، و يبيّن لهم حقائقه و تأويلاته، و يوضّح متشابهاته، وَ يدرّسهم اَلْحِكْمَةَ و السّنن الإلهيّة.

ثمّ بالغ سبحانه في إيضاح كمال النّعمة بقوله: وَ إِنْ كانُوا كلّهم مِنْ قَبْلُ بعثته، و في الأزمنة المتطاولة السّابقة على طلوع شمس نبوّته، و إشراق نور هدايته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و تيه الجهالة متحيّرين، يرعون كالبهائم في مرعى الشّهوات، و يتردّدون عمي العيون في الظّلمات.

في نقل رؤيا

عبد المطلب

روى العامّة من طرقهم: أنّ عبد المطّلب جدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بينا هو نائم في الحجر انتبه مذعورا، قال العبّاس: فتبعته، و أنا يومئذ غلام أعقل ما يقال، فأتى كهنة (4)قريش فقال: رأيت كأنّ سلسلة من فضّة خرجت من ظهري، و لها أربعة أطراف: طرف قد بلغ مشارق الأرض، و طرف قد بلغ مغاربها، و طرف قد بلغ عنان السّماء، و طرف قد جاوز الثّرى، فبينا أنا أنظر عادت شجرة خضراء لها نور، فبينا أنا كذلك إذ قام عليّ شيخان فقلت لأحدهما: من أنت؟ قال: أنا نوح نبيّ ربّ العالمين، و قلت للآخر: من أنت؟ قال: إبراهيم خليل ربّ العالمين، ثمّ انتبهت.

قالوا: إن صدقت رؤياك، ليخرجنّ من ظهرك من (5)يؤمن به أهل السّماوات و أهل الأرض، و دلّت السّلسلة على كثرة أتباعه و أنصاره و قوّتهم، لتداخل حلق السّلسلة، و رجوعها شجرة تدلّ على ثبات أمره و علوّ ذكره، و سيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح، و ستظهر به ملّة إبراهيم عليه السّلام (6).

أقول: هذه الرّواية و الرّواية السّابقة دالّتان على إيمان عبد المطّلب، و أبي طالب عليهما السّلام به صلّى اللّه عليه و آله قبل

ص: 124


1- . تفسير الرازي 9:79 و 80.
2- . في النسخة: بناء، و في روح البيان: و اللّه له بعد هذا نبأ.
3- . تفسير روح البيان 2:120.
4- . الكهنة: جمع كاهن، و هو المنجّم عند العرب.
5- . في تفسير روح البيان: نبيّ.
6- . تفسير روح البيان 2:121.

بعثته.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 165

ثمّ أنّه تعالى-بعد ما نزّه نبيّه عن الغلول، و بيّن امتناع صدور ذلك الفعل الشّنيع ممّن له منصب النّبوّة-أشار سبحانه إلى الشّبهة التي ألقاها المنافقون بين الضّعفاء من المؤمنين، و وبّخهم عليها أوّلا بقوله: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ، قالوا: الاستفهام للتّوبيخ، و المعنى: أحين أصابتكم من المشركين في احد مُصِيبَةٌ و بليّة؛ من القتل و الجرح، مع أنّكم قَدْ أَصَبْتُمْ في يوم بدر منهم مِثْلَيْها و أوردتم عليهم من القتل و الجرح و الأسر ضعف ما ورد عليكم، جزعتم؟ و قُلْتُمْ إنكارا للنّبوّة، أو أستبعادا لما وقع أَنّى هذا البلاء؟ و من أين هذه الغلبة للمشركين؟ و لأيّ وجه صاروا منصورين؛ مع شركهم و كفرهم؟ و نحن ننصر رسول اللّه. و قال المنافقون: لو كان محمّد نبيّا لما اصيب المؤمنون، و لما انهزم عسكره من الكفّار.

أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة و أربعين رجلا؛ قتلوا سبعين رجلا، و أسروا سبعين، فلمّا كان يوم احد أصيب من المسلمين سبعون رجلا، فاغتمّوا لذلك» (1).

ثمّ أمر اللّه نبيّه بأن يبيّن لهم سبب الإصابة، ردّا على المنافقين، و تنبيها للمؤمنين، بقوله: قُلْ لهم: لا تشكّوا في نبوّتي لأجل ما أصابكم، إذ هُوَ كائن مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ و نازل عليكم بسوء فعالكم و عصيانكم.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «هو باختياركم الفداء يوم بدر» (2).

عن القمّي رحمه اللّه: كان الحكم في الأسارى يوم بدر القتل، فقامت الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه، هبهم لنا و لا تقتلهم حتّى نفاديهم، فنزل جبرئيل عليه السّلام فقال: إنّ اللّه قد أباح لهم الفداء بأن يأخذوا من هؤلاء القوم و يطلقوهم، على أن يستشهد منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء، فأخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الشّرط، فقالوا: قد رضينا به، نأخذ العام الفداء من هؤلاء و نتقوّى به، و يقتل منّا في عام قابل بعدد من نأخذ منه الفداء، و ندخل الجنّة.

فأخذوا منهم الفداء و أطلقوهم، فلمّا كان يوم احد قتل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعون، فقالوا:

ص: 125


1- . تفسير العياشي 1:350/808، تفسير الصافي 1:366.
2- . مجمع البيان 2:877، تفسير الصافي 1:367.

يا رسول اللّه، ما هذا الذي أصابنا، و قد كنت تعدنا النّصر؟ فأنزل اللّه: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ إلى قوله: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي بما شرطتم يوم بدر (1).

و روى الفخر الرازي في تفسيره، عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب منه (2).

ثمّ أنّه تعالى لزيادة الرّوعة في قلوب المؤمنين، و ارتداعهم عن المعصية، نبّههم بقدرته الكاملة، بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من العقوبة بالقتل و المصائب، و النّصر و الخذلان قَدِيرٌ لا يمنعه شيء عن إنفاذ إرادته، و لا يحتاج إلى شيء في إجراء مشيئته.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 166 الی 167

ثمّ أشار سبحانه إلى عدم انحصار سبب المصيبة في ما ذكر بقوله: وَ ما أَصابَكُمْ من المصائب يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ و حين تلاقى العسكران؛ عسكر المسلمين، و عسكر المشركين عند جبل احد فَبِإِذْنِ اَللّهِ و تقديره و إرادته التي هي عين العلم بحكم كثيرة وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ و يظهر إيمانهم

وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا مع الرّسول أصحابه، و يظهر كفرهم، و هم عبد اللّه بن ابيّ، و معتّب بن قشير و أصحابهما، حيث خذلوا المسلمين، و انصرفوا يوم احد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وَ عند ذلك قِيلَ لَهُمْ و القائل عبد اللّه بن حزام، أبو جابر، قال: يا قوم، اذكروا اللّه أن تخذلوا نبيّكم و قومكم تَعالَوْا و ارجعوا إلى الجهاد و قاتِلُوا المشركين فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه إن كنتم تحبّون اللّه و رسوله أَوِ اِدْفَعُوا عنّا الأعداء بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا، فإنّ كثرة السّواد ممّا يروّع العدوّ، و يزيد في الهيبة و العظمة في نظرهم.

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اَللّهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوِ اِدْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)و قيل: إنّ المراد: ادفعوا العدوّ عن بلدكم و أهلكم و حريمكم، و قاتلوا دونهم إن لم تقاتلوا في سبيل اللّه. و على أي تقدير، فلمّا رأوا إلحاح عبد اللّه بن حزام و إصراره في منعهم عن الانصراف قالُوا في جوابه دغلا و استهزاء بالرّسول و المؤمنين: لَوْ نَعْلَمُ ما يصحّ أن يسمّى قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ و ساعدناكم عليه، إلاّ أنّه ليس بقتال، لعدم كونه عن تدبير و رأي متين، بل هو إلقاء النّفس في التّهلكة. و إنّما قالوا ذلك لأنّ عبد اللّه بن ابيّ كان يرى الإقامة في المدينة، و لم يستصوب الخروج إلى احد.

ص: 126


1- . تفسير القمي 1:126، تفسير الصافي 1:367.
2- . تفسير الرازي 9:82.

ثمّ كشف اللّه سريرتهم بقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ لكونه راسخا في قلوبهم، يَوْمَئِذٍ و حين انصرافهم، و قولهم ما قالوا أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لكونه لعقة على ألسنتهم و قيل: المراد أنّ هؤلاء المنافقين لأهل الكفر أقرب نصرة يوم احد منهم لأهل الإيمان؛ لأنّهم بالانعزال عن عسكر المسلمين أعانوا المشركين عليهم.

و فيه نصّ من اللّه تعالى على كفرهم في الباطن، و إن كانوا بالإقرار بالشّهادتين في الظّاهر بحكم المسلمين.

ثمّ بالغ سبحانه في تثبيت نفاقهم بقوله: يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون، و يتكلّمون نفاقا بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم ما لَيْسَ معناه و حقيقته، من الإيمان باللّه و الرّسول، أو اتّباعكم في القتال، داخلا و ثابتا فِي قُلُوبِهِمْ بل ما يظهرونه من الإيمان و الموافقة مباين لما يضمرونه من الكفر و المخالفة وَ اَللّهُ أَعْلَمُ منكم، بل من أنفسهم بِما يَكْتُمُونَ عنكم، و ما يسترون في ضمائرهم، من الكفر باللّه و الرّسول، و من بغضكم و مخالفتكم.

عن الصادق عليه السّلام في حديث يذكر فيه حال ضعفاء الإيمان: «و من ضعف يقينه أنّه يتعلّق بالأسباب، و يرخص نفسه بذلك، و يتّبع العادات و أقاويل النّاس بغير حقيقة، و يسعى في امور الدّنيا و جمعها و إمساكها، يقرّ باللّسان أنّه لا مانع و لا معطي إلاّ اللّه، و أنّ العبد لا يصيب إلاّ ما رزق و قسم له، و الجهد لا يزيد في الرّزق، و ينكر ذلك بفعله و قلبه، قال اللّه تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (1).

أقول: فيه دلالة على أنّ إظهار كلّ مرتبة من الإيمان يكون خلاف ما في مكنون القلب، نفاق، و مشمول للآية الكريمة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 168

ثمّ بالغ سبحانه في تفضيح المنافقين، بإفشاء ما كانوا أسرّوه من قول سيء آخر، بقوله: اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ و الموافقين معهم في النّفاق، و عداوة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ هم بأنفسهم قَعَدُوا عن الجهاد، و تخلّفوا عنه: إنّ الجماعة الّذين قاتلوا في احد و قتلوا لَوْ أَطاعُونا و اتّبعوا رأينا في الإقامة في المدينة، و قعدوا عن القتال، كما قعدنا ما قُتِلُوا كما لم نقتل.

اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

ص: 127


1- . مصباح الشريعة:178، تفسير الصافي 1:367.

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم، بقوله: قُلْ يا محمّد؛ تبكيتا لهم، و إثباتا لفساد ظنّهم، و إظهارا لكذبهم: فَادْرَؤُا و ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ بالحيل و التّدابير اَلْمَوْتَ الذي تكرهونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ما ينبئ عنه قولكم، من أنّ الحذر يدفع القتل عمّن كتب عليه، و يطيل الأجل المحتوم، فإذا التزمتم بأنّ الموت ممّا لا يمكن دفعه بالحذر و التّدبير، لكونه بقضاء اللّه و إرادته، فكذلك القتل و خصوصيّاته، من زمانه و مكانه، يكون بقضاء اللّه، لا ينفع الحذر منه في دفعه، و لا يفيد الفرار في تأخيره. فكلّ من قتل كان قتله بسبب كونه مكتوبا عليه، لا بسبب عدم حذره، و كلّ من لم يقتل لم يكن القتل مكتوبا عليه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 169

ثمّ لمّا كان تحرّز المنافقين عن الشّهادة مبنيّا على حسبان أنّ القتل موت، و انقطاع حياة، و حرمان من النّعم و اللّذائذ، ردّهم اللّه سبحانه بقوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نالوا الشّهادة في طريق مرضاته و طاعته، من الجهاد و غيره، كشهداء احد، و لا تظنّهم أَمْواتاً منقطعين عن الحياة، محرومين عن النّعم بَلْ هم أَحْياءٌ بالحياة الأبديّة، مقرّبون عِنْدَ رَبِّهِمْ مستغرقون في رحمة مليكهم يُرْزَقُونَ من ثمار الجنّة، و يتنعّمون بالنّعم الدّائمة، و يتلذّذون بما.

وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين.

فلو فرض أنّ التّدبير يكون مفيدا في دفع القتل، إلاّ أنّ القتل في سبيل اللّه ممّا يجب على العاقل السّعي في تحصيله، و المسارعة إليه، لكثرة فوائده.

و إنّما وجه الخطاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ مع أنّ المقصود أمّته، و نهاه عن الحسبان مع أنّه منزّه عنه، لشرافته و للإشعار بأنّ التّبشير من وظائفه.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في شهداء (1)احد» (2).

و روي أنّهم كانوا سبعين، أربعة من المهاجرين: حمزه بن عبد المطّلب، و مصعب بن عمير، و عبد اللّه بن جحش، و عثمان بن شهاب، و البقيّة من الأنصار رضوان اللّه عليهم (3).

و عنه عليه السّلام قال: «أتى رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل

ص: 128


1- . زاد في تفسير الصافي: بدر و.
2- . مجمع البيان 2:881، تفسير الصافي 1:368.
3- . تفسير أبي السعود 2:111، تفسير روح البيان 2:123.

اللّه، فإنّك إن تقتل كنت حيّا عند اللّه ترزق، و إن تموت فقد وقع أجرك على اللّه، و لئن رجعت خرجت من الذّنوب إلى اللّه. هذا تفسير وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا الآية» (1).

في حال أرواح

المؤمنين في البرزخ

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أرواحهم في أجواف طيور خضر، و أنّهم يرزقون، يأكلون و يتنعّمون» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لمّا اصيب إخوانكم باحد، جعل اللّه أرواحهم في أجواف طيور خضر، تدور في أنهار الجنة» (3).

و في رواية: «ترد أنهار الجنّة، و تأكل من ثمارها، و تسرح من الجنّة حيث شاءت، و تأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش» (2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: «لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حواصل طير، و لكن في أبدان كأبدانهم» (3).

أقول: يمكن أن يكون وجه اختلاف الرّوايات، اختلاف المؤمنين في مراتب الكمال.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 170

ثمّ بالغ سبحانه في بيان حسن حال الشّهداء، بأنّهم-مع عدم دخول الحزن في قلوبهم على ما فاتهم من حياة الدّنيا و نعيمها-يكونون فَرِحِينَ مسرورين غاية السّرور بِما آتاهُمُ اَللّهُ و حباهم من الكرامات الكائنة مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه الخاصّ بهم من شرف الشّهادة الموجبة لحسن الذّكر في الدّنيا، و المحبّة الشّديدة في قلوب المؤمنين، و الزّلفى من اللّه تعالى، و نيل النّعم الدّائمة غير المتناهية في الآخرة.

فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أبشّرك أنّ أباك حيث اصيب باحد أحياه اللّه، ثمّ قال: ما تريد يا عبد اللّه بن عمرو أن أفعل بك؟ فقال: يا ربّ اريد أن تردّني إلى الدّنيا فاقتل فيك مرّة اخرى» (4).

في بيان بقاء

الأرواح بعد الموت

ثمّ اعلم أنّه قد ثبت بالأدلّة العقليّة و النقليّة، بل بالضّرورة من جميع الأديان، أنّ الأرواح باقية بعد موت الأجساد و انحلالها، و دلّت الرّوايات الكثيرة على أنّ لها

ص: 129


1- . تفسير العياشي 1:350/809، تفسير الصافي 1:368. (2 و 3) . تفسير أبي السعود 2:112.
2- . تفسير أبي السعود 2:112.
3- . الكافي 3:244/1، تفسير الصافي 1:369.
4- . تفسير الرازي 9:90.

تعلّقا بالأجساد المثاليّة التي هي جواهر تلك الأجساد، سارية فيها سريان النّار في الفحم، و الدّهن في السّمسم، و الماء في الورد.

فالرّوح بهذا التّعلّق تلتذّ باللّذائذ الجسمانيّة من الأكل و الشّرب و غيرهما، و تعذّب بالنّار و العقارب و السّلاسل و غيرها، فإذا لم يدلّ دليل قاطع على امتناع ذلك التّعلّق و الحياة، و التّنعّم و التّعذيب، وجب المصير إليه و الالتزام به، و لا يصغى إلى الشّبهات التي اوردت على ثواب القبر و النّعم البرزخيّة بل الظّاهر أنّ أرواح الشّهداء و الكاملين من المؤمنين لها تعلّق خاصّ بأبدانهم العنصريّة، به تحفّظ من البلاء.

عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما: أنّه لمّا أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشّهداء، أمر بأن ينادى: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان، فإن أصابت المسحاة إصبع رجل منهم قطرت دما (1). و في ذلك روايات و حكايات كثيرة لا تحصى.

ثمّ أخبر اللّه سبحانه بلذّتهم الرحانيّة، بقوله: وَ يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون بالبشارة بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ و بحسن حال إخوانهم و أقربائهم الّذين لم يقتلوا معهم في الجهاد، و بقوا في الدّنيا مِنْ خَلْفِهِمْ و من بعد شهادتهم، و تقرّ عينهم بالإخبار بأنّ من حسن حالهم أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من نيل مكروه إنّ قتلوا وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات مطلوب إن لم يقتلوا؛ حيث إنّهم أيضا يفوزون بالحياة الأبديّة و النّعم الدّائمة إن ماتوا.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، في رواية: فلمّا رأوا طيب مسكنهم و مطعمهم و مشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النّعم، و ما صنع اللّه بنا، كي يرغبوا في الجهاد، فقال اللّه تعالى: أنا مخبر عنكم، و مبلّغ إخوانكم، ففرحوا بذلك و استبشروا، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

و عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام، قال: «هم و اللّه شيعتنا، حين صارت أرواحهم في الجنّة، و أستقبلوا الكرامة من اللّه عزّ و جلّ، علموا و استيقنوا أنّهم كانوا على الحقّ، و على دين اللّه عزّ و جلّ، فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 171

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (171)

ص: 130


1- . تفسير الرازي 9:93.
2- . تفسير الرازي 9:90.
3- . الكافي 8:156/146، تفسير الصافي 1:369.

ثمّ أخبر سبحانه بأنّ استبشارهم بحسن حال إخوانهم ليس بصرف فراغ قلوبهم من الخوف و الحزن، بل يَسْتَبْشِرُونَ مع ذلك في حقّ إخوانهم بِنِعْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَ اَللّهِ لا يقادر قدرها وَ فَضْلٍ عظيم أو زيادة كثيرة على ما يتوقّع لهم من ثواب الأعمال، لا يعلمها إلاّ اللّه.

و قيل: إنّ البشارة الأولى فقط متعلّقة بإخوانهم، و أمّا الثانية فإنّها متعلّقة بأنفسهم، و بيان ما أجمل في قوله: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ .

ثمّ أكّد تلك البشارة بقوله: وَ أَنَّ اَللّهَ تعالى بكرمه، و لتعالي ذاته عن ارتكاب القبيح لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ و لا يبطل ثواب من تنوّر قلبه بنور اليقين، [سواء]قتل في سبيل اللّه أو بقي حيّا في طاعة اللّه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 172 الی 174

ثمّ أنّه روي أنّ أبا سفيان و أصحابه لمّا انصرفوا من احد و بلغوا الرّوحاء (1)ندموا، و قالوا: إنّا قتلنا أكثرهم و لم يبق منهم إلا قليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع و نستأصلهم، فهمّوا بالرّجوع، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأراد أن يرهب الكفّار و يريهم من نفسه و من أصحابه قوّة، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان، و قال: «لا اريد أن يخرج الآن معي إلاّ من كان معي في القتال، فخرج الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مع قوم من أصحابه-قيل: كانوا سبعين رجلا-حتّى بلغوا حمراء الأسد، و هو [موضع] من المدينة على ثلاثة أميال، فألقى [اللّه]

الرّعب في قلوب المشركين فانهزموا (2).

اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اِتَّبَعُوا رِضْوانَ اَللّهِ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)فمدح اللّه المؤمنين الّذين خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ و أطاعوا أمرهما بالخروج في طلب قريش مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ و أثخنتهم الجراح في وقعة احد.

عن القمّي رحمه اللّه: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا دخل المدينة، من وقعة احد، نزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم، و لا يخرج معك إلاّ من به جراحة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مناديا ينادي: يا معشر المهاجرين و الأنصار، من كان به جراحة فليخرج، و من لم يكن به جراحة

ص: 131


1- . الرّوحاء: موضع على ستة و ثلاثين ميلا من المدينة.
2- . تفسير الرازي 9:97.

فليقم، فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم و يداوونها، فخرجوا على ما بهم من الألم و الجراحات.

فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حمراء الأسد، و قريش قد نزلت الرّوحاء قال عكرمة بن أبي جهل، و الحارث بن هشام، و عمرو بن العاص، و خالد بن الوليد: نرجع و نغير على المدينة، قد قتلنا سراتهم، و كبشهم-يعنون: حمزة-فوافاهم رجل من المدينة فسألوه الخبر فقال: تركت محمّدا و أصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطّلب، فقال أبو سفيان: هذا النّكد و البغي، فقد ظفرنا بالقوم و بغينا، و اللّه ما أفلح قوم قطّ بغوا.

فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة، لأمتار لأهلي طعاما، قال: هل لك أن تمرّ بحمراء الأسد، و تلقى أصحاب محمّد، و تعلمهم أنّ حلفاءنا و موالينا قد وافونا من الأحابيش، حتّى يرجعوا عنّا، و لك عندي عشرة قلائص أملأها تمرا و زبيبا؟ قال: نعم.

فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما تريدون؟ قالوا: قريشا، قال: ارجعوا، إنّ قريشا قد اجتمعت إليهم حلفاؤهم، و من كان تخلّف عنهم، و ما أظنّ إلاّ أنّ أوائل خيلهم يطلعون عليكم السّاعة، فقالوا: حسبنا اللّه و نعم الوكيل، ما نبالي، فنزل جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ارجع يا محمّد فإنّ اللّه قد أرعب قريشا، و مرّوا لا يلوون على شيء، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و أنزل اللّه اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ الآية (1).

و روي أنّه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثمّ كان المحمول يحمل حامله ساعة اخرى، و كان فيهم من يتوكّأ على صاحبه ساعة، و يتوكّأ عليه صاحبه ساعة، كلّ ذلك لإثخان الجراحات فيهم (2).

و قيل: إنّ الآية نزلت في يوم احد لمّا رجع النّاس إليه صلّى اللّه عليه و آله بعد الهزيمة، فشدّ بهم حتّى كشف المشركين، و كانوا قد همّوا بالمثلة، فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة عليه السّلام فقذف اللّه في قلوبهم الرّعب فانهزموا، و صلّى عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دفنهم بدمائهم (3).

و روي أنّ صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للزّبير: «ردّها لئلاّ تجزع من مثلة أخيها» فقالت: قد بلغني ما فعل به، و ذلك يسير في جنب طاعه اللّه تعالى فقال صلّى اللّه عليه و آله للزّبير: «فدعها تنظر إليه» . فقالت خيرا و استغفرت له (2).

و قيل: جاءت امرأة قد قتل زوجها و أبوها و أخوها و ابنها، فلمّا رأت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو حيّ قالت: إنّ

ص: 132


1- . تفسير القمي 1:124، تفسير الصافي 1:369. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:97.
2- . تفسير الرازي 9:98.

كلّ مصيبة بعدك هدر (1).

في قضية بدر

الصغرى

ثمّ أنّه تعالى بعد الثّناء عليهم وعدهم بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعة أوامر اللّه وَ اِتَّقَوْا اللّه في مخالفة نواهية أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يسع البيان وصفه.

ثمّ أنّه روي عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أبا سفيان قال يوم احد، حين أراد أن ينصرف: يا محمّد، الموعد بيننا و بينك موسم بدر الصّغرى، القابل (2)إنّ شئت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ذلك بيننا و بينك» ، فلمّا كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى نزل مجنّة من ناحية مرّ الظّهران (3)، ثمّ ألقى اللّه عليه الرّعب، فبدا له في الرّجوع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي (4)-و في رواية اخرى: فمرّ به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة-فقال له أبو سفيان: إنّي واعدت محمّدا و أصحابه أن نلتقي موسم بدر الصّغرى، و إنّ هذا عام جدب، و لا يصلحنا إلاّ عام نرعى فيه الشجر، و نشرب فيه اللّبن، و قد بدا لي أن لا نخرج إليها، و أكره أن يخرج محمّد و لا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة و ثبّطهم، و لك عشرة من الإبل أضعها على يد سهيل بن عمرو.

فأتى نعيم بن مسعود المدينة فوجد النّاس يتجهّزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: بئس الرّأي رأيكم، أتوكم في قراركم فلم يفلت منكم إلاّ شريد، فتريدون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم عند الموسم، فو اللّه لا يفلت منكم أحد، فكره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخروج، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفسي بيده، لأخرجنّ و لو وحدي، و أمّا الجبان فإنّه رجع. و أمّا الشّجاع فإنّه تأهّب للقتال. و قال: حسبنا اللّه و نعم الوكيل» (5).

فمدحهم اللّه تعالى بقوله: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ الّذين استقبلوا من بني عبد قيس، أو المراد نعيم بن مسعود، و إطلاق (النّاس) عليه لكونه من جنسهم و كلامه كلامهم، أو لأنّه انضمّ إليه ناس من منافقي المدينة و أذاعوا كلامه: إِنَّ اَلنّاسَ و هم أبو سفيان و أصحابه قَدْ جَمَعُوا حلفاءهم و مواليهم لَكُمْ و تظاهروا إلى حربكم فَاخْشَوْهُمْ أيّها المسلمون، و لا تخرجوا إليهم فتهلكوا، فلم يلتفت المؤمنون المخلصون إلى قولهم فَزادَهُمْ التّرهيب إِيماناً و يقينا و ثباتا على نصرة الإسلام، و خلوصا في النّيّة، و تأهّبوا للقتال وَ قالُوا عند التّخويف حَسْبُنَا اَللّهُ و كفانا مؤنة الأعداء وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ ربّنا.

ص: 133


1- . تفسير الرازي 9:98.
2- . في النسخة: نقاتل.
3- . مجنّة: اسم سوق للعرب في الجاهلية، قرب جبل يقال له: الأصغر بأسفل مكّة، و مرّ الظّهران: موضع على مرحلة من مكّة.
4- . مجمع البيان 2:888، تفسير الصافي 1:370.
5- . مجمع البيان 2:888، تفسير الصافي 1:371، و صدر الرواية في تفسير روح البيان 2:127.

روي أنّه هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السّلام حين ألقي في النّار (1).

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أصحابه و وافى بدر الصّغرى، و هو ماء لبني كنانة، و كان موضع سوق للعرب في الجاهليّة يجتمعون إليه في كلّ عام ثمانية أيّام، فأقام صلّى اللّه عليه و آله ببدر ينتظر أبا سفيان، و قد أنصرف أبو سفيان من مجنّة إلى مكّة فسمّاهم أهل مكّة جيش السّويق (2)؛ و يقولون: إنّما خرجتم تشربون السّويق.

و لم يلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه أحدا من المشركين ببدر، و وافق السّوق، و كانت لهم تجارات، فباعوا و أصابوا بالدّرهم درهمين فَانْقَلَبُوا و رجعوا من بدر الصّغرى إلى المدينة مصاحبين بِنِعْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَ اَللّهِ من العافية و السّلامة و الزّيادة في الإيمان و اليقين وَ فَضْلٍ و زيادة كثيرة في المال، بسبب الرّبح في التّجارة، مضافا إلى أنّه لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ و لم يصبهم مكروه أصلا و لو أقلّ قليل وَ اِتَّبَعُوا في سفرهم ذلك، و طاعتهم الرّسول في الأفعال و الأقوال رِضْوانَ اَللّهِ الذي هو مناط الفوز بخير الدّنيا و الآخرة وَ اَللّهُ بحبّه للمؤمنين ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ عليهم من توفيقهم للثّبات على الإيمان، و التّوطين على لقاء الأعداء، و الجهاد في سبيل اللّه، و التّصلّب في الدّين، و حفظهم من كلّ سوء في الدّنيا، و ذو عطاء جسيم عليهم بالجنّة و النّعمة الدّائمة، و حفظهم من كلّ مكروه في الآخرة.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 175

ثمّ ذمّ اللّه سبحانه الّذين خوّفوا المسلمين، و قرّع المثبّطين (3)الذين تخلّفوا و عصوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله جبنا، بقوله: إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ المضلّ المغوي بوسوسته و شيطنته، و إلقاءاته على لسان الرّكب، أو نعيم بن مسعود يُخَوِّفُ من سطوة المشركين أَوْلِياءَهُ و مطيعيه من المنافقين و ضعفاء المؤمنين.

إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)و قيل: إنّ المراد: الشّيطان يخوّفكم أيّها المؤمنون من أوليائه المشركين، كأبي سفيان و أصحابه، لتقعدوا عن قتالهم.

فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ في مخالفة أوامري، و أوامر رسولي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بي و برسالة

ص: 134


1- . مجمع البيان 2:889، تفسير أبي السعود 2:114.
2- . طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة و الشعير، سمّي بذلك لانسياقه في الحلق.
3- . في النسخة: المتثبّطين

رسولي؛ لأنّ عذابي في الآخرة شديد.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 176

ثمّ لمّا كان سعي الكفّار-في تخويف المؤمنين، و تضعيف أمر الإسلام، و ارتداد قوم من المسلمين الضّعفاء خوفا من قريش-موجبا لحزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كسر قلبه الشّريف، أخذ اللّه في تسليته بقوله: وَ لا يَحْزُنْكَ المنافقون و ضعفة المسلمين اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ لشدّة حرصهم على الدّنيا، و حبّهم الحياة، في الدّخول فِي اَلْكُفْرِ بالارتداد، أو بمظاهرة الكفّار، و السّعي في إبطال أمر رسالتك.

وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اَللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)قيل: إنّ المنافقين كانوا بعد وقعة احد يخوّفون المؤمنين من المشركين، و يؤيسونهم من النّصر و الغلبة، و يقولون: إنّ محمّدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، و تارة عليه، و لو كان رسولا ما غلب و هذه الأقوال كانت تنفّر المسلمين عن الإسلام.

و قيل: إنّها نزلت في كفّار قريش، و اللّه جعل رسوله آمنا من شرّهم، و المعنى وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ بأن يقصدوا جمع العساكر إِنَّهُمْ بهذا الصّنع لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ و أولياءه شَيْئاً بل إنّما يضرّون أنفسهم به أشدّ الضّرر، و يهلكونها أسوء هلاك.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة تركه إيّاهم على ما هم عليه من الانهماك في الكفر، و السّعي في إطفاء نوره الحقّ، و الجدّ في مشاقّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معارضته بقوله: يُرِيدُ اَللّهُ أن يظهر ما في ذواتهم من الخباثة، و يصل استعدادهم الذّاتي بأعمالهم السّيّئة إلى مقام الفعليّة حتّى لا تبقى فيهم قابلية التفضّل، و أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ بسبب عدم الأهليّة حَظًّا و إن كان قليلا، و نصيبا و إن كان يسيرا فِي اَلْآخِرَةِ و الدّار الباقية من الرّحمة و الثّواب وَ لَهُمْ مضافا إلى الحرمان الكلّي من الثّواب، بدلا منه عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم عظمته إلاّ اللّه العظيم، فإنّ عظمة عذابهم لعظمة شأن المسارعة في الكفر عندهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 177

ثمّ أكدّ الوعيد بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا و استبدلوا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ بأن اختاروا لأنفسهم الكفر، و تركوا الإيمان الذي كان لوضوح دلائله و سهولة مآخذه كأنّه في ملكهم و قبضتهم لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ و رسوله و المؤمنين أبدا شَيْئاً يسيروا من الضّرر، بل يضرّون أنفسهم ضررا كثيرا،

ص: 135

و يخسرون بصفقتهم خسرانا مبينا وَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ .

إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)قيل: لمّا كانت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه، و سروره بتحصيله عند كون الصّفقة رابحة، و بتألّمه عند كونها خاسرة، وصف اللّه عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 178

ثمّ لمّا كان تخلّف من تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتوهّم أن البقاء في الدّنيا خير من القتل في سبيل اللّه، و أنّ حياتهم و طول تعيّشهم أنفع من شهادة شهداء احد، أبطل اللّه ذلك التّوهّم بقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حبّا للحياة، و لم يطيعوه في الخروج إلى الجهاد أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ و نطيل في أعمارهم في الدّنيا، و تعيّشهم فيها.

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)قيل: إنّ (ما) موصولة، و قيل: مصدرية. و عليه يكون المعنى لا يتوهّمون أنّ إمهالهم في الدّنيا و إبقاءهم فيها خَيْرٌ و أصلح لِأَنْفُسِهِمْ و لا تسرّ قلوبهم بطول عيشهم فيها، لأنّ إمهالنا إيّاهم ليس بداعي الإحسان إليهم، بل أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ و نطيل أعمارهم لِيَزْدادُوا بازدياد خبثهم في كلّ آن من الآنات إِثْماً على آثامهم من الاستمرار على الكفر و الطّغيان، و اشتداد بغضهم للحقّ، و جدّهم في محق الدّين و محو آثاره وَ لَهُمْ خاصّة بتلك الآثام في الآخرة عَذابٌ مُهِينٌ لهم زائدا على ما في عذاب غيرهم من المهانة و الذّل.

قيل: إنّما وصف سبحانه عذابهم بالوصف لأنّه كان غرضهم من البقاء في الدّنيا التّعزّز و التّكبّر فيها، و التّمتّع بطيّباتها و زينتها.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «خير النّاس من طال عمره و حسن عمله، و شرّ النّاس من طال عمره و ساء عمله» (1). و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن الكافر، الموت خير له أم الحياة؟ فقال: «الموت خير للمؤمن و الكافر؛ لأنّ اللّه يقول: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (2)، و يقول: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» (3).

روي أنّه قال اللّه تعالى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج: «إنّ من نعمي على أمتك أنّي قصّرت أعمارهم كي لا تكثر ذنوبهم، و أقللت أموالهم كي لا يشتدّ في القيامة حسابهم» (4).

ص: 136


1- . تفسير روح البيان 2:130.
2- . آل عمران 3:198.
3- . تفسير العيّاشي 1:351/812، تفسير الصافي 1:372.
4- . تفسير روح البيان 2:130.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 179

ثمّ أكّد اللّه سبحانه علّيّة امتحان المؤمنين في التّكليف بالمشاق، من أمرهم بتعقيب المشركين مع ما بهم من ألم الجراحات، و بالخروج في العام القابل إلى بدر الصّغرى بقوله: ما كانَ اَللّهُ بحكمته البالغة يريد لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ المخلصين منكم أيّها المسلمون و يتركهم عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الاختلاط و استتار الحال، بل عليه تعالى أن يقدّر الأمور، و يسبّب الأسباب من جعل التّكاليف الشّاقة، و تسليط الكفّار، و إيراد المحن و البليّات، و البعث إلى الغزوات و غيرها حَتّى يَمِيزَ المنافق اَلْخَبِيثَ الذّات، السيء السّريرة مِنَ المؤمن المخلص اَلطَّيِّبِ النّفس، المنوّر الفكر و يظهر حال كلّ منهما بظهور ما في قلوبهم من الكفر و الإيمان، و الغدر و الصدق، و ما في ضمائرهم من النّيّات الحسنة و السّيّئة.

ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)وَ ما كانَ اَللّهُ لما في علمة من النّظام الأتمّ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ و أن يعلمكم بما في القلوب و الضّمائر بغير الأسباب الظّاهريّة و العادية، و ليس من حكمته أن يوحي إلى كلّ أحد: أنّ هذا مؤمن خالص، و هذا كافر منافق وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي و يصطفي مِنَ بين جماعة رُسُلِهِ و أنبيائه العظام مَنْ يَشاءُ إعلامه بالمغيّبات فيخصّه بعلمها، و يوحي إليه: أن هذا مؤمن مخلص، و ذاك منافق غادر.

و قيل: إنّ المراد: و لكنّ اللّه يمتحن الفريقين بأن يجتبي من يشاء من خلقه للرّسالة، و يخصّه بالشّريعة، و أحكام شاقّة بإطاعته و عصيانه يمتاز الفريقان.

ثمّ بعد ذكره سبحانه مصلحة الابتلاء بالمكاره و التّكاليف الشّاقّة، و أنّ النّفاق لا ينتج إلاّ الفضيحة في الدّارين، أمر النّاس بالإيمان الخالص عن شوب النّفاق بقوله: فَآمِنُوا أيّها النّاس إيمانا خالصا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ لظهور دلائل التّوحيد و النّبوّة، بحيث لم يبق لأحد عذر في التّشكيك و الامتناع.

قيل: في ذكر جميع الرّسل هنا إشعار بأنّ ملاك الإيمان بجميع الرّسل واحد، و هو ظهور المعجزة، فمن آمن برسول كان عليه الإيمان بالجميع.

ثمّ أردف سبحانه أمره بالإيمان بالوعد بالثّواب تأكيدا و إشعارا بعظم فائدته، بقوله: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا باللّه و رسله عن صميم القلب وَ تَتَّقُوا النّفاق، و عصيان اللّه، و مخالفة أوامر الرّسل فَلَكُمْ بمقابل الإيمان و التّقوى في الدّنيا و الآخرة أَجْرٌ عَظِيمٌ من اللّه لعظم شأن الإيمان و التّقوى عنده تعالى

ص: 137

شأنه.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 180

ثمّ-لمّا كان من دأب اللّه تعالى في كتابه العزيز أنّه كلّما أمر بالجهاد أردفه بالحثّ على إنفاق المال، لكمال الارتباط بينهما، و توقّف الحرب على المال، و قد بالغ سبحانه في الآيات السّابقة في التّحريض على بذل النّفس في الجهاد، و في دفع توهّم أنّ الحياة خير منه-شرع في الحثّ على بذل المال، و الرّدع من توهّم أنّ البخل و منع حقوق اللّه خير منه، بقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ المؤثرون اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ و وهب لهم من الثّروة و المال مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه من غير أن يكون لهم مدخل فيه و استحقاق، البخل بما وجدوه من المال هُوَ خَيْراً و أنفع لَهُمْ من صرفه في سبيل اللّه، فإنّه حسبان باطل؛ لأنّه ليس في البخل و جمع المال و منع حقوق اللّه خير أصلا بَلْ هُوَ شَرٌّ محض لَهُمْ لأنّه موجب لابتلائهم بأشدّ العقوبات، حيث إنّهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ و سيجعل ذلك المال-الذي امتنعوا من إنفاقه في سبيل اللّه حبّا له و شحّا عليه-طوقا في عنقهم يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لِلّهِ مِيراثُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)عن (الكافي) : عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، قالا: «ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلاّ جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوّقا في عنقه، ينهش من لحمه، حتّى يفرغ من الحساب، و هو قول اللّه: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يعني ما بخلوا به من الزّكاة» (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: تجعل تلك الزّكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطّوق، شجاعا (2)ذا زبيبتين (3)يلدغ بهما خدّيه، و يقول: أنّا الزّكاة [التي]بخلت في الدّنيا بي (4).

أقول: ظاهر الرّوايتين أنّ عين مال الزّكاة بصورتها الواقعيّة البرزخيّة يصير طوقا في عنق البخيل. و قيل: المراد: سيطوّقون و بال ما بخلوا به. و يؤيّده ما روي عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من ذي زكاة مال، نخل أو زرع أو كرم [يمنع زكاة ماله]، إلاّ قلّده اللّه تربة أرضه يطوّق بها من سبع أرضين إلى يوم القيامة» (5).

ص: 138


1- . الكافي 3:502/1 و:504/10، تفسير الصافي 1:373.
2- . الشّجاع: الحيّة.
3- . الزّبيبتان: نقطتان سوداوان فوق عيني الحيّة و الكلب.
4- . تفسير الرازي 9:114.
5- . الكافي 3:503/4، تفسير الصافي 1:373.

و قيل: إنّ المعنى: سيكلّفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة.

و قيل: إنّ المعنى سيلزمون إثم ما بخلوا به في الآخرة. و هذا على طريق التّمثيل.

ثمّ لمّا كان للجاهل مجال توهّم أنّ مبالغته تعالى في الحثّ على إنفاق المال لمكان حاجته، دفع ذلك التّوهّم بالتّنبيه على غنائه المطلق، بقوله: وَ لِلّهِ وحده من غير شريك مِيراثُ أهل اَلسَّماواتِ وَ أهل اَلْأَرْضِ و ما يخلّفونه عند موتهم، فلا يبقى لأحد ملك إلاّ له، و كلّ ملك باطل إلاّ ملكه سبحانه.

و يحتمل أن يكون ذكر هذه القضيّة للإشعار بأنّه إذا كانت الأملاك زائلة غير باقية لأحد، يكون منع الحقوق و البخل به خلاف العقل. و فيه تأكيد في الحثّ على الإنفاق.

ثمّ بالغ سبحانه في الوعيد على ترك الإنفاق، بقوله: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الحرص على جمع الأموال و التّعزّز بها، و منع الحقوق الواجبة فيها خَبِيرٌ و مطّلع لا يخفى عليه خافية.

و حاصل المضمون: أنّه ما لهم يبخلون بالزّكاة و الحقوق الماليّة الواجبة، مع كونه في غاية الضّرر عليهم، و عدم بقاء الأموال لهم، و غنائه تعالى عنهم، و شدّة حاجتهم إلى الأداء، و إحاطته تعالى بخفيّات أعمالهم، و اشتداد غضبه تعالى على سيّئاتهم.

و قيل: إنّ قراءة (تعملون) بالتّاء-على الالتفات إلى الخطاب-أبلغ في الوعيد.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 181

ثمّ أنّه تعالى-بعد الحثّ على الإنفاق، و ذمّ البخل، و دفع توهّم الحاجة إلى الخلق عن ساحته المقدّسة-تعرّض لقول من نسب إليه الحاجة، بقوله: لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ و علم، كعلمكم بالمسموعات قَوْلَ اليهود اَلَّذِينَ قالُوا استهزاء بالقرآن، أو إلزاما للمسلمين: إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ عديم المال، محتاج إلى أموالنا، حيث سأل منّا الصّدقات وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ لاستقراضه منّا.

لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (181)قيل: في التّعبير عن العلم بهذا القول الشّنيع بالسّماع إيذان بأنّه من الشّناعة و القباحة بمكان لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع (1).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتب مع أبي بكر إلى يهود [بني]قينقاع يدعوهم إلى الإسلام، و إلى إقامة الصّلاة، و إيتاء الزّكاة، و أن يقرضوا اللّه قرضا حسنا، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدراسهم (2)، فوجد

ص: 139


1- . تفسير روح البيان 2:135.
2- . المدراس: بيت تدرس فيه التوراة.

ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص بن عازوراء، و كان من علمائهم، و معه حبر آخر يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: اتّق اللّه و أسلم، فو اللّه إنّك لتعلم أنّ محمّدا لرسول اللّه، قد جاءكم بالحقّ من عند اللّه، تجدونه مكتوبا عندكم في التّوراة، فآمن و صدّق و أقرض اللّه قرضا حسنا، يدخلك الجنّة، و يضاعف لك الثّواب. فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أنّ ربّنا يستقرض أموالنا! و ما يستقرض إلاّ الفقير من الغنيّ، فإن كان ما تقول حقّا فإنّ اللّه فقير و نحن أغنياء، و أنّه ينهاكم عن الرّبا و يعطينا، و لو كان غنيّا ما أعطانا الرّبا. فغضب أبو بكر و ضرب وجه فنحاص ضربة شديدة. و قال: و الّذي نفسي بيده، لو لا العهد الذي بيننا و بينكم لضربت عنقك يا عدوّ اللّه، فذهب فنحاص إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشكاه و جحد ما قاله، فنزلت الآية ردّا عليهم (1).

و قيل: القائل حيي بن أخطب (2).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: و اللّه، ما رأوا اللّه فيعلموا أنّه فقير، و لكنّهم رأوا أولياء اللّه فقراء فقالوا: لو كان غنيّا لأغنى أولياءه؛ ففخروا على اللّه بالغنى (3).

و عن (المناقب) : هم الّذين زعموا أن الإمام يحتاج (4)إلى ما يحملونه إليه (5).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه القائلين على قولهم الشّنيع بقوله: سَنَكْتُبُ في صحيفة الكتبة أو المراد: سنثبت في القرآن، أو نحفظ في علمنا، للاهتمام بالحفظ ما قالُوا من هذا القول السّيء، لتعذيبهم عليه، أو لإبقاء شينه عليهم إلى آخر الدّهر. و قيل: إن المراد: سنثبت عليهم إثم هذا القول و عقوبته. و (السين) دالّ على التّأكيد.

ثمّ أردف سبحانه أقوالهم الشّنيعة بأعمالهم التي في الشّناعة كأقوالهم، بقوله: وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ المقرّبين، مع كونهم عالمين أنّه بِغَيْرِ حَقٍّ و جرم.

و فيه تنبيه على أنّ من كان في الجهالة و الشّقاوة بدرجة يكون قاتلا للأنبياء، أو راضيا بفعل من قتلهم، أو من نسلهم، لا يبعد منه هذا القول الشّنيع الذي في العظمة مثل ذلك الفعل.

ثمّ بالغ في التّهديد بقوله: وَ نَقُولُ لهم عند الموت، أو في المحشر، أو بعد قراءتهم الكتاب: ادخلوا النّار، و ذُوقُوا و اطعموا عَذابَ اَلْحَرِيقِ و أنظروا كيف طعمه، كما أذقتم المرسلين و المسلمين مرارة الكروب و الغصص.

ص: 140


1- . تفسير روح البيان 2:134.
2- . مجمع البيان 2:898.
3- . تفسير القمي 1:127، تفسير الصافي 1:373.
4- . زاد في المصدر: منهم.
5- . مناقب ابن شهر آشوب 4:48.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 182

ثمّ نبّههم بأنّه حقّ عليكم ذلِكَ العذاب الشّديد الدّائم، و صرتم مستحقّين له جزاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ و بما عملت جوارحكم في الدّنيا من قتل الأنبياء، و هتك الحرمات، و إخافة الأولياء، و التّفوّه بمثل هذا القول الشّنيع، و التّجرّي على اللّه باقتراف المعاصي.

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)وَ اعلموا أَنَّ اَللّهَ حكيم، عدل لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ و ليس بمعذّب بغير ذنب، لتنافي الحكمة و العدل مع الظّلم و الإيلام بغير الاستحقاق، حيث إنّ مقتضى الحكمة وضع الشّيء في ما وضع له، و مقتضى العدل إعطاء كلّ شيء ما يستحقّه، و هما مع الظّلم-الذي هو التّعذيب من غير أهليّة و استحقاق-متضادّان.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 183

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد اليهود على قولهم الذي فيه هتك حرمته و حرمة كتابه، هدّدهم على قولهم الآخر الذي فيه إبطال رسالة رسوله، بقوله: اَلَّذِينَ قالُوا، قيل: التّقدير: لقد سمع اللّه أيضا قول اليهود الّذين قالوا إبطالا لدعوى الرّسول، و اعتذارا من عدم الإيمان به، مع مشاهدتهم المعجزات الباهرات، و استماعهم الآيات النّيّرات: إِنَّ اَللّهَ بتوسّط أنبيائه عَهِدَ إِلَيْنا و أخذ الميثاق الأكيد منّا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ من الرّسل، و لا نصدّق دعوى أحد منهم حَتّى يَأْتِيَنا مدّعي الرّسالة بِقُرْبانٍ و تفدية للّه، و صدقة مال يجعله له و يتقرّب إليه، فيتقبّله اللّه منه، و تَأْكُلُهُ و تحرقه اَلنّارُ و كان ذلك علامة القبول، و دليل صدقه، كما كان عليه أمر أنبياء بني إسرائيل.

اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)عن عطاء، أنّه قال: كان بنو إسرائيل يذبحون للّه، فيأخذون الثّروب و أطايب اللّحم فيضعونها في وسط بيت و السّقف مكشوف، فيقوم النبيّ في البيت و يناجي ربّه، و بنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها دويّ خفيف و لا دخان لها، فتأكل ذلك القربان (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، و كعب بن أسد، و مالك بن الصيف، و وهب بن يهوذا، و زيد بن التابوب (2)، و فنحاص بن عازوراء، و غيرهم، أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، تزعم أنّك رسول اللّه، و أنّه تعالى أنزل عليك كتابا، و قد عهد اللّه إلينا في التّوراة أن لا

ص: 141


1- . تفسير الرازي 9:121.
2- . في النسخة: التاوبوت.

نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار، و يكون لها دويّ خفيف، تنزل من السّماء، فإن جئتنا بهذا صدّقناك. فنزلت هذه الآية (1).

ثمّ لمّا كان ذلك السّؤال من باب التّعنّت بهذه المعجزة، و أنّ أنبياءهم أتوهم و مع ذلك قتلوهم، كزكريّا، و يحيى، و عيسى، باعتقادهم، مع أنّ العهد الذي ادّعوه كان من مفترياتهم و أباطيلهم؛ لوضوح أنّه لا ينحصر دليل صدق النبيّ في هذه المعجزة، بل كلّ معجزة كافية في إثبات النّبوّة لاشتراك الجميع في كونه خارجا عن طوق البشر، و تصديقا من اللّه لدعوى من أتى بها.

و من الواضح أنّ السّؤال التّعنّتي لا يحسن إجابته، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قُلْ يا محمّد، تبكيتا لهم، و إظهارا لكذبهم في أنّ عدم إيمانهم بك لعدم إتيانك بقربان تأكله النّار: قَدْ جاءَكُمْ و أتى أسلافكم الّذين تتخلقون أنتم بأخلاقهم، و تتّبعون آثرهم رُسُلٌ كثيرة العدد، عظيمة الشّأن مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ و سألتم بعينه من القربان الذي تأكله النّار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ بعدما أتوكم بما أقترحتموه عليهم، مضافا إلى غيره من المعجزات الدّالّة على صدقهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ما دلّ عليه قولكم من أنّكم ملتزمون بالإيمان بنبيّ يأتيكم بقربان.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 184

ثمّ لمّا كانت مقالات المفشركين و اليهود سببا لكدورة قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تحزّنه، أخذ في تسلية حبيبه بقوله: فَإِنْ عارضك اليهود و المشركون و كَذَّبُوكَ في دعوى نبوّتك، و صحّة شريعتك، و في ما تخبرهم به من سوء صنع أسلافهم، فإنّ هذا التّكذيب و المعارضة ليس أمرا يخصّك فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ كثيرة العدد، كبيرة المقدار، كانوا مِنْ قَبْلِكَ كنوح، و إبراهيم و موسى و أضرابهم، و هم صبروا على التّكذيب، و ما نالهم من المكذبين، مع أنّهم جاؤُ و أتوهم بِالْبَيِّناتِ المعجزات الظّاهرات التي لم يبق لأحد معها مجال للتّكذيب وَ اَلزُّبُرِ و الصّحف السّماوية المشتملة على الأحكام و المواعظ و الزّواجر وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ الموضّح للحقائق من التّوراة، و الإنجيل.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ (184)و تخصيص الكتاب بالذّكر مع كونه داخلا في عموم الزّبر، للإشعار بكونه أشرف منها. و عطف جميعها على البيّنات، للدّلالة على عدم كون واحد منها معجزا للأنبياء، و أنّ كون نفس الكتاب معجزا، من خصائص خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و كتابه المجيد. و وجه كون الآية تسلية وضوح أنّ البليّة إذا

ص: 142


1- . تفسير الرازي 9:121.

عمت طابت.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 185

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية قلبه الشّريف بتذكيره الموت الذي ذكره يهوّن الخطوب، و يسهّل جميع المصائب، و يزيل الكروب، بقوله: كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس البشريّة و الحيوانيّة بالآخرة ذائِقَةُ طعم اَلْمَوْتِ و زهوق الرّوح، بل كلّ موجود من الجسمانيّات، و كلّ مركّب من المركّبات ايل أمره إلى الانحلال و الانعدام، فلا يبقى إلاّ وجهه الكريم.

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ (185)عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد، ثمّ يموت أهل السّماء حتّى لا يبقى أحد إلاّ ملك الموت، و حملة العرش، و جبرئيل، و ميكائيل» قال: «فيجيء ملك الموت حتّى يقوم بين يدي اللّه عز و جل فيقول له: من بقي؟ -و هو أعلم-فيقول: يا ربّ، لم يبق إلاّ ملك الموت، و حملة العرش، و جبرئيل، و ميكائيل. فيقال له: قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا. فتقول الملائكة عند ذلك: يا ربّ، رسولاك و اميناك. فيقول: إنّي قضيت على كلّ نفس فيها الرّوح الموت.

ثمّ يجيء ملك الموت حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ فيقال له: من بقي؟ -و هو أعلم-فيقول: يا ربّ، لم يبق إلاّ ملك الموت، و حملة العرش. فيقول: [قل]لحملة العرش فليموتوا ثمّ يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقول: من بقي؟ -و هو أعلم-فيقول: يا ربّ، لم يبق إلاّ ملك الموت. فيقول له: مت يا ملك الموت، فيموت.

ثمّ يأخذ الأرض بيمينه و السّماوات بيمينه، فيقول: أين الّذين كانوا يدعون معي شريكا؟ أين (1)الّذين كانوا يجعلون معي إلها آخر؟» (2)انتهى. فإذا كان ذلك، فلا ينبغي للعاقل أن يغتمّ في المصائب.

ثمّ أنّه سبحانه بعدما كنّى عن الدّار الاخرى بذوق الموت، بيّن توفية ثواب المصدّق، و عقاب المكذّب، بقوله: وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ و تعطون على نحو الكمال جزاء أعمالكم يَوْمَ اَلْقِيامَةِ . قيل: إنّ في لفظ التّوفية إشعارا بأنّ بعض اجورهم يصل إليهم قبل القيامة، كما ينبى عنه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيّران» (3).

فَمَنْ زُحْزِحَ و أبعد عَنِ اَلنّارِ و نحّي منها يومئذ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ بفضل اللّه و رحمته فَقَدْ

ص: 143


1- . في النسخة: من، بدل أين.
2- . الكافي 3:256/25، تفسير الصافي 1:375.
3- . تفسير أبي السعود 2:123، تفسير روح البيان 2:138.

فازَ بالمقصد الأعلى، و ظفر بالبغية العليا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «موضع سوط في الجنّة خير من الدّنيا و ما فيها، و قرأ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ أن يزحزح عن النّار و يدخل الجنّة، فلتدركه منيّته و هو يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و ليوت إلى النّاس ما يحبّ أن يؤتى إليه» (2).

و عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «خياركم سمحاؤكم، و شراركم بخلاؤكم، و من خالص الإيمان البرّ بالإخوان، و السعي في حوائجهم، و إنّ البارّ بالإخوان ليحبّه الرّحمن، و في ذلك مرجمة (1)الشيطان، و تزحزح عن النّيران، و دخول في الجنان» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث: «قال اللّه تعالى: فبعزّتي حلفت، و بجلالي أقسمت أن لا يتولّى عليّا عبد من عبادي إلاّ زحزحته عن النّار، و أدخلته الجنّة، و لا يبغضه عبد من عبادي إلاّ أبغضته، و أدخلته النّار و بئس المصير» (3).

ثمّ أنّه تعالى-بعد ما بيّن أنّ أعلى المقاصد النّجاة من النّار، و الدّخول في الجنّة-بيّن أن أردأ المطالب و أدنى المقاصد هو الدّنيا، بقوله: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و عيشها و لذّاتها و زخارفها بشيء إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ و سلعة مدلّسة. فشبّه سبحانه الدّنيا بالمتاع الذي يدلّس على المستام (4)و يغرّ حتّى يشتريه.

عن سعيد بن جبير: أنّ هذا في حقّ من آثر الدّنيا على الآخرة، و أما من طلب الآخرة بها، فإنّها نعم المتاع (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 186

ثمّ أنّه تعالى-بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن تكذيب الكفّار و أقوالهم السّيّئة المقرحة للقلب-شرع في تسلية المؤمنين عمّا يلقونه من الكفّار فيما بعد؛ ليوطّنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه، و يستعدّوا للقائه و يقابلوه بحسن الصّبر و الثّبات، فإنّ هجوم الآجال يزلزل أقدام الرّجال، و الاستعداد للرّكوب

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (186)

ص: 144


1- . في المصدر: مرغمة.
2- . الكافي 4:41/15، تفسير الصافي 1:375.
3- . أمالي الصدوق:292/326، تفسير الصافي 1:375.
4- . المستام: المشتري.
5- . تفسير الرازي 9:126.

ممّا يهوّن الخطوب ن فقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ البتّة من جانب اللّه أيّها المؤمنون، و لتعاملنّ معاملة المختبر؛ ليظهر ما عندكم من الثّبات على الإيمان و لوازمه بما يقع فِي أَمْوالِكُمْ من ضروب الآفات و المضارّ، وَ بما يقع في أَنْفُسِكُمْ من القتال، و الجرح، و الأسر، و سائر المتاعب و الشّدائد و المصائب.

عن الرّضا عليه السّلام: «فِي أَمْوالِكُمْ : بإخراج الزّكاة، وَ في أَنْفُسِكُمْ : بالتّوطين على الصّبر» (1).

وَ باللّه لَتَسْمَعُنَّ أقوالا سيّئة مِنَ اليهود و النّصارى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ السّماوي من التّوراة و الإنجيل مِنْ قَبْلِكُمْ و في زمان سابق على نزول القرآن عليكم وَ أقوالا مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه و عبدوا الأصنام، كأبي جهل و أبي سفيان و أضرابهما، فيها أَذىً كَثِيراً لكم، و ايلام شديد في قلوبكم، كالطّعن في دين الإسلام، و القدح في أحكامه، و إلقاء الشّبهات، و تخطئة المؤمنين و هجائهم، و تحريض المشركين على مضادّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ما يصيبكم من المكاره، و تقابلوه بحسن العزاء و التّحمّل وَ تَتَّقُوا اللّه في مخالفة مرضاته من الإقدام على ما يليق بالمؤمن، و من المداهنة معهم فَإِنَّ ذلِكَ المذكور من الصّبر و التّقوى يكون مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ و صواب التّدبير، و ممّا ينبغي أن يعزم العازمون و يتنافس فيه المتنافسون، لما فيه من كمال المزيّة عند اللّه، و إنفاذ المقصود من الإرشاد و الهداية؛ لأنّه أقرب إلى دخول المخالف في الدّين.

و لذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مداريا للنّاس صبورا على الأذى أكثر من أن يحصى، بل كان مداراته و صبره من كراماته و معجزاته.

روي أنّه بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر إلى فنحاص اليهودي يستمدّه، فقال فنحاص: قد احتاج ربّك إلى أن نمدّه، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسّيف و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له حين بعثه: «لا تغلبنّ على شيء حتّى تؤدّي إليّ» فتذكّر أبو بكر ذلك و كفّ عن الضّرب، فنزلت (2).

قيل: أمر اللّه سبحانه بالصّبر تقليلا لمضارّ الدّنيا، و أمر بالتّقوى تقليلا لمضارّ الآخرة، فكانت الآية جامعة لآداب الدّنيا و الآخرة (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 187

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

ص: 145


1- . علل الشرائع:369/3، تفسير الصافي 1:376.
2- . تفسير الرازي 9:128.
3- . تفسير الرازي 9:129.

ثمّ-لمّا كان كتمان اليهود و النّصارى ما في التّوراة و الإنجيل من دلائل نبوّة خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و علائمه، من أشدّ أنواع إيذائهم للرسول و المؤمنين، و أظهر مصاديقه-تعرّض سبحانه لذلك بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ، قيل: إنّ المراد: و تذكّر يا محمّد وقتا أخذ اللّه مِيثاقَ اليهود و النّصارى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ و العهد المحكم المبرم عليهم على لسان الأنبياء و الرّسل، حيث قالوا لأممهم-بعد ما بيّنوا لهم ما في الكتاب من صفات نبيّ آخر الزّمان و علائمه-: يا عباد اللّه، باللّه عليكم لَتُبَيِّنُنَّهُ و لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام و الأخبار التي منها أمر نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لِلنّاسِ الّذين لا يطّلعون بما فيه كما أوضحناه و بيّناه لكم وَ لا تَكْتُمُونَهُ عن العوامّ بوسيلة تحريف عباراته، أو إبدائه التّأويلات، أو إلقاء الشّبهات.

هذا حاصل العهد الأكيد بفنون التأكيدات، و مع ذلك فَنَبَذُوهُ و طرحوه لحبّهم الدّنيا و ألقوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ و لم يراعوه، و لم يلتفتوا إليه مع قبوله و الالتزام بالعمل به وَ اِشْتَرَوْا بِهِ و أخذوا بدل الميثاق و الوفاء ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً من الزّخارف الدّنيويّة و الحطام الفانية، و أخفوا الحقّ، و استهانوا بالعهد الأكيد الإلهي طمعا في أموال سفلتهم، و حفظا للرّئاسة على جهلتهم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ و ساء ما يستبدلون به.

و فيه دلالة على نهاية قباحة كتمان الحقّ، و شدّة حرمته على العالم به، للأغراض الدّنيويّة و الأهواء الفاسدة، و لو كان الكاتم من المسلمين.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 188

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الكاتمين لعلائم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدلّسين للحقّ، بقوله: و لا تَحْسَبَنَّ يا محمّد، و لا تتوهّمنّ الكاتمين اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ و يسرّون بِما أَتَوْا من الأموال و الرّئاسات، أو بما فعلوا من نقض العهد، و كتمان آيات نبوّتك وَ يُحِبُّونَ بقلوبهم و يتمنّون أَنْ يُحْمَدُوا بين النّاس بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالعهد، و الصّدق في الإخبار، و التّقوى في الدّين.

لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)ثمّ أكّد سبحانه النّهي عن الحسبان بقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ متمكّنين بِمَفازَةٍ و منجاة مِنَ

ص: 146


1- . مجمع البيان 2:905، تفسير الرازي 9:131، تفسير الصافي 1:376.

اَلْعَذابِ في القيامة.

و عن القمّي، عن الباقر عليه السّلام: «أي ببعيد من العذاب» (1).

وَ لَهُمْ بالاستحقاق عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ غايته، بسبب كفرهم، و كتمانهم، و تدليسهم.

عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه: هم اليهود، حرّفوا التّوراة، و فرحوا بذلك، و أحبّوا أن يوصفوا بالدّيانة و الفضل (2).

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سأل اليهود عن شيء ممّا في التّوراة فكتموا الحقّ، و أخبروه بخلافه، و أروه أنّهم قد صدّقوه، و استحمدوا إليه، و فرحوا بما فعلوا (3).

و عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلّفون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغزو، و يفرحون بقعودهم، فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم، فطمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني على المسلمين المجاهدين (2).

أقول: يحتمل أنّه قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية في أولئك المنافقين، فتوهّم (3)أنّها نزلت فيهم.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 189

ثمّ أعلن سبحانه بعظم سلطانه، وسعة قدرته ازديادا للرّهبة في القلوب، بقوله: وَ لِلّهِ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السّلطنة الاستقلاليّة التّامّة فيهما، بحيث لا يخرج من سلطانه شيء من الأشياء، و ذرّة من الذّرّات وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من القهر و الغلبة و التّعذيب قَدِيرٌ لا يدفعه شيء عن إنفاذ إرادته، و مع ذلك كيف يجترى العاقل على عصيانه؟

وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 190

ثمّ أكّد سبحانه تخصيصه بالسّلطنة التّامّة، و القدرة الكاملة، بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ السّبع أو التّسع، و إنشائها على ما هي عليه من ذواتها، و صفاتها، و كواكبها، و حركاتها، و سائر أمورها التي تحار فيها العقول.

إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (190)عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال في صفة السّماوات: «جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا، و علياهنّ سقفا

ص: 147


1- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:377. (2 و 3) . تفسير أبي السعود 2:125.
2- . تفسير الرازي 9:132.
3- . أي أبو سعيد الخدري.

محفوظا و سمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها، و لا دسار (1)يتظمها (2)، ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، و ضياء الثواقب، و أجرى فيها سراجا مستطيرا، و قمرا منيرا في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم مائر» (3).

وَ في خلق اَلْأَرْضِ على ما هي عليه في ذاتها، و صفاتها، و أجزائها، و ما خلق فيها من البحار و الجبال و المعادن و الأشجار، وَ في اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و تعاقبهما، و قيل: اختلاف لونهما و تفاوتهما بازدياد كلّ منهما و نقص الآخر، بحسب اختلاف حال الشّمس بالنّسبة إلينا قربا و بعدا لَآياتٍ عظيمة، و دلائل واضحة على وحدة خالقها، و كمال قدرته، وسعة علمه، و بلوغ حكمته، و عظم سلطانه، و علوّ شأنه، و لكن لا لجميع الخلق لعمى قلوب أكثرهم، و عدم تفكّرهم فيهان بل لِأُولِي اَلْأَلْبابِ منهم، و ذوي العقول السّليمة، و الأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأوهام و الشّهوات الحيوانية، و الأهواء الزّائغة النّفسانيّة خاصّة، لتنوّر قلوبهم، و نفوذ بصيرتهم.

قيل: لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعو أهل مكّة إلى عبادة اللّه وحده سألوه أن يأتيهم بآية تصحّح دعواه، فنزلت.

قيل: إنّه تعالى ذكر في سورة البقرة في نظير الآية، الآيات الثّمانية، و اكتفى هنا بذكر الثلاثة منها؛ لأنّ السّالك إلى اللّه في أوّل الأمر لا بدّ له من تكثير الدّلائل، فإذا استنار قلبه بنور المعرفة صار اشتغاله بالدّلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في المعرفة، فيصير طالبا لتقليلها.

ففي الآية الاولى إشارة إلى مبدأ السّلوك، و لذا قال هناك: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)و هنا: لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ، فإنّ لبّ العقل خالصه و مصفاه و كماله.

عن ابن عمر، قال: قلت لعائشة: ما أعجب ما رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! فبكت فأطالت، ثمّ قالت: كلّ أمره عجيب، أتاني في ليلة فدخل لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي، ثم قال لي: «يا عائشة، هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي؟» ، فقلت: يا رسول اللّه، إنّي لاحبّ قربك و احبّ مرادك، قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ، و لم يكثر من صبّ الماء، ثمّ قام يصلّي فقرأ من القرآن فجعل يبكي، ثمّ رفع يديه و جعل يبكي، حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول اللّه أتبكي، و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر! فقال: «يا بلال، أ فلا أكون عبدا شكورا؟» ثمّ قال: «ما لي لا أبكي و قد أنزل اللّه في هذه اللّيلة: إِنَّ فِي خَلْقِ

ص: 148


1- . الدّسار: المسمار.
2- . في نهج البلاغة: ينظمها.
3- . نهج البلاغة:41 الخطبة 1.
4- . البقرة 2:164.

اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ. . . ؟» ثمّ قال: «ويل لمن قرأها، و لم يتفكّر فيها» (1).

و روي أنّه قال: «ويل لمن لاكها بين فكّيه، و لم يتأمّل فيها» (2).

و عن عليّ عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قام من اللّيل يتسوّك، ثمّ ينظر إلى السّماء و يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ» (3).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 191

ثمّ وصف اللّه سبحانه اولي الألباب بقوله: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ بألسنتهم و قلوبهم حال كونهم قِياماً وَ قُعُوداً وَ مضطجعين عَلى جُنُوبِهِمْ و في سائر أحوالهم.

اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ (191)قيل: إنّه ثبت في الطّبّ: أنّ كون الإنسان مستلقيا على قفاه، يمتنع عن استكمال الفكر و التّدبّر، بخلاف الاضطجاع على الجنب، و أنّ الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أراد أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر اللّه» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من أكثر ذكر اللّه أحبّه [اللّه]» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «[لا يزال]المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه قائما و جالسا و مضطجعا، إنّ اللّه يقول: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ، الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا» (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعمران بن حصين: «صلّ قائما، فإن لم تستطع [فقاعدا، فإن لم تستطع]فعلى جنب تومئ إيماء» (4).

ثمّ لمّا كان كمال الذّكر بكونه مع التّفكّر، وصفهم بقوله: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ و إنشائها وَ اَلْأَرْضِ و إيجادها، و يعتبرون بهما.

و قيل: إنّ المراد: يتفكّرون في ما خلق اللّه في السّماوات من الشّمس و القمر و النّجوم، و في ما خلق اللّه في الأرض من الجبال و البحار و الأشجار و الوحوش و الطّيور.

ص: 149


1- . تفسير الرازي 9:133، تفسير روح البيان 2:145. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:134. (4 و 5) . تفسير الرازي 9:136.
2- . الكافي 2:362/3، تفسير الصافي 1:377.
3- . العياشي 1:357/829 و 831، و تفسير الصافي 1:377 عن الباقر عليه السّلام.
4- . تفسير أبي السعود 2:129.

و إنّما خصّ التّفكّر بالخلق؛ لأنّ معرفة حقيقة ذاته تعالى غير ممكنة للبشر، فلا فائدة لهم في التّفكّر في ذاته المقدّسة، و لذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تفكّروا في الخلق، و لا تتفكّروا في الخالق» (1).

قيل: لمّا كان الإنسان مركّبا من النّفس و البدن، كانت العبوديّة بحسب النّفس و البدن، فأشار إلى عبوديّة البدن بقوله: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ. . . ، فإنّ ذلك لا يتمّ إلاّ باستعمال الجوارح و الأعضاء و أشار إلى عبودية القلب و الرّوح بقوله: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ. . . .

في فضيلة التفكر

و فوائده

ثمّ-لمّا كان نتيجة التّفكّر في المخلوقات تنوّر القلب، و زيادة المعرفة بسعة قدرة اللّه و كمال حكمته-وصفهم بعد التّفكّر في عجائب صنع السّماوات و الأرض بإظهار المعرفة بقولهم: رَبَّنا اعترفنا بأنّك ما خَلَقْتَ هذا الخلق العظيم، و المصنوع العجيب باطِلاً و عبثا، بل فيه حكم بالغة و أسرار عظيمة لا تحيط بأقلّ قليل منها عقول الكائنات، و لا يمكن ان يبلغ إلى عشر من أعشارها إدراك الممكنات.

ثمّ لمّا كان من لوازم التّفكّر في الخلق، تنزيه خالقه عن التّشبيه به، يبادرون بعد التّفكّر إلى تنزيهه تعالى من الصّفات الإمكانيّة بقولهم: سُبْحانَكَ أن يكون لك خصائص الممكنات، و نقدّسك عن نقائض المخلوقات، و ننزّهك عمّا لا يليق بك من العبث، و فعل ما لا حكمة فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نبّه بالتّفكّر قلبك، و جاف عن اللّيل جنبك، و اتّق اللّه ربّك» (3).

و عن الرّضا عليه السّلام: «ليس العبادة كثرة الصّلاة و الصّوم، و إنّما العبادة التّفكّر في أمر اللّه» (4).

و روي أنّه كان أكثر عبادة أبي ذرّ التّفكّر [و الاعتبار] (5).

و يشهد على كون التفكّر أفضل العبادات، وضوح أنّ الغرض من الخلق المعرفة، و هي موقوفة على التّفكّر في صنائع اللّه عزّ و جلّ، فإنّ من تفكّر فيها-على ما هي عليه من النّمط البديع-قضى باتّصاف صانعها بالوجوب الذّاتي، لامتناع انتهاء وجود الممكن إلاّ إلى الواجب. و من اتّساقها على النّظام الأتمّ، علم بوحدانيّته الذّاتيّة، و قدرته الكاملة، و علمه الواسع، و حكمته البالغة.

و من لوازم حكمته جعل التّكاليف، و لازمه جعل الثّواب و العقاب، و لازمه إيجاد عالم آخر، و بعث المكلّفين فيه، ليتعامل معهم على حسب استحقاقهم، و أنّ من قدر على إنشائهم بلا مثال كان على

ص: 150


1- . تفسير الرازي 9:137.
2- . تفسير روح البيان 2:145.
3- . الكافي 2:45/1، تفسير الصافي 1:377.
4- . الكافي 2:45/4، تفسير الصافي 1:377.
5- . الخصال:42/33، بحار الأنوار 22:431/39.

إعادتهم أقدر. فظهر أنّ معرفة المبدأ و المعاد، و وظائف العبوديّة، و وجوب القيام بها نتيجة التّفكّر في الآفاق و الأنفس.

ثمّ لمّا كان على المؤمن بعد معرفة اللّه، و ظهور عظمته في قلبه، غاية التّخضّع، و إظهار ذلّة العبوديّة -و من الواضح أنّ أحبّ أنواعه عند اللّه الضّراعة و سؤال الحاجة، و أنّ أهمّ الحوائج للعباد، المؤمنين بالمعاد، النّجاة من العذاب، و السّلامة من العقاب-حكى اللّه بعد مدحهم بالتّفكّر و المعرفة و التّسبيح، ضراعتهم و مسألتهم النّجاة من النّار بقوله: فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ الذي أعددته للكافرين بك، و الجاحدين لربوبيّتك، و احفظنا منه بالتّوفيق للاجتناب عن الزّلاّت و المعاصي، حيث إنّه لا تسلم نفس من اقتراف الذّنوب مع خذلانك، و لا يرجى النّجاة من المهالك إلاّ بحفظك، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء، و الشّيطان عدوّ مبين.

قيل: في ذكر (الفاء) إشعار بترتّب هذا السّؤال على الذّكر و الفكر، و حصول المعرفة الكاملة، كأنّهم قالوا: و إذ عرفنا سرّك، و أطعنا أمرك، و نزّهناك عمّا لا يليق بك، فاحفظنا من عذاب النّار الذي هو جزاء من لا يعرفك.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 192

ثمّ لمّا كان الالتفات بعظم الحاجة موجبا لقوّة الدّاعي في الطلب و الإلحاح، حكى عنهم ذكر عظمة مطلوبهم بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ غاية الخزي، و أبعدته من مقام قربك، و حرمته من ساحة رحمتك، و أهنته بين خلقك، و فضحته على رؤوس الأشهاد، و أهلكته أبد الآباد. و في التّصدير بالنّداء مبالغة في التّضرّع، و إلحاح في الدّعاء، و في توصيفه بالرّبوبيّة و إضافتها إلى ضمير المتكلّم استرحام و استعطاف. و في التّأكيد ب(إنّ) إظهار لكمال اليقين بمضمون الجملة، و إيذان بشدّة الخوف. و في ذكر النّار موضع الإضمار إشعار بتهويل أمرها. و في ذكر (تدخل) بدل (تعذب) تعيين كيفيّة التّعذيب، و تبيين غاية فظاعته. و في ترتيب الخزي على التّعذيب بالنّار دلالة على أنّ العذاب الرّوحاني أشدّ من الجسماني، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «هبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟» (1).

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)ثمّ بالغوا في إظهار نهاية فظاعة حالهم تأكيدا لاستدعائهم، بقوله: وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم بعصيانك، حين دخولهم في النّار مِنْ أَنْصارٍ و أعوان كي يدفعوا عنهم العذاب.

ص: 151


1- . مصباح المتهجد:847.

و فيه إشعار بخلود عذابهم، بفقدان من يقوم بنصرتهم و تخليصهم. و في ذكر الظّالمين موضع الضّمير الرّاجع إلى المدخلين دلالة على ذمّهم، و علّة استحقاقهم لأشدّ العذاب.

ثمّ لمّا كان المراد بالنّاصر هو المدافع بالقهر، فلا دلالة في نفيه على نفي الشّفاعة التي هي ضراعة الشّفيع في التّخليص.

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «ما لهم من أئمّة يسمّونهم بأسمائهم» (1).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 193

ثمّ-لمّا كان الانقياد و حسن الخدمة و الطاعة دخيلا في تعطّف المسؤول، و إقدامه في قضاء حاجه السّائل، و إجابة دعائه-حكى اللّه عن المؤمنين إظهار إيمانهم و طاعتهم له و لرسوله بقوله: رَبَّنا و مليكنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً و داعيا عظيم الشّأن، كثير الاهتمام بالدّعوة، بحيث يرفع صوته بها، و هو يُنادِي و يدعو عامّة النّاس بصوت عال لِلْإِيمانِ بك و بوحدانيّتك، و كمال صفاتك، و صحّة شريعتك، و يدعوهم إلى سبيل مرضاتك، و الالتزام بطاعتك بكلمة جامعة لجميع هذه الأمور، هي أَنْ آمِنُوا أيّها النّاس بِرَبِّكُمْ و خالقكم اللّطيف بكم، و الرّؤوف المتولّي لجميع اموركم، الحافظ لمصالحكم، لوضوح أنّ معرفته تعالى بصفة الرّبوبيّة و الإيمان به ملازم للإيمان برسوله و كتابه و شريعته.

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ اَلْأَبْرارِ (193)و يحتمل أن يكون وجه تخصيص الأمر بالإيمان بالرّبّ، تفخيم شأنه.

فَآمَنّا به بلا مماطلة امتثالا لأمره، و بادرنا إلى الإقرار به إجابة لدعوته رَبَّنا إذن فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا و تجاوز عن كبائر معاصينا، جزاء لإيماننا بك وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا و امح صغائر زلاّتنا. و قيل: إنّ الجملة تأكيد للاولى.

ثمّ بعد سؤال المغفرة و التماس الأمن من العقوبة، يتوجّهون الى النّعم و اللّذائذ، و يسألون أتمّها و أعلاها بقولهم: وَ تَوَفَّنا و اقبض أرواحنا، و أخرجنا من الدّنيا حال كوننا مصاحبين مَعَ اَلْأَبْرارِ محظوظين بجوارهم، ملتذّين بمرافقتهم و صحبتهم، فإنّ صحبة الأحبّة أتمّ اللّذائذ و أعلا الحظوظ.

و قيل: إنّ المراد: حال كوننا معدودين في زمرة المطيعين، أو التّابعين لهم في أعمالهم، حتّى نكون في درجاتهم.

ص: 152


1- . تفسير العيّاشي 1:357/832، تفسير الصافي 1:378.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 194

ثمّ بعد طلب الأمن من العقوبة، و سؤال أهم النّعم، يعمّون السّؤال، و يستدعون جميع المثوبات الموعودة للمؤمنين، بقولهم: رَبَّنا وَ آتِنا برحمتك، و أعطنا بجودك و كرمك ما وَعَدْتَنا من الثّواب و الأجر الدّنيوي و الاخروي عَلى تصديق رُسُلِكَ . و قيل: إنّ المراد: ما وعدتنا بالوعد الكائن على ألسنة رسلك، و وسائط تبليغ وحيك.

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (194)و في تكرير النّداء بقولهم: رَبَّنا إظهار المبالغة في الضّراعة.

عن الصادق عليه السّلام: «من حزبه (1)أمر فقال: ربّنا؛ خمس مرّات، أنجاه اللّه ممّا يخاف، و أعطاه ما أراد» (2). و في ذكر جميع الرّسل-مع كون المراد من المنادي للإيمان خصوص خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله-إشعار باتّفاقهم في الوعد، و تأكّده بكثرة الشّهود، و إظهار كمال الثّقة بإنجازه.

ثمّ أنّه تعالى-بعدما حكى عن المؤمنين تقديم سؤال المغفرة و الأمن من العقوبة على سؤال الجنّة و سائر النّعم و المثوبات، إظهارا لأهميّته و كونه أصلا، و غيره فرعا و تبعا-حكى عنهم ختم دعواتهم به تثبيتا لذلك، بقوله: وَ لا تُخْزِنا و لا تهنّا بين النّاس يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بالعذاب الدّائم.

و قيل: إنّ السّؤال الأوّل-و هو الوقاية من النّار-طلب الأمن من العذاب الجسماني، و السّؤال الآخر من قولهم: وَ لا تُخْزِنا، طلب السّلامة من الخزي و الهوان؛ و هو العذاب الرّوحاني، حيث يظهر يوم القيامة لبعض العباد أنّ اعتقاده كان ضلالا، و عمله كان ذنبا؛ كما قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (3)، فعند ذلك يحصل لهم خجلة عظيمة، و حسرة كاملة، و أسف شديد، و ذلك هو العذاب الرّوحاني، و هو أشدّ من العذاب الجسماني.

و قيل: إنّ المراد: لا تهنّا حين إعطاء الثّواب، بل عظّمنا و أكرمنا. فإنّه يمكن أن يكون إعطاء الثّواب مقرونا بالتّوهين.

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن المؤمنين إظهار اليقين بامتناع صدور خلف الوعد منه تعالى، بقوله: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ لإظهار أنّ سؤال الوفاء بالوعد ليس لخوف صدور خلف الوعد منه تعالى، بل لإظهار الاستكانة، أو احتمال التّقصير من قبلهم، و الخوف من أنّهم لا يكونون من جملة الموعودين، لسوء العاقبة، أو القصور في الامتثال، فمرجعها إلى الدّعاء بالتّثبّت على الإيمان و الطّاعة.

ص: 153


1- . حزبه الأمر: اشتدّ عليه.
2- . تفسير الرازي 9:151، تفسير أبي السعود 2:133.
3- . الزمر:39/48.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه البعث بعد الموت (1). يعني: المراد من الميعاد: البعث الموعود.

في ذكر آداب

الدعاء و كيفيته

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى علّم عباده-في هذه الآيات من قوله: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ (2)إلى قوله: لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ -آداب الدّعاء و كيفيّاته، حيث ظهر منها أنّه لا بدّ للدّاعي قبل الدّعاء [من]التّفكّر في آيات اللّه، و تحصيل المعرفة به، ثمّ ثنائه بالتّسبيح و التّهليل، ثمّ مخاطبته بخطاب فيه كمال الضرّاعة، و إظهار العبوديّة و الاستكانة، ثمّ ندائه بما فيه جلب العطوفة؛ كقول: يا ربّ، يا رحيم، يا رؤوف، و أمثال ذلك، ثمّ تذكّر ما فيه اشتداد شوقه إلى الدّعاء، و ما يؤثّر في تقوية داعي المدعوّ إلى الإجابة، ثمّ يخصّ دعاءه بالمهمّات، و يكون نظره إلى الحوائج الاخرويّة، و لا يعتني إلى الدّنيا و ما فيها، و لا يطلب في دعائه شيئا منها، و يقدّم أوّلا طلب المغفرة؛ لأنّها-مع كونها من أهمّ الحوائج-لها أثر تامّ في إجابة الدّعاء به.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همّ فرجا، و من كلّ ضيق مخرجا، و رزقه من حيث لا يحتسب» الخبر (3).

و يسأل النّجاة من النّار و الهوان في الآخرة، ثمّ يطلب النّعم و الدّرجات الرّفيعة في الجنان-لتقدّم التّخلية على التّحلية-و أن يكون على يقين بكرم اللّه، و أنّه يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه حسب ما وعد، و أنّه لا يخلف الوعد، و لا يسوء ظنّه به تعالى.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 195

ثمّ رتّب اللّه على دعواتهم الجامعة لآدابها الإجابة السّريعة بقوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ و تحقّق إنجاح مسؤولهم من مليكهم اللّطيف بهم، المكمّل لنفوسهم.

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوابِ (195)و قيل: إنّ (استجاب) أخصّ من (أجاب) ، فإنّ (أجاب) معناه: أعطاه الجواب، و هو أعمّ من إعطاء المطلوب، و إنّما يقال: (استجاب) إذا حصل المطلوب.

ص: 154


1- . تفسير البيضاوي 1:196، تفسير أبي السعود 2:133.
2- . آل عمران:3/191.
3- . تفسير روح البيان 2:149.

و استجابته كانت بإنجاز وعده بالثّواب على الإيمان و أعمالهم الصّالحة المسلتزمة للمغفرة و الوقاية من النّار، موجّها الخطاب إليهم تشريفا لهم، و تطييبا لقلوبهم، بقوله: أَنِّي لا أُضِيعُ و لا ابطل عَمَلَ عامِلٍ أيّ عامل كان مِنْكُمْ من الكاملين في الإيمان، أو الضّعفاء مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى و من خسيس النّسب أو شريفه؛ لأنّه بَعْضُكُمْ منشعب مِنْ بَعْضٍ آخر، و كلّكم من أصل واحد، فلا مزيّة لأحد على أحد عند اللّه إلاّ بالتّقوى و العمل الصّالح، فمع تساوي النّسبة إلى اللّه، و كون التّفاوت و المزيّة بالإيمان و القيام بوظائف العبودية، لا يمكن إثابة بعض دون بعض.

و قيل: إنّ المراد من قوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أنّكم متوافقون في الدّين و الأعمال؛ كما قال في حقّ المنافقين: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (1).

و قيل: إنّ (من) بمعنى: (الكاف) و المعنى: بعضكم كبعض (2)، و المقصود: بيان شركة النّساء مع الرّجال في ما وعد للأعمال.

روي أنّ امّ سلمة قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أسمع اللّه يذكر الرّجال في الهجرة، و لا يذكر النّساء، فنزلت الآية (3).

ثمّ ذكر اللّه تفصيل أعظم الأعمال التي يستحقّ بها غاية الثّواب، بقوله: فَالَّذِينَ هاجَرُوا من أوطانهم حفظا لدينهم، و اختيارا لخدمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و شوقا إلى صحبته-عن القمّي رحمه اللّه يعني: أمير المؤمنين، و سلمان (2)-أو لم يهاجروا اختيارا وَ لكن أُخْرِجُوا قهرا و جبرا مِنْ دِيارِهِمْ التي ولدوا فيها و توطّنوها، و اضطرّوا إلى ترك الإقامة بها بسبب إيذاء المشركين، و الخوف على أنفسهم و أعراضهم، وَ الّذين أُوذُوا من الكفّار، بأيّ نوع من أنواع الإيذاء فِي سَبِيلِي لأجل تحصيل مرضاتي من الإقرار بالتّوحيد، و الدّخول في الملّة الحنيفيّة وَ الّذين قاتَلُوا أعداء الدّين، و جاهدوا معهم نصرة للإسلام وَ قُتِلُوا في ترويج الشّريعة، تاللّه لَأُكَفِّرَنَّ و أمحونّ عَنْهُمْ و من صحيفة أعمالهم سَيِّئاتِهِمْ و خطاياهم وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ في القيامة برحمتي و فضلي جَنّاتٍ عديدة، تكون من محسّناتها و صفاتها أنّه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، و لاثيبنّهم وفاء بالوعد ثَواباً عظيما على هذه الأعمال و غيرها، حال كون ذلك الثّواب تشريفا لهم مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و من قبل فضله وجوده.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الوعد، و تشريف الثواب بقوله: وَ اَللّهُ مذخور عِنْدَهُ و في خزائن

ص: 155


1- . التوبة:9/67. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:150.
2- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:379.

جوده حُسْنُ اَلثَّوابِ و أكمل الجزاء على طاعته، لا يعادله ثواب، و لا يشابهه جزاء.

قيل: في تصدير الوعد الكريم بعدم الإضاعة، ثمّ تعقيبه بهذا الإحسان الجسيم الذي لا يقادر قدره من لطف المسلك المنبئ من عظم شأن المحسن ما لا يخفى.

ثمّ أنّ ظاهر الآية و إن كان ثبوت هذا الأجر العظيم للّذين اجتمعت لهم جميع هذه الأمور من الهجرة، و الإخراج من الاوطان، و الإيذاء، و المقاتلة و القتل، و لكن يحتمل أن يكون لمن له أحدها، و يؤيّده سعة رحمة اللّه و فضله.

عن (الأمالي) : أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا هاجر من مكّة إلى المدينة ليلحق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ و قد قارع الفرسان من قريش، و معه فاطمة بنت أسد و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فاطمة بنت الزّبير، فسار ظاهرا قاهرا حتّى نزل ضجنان (1)فتلوّم بها يوما و ليلة، و لحق به نفر من ضعفاء المؤمنين، و فيهم امّ أيمن مولاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يصلّي ليلته تلك هو و الفواطم و يذكرون اللّه قياما و قعودا و على جنوبهم، فلن يزالوا كذلك حتّى طلع الفجر، فصلّى بهم صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه.

فجعل هو و هنّ يصنعون ذلك منزلا بعد منزل، يعبدون اللّه عزّ و جلّ و يرغبون إليه كذلك حتّى قدموا المدينة، و قد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً (2)الآيات، إلى قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى الذّكر: علىّ عليه السّلام، و الانثى: الفواطم بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني: عليّ من فاطمة، أو قال: من الفواطم، و هنّ من عليّ (3).

و عن القمّي رحمه اللّه: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: أبا ذرّ حين اخرج و عمّار اللذين اوذوا في سبيل اللّه (4).

أقول: الظّاهر أنّ الرّواية بيان لأظهر مصاديق الآية و أكملها، لا أنّها تفسير لها، بل هي عامّة لكلّ من اتّصف بتلك الصّفات.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 196 الی 197

ثمّ لمّا وعد اللّه سبحانه الثّواب العظيم على الإيمان و الهجرة، و كان المهاجرون في شدّة الفقر و الفاقة، صاروا معرضا للطّعن بأنّه لو كان لهم منزلة عند اللّه لأعطاهم من الدّنيا ما يعيشون به في

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (197)

ص: 156


1- . ضجنان: جبل على بريد من مكة.
2- . آل عمران 3/191.
3- . أمالي الصدوق:471/1031، تفسير الصافي 1:379.
4- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:379.

الرّاحة، فدفع اللّه ذلك الطّعن، و سلّى قلوب المؤمنين مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله تشريفا له، و إيذانا بكونه المسلّي عن اللّه و المبلّغ، بقوله: لا يَغُرَّنَّكَ و لا يلقينّك في اعتقاد خلاف الواقع-و قيل: إنّ الخطاب لكلّ أحد- تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ و تصرّفهم في المكاسب و المتاجر، و تبسّطهم في المعيشة، و المؤمنون في شدّة الفاقة-أو المراد: سيرهم في الأرض آمنين، و المؤمنون في خوف-أنّ للكفّار منزلة عند اللّه دون المؤمنين،

فإنّ الغنى أو الأمن الذي يكون للكفّار مَتاعٌ قَلِيلٌ في الدّنيا، و انتفاع يسير فيها، يزول بسرعة و لو كانت مدّته طويلة، لوضوح أنّ أمد الدّنيا-بالنّسبة إلى طول مدّة الآخرة-أقلّ من دقيقة بالإضافة إلى أضعاف عمر الدّنيا، و أنّه لا قدر لنعمها في جنب أقلّ قليل من نعم الآخرة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «ما الدّنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر ما (1)يرجع!» (2).

ثُمَّ بعد انقضاء أجلهم يكون مَأْواهُمْ و منزلهم إلى الأبد جَهَنَّمُ يصلونها وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ تلك جهنم، و ساء ما مهّدوا و هيئوا لأنفسهم من النّار بسبب كفرهم باللّه، و حبّهم للدّنيا.

قيل: إنّ مشركي مكّة كانوا يتّجرون و يتنعّمون، و إنّ بعض المسلمين كانوا يرونهم في رخاء ولين عيش فيقولون: [إنّ]أعداء اللّه في ما نرى من الخير، و قد هلكنا من الجوع و الجهد، فنزلت (3).

و قيل: إنّ اليهود كانت تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فنزلت (4)، فبيّن اللّه تعالى أنّ الدّنيا مع قلّتها و خساستها مورثة للعذاب الدّائم. و من الواضح أنّ النّعمة القليلة لا تعدّ نعمة إذا كانت مستتبعة للمضرّة الشّديدة، بل يجب على العاقل أن يتحرّز منها، و يفرّ عنها.

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 198

ثمّ أتبع اللّه سبحانه وعيد الكفّار المنهمكين في حبّ الدّنيا بوعد المؤمنين المهتمّين بامور الآخرة، بالثّواب العظيم، و بيّن حسن حالهم فيها، غبّ (3)بيان كرّر ذكره إثر ما قرّر، مع زيادة بيان خلودهم في الجنّات العالية و النّعم الباقية، ليتمّ بذلك سرورهم، و يتزايد به إيضاح سوء حال مخالفيهم، بقوله: لكِنِ المؤمنون اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ و خافوا من عصيان مليكهم، و احترزوا عن الإشراك به

لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

ص: 157


1- . في تفسير أبي السعود: بم.
2- . تفسير أبي السعود 2:135. (3 و 4) . تفسير الرازي 9:152.
3- . الغبّ: بمعنى بعد.

و الكفران لنعمه، يكون لَهُمْ خاصّة بالاستحقاق جَنّاتٌ عديدة، و بساتين عالية ذوات أشجار وفيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا، آمنين من الخروج منها، و تكون تلك النّعم العظيمة نُزُلاً و تهيئة تشريفيّة مِنْ عِنْدِ اَللّهِ للنّازلين عليه، و الوافدين لديه.

و قيل: إنّ المراد أنّها تكون رزقا و عطاء لهم من فضله.

وَ ما هو مذخور عِنْدِ اَللّهِ و في خزائن رحمته من النّعم خَيْرٌ و أنفع؛ لكثرتها و دوامها، و خلوصها من شوب المكاره لِلْأَبْرارِ و المطيعين للّه، ممّا يتقلّب فيه الكفّار، و يكتسبون من الأموال، و يتمتّع به الفجّار، و ينتفعون من متاع الدّنيا؛ لقلّته، و سرعة زواله، و شوبه بأنواع المكاره و الآلام، مع و خامة تبعاته و وباله.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: ما من نفس برّة و لا فاجرة إلاّ و الموت خير لها، أمّا البرّة فإنّ اللّه تعالى يقول: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ و أمّا الفاجرة فإنّه يقول: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً (1).

و عن ابن الخطاب، قال: جئت فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مشربة (2)، و إنّه لعلى حصير ما بينه و بينه شيء، و تحت رأسه و سادة من أدم حشوها ليف، و عند رجليه قرظا مصبورا (3)، و عند رأسه اهب (4)معلّقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما يبكيك؟» فقلت: يا رسول اللّه، إنّ كسرى و قيصر فيما هما فيه، و أنت رسول اللّه! فقال: «أما ترضى أن تكون لهما الدّنيا و لنا الآخرة» (5).

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 199

ثمّ أنّه تعالى بعدما بين سوء حال الكفار، الذين منهم أهل الكتابين، بشّر بحسن حالم من آمن منهم بدين الإسلام، بقوله: وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ الّذين دخلوا في دين الإسلام عن صميم القلب، كعبد اللّه بن سلام و أضرابه لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ و يصّدق بوحدانيّته وَ يعترف بأنّ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من الدّين و القرآن حقّ، و أنّهما من اللّه.

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (199)

ص: 158


1- . تفسير روح البيان 2:154، و الآية من سورة آل عمران:3/178.
2- . المشربة: الغرفة.
3- . القرظ: ورق السّلم يدبغ به، و مصبور، أي مجموع مكوّم.
4- . الأهب: جمع إهاب، و هو الجلد قبل الدّبغ.
5- . تفسير روح البيان 2:154.

و تقديمه (1)على قوله: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين، في الذّكر-مع أنّ الأمر في الوجود بالعكس- للإشعار بأشرفيّة الإيمان بالأول من الثّاني، و أنّ الإيمان بالكتابين متوقّف على ثبوتهما بالقرآن، لانقطاع التّواتر عنهما، و ثبوت التّحريف فيهما، حسب ما حقّق في محلّه، فلو لم يكن إخبار القرآن بكونهما من عند اللّه لم يكن طريق إلى الإيمان بهما.

ثمّ وصفهم اللّه بكونهم خاشِعِينَ متواضعين لِلّهِ خوفا من عقابه و طمعا في ثوابه، أو تعظيما له، و بكونهم لا يَشْتَرُونَ و لا يستدلون بِآياتِ اَللّهِ المنزلة في الكتابين ثَمَناً قَلِيلاً و عوضا يسيرا، و لا يحرّفونهما، و لا يكتمون ما فيهما من شواهد نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله استجلابا لحطام الدّنيا، و حفظا لرئاستهم، كما هو دأب من لم يسلم من أحبارهم و قسّيسيهم أُولئِكَ المتّصفون بهذه الصّفات الكريمة الفائقة لَهُمْ أَجْرُهُمْ العظيم الموعود، و ثوابهم المذخور عِنْدَ رَبِّهِمْ اللّطيف بهم، يصل إليهم في الآخرة بلا تأخير و لا تسويف، بسبب طول الحساب إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ لسعة علمه بجميع الأشياء، فلا حاجة له في تعيين جزاء العاملين إلى فكر و وعي صدر، و مدّة و تحقيق و كتب، فيكون أجر كلّ أحد سريع الوصول إليه.

عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في النّجاشي، فإنّه لمّا مات نعاه جبرئيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» ، فخرج إلى البقيع، و نظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النّجاشي، و صلّى عليه و استغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا، يصلّي على علج (2)نصراني لم يره قطّ، و ليس على دينه، فنزلت (3).

و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران، و آثنين و ثلاثين رجلا من الحبشة، و ثمانية من الرّوم، كانوا على دين عيسى عليه السّلام فأسلموا (4).

و قال بعض: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلّهم (5) .

سوره 3 (آل عمران): آیه شماره 200

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر في السّورة المباركة كثيرا من الاصول كالتوحيد و العدل و النّبوّة و المعاد، و كثيرا من الفروع كالحجّ و الجهاد و غيرهما، ختمها ببيان ما يوجب المحافظة عليها، و القيام بالعمل بها،

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

ص: 159


1- . أي تقديم قوله تعالى: ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ على قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ .
2- . العلج: الكافر من العجم. (3 و 4) . مجمع البيان 2:916.

بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا على مشاقّ التّكاليف، و ما يصيبكم من الشّدائد كالقحط، و الفقر، و البلايا، و الأمراض، و سائر المصائب، أو على أداء الواجبات وَ صابِرُوا في قتال أعداء اللّه في مواطن الحروب، و في أداء حقوق النّاس و تحمّل المكاره منهم، أو على ترك المحرّمات. و تخصيص المصابرة بالأمر بعد الأمر بمطلق الصّبر، لاختصاصها بمزيد التّعب و المشقّة.

عن القمّي: عن الصادق عليه السّلام: «اصبروا على المصائب، و صابروا على الفرائض» (1).

و عن العيّاشي: عنه عليه السّلام: «اصبروا على المعاصي، و صابروا على الفرائض» (2).

و في رواية: «اصبروا على دينكم، و صابروا عدوّكم ممّن يخالفكم» (3).

و عن (المعاني) : عنه عليه السّلام: «اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «و صابروهم على التقيّة» (5).

وَ رابِطُوا على الأئمّة، كما عن الصادق عليه السّلام (6). و في رواية اخرى: «و رابطوا إمامكم» (7). و في اخرى: «رابطوا على ما تقتدون به» (8).

أو المراد: رابطوا الصّلوات، أي انتظروها واحدة بعد واحدة، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام، معلّلا بأنّ المرابطة لم تكن حينئذ (9).

و عن أبي سلمة، أنّه قال: لم يكن في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غزو يرابط فيه، و إنّما نزلت هذه الآية في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة (10).

و نقل أنّه ذكر انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فقال أبو هريرة: فذلكم الرّباط، ثلاث مرّات (11).

و يحتمل إرادة القدر المشترك بين المعاني المذكورة، و يؤيّده ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من الرّباط انتظار الصّلاة بعد الصّلاة» (10).

و يحتمل أنّ يكون المعنى: أقيموا في الثّغور رابطين خيلكم فيها، مترصّدين للغزو و الجهاد، كما هو ظاهر اللّفظ عند العرف.

عن القمّي رحمه اللّه: عن السجاد عليه السّلام: «نزلت في العبّاس و فينا، و لم يكن الرّباط الذي امرنا به، و سيكون

ص: 160


1- . تفسير القمي 1:129، تفسير الصافي 1:380.
2- . تفسير العياشي 1:358/836، تفسير الصافي 1:380.
3- . تفسير العياشي 1:359/838، تفسير الصافي 1:380.
4- . معاني الأخبار:369/1، و فيه: على التقية، تفسير الصافي 1:380.
5- . معاني الأخبار:369/1، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 1:380.
6- . الكافي 2:66/3، تفسير الصافي 1:380.
7- . تفسير العياشي 1:359/838، تفسير الصافي 1:380.
8- . معاني الأخبار:369/1، تفسير الصافي 1:380.
9- . مجمع البيان:918، تفسير الصافي 1:381. (10 و 11) . تفسير الرازي 9:156.
10- . مجمع البيان 2:918، تفسير الصافي 1:381.

من نسلنا المرابط، و من نسله المرابط» (1). انتهى.

و الظّاهر أنّ المراد: المرابطة في زمان القائم المنتظر صلوات اللّه عليه.

ثمّ-لمّا كان الإقدام على تلك المشقّات، و التّحمّل لهذه المرارات شديدا على النّفس، محتاجا إلى قوّة الدّاعي-ذكر اللّه تعالى أقوى الدّواعي، و هو التّقوى و الخوف من اللّه، بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و خافوه في مخالفة أوامره و أحكامه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و كي تفوزوا بأعلى المقاصد من النّجاة من النّار، و التّنعّم و الرّاحة في دار القرار.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا، و يرفع به الدّرجات؟» . قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطى إلى المساجد، و انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط» (2).

و نقل عن أصحاب التذكير أنّهم قالوا: إنّ المراد من الآية المباركة: اصبروا عند قيام اليقين على احتمال الكرب، و صابروا على مقاساة العناء و التّعب، و رابطوا في ديار أعدائي بلا هرب، و اتّقوا اللّه في الالتفات إلى السّبب، لعلّكم تفلحون غدا بلقائي على نشاط و طرب.

و قال السرقسطي: اصبروا على الدّنيا رجاء السّلامة، و صابروا عند لقاء أعدائي بالثّبات و الاستقامة، و رابطوا هوى النّفس اللّوامة، و اتّقوا ما يعقب النّدامة، لعلّكم تفلحون غدا على بساط الكرامة.

و قيل: اصبروا على النّعماء، و صابروا على البأساء و الضّرّاء، و رابطوا في دار الأعداء، و اتّقوا إله الأرض و السّماء، لعلّكم تفلحون في دار البقاء.

و قيل: اصبروا على مضض الطّاعات، و صابروا على رفض العادات، و رابطوا السّرّ على جناب واهب العطيّات، و اتّقوا اللّه بالتبرّي ممّا سواه من الكائنات، لعلّكم تفلحون في الدّنيا بأعلى المقامات، و في الآخرة بأرفع الدّرجات.

أقول: اعلم أنّ القلب الإنساني إذا زكا بالرّياضة-من الصّبر على الطّاعة، و ترك اتّباع الهوى، و قطع علاقة الدّنيا، و المصابرة على البأساء و الضّرّاء، و الثّبات في مكايدة الأعداء، و تحمّل الشّدائد في سبيل اللّه و في تحصيل رضاه-و نقي عن النّفاق و خبائث الأخلاق، و طهر عن دنس الشّهوات بالتّقوى، يفاض عليه أوّلا خواطر الخير، و نور الهداية إلى حقائق الأمور من خزائن الملكوت و عالم الجبروت، فيصرف عقله إلى التّفكّر في ما فيه خيره و صلاحه، و ما به كمال نفسه، و القرب إلى رحمة ربّه، و النّظر في مقدّماته و محصّلاته، فعند ذلك يطّلع على أسرار الطّاعات، و ينكشف له بنور البصيرة حقائق

ص: 161


1- . تفسير القمي 2:23، تفسير الصافي 1:380.
2- . تفسير روح البيان 2:157.

الخيرات و الحسنات، فيلزمه عقله بفعلها، و يزجره عن أضدادها من الشّرور و القبائح، فيتقرّب إلى كلّ خير و يلتزم به، و يتباعد عن كلّ سوء و يجتنب عنه.

فإذا نظر الملك المرشد و المعلّم للحقائق إلى هذا القلب-المعبّر عنه بالنّفس النّاطقة-و وجده طيّبا بجوهره، طاهرا بتقواه، نقيّا من خواطر السّوء، مستنيرا بضياء العقل، أفاض عليه أنوار المعرفة و الحكمة و الهدى، و أيّده بجنود لا ترى، و أرشده إلى خيرات اخرى، و سدّده بإلهامات تترى فيشرق في تلك اللّطيفة (1)الرّبانيّة حينا بعد حين نور على نور، من مشكاة نور الأنوار، حتّى لا يبقى فيه من ظلمة الشّرك شيء، و لو كان أخفى من دبيب النّملة السّوداء، في اللّيلة الظّلماء، على الصّخرة الصّماء، فلا يؤثّر فيه شيء من مكائد الشّيطان و دسائسه، و لا يلتفت إلى حيله و مكائده، بل يتوجّه بشراشره (2)إلى ربّه، و يستغرق بكلّه في ذكره.

و هذا هو معنى الفلاح الحقيقي في الدّنيا المستعقب للفلاح الأبدي في الآخرة من الرّحمة و الرّضوان، و النّعم الدّائمة الباقية في الجنان، و مرافقة الأنبياء و الشّهداء، و مصاحبة الأولياء و الصّلحاء، كما قال سبحانه و تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي (3).

و إنّما قال سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، و لم يقل: كي تكونوا مفلحين، إشعارا بأنّ الإنسان ما دام فيه الرّوح، و يكون في عالم الطّبيعة، من قبل النّفس الأمّارة، و شياطين الإنس و الجنّ، في خطر عظيم و إن كان من المخلصين، فإذا فارق الدّنيا مقالا من الزّلاّت، سليما من الهفوات (4)بتأييد اللّه و توفيقه، حتم له الفلاح و أتقن (5)به، كما قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ (6).

فعلى العبد المؤمن أن يكون خائفا من مكائد الشّياطين المغوية و غلبة الهوى المردية، في جميع حالاته و آنات عمره، و يستعيذ باللّه السّميع العليم من شرّ أعدى عدوّه، و يلتجئ إلى ربّه، و يتضرّع إليه أن يحفظه من الضّلال و سيّئات الأعمال بلطفه و عنايته، و أن لا يخذله بإيكاله إلى نفسه.

قال سبحانه: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ (7)، و قال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً (8)، و قال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اَللّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ (9).

ص: 162


1- . أي القلب.
2- . شراشر القلب: أطرافه، أو كلّ القلب بجملته.
3- . الفجر:89/27-30.
4- . في النسخة: الهوات.
5- . كذا، و الظاهر: و أيقن.
6- . المؤمنون:23/1.
7- . فاطر:35/6.
8- . النساء:4/83.
9- . النور:24/21.

فليحذر العبد أن يعجب بنفسه، و يغترّ بعمله، و يأمن من زلله، إلى زمان حلول أجله. لقد كان في قصص كثير من العباد عبرة لاولي الألباب.

قال اللّه تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ اَلْغاوِينَ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1)، إلى أن قال: مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (2).

و لذا ورد الأمر بالإكثار من قول: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا (3)إلى آخر الآية.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة آل عمران اعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ السّورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلّى اللّه عليه و ملائكته حتّى تحتجب الشّمس» (5).

وفّقنا اللّه و جميع المؤمنين لأداء حقّه.

ص: 163


1- . الأعراف:7/175 و 176.
2- . الأعراف:7/178.
3- . آل عمران:3/8. (4 و 5) . تفسير البيضاوي 1:198.

ص: 164

في تفسير سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 4 (النساء): آیه شماره 1

في وجه نظم

سورة النساء

ثمّ اردفت السّورتان-المتضمّنتان لإثبات التّوحيد، و الرّسالة، و محاجّة اليهود و النّصارى، و بيان مهمّات حقوق اللّه، كوجوب الصّلاة، و الصّوم، و الزّكاة، و الحجّ، و الجهاد، و أمثال ذلك-بسورة النّساء المشتملة لبيان مهمّات حقوق النّاس، كاليتامى و الأزواج و السّفهاء و الورّاث و غير ذلك، فافتتحها بالبسملة ليتعلّم العباد التبرّك بها عند الشّروع في كلّ أمر ذي بال.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)ثمّ لمّا ختم سورة آل عمران بآية فيها الأمر بالتّقوى معلّلا برجاء الفلاح في المعاد-و لذا خاطب المؤمنين بالمبدأ و المعاد لتوقّف هذا الرّجاء على الإيمان بهما-أكّد ذلك الأمر بالتّقوى ثانيا معلّلا بمعرفة المبدأ، و الخوف من سعة قدرة اللّه، و نفوذ إرادته، و لذا خاطب جميع النّاس بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ الظّاهر في إرادة جميع الموجودين منهم في زمان الخطاب، و إن قال ابن عبّاس: إنّه خطاب لأهل مكّة (1). و عليه يشترك معهم غيرهم، و إن كانوا معدومين في الحكم الذي ذكره تعالى بقوله: اِتَّقُوا و خافوا رَبَّكُمُ و مكمّل وجودكم، في مخالفة أحكامه التي سيبيّنها لكم و غيرها.

و في توصيف ذاته المقدّسة بالرّبوبيّة تنبيه على كمال رأفته و قدرته، اللّتين هما علّتان تامّتان للقيام إلى طاعته و الاجتناب عن معصيته.

في مبدأ خلق

حوّاء

ثمّ بالغ في تعريف رأفته و قدرته بتوصيف ذاته المقدّسة بقوله: اَلَّذِي بجوده و حكمته خَلَقَكُمْ و قدّر وجودكم الذي هو أصل النّعم و أعاليها، الموجب لغاية

ص: 165


1- . تفسير الرازي 9:157.

الشّكر، و التمحّض للطّاعة، و القيام بوظائف العبوديّة.

ثمّ لمّا كان التّرهيب أدخل من التّرغيب في البعث على امتثال التّكاليف، و تحمّل المشاقّ، أوضح كمال قدرته بقوله: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و شخص فارد، كان إيجاد جميع الخلائق التي لا تحصى كثرة [منه]و هو آدم.

عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه: سمّي به لأنّه خلق من أديم الأرض كلّها، أحمرها و أسودها، طيّبها و خبيثها، فلذلك كان في ولده الأحمر و الأسود، و الطّيّب و الخبيث (1).

أقول: يمكن كون المراد من الأحمر و الأبيض؛ لأنّه (2)من الأضداد.

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق آدم من الماء و الطّين، فهمّة ابن آدم في الماء و الطين» (3).

ثمّ قرّر سبحانه انتهاء الخلق إلى أصل واحد، و نفس واحدة، بقوله: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء، فزوّجها من فرعها، فلا يتوهّم أنّ الخلق كان من أصلين، و من نفسين.

عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «أنّ اللّه خلق حوّاء من آدم، فهمّة النّساء في الرّجال» (4).

عن القمّي: «برأها من أسفل أضلاعه» (3).

عن العيّاشي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «خلقت حوّاء من قصيرى جنب آدم-و القصيرى: هو الضّلع الأصغر-فأبدل اللّه مكانه لحما» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها» (7).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، في رواية: و إنّما سمّيت المرأة بحوّاء؛ لأنّها خلقت من ضلع من أضلاع آدم، فكانت مخلوقة من شيء حيّ، فلا جرم سمّيت بحوّاء (8).

و رواها في (معاني الأخبار) أيضا (5).

في بيان حكمة خلق

حوّاء من الضّلع

الأيسر

و لعلّ حكمة جعل مبدأ خلق حوّاء الضّلع الأيسر، تأثيره في تعطّف الزّوج بالزّوجة (6)، و حصول الالفة بينهما، و تعلّق قلب الزّوج بها، و يسر دخولها تحت يد الزوج و سلطانه، و تمكينها من مضاجعة الزّوج: حيث إنّ الضّلع الأيسر جزء منعطف

ص: 166


1- . تفسير الرازي 9:161.
2- . كذا، و الظاهر: أنّه. (3 و 4) . تفسير العياشي 1:361/846، تفسير الصافي 1:382.
3- . تفسير القمي 1:130، تفسير الصافي 1:382.
4- . تفسير العياشي 1:361/844، تفسير الصافي 1:382. (7 و 8) . تفسير الرازي 9:161.
5- . معاني الأخبار 48/1.
6- . كذا، و الظاهر: على الزوجة.

واقع في الجنب، قريب من القلب، تحت اليد اليسرى التي بها تبطش بالامور السّهلة، و ينام عليه غالبا، هذا هو المشهور بين العامّة، و عليه جلّ مفسّريهم.

و في عدّة روايات-من طرق الخاصّة عن الصادقين عليهما السّلام-تكذيبه، و تأويل الضّلع الأيسر بالطّينة التي فضلت من ضلعه الأيسر. (1)و ردّ علمه إلى الرّاسخين في العلم أولى-بعد عدم حجّيّة أمثال هذه الرّوايات التي لا ربط لها بالحكم الشّرعي-من تكلّف الجمع بينهما بما في حاشية (أسرار التنزيل) (2)، و تبعه الفيض في (الصّافي) (3).

في تزويج حوّاء

من آدم

ثمّ أنّه روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا خلق آدم من طين، و أمر الملائكة فسجدوا له، ألقى عليه السّبات، ثمّ أبدع له حوّاء، فجعلها في مواضع النّقرة التي بين وركيه، لكي تكون المرأة تبعا للرّجل، فأقبلت تتحرّك فانتبه، فلمّا انتبه نوديت أن تنحّي عنه، فلمّا نظر إليها نظر إلى خلق حسن يشبه صورته غير أنّها انثى، فكلّمها فكلّمته بلغته، فقال لها: من أنت؟ فقالت: خلق خلقني اللّه كما ترى، فقال آدم عند ذلك: يا ربّ، من هذا الخلق الذي آنسني قربه و النّظر إليه؟ فقال اللّه: يا آدم، هذه أمّتي حوّاء، أفتحبّ أن تكون معك فتؤنسك و تحدّثك و تأتمر لأمرك؟ فقال: نعم يا ربّ، و لك عليّ بذلك الشّكر و الحمد ما بقيت. فقال اللّه تبارك و تعالى: فاخطبها إليّ فإنّها أمتي و قد تصلح لك أيضا زوجة للشّهوة.

و ألقى اللّه عليه الشّهوة، و قد علّمه قبل ذلك المعرفة بكلّ شيء، فقال: يا ربّ فإنّي أخطبها إليك، فما رضاك لذلك؟ فقال: رضاي أن تعلّمها معالم ديني. فقال: ذلك لك يا ربّ عليّ، إنّ شئت ذلك فيّ (4)، فقال: قد شئت ذلك، و قد زوّجتكما، فضمّها إليك، فقال لها آدم: إليّ فاقبلي. فقالت: لا، بل أنت فاقبل إليّ، فأمر اللّه تعالى آدم أن يقوم إليها فقام، و لو لا ذلك لكان النّساء يذهبن حتّى يخطبن على أنفسهنّ» (5).

و في (الاحتجاج) : عن السّجاد عليه السّلام يحدّث رجلا من قريش، قال: «لمّا تاب اللّه على آدم واقع حوّاء، و لم يكن غشيها منذ خلق و خلقت إلاّ في الأرض، و ذلك بعدما تاب اللّه عليه، و كان آدم يعظّم البيت و ما حوله من حرمة البيت، فكان إذا أراد أن يغشى حوّاء خرج من الحرم و أخرجها معه، فإذا

ص: 167


1- . تفسير العياشي 1:363/849، من لا يحضره الفقيه 3:240/1135، تفسير الصافي 1:383.
2- . يريد أنوار التنزيل و أسرار التأويل للبيضاوي، و الحاشية للشيخ البهائي، ذكرها المؤلف ضمن مصادر هذا التفسير.
3- . تفسير الصافي 1:383.
4- . في من لا يحضره الفقيه: لي.
5- . علل الشرائع:17/1، من لا يحضره الفقيه 3:239/1133، تفسير الصافي 1:382.

جاز الحرم غشيها في الحلّ، ثمّ يغتسلان إعظاما منه للحرم» . الخبر (1).

فتناسلا وَ بَثَّ اللّه و نشّر في الأرض مِنْهُما بالولادة رِجالاً كَثِيراً بنينا وَ نِساءً كثيرة بناتا، و إنّما لم يصفهنّ بالكثرة لوضوح أنّ الحكمة مقتضية لكونهن كثيرات (2)، بل أكثر.

و لمّا كان التّفرّع و التّشعّب من أرومة (3)واحدة موجبا لرعاية حقوق النّاس سيّما الأقارب، داعيا لحفظها، نبّه عليه توطئة للنّهي عن تضييعها، و إشعارا بكمال الاهتمام [بها]، كما يدلّ جعله قرينا للنّهي عن تضييع حقوق نفسه، المستفاد من إعادة الأمر بالتّقوى تأكيدا، بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في ترك أداء حقوقه. و ذكر اسم الجلالة هنا لتربية المهابة.

في وجوب صلة

الأرحام

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله: اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فيما بينكم، و تقولون عند طلب الحاجة من الغير: أسألك باللّه، للأشعار بأنّه كما تعظّمونه بالسنتكم و أقوالكم عظّموه بطاعتكم و أعمالكم.

ثمّ عطف عليه الأمر بحفظ حقوق الأرحام بقوله: وَ اَلْأَرْحامَ و المنتسبين إليكم بالولادة اتّقوهم من أن تقطعونهم-كما عن الباقر (4)عليه السّلام-و تتركوا رعاية حقوقهم.

عن الصادق عليه السّلام: «هي أرحام النّاس، إنّ اللّه أمر بصلتها و عظّمها، ألا ترى أنّه جعلها معه» (5).

و عن (الكافي) : عنه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «صلوا أرحامكم و لو بالتّسليم» ، ثمّ تلا هذه الآية (6).

و عن (العيون) : عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه أمر بثلاثة مقرون [بها]ثلاثة-إلى أن قال-: و أمر باتّقاء اللّه و صلة الرّحم، فمن لم يصل رحمه لم يتّق اللّه» (7).

و عن الرّضا، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليهم السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت رحما معلّقة بالعرش تشكو رحما إلى ربّها، فقلت: كم بينك و بينها من أب؟ فقالت: نلتقي في أربعين أبا» (8).

و عن القمّي، قال: تساءلون يوم القيامة عن التّقوى هل اتّقيتم، و عن الأرحام هل وصلتموها؟ (9).

ص: 168


1- . الاحتجاج:314، تفسير الصافي 1:386.
2- . في النسخة: كثيرة.
3- . الأرومة: أصل الشجرة، و المراد أصل نسب الإنسان.
4- . مجمع البيان 3:6، تفسير الصافي 1:387.
5- . الكافي 2:120/1، تفسير الصافي 1:387.
6- . الكافي 2:124/22، تفسير الصافي 1:387.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:258/13، تفسير الصافي 1:388.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:254/5، تفسير الصافي 1:388.
9- . تفسير القمي 1:130، تفسير الصافي 1:387.

أقول: يمكن القول بشمول الآية لرحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لو بالفحوى و الأولويّة، و يدلّ عليه ما روي عن الرضا عليه السّلام: «أنّ رحم آل محمّد: الأئمّة عليهم السّلام معلّقة بالعرش تقول: اللّهمّ صل من وصلني، و أقطع من قطعني، ثمّ هي جارية بعدها في أرحام المؤمنين» ، ثمّ تلا هذه الآية (1).

ثمّ وعد [تعالى]الثّواب على رعاية الحقوق، و أوعد على تضييعها، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً و حفيظا، مراقب لأعمالكم و أقوالكم، و مطّلع على ضمائركم و سرائركم، فيجازيكم بها، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من شيء أطيع اللّه به أعجل ثوابا من صلة الرّحم» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الصّدقة و صلة الرّحم يزيد اللّه بهما في العمر، و يدفع بهما ميتة السّوء، و يدفع اللّه بهما المحذور و المكروه» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 2

ثمّ لمّا كان المقصود الأهمّ في السّورة المباركة-كما ذكرنا في وجه النّظم-بيان أحكام حقوق النّاس من الأرحام و الضّعفاء و المؤمنين، و لذا بدأ سبحانه فيها بذكر بدء خلقة البشر، و كون جميعهم من أصل واحد براعة للاستهلال، و حثّا على الامتثال، بدأ عند ذكر الأحكام بإيجاب رعاية حقوق أضعف النّاس و أحوجهم إلى الرّعاية؛ و هم الصّغار الّذين مات آباؤهم، لإظهار كمال العناية بأمرهم و ملابستهم بالأرحام، بقوله: وَ آتُوا اَلْيَتامى أيّها الكافلون لهم القيّمون بامورهم، بعد بلوغهم و رشدهم أَمْوالَهُمْ و أملاكهم التي تكون عندكم، بلا نقص و بخس.

وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)و قيل: إنّ المراد: اقطعوا الطّمع عن أموالهم، و كفّوا عن التّعدّي و التّفريط فيها.

وَ لا تَتَبَدَّلُوا مالهم اَلْخَبِيثَ و المحرّم عليكم بِالطَّيِّبِ و الحلال من أموالكم، بل أعطوهم أعيان أموالهم.

و قيل: هو النّهي عن أخذ الرّفيع من أموالهم، و جعل الخسيس مكانه.

و قيل: إنّ المراد: لا ترتزقوا بأموالهم المحرّمة، فينقطع عنكم الرّزق الحلال الذي قدّر لكم.

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ و لا تتصرّفوا فيها منضمّة إِلى أَمْوالِكُمْ بأن تخلطوهما، فإنّ حرمة الحرام لا تزول بخلطه بالحلال.

ص: 169


1- . الكافي 2:125/26، تفسير الصافي 1:387. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:166.

ثمّ أنّه تعالى علّل ردعه عن صرف أموال اليتامى و الانتفاع بها بجميع الوجوه، بقوله: إِنَّهُ كانَ عند اللّه حُوباً كَبِيراً و إثما عظيما، فيعاقب عليه عقابا شديدا.

روي أنّها نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ طلب المال فمنعه عمّه، فتراجعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآية، فلمّا سمعها العمّ قال: أطعنا اللّه و أطعنا الرّسول، نعوذ باللّه من الحوب الكبير، و دفع إليه ماله، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «و من يوق شّحّ نفسه، و يطع ربّه هكذا، فإنّه يحلّ داره، أي جنّته» فلمّا قبض الصّبيّ ماله أنفقه في سبيل اللّه، فقال عليه السّلام: «ثبت أجر الغلام (1)، و بقي الوزر على والده» (2).

أقول: في نهيه تعالى عن أكل مال اليتيم مختلطا بمال نفسه، بعد النّهي عن مطلق التّصرّف و التّبديل فيه، اشعار بأنّ أكل مال اليتيم لدى اليسار أقبح و أشنع، و أمّا النّهي عن التّبديل-بناء على التّفسير الأوّل-فهو مخصوص بما لم يكن فيه الغبطة لليتيم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 3

ثمّ لمّا كان تولّي أمر اليتيم و حفظ ماله في الأغلب لازما لكفالته و عشرته، و من المعلوم أنّ للصغير غالبا اقتراحات على من هو في حجره و تربيتة، و كثيرا ما لا يجوز أو لا يمكن موافقته في مراداته و مسؤولاته، و لا يهتدي الرّجال إلى الحيل في صرفه عنها و ترضية خاطره، سيّما إذا كان لجوجا، سيّء الخلق، فحينئذ قد لا يحلم الوليّ أو القيّم فيبتلي بضربه و شتمه و التّعدّي عليه، مع أن من حقوق الأيتام المداراة معهم، فعلم اللّه كافليهم بطريق الأمن من إيذائهم و ظلمهم؛ بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ بسبب قلّة الحلم، و ضيق الصّدر أَلاّ تُقْسِطُوا و لا تعدلوا فِي شأن اَلْيَتامى الّذين تلون امورهم، و تتكفّلون تربيتهم فَانْكِحُوا و تزّوجوا ما طابَ لَكُمْ و من يوافق ميل قلوبكم مِنَ اَلنِّساءِ فإنّ شأنهنّ حضانة الأطفال، و الرّفق بهم، و المداواة معهم (3)، و التّدبير في رضايتهم، و إعمال الحيل في صرفهم عن أقتراحاتهم، و إسكاتهم عن البكاء بأفعال مضحكة، و أصوات هائلة، و نغمات ملهية، و كلمات لاغية.

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا (3)

ص: 170


1- . في تفسير الرازي: «ثبت الأجر و بقي الوزر» فقالوا: يا رسول اللّه، لقد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر و هو ينفق في سبيل اللّه؟ فقال: ثبت أجر الغلام. . .
2- . تفسير الرازي 9:169.
3- . كذا، و الظاهر: مداراتهم.

و من الواضح أنّ التّصبيّ و ارتكاب أمثال ذلك، في غاية الصّعوبة على الرّجال لأكمليّة عقولهم، و في كمال السّهولة على النّساء لضعف عقولهنّ، و لذا عبّر سبحانه عنهنّ في الآية بكلمة (ما) التي تستعمل في غير ذوي العقول، تنزيلا لهنّ منزلته (1).

ثمّ لمّا أمر بالنّكاح بيّن العدد الذي يجوز تزوّجه من الحرائر بالعقد الدّائم، و لا يجوز التّجاوز عنه، بقوله: مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فأذن سبحانه للنّاس في الجمع بين النّساء في التزوّج اثنين اثنين، و ثلاث و ثلاث، و أربع أربع.

فيكون الحاصل جواز اختيار أيّ عدد شاءوا من الأعداد، متّفقين أو مختلفين، بأن اختار واحد اثنين، و واحد ثلاث، و واحد أربع. و لو كان (أو) بدل (الواو) لم يجز الاختلاف.

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّه كما يجب العدل في حقّ الأيتام، يجب العدل في حقّ الأزواج، بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ في صورة اختيار المتعدّد أَلاّ تَعْدِلُوا بينهنّ، و لا تقوموا بحقوقهنّ-و عن الصادق عليه السّلام: «يعني: في النّفقة» (2)- فَواحِدَةً من النّساء اختاروا للتّزويج، و أكتفوا بها، و اتركوا الجمع أَوْ اختاروا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء، و إن تعدّدن و بلغن أربعين و أزيد، لعدم كون حقوقهنّ على مواليهنّ كحقوق الحرائر على الأزواج، من التّسوية و القسم (3)و غيرهما، فلا تبتلون بترك العدل.

ذلِكَ المذكور من الاكتفاء بالمهيرة (4)الواحدة أو بالمملوكة، و إن كنّ متعدّدات أَدْنى و أقرب طريق إلى أَلاّ تَعُولُوا و لا تميلوا إلى الجور و الظّلم، أو لا تموتوا؛ لأنّ وجوب القسم و المجامعة و غيرهما مختصّ بالنّكاح الدّائم دون الملك و التّمتّع.

عن القمّي: أي لا يتزوّج ما لا يقدر أن يعول (5).

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرته من وجه النّظم، هو الذي سنح بخاطري و قوي في نظري. و من طريق العامّة روايات في شأن نزولها، و وجه نظمها:

احداها: عن عائشة، قال عروة: قلت لها: ما معنى قول اللّه: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى

ص: 171


1- . أي منزلة غير العاقل، و قد ذكر في (ما) هنا وجوه، أحدها: أنه أراد بها الجنس، كما تقول: ما عندك؟ فيقال: رجل أو امرأة، و ثانيها: أن (ما) و ما بعدها في تقدير المصدر، أي فانكحوا الطيب من النساء، و ثالثها: أن (ما) و (من) ربما يتعاقبان، قال تعالى: وَ اَلسَّماءِ وَ ما بَناها و قال: وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ و قال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ . راجع: تفسير الرازي 9:172.
2- . الكافي 5:363/1، تفسير الصافي 1:389.
3- . القسم: نصيب الزوجة من المبيت.
4- . المهيرة: الحرّة الغالية المهر.
5- . تفسير القمي 1:130، تفسير الصافي 1:389.

فقالت: يابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها و جمالها، إلاّ أنّه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثمّ إذا تزوّج بها عاملها معاملة رديئة، لعلمه بأنّه ليس لها من يذبّ عنها و يدفع شرّ ذلك الزّوج عنها، فقال تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أن تظلموا اليتامى عند نكاحهنّ فَانْكِحُوا من غيرهنّ ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ (1).

و اخرى: عن عكرمة، أنّه قال: كان الرّجل عنده النّسوة و يكون عنده الأيتام، فإذا أنفق مال نفسه على النّسوة و لم يبق له مال و صار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهنّ، فقال تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي أموال اَلْيَتامى عند كثرة الزّوجات، فقد حظرت عليكم أن تنكحوا أكثر من أربع، كي يزول هذا الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ في الأربع أيضا فَواحِدَةً، فذكر الطّرف الزّائد و هو الأربع، و النّاقص و هو الواحدة، و نبّه بذلك على ما بينهما، فكأنّه تعالى قال: فإن خفتم من الأربع فثلاث، فإن خفتم فاثنتان، فإن خفتم فواحدة (2).

و ثالثة: أنّه لمّا نزلت الآية المتقدّمة في اليتامى، و ما في أكل أموالهنّ من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، فتحرّجوا من ولايتهم، و كان الرّجل منهم ربّما كان تحته العشر من الأزواج و أكثر، فلا يقوم بحقوقهنّ و لا يعدل بينهنّ، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل بين النّساء فقلّلوا عدد المنكوحات، لأنّ من تحرّج من ذنب و تاب عنه و هو مرتكب لمثله، فكأنّه غير متحرّج (3).

و قيل: إنّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم في حقّ اليتامى، فكونوا خائفين من الزّنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النّساء، و لا تحوموا حول المحرّمات (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 4

ثمّ بيّن اللّه سبحانه وجوب إعطاء مهور النّساء بقوله: وَ آتُوا أيّها الأزواج اَلنِّساءَ اللاتي تزوّجتموهنّ صَدُقاتِهِنَّ و مهورهنّ التي استحللتم بها فروجهنّ، لكونها نِحْلَةً و فريضة فرضها اللّه في دينه، أو عطيّة من اللّه لهنّ، حيث إنّ اللّه أمر بإعطاء الزّوج المهر، مع أنّه و المرأة مشتركان في منافع النّكاح، من قضاء الشّهوة و التّوالد.

وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

ص: 172


1- . تفسير الرازي 9:171.
2- . تفسير الرازي 9:171. (3 و 4) . تفسير الرازي 9:171.

و قيل: إنّها عطيّة من الأزواج لهنّ مجانا بلا عوض؛ لأنّهم لا يملكون البضع، و إنّما يباح لهم الانتفاع.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أحقّ الشّرط أن يوفى به (1)، ما استحللتم به الفروج» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من تزوّج أمرأة و لم ينو أن يوفيها صداقها، فهو عند اللّه زان» (3).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الخطاب فيه للأولياء؛ لأنّ الرّجل منهم كان إذا زوّج أيّمة (4)أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك» (5). و عليه جمع من مفسّري العامّة.

و قيل: إنّ العرب كانت في الجاهليّة لا تعطي النّساء شيئا، و لذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النّافجة. و معناه: إنّك تأخذ مهرها إبلا فتضمّها إلى إبلك، فتنفج مالك، أي تعظّمه (5).

ثمّ رخّص سبحانه في أخذه منهنّ بشرط الرّضا و الطّيب، بقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ أيّها الأزواج، أو الأولياء عَنْ شَيْءٍ قليل أو كثير مِنْهُ نَفْساً و رضين بأكلكم منه، و تصرّفكم فيه، و تملّككم له؛ قلبا من غير أن يكون عطاؤهنّ فداء عن أنفسهنّ، لسوء أخلاقكم و رداءة صحبتكم فَكُلُوهُ أكلا هَنِيئاً سائغا لذيذا مَرِيئاً بلا غصّة و لا داء، و تصرّفوا فيه كتصرّفكم في أموالكم، بلا تبعة عليكم في الدّنيا و لا في الآخرة. و فيه غاية المبالغة في التحليل و عدم التّبعة.

روي أنّ ناسا كانوا يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ممّا ساقه إليها، فنزلت (6).

فالآية دالّة على تملّك المرأة مهرها بالعقد و جواز مطالبتها، و عدم جواز تصرّف غيرها فيه، إلاّ بطيب نفسها، و لها التّصرّف فيه بالتّمليك و أنواع الانتفاعات قبل الدّخول و بعده.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 5

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان وجوب رعاية حقوق الضّعيفين؛ اليتيم و الزّوجة التي هي كالأسيرة-بيّن وجوب رعاية حقّ ثالث الضّعفاء و هو السّفيه، بقوله: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ و الأشخاص الّذين لا رشد لهم في إصلاح مالهم، و لا يميّزون لضعف عقولهم بين الخير و الشّرّ، و النّفع و الضّرر، أموالهم

وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (7)

ص: 173


1- . في من لا يحضره الفقيه: إنّ أحقّ الشروط أن يوفى بها. . .
2- . من لا يحضره الفقيه 3:252/1201، تفسير الصافي 1:389.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:252/1200، تفسير الصافي 1:389.
4- . الأيّمة: المرأة غير المتزوجة بكرا أو ثيبا، جمعها أيامى.
5- . الكشاف 1:470، تفسير الرازي 9:179، تفسير أبي السعود 2:143، تفسير روح البيان 2:163.
6- . تفسير الصافي 1:390.
7- . مجمع البيان 3:12، تفسير الصافي 1:390.

التي يجب أن تعدّوها أَمْوالَكُمُ في كمال الرّعاية، و شدّة العناية و الاهتمام بالحفظ؛ لأنّها اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ إيّاها لَكُمْ بحكمته قِياماً تقومون بها، و قواما تتقوّمون بمنافعها، و معاشا تتعيّشون بالارتزاق منها، فلا تفسدوها بتسليطهم عليها، بل اقطعوا أيديهم عنها، و اتّجروا بها و استربحوا منها وَ اُرْزُقُوهُمْ من الرّبح الذي يكون فِيها بالاتّجار وَ اُكْسُوهُمْ به.

و الحاصل أنّ على الأولياء أن يجعلوا أموال السّفهاء محلّ ارتزاقهم، و أرباحها مدار نفقاتهم؛ حتّى يعيشوا في ظلّ ولايتهم و رأفتهم برحب و سعة، مع بقاء أصل مالهم مدى أعمارهم.

و قيل في وجه النّظم: إنّه لمّا أمر اللّه سبحانه بردّ أموال اليتامى و مهور الزّوجات، ذكر في الآية أنّ وجوب الرّدّ و الإيتاء يكون حال كونهم رشيدين، و أمّا إذا كانوا سفهاء فلا تؤتوهم.

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «هم اليتامى، لا تعطوهم حتّى تعرفوا منهم الرّشد» ، قيل: فكيف تكون أموالهم أموالنا؟ فقال: «إذا كنت أنت الوارث لهم» (1).

و عن (الفقيه) : عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «لا تؤتوها شراب الخمر، و لا النّساء» ثمّ قال: «و أيّ سفيه أسفه من شارب الخمر» (2).

و في رواية: «كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «السّفهاء: النّساء و الولد، إذا علم الرّجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة، و ولده سفيه مفسد، لا ينبغي له أن يسلّط أحدا منهما على ماله الذي جعل اللّه [له]قياما، يقول: معاشا» (4).

و قيل: إنّ في الآية نهيا لكلّ أحد أن يعمد إلى ما خوّله اللّه من المال فيعطي امرأته و أولاده، ثمّ ينظر إلى أيديهم، و إنّما سمّاهم اللّه سفهاء استخفافا بعقلهم، و استهجانا لجعلهم قوّاما على أنفسهم.

أقول: لا يبعد حمل الآية على النّهي من تسليط السّفهاء على الأموال مطلقا، سواء كانت لهم أو لغيرهم من الأولياء، و به يجمع بين الرّوايات، و اللّه العالم.

ثمّ أمر سبحانه بالتّلطّف بهم و ترضيتهم و تطييب قلوبهم بقوله: وَ قُولُوا لَهُمْ إذا اقترحوا عليكم أمرا، و سألوا منكم ما لا يجوز أو لا يمكن إجابتهم فيه قَوْلاً و جوابا مَعْرُوفاً و مستحسنا عند الشّرع و العقل من عدة جميلة، و كلام ليّن طيّب لا يكون فيه كذب و لا إيذاء، بل تطيب به نفوسهم.

ص: 174


1- . تفسير العياشي 1:368/865، تفسير الصافي 1:390.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:168/586، تفسير الصافي 1:390.
3- . تفسير العياشي 1:368/864، تفسير الصافي 1:390.
4- . تفسير القمي 1:131، تفسير الصافي 1:390.

عن الباقر عليه السّلام: «المعروف العدة» (1).

و عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه، قال: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما أنت أهله، و إن غنمت في غزاتي أعطيتك (2).

قيل: إنّ اللّه أمر بذلك؛ لأنّ القول الجميل يؤثّر في القلب، فيزيل السّفه، و أما خلاف القول المعروف فإنّه يزيد السّفيه سفها و نقصا (3).

و قيل: إنّ المراد: علّموهم-مع إطعامكم و كسوتكم-أمر دينهم ممّا يتعلّق بالعلم و العمل (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 6

ثمّ-لمّا أمر اللّه سبحانه بإعطاء أموال اليتامى، و نهى عنه إذا كانوا سفهاء-أمر الأولياء باختبار عقلهم و رشدهم قبل البلوغ، بقوله: وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى أيّها الأولياء، و اختبروا رشدهم إذا لم يكن بيّنا لكم قبل بلوغهم بتتبّع أحوالهم في امور الدّين و المعاملات، و الاهتداء إلى حفظ المال عن الضّرر، و حسن التّصرّف فيه، و التّحرّز عن الإسراف و التّبذير، و أديموا تجربتكم حَتّى إِذا بَلَغُوا و استأهلوا اَلنِّكاحَ و صلحوا للازدواج بالاحتلام أو استكمال خمس عشرة سنة إن كانوا ذكرانا، و رؤية الحيض أو استكمال تسع سنين إن كنّ إناثا فَإِنْ آنَسْتُمْ و أحرزتم بالاختبار و التّجارب مِنْهُمْ رُشْداً و صلاحا بتسليطهم على المال، و اهتداء إلى وجوه التّصرّفات العقلائيّة فيه، و احترازا عن السّرف و التّبذير فَادْفَعُوا و سلّموا إِلَيْهِمْ بلا تأخير و مطل أَمْوالَهُمْ التي تكون بأيديكم كلّها.

وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً (3)

في بيان المراد

من الرّشد

عن الصادق عليه السّلام: «إيناس الرّشد: حفظ المال» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «الرّشد: العقل، و إصلاح المال» (6).

عن القمّي رحمه اللّه: عنه عليه السّلام في هذه الآية قال: «من كان في يده مال بعض اليتامى، فلا يجوز أن يعطيه حتّى يبلغ النّكاح و يحتلم، فإذا احتلم وجب عليه الحدود و إقامة الفرائض، و لا يكون

ص: 175


1- . تفسير القمي 1:131، تفسير الصافي 1:391. (2 و 3) . تفسير الرازي 9:186.
2- . تفسير الرازي 9:186.
3- . مجمع البيان 3:16، تفسير الصافي 1:391.
4- . من لا يحضره الفقيه 4:164/575، تفسير الصافي 1:391.

مضيّعا، و لا شارب خمر، و لا زانيا» .

إلى أن قال: «و إن كانوا لا يعلمون أنّه قد بلغ فإنّه يمتحن بريح إبطه، أو نبت عانته، فإذا كان ذلك فقد بلغ، فيدفع إليه ماله إذا كان رشيدا، و لا يجوز له أن يحبس عنه ماله، و يعتلّ عليه أنّه لم يكبر بعد» (1).

ثمّ أكّد سبحانه النّهي عن أكل أموالهم بقوله: وَ لا تَأْكُلُوها حال كون أكلكم منها إِسْرافاً و زيادة على استحقاقكم منها وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا و استباقا بلوغهم.

أو المراد: لا تأكلوها لإسراف و مبادرة كبرهم بأن تفرطوا في أموالهم و تقولوا: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى و ينتزعوها من أيدينا، كذا قيل (2).

في بيان جواز أكل

الولي من مال

اليتيم

و فيه إشعار بجواز الأكل-إذا لم يكن إسرافا و بدارا، بل كان بمقدار الحاجة، مع رعاية الغبطة-و إجمال لما فصّله بعد، بقوله: وَ مَنْ كانَ من الأولياء و الأوصياء غَنِيًّا ذا ثروة كافية لمعاشه فَلْيَسْتَعْفِفْ و ليتنزه عن الأكل من مال اليتيم، و ليقنع بما آتاه اللّه إشفاقا عليه، و إبقاء لما له وَ مَنْ كانَ منهم فَقِيراً و محتاجا في معاشه إلى الأكل من مال اليتيم، لاشتغاله بإصلاح ماله، و عدم فراغه له لكسب معيشة نفسه و عياله و تحصيل مؤنتهم فَلْيَأْكُلْ ذلك الفقير من مال اليتيم، و ليصرف منه في حوائجه بِالْمَعْرُوفِ و بقدر حاجته و كفايته من غير إسراف، أو بمقدار اجرة عمله و سعيه.

عن (الكافي و العيّاشي) : عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «من كان يلي شيئا لليتامى، و هو محتاج ليس له ما يقيمه، و هو يتقاضى أموالهم و يقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر و لا يسرف، فإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأنّ من أموالهم شيئا» (3).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من (قدر) : قدر الحاجة و الضّرورة العرفية، و من قوله (لا يرزأنّ) لا ينقصنّ. و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية، و يشغل فيها نفسه، فليأكل بالمعروف، و ليس له ذلك في الدّنانير و الدّراهم التي عنده موضوعة» (4).

و عنه عليه السّلام: «ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا» (5).

ص: 176


1- . تفسير القمي 1:131، تفسير الصافي 1:391.
2- . تفسير أبي السعود 2:146.
3- . تفسير العياشي 1:370/872، الكافي 5:129/1، تفسير الصافي 1:391.
4- . تفسير العياشي 1:370/873، تفسير الصافي 1:391.
5- . تفسير العياشي 1:369/871، الكافي 5:130/5، تفسير الصافي 1:392.

أقول: الظّاهر أنّ المنع من المال القليل في الرّواية، و من الدّنانير و الدّراهم في السابقة، لعدم الزّحمة في حفظها، و عدم مزاحمته لاشتغاله بكسبه، و عليه لو أتّجر بالنّقدين، أو بالمال القليل، و كان الاتّجار بهم شاغلا له عن التّكسّب لنفسه، فلا بأس بالأكل منها.

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «المعروف هو القوت، و إنّما عنى الوصيّ و القيّم في أموالهم و ما يصلحهم» (1).

عن الباقر عليه السّلام: «من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة و الكفاية، على جهة القرض، ثمّ يردّ عليه ما أخذ إذا وجد» (2).

أقول: على تقدير كون المراد هو الوليّ أو القيّم الفقير دون غيرهما، لا بدّ من حمله على النّدب، كما أنّه يمكن حمل النّهي عن أكل الوليّ الغنيّ على الكراهة، لإشعار مادّة الاستعفاف، و معنى التّنزّه بها، و أدلة احترام عمل المسلم، و نفي الضّرر. و عليه يجوز للغنيّ الأكل بمقدار اجرة عملة، و الأحوط التّجنّب.

ثمّ أمر اللّه تعالى الأولياء-لطفا بهم، و حفظا لهم عن التّهمة، و سدّا لباب الخصومة-بالإشهاد على دفع أموال اليتامى إليهم، بقوله: فَإِذا دَفَعْتُمْ و سلّمتم إِلَيْهِمْ بعد البلوغ و الرّشد أَمْوالَهُمْ جميعا بلا نقص و تفريط فَأَشْهِدُوا شاهدين عدلين عَلَيْهِمْ بأنّكم سلّمتم إليهم جميع ما كان لهم عندكم، و أنّهم تسلّموه و برئت ذممكم عنه، حتّى لا ترموا بالخيانة، و لا تبتلوا بالخصومة.

أقول: الظّاهر أنّ الأمر بالإشهاد للإرشاد، لا الإيجاب المولوي. قيل: بدلالته على عدم قبول دعوى الرّدّ من الوليّ و القيّم إلاّ بالبيّنة، و فيه تأمّل.

ثمّ نبّه سبحانه على أن الإشهاد طريق التّخلّص من خصومة الخلق لا الخالق، بقوله: وَ كَفى لليتيم بِاللّهِ حَسِيباً فيحاسبكم في محضر عدله، و يخاصمكم على ما صدر منكم من الخيانة، و يؤاخذكم بالنّقير و القطمير، و يعاقبكم على ما دقّ و خفي من التّفريط و الخيانة في أموال النّاس و حقوقهم، فلا تقصّروا في حفظ أموال الأيتام و غيرهم، و لا تخونوا في أمانة اللّه، و لا تجاوزوا ما حدّ لكم في دينه و شريعته.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 7

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

ص: 177


1- . الكافي 5:130/3، تفسير الصافي 1:391.
2- . مجمع البيان 3:17، تفسير الصافي 1:392.

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه حقوق اليتامى و الزّوجات و السّفهاء، شرع في بيان حقوق الأولاد و الأقارب، قيل: إنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يورّثون النّساء و الأطفال، و كانوا يقولون: لا يرث إلاّ من طاعن بالرّمح، و ذاد عن الحوزة، و حاز الغنيمة (1)، فأبطل اللّه تعالى هذا الحكم، و شرّك النّساء مع الرّجال في الإرث بقوله: لِلرِّجالِ من الأولاد و الأقارب نَصِيبٌ و حظ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ المتوارثون من الأموال و الحقوق الماليّة وَ لِلنِّساءِ منهم أيضا نَصِيبٌ و حظّ معلوم مِمّا تَرَكَ و خلّف اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

و في ذكر حكم إرث النّساء استقلالا بعد ذكر حكم الرّجال، إيذان بكمال العناية بشأنهنّ، و مبالغة في إبطال حكم الجاهليّة.

ثمّ أكّد سبحانه تعميم نصيبهنّ في جميع التّركة بقوله: مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ و دقّ أو جلّ.

قيل: فيه إبطال لحكم بعض العرب من عدم توريث النّساء من آلات الكسب و الحرب، و تخصيصهما بالرّجال.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد ثبوت النّصيب لكلّ من الفريقين بقوله: نَصِيباً و قسما مَفْرُوضاً، و ثانيا واجبا من اللّه لهم، لا يسقط بإسقاطهم، و لا بوصيّة الميّت بعدم إعطائهم.

في بيان شأن

نزول الآية

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، في شأن نزول الآية: أنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفّي عن ثلاث بنات و زوجة يقال لها امّ كحّة، فجاء رجلان من بني عمّة، و هما وصيّان له، يقال لهما سويد و عرفجة-و في رواية: اسمهما قتادة و عرفطة-و أخذا ماله، فجاءت ام كحّة زوجة أوس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكرت القصّة، و ذكرت أنّ الوصيّين ما دفعا (2)إلى بناته شيئا من المال، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ارجعي إلى بيتك حتّى انظر ما يحدث اللّه في أمرك» .

فنزلت الآية، و دلّت على أنّ للرّجال نصيبا، و للنّساء نصيب، و لكنّه تعالى لم يبيّن المقدار في هذه الآية، فأرسل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الوصيّين و قال: «لا تقربا من مال أوس شيئا. ثمّ نزل بعد يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (3)و فرض الزّوج، و فرض المرأة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الوصيّين أن يدفعا إلى المرأة الثّمن و يمسكا نصيب البنات، و بعد ذلك أرسل إليهما «أن ادفعا نصيب بناتها إليها» فدفعاه إليها (4).

قيل: لمّا كانت عادة العرب عدم توريث النّساء، و كان نقلهم عن تلك العادة دفعة إلى التّوريث بالسّهام المفروضة ثقيلا على طباعهم، عظيما في قلوبهم، ذكر سبحانه أوّلا في هذه الآية نصيبهنّ

ص: 178


1- . تفسير الرازي 9:194، تفسير أبي السعود 2:146.
2- . زاد في تفسير الرازي: إليّ شيئا، و ما دفعا.
3- . النساء:4/11.
4- . تفسير الرازي 9:194، تفسير البيضاوي 1:202، تفسير أبي السعود 2:147.

بنحو الإجمال، و في الآية الآتية بنحو التّفصيل، ليسهل عليهم القبول بهذا التّدريج (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 8

ثمّ أنّه تعالى بعد حكمه بحرمان بني الأعمام من مال الميّت إرثا، مع وجود البنت الوارث، بتطييب قلوب غير الوارث من الأقارب بالإحسان إليهم، و حسن العشرة معهم، بقوله: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ للتّركة، و شهد إفراز الأنصباء أُولُوا اَلْقُرْبى و ذوو الأرحام الذين لا يرثون من الميت وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ من الأجانب و الأبعدين فَارْزُقُوهُمْ ممّا رزقكم من المال المقسوم، و أعطوهم شيئا مِنْهُ تطيب به قلوبهم، للأرحام صلة و لغيرهم صدقة وَ قُولُوا لَهُمْ مع الإعطاء و بعده قَوْلاً مَعْرُوفاً و كلاما حسنا من الاعتذار إليهم من قلّة العطاء ببيان لطيف، و الدّعاء لهم، و إظهار الامتنان من قبولهم القليل، و نحو ذلك.

وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)و قد مرّ في الطّرفة العشرين قول بأنّها منسوخة بآية الإرث بالنّسب، و روايات دالّة عليه، و ذكرنا أنّها لو صحّت، محمولة على نسخ الوجوب دون الاستحباب، فيستحبّ للورثة-حين قسمتهم للتّركة- الرّضخ (2)لمن لا سهم له من الأقارب و الأيتام و المساكين.

و قيل: إنّ ذلك مختصّ بالعين، و أمّا الأرضون و الرّقيق فلا يستحبّ الإعطاء، بل عليهم الاعتذار، و القول بالمعروف (3).

و قيل: إنّ القول بالمعروف و الاعتذار إليهم فيما لو كان في الورثة صغير، فلا يجوز إعطاؤهم من سهمه، بل يعتذر إليهم وليّه بأن يقول لهم: لو كان لي لأعطيتكم (4).

قيل: إنّ الخطاب في الآية للمريض-إذا حضرته أمارات الموت، و أراد قسمة أمواله، و الإيصاء بها- أن يفعل ذلك (5) . و الأوّل أشهر بين المفسّرين.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 9

ثمّ لمّا كان ضعف الأيتام إلى الغاية، أظهر اللّه بهم كمال العناية بعد الأمر بإرزاقهم عند القسمة،

وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

ص: 179


1- . تفسير الرازي 9:194.
2- . في النسخة: الوضح، و الرّضخ: الشيء اليسير. (3 و 4) . كنز العرفان 2:337.

و الإحسان إليهم بالتأكيد في إيجاب حفظ أموالهم، و الاهتمام في رعاية صلاحهم، و المبالغة في حسن العشرة معهم، و التّهديد على تضييع مالهم و الإساءة إليهم بالعقوبة بالمثل في الدّنيا، بقوله: وَ لْيَخْشَ كافلوا اليتامى اَلَّذِينَ يكون حالهم أنّه لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ أو خلّفوا من بعد موتهم ذُرِّيَّةً و أولادا صغارا ضِعافاً لا يقومون إلاّ بكافل شفيق خافُوا عند وفاتهم عَلَيْهِمْ الضّياع و الفقر بعدهم، و عدم الكافل لهم، أو إساءة الكافل العشرة معهم، إن ظلموا الأيتام الّذين في حجورهم و في كفالتهم و ضيّعوهم، و أتلفوا أموالهم، و أساءوا العشرة معهم، من أن يفعل بذرّيتهم بعدهم مثل ما فعلوا بهم.

فإذا تبيّن لهم أنّ أثر الإساءة بأيتام الغير، و تضييع مالهم، الإساءة بأيتام أنفسهم، و تضييع حقوقهم فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ في تضييع يتامى غيرهم، و ترك الشفقة و الرّحمة بذراري إخوانهم المؤمنين.

و حاصل المراد أنّه تعالى حثّ كافلي اليتامى على حفظ مالهم، و تنزيلهم أنفسهم في حفظ أموالهم و الإحسان إليهم، منزلة كافل يتيم أنفسهم لو فاتوا (1)و خلّفوا لهم مالا. و لا يخفى أنّه من أقوى الدّواعي في الشّفقة بالأيتام.

ثمّ بالغ سبحانه في الوصيّة إلى الأولياء برعاية الأيتام و حسن صحبتهم، بقوله: وَ لْيَقُولُوا في مكالمتهم اليتامى و مخاطبتهم قَوْلاً سَدِيداً و كلاما صوابا. قيل: هو بأن يكلّموهم باللّطف و التّرحيب، و يخاطبوهم كما يخاطبون أولادهم من قول: يا بني، و يا قرّة عيني (2).

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «من يظلم يتيما سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه» (3).

و قيل: إنّ المقصود بالخطاب في الآية الّذين يجلسون عند المريض فيقولون: إنّ ذرّيّتك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فاوص بمالك لفلان و لفلان، فلا يزالون يأمرونه بالوصيّة للأجانب حتّى لا يبقى من ماله للورثة شيئا، فقال اللّه تعالى لهم: كما تكرهون ابتلاء أولادكم بعدكم بالجوع و الضّعف و الفقر، فاخشوا اللّه، و لا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضّعفاء من ماله (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يؤمن العبد حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» (5).

و قيل: إنّ المقصود هو من قرب موته، فنهاه اللّه عن الإكثار في الوصيّة بماله لئلاّ يبقى ورثته

ص: 180


1- . فاتوا: مضوا، و يريد هنا ماتوا.
2- . الكشاف 1:478، تفسير الرازي 9:199، و فيهما: يا بني، و يا ولدي.
3- . تفسير العياشي 1:371/879، الكافي 2:250/13، تفسير الصافي 1:393. (4 و 5) . تفسير الرازي 9:198.

ضائعين (1).

و يؤيّده ما رواه الكليني رحمه اللّه مرسلا: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لرجل من الأنصار أعتق مماليكه لم يكن له غيرهم: «ترك صبية صغارا يتكفّفون النّاس» (2).

و الأظهر هو التّفسير الأوّل، و إن أمكن القول بعموم الملاك لمن له رعاية الأيتام من الأولياء و الأوصياء و الأجانب و الموصين.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 10

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد وجوب حفظ أموال الأيتام بتهديد آكلي أموالهم ظلما بالعقوبة بالنّار في الآخرة، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ و يصرفون أَمْوالَ اَلْيَتامى في محاويجهم على وجه يكون أكلهم و صرفهم ظُلْماً على اليتامى، و تعدّيا عن الحقّ، مثل كون الأكل زائدا على اجرة المثل، فهم إِنَّما يَأْكُلُونَ و يدخلون فِي بُطُونِهِمْ و يملأون أجوافهم ناراً لا توصف شدّة حرّها.

إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)و قال كثير من المفسّرين: إنّ المراد بالنّار ما يؤدّي إليها مجازا بعلاقة السّببيّة (3).

و فيه: أنّه لا وجه له مع إمكان إرادة الحقيقة، لما ثبت من أنّ لكلّ شيء صورة برزخيّة، فكما أنّ للصّلاة صورة و للصّوم صورة، و للقرآن صورة، يمكن أن تكون لمال اليتيم المحرّم صورة النّاريّة، فأهل البصيرة يرون أنّ من يأكله يأكل النّار (4).

عن أبي بردة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يبعث اللّه تعالى قوما من قبورهم تتأجّج أفوههم نارا، فقيل: من هم؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لم تر أنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ آكل مال اليتيم يبعث يوم القيامة و الدّخان يخرج من قبره و من فيه و أنفه و اذنيه و عينيه، فيعرف النّاس أنّه آكل مال اليتيم» (6).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت قوما تقذف في أجوافهم النّار و تخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء [الّذين]

ص: 181


1- . تفسير الرازي 9:199.
2- . الكافي 7:9/10.
3- . راجع: تفسير الرازي 9:200، تفسير روح البيان 2:170.
4- . جوامع الجامع:80، تفسير الرازي 9:200.
5- . تفسير البيضاوي 1:203، تفسير أبي السعود 2:148.
6- . تفسير أبي السعود 2:148.

يأكلون أموال اليتامى ظلما» (1).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة و النّار تلهب في بطنه حتّى يخرج لهب النّار من فيه، يعرفه أهل الجمع أنّه آكل مال اليتيم» (2).

وَ سَيَصْلَوْنَ و عن قريب يدخلون مع ذلك في الآخرة سَعِيراً ذات لهب لا يعرف شدّتها غير اللّه.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية ثقل ذلك على النّاس، فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلّيّة، فصعب الأمر على اليتامى، فنزل قوله تعالى: وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ (3).

ثمّ لمّا كان منشأ انتزاع الحقوق الواجبة الرّعاية، النّسبة الحاصلة بين الأشخاص، و من المعلوم أنّ أقواها هي النّسبة الحاصلة بالولادة، و أضعفها الحقوق الحاصلة بالولاية و الوصاية و المصاهرة. و قدّم الولاية و الوصاية لإظهار الاهتمام بشأنها.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 11

ثمّ شرّع سبحانه في بيان حقوق الولادة، فابتدأ بذكر ما هو أولى بالرّعاية منها من حقوق الأبوين و الأولاد، بقوله: يُوصِيكُمُ اَللّهُ أيّها النّاس و يعهد إليكم فِي شأن أَوْلادِكُمْ و أمر حقوقهم.

يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)و إنّما قدّمهم على الآباء و الامّهات و الكلالة و سائر الأرحام، لكونهم أقرب و ألصق، و لأنّه تعالى ذكر حقّهم في آية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ (4)إجمالا، فبدأ في الآية بذكر تفصيله بقوله: لِلذَّكَرِ منهم حظّ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ و ما يساوي نصيب البنتين من جميع أموالكم و حقوقكم. و إنّما خصّ الذّكر بالتّنصيص على حظّه للإشعار بفضيلته، و بأنّ تضعيف حظّه لها.

ص: 182


1- . تفسير القمي 1:132، تفسير الصافي 1:393.
2- . الكافي 2:26/1، تفسير الصافي 1:393.
3- . تفسير الرازي 9:202، تفسير أبي السعود 2:148، و الآية من سورة البقرة 2:220.
4- . النساء:4/7.

في بيان وجوه

استفادة نصيب

البنتين من الآية

ثمّ أنّ هذا في صورة اجتماع الصّنفين، و أمّا نصيب الذّكور في صورة الانفراد عن الإناث فجميع التّركة، لدلالة تعيين نصيب الإناث في حال انفرادها عن الذّكور، بقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً و بناتا فإن كان عددهنّ اثنتين، أو عددا فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ و زائدا عليه، بلغن ما بلغن فَلَهُنَّ بالفرض ثُلُثا ما تَرَكَ و خلّف المتوفّى من المال، و الثّلث الباقي لهنّ ردّا، إن لم يكن وارث غيرهن.

و هذا ممّا لا إشكال و لا شبهة فيه عندنا نصّا و فتوى، إنّما الإشكال في استفادة حكم إرث البنتين من الآية المباركة، و قد ذكّروا لها وجوها ثلاثة:

الأوّل: أنّه لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ حظّ الذّكر الواحد-إذا كانت معه انثى واحدة-مثل حظّ الانثيين، و هو الثّلثان، علم أنّ فرض الاثنين الثّلثان في صورة الانفراد.

الثاني: أنّه لمّا علم من قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ أنّ حظّ الانثيين أزيد من حظّ الانثى الواحدة، علم أنّ حظّ الانثيين الثّلثان، لعدم القول بالفرق.

الثالث: أنّه لمّا علم أنّ نصيب البنت الواحدة-إذا كانت مع الذّكر الواحد-الثّلث، علم أنّه إذا لم يكن معها الذّكر، و كانت معها الانثى الاخرى، كان نصيبها الثّلث لأقوائيّة الذّكر. و أحسن الوجوه الوجه الأوّل.

وَ إِنْ كانَتْ البنت واحِدَةً ليس معها غيرها من الأولاد، ذكورا و إناثا فَلَهَا اَلنِّصْفُ ممّا ترك الميّت بالفرض، و النّصف الآخر بالرّدّ، إذا لم يكن معها من الوالدين و الزّوجين أحد.

ثمّ بيّن اللّه تعالى حكم إرث والدي المتوفّى حال اجتماعهما مع أولاده، بقوله: وَ لِأَبَوَيْهِ لكن لا مجموعا، بل لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أبا كان أو امّا اَلسُّدُسُ فرضا، و لكليهما السّدسان مِمّا تَرَكَ المتوفّى، قليلا كان أو كثيرا إِنْ كانَ لَهُ حين وفاته وَلَدٌ و إن نزل، ذكرا كان أم انثى، واحدا كان أو متعدّدا.

نعم، في صورة انحصار الولد في بنت واحدة، و في صورة تعدّدها و وجود أحد الأبوين، يردّ ما زاد على الفروض إلى جميعهم على حسب سهامهم.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ أصلا، لا ذكرا و لا انثى، بلا واسطة أو معها وَ وَرِثَهُ من الأقارب النّسبي أَبَواهُ فقط، و إن كان معهما الزّوج و الزّوجة فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ ممّا ترك و لأبيه الثّلثان، إن لم يكن الزّوج أو الزّوجة، فإن كان أحدهما فله النّصيب الأعلى، و للامّ فرضها، و ما بقي من فرض الامّ و أحد الزّوجين فللأب.

ص: 183

و لكن كون نصيب الامّ الثّلث مشروط بعدم وجود الإخوة للميّت فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ للأب أو للأبوين، كانوا اثنين أو أكثر فَلِأُمِّهِ إذا كان أبوه حيّا اَلسُّدُسُ و لأبيه بقيّة التّركة، لكونه ذا عيلة (1)بوجودهم، فاقتضت الحكمة التّوفير عليه لمكان نفقتهم. و الأختان للأب تقومان مقام أخ واحد له.

في (الكافي) و (التهذيب) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّه لا يحجب الامّ عن الثّلث إلاّ أخوان، أو أخ و اختان (2)، أو أربع أخوات لأب و ام، أو لأب» (3).

و عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في الإخوة من الامّ: «لا يحجبون [الأمّ]عن الثّلث» (4). ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ الإرث و الفروض لا محلّ لها إلاّ مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصِي الميّت بِها من التّركة-قيل: فائدة توصيف الوصيّة بقوله: يُوصِي بِها التّرغيب بها، و النّدب إليها- أَوْ بعد إخراج دَيْنٍ ثابت على الميّت و إن لم يوص به، كان ثبوته بإقراره به حال صحّته، أو بالبيّنة، أو بغيرهما.

و في إيثار كلمة (أو) على (الواو) دلالة على تساويهما (5)في وجوب الإخراج، إذا وسعتهما التّركة، و لم يكن الدّين مستوعبا لها.

و في تقديم ذكر الوصيّة على الدّين مع تأخّرها عنه في الرّتبة، إشعار بكمال العناية و الاهتمام بتنفيذها.

روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «إنّكم لتقرأون الوصيّة قبل الدّين، و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قضى بالدّين قبل الوصيّة» (6).

ثمّ لمّا جعل اللّه سبحانه هذا التّفاوت بيّن نصيب الآباء و الأولاد في الإرث، و قد لا تساعده العقول الضّعيفة و الاعتبارات السّخيفة، نبّه اللّه تعالى على قصور العقول عن إدراك حكمة هذا التّفاوت، و وجوب العمل بوصيّته تعالى في نصيبهم، بقوله: آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ الّذين يرثونكم لا تَدْرُونَ و لا تدرك عقولكم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً في الدّنيا، و أكثر فائدة لكم، من جهة التّربية و الإنفاق و النّصرة و غيرها، فقد تتخيّلون أنّ أحدهما أنفع لكم من الآخر، و ربّما يخطر ببالكم أنّ القسمة بغير هذا الوجه أصلح، و هو خلاف الواقع، فسلّموا لحكم اللّه-العالم بالمغيّبات و حقائق الأمور-بأقربيّة بعض من بعض، و بتوفير القسمة على بعض دون بعض، و أطيعوا أمر اللّه في التّقديرات التي قدّرها

ص: 184


1- . العيلة: الفقر و الحاجة.
2- . (أو أخ و أختان) ليس في الكافي و التهذيب.
3- . الكافي 7:92/5، التهذيب 9:281/1017، تفسير الصافي 1:394.
4- . الكافي 7:93/6، تفسير الصافي 1:394.
5- . أي تساوي الوصيّة و الدّين.
6- . تفسير الرازي 9:216.

في أموالكم، و أتركوا موافقة هوى أنفسكم في قسمة المواريث.

و قيل: إنّ المراد: أقرب لكم نفعا في الآخرة (1).

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: إنّ اللّه ليشفّع بعض المؤمنين في بعض، فأطوعكم للّه عزّ و جلّ من الأبناء و الآباء أرفعكم درجة في الجنّة، و إن كان الوالد أرفع درجة في الجنّة من ولده رفع اللّه إليه ولده بمسألته ليقرّ بذلك عينيه، و إن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه إليه والديه، فقال: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأنّ أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنّة بهذا أكثر أم بذلك (2).

أقول: يمكن القول بإرادة النّفع الأعمّ من الدّنيوي و الاخروي.

و قيل: إنّ الخطاب للورثة، و المراد أنّه لا تدرون أيّها الورثة، أيّ مورثكم من الاصول و الفروع أقرب لكم نفعا، أمن وصّى ببعض ماله فيعرّضكم لثواب الآخرة بتنفيذ وصيّته، أم من لم يوص بشيء فوفّر عليكم حظّكم من تركته، فإنّكم تحكمون بأنّ الثاني أنفع، و الواقع خلافه، بل الأوّل أنفع لأنّه لا يعدل ثواب الآخرة جميع الدّنيا و ما فيها.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الالتزام بما فرضه في المواريث بقوله: فَرِيضَةً كائنة مِنَ اَللّهِ التزموها، و قسمة قسّمها اللّه فلا تعدلوا عنها إلى ما تميل إليه طباعكم إِنَّ اَللّهَ كانَ في الأزل عَلِيماً بمصالح عباده حَكِيماً في كلّ ما فرض و قدّر، فإذا كان كذلك كانت قسمته أصلح و أحكم. و في ذكر اسم الجلالة و تكراره مبالغة في تربية مهابته في القلوب.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 12

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكم إرث أقرب القرابات النّسبيّة و أقواها؛ و هي القرابة بالولادة التي تكون بين الوالدين و الأولاد، أردفه ببيان إرث أقرب القرابات السّببيّة، و هي النّسبة بالمزاوجة التي تكون شريكا للنّسبيّة في جميع الطّبقات في الإرث.

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

ص: 185


1- . تفسير الرازي 9:218.
2- . تفسير الرازي 9:218.

قيل: إنّ العرب كانوا في الجاهليّة لا يورّثون الزّوجة من تركة زوجها، فنسخه اللّه سبحانه بحكمه بالتّوارث.

و لمّا كان الحكم بإرث الزّوجة ثقيلا على الطّباع، قدّم بيان حكم إرث الأزواج، تطييبا لقلوبهم، و إظهارا لفضلهم بقوله: وَ لَكُمْ أيّها الأزواج بجهة الإرث نِصْفُ جميع ما تَرَكَ و خلّف أَزْواجُكُمْ و نساؤكم المنكوحات بالنّكاح الدّائم، دون المنقطع على الأصحّ، من الأموال كانت عقارا أو غيرها، منقولة أو غيرها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ حين موتهن وَلَدٌ وارث أصلا منكم، أو من غيركم، ذكور أو إناث، بلا واسطة أو معها فَإِنْ كانَ لَهُنَّ حين موتهنّ منكم أو من غيركم وَلَدٌ وارث، و إن كان انثى واحدة سافلة (1)فَلَكُمُ إرثا و فرضا اَلرُّبُعُ من جميع ما تَرَكْنَ و خلّفن من الأموال، إذا لم يكن لهنّ وصيّة بمال، أو عليهنّ دين، و إن كانا فالإرث مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ كنّ يُوصِينَ بِها في حياتهنّ أَوْ قضاء دَيْنٍ ثابت في ذمّتهنّ.

ثمّ بيّن سبحانه نصيب الزّوجات الدّائمات من تركة أزواجهنّ، بقوله: وَ لَهُنَّ إن متّم و بقين بعدكم اَلرُّبُعُ من جميع ما تَرَكْتُمْ و خلّفتم من الأموال المنقولة عينا، و من الأبنية و الأشجار قيمة لا عينا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ بعد موتكم منهنّ أو من غيرهنّ وَلَدٌ وارث أصلا، و إن كان انثى نازلة. و الباقي لغيرهنّ من ورّاثكم، فإن لم يكن لكم وارث غيرهنّ فللإمام عليه السّلام فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ و لو من الأمة، أو المنقطعة، أو في الحمل بشرط الانفصال حيّا، و إن نزل فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ من المال، سوى الأراضي و أعيان الأبنية و الأشجار، دون قيمتها-كما مرّ-على الأصحّ، و لكن مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ كنتم تُوصُونَ بِها في حياتكم أَوْ أداء دَيْنٍ كان عليكم.

قيل: لمّا فضّل اللّه تعالى الرّجال على النّساء في النّصيب، نبّه على فضيلتهم عليهنّ بذكرهم في الآية على سبيل المخاطبة سبع مرات، و ذكرهنّ على سبيل المغايبة أقلّ من ذلك (2).

في بيان علل تفضيل

الرجال على النساء

في النصيب

و قد علّل ائمّتنا صلوات اللّه عليهم تفضيل الرّجال على النّساء في النّصيب بوجوه، على ما في روايات أصحابنا رضوان اللّه عليهم أجمعين:

منها: ما روي عن الرضا عليه السّلام، في جواب من سأله عن ذلك من: «أنّ المرأة إذا تزّوجت أخذت، و الرّجل يعطي، و لذلك وفّر على الرجل، و لأنّ الانثى في عيال الذّكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرّجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر

ص: 186


1- . سافلة: أي نازلة، مثل بنت البنت أو بنت الولد.
2- . تفسير الرازي 9:220.

على الرّجل لذلك، و ذلك قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ. . . الآية» (1).

و منها: ما روي عن الصادق عليه السّلام، في جواب عبد اللّه بن سنان حين سأله عن علّة التّوفير، حيث قال عليه السّلام: «لما جعل لها من الصّداق» (2).

و منها: ما روي عن العسكري سلام اللّه عليه، في جواب الفهفكي، لمّا قال له عليه السّلام: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما و يأخذ الرجل القوي سهمين؟ فقال عليه السّلام: «لأنّ المرأة ليس عليها جهاد و لا نفقة و لا معقلة (3)، إنّما ذلك على الرّجال» .

فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السّلام عن ذلك، فأجابه مثل هذا الجواب، فأقبل عليه السّلام عليّ فقال: «نعم، هذه مسألة ابن أبي العوجاء، و الجواب منّا واحد» (4).

ثمّ أنّه تعالى بعدما بيّن حكم إرث أقوى الانتسابات النّسبيّة، و هو القرابة بالولادة كقرابة الأبوين و الأولاد، و أقوى الانتسابات السّببيّة، و هو المزاوجة كالزّوجين، و لذا يرثان مع جميع طبقات الوارث، شرع سبحانه في بيان حكم إرث أضعف القرابات النّسبيّة، و هي القرابة من قبل الامّ إلى الميّت، بقوله: وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ ميّت يُورَثُ منه، لكونه أو حال كونه كَلالَةً و ذا قريب، ليس بينه و بين ذلك القريب نسبة ابوّة و بنوّة، كما عن الصادق عليه السّلام فإنّه فسّرها بمن ليس بولد و لا والد (5)، أَوْ كانت اِمْرَأَةٌ متوفّاه كذلك.

قيل: إنّ الكلالة في اللّغة بمعنى الإحاطة، و سمّي من عدا الوالد و الولد من القرابات بالكلالة لإحاطتهم بالشّخص.

ثمّ كنّى سبحانه عن الرّجل دون المرأة إظهارا لشرفه و فضله، بقوله: وَ لَهُ، و قيل: إنّ المراد من (الضمير) الميّت، الصّادق على الرّجل و المرأة أَخٌ واحد أَوْ أُخْتٌ واحدة، من قبل الامّ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا في تلك الصّورة اَلسُّدُسُ ممّا ترك الميّت من المال فَإِنْ كانُوا هؤلاء الأقرباء الأمّيون أَكْثَرَ و أزيد مِنْ ذلِكَ العدد الوحداني بواحد أو بأكثر، [سواء أ]كانوا متّفقين في الذّكورة و الانوثة، أو مختلفين فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ من المال يتساوون فيه لا فضيلة للذّكور منهم على الإناث في النّصيب. و تعليله بكون الانتساب بمحض الانوثة-كما عن بعض العامة (6)- عليل.

ص: 187


1- . علل الشرائع:570/1، و الآية من سورة النساء:4/34.
2- . علل الشرائع:570/2.
3- . المعقلة: دية القتيل تدفع من الإرث.
4- . الكافي 7:85/2، التهذيب 9:274/992.
5- . الكافي 7:99/2 و 3.
6- . تفسير روح البيان 2:175.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هذين الفرضين أيضا كسائر الفروض، يكونان في التّركة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ حال كون الموصي غَيْرَ مُضَارٍّ لورثته بوصيّة زائدة على الثّلث، أو بالإقرار بالدّين كذبا لإيصال النّفع إلى المقرّ له و تنقيص حقّ الورثة.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب توريث الأزواج و الكلالة على النّحو المذكور، بقوله: وَصِيَّةٍ كائنة مِنَ اَللّهِ قيل: إنّ التّقدير: يوصيكم اللّه بتوريث هؤلاء الأقارب وصيّة لا يجوز تغييرها.

و يمكن أن يكون المراد: تلقّوا أيّها النّاس هذه الأحكام بعنوان كونها وصيّة أكيدة من اللّه إليكم، فمن بدّلها فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه.

قيل: إنّه تعالى ختم آية إرث الوالدين و الأولاد بقوله: فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ (1)، و هذه الآية بقوله: وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ للدلالة على أنّ رعاية الوالدين و الأولاد أهمّ و أولى من رعاية غيرهم، لأنّ لفظ الفرض أقوى و آكد من لفظ الوصيّة (2).

و يمكن أن تكون النّكتة أنّ توريث الأبوين و الأولاد لمّا كان موافقا لطباعهم شدّد عليهم في الحكم، بخلاف توريث الزّوجات و الأباعد فإنّه كان مخالفا لطباعهم فأكّده بما فيه تطييب لقلوبهم و استمالة لخاطرهم أوّلا ثمّ أردفه بالتّهديد على المخالفة، بقوله: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأعمالكم حَلِيمٌ على من خالفه و عصاه، لا يعاجله بالعقوبة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 13

ثمّ بالغ سبحانه في التّأكيد في العمل بجميع الأحكام السّابقة، بقوله: تِلْكَ الأحكام المذكورة المفصّلة حُدُودُ اَللّهِ التي حدّها، فلا يرضى بالتّجاوز عنها، و القوانين التي قنّنها، فلا يجوز مخالفتها.

تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (13)ثمّ رغّب في إطاعة جميع أحكامه بالوعد بالثّواب الجزيل عليها، بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و امتثل أوامرهما و نواهيهما التي منها ما فصّله في السّورة المباركة يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة برحمته و فضله جَنّاتٍ و بساتين ذوات أشجار ملتفّة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ مقيمين فِيها أبدا وَ ذلِكَ الثّواب هو اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و الظّفر الأتمّ بأعلى المقاصد، و النّجاح الكامل بأسنى المطالب.

ص: 188


1- . النساء:4/11.
2- . تفسير الرازي 9:226.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 14

ثمّ أردف الوعد بأشدّ الوعيد، ترهيبا من المعصية، و تتميما للّطف، بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و يخالف أحكامه وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ و يتجاوز حماه يُدْخِلْهُ اللّه ناراً لا توصف شدّة حرّها، حال كونه خالِداً فِيها في الآخرة وَ لَهُ مع ذلك عَذابٌ لا يعرف كنهه أحد إلاّ اللّه مُهِينٌ له، لاستهانته بأحكام اللّه و حدوده.

وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 15

ثمّ أنّه تعالى بعدما بيّن وجوب رعاية النّساء، و العدل بينهنّ، و إيتائهنّ مهورهنّ، و توريثهنّ من أزواجهنّ و أرحامهنّ، شدّد عليهنّ في ما يأتينه من الفاحشة، بقوله: وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ و يرتكبن اَلْفاحِشَةَ و العمل الذي هو في غاية القباحة، و هو الزّنا، و هنّ الكائنات مِنْ نِسائِكُمْ و زوجاتكم، أو الحرائر و المؤمنات فَاسْتَشْهِدُوا و اطلبوا للشّهادة عَلَيْهِنَّ من قاذفهنّ أَرْبَعَةً من الرّجال الّذين يكونون مِنْكُمْ و على دينكم فَإِنْ شَهِدُوا عليهنّ بارتكاب الفاحشة، و كانوا عدولا فَأَمْسِكُوهُنَّ و احبسوهنّ أيّها المؤمنون فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ و يقطع من الدّنيا علاقتهنّ اَلْمَوْتُ و قيل: إنّ المراد: ملك الموت بحذف المضاف أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً للخلاص من الحبس.

وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ. . . ، قال: «هذه منسوخة» ، قيل: كيف كانت؟ قال: «كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود، ادخلت بيتا و لم تحدّث و لم تكلّم و لم تجالس، و اوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت» ، أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، قال: «جعل السّبيل: الجلد و الرّجم» (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «خذوا عنّي، قد جعل اللّه لهنّ سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام، و الثّيّب بالثّيّب جلد مائة و الرجّم» (2).

ص: 189


1- . تفسير العياشي 1:377/903، تفسير الصافي 1:398.
2- . مجمع البيان 3:34، تفسير الصافي 1:398.

قد مرّ في بعض الطّرائف أنّ المراد بالنّسخ هنا غير معناه المصطلح (1).

قيل: إنّ المراد بالسّبيل هو النّكاح المغني عن السّفاح (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 16

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان العقوبة المختصّة بالمرأة الزّانية، بيّن العقوبة المشتركة بين الرّجل و المرأة إذا زنيا بقوله: وَ اَلَّذانِ يرتكبان الفاحشة و يَأْتِيانِها مِنْكُمْ سواء كانا بكرين أو ثيّبين فَآذُوهُما بالتّوبيخ و التّعيير.

وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (16)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: [هو التعيير باللسان و]الضرب بالنعال (3).

فَإِنْ تابا و ندما عن فعلهما القبيح وَ أَصْلَحا و التزما بحسن العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما و اتركوا إيذاءهما؛ فإنّه يرتفع بالتّوبة استحقاق العقوبة إِنَّ اَللّهَ كانَ بكرمه تَوّاباً مبالغا في قبول التّوبة، عائدا على التّائبين بالفضل و المغفرة رَحِيماً بهم.

قيل: إنّ المراد من الآية الاولى الثّيّبات، و من الثانية الأبكار من الرّجال و النّساء (4)؛ لأنّ العذاب في الثّانية أخفّ من الاولى.

و قيل: إنّ الاولى في السّحّاقات، و الثانية في أهل اللّواط (5).

و القولان مخالفان لروايات الخاصّة و العامّة، و على أيّ تقدير لا شبهة في أنّ الآية الثّانية منسوخة بآيات الحدّ.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكّر أنّ التّوبة ماحية للذّنوب رافعة للعقوبة، حثّ العصاة عليها ببيان إيجابه قبول التّوبة على نفسه؛ بقوله: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ واجبة القبول عَلَى اَللّهِ لكمال حسنه عقلا، و اقتضاء كرمه، وسعة رحمته، قبولها و امتناع ردّها-و هذا أشدّ مراتب الوجوب- لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ و العصيان صغيرا كان أو كبيرا، و لكن إذا كان ارتكابهم له بِجَهالَةٍ و سفاهة، و غلبة الهوى، و إعانة النّفس،

إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

ص: 190


1- . راجع الطرفة (20) .
2- . تفسير البيضاوي 1:205.
3- . مجمع البيان 3:35.
4- . تفسير الرازي 9:235.
5- . تفسير البيضاوي 1:206.

و الغفلة عن سوء العاقبة، لا بسبب الكفر و الطّغيان، و عدم الاعتقاد بالمبدأ و المعاد؛ فإنّ الكافر لا تقبل توبته من الأعمال السّيّئة مع بقائه على الكفر.

فتحصّل من تقييد قبول التّوبة عن المعصية بكونها مسبّبة عن جهالة أنّ تحتّم القبول على اللّه مشروط بكون العمل السيّء صادرا عن السفاهة، و عدم التّدبّر في سوء عاقبته، لا عن الجهل المركّب بالمبدأ و المعاد، أو البسيط.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ ذنب عمله العبد و إن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اللّه سبحانه قول يوسف لإخوته: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» (1).

ثمّ بيّن سبحانه الشّرط الثّاني بقوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ و يرجعون إلى النّدم و التّوجّه إلى اللّه في جزء مِنْ زمان قَرِيبٍ من المعصية، و لا يؤخّرونها إلى زمان حضور الموت، و مشاهدة عالم البرزخ، و معاينة أهواله.

و تسمية هذا الزّمان قريبا، لأنّه آت، و كلّ آت قريب، و لوجوب انتظار الإنسان موته في كلّ آن، و يحسبه قريبا، و يبادر إلى التّوبة.

روي أنّ إبليس لمّا هبط قال: و عزتك [و جلالتك]و عظمتك، لا افارق ابن آدم حتّى تفارق روحه جسده، فقال اللّه عزّ و جلّ: و عزّتي و عظمتي [و جلالي]لا أحجب التّوبة عن عبدي حتّى يغرغر (2)بها (3).

و في (الفقيه) : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إنّ السّنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إنّ الشّهر لكثير [من تاب قبل موته بجمعة تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «إنّ الجمعة لكثير]من تاب قبل موته بيوم تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إن اليوم بكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه عليه» ثمّ قال: «و إنّ السّاعة لكثير، من تاب [قبل موته]و قد بلغت نفسه هذه» و أهوى بيده إلى حلقه «تاب اللّه عليه» (4).

قيل: إن كلمة (من) هنا، ليس للتّبعيض، بل هي لابتداء الغاية، و المعنى: يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية؛ لئلا يقع في زمرة المصرّين (5).

ص: 191


1- . مجمع البيان 3:36، تفسير الصافي 1:398، و الآية من سورة يوسف:12/89.
2- . في النسخة: يرغرغ، و معنى الغرغرة هنا تردد الروح في الحلق.
3- . مجمع البيان 3:37.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:79/354، تفسير الصافي 1:399.
5- . تفسير الرازي 10:5.

و قيل: إنّ المراد من قوله تعالى: (من) زمان قريب قبل أن يشرب في قلوبهم حبّه، فيطبع عليها، فيتعذّر (1)عليهم الرّجوع (2).

ثمّ أكّد سبحانه وعده بقبول التّوبة، بقوله: فَأُولئِكَ الواجدون لشرطي قبول التّوبة يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ عملا بما كتب على نفسه وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بضمائر التّائبين من الإخلاص، و حقيقة النّدم، و العزم على عدم العود حَكِيماً في فعاله، لا يمكن صدور عقوبة التّائبين منه؛ لمنافاتها حكمته و كرمه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 18

ثمّ بيّن اللّه سبحانه زمان عدم قبوله التّوبة فيه، و المعصية التي لا تقبل التّوبة منها، بقوله: وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ المقبولة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ و يشتغلون بالذّنوب و يديمون عليها، لاهين عن ذكر اللّه و عن التّوبة حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ و شاهد علاماته، و عاين أهواله، و صار معرفته باللّه و علمه بدار الجزاء ضروريا، قالَ عند رؤية بأس اللّه: إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ من ذنوبي وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ حين موتهم و معاينتهم الآخرة كُفّارٌ و غير مستأهلين لقبول توبتهم و إن آمنوا بعده، لقوله: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا (3)أُولئِكَ الفريقان أَعْتَدْنا و هيّأنا لَهُمْ في الآخرة عَذاباً دائما أَلِيماً موجعا في الغاية.

وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)فسوّى سبحانه بين المؤمن الفاسق المسوّف للتّوبة إلى وقوعه في سكرة الموت، و بين الكافرين الّذين لا يؤمنون و لا يتوبون إلى رؤية ملك الموت، في عدم قبول التّوبة و استحقاق العذاب الأليم.

قيل: إنّ المراد من الّذين يعملون السّيّئات المنافقون، لدلالة قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً (4)، و قوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (5)، و لدلالة روايات كثيرة على شمول الرّحمة و الشّفاعة لعصاة المؤمنين.

أقول: يمكن أن يكون المراد منه خصوص من أخرجته سيّئات أعماله من الإيمان إلى الكفر عند

ص: 192


1- . في النسخة: فيعتذر.
2- . تفسير البيضاوي 1:206.
3- . المؤمن:40/85.
4- . الزمر:39/53.
5- . النساء:4/48.

موته، كما قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (1)فإنّ فيه دلالة على أنّ التّمادي في العصيان و الأعمال السّيّئة موجب لطبع القلب و قساوته، و مخرج المعاصي من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر و التّكذيب بآيات اللّه، بل في بعض الرّوايات أنّ أثر بعض المعاصي-كترك الصّلاة، و منع الزّكاة-ذلك، مثل ما روي من أنّه يقال لمانع الزّكاة عند موته: مت يهوديّا أو نصرانيّا (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعد التّشديد على النّساء في إرتكاب الفاحشة، و الوعد بقبول التّوبة، و بيان شروط قبولها، عاد إلى بيان وجوب رعاية النّساء و النّهي عن التّعدي عليهم بإجبارهنّ على التّزويج، و منعهنّ من اختيارهنّ الأزواج، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و اليوم الآخر لا يَحِلُّ لَكُمْ في شرع الإسلام أَنْ تَرِثُوا من أقاربكم اَلنِّساءَ و الزّوجات، و تتملّكوا أزواجهم للاستمتاع، كما تتملّكون أموالهم بعنوان الميراث كَرْهاً منهم، و بغير رضاهنّ بالنّكاح.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)قيل: كان الرّجل في الجاهليّة إذا مات و كانت له زوجة، جاء ابنه من غيرها، أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة و قال: ورثت زوجته كما ورثت ماله. فصار

أحقّ بها من سائر النّاس و من نفسها، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلاّ الصّداق الذي أصدقها الميّت، و إن شاء زوّجها من إنسان آخر، و أخذ صداقها و لم يعطها منه شيئا، فنهى اللّه عن إرث عين النّساء (3).

و قيل: إنّه كان لوارث الميّت أن يحبس زوجته حتّى تموت و يرث مالها، أو يضيّق عليها حتّى تفتدي بما ورثت من زوجها (4)، فنهى اللّه عنه بقوله: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ و تحبسوهنّ و تضيّقوا عليهنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ و أعطيتموهنّ من الصّداق و الميراث، و تأخذوه منهنّ فداء من أنفسهن.

و قيل: إنّه كان الرّجل إذا كره زوجته أساء عشرتها، و ضيّق عليها حتّى تفتدي منه بمهرها، فنهى اللّه

ص: 193


1- . الروم:30/10.
2- . المحاسن:87/28، عقاب الأعمال:236.
3- . تفسير الرازي 10:10.
4- . تفسير روح البيان 2:181.

عن التّزوّج بهن بالإكراه، و التّضييق عليهنّ، و إساءة العشرة معهنّ بعد التّزويج ليفتدين بصداقهنّ أو ببعضه (1).

فإنّ أخذ صداقهنّ و مالهنّ لا يجوز بسبب من الأسباب إِلاّ بسبب واحد و هو أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ و فعلة قبيحة في الغاية مُبَيِّنَةٍ ظاهرة، كعدم التّعفّف، أو النّشوز و شكاسة الخلق و إساءة العشرة مع الزّوج و أهله.

عن الباقر عليه السّلام، في تفسير الفاحشة، قال: «كلّ معصية» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا قالت لزوجها: لا أغتسل لك من جنابة، و لا أبرّ لك قسما، و لاوطئنّ فراشك من تكرهه، حلّ له أن يخلعها، و حلّ له ما أخذ منها» (3).

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الرّفق بالزّوجات، و حسن عشرتهن بقوله: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و بما هو مستحسن عند الشّرع و العقل، من الإنصاف في المبيت و النّفقة، و الإجمال في القول فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ طبعا، و سئمتم من صحبتهنّ من غير جهة عصيانهنّ و نشوزهنّ، فلا تبادروا في التّفريق بمجرّد كراهة النّفس، بل امسكوهنّ بالمعروف، و اصبروا على معاشرتهنّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً و تتنفّروا من أمر وَ الحال أنّه يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً في الدّنيا كولادة ولد صالح من هذه المرأة، و في الآخرة كالثواب العظيم على مخالفة النّفس في الصّبر على المكروه، و نحو ذلك.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 20

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن مضارّة النّساء، و أخذ شيء من مهورهنّ بأيّ سبب، أكّد النّهي عنه في صورة إرادة الاستبدال، بقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ و اختيار زوجة مَكانَ زَوْجٍ و امرأة كانت لكم وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ سواء كانت المرأة الاولى أو الثانية قِنْطاراً و مالا كثيرا غايته، عن الصادقين عليهما السّلام: «القنطار ملء مسك (4)ثور ذهبا» (5)فَلا تَأْخُذُوا و لا تنقصوا مِنْهُ شَيْئاً و لو كان في غاية القلّة.

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20)روي أنّ الرّجل منهم كان إذا مال إلى التّزوّج بامرأة اخرى، رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها، ليصرفه إلى تزوّج المرأة التي يريدها (6).

ص: 194


1- . تفسير الرازي 9:11.
2- . مجمع البيان 3:40، تفسير الصافي 1:401.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:338/1630، تفسير الصافي 1:401.
4- . المسك: الجلد.
5- . مجمع البيان 2:712، تفسير الصافي 1:401.
6- . تفسير الرازي 10:13.

فنهى سبحانه عن ظلم المرأه بالأخذ من مهرها، و إن كان في غاية الكثرة، و أنكر على الأزواج أخذهم من مهورهنّ بسبب رميهنّ بالفاحشة، بقوله: أَ تَأْخُذُونَهُ بسبب أن تتّهموهنّ بُهْتاناً وَ ترتكبون بالبهتان، و رميهنّ بالفاحشة، و بظلمهنّ بأخذ صداقهنّ إِثْماً مُبِيناً و ذنبا ظاهرا عظيما، فإنّ البهتان و الظّلم من أكبر الكبائر.

في دلالة الآية على

جواز المقالات

في المهر

قالوا: الآية تدلّ على جواز المغالاة في المهر (1).

و روى الفخر الرازي: أنّ عمر قال على المنبر: ألا لا تغلوا (2)في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت: يا بن الخطّاب، اللّه يعطينا و أنت تمنعنا! و تلت هذه الآية، فقال عمر: كلّ النّاس أفقه من عمر، و رجع عن كراهة المغالاة (3).

أقول: تقريب دلالة الآية على الجواز أنّ النّهي عن الأخذ منه دالّ على صحّة جعل القنطار مهرا و تملّكهنّ له بالعقد، و لا معنى للجواز و عدمه في المقام إلاّ الصّحّة و عدمها، و الحرمة للأمر الخارج و الجهة العرضيّة، كحرمة البيع وقت النّداء و إن كان ممكنا، إلاّ أنّها محتاجة إلى الدّليل المعتبر (4)، بل في الآية إشعار بعدمها، و يشهد لما ذكر فهم المرأة و جميع الحاضرين في المسجد ذلك، و رجوع عمر عن قوله.

و لا معنى للدّلالة إلاّ فهم العرب من الكلام، و العجب مع ذلك من الفخر أنّه بعد نقل الرّواية قال: و عندي أنّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة (5). . . إلى آخره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 21

ثمّ بالغ سبحانه في إنكار الأخذ من المهر بجعله لشدّة الشّناعة محلاّ للتّعجّب، بقوله: وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ منهنّ، و لأيّ سبب تستردّون شيئا ممّا استحللتم به فروجهنّ بطيب أنفسكم؟ ! و الحال أنّه وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ و استمتع كلّ منكما-بالجماع و غيره من وجوه الاستمتاع-من الآخر، و حصلت بينكما الالفة التّامّة و القرابة الكاملة، حيث إنّ العرب يقولون: صحبة عشرين يوما قرابة (6). فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتّحاد و الامتزاج؟

وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ على الصّداق مع ذلك الإفضاء و الاتّصال مِيثاقاً غَلِيظاً و عهدا وكيدا. عن ابن

ص: 195


1- . تفسير الرازي 10:13.
2- . في المصدر: تغالوا.
3- . تفسير الرازي 10:13.
4- . زاد في النسخة: و ليس، و لا يصح.
5- . تفسير الرازي 10:13.
6- . تفسير الرازي 10:17.

عبّاس رضى اللّه عنه: الميثاق الغليظ: كلمة النّكاح المعقودة على الصّداق، و تلك الكلمة كلمة يستحلّ بها فروج النّساء (1).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «اتّقوا اللّه في النّساء، فانّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه» (2).

و عن عكرمة: هو قولهم: زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ اللّه للنّساء على الرّجال، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، فإذا ألجأها إلى أن بذلت المهر، فما سرّحها بإحسان، بل سرّحها بالإساءة (3).

و عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النّكاح، و الغليظ هو ماء الرّجل يفضيه إليها» (1). و لعلّ بعض مفسّري العامّة تبعوا هذه الرّواية، حيث قالوا: أخذن منكم-بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض-ميثاقا غليظا، فوصفه بالغلظة لقوّته و عظمته (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 22

ثمّ أنّه تعالى بعدما منع من إرث أعيان النّساء، و كان الرّجل في الجاهليّة يرث زوجة أبيه كما يرث ماله و ينكحها، نهى اللّه سبحانه عن نكاح زوجة الأب، بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و إن علوا مِنَ اَلنِّساءِ و لا تتزوّجوا بزوجاتهم إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ من هذا النّكاح منكم.

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22)قيل: إنّ التّقدير: إنّ هذا النّكاح قبيح حرام يعاقبكم اللّه عليه، إلاّ النّكاح الذي سلف منكم في الجاهلية، فإنّه لجهلكم كنتم معذورين فيه.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان في الجاهليّة في أوّل ما أسلموا في قبائل العرب إذا مات حميم الرّجل و له امرأة، ألقى الرّجل ثوبه عليها، فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها كما يرث ماله، فلمّا مات أبو قيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه؛ و هي كبيشة بنت معمر بن معبد، فورث نكاحها، فتركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، مات أبو قيس بن الأسلت فورث ابنه محصن نكاحي، فلا يدخل عليّ، و لا ينفق عليّ، و لا يخلّي سبيلي فألحق بأهلي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ارجعي إلى بيتك، فإن يحدث اللّه في شأنك

ص: 196


1- . تفسير العياشي 1:380/910، الكافي 5:560/19، تفسير الصافي 1:402، و لم نجده في المجمع، و الظاهر أن المصنف أخذه من تفسير الصافي.
2- . تفسير الرازي 10:17.

شيئا أعلمتك» فنزلت الآية (1).

ثمّ بالغ سبحانه في الرّدع عنه ببيان علل التحريم بقوله: إِنَّهُ كانَ في جميع الملل فاحِشَةً شديدة القباحة لكونه تهجّما على فراش الآباء الّذين حقوقهم أعظم من حقّ كلّ أحد، و كان مَقْتاً و موجبا لغضب اللّه، و غضب ذوي المروءات-قيل: إنّ العرب كانوا يسمّون من تولّد منه بالمقتيّ (2)- وَ إنّه ساءَ سَبِيلاً و بئس طريقا، حيث إنّها تنتهي إلى النّار.

قيل: أشار بالفاحشة إلى القبح العقلي، و بالمقت إلى القبح الشّرعي، و بقوله: ساءَ سَبِيلاً إلى القبح العادي (3)، فبيّن سبحانه أن فيه جميع جهات القبح و مراتبه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 23

ثمّ أنّه تعالى بعدما ذكر حرمة منكوحة الأب على ابنه، شرع في بيان حرمة نكاح أصناف اخر من النّساء، بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ في شرع الإسلام أُمَّهاتُكُمْ نكاحا و استمتاعا، و إن غلون كالجدات، و جدّات الجدّات وَ بَناتُكُمْ و إن سفلن وَ أَخَواتُكُمْ من الأب، أو من الامّ، أو منهما وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ من قبل الأب، أو من قبل الامّ، و إن علون وَ بَناتُ اَلْأَخِ للأب، أو الامّ، أولهما، و إن نزلن، وَ كذا بَناتُ اَلْأُخْتِ بالتّفصيل المذكور.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)ثمّ بعد ذكر المحرّمات السّبع السّببيّة، ذكر المحرّمات بالرّضاع بقوله: وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ و تدخل فيها الجدّات وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ فنزّل سبحانه الرّضاع منزلة النّسب، حيث سمّى المرضعة امّا، و المراضعة اختا، فنبّه بذلك على حرمة العناوين السّبعة الحاصلة بالرّضاع.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الرّضاع لحمة كلحمة النّسب» (4)و قال: «يحرم من الرّضاع ما يحرم

ص: 197


1- . تفسير القمي 1:134.
2- . تفسير البيضاوي 1:207، مجمع البيان 3:43.
3- . تفسير الرازي 10:24، تفسير أبي السعود 2:160.
4- . تفسير الصافي 1:403.

من النّسب» (1).

ثمّ شرّع في المحرّمات بالمصاهرة، بقوله: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ و زوجاتكم الدّائمات، أو المنقطعات المدخول بهنّ أولا، و إن علت الأمّهات و كنّ رضاعيّات وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي يكنّ فِي حُجُورِكُمْ و إن سفلن، إذا كنّ مِنْ نِسائِكُمُ و أزواجكم اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ و باشرتموهنّ.

سمّيت بنت الزّوجة إذا كانت من الزّوج الآخر ربيبة؛ لأنّ الغالب أنّ الإنسان يربّيها كما يربّي ولده. و استعير الحجر للتّربية؛ لأنّه يجلس الطّفل الذي يربّيه في حجره. و في تقييد الرّبائب باللاّتي في الحجور، مع كونه تخصيصا، إشعار بانّهنّ بمنزلة البنات.

فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ و لم تجامعوهنّ فَلا جُناحَ و لا بأس عَلَيْكُمْ في تزوّج بناتهنّ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ سواء كانت حليلة الابن زوجة دائمة له، أو منقطعة، أو ملك يمين، و سواء كان الابن نسبيّا، أو رضاعيّا، بلا واسطة أو معها، و التّقييد بكونه من الصّلب لإخراج الأدعياء.

قيل: إنّ الرّبيب المتبنّى كان في الجاهليّة بمنزلة الابن الصّلبي، لا ينكح المتبنّي زوجة المتبنّى و لذا عيّر المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين تزوّج زينب بنت جحش بعدما فارقت زوجها زيد بن حارثة، و كان صلّى اللّه عليه و آله تبنّاه و دعاه ابنا، فنزل و ما مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ (2)و قال: وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ (3)إلى آخره.

وَ أَنْ تَجْمَعُوا في النّكاح، أو في ملك اليمين مع الوطء بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ، ثمّ استثنى من لازم الحكم بقوله: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ و سبق منكم من الجمع في زمان الجاهليّة. و المعنى: أنّكم تعاقبون على الجمع بين الأختين إلاّ على الجمع في زمان الجاهليّة، فإنّه لجهلكم معفوّ و مغفور إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً للمذنبين رَحِيماً بالمؤمنين.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 24

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

ص: 198


1- . تفسير الرازي 10:29، تفسير البيضاوي 1:208، تفسير الصافي 1:403.
2- . الأحزاب:33/40.
3- . الأحزاب:33/4.

وَ اَلْمُحْصَناتُ و المزوّجات مِنَ اَلنِّساءِ اللاّتي أحصنّ فروجهنّ بالتّزويج إِلاّ ما كانت من المزوّجات اللاّتي مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إيّاهنّ و استرققتموهنّ بالشّراء أو الاستيهاب أو الأسر، فإنّه يجوز للمالك فسخ عقد نكاحهنّ إذا كنّ مزوّجات الغير، و وطأهنّ بعد العدّة أو الاستبراء، بل روي أنّ بيعهنّ طلاقهنّ (1).

و عن أبي سعيد الخدري: أنّ المسلمين أصابوا في غزاة أوطاس نساء، و لهنّ أزواج في دار الحرب، فنادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، و لا [غير]الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة (2).

ثمّ أكّد سبحانه تحريم المحرّمات المذكورة، بقوله: كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ قيل: إنّ التّقدير: الزموا كتاب اللّه الذي كتبه عليكم، و فريضته التي فرضها عليكم.

ثمّ صرّح بعموم حلّ التّزويج بغير الأصناف المذكورة، بقوله: وَ أُحِلَّ لَكُمْ في دين اللّه ما وَراءَ ذلِكُمْ و ما سوى هؤلاء النّسوة لإرادة أَنْ تَبْتَغُوا و تطلبوا نكاحهنّ بِأَمْوالِكُمْ و بصرفها في مهورهنّ أو أثمانهنّ، حال كونكم بتزويجهنّ أو تملّكهنّ مُحْصِنِينَ و محرزين فروجكم من الزّنا.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الإحصان و التّعفّف عن الزّنا بقوله: غَيْرَ مُسافِحِينَ و غير زانين فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ به من النّساء، و من انتفعتم بِهِ مِنْهُنَّ بجماع أو عقد فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ، لكون المهور فَرِيضَةً من اللّه التي فرضها عليكم.

قيل: إنّ (فريضة) مصدر مؤكّد، و التّقدير: فرضها اللّه فريضة (3).

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «إنّما نزلت: (فما أستمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى)» (4).

أقول: الظّاهر أنّ المراد: إنّما نزلت بهذا التفسير، لا أنّها نزلت بهذا التّعبير، لبطلان القول بالتّحريف، و لا شبهة أن المراد بها المتعة، و هي النّكاح المؤقّت. و نقله الفخر الرازي عن جماعة من العامّة (5).

ثمّ بيّن سبحانه جواز تجديد المتعة بعد انقضاء المدّة، بقوله: وَ لا جُناحَ و لا حرج عَلَيْكُمْ إذا أردتم تجديد العقد على المتمتّع بها فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الأجل و المهر مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ الأولى، و هي الأجل و المهر المقرّران في العقد الأول.

ص: 199


1- . تفسير الرازي 10:41.
2- . مجمع البيان 3:51.
3- . الكشاف 1:498، تفسير الرازي 10:54.
4- . الكافي 5:449/3، تفسير الصافي 1:406.
5- . تفسير الرازي 10:51.

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، تقول: استحللتك بأجل آخر، برضى منها» الخبر (1).

إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً في ما شرع من الأحكام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جواز نكاح الحرائر دواما و متعة، أذن في نكاح الإماء، بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ و لم يقدر مِنْكُمْ طَوْلاً و غنى-كما عن الباقر عليه السّلام (2)- أَنْ يَنْكِحَ النّساء اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ و الحرائر العفيفات، لغلاء صداقهنّ، و كثرة نفقاتهنّ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ و إمائكم اَلْمُؤْمِناتِ تزّوجوا و اقنعوا منهن بظاهر الحال في الإيمان وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ القلبي الحقيقي، مطّلع على سرائركم، ففوّضوا الإيمان الباطن إلى علمه تعالى.

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)ثمّ ردع سبحانه عن التّأنّف من تزويجهنّ لدناءة نسبهنّ، بقوله: بَعْضُكُمْ منشعب مِنْ بَعْضٍ و كلّكم من أرومة واحدة، لا فضل لبعضكم على بعض من جهة الأصل و النّسب، و إنّما الفضل بالإيمان.

و قيل: إنّ المراد: كلّكم مشتركون في الإيمان، و هو أعظم الفضائل، و غيره لا يلتفت إليه (3). ففيه ردع عن الافتخار بالأنساب.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ثلاث من أمر الجاهليّة: الطّعن في الأنساب، و الفخر بالأحساب، و الاستسقاء بالأنواء، و لا يدعها النّاس في الإسلام» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على شرط صحّة هذا النّكاح، بعد الإشعار بإشراطها بالإيمان، بقوله: فَانْكِحُوهُنَّ

ص: 200


1- . تفسير العياشي 1:385/928، تفسير الصافي 1:406.
2- . مجمع البيان 3:54، تفسير الصافي 1:407.
3- . تفسير الرازي 10:60.
4- . تفسير الرازي 10:61.

بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ و مواليهنّ، فإنّهنّ مملوكات لهم عينا و منفعة، فلا يجوز التّصرّف فيهنّ إلاّ برضاهم السّابق على التّصرّف، و إن قلنا بصحّة العقد بالإجازة اللاّحقة، كما هو الحقّ.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: هل يتزوّج الرّجل بالأمة بغير علم أهلها؟ قال: «هو زنا، إنّ اللّه تعالى يقول: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» (1). و لا فرق بين كون المولى رجلا أو امرأة، و لا بين النّكاح الدّائم و المنقطع.

فما في (الكافي) ، عن الصادق عليه السّلام: «لا بأس بأن يتمتّع الرّجل بأمة المرأة، و أمّا أمة الرّجل فلا يتمتع بها إلاّ بأمره» (2)فلعلّه لا عمل به.

وَ آتُوهُنَّ بأذن مواليهن أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ، و تسمية المهر أجرا لكونه عوض البضع، و هو المنفعة. و إنّما قيّدنا الإيتاء بأذن مواليهنّ لكونها ملكا لهم، و ليكن الإيتاء ملابسا بِالْمَعْرُوفِ و هو عدم المطل و الضّرار و النّقص. و قيل: في إطلاق إيجاب إعطاء المهر دلالة على وجوبه و إن لم يسمّ لها مهرا، فيجب في الصّورة مهر المثل بالدّخول. و المراد من قوله: بِالْمَعْرُوفِ ما هو المتعارف في مثل هذه المرأة من المهر.

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ وجوب إيتاء المهر فيما إذا كنّ مُحْصَناتٍ عفيفات.

و قيل: إنّ جواز نكاح الأمة أو استحبابه مقيّد به، و عليه يكون المعنى: فانكحوهنّ حال كونهنّ عفائف غير زانيات.

ثمّ أنّه قيل: إنّ العرب كانو يفرّقون بين المتجاهرات بالزّنا و المستترات، و لذا نصّ اللّه سبحانه على عدم الفرق بقوله: غَيْرَ مُسافِحاتٍ و متجاهرات بالزّنا وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ و مصاحبات للأصدقاء في السّرّ، يزنون بهنّ.

ثمّ ذكر سبحانه حكم حدّهنّ في الزّنا بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ بالتّزويج فَإِنْ أَتَيْنَ بعد النّكاح و الإحصان بِفاحِشَةٍ و ارتكبن الزّنا سرّا أو علانية فَعَلَيْهِنَّ ثابت شرعا نِصْفُ ما ثبت عَلَى اَلْمُحْصَناتِ و النّساء الحرائر مِنَ اَلْعَذابِ و الحدّ، و هو الجلد دون الرّجم، للإجماع و لعدم تبعّض الرّجم. فلا يزداد حدّها على خمسين جلدة إذا كانت محصنة فضلا عمّا إذا كانت بكرا.

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ هذا النّكاح المحرّم في الأصل على قول، أو المكروه على آخر، جائز لا حرازة فيه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ على نفسه اَلْعَنَتَ و المشقّة مِنْكُمْ لغلبة الشّهوة و عدم الصّبر عليها،

ص: 201


1- . تفسير العياشي 1:387/933، تفسير الصافي 1:408.
2- . الكافي 5:464/4، تفسير الصافي 1:408.

حتّى خاف من نفسه الوقوع في الزّنا، وَ مع ذلك أَنْ تَصْبِرُوا على المشقّة، و تكفّوا عن الزّنا، و نكاح الإماء فهو خَيْرٌ لَكُمْ دينا و دنيا من الإقدام على نكاحهنّ لكثرة مفاسده وَ اَللّهُ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالعباد.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 26

ثمّ أنّه تعالى-بعد ذكر هذه الآيات المقرونة بأعلى درجة الفصاحة، و بيان هذه الأحكام المشتملة على المصالح الكثيرة-أظهر المنّة و غاية اللّطف بالعباد ترغيبا لهم في الطاعة بقوله: يُرِيدُ اَللّهُ بإنزال هذه الآيات و بيان تلك الأحكام لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما فيه صلاح آخرتكم و دنياكم وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الأنبياء و المؤمنين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ في الأزمة السّالفة.

يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)قيل: فيه دلالة على أنّ هذه الأحكام كانت في جميع الشّرائع (1).

وَ أن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لوضوح أنّه لو لم تكن الأحكام لم يتحقّق العصيان، و لولاه لم تتحقّق التّوبة، و لولاها لم تظهر صفة توّابيّته، و عفويّته، و غفوريّته، و لطفه في توفيقه للتّوبة وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في وضع أحكامه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 27

ثمّ أعاد ذكر الحكمة الثّالثة اهتماما بإظهار سعة رحمته بقوله: وَ اَللّهُ يُرِيدُ و يحبّ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يعفو عنكم إثر ندمكم على عصيانكم وَ يُرِيدُ أعداء اللّه اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ و ينهمكون فيها أَنْ تَمِيلُوا إلى الباطل بعد إعراضكم عنه و قبولكم الحقّ مَيْلاً عَظِيماً و تضلّوا بعد الهداية ضلالا بعيدا.

وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 28

ثمّ تحبّب إلى عباده بإعلامهم بغاية رأفته بهم، و إحسانه إليهم بقوله: يُرِيدُ اَللّهُ بتشريعة الحنيفيّة السّمحة السّهلة التي منها تحليل نكاح الإماء أَنْ يُخَفِّفَ و يضع عَنْكُمْ التّكاليف الشّاقّة،

يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

ص: 202


1- . تفسير الرازي 10:66.

و الآصار و الأغلال التي كانت على الامم الماضية.

ثمّ أشار إلى علّة هذا التّخفيف بقوله: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً في نفسه و عقله و قواه، عاجزا عن احتمال المشاقّ، جزوعا عند الشّدائد، لا يصبر عن الشّهوات، و لا يحتمل مشقّة الطّاعات.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: ثمان آيات في سورة النّساء هي خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. . . (1)، وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. . . (2)، يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ. . . ، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . . (3)، إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. . . (4)، إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. . . (5)، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. . . (6)، ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ. . . (7).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 29

ثمّ لمّا أجاز سبحانه في التّصرّف في النّفوس بالنّكاح، و أمر بابتغائه بالأموال، و إيفاء المهور و النّفقات، نهى عن التّصرّف في الأموال بغير الوجه العقلائي و النّحو المحلّل في الشّرع أوّلا بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ، و لا تتصرّفوا فيها بِالْباطِلِ بالأسباب غير المبيحة للمال، كالقمار و الرّشوة و الغصب و السّرقة و نحوها. و على هذا التّفسير تكون الآية مجملة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)عن الباقر عليه السّلام: «الرّبا و القمار و البخس و الظّلم» (8).

و عن الصادق عليه السّلام: «عنى بها (9)القمار، و كانت قريش تقامر [الرجل]بأهله و ماله فنهاهم [اللّه]عن ذلك» (10).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: إنّ الباطل [هو]كلّ ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض (11).

إِلاّ أَنْ تَكُونَ التّجارة تِجارَةً كائنة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ بها. و عليه لا يكون الاستثناء منقطعا لعدم كون التّجارة من جنس الباطل، و يكون المعنى: و لكن يحلّ أكلها بالتّجارة عن التراضي و يمكن توجيه الآية بنحو يكون الاستثناء متّصلا.

ثمّ بعد النّهي عن التّصرّف في الأموال بغير الوجه المحلّل، نهى عن التّصّرف في النّفوس بالقتل- ثانيا-بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .

ص: 203


1- . النساء:4/26.
2- . النساء:4/27.
3- . النساء:4/31.
4- . النساء:4/48.
5- . النساء:4/40.
6- . النساء:4/110.
7- . تفسير الرازي 10:68، و الآية من سورة النساء:4/147.
8- . مجمع البيان 3:59، تفسير الصافي 1:409.
9- . في تفسير العياشي: نهى عن.
10- . تفسير العياشي 1:390/945، تفسير الصافي 1:409.
11- . تفسير الرازي 10:69.

قيل: إنّ المراد لا يقتل بعضكم بعضا (1).

و قيل: إنّ المراد النّهي عن قتل الشّخص نفسه (2).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ معناه: لا تخاطروا نفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه» (3).

و عنه عليه السّلام: «كان المسلمون يدخلون على عدوّهم في المغارات، فيتمكّن منهم عدوّهم فيقتلهم كيف يشاء، فنهاهم اللّه أن يدخلوا عليهم في المغارات» (4).

و عن القميّ قال: كان الرّجل إذا خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغزو يحمل على العدوّ وحده من غير أن يأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنهى اللّه أن يقتل نفسه من غير أمره (5).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، قال: «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الجبائر تكون على الكسير، كيف يتوضّأ صاحبها، و كيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسح (6)بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (7).

أقول: يمكن باستعمال لفظ (القتل) و (النفس) في عموم المجاز إرادة تعريض نفسه و نفس غيره للهلاك الدّنيوي و الاخروي.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ النّهي عن إتلاف المال و النّفس لمحض رحمته بالعباد، حثّا على الطّاعة بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً لا يرضى بتلف أموالكم و نفوسكم، و بوقوعكم في الضّرر و المشقة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 30

ثمّ أخذ سبحانه بالتّهديد على المخالفة بقولة: وَ مَنْ يَفْعَلْ و يرتكب ذلك المذكور من إتلاف الأموال و الأنفس، حال كون ارتكابه عُدْواناً على الغير، و تجاوزا عن الحدود الإلهيّة وَ ظُلْماً على العباد فَسَوْفَ نُصْلِيهِ و ندخله ناراً لا توصف شدّة حرّها وَ كانَ ذلِكَ التّعذيب و التّصلية عَلَى اَللّهِ القادر على كلّ شيء يَسِيراً و سهلا.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (30)

ص: 204


1- . تفسير الرازي 10:72، مجمع البيان 3:59.
2- . مجمع البيان 3:59.
3- . مجمع البيان 3:60، تفسير الصافي 1:410.
4- . تفسير العياشي 1:390/945، تفسير الصافي 1:410.
5- . تفسير القمي 1:136، تفسير الصافي 1:410.
6- . في تفسير العياشي: المسّ.
7- . تفسير العياشي 1:389/944، تفسير الصافي 1:410.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 31

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار رحمته و رأفته بالمؤمنين، و ترغيبه في الطّاعة بقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا و تحترزوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ من القبائح نُكَفِّرْ عَنْكُمْ و نغفر لكم سَيِّئاتِكُمْ الصّغيرة، و ذنوبكم الحقيرة وَ نُدْخِلْكُمْ في الآخرة مُدْخَلاً و منزلا كَرِيماً و حسنا مرضيّا.

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)قيل: إنّ المراد: إدخالا مع كرامة (1).

في بيان الكبائر

و عددها

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن الكبائر، فقال: «كلّ ما أوعد اللّه عليه النّار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «الكبائر التي أوجب اللّه عليها النّار» (3).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «من أجتنب ما أوعد اللّه عليه النّار، إذا كان مؤمنا، كفّر اللّه عنه سيّئاته و يدخله مدخلا كريما، و الكبائر السّبع الموجبات: قتل النّفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الرّبا، و التّعرّب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزّحف» (4).

أقول: لا شبهة في وجود المعصية الصّغيرة، و بطلان ادّعاء أنّ جميع المعاصي كبائر، لظهور الكتاب، و صراحة كثير من الأخبار في وجود القسمين للمعاصي.

و ما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: -من أنّ كلّ ما عصي اللّه فيه فهو كبيرة، فمن عمل منها شيئا فليستغفر اللّه (5)-فمحمول على إرادة وجوب احتراز العبد عن جميع المعاصي، و الاستغفار منه إذا ارتكب شيئا منها، و لا يجوز له التّهاون بها.

ثمّ لا ريب أنّ جميع الكبائر ليست على حدّ واحد، بل بعضها أكبر من بعض، لوضوح أنّ قتل النّفس أكبر من أكل مال اليتيم، و لعلّ أكل مال اليتيم أكبر من أكل الرّبا، و الفرار من الزّحف أكبر من قذف المحصنة، إلى غير ذلك.

فالميزان الثّابت بالأخبار للكبائر هو ما أوعد اللّه عليه النّار، و إن كان الوعيد بالدّلالة الالتزاميّة، و ما ذكر في الأخبار من عدد الكبائر من السّبع، فمحمول على بيان أكبر الكبائر.

و هذا القول منقول عن ابن عبّاس أيضا، و اعتراض الفخر الرازي عليه-بأنّ كلّ ذنب متعلّق للذّمّ في العاجل و العقاب في الآجل (6)، فلا تبقى صغيرة-شطط من الكلام، لوضوح عدم ذكر كثير من

ص: 205


1- . تفسير الصافي 1:411.
2- . تفسير العياشي 1:393/957، تفسير الصافي 1:411.
3- . الكافي 2:211/1، تفسير الصافي 1:411.
4- . ثواب الأعمال 130، تفسير الصافي 1:411.
5- . تفسير الرازي 10:73.
6- . تفسير الرازي 10:74.

المحرّمات كالاستمناء و القبلة و أمثالهما في القرآن.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 32

ثمّ-لمّا كان عدم الرّضا بما قسمه اللّه لخلقه موجبا للحسد، و أخذ الأموال بالباطل، و قتل النّفوس المحترمة بغير الحقّ-نهى اللّه سبحانه عن الطّمع في ما في أيدي النّاس و تمنّيه، بقوله: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الأموال و الأولاد و الجاه ممّا يجري التّنافس فيه، فإنّ ذلك قسمة من اللّه صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد، مترتّبة على الإحاطة بجلائل شؤونهم و دقائقها.

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)فكلّ ما كنتم فاقدين له من الأمور الدّنيويّة و كان غيركم واجدا له، فلعلّ عدمه خير لكم، فعلى كلّ أحد من المفضّل و المفضّل عليه أن يرضى بما قسم له، و لا يتمنّى المفضّل عليه حظّ المفضّل، و لا يحسده عليه؛ لأنّه معارضة لحكمة المقدّر، فإنّ الأنصباء كالأشكال و الصّور، و كما أنّ الأشكال و الصّور و اختلافهما بمقتضى الحكمة الإلهيّة لا يطّلع على سرّها أحد، فكذلك الاقسام و الأنصباء.

عن الصادق عليه السّلام، في تفسير الآية: «أي لا يقل أحدكم: ليت ما اعطي فلان من المال و النّعمة و المرأة الحسناء كان لي، فإنّ ذلك يكون حسدا، و لكن يجوز أن يقول: اللّهمّ أعطني مثله» (1).

أقول: و ممّا ينبغي أن يقول: اللّهمّ أعطني ما فيه صلاح دنياي و آخرتي، بل أحسن الأدعية ما علّمه اللّه عباده في كتابه المجيد من قوله: رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً (2).

و قيل: إنّ وجه النّظم أنّه تعالى بعدما أمر بتطهير الجوارح من أقبح القبائح، و هو أخذ المال بالباطل، و قتل النّفس المحترمة، أمر بتطهير القلب من أرذل الصّفات، و هو الحسد على ما أعطاه اللّه غيره، ليصير الباطن موافقا للظّاهر في الطّهارة من الذّمائم (3).

ثمّ علّل سبحانه النّهي عن التّمنّي بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ و حظّ معين لا يتخطّاه مِمَّا اِكْتَسَبُوا بأعمالهم و صلاح حالهم، من النّعم الدّنيوية و الاخرويّة وَ لِلنِّساءِ أيضا نَصِيبٌ و حظّ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ فاطلبوا ما تريدون بالأعمال، لا بالتّمنّي و الحسد وَ سْئَلُوا اَللّهَ بعضا مِنْ فَضْلِهِ و التمسوا من جميع ما تحبّونه و تحتاجون إليه من خزائن جوده و رحمته التي لا تنفد، فإن أعطاكم و أجاب سؤلكم فاشكروه، و إن منعكم فارضوا بما قسمه لكم، فإنّه ليس إلاّ لعلمه بصلاحكم إِنَّ اَللّهَ

ص: 206


1- . مجمع البيان 3:64، تفسير الصافي 1:413.
2- . البقرة:2/201.
3- . تفسير الرازي 10:80.

كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ من المصالح و المفاسد عَلِيماً خبيرا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى أحبّ شيئا لنفسه و أبغضه لخلقه، أبغض عزّ و جلّ لخلقه المسألة، و أحبّ لنفسه أن يسأل، و ليس شيء أحبّ إليه من أن يسأل، فلا يستحي أحدكم أن يسأل اللّه عزّ و جلّ من فضله و لو شسع نعله» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «ليس من نفس إلاّ و قد فرض اللّه لها رزقا حلالا يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئا بالحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض اللّه لها، و عند اللّه سواهما فضل كثير» (2)و هو قوله: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .

ثمّ قال: «و ذكر اللّه بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرّزق من الضّرب في الأرض» (3).

قيل: إنّ سبب نزول الآية أنّه قالت أمّ سلمة رضي اللّه عنها: يا رسول اللّه، يغزو الرّجال و لا نغزو، و لهم من الميراث ضعف ما لنا، فليتنا كنّا رجالا، فنزلت (4).

و قيل: لمّا جعل اللّه الميراث للذّكر مثل حظّ الانثيين، قالت النّساء: نحن أحوج لأنّا ضعفاء، و هم أقدر على طلب المعاش (5).

في بيان طبقة

الورّاث

و قيل: أتت واحدة من النّساء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: ربّ الرّجال و النّساء واحد، و أنت الرّسول إلينا و إليهم، و أبونا آدم و امّنا حوّاء، فما السّبب في أنّ اللّه يذكر الرّجال و لا يذكرنا؟ فنزلت الآية، فقالت: و قد سبقنا الرّجال بالجهاد، فما لنا؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ للحامل منكنّ أجر الصّائم القائم، فإذا ضربها الطّلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإذا أرضعت كان لها بكلّ مصّة أجر إحياء النّفس» (6).

و قيل: لمّا نزلت آية المواريث قال الرّجال: نرجو أن نفضّل على النّساء في الآخرة كما فضّلنا في الميراث، و قالت النّساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرّجال كما في الميراث، فنزلت (7).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى، بعد ذكر ميراث الأقارب و الأزواج، و المنع عن إرث نساء الميّت، خصوصا زوجة الأب و حرمة نكاحها، و حرمة غيرها من النّساء المحرّمات، و ذكر أحكام اخر بالمناسبة، عاد إلى بيان

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)

ص: 207


1- . الكافي 4:20/4، تفسير الصافي 1:413.
2- . تفسير العياشي 1:394/961، تفسير الصافي 1:413.
3- . تفسير العياشي 1:394/962، تفسير الصافي 1:413. (4 و 5) . تفسير الرازي 10:82. (6 و 7) . تفسير الرازي 10:82.

حكم الإرث و ذكر طبقات الورّاث بقوله: وَ لِكُلٍّ من أفراد نوع الإنسان، ذكرا كان أو انثى جَعَلْنا و قرّرنا مَوالِيَ و ورّاثا يرثونه مِمّا تَرَكَ بعد موته.

و هم أوّلا: اَلْوالِدانِ و في طبقتهما الأولاد و الأزواج، و لعلّه لم يذكروا هنا لمعلوميّة ذلك من الآيات السّابقة، و لتعظيم شأنهما في الطّبقة الاولى. ثمّ ذكر الطّبقة الثّانية بقوله: وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

عن الصادق عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النّعمة، فأولاهم بالميّت أقربهم إليه من الرّحم التي تجرّه إليها» (1).

ثمّ الطّبقة الثّالثة؛ بقوله: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ .

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «إذا والى الرّجل الرّجل فله ميراثه، و عليه معقلته» (2)، يعني: دية جناية خطئه.

و عن الرضا عليه السّلام: «عنى بذلك الائمّة عليهم السّلام بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم» (3).

في نقل كلام

الفاضل المقداد رحمه اللّه

و قال الفاضل المقداد في (آيات الأحكام) : الأيمان هنا جمع: يمين اليد؛ لأنهم كانوا عند العهد يمسحون اليمين باليمين، فيقول العاقد: دمك دمي، و ثأرك ثأري، و حربك حربي، و سلمك سلمي، ترثني و أرثك، و تطلب بي و أطلب بك و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحالف السّدس من ميراث حليفه. و هذا من إسناد الفعل إلى آلته. و قيل: الأيمان جمع يمين الحلف، فيكون من إسناد الفعل إلى سببه (4).

إذا عرفت ذلك فهنا فوائد: الاولى: كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب، فأقرّهم اللّه عليه في مبدأ الإسلام ثمّ نسخ ذلك، فكانوا يتوارثون بالإسلام و الهجرة.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله آخى بين المهاجرين و الأنصار لمّا قدم المدينة، فكان المهاجر يرث الأنصاري و بالعكس، و لم يرث القريب ممّن لم يهاجر، و نزل في ذلك: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (5)، ثمّ نسخ ذلك بالقرابة و الرّحم و الأنساب و الأسباب بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (6).

ص: 208


1- . التهذيب 9:268/975، تفسير الصافي 1:413.
2- . الكافي 7:171/3، تفسير الصافي 1:414.
3- . تفسير العياشي 1:395/963، تفسير الصافي 1:414.
4- . كنز العرفان 2:324.
5- . الأنفال:8/72.
6- . كنز العرفان 2:324، و الآية من سورة الأنفال:8/75.

الثانية: هذا الحكم-أعني: الميراث بالمعاهدة و المعاقدة، و هو المسمّى بضمان الجريرة-منسوخ عند الشّافعي مطلقا، و قال: لا إرث به، و عند أصحابنا ليس كذلك، بل هو ثابت عند عدم الوارث النّسبي و السّببي لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أنّه خطب يوم الفتح فقال: «ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به، فإنّه لم يزده الإسلام إلاّ شدّة، و لا تحدثوا حلفا في الإسلام» .

إلى أن قال الفاضل: على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتّعاهد، فتكون الآية غير منسوخة جملة، بل تكون محكمة، لكن الإرث فيها مجمل مفتقر إلى شرائط و مخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب، أو من السّنّة الشّريفة.

و قال بعضهم: المعاقدة هنا هي المصاهرة، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين، و اختاره المعاصر (1)، و فيه بعد؛ لأنّه عدول عن الظّاهر، و عن قول الأكثر، انتهى (2).

و قد سبق في طرفة من الطّرائف بعض التّحقيق في ذلك (3).

و قيل: إنّ المراد من قوله تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النّصرة و النّصيحة، و المصافاة في العشرة، و المخالصة في المخالطة، لا التّوارث.

ثمّ وعد سبحانه المطيعين بالثّواب و العاصين بالعقاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الجزئيّات و الكلّيات و جميع أعمال العباد شَهِيداً و خبيرا يجازيهم على حسب أعمالهم إنّ خيرا فخيرا، و إن شرّا فشرّا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 34

في بيان فضل

الرجال على النساء

ثمّ لمّا كان شأن نزول آية: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ (4)-على ما ورد في بعض الرّوايات-في ردع النّساء عن التّكلّم في تفضيل الرّجال على النّساء في الميراث، و تمنّيهنّ المساواة لهم في النّصيب، أشار سبحانه إلى وجه

اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

ص: 209


1- . مراد الفاضل المقداد من (المعاصر) هو ابن المتّوج، و هو فخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتّوج البحراني صاحب كتاب (النهاية في تفسير الخمسمائة آية) . الذريعة 24:402/2137.
2- . كنز العرفان 2:324.
3- . راجع: الطرفة (20) .
4- . النساء:4/32.

التّفضيل بقوله: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ مهيمنون عليهنّ، مهتمّون بتنظيم امورهنّ، مبالغون في حفظهنّ، ناظرون في صلاحهنّ.

ثمّ علّل سبحانه هذه القيمومة بأمرين: الأوّل: بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ الغالب عَلى بَعْضٍ الأغلب من النّساء، من العقل و الحزم، و القوّة و الفتوّة، و الشّجاعة و السّماحة، و العلم، [و غيرها]من الفضائل الدّاخلية و الكمالات النّفسانيّة.

و الثاني: وَ بِما أَنْفَقُوا عليهنّ مِنْ أَمْوالِهِمْ في نكاحهنّ، كالمهر و النّفقة و الإحسان و غيرها من الفضائل العمليّة. و فيه دلالة على وجوب نفقتهنّ على الأزواج.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: ما فضل الرّجال على النّساء؟ فقال: «كفضل الماء على الأرض، فبالماء تحيا الأرض، و بالرّجال تحيا النّساء، و لو لا الرّجال ما خلقت النّساء» ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: «ألا ترى إلى النّساء كيف يحضنّ و لا يمكنهنّ العبادة؛ من القذارة، و الرّجال لا يصيبهم شيء من الطّمث» (1).

روي أنّ سعد بن الرّبيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شكا، فقال صلوات اللّه عليه: «لنقتصّنّ منه» . فنزلت الآية، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا، و الذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعدما أشار إلى وظيفة الرّجال، بيّن وظيفة النّساء بقوله: فَالصّالِحاتُ الخيّرات منهنّ قانِتاتٌ للّه، مطيعات له و لأزواجهنّ، قائمات بأداء حقوقهم حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ من الأزواج بحفظ أنفسهنّ من الأجانب، و أموال أزواجهنّ من التّلف و التّبذير في غيابهم.

عن الصادق عليه السّلام عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما أستفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، و تطيعه إذا أمرها، و تحفّظه إذا غاب عنها، في نفسها و ماله» (3).

و قيل: إنّ المراد: حافظات لما يكون بينهنّ و بين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار (4).

بِما حَفِظَ اَللّهُ لهنّ، و بعوض الحقوق التي جعلها اللّه لهنّ رعاية لهنّ على أزواجهنّ، من العدل و الإحسان إليهنّ، و إيجاب إمساكهنّ بالمعروف، و إعطائهنّ المهور و النفقات و غيرها.

و حاصل المعنى: أنّ حفظهنّ لحقوق الأزواج يكون في مقابل حفظ اللّه حقوقهنّ على الأزواج.

و قيل: إنّ المعنى: كونهنّ حافظات للغيب يكون بسبب حفظ اللّه لهنّ من الزّلل، و توفيق اللّه إيّاهنّ للقيام بحقوق الأزواج (5).

ص: 210


1- . علل الشرائع:512/1، تفسير الصافي 1:414.
2- . تفسير روح البيان 2:202.
3- . الكافي 5:327/1، تفسير الصافي 1:414.
4- . كنز العرفان 2:212.
5- . تفسير الرازي 10:89.

حكم نشوز الزوجة

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وظيفة الزّوجة من التمكين و الطّاعة للزّوج، بيّن حكم خروجها عن الطّاعة بقوله: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ و ترفّعهنّ عن الطّاعة بظهور أماراته في أقوالهنّ و أفعالهن فَعِظُوهُنَّ و خوّفوهنّ بسوء عاقبة النّشوز، و عقاب اللّه عليه، و انصحوهنّ بالتّرغيب إلى حسن العشرة و القيام بالطّاعة وَ اُهْجُرُوهُنَّ و تباعدوا منهنّ فِي اَلْمَضاجِعِ و المراقد، إن لم يفد الوعظ و النّصح. قيل: هو أن لا يبيت معها في فراشها، بل في فراش آخر (1).

و قيل: هو أن يولّيها ظهره في الفراش (2).

و قيل: هو أن لا يجامعها (3). و لا يبعد أن يكون من الوجوه امتناعه عن التّكلّم معها.

وَ اِضْرِبُوهُنَّ إن لم يفد الهجران، ضربا غير جارح لحما، أو كاسر عظما.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه الضّرب بالمسواك» (1). و لا يبعد أنّه بيان أقلّه و وجوب رعاية ما يوجب ردعها في الهجر و الضّرب، و عدم جواز التعدّي عنه.

فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ و قمن بحقوقكم بالضّرب، و رجعن عن النّشوز إلى الطّاعة فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً و لا تطلبوا إلى إيذائهنّ طريقا بالتّوبيخ و الضّرب و غيرهما.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعضها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتّعظ بالضّرب بعث الحكمين» (2).

ثمّ رغّب سبحانه الأزواج بعد انتهائهنّ بالرّفق بهنّ، و استمالة قلوبهنّ، و قبول توبتهنّ، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا شأنا كَبِيراً قدرة.

ففيه إشارة إلى أنّه تعالى مع علوّ شأنه، و كمال قدرته، يعاملكم مع عصيانكم بالرّفق، و يخاطبكم بالشّفقة و يستميل قلوبكم، و يقبل توبتكم، فعاملوا أزواجكم بعد ندمهم على النّشوز معاملة ربّكم العليّ معكم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 35

ثمّ أنّه تعالى-بعد بيان حكم النّشوز من طرف الزّوجة-بيّن حكم النّشوز، و عدم القيام بالحقوق، إذا كان من الزّوجين، مخاطبا للحكّام بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أيّها الحكّام شِقاقَ بَيْنِهِما و النّشوز،

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

ص: 211


1- . مجمع البيان 3:69، تفسير الصافي 1:415.
2- . تفسير الرازي 10:91.

و تجاوز الحدود الشّرعيّة منهما فَابْعَثُوا حَكَماً عادلا منصفا، صالحا للحكومة من طرف الزّوج كائنا مِنْ أَهْلِهِ و أقاربه إلى الزّوجة وَ حَكَماً آخر، على صفة حكم الزّوج من طرف الزّوجة، كائنا مِنْ أَهْلِها و عشيرتها إلى الزّوج لإصلاح ذات البين.

قيل: تعيين أهل الزّوجين للحكميّة لكونه أعرف بحالهما (1).

و قيل: هو على سبيل النّدب، و يجوز البعث لغير الأهل لحصول الغرض (2).

و على أيّ حال و تقدير فالحكمان المعيّنان إِنْ يُرِيدا و قصدا إِصْلاحاً و توفيقا بين الزّوجين بالشّروط و الالتزمات نظرا إلى صلاحهما يُوَفِّقِ اَللّهُ و يؤلّف بقدرته بَيْنِهِما قيل: إنّ ضمير التّثنية الاولى أيضا راجع إلى الزّوجين (3)، و قيل: الثّانية أيضا راجعة إلى الحكمين (4)إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً بالكلّيّات خَبِيراً بالجزئيّات، أو عليما بالبواطن خبيرا بالظّواهر من الأقوال و الأفعال.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «الحكمان يشترطان إن شاءا فرّقا و إن شاءا جمعا، فإن جمعا فجائز، و إن فرّقا فجائز» (5).

[و]قال: «ليس لهما أن يفرّقا حتّى يستأمراهما» (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 36

ثمّ أنّه تعالى لمّا أرشد الزّوجين إلى طريق الإصلاح بينهما، أرشد النّاس إلى طريق الإصلاح بينهم و بين اللّه بقوله: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ و أطيعوه أيّها النّاس جوانحا و جوارحا وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الإشراك جليّا و خفيّا، وَ أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ و إن علوا إِحْساناً لائقا بعظيم حقوقهما.

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)و في إقران ذكر وجوب برّهما بوجوب عبادة ذاته المقدّسة تنبيه على كمال العناية بهما، و علوّ قدرهما، و التّأكيد في وجوب طاعتهما، و القيام بخدمتهما، و السّعي في حوائجهما، و الإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة، و الخضوع لهما، و تليين الكلام معهما.

روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من اليمن فاستأذنه في الجهاد، فقال صلوات اللّه عليه: «هل لك أحد باليمن؟» فقال: أبواي، فقال: «أبواك أذنا لك؟» فقل: لا، فقال: «فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا

ص: 212


1- . تفسير الرازي 10:93.
2- . تفسير أبي السعود 2:175.
3- . تفسير أبي السعود 2:175.
4- . تفسير أبي السعود 2:175.
5- . الكافي 6:146/3، تفسير الصافي 1:415.
6- . الكافي 6:147/5، تفسير الصافي 1:415.

لك فجاهد، و إلاّ فبرّهما» (1).

و عن العيّاشي: عنهما عليهما السّلام، في هذه الآية: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحد الوالدين، و عليّا عليه السّلام الآخر» (2).

ثمّ بعد الأمر بالإحسان إلى الوالدين، أمر بالإحسان إلى الأرحام بقوله: وَ بِذِي اَلْقُرْبى و الأرحام القريب منكم و البعيد، فإنّهم أحقّ بالإحسان من غيرهم. وَ بعدهم اَلْيَتامى لضعفهم، و صغرهم، و عدم الكافل لهم، وَ بعدهم اَلْمَساكِينِ و الفقراء، وَ بعدهم اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى و من له قرب الدّار، وَ بعدهم اَلْجارِ اَلْجُنُبِ و من يكون له بعد الدّار.

بيان حدّ الجار

و حقوقه

في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب، من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ أربعين دارا جيران من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق. حقّ الجار و حقّ القرابة و حقّ الإسلام، و جار له حقّان: حقّ الجار، و حقّ الإسلام، و جار له حقّ واحد: حقّ الجار (5)، و هو المشرك من أهل الكتاب» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «حسن الجوار يزيد في العمر» (7).

و قال: «حسن الجوار يعمّر الدّيار، و يزيد في الأعمار» (8).

و عن الكاظم عليه السّلام: «ليس حسن الجوار كفّ الأذى، و لكن حسن الجوار صبرك على الأذى» (9).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «و الذي نفس محمّد بيده، لا يؤدّي حقّ الجار إلاّ من رحم اللّه، و قليل ما هم، أتدرون ما حقّ الجار؟ إن افتقر أغنيته، و إن استقرض أقرضته، و إن أصابه خير هنأته، و إن أصابه شرّ عزّيته، و إن مرض عدته، و إن مات شيّعت جنازته» (10).

و قيل: عنى بالجار ذي القربى: القريب النّسيب، و بالجار الجنب: الجار الأجنبي (11).

ثمّ ذكر الصّنف السّابع بقوله: وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل: هو الذي صحبك و حصل في جنبك،

ص: 213


1- . تفسير الرازي 10:95.
2- . تفسير العياشي 1:397/971 و 972، تفسير الصافي 1:415.
3- . الكافي 2:491/2، تفسير الصافي 1:415.
4- . الكافي 2:491/1، تفسير الصافي 1:415.
5- . في مجمع البيان: الجوار.
6- . مجمع البيان 3:72، تفسير الصافي 1:416.
7- . الكافي 2:489/3، و فيه: يزيد في الرزق، تفسير الصافي 1:416.
8- . الكافي 2:489/8، تفسير الصافي 1:416.
9- . الكافي 2:489/9، تفسير الصافي 1:416.
10- . تفسير الرازي 10:96.
11- . تفسير الرازي 10:96.

إمّا بكونه رفيقا في سفر، أو جارا ملاصقا، أو شريكا في تعلّم أو حرفة، أو قاعدا بجنبك في مجلس أو مسجد، أو غير ذلك ممّن له أدنى صحبة التأمت بينك و بينه، فعليك أن [ترعى ذلك الحقّ و لا تنساه و]تجعله ذريعة إلى الإحسان إليّه (1).

و قيل: إنّه المرأة فإنّها تكون معك و تضجع إلى جنبك (2).

وَ بعدهم اِبْنِ اَلسَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع عن بلده و ماله، و الإحسان إليه بأن تؤويه و تزوّده، و قيل: هو الضّيف (3). وَ بعده ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد و الإماء.

عن القمي رحمه اللّه قال: الصّاحب بالجنب يعني صاحبك في السّفر، و ابن السبيل يعني أبناء الطّريق الّذين يستعينون بك في طريقهم، و ما ملكت أيمانكم يعني الأهل و الخادم (4).

و قيل: هو كلّ حيوان تملكه (5). و على كلّ تقدير، فإنّ الإحسان إلى الكلّ طاعة عظيمة.

قيل: كانوا في الجاهليّة يسيئون إلى المملوك، فيكلّفون الإماء بالبغي (6)و التّكسّب بفروجهنّ (7).

ثمّ لمّا كان عمدة الموانع عن الإحسان و التّوجّه إلى الفقراء و الضّعفاء و المماليك التّكبّر و التّطاول، هدّد اللّه التّاركين للإحسان إليهم بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً و متكبرا فَخُوراً و متطاولا على النّاس.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 37

ثمّ قسّمهم سبحانه قسمين، و عرّف القسم الأوّل بقوله: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم و لا ينفقونها في سبيل اللّه و وجوه البرّ من الجهاد، و إعانة الفقراء، و صلة الأرحام، و أمثال ذلك.

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)ثمّ بالغ سبحانه في [بيان]حبّهم البخل بقوله: وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ و يرغّبونهم فيه، و لا يرضون بإنفاق أحد إلى أحد وَ يَكْتُمُونَ و يسترون من النّاس ما آتاهُمُ اَللّهُ و أعطاهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده، بأن يظهروا الفقر و الإعسار مع كونهم أغنياء موسرين لئلا يتوقّع منهم البذل أحد.

ثمّ لمّا كان هذا الخلق الرّذيل ملازما للكفر-و لو بسبب إنكار حقوق اللّه من الزّكاة، و صلة الرّحم،

ص: 214


1- . تفسير الرازي 10:96.
2- . تفسير الرازي 10:97.
3- . تفسير الرازي 10:97.
4- . تفسير القمّي 1:138، تفسير الصافي 1:416.
5- . تفسير الرازي 10:97، تفسير روح البيان 2:206.
6- . كذا، و في تفسير الرازي: البغاء.
7- . تفسير الرازي 10:97.

و الإحسان إلى الفقراء-و إظهار الشّكاية من اللّه وصفهم اللّه بالكفر، و هددهم بقوله: وَ أَعْتَدْنا و هيّئنا في الآخرة لِلْكافِرِينَ باللّه و نعمه و الدّار الآخرة عَذاباً مُهِيناً لهم لاستهانتهم بأحكام اللّه و عباده.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «خصلتان لا تجتمعان في مسلم: البخل، و سوء الخلق» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة: لا يكون فيهم من يسأل بكفّه، و لا يكون فيه بخيل. . .» (2)

عن ابن عبّاس: أنّهم اليهود، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفته في التّوراة، و أمروا قومهم أيضا بالكتمان، وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ من العلم بما في كتابهم من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ أَعْتَدْنا في الآخرة لليهود عَذاباً مُهِيناً (3).

و قيل: إنّ اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النّصيحة: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 38

ثمّ عرّف اللّه القسم الثاني بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ و يصرفون أَمْوالَهُمْ في وجوه البرّ، و لكن لا لغرض طاعة اللّه، و القرب إليه، و طلب الآخرة، بل يكون غرضهم من البذل و الإنفاق رِئاءَ اَلنّاسِ و لتحصيل الجاه بينهم، و المدح في ألسنتهم.

وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)ثمّ أشار سبحانه إلى علّة ريائهم بالإنفاق بقوله: وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ عن صميم القلب حتّى يقصدوا بإنفاقهم التّقرّب إلى اللّه و طاعته، و النّجاة في الآخرة.

و من البيّن أنّ هؤلاء المرائين قرناء الشّيطان يضلّهم عن الصّراط المستقيم، و يهديهم إلى الجحيم وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً و مصاحبا في الدّنيا، لا يرجى منه خير، و لا يكون له فلاح فَساءَ إذن الشّيطان قَرِيناً و بئس مصاحبا، حيث إنّه يحرم قرينه من النّعم الدّائمة، و يدخله بتسويلاته الجحيم الحاطمة.

قيل: نزلت في المنافقين لذكر الرّياء في إنفاقهم، و هو النّفاق (5).

و قيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

ص: 215


1- . الخصال:75/117، تفسير الصافي 1:417.
2- . الخصال:131/137، تفسير الصافي 1:416.
3- . تفسير الرازي 10:98.
4- . تفسير أبي السعود 2:176.
5- . تفسير الرازي 10:99.
6- . تفسير الرازي 10:99.

و على أيّ تقدير، تدلّ الآية على أنّ المنفق رياء و البخلاء الّذين لا ينفقون بشيء متشاركون في الذّم و العقاب لاشتراكهم في ترك الإنفاق في ما ينبغي و كما ينبغي.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 39

ثمّ لام اللّه سبحانه كلا الفريقين على ترك الإيمان و الإنفاق لوجه اللّه و في سبيله الذي فيه نفع عظيم، و في تركه ضرر كثير، بقوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ من الضّرر المتصوّر لَوْ أنّهم آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ مع وضوح دلائل التّوحيد و المعاد وَ أَنْفَقُوا في سبيل اللّه شيئا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ من المال مع كثرة منافعه، و عدم تصوّر الضّرر فيه. و فيه غاية الحثّ و التّحريض إليهما.

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)ثمّ هدّد سبحانه على تركهما بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ و بأخلاقهم و أعمالهم الظّاهرة و الخفيّة عَلِيماً و من الواضح أنّ الاعتقاد بأنّ اللّه القادر، المنتقم، الشّديد العقاب، مطلّع على ظاهره و باطنه من أقوى الرّوادع عن الكفر و العصيان و النّفاق و الرّياء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 40

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيب النّاس إلى الإيمان و الإنفاق في سبيله بقوله: إِنَّ اَللّهَ تعالى لا يَظْلِمُ أحدا عمل عملا بزيادة عقاب، أو بنقص ثواب مِثْقالَ ذَرَّةٍ و بقدر نملة صغيرة لاستحالة صدور الظّلم منه، مع كمال حكمته، و عدم حاجته. و فيه مبالغة في تنزيه ساحته عن الظّلم.

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)ثمّ أعلن عن سعة رحمته و عظمة فضله بقوله: وَ إِنْ تَكُ زنة الذّرّة حَسَنَةً و فعلة خير يُضاعِفْها اللّه بإضعاف ثوابها وَ يُؤْتِ صاحبها مِنْ لَدُنْهُ و من خزائن رحمته، زائدا على ما يستحقّه في مقابل عمله أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جسيما لا يعرف أحد عظمة هذا الفضل و جسامته.

و في توصيفه بالعظمة دلالة على أنّه أضعاف الدّنيا و ما فيها، حيث إنّه وصف الدّنيا و ما فيها في كتابه بالمتاع القليل.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 41

ثمّ أنّه تعالى-بعد تهديد الكفّار و المنافقين و البخلاء و المنفقين رياء بعلمه بسرائرهم و بواطن امورهم، و تعذيبهم من غير ظلم-هدّدهم بأنّه يقطع عذرهم، و يتمّ عليهم الحجّة، مضافا إلى علمه

ص: 216

بإقامة الشّهود عليهم من الأنبياء و الرّسل؛ بحيث لا يمكن لأحد منهم الإنكار و دعوى العذر، بقوله: فَكَيْفَ ترون حال الكفرة و العصاة في القيامة، من شدّة الهول و الفزع إِذا جِئْنا في ذلك اليوم مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الامم بِشَهِيدٍ عليهم من أنفسهم، و هو رسولهم، يشهد بفساد عقائدهم، و عنادهم للّه و رسله، و ارتكابهم السّيّئات طغيانا و كفرا وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد، بعد شهادة الرّسل عَلى صدق هؤُلاءِ الرّسل شَهِيداً تشهد بصدقهم في ما شهدوا به.

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)و قيل: إنّ كلمة (هؤلاء) إشارة إلى المكذّبين، و المعنى: أنّك تشهد بكفرهم، كما شهدت الأنبياء عليهم السّلام.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لابن مسعود: «اقرأ القرآن عليّ» قال: فقلت: يا رسول اللّه، أنت الذي علّمتنيه. فقال: «احبّ أن أسمعه من غيري» قال ابن مسعود: فأفتتحت سورة النّساء، فلمّا انتهيت إلى هذه الآية، بكى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، قال ابن مسعود: فأمسكت عن القراءة (1).

و في حديث، قال: «فيقام الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالات التي حملوها إلى اممهم، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى اممهم و تسأل الامم فيجحدون، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ (2)، فيقولون: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ، فتشهد الرّسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيشهد بصدق الرّسل، و يكذّب من جحدها من الامم، فيقول لكلّ امّة منهم: بلى قد جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (3)، أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم، بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم.

و لذلك قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فلا يستطيعون ردّ شهادته خوفا من أن يختم اللّه على أفواههم، و تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون. و يشهد على منافقي (4)أمّته و كفارهم بإلحادهم، و عنادهم، و نقضهم عهدهم (5)، و تغييرهم سنّته» (6)الخبر.

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله خاصّة، في كلّ قرن منهم إمام [منّا] شاهد عليهم، و محمّد شاهد علينا» (7).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 42

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً (42)

ص: 217


1- . تفسير الرازي 10:105.
2- . الأعراف:7/6.
3- . المائدة:5/19.
4- . زاد في الاحتجاج: قومه و.
5- . في الإحتجاج: عهده.
6- . الإحتجاج:242، تفسير الصافي 1:418.
7- . الكافي 1:146/1، تفسير الصافي 1:418.

ثمّ كأنّه قيل: ما شدّة حالهم التي أشرت إليها بقولك: فَكَيْفَ إلى آخره، فقال سبحانه: يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت يَوَدُّ و يتمنّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ و خالفوا أحكامه، و عارضوه بالتّكذيب لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ و تنطبق عليهم بعد انشقاقها، و سقوطهم في بطنها، بحيث لا يبقى منهم أثر فوقها.

و قيل: إنّ المراد: يودّون أنّهم لم يبعثوا، و أنّهم كانوا و الأرض سواء (1).

و قيل: يودّون أنّهم صاروا كالبهائم ترابا، كما حكى اللّه أنّ الكافر يقول يومئذ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (2).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: يتمنّى الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا [فيه]على غصبه (3).

وَ إذن لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً لعدم قدرتهم على الكتمان بعد ظهور أعمالهم و عقائدهم عند اللّه، و ثبوت كفرهم و عصيانهم بشهادة الرّسل.

عن الصادق عليه السّلام، عن جدّه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في خطبة يصف فيها هول يوم القيامة: «ختم على أفواههم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و نطقت الجلود بما عملوا، فلا يكتمون اللّه حديثا» (4).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يودّون لو تنطبق عليهم الأرض، و لم يكونوا كتموا أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لا كفروا به و لا نافقوا (5).

و عن القمّي: [يتمنّى الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه، و]أن لم يكتموا ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في علي عليه السّلام (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 43

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

ص: 218


1- . تفسير الرازي 10:106.
2- . تفسير الرازي 10:106، و الآية من سورة النبأ:78/40.
3- . تفسير القمي 1:139، تفسير الصافي 1:418.
4- . تفسير العياشي 1:398/976، تفسير الصافي 1:418.
5- . تفسير الرازي 10:106.
6- . تفسير القمي 1:139، تفسير الصافي 1:418.

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه النّاس بعبادته، و الإحسان إلى الأقارب و الضّعفاء، و رغّب في ما أمر، و رهّب عن المخالفة، بيّن شرائط أهم عباداته، و هي الصّلاة، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ و لا تشتغلوا بها، و قيل: إنّ المراد: لا تدخلوا مواضع الصّلاة، و هي المساجد وَ أَنْتُمْ سُكارى من الخمر، أو من النّوم (1)حَتّى تَعْلَمُوا و تفهموا ما تَقُولُونَ في حال الصّلاة.

روي أنّ جماعة من الصّحابة صنع لهم عبد الرّحمن بن عوف طعاما و شرابا، حين كانت الخمرة مباحة، فأكلوا و شربوا، فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب، فقدّموا أحدهم ليصلّي بهم، فقرأ: (أعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد) ، فنزلت. فكانوا لا يشربون [في]أوقات الصّلاة، فإذا صلّوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلاّ و قد ذهب عنهم السّكر، و علموا ما يقولون (2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: نزلت في جماعة من أكابر الصّحابة قبل تحريم الخمر و كانوا يشربونها، ثمّ يأتون المسجد للصّلاة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنهاهم اللّه عنه (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ المراد سكر الشّراب، ثمّ نسخها تحريم الخمر» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا نعس أحدكم، و هو في الصّلاة، فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم، فإنّه إذا صلّى و هو ينعس لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه» (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «لا تقم إلى الصّلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّها من خلال النّفاق، و قد نهى اللّه أن تقوموا إلى الصّلاة و أنتم سكارى» قال: «سكر النّوم» (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «سكر النّوم» (7).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، قال: «يعني سكر النّوم، يقول: بكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم و سجودكم و تكبيركم، و ليس كما يصف كثير من النّاس يزعمون أنّ المؤمنين يسكرون من الشّراب، و المؤمن لا يشرب مسكرا و لا يسكر» (8).

تحقيق في جميع

الأخبار

و قد تصدّى شيخنا البهائي لجمع الأخبار في حاشية (أسرار التّنزيل) ، و نقله الفيض رحمه اللّه في (صافيه) بعين عباراته، فراجع (9).

ص: 219


1- . مجمع البيان 3:81.
2- . تفسير الرازي 10:107.
3- . تفسير الرازي 10:108.
4- . مجمع البيان 3:80، تفسير الصافي 1:419.
5- . تفسير الرازي 10:110.
6- . تفسير العياشي 1:398/977، علل الشرائع:358/1، تفسير الصافي 1:419.
7- . الكافي 3:371/15، تفسير الصافي 1:419.
8- . تفسير العياشي 1:399/980، تفسير الصافي 1:419.
9- . تفسير الصافي 1:419.

و التّحقيق و الأولى في الجمع أنّ العامة خصّوا الآية بالسّكر من الخمر، و أنكروا شمولها لسكر النّوم لكونه مجازا. فتلك الأخبار الواردة عن المعصومين ناظرة إلى المنع عن تخصيص الآية بالسّكر من الخمر، و تعميمها بالدّلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة و الفحوى لجميع أحوال عدم إلتفات الإنسان لما يقول، و لو كان من جهة غلبة النّوم.

و معنى قوله عليه السّلام: «نسخها تحريم الخمر» . منع تحريم الخمر عن وجود سكر الخمر للمؤمن، و انحصار السّكر في السّكر من النّوم. و لعلّ ما ذكرنا كان مراد الشّيخ.

ثمّ ذكر سبحانه الشّرط الآخر لصحّة الصّلاة، أو للقرب إلى مكانها، بقوله: وَ لا جُنُباً في حال من الأحوال إِلاّ حال كونكم عابِرِي سَبِيلٍ و مجتازين من المسجد حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة.

عن الباقر عليه السّلام، و القمّي عن الصادق عليه السّلام: «الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، فإنّ اللّه يقول: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» (1).

و قد صحّح إرادة الأركان المخصوصة من لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ بقرينة قوله: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ، و إرادة موضع الصّلاة، و هو المسجد، بقرينة قوله: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ و هذا الوجه و إن كان خلاف الظّاهر إلاّ أنّه لا بدّ منه بعد ثبوت إرادة الحكمين من القضيّتين بدلالة الرّوايات المعتبرة.

ثمّ ذكر حكم تعذّر الطّهارة المائيّة بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ في حال الجناية مَرْضى يضرّكم استعمال الماء و الاغتسال أَوْ كنتم عَلى سَفَرٍ و متلبّسين به، في طريق لا يوجد فيه الماء أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ و المكان المنخفض من الأرض، كنّي به عن الحدث، لغلبة وقوعه فيه أَوْ لامَسْتُمُ و باشرتم اَلنِّساءَ بالجماع قبلا أو دبرا، كما في المستفيض من الأخبار فَلَمْ تَجِدُوا بعد الحدث الأصغر أو الأكبر ماءً كافيا للوضوء أو الغسل، أو لم تتمكّنوا من استعماله للضّرر أو الحرج فَتَيَمَّمُوا و تعمّدوا صَعِيداً طَيِّباً و أرضا طاهرة.

في بيان معنى

الصّعيد

عن الصادق عليه السّلام: «الصّعيد: الموضع المرتفع، و الطّيّب: الذي ينحدر منه الماء» (2).

أقول: قال الفاضل المقداد، في (آيات الأحكام) ، في تفسير الآية: و اقصدوا شيئا من وجه الأرض-إلى أن قال-: و لذلك قال أصحابنا: لو ضرب المتيمّم يده على حجر صلب و مسح أجزأه، و به قال أبو حنيفة. . . إلى آخره (3).

و عن الزّجّاج أنّه قال: الصّعيد: وجه الأرض؛ ترابا [كان]أو غيره (4)، و لا أعلم خلافا بين أهل اللّغة(5).

ص: 220


1- . تفسير القمي 1:139، تفسير العياشي 1:399/981، علل الشرائع:288/1، تفسير الصافي 1:419.
2- . معاني الأخبار:283/1، تفسير الصافي 1:420.
3- . كنز العرفان 1:26/9.
4- . مجمع البيان 3:80.
5- مجمع البيان 3:82.

و قال الفخر الرازي: الصّعيد الطّيّب: هو الأرض التي لا سبخة فيها (1).

و قال البيضاوي، في تفسير الآية: فتعمّدوا شيئا من وجه الأرض [طاهرا] (2).

و الحاصل: أنّه لا شبهة في أنّ لفظ الصّعيد في اللّغة: مطلق وجه الأرض، و عليه جلّ اللّغويّين و أكثر المفسّرين، و أنّه قد يستعمل في خصوص التّراب إما مجازا و إمّا من باب إطلاق الكلّي على الفرد.

و عليه يحمل كلام بعض اللّغويّين ممّن قال إنّه التّراب، لوضوح أن مقصود اللّغوي بيان مورد الاستعمال، لا خصوص المعنى الموضوع له اللّفظ، و لذا نقل ذلك البعض استعماله في مطلق وجه الأرض أيضا، كما لا ريب أنّه المراد من قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (3)و من قوله تعالى: وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (4). و عليه جميع المفسّرين، و إنّما فسّره بعضهم بالتّراب في الآية بتوهّم كون كلمة (منه) في آية المائدة (5)قرينة على إرادة التّراب منه في الآية (6). و هو ممنوع للإجماع على جواز التّيمّم بالرّمل و الحجر و المدر و سائر أجزاء الأرض عند فقد التّراب. و كلمة (منه) -على فرض إرادة التّبعيض منها-تدلّ على اعتبار العلوق (7)، و لا يلزم منه إرادة التّراب (8)، لإمكان كون العلوق من غيره.

و ليس في أغلب أخبار بيان التّيمّم إلاّ لفظ الأرض، و ما في قليل منها من لفظ التّراب لا مفهوم له يوجب تقييد مطلقات لفظ الأرض.

و أما الأخبار الامتنانية، فما هو الثّابت من طريق أصحابنا فهو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» (9)و أمّا ما روي من قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا، و ترابها طهورا» (10)فلم تثبت صحّته، مع وضوح بطلان مضمونه، لما ذكرنا من اتّفاق النّصوص و الفتاوى على جواز التّيمّم بغير التّراب عند فقده، فالأرض جميعها طهور، لا خصوص ترابها، إنّما الكلام في الترتيب بينه و بين غيره من أجزاء الأرض و عدمه، نعم لو كان قوله: «و ترابها طهورا» صحيحا من حيث السّند، أو مقبولا عند الأصحاب، حملناه على صورة وجدانه، و الأخبار المطلقة على صورة فقده.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة التّيمّم بقوله: فَامْسَحُوا بباطن كفّيكم، بعد ضربهما على الأرض مرّة بِوُجُوهِكُمْ من قصاص الشّعر إلى طرف الأنف وَ أَيْدِيكُمْ من الزّند إلى رؤوس الأصابع إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً .

ص: 221


1- . تفسير الرازي 10:114.
2- . تفسير البيضاوي 1:217.
3- . الكهف:18/40.
4- . الكهف:18/8.
5- . المائدة:5/6.
6- . تفسير الرازي 10:114.
7- . العلوق: ما يعلّق باليد من التراب و غيره، بعد الضرب عند التيمّم.
8- . زاد في النسخة: منه.
9- . أمالي الطوسي:57/81.
10- . تفسير الرازي 10:114.

قيل: هذا التّذييل إشارة إلى أنّه تعالى إذا كان مسهّلا على العصاة بالعفو و الغفران، كان بالتّسهيل على المطيعين في أحكامه و أوامره أولى (1).

عن الصادق عليه السّلام في كيفيّة التّيمّم: فضرب بيديه على الأرض، ثمّ رفعهما فنفضهما، ثمّ مسح على جبينه و كفّيه مرّة واحدة (2).

و في رواية اخرى: ثمّ مسح كفّيه إحداهما على ظهر الاخرى (3).

و في رواية ثالثة: و لم يمسح الذّراعين بشيء (4).

أقول: لا شبهة في كفاية المسح على الجبين و ظهر الكفّين مع تقديم مسح ظهر الكفّ اليمنى بباطن اليسرى، و عدم وجوب مسح تمام الوجه و الذراعين كما يفعله بعض العامّة (5)، بل لا ريب في حرمته بقصد المشروعيّة، إنّما الإشكال في كفاية الضّرب الواحد للوجه و اليدين مطلقا، أو وجوب الضّربتين، إحداهما للوجه و الاخرى لليدين مطلقا، أو الضّرب الواحد في ما هو بدل عن الوضوء، و الضّربتان في ما هو بدل عن الغسل. و منشأ الإشكال اختلاف الأخبار.

و الأظهر في الجمع هو الاجتزاء بالضّرب الواحد مطلقا، و استحباب الزّيادة، و الأفضل مرّتان للوجه و مرّتان لليدين مطلقا، و دونه في الفضل مرّتان للوجه و مرّة لليدين، و دونه مرّة للوجه و مرّة لليدين، و تأكّد في ما هو بدل عن الغسل، فنزّل الزّيادة في الضّرب منزلة الإسباغ في الوضوء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 44

ثمّ-لمّا ذكر سبحانه من أوّل السّورة إلى هنا كثيرا من حقوق النّاس من الأرحام و الأيتام و الأزواج و السّفهاء و الأبوين و الكلالة، و سائر النّاس من المساكين و الجار و الصّاحب و المماليك و غيرهم، و التّرغيب في الطّاعة و التّرهيب في المخالفة ببيان فيه غاية الإعجاز، و مع ذلك كان أهل الكتاب الّذين هم أهل العلم مصرّين على الكفر و الضّلال-أظهر سبحانه و تعالى التّعجّب من ضلالهم بعد وضوح آيات صدق النبيّ، و صحّة دين الإسلام، بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى اليهود اَلَّذِينَ أُوتُوا

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ (44)

ص: 222


1- . تفسير الرازي 10:114.
2- . الكافي 3:61/1، و التهذيب 1:207/601، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 1:421.
3- . الكافي 3:62/3، التهذيب 1:207/600، تفسير الصافي 1:421.
4- . التهذيب 1:208/603، تفسير الصافي 1:421.
5- . راجع: تفسير الرازي 10:114، تفسير أبي السعود 2:181.

نَصِيباً و حظا قليلا مِنَ علم اَلْكِتابِ الذي انزل إليهم، و هم مع ذلك يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ لأنفسهم بعوض الهدآية التي جاءتهم من الله و بواسطتك، بل الأعجب من ذلك أنهم لا يقنعون بضلالة أنفسهم وَ يُرِيدُونَ أيها المؤمنون بكتمان نعوت محمد صلى الله عليه و آله و إلقاء الشبهات و الحيل و التسويلات أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ المستقيم، و ترجعوا عن الحق، و تكفروا بدين الإسلام.

روي عن ابن عباس رضى الله عنه: أنها نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رؤس المنافقين عبد الله بن ابي و رهطه يثبطانهم (1)عن الإسلام (2).

و قيل: إن المراد من الذين يشترون الضلالة: عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون علماءهم بعض أموالهم، و يطلبون منهم أن ينصروا اليهودية و يتعصبوا لها، فهم بمنزلة من يشتري الضلالة بماله (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 45

ثم نبه الله المؤمنين بعداوتهم، بقوله: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ جميعا منكم، بل أنتم لا تعلمون بهم، فتوالون اليهود الذين هم أعدى عدوكم، و تتوقعون منهم أن ينصروكم وَ كَفى بِاللّهِ لكم وَلِيًّا و كافلا لكافة اموركم، و محبا وَ كَفى بِاللّهِ لكم نَصِيراً و معينا في دفع أعدائكم، فلا تحتاجون إلى ولي و ناصر غيره، فتوكلوا عليه و لا تبالوا بعداوة غيره.

وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً (45)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 46

ثم بين الله سبحانه كيفية إضلالهم، و شدة عداوتهم للرسول صلى الله عليه و آله و دينه، بقوله: مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا قوم يُحَرِّفُونَ و يميلون اَلْكَلِمَ الذي و ضعه الله في التوراة عَنْ مَواضِعِهِ التي و ضعه فيها إلى غير تلك المواضع.

مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (46)قيل: إن تحريفهم كان بإزالة الكلم عن مواضعه، و إثبات غيره مكانه (4).

و قيل: إنه كان بتأويلها إلى المعاني الفاسدة (5).

ص: 223


1- . في النسخة: ليبطؤهم.
2- . تفسير الرازي 10:115، تفسير أبي السعود 2:181، تفسير روح البيان 2:214.
3- . تفسير الرازي 10:115.
4- . تفسير الرازي 10:117، تفسير الصافي 1:422.
5- . تفسير الرازي 10:118.

وَ يَقُولُونَ إذا أمرهم الرسول بأمر سَمِعْنا أمره وَ عَصَيْنا ه استحقارا به، و إظهارا لمخالفتاه، وَ يقولون: اِسْمَعْ كلامنا يا محمد، حال كونك غَيْرَ مُسْمَعٍ كلاما ترضاه.

و قيل: إن معناه: غير مجاب إلى ما تدعو إليه (1).

و قيل: إنه دعاء عليه بالصمم، أو الموت (2).

و يقولون: راعِنا حين مخاطبتهم النبي صلى الله عليه و آله لَيًّا و فتلا بِأَلْسِنَتِهِمْ قيل: إنهم كانوا يفتلون أشداقهم و ألسنتهم عند ذكر هذا الكلام استهزاء و سخرية (3)وَ طَعْناً منهم فِي اَلدِّينِ و قدحا منهم في الرسول.

قيل: كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم (راعنا) (راعينا) و كانوا يريدون: إنك ترعى أغنامنا (4). كانوا يقولون لأصحابهم: إنا نشتمه و لا يعرف، و لو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهره الله تعالى لنبيه و عرفه، فصار ما فعلوه طعنا في نبوته دليلا قاطعا عليها؛ لأن الإخبار بالغيب معجزة عظيمة.

ثم و بخهم الله على ما قالوا بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا عند استماع أوامر الله و رسوله، بدل قولهم: سمعنا و عصينا: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أمر الرسول تعظيما له و إظهارا لطاعته، وَ يقولون: اِسْمَعْ و لا يلحقون به كلمة (غير مسمع) ، وَ يقولون: اُنْظُرْنا حتى نفهم كلامك، بدل قولهم (راعنا) ، و لم يدسوا تحت كلامهم شرا و سوءا، و الله لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ و أنفع في الدنيا و الآخرة مما قالوا، وَ كان أَقْوَمَ و أعدل عند العقل وَ لكِنْ لأجل أنه لَعَنَهُمُ اَللّهُ و خذلهم بِكُفْرِهِمْ عمت قلوبهم، و بعدوا عن الهدى، و تمرنوا في الضلال و جحود الحق فَلا يُؤْمِنُونَ بالله و آياته و رسوله إِلاّ إيمانا قَلِيلاً لا يعبأ به، و هو إيمانهم ببعض الآيات و الرسل، أو إيمانهم باللسان دون القلب، أو إلا فريقا قليلا، كعبد الله بن سلام و أضرابه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 47

ثم لما ذكر سبحانه شدة عناد اليهود و سوء فعالهم و أقوالهم، باشر بذاته المقدسة دعوتهم إلى الإيمان بمحمد و بكتابه، و خاطبهم بما فيه استمالة قلوبهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا من قبل الله

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً (47)

ص: 224


1- . تفسير الرازي 10:118.
2- . تفسير أبي السعود 2:183. (3 و 4) . تفسير الرازي 10:119.

اَلْكِتابَ المسمى بالتوراة، و علموا ما فيه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه و آله و كتابه آمِنُوا بالقلب و اللسان بِما نَزَّلْنا من القرآن الذي يشهد بصدقه كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة و غيرها من الكتاب السماواة التي فيها نعت هذا الكتاب، و لو لم يكن القرآن لم تكن أخبار سائر الكتاب به صدقا، و كونه موافقا لها في القصص، و الدعوة إلى التوحيد، و الوعد و الوعيد، و سارعوا إلى الإيمان به مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ و نغير وُجُوهاً كائنة للمصرين على الكفر من الصورة الإنسانية إلى صورة الحيوانات في الآخرة و قيل: إن المراد من تغييرها: محو آثار الصورة من العين و الأنف و الحاجب، و جعلها كخف البعير و حافر الدابة، كما عن ابن عباس رضى الله عنه (1)فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها و أقفيتها. و قيل: إن المراد: نجعلها مطموسة على هيئتها (2).

و عن الباقر عليه السلام: «أن المعنى نطمسها عن الهدى فنردها في (3)أدبارها، أي في ضلالتها. . .» (4).

أَوْ من قبل أن نَلْعَنَهُمْ و نخزيهم بالمسخ في الدنيا كَما لَعَنّا و مسخنا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ في زمان داود بصورة القردة و الخنازير.

ثم أكد سبحانه التهديد بالإخبار بتحتم العذاب الموعود، بقوله: وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ و عقابه الموعود على ترك الإيمان برسوله و كتابه مَفْعُولاً لا محالة، و و اقعا ألبتة لا يدافعه شيء.

قيل: لما نزلت الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه و آله قبل أن يأتي أهله، فأسلم و قال: يا رسول الله، كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي (5).

قيل: إن المراد بالطمس ورد الوجوه في الدنيا، و إنما لم يقع لأنه كان مشروطا بعدم إيمان أحد منهم، و قد آمن عبد الله بن سلام و كثير من الأحبار (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 48

ثم أشار سبحانه إلى أن أهل الكتاب من اليهود و النصارى ملتهم الشرك، و يتحتم العذاب على المشركين، بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أبدا إذا لم يتب المشرك من شركه و مات عليه، لعدم قابليته للغفران و اقتضاء الحكمة سد باب الشرك و الكفر، و احتمال العفو عنه موجب لفتحه.

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

ص: 225


1- . تفسير أبي السعود 2:185.
2- . تفسير أبي السعود 2:185.
3- . في مجمع البيان: على.
4- . مجمع البيان 3:86، تفسير الصافي 1:423.
5- . تفسير الرازي 10:122، تفسير أبي السعود 2:186.
6- . تفسير أبي السعود 2:186.

ثم بشر بسعة رحمته بقوله: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ في القبح من المعاصي بفضله و إن كانت كبيرة، و لكن لا لكل أحد، بل لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له.

في (الفقيه) : أنه عليه السلام سئل: هل تدخل الكبائر في مشيئة الله؟ قال: «نعم، ذلك إليه عز و جل إن شاء عذب عليها، و إن شاء عفا عنها» (1).

عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله -في حديث-قال: «من قال: لا إله إلا الله بإخلاص، فهو بريء من الشرك، و من خرج من الدنيا لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة -ثم تلا هذه الآية -: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ من شيعتك و محبيك يا علي» قال أمير المؤمنين عليه السلام: «فقلت: يا رسول الله، هذا لشيعتي؟ قال: إي و ربي، إنه لشيعتك» (2).

و عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن أدنى ما يكون الإنسان مشركا، قال: «من ابتدع رأيا فأحب عليه أو أبغض» (3).

و عن الباقر عليه السلام: «إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ يعني لا يغفر لمن يكفر بولاية علي وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن و الى عليا» (4).

ثم أشار سبحانه إلى علة عدم مغفرة الشرك بقوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ شيئا من صنم أو غيره فَقَدِ اِفْتَرى و اقترف إِثْماً عَظِيماً يستحقر دونه الآثام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 49

ثم لما كانت اليهود مع سوأ أخلاقكم و أعمالهم مبالغين في تزكية أنفسهم بادعائهم أنهم أبناء الأنبياء و أحباء الله، و أن الله لا يعذبهم بذنوبهم، أظهر سبحانه التعجب مما كان يصدر منهم من القول الباطل، مخاطبا لنبيه صلى الله عليه و آله بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد إِلَى هؤلاء اليهود اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ و يمدحون أَنْفُسَهُمْ بالطهارة من الذنوب، و قربهم إلى الله، و أولويتهم بالنبوة و الرسالة، و الحال أنهم مشركون ملعونون عند الله، مع أنه ليس لأحد تزكية نفسه بَلِ اَللّهُ المطلع على ضمائر العباد يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ تزكيته، فإنه عالم بتقوى النفوس و كمالها، كما قال: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)

ص: 226


1- . من لا يحضره الفقيه 3:376/1780، تفسير الصافي 1:423.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:295/892، تفسير الصافي 1:423.
3- . تفسير العياشي 1:403/993، تفسير الصافي 1:424.
4- . تفسير العياشي 1:403/992، تفسير الصافي 1:424.

بِمَنِ اِتَّقى (1) فيجزيهم ما يستحقونه من الجزاء وَ لا يُظْلَمُونَ بالعقاب أو بتنقيص الثواب فَتِيلاً و قدرا قليلا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 50

ثم أشار سبحانه إلى وجه التعجب بقوله: اُنْظُرْ إلى هؤلاء المزكين لأنفسهم كَيْفَ يجترئون و يَفْتَرُونَ بدعاويهم الباطلة، من قولهم: نحن ابناء الله و أحباؤه، و إنا لا نعذب في الآخرة عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ و يجاهارون بهذا الافتراء وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً و ذنبا ظاهرا.

اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 51

ثم بالغ سبحانه في ذمهم بما هو أقبح من الافتراء بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً و حظا مِنَ علم اَلْكِتابِ و آيات التوراة، حتى تتعجب من خبث ذاتهم، و قبح فعالهم، أنهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ و يعبدون الأصنام عنادا لدين الإسلام، و تعصبا لدين اليهودية.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)روي أن حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه و آله، فقالوا: أنتم أهل الكتاب، و أنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا، ففعلوا ذلك، فهذا إيمانهم بالجبت و الطاغوت؛ لأنهم سجدوا للأصنام (2).

عن الباقر عليه السلام: «الجبت و الطاغوت: فلان و فلان» (3).

وَ مع ذلك يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا و لتطييب قلوبهم: هؤُلاءِ المشركون أَهْدى و أرشد مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمد سَبِيلاً و أحسن دينا.

روي أن أبا سفيان قال لكعب بن الأشرف: أ نحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال كعب: ما يقول محمد؟ قال: يأمر بعبادة الله وحده، و ينهى عن عبادة الأصنام و ترك دين آبائه، و أوقع الفرقة؛ قال: و ما دينكم؟ قال: نحن و لا ة البيت، نسقي الحاج، و نقري الضيف، و نفك العاني (4)، و ذكر أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا (5).

ص: 227


1- . النجم:53/32.
2- . تفسير الرازي 10:128.
3- . تفسير العياشي 1:403/993، تفسير الصافي 1:424.
4- . العاني: هو الأسير.
5- . تفسير الرازي 10:128.

عن القمي، قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب: أديننا أفضل أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم أفضل (1).

عن الباقر عليه السلام: «يقولون لأئمة الضلال و الدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 52

ثم هددهم الله تعالى بقوله: أُولئِكَ المؤمنون بالجبت و الطاغوت، القائلون بهذا القول السيء، هم اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ و طردهم عن رحمته، و خذلهم في الدنيا وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ و يخذله و يخزيه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً و محاميا يدافع عنه العذاب في الدنيا و الآخرة، فلا ينالون مطلوبهم من نصرة قريش و غيرهم.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 53

ثم لما كانوا مدعين أن الملك و السلطنة لا بد من أن تكون فيهم، و تعود إليهم، أبطل الله هذه الدعوى، و أنكر عليهم هذا الزعم بقوله: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ و حظ مِنَ اَلْمُلْكِ و السلطنة أو النبوة، فإن ذلك لا يكون أبدا؛ لأنهم أبخل الناس، فإن ملكوا فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً و مقدار النقطة التي تكون في و سط النواة، و من المعلوم أن البخل و السلطنة لا يجتمعان، لأن بالبر يستعبد الحر.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً (53)عن الباقر عليه السلام: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ يعني الإمامة و الخلافة. -قال -: و نحن الناس الذين عنى الله» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 54

ثم لما لم تكن عداوتهم للنبي و دينه، و سعيهم في إبطال أمره، لاعتقادهم بصحة دينهم و بطلان دين الإسلام، بل كان لغاية حسدهم، ذمهم الله بالحسد بعد ذمهم بالجهل و العصبية و البخل، و أنكر عليهم ذلك الخلق الرذيل، بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ من النبوة و الكتاب، و وجوب الطاعة، و العز و النصرة على الأعداء، و غير ذلك من الكرامات التي كلها مِنْ فَضْلِهِ تعالى عليهم، لكمال وجودهم، و حسن فطرتهم، و نورانيّة طينتهم.

أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)

ص: 228


1- . تفسير القمي 1:140، تفسير الصافي 1:424.
2- . الكافي 1:159/1، تفسير الصافي 1:425.
3- . الكافي 1:159/1، تفسير الصافي 1:425.

و ليس هذه التّفضّلات من اللّه على عباده المخلصين بدعا بلا نظير حتّى تستبعدوها فَقَدْ آتَيْنا قبل محمّد صلّى اللّه عليه و آله آلَ إِبْراهِيمَ و أولاده المعصومين الّذين هم أسلاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بنو أعمامه اَلْكِتابَ السّماوي وَ اَلْحِكْمَةَ التي تلازم النّبوّة وَ آتَيْناهُمْ مضافا إلى ذلك مُلْكاً عَظِيماً لا يقادر قدره، فاستكملوا بكمال العلم و القدرة، فإذا لم يكن اجتماع تلك التّفضّلات في آل إبراهيم مستبعدا، لم يكن في محمّد صلّى اللّه عليه و آله مستبعدا.

عن الصادق عليه السّلام: «الكتاب: النّبوّة، و الحكمة: الفهم و القضاء، و الملك العظيم: الطّاعة المفروضة» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «الملك العظيم: أن جعل فيهم أئمّة، من أطاعهم أطاع اللّه، و من عصاهم عصى اللّه، فهو الملك العظيم» (2).

و عنه عليه السّلام: «يعني جعل منهم الرّسل و الأنبياء و الأئمّة، فكيف يقرّونه في آل إبراهيم، و ينكرونه في آل محمد؟ !» (3).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف و داود و سليمان عليهم السّلام (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 55

ثمّ لمّا ذمّ اليهود بالحسد و عدم الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، نبّه على براءة بعضهم من هذه الرّذيلة، و دخول بعضهم في الإيمان، و عدم شمول الذّمّ لجميعهم، بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ كعبد اللّه بن سلام، و بعض من الأحبار وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ و أعرض عن دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لم يؤمن به.

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)و قيل: إنّ المراد أنّ بعض أولاد إبراهيم آمن به، و بعضهم كفر به (5)، و لم يكن في كفرهم به توهين أمره، فكذا لا يوهن أمرك كفر هؤلاء.

ثمّ بيّن وخامة عاقبة أمر المعرضين بقوله: وَ كَفى في عقوبتهم بِجَهَنَّمَ حال كونها سَعِيراً و وقودا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 56

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

ص: 229


1- . تفسير القمي 1:140، الكافي 1:160/3، تفسير الصافي 1:425.
2- . تفسير العياشي 1:405/1001، الكافي 1:160/5، تفسير الصافي 1:426.
3- . تفسير العياشي 1:404/996، الكافي 1:160/1، تفسير الصافي 1:425.
4- . تفسير أبي السعود 2:190.
5- . تفسير أبي السعود 2:191.

ثمّ بالغ سبحانه في الوعيد و عمّمه لجميع الكفّار؛ بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و لم يؤمنوا بِآياتِنا و براهيننا الدّالّة على التّوحيد، و رسالة رسلنا، و اليوم الآخر سَوْفَ نُصْلِيهِمْ و ندخلهم ناراً، ثمّ كأنّه قيل: كيف يبقون فيها؟ فقال: كُلَّما نَضِجَتْ و احترقت جُلُودُهُمْ بالنّار بَدَّلْناهُمْ و ألبسناهم بالقدرة الكاملة جُلُوداً جديدة حاسّة، تكون عين الجلود المنضوجة مادّة، و غَيْرَها صورة لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ الشّديد، و يدركوا ألمه.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم عدم إمكان بقاء جسد الإنسان في النّار أبد الآباد، و عدم لياقة العذاب الشّديد الدّائم بسعة رحمة الرّحيم، سدّ اللّه تعالى باب المتّوهّمين بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً و قادرا حَكِيماً لا يصدر منه إلاّ الصّواب، و لا يضع شيئا إلاّ في موضعه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى؛ على حسب دأبه في الكتاب العزيز، أرفد الوعد بالوعيد بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا موت لهم و لا زوال نعمة لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الأدناس، منزّهة من الأخلاق الذّميمة وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ دائما ظَلِيلاً لا حرّ فيه. قيل: هو كناية عن النّعمة التّامّة الدّائمة (1)، و قيل: كناية عن الرّاحة الأبديّة (2).

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 58

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان حقوق النّاس التي من أهمّها ردّ الأمانات، بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أيّها المؤمنون، و يوجب عليكم أَنْ تُؤَدُّوا و توصلوا اَلْأَماناتِ و الودائع الكائنة عندكم إِلى أَهْلِها و أصحابها.

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دخل مكّة يوم الفتح، أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدّار-و كان سادن الكعبة-باب الكعبة و صعد السّطح، و أبى أن يدفع المفتاح إليه و قال: لو علمت أنّه رسول اللّه لم أمنعه، فلوى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يده و أخذه منه و فتح، و دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين،

ص: 230


1- . تفسير البيضاوي 1:220.
2- . تفسير الرازي 10:137.

فلمّا خرج سأله العبّاس أن يعطيه المفتاح و يجمع له السّقاية و السّدانة، فنزلت هذه الآية.

فأمر عليّا عليه السّلام أن يردّه إلى عثمان و يعتذر إليه، فقال عثمان لعليّ عليه السّلام: أكرهت و آذيت، ثم جئت ترفق، فقال: «لقد أنزل اللّه في شأنك قرآنا» ، و قرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، فهبط جبرئيل عليه السّلام و أخبر الرّسول أنّ السّدانة في أولاد عثمان (1).

و في روايات عديدة: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرّجل و سجوده، فإنّ ذلك شيء اعتاده، فلو تركة استوحش لذلك، و لكن انظروا إلى صدق حديثه و أداء أمانته» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ ضارب عليّ بالسّيف و قاتله، لو ائتمنني و استنصحني و استشارني، ثمّ قبلت ذلك منه، لأدّيت إليه الأمانة» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «إيّانا عنى، أن يؤدّي الإمام الأوّل إلى الذي بعده العلم و الكتب و السّلاح» (4).

و في رواية: «ثمّ هي جارية في سائر الأمانات» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعدما أمر كلّ أحد بردّ ما عنده من حقوق النّاس و أموالهم، أمر المؤمنين بأن يحكموا على الغير بردّ أموال النّاس و حقوقهم، بقوله: وَ إِذا حَكَمْتُمْ و قضيتم أيّها المؤمنون بَيْنَ اَلنّاسِ عند تنازعهم في الأموال و الحقوق أَنْ تَحْكُمُوا بينهم بِالْعَدْلِ و الإنصاف، و تأدية حقّ المستحقّ إليه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تزال هذه الامّة بخير ما إذا قالت صدقت، و إذا حكمت عدلت، و إذا استرحمت رحمت» (6).

ثمّ أنّه تعالى لوضوح موافقة هذين الحكمين للعقول مدحهما بقوله: إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ و ما أحسن ما رغّبكم فيه من ردّ الأمانات و الحكم بالعدل! فاعملوا بما أمركم اللّه، و اتّعظوا بما وعظكم به إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً لأقوالكم بَصِيراً بأعمالكم، يسمع حكمكم بالعدل و الجور، و يبصر ردّكم للأمانات و خيانتكم فيها، فيجازيكم بما تستحقّون.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 59

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

ص: 231


1- . تفسير الرازي 10:138.
2- . الكافي 2:51/12، تفسير الصافي 1:427.
3- . الكافي 5:133/5، تفسير الصافي 1:427.
4- . الكافي 1:217/1، تفسير الصافي 1:427.
5- . معاني الأخبار:108/1، تفسير الصافي 1:426.
6- . تفسير الرازي 10:141.

ثمّ أكّد الأمر بأداء الأمانات، و أوجب الرّجوع في المنازعات إلى حكم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و خلفائه المعصومين عليهم السّلام، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ في أوامره و نواهيه وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع ما يبلّغكم عنه وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ و الأئمّة الّذين فرض اللّه طاعتهم عليكم في جميع أحكامهم.

عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: لمّا نزلت الآية قلت: يا رسول اللّه، عرفنا اللّه و رسوله، فمن اولي الأمر الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هم خلفائي يا جابر، و أئمّة المسلمين من بعدي؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، المعروف في التوراة بالباقر، و ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السّلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي محمّد و كنيّي؛ حجّة اللّه في أرضه، و بقيّته على عباده، ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح اللّه على يديه مشارق الأرض و مغاربها، و ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت [فيها]على القول بإمامته إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان» .

قال جابر: فقلت: يا رسول اللّه، فهل لشيعته الانتفاع به في غيبته؟

فقال: «إي و الذي بعثني بالنّبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاس بالشّمس و إن تجلاّها سحاب. يا جابر، هذا من مكنون سرّ اللّه، و مخزون علم اللّه، فاكتمه إلاّ عن أهله» (1).

في دلالة الآية على

عصمة أولي

الأمر عليهم السّلام

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «نزلت في عليّ بن أبي طالب، و الحسن، و الحسين» .

فقيل: إنّ النّاس يقولون: فما له لم يسمّ عليّا و أهل بيته في كتابه؟

فقال: «فقولوا لهم نزلت الصّلاة، و لم يسمّ [اللّه]لهم ثلاثا و لا أربعا، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [هو الذي]فسّر ذلك لهم. و نزلت عليه الزّكاة، و لم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهما درهم، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [هو الذي]فسّر ذلك لهم، و نزل الحجّ، فلم يقل لهم: طوفوا اسبوعا، حتّى كان رسول اللّه هو الذي فسّر ذلك لهم.

و نزلت أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ، و نزلت في عليّ و الحسن و الحسين،

ص: 232


1- . إكمال الدين:253/3، تفسير الصافي 1:429.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [في عليّ]: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و قال: اوصيكم بكتاب اللّه و أهل بيتي، فإنّي سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض، فأعطاني ذلك، و قال: لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم، و قال: إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلالة.

فلو سكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن من أهل بيته، لادّعاها آل فلان، و آل فلان، و لكنّ [اللّه]أنزل في كتابه تصديقا لنبيّه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1)فكان عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة عليهم السّلام، فأدخلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحت الكساء، في بيت امّ سلمة، فقال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهلا و ثقلا، و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي، فقالت امّ سلمة: أ لست من أهلك؟ فقال: إنّك إلى خير، و لكنّ هؤلاء أهلي و ثقلي» (2)الحديث.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام؛ إذا اخذ بها زكا العمل، و لم يضرّ جهل من جهل بعده؟ فقال: «شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و الإقرار بما جاء به من عند اللّه، و حقّ في الإموال الزّكاة، و الولاية التي أمر اللّه بها ولاية آل محمّد، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من مات و لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية، قال اللّه تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فكان عليّ، ثمّ صار من بعده الحسن، ثمّ من بعده الحسين، ثمّ من بعده عليّ بن الحسين، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ، ثمّ هكذا يكون الأمر، إنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام» (3)الحديث.

في استدلال الفخر

على دلالة الآية على

حجيّة الاجماع

قال الفخر الرّازي في التّفسير الكبير: اعلم أنّ قوله تعالى: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ يدلّ على أنّ إجماع الامّة حجّة، و الدّليل على ذلك أنّ اللّه أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، و من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع لا بدّ و أن يكون معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، و الخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر و النّهي في الفعل الواحد باعتبار واحد و إنّه محال، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم، و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أنّ اولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوما.

ثمّ نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمّة أو بعض الأمّة، لا جائز أن يكون بعض الامّة، لأنّا بينّا أنّ اللّه أوجب طاعة اولي الأمر في هذه الآية قطعا، و إيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم،

ص: 233


1- . الأحزاب:33/33.
2- . تفسير العياشي 1:408/1012، الكافي 1:226/1، تفسير الصافي 1:428.
3- . الكافي 2:18/9، تفسير الصافي 1:428.

قادرين على الوصول إليهم، و الاستفادة منهم، و نحن نعلم بالضّرورة أنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدّين و العلم منهم، فإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الامّة، و لا طائفة من طوائفهم، و لمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: أُولِي اَلْأَمْرِ أهل الحلّ و العقد من الامّة، و ذلك يوجب القطع بأن إجماع الامّة حجّة (1).

أقول: لم يثبت عصمة مجموع الامّة عن الخطأ لعدم الدّليل على ذلك، و الدّليل المذكور كما لا يثبت عصمة بعض الامّة، لا يثبت عصمة مجموع الامّة. نعم، لو علمنا و أثبتنا إرادة بعض من لا نعرفه، كان اتّفاق مجموع الامّة حجّة، لوجود ذلك البعض المجهول فيهم، كما هو الوجه في حجّية الإجماع على قول بعض أصحابنا.

و الحاصل: أنّ لفظ (اولي الأمر) ليس موضوعا لأهل الحلّ و العقد، و لا ظاهرا فيه، فيكون من المجمل، و لا بدّ لتعيين المراد منه من دليل، و قرينة لزوم اجتماع الأمر و النّهي على تقدير كونهم غير معصومين، يدلّ على لزوم كونهم معصومين، فإذا دلّ دليل على إرادة بعض معيّن أو مجموع الامّة، نقول-بهذه القرينة-بعصمتهم.

فكما أنّ إرادة بعض معيّن محتاج إلى الدّليل، [فانّ]إرادة مجموع أهل الحلّ و العقد أيضا محتاج إلى الدّليل، فكما لا يعلم بعصمة بعض معيّن، لا نعلم بعصمة الكلّ، مع إمكان اتّفاقهم على الباطل، كما وقع الاتّفاق من بني إسرائيل على عبادة العجل.

نعم، يمكن القول بأنّه المتيقّن حيث إنّ المجموع إمّا هم المعصومون، أو المعصوم يكون فيهم، فلا بدّ من اتّباع قولهم، و لكنّ ليس هذا تعيين معنى اللّفظ و المراد منه.

في نقل كلام الفخر

الرازي و تزييفه

ثمّ اعترض على نفسه بأنّ المفسّرين ذكروا في (اولي الأمر) وجوها اخر سوى ما ذكر:

أحدها: أنّ المراد من (اولي الأمر) الخلفاء الرّاشدون.

و الثاني: المراد: امراء السّرايا.

قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن حذافة السّهمي، إذ بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أميرا على سريّة.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّها نزلت في خالد بن الوليد، بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أميرا على سريّة فيها عمّار بن

ص: 234


1- . تفسير الرازي 10:144.

ياسر، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية، و امر بطاعة اولي الأمر.

و ثالثها: المراد: العلماء الّذين يفتون في الأحكام الشّرعيّة، و يعلّمون النّاس دينهم. و هذه رواية الثّعلبي عن ابن عبّاس، و قول الحسن و مجاهد و الضّحاك.

و رابعها: نقل عن الرّوافض أنّ المراد به الأئمّة المعصومون.

و لمّا كانت أقوال الامّة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه، و كان القول الذي نصرتموه خارجا عنها، كان ذلك بإجماع الامّة باطلا (1).

ثمّ أجاب عن الاعتراض بإبطال الاقوال، إلى أن قال: و أمّا حمل الآية على الأئمّة المعصومين، على ما تقوله الرّوافض، ففي غاية البعد لوجوه: أحدها: ما ذكرنا من أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم و قدرة الوصول إليهم، فلو اوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليفا بما لا يطاق، و لو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم و بمذاهبهم، صار هذا الإيجاب مشروطا، و ظاهر قوله: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ يقتضي الإطلاق.

و أيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، و ذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة الرّسول و طاعة اولي الأمر في لفظة واحدة [و هو قوله: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ، و اللّفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة و مشروطة]معا، فلمّا كانت هذه اللّفظة مطلقة في حقّ الرّسول، وجب أن تكون مطلقة في حقّ اولي الأمر.

الثاني: أنّه تعالى أمر بطاعة اولي الأمر، و اولوا الأمر جمع، و عندهم لا يكون في الزّمان الواحد إلاّ إمام واحد، و حمل الجمع على المفرد خلاف الظّاهر.

الثالث: أنّه قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ، و لو كان المراد باولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام) فثبت أنّ الحقّ تفسير الآية بما ذكرنا (2). انتهى كلامه بطوله المملّ الذي لا يمكن التّطويل في العبارة أزيد منه.

ثمّ أقول: حاصل ما ذكرنا سابقا في ردّه: أنّ وجوب كون اولي الأمر معصومين من الخطأ حقّ لا محيص عنه، كما روي: «أنّه لا طاعة لمن عصى اللّه، و إنّما الطاعة للّه و لرسوله و لولاة الأمر، إنّما أمر اللّه بطاعة الرّسول لأنّه معصوم مطهّر، لا يأمر بمعصيته، و إنّما أمر بطاعة اولي الأمر لأنّهم معصومون

ص: 235


1- . تفسير الرازي 10:144.
2- . تفسير الرازي 10:146.

مطهّرون، لا يأمرون بمعصيته» (1).

و أمّا حمل الآية على إرادة الإجماع، فهو فرع ثبوت كون مجموع المجمعين-من حيث المجموع -معصومين، و إن كان كلّ واحد واحد غير معصوم؛ و هو محتاج إلى الدّليل القاطع على عصمتهم، كما احتاج عصمة كلّ واحد إليه، مع أنّ المراد من إجماع الأمّة-إن كان-إجماع جميعهم، فهو ممّا لا يمكن الاطّلاع عليه؛ لأنّ النّساء و أهل البوادي و الجبال و الّذين هم في بلاد الكفر من المسلمين كلّهم من الامّة.

و إن أراد طائفة خاصّة منهم، و هي أهل الحلّ و العقد، كما هو صريح قوله: (من أهل الحلّ و العقد) ، فمع أنّه مناف لقوله: (و لا جائز أن يكون المراد بعض الامّة) ، فإنّه مجمل، لا يعلم المراد منه هل هو المهاجرون، أو جميع الصّحابة، أو جميع العلماء؟

و على أيّ تقدير، علمنا برأي جميعهم، بحيث نقطع بقول كلّ فرد فرد منهم أيضا ممتنع عادة ألبتّة؛ لأنّه لم ينقل عن غالبهم رأي في الأحكام الشّرعيّة، و المصنّفين أو المشهورين في العلم و الفتوى منهم في غاية القلّة، [و]أنّ الظّاهر من (اولى الأمر) هو العموم الأفرادي لا المجموعي.

و لا يطلق (ذو أمر) على أحد إلاّ إذا كان أمره واجب الإطاعة عقلا أو شرعا-مع قطع النّظر عن الآية المباركة-في جميع الأمور؛ من العبادات، و المعاملات، و السّياسات، و الكلّيّات، و الجزئيّات، و يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ كالرّسول الذي قال اللّه تعالى في شأنه: ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2)، و هو ليس إلاّ المعصوم الذي يجب عقلا و شرعا طاعته، و اتّباع أمره.

و أمّا قوله: إنّا عاجزون عن معرفته، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدّين و العلم منه.

ففيه: أنّ العجز المدّعى-مع وجود الأدلّة القاطعة على تعيينه و تعريفه-ليس إلاّ كعجز أبي جهل و أضرابه عن معرفة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الحاصل بسبب طبع القلب، و غشاوة العصبيّة على السّمع و البصر، و كعجز غير المعاندين من الكفّار الحاصل بسبب عدم النّظر في الأدلّة و الآيات. و من البديهيّ أن هذا العجز لا يكون عذرا عند العقل و الشّرع.

في ردّ ما قاله

الفخر

و الحاصل: أنّ الأدلّة الدّالّة على إمامة عليّ عليه السّلام، و أحد عشر من ذرّيّته ليست أقلّ عددا، و أخفى دلالة من الأدلّة الدالّة على رسالة خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و حال منكريها ليس إلاّ كحال منكري التّوحيد و الرّسالة، و هم أكثر النّاس، كما أنّ منكري الولاية أكثر

ص: 236


1- . الخصال:139/158، علل الشرائع:123/1، تفسير الصافي 1:429.
2- . الحشر:59/7.

المسلمين.

و أمّا الوجه الإوّل الذي ذكره-ردّا على قول أصحابنا-من أنّ وجوب طاعة المعصوم مشروط بمعرفته، و الوجوب في الآية مطلق.

ففيه: أنّ المعرفة شرط عقليّ لتنجّز التّكليف، لا شرط شرعيّ موجب لتقييد التّكليف بإطاعة اولي الأمر؛ كتقييد وجوب الحجّ بالاستطاعة. و ليس إشراط هذا التّكليف إلاّ كإشراط التّكليف بالإيمان بالرّسول بمعرفته، و التّكليف بالصّلاة و الصّوم و الحجّ و غيرها من العبادات بمعرفتها. و من المعلوم أنّ هذا الشّرط يجب تحصيله كما يجب تحصيل الطّهارة المائيّة للعمل المشروط بها، و كمعرفة الإجماع على مذهبه السّخيف.

و بهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني (1)من قوله: (إنّ الأمر بطاعة الرّسول و طاعة اولي الأمر في لفظة. . .) إلى آخره.

فإنّ معرفة اولي الأمر إن كان شرطا في وجوب طاعة اولي الأمر، كان معرفة اللّه و معرفة رسوله شرطا في وجوب طاعتهما أيضا، و إن لم يكن شرطا في وجوب طاعتهما، لم يكن شرطا في وجوب طاعتهم.

فإنّ قيل: إنّ الخطاب في الآية للمؤمنين، فهم كانوا عارفين باللّه و رسوله، فإيجاب طاعتهما بالنّسبة إليهم مطلق، بخلاف وجوب طاعة اولي الأمر الّذين لم يكونوا عارفين بهم.

قلنا: وجود الشّرط لا يوجب انقلاب الواجب المشروط إلى المطلق، بل الواجب المشروط مشروط أبدا [سواء أ]كان الشّرط حاصلا أو غير حاصل، و الواجب المطلق مطلق أبدا.

و أمّا الوجه الثّالث من أنّه لو كان المراد من أولي الأمر المعصوم، لقال: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام) ، و لم يقل: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ . ففاسد جدّا؛ لأنّه فرق واضح بين أوامر الإمام و أحكامه في المشاجرات؛ فإنّ أوامره قد تكون بملاك المصالح التي يراها في تنظيم المملكة الإسلاميّة و تجهيز الجيش و التّدبير في الغلبة على الأعداء، و لا يكون في تلك الأوامر واسطة في التّبليغ، بل الأمر أمره، و لذا أمر اللّه بطاعته كما أمر بطاعة الرّسول، بخلاف أحكامه فإنّها لا تكون إلاّ أحكام اللّه و رسوله، ففي الحقيقة يكون مبلّغا عن الرّسول، كما أنّ الرّسول مبلّغ عن اللّه، فإطاعته إطاعة الرّسول، و الردّ إليه ردّ إلى الرّسول، و لذا اقتصر اللّه سبحانه في الآية-في صورة التّنازع في

ص: 237


1- . لا يزال المصنف في معرض الردّ على الوجه الأول، و العبارة التي ذكرها هنا هي من الوجه الأول لا من الثاني الذي ذكره أولا و أغفله هنا.

شيء-بالأمر بالرّدّ إلى الرّسول، و لم يعطف عليه الرّدّ إلى القضاة و الولاة الّذين كانوا منصوبين من قبل الرّسول في البلاد، كما أنّ الفقهاء في زمان غيبة الإمام منصوبون من قبله عليه السّلام للحكومة بين الأنام، و يكون الرّدّ إليهم ردا إليه، و حكمهم حكمه، و قد بيّن اللّه شركة أولي الأمر مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في وجوب الرّدّ إليهم في الآية التي بعدها بقوله: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (1).

في الاعتراض على

الفخر الرازي

و العجب من هذا الرّجل المتعصّب، كيف رضي بالقول بأنّ اللّه أمر بطاعة اولي الأمر، و لم يبيّن المراد من اولي الأمر لرسوله، و لم يفسّره الرّسول للنّاس، حتّى التجأ هذا القاصر إلى الاجتهاد في تعيين المراد، و لم يكتف في تعيينهم بقوله تعالى: كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ (2)، و قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ. . . (3)، و قوله: وَ أَنْفُسَنا (4)، و قوله: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (5)و قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (6)و غيرها من الآيات الكثيرة المفسّرة-في روايات بعض العامّة و جميع الخاصّة-بعليّ.

و الرّواية المتواترة من قوله: «من كنت مولاه فعليّ مولاة» (7)، و قوله: «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى» (8). و غير ذلك.

و عن سليم بن قيس الهلالي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه سأله عن أدنى ما يكون الرّجل به ضالا؟ فقال: «أن لا يعرف من أمر اللّه بطاعته، و فرض ولايته، و جعله حجّة في أرضه، و شاهدا على خلقه» . قال: فمن هم يا أمير المؤمنين؟ قال: «الّذين قرنهم اللّه بنفسه و نبيّه فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» ، قال: فقبّلت رأسه و قلت: أوضحت لي، و فرّجت عنّي، و أذهبت كلّ شكّ كان في قلبي (9).

ثمّ أمر اللّه تعالى بالرّجوع في ما اختلفوا فيه إلى المعصومين بقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ و اختلفتم فِي شَيْءٍ من الأحكام و الحقوق فَرُدُّوهُ و ارفعوه إِلَى اَللّهِ بالرّجوع إلى كتابه وَ اَلرَّسُولِ بالرّجوع إلى سنّته، و إلى الأئمّة المعصومين الّذين هم خلفاؤه المنصوبون من قبله بنصّه الجليّ،

ص: 238


1- . النساء:4/83.
2- . التوبة:9/119.
3- . المائدة:5/55.
4- . آل عمران:3/61.
5- . المائدة:5/67.
6- . هود:11/17.
7- . الكافي 1:227/1، معاني الأخبار:65-66/1-5، علل الشرائع:144/9، سنن الترمذي 5:633/3713، مسند أحمد 1:84 و 88 و 119 و 152 و 321، مستدرك الحاكم 3:110 و 134.
8- . علل الشرائع:222، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:10/23، مسند أحمد 3:32 و 6:438، صحيح مسلم 4:1870/30 -32.
9- . كتاب سليم:59، معاني الأخبار:394/45، تفسير الصافي 1:429.

المبلّغون عنه إِنْ كُنْتُمْ أيّها المؤمنون باللّسان تُؤْمِنُونَ عن صميم القلب إيمانا خالصا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ، فإنّ الإيمان الحقيقي ملازم التّسليم لحكمهم.

ذلِكَ الرّدّ إليهم، و الانقياد لهم خَيْرٌ لكم من التّنازع وَ أَحْسَنُ و أصلح لكم تَأْوِيلاً و عاقبة من العمل بآرائكم من غير الرّدّ.

في (نهج البلاغة) في معنى الخوارج، لمّا أنكروا تحكيم الرّجال، قال عليه السّلام: «و لمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب اللّه تعالى، و [قد]قال اللّه سبحانه: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ فردّه إلى اللّه أن نحكم بكتابه، و ردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصّدق [في كتاب اللّه]فنحن أحقّ النّاس به، و إن حكم بسنّة رسول اللّه، فنحن أولاهم [بها]» (1).

و قال عليه السّلام، في عهده للأشتر: «و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك من الخطوب، و يشتبه عليك من الأمور، فقد قال اللّه سبحانه لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ فالرّدّ إلى اللّه الأخذ بكتابه (2)، و الرّدّ إلى الرّسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة» (3).

و في (الاحتجاج) : عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام، في خطبته: «و أطيعونا، فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة اللّه و طاعة رسول مقرونة، قال اللّه: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ، و قال: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه تلا هذه الآية هكذا: «فإن خفتم تنازعا في أمر فردّوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى أولي الأمر منكم، -قال-كذا نزلت» .

أقول: يعني: تفسيرها.

ثمّ قال: «كيف يأمر اللّه بطاعة ولاة الأمر و يرخّص في منازعتهم؟ ! إنّما قيل ذلك للمأمورين الّذين قيل لهم: أَطِيعُوا اَللّهَ. . .» (5).

أقول: هذا ردّ على من فسّر التّنازع بالتّنازع مع ولاة الأمر.

ص: 239


1- . نهج البلاغة:182/الخطبة 125، تفسير الصافي 1:430.
2- . في المصدر: بمحكم كتابه.
3- . نهج البلاغة:434/الرسالة 53، تفسير الصافي 1:430.
4- . الاحتجاج:299، تفسير الصافي 1:430.
5- . الكافي 1:217/1، تفسير الصافي 1:430.

في استدلال الفخر

بالآية على حجية

القياس و ردّه

ثمّ استدلّ الفخر الرازي بقوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ على حجيّة القياس؛ بتقريب أنّ المراد من التّنازع و الرّدّ في صورة ليس الحكم منصوصا في الكتاب و السّنّة، و إلاّ كان داخلا تحت قوله: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ، فيكون الأمر بالرّدّ تكرارا له، فيكون معنى الرّدّ في تلك الصّورة ردّ حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، و هو القياس (1).

أقول: هذا ملخّص ما أطنبه من الكلام في المقام، و هو في غاية الفساد، لوضوح عدم صدق الرّدّ إلى الكتاب و السّنّة على القياس، بل هو ردّ إلى الحكم العقليّ الظّنّي. و من المعلوم أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول الضّعيفة الكاسدة، و الأهواء الزّائغة الفاسدة، بل في الأمر بالرّجوع إلى القياس في مورد الاختلاف إدامة النّزاع لا رفعه.

و أمّا قوله بأنّ الأمر بالرّدّ، على تقدير كون الحكم منصوصا في الكتاب و السّنّة، يكون تكرارا لقوله: أَطِيعُوا اَللّهَ . ففيه: -مع أنّ التّأكيد هنا في غاية الحسن، لكون التّنازع موجبا لهيجان النّفوس إلى الأغراض الفاسدة، و شدّة اهتمام المتنازعين في اتّباع الأهواء الفاسدة، و نبذ الكتاب و السّنّة وراء الأظهر، و لدفع توهّم اختصاص أحكام الكتاب و السّنّة بغير مورد التّنازّع، و احتمال تغيير المصالح- أنّ الأمر في المقام أمر بالدّقّة في تطبيق الواقعة الجزئيّة على الأحكام الكلّيّة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 60

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المنافقين الّذين لم يصغوا إلى الرّسول و لم يرضوا بحكمه بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ و يقولون كذبا أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن و الأحكام وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب السّماويّة، و هم مع ذلك الزّعم و الادّعاء يُرِيدُونَ في ما وقع بينهم من التّنازع أَنْ يَتَحاكَمُوا و يترافعوا إِلَى اَلطّاغُوتِ و الأصنام و الكفّار الآخذين للرّشوة وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ المغوي أَنْ يُضِلَّهُمْ عن صراط الحقّ ضَلالاً بَعِيداً عنه، بحيث لا يرجى منهم الهداية أبدا.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)قيل: كان المشركون يتحاكمون إلى الأوثان، و كانت طريقتهم أنّهم يضربون بالقداح عند الوثن، فما

ص: 240


1- . تفسير الرازي 10:151.

خرج على القداح عملوا به، و كان بعض المنافقين أراد التّحاكم إلى الوثن، و لم يرض بالتّحاكم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّه أسلم ناس من اليهود و نافق بعضهم، و كانت قريظة و النّضير في الجاهليّة إذا قتل قرظيّ نضيريّا قتل به، و اخذ دمه (1)مائة وسق من تمر، و إذا قتل نضيريّ قرظيّا لم يقتل به، لكن اعطي دمه (2)ستّين وسقا من تمر.

و كان بنو النّضير أشرف، و هم حلفاء الأوس، و قريظة حلفاء الخزرج، فلمّا هاجر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة قتل نضيريّ قرظيّا، فاختصما فيه، فقالت بنو النّضير: لا قصاص علينا، إنّما علينا ستّون وسقا من تمر، على ما اصطلحنا عليه من قبل. و قالت الخزرج: هذا حكم الجاهليّة، و نحن و أنتم اليوم إخوة، و ديننا واحد، و لا فضل بيننا، فأبى بنو النّضير ذلك.

فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، و قال المسلمون: بل إلى رسول اللّه، فأبى المنافقون و انطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم، فأنزل اللّه هذه الآية، و دعا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الكاهن إلى الإسلام فأسلم (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 61

ثمّ بيّن اللّه تعالى سوء فعلهم بعد بيان سوء إرادتهم بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ نصحا: تَعالَوْا و جيئوا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ في كتابه من الحكم وَ إِلَى حكم اَلرَّسُولِ و أمره رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ و يمنعون من التّحاكم إليك صُدُوداً و منعا أكيدا، أو يعرضون عنك إعراضا شديدا، لشدّة عداوتهم لدينك، و لعلمهم بأنّك لا تحكم إلاّ بمرّ الحقّ، و لا تقبل الرّشوة.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 62

ثمّ أوعدهم بالعقاب على نفرتهم عن الحضور عند الرّسول، و امتناعهم من التّحاكم إليه، بقوله: فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ و نالتهم مُصِيبَةٌ و عقوبة عظيمة، و بليّة شديدة بِما

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62)

ص: 241


1- . في تفسير الرازي: و أخذ منه دية.
2- . في تفسير الرازي: ديته.
3- . تفسير الرازي 10:154.

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الامتناع من التّسليم للحكم بالحقّ، و الرّضا بحكومة الطّغاة.

ثمّ بيّن نفاقهم بقوله: ثُمَّ بعد الامتناع جاؤُكَ معتذرين إليك من عدم حضورهم عندك، و التّحاكّم إلى غيرك، و هم يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لك إِنْ أَرَدْنا من التّحاكم إلى غيرك، و ما طلبنا به إِلاّ إِحْساناً إليك برفع الكلفة و التّصديع عنك، أو إلى الخصوم حيث إنّك تحكم بمرّ الحقّ، و غيرك يأمر كلاّ منهم بالإحسان إلى الآخرة، وَ إلاّ تَوْفِيقاً و إصلاحا بينهم.

و قيل: إنّ الآية تبشير للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى: كيف حالك من الفرح إذا أصابتهم مصيبة تلجئهم إلى الحضور عندك لرفعها؟ ثمّ يحلفون باللّه لك أنّهم ما أرادوا من عدم الحضور في تلك الوقعة مخالفتك، بل أرادوا الإحسان و التّوفيق.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 63

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النّفاق لا ينفعهم، و هو يعاقبهم عليه بقوله: أُولئِكَ المنافقون هم اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الكفر و عداوة الحقّ، فيفضحهم في الدّنيا، و يعاقبهم عليه في الآخرة، و لا يغني عنهم الكتمان و الحلف عن العقاب، فإذا كان كذلك فَأَعْرِضْ أنت عَنْهُمْ و لا تؤاخذهم بسوء فعالهم، و لا تهتك سترهم بين النّاس، بل وَ عِظْهُمْ موعظة حسنة، و خوّفهم بالعقاب على الكفر و العصيان، و الكذب و العناد مع الحقّ وَ قُلْ لَهُمْ فِي شأن أَنْفُسِهِمْ الخبيثة قَوْلاً بَلِيغاً مؤثّرا في قلوبهم، وافيا بمقصودك من الهداية.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)و قيل: إنّ معنى قوله فِي أَنْفُسِهِمْ خاليا (1)بهم غير فاش؛ لظهور كون النّصح في الخلوة و السّرّ لمحض النفع (2).

و قيل: إن معنى (البليغ) : الكلام الطّويل، الحسن الألفاظ و المعاني، فإنّه أعظم وقعا في القلب (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 64

ثمّ أكّد سبحانه وجوب طاعة الرّسول و التّسليم لحكمه بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى النّاس من بدو الخلقة مِنْ رَسُولٍ لغرض من الأغراض إِلاّ لِيُطاعَ في أوامره و نواهيه و أحكامه بِإِذْنِ اَللّهِ

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً (64)

ص: 242


1- . من الخلوة: أي مختليا بهم في السّرّ. (2 و 3) . تفسير الرازي 10:159.

و إرادته و توفيقه.

و فيه دلالة على عصمة الأنبياء، كما استدلّ الفخر الرازي بالتّقريب الذي ذكره في آية أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ (1).

ثمّ حثّ اللّه سبحانه المنافقين إلى التّوبة عن نفاقهم و سوء أفعالهم بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنّفاق و التّحاكم إلى الطّاغوت جاؤُكَ نادمين على معاصيهم فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ منها مخلصين وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ بعد اعتذارهم إليه لَوَجَدُوا اَللّهَ و لقوه تَوّاباً على العاصين رَحِيماً بالمذنبين.

و إنّما قال: وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ و لم يقل: (و استغفرت) إظهارا لعظمته (2)، و إشعارا بأنّ من كان سفيرا بين اللّه و خلقه لا تردّ شفاعته.

قيل: إنّ قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ دخلو عليه لأجل ذلك الغرض، فأتاه جبرئيل فأخبره به، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه، فليقوموا و ليستغفروا اللّه حتّى أستغفر لهم» فلم يقوموا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ألا تقومون؟» ، فلم يفعلوا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قم يا فلان، قم يا فلان» -حتّى عد اثني عشر رجلا منهم-فقاموا و قالوا: كنّا عزمنا على ما قلت، و نحن نتوب إلى اللّه من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «[الآن]اخرجوا، أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار، و كان اللّه أقرب إلى الإجابة، اخرجوا عنّي» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 65

ثمّ بيّن اللّه سبحانه ملازمة الإيمان بالرّسول للرّضا بحكمه، و التّسليم لقضائه، مؤكّدا له بالحلف عليه، و زيادة (لا) للتّأكيد، بقوله: فَلا وَ رَبِّكَ إنّ النّاس لا يُؤْمِنُونَ بك إيمانا صادقا حَتّى يُحَكِّمُوكَ و يترافعوا إليك فِيما شَجَرَ و اختلف فيه بَيْنَهُمْ من الأمور، فتقضي فيه بمرّ الحقّ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ و قلوبهم حَرَجاً و ضيقا مِمّا قَضَيْتَ به و حكمت فيه وَ يُسَلِّمُوا لقضائك تَسْلِيماً قلبيّا، و ينقادوا لحكمك انقيادا باطنيّا.

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)روي أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزّبير في ماء يسقى به النّخل، فقال صلّى اللّه عليه و آله للزّبير: «اسق أرضك، ثمّ

ص: 243


1- . المائدة:5/92.
2- . أي عظمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.
3- . تفسير الرازي 10:162.

أرسل الماء إلى أرض صاحبك» (1)، فقال الأنصاري: لأجل أنّه ابن عمّتك. فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قال للزّبير: «اسق ثمّ احبس الماء حتّى يبلغ الجدر» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 66 الی 68

ثمّ بيّن اللّه سبحانه ضعف إيمان المسلمين، و وهنهم في طاعة اللّه و رسوله، و قلّة المؤمنين الخلّص (3)؛ بقوله: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا و فرضنا عَلَيْهِمْ و قلنا لهم: أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كم كتبنا على بني إسرائيل في التّوبة عن عبادة العجل أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ و اتركوا أوطانكم ما فَعَلُوهُ عصيانا، لصعوبته عليهم إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ و هم الكاملون في الإيمان، الخلّص (4)فيه.

وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)روي أنّ ثابت بن قيس بن شمّاس ناظر يهوديا، فقال اليهودي: إنّ موسى عليه السّلام أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك، و إنّ محمّدا يأمركم بالقتال فتكرهونه، فقال: ما أنت (5)، لو أنّ محمّدا أمرني بقتل نفسي لفعلت، فنزلت هذه الآية (6).

و روي أنّ ابن مسعود قال [مثل]ذلك، فنزلت (7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفسي بيده، إنّ من امّتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي» (8).

و قيل: إنّ المراد من الآية بيان حال المنافقين (9). و المعنى: ما فعلوه، فيظهر كفرهم و نفاقهم إلاّ قليل منهم، فإنّهم يفعلونه رياء و سمعة.

ثمّ حثّ اللّه المؤمنين إلى الإيمان الكامل، و المنافقين إلى الإيمان الخالص، بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ عن خلوص الإيمان، و صدق النّيّة فَعَلُوا و امتثلوا ما يُوعَظُونَ و يؤمرون بِهِ من متابعة الرّسول، و إطاعة أحكامه لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ و أنفع في العاجل و الآجل وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً لإيمانهم.

عن الصادق عليه السّلام: «لو أنّ أهل الخلاف فعلوا. . .» (6).

ص: 244


1- . في تفسير الرازي: جارك.
2- . تفسير الرازي 10:163، و الجدر، جمع جدار: الحائط.
3- . في النسخة: الخلّصين.
4- . في النسخة: الخلّصون.
5- . في تفسير الرازي: يا أنت. (6 و 7 و 8 و 9) . تفسير الرازي 10:167.
6- . تفسير العياشي 1:417/1032، تفسير الصافي 1:432.

و عن الباقر عليه السّلام: «ما يُوعَظُونَ بِهِ في عليّ» قال: «هكذا نزلت» (1).

ثمّ كأنّه قيل: فماذا يكون لهم بعد التّثبّت؟ فقال: وَ إِذاً لو ثبتوا باللّه لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا و من خزائن رحمتنا أَجْراً و ثوابا عَظِيماً في الآخرة، لا ينقطع أبدا

وَ لَهَدَيْناهُمْ في الدّنيا بالتّوفيق صِراطاً مُسْتَقِيماً يوصلهم إلى جواهر العلوم و مقام الرّضوان.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من عمل بما علم ورثة اللّه علم ما لم يعلم» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد على طاعته و طاعة رسوله، بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ خالصا لوجهه فَأُولئِكَ المطيعون يحشرون في الآخرة مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ بعلوّ المقام، و عظم القدر عنده مِنَ اَلنَّبِيِّينَ الفائزين بكمال العلم و العمل وَ اَلصِّدِّيقِينَ العارجين بأعلى مدارج الإيمان و العرفان وَ اَلشُّهَداءِ الباذلين مهجهم في إظهار الحقّ، و إعلاء كلمته وَ اَلصّالِحِينَ الصّارفين أعمارهم في طاعة اللّه، و طلب مرضاته.

وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ عَلِيماً (70)ثمّ بالغ في إظهار حسن هذه المرافقة مع هؤلاء، بإظهار التّعجّب من حسنها بقوله: وَ حَسُنَ أُولئِكَ المذكورون رَفِيقاً للمؤمن و مصاحبا في الجنّة.

في بيان محبة ثوبان

للرّسول صلّى اللّه عليه و آله

روي أنّ ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان شديد الحبّ له، قليل الصّبر عنه، فأتاه يوما و قد تغيّر وجهه، و نحل جسمه، و عرف الحزن في وجهه، فسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن حاله، فقال: يا رسول اللّه، ما بي وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك، و استوحشت وحشة شديدة، حتّى تذكّرت (3)الآخرة و خفت أن لا أراك هناك؛ لأنّي إن دخلت الجنّة فأنت تكون في درجات النّبيّين، و أنا في درجات العبيد، فلا أراك، و إن أنا لم أدخل الجنّة، فحينئذ لا أراك أبدا. فنزلت هذه الآية (4).

في أنّ المؤمنين

صنفان

قيل: إنّ المراد من المرافقة في الجنّة: هو رفع الحجاب بين الفاضل و المفضول، بحيث يرى كلّ منهما الآخر، لعدم إمكان تساويهما في الدّرجة (5).

ص: 245


1- . الكافي 1:351/60، تفسير الصافي 1:432.
2- . تفسير روح البيان 2:232.
3- . في تفسير الرازي: حتى ألقاك فذكرت.
4- . تفسير الرازي 10:170.
5- . تفسير الرازي 10:171.

عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى للّه بشروطه التي اشترطها عليه، فذلك مع النّبيّين و الصّدّيقين و الشّهداء و الصّالحين و حسن أولئك رفيقا، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له، و لا تصيبه أهوال الدّنيا، و لا أهوال الآخرة، و مؤمن زلّت به قدم، فذلك كخامة (1)الزّرع، كيفما كفئت (2)الريح انكفأ، و ذلك ممّن يصيبه أهوال الدّنيا و أهوال الآخرة، و يشفع له، و هو على خير» (3).

عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام، قال: «أعينونا بالورع، فمن لقي اللّه تعالى (4)بالورع كان له عند اللّه فرجا، إنّ اللّه يقول: مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ. . . -و تلا هذه الآية، ثمّ قال-: فمنّا النبيّ، و منّا الصّدّيق، و منّا الشّهداء، و منّا الصّالحون» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «لقد ذكركم اللّه في كتابه فقال: أولئك مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ. . . -الآية، فرسول اللّه في الآية النّبيّون، و نحن في هذا الموضع الصّدّيقون و الشّهداء، و أنتم الصّالحون، فتسمّوا بالصّلاح كما سمّاكم اللّه» (6).

ذلِكَ اَلْفَضْلُ و زيادة الثّواب كائن مِنَ اَللّهِ المفضّل وَ كَفى بِاللّهِ عَلِيماً بجزاء المطيعين، و مقدار استحقاقهم الفضل.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 71

ثمّ لمّا كان الجهاد من أهمّ الطّاعات حثّ اللّه إليه بعد المبالغة في الحثّ إلى طاعته و طاعة رسوله بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ و احترزوا كيد أعدائكم، أو خذوا أسلحتكم-كما عن الباقر عليه السّلام (7)-و أستعدوا للجهاد فَانْفِرُوا و اخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ و جماعات متفرّقات، سريّة بعد سريّة أَوِ اِنْفِرُوا إلى غزوة واحدة كلّكم جَمِيعاً و كوكبة واحدة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً (71)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 72 الی 73

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)

ص: 246


1- . الخامة: أول كلّ شيء، و هنا بمعنى أول ما ينبت من الزرع الغضّ.
2- . في الكافي: كفأته.
3- . الكافي 2:193/2، تفسير الصافي 1:433.
4- . زاد في المصدر: منكم.
5- . الكافي 2:63/12، تفسير الصافي 1:433.
6- . تفسير العياشي 1:417/1034، الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 1:433.
7- . مجمع البيان 3:112، تفسير الصافي 1:434.

ثمّ لمّا كان في موقع الجهاد مجال نفاق المنافقين، عاد سبحانه إلى ذكر حالهم و تقاعدهم عن الخروج إليه، بقوله: وَ إِنَّ مِنْكُمْ أيّها المسلمون للّه لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ و ليتثاقلنّ من الخروج إلى الجهاد، و يتخلّف عنكم.

و قيل: إنّ المعنى: أنّه ليثبّطنّ سائر المسلمين و يصرفهم عن الخروج، كعبد اللّه بن ابيّ.

فَإِنْ أَصابَتْكُمْ بعد الخروج إلى الجهاد مُصِيبَةٌ و بليّة من الأعداء، كالقتل، و الجرح، و الهزيمة قالَ ذلك المنافق المبطئ؛ فرحا بتقاعده، و حامدا لربّه: قَدْ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيَّ بالسّلامة و الحياة إِذْ لَمْ أَكُنْ في المعركة مَعَهُمْ شَهِيداً و حاضرا،

فيصيبني ما أصابهم وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ و نالكم فَضْلٌ من فتح و غنيمة مِنَ جانب اَللّهِ و بإعانته لَيَقُولَنَّ ذلك المنافق تحسّرا و حزنا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ و صداقة، حتّى يفرح لفرحكم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزوة فَأَفُوزَ و أنال فَوْزاً و حظّا عَظِيماً وافرا من الغنيمة.

و في ذكر الجملة الاعتراضية بين فعل القول و مفعوله، دلالة على أن تمنّيهم الحضور في الوقعة كان للحرص على المال، لا للاشتياق إلى نصرة المسلمين بمقتضى المودّة و الخلطة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 74

ثمّ عاد سبحانه إلى الحثّ في الجهاد بقوله: فَلْيُقاتِلْ ألبتّة فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته المؤمنون الخلّص (1)اَلَّذِينَ يَشْرُونَ و يبيعون اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و متاعها بِالْآخِرَةِ و يختارون الفوز برضوان اللّه، و النّعم الخالصة الدّائمة على العيش المكدّر الزّائل.

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)ثمّ بالغ في التّرغيب فيه بقوله: وَ مَنْ يُقاتِلْ أعداء الدّين فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لإعلاء كلمة التّوحيد و الحقّ فَيُقْتَلْ بأيديهم أَوْ يَغْلِبْ عليهم فيقتلهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جسيما لا يقادر قدره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 75

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

ص: 247


1- . في النسخة: الخلصون.

ثمّ لام المتقاعدين عن القتال و أنكره عليهم بقوله: وَ ما العذر لَكُمْ أيّها المؤمنون لا تُقاتِلُونَ الكفّار فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لتخليص اَلْمُسْتَضْعَفِينَ و المستذلّين بين المشركين مِنَ اَلرِّجالِ المؤمنين وَ اَلنِّساءِ المؤمنات وَ اَلْوِلْدانِ -الصّغار اَلَّذِينَ لا يؤخذون بجرم الكبار -من أسر الكفّار، و هم من كثرة أذيّة المشركين يَقُولُونَ متضرّعين إلى اللّه: رَبَّنا أَخْرِجْنا و خلّصنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ التي نحن فيها اَلظّالِمِ علينا أَهْلُها و ساكنوها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ و من رحمتك وَلِيًّا من المؤمنين يقوم بمصالحنا، و حفظ ديننا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على أعدائنا، و يدفع عنّا أذاهم.

قيل: هم المسلمون الّذين حبسوا في مكّة و صدّهم المشركون عن الهجرة، أو عجزوا عنها فبقوا في الذّلّة، و تلقّوا الأذى (1)، فيسرّ اللّه لبعضهم الهجرة إلى المدينة، و جعل لبعضهم-الّذين بقوا فيها إلى الفتح-خير وليّ و أعزّ ناصر، و هو نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

عن العيّاشي: عنهما عليهما السّلام، في هذه الآية قالا: «نحن أولئك» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 76

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ الجهاد لغرض نصرة الدّين من خصائص المؤمنين حثّا لهم، بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا هم الّذين يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لنصرة دينه، فاللّه ناصرهم وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ و لاتّباع الشّيطان، و ترويج الباطل، فالشّيطان وليّهم، و اللّه خاذلهم فَقاتِلُوا يا أولياء اللّه أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ و أتباعه و حزبه، و لا تخافوا كيدهم إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ لأهل الإيمان، و سعيه في إطفاء نور الحقّ منذ كان كانَ ضَعِيفاً و بلا نتيجة، بالإضافة إلى كيد اللّه بالكافرين.

اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 77

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّاسَ كَخَشْيَةِ اَللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)

ص: 248


1- . تفسير أبي السعود 2:202.
2- . تفسير العياشي 1:418/1037 و 1038، تفسير الصافي 1:436.

ثمّ قيل: إنّ فريقا من المؤمنين يظهرون الرّغبة في الجهاد قبل وجوبه، فلمّا وجب الجهاد تثاقلوا عنه، و أظهروا الكراهة منه، فلامهم اللّه و وبّخهم (1)بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى المؤمنين اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ حين إظهارهم الرّغبة في الجهاد، و استئذانهم فيه كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عنه، و لا تتعرّضوا للكفّار وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ و اشتغلوا بسائر ما امرتم به.

روي أنّ ناسا من المؤمنين أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يهاجر إلى المدينة، و شكوا إليه ما يلقونه من أذى المشركين، و قالوا: كنّا في عزّ في حالة الجاهليّة، و الآن صرنا أذلّة، فلو أذنت لنا قتلناهم على فرشهم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كفّوا أيديكم-إي أمسكوا عن القتال-و أقيموا الصّلاة، و آتوا الزّكاة، و اشتغلوا بما امرتم به، فإنّي لم أؤمر بقتالهم» . و كانوا في مدّة إقامتهم بمكّة مستمرّين على تلك الحالة، فلمّا هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، و امروا بالقتال في وقت بدر، كرهه بعضهم و شقّ ذلك عليه، و ذلك قوله تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ (2)و فرض إِذا فَرِيقٌ و جمع مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّاسَ المشركين أن يقتلوهم، خشية كَخَشْيَةِ اَللّهِ الكائنة في قلوبهم أن ينزل عليهم بأسه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً من خشيتهم من اللّه، أو من أهل خشية اللّه. و في التّرديد إيهام على المخاطب، أو إشعار باختلاف الفريق في شدّة الخوف.

وَ قالُوا بألسنتهم، أو في قلوبهم تمنّيا لطول البقاء، لا اعتراضا على اللّه: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ و فرضت عَلَيْنَا اَلْقِتالَ مع الكفّار لَوْ لا أَخَّرْتَنا و أمهلتنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أجّلته لنا، و الموت الذي قدّرته علينا.

قيل: إنّ الآية نزلت في المنافقين؛ و هم المراد بالفريق منهم (3).

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بوعظهم بقوله: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا و الانتفاع بها قَلِيلٌ المدّة، سريع التّقضّي، قليل اللّذّة، لشوبه بالمكاره و الغموم، قليل القدر وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ من الدّنيا و نعمها؛ لأنّها دائمة خالصة من الكدورات، عظيمة القدر، و لكن تكون لِمَنِ اِتَّقى و أطاعه وَ لا تُظْلَمُونَ بنقص ثواب أعمالكم فَتِيلاً و شيئا يسيرا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 78

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

ص: 249


1- . تفسير الرازي 10:184.
2- . تفسير روح البيان 2:239.
3- . تفسير الرازي 10:185.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الموت لا مناص منه، تقصيرا للآمال، بقوله: أَيْنَما تَكُونُوا أيّها النّاس، و في أيّ مكان تتمكّنوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ و يصيبكم الفناء وَ لَوْ كُنْتُمْ متحصّنين فِي بُرُوجٍ و قصور حصينة مُشَيَّدَةٍ محكمة، أو مجصّصة، فإذا كان الموت لا بدّ منه، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسّعادة الأبديّة كان أولى.

ثمّ أنّه تعالى بعدما ذكر تثاقل ضعفاء المؤمنين أو المنافقين عن الجهاد، أردفه بذكر سوء مقالهم، من بقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ من سعة و نعمة و راحة يَقُولُوا هذِهِ الحسنة مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و من فضله وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من جدب و غلاء و شدّة يَقُولُوا لك من غاية الجهل و الحمق، أو العناد: هذِهِ السّيّئة مِنْ عِنْدِكَ و من شؤمك.

قيل: كانت المدينة مملوءة من النّعم وقت مقدم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا ظهر عناد اليهود و نفاق المنافقين أمسك اللّه عنهم بعض الإمساك، كما جرت عادته في جميع الامم، كما قال اللّه تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (1)فعند ذلك قالت اليهود و المنافقون: و ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرّجل، نقصت ثمارنا، و غلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني: الخصب، و رخص السّعر، و تتابع الأمطار، قالوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من الجدب و غلاء السّعر، قالوا: هذا من شؤم محمّد. و هذا كقوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ (2)، و عن قوم صالح قالوا: اِطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ (3).

ثمّ أمر اللّه بردّهم بقوله: قُلْ لهم كُلٌّ من الحسنات و السّيّئات مِنْ عِنْدِ اَللّهِ يقبض و يبسط على حسب الحكمة و الإرادة.

ثمّ بيّن اللّه شدّة حماقتهم بإظهار التّعجّب من قلّة فهمهم؛ بقوله: فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ و يفهمون حَدِيثاً من الأحاديث و قولا من الأقوال، إن هم إلاّ كالأنعام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 79

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (79)

ص: 250


1- . الأعراف:7/94.
2- . الأعراف:7/131.
3- . تفسير الرازي 10:188، و الآية من سورة النمل:27/47.

ثمّ أنّه تعالى بعد التّنبيه على أنّ إيجاد الحسنات و السّيّئات كلّها بيده و عن إرادته، نبّه على اختلاف أسبابها بقوله: ما أَصابَكَ أيّها الإنسان مِنْ حَسَنَةٍ من الحسنات، و من خير من الخيرات فَمِنَ اَللّهِ و بتفضّله و إحسانه، أو بحكمة الامتحان وَ ما أَصابَكَ و ورد عليك مِنْ سَيِّئَةٍ و بليّة فَمِنْ نَفْسِكَ و بسبب سيئاتك و معاصيك، و إن كان إيجادها أيضا من اللّه.

عن الرضا عليه السّلام: «قال اللّه: [يا]ابن آدم [بمشيئتي]كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء [و]بقوّتي أدّيت فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويّا، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك، و ذلك أنّي أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيّئاتك منّي، و ذلك أنّي لا اسأل عمّا أفعل و هم يسألون» (1).

و عن عائشة: ما من مسلم يصيبه و صب و لا نصب، حتّى الشّوكة يشاكها، و حتّى انقطاع شسع نعله، إلاّ بذنب، و ما يغفر اللّه أكثر (2).

أقول: حاصل المستفاد من [الآية]الكريمة أنّ جميع ما يصيب الإنسان سواء أكان من الحسنات أو من السّيّئات، فبإيجاد اللّه تعالى، لا يشركه أحد في إيجاده. و أمّا سببها فما كان من الحسنات فبسبب التّفضّل، و قابليّة الفيض، و امتحان العبد، و ما كان من السّيّئات فبسبب استحقاق العقوبة على المعاصي الحاصلة بالشّهوات النّفسانيّة.

ثمّ لمّا كان بيان هذا المطلب العالي بعبارة وافية من أدلّة الرّسالة، أعلن سبحانه برسالته، بقوله: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ جميعا العرب و العجم، و الأبيض و الأسود رَسُولاً و مبلّغا عن اللّه، و المعجزات التي أتيتها شهادة اللّه على رسالتك و صدقك وَ كَفى بِاللّهِ للنّاس شَهِيداً و مصدّقا؛ فلا ينبغي لأحد التّشكيك في صدقك و الخروج عن طاعتك.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 80

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على رسالته، أكّد وجوب طاعته بقوله: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ في أوامره و نواهيه فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ في الحقيقة، لكونه مبلّغا عنه، و اللّه أمر بطاعته.

مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)قيل: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: «من أحبّني فقد أحبّ اللّه، و من أطاعني فقد أطاع اللّه» ، فقال المنافقون: لقد قارب (3)هذا الرّجل الشّرك، إنّه ينهى أن يعبد غير اللّه، و يريد أن نتّخذه ربّا كما اتّخذت

ص: 251


1- . الكافي 1:122/12، تفسير الصافي 1:437 عن الصادق عليه السّلام.
2- . تفسير أبي السعود 2:206، تفسير روح البيان 2:242.
3- . في تفسير أبي السعود و الصافي: قارف.

النّصارى عيسى، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه المعرضين عن طاعته، بقوله: وَ مَنْ تَوَلّى و أعرض عن طاعتك فَما أَرْسَلْناكَ كي تكون عَلَيْهِمْ حَفِيظاً و مراقبا لأعمالهم، و محاسبا لهم، بل إنّما عليك البلاغ و علينا الحساب، و وظيفتك الإرشاد بالبيان و إلينا الهداية بالتّوفيق، فلا تحرص على زجرهم عن العصيان، و لا تغتمّ بسبب إعراضهم عن الطّاعة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 81

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المنافقين بإظهار الطّاعة، و إبطال المخالفة، بقوله: وَ يَقُولُونَ حين تأمرهم بشيء: شأننا طاعَةٌ خالصة دائمة فَإِذا بَرَزُوا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ و خلوا إلى أنفسهم بَيَّتَ و دبّر طائِفَةٌ مِنْهُمْ و هم السّاعون في مخالفتك أمرا غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ لهم و تأمرهم به وَ اَللّهُ يَكْتُبُ في صحائف أعمالهم ما يُبَيِّتُونَ و يدبّرون من مخالفتك و عصيانك، فيجازيهم به، و يعاقبهم عليه أشدّ العقاب فَأَعْرِضْ أنت عَنْهُمْ و لا تتعرّض لعقوبتهم، و هتك سترهم، و تفضيحهم بذكر أسمائهم، حتّى يستقيم أمرك و أمر دينك وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ في شأنهم، فإن اللّه يكفيك شرّهم وَ كَفى لك بِاللّهِ وَكِيلاً و كافيا لحفظك و جميع امورك.

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 82

ثمّ لمّا كان نفاق المنافقين لعدم اعتقادهم بصدق الرّسول مع ظهور معجزاته خصوصا القرآن المجيد الذي هو أعظمها، و كان لعدم التّدبّر فيه، حثّهم عليه بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ و هلاّ يتأمّلون في إعجاز بيانه و علوّ مطالبه، حتّى يظهر لهم بهذه المعجزة العظيمة صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله في دعوى الرّسالة.

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً (82)

في أحد وجوه

إعجاز القرآن

ثمّ أرشدهم إلى أحد وجوه إعجازه بقوله: وَ لَوْ كانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ و كلاما صادرا من البشر، كما زعمه الكفّار لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً و تفاوتا فاحشا في عباراته من جهة الفصاحة و الأسلوب، و في مطالبه من جهة

ص: 252


1- . تفسير أبي السعود 2:206، تفسير الصافي 1:437.

الصحّة و الفساد فكون جميع عباراته بطولها في أعلى درجة الفصاحة، و مطالبه مع كثرتها في غاية الصّحّة و المتانة، دليل قاطع على أنّه كلام اللّه، لا كلام البشر، لقضاء العادة بأن كلام البشر لا يخلو من الاختلاف في الفصاحة إذا كان طويلا، و الأخبار الغيبيّة الحدسيّة لا تخلو من عدم مطابقة بعضها للواقع، و مطالبه العلميّة الكثيرة لا تخلو عن بطلان بعضها.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 83

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمّن نبيّه من شرّ المنافقين، و أحكم أساس نبوّته بالإشارة إلى وجه إعجاز كتابه، أخبره بإفساد المنافقين في المسلمين بقوله: وَ إِذا جاءَهُمْ و بلغهم من سرايا المسلمين، أو من طرف المشركين أَمْرٌ و شيء مِنَ اَلْأَمْنِ للمسلمين كالظّفر على الأعداء، أو تقاعد المشركين عن حربهم أَوِ من اَلْخَوْفِ كنكبة المسلمين وضعفهم، أو هزيمتهم عن العدوّ، أو تجمّع الكفّار لحربهم، فهم بمحض سماع الخبر أَذاعُوا بِهِ و أفشوه بين المسلمين، من غير تحقيق عن صدقه، و من غير ملاحظة للصّلاح في إفشائه، فقد يكون في إفشائه تغرير المسلمين، أو تخويفهم من العدوّ، و ضعفهم في المعارضة أو في الإيمان وَ لَوْ رَدُّوهُ و فوّضوه إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ و أهل البصيرة و العلم مِنْهُمْ و إلى نظرهم في تحقيق الصّدق، و تشخيص الصّلاح في الإفشاء، و التّدبير في كيفيّة الذّكر، و طلبوا معرفة الحال من جهتهم لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ و يستخرجون واقع الأمر مِنْهُمْ بأنظارهم الصّائبة، و معرفتهم الكاملة بحقائق الأمور.

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً (83)قيل: كان قوم من ضعفه المسلمين إذا بلغهم خبر من سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو أخبرهم الرّسول بما اوحي إليه من وعد بالظّفر، أو تخويف من الكفرة، أذاعوا به لعدم حزمهم، و كانت إذاعتهم مفسدة (1). و قيل: كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فيعود وبالا على المسلمين، و لو ردّوه إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و إلى اولي الأمر منهم حتّى يسمعوا منهم، و يعرفوا هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الّذين يستنبطونه من الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و اولي الأمر (2).

عن الباقر عليه السّلام: «هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام» (3).

ص: 253


1- . تفسير أبي السعود 2:208.
2- . تفسير أبي السعود 2:209.
3- . جوامع الجامع:92، تفسير الصافي 1:439.

و عن الرضا عليه السّلام: «يعني: آل محمّد عليهم السّلام، و هم الّذين يستنبطون من القرآن، و يعرفون الحلال و الحرام، و هم حجّة اللّه على خلقه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «من وضع ولاية اللّه، و أهل استنباط علم اللّه في غير أهل الصّفوة من بيوتات الأنبياء، فقد خالف أمر اللّه عزّ و جلّ، و جعل الجهّال ولاة أمر اللّه، و المتكلّفين بغير هدى، و زعموا أنّهم أهل استنباط علم اللّه، فكذّبوا على اللّه، و زاغوا عن وصيّة اللّه و طاعته، و لم يضعوا فضل اللّه حيث وضعه اللّه تبارك و تعالى، فضلّوا و أضلّوا أتباعهم، فلا تكون لهم يوم القيامة حجّة» (2).

ثمّ لمّا أمر اللّه بطاعة رسوله، و الجهاد في سبيله، و ردّ الأمور إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و إلى اولي اللّه، أظهر منّته على العباد بفضله عليهم، و هدايتهم إلى الحقّ، حثّا على طاعة أحكامه، بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرّسول، و إنزال القرآن وَ رَحْمَتُهُ عليكم بهدايتكم إلى دين الإسلام.

و عن الباقر عليه السّلام: «فضل اللّه: رسول اللّه، و رحمته: [ولاية]الأئمّة عليهم السّلام» (3).

و عنهم عليهم السّلام: «فضل اللّه و رحمته: النبيّ، و عليّ عليهما السّلام» (4).

و اللّه (5)لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ في الكفر و الطّغيان إِلاّ قَلِيلاً منكم، و هم اولوا الألباب.

قيل: إنّ قسّ بن ساعدة، و ورقة بن نوفل، و زيد بن عمرو بن نفيل كانوا مؤمنين باللّه قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 84

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه في الآية السّابقة بالجهاد، و بيّن نفرة جمع من ضعفة المسلمين و جميع المنافقين عنه، حثّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أمره بالجدّ فيه بنفسه، و تحريض المؤمنين عليه بقوله: فَقاتِلْ يا محمّد وحدك فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه، و إن خذلك جميع النّاس، و لم ينصرك أحد.

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)قيل: إنّ التقدير: إن أردت الفوز فقاتل الكفّار (7).

و قيل: إنّه تعالى بعد ذكر سيّئات أخلاق المنافقين، و مضادّتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و سعيهم في الإفساد بين

ص: 254


1- . تفسير العياشي 1:422/1050، تفسير الصافي 1:439.
2- . إكمال الدين:218/2، تفسير الصافي 1:439.
3- . تفسير العياشي 1:422/1051، تفسير الصافي 1:439.
4- . جوامع الجامع:92، تفسير الصافي 1:439.
5- . لا محلّ للقسم هنا، و اللام في قوله تعالى: لاَتَّبَعْتُمُ واقعة في جواب (لو لا) فهي حرف جواب و ربط، و ليست لام القسم.
6- . تفسير الرازي 10:202.
7- . تفسير الرازي 10:203.

المسلمين، كأنّه قال: فلا تعتدّ بهم، و لا تلتفت إلى أفعالهم، بل قاتل في سبيل اللّه (1).

و لا تُكَلَّفُ و لا تحمل عليه إِلاّ نَفْسَكَ فإنّ اللّه ناصرك. ففيه دلالة على أنّ الجهاد كان واجبا عليه، و إن لم يساعده غيره.

قيل: نزلت في بدر الصّغرى، فإنّه واعده أبو سفيان اللّقاء فيها، فكره بعض النّاس الخروج معه، فخرج و ما معه إلاّ سبعون، و لم يلتفت إلى أحد، و لو لم يخرج معه أحد لخرج وحده (2).

ثمّ أمره بتحريض المؤمنين بقوله: وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ على القتال، و رغّبهم فيه بالنّصح، و وعد النّصر و الغنيمة، و ثواب الآخرة، و لا تعنف بهم-على ما قيل (3)- عَسَى اَللّهُ و أرجه أَنْ يَكُفَّ و يمنع عنك، و عن المسلمين بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من قريش، و مكروههم وَ اَللّهُ أَشَدُّ منهم بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً و عذابا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 85

ثمّ قيل: إنّه لمّا حرّض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في القتال، شفع بعض المنافقين إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يأذن لبعضهم في التّخلّف عنه (4)، فنهى اللّه تعالى عن تلك الشّفاعة بقوله: مَنْ يَشْفَعْ إلى أحد شَفاعَةً حَسَنَةً مرضيّة عند اللّه؛ كأن [يشفع]

في

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)الإحسان إلى مؤمن، أو دفع شرّ عنه، طلبا لمرضاة اللّه.

و عن ابن عبّاس: الشّفاعة الحسنة أن يشفع إيمانه باللّه بقتال الكفّار (5).

يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ و حظّ مِنْها بالانتفاع من أجرها و ثوابها.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اشفعوا تؤجروا» (6).

وَ مَنْ يَشْفَعْ عند أحد شَفاعَةً سَيِّئَةً غير مرضيّة، كأن يشفع في معصية أو تضييع حقّ و عن ابن عبّاس: أن يشفع كفره بالمحبّة للكفّار، و ترك إيذائهم (7).

يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ و حظّ مِنْها بالابتلاء بعقوبتها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأجر و العقوبة مُقِيتاً و قادرا، أو على كلّ شيء من الشّفاعة الحسنة و السّيّئة مطّلعا و حافظا.

ص: 255


1- . تفسير الرازي 10:203.
2- . تفسير الرازي 10:204.
3- . تفسير روح البيان 2:248.
4- . تفسير الرازي 10:206.
5- . تفسير الرازي 10:206.
6- . تفسير الرازي 10:207.
7- . تفسير الرازي 10:206.

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو دلّ على خير، أو أشار به، فهو شريك» (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 86

في وجوب ردّ

السّلام و التحية

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بجهاد الكفّار و الشّدّة عليهم، أمر بمسالمتهم إذا سلّموا، أو بردّ تحيّتهم، بقوله: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ و اكرمتم بنوع من الأكرام-[عن]القمّي: السّلام و غيره من البرّ (2)-[سواء]كان المحيّي مسلما أو كافرا فَحَيُّوا المحيّي و قابلوا تحيّته بِأَحْسَنَ مِنْها كأن تقولوا في جواب من قال: سلام عليكم؛ عليكم السّلام، أو مع زيادة: و رحمة اللّه و بركاته، لوضوح أنّ تحيّة الإسلام السّلام أَوْ رُدُّوها بأن تقولوا في جوابه: سلام عليكم.

وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)

في بيان كيفية

الردّ بالأحسن

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا عطس أحدكم [فسمّتوه]قولوا: يرحمكم (3)اللّه، و يقول هو: يغفر اللّه لكم و يرحمكم، قال اللّه تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ الآية» (4).

في (المناقب) : جاءت جارية للحسن بطاقة ريحان، فقال لها: «أنت حرّة لوجه اللّه» فقيل له في ذلك، فقال: «أدّبنا اللّه تعالى فقال: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ الآية، و كان أحسن منها إعتاقها» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «مرّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بقوم، فسلّم عليهم فقالوا: عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال أمير المؤمنين: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم عليه السّلام؛ إنّما قالوا: رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ» (6).

و روي أنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السّلام عليك، فقال: «و عليك السّلام و رحمة اللّه» ، و قال آخر: السّلام عليك و رحمة اللّه، فقال: «و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته» ، و قال آخر: السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، فقال: «و عليك» ، فقال الرّجل نقصتني، فأين ما قال اللّه-و تلا هذه الآية-فقال: «إنّك لم تترك لي فضلا، فرددت عليك مثله» (7).

عن الصادق عليه السّلام: «من قال السّلام عليكم، فهي عشر حسنات، و من قال: السّلام عليكم و رحمة

ص: 256


1- . الخصال:138/156.
2- . تفسير القمي 1:145.
3- . في الخصال: يرحمك.
4- . الخصال:633.
5- . مناقب ابن شهر آشوب 4:18.
6- . الكافي 2:472/13، و الآية من سورة هود:11/73.
7- . مجمع البيان 3:131، تفسير البيضاوي 1:228، تفسير أبي السعود 2:211.

اللّه، فهي عشرون حسنة، و من قال: السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته؛ فهي ثلاثون حسنة» (1).

و عنه عليه السّلام: «من تمام التّحيّة للمقيم المصافحة، و تمام التّسليم على المسافر المعانقة» (2).

و عنه عليه السّلام، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لا تبدأوا أهل الكتاب بالتّسليم، و إذا سلّموا عليكم فقولوا: و عليكم» (3).

في كراهة التسليم

على ثلاثة عشر

طائفة

و عنه، عن أبيه عليهما السّلام: «لا تسلّموا على اليهود، و لا على النّصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأصنام (4)، و لا على موائد شرب الخمر، و لا على صاحب الشّطرنج و النّرد، و لا على المخنّث، و لا على الشّاعر الذي يقذف المحصنات، و لا على المصلّي؛ و ذلك أن المصلّي لا يستطيع أن يردّ السّلام، لأنّ التّسليم من المسلّم تطوّع، و الرّدّ عليه فريضة، و لا على آكل الرّبا، و لا على رجل جالس على غائط، و لا على الذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه» (5).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه على مخالفة الأمر بردّ التّحيّة، أو الإساءة بالمحيّي، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النّقير و القطمير من أعمالكم حَسِيباً فيحاسبكم على جميع ما يصدر منكم، و يجازيكم عليها، فكونوا من مخالفته على حذر.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 87

ثمّ أظهر سبحانه عظمته و وحدانيّته في الالوهيّة و القدرة، و ذكر يوم القيامة و اجتماعهم للحساب فيه، إرعابا للقلوب و تخويفا من العصيان، بقوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فاخضعوا لعظمته و قدرته، و خصّوه بالعبوديّة و الطّاعة، و اعلموا أنّه باللّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ و يسوقنّكم من القبور إِلى حساب يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و هو يوم يقوم النّاس لربّ العالمين لا رَيْبَ لعاقل فِيهِ .

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ حَدِيثاً (87)ثمّ أكّد صدق هذا الحديث، بعد الحلف و نفي الرّيب عنه، بقوله: وَ مَنْ هو أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ حَدِيثاً و خبرا، فإنّ الكذب ممكن في خبر غيره، و لا يمكن في خبره؛ لمنافاته لحكمته و غناه.

في الحديث القدسيّ: «كذّبني ابن آدم، و لم يكن له ذلك» (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 88

فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

ص: 257


1- . الكافي 2:471/9.
2- . الكافي 2:472/14.
3- . الكافي 2:474/2.
4- . في الخصال: الأوثان.
5- . الخصال:484/57.
6- . تفسير روح البيان 2:255.

ثمّ أنّه تعالى بعد إرعاب النّاس بعظمته و قدرته، و بعثهم إلى يوم الجزاء، و نفي الرّيب فيه، ردع المؤمنين عن موادّة المنافقين، و عن الرّيب في كفرهم، بقوله: فَما لَكُمْ اختلفتم فِي كفر اَلْمُنافِقِينَ بعد ظهوره، و تفرّقتم فيه فِئَتَيْنِ و فرقتين.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكّة، و كانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في كفرهم و إسلامهم و تشاجروا فيه (1).

و عن عكرمة: أنّها نزلت في قوم ضلّوا، و أخذوا أموال المسلمين و انطلقوا بها إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم (2).

و قيل: إنّها نزلت في قوم قدموا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسلمين، فأقاموا بالمدينة ما شاء اللّه، ثمّ قالوا: يا رسول اللّه، نريد أن نخرج إلى الصّحراء، فأذن لنا فيه، فأذن لهم، فلمّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتّى لحقوا بالمشركين، فتكلّم المؤمنون فيهم فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا و صبروا كما صبرنا، و قال قوم: هم مسلمون، و ليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر حتّى يظهر لنا أمرهم (3). فبيّن اللّه تعالى نفاقهم بقوله: وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ و ردّهم إلى أحكام الكفر، من الذّل و الصّغار، و القتل و السّبي بِما كَسَبُوا من إظهار الارتداد.

ثمّ لمّا كان المؤمنون يتمنّون إيمان المنافقين و يحتالون فيه، قطع اللّه طمعهم في إيمانهم، بقوله: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا إلى الحقّ و طريق الجنّة مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ و خذله وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن الهدى، و خذله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً إلى الإيمان، و طريقا إلى الجنان.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 89

ثمّ بالغ سبحانه في صرف قلوب المؤمنين عن موالاتهم بقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ و تمنّوا أن ترتدّوا إلى الكفر كَما كَفَرُوا و ارتدّوا عن الإسلام فَتَكُونُونَ أنتم و هم سَواءً في الكفر، فلمّا علمتم أنّهم طالبون هلاككم الأبدي فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ لأنفسكم أَوْلِياءَ و لا ترضوا بهم لكم

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89)

ص: 258


1- . تفسير الرازي 10:218.
2- . تفسير الرازي 10:219.
3- . تفسير الرازي 10:218.

أصدقاء حَتّى يؤمنوا، و تحقّقوا إيمانهم بأن يُهاجِرُوا عن بلاد الشّرك إلى دار الإسلام فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لنصرة دينه، و خدمة الرّسول، لا للأغراض الدّنيويّة فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن موافقتكم في الإيمان، و الهجرة عن الأوطان بخلوص النّيّة فَخُذُوهُمْ إذا قدرتم عليهم وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من الحلّ و الحرم وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ لأنفسكم وَلِيًّا و لا صديقا وَ لا نَصِيراً و لا معينا بوجه أبدا، ما داموا على حالة الكفر و الشّقاق.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 90

ثمّ استثنى من الكفّار الّذين أمر بقتلهم طائفتين، أمّا الطّائفة الاولى: فبقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ و ينتهون إِلى قَوْمٍ كافرين يكون بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و عهد أكيد، أن لا تتحاربوا.

إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)قيل: هم الأسلميّون، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وادع (1)وقت خروجه إلى مكّة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه و لا يعين عليه، و على أنّ من وصل إلى هلال و لجأ إليه، فله من الجوار مثل الذي لهلال (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هم بنو بكر بن زيد مناة (3).

و عن قتادة: هم خزاعة و خزيمة بن عبد مناة (4).

و أمّا الطّائفة الثانية: فبقوله: أَوْ جاؤُكُمْ حال كونهم حَصِرَتْ و ضاقت صُدُورُهُمْ عن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ مع قومهم، لكونكم مسلمين معاهدين معهم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ معكم، لكونهم على دينهم، فهم لا لكم و لا عليكم.

في معاهدة

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع

بني مدلج

قيل: هم بنو مدلج، عاهدوا المسلمين أن لا يقاتلوهم، و عاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم، فضاقت صدورهم عن قتال المسلمين للعهد الذي بينهم و للرّعب الذي قذف اللّه في قلوبهم، و ضاقت صدورهم عن قتال قومهم لأنّهم كانوا على دينهم (5).

ثمّ منّ اللّه على المسلمين بكفّ أذى المعاهدين عنهم بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ تسليط الكفّار عليكم

ص: 259


1- . أي صالح و هادن و سالم.
2- . تفسير روح البيان 2:257.
3- . تفسير الرازي 10:222.
4- . تفسير الرازي 10:223، عن مقاتل.
5- . تفسير روح البيان 2:257.

لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ برفع أثر العهد، و تقوية قلوبهم، و إزالة الرّعب عنهم، إذن فَلَقاتَلُوكُمْ ألبتّة و قتلوكم، و لكن لم يشأ ذلك، لكرامتكم عليه باتّباع الرّسول و دين الإسلام، فإذا علمتم ذلك فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ و اجتنبوا عن التّعرّض لكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ بمشيئة اللّه وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ و تلقّوكم بالانقياد و التّسليم فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً بالقتل و الأسر.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في بني مدلج، جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّا [قد] حصرت صدورنا أن نشهد أنّك لرسول اللّه، فلسنا معك و لا مع قومنا عليك، فوادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثمّ يدعوهم فإن أجابوا و إلاّ قاتلهم» (1).

ذكر معاهدة

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع

بني الأشجع

عن القمّي، في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ إلى آخر الآية: أنّها نزلت في أشجع، و بني ضمرة، و كان خبرهم أنّه لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بدر لموعده مرّ قريبا من بلادهم، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هادن بني ضمرة و وادعهم قبل ذلك، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذه بنو ضمرة قريبا منّا، و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة، أو يعينوا علينا قريشا، فلو بدأنا بهم؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلاّ إنّهم أبرّ العرب بالوالدين، و أوصلهم للرّحم، و أوفاهم بالعهد» .

و كان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة، [و هم بطن من كنانة، و كانت أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف في المراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة، فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة]فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسيرهم إلى بني ضمرة، تهيّأ للمصير إلى أشجع فيغزوهم للموادعة التي كانت بينه و بين ضمرة، فأنزل اللّه: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا. . . ، ثمّ استثنى أشجع فقال: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ الآية.

و كانت أشجع محالّها البيضاء و الجبل و المستباخ، و قد كانوا قربوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهابوا لقربهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا، فهمّ بالمسير إليهم، فبينا هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رخيلة (2)و هم سبعمائة، فنزلوا شعب سلع (3)، و ذلك في شهر ربيع سنة ست، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسيد بن حصين

ص: 260


1- . الكافي 8:327/504.
2- . مسعود بن رخيلة؛ بالخاء، انظر: اسد الغابة 4:357 و الإصابة في تمييز الصحابة 3:410/7943، و في النسخة و الصافي (رحيلة) بالحاء و في القمي: (رجيلة) بالجيم.
3- . الشّعب: هو الطريق في الجبل، و سلع: هو جبل بسوق المدينة، أو هو نفسه الشق في الجبل، انظر معجم البلدان 3:267.

فقال [له]: «اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع» ، فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رخيلة؛ و هو رئيس أشجع، فسلّم على أسيد و على أصحابه و قالوا: جئنا لنوادع محمّدا، فرجع أسيد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خاف القوم أن أغزوهم، فأرادوا الصّلح بيني و بينهم» .

ثمّ بعث إليهم بعشرة أحمال (1)تمر فقدّمها أمامه، ثمّ قال: «نعم الشيء الهديّة أمام الحاجة» ، ثمّ أتاهم فقال: «يا معشر أشجع، ما أقدمكم؟ قالوا: قريب دارنا منك، و ليس في قومنا أقلّ عددا منّا، فضقنا بحربك لقرب دارنا، و ضقنا بحرب قومنا (2)لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعك، فقبل النبي صلّى اللّه عليه و آله ذلك منهم و وادعهم، فأقاموا يومهم ثمّ رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إلى آخر الآية (3).

و القمّي عن الصادق عليه السّلام: «كانت السّيرة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله، و لا يحارب إلاّ من حاربه و أراده، و قد كان نزل في ذلك من اللّه تعالى: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه و اعتزله، حتّى نزلت عليه سورة براءة، و امر بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله، إلاّ الّذين قد عاهدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة إلى مدّة، منهم صفوان بن اميّة و سهيل بن عمرو (4)، و سيجيء تمام الحديث في سورة براءة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 91

ثمّ أذن سبحانه في قتال المعاهدين الّذين أرادوا بعهدهم الغدر بالمسلمين، و نقضوه بقوله: سَتَجِدُونَ قوما آخَرِينَ من الكفّار الّذين يُرِيدُونَ بعهدهم أَنْ يَأْمَنُوكُمْ و يستريحوا من بأسكم بالعهد، أو بإظهار كلمة التّوحيد وَ يَأْمَنُوا أيضا قَوْمَهُمْ بإظهار الكفر عندهم.

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)قيل: هم قوم من بني أسد و غطفان، إذا أتوا المدينة أسلموا و عاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا و نكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم (5).

ص: 261


1- . في المصدر: أجمال.
2- . في المصدر: قومك.
3- . تفسير القمي 1:145، تفسير الصافي 1:444.
4- . تفسير القمي 1:281، تفسير الصافي 1:445، و في النسخة: سهل بن عمر.
5- . تفسير أبي السعود 2:214، تفسير روح البيان 2:258.

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في عيينة بن حصين (1)الفزاري، أجدبت بلادهم، فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الذي سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأحمق المطاع» (2).

كُلَّما رُدُّوا و دعوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ من الكفر و الفساد في الإسلام، و قتال المسلمين، نقضوا العهد، و أُرْكِسُوا و انقلبوا فِيها أقبح انقلاب، و دخلوا فيها أشنع دخول. و هو استعارة لشدّة كفرهم و عداوتهم للمسلمين؛ لأنّ من وقع في شيء منكوسا يتعذّر عليه الخروج.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عذرهم و نفاقهم، أذن في قتالهم بعد نقضهم العهد، بقوله: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ و لم يتنحّوا عن قتالكم، و لم يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ و لم يطلبوا منكم الصّلح، وَ لم يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم، فَخُذُوهُمْ كلّما قدرتم عليهم وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ و في أيّ مكان تمكّنتم منهم في حلّ أو حرم وَ أُولئِكُمْ الكافرون الغادرون جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ في قتلهم و أسرهم سُلْطاناً مُبِيناً و حجّة ظاهرة، من ظهور كفرهم، و عداوتهم، و غدرهم، و نقضهم العهد، و إضرارهم بالإسلام.

و قيل: إنّ المراد من السّلطان المبين: إذنه تعالى في قتلهم (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 92

ثمّ لمّا أذن اللّه في القتال، و كان معرضا لقتل مؤمن فيه خطا أو اشتباها، بيّن حكمه بقوله تعالى: وَ ما كانَ في زمان من أزمنة التّكليف جائزا لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً بغير حقّ، و ليس من شأنه ذلك في حال من الأحوال إِلاّ حال كونه خَطَأً و بغير القصد إليه.

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)و قيل: إنّ الاستثناء من لازم الحكم، و هو أنّه يعاقب عليه إلاّ إذا كان خطأ (4).

ص: 262


1- . في النسخة: عينية بن الحصين، تصحيف، انظر: اسد الغابة 4:166.
2- . تفسير القمي 1:147، مجمع البيان 3:136، تفسير الصافي 1:446.
3- . تفسير الرازي 10:226.
4- . تفسير الرازي 10:228.

و عن القمّي: يعني [لا عمدا]و لا خطأ (1).

عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لامّه، كان أسلم و قتل بعد إسلامه رجلا مسلما و هو لا يعلم بإسلامه، و كان المقتول الحارث بن يزيد بن أنسة (2)العامري، قتله بالحرّة بعد الهجرة، و كان أحد من ردّه عن الهجرة، و كان يعذّب عيّاشا مع أبي جهل» (3).

و روي عن عروة بن الزّبير أنّ حذيفة بن اليمان كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في احد، فأخطأ المسلمون و ظنّوا أن أباه اليمان واحد من الكفّار، فأخذوه و ضربوه بأسيافهم و حذيفة يقول: إنّه أبي، فلم يفهموا قوله إلاّ بعد أن قتلوه، فقال حذيفة: يغفر اللّه لكم، و هو أرحم الرّاحمين، فلمّا سمع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك ازداد وقع حذيفة عنده. فنزلت الآية (4).

و قيل: إنّ الآية نزلت في أبي الدّرداء، ذلك أنّه كان في سريّة، فعدل إلى شعب لحاجة له، فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسّيف، فقال الرّجل: لا إله إلاّ اللّه، فقتله و ساق غنمه، ثمّ وجد في نفسه شيئا، فذكر الواقعة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هلاّ شققت عن قلبه» ، و ندم أبو الدّرداء. فنزلت الآية (5).

في كفّارة قتل

المؤمن خطأ

ثمّ بيّن اللّه حال الكفّارة و الدّية بقوله: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً صغيرا أو كبيرا خَطَأً و بغير قصد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و عتق نسمة مُؤْمِنَةٍ واجب عليه، كفّارة للقتل.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ العتق يجوز فيه المولود، إلاّ كفّارة القتل، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يعني بذلك: المقرّة و [قد]بلغت الحنث» (6).

عن الكاظم عليه السّلام، كيف تعرف المؤمنة؟ قال: «على الفطرة» (7).

وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ و مؤداة إِلى أَهْلِهِ واجبة عليه إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا عليه، و يعفوا عنها.

قيل: سمّي العفو عن الدّية صدقة حثّا عليه، و تنبيها على فضله. و في الحديث: «كلّ معروف صدقة» (8).

سئل الصادق عليه السّلام عن الخطأ الذي فيه الدّية و الكفّارة، هو الرّجل يضرب الرّجل و لا يتعمّد قتله؟

ص: 263


1- . تفسير القمي 1:147.
2- . في النسخة: الحارث بن يزيد أبو هنبشة، تصحيف، و هو الحارث بن يزيد بن أنسة، و قيل: أنيسة، راجع: اسد الغابة 1:353.
3- . مجمع البيان 3:138.
4- . تفسير الرازي 10:227.
5- . تفسير الرازي 10:227.
6- . تفسير العياشي 1:426/1063، الكافي 7:462/15، و المراد من بلوغها الحنث: أي بلوغها مبلغ الرجال و مبلغ التكليف الشرعي و المعصية و الطاعة. النهاية 1:449.
7- . تفسير العياشي 1:426/1064، تفسير الصافي 1:447.
8- . تفسير أبي السعود 2:215.

قال: «نعم» ، قيل: فإذا رمى شيئا فأصاب رجلا؟ قال: «ذلك الخطأ الذي لا شكّ فيه، و عليه الكفّارة و الدّية» (1).

فَإِنْ كانَ المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ كافرين عَدُوٍّ و محارب لَكُمْ لا عهد بينكم و بينهم وَ هُوَ مُؤْمِنٌ لم يعلم القاتل إيمانه، لكونه بين الكفّار، و في دار الحرب، و لم يهاجر إلى دار الإسلام فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .

عن الصادق عليه السّلام، في رجل مسلم [كان]في أرض الشّرك، فقتله المسلمون، ثمّ علم به الإمام بعد؟ فقال: «يعتق مكانه رقبة مؤمنة، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ الآية» (2).

و في رواية: «و ليس عليه الدّية» (3).

وَ إِنْ كانَ المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ كفرة، و لكن كان بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و عهد أكيد فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ و مؤدّاة إِلى أَهْلِهِ و وارثه، واجبة على القاتل وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لازم عليه كفّارة لقتله؛ كما عن الصادق عليه السّلام (4).

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ و لم يملك الرّقبة، و لم يتمكّن من شرائها بما زاد عن نفقته و نفقة عياله فَصِيامُ شَهْرَيْنِ هلاليّين مُتَتابِعَيْنِ و متواليين بدلا عن العتق المأمور به، و إنّما شرّعت هذه الكفّارة لكونها تَوْبَةً مقبولة مِنَ اَللّهِ من التّقصير في المبالغة في الاحتياط وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بما في قلوبكم من العمد و عدمه حَكِيماً في ما أمركم به في موضوع قتل الخطأ.

عن الصادق عليه السّلام: «إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشّهر الأول، فإنّ عليه أن يعيد الصّيام، و إن صام الشّهر الأوّل و صام من الشّهر الثّاني شيئا، ثمّ عرض له ما له فيه العذر، فعليه أن يقضي» (5). يعني ما بقي عليه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 93

ثمّ بالغ سبحانه في التّهديد على قتل المؤمن متعمّدا، بقوله: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً حال كون القاتل مُتَعَمِّداً في قتله قاصدا له فَجَزاؤُهُ الذي يستحقّه بهذا القتل عند اللّه جَهَنَّمُ فيدخلها يوم القيامة حال كونه خالِداً و دائما فِيها حكم اللّه بذلك وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ أشدّ الغضب

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

ص: 264


1- . تفسير العياشي 1:428/1073، تفسير الصافي 1:447.
2- . من لا يحضره الفقيه 4:110/373.
3- . تفسير العياشي 1:425/1061، تفسير الصافي 1:447.
4- . مجمع البيان 3:140.
5- . الكافي 4:139/7، تفسير الصافي 1:447.

وَ لَعَنَهُ و أبعده من رحمته وَ أَعَدَّ و هيّأ لَهُ في جهنّم عَذاباً عَظِيماً لا يقادر قدره.

في ذكر قصّة ارتداد

مقيس و لحوقه

بالمشركين

روي أنّ مقيس بن صبابة (1)الكناني، كان قد أسلم هو و أخوه هشام (2)، فوجد أخاه قتيلا في بني النجّار، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكر القصة، فأرسل صلّى اللّه عليه و آله معه الزبير بن العيا (3)الفهري؛ و كان من أصحاب بدر، إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتصّ منه إن علموه، و بأداء الدّية إن لم يعلموا، فقالوا: سمعا و طاعة للّه و رسوله، لا نعلم له قاتلا، و لكنّا نؤدّي ديته، فأتوه بمائة من الإبل، فانصرفا راجعين إلى المدينة، حتّى إذا كانا ببعض الطريق أتى الشّيطان مقيسا فوسوس إليه فقال: أتقبل دية أخيك فيكون مسبّة (4)عليك، اقتل هذا الفهري الذي معك فتكون نفس مكان نفس، و تبقى الدّية فضيلة، فرماه بصخر فشدخ رأسه فقتله، ثمّ ركب بعيرا من الإبل و ساق بقيّتها إلى مكّة كافرا، و هو يقول:

قتلت به فهرا و حمّلت عقله *** سراة بني النّجّار أصحاب قارع (5)

و أدركت ثأري و اضطجعت موسّدا *** و كنت إلى الأوثان أول راجع

فنزلت الآية. و هو الذي استثناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة ممّن آمنه، فقتل و هو متعلّق بأستار الكعبة (6).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمّدا، أله التوبة؟ قال: «إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، و إن كان قتله لغضب أو لشيء من أشياء الدّنيا، فإنّ توبته أن يقاد منه، و إن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدّية، و اعتق نسمة، و صام شهرين متتابعين، و أطعم ستّين مسكينا توبة إلى اللّه عزّ و جلّ» (7).

و عنه عليه السّلام: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما [حراما]» .

و قال: «لا يوفّق قاتل المؤمن متعمّدا للتّوبة» (8).

ص: 265


1- . في تفسير أبي السعود: ضبابة.
2- . في النسخة: و ولده هشام، تصحيف صوابه من تفسير أبي السعود، و راجع: تاريخ الطبري 2:609، الكامل في التاريخ 2:250.
3- . كذا في النسخة، و في تفسير أبي السعود و روح البيان: الزبير بن عياض، و لم نجده في أصحاب بدر، و في مجمع البيان 3:141: قيس بن هلال، و راجع: بحار الأنوار 22:21.
4- . أي يكون عارا عليك و سببا للسّباب.
5- . في تاريخ الطبري 2:609(أصحاب فارع) و فارع: حصن لبني النجار.
6- . تفسير أبي السعود 2:216، تفسير القرطبي 5:333 مع أختلاف في كلمات الشعر.
7- . الكافي 7:276/2، تفسير الصافي 1:448.
8- . الكافي 7:272/7، تفسير الصافي 1:448.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 94

ثمّ أمر اللّه سبحانه المجاهدين بالتّثبّت في القتل، و الاكتفاء بظاهر الإسلام في الكفّ عنه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ و سافرتم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لجهاد الكفّار فَتَبَيَّنُوا و تثبّتوا و استكشفوا حال من تريدون قتله، و ميّزوا بين الكافر و المؤمن، حتّى لا تقتلوا مؤمنا بغير حقّ، و عليكم الاكتفاء بظاهر الحال في الإيمان وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ الذي هو تحيّة المسلمين و أمارة الإسلام، أو لمن ألقى إليكم الانقياد و التّسليم لَسْتَ مُؤْمِناً و إنّما أظهرت الإسلام طلبا للسّلامة و تحفّظا على نفسك، بل عاملوه بظاهر الحال، و لا تتّهموه بالكفر فتقتلوه حال كونكم بقتله تَبْتَغُونَ و تطلبون اغتنام أمواله التي تكون عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و متاع الدّار الفانية، و الحطام السّريع الزّوال، فإن أردتم الغنيمة فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ من أموال المشركين تغنيكم عن أموال المقتولين المظهرين للإسلام بتهمة الكفر و عدم كون إسلامهم عن صميم القلب، فإنّكم كَذلِكَ [كهؤلاء]

المظهرين للإسلام كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ و في بدو إسلامكم، لم تكن فيكم علامة قطعيّة على صدق إيمانكم، و تحقّق اليقين بالعقائد الحقّة في قلوبكم فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ بقبول إسلامكم الظّاهري، فحقن به دماءكم، و صان به أموالكم من غير توقيف على العلم بموافقة ما سمع من أفواهكم لما في قلوبكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالتّبيين (1)و التّثبّت في شأن من يريدون قتله، بقوله: فَتَبَيَّنُوا و لا تعجلوا في قتل أحد حتّى تحرزوا كفره، ثمّ بالغ في ذلك بوعد العقاب على ترك التّبيين، بقوله: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من التّبيين و عدمه و الطّاعة و العصيان، خَبِيراً و مطّلعا حقّ الاطّلاع، فيجازيكم عليه حقّ الجزاء.

في ذكر قتل اسامة

رجلا بطن

الكفر

روي أنّ مرداس بن نهيك-رجل من أهل فدك-أسلم و لم يسلم من قومه غيره، فذهبت سريّة الرّسول إلى قومه و أميرهم غالب بن فضالة، فهرب القوم و بقي مرداس لثقته بإسلامه، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول (2)من الجبل، فلمّا تلاحقوا و كبّروا كبّر و نزل و قال: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه السّلام عليكم، فقتله اسامة بن زيد

ص: 266


1- . كذا، و الظاهر أنّ الصواب التّبيّن، في المواضع الثلاثة.
2- . العاقول هنا: الأرض الوعرة، الكثيرة المعاطف.

و ساق غنمه، فأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجد وجدا شديدا، و قال: «قتلتموه إرادة ما معه» ، ثمّ قرأ الآية على اسامة، فقال اسامة: يا رسول اللّه، استغفر لي، فقال: «و كيف و قد تلا: لا إله إلاّ اللّه؟ !» ، قال اسامة: فما زلت اعيدها حتّى وددت أنّى لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ، ثمّ استغفر لي و قال: «أعتق رقبة» (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة خيبر، و بعث اسامة بن زيد في خيل إلى بعض [قرى]اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، و كان رجل من اليهود يدعى مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلمّا أحسّ بخيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أهله و ماله و صار في ناحية جبل، و أقبل يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أن محمّدا رسول اللّه، فمرّ به اسامة بن زيد فطعنه و قتله، فلما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره بذلك، فقال [له]رسول اللّه: [قتلت رجلا شهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أني رسول اللّه؟ ! فقال: يا رسول اللّه، إنّما قال تعوّذا من القتل. فقال رسول اللّه]: فلا شققت الغطاء عن قلبه [و]لا ما قال بلسانه قبلت، و لا ما كان في نفسه علمت» ، فحلف اسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، فتخلّف عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حروبه (2)، و أنزل اللّه في ذلك: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ (3).

و قيل: إنّ القاتل محلّم بن جثّامة، لقيه عامر بن الأضبط فحيّاه بتحيّة الإسلام، و كانت بين محلّم و بينه إحنة (4)في الجاهليّة، فرماه بسهم فقتله، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «لا غفر اللّه لك» ، فما مضت به سبعة أيام حتّى مات، فدفنوه، فلفظته الأرض ثلاث مرّات، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الأرض تقبل من هو شرّ منه، و لكنّ اللّه أراد أن يريكم عظم الذّنب عنده» ، ثمّ أمر أن تلقى عليه الحجارة (5).

و قيل: إنّ المقداد بن الأسود [قد]وقعت له مثل واقعة اسامة، قال: فقلت: يا رسول اللّه، أ رأيت إن لقيت رجلا من الكفّار فقاتلني، فضرب إحدى يديّ بالسّيف، ثمّ لاذ بشجرة فقال: أسلمت للّه تعالى، أفأقتله يا رسول اللّه بعد ذلك؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تقتله» ، فقلت: يا رسول اللّه، إنّه قطع يدي؟

ص: 267


1- . تفسير الرازي 11:3.
2- . و تلك حجة داحضة، لأن أمير المؤمنين عليه السّلام يدور مع الحقّ حيثما دار بنصّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فضلا عن أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله قد أخبره بقتال الفئات الباغية من الناكثين و هم أصحاب الجمل، و القاسطين و هم أهل الشام، و المارقين و هم الخوارج، و قد نصّ الكتاب الكريم على قتال أهل البغي بقوله: فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي . [الحجرات: 49/9]و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد قال لعمار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية» فقتله أصحاب معاوية في صفين. و كان أمير المؤمنين عليه السّلام راية الهدى التي ميزت رجالات الامّة، فبعضهم نصر الحق فكانوا شهداء و صديقين، و بعضهم نصر الباطل و قاتل الإمام عليه السّلام و ناصبه العداء فكانوا ناكثين و قاسطين و مارقين، و بعضهم وقف على التلّ فكانوا مذبذبين، لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء.
3- . تفسير القمي 1:148، تفسير الصافي 1:449.
4- . الإحنة: الحقد و الضّغن.
5- . تفسير الرازي 11:3.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك بعد أن تقتله، و أنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» (1).

أقول: لا منافاة بين الرّوايات، لجواز نزولها عند وقوع جميعها، فكان كلّ منهم زعم أنّها نزلت في واقعته.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 95 الی 96

ثمّ أنّه تعالى-بعد ما بين حكم قتل المؤمن في الجهاد خطأ، و حكم وجوب التّبيين (2)، و وجوب الاكتفاء في إحراز الإيمان بالظّاهر-بيّن أنّ الجهاد من الواجبات الكفائيّة، فيجوز القعود عنه مع قيام من به الكفاية، و لكن غاية الفضل و الثّواب للقائمين به بقوله: لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ و المتخلّفون عن الجهاد، حال كونهم مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و كونهم غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ من مرض، أو عمى، أو عرج، أو غيرها من الأعذار وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في القرب عند اللّه، و الأجر في الآخرة و فيه إشعار بجواز القعود عن الجهاد، إذا كان القائمون به كافين له، و التّرغيب في القيام به. روي أنّها نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة، و مرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، و هلال بن اميّة من بني واقف، تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم تبوك (3).

لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)و روي عن زيد بن ثابت أنّه قال: كنت إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فغشيته السّكينة، فوقعت فخذه على فخذي حتّى خشيت أن ترضّها، ثمّ سرّي عنه، و ازيل عنه ما عرض له من شدّة الوحي، فقال: «اكتب» فكتبت لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و المجاهدون» ، فقال ابن [امّ]مكتوم (4)و كان

ص: 268


1- . تفسير الرازي 11:3.
2- . كذا، و الظاهر أن الصحيح: التبيّن.
3- . مجمع البيان 3:147، تفسير الصافي 1:449.
4- . و هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصمّ القرشي العامري، و ام مكتوم امّه، و اسمها عاتكة بنت عبد اللّه، و هو خال امّ المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السّلام، فإن امّها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، و قد اختلف في اسمه فقيل: عبد اللّه، و الأكثر عمرو، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستخلفه على المدينة ليصلي بالنّاس، و كان ضرير البصر، شهد القادسية و هو أعمى، و قتل فيها سنة 23 ه. اسد الغابة 4:127، الأعلام للزركلي 5:83.

أعمى: يا رسول اللّه، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فغشيته السّكينة كذلك، ثمّ سرّي عنه فقال: «اكتب» : لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ. . . ، قال زيد: أنزلها اللّه وحدها فألحقتها (1).

أقول: فيه دلالة على أنّ اولي الضّرر مساو للمجاهدين.

ثمّ لم يكتف سبحانه في ترغيب المجاهدين بذكر عدم مساواتهم للقاعدين، بل صرّح بتفضيلهم على القاعدين بقوله: فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ الأصحّاء دَرَجَةً عظيمة من الأجر.

ثمّ أكّد جواز القعود عند قيام من به الكفاية بقوله: وَ كُلاًّ من القاعدين و المجاهدين وَعَدَ اَللّهُ بفضله العاقبة أو المثوبة اَلْحُسْنى لحسن عقيدتهم، و خلوص نيّتهم، و حضورهم لطاعة ربّهم، و إنّما التّفاوت بزيادة العمل الموجبة لزيادة الثّواب.

ثمّ أكّد فضيلة المجاهدين بقوله: وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ الأصحّاء أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا.

ثمّ فضّل اللّه الأجر العظيم و الدّرجة المبهمة بقوله: دَرَجاتٍ رفيعة في الجنّة كائنة مِنْهُ تعالى قيل: عددها سبعون، ما بين كلّ درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا، و قيل: سبعمائة.

و روي أنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين الدّرجتين كما بين السّماء و الأرض (2).

أقول: يمكن أن يكون الاختلاف لاختلاف المجاهدين في الإيمان، و خلوص النّيّة.

وَ مَغْفِرَةً لما يصدر منهم من الزّلاّت و الخطايا في مدّة أعمارهم وَ رَحْمَةً عظيمة من اللّه لا توصف ببيان.

ثمّ قرّر المغفرة و الرّحمة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً للعاصين رَحِيماً بالمؤمنين، و أفضلهم المجاهدون.

في إثبات أفضلية

أمير المؤمنين عليه السّلام

و ردّ الفخر القائل

بأفضلية أبي بكر

منه

ثمّ اعلم أنّ في الآية دلالة واضحة على أنّ المجاهد من حيث المجاهدة أفضل من القاعد عنها، و إن كان القاعد من جهة الكمالات الاخر المعنويّة قد يكون أفضل، و على هذا يجب الحكم بأفضليّة المجاهد على القاعد، حتّى يثبت للقاعد جهة فضيلة مكافئة لفضيلة المجاهدة، أو راجحة عليها، و قد ثبتت الجهة الرّاجحة لرسول

ص: 269


1- . تفسير روح البيان 2:265.
2- . تفسير روح البيان 2:266.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوضوح أنّ الكمال الذي أوجب استحقاق منصب الرّسالة كمال لا يكافئه شيء. و لذا لا يمكن أن يقال بأفضليّة المجاهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إن كان من القاعدين، و وجب القول بأفضليّة المجاهد على غيره صلّى اللّه عليه و آله.

إذا تمهّد ذلك فنقول: لا شبهة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان أفضل المجاهدين، فيجب أن يحكم بأنّه أفضل من أبي بكر و أضرابه من القاعدين، كما استدلّ أصحابنا رضوان اللّه عليهم بهذه الآية عليها. و اعتراض الفخر الرازي عليه بلزوم أفضليّة أمير المؤمنين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الخرفات التي لا ينبغي صدورها من ذي مسكة لما ذكرنا.

و أمّا قوله: إنّ أبي بكر كان مجاهدا في سبيل اللّه، فغير ثابت، إن لم يثبت كونه من الفارّين من الجهاد في احد (1).

و أمّا كونه مجاهدا بدعوة النّاس إلى الإسلام، و لذا أسلم بدعوته جمع من الصّحابة، كما قال المعترض، فغير معلوم أيضا، لعدم دلالة دليل قاطع عليه، و على تقدير ثبوته لم تكن دعوته أكثر من دعوة عليّ عليه السّلام، و قد ثبت بالرّوايات المسلّمة بين الخاصّة و العامّة أنّه المراد من قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (2). و ليت شعري من أين علم هذا الرّجل المتعصّب مبالغة أبي بكر في إسلام سائر النّاس!

و قوله بأنّه أسلم بدعوته عدّة قليلة من الصّحابة، على تقدير تسليمه، لا يدلّ على مبالغته في الدّعوة، و ادّعائه أنّه صرف ماله و نفسه في الذّبّ عن النبيّ، فدعوى بلا برهان، مع ثبوت بخله بصدقة

ص: 270


1- . لقد اتفقت كتب السيرة و التاريخ أنه لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم احد عند هزيمة الناس إلاّ أمير المؤمنين عليه السّلام و أبو دجانة، و سهل بن حنيف، و قيل: عبد اللّه بن مسعود، و كان لأمير المؤمنين عليه السّلام الفضل في ردّ الكتائب و قتل أصحاب الألوية من المشركين، و من ثم في ثبات من ثبت من المسلمين، فنادت الملائكة بفضله: (لا سيف إلاّ ذو الفقار، و لا فتى إلاّ علي) و تباهوا بعظيم منزلته في مواساة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (راجع: تاريخ الطبري 2:514، و مجمع الزوائد 6:114، و شرح بن أبي الحديد 13:261 و 14:250) . قال ابن عباس: لعلي عليه السّلام أربع خصال ليست لأحد. . . و عدّ منها صبره مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فرّ النّاس عنه في احد (راجع مستدرك الحاكم 3:111، الاستيعاب 3:27، شرح ابن أبي الحديد 4:116) . و في حنين لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غير تسعة نفر من بني هاشم، و كان على رأسهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و عاشرهم أيمن بن أم أيمن الذي استشهد فيها. و في خيبر بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر بالراية إلى خيبر فانهزم و لم يكن فتح، و بعث بعده عمر فرجع يجبّن أصحابه و يجبّنونه (تاريخ الطبري 3:12، مستدرك الحاكم 3:37) فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، كرارا غير فرار» فأعطاها أمير المؤمنين عليه السّلام و كان الفتح على يديه (راجع: البداية و النهاية 7:349، و أسد الغابة 4:21، و حلية الأولياء 1:62) . و أخرج البخاري حديث الراية في الصحيح ج 5 ص 87، كتاب المناقب-باب مناقب علي عليه السّلام حديث 197 و ص 279 من نفس الجزء-كتاب المغازي-باب غزوة خيبر. و أخرجه مسلم في الصحيح 4:1871، كتاب فضائل الصحابة-باب فضائل علي عليه السّلام.
2- . هود:11/17.

درهم قدّام نجوى الرّسول (1)، و غاية خوفه على نفسه في الغار، و أمير المؤمنين عليه السّلام نائم في فراش الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و كيف أنّه كان يقيم الدّلائل و البيّنات على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يزيل الشّبهات و الضّلالات عن القلوب، مع جهله بعد مدّة مديدة من إسلامه بمعنى (الإبّ) في قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2)! و لو لا الإطناب المخلّ في عبارة هذا الرّجل لنقلتها حتّى يعلم أنّ العصبيّة كيف أعمته حتّى قال بأفضليّة أبي بكر من أمير المؤمنين عليه السّلام، مع كون بطلانها أظهر من الشّمس في رائعة (3)النّهار.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 97

ثمّ أنّه تعالى بعد إيجاب الهجرة بقوله: حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ، و حكمه بقتل من لم يهاجر بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ (4)و بيان أحكام القتال، شرع في تهديد غير المهاجرين بعذاب الآخرة بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ و تقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون على قبض الأرواح، حال كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة، و تعلّم أحكام الإسلام و العمل بها، و القيام بالجهاد، و بالرّضا بمجاورة المشركين.

إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97)قالُوا سألت الملائكة المتوفّين (5)تقريرا لهم: إنكم فِيمَ و في أيّ حال كُنْتُمْ من امور دينكم؟ و لم تركتم الجهاد و العمل بأحكام الإسلام؟ قالُوا لهم اعتذارا عن تقصيرهم في القيام بالوظائف الدّينيّة: إنّا كُنّا بعد إسلامنا مُسْتَضْعَفِينَ مستذلّين عند المشركين، مقهورين لهم، عاجزين عن العمل بشرع محمد صلّى اللّه عليه و آله فِي هذه اَلْأَرْضِ التي تكون دار الشّرك و الكفر.

فردّ عليهم الملائكة و قالُوا في جوابهم تقريرا أيضا: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً و مملكته عريضة فَتُهاجِرُوا فِيها و تنتقلوا إلى قطر آخر من أقطارها يسكنه المسلمون، حتّى تتمكّنوا من إقامة دينكم، و العمل بوظائفكم، و لا يمنعكم المشركون عنها، كما فعله من هاجر إلى المدينة أو

ص: 271


1- . لما نزلت آية النجوى (المجادلة:58/12) لم يعمل بها أحد من الصحابة إلاّ أمير المؤمنين علي عليه السّلام، راجع: تفسير الطبري 28:14، سنن الترمذي 5:406/3300، الخصائص للنسائي: ح 146، مستدرك الحاكم 2:481.
2- . الدر المنثور 8:421، و الآية من سورة عبس:80/31.
3- . في الأصل: رابعة، تصحيف.
4- . النساء:4/89.
5- . في النسخة: المتوفون عنهم.

الحبشة، فأنتم بهوى أنفسكم مع قدرتكم على الهجرة، بقيتم في دار الشّرك و أرض الكفر.

فبعد إتمام الحجّة عليهم أو عدّهم بقوله: فَأُولئِكَ الّذين تعمّدوا في ترك الهجرة، و قصّروا في تعلّم الدّين و العمل بالأحكام مَأْواهُمْ و منزلتهم جَهَنَّمُ في الآخرة، كما كان مأواهم دار الشّرك في الدّنيا، و مصيرهم و منقلبهم النّار وَ ساءَتْ مَصِيراً و منقلبا لهم.

قيل: إنّ جمعا من المسلمين لم يهاجروا من مكّة إلى المدينة، ثمّ خرجوا مع المشركين إلى بدر فقتلوا فيها، فضربت الملائكة وجوههم و أدبارهم، و قالوا لهم ما قالوا (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم قيس بن الفاكة بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو العاص بن المنبّه بن الحجاج، و عليّ بن امية بن خلف» (2).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في من اعتزل أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقاتلوا معه، فقالت الملائكة لهم عند الموت: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، أي لم نعلم مع من الحقّ، فقال اللّه: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي دين اللّه و كتابه واسع، فتنظروا فيه (3).

أقول: هذه الرّواية تأويل، و السّابقة تنزيل.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، و إن كان شبرا من الأرض، وجبت له الجنّة» (4).

و في (نهج البلاغة) ، قال: «لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها اذنه، و وعاها قلبه» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الضّعفاء؟ فكتب: «المستضعف من لم ترفع [إليه]حجّة، و لم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف» (6).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 98

ثمّ استثنى اللّه تعالى من الوعيد غير القادرين على الهجرة بقوله: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ و المقهورين في أيدي الكفّار مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ الّذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً و لا يتمكّنون تدبيرا للخروج من بلد الكفر، و لا يملكون نفقة للسّفر، أو لا يقدرون على حركة للمرض وَ لا

إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)

ص: 272


1- . تفسير أبي السعود 2:223، تفسير روح البيان 2:269.
2- . مجمع البيان 3:150، تفسير الصافي 1:453.
3- . تفسير القمي 1:149، تفسير الصافي 1:453.
4- . تفسير أبي السعود 2:223، تفسير الصافي 1:454.
5- . نهج البلاغة:280/189، تفسير الصافي 1:453.
6- . الكافي 2:299/11، تفسير الصافي 1:454.

يَهْتَدُونَ سَبِيلاً و لا يعرفون طريقا.

في معنى المستضعف

روي أنّه بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الآية إلى مسلمي مكّة، فقال جندب بن ضمرة (1)لبنيه: احملوني فإنّي لست من المستضعفين، و لا إنّي لا أهتدي الطّريق، و اللّه لا أبيت اللّيلة بمكّة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، و كان شيخا كبيرا، فمات في الطريق (2).

قيل: إن الاستثناء منقطع، لعدم دخول المستضعفين في ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ (3).

و قيل: إنّ ضمّ الولدان إلى الرّجال و النّساء، مع عدم كونهم مكلّفين، للمبالغة في إيجاب الهجرة، أو للإشعار بأنّه يجب على أوليائهم أن يهاجروا بهم (4).

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن المستضعفين؟ فقال: «البلهاء في خدرها، و الخادمة تقول لها: صلّي فتصلّي، لا تدري إلاّ ما قلت لها، و الجليب الذي لا يدري إلاّ ما قلت له، و الكبير الفاني (5)، و الصغير» (6). قيل: الجليب: الذي يجلب من بلد إلى آخر (7).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل من هم؟ قال: «قال نساؤكم و أولاكم» ثمّ قال: «أ رأيت امّ أيمن؟ فإني أشهد أنّها من أهل الجنّة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه» (8).

و عنه عليه السّلام: «هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر، و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن و لا يكفر» قال: «الصّبيان، و من كان من الرّجال و النّساء على مثل عقول الصّبيان» (9).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 99

فَأُولئِكَ المستضعفون عَسَى اَللّهُ و يرجى منه أَنْ يَعْفُوَ و يصفح عَنْهُمْ و في التّعبير عن عدم استحقاقهم العقوبة بالعفو عنهم، إشارة إلى مبغوضيّة عدم الهجرة في نفسه، و إن كانوا معذورين فيه.

فَأُولئِكَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)ثمّ قرّر سبحانه و تعالى العفو عنهم بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا و صفوحا عن المعاصي غَفُوراً و ستّارا للذّنوب.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 100

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

ص: 273


1- . في النسخة: جندب بن مغيرة، تصحيف، انظر: اسد الغابة 1:303.
2- . تفسير الرازي 11:13.
3- . النساء:4/97.
4- . تفسير أبي السعود 2:223.
5- . زاد في تفسير العياشي: و الصبي.
6- . تفسير العياشي 1:435/1095، تفسير الصافي 1:454.
7- . تفسير الصافي 1:455.
8- . الكافي 2:298/6، تفسير الصافي 1:454.
9- . الكافي 2:297/3، تفسير الصافي 1:454.

ثمّ بالغ في التّرغيب إلى الهجرة بقوله: وَ مَنْ يُهاجِرْ من دار الشّرك إلى دار الإسلام فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته، و حفظ دينه يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً و منازل كثيرة النّعمة و الرّاحة، بحيث يوجب رغم أنف الأعداء، و يكون كَثِيراً يظفر بها بسهولة وَ يجد سَعَةً في الرّزق و إظهار الدّين.

و لمّا كان مجال توهّم أنّ فائدة الهجرة فيما إذا بلغ المقصد، دون ما إذا مات في الطريق، كجندب بن ضمرة (1)، دفعه اللّه بقوله: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ حال كونه مُهاجِراً و مفارقا وطنه و عشيرته، متوجّها إِلَى طاعة اَللّهِ وحده، وَ خدمة رَسُولِهِ أو بلد يتمكّن فيه من القيام بوظائف دينه ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ في الطّريق فَقَدْ وَقَعَ و ثبت أَجْرُهُ و ثوابه عَلَى اَللّهِ .

ثمّ قرّر الوعد بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لما سبق من التّهاون في الهجرة إلى أن خروجه رَحِيماً بإكمال ثواب هجرته.

في هجرة جندب

بن ضمرة من مكة

روي أنّ جندب بن ضمرة لمّا أشرف على الموت في التّنعيم (2)، أخذ يصفق بيمينه على شماله، ثمّ قال: اللّهمّ هذه لك، و هذه لرسولك، ابايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميدا، فلمّا بلغ خبره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالوا: لو توفّي في المدينة لكان أتمّ أجرا. و قال المشركون و هم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل اللّه هذه الآية (3). عن محمّد بن أبي عمير، قال: وجّه زرارة بن أعين ابنه عبيدا (4)إلى المدينة يستخبر خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام، و عبد اللّه (5)، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد، قال ابن أبي عمير: حدّثني محمّد بن حكيم، قال: ذكرت لأبي الحسن عليه السّلام توجّه عبيد إلى المدينة فقال: «إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن

ص: 274


1- . تقدّم ذكره في تفسير الآية (98) من هذه السورة.
2- . التّنعيم: موضع على فرسخين من مكة و قيل: على أربعة.
3- . تفسير روح البيان 2:271.
4- . في النسخة: عبيد اللّه، في جميع المواضع، تصحيف، انظر: رجال الكشي:155/255.
5- . هو عبد اللّه بن جعفر، المعروف بالأفطح، و قد ادّعى الامامة بعد أبيه الصادق عليه السّلام، فهجرته الشيعة بعد أن امتحنوه فلم يروا فيه مواصفات الامامة كالعصمة و العلم و الدلائل و غيرها، و بعد أن تحققوا من النصّ على الامام موسى الكاظم عليه السّلام بعد أبيه الصادق عليه السّلام.

قال اللّه: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ الآية» (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 101

ثمّ لمّا كانت الهجرة مستلزمة للسّفر أو الخوف، بيّن اللّه حكم الصّلاة فيهما بقوله: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ و سافرتم فِي اَلْأَرْضِ للهجرة أو لغيرها من الأغراض المحلّلة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ بتنصيف رباعيّاتها، و ترك نوافل ما قصر منها، و كذا إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و يلقوكم بالمكروه، فلا جناح عليكم في التّقصير في الصّلاة.

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)و إنّما عبّر سبحانه عن وجوب التّقصير بنفي الجناح، لدفع توهّم النّاس فيه، حيث إنّ الأذهان كانت مألوفة بالإتمام، كما عبّر عن وجوب السّعي (2)به لذلك.

و إنّما ذكرنا (و كذا إن خفتم) (3)لثبوت كون كلّ من السّفر و الخوف علّة مستقلّة لوجوب التّقصير، و عدم اشتراط علّيّة كلّ [منهما]بوجود الآخر.

و قيل: إنّ اشتراط القصر في السّفر بالخوف مبنيّ على الغالب من أسفار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، حيث لم يكن في الغالب خاليا عن الخوف، فلا مفهوم للشّرط هنا.

و الحقّ أنّ ظاهر الآية تعليق القصر على وجود الخوف الدّالّ على انتفائه عند انتفائه، إلاّ أنّه ثبت بالنّصّ و الفتوى عدم إرادة التّعليق، و كون كلّ من السّفر و الخوف سببا مستقلاّ له (4).

في صلاة السفر

عن زرارة، و محمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الصّلاة في السّفر، كيف هي، و كم هي؟ فقال: «إنّ اللّه يقول: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ فصار التّقصير (5)واجبا كوجوب التّمام في الحضر» .

قالا: قلنا له: قال اللّه تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ، و لم يقل (افعلوا) ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التّمام في الحضر؟ فقال عليه السّلام: «أو ليس [قد]قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (6)، ألا ترون أنّ الطّواف بهما واجب

ص: 275


1- . تفسير العياشي 1:435/1097، تفسير الصافي 1:455.
2- . كذا، و الصواب: وجوب الطواف، و ذلك في الآية (158) من سورة البقرة، راجع: تفسير أبي السعود 2:225، و تفسير روح البيان 2:273، و الحديث الآتي لاحقا عن أبي جعفر عليه السّلام.
3- . هذه إشارة إلى عبارة المصنف المتقدمة آنفا في تفسير الآية.
4- . راجع كنز العرفان 1:185/2.
5- . زاد في تفسير العياشي: في السفر.
6- . البقرة:2/158.

مفروض، لأنّ اللّه عزّ و جلّ ذكره في كتابه، و صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كذلك التّقصير في السّفر شيء صنعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذكره اللّه في كتابه» .

قالا: قلنا له: فمن صلّى في السّفر أربعا، أ يعيد أم لا؟ قال: «إن كان [قد]قرئت عليه آية التّقصير و فسّرت له و صلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه، و لم يعلمها فلا إعادة عليه، و الصّلاة كلّها في السّفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة، إلاّ المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير، و تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السّفر و الحضر ثلاث ركعات» (1).

و زاد في (الفقيه) : «و قد سافر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ذي خشب، و هي مسيرة يوم من المدينة، يكون إليها بريدان، أربعة و عشرون ميلا، فقصّر و أفطر، فصار سنّة، و قد سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما صاموا حين أفطر العصاة، قال: فهم العصاة إلى يوم القيامة، و إنّا لنعرف أبناءهم و أبناء أبنائهم إلى يوم القيامة» (2).

و عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، [قال: قلت له:]صلاة الخوف و صلاة السّفر تقصران جميعا؟ قال: «نعم، و صلاة الخوف أحقّ أن تقصر من صلاة السّفر؛ لأنّ فيها خوفا» (3).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في صلاة الخوف، فقال: «هذا تقصير ثان، و هو أن يردّ الرّجل الرّكعتين إلى الرّكعة» (4).

و في رواية: قال في الرّكعتين: «تنقص منهما واحدة» (5).

و قال بعض: إنّ ردّ الرّكعتين إلى ركعة يراد به ردّ الأربع إلى ركعتين (6).

و عن الرضا عليه السّلام، في رواية: «التّقصير في ثمانية فراسخ و ما زاد، و إذا قصّرت أفطرت» (7).

و عن زرارة: قد سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التّقصير، فقال: «بريد ذاهب و بريد جائي-إلى أن قال: - إنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين، ثمانية فراسخ» (8).

في صلاة الخوف

ثمّ بيّن سبحانه الموقعيّة للخوف من الكفّار، بقوله: إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ من سابق الزّمان و قديم الأيام عَدُوًّا مُبِيناً و خصما ظاهرا، و الآن زادت عداوتهم فينتهزون الفرصة عليكم، فلذا أمركم اللّه بتخفيف الصّلاة، لتكونوا منهم على حذر.

ص: 276


1- . تفسير العياشي 1:436/1098، تفسير الصافي 1:455.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:278/1266، و فيه: إلى يومنا هذا.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:294/1342.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:295/1343.
5- . الكافي 3:458/4، تفسير الصافي 1:456.
6- . وسائل الشيعة 8:434/ذيل الحديث 4.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:123/1.
8- . من لا يحضره الفقيه 1:287/1304، عن الباقر عليه السّلام.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 102

ثمّ بيّن اللّه سبحانه كيفيّة صلاة الخوف بقوله: وَ إِذا كُنْتَ مع المؤمنين و مقيما فِيهِمْ فأرادوا أن تصلّي بهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ جماعة، و كان العدوّ في مقابلكم، فاجعل أصحابك طائفتين، فإذا شرعت في الصّلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ خلفك يصلّون مَعَكَ و الطّائفة الاخرى يحرسونكم من العدوّ وَ المصلّون لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ و يستصحبوا آلات دفاعهم فَإِذا سَجَدُوا معك قاموا و انفردوا، و صلّوا ركعة اخرى و سلّموا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ و وقفوا تجاه العدوّ لحراستكم وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى الّذين كانوا بإزاء العدوّ و لَمْ يُصَلُّوا بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ جماعة، وَ لكن لْيَأْخُذُوا ألبتّة حِذْرَهُمْ و ليراعوا غاية تيقّظهم من العدوّ، وَ كذا أَسْلِحَتَهُمْ و آلات حربهم.

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)ثمّ علّل إيجاب أخذ الحذر و السّلاح بقوله: وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و تمنّوا أنّكم لَوْ تَغْفُلُونَ و تبعدون عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ أن ينالوا منكم غرّة في صلاتكم فَيَمِيلُونَ حينئذ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً و يحملون عليكم حملة شديدة.

و إنّما اقتصر سبحانه في الطّائفة الاولى بإيجاب أخذ الأسلحة، و ضمّ في الطّائفة الثّانية إليه أخذ الحذر؛ لأنّ الكفّار لا يلتفتون غالبا في أوّل الصّلاة إلى أن المسلمين مشغولون بها، فلا يحتاجون إلى شدّة الاحتراز عنهم، بخلاف الرّكعة الثّانية فإنّهم بعد الرّكوع و السّجود يعلمون بكونهم في الصّلاة، فلا بدّ من شدّة التّحذّر و التّيقّظ.

ثمّ رخّص سبحانه في وضع الأسلحة إذا كان في أخذها حرج، بقوله: وَ لا جُناحَ و لا بأس عَلَيْكُمْ أيّها المصلّون الخائفون من العدوّ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً و كلفة في أخذ الأسلحة لثقلها الحاصل مِنْ بلل مَطَرٍ شديد أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى و ضعفتم عن حملها في أَنْ تَضَعُوا عنكم أَسْلِحَتِكُمْ في حال الصّلاة-و يلحق بالحالتين كلّ حالة يكون في حملها مشقّة- وَ لكن خُذُوا في تلك الحالة حِذْرَكُمْ و الزموا تيقّظكم لمكرهم، أشدّ التيقّظ كيلا يهجم

ص: 277

عليكم العدوّ و أنتم في الصّلاة.

ثمّ لمّا كان في إيجاب الحذر مجال توهّم القوّة و الشّوكة للكفّار، دفعه اللّه تعالى بقوله: إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ و هيّأ لِلْكافِرِينَ عَذاباً من القتل و الأسر و الخزي في الدنيا، و من النّار في الآخرة، و يكون ذلك العذاب مُهِيناً و مذلاّ لهم لتكبّرهم عن الانقياد للّه و طاعة الرّسول. و فيه بشارة للمؤمنين بنصرتهم، و خذلان الكفّار على أيّ حال.

في كيفية صلاة

الخوف و أنواعها

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الحديبية يريد مكّة، فلمّا وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس يستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكان يعارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1)على الجبال، فكان في بعض الطّريق و حضرت صلاة الظّهر فأذّن بلال و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّاس، فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصّلاة أصبناهم، فإنّهم لا يقطعون الصّلاة، و لكن يجيء لهم الآن صلاة اخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم، فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية، ففرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فرقتين؛ فوقف بعضهم تجاه العدوّ و قد أخذوا سلاحهم، و فرقة صلّوا مع رسول اللّه قياما (2)، و مرّوا فوقفوا مواقف أصحابهم، و جاء اولئك الّذين لم يصلّوا فصلّى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرّكعة الثانية و لهم الاولى، و قعد رسول اللّه، و قام أصحابه فصلّوا هم الرّكعة الثانية، و سلّم عليهم (3).

و عن الصادق عليه السّلام (4): «أنّها نزلت في غزوة ذات الرّقاع صلاة الخوف، ففرّق أصحابه فرقتين؛ أقام فرقة بإزاء العدوّ، و فرقة خلفه، فكبّر و كبّروا، و قرأ و أنصتوا، و ركع و ركعوا، و سجد و سجدوا، ثمّ استمرّ (5)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما، و صلّوا لأنفسهم ركعة، ثمّ سلّم بعضهم على بعض، ثمّ خرجوا إلى أصحابهم و قاموا بإزاء العدوّ، و جاء أصحابهم فقاموا خلف رسول اللّه، فصلّى بهم ركعة، ثمّ تشهّد و سلّم عليهم، فقاموا و صلّوا لأنفسهم ركعة، ثمّ سلّم بعضهم على بعض» (6).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن صلاة الخوف، قال: «يقوم الإمام و تجيء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه، و تقوم طائفة بإزاء العدوّ، فيصلّي بهم الإمام ركعة ثمّ يقوم و يقومون [معه]فيمثل قائما، و يصلّون هم الرّكعة الثّانية، ثمّ يسلّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في مقام أصحابهم، و يجيء الآخرون فيقومون خلف الإمام، فيصلّي بهم الرّكعة الثّانية، ثمّ يجلس الإمام، فيقومون هم فيصلّون

ص: 278


1- . (فكان. . . رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) ليس في المصدر.
2- . في النسخة: قائما.
3- . تفسير القمي 1:150، تفسير الصافي 1:457.
4- . في النسخة: ابن عباس رضى اللّه عنه.
5- . في الكافي: استتم.
6- . الكافي 3:456/2، تفسير الصافي 1:457.

ركعة اخرى، ثمّ يسلّم عليهم و يتفرّقون بتسليمه» .

قال: «و في المغرب مثل ذلك، يقوم الإمام و تجيء طائفة فيقومون خلفه، ثمّ يصلّي بهم ركعة، ثمّ يقوم و يقومون، فيمثل الإمام قائما، فيصلّون ركعتين فيتشهّدون، و يسلّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم، و يجيء الآخرون و يقومون موقف أصحابهم (1)خلف الإمام، فيصلّي بهم ركعة يقرأ فيها، ثمّ يجلس فيتشهّد، ثمّ يقوم و يقومون معه و يصلّي بهم ركعة اخرى ثمّ يجلس، و يقومون هم فيتمّون ركعة اخرى، ثمّ يسلّم عليهم» (2).

أقول: حال الخوف إن كان بحيث لا يمكن معه الاستقرار و إيقاع الأفعال، كحال المسايفة (3)و المعانقة صلّى النّاس فرادى بحسب إمكانهم، فإنّ الصّلاة لا تترك بحال، فيقصّر في الصّلاة حينئذ كميّة و كيفيّة.

ثمّ اعلم أنّه قد ذكر بعض الأصحاب في كيفية صلاة الخوف ثلاثة أنواع: الأوّل: صلاة بطن النّخل (4).

و هي أن يكون العدوّ في جهة القبلة، فيفرّق الإمام أصحابه فرقتين؛ يصلّي بأحدهما ركعتين و يسلّم بهم، و الثانيّة تحرسهم، ثمّ يصلّي بالثّانية ركعتين نافلة و معادة له و فريضة لأصحابه، و هذه تصحّ مع الأمن أيضا.

و الثّاني: صلاة ذات الرّقاع (5).

و شرطها كون العدوّ في خلاف جهة القبلة، أو في جهتها، و لكن بينهم و بين المسلمين حائل يمنعهم من الرّؤية لو هجموا، و قوّة العدوّ بحيث يخاف هجومهم، و كثرة (6)المسلمين بحيث يمكن افتراقهم فرقتين يقاوم كلّ فرقة العدوّ، و عدم الاحتياج إلى زيادة التّفريق، فينحاز الإمام بطائفة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدوّ، فيصلّي بهم ركعة، فإذا قام إلى الثّانية انفردوا واجبا و أتمّوا، و الطّائفة الاخرى تحرسهم، ثمّ تقوم الاولى مقام الثّانية، و تنحاز الثّانية إلى الإمام و هو ينتظرهم فيقتدون به في الثّانية، فإذا جلس الإمام للتّشهّد قاموا و أتمّوا و لحقوا به و سلّم بهم، و يطوّل الإمام القراءة في انتظار الثّانية، و التّشهّد (7)في انتظار فراغها.

ص: 279


1- . (موقف أصحابهم) ليس في الكافي.
2- . الكافي 1:455/1، تفسير الصافي 1:457.
3- . المسايفة: التضارب بالسيوف.
4- . بطن نخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، و في النسخة: بطن النجل.
5- . ذات الرّقاع: اسم شجرة في موضع الغزوة سمّيت بها، و قيل: لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفّوا عليها الخرق.
6- . في النسخة: كثر.
7- . أي و يطوّل الإمام التشهد في انتظار فراغ الفرقة الثانية.

و في المغرب يصلّي بالاولى ركعتين، و بالثّانية ركعة، أو بالعكس. و هذا النّوع هو مدلول الرّوايات السّابقة.

و الثالث: صلاة عسفان (1).

و هي أن يكون العدوّ في جهة القبلة، فيرتّبهم صفّين، و يحرم الإمام بهما جميعا و بركع بهم، و يسجد بالأوّل خاصّة، و يقف الثّاني للحراسة، فإذا قام الإمام بالأوّل سجد الثاني، ثمّ ينتقل كلّ من الصّفّين إلى مكان الآخر، فيركع الإمام بهما، ثمّ يسجد بالذي يليه (2)و يقوم الثّاني الذي كان أوّلا لحراستهم، فإذا جلس بهم سجدوا و سلّم بهم جميعا (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 103

ثمّ أمر اللّه النّاس بالتّوجّه إلى ذاته المقدّسة في قبال الكفّار، بقوله: فَإِذا قَضَيْتُمُ و أدّيتم اَلصَّلاةَ المفروضة كما أمركم اللّه فَاذْكُرُوا اَللّهَ و التجئوا إليه و اسألوه النصر في جميع الأحوال [سواء أ]

كنتم قِياماً في مقابل العدوّ وَ قُعُوداً للرّمي، أو غيره وَ نائمين عَلى جُنُوبِكُمْ من الجراح فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ و استقررتم في منازلكم و أوطانكم، أو في محلّ قصدتم المقام فيه عشرة أيّام، أو اطمأنّت قلوبكم من خوف العدوّ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ تماما كما كنتم تتمّونها قبل السّفر و الخوف.

فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)ثمّ لمّا ذكر صلاة السّفر و الخوف، أكّد وجوب الصّلاة في جميع الأحوال بقوله: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ في جميع الشّرائع و الملل و الأعصار عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ من اللّه تعالى كِتاباً مَوْقُوتاً و فرضا مؤقّتا، أو مقدّرا.

عن الباقر عليه السّلام: «يعني مفروضا، و ليس يعني وقت فوتها (4)، إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها لم تكن صلاته مؤدّاة، و لو كان ذلك [كذلك]لهلك سليمان بن داود حين صلاّها لغير (5)وقتها، و لكن متى ما ذكرها صلاّها» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «مَوْقُوتاً أي ثابتا، و ليس إن عجلت قليلا أو أخّرت قليلا بالذي يضرّك ما لم

ص: 280


1- . عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة و مكة، و قيل: عسفان بين المسجدين، و هي من مكة على مرحلتين.
2- . في النسخة: بالذي بينه.
3- . كنز العرفان 1:189.
4- . في تفسير العياشي: وقتا وقّتها.
5- . في تفسير العياشي: بغير.
6- . تفسير العياشي 1:439/1103، تفسير الصافي 1:458.

تضيّع تلك الإضاعة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» (1).

أقول: الظّاهر أنّ الرّوايتين ناظرتان إلى نفي التّوقيت بوقت الفضيلة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 104

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وجوب قتال الكفّار، و شدّة عداوتهم، و كيفيّة الصّلاة فيهم، أمر بالجدّ في قتالهم، و نهى عن التّهاون فيه بقوله: وَ لا تَهِنُوا و لا تضعفوا أيّها المؤمنون فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ الكافرين الّذين دونكم، و جدّوا في طلبهم، و اجتهدوا في قتالهم، و لا تخافوا من الآلام التي تصيبكم، فإنّكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ من الجراحات التي تصيبكم في حربهم فَإِنَّهُمْ أيضا يَأْلَمُونَ من الجراحات التي تصيبهم منكم كَما تَأْلَمُونَ من الجراحات التي تصيبكم منهم، و هم مع ذلك لا يفترون عن قتالكم، و لا يتهاونون فيه، مع أنّكم و هم سواء في ما يوجب الخوف وَ أنتم تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ بجهادكم، و ما يصيبكم من الآلام و المشاقّ ما لا يَرْجُونَ من الثّواب و الأجر؛ لأنّكم تعتقدون بدين الإسلام و دار الجزاء، و تعلمون أنّ لكم بالجهاد درجات عظيمة عند اللّه في الآخرة، و المشركون لا يعتقدون بشيء من ذلك، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر و دار الجزاء صابرين على قتالكم مجدّين فيه، فأنتم أولى بالجدّ و الصبر عليه منهم وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بصلاح دينكم و دنياكم حَكِيماً في ما يأمركم و ينهاكم، و في تدبير اموركم.

وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)عن القمّي رحمه اللّه: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من وقعة احد و دخل المدينة، نزل [عليه]جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أنّ تخرج في إثر القوم، و لا يخرج معك إلاّ من به جراحة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مناديا ينادي: يا معشر المهاجرين و الأنصار، من كانت به جراحة فليخرج، و من لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم و يداوونها، فأنزل اللّه على نبيّه وَ لا تَهِنُوا الآية (2).

و قيل: إنّها نزلت في بدر الصّغرى (3). و قد مضت كلتا القضيتين في سورة آل عمران.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 105 الی 106

إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

ص: 281


1- . الكافي 3:270/13، تفسير الصافي 1:458، و الآية من سورة مريم:19/59.
2- . تفسير القمي 1:124، تفسير الصافي 1:459.
3- . تفسير أبي السعود 2:228، تفسير روح البيان 2:277.

ثمّ أنّه تعالى بيّن-بعد الأمر بجهاد الكفّار-أنّهم و إن وجب قتالهم و قتلهم، و لكن لا يجوز خيانتهم، و لا الحكم عليهم بغير الحقّ لمن خانهم، بقوله: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ الذي هو دليل صدقك، لكونه مقرونا بِالْحَقِّ و شواهد الصّدق، و أنّه من اللّه لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ و في منازعاتهم بِما أَراكَ اَللّهُ من أحكامه، و بما عرّفك من الوحي، فاحكم به بينهم وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ و لأجلهم خَصِيماً و معارضا للبريئين و المحقّين

وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ ممّا وقع في قلبك من الحكم للخائنين و مساعدتهم إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً لمن استغفره رَحِيماً بمن تاب إليه.

في قصة سرقة

بني ابيرق

روي أن أبا طعمة بن ابيرق سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النّعمان، و خبّأها عند رجل من اليهود، فأخذ الدّرع من منزل اليهودي، فقال: دفعها إليّ أبو طعمة، فجاء بنو ابيرق إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كلّموه أن يجادل عن صاحبهم و قالوا: إن لم تفعل ذلك (1)افتضح أبو طعمة، و برئ اليهودي، فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يفعل و أن يعاقب اليهودي، فنزلت (2). و عن القمّي رحمه اللّه: أن سبب نزولها أنّ قوما من الأنصار من بني ابيرق، و هم إخوة ثلاثة: طعمة (3)و مبشر و بشير كانوا منافقين، فنقبوا على عمّ قتادة بن النّعمان، و كان بدريّا، و أخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله و سيفا و درعا، فشكا قتادة ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه، إنّ قوما نقبوا على عمّي، و أخذوا طعاما كان أعدّه لعياله، و درعا و سيفا، و هم أهل بيت سوء، و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل.

فقال بنو ابيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا، فأخذ سيفه و خرج عليهم، فقال: يا بني ابيرق، أترمونني بالسّرق و أنتم أولى به منّي، و أنتم المنافقون، تهجون رسول اللّه و تنسبونه إلى قريش، لتبيّنن ذلك أو لأملئنّ سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع رحمك اللّه، فإنّك بريء من ذلك. فمشى بنو ابيرق إلى رجل من رهطهم، يقال له اسيد بن عروة، و كان منطيقا بليغا، فمشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النّعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف و حسب و نسب، فرماهم بالسّرق، و أتاهم بما ليس فيهم. فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك، و جاء قتادة إليه، فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: «عمدت إلى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسّرقة» ، فعاتبه عتابا شديدا.

فاغتمّ قتادة من ذلك، و رجع إلى عمّه و قال: ليتني متّ و لم اكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد كلّمني بما

ص: 282


1- . في جوامع الجامع: هلك و.
2- . جوامع الجامع:96.
3- . في المصدر و تفسير الصافي: بشر.

كرهته. فقال عمّه: اللّه المستعان، فأنزل اللّه في ذلك على نبيّه إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ الآيات (1).

أقول: لا بدّ لنا-على ما ثبت عندنا من عصمة الأنبياء عن الخطأ و الزّلل-من حمل هذه الرّوايات على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأى مصلحة دينه في إظهار موافقة المنافقين و مساعدتهم إلى أن تنزل الآيات، و يكون معذورا عندهم عن الموافقة بإعذار اللّه تعالى له، كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يصدّق كلّ ما كانوا يقولون، حتّى قالوا: إنّه اذن.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 107

ثمّ نهى اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن أن يحامي عن بني ابيرق و يجادل عنهم اليهودي أو قتادة (2)، بقوله: وَ لا تُجادِلْ و لا تخاصم اليهودي أو قتادة عَنِ المنافقين اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ بنفاقهم و خيانتهم في أموال المؤمنين إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً للنّاس في أموالهم، و من كان أَثِيماً و عصيّا، فلا تحبّهم.

وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً أَثِيماً (107)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 108

ثمّ وبّخ هؤلاء المنافقين السّارقين بقوله: يَسْتَخْفُونَ و يسترون مِنَ اَلنّاسِ كفرهم و سرقتهم، و يستحيون أن تظهر أعمالهم القبيحة وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ أن يسرقوا الأموال بعينه وَ هُوَ مَعَهُمْ في جميع الأحوال، و إِذْ يُبَيِّتُونَ و يرتّبون ما لا يَرْضى به اللّه مِنَ اَلْقَوْلِ من رمي اليهودي أو لبيد ابن سهل (3)، و الحلف على براءة أنفسهم، و أمثال ذلك.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)[عن]القمي: يعني: الفعل، فوقع القول على الفعل (4).

عن الباقر عليه السّلام، في قوله: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ، قال: «الأوّل و الثاني (5)، و أبو عبيدة بن الجرّاح» (6).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث: «و قد بيّن اللّه قصص المغيّرين بقوله: إِذْ يُبَيِّتُونَ

ص: 283


1- . تفسير القمي 1:150، تفسير الصافي 1:459.
2- . راجع تفسير الآيتين المتقدمتين.
3- . راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.
4- . تفسير القمي 1:151، تفسير الصافي 1:460.
5- . في تفسير العياشي: فلان و فلان و فلان.
6- . تفسير العياشي 1:441/1111.

ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ بعد فقد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ما يقيمون به أود باطلهم، حسب ما فعلته اليهود و النّصارى بعد فقد موسى و عيسى عليهما السّلام من تغيير التّوراة و الإنجيل، و تحريف الكلم عن مواضعه» (1).

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ من النّفاق و السّرقة و البهتان مُحِيطاً و مطّلعا، فيجازيهم أسوأ الجزاء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 109

ثمّ عاتب اللّه المؤمنين الّذين كانوا يذبّون عن هؤلاء المنافقين بظنّ أنّهم من المسلمين، بقوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ المخطئون، هبوا أنّكم جادَلْتُمْ عَنْهُمْ و خاصمتم اليهودي أو قتادة، و حفظتم عرض بني ابيرق (2)فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و الدّار الفانية فَمَنْ يُجادِلُ اَللّهَ و يحامي عَنْهُمْ إذا حكم عليهم بالعذاب يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و في محضر عدله أَمْ مَنْ يَكُونُ في ذلك اليوم و تلك الحالة عَلَيْهِمْ وَكِيلاً و حافظا من بأس اللّه و عقوبته.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اَللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 110

ثمّ أنّه تعالى بعد التّهديد و الوعيد بالعذاب، دعاهم إلى التّوبة بقوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ عملا سُوءاً من السّرقة و رمي الغير بها أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بارتكاب معصية اللّه، كالحلف به كذبا ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ و يتوب إليه يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً لمعاصيه رَحِيماً و متفضّلا عليه.

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 111

ثمّ رغّب سبحانه في التّوبة بقوله: وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً من الآثام، و يحصّل بكدّ يمينه و بسوء سريرته ذنبا من الذّنوب فَإِنَّما يَكْسِبُهُ و يطلبه بجدّه ضررا عَلى نَفْسِهِ لا يتعدّى ذلك الضّرر إلى غيره وَ كانَ اَللّهُ بما يكسبه من الإثم و ما يرتكبه من الذّنب عَلِيماً و في ما يفعله من المجازاة حَكِيماً لا يجاوز عن حدّ استحقاقه.

وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 112

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112)

ص: 284


1- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 1:462.
2- . راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب إلى التّوبة بالمبالغة في عظمة خصوص المعصية التي ارتكبوها من السّرقة، و بهتان البريء، بقوله: وَ مَنْ يَكْسِبْ و يرتكب خَطِيئَةً قيل: هي الصّغيرة، أو ما يكون بغير عمد (1)، أَوْ يقترف إِثْماً كالسّرقة، أو غيرها من الكبائر ثُمَّ يَرْمِ بما يكسب و يقذف بِهِ من يكون بَرِيئاً منه فَقَدِ اِحْتَمَلَ على ظهره، بتبرئة نفسه منه، و تحميله على غيره البريء منه بُهْتاناً قبيحا، و تهمة عند موته عند العقلاء وَ إِثْماً مُبِيناً و ذنبا ظاهرا يلحقه أشدّ العقاب في الآخرة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 113

ثمّ منّ اللّه سبحانه على حبيبه بحفظه عن الخطأ في الحكم، و عصمته من زلل مساعدة الخائن، بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ و إنعامه الجزيل عَلَيْكَ بإعلامك، بتوسّط الوحي، بسوء ضمائر المنافقين، و سيّئات أعمالهم المخفيّة وَ رَحْمَتُهُ عليك بعصمتك من الزّلل، و حفظك من مكائد أهل الضّلال لَهَمَّتْ طائِفَةٌ و فرقة مِنْهُمْ قيل: هم بنو ظفر الذّابّون عن طعمة (2)أَنْ يُضِلُّوكَ عن الحكم بالحقّ بتلبيسهم الأمر عليك، وَ الحال أنّهم ما يُضِلُّونَ بسبب تعاونهم على الإثم و العدوان، و شهادتهم بالزّور و البهتان إِلاّ أَنْفُسَهُمْ عن الحقّ و طريق الجنّة، و إنّما يضرّون أنفسهم بالابتلاء بفضيحة الدّنيا، و عذاب الآخرة وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ قليل أو كثير؛ لأنّك معصوم بعصمة اللّه أبدا.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْزَلَ اَللّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)وَ لذا أَنْزَلَ اَللّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ السّماويّ الذي هو أفضل الكتب وَ اَلْحِكْمَةَ التي هي أفضل المواهب، و الرّسالة التي هي أعلى المناصب، فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الحكم بغير الحقّ؟ وَ عَلَّمَكَ مع ذلك ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ بالأسباب العاديّة من العلوم الوفيرة، بحقائق الأشياء و خفيّات الأمور، فكيف لا يعلّمك حيل المنافقين و مكائدهم، و ما تقدر به على الاحتراز منها وَ كانَ من بدو خلقتك في عالم الأنوار و الأشباح و الأجسام فَضْلُ اَللّهِ و إنعامه عَلَيْكَ عَظِيماً لا يقادر قدره.

ص: 285


1- . تفسير أبي السعود 2:230.
2- . تفسير أبي السعود 2:231، و راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ اناسا من رهط بشر (1)الأدنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نكلّمه في صاحبنا و نعذره، فإنّ صاحبنا بريء، فلمّا أنزل اللّه يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إلى قوله: وَكِيلاً (2)، أقبلت رهط بشر فقالت: يا بشر، استغفر اللّه و تب من الذّنب، فقال: و الذي أحلف به، ما سرقها إلاّ لبيد، فنزلت: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (3)، ثمّ إنّ بشرا كفر و لحق بمكّة، و أنزل اللّه في الّذين أعذروا بشرا و أتوا النبيّ ليعذره وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ الآية» (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 114

ثمّ لمّا كان المحامون عن بشر أو طعمة يتناجون في الدّفاع عنه، كما قال: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ (5)، ردع اللّه النّاس عن نجوى السّوء بقوله: لا خَيْرَ للنّاس في الآخرة، و لا فائدة فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ و إسرار بعضهم إلى بعض إِلاّ في نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ و إنفاق للمحتاجين، لوجه اللّه أَوْ فعل مَعْرُوفٍ و مستحسن عند الشّرع و العقل، كفعل الواجبات، و ترك المحرّمات أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ عند تشاجرهم و معاداتهم.

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

في فضيلة إصلاح

ذات البين

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل أهل الجنّة دخولا أهل المعروف، و صنائع المعروف تقي مصارع السّوء» (6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا اخبركم بأفضل درجة من الصّلاة و الصّدقة؟» ، قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «إصلاح ذات البين» (7).

و عن أبي أيّوب الأنصاري: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: «ألا أدلّك على صدقة خير لك من حمر النّعم؟» قال: بلى يا رسول اللّه. قال: «تصلح بين النّاس إذا تفاسدوا، و تقرّب بينهم إذا تباعدوا» (8).

و عن الصادق عليه السّلام: «الكلام ثلاثة: صدق، و كذب، و إصلاح بين النّاس-و فسّر الإصلاح-بأن تسمع من الرّجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان [قال]فيك من الخير: كذا و كذا،

ص: 286


1- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: بشير، و كذا ما بعدها، و راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.
2- . النساء:4/108 و 109.
3- . النساء:4/112.
4- . تفسير القمي 1:152، تفسير الصافي 1:461.
5- . النساء:4/108.
6- . تفسير روح البيان 2:284. (7 و 8) . تفسير روح البيان 2:284.

خلاف ما سمعت منه» (1).

و عنه، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاث يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين النّاس» (2).

قيل: إنّ عمل الخير إمّا بإيصال النفع، أو بدفع الضّرر. و النّفع إمّا جسماني؛ و هو إعطاء المال، و هو الصّدقة، و إمّا روحاني؛ و هو تكميل الغير بالقوّة النّظريّة و العملية، و هو الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر. و دفع الضّرر؛ و هو الإصلاح بين النّاس. فالآية دالّة على مجامع الخير (3).

ثمّ رغّب سبحانه فيها بقوله: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور من الأمور اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ و طلبا لثوابه، لا رياء و لا سمعة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في الدّنيا و الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يوصف ببيان.

ثمّ أنّه روى بعض العامّة أنّ طعمة هرب إلى مكّة و ارتدّ، و ثقب حائطا هناك لأجل السّرقة، فسقط الحائط عليه فمات (4).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 115

و في رواية القمّي رحمه اللّه: ثمّ إنّ بشرا كفر و لحق [بمكة]

، و نزل فيه و هو بمكّة قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ (5)و يخالفه في اتّباع دينه، و أوامره و نواهيه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ و اتّضح بالمعجزات الباهرات و الآيات البيّنات اَلْهُدى و دين الحقّ وَ يَتَّبِعْ و يسلك سبيلا غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ و طريقا غير الطّريقة التي يستمرّون عليها من الاعتقاد بالتّوحيد، و رسالة نبيّه، و العمل بأحكامه نُوَلِّهِ و نجعله يلي و يقرب ما تَوَلّى و اعتمده من دون اللّه، و اختار لنفسه من الشّرك و الضّلال، و نوكله إلى ما توكّل عليه وَ نُصْلِهِ و ندخله جَهَنَّمَ و النّار الموقدة وَ ساءَتْ جهنّم من حيث كونها مَصِيراً و منقلبا للكافرين.

وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 116

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)

ص: 287


1- . الكافي 2:255/16، تفسير الصافي 1:462.
2- . الخصال:87/20، تفسير الصافي 1:462.
3- . تفسير الرازي 11:41.
4- . تفسير أبي السعود 2:229.
5- . تفسير القمي 1:152، تفسير الصافي 1:463، و فيهما: بشير، بدل بشر.

ثمّ أنّه تعالى أكّد الإعلان بعدم شمول مغفرته للمشركين تنبيها على سوء حال طعمة (1)، و تزهيدا للنّاس من الشّرك، بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ .

قيل: جاء شيخ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّي شيخ منهمك في الذّنوب، إلاّ أنّي لم اشرك باللّه شيئا منذ عرفته، و آمنت به و لم أتّخذ من دونه وليّا، و لم أواقع المعاصي جرأة عليه، و ما توهّمت طرفة عين أنّي اعجز اللّه هربا، و إنّي لنادم تائب (2)، فما ترى حالتي عند اللّه؟ فنزلت هذه الآية (3).

ثمّ علّل عدم قابليّة الشّرك للمغفرة بقوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ عن الحقّ، و الصّراط المستقيم ضَلالاً بَعِيداً حيث إنّ الشّرك أعظم أنواع الضّلال، و أبعدها من الصّواب.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 117 الی 118

ثمّ بيّن أنّ الشّرك غاية الضّلال؛ بقوله توبيخا للمشركين: إِنْ يَدْعُونَ و ما يعبدون مِنْ دُونِهِ و ممّا سوى اللّه إِلاّ إِناثاً .

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اَللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)قيل: إنّما سمّى الأصنام إناثا؛ لأنّ العرب كانو يصوّرونها بصورة الإناث، و يلبسونها أنواع الحلل التي يتزيّن بها النّساء، و يسمّونها بأسماء المؤنّثات، نحو: اللاّت التي هي تأنيث اللّه، و العزّى التي هي تأنيث العزيز، و مناة (4).

و قيل: لم يكن حيّ من العرب إلاّ و لهم صنم يعبدونه، و يسمّونه انثى فلان (5).

و قيل: إنّ المراد من الإناث: الملائكة، حيث إنّهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه (6).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ عبادة الأوثان عين عبادة الشّيطان، بقوله: وَ إِنْ يَدْعُونَ و ما يعبدون إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً مبالغا في التّمرّد عن طاعة اللّه،

و لذا لَعَنَهُ اَللّهُ و أبعده من ساحة رحمته، و طرده عن سماواته.

ثمّ ذمّه بمعارضته له بقوله: وَ قالَ الشيطان بعد امتناعه عن السّجدة لآدم معارضة للّه، و عداوة لبني آدم: لَأَتَّخِذَنَّ يا ربّ مِنْ عِبادِكَ و إمائك نَصِيباً و حظّا وافرا مَفْرُوضاً و مقطوعا، أو مقدّرا لعبادتي و اتّباع خطواتي.

ص: 288


1- . راجع تفسير الآيتين (105 و 106) من هذه السورة.
2- . زاد في تفسير أبي السعود: مستغفر.
3- . تفسير أبي السعود 2:233.
4- . تفسير روح البيان 2:286. (5 و 6) . تفسير أبي السعود 2:233.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من كلّ ألف واحد للّه، و سائره لإبليس» (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 119

ثمّ بيّن سبحانه معنى اتّخاذه النّصيب بقوله: وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن صراط توحيدك و عبادتك.

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ اَلْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)ثمّ لمّا ادّعى إضلاله النّاس ذكر حيلته فيه، بقوله: وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ و القين في قلوبهم الآمال الباطلة، من توهّم طول العمر و تزيين جمع الأموال الكثيرة، و الالتذاذ بها سنين متطاولة، و أمثال ذلك وَ لَآمُرَنَّهُمْ ببتك آذان الأنعام و قطعها فَلَيُبَتِّكُنَّ و ليقطّعنّ امتثالا لأمري آذانَ اَلْأَنْعامِ من الإبل و البقر و الغنم، نسكا في عبادة الأوثان، بظنّ أنّ ذلك نحو عبادة لها.

و قيل: إنّ المراد: قطع اذن البحيرة، فإنّ العرب إذا ولدت ناقة لهم خمسة أبطن، و كان الخامس ذكرا، يشقّون اذنها، و يحرّمون على أنفسهم الانتفاع بها (2).

عن الصادق عليه السّلام: «ليقطّعنّ الاذن (3)من أصلها» (4).

وَ لَآمُرَنَّهُمْ بالتّغيير فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ و فطرته التي فطر النّاس عليها، كذا قيل (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «يريد دين اللّه و أمره و نهيه» (6).

و عن عكرمة: هو هنا الإخصاء، و قطع الآذان، وفقء العيون (7).

قيل: كانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوّروا عين فحلها (8).

ثمّ ردع اللّه سبحانه عن عبادة الشّيطان و اتّباعه، بقوله: وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطانَ و يختاره لنفسه وَلِيًّا و محبّا، أو متبوعا في أفعاله مِنْ دُونِ اَللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً و تضرّر ضررا عظيما فاحشا، فإنّه يحرمه من النّعم الدّائمة، و يغرّه باللّذائذ الوهميّة الفانية، و يبدّل مكانه من الجنّة و القصور العالية الباقية بمستقرّ من الجحيم الحاطمة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 120

يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (120)

ص: 289


1- . مجمع البيان 3:173، تفسير الرازي 11:47، و في مجمع البيان: و سائرهم للنّار و لابليس، و في تفسير الرازي: و سائره للناس و لابليس.
2- . تفسير الرازي 11:48.
3- . في مجمع البيان: الآذان.
4- . مجمع البيان 3:173، تفسير الصافي 1:463.
5- . تفسير الرازي 11:48.
6- . مجمع البيان 3:173، تفسير الصافي 1:463، و كلمة (نهيه) ليست في مجمع البيان و تفسير الصافي. (7 و 8) . تفسير الرازي 11:49.

ثمّ نبّه سبحانه النّاس ببطلان امنياته، و كذب عداته، بقوله: يَعِدُهُمْ الشّيطان بوسوسته وَ يُمَنِّيهِمْ بالأماني الباطلة وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ وعدا إِلاّ كان غُرُوراً و كذبا مورثا لمن اعتراه الحسرة الأبديّة.

قيل: إنّ الغرور: إظهار النّفع في ما فيه الضّرر (1).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (2)صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا، لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشّياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم و امنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة، [فإذا واقعوا الخطيئة]أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها. فوكّله بها إلى يوم القيامة» (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 121

ثمّ أوعد اللّه سبحانه أولياء الشّيطان بالعذاب الدّائم بقوله: أُولئِكَ الضّالّون المغرّرون مَأْواهُمْ و منزلهم في الآخرة جَهَنَّمُ حال كونهم خالدين فيها وَ لا يَجِدُونَ لأنفسهم مهربا عَنْها و لا مَحِيصاً و ملجأ.

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 122

ثمّ أردف سبحانه الوعيد بوعد المؤمنين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه، و رسالة رسوله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لوجه اللّه سَنُدْخِلُهُمْ في الآخرة جزاء على إيمانهم و عملهم الصّالح جَنّاتٍ ذات أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائما.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ قِيلاً (122)ثمّ لمّا كذّب مواعيد الشّيطان أكّد سبحانه صدق مواعيد ذاته المقدّسة بقوله: وَعْدَ اَللّهِ، قيل: إنّ المعنى وعد اللّه وعدا، و حقّ ذلك حَقًّا ثمّ بالغ في التأكيد بقوله: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ قِيلاً و خبرا.

ص: 290


1- . تفسير أبي السعود 2:234.
2- . آل عمران:3/135.
3- . أمالي الصدوق:551/736، تفسير الصافي 1:464.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 123

ثمّ لمّا كان من تسويلات الشيطان تغرير الإنسان بكرم اللّه، و أنّ اللّه يعفو عن السّيّئات، و يدخل الجنّة بلا عمل، نبّه اللّه النّاس بأنّ الثّواب إنّما يكون بالإيمان و العمل، لا بالامنية، بقوله: لَيْسَ النّجاة من النّار، و الدّخول في الجنّة بِأَمانِيِّكُمْ و غروركم بأنّ اللّه لا يعذّبكم، بل يدخلكم الجنّة بفضله وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ حيث إنّهم يقولون: لا يعذّبنا اللّه إلاّ أيّاما معدودة، بل الثّواب و العقاب دائران مدار العمل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً و يرتكب ذنبا يُجْزَ بِهِ إمّا في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123)و قيل: إنّ المعنى: ليس الإيمان بالتّمنّي، و لكن ما وقر في القلب و صدّقه العمل (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: ليس ما تتمنّون أنتم و لا أهل الكتاب أن لا تعذّبون بأفعالكم (2).

في (العيون) : أنّ إسماعيل قال للصّادق عليه السّلام: [يا أبتاه]ما تقول في المذّنب منّا و من غيرنا؟ فقال عليه السّلام: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (3).

وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا و شفيعا وَ لا نَصِيراً و مدافعا يدفع عنه العذاب.

عن أبي هريرة: لمّا نزلت الآية بكينا و حزنّا و قلنا: يا رسول اللّه، ما أبقت هذه الآية من شيء، فقال: «أما و الذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت، و لكن ابشروا و قاربوا و سدّدوا، إنّه لا يصيب أحدا منكم مصيبة إلاّ كفّر اللّه بها خطيئته، حتّى الشّوكة يشاكها أحدكم في قدمه» (4).

أقول: معنى قاربوا و سدّدوا: اقصدوا في اموركم، و اطلبوا بأعمالكم السّداد و الاستقامة، من غير غلوّ و لا تقصير.

عن الباقر عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال بعض: يا رسول اللّه، ما أشدّها من آية! فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أما تبتلون في أنفسكم و أموالكم و ذراريكم؟» . قالوا: بلى، قال: «هذا ممّا يكتب اللّه لكم [به]الحسنات، و يمحو به السّيّئات» (5).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدا و له ذنب ابتلاه بالسّقم، فإن لم يفعل ذلك به ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل ذلك به شدّد عليه الموت، ليكافئه بذلك الذّنب» (6).

ص: 291


1- . تفسير روح البيان 2:290.
2- . تفسير القمي 1:153، تفسير الصافي 1:464.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:234/5، تفسير الصافي 1:464.
4- . مجمع البيان 3:176، تفسير الصافي 1:465.
5- . تفسير العياشي 1:445/1123، تفسير الصافي 1:465.
6- . الكافي 2:322/1، تفسير الصافي 1:465.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 124 الی 125

وَ مَنْ يَعْمَلْ بعضا مَنْ الأعمال اَلصّالِحاتِ فإنّ أحدا لا يقدر على كلّها، سواء كان العامل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه، و رسوله، و اليوم الآخر، فإنّه لا اعتداد بالعمل من دون الإيمان فَأُولئِكَ المؤمنون العاملون يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ في الآخرة بفضل اللّه و رحمته وَ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من ثواب أعمالهم نَقِيراً و قدرا قليلا.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)قيل: النّقير: حفرة في ظهر النّواة، منها ينبت النّخل، ثمّ صار كناية عن غاية القلّة و الحقارة.

قيل: لمّا نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن و أنتم سواء، فنزلت هذه الآية إلى قوله: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً .

ثمّ لمّا شرط اللّه الإيمان و العمل في الثّواب، شرح الشّرطين بقوله: وَ مَنْ يكون من أهل الأديان أَحْسَنُ دِيناً و أقوم طريقة مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ و أخلص قلبه، و جعل جميع ماله لِلّهِ و صيّر كلّه فانيا فيه وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ في العمل مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و شريعته الموافقة لشريعة الإسلام، حال كون ذلك التّابع حَنِيفاً و مائلا عن الأديان الباطلة و الأهواء الزّائفة.

في وجه تسمية

إبراهيم عليه السّلام

بالخليل

ثمّ بيّن أصلحيّة إبراهيم عليه السّلام بالتّبعيّة من سائر الأنبياء بقوله: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ و اصطفاه من جميع خلقه لنفسه خَلِيلاً شديد المحبّة و الطّاعة له.

قيل: لمّا اطّلع إبراهيم عليه السّلام على الملكوت الأعلى و الأسفل، و دعا قومه مرّة بعد اخرى إلى التّوحيد، و منعهم عن عبادة الشّمس و القمر و النّجم و عبادة الأوثان، ثمّ سلّم نفسه للنّيران، و ولده للقربان، و ماله للضّيفان، جعله اللّه إماما للخلق و رسولا إليهم، و بشّره بأنّ الملك و النّبوّة في ذرّيّته. فلهذه الاختصاصات سمّاه خليلا؛ لأنّ محبّة اللّه لخلقه عبارة عن إيصال الخيرات و المنافع إليه.

عن الصادق عليه السّلام: «اتّخذ اللّه إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا، و أنّ اللّه اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا، و أنّ اللّه اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا، و أنّ اللّه اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما» (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث: «قولنا: إنّ إبراهيم خليل اللّه، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة، و الخلّة إنّما معناه: الفقر و الفاقة، فقد كان خليلا إلى ربّه فقيرا، و إليه منقطعا، و عن غيره متعفّفا معرضا مستغنيا،

ص: 292


1- . الكافي 1:133/2، تفسير الصافي 1:466.

و ذلك أنّه لمّا اريد قذفه في النّار فرمي به في المنجنيق، بعث اللّه إليه جبرئيل فقال له: ادرك عبدي، فجاءه فلقيه في الهواء، فقال: كلّفني ما بدا لك، فقد بعثني اللّه لنصرتك، فقال: بل حسبي اللّه و نعم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره، و لا حاجة لي إلاّ إليه، فسمّاه خليله، أي فقيره و محتاجه و المنقطع إليه عمّا سواه» .

قال: «و إذا جعل معنى ذلك من الخلّة؛ و هو أنّه قد تخلّل معانيه، و وقف على أسرار لم يقف عليها غيره، كان (1)معناه العالم به و باموره، و لا يوجب تشبيه اللّه بخلقه، ألا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله؟» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحدا، و لم يسأل أحدا قطّ إلاّ اللّه» (3).

و عنه عليه السّلام: «لكثرة سجوده على الأرض» (4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لإطعامه الطّعام، و صلاته باللّيل و النّاس نيام» (5).

و عن الهادي عليه السّلام: «لكثرة صلاته على محمّد و أهل بيته» (6).

أقول: الجامع بين الأخبار هو كمال معرفته باللّه، و طاعته له.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 126

ثمّ لمّا كان تسمية إبراهيم بالخليل موهمة لخروجه عن العبودية، و الاحتياج في ذات اللّه، دفع اللّه سبحانه التّوهّمين ببيان مالكيّته لجميع الموجودات، و كمال قدرته، بقوله: وَ لِلّهِ بالملكيّة الإشراقيّة ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ فلا يخرج أحد عن عبوديته، و لا يحتاج إلى شيء في الوهيّته.

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)قيل: لمّا لم يكن فيه دلالة على علمه و قدرته بما هو خارج عن السّماوات و الأرض، أثبت علمه و قدرته غير المتناهيين بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الموجودات مُحِيطاً علما و قدرة، فيختار منها ما يشاء، و يتفضّل بجوده على من يشاء.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 127

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

ص: 293


1- . زاد في الاحتجاج: الخليل.
2- . الاحتجاج:24، تفسير الصافي 1:466.
3- . علل الشرائع:34/2، تفسير الصافي 1:467.
4- . علل الشرائع:34/1، تفسير الصافي 1:467.
5- . علل الشرائع:34/4، تفسير الصافي 1:467.
6- . علل الشرائع:34/3، تفسير الصافي 1:467.

ثمّ لمّا وصف دين الإسلام الموافق في غالب أحكامه لملّة إبراهيم، و كان من جهات حسن الإسلام حفظ حقوق الضّعفاء، و كانت النّساء و الأيتام أضعف النّاس و أولاهم بالرّعاية، عاد إلى التّوصية بحفظ حقوقهم بقوله: وَ يَسْتَفْتُونَكَ و يسألونك عن حكم اللّه فِي شأن اَلنِّساءِ و ما لهنّ من الميراث.

عن الباقر عليه السّلام: «سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن النّساء، و ما لهنّ من الميراث، فأنزل اللّه الرّبع و الثّمن» (1).

روي أنّ عيينة بن حصين أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: اخبرنا بأنّك تعطي الابنة النّصف و الاخت النّصف، و إنّما كنا نورث من يشهد القتال، و يحوز الغنيمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كذلك امرت» (2).

فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله: قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ و يبيّن لكم ما ابهم عليكم من الحكم فِيهِنَّ و في أمر إرثهنّ أن تؤتوهنّ إرثهنّ، وَ كذا ما يُتْلى و يقرأ عَلَيْكُمْ من الآيات فِي هذا اَلْكِتابِ الكريم، يوضّح لكم فِي حقّ يَتامَى اَلنِّساءِ و في شأن البنات اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ و فرض لَهُنَّ من الميراث في آية يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ (3)، وَ تَرْغَبُونَ في أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لجمالهنّ و مالهنّ.

قيل: كانت اليتيمة عند الرّجل، فإن كانت ذات جمال و مال تزوّج بها و أكل مالها، و إن كان ذميمة فيرغب الرّجل عن أن يتزوّجها، و لا يعطيها مالها، و يمنعها عن النّكاح حتّى تموت، و يرث مالها، فنهى اللّه عن ذلك.

وَ كذا في اَلْمُسْتَضْعَفِينَ و الصّغار مِنَ اَلْوِلْدانِ هو يفتيكم أنّ تعطوا إرثهم.

قيل: إنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يورّثون الولدان، و كانوا يقولون: لا نورّث إلاّ من قاتل و دفع عن الحريم؛ فأنزل اللّه الآيات التي في أوّل السّورة و هو معنى قوله: لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ (4).

وَ في أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى في أموالهم و حقوقهم بِالْقِسْطِ و العدل، و ما يتلى عليكم من الكتاب في حقّهم قوله تعالى: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ (5).

ثمّ رغّب اللّه في حفظ تلك الحقوق بقوله: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح من أداة الحقوق المذكورة، و غيره من الصّالحات فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه أحسن الجزاء.

ص: 294


1- . تفسير القمي 1:154، تفسير الصافي 1:468.
2- . تفسير أبي السعود 2:238.
3- . النساء:4/11.
4- . مجمع البيان 3:180، تفسير الصافي 1:468.
5- . النساء:4/2.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 128

ثمّ بيّن فتوى و حكما آخر في شأن النّساء بقوله: وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها بسبب ظهور الأمارات نُشُوزاً و تجافيا عنها، و ترفّعا عن أداء حقوقها لكراهته لها أَوْ خافت إِعْراضاً له منها و طلاقها، و عدم الاعتناء بها، و الالتفات إليها مع حفظ حقوقها فَلا جُناحَ و لا حرج عَلَيْهِما إذن في أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً .

وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)قيل: نزلت في سودة بنت زمعة، كانت كبيرة مسنّة، أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طلاقها، فالتمست أن يمسكها و يجعل نوبتها لعائشة، فأجاز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك و لم يطّلقها (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: نزلت في ابن أبي السّائب، كانت له زوجة و له منها أولاد، و كانت شيخة، فهمّ بطلاقها فقالت: لا تطلّقني، و دعني أشتغل بمصالح أولادي، و اقسم في كلّ شهر ليالي قليلة، فقال الزّوج: إن كان الأمر كذلك فهو أصلح (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هي المرأة تكون عند الرّجل فيكرهها، فيقول لها: إنّي اريد أن اطلّقك، فتقول له: لا تفعل، إنّي أكره أن يشمت بي، و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، و دعني على حالتي. و هو قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً هذا هو الصّلح» (3).

ثمّ ندب اللّه تعالى إلى الصّلح بقوله: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة و سوء العشرة.

ثمّ أشار إلى بعد وقوع الصّلح بذكر علّته بقوله: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ و طبع فيها اَلشُّحَّ و البخل، فلا المرأة تسمح بحقوقها من الرّجل، و لا الرّجل يجود بحسن العشرة مع الزّوجة الذّميمة المسنّة، و لذا حثّ اللّه تعالى كلاّ منهما إلى الإحسان إلى الآخر بقوله: وَ إِنْ تُحْسِنُوا أيّها الأزواج، كلّ إلى الآخر ببذل الحقوق، و الإمساك بالمعروف، و حسن العشرة وَ تَتَّقُوا اللّه و لا تعصوه بالظّلم، و إساءة الكلام، و اللّجاج في الخصومة فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان و التّقوى خَبِيراً فيجازيكم عليه أحسن الجزاء.

قيل: إنّ الخطاب إلى غير الزّوجين، و المراد: إن تحسنوا في المصالحة بينهما، و تتّقوا الميل إلى

ص: 295


1- . تفسير الرازي 11:65.
2- . تفسير الرازي 11:65.
3- . الكافي 6:145/2، تفسير العياشي 1:447/1129، تفسير الصافي 1:469.

واحد منهما (1).

عن الزّمخشري: أنّ عمران بن حطّان الخارجي، كان من أذمّ (2)بني آدم، و امرأته من أجملهم، فنظرت إليه يوما فقالت: الحمد للّه. فقال عمران: ما لك؟ فقالت: حمدت اللّه على أنّي و إيّاك من أهل الجنّة؛ لأنّك رزقت مثلي فشكرت، و رزقت مثلك فصبرت، و قد وعد اللّه بالجنّة عبادة الشّاكرين و الصّابرين (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 129

ثمّ أمر اللّه عزّ و جلّ بالعدل و التّسوية بين الزّوجات في حسن العشرة، دون الميل القلبي، بقوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أيّها الأزواج أَنْ تَعْدِلُوا و تسوّوا بَيْنَ اَلنِّساءِ في المحبّة، و الميل القلبي كما روي (4)، أو في جميع الأمور و جميع الوجوه على رواية اخرى (5)وَ لَوْ حَرَصْتُمْ على ذلك و بالغتم فيه، و لذا لم يكلّفكم اللّه به، إذن فَلا تَمِيلُوا و لا تعرضوا عن إحداهما إلى الاخرى كُلَّ اَلْمَيْلِ و من جميع الجهات فَتَذَرُوها و تبقوها أو تتركوها كَالْمُعَلَّقَةِ لا أيّما (4)حتّى تختار زوجا، و لا ذات بعل حتّى تنتفع ببعلها.

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)و عن ابن مسعود: فتذروها كالمسجونة (5).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقسم بين زوجاته و يقول: «اللّهمّ هذا قسمي في ما أملك، و أنت أعلم بما لا أملك» (6).

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهنّ (9) .

و روي أنّ عليّا عليه السّلام كان له امرأتان، إذا كان يوم واحدة لا يتوضّا في بيت الأخرى (7).

وَ إِنْ تُصْلِحُوا بالعدل في القسم، أو ما مضى من ميلكم، و تتداركوه بالتّوبة وَ تَتَّقُوا عن الجور، أو عن الميل في المستقبل فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً لميل قلوبكم في ما مضى رَحِيماً بكم بعدم التّشديد عليكم في التّكاليف.

ص: 296


1- . تفسير الرازي 11:67.
2- . في تفسير الرازي و الكشاف: أدمّ، و الأذمّ: هو من يعلو وجهه بثر اسود فيصبح قبيح الوجه، و الأدمّ: الشديد الأدمة، أي السّمرة.
3- . تفسير الرازي 11:67، الكشاف 1:571. (4 و 5) . مجمع البيان 3:185، تفسير الصافي 1:469.
4- . الأيّم: المرأة بلا زوج بكرا أو ثيّبا.
5- . تفسير الرازي 11:68، تفسير أبي السعود 2:240.
6- . مجمع البيان 3:185، تفسير الصافي 1:470.
7- . مجمع البيان 3:185، تفسير الصافي 1:470.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 130

ثمّ أشار سبحانه إلى رجحان التّفريق عند عدم الصّلح و توافقهما عليه، بقوله: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا و أبيا من الصّلح، و اجتمعا على الطّلاق يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ من الزّوجين، و يكفي مهمّاته مِنْ سَعَتِهِ و رحمته و غناه و قدرته وَ كانَ اَللّهُ واسِعاً في القدرة و الرّحمة و الرّزق حَكِيماً و متقنا في أحكامه و أفعاله.

وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اَللّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، أنّه شكا رجل إليه الحاجة، فأمره بالتّزويج فاشتدّت به الحاجة، فأمره بالمفارقة فأثرى و حسن حاله، فقال: «أمرتك بأمرين أمر اللّه بهما، قال: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ -إلى قوله- إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1)، و قال: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ» (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 131

ثمّ قرّر اللّه سبحانه سعة قدرته و رحمته بقوله: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الموجودات، فإذا كان كذلك فهو واسع حكمة و قدرة و رحمة، فيغنيكم عن زوجكم و عن غيره.

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)ثمّ لمّا حثّ سبحانه على (3)التّقوى في الآيتين السّابقتين، بيّن اللّه أنّه شريعة عامّة، بقوله: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ السّماوي مِنْ قَبْلِكُمْ كاليهود و النّصارى و غيرهم من الملل، و أمرناهم في كتبهم وَ إِيّاكُمْ يا امّة خاتم النّبيّين في كتابكم أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ في أوامره و نواهية، وَ قلنا: إِنْ تَكْفُرُوا باللّه فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ و منه وجود الممكنات، فلا يحتاج إلى إيمانكم، و لا يتضرّر بكفرهم وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا عن جميع الموجودات، و عن إيمانكم حَمِيداً في ذاته حمدتموه أو لا تحمدوه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 132 الی 133

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)

ص: 297


1- . النور:24/32.
2- . الكافي 5:331/6، تفسير الصافي 1:470.
3- . في النسخة: إلى.

ثمّ بالغ في تقرير قدرته و غناه بقوله: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ لا يخرج عن سلطانه شيء، و هو مدبّر امور الكائنات وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً و مدبّرا للامور.

قيل: إنّ اللّه تعالى بتكرار قوله: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ إلى آخره ثلاث مرّات، قرّر ثلاثة امور: فبالمرّة الاولى قرّر سعة جوده و كرمه و حكمته في أفعاله و أحكامه. و بالمرّة الثانية قرّر غناه عن إيمان الخلق و طاعتهم و تقواهم، و عدم تضرّره بكفر الكافرين و عصيان العاصين. و بالمرّة الثالثة قرّر كمال قدرته مقدّمة للتّهديد (1)بقوله:

إِنْ يَشَأْ اللّه يُذْهِبْكُمْ و يفنيكم عن وجه الأرض أَيُّهَا اَلنّاسُ بالمرّة بحيث لا يبقى منكم أثر وَ يَأْتِ مكانكم بِآخَرِينَ من جنسكم وَ كانَ اَللّهُ عَلى ذلِكَ الإعدام و الإيجاد قَدِيراً مقتدرا، لا يمنعه عن إنفاذ إرادته شيء.

روي أنّه لمّا نزلت الآية ضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يده على ظهر سلمان رضى اللّه عنه و قال: «هم قوم هذا» يعني عجم الفرس (2).

و روي أنّه لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه، إنّه يشرك به و يجعل له الولد ثمّ هو يعافيهم و يرزقهم (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 134

ثمّ أنّه تعالى بعد التّهديد و التّرهيب على الكفر و ترك التّقوى، رغّب النّاس في الإيمان و الطّاعة بقوله: مَنْ كانَ بعمله يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا و أمتعتها الفانية فليقم إلى طاعة اللّه فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ فإنّ العاقل لا يقنع بالقليل الفاني، مع تمكّنه من الكثير الباقي وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً لأقوالكم بَصِيراً بأعمالكم و ضمائركم، فليثيبنّكم على قدر طاعتكم و خلوص نيّتكم.

مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام، قال: «كانت الحكماء و الفقهاء إذا كاتب بعضهم بعضا كتبوا بثلاث ليس معهنّ رابعة: من كانت الآخرة همّته كفاه اللّه همّه في الدّنيا، و من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، و من أصلح ما بينه و بين اللّه أصلح اللّه ما بينه و بين النّاس» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «الدّنيا طالبة و مطلوبة، فمن طلب الدّنيا طلبه الموت حتّى يخرجه منها، و من طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتّى توفيه رزقه» (5).

ص: 298


1- . تفسير الرازي 11:70.
2- . مجمع البيان 3:187، تفسير الصافي 1:471.
3- . تفسير روح البيان 2:299.
4- . الخصال:129/133، تفسير الصافي 1:471.
5- . من لا يحضره الفقيه 4:293/883، تفسير الصافي 1:471.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 135

ثمّ لمّا بيّن اللّه وجوب العدل بين الزّوجات، و الالتزام بالتّقوى، و التّرهيب من تركه، و الوعد بالثّواب عليه، بيّن وجوب العدل في العمل، و إقامته بين النّاس، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ مقيمين على العدل، مواظبين عليه، مجدّين فيه، و أقيموا العدل بين النّاس بكونكم شُهَداءَ بالحقّ لِلّهِ و طلبا لمرضاته و ثوابه وَ لَوْ كانت الشّهادة عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن تقرّوا عليها أَوِ على اَلْوالِدَيْنِ الذين هم أعزّ النّاس عندكم وَ أحقّهم عليكم، أو على الأرحام اَلْأَقْرَبِينَ .

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)و في تقديم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشّهادة بالحق إشعار بأنّ حمل الإنسان نفسه على العدل مقدّم على حمل الغير عليه، و أنّ دفع الضّرر عن النّفس أولى من دفع الضّرر عن الغير.

ثمّ نهى اللّه سبحانه عن الشّهادة بغير الحقّ، أو كتمانها طلبا لرضا الغنيّ أو ترحّما على الفقير بقوله: إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا ذا ثروة أَوْ فَقِيراً فليس لكم أن ترعوا مصلحتهما في الشّهادة فَاللّهُ الخالق لهما، المدبّر لامورهما أَوْلى بِهِما و أحقّ برعاية مصلحتهما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى و أتركوا موافقة شهوة النّفس لأجل أَنْ تَعْدِلُوا في القول، و تنطقوا بالحقّ وَ إِنْ تَلْوُوا و تحرفوا ألسنتكم عن الشّهادة بالحقّ، بأن تشهدوا بغيره أَوْ تُعْرِضُوا عن أداء الشهادة رأسا و تكتموها فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من تغيير الشّهادة أو كتمانها، و تضييع حقوق المؤمنين خَبِيراً و مطّلعا فيعاقبكم عليه أشدّ العقاب.

عن الباقر عليه السّلام: «إِنْ تَلْوُوا» أي تبدّلوا الشّهادة، أَوْ تُعْرِضُوا أي تكتموها» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «إِنْ تَلْوُوا الأمر أَوْ تُعْرِضُوا عمّا امرتم [به]» (2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ المراد بالآية: القاضي يتقدّم إليه الخصمان، فيعرض عن أحدهما، و يدافع في إمضاء الحقّ، أو لا يسوّي بينهما في المجلس و النّظر و الإشارة (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 136

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

ص: 299


1- . مجمع البيان 3:190، تفسير الصافي 1:472.
2- . الكافي 1:349/45، تفسير الصافي 1:472.
3- . تفسير روح البيان 2:301.

ثمّ لمّا كان القيام بالقسط، و الشّهادة بالحقّ و لو على النّفس، و ترك اتّباع الهوى منوطا بحقيقة الإيمان و رسوخه في القلب، أمر اللّه سبحانه بتحصيل حقيقة الإيمان بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر و باللّسان آمَنُوا في الواقع، و عن صميم القلب بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ بالتّوحيد و الرّسالة وَ اَلْكِتابِ المجيد اَلَّذِي نَزَّلَ اللّه بنحو ما عَلى رَسُولِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ دفعة مِنْ قَبْلُ أعظمه التّوراة و الإنجيل، و ازدادوا في جميع هذه العقائد طمأنينة و يقينا.

روي أنّ جماعة من أحبار اليهود جاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: يا رسول اللّه، إنّا نؤمن بك و بكتابك، و بموسى و التّوراة، و بعزير، و نكفر بما سواه من الكتب و الرّسل، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل آمنوا باللّه و برسله، و بمحمّد و بكتابه القرآن، و بكلّ كتاب كان قبله» ، فقالوا: لا نفعل. فنزلت هذه الآية (1).

ثمّ هدّد اللّه سبحانه الكافرين بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ من النّاس بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ من آدم إلى خاتم [الأنبياء] وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و دار الجزاء جميعا، أو بأحد من المذكورات فَقَدْ ضَلَّ عن صراط الحقّ ضَلالاً بَعِيداً عنه بحيث لا يكاد يصل إليه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 137 الی 138

ثمّ بيّن أنّ الإيمان المطلوب المفيد هو الإيمان المستقرّ الثّابت، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله ثُمَّ كَفَرُوا به و ارتدّوا كالمنافقين ثُمَّ آمَنُوا مرّة ثانية ثُمَّ كَفَرُوا و ارتدّوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً و أصرّوا على الجحود و إنكار الحقّ حتّى ماتوا عليه.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)قيل: إنّ المراد: اليهود، آمنوا بموسى و التّوراة، ثمّ كفروا بعزير، ثمّ آمنوا بداود، ثمّ كفروا بعيسى، ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله (2).

أقول: هذا التّفسير في غاية البعد و على أيّ تقدير لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أبدا وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً إلى الحقّ و الجنّة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في الّذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إقرارا لا تصديقا، ثمّ كفروا لمّا كتبوا الكتاب فيما بينهم أن لا يردّوا الأمر في أهل بيته أبدا، فلمّا نزلت الولاية و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق لأمير

ص: 300


1- . تفسير الرازي 11:75.
2- . تفسير الرازي 11:78.

المؤمنين عليه السّلام آمنوا إقرارا لا تصديقا، فلمّا مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفروا و ازدادوا كفرا (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في فلان و فلان و فلان، آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أوّل الأمر، ثمّ كفروا حين عرضت عليهم الولاية؛ حيث قال [النبي صلّى اللّه عليه و آله]: من كنت مولاه فعليّ مولاه. ثمّ آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام، حيث قالوا: بأمر اللّه و أمر رسوله. و بايعوه، ثمّ كفروا حيث مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يقرّوا بالبيعة، ثمّ ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء» (2).

و في رواية عنهما عليهما السّلام: «نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر [قال]: ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً حتى لم يبق فيه من الإيمان شيء» (3).

و في رواية: «من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أن الزّنا حرام ثمّ زنى، و من زعم أنّ الزّكاة حقّ و لم يؤدّها» (4).

أقول: بعض الرّوايات [في]بيان التّنزيل، و بعضها [في]بيان التّأويل فلا منافاة.

ثمّ أنّه تعالى بعدما يأس المنافقين (5)من المغفرة و الهداية إلى الحقّ أو الجنّة، أوعدهم بلفظ البشارة تهكّما بدخول النّار، بقوله: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ يا محمّد بِأَنَّ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً بالنّار أَلِيماً موجعا يخلص ألمه في قلوبهم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 139

ثمّ لمّا ذكر اللّه سوء حال المنافقين، عرّفهم بقوله: اَلَّذِينَ هم يَتَّخِذُونَ و يختارون لأنفسهم اَلْكافِرِينَ من اليهود و المشركين أَوْلِياءَ و أصدقاء و يركنون إليهم في العون و النّصرة مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ المخلصين، و بدلا منهم.

اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139)ثمّ أنكر عليهم الدّاعي لموالاتهم بقوله: أَ يَبْتَغُونَ و يطلبون لأنفسهم بموالاة الكفّار و عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ و القوّة، مع أنّهم أذلاّء عند اللّه، فقد أخطأوا في ما توهّموه فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ و القوة و الغلبة لِلّهِ وحده جَمِيعاً و بتمام مراتبها، ليس لأحد غيره و غير من جعلها له، و هم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنون،

ص: 301


1- . تفسير القمي 1:156، تفسير الصافي 1:473.
2- . الكافي 1:348/42، تفسير العياشي 1:451/1134، تفسير الصافي 1:473.
3- . تفسير العياشي 1:450/1132، تفسير الصافي 1:473.
4- . تفسير العياشي 1:451/1133، تفسير الصافي 1:473.
5- . يقال: يأسه من كذا، بمعنى أيأسه أو جعله ييأس.

كما قال: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1).

عن القمّي: نزلت في بني اميّة، حيث خالفوا [نبيّهم على]أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 140

ثمّ قرع المنافقين الموافقين للكفّار مخاطبا بقوله: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ أيّها المنافقون آية فِي هذا اَلْكِتابِ الكريم، يكون مفادها أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ من الكفّار آياتِ اَللّهِ حال كون تلك الآيات المقروءة يُكْفَرُ بِها و ينكرون كونها من اللّه وَ يُسْتَهْزَأُ بِها عند قراءتها فَلا تَقْعُدُوا في مجلس الكفرة المستهزئين، و لا تجالسوا مَعَهُمْ اختيارا حَتّى يَخُوضُوا و يشرعوا فِي حَدِيثٍ و كلام غَيْرِهِ فإن قعدتم مع الكفّار في مجلس يكفرون بالآيات و يستهزئون بها إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ عند اللّه في الكفر و العقاب، أو في الإثم، لقدرتكم على الإنكار و ترك المجالسة.

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)نقل الفخر الرازي عن المفسّرين: أنّ المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن و يستهزئون به، فأنزل اللّه: وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (3)، و هذه الآية نزلت بمكّة.

ثمّ أنّ أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، و القاعدون معهم و الموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون، فقال تعالى مخاطبا للمنافقين: إنّه وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ الآية (4)، فدلّت الآية على أنّ الرّاضي بالفسق، و الحاضر في مجلسه مع قدرته على الإنكار، في حكم المباشر و إن لم يرتكب.

عن الرضا عليه السّلام، في تفسير الآية: «إذا سمعت الرّجل يجحد الحقّ، و يكذّب به، و يقع في أهله، فقم من عنده و لا تقاعده» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «و فرض اللّه [على السمع]أن يتنزّه عن الاستماع [إلى]ما حرّم اللّه، و أن يعرض عمّا (6)نهى اللّه عنه، و الإصغاء إلى ما أسخط اللّه، فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

ص: 302


1- . المنافقون:63/8.
2- . تفسير القمي 1:156، تفسير الصافي 1:473.
3- . الأنعام:6/68.
4- . تفسير الرازي 11:81.
5- . تفسير العياشي 1:451/1135، مجمع البيان 3:195، تفسير الصافي 1:474.
6- . زاد في تفسير العياشي و الكافي: لا يحل له مما.

اَلْكِتابِ الآية، ثمّ استثنى موضع النّسيان فقال: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ» (1).

القمّي رحمه اللّه: آيات اللّه: هم الأئمّة عليهم السّلام (2).

ثمّ حقّق سبحانه كون المنافقين الموافقين للكفّار مثلهم في العقاب، بقوله: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ القاعدين مع المستهزئين بالقرآن وَ اَلْكافِرِينَ المقعود معهم يوم القيامة فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً .

سوره 4 (النساء): آیه شماره 141

ثمّ عرّف المنافقين بتعريف آخر بقوله: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ و ينتظرون بِكُمْ و بما يحدث لكم في جهاد الكفّار فَإِنْ كانَ و حصل لَكُمْ في جهاد فَتْحٌ و ظفر مِنَ جانب اَللّهِ و بعونه و تأييده قالُوا طلبا لقسمة من الغنيمة أَ لَمْ نَكُنْ موافقين مَعَكُمْ في الدّين و الدّعوة إلى الإسلام، مظاهرين لكم في القتال فأشركونا في الغنائم وَ إِنْ كانَ بحسب الاتّفاق لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ و حظّ من الغلبة على المسلمين قالُوا للكافرين تحبّبا لهم أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ و لم نستول عَلَيْكُمْ و لم نكن متمكّنين من قتلكم و أسركم بمظاهرة المسلمين فكففنا عنكم، وَ ألم نَمْنَعْكُمْ و نحفظكم مِنَ بأس اَلْمُؤْمِنِينَ بأن خيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم، و توانينا من مظاهرتهم عليكم؟

اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)قيل: إنّ الكفّار و اليهود أرادوا الدّخول في الإسلام، فحذّرهم المنافقون عن ذلك، و بالغوا في تنفيرهم عنه، و قالوا لهم: إنّه سيضعف أمر محمّد و يقوى أمركم. فإذا اتّفقت لهم الصّولة قالوا: ألسنا غلبنا على رأيكم في الدّخول في الإسلام، و منعناكم منه، فلذا فادفعوا إلينا نصيبا ممّا أصبتم.

و إنّما سمّى اللّه غلبة المؤمنين فتحا، و غلبة الكفّار نصيبا، تعظيما لشأن غلبة المسلمين، و تحقيرا لغلبة الكافرين (3).

ثمّ لمّا أجرى اللّه على المنافقين حكم الإسلام في الدّنيا لمصلحة رغبة العموم في الإسلام

ص: 303


1- . تفسير العياشي 1:452/1137، الكافي 2:29/1، تفسير الصافي 1:474، و الآية من سورة الأنعام:6/68.
2- . تفسير القمي 1:156، تفسير الصافي 1:474.
3- . تفسير الرازي 11:82.

الظّاهري و غيرها، وعد التّفريق بين المؤمنين الخلّص، و بيّن المنافقين في الآخرة مخاطبا لجميعهم بقوله: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيّها الفريقان بالفرق و الامتياز في الظّاهر يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بإكرام المؤمنين الخلّص (1)و إعطائهم الثّواب الجزيل، و إذلال المنافقين و إدخالهم النّار.

ثمّ لمّا أثبت اللّه للكفّار الغلبة الاتّفاقيّة بالسّيف، نفى عنهم الغلبة على المؤمنين بالحجّة بقوله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ و لم يفتح لهم عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً بالحجّة أبدا، و إن اتّفق لهم عليهم أحيانا و بحسب الحكمة سبيلا في القوّة.

في معنى عدم جعل

السبيل للكفار

على المؤمنين

عن الرضا عليه السّلام-في رواية-أنّه قيل له: قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي عليهما السّلام لم يقتل، و أنّه ألقي شبهة على حنظلة بن أسعد الشّامي (2)، و أنّه رفع إلى السّماء كما رفع عيسى بن مريم، و يحتجّون بهذه الآية: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً؟

فقال عليه السّلام: «كذبوا، عليهم غضب اللّه و لعنته، و كفروا بتكذيبهم النبي صلّى اللّه عليه و آله في إخباره بأنّ الحسين عليه السّلام سيقتل، و اللّه لقد قتل الحسين عليه السّلام، و قتل من كان خيرا من الحسين؛ أمير المؤمنين، و الحسن بن عليّ، و ما منّا إلاّ مقتول، و إنّي لو اللّه مقتول باغتيال من يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين.

فأمّا قوله عزّ و جلّ: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً فإنّه يقول: لن يجعل اللّه لكافر على مؤمن حجّة، و لقد أخبر اللّه عن كفّار قتلوا النّبيّين بغير الحقّ، و مع قتلهم إيّاهم لن يجعل اللّه لهم على أنبيائهم سبيلا من طريق الحجّة» (3).

و قيل: إنّ المراد من عدم جعل السّبيل في القيامة و قيل: إنّه عامّ في الكلّ إلاّ ما خصّه الدّليل (4).

أقول: الظّاهر أنّ المراد من جعل اللّه في المقام: الجعل التّشريعي لا التّكويني، و لا الأعمّ منهما حتّى يشمل الغلبة في الحرب و المصارعة و أمثالهما، و يمكن أن يكون أعمّ من جعل الآيات الدّالّة على الحقّ و الأحكام الوضعيّة أو التّكليفيّة، الموجبة لاستيلاء الكفار على المؤمنين، و لذا استدلّ الفقهاء بهذه الآية في مسائل:

منها: عدم جواز إبقاء العبد المسلم في ملك الكافر، بل يقهر الكافر على بيعه من مسلم، فإن امتنع

ص: 304


1- . في النسخة: الخلّصين.
2- . كذا، و روي الشبامي، و شبام بطن من همدان، انظر: كتاب أنصار الحسين عليه السّلام:70/18.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:203/5، تفسير الصافي 1:474.
4- . تفسير الرازي 11:83.

باعه الحاكم عليه، و يسلّم ثمنه إليه.

منها: أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم من الكافر.

منها: أنّه لا يصحّ إيجاز العبد المسلم للكافر.

منها: أنّه لا يجوز إيجار الحرّ المسلم نفسه من الكافر للخدمة، و أمّا لغيرها فلا يجوز إذا كان أجيرا خاصّا.

منها: رهن العبد المسلم عند الكافر مع قبضه له.

منها: عدم صحّة جعله وصيّا على صبيّ مسلم.

منها: عدم صحّة إعارة العبد المسلم للكافر. إلى غير ذلك، و إن كان في كثير من الفروع نظر.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 142 الی 143

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه خدع المنافقين بالمؤمنين و الكافرين، بيّن إفراطهم في الخدعة بقوله: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ و يمكرونه. و قد مرّ تفسير خدعهم باللّه (1)في سورة البقرة (2).

إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)و قيل: إنّ المراد بخدعهم باللّه: خدعهم برسوله و المؤمنين، تنزيلا لخدعهم بهم بإظهار الإيمان و إبطان الكفر منزلة خدعهم له تعالى (3).

وَ هُوَ خادِعُهُمْ و مجازيهم بالعقاب على خدعهم.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه تعالى يخادعهم في الآخرة، و ذلك أنّه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين، فإذا وصلوا إلى الصّراط انطفأ نورهم و بقوا في الظّلمة (4).

ثمّ شرح اللّه بعض أنواع خداعهم بقوله: وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ مع المؤمنين و في جماعتهم قامُوا حال كونهم كُسالى متثاقلين متباطئين لضعف داعيهم إلى الصّلاة حيث إنّهم لكفرهم لا يرجون بها ثوابا، و لا يخافون من تركها عقابا، بل بفعلها يُراؤُنَ اَلنّاسَ ليحسبوهم مؤمنين لا داعي لهم إلى الصّلاة غيره وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ في صلواتهم مع المؤمنين و في جماعتهم إِلاّ ذكرا قَلِيلاً من أذكار الصّلاة، و هو الذي يظهر للمؤمنين كالتّكبيرات، و أمّا الذي الذي مثل القراءة

ص: 305


1- . عدّى الفعل (خدع) بالباء في جميع المواضع المتقدمة و الآتية، و الصواب أنّه متعد بنفسه كما في الآية.
2- . تقدم في تفسير الآية (9) من سورة البقرة.
3- . تفسير الرازي 11:83.
4- . تفسير الرازي 11:83.

و التّسبيحات و أمثالها، فلا يذكرونها.

هذا [في]

كيفيّة عملهم، و أمّا حالهم من حيث الإيمان و الكفر فانّهم (1)يكونون مُذَبْذَبِينَ و متحيّرين في الإيمان و الكفر، و متردّدين بَيْنَ ذلِكَ المذكور لاختلاف الدّواعي في نظرهم، فقد يرون نفعهم في موافقة المؤمنين فيكونون معهم، و قد يرون نفعهم في موافقة الكفّار فيكونون معهم، فلذلك لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين ينسبون وَ لا إِلى هؤُلاءِ الكفّار يضافون، فهم دائمون في الحيرة و الضّلال في امور دينهم و دنياهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ و يخذله لخبث ذاته، و عدم قابليّته للهداية فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا سَبِيلاً إلى الحقّ، و طريقا إلى الجنّة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 144

ثمّ لمّا ذمّ اللّه سبحانه المنافقين بموالاة الكفّار، نهى المؤمنين عنها بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا لأنفسكم اَلْكافِرِينَ الّذين هم أعداؤكم و أعداء دينكم أَوْلِياءَ و أصدقاء مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ الخلّص و بدلا منهم، و لا تتوقّعوا منهم النّصرة، فإنّ موالاتهم من شعار المنافقين أَ تُرِيدُونَ بهذا الصّنيع أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ على نفاقكم و فساد عقائدكم سُلْطاناً مُبِيناً و حجّة ظاهرة لا يمكنكم دفعها.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)قيل: إنّ الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع و حلف و مودّة، فقالوا: يا رسول اللّه، من نتولّى؟ فقال: «المهاجرين» فنزلت (2).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 145 الی 146

ثمّ ذكر سبحانه سوء حال المنافقين في الآخرة تنفيرا لقلوب المؤمنين عن موادّتهم، بقوله: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ في الآخرة مستقرّون فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ و القعر الأنزل مِنَ اَلنّارِ، قيل: هي الهاوية، و عذاب من فيها أشدّ ممّن (3)في الطّبقات السّت الاخر (4).

إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

ص: 306


1- . في النسخة: كأنّهم.
2- . تفسير الرازي 11:86.
3- . في النسخة: من.
4- . تفسير روح البيان 2:309.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه، [و قد سئل]عن الدّرك الأسفل، فقال: هو توابيت من حديد مبهمة عليهم، لا أبواب لها (1).

ثمّ بيّن انقطاع طمعهم عن الخلاص بقوله: وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً و مخلّصا من النّار

إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا و رجعوا عن كفرهم و نفاقهم وَ أَصْلَحُوا أيضا أعمالهم و أخلاقهم وَ اِعْتَصَمُوا و واثقوا بِاللّهِ بالتّمسّك بحبل شريعته وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ عن الشّوب بالأهوية (2)الفاسدة لِلّهِ لا يبتغون بطاعته و إيمانهم به إلاّ رضاه فَأُولئِكَ الموصوفون بتلك الصّفات الحميدة يكونون في الدّرجات العالية الاخرويّة مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ الّذين كانوا من بدو إيمانهم مؤمنين وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ في الآخرة و الدّنيا اَلْمُؤْمِنِينَ الخلّص عموما أَجْراً عَظِيماً لا يمكن بيان عظمته و قدره.

و في جعل التّائبين عن النّفاق تبعا للمؤمنين الخلّص في الأجر، إشعار بتشريف المؤمنين الخلّص عليهم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 147

ثمّ أنّه تعالى بعد وعيد المنافقين بأشدّ العذاب، و وعدهم على الإيمان و التّوبة و العمل الصّالح بأعلى الثّواب منه. جعل العذاب على الكفر و العصيان لتحميل النّاس على الإيمان و الطّاعة، لطفا بهم، لا للتّشفّي، أو جلب النّفع إلى نفسه، أو دفع الضّرر عنها، بقوله: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ و أيّ داع له إلى عقابكم إِنْ شَكَرْتُمْ نعمه و امتثلتم أحكامه وَ آمَنْتُمْ به و برسوله و اليوم الآخر، بل إنّما أمركم بما أمر و نهاكم عمّا نهى حفظا لمصالحكم، و تكميلا لنفوسكم وَ كانَ اَللّهُ مع ذلك لطاعتكم شاكِراً بإعطاء الأجر، و بذل الثّواب عَلِيماً بها و بمقدار ما تستحقّون من الأجر عليها.

ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 148

ثمّ لمّا كان المنافقون التّائبون-بعد توبتهم و تخليص إيمانهم-في معرض الذّمّ و التّعيير لما سبق منهم من فساد العقيدة و سوء الأعمال، نهى اللّه تعالى عن القول السّيّء بقوله: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ و التّظاهر بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ في حقّ أحد، سواء كان القول السّيّء سبّا أو غيبة أو بهتانا أو تعييرا، لا

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)

ص: 307


1- . تفسير روح البيان 2:309.
2- . كذا، و الظاهر: بالأهواء؛ لأنّ الأهوية جمع هواء، و الأهواء جمع هوى و هو المراد.

بل يبغضه من كلّ أحد إِلاّ مَنْ ظُلِمَ به و اسيء إليه، بأن يدعو على المسيء، أو يذكر إساءته، أو يشتكي منه بأن يقول: ضربني ظلما، أو شتمني، أو غصب أو سرق مالي، أو يردّ بالشّتيمة على شاتمه.

عن الباقر عليه السّلام: «لا يحبّ اللّه الشّتم في الانتصار إلاّ من ظلم، فلا بأس أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدّين» (1)الخبر.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه الضّيف ينزل بالرّجل، فلا يحسن ضيافته، [فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله» (2).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «ممن أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم]فلا جناح في ما قالوا فيه» (3).

و في رواية: «إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثّناء و العمل الصّالح، فلا تقبله منه و كذّبه، فقد ظلمك» (4).

ثمّ هدّد المجاهر بالسّوء بقوله: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً لاقوالكم السّيّئة عَلِيماً باستحقاقكم و مقدار جزائكم.

قيل: نزلت في أبي بكر، فإنّ رجلا شتمه مرارا فسكت، ثمّ ردّ عليه، فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال أبو بكر: شتمني و أنت جالس، فلمّا رددت عليه قمت؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله «إنّ ملكا كان يجيب عنك، فلمّا رددت عليه، ذهب ذلك الملك و جاء الشّيطان، فلم أجلس عند مجيء الشّيطان» . فنزلت هذه الآية (5).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 149

ثمّ لمّا أذن اللّه سبحانه في الوقوع في الظّالم، و إساءة القول له، رغّب في العمل بالخير و الإحسان إلى الخلق، و العفو عن إساءتهم بقوله: إِنْ تُبْدُوا و تظهروا خَيْراً و برّا و إحسانا أَوْ تُخْفُوهُ و تسرّوه أَوْ تَعْفُوا عَنْ كلّ سُوءٍ و لا تنتقموا من الظّالم مع قدرتكم على الانتقام، و لا تقابلوه بالقول السّيّء، و تتخلّفوا بأخلاق اللّه فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا عن العصاة و عن المسيء و المساء إليه مع كونه قَدِيراً على عقوبتهم و الانتقام منهم فأنتم أولى بالعفو.

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 150 الی 151

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)

ص: 308


1- . مجمع البيان 3:201، تفسير الصافي 1:476.
2- . مجمع البيان 3:202، تفسير الصافي 1:476.
3- . تفسير العياشي 1:453/1141، تفسير الصافي 1:476.
4- . تفسير القمي 1:157، تفسير الصافي 1:476.
5- . تفسير الرازي 11:91.

ثمّ لمّا كان أغلب المنافقين من اليهود، شرع في ذمّ اليهود بعد الفراغ من ذمّ المنافقين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ و لكن لا بالصّراحة، بل بالالتزام لما نسبه إليهم بقوله: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا في الإيمان بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ بأن يؤمنوا به تعالى و يكفروا بهم، و لكن لا بالتّصريح بهذا التّفريق، بل هو المدلول الالتزامي لما حكاه عنهم بقوله: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرّسل كموسى و عزير وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ آخر كعيسى و محمّد، مع أنّ الكفر بأحد الرّسل كفر بجميعهم، و الكفر بجميعهم كفر باللّه عزّ و جلّ.

وَ يُرِيدُونَ بقولهم بالتّفريق في الإيمان بينهم أَنْ يَتَّخِذُوا و يختاروا بَيْنَ ذلِكَ الإيمان و الكفر المطلق سَبِيلاً و مذهبا وسطا، مع أنّه لا واسطة بينهما، فإنّ الإيمان باللّه لا يتمّ إلاّ بالإيمان برسله، و تصديقهم في ما بلّغوا عنه، و تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب جميعهم؛

فلذلك أُولئِكَ المفرّقون بين الرّسل المبغّضون في الإيمان هُمُ اَلْكافِرُونَ المنتهون في الكفر إلى الغاية، و حقّ ذلك القول حَقًّا لا يشوبه شك و لا ريب.

ثمّ أوعدهم بعقاب الكفّار بقوله: وَ أَعْتَدْنا في الآخرة لِلْكافِرِينَ الّذين هؤلاء المفرّقون من أظهر مصاديقهم عَذاباً مُهِيناً و عقوبة مقرونة بغاية الذّل، لاستكبارهم عن الإيمان بالرّسل.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 152

ثمّ أتبع ذمّ الكفّار و وعيدهم بمدح المؤمنين و وعدهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ كلّهم وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان و التّصديق؛ مع كون جميعهم ذوي المعاجز الباهرة و الآيات الظّاهرة أُولئِكَ الكاملون في الإيمان سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ اللّه تعالى من فضله في الآخرة أُجُورَهُمْ التي وعدهم على لسان رسله وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً لما فرط منهم؛ رَحِيماً بهم بتضعيف حسناتهم، و استغراقهم بأنواع النّعم الدّائمة.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 153

ص: 309

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه اليهود باقتراحهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما اقتراح أسلافهم على موسى، بقوله: يَسْئَلُكَ اليهود الّذين هم أَهْلُ اَلْكِتابِ و المؤمنون بالتّوراة أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ .

يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)قيل: إنّهم قالوا: إن كنت رسولا من عند اللّه فأتنا بكتاب من السّماء جملة، كما جاء موسى بالألواح. و قيل: طلبوا أن ينزّل كتابا من السّماء إلى فلان، و كتابا إلى فلان بأنّك رسول اللّه (1). و قيل: كتابا نعاينه حين نزوله (2).

و لمّا كان سؤالهم عن التّعنّت و اللّجاج لظهور معجزات النبيّ أكثر ممّا يحتاج إليه في ظهور صدقه، و لم يحسن إجابة مسؤولهم، أجابهم بأنّ طباعكم مجبولة على التّعنّت و الاقتراح، فإنّكم أولاد الّذين اقترحوا و تعنّتوا على نبيّهم العظيم الشأن فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ و أعظم مِنْ ذلِكَ السّؤال، و لم يكتفوا بنزول التّوراة دفعة و جملة، و بظهور الآيات و المعجزات في تصديقه بأنّ اللّه يكلّمه، حتّى اختار سبعين رجلا من كبرائهم و صلحائهم، فذهب بهم إلى جبل طور ليسمعوا كلام اللّه، فلمّا سمعوا أنّ اللّه كلّمه سألوه أن يريهم اللّه حتّى ينظروا إليه بأبصارهم فَقالُوا لموسى عليه السّلام: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً و عيانا حتّى نصدّقك فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ و شعلة النّار من السّماء فأحرقتهم بِظُلْمِهِمْ على أنفسهم و تعنّتهم على نبيّهم.

ثُمَّ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم اَلْعِجْلَ الذي صنعه السّامري من حليّهم إلها و معبودا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ المعجزات اَلْبَيِّناتُ من العصا، و اليد البيضاء، و فلق البحر، و غير ذلك فَعَفَوْنا و تجاوزنا عَنْ ذلِكَ الذّنب العظيم بعد توبتهم، و لم نستأصلهم بالعذاب مع استحقاقهم له وَ آتَيْنا مُوسى مع شدّة لجاج قومه على خلاف العادة سُلْطاناً مُبِيناً و غلبة ظاهرة على أعدائه حتّى ظهر دينه و قوي أمره. و في ذلك بشارة للرّسول بنصرته و ظهور دينه، كما صرّح بتلك البشارة بقوله: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 154

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

ص: 310


1- . غافر:40/51.

ثمّ بالغ سبحانه فى بيان شدّة لجاجهم و طغيانهم بقوله: وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً -و قد مرّ تفسير القضيّتين في سورة البقرة (1)- وَ قُلْنا لَهُمُ بلسان نبيّهم لا تَعْدُوا و لا تتجاوزوا حدود اللّه فِي يوم اَلسَّبْتِ باصطياد الحيتان وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ على العمل بأحكام التّوراة عموما، أو ترك الصّيد في السّبت مِيثاقاً و عهدا غَلِيظاً وكيدا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 155

ثمّ نقضوا الميثاق، و خالفوا التّوراة، و اصطادوا في السّبت فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و بسبب خلفهم عهدهم وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ و حججه الظّاهرة من القرآن، أو جميع المعجزات، أو خصوص آيات التّوراة الدّالّة على صفات النبيّ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ كزكريّا و يحيى بِغَيْرِ حَقٍّ مع ظهور نبوتهم لهم وَ قَوْلِهِمْ في مقام اللّجاج جوابا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: قُلُوبُنا غُلْفٌ و مغشّاة، أو أوعية العلم، و مع ذلك لا خير فيها من نبوّتك.

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (155)ثمّ ردّهم اللّه بقوله: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ و ختم عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ و جحودهم، فحجبت عن العلم خذلانا من اللّه، و قست بحيث لا تؤثّر فيها الدّعوة و الموعظة، و لذا فَلا يُؤْمِنُونَ بالأنبياء إِلاّ قَلِيلاً منهم كموسى و عزيرا، أو إيمانا قليلا لا يعبأ به.

قيل: إنّ التّقدير: أنه بسبب هذه المعاصي لعنّاهم و جعلنا قلوبهم قاسية.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 156

وَ كذا بِكُفْرِهِمْ و إنكارهم قدرة اللّه على خلق الولد بغير أب وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بنت عمران بُهْتاناً عَظِيماً و فرية في غاية القباحة من نسبة احتبالها إلى الزّنا، مع أنّ اللّه تقبّلها بقبول حسن لخدمة البيت المقدّس، و كفّلها زكريّا، و شهد بطهارتها، و تكلّم عيسى في المهد، إلى غير ذلك من الأدلّة القاطعة عند اليهود على أنّ هذا القول في حقّها بهت صرف.

وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)

في نقل بهتان الفخر

الرازي على

الشيعة و تكذيبه

قال الفخر الرازي، بعد ذكر براءة مريم من كلّ ريبة: فلا جرم وصف اللّه تعالى طعن اليهود فيها بأنّه بهتان عظيم، و كذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنّه بهتان عظيم، حيث قال: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (2)و ذلك يدلّ على أنّ الرّوافض

ص: 311


1- . تقدم في تفسير الآيتين (63 و 93) من سورة البقرة.
2- . النور:24/16.

الّذين يطعنون في عائشة بالزّنا (1)بمنزلة اليهود الّذين قالوا في مريم (2).

أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم على الشّيعة، انظروا إلى الرّجل كيف افترى على الشّيعة بما هم براء منه، فإنّ أحدا من الشّيعة لم يطعن في عائشة بذلك لقطعهم ببراءتها من الفحش، لكرامة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا لكمال ذاتها و طهارتها من المعصية، لصدور ما هو أكبر من الزّنا منها كخروجها على خليفة الرّسول، و إيذائها لفاطمة البضعة. بل نقول بعصمة جميع زوجات النبيّ عن الفاحشة تنزيها له صلّى اللّه عليه و آله من الشّين.

فإصرار النّاصب بطهارتها من المعصية ردّ للكتاب النّاطق بعصيانها، حيث قال سبحانه: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ (3)الآية.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 157

ثمّ حكى سبحانه و تعالى افتخار اليهود بقتل الأنبياء بقوله: وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ مفتخرين به مع كونه رَسُولَ اَللّهِ .

وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)ثمّ كذّبهم اللّه في هذه الدّعوى بقوله: وَ ما قَتَلُوهُ بل وَ ما صَلَبُوهُ أصلا وَ لكِنْ شُبِّهَ المقتول و المصلوب لَهُمْ، قيل: يعني: وقع الشّبة لهم (4).

في رفع عيسى عليه السّلام

إلى السماء

روي أنّ رهطا من اليهود سبّوه و قالوا: هو السّاحر بن السّاحرة، و الفاعل بن الفاعلة. فقذفوه و امّه فلمّا سمع عليه السّلام ذلك دعا عليهم، فقال: [اللّهم]أنت ربّي و أنا من روحك خرجت، و بكلمتك خلقتني، و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللّهمّ فالعن من سبّني و سبّ امّي. فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امّه قردة و خنازير، فلمّا رأى ذلك يهودا رأس القوم و أميرهم فزع لذلك، و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السّلام، فبعث اللّه جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه إلى السّماء، فقال لأصحابه: أيّكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي، فيقتل و يصلب فيدخل الجنّة، فقال رجل منهم: أنا، فالقي شبهه عليه فقتل و صلب (5).

و قيل: إنّ الشّبه القي على وجهه دون بدنه، فلمّا قتلوه نظروا إلى بدنه فقالوا: الوجه وجه عيسى،

ص: 312


1- . (بالزنا) لم ترد في المصدر.
2- . تفسير الرازي 11:99.
3- . التحريم:66/4.
4- . تفسير روح البيان 2:317.
5- . تفسير روح البيان 2:317.

و البدن بدن غيره (1).

و قيل: إنّ اليهود حبسوا عيسى عليه السّلام مع عشرة من الحواريّين في بيت، فدخل [عليه]رجل [من اليهود]ليخرجه و يقتله، فألقى اللّه شبه عيسى عليه، [و رفع إلى السماء]فأخذوا ذلك الرّجل و قتلوه على أنّه عيسى، ثمّ قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ و إن كان صاحبنا فأين عيسى؟ (2)

فأشار سبحانه إلى اختلاف اليهود في قتله بقوله: وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ من اليهود و النّصارى- كما قيل إنّهم أيضا مختلفون في قتله (1)-أو [من]الفريقين الّذين خالفوا و أعتقدوا قتله لَفِي شَكٍّ مِنْهُ و تردّد فيه ما لَهُمْ بِهِ شيء مِنْ عِلْمٍ و اعتقاد جازم، و ليس لهم في ادّعاء قتل عيسى، أو في جميع الأمور الدّينيّة عمل و دأب إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ و لا يغني الظّنّ من الحقّ شيئا.

ثمّ أكّد سبحانه تكذيبهم في دعوى قتله بقوله: وَ ما قَتَلُوهُ قتلا يَقِيناً أو المراد: أنّ نفي القتل يكون يقينا و حقّا، لا ينبغي أن يشكّ فيه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 158

ثمّ أضرب و أعرض عن الدّعوى الكاذبة بقوله: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ و إلى سمائه و محلّ كرامته و قربه.

بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)قيل: إنّ الحكمة في رفعه إلى السّماء تبرّك الملائكة بصحبته؛ لأنّه كلمة اللّه و روحه (4).

و قيل: إنّه لمّا لم يكن دخوله في الدّنيا من باب الشّهوة، لم يكن خروجه منها من باب المنيّة، بل دخل من باب القدرة، و خرج من باب العزّة (5).

أقول: فيه نظر، إذ لا بدّ من خروجه بعد عوده إلى الأرض من باب المنيّة؛ لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ (2). و يمكن أن يكون الحكمة في رفعه إلى السّماء تقريب صحّة دعوى الرّسول العروج إلى السّماء، و الاستدلال به على إمكانه.

ثمّ دفع اللّه سبحانه استبعاد رفعه إلى السّماء بهذا البدن العنصري، بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً غالبا على أمره، قادرا على ما يريد حَكِيماً في أفعاله.

عن السّجاد عليه السّلام: «أنّ للّه بقاعا في سماواته، فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه، ألا تسمع اللّه يقول في قصّة عيسى بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ؟» (3).

ص: 313


1- . تفسير روح البيان 2:318. (4 و 5) . تفسير روح البيان 2:319.
2- . آل عمران:3/185.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:127/603، تفسير الصافي 1:479.

و عن القمّي رحمه اللّه: رفع و عليه مدرعة من صوف (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم، و من نسج مريم، و من خياطة مريم، فلمّا انتهى إلى السّماء نودي: يا عيسى، ألق عنك زينة الدّنيا» (2).

و في (الإكمال) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أن عيسى بن مريم أتى بيت المقدس، فمكث يدعوهم و يرغّبهم في ما عند اللّه ثلاثا و ثلاثين سنة، حتّى طلبته اليهود و ادّعت أنّها عذّبته و دفنته في الأرض حيّا، و ادّعى بعضهم أنّهم قتلوه و صلبوه، و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنّما شبّه لهم، و ما قدروا على عذابه و دفنه، و لا على قتله و صلبه؛ لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 159

ثمّ حرّض اللّه اليهود بالإيمان (4)بنبوّة عيسى عليه السّلام، و النّصارى بالإيمان بأنّه عبد اللّه و رسوله حين ينفعهم الإيمان به، بقوله: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى أحد إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ و زهوق روحه، و حين معاينة عالم الآخرة و لكن لا ينفعه إيمانه.

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)قيل: إنّه إذا حضرت اليهودي الوفاة و عاين الآخرة، ضربت الملائكة وجهه و دبره و قالت: أتاك عيسى نبيّا فكذّبت به، فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و تقول للنّصراني: أتاك عيسى عبد اللّه، فزعمت أنّه هو اللّه و ابن اللّه، فيؤمن بأنّه عبد اللّه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع التّكليف (5).

روي عن شهر بن حوشب، قال: قال الحجّاج: إنّي ما قرأتها إلاّ و في نفسي منها شيء-يعني هذه الآية-فإنّي أضرب عنق اليهودي و لا أسمع منه ذلك، فقلت: إنّ اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه و دبره و قالوا: يا عدوّ اللّه، أتاك عيسى نبيّا فكذّبت به، فيقول: آمنت به، و تقول للنّصراني: أتاك عيسى نبيّا فزعمت أنّه هو اللّه و ابن اللّه، فيقول: آمنت أنّه عبد اللّه، فأهل الكتاب يؤمنون به و لكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجّاج جالسا و قال: عمّن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ [ابن]الحنفيّة، فأخذ ينكث بقضيبه الأرض ثمّ قال: أخذتها من عين صافية (6).

ص: 314


1- . تفسير القمي 1:224، تفسير الصافي 1:479.
2- . تفسير العياشي 1:310/692، تفسير الصافي 1:479.
3- . كمال الدين:225/20، تفسير الصافي 1:480.
4- . كذا، و الظاهر: على الايمان.
5- . تفسير روح البيان 2:320.
6- . تفسير الرازي 11:103.

و عن القمّي، عن شهر ما يقرب منه، إلى أن قال: فقلت: أصلح اللّه الأمير، ليس على ما تأوّلت، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدّنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلاّ آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهدي عليه السّلام، قال: ويحك، أنّى لك هذا، و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، فقال: جئت بها [و اللّه]من عين صافية (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في تفسيرها: «ليس من أحد من جميع أهل الأديان يموت إلاّ رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا من الأوّلين و الآخرين» (2).

و في (الجوامع) : عنهما عليهما السّلام: «حرام على روح [امرئ]أن تفارق جسدها حتّى ترى محمّدا و عليّا صلوات اللّه عليهما» (3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هذه نزلت فينا خاصّة، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّهُ عَلَيْنا» (4).

و في (المجمع) : في أحد معانيه: «ليؤمننّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل موت الكتابيّ» (5).

وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عيسى عليه السّلام أو محمّد صلّى اللّه عليه و آله يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فيشهد على اليهود بالتّكذيب، و على النّصارى بأنّهم دعوا عيسى ابن اللّه.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 160 الی 161

ثمّ بعد ذكره سبحانه فضائح اليهود، ذكر تشديده عليهم في الدّنيا بقوله: فَبِظُلْمٍ عظيم صادر مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا لا بغيره من الأسباب حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ و لذائذ مخصوصة من الأطعمة التي أُحِلَّتْ لَهُمْ و لمن قبلهم، كلحوم الإبل و ألبانها، و الشّحوم وَ بِصَدِّهِمْ و منعهم عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ من الإيمان بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الدّخول في دين الإسلام صدّا و منعا كَثِيراً بإلقاء الشّبهات

فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)

ص: 315


1- . تفسير القمي 1:158، تفسير الصافي 1:480.
2- . تفسير العياشي 1:455/1148، تفسير الصافي 1:480.
3- . جوامع الجامع:101، تفسير الصافي 1:480.
4- . تفسير العياشي 1:454/1145، تفسير الصافي 1:481، و الآية من سورة يوسف:12/91.
5- . مجمع البيان 3:212، تفسير الصافي 1:480.

و المكائد و التّسويلات

وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا من النّاس، وَ الحال أنّهم قَدْ نُهُوا عَنْهُ في التّوراة و غيرها من الكتب وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ و بغير الوجه المحلّل، كالرّشوة و غيرها.

ثمّ ذكر تشديده عليهم في الآخرة بقوله: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ دون المؤمنين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، ككثير من الأحبار عَذاباً أَلِيماً في الآخرة.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 162

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار و ذكر قبائح أعمالهم و سوء عاقبتهم، ذكر محامد المؤمنين و حسن عاقبتهم على حسب دأبه في الكتاب العزيز بقوله: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ و المستغرقون فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ بحيث لا يضطربون بإلقاء الشّبهات، و لا يميلون إلى الخرافات بالتّسويلات وَ اَلْمُؤْمِنُونَ الخلّص يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب و صدق النّيّة بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَ ما أُنْزِلَ إلى سائر الأنبياء مِنْ قَبْلِكَ من الكتب السّماويّة، وَ أخصّ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ بالمدح.

لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)و قيل: إنّه معطوف على ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (1)، و المعنى: يؤمنون بالمقيمين الصّلاة، و المراد بهم الأنبياء و الملائكة. وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ من أموالهم وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و إنّما قدّم سبحانه الإيمان بالكتب و الأعمال الصّالحة على الإيمان باللّه و بالمعاد لكونه المقصود الأهمّ في المقام.

أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصّفات الحميدة سَنُؤْتِيهِمْ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا لا يقادر قدره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 163

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة إنكار اليهود و تعنّتهم على الرّسول، بيّن أنّ الرّسالة ليست من البدائع و الأمور الجديدة غير المأنوسة، بل كانت في جميع الأزمان تقريبا للأذهان، و دفعا للتّحاشي عن

إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)

ص: 316


1- . تفسير أبي السعود 2:254.

الطّباع، بقوله: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ و شرّفناك بمنصب الرّسالة كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ الّذين كانوا مِنْ بَعْدِهِ يروّجون شريعته إلى زمان إبراهيم عليه السّلام، وَ كما أَوْحَيْنا بعدهم إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ بن إسحاق، وَ أنبياء اَلْأَسْباطِ الاثني عشر، و هم أولاد يعقوب، وَ إلى عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ .

و في ذكر هؤلاء بأسمائهم، مع كونهم من الأسباط و كون الأنبياء أكثرهم منهم، دلالة على أفضليّتهم من الغير المذكورين. و إنّما قدّم ذكر نوح لكونه آدم الثّاني، و أوّل من شرع اللّه على لسانه الأحكام، و أوّل اولي العزم من الرّسل.

ثمّ أجمل في ذكر سائر الأنبياء الّذين كانوا بعده، ثمّ ذكر الأفاضل منهم تفصيلا، و بدأ بذكر إبراهيم عليه السّلام لكونه أفضل المذكورين و أقدمهم، و ثاني اولي العزم، ثمّ ذكر أنبياء الأسباط بنحو الإجمال، ثمّ ذكر أسماء أفاضلهم، و بدأ في هذا التّفصيل بذكر اسم عيسى، لكونه أفضل المذكورين في الآية و ثالث اولي العزم و لتبكيت اليهود، حيث إنّهم شدّدوا في إنكار نبوّته و صحّة نسبه.

في بيان الزبور

و تلاوة داود عليه السّلام

إيّاه

ثمّ خصّ داود عليه السّلام من بينهم بفضيلة إيتائه الكتاب بقوله: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً لشهرة كتابه بين اليهود و نزوله نجوما كالقرآن، فأشار بذكره إلى أنّه لو كان نزول كتاب نجوما قادحا فيه، لكان على اليهود القدح في الزّبور، مع أنّهم يعظّمونه غاية التعظيم.

قيل: كان فيه مائة و خمسون سورة ليس فيها حكم، و إنّما هي حكم و مواعظ و تحميد و تمجيد و ثناء على اللّه عزّ و جلّ، و كان داود يبرز إلى البريّة و يقرأ الزّبور، فيقوم علماء بني إسرائيل خلفه، و يقوم النّاس خلف العلماء، و يقوم الجنّ خلف النّاس، و تجيء الدّواب التي في الجبال إذا سمعت صوت داود، فيقمن بين يديه تعجّبا لما يسمعن من صوته، و تجيء الطّير حتّى يظلّلن على داود في خلائق لا يحصيهنّ إلاّ اللّه، يرفرفن على رأسه، و تجيء السّباع حتّى تحيط بالدّواب و الوحش لما يسمعن، فلمّا قارف الذّنب (1)-و هو تزوّج امرأة اوريا من غير انتظار الوحي بجبرئيل عليه السّلام-لم يروا ذلك (2).

في ذكر عدد

الأنبياء و الرسل

ثمّ أنّه تعالى ذكر أسماء الأنبياء المشهورين، و لم يذكر موسى عليه السّلام معهم، لأنّ اليهود كانو يحتجّون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ كتابك لو كان من السّماء لكان ينزل دفعة كما

ص: 317


1- . اقتراف الذنوب ممّا لا يجوز على الأنبياء عليهم السّلام لأنهم معصومون، و لا يبعد أن تكون حكاية زواج داود عليه السّلام من امرأة اوريا هي من الروايات الاسرائيلية التي تسربت إلى ساحة التفسير، و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «لا اؤتى برجل يزعم أن داود عليه السّلام تزوج بامرأة اوريا إلا جلدته حدّين: حدّ النبوة، و حدّ الاسلام» راجع تنزيه الأنبياء/للسيد المرتضى:90-92.
2- . تفسير روح البيان 2:323.

انزلت التوراة على موسى دفعة، فأجاب اللّه عن تلك الشّبهة بأن هؤلاء المذكورين كانوا كلّهم أنبياء مع أنّ واحدا منهم ما اتي بكتاب مثل التّوراة دفعة، فلا يقدح نزول الكتاب نجوما في كونه من عند اللّه، كذا قيل (1).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 164

ثمّ أكمل البيان و أتمّ الحجّة بقوله: وَ رُسُلاً آخرين أرسلناهم إلى النّاس جماعة منهم قَدْ قَصَصْناهُمْ و تلونا أحوالهم عَلَيْكَ و سمّيناهم لك مِنْ قَبْلُ في السّور الاخر من القرآن، كهود و صالح و إدريس عليهم السّلام وَ رُسُلاً أخر لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ في كتابك، و لم نسمّهم لك، و لم نذكر أحوالهم.

وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه قال: قلت: يا رسول اللّه، كم كانت الأنبياء؟ و كم كان المرسلون؟ قال: «كانت الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و كان المرسلون ثلاثمائة و ثلاثة عشر» (2).

ثمّ بيّن مزيّة موسى عليه السّلام من بينهم بقوله: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى من بينهم في الطّور تَكْلِيماً بطريق المشافهة.

قيل: فيه إشارة إلى أنّ تخصيص موسى عليه السّلام بهذه المزيّة، كما لا يقدح في نبوّة غيره من الأنبياء، لا يقدح نزول كتابه دفعة في نبوّة نبيّ نزل كتابه نجوما كالقرآن (3).

سوره 4 (النساء): آیه شماره 165

ثمّ بيّن سبحانه حكمة إرساله الرّسل بقوله: رُسُلاً كثيرة أرسلناهم إلى النّاس من بدو الخلقة حال كونهم مُبَشِّرِينَ لهم بالثّواب على الإيمان بتوحيد اللّه و القيام بعبوديّته وَ مُنْذِرِينَ لهم بالعقاب على الشّرك و العصيان لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ و معذرة، أو اعتراض ملزم بَعْدَ إرسال اَلرُّسُلِ بأن يقولوا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (4).

رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)

ص: 318


1- . تفسير الرازي 11:109.
2- . تفسير روح البيان 2:323.
3- . تفسير الرازي 11:109.
4- . القصص:28/47.

وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً و قادرا على إرسال الرّسل، و إنزال الكتب، و تكميل النّفوس، و إعطاء الثّواب، و تعذيب العصاة، و قطع الأعذار حَكِيماً في جميع أفعاله.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 166

ثمّ قيل: إنّه لمّا نزل قوله تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (1)الآية، قال قوم: [نحن]

لا نشهد لك بذلك. فردّ اللّه عليهم، و سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ (2)لك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من السّماء و هو القرآن أنّه حقّ و صدق، و شهادته تعالى باشتماله على إعجاز البيان، و الأخبار الصّادقة بالمغيّبات، و العلوم الكثيرة مع كون الجائي به امّيّا.

لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (166)ثمّ وصف ما أنزله بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ غير المتناهي، و حكمته البالغة، فلمّا كان علمه غير المتناهي سببا لنزوله، صار في غاية الحسن و نهاية الكمال بحيث عجز الأوّلون و الآخرون عن معارضته و الإتيان بمثله.

و قيل: إنّ المراد: أنزله بعلمه بأنّك مستأهل له (3).

وَ اَلْمَلائِكَةُ كلّهم أيضا يَشْهَدُونَ بأنّ القرآن نازل من عند اللّه وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بذلك لا يحتاج إلى شهادة غيره.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 167

ثمّ أنّه تعالى بعد شهادته بصدق القرآن و صحّة دين الإسلام، وبّخ المنكرين له الصّادّين عنه، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن وَ صَدُّوا و منعوا النّاس بإلقاء الشّبهات عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدّخول في دين الإسلام قَدْ ضَلُّوا عن الهدى و طريق الجنّة ضَلالاً بَعِيداً لا يرجى منهم الهداية.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 168 الی 169

ثمّ هدّدهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، و النّاس بصدّهم عن

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (169)

ص: 319


1- . النساء:4/163.
2- . تفسير الرازي 11:111.
3- . تفسير الصافي 1:483.

الحقّ، و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بتكذيبه و إخفاء نعوته و كتمانها.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: إنّ الّذين كفروا و ظلموا آل محمّد حقّهم. . .» (1). لَمْ يَكُنِ اَللّهُ مريدا لِيَغْفِرَ لَهُمْ عن ذنوبهم، لعدم قابليّتهم للمغفرة وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً من الطّرق إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ فلا مناص لهم في الآخرة عن دخولها، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائما وَ كانَ ذلِكَ الإدخال في النّار و الإخلاد فيها مع بقاء الأجساد أبد الآباد عَلَى اَللّهِ و في جنب قدرته الكاملة غير المتناهية يَسِيراً سهلا، و إن كان في نظر المنكرين لقدرة اللّه متعذّرا مستحيلا.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 170

ثمّ أنّه تعالى بعد دفع شبهات اليهود في رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه، و توبيخهم بالضّلال و الإضلال، و توعيدهم بالنّار، باشر بذاته المقدّسة دعوتهم و دعوة سائر النّاس إلى الإيمان برسالته بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ محمّد صلّى اللّه عليه و آله اَلرَّسُولُ الصّادق بِالْحَقِّ و القرآن المصدّق بالإعجاز، أو الدّين الموافق للعقل السّليم مِنْ عند رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، الحافظ لصلاحكم فَآمِنُوا به و بكتابه، يكن الإيمان به في العاجل و الآجل خَيْراً لَكُمْ و أحمد ممّا أنتم عليه من الكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و إنكار رسالته و كتابه وَ إِنْ تَكْفُرُوا باللّه و رسوله فلا يضرّ اللّه شيئا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فلا يحتاج إليكم و إلى إيمكانكم، و لا يعجز عن تعذيبكم وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً بأحوال عباده و بإيمانهم و كفرهم و علانيتهم و سرّهم حَكِيماً في ما يصدر عنه من تعذيب الكافر، و إثابة المؤمنين.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

سوره 4 (النساء): آیه شماره 171

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)

ص: 320


1- . تفسير العياشي 1:456/1152، الكافي 1:351/59، تفسير الصافي 1:484.

ثمّ أنّه تعالى بعد دفع شبهات اليهود في نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و إنذارهم و دعوتهم إلى الإيمان، صرف الخطاب إلى النّصارى بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا و لا تتجاوزوا عن حدود العقل فِي دِينِكُمْ بالإفراط في شأن عيسى عليه السّلام، و ادّعاء الوهيّته، أو بنوّته للّه وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ قولا إِلاَّ اَلْحَقَّ و الصّواب، من تنزيهه عن الشّرك و الصّاحبة و الولد، و لا تصفوه بالحلول في المسيح أو الاتّحاد معه المستحيلين على الواجب، و لا باتّخاذه المسيح ولدا لعدم الحاجة له، و عدم السّنخيّة بينه تعالى و بين الحادث مع لزوم السّنخيّة بين الوالد و الولد.

ثمّ بعد نهيهم عن الغلوّ، أرشدهم إلى القول الوسط و الحقّ بقوله: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ الذي اسمه عِيسَى و نسبه أنّه اِبْنُ مَرْيَمَ بنت عمران هو رَسُولُ اَللّهِ إليكم لتكميل نفوسكم، و تبليغ شرائعكم وَ كَلِمَتُهُ التّامّة و آيته العظمى التي أَلْقاها من عالم القدس و الأمر، و أوصلها إِلى رحم مَرْيَمَ الصّدّيقة. و لمّا كان مبدأ وجوده نفخة الرّوح الأمين، وصفه بالرّوحانيّة، و نسبه إلى نفسه تشريفا له بقوله: وَ رُوحٌ مِنْهُ .

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها، فقال: «هي روح مخلوقة خلقها اللّه في آدم و عيسى» (1)

و عن الباقر عليه السّلام: «روحان مخلوقان اختارهما و اصطفاهما: روح آدم، و روح عيسى» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عبودية عيسى و رسالته و تعظيمه بأنّه كلمته و روحه، أمر النّصارى بالإيمان بتوحيد اللّه و رسالة المسيح كسائر الرّسل بقوله: فَآمِنُوا بِاللّهِ وحده لا شريك له وَ رُسُلِهِ الّذين هم مبلّغون عنه، و منهم عيسى عليه السّلام وَ لا تَقُولُوا إنّ اللّه واحد بالجوهر ثَلاثَةٌ بالأقانيم، على ما قيل (3).

اِنْتَهُوا أيّها النّصارى و ارتدعوا عن هذا القول الباطل، فإنّ الانتهاء عن التّثليث يكون خَيْراً لَكُمْ من القول بالتّثليث لأنّه كفر إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ بالذّات و الصّفات، منزّه عن التّعدّد و الكثرة.

ثمّ نزّهه عن اتّخاذ الولد بقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما ادّعاه النّصارى؛ لأنّ الولد لا يمكن أن يكون ملكا لوالده، و الحال أنّ اللّه لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا، لا يخرج من ملكوته عيسى عليه السّلام و غيره من الموجودات، و لا يحتاج إلى ولد و معين، إذ بذاته و قدرته يدبّر كلّ شيء وَ كَفى بِاللّهِ وحده وَكِيلاً و مدبّرا لامور الكائنات، فمن يكون له الغنى و القدرة غير المتناهيين، يمتنع أن يتّخذ لنفسه صاحبة و ولدا.

ص: 321


1- . الكافي 1:103/2، تفسير الصافي 1:484.
2- . التوحيد:172/4، تفسير الصافي 1:484.
3- . تفسير الرازي 11:116، تفسير روح البيان 2:330.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 172

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عبوديّة عيسى عليه السّلام له بالحجّة القاطعة، نبّه العالمين بأنّ عيسى عليه السّلام غير مستنكف عن عبوديّته، و غير راض بما يقول النّصارى في حقّه من كونه ثالث ثلاثة، أو ولدا للّه، بقوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ و لا يأبى أبدا عن أَنْ يَكُونَ عَبْداً خاضعا لِلّهِ و إن استنكف النّصارى عنه، بل وَ لاَ يستنكف اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ و الكروبيّون الّذين هم حول العرش، كجبرئيل و أضرابه، عن أن يكونوا عبيدا للّه، مع كونهم أشدّ قوّة من عيسى، و أعظم خلقة، و أقلّ حاجة منه، و إن كان عيسى عليه السّلام أقرب منزلة و أعلى قدرا منهم عند اللّه. فظهر من التّفسير الذي ذكرنا أنّ الاستدلال بالآية على أفضليّة الملائكة من الأنبياء-كما نسب إلى المعتزلة-فاسد جدا.

لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)روي أنّ وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم تعيب صاحبنا؟ قال: «و من صاحبكم؟» . قالوا: عيسى، قال: «و أيّ شيء قلت؟» . قالوا: تقول إنّه عبد اللّه و رسوله، قال: «[إنّه]ليس بعار أن يكون عبدا للّه» . فنزلت الآية (1).

ثمّ هدّد اللّه تعالى المستنكفين عن عبادته بقوله: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ و يتأنّف عَنْ عِبادَتِهِ و طاعته وَ يَسْتَكْبِرْ و يترفّع عنها فَسَيَحْشُرُهُمْ من القبور و يسوقهم إِلَيْهِ يوم القيامة حال كونهم جَمِيعاً لا يشذّ منهم [أحد].

سوره 4 (النساء): آیه شماره 173

ثمّ بشّر المقرّين بتوحيده و عبوديّته بالثّواب و زيادة التّفضّل بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بربوبيّة اللّه و عبوديّة أنفسهم وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ و يعطيهم أُجُورَهُمْ و ثواب أعمالهم من غير نقص وَ يَزِيدُهُمْ أضعافها مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته.

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173)ثمّ هدّد سبحانه المستنكفين بالعذاب الشّديد بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا و تأنّفوا عن عبادة اللّه وَ اِسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا عن طاعته فَيُعَذِّبُهُمْ في الآخرة بسبب استنكافهم و استكبارهم عَذاباً أَلِيماً في الغاية لا يمكن وصفه وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ فيها أحدا مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه

ص: 322


1- . تفسير الرازي 11:117.

وَلِيًّا ينجيهم من العذاب وَ لا نَصِيراً و معينا مدافعا عنهم.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 174

ثمّ أنّه تعالى بعدما أبطل دعاوى النّصارى بالحجّة القاطعة، و الوعد على الإيمان و الطّاعة، و الوعيد على الاستنكاف عن العبوديّة، أعاد الدّعوة إلى الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ و حجّة قاطعة على الحقّ مِنْ رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، و هو الرّسول المبيّن للحقائق، القاطع للأعذار.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)و قيل: هو المعجزات الباهرات (1).

وَ أَنْزَلْنا من السّماء إِلَيْكُمْ لهدايتكم نُوراً مُبِيناً و قرآنا موضّحا للعلوم، كاشفا لطريق الهداية، و مزيلا لظلمات الجهل و الغواية، فما بقي لكم في الانحراف عن الحقّ و ترك الدّخول في الإسلام عذر.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 175

ثمّ رغّب النّاس في قبول دين الحقّ و الالتزام به، بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ و أقرّوا بوحدانيّته و كمال صفاته وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ في أن يحفظهم من الزّلاّت و اتّباع الشّهوات بتوفيقه فَسَيُدْخِلُهُمْ بعد الموت فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ .

فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أي في الجنّة (2).

وَ فَضْلٍ هو ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت وَ يَهْدِيهِمْ في الدّنيا إِلَيْهِ و إلى مقام قربه صِراطاً و طريقا مُسْتَقِيماً موصلا.

عن القمّي رحمه اللّه: النّور: إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، و الاعتصام: التّمسّك بولايته و ولاية الأئمّة صلوات اللّه عليهم بعده (3).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «الصّراط المستقيم: عليّ عليه السّلام» (4)، و قد مرّ تفسير (الصّراط) في الفاتحة.

ص: 323


1- . تفسير أبي السعود 2:262، تفسير روح البيان 2:333.
2- . تفسير الرازي 11:120، تفسير أبي السعود 2:263.
3- . تفسير القمي 1:159، تفسير الصافي 1:486.
4- . تفسير العياشي 1:457/1153، تفسير الصافي 1:486.

سوره 4 (النساء): آیه شماره 176

في بيان إرث

الأخوة و الأخوات

من قبل الأب أو

الأبوين

ثمّ لمّا بدأ اللّه تعالى في السورة المباركة بحقوق الناس من الأيتام و الازواج و الأرحام، ختم السّورة بما بدأ به من حقوق النّاس التي منها إرث الإخوان و الأخوات من الأب، بقوله: يَسْتَفْتُونَكَ يا رسول [اللّه]عن حكم إرث الإخوة و الأخوات قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ و يبيّن لكم الحكم فِي اَلْكَلالَةِ و القرابة التي لا تكون بوالد و لا ولد.

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)روي أنّ جابر بن عبد اللّه كان مريضا، فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: إنّي كلالة-أي لا يخلفني والد و لا ولد-فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت (1).

إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ و رجل مات، و كان ممّن لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ و إن نزل وَ لَهُ من الوارث القريب أُخْتٌ واحدة من قبل الأب، سواء كانت من قبل الأمّ أيضا أم لا، لذكره تعالى حكم كلالة الامّ في أول السّورة فَلَها بالفرض نِصْفُ ما تَرَكَ الميّت من الأموال و الحقوق، و النّصف الآخر بالرّدّ إن لم يكن له زوجة.

ثمّ بيّن حكم إرث الأخ من الاخت بقوله: وَ هُوَ يَرِثُها جميع مالها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و إن نزل، و لا زوج و لا غيره من الإخوة و الأخوات، و إلاّ فللزوج نصيبه الأعلى، و للإخوة من الامّ نصيبهم، و الباقي للأخ من الأب و الامّ، و إن لم يكن فللأخ من الأب وحده.

ثمّ بيّن حكم إرث الاختين فصاعدا من الأب بقوله: فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ أو كنّ أكثر فَلَهُمَا أولهنّ جميعا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ الميّت أخا كان أو اختا، يقسّمن بينهنّ بالسّويّة، و الباقي لهنّ بالرّدّ، إن لم يكن معهنّ زوج أو زوجة أو كلالة الام.

ثمّ بيّن حكم اجتماع الأخ و الاخت في الإرث بقوله: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً مختلفين (2)رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ منهم من أموال الميّت حظّ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

عن الباقر عليه السّلام: «إذا مات الرّجل و له اخت، تأخذ نصف الميراث (3)بالآية، كما تأخذ البنت لو كانت، و النّصف الباقي يردّ عليها بالرّحم، إذا لم يكن للميّت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ،

ص: 324


1- . تفسير روح البيان 2:334.
2- . في النسخة: مختلفة.
3- . في تفسير القمي: تأخذ نصف ما ترك من الميراث، لها نصف الميراث.

أخذ الميراث كلّه بالآية، لقول اللّه: وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و إن كانتا اختين، أخذتا الثّلثين بالآية، و الثلث الباقي بالرّحم، و إن كانوا إخوة رجالا و نساء، فللذّكر مثل حظّ الانثيين، و ذلك كلّه إذا لم يكن [للميت]ولد، أو أبوان، أو زوجة» (1).

ثمّ منّ سبحانه و تعالى على النّاس بقوله: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ المعارف و الأحكام بالبيان الواضح، كراهة أَنْ تَضِلُّوا عن الحقّ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و مصالح الأحكام عَلِيمٌ خبير.

قيل: هذه الآية آخر آية نزلت في الأحكام (2)، و سمّيت بآية الصّيف، لأنّها نزلت بالصّيف، و آية الكلالة في أول السّورة نزلت بالشّتاء (3).

[وجه نظم المائدة

بعد النساء]

و من لطائف هذه السّورة المباركة أنّ اللّه بدأ فيها ببيان كمال قدرته بقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ (4)، و ختمها ببيان كمال علمه بقوله: وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (5).

و هذان الوصفان مرجع جميع صفاته تعالى، و مثبت الوهيّته و ربوبيّته الموجبتين لكمال طاعته و الانقياد له على العبد، و لذا ردفها بسورة المائدة، المبدأة فيها بالأمر بطاعة جميع أحكامه التي هي عقود اللّه و عهوده إلى عباده، مضافا إلى تصدّر السّورتين بالخطاب الشّفاهي مع تقدّم عامّه و هو قوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ على خاصّة و هو قوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا (6)و اشتمال سورتي البقرة و آل عمران على عمد أحكام العبادات، و سورة النّساء على مهمّات حقوق النّاس، و سورة المائدة على كثير من أحكام الأطعمة و الأشربة، و اشتمال السّور الثّلاثة السّابقة على محاجّة أهل الكتاب، و هذه السّورة على نتيجة المحاجة من إيمان بعضهم كالنّجاشي.

و في السّور السّابقة بيان الدّين، و في هذه السّورة البشارة بتكميله، و في النّساء بيان حكم الوصيّة، و في هذه السّورة بيان كيفيّة إثباتها، إلى غير ذلك من الوجوه التي اقتضى حسن النّظم ذكر المائدة بعد النّساء، فابتدأ فيها تيّمنا و تعليما للعباد بذكر: بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ص: 325


1- . تفسير القمي 1:159، تفسير الصافي 1:486، و في النسخة: ولد و أبوان و زوجة.
2- . تفسير البيضاوي 1:251.
3- . مجمع البيان 3:229. و فيه: أن اللّه تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، و هي التي في أول هذه السورة، و اخرى في الصيف، و هي هذه الآية.
4- . النساء:4/1.
5- . الأنعام:6/101.
6- . المائدة:5/1.

ص: 326

في تفسير سورة المائدة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 1

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ و قد سبق تفسيره في سورة الفاتحة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

في دلالة آية:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

على لزوم كل عقد

ثمّ لمّا كان الانقياد لأحكام اللّه و الوفاء بعهوده من لوازم الإيمان، و شاقا على الطّباع، خاطب أهل الإيمان على وجه المشافهة بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صميما و حقيقة بتوحيد اللّه و كمال صفاته، و رسالة رسوله و أحكام دينه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و التزموا بالعمل بالعهود الموثّقة التي بينكم و بين ربّكم من أحكامه و واجباته و محرّماته، أو بين غيركم من العباد كعقود المعاملات، أو بين أنفسكم كالإيقاعات من الطّلاق و التّحرير و الإبرار و النّذر و العهد و اليمين.

و قيل: إنّ المراد خصوص ما يعقد النّاس في معاملاتهم، و من الوفاء القيام بمقتضاه من اللّزوم و الجواز، فإنّ كان لازم العمل عمل بلّزومه، و إن كان جائز العمل عمل بجوازه.

أمّا القول الأوّل من تخصيصه بخصوص المعاملات، فخلاف الظّاهر. و أمّا الثاني، ففاسد جدّا؛ لأنّ الوفاء بالعهد هو العمل بمضمونه، و لزوم العهد و جوازه ليسا من مدلوله، بل هما حكمان شرعيّان في موضوع العهد.

فعلى ما ذكرنا لا إجمال في الآية، كما ادّعاه الفاضل المقداد (1)، و تبعه بعض من تأخّر عنه، بل عمومها مثبت بلزوم كلّ عقد حتّى يثبت بالدليل جوازه و الخيار فيه.

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الجواد عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقد عليهم لعلي عليه السّلام [بالخلافة]في عشرة مواطن، ثمّ أنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين صلوات

ص: 327


1- . كنز العرفان 2:71.

اللّه عليه» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بإطاعة أحكامه على وجه الإجمال، شرع في تفصيله، فبدأ بذكر ما يحلّ و ما يحرم من المطعومات بقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ من جانب اللّه بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ من الإبل و البقر و الغنم، أهليّها و وحشيّها.

و عن الباقر عليه السّلام: «هي الأجنّة التي في بطون الأنعام، و قد كان أمير المؤمنين عليه السّلام يأمر ببيع الأجنّة» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام، في تفسيرها: «الجنين في بطن امّه إذا أشعر و أوبر، فذكاته ذكاة امّه» (2).

و زاد في (الكافي) و (القمّي) : «فذلك الذي عنى اللّه عزّ و جلّ» (3).

و في رواية: «و إن لم يكن تامّا فلا تأكله» (4).

و قيل: إضافة البهيمة إلى الأنعام بيانيّة، و المراد: عموم الأزواج الثّمانية (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ عليّا عليه السّلام سئل عن أكل لحم الفيل و الدّبّ و القرد، فقال: ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل» (6).

ثمّ استثنى عن عموم الحلّ بقوله: إِلاّ ما يُتْلى و يقرأ عَلَيْكُمْ فيما بعد من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ (7)، ثمّ خصّ الحلّ من الوحشيّ بكونكم غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ و مقتضيه وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ متلبّسون بإحرام الحجّ أو العمرة، فإنّه لا يحلّ لكم الصّيد في تلك الحالة.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم عدم الفرق بين حال الإحرام و الإحلال، و بين الصّيد و غيره، دفعه اللّه بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من التّحليل و التّحريم على ما تقتضيه حكمته البالغة التي لا تبلغها العقول، فعليكم التّسليم و الانقياد.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 2

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (8)

ص: 328


1- . تفسير القمي 2:160، تفسير الصافي 2:5.
2- . تفسير العياشي 2:5/1170، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 2:5.
3- . تفسير القمي 1:160، الكافي 6:234/1، تفسير الصافي 2:6.
4- . الكافي 6:234/2، تفسير الصافي 2:6.
5- . تفسير البيضاوي 1:253، تفسير روح البيان 2:337.
6- . تفسير العياشي 2:5/1171، تفسير الصافي 2:6.
7- . المائدة:5/3.
8- . تفسير العياشي 2:5/1169، تفسير الصافي 2:6.

ثمّ لمّا حرّم اللّه الصّيد في حال الإحرام، أكّد ذلك بالنّهي عن التّهاون بأحكامه و محرّماته بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ و لا تخلّوا بشيء من أحكامه التي يكون الالتزام بها علامة الإيمان و أهله و شعارا للمسلم. أو المراد: لا تتهاونوا بشيء ممّا حرّم اللّه عليكم حال الإحرام أو بشيء من مناسك الحجّ.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ المشركين كانوا يحجّون البيت، و يهدون الهدايا، و يعظّمون المشاعر، و ينحرون، فأراد المسلمون أن يغيّروا عليهم، فأنزل اللّه: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ (1).

قيل: كانت العرب لا يرون الصّفا و المروة من شعائر الحجّ، و لا يطوفون بهما، فأنزل اللّه: لا تستحلّوا ترك شيء من مناسك الحجّ (2).

وَ لاَ تستحلّوا اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ بالقتل و الغارة فيه.

عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم» (1).

في قضية شريح

البكري و غدره

و قيل: اسمه شريح بن ضبيعة البكري، أتى المدينة من اليمامة و خلّف خيله خارج المدينة، و دخل وحده على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال له: إلام تدعو النّاس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و إقام الصّلاة، و إيتاء الزّكاة» ، فقال: حسن، إلاّ أنّ لي امراء لا أقطع أمرا دونهم لعلّي اسلم و آتي بهم، و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلّم بلسان الشّيطان» (2).

ثمّ خرج شريح من عنده فقال عليه السّلام: «لقد دخل بوجه كافر، و خرج بقفا غادر، و ما الرّجل بمسلم» ، فمرّ بسرح (3)المدينة فاستاقه فانطلق، فتبعوه فلم يدركوه، فلمّا كان العام المقبل خرج حاجا في حجّاج بني بكر بن وائل من اليمامة و معه تجارة عظيمة و قد قلّدوا الهدي، فقال المسلمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، هذا الحطيم (4)قد خرج حاجّا، فخلّ بيننا و بينه، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه قد قلّد الهدي» ، فقالوا: يا رسول اللّه، هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية، فأبى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (5).

وَ لاَ تستحلّوا اَلْهَدْيَ الذي يهدى إلى الكعبة بغصبه، أو بمنعه من بلوغ محلّه وَ لاَ اَلْقَلائِدَ التي يقلّد بها الهدي. و فيه مبالغة في النّهي عن التّعرّض لذوات القلائد من الهدي، و تخصيصها

ص: 329


1- . مجمع البيان 3:236، تفسير الصافي 2:6، و فيهما: الحطم، بدل الحطيم.
2- . تفسير روح البيان 2:338.
3- . السّرح: الماشية تسرح في الأرض.
4- . في تفسير روح البيان: الخطيم.
5- . تفسير روح البيان 2:338.

بالذّكر مع كونها داخلة في الهدي لكونها أشرف الهدي.

وَ لاَ تستحلّوا آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ و قاصدي زيارته، حال كونهم لا يقصدون بزيارتهم الكعبة قتالكم و غدركم، بل يَبْتَغُونَ و يطلبون بسفر الزّيارة فَضْلاً و ثوابا، أو ربح تجارة مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً منه باعتقادهم، و إن كانوا بسبب كفرهم لا ينالون ذلك، و لكن يكون لهم ببركة هذا القصد و هذا السّفر نوع من الحرمة.

عن ابن عبّاس: أنّه منسوخ بقوله: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ (1).

و روي أنّه لم ينسخ من المائدة حكم (2). و عليه، فلا بدّ من القول بأنّ المراد من الآمّين خصوص المسلمين، أو يقال: لا تنافي بين منعهم من قرب المسجد، و عدم حلّيّة التّعرّض لهم بالقتل و الغارة.

ثمّ لمّا نهى اللّه عن تحليل الصّيد حال الإحرام، صرّح بجوازه بعد التّحليل بقوله: وَ إِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام و خرجتم منه فَاصْطادُوا بعد لزوال المانع.

ثمّ بعد النّهي عن التّعدّي على الكفّار في الأشهر الحرم بالقتل و الغارة، و عن استحلال قاصدي زيارة البيت، صرّح بأنّ تعدّي الكفّار على المسلمين في غير الأشهر الحرم لا يوجب جواز التّعدّي عليهم فيها، بقوله: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أيّها المسلمون و لا يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ من الكفّار، و شدّة عداوتكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ و منعوكم عَنِ دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و زيارته و طوافه للعمرة عام الحديبية على أَنْ تَعْتَدُوا و تجوروا عليهم انتقاما منهم و تشفّيا.

ثمّ بعد النّهي عن التّعدّي، أمر بالمعاونة على العفو و الإحسان، و نهى عن معاونة المتعدّي أيضا بقوله: وَ تَعاوَنُوا عَلَى عمل اَلْبِرِّ و الخير؛ و هو العفو وَ فعل اَلتَّقْوى و هو إطاعة أمر اللّه و نهيه وَ لا تَعاوَنُوا و لا تعاضدوا عَلَى اَلْإِثْمِ و عصيان اللّه، وَ لا اَلْعُدْوانِ و الظّلم على الغير للتّشفّي و الانتقام.

ثمّ أكّد الأمر بالتّعاون على التّقوى بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و لا تستحلّوا شيئا من محارمه. ثمّ هدّد على مخالفة أحكامه بقوله: إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ بحيث لا يطيق أحد الصّبر عليه فخافوا-في مخالفة أحكامه و ترك التّقوى-عقابه الشّديد في الآخرة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 3

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

ص: 330


1- . مجمع البيان 3:239، و الآية من سورة التوبة:9/28.
2- . مجمع البيان 3:239، تفسير الصافي 2:7.

جملة من

المأكولات المحرمة

ثمّ تلا سبحانه ما استثناه-من تحليل عموم أجزاء بهيمة الأنعام بقوله في الآية الاولى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ -بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أيّها المؤمنون من قبل اللّه أشياء: أحدها: اَلْمَيْتَةُ و ما زهق روحه من كلّ حيوان بحتف أنفه، أو بغير التّذكية الشّرعيّة؛ لأنّ في أكله مضارّ عظيمة، لتعفّن الدّم المحتبس في عروقه.

وَ الثانية: اَلدَّمُ غير المتخلّف في الذّبيحة، سمّي بالمسفوح.

وَ الثالثة: لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ لأنّ الخنزير مطبوع على الحرص و الشّهوة، و الإنسان يتخلّق بأخلاق الحيوان الذي تصير أجزاؤه جزءا من بدنه.

قيل: إنّما خصّه بالذّكر من بين سائر الحيوانات المحرّمة؛ لأنّ العرب كانوا يعتادون أكله (1).

وَ الرابع: ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ و هو المذبوح الذي رفع الصّوت عند ذبحه باسم الأصنام.

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني ما ذبح للأصنام» (2).

وَ الخامسة: اَلْمُنْخَنِقَةُ و هي الحيوان الذي يعصر حلقه حتّى يموت.

وَ السادسة: اَلْمَوْقُوذَةُ و هي الحيوان الذي يضرب حتّى يموت.

وَ السابعة: اَلْمُتَرَدِّيَةُ و هي الحيوان الذي يموت بالسّقوط من شاهق.

وَ الثامنة: اَلنَّطِيحَةُ و هي الحيوان الذي يموت بالمناطحة.

وَ التاسعة: ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ منه إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ إيّاه و طهّرتموه بما جعله اللّه له تطهيرا من النّحر أو الذّبح.

عن الرضا عليه السّلام: «المتردية، و النّطيحة، و ما أكل السّبع، إذا أدركت ذكاته فكله» (3).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّ أدنى ما يدرك به الذّكاة أن تدركه و هو يحرّك اذنه و ذنبه، أو تطرف عينيه» (4).

ص: 331


1- . تفسير الصافي 2:7.
2- . الخصال:451/57، تفسير الصافي 2:7.
3- . تفسير العياشي 2:8/1176، تفسير الصافي 2:9.
4- . مجمع البيان 3:244، تفسير الصافي 2:9.

و عن الصادق عليه السّلام: «في كتاب عليّ: إذا طرفت العين أو ركضت الرّجل، أو تحرّك الذّنب، فكل منه، فقد أدركت ذكاته» (1).

في معنى الاستقسام

بالازلام

وَ العاشر: ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ و فوق الأحجار التي [هي]منصوبة حول البيت، و كان المشركون يذبحون القرابين عليها وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا و تطلبوا معرفة النّصيب بِالْأَزْلامِ و الأقداح.

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا المنخنقة، فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذّبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم فإذا انخنقت و ماتت أكلوها. و الموقوذة كانوا يشدّون أرجلها و يضربونها حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها. و النّطيحة كانوا يناطحون بالكباش (2)، فإذا مات أحدهما أكلوه، وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ فكانوا يأكلون ما يأكله (3)الذّئب و الأسد، فحرّم اللّه ذلك، وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ كانوا يذبحون لبيوت النّيران، و قريش كانوا يعبدون الشّجر و الصّخر فيذبحون لها» (4).

و عن الجواد عليه السّلام، في رواية قال: «كانوا في الجاهليّة يشترون بعيرا فيما بين عشرة. . . فمن خرج باسمه سهم [من التي]لا أنصباء لها الزم ثلث ثمن البعير، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السّهام الثّلاثة التي لا أنصباء لها إلى ثلاثة منهم فيلزمونهم ثمن البعير، ثمّ ينحرونه، و يأكله السّبعة الّذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا، و لا يطعمون منه الثّلاثة الّذين وفّروا ثمنه شيئا، فلمّا جاء الإسلام حرّم اللّه تعالى ذكره ذلك فيما حرّم، فقال عزّ و جلّ: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني حرام» (5).

قيل: إنّما سمّى اللّه الاستقسام بالأزلام فسقا؛ لأنّه طلب معرفة الغيب، مع أنّه مختصّ باللّه تعالى (6).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره، لم ينظر إلى الدّرجات العلى من الجنّة يوم القيامة» (7).

و قيل: إنّ العرب كانوا يجيلون تلك الأزلام عند الأصنام، و يعتقدون أنّ ما يخرج من الأمر و النّهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام و إعانتهم (8).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غالب أحكام دينه، و أمره بنصب أمير المؤمنين عليه السّلام علما و خليفة في المسلمين، و ظهور قوّة الإسلام، بشّر المسلمين بخذلان الكفّار بقوله: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و الآن انقطع طمعهم مِنْ توهين دِينِكُمْ و غلبتهم عليكم، و من إضلالكم و انصرافكم عن

ص: 332


1- . الكافي 6:232/3، تفسير الصافي 2:9.
2- . في النسخة: بالكبائش.
3- . في الخصال: ما يقتله.
4- . الخصال:451/57، تفسير الصافي 2:7.
5- . التهذيب 9:83/354، تفسير الصافي 2:8.
6- . تفسير الرازي 11:136. (7 و 8) . تفسير الرازي 11:136.

التّوحيد و رجوعكم إلى الشّرك فَلا تَخْشَوْهُمْ من أن يغلبوكم، و يمنعوكم من العمل بأحكام دينكم بعد اليوم وَ اِخْشَوْنِ فقط في ترك طاعتي و مخالفة شريعتي أن تحلّ بكم عقوبتي.

ثمّ بشّرهم سبحانه بعد تعليمهم مناسك الحجّ، و تعريفهم الحجّة البالغة عليهم بعد نبيّهم صلّى اللّه عليه و آله بقوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنّصّ على جميع المعارف، و عمد الأحكام، و الدّلالة على باب العلم وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ بإتمام الدّين نِعْمَتِي و فضلي و رحمتي وَ رَضِيتُ و اخترت لَكُمُ اَلْإِسْلامَ الذي هو دين اللّه و دين ملائكته دِيناً .

عن (المجمع) : عنهما عليهما السّلام: «إنّما نزل بعد أن نصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام علما للأنام يوم غدير خمّ، عند منصرفه عن حجّة الوداع» قالا: «و هي آخر فريضة أنزلها اللّه، ثمّ لم تنزل فريضة بعدها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «الفريضة تنزل بعد الفريضة الاخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، قال [اللّه عزّ و جلّ]: لا انزل بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض» (2).

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما يبكيك يا عمر؟» ، قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فإذا كمل فإنّه لم يكمل شيء إلاّ نقص، قال: «صدقت» ، فكانت هذه الآية تنعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و عاش بعدها أحدا و ثمانين يوما، و مات يوم الاثنين (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة جملة من الأطعمة-و الفصل بالجملة الاعتراضية للتّأكيد و التّبشير-عاد إلى بيان حكم الاضطرار إلى تناولها، بقوله: فَمَنِ اُضْطُرَّ إلى تناول شيء من المحرّمات المذكورة فِي حال مَخْمَصَةٍ و مجاعة يخاف على نفسه منها الهلاك أو الضّرر، فليتناول ممّا حرّم عليه، و لكن لا بدّ أن يكون في أكله غَيْرَ مُتَجانِفٍ و متعمّد لِإِثْمٍ بأن يتجاوز عن حدّ الاضطرار فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ غير مؤاخذ رَحِيمٌ به بترخيصه في الأكل من المحرّمات.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 4

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة جملة من المطعومات، حكى سؤال النّاس عن محلّلاتها بقوله:

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (4)

ص: 333


1- . مجمع البيان 3:246، تفسير الصافي 2:10.
2- . الكافي 1:229/4، تفسير الصافي 2:10.
3- . تفسير روح البيان 2:343.

يَسْئَلُونَكَ يا محمّد، عن أنّه ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ من المطاعم؟ و ما الذي رخّص لهم في أكله؟ ثمّ أمر بجوابهم بقوله: قُلْ للسّائلين: أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ و كلّ ما لا تستخبثه الطّباع السّليمة، أو [كلّ ما]يستلذّ منه ذوو المروءات، كما قيل (1).

و قيل: إنّ العرب في الجاهليّة كانوا يحرّمون أشياء من الطّيّبات كالبحيرة و السّائبة و الوصيلة و الحام، مع حكمهم بكونها طيّبة (2)، فردّ اللّه عليهم بترخيصه في أكلها.

و يمكن أن يكون المراد ما لا ضرر في أكله في نظر الشّارع. و عليه تكون مجملة محتاجة إلى البيان.

ثمّ نصّ سبحانه على حلّيّة قسم خاص منها، للاهتمام بالتّنبيه عليه بقوله: وَ ما عَلَّمْتُمْ قيل: إنّ التّقدير: صيد ما علمتم (3)مِنَ اَلْجَوارِحِ و الكواسب من السّباع و الطّير، حال كونهنّ مُكَلِّبِينَ و مؤدّبين الاصطياد (4).

قيل: سمّي تأديب الجوارح تكليبا، لكثرة كون التّأديب في الكلاب (5).

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط حلّ صيدهنّ بالتّأديب، بقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ و ألهمكم به من طرق التّأديب.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «في كتاب عليّ عليه السّلام، في قول اللّه تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال: هي الكلاب» (6).

و قيل: إنّ ما عَلَّمْتُمْ مبتدأ، خبره: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ (7).

فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ من الحيوانات عَلَيْكُمْ لا على أنفسهنّ.

قيل: أدبهنّ: اتّباعهنّ الصّيد بإرسال صاحبهنّ، و انزجارهنّ بزجره، و انصرافهنّ بدعائه، و إمساكهنّ عليه الصّيد: بأن لا يأكلن منه و إن قتلنه (8).

وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ حين إرسالهنّ.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن صيد البزاة و الصّقور و الفهود و الكلاب، قال: «لا، [تأكل]إلاّ ما ذكّيت، إلاّ الكلاب» . قيل: فإنّه قتله؟ قال: «كل، فإنّ اللّه يقول: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ

ص: 334


1- . تفسير روح البيان 2:345.
2- . تفسير الرازي 11:141.
3- . تفسير الرازي 11:142.
4- . كذا، و الظاهر من التفاسير: حال كونكم مكلبين و مؤدبين للاصطياد.
5- . تفسير الرازي 11:143.
6- . الكافي 6:202/1، التهذيب 9:22/88، تفسير الصافي 2:11.
7- . تفسير الرازي 11:143، تفسير أبي السعود 3:8.
8- . تفسير أبي السعود 3:8.

مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» (1) .

ثم قال عليه السّلام: «كلّ شيء من السّباع تمسك الصّيد على نفسها إلاّ الكلاب المعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها، فإذا ارسلتم (2)فاذكروا اسم اللّه عليه فهو ذكاته» (3).

و عنه عليه السّلام، و قد سئل عن إرسال الكلب و الصّقر، فقال: «أمّا الصّقر فلا تأكل من صيده حتّى تدرك ذكاته، و أمّا الكلب فكل منه إذا ذكرت اسم اللّه عليه، أكل الكلب منه أو لم يأكل» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما قتلت من الجوارح مكلّبين و ذكرتم اسم اللّه عليه فكلوا من صيدهنّ، و ما قتلت الكلاب التي لم تعلّموها من قبل، ان تدركوه فلا تطعموه» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال لعديّ بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم و ذكرت اسم اللّه، فكل» (5).

و في رواية: «و إن أكل فلا تأكل، إنّما أمسكه على نفسه» (6).

ثمّ لمّا كانت المطاعم مزلّة للشّيطان، أكّد اللّه سبحانه التّكاليف التّحريميّة و التّحليليّة المذكورة بأمره بالتّقوى بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و احذروا مخالفة أحكامه. ثمّ هدّد على المخالفة بقوله: إِنَّ اَللّهَ في الآخرة سَرِيعُ اَلْحِسابِ لأعمالكم، فيؤاخذكم على معاصيكم بأسرع وقت.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 5

ثمّ منّ اللّه سبحانه على العباد بتسهيل أحكامه في المأكولات بقوله: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ و الآن رخّص لكم في أكل المستلذّات جميعها-و قد مرّت الوجوه في تفسيرها (7)- وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ من اليهود و النّصارى حِلٌّ لَكُمْ .

اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (8)[عن]القمّي رحمه اللّه: عنى بطعامهم هنا: الحبوب و الفواكه، غير الذبائح التي يذبحونها، فإنّهم لا يذكرون

ص: 335


1- . تفسير القمي 1:162، تفسير الصافي 2:11.
2- . في المصدر: قال: إذا أرسلت الكلب المعلّم.
3- . تفسير القمي 2:162، تفسير الصافي 2:11.
4- . الكافي 6:207/3، تفسير الصافي 2:11.
5- . تفسير الرازي 11:144.
6- . تفسير أبي السعود 3:8.
7- . في تفسير الآية المتقدمة.
8- . الكافي 6:203/5، تفسير الصافي 2:11.

اسم اللّه خالصا على ذبائحهم، ثمّ قال: و اللّه، لا يستحلّون ذبائحكم، فكيف تستحلّون ذبائحهم؟ (1).

إن قيل: بعد كون ما سوى ذبائح أهل الكتاب داخلا في عموم الطّيّبات، فما وجه تخصيصه بالذّكر؟

قلت: لعلّه دفع توهّم حرمته لدخوله في تصرّف المشركين كحرمة ذبائحهم، كما دفع سبحانه حرمة طعام المسلمين عليهم بقوله: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ .

و الحاصل: أنّه لا شبهة في عدم جواز التّمسّك بعموم طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لإثبات حلّ ذبائحهم، لثبوت تخصيصه بغير ذبائحهم بالرّوايات المعتبرة المعمول بها بين الأصحاب، و تعيّن حمل ما يعارضها على التّقيّة.

ثمّ من أيضا بتوسعته على المسلمين في المناكح بقوله: وَ اَلْمُحْصَناتُ و العفائف أو الحرائر مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ -عن الصادق عليه السّلام: «هنّ المسلمات» (2)-حلّ لكم العقد عليهم مطلقا وَ اَلْمُحْصَناتُ و العفائف مِنَ نساء اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود و النّصارى، أيضا حلّ لكم إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و مهورهنّ-و إنّما سمّي المهر أجرا لأنّه عوض البضع و الانتفاع، و لا يتقدّر بقدر، و في الاشتراط مع صحّة النّكاح بدون إعطاء المهر دلالة على تأكّد وجوب أدائه-حال كونكم مُحْصِنِينَ فروجكم، و حافظين لها من الزّنا بنكاحهنّ غَيْرَ مُسافِحِينَ و مجاهرين بالزّنا معهنّ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ و متستّرين به.

عن الشّعبي: الزّنا ضربان: سفاح، و هو الزّنا على سبيل الإعلان. و اتّخاذ خدن: و هو الزّنا في السّرّ (3).

و في تخصيص المحصنات بالحلّ، مع جواز نكاح غيرهنّ، إشعار بأولويّتهنّ.

و قد مرّ بعض الكلام في كونها ناسخة لقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ (4)، أو منسوخة به، أو بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (5)في طرفة بيان النّاسخ و المنسوخ (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تكميل الدّين، و تسهيل الأحكام في المطعم و المنكح، هدّد الكافرين بهذه الملّة السّمحة السّهلة بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ و يمتنع من الالتزام بتلك الأحكام فَقَدْ حَبِطَ و بطل عَمَلُهُ الصّالح الذي عمله في السّابق، أو قبل موته؛ فلا يثاب عليه أبدا وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ يكون مِنَ اَلْخاسِرِينَ و المغبونين؛ حيث باع الجنّة و النّعيم الآبد بالجحيم و العذاب الدّائم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 6

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

ص: 336


1- . تفسير القمي 1:163، تفسير الصافي 2:12.
2- . تفسير العياشي 2:13/1197، تفسير الصافي 2:12.
3- . تفسير الرازي 11:148.
4- . الممتحنة:60/10.
5- . البقرة:2/221.
6- . راجع الطرفة (20) من المقدمة.

في بيان كيفية

الوضوء

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة على العباد بتسهيل أحكامه في أهمّ امور معاشهم من المطاعم و المناكح، بيّن تسهيله عليهم في ما هو العمدة في أمر معادهم و هو الصّلاة بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ من النّوم-كما عنهما عليهما السّلام (1)-قاصدين إِلَى اَلصَّلاةِ متهيّئين لها، أو المراد: إذا أردتم القيام إليها فَاغْسِلُوا بالماء المطلق وُجُوهَكُمْ من قصاص الشّعر إلى الذّقن طولا، و ما دارت عليه الإبهام و الوسطى عرضا-كما عن الباقر عليه السّلام (2)- وَ أَيْدِيَكُمْ لكن لا كلّها، بل ما بين رؤوس الأصابع إِلَى اَلْمَرافِقِ و مفاصل السّواعد و الأعضاد، بحيث تدخلون المرافق في الغسل.

وَ اِمْسَحُوا بعد الغسلتين أكفّكم المبتلّة ببلل الوضوء بِرُؤُسِكُمْ، و قد فسّر في صحيح زرارة ببعض الرأس، لمكان الباء (3)، و لا يلتفت إلى إنكار سيبويه مجيء الباء للتّبعيض. و يجب أن يكون في الرّبع المقدّم منه، و يجزي مسمّاه، و يستحبّ أن يكون قدر ثلاث أصابع عرضا.

ثمّ عطف سبحانه الأرجل على الرؤوس بقوله: وَ أَرْجُلَكُمْ فعلم أنّ المسح يجزي ببعض الأرجل، بحيث يصدق مسمّاه عرضا، و يستحبّ بالكفّ، و أمّا طولا فيجب أن يمسح القدم من رؤوس الأصابع إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ و قبّتي القدمين.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدعا بطست أو تور (4)فيه ماء، فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة، فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق، ثمّ غمس كفّه اليمنى، فأفرغ على ذراعه اليسرى من المرفق و صنع بها مثل ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماء جديدا، ثمّ قال: «و لا يدخل أصابعه تحت الشّراك» .

ص: 337


1- . تفسير العياشي 2:16/1208 و 1209، تفسير الصافي 2:14.
2- . تفسير العياشي 2:18/1212، من لا يحضره الفقيه 1:28/88، تفسير الصافي 2:15.
3- . تفسير العياشي 2:19/1212، تفسير الصافي 2:18.
4- . التّور: إناء يشرب فيه.

ثمّ قال: «إنّ اللّه يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلاّ غسله، و أمر بغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله؛ لأنّ اللّه يقول: اغسلوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ، ثمّ قال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزء» .

فقيل: أين الكعبان؟ قال: «ها هنا» ، يعني: المفصل، دون عظم السّاق.

قيل: هذا ما هو؟ فقال: «هذا من عظم السّاق، و الكعب أسفل من ذلك» .

قيل: أصلحك اللّه، فالغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذّراع؟ قال: «نعم، إذا بالغت فيها، و الثّنتان تأتيان على ذلك كلّه» (1).

و في صحيح محمّد بن مسلم: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «مسح الرّأس على مقدّمه» (2).

فلا بدّ من حمل ما دلّ على الاجتزاء بالمسح على المؤخّر على التّقيّة.

و عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت: إنّ أناسا يقولون إنّ بطن الاذنين من الوجه، و ظهرهما من الرأس، فقال: «ليس عليهما غسل و لا مسح» (3).

و عن حمّاد في الصّحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا بأس بمسح الوضوء (4)مقبلا و مدبرا» (5).

و عن أحدهما عليهما السّلام، في الرّجل يتوّضأ و عليه العمامة، قال: «يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدّم رأسه» (6).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمه مقدار ثلاث أصابع، و لا تلقي عنها خمارها» (7).

و عنه عليه السّلام، قال: «يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع، و كذلك الرّجل» (8).

و عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع، فمسحها إلى الكعبين-إلى ظاهر القدم-فقلت: جعلت فداك، لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه؛ هكذا؟ فقال: «لا إلاّ بكفّه» (9).

ص: 338


1- . تفسير العياشي 2:17/1211، تفسير الصافي 2:17.
2- . التهذيب 1:62/171.
3- . الكافي 3:29/10، التهذيب 1:94/249.
4- . في التهذيب: بمسح القدمين.
5- . التهذيب 1:83/217.
6- . التهذيب 1:90/238.
7- . الكافي 3:30/5، التهذيب 1:77/195.
8- . الكافي 3:29/1، الاستبصار 1:60/177.
9- . الكافي 3:30/6، الاستبصار 1:62/184.

أقول: لا ريب أنّ هذه الرّواية و الرّواية السّابقة الدّالّة على الاجتزاء بثلاث أصابع محمولتان على الاستحباب، لقوّة إطلاق ما سواهما من الرّوايات، خصوصا قوله عليه السّلام: «فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأ» (1)المعتضد بعمل الأصحاب و فتوى المشهور.

في علل تشريع

الوضوء

و عن الرضا عليه السّلام قال: «امر بالوضوء و بدئ به، لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار [و]عند مناجاته إيّاه، مطيعا [له]في ما أمره، نقيّا من الأدناس و النّجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، و طرد النّعاس، و تزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار» (2).

قال: «و إنّما جوّزنا الصّلاة على الميّت بغير وضوء؛ لأنّه ليس فيها ركوع و لا سجود. . . ، و إنّما يجب الوضوء في الصّلاة التي فيها ركوع و سجود» (3).

و في حديث (المعاني) عن الرضا عليه السّلام: «إنّما وجب الوضوء على الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرّجلين؛ لأنّ العبد إذا قام بين يدي الجبّار فإنّما يكشف عن جوارحه و يظهر ما وجب فيه الوضوء، و ذلك أنّه بوجهه يستقبل و يسجد و يخضع و بيده يسأل و يرغب و يرهب و يتبتّل، و برأسه يستقبل في ركوعه و سجوده، و برجليه يقوم و يقعد، و إنّما وجب الغسل على الوجه و اليدين، و [جعل]المسح على الرأس و الرّجلين، و لم يجعل غسلا كلّه، و لا مسحا كلّه، لعلل شتّى، منها: أنّ العبادة العظمى إنّما هي الرّكوع و السّجود، و إنّما يكون الرّكوع و السّجود بالوجه و اليدين لا بالرّأس و الرّجلين. و منها: أنّ الخلق لا يطيقون في كلّ وقت غسل الرّأس و الرّجلين، و يشتدّ ذلك عليهم في البرد و السّفر و المرض و [أوقات من]اللّيل و النّهار، و غسل الوجه و اليدين أخفّ من غسل الرّأس و الرّجلين، و إنّما وضعت الفرائض على قدر أقلّ النّاس طاقة من أهل الصّحّة، ثمّ عمّ [فيها]القويّ و الضّعيف. و منها: أنّ الرأس و الرّجلين ليس هما في كلّ وقت باديان و ظاهران كالوجه و اليدين، لموضع العمامة و الخفّين و غير ذلك» (4).

في حكمة غسل

الوجه و اليدين

و مسح الرأس

و الرجلين

و عنه عليه السّلام، في رواية: «ثمّ الوضوء كما أمر اللّه في كتابه: غسل الوجه و اليدين إلى المرفقين (5)و مسح الرأس و الرّجلين، فلقيامه بين يدي اللّه عزّ و جلّ و استقباله إيّاه بجوارحه الظّاهرة، و ملاقاته بها الكرام الكاتبين، فغسل الوجه للسّجود و الخضوع،

ص: 339


1- . التهذيب 1:76/191.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام:2:104/1.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:115/1.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:104/1.
5- . في علل الشرائع: أن علة الوضوء التي من أجلها صار غسل الوجه و الذراعين.

و غسل اليدين ليقلّبهما و يرغب بهما و يرهب [و يتبتّل]، و مسح الرّأس و الرّجلين لأنّهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما في كلّ حالاته، و ليس فيهما من الخضوع و التّبتّل ما في الوجه و الذّراعين» (1)الخبر.

أقول: الظّاهر أنّه وقع التّصحيف في قوله: «لأنّهما ظاهران مكشوفان» و كانت العبارة: ليسا ظاهرين مكشوين يستقبل بهما في كلّ حالاته.

و في (العلل) : جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل، و كان فيما سألوه: أخبرنا يا محمّد، لأيّ علّة توضّأ هذه الجوارح الأربع و هي أنظف المواضع في الجسد؟

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا أن وسوس الشّيطان إلى آدم، دنا من الشّجرة، فنظر إليها، فذهب ماء وجهه، ثمّ قام و مشى إليها، و هي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ممّا عليها و أكل فتطاير الحليّ و الحلل عن جسده، فوضع آدم يده على امّ رأسه و بكى، فلمّا تاب اللّه عليه فرض اللّه عليه و على ذرّيّته تطهير (2)هذه الجوارح الأربع، فأمره اللّه بغسل الوجه لما نظر إلى الشّجرة، و أمره بغسل اليدين إلى المرافق لمّا تناول بهما، و أمره بمسح الرّأس لما وضع يده على امّ رأسه، و أمره بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة» (3).

و زاد في رواية قال: «ثمّ سنّ على امّتي المضمضة لينقى القلب عن الحرام، و الاستنشاق لتحرم عليهم رائحة النّار و نتنها» .

قال [اليهودي: صدقت]يا محمّد، فما جزاء عاملها؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما يمسّ الماء يتباعد عنه الشّيطان، فإذا تمضمض نور اللّه قلبه و لسانه بالحكمة، و إذا استنشق آمنه اللّه من النّار و رزقه رائحة الجنّة، و إذا غسل وجهه بيّض اللّه وجهه يوم تبيضّ وجوه و تسودّ وجوه، و إذا غسل ساعديه حرّم اللّه عليه أغلال النّار، و إذا مسح رأسه مسح اللّه عنه سيّئاته، و إذا مسح قدميه أجازه اللّه على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام» (4).

و عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: يصلّي الرّجل لوضوء [واحد صلاة]الليل و النّهار كلّها؟ قال: «نعم، ما لم يحدث» (5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الطّهر على الطّهر عشر حسنات» (6).

في بيان غسل

الجنابة و أحكامه

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى حكم المحدث بالحدث الأصغر، كالنّوم و البول و الغائط و الرّيح،

ص: 340


1- . علل الشرائع:280/2.
2- . في المصدر: غسل.
3- . علل الشرائع:280/1.
4- . أمالي الصدوق:258/279.
5- . الكافي 3:63/4.
6- . الكافي 3:72/10.

بيّن حكم المحدث بالحدث الأكبر، كالجنابة، بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً بخروج المنيّ، أو التقاء الختانين، و إن لم ينزل المنيّ فَاطَّهَّرُوا بالماء و اغتسلوا.

عن زرارة، قلت: كيف يغتسل الجنب؟ فقال: «إن لم يكن أصاب كفّه شيء غمسها في الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين، و على منكبه الأيسر مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأ» (1).

و عنه رضى اللّه عنه، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجنابة، فقال: «تبدأ فتغسل كفّيك، ثمّ تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك و مرافقك، ثمّ تمضمض و استنشق، ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كلّ شيء أمسسته الماء فقد أنقيته، و لو أنّ رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة، أجزأ ذلك و إن لم يدلك جسده» (2).

و عنه عليه السّلام، في رجل أصابته جنابة، فقام في المطر حتّى سال على جسده، أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال: «نعم» (3).

و عنه عليه السّلام، قال: «يجزيك من الغسل و الاستنجاء ما بلّت يمينك» (4).

و عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إنّ الجنب ما جرى عليه الماء (5)قليله و كثيره، فقد أجزأه» (6).

و عنه عليه السّلام، في حديث: «و من انفرد بالغسل وحده فلا بدّ له من صاع» (7).

أقول: محمول على الاستحباب لدلالة الرّوايات الكثيرة على إجزاء مسمّى الغسل، و لو كالتّدهين.

عن الثّعلبي: قال عليّ عليه السّلام: «أقبل عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمّد، لماذا أمر اللّه بالغسل من الجنابة، و لم يأمر من البول و الغائط و هما أقذر من النّطفة؟ فقال عليه السّلام: إنّ آدم لمّا أكل من الشّجرة تحوّل في عروقه و شعره، فإذا جامع الإنسان نزل من أصل كلّ شعرة، فافترضه اللّه عليّ و على امّتي تطهيرا و تكفيرا و شكرا لما أنعم اللّه عليهم من اللّذّة التي يصيبونها» (8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث: «من ترك شعرة من الجنابة متعمّدا فهو في النّار» (9).

و عنه عليه السّلام، قال: «من اغتسل من جنابته، فلم يغسل رأسه [ثمّ بدا له أن يغسل رأسه]، لم يجد بدّا من إعادة الغسل» (10).

ص: 341


1- . الكافي 3:43/3، التهذيب 1:133/368.
2- . التهذيب 1:148/422.
3- . الكافي 3:44/7.
4- . الكافي 3:22/6، التهذيب 1:138/386.
5- . زاد في الكافي و التهذيب: من جسده.
6- . الكافي 3:21/4، التهذيب 1:137/380.
7- . من لا يحضره الفقيه 1:24/72.
8- . تفسير روح البيان 2:355.
9- . التهذيب 1:135/373.
10- . الكافي 3:44/9، التهذيب 1:133/369.

و عنه عليه السّلام، قال: «إنّ عليّا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة، و يغسل سائر جسده عند الصّلاة» (1).

و عنه عليه السّلام، قال: «لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك و فرجك و رأسك، و تؤخّر غسل جسدك إلى وقت الصّلاة، ثمّ تغسل جسدك إذا أردت ذلك، فإن أحدثت حدثا من البول أو الغائط أو الرّيح أو المنيّ بعدما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك، فأعد الغسل من أوّله» (2).

و عنه عليه السّلام، عن آبائه، قال: «كنّ نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطّيب على أجسادهنّ، و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمرهنّ أن يصببن الماء صبّا على أجسادهنّ» (3).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه حكم من لم يتمكّن من استعمال الماء، بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بحيث يضرّكم استعمال الماء أَوْ راكبين عَلى سَفَرٍ قريب أو بعيد يشقّ عليكم استعماله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً للوضوء أو الغسل فَتَيَمَّمُوا و تعمّدوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ، قد مرّ تفسيره و بعض الكلام فيه في سورة النّساء (4).

ثمّ صرّح سبحانه بالمنّة على العباد بتخفيف أحكامه بقوله: ما يُرِيدُ اَللّهُ بأمركم بالوضوء أو الغسل للصّلاة لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ شيئا مِنْ حَرَجٍ و ضيق و مشقّة، و لذا لم يأمركم بتحمّل الضّرر، و تحصيل الماء بمشقّة شديدة وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ و ينظّفكم، و لذا أمركم عند فقد الماء، أو عدم التّمكّن من استعماله بالتّيمّم بالتّراب، لكونه أحد الطّهورين.

أو يريد ليبرئكم من الذّنوب، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الوضوء: «أيّما رجل قام إلى وضوئه يريد الصّلاة ثمّ غسل كفّيه، نزلت خطيئة كفّيه مع أوّل قطرة، فإذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه و شفتيه مع أوّل قطرة، و إذا غسل وجهه و يديه، سلم من كلّ ذنب هو عليه، و كان كيوم ولدته امّه» (5).

ثمّ منّ بالمنّة الاخرى بقوله: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بتشريعه الحنيفيّة السّمحة السّهلة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته، و تعملون بشريعته.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 7

وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (7)

ص: 342


1- . الكافي 3:44/8، التهذيب 1:134/372.
2- . مدارك الأحكام 1:308.
3- . علل الشرائع:293/1.
4- . تقدّم في تفسير الآية (43) من سورة النساء.
5- . تفسير روح البيان 2:356.

ثمّ لمّا ذكر أنّ تشريع التّيمّم، و تخفيف أحكامه تتميم لنعمه، نبّههم بأصل نعمه ترغيبا إلى الشّكر، و حثّا على الانقياد، بقوله: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ من هدايتكم إلى دين الإسلام، و إخراجكم من ظلمات الشّرك و الجهل إلى نور التّوحيد و المعارف الإلهيّة التي لم تكن في سائر الامم، وَ اذكروا مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ و عهده الأكيد الذي عاهدكم عليه، بتوسّط رسوله حين بايع المؤمنين على السّمع و الطّاعة لجميع أوامره و أحكامه، في حال اليسر و العسر و النّشاط و الكره، و أنتم-أيّها المؤمنون-قبلتم العهد و التزمتم به إِذْ قُلْتُمْ في جواب الرّسول: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أوامرك و أحكامك.

عن الباقر عليه السّلام: «المراد بالميثاق: ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات، و كيفيّة الطّهارة، و فرض الولاية، و غير ذلك» (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: لمّا أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية، قالوا: سمعنا و أطعنا (2).

ثمّ رهّب المؤمنين عن كفران النّعمة، و نقض الميثاق بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و احذروه في كفران نعمه و نسيانها، و نقض ميثاقه، و مخالفة أحكامه.

ثمّ بالغ في التّهديد بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و مطّلع على مكنونها، فيجازيكم عليها، فكيف بجليّات الأعمال!

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 8

ثمّ أكّد سبحانه وجوب العمل بالميثاق، و الوفاء بالعهد على امتثال أحكامه التي مرجعها إلى وجوب القيام بوظائف العبوديّة، و أداء حقوق النّاس، و العدل فيهم، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالعبوديّة لِلّهِ ثابتين على طاعته، مبالغين في أمتثال أوامره و نواهيه، مجدّين في العمل بأحكامه، و كونوا شُهَداءَ بين النّاس بِالْقِسْطِ و العدل، و قولوا الحقّ و إن كان مضرّا على أوليائكم، نافعا لأعدائكم وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ و لا يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ و شدّة عداوة طائفة عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا فيهم، و تجوروا عليهم بارتكاب ما لا يحلّ لكم من المثلة، و قتل النّساء و الصّبية، و قذف المحصنة، و شهادة الزّور، و ارتكاب الخيانة، إلى غير ذلك، بل اِعْدِلُوا فيهم و إن ظلموكم،

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)

ص: 343


1- . مجمع البيان 3:260، تفسير الصافي 2:20.
2- . تفسير القمي 1:163، تفسير الصافي 2:20.

و أنصفوا بينهم و إن جاروا عليكم، و اعلموا أنّ العدل في القول و الفعل هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى الذي امرتم به.

قيل: نزلت الآية في مشركي قريش لمّا صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام (1).

إن قيل: فكيف يجوز قتل الكفّار، و سبي نسائهم و ذراريهم، و نهب أموالهم، مع أنّه جور عليهم؟

قلت: الجور هو التّجاوز عن حدود الشّرع، و المعاملات المذكورة مع الكفّار هي الحدود المقرّرة فيه، و هو عين العدل.

ثمّ بالغ اللّه سبحانه في تأكيد الأمر بالتّقوى بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ يا عباد اللّه في مخالفة أحكامه، ثمّ وعد الملتزمين بالتّقوى بالثّواب، و أوعد التّاركين له بالعقاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الطّاعة و العصيان، بحيث لا يخفى عليه شيء من أحوالكم و أعمالكم خفيّها و جليّها، فيجازيكم بما تستحقّون من الثّواب و العقاب.

و في تكرار النّهي عن حمل الشّنآن على التّعدّي و ترك العدل دلالة على مزيد الاهتمام بالعدل، و المبالغة في إيجاب إطفاء نائرة الغيظ، و ترك متابعة الهوى.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ وعد اللّه سبحانه المؤمنين الملتزمين بالتّقوى و العدل و القسط تطييبا لقلوبهم، و تشفّيا لهم من غيظ الكفّار بالثّواب العظيم أوّلا بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و منها العدل و التّقوى، ثمّ كأنّه قيل: ما وعدهم؟ فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ و ستر للسّيّئات بتبديلها بالحسنات وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ من الجنّة و النّعم الدّائمة.

وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (10)

ثمّ وعدهم بتعذيب أعدائهم ثانيا بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي منها الآيات الدّالّة على وجوب العدل و التّقوى أُولئِكَ الكافرون المكذّبون أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و ملازموها إلى الأبد.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 11

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (11)

ص: 344


1- . تفسير الرازي 11:180.

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على ملازمة التّقوى و العدل لكونهما شديدي المخالفة للطّباع، بتذكير المؤمنين نعمه عليهم، المقتضية للطّاعة و الشّكر، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ و هي حفظ نفوسكم إِذْ هَمَّ و عزم قَوْمٌ من الكفّار على أَنْ يَبْسُطُوا و يمدّوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الأسر و الغارة فَكَفَّ اللّه أَيْدِيَهُمْ بلطفه و رحمته عَنْكُمْ و منعها من الوصول إليكم، إذن فاشكروا تلك النّعمة العظيمة وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و احذروا مخالفة أوامره و نواهيه، و لا تخافوا في طاعته أحدا وَ عَلَى اَللّهِ القادر فَلْيَتَوَكَّلِ و ليعتمد في دفع الأعداء و كيدهم اَلْمُؤْمِنُونَ به العارفون بولايته لأوليائه.

في بيان حفظ اللّه

نبيه صلّى اللّه عليه و آله من القتل

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سريّة إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلاّ ثلاثة نفر أحدهم عمر بن اميّة الضّمري، و انصرف هو و آخر معه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليخبراه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم، معهما أمان من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقتلاهما و لم يعلما أنّ معهما أمانا.

فجاء قومهما إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يطلبون الدّية، فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معه عليّ عليه السّلام و أبو بكر و عمر و عثمان حتّى دخلوا على بني النّضير، و قد كانوا عاهدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ترك القتال، و أن يعينوه في الدّيات، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان منّي، فلزمني ديتهما، فاريد أن تعينوني» .

فقالوا: اجلس حتّى نطعمك و نعطيك ما تريد، ثمّ همّوا بالفتك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بأصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحال مع أصحابه و خرجوا، فقال اليهود: إنّ قدورنا تغلي، فأعلمهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أنّه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه. قال (1): و قد تآمروا على أن يطرحوا عليه رحا أو حجرا. و قيل: بل ألقوا، فأخذه جبرئيل.

و قيل: إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله نزل منزلا و تفرّق النّاس عنه، و علّق سيفه بشجرة، فجاء أعرابي و سلّ سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: من يمنعك منّي؟ فقال: «اللّه» -قالها ثلاثا-فأسقطه جبرئيل من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: «من يمنعك منّي؟» فقال: لا أحد، ثمّ صاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه فأخبرهم، و أبى أن يعاقبه (2).

أقول: على هاتين الرّوايتين يكون المراد من تذكيرهم نعمة اللّه هو دفع الشّرّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث إنّ قتله أعظم المحن على المؤمنين.

ص: 345


1- . زاد في تفسير الرازي: عطاء.
2- . تفسير الرازي 11:183.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 12

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه أخذه الميثاق من المؤمنين و نعمته عليهم، ذكر أخذ الميثاق من بني إسرائيل و نعمته عليهم عبرة للمؤمنين، بقوله: وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ و عهدهم الوثيق على العمل بأحكام التّوراة وَ بَعَثْنا و اخترنا مِنْهُمُ بلسان موسى و تعيينه اِثْنَيْ عَشَرَ بعدد أسباطهم نَقِيباً و حاكما سائسا بينهم، أو قيّما و كافلا لامورهم، أو مفتّشا منقّبا لأحوالهم، كما جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله للأنصار اثني عشر نقيبا وَ قالَ اَللّهُ بلسان موسى لبني إسرائيل أو لنقبائهم لترغيبهم إلى الطّاعة، و ترهيبهم عن المعصية إِنِّي مَعَكُمْ بالعلم و القدرة و النّصرة أسمع مقالكم، و أرى أعمالكم، و أطّلع على ضمائركم و أسراركم، فاجازيكم على ما يصدر منكم.

وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اَللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ (12)ثمّ وعدهم بالثّواب مؤكّدا له بالقسم بقوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ المفروضة وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ الواجبة وَ آمَنْتُمْ عن صميم القلب بِرُسُلِي كلّهم من غير تفريق في الإيمان بين موسى و عزير و غيرهما، فإن الإيمان بالرّسل شرط قبول الأعمال وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ و منعتموهم من الأعداء بالنّصرة وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ أموالكم بصرفها في سبيل الخير قَرْضاً حَسَناً برغبة و خلوص نيّة، بلا شوب بالرّياء و السّمعة، إذن باللّه لَأُكَفِّرَنَّ و أمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و ذنوبكم، صغائرها و كبائرها وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ في الآخرة جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

ثمّ نبّه اللّه تعالى على أنّ الكفر بعد وضوح الحقّ و ظهور النّعم من أقبح أنواع الضّلال، بقوله: فَمَنْ كَفَرَ باللّه و نعمه بَعْدَ ذلِكَ العهد الوثيق، و النّعمة العظيمة، و الوعد الأكيد بالثّواب مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ و أخطأ سَواءَ اَلسَّبِيلِ و وسط الطريق الموصل إلى كلّ خير، و مقام القرب و الدّرجات الرّفيعة من الجنّة، ضلالا بيّنا و خطأ واضحا لا عذر معه أصلا، بخلاف من كفر قبل ذلك، فإنّه ربّما يكون عن الشّبهة و توهّم المعذرة.

في أخذ

موسى عليه السّلام النقباء

و ملاقاتهم عوجا

روي أنّ بني إسرائيل لمّا استقرّوا بمصر بعد مهلك فرعون، أمرهم اللّه تعالى بالمسير إلى أريحا من أرض الشّام و هي الأرض المقدّسة، و كانت لها ألف قرية، في كلّ قرية ألف بستان، و كان يسكنها الجبابرة الكنعانيّون، و قال لهم: إنّي كتبتها لكم دار قرار، فاخرجوا إليها و جاهدوا من فيها؛ و إنّي ناصركم، و أمر موسى أن يأخذ من كلّ سبط نقيبا أمينا يكون

ص: 346

كفيلا على قومه بالوفاء بما امروا به، توثقة عليهم، فاختار النّقباء، و أخذ الميثاق على بني إسرائيل، و تكفّل لهم النّقباء، و سار بهم، فلمّا دنا من أرض كنعان، بعث النّقباء يتجسّسون الأخبار و يعلمون علمها، فرأوا أجراما عظيمة و قوّة و شوكة، فهابوا و رجعوا و حدّثوا قومهم بما رأوا، و قد نهاهم موسى عن ذلك، فنكثوا الميثاق إلاّ كالب بن يوقنا نقيب سبط يهودا، و يوشع بن نون نقيب سبط افرائيم بن يوسف الصّديق.

قيل: لمّا توجّه النّقباء إلى أرضهم للتّجسّس لقيهم عوج بن عنق و كان طوله ثلاثة آلاف و ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثين ذراعا و ثلث ذراع، و عاش ثلاثة آلاف سنة، و كان يحتجز بالسّحاب و يشرب منه، و يتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشّمس يرفعها إليها ثمّ يأكله، فلمّا لقي عوج النّقباء و على رأسه حزمة حطب أخذهم و جعلهم في الحزمة-و في رواية: في كمّه-فانطلق بهم إلى امرأته و قال: انظري إلى هؤلاء الّذين يزعمون قتالنا.

و في رواية: أتى بهم الملك فنشرهم بين يديه فقال: ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم، فلمّا رجعوا قال بعضهم: إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدّوا عن نبيّ اللّه، و لكن اكتموه إلاّ عن موسى و هارون، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك، ثمّ انصرفوا إلى موسى، فنكثوا عهدهم، و جعل كلّ منهم ينهى سبطه عن قتالهم، و يخبرهم بما رأوا، إلاّ كالب و يوشع (1)، الخبر.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 13

فَبِما نَقْضِهِمْ و نكثهم مِيثاقَهُمْ و عهدهم، و بسبب خلفهم بما التزموا به لَعَنّاهُمْ و طردناهم عن ساحة الرّحمة و قيل: يعني: مسخناهم خنازير و قردة (2)و عن ابن عبّاس: ضربنا عليهم الجزية (3).

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (13)وَ جَعَلْنا و صيّرنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً صلبة، لا تتأثّر بالآيات و النّذر، و قيل: فاسدة رديئة، أو نائية عن قبول الحقّ، منصرفة عن الانقياد للدّلائل (4).

ص: 347


1- . تفسير أبي السعود 3:14، تفسير روح البيان 2:363.
2- . تفسير الرازي 11:186، تفسير روح البيان 2:365.
3- . تفسير الرازي 11:186.
4- . تفسير الرازي 11:187.

ثم شرح سبحانه سيئات أعمالهم التي كانت نتيجة اللعن و القساوة، بقوله: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ التي كانت في التوراة عَنْ مَواضِعِهِ و محاله فيها، و يغيرون ألفاظ آياتها.

و قيل: كانوا يؤلون آياتها بالتأويل الباطل لعدم إمكان تغيير الألفاظ في الكتاب للتواتر (1).

وَ نَسُوا و تركوا حَظًّا وافرا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ عن ابن عباس: تركوا نصيبا مما امروا به في كتابهم، و هو الإيمان بمحمد صلى الله عليه و آله (2).

ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه و آله بقوله: وَ لا تَزالُ يا محمد تَطَّلِعُ عَلى فرقة، أو أنفس خائِنَةٍ في التوراة مِنْهُمْ أو على خيانة صادرة منهم إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ كعبد الله بن سلام و أضرابه، أو كالكافرين الذين لم يخونوا، و على أي تقدير فَاعْفُ عَنْهُمْ و لا تتعرض لعقوبتهم وَ اِصْفَحْ عنهم و أعرض عما صدر عنهم، و لا تعيرهم و لا تعيب عليهم بعد إيمانهم، أو بعد تعاهدهم و التزامهم بالجزية. كذا قيل (1).

ثم علل الأمر بالعفو و الصفح بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ إلى الناس و إن كانوا كافرين.

عن القمي رحمه الله: منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ (2). و قيل: بقوله: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 14

ثم نبه الله سبحانه على أن النصارى أيضا كاليهود في نقض الميثاق و ترك العمل بكتاب الله بقوله: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا و ادعوا إِنّا نَصارى و نحن أنصار الله، أو أنصار عيسى إلى الله، و ليسوا بذلك أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ على العمل بأحكام الإنجيل و الالتزام بما فيه، و فيه أمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه و آله فَنَسُوا و تركوا حَظًّا وافرا و نصيبا و افيا مِمّا ذُكِّرُوا و امروا بِهِ فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه و آله فَأَغْرَيْنا و ألقينا بنحو اللزوم و اللصوق فيما بَيْنَهُمُ و بين اليهود، أو بين فرقهم المختلفة اَلْعَداوَةَ و المباينة بالأفعال وَ اَلْبَغْضاءَ و المنافرة بالقلوب و العقائد بحيث يلعن بعضهم بعضا إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و دار الجزاء وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ و يخبرهم بشدة عقوبتهم بِما

وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

ص: 348


1- . تفسير روح البيان 2:365.
2- . تفسير القمي 1:164، تفسير الصافي 2:21، و الآية من سورة التوبة:9/5.
3- . مجمع البيان 3:268، و الآية من سورة التوبة:9/29.

كانُوا في الدّنيا يَصْنَعُونَ من السّيّئات.

و فيه أشدّ الوعيد، و إنّما عبّر عن العمل بالصّنع، للإيذان برسوخهم في ذلك.

قضية بولس

و افساده دين

النصارى

قيل: الذي ألقى العداوة بين النّصارى [رجل]يقال له بولس، فإنّه كان بينه و بين النّصارى قتال، قتل منهم خلقا كثيرا، فأراد أن يحتال حيلة يلقي بينهم القتال، فجاء إلى النّصارى و جعل نفسه أعور و قال لهم: ألا تعرفونني؟ فقالوا: أنت الذي قتلت ما قتلت منّا، و فعلت ما فعلت، فقال: فعلت ذلك كلّه، و الآن تبت لأنّي رأيت عيسى في المنام نزل من السّماء فلطم وجهي لطمة فقأ عيني، فقال: أيّ شيء تريد من قومي؟ فتبت على يديه، ثمّ جئتكم لأكون بين ظهرانيكم، و اعلّمكم شرائع دينكم كما علّمني عيسى في المنام، فاتّخذوا له غرفة، فصعد تلك الغرفة، و فتح كوّه إلى النّاس في الحائط، و كان يتعبّد في الغرفة، و ربّما كانوا يجتمعون إليه و يسألونه و يجيبهم من تلك الكوّة، و ربّما يأمرهم بأن يجتمعوا و يناديهم من تلك الكوّة و يقول لهم بقول كان منكرا في الظّاهر، و ينكرون عليه، فكان يفسّر ذلك القول تفسيرا يعجبهم ذلك، فانقادوا كلّهم له، و كانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به.

فقال يوما من الأيام: اجتمعوا عندي فقد حضرني علم، فاجتمعوا فقال: أ ليس خلق اللّه الأشياء في الدّنيا كلّها لمنفعة ابن آدم؟ قالوا: نعم، فقال: لم تحرّمون على أنفسكم هذه الأشياء-يعني: الخمر و الخنزير-و قد خلق لكم ما في الأرض جميعا، فأخذوا قوله فاستحلّوا الخمر و الخنزير.

فلمّا مضى على ذلك أيّام دعاهم و قال: حضرني علم فاجتمعوا، فقال: من أيّ ناحية تطلع الشّمس؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: من أيّ ناحية يطلع القمر و النّجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق، فقال: و من يرسلهم من قبل المشرق؟ قالوا: اللّه تعالى، فقال: فاعلموا أنّه تعالى في قبل المشرق، فإن صلّيتم له فصلّوا إليه. فحوّل صلاتهم إلى المشرق، فلمّا مضى على ذلك أيّام دعا بطائفة منهم و أمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة، و قال لهم: إنّي اريد أن أجعل نفسي قربانا اللّيلة لعيسى، و قد حضرني علم فاريد أن اخبركم في السّرّ، لتحفظوا عنّي و تدعوا النّاس إلى ذلك بعدي.

و يقال أيضا: إنّه أصبح يوما و فتح عينه الاخرى ثمّ دعاهم و قال: جاءني عيسى اللّيلة و قال: قد رضيت عنك، فمسح يده على عيني فبرئت، و الآن اريد أن أجعل نفسي قربانا له.

ثمّ قال: هل يستطيع أحدكم أن يحيي الموتى و يبرىء الأكمه و الأبرص إلاّ اللّه تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: إنّ عيسى قد فعل هذه الأشياء، فاعلموا أنّه هو اللّه تعالى، فخرجوا من عنده، ثمّ دعا بطائفة اخرى فأخبرهم بذلك أيضا و قال: إنّه كان ابن اللّه، ثمّ دعا بطائفة اخرى و أخبرهم بذلك أيضا و قال:

ص: 349

إنّه ثالث ثلاثة، و أخبرهم أنّه يريد أن يجعل نفسه اللّيلة قربانا، فلمّا كان بعض اللّيل خرج من بين ظهرانيهم، فأصبحوا و جعل كلّ فريق يقول: قد علّمني كذا و كذا، و قال الفريق الآخر: أنت كاذب، بل علّمني كذا، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا و قتلوا خلقا كثيرا، و نصب العداوة بينهم إلى يوم القيامة. و هم ثلاث فرق: النّسطورية، فقالوا: المسيح ابن اللّه، و الثانية: الملكانية، قالوا: إنّ اللّه ثالث ثلاثة، المسيح و امّه و اللّه، و الثالثة: اليعقوبية، قالوا: إنّ اللّه هو المسيح (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 15

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى نقض اليهود و النّصارى ميثاقهم الذي اخذ منهم على الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و خيانتهم بالتّوراة و الإنجيل، و إخبار النبيّ بما أخفوه عن النّاس من تحريفاتهم و تغييراتهم في الكتابين، و كان ذلك من معاجزه الدّالّة على صدقه في دعوى الرّسالة، باشر بذاته المقدّسة دعوتهم إلى الإيمان بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ من اليهود و النّصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله مع البراهين القاطعة على صدقه؛ منها: أنّه مع امّيّته و عدم قراءته الكتب، و عدم تعلّمه عند أحد يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ السّماوي، كنعوته في الكتابين، و اسمه المذكور فيهما، و آية (2)الرّجم-كما عن ابن عبّاس (3)-و ذلك منه إخبار بالمغيّبات كإخبار عيسى عليه السّلام بما يأكلون و ما يدّخرون وَ يَعْفُوا و يغمض عَنْ كَثِيرٍ ممّا تخفونه و تكتمونه، فلا يخبر به.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15)عن القمّي رحمه اللّه، قال: يبيّن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كثيرا ممّا أخفيتموه ممّا في التّوراة من أخباره، و يدع كثيرا لا يبيّنه (4).

قضية تحكيم ابن

صوريا اليهودي

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم، زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم كعب بن اسيد، و مالك بن صيف، و كنانة بن أبي الحقيق، و غيرهم، فقالوا: يا محمّد، أخبرنا عن الزّاني و الزّانية إذا احصنا، ما حدّهما؟ فقال: هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا: نعم. فنزل جبرئيل بالرّجم، فأخبرهم بذلك، فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرئيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا، و وصفه له، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 350


1- . تفسير روح البيان 2:367.
2- . في تفسير الرازي: و أمر.
3- . تفسير الرازي 11:189.
4- . تفسير القمي 1:164، تفسير الصافي 2:22.

هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدك، يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم، قال: أيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه على موسى. قال: فأرسلوا إليه. ففعلوا، فأتاهم عبد اللّه بن صوريا.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنشدك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، الذي أنزل التّوراة على موسى، و فلق لكم البحر فأنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المنّ و السّلوى، هل تجدون في كتابكم الرّجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم، و الذي ذكّرتني به، لو لا خشية أن يحرقني ربّ التّوراة إن كذبت أو غيّرت، ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرّجم. فقال ابن صوريا: هكذا أنزل اللّه في التّوراة على موسى عليه السّلام.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: فماذا كان أول ما ترخّصتم به أمر اللّه؟ قال: كنّا إذا زنى الشّريف تركناه، و إذا زنى الضّعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر الزّنا في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا، فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال قومه: لا، حتّى ترجم فلانا-يعنون ابن عمه-فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرّجم يكون على الشّريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التفحيم (1)-و هو أن يجلدا أربعين جلدة، ثمّ تسوّد وجوههما، ثمّ يحملا على حمارين، و تجعل وجوههما من قبل دبر الحمار، و يطاف بهما-فجعلوا هذا مكان الرّجم.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك، فقال: إنّه نشدني بالتّوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به.

فأمر بهما النبي صلّى اللّه عليه و آله فرجما عند باب مسجده، و قال: أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه. فأنزل اللّه سبحانه فيه: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ .

فقام ابن صوريا فوضع يده على ركبتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك، أن تذكر [لنا]الكثير الذي امرت أن تعفو عنه، فأعرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك (2).

و من البراهين على رسالته بقوله (3): قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ بوساطة محمّد صلّى اللّه عليه و آله دين الإسلام الذي هو نُورٌ في الحقيقة، حيث تتقوّى به بصيرتكم على إدراك المعقولات كما يتقوّى بالنّور الحسّي

ص: 351


1- . في مجمع البيان: و التحميم.
2- . مجمع البيان 3:299، تفسير الصافي 2:22.
3- . كذا، و توجد كلمة بعد (من) غير واضحة. راجع النسخة ج 1 ص 388.

بصركم على إدراك المحسوسات.

ثمّ أشار سبحانه إلى البرهان الثالث بقوله: وَ كِتابٌ مُبِينٌ للحقّ، و كاشف عن حقائق الأمور. و قيل: النّور هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1). و قيل: النّور و الكتاب واحد (2).

و عن القميّ رحمه اللّه: يعني بالنّور: أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 16

ثمّ بيّن عظيم فائدة الكتاب تعظيما له، بقوله: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ و طلب باتّباعه و إطاعة أحكامه رِضْوانَهُ و قربه سُبُلَ دار اَلسَّلامِ و طرق الجنّة، أو سبل السّلامة من العذاب وَ يُخْرِجُهُمْ بوسيلة هذا الكتاب مِنَ اَلظُّلُماتِ و أنواع كدورات الكفر و الضّلال، و الجهل و هوى النّفس إِلَى اَلنُّورِ من الإيمان و العلم و الحكمة و كمال النّفس بِإِذْنِهِ و مشيئته و توفيقه وَ يَهْدِيهِمْ و يرشدهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الدّين الحقّ القويم، الموصل إلى جميع الخيرات و أكمل السّعادات.

يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 17

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّ القرآن الكريم هاد إلى الحقّ، و منج من الضّلال، بيّن غاية ضلالة النّصارى بقوله: لَقَدْ كَفَرَ النّصارى اَلَّذِينَ قالُوا و اعتقدوا إِنَّ اَللّهَ و الخلاّق المعبود هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ كما نسبت إلى اليعقوبيّة منهم، بل هو لازم قول الملكانيّة القائلين بالأقانيم الثّلاثة، حيث إنّهم قائلون بأنّ الكلمة اتّحدت بعيسى، لأنّه إن أرادوا به ذاته تعالى يلزم منه القول بحلوله تعالى في عيسى، فيكون عيسى هو اللّه، و إن أرادوا من الكلمة علمه تعالى فحلول علمه مستلزم لحلول ذاته، لأنّ علمه عين ذاته.

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)ثمّ بيّن اللّه تعالى بطلان هذا القول و فضاحته بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: إن كان الأمر كما تزعمون

ص: 352


1- . مجمع البيان 3:270، تفسير الصافي 2:23.
2- . تفسير الرازي 11:189، و فيه: و الكتاب هو القرآن.
3- . تفسير القمي 1:164، تفسير الصافي 2:23.

فَمَنْ يَمْلِكُ و يقدر على أن يمنع مِنَ نفوذ قدرة اَللّهَ و إرادته شَيْئاً يسيرا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ و يفني اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ بل وَ مَنْ كان فِي اَلْأَرْضِ المسيح و غيره جَمِيعاً فإذا كان المسيح مقهورا تحت قدرة الغير و إرادته، بحيث لا يمكنه دفع الهلاك عن نفسه و امّه و غيرهما، لا يعقل أن يكون إلها.

ثمّ استدلّ على الوهيّة ذاته المقدّسة بعظمة سلطانه بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما لا يخرج شيء من الموجودات عن ملكه و سلطانه، و لا شريك له فيهما.

ثمّ استدلّ بسعة قدرته بقوله: يَخْلُقُ و يوجد ما يَشاءُ خلقه و إيجاده كيف يشاء بلا أصل كعالم العقول، أو من أصل كعالم الأجسام، من غير جنسه كآدم و سائر الحشرات، أو من جنسه كأولاد آدم، من ذكر واحد كحوّاء، و من انثى واحدة كعيسى، أو منهما كسائر النّاس.

ثمّ بالغ في تقرير قدرته الكاملة بقوله: وَ اَللّهُ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الممكنات قَدِيرٌ و عيسى لا يقدر على شيء إلاّ بإقداره تعالى له.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 18

ثمّ أنّه تعالى بعد حكمه بكفر النّصارى لغلوّهم في شأن عيسى و ادّعائهم الوهيّته، و إبطال دعواهم، حكى عنهم و عن اليهود غلوّهم في حقّ أنفسهم مع كونهم في أشدّ مراتب الكفر و منتهى درجة الضّلال، بقوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى ترفيعا لأنفسهم على سائر النّاس، و غرورا بشرف آبائهم الأنبياء: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ فإنّه يحبّنا كحبّ الوالد لولده.

وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (18)قيل: إنّ مراد اليهود من قولهم هذا: أنّا أشياع عزير ابن اللّه، و مراد النّصارى: نحن أشياع عيسى ابن اللّه، كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة: نحن الملوك (1).

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإبطال قولهم بقوله: قُلْ يا محمّد، إلزاما لهم: إن كان ما تزعمون حقّا فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ اللّه في الدّنيا بِذُنُوبِكُمْ و معاصيكم بالمسخ و القتل و الأسر و الذّلّة، و في الآخرة أيّاما معدودة باعترافكم؟ فهذه الدّعوى في غاية الفساد بَلْ أَنْتُمْ كغيركم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اللّه، بلا فضيلة لكم على أحد عند اللّه، و هو يَغْفِرُ الذّنوب لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له، و لا يشاء إلاّ لأهل

ص: 353


1- . تفسير روح البيان 2:372.

الإيمان و الأعمال الصّالحة وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، و هم أهل الكفر و العصيان.

ثمّ أعاد تقرير كمال قدرته و عظمة سلطانه تربية للمهابة في القلوب بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يتساوى نسبة جميع الموجودات إليه، لا فضيلة لأحد على أحد إلاّ بالإيمان و الطّاعة و العبوديّة وَ إِلَيْهِ و إلى حكمه اَلْمَصِيرُ و المرجع في الآخرة، لا إلى غيره، فيجازيكم بكفركم و سيّئات أعمالكم و أقوالكم أسوأ الجزاء.

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّها نزلت في جماعة من اليهود و النّصارى، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإيمان، و خوّفهم بعقاب اللّه تعالى، فقالوا: كيف تخوّفنا بعقاب اللّه و نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه (1)!

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعدما أبطل تلك الدّعاوى من اليهود و النّصارى بالحجج القاطعة، و كان ذلك من معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع كونه امّيّا، أعاد دعوتهم إلى الإيمان به بقوله: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله لهدايتكم إلى الحقّ، حال كونه مع امّيّته يُبَيِّنُ لَكُمْ شرائع اللّه و سننه، و يشرح لكم معضلات الأمور عَلى حين فَتْرَةٍ كائنة مِنَ اَلرُّسُلِ و في زمان انقطاع الوحي و ظلمة الجهالة.

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)و كان احتياج الخلق إلى مبيّن الأحكام الإلهيّة و الشّرائع الدّينيّة، لتقادم عهدها، و طول زمانها، و تصرّف التّغيير و التّحريف إليها، و اختلاط الحقّ بالباطل و الصّدق و الكذب، بحيث صار ذلك عذرا ظاهرا لأهل الضّلال في إعراضهم عن الحقّ و العبادة.

فكان إرسال الرّسول لأجل كراهة أَنْ تَقُولُوا اعتذارا: ربّنا ما جاءَنا في الدّنيا مِنْ بَشِيرٍ بثوابك وَ لا نَذِيرٍ من عقابك، فنتّبع آياتك، و نكون من المؤمنين.

فأجابهم اللّه بقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ الآن من قبل اللّه بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ فتمّت عليكم الحجّة، و انقطع العذر وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من إرسال الرّسول، و قطع الأعذار قَدِيرٌ لا يعجزه شيء.

قيل: كان بين موسى و عيسى عليهما السّلام ما يقرب من ألف و سبعمائة سنة، و ألفا نبيّ، و بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله ستّمائة سنة و أربعة من الأنبياء؛ ثلاثة من بني إسرائيل، و واحد من العرب يقال له خالد

ص: 354


1- . تفسير الرازي 11:192، تفسير أبي السعود 3:21.

بن سنان العبسي (1).

عن الصّدوق في (الإكمال) : معنى الفترة أن لا يكون نبيّ و لا وصيّ ظاهرا مشهورا، و إن كان بين نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين عيسى عليه السّلام أنبياء و أئمّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، لا يدفعه دافع و لا ينكره منكر، و كان بين مبعثه و مبعث نبيّنا خمسمائة سنة (2).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة، إمّا ظاهر مشهور، و إمّا خائف مغمور» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 20

ثمّ لمّا دعا اللّه تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بيّن أنّ عادة اليهود اللّجاج و عدم الانقياد للأنبياء، مستشهدا بمعاملة سلفهم-مع كونهم أبناء الأنبياء-مع موسى، بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل، استعطافا و استمالة لقلوبهم: يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ و مننه العظام عَلَيْكُمْ الموجبة لغاية شكركم و طاعتكم له إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ و من أقاربكم أَنْبِياءَ كثيرة، ترشدون بإرشادهم، و تفتخرون بانتسابهم.

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ (20)قيل: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام: إنّي لا أبعث نبيّا إلاّ من ولد إسماعيل و يعقوب (4).

وَ إذ جَعَلَكُمْ و بعث فيكم مُلُوكاً و حكّاما كثيرة، قيل: إنّ المعنى: جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط في مملكة فرعون بمنزلة العبيد و أهل الجزية (5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: يعني أصحاب خدم و حشم، و كانوا أوّل من ملك الخدم (6).

وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ من فلق البحر، و إهلاك فرعون و جنده، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، و غير ذلك.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 21

يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)

ص: 355


1- . جوامع الجامع:107، تفسير الرازي 11:194.
2- . إكمال الدين:659/2، تفسير الصافي 2:24.
3- . نهج البلاغة:497 الحكمة 147، تفسير الصافي 2:24.
4- . تفسير الرازي 11:196.
5- . تفسير الرازي 11:196، تفسير روح البيان 2:375.
6- . تفسير روح البيان 2:375.

ثمّ بعد تذكيرهم النّعم التي أنعم اللّه عليهم، أمرهم بمجاهدة أعداء اللّه بعد إعادة مخاطبتهم مزيدا للاستعطاف بقوله: يا قَوْمِ جاهدوا أعداء اللّه و أعداءكم، و اُدْخُلُوا بعد الغلبة عليهم اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ و البلاد الطّيّبة الكثيرة النّعم اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ و قدّر في اللّوح المحفوظ إسكانها لَكُمْ .

روي أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا صعد جبل لبنان قال اللّه تعالى له: انظر، فما أدركه بصرك فهو مقدّس و ميراث لذرّيّتك (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني: الشّام» (2).

وَ لا تَرْتَدُّوا و لا ترجعوا عَلى أَدْبارِكُمْ و أعقابكم خوفا من الجبابرة، و لا تهزموا من بأسهم.

و قيل: إنّ المراد: لا ترجعوا عن الدّين الحقّ إلى الشّكّ (3)، أو لا ترجعوا عن الأرض التي امرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم منها-و هي أرض مصر (4)- فَتَنْقَلِبُوا و تنصرفوا حال كونكم خاسِرِينَ مغبونين في الدّنيا و الآخرة، لفوتكم المنافع العظيمة و الثّواب و ابتلائكم بالمحن و العذاب.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ حكى اللّه تعالى امتناع بني إسرائيل عن امتثال أمر موسى بعد تلك التّرغيبات و المواعظ بقوله: قالُوا بعد اطّلاعهم على قوّة الجبابرة و شوكتهم، و الخوف من قتالهم: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ أقوياء قاهرين، أو طوالا عظام الأجساد، قيل: كانت أيدي قوم موسى لا تصل إليهم (5) وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أبدا خوفا منهم حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها بميل أنفسهم، و يخلّوا بلادهم لنا من غير صنع منّا؛ لعدم قدرتنا على إخراجهم منها بالقهر.

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)فَإِنْ يَخْرُجُوا بسبب من الأسباب مِنْها من غير دخل منّا في خروجهم فَإِنّا حينئذ داخِلُونَ فيها، فلمّا أبوا عن الدّخول في الأرض المقدّسة-و هي بيت المقدس، أو بلدة أريحا-

قالَ لهم رَجُلانِ كاملان في صفات الرّجوليّة من الشّجاعة و الفتوّة اسمهما كالب و يوشع،

ص: 356


1- . تفسير الرازي 11:196.
2- . تفسير العياشي 2:27/1235، تفسير الصافي 2:25. (3 و 4) . تفسير الرازي 11:198.

و هما كانا مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ اللّه و يتّقون، و قد أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا بنعمة اليقين الصّادق بوعد اللّه و باليوم الآخر، و الثّقة بعونه و نصرته، تشجيعا لهم و تقوية لقلوبهم: يا قوم اُدْخُلُوا بجماعتكم دفعة و بغتة عَلَيْهِمُ اَلْبابَ الذي لبلد الجبّارين، و ضاغطوهم في المضيق حتّى لا يمكنهم الخروج إلى الصّحراء، و لا يجدوا للحرب مجالا.

ثمّ أنّهما بعد تعليمهم كيفيّة الحملة عليهم، وعداهم النّصر و الغلبة؛ بقوله: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ و ضيّقتم عليهم العرصة فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ عليهم لا محالة، و هم منهزمون منكم ألبتة؛ لضعف قلوبهم، و تعسّر الكرّ عليهم وَ عَلَى اَللّهِ خاصّة فَتَوَكَّلُوا في الغلبة عليهم، و في غيرها من الأمور، و لا تعتمدوا على الأسباب بعد تهيئتها و ترتيبها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه، مصدّقين بوعده، عارفين بقدرته.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 24

فلمّا لم يفد بني إسرائيل نصح الرّجلين، و لم يؤثّر فيهم التّشجيع، و لم يفيضوا بتعليم كيفيّة الحرب و طريق الغلبة و تنبيههم على التّوكّل على اللّه، بالغوا في الامتناع عن الدّخول في الأرض المقدّسة خوفا على أنفسهم، و قالُوا تمرّدا عن طاعة اللّه و رسوله، و استهانة بهما: يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً خوفا من الجبابرة، و لا نرد أرضهم ما دامُوا فِيها مقيمين، فإن كان لك الغلبة عليهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ معا إلى أرضهم فَقاتِلا هم إِنّا جميعا هاهُنا و في مكاننا هذا قاعِدُونَ منتظرون نصركما و غلبكما عليهم، و إخراجكما إيّاهم من أرضهم.

قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 25

فلمّا يئس موسى عليه السّلام من طاعة قومه بعد أن سمع منهم الامتناع و الاستهزاء قالَ بثّا و حزنا و تشكّيا من تمرّدهم إلى اللّه: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ طاعة أحد إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي الذي هو بمنزلة نفسي، و في حكم جوارحي التي لا تتخلّف عن إرادتي.

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ (25)و إنّما لم يذكر الرّجلين اللّذين يخافان، مع كونهما في غاية الطّاعة و الانقياد له، إعظاما لشأن هارون من أن يكون له قرين في الانقياد و التّسليم.

ثمّ دعا لنفسه و لأخيه، و على قومه المتمرّدين بقوله: فَافْرُقْ يا ربّ و افصل بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعتك، المصرّين على عصيانك، بأن تحكم علينا (1)بما نستحقّه، و عليهم بما يستحقّون. كذا قيل (2).

ص: 357

ثمّ دعا لنفسه و لأخيه، و على قومه المتمرّدين بقوله: فَافْرُقْ يا ربّ و افصل بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعتك، المصرّين على عصيانك، بأن تحكم علينا (1)بما نستحقّه، و عليهم بما يستحقّون. كذا قيل (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 26

قالَ اللّه تعالى بعد امتناع بني إسرائيل [عن]

الدّخول في الأرض المقدّسة، و شكاية موسى عليه السّلام منهم: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ و ممنوعة عَلَيْهِمْ دخولا، يعني أنّ طائفة بني إسرائيل لا يدخلونها أَرْبَعِينَ سَنَةً و يكون حالهم في المدّة إلى آخرها أنّهم يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ و يسيرون فيها متحيّرين.

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ (26)

في ابتلاء بني

إسرائيل بالتيه

قيل: إنّ موسى عليه السّلام لمّا دعا عليهم، أخبره اللّه بأحوال التّيه، فأخبر موسى قومه بذلك فقالوا له: لم دعوت علينا؟ فندم موسى عليه السّلام على ما عمل، فعزّاه اللّه بقوله: فَلا تَأْسَ (3)و لا تحزن عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ فإنّهم بفسقهم مستحقّون لذلك.

قيل: لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ، و هم ستّمائة ألف مقاتل (4). و قيل: [ستة]في اثني عشر فرسخا (5). و قيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا (6). و كانوا يسيرون كلّ يوم جادّين، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا منه (5).

قيل: إنّ موسى و هارون بشؤم معاملة بني إسرائيل بقيا في التّيه أربعين سنة، و بنو إسرائيل ببركة كرامتهما ظلّل عليهم الغمام، و انزل عليهم المنّ و السّلوى، ليعلم أثر بركة صحبة الصّالحين، و شؤم صحبة الفاسقين (6).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «نعم الأرض الشّام و بئس القوم أهلها، و بئس البلاد مصر، أما إنّها سجن من سخط اللّه عليه، و لم يكن دخول بني إسرائيل إلاّ معصية منهم للّه، لأنّ اللّه قال: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ (7)يعني الشّام، فأبوا أن يدخلوها، فتاهوا في الأرض أربعين سنة في فيافيها، ثمّ دخلوها بعد أربعين سنة قال: و ما خروجهم من مصر و دخولهم في الشّام إلاّ بعد توبتهم و رضا اللّه عنهم» (8).

ص: 358


1- . في تفسير روح البيان و تفسير أبي السعود: تحكم لنا.
2- . تفسير روح البيان 2:377، تفسير أبي السعود 3:25.
3- . تفسير الرازي 11:201.
4- . تفسير روح البيان 2:377. (5 و 6) . تفسير الرازي 11:202.
5- . تفسير روح البيان 2:377.
6- . تفسير روح البيان 2:377.
7- . المائدة:5/21.
8- . تفسير العياشي 2:27/1235، تفسير الصافي 2:26.

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية ذكر [أهل مصر، و ذكر قوم]موسى و قولهم: اذهب أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (1)، قال: «فحرّمها [اللّه]عليهم أربعين سنة و تيّههم، فكان إذا كان العشاء أخذوا في الرّحيل و نادوا: الرّحيل الرّحيل، الوحاء (2)الوحاء، فلم يزالوا كذلك حتّى تغيب الشّمس، حتّى إذا ارتحلوا و استوت بهم الأرض قال اللّه للأرض ديري بهم، فلم يزالوا كذلك حتّى [إذا] أسحروا و قارب الصّبح قالوا: إنّ هذا الماء قد أتيتموه فانزلوا، فإذا أصبحوا إذا أبنيتهم (3)و منازلهم التي كانوا فيها بالأمس، فيقول بعضهم لبعض: يا قوم، لقد ضللتم و أخطأتم الطريق، فلم يزالوا كذلك حتّى أذن اللّه لهم فدخلوها، و قد كان كتبها لهم» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده، لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النّعل بالنّعل، و القذّة بالقذّة، حتّى لا تخطئون طريقهم، و لا تخطئكم سنّة بني إسرائيل» .

ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: «قال موسى لقومه: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ فردّوا عليه و كانوا ستّمائة ألف و قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ الآيات، قال: فعصى أربعون ألفا، و سلم هارون و ابناه، و يوشع بن نون، و كالب بن يوفنا (5)، فسمّاهم اللّه فاسقين فقال: لا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ فتاهوا أربعين سنة لأنّهم عصوا، فكان حذو النّعل بالنّعل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قبض، لم يكن على أمر اللّه إلاّ عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و سلمان، و أبو ذرّ، و المقداد، فمكثوا أربعين (6)سنة حتّى قام عليّ عليه السّلام فقاتل من خالفه» (7). الخبر.

ثمّ أنّه اختلف في أنّ موسى و هارون [هل]كانا في التّيه أم لا؟ فقال قوم: لا، لأنّه دعا اللّه أن يفرّق بينه و بين قومه و دعوات الأنبياء مجابة (8).

أقول فيه: إنّه مبنيّ على كون المراد بالتّفريق: المفارقة في الصّحبة، لا في الحكومة.

و قال آخرون: إنّهما كانا في التّيه، و لم يكن عذابا بالنّسبة إليهما.

في وفاة موسى

و هارون

ثمّ اختلف هؤلاء في أنّهما [هل]ماتا في التّيه أو خرجا منه؟ فقال بعضهم: إنّهما خرجا منه، و حاربا الجبّارين و قهراهم و ملكا الأرض المقدّسة (9)، و قال آخرون: إنّ هارون مات في التّيه، ثمّ مات موسى بعده بسنة، و بقي يوشع بن نون، و كان ابن اخت

ص: 359


1- . المائدة:5/24.
2- . الوحاء: كلمة تقال للاستعجال.
3- . في النسخة: تيههم.
4- . تفسير العياشي 2:27/1234، تفسير الصافي 2:26.
5- . في تفسير العياشي: يافنا.
6- . قال العلامة المجلسي: لعلّه عليه السّلام حسب الأربعين من زمان إظهار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام. راجع: بحار الأنوار 13:180/10.
7- . تفسير العياشي 2:24/1228، تفسير الصافي 2:26.
8- . تفسير الرازي 11:201.
9- . تفسير الرازي 11:201.

موسى و وصيّه بعد موته، و هو الذي فتح الأرض المقدّسة (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ موسى كليم اللّه مات في التّيه، فصاح صائح من السّماء: مات موسى، و أيّ نفس لا تموت» (2).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «مات هارون قبل موسى، و ماتا جميعا في التّيه» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 27 الی 29

ثمّ أنّه تعالى-بعد ذكر لجاج بني إسرائيل، و عدم طاعتهم لموسى عليه السّلام، و ابتلائهم بعذاب التّيه مع كونهم أبناء الأنبياء، و أقرب من الموجودين في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام- بيّن أن قابيل مع كونه ابن نبيّ لصلبه، عصى ربّه، فذهب فضله و شرفه، بقوله: وَ اُتْلُ يا محمّد، في مجمع أهل الكتاب عَلَيْهِمْ، أو المراد: على النّاس نَبَأَ قابيل و هابيل اِبْنَيْ آدَمَ أبي البشر- و عن بعض المفسّرين: أنّهما رجلان من بني إسرائيل (4)-تلاوة ملتبسة بِالْحَقِّ و الصّدق إِذْ قَرَّبا إلى اللّه، بأن جعل كلّ واحد منهما له تعالى قُرْباناً و هديّة فَتُقُبِّلَ من جانب اللّه أحد القربانين مِنْ أَحَدِهِما لكونه مقرونا بالخلوص و صدق النّيّة.

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ (29)عن سعيد بن جبير: نزلت نار من السّماء فاحتملت قربان هابيل، و رفع بها إلى الجنّة (5).

وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ و هو قابيل، و لم تتعرّض النّار له، لعدم خلوص نيّته، و اختياره أخسّ أمواله للقربان.

قيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه المال الذي يتقرّب به إلى اللّه تعالى، فكانت النّار تنزل من السّماء فتأكله.

في قصة قابيل

و هابيل

عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ حوّاء امرأة آدم كانت تلد في كلّ بطن غلاما

ص: 360


1- . تفسير الرازي 11:201.
2- . الكافي 3:112/4، تفسير الصافي 2:26.
3- . تفسير القمي 2:137، تفسير الصافي 2:27.
4- . تفسير الرازي 11:204، تفسير أبي السعود 3:26.
5- . تفسير روح البيان 2:379.

و جارية، فولدت في أوّل بطن قابيل-و قيل: قابين-و توأمته اقليما، و البطن الثاني هابيل و توأمته ليوذا (1)، فلمّا أدركوا جميعا، أمر اللّه تعالى أن ينكح [آدم]قابيل اخت هابيل و هابيل اخت قابيل فرضي هابيل و أبى قابيل؛ لأنّ اخته كانت أحسنهما، و قال: ما أمر اللّه بهذا، و لكنّ هذا من رأيك، فأمرهما [آدم]أن يقرّبا قربانا فرضيا بذلك، فعمد هابيل و كان صاحب ماشية فأخذ من خير غنمه زبدا و لبنا، و كان قابيل صاحب زرع فأخذ من شرّ زرعه، ثمّ صعدا فوضعا القربانين على الجبل فأتت النّار فأكلت قربان هابيل، و تجنّبت قربان قابيل، و كان آدم غائبا بمكّة، خرج إليها ليزور البيت بأمر ربّه. . .» (2).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام، قيل له: إنّهم يزعمون أنّ قابيل إنّما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على اختهما؟ فقال: «تقول هذا، أما تستحي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم؟» فقيل: فبم قتل قابيل هابيل؟ قال: «في الوصيّة» . ثمّ قال: «إنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصيّة و اسم اللّه الأعظم إلى هابيل، و كان قابيل أكبر [منه]، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة و الوصيّة، فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من اللّه إليه، ففعلا فتقبّل اللّه قربان هابيل، فحسده قابيل» (3).

في قصة قتل

هابيل

و قالَ له: باللّه لَأَقْتُلَنَّكَ . قيل: إنّ هابيل قال: لم؟ قال قابيل: لأنّ اللّه قبل قربانك و ردّ قرباني، و تنكح اختي الحسناء، و أنكح اختك الدميمة، فتحدّث النّاس أنّك خير منّي، و يفتخر ولدك على ولدي (4).

قالَ هابيل: أمّا تقبّل قرباني فليس من ذنبي إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ القربان مِنَ اَلْمُتَّقِينَ و أنا اتّقيت دونك، فعدم قبول قربانك كان من قبل نفسك،

و اللّه لَئِنْ بَسَطْتَ و مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي حسبما أوعدتني ما أَنَا بِباسِطٍ و مادّ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ بل أستسلم لقضاء اللّه، و لا ينقدح في قلبي قصد الإساءة إليك، لأجل إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ و فيه إظهار غاية تقواه.

قيل: كان هابيل أقوى من قابيل، و لكن لمّا كان القتل للدّفاع حراما في ذلك الزّمان تحرّج عن قتله (5).

ثمّ ذكر علّة اخرى للتّحرّج عن قتله بقوله: إِنِّي أُرِيدُ من إمساكي عن قتلك أَنْ تَبُوءَ و ترجع إلى اللّه ملابسا بِإِثْمِي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: معناه: تحمل إثم قتلي وَ إِثْمِكَ الذي ارتكبته قبل قتلي (6).

ص: 361


1- . في المصدر: لبوذا.
2- . مجمع البيان 3:283، تفسير الصافي 2:28.
3- . تفسير العياشي 2:36/1242، تفسير الصافي 2:28.
4- . تفسير روح البيان 2:379.
5- . تفسير روح البيان 2:380.
6- . تفسير الرازي 11:207.

عن الباقر عليه السّلام: «من قتل مؤمنا [متعمّدا]أثبت اللّه على قاتله جميع ذنوبه، و برئ المقتول منها، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ» (1).

فَتَكُونَ بسبب قتلي مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ و ملازميها أبدا وَ ذلِكَ الخلود في النّار جَزاءُ اَلظّالِمِينَ على العباد بالقتل.

قيل: إنّ هذا الكلام دار بينهما على وجه الوعظ و النّصيحة (2). و التّنبيه على أنّ إثم المقتول يحمل على قاتله، و يكون جزاء القاتل ظلما الخلود في النّار.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 30

و مقصوده حبّ عدم ملابسته بالإثم لا ملابسة أخيه به فَطَوَّعَتْ و هوّنت لَهُ نَفْسُهُ بتسويلاتها قَتْلَ أَخِيهِ هابيل، و لم يؤثّر فيه النّصح.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (30)روي أنّ عدوّ اللّه إبليس قال لقابيل: قد تقبّل قربان هابيل، و لم يتقبّل قربانك، فإن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك (3).

و قيل: إنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل، فتمثّل له إبليس، فأخذ طائرا أو حيّة، و وضع رأسه على حجر ثمّ شدخه بحجر آخر، و قابيل ينظر فتعلّم منه، فوضع رأس هابيل بين حجرين و هو مستسلم لا يستعصي عليه (4).

و في رواية: أنّه صبر حتّى نام هابيل و غنمه ترعى (5)، فضرب رأسه بحجر فَقَتَلَهُ قيل: قتل عند جبل ثور، و قيل: عند عقبة حراء، و قيل: في المسجد الأعظم بالبصرة، و كان لهابيل يوم قتل عشرون سنة (4)فَأَصْبَحَ قابيل بقتله أخيه مِنَ اَلْخاسِرِينَ في دينه و دنياه.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه خسر دنياه و آخرته؛ أمّا الدّنيا فأسخط والديه، و بقي مذموما إلى يوم القيامة، و أمّا الآخرة فهو العقاب العظيم (7).

في اطلاع آدم على

قتل هابيل

و حزنه عليه

روي أنّه لمّا قتله اسودّ جسده و كان أبيض، فسأله آدم عليه السّلام عن أخيه، قال: ما كنت عليه وكيلا، فقال: بل قتلته، و لذلك اسودّ جسدك (8).

و في رواية: فانطلق آدم عليه السّلام فوجد هابيل مقتولا، فقال: لعنت من أرض كما قبلت دم

ص: 362


1- . عقاب الأعمال:278، تفسير الصافي 2:27.
2- . تفسير الرازي 11:206.
3- . إكمال الدين:213/2، تفسير الصافي 2:28. (4 و 5) . تفسير روح البيان 2:380.
4- . تفسير روح البيان 2:380. (7 و 8) . تفسير الرازي 11:208، تفسير روح البيان 2:381.

هابيل، فبكى آدم على هابيل أربعين سنة (1).

و في رواية اخرى: فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السّماء: لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدّم، فبكى آدم على هابيل أربعين يوما و ليلة (2).

و في رواية: و مكث آدم عليه السّلام بعده مائة سنة لم يضحك قط (3)، فلمّا جزع عليه شكا ذلك إلى اللّه، فأوحى اللّه إليه: يا آدم، إنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل، فولدت حوّاء غلاما زكيّا مباركا، فلمّا كان اليوم السابع، أوحى اللّه إليه: يا آدم، إن هذا الغلام هبة منّي لك، فسمّه هبة اللّه، فسمّاه هبة اللّه (4).

و قيل: لمّا هبط آدم إلى الأرض تفكّر في ما أكل فاستقاء (5)، فنبتت شجرة السّمّ من قيئه، فأكلت الحيّة ذلك السّمّ، و لذا صارت مؤذية مهلكة، و كان [قد]بقي شيء ممّا أكل، فلمّا غشي حوّاء حصل قابيل، و لذا كان قاتلا باعثا للفساد في وجه الأرض (6).

روي أنّه قال طاوس اليماني لأبي جعفر عليه السّلام: هل تعلم أيّ يوم مات ثلث النّاس؟ فقال: «يا عبد اللّه (7)، لم يمت ثلث النّاس قطّ، إنّما أردت ربع النّاس» ، قال: و كيف ذلك؟ قال: «كان آدم و حوّاء و قابيل و هابيل، [فقتل قابيل هابيل]فذلك ربع [الناس]» ، قال: صدقت (8).

أقول: هذا مناف لما دلّ على أنّ لكلّ منهما توأمه، و مؤيّد لما دلّ على أنّ نزاعهما كان في الوصيّة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 31

ثمّ قيل: إنّه لمّا قتل قابيل هابيل تركه بالعراء، و لم يدر ما يصنع به؛ لأنّه كان أوّل ميّت على وجه الأرض من بني آدم، فخاف عليه السّباع فحمله في جراب على ظهره أربعين يوما-أو سنة-حتى أروح (9)، و عكفت عليه الطّيور و السّباع تنظر متى يرمي به فتأكله (10).

فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ (31)

ص: 363


1- . إكمال الدين:214/2، تفسير الصافي 2:28، و فيهما: أربعين ليلة.
2- . تفسير القمي 1:166، تفسير الصافي 2:29.
3- . تفسير الرازي 11:208، تفسير أبي السعود 3:29.
4- . تفسير القمي 1:166، تفسير الصافي 2:29.
5- . استقاء: تقيّأ.
6- . تفسير روح البيان 2:380.
7- . في الاحتجاج: يا أبا عبد الرحمن.
8- . الاحتجاج:326، تفسير الصافي 2:30.
9- . أروح، بمعنى أنتن و ظهرت ريحه.
10- . تفسير روح البيان 2:381.

فَبَعَثَ اَللّهُ و أرسل غُراباً و هو يَبْحَثُ و يحفر فِي اَلْأَرْضِ حفرة لِيُرِيَهُ اللّه، أو الغراب كَيْفَ يُوارِي و يستر من السّباع سَوْأَةَ أَخِيهِ و جيفته أو عورته؛ لأنّه كان قد سلب ثيابه. قيل: إنّ اللّه بعث غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر [له]بمنقاره و رجليه حفرة فألقاه فيها و واراه، و قابيل ينظر إليه (1).

فلمّا تعلّم الدّفن قالَ تلهّفا و تحسّرا: يا وَيْلَتى احضري فهذا أوانك أَ عَجَزْتُ مع عقلي و فطانتي أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ البهم، و لا أهتدي إلى ما اهتدى إليه من مواراة قتيله فَأُوارِيَ و استر بالتّراب سَوْأَةَ أَخِي و جيفته فَأَصْبَحَ قابيل إذن مِنَ اَلنّادِمِينَ على قتل هابيل، حيث صار سببا لكلفته، لتحمّله على رقبته مدّة طويلة، و تحيّره في أمره، أو لما رأى أنّ اللّه أكرمه بعد موته ببعث الغراب.

قيل: إنّ الغراب حثا التّراب على هابيل، و من عادة الغراب دفن الأشياء (2).

روي أنّه لمّا قتل أخاه رجفت الأرض سبعة أيام بما عليها، ثمّ شربت الأرض دم هابيل كشرب الماء، فحرّم اللّه تعالى على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا (3).

قيل: إنّ السّباع و الوحوش كانت تستأنس قبل ذلك، فلمّا قتل قابيل هابيل نفروا، فلحقت الطّيور بالهواء و الوحوش بالبريّة و السّباع بالغياض، و اشتاك الشّجر، و تغيّرت الأطعمة و حمضت الفواكه، و أمرّ الماء، و أغبرّت الأرض (4).

في حزن آدم على

هابيل و رثائه له

ورثى آدم عليه السّلام هابيل و أنشأ يقول: تغيّرت البلاد و من عليها *** فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي لون و طعم *** و قلّ بشاشة الوجه الصّبيح (5)

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: من قال إنّ آدم قال شعرا فقد كذب، إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و الأنبياء كلّهم في النّهي عن الشّعر سواء، و لكن لمّا قتل قابيل هابيل رثاه آدم، و هو سرياني، فلمّا قال آدم مرثيّة قال لشيث: يا بني إنّك وصيّي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرقّ النّاس عليه، فلم يزل ينقل حتّى وصل إلى يعرب بن قحطان و كان يتكلّم بالعربيّة و السّريانية، و هو أول من خطّ بالعربيّة، و كان يقول الشّعر، فنظر في المرثيّة فردّ المقدّم إلى المؤخّر و المؤخّر إلى المقدّم، فوزنه شعرا، و زيد فيه أبيات (6).

ص: 364


1- . تفسير الرازي 11:209، تفسير روح البيان 2:381.
2- . تفسير الرازي 11:209.
3- . تفسير روح البيان 2:381.
4- . تفسير روح البيان 2:381.
5- . تفسير روح البيان 2:381، خزانة الأدب 11:377.
6- . تفسير روح البيان 2:381.

و روي عن أنس أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن يوم الثلاثاء، فقال: «يوم الدّم، فيه حاضت حوّاء، و فيه قتل ابن آدم» (1).

و قيل: إنّ قابيل ذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا يأمن من يراه، فأخذ بيد اخته إقليما و هرب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له: إنّما اكلت النّار قربان هابيل لأنّه كان يعبد النّار، فالتهب (2)أنت أيضا نارا تكون لك و لعقبك، فبنى بيت النّار، و هو أوّل من عبد النّار، و كان لا يمرّ بأحد إلاّ رماه، فأقبل ابن له أعمى و معه ابن له، فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل، فرمى الأعمى أباه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى: قتلت أباك، فرفع يده فلطم ابنه فمات، فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي، و [قتلت]ابني بلطمتي.

قال مجاهد: فعقلت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها و ساقها، و علّقت من يومئذ إلى يوم القيامة، وجهه إلى الشّمس حيثما دارت عليه، في الصيف حظيرة من نار [و في الشتاء حظيرة من ثلج] (3).

و روي أنّه لا تقتل نفس ظلما إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها؛ لأنّه أوّل من سنّ القتل (4)، و هو أبو (5)يأجوج و مأجوج شرّ أولاد توالدوا من شرّ والد (6).

قيل: اتّخذ أولاد قابيل آلات اللّهو، و انهمكوا فيه و في شرب الخمر، و عبادة النّار و الزّنا و الفواحش، حتّى غرّقهم اللّه بالطّوفان أيّام نوح، و بقي نسل شيث (7).

و قيل: لمّا ذهب قابيل إلى اليمن كثروا و طفقوا يتحاربون مع سائر أولاد آدم إلى زمن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث، ففرّقهم مهلائيل إلى أقطار الأرض، و سكن هو في أرض بابل، و كان كيومرث أخاه الصّغير، و هو أوّل السّلاطين في العالم، فأخذوا يبنون المدن و الحصون، و استمرّت الحرب بينهم إلى آخر الزّمان (8).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 32

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

ص: 365


1- . تفسير روح البيان 2:382.
2- . في تفسير روح البيان: فانصب.
3- . تفسير روح البيان 2:382.
4- . تفسير الرازي 11:208، تفسير روح البيان 2:382.
5- . في النسخة و المصدر: أب.
6- . تفسير روح البيان 2:382. (7 و 8) . تفسير روح البيان 2:382.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه غاية فضاحة أمر القتل، و كونه موجبا لخسران الدّنيا و الآخرة، ذكر أنّ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ الخسران المبين في قتل النّفس و بعلّة هذه الفضاعة الشّديدة فيه شددنا أمره في شرع موسى، و كَتَبْنا في اللّوح المحفوظ، و في التّوراة، و قضينا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و سائر امّة موسى أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة بِغَيْرِ علّة قصاص نَفْسٍ أَوْ بغير فَسادٍ ظاهر من المقتول فِي اَلْأَرْضِ الموجب لاستحقاقه القتل و إهدار دمه، كالشّرك و الارتداد، أو قطع الطّريق و غير ذلك من أسبابه فَكَأَنَّما قَتَلَ عمدا و عدوانا اَلنّاسَ جَمِيعاً في استجلاب غضب اللّه و العذاب العظيم، لا في مقدارهما، على ما قيل (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد المبالغة في تعظيم قتل النّفس و إتلافها بغير حقّ، بالغ في تأكّد وجوب حفظها عن التّلف بقوله: وَ مَنْ أَحْياها بحفظها عن الهلاك و التّلف بالعفو عن القصاص، أو منعها عن أن تقتل بغير الحقّ، أو استنقاذها من المهالك فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً .

عن الصادق عليه السّلام: «واد في جهنّم لو قتل النّاس جميعا كان فيه، و لو قتل نفسا واحدة كان فيه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها، لو قتل النّاس جميعا إنّما كان يدخل ذلك المكان» ، قيل: فإن قتل آخر؟ قال: «يضاعف [عليه]» (3).

و في رواية: «له في النّار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزدد على (4)ذلك المقعد» (5).

القمّي: قال: من أنقذها من حرق أو غرق أو هدم أو سبع، أو كفله حتّى يستغني، أو أخرجه من فقر إلى غنى، و أفضل من ذلك من أخرجها من ضلال إلى هدى (6).

و عنهما عليهما السّلام: «من أخرجها من ضلال [إلى هدى]فكأنّما أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها» (7).

و في رواية: «فمن أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: ذلك تأويلها [الأعظم] (8)» .

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له» (9).

ثمّ أخذ في توبيخ بني إسرائيل على سفكهم الدّماء بعد هذه التّشديدات بقوله: وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ

ص: 366


1- . تفسير البيضاوي 1:264، تفسير روح البيان 2:384.
2- . تفسير العياشي 2:37/1246.
3- . الكافي 7:271/1.
4- . في الكافي: لم يرد إلاّ إلى.
5- . الكافي 7:272/6، تفسير الصافي 2:30.
6- . تفسير القمي 1:167، تفسير الصافي 2:30.
7- . تفسير العياشي 2:37/1245، تفسير الصافي 2:31، عن الصادق عليه السّلام.
8- . الكافي 2:168/2، تفسير الصافي 2:31.
9- . الكافي 2:168/3، تفسير الصافي 2:31.

لتقرير ما كتبنا عليهم رُسُلُنا حسب ما أرسلناهم بِالْبَيِّناتِ و الآيات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ التأكيد و التّشديد في أمر القتل و مجيء الرّسل بتقريره فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ في القتل غير مبالين بعظمته حتّى قتلوا الأنبياء.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى جواز قتل المفسدين، صرّح بإباحته، بل وجوبه بقوله: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ بمحاربة أوليائهما من المسلمين.

إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)عن الباقر عليه السّلام: «من حمل السّلاح باللّيل فهو محارب إلاّ أن يكون رجلا ليس من أهل الرّيبة» (1)وَ يَسْعَوْنَ و يمشون فِي اَلْأَرْضِ لأجل أن يعملوا فَساداً في أموال المسلمين، أو أنفسهم كالنّهب و الغارة و القتل أَنْ يُقَتَّلُوا بأن تضرب أعناقهم بالسّيف؛ إن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا و يقتلوا بالصّلب، أو يقتلوا ثمّ يصلبوا؛ إن قتلوا نفسا و أخذوا مالا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ من مفصل الأصابع الأربع، و يترك الرّاحة و الإبهام وَ أَرْجُلُهُمْ و لكن بنحو يبقى العقب، إن اقتصروا على أخذ المال، و لكن لا بدّ أن يكون القطع مِنْ خِلافٍ بأن تقطع اليد اليمنى أوّلا، ثمّ تقطع الرّجل اليسرى ثانيا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ التي يسكنها إلى مصر آخر؛ إن أخافوا السّبيل.

ثمّ نبّه اللّه سبحانه على عدم انحصار عقوبتهم بتلك العقوبات الدّنيويّة بقوله: ذلِكَ الحدّ المقرّر في الشّرع لَهُمْ خِزْيٌ و فضيحة فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ مضافا إلى ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ و عقاب شديد لا يقادر قدره.

في غدر قوم من بني

ضبة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله

عن الصادق عليه السّلام: «قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سريّة. فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصّدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها، فلمّا برئوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كانوا في الإبل و ساقوا الإبل، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر، فبعث إليهم عليّا عليه السّلام و هم في واد قد تحيّروا، ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن، فأسرهم و جاء بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآية، فاختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القطع، فقطع أيديهم و أرجلهم من

ص: 367


1- . الكافي 7:246/6، تفسير الصافي 2:32.

خلاف» (1).

و في رواية: «أنّها نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، و كان وادعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا يعينه و لا يعين عليه، و من أتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج، و من مرّ بهلال إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [فهو آمن]لا يهاج، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال، و لم يكن هلال يومئذ حاضرا، فقطعوا عليهم و قتلوهم و أخذوا أموالهم» (2).

في الصّحيح عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «من شهر السّلاح في مصر من الأمصار فعقر؛ اقتصّ منه و نفي من تلك البلد، و من شهر السّلاح في غير مصر من الأمصار و ضرب و عقر و أخذ المال و لم يقتل فهو محارب، فجزاؤه جزاء المحارب و أمره إلى الإمام إن شاء قتله، و [إن شاء]صلبه، و إن شاء قطع يده و رجله. قال: و إن ضرب و قتل و أخذ المال، فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسّرقة، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتّبعونه بالمال ثمّ يقتلونه» .

قال: فقال له أبو عبيدة: أ رأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟

قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: «إن عفوا عنه كان على الإمام أن يقتله؛ لأنّه قد حارب و قتل و سرق» .

قال: فقال أبو عبيدة: أ رأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدّية و يدعونه، ألهم ذلك؟ قال (3): «عليه القتل» (4).

و عن جميل بن درّاج في الصّحيح، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ إلى آخر الآية، [فقلت:]أيّ شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّى اللّه عزّ و جل؟ قال: «ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل» .

قلت: النّفي إلى أين؟ قال: «من مصر إلى مصر آخر» -و قال: - «إنّ عليّا نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة» (5).

و عن عبيد اللّه المدائني، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، قال: سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ الآية، فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: «إذا حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض [فسادا]فقتل قتل به، و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب، و إن

ص: 368


1- . تفسير العياشي 2:39/1250، الكافي 7:245/1، تفسير الصافي 2:31.
2- . تفسير أبي السعود 3:31، تفسير روح البيان 2:385.
3- . زاد في الكافي: فقال: لا.
4- . الكافي 7:248/12.
5- . الكافي 7:245/3.

أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف، و إن شهر السّيف و حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال نفي من الأرض» (1).

و عن أحمد بن الفضل الخاقاني من آل رزين، قال: قطع الطريق بجلولاء على السابلة من الحاجّ و غيرهم، و افلت القطّاع-إلى أن قال: -و طلبهم العامل حتى ظفر بهم، ثمّ كتب بذلك إلى المعتصم، فجمع الفقهاء و ابن أبي دؤاد، ثمّ سأل الآخرين عن الحكم فيهم، و أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام حاضر، فقالوا: قد سبق حكم اللّه فيهم في قوله: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ و لأمير المؤمنين أن يحكم بأيّ ذلك شاء فيهم.

قال: فالتفت إلى أبي جعفر و قال: [ما تقول فيما أجابوا فيه؟ فقال: «قد تكلّم هؤلاء الفقهاء و القاضي بما سمع أمير المؤمنين» قال: و]أخبرني بما عندك؟ قال: «إنّهم قد أضلّوا في ما أفتوا به، و الذي يجب في ذلك أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الّذين قطعوا الطّريق، فإن كانوا أخافوا السّبيل فقط و لم يقتلوا أحدا و لم يأخذوا مالا، أمر بإيداعهم الحبس، فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السّبيل، و إن كانوا أخافوا السّبيل و قتلوا النّفس أمر بقتلهم، و إن كانوا أخافوا السّبيل و قتلوا النّفس و أخذوا المال، أمر بقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و صلبهم بعد ذلك» . فكتب إلى العامل بأن يمتثل ذلك فيهم (2).

أقول: الظّاهر أنّ هذا التّفصيل هو المراد من خبر بريد بن معاوية، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ؟ قال: «ذلك إلى الإمام يفعل ما يشاء» . قلت: فمفوّض ذلك إليه؟ قال: «لا، و لكن نحو الجناية» (3). و في رواية: «و لكن بحق الجناية» (4).

و في اخرى: «و لكنّه يصنع [بهم]على قدر جناياتهم» (5).

ثمّ أنّه اختلف الأصحاب و غيرهم لاختلاف الأخبار، فمنهم من قال بالتّخيير لصحة أخباره، و موافقتها لظاهر الكتاب الكريم، و ضعف أخبار التّرتيب، و منهم من قال بالتّرتيب لاستفاضة رواياته، و انجبارها بالشّهرة و الإجماع المنقولين، و موافقتها الاعتبار، و مخالفتها لأكثر العامّة، كما تومئ إليه بعض النّصوص.

ص: 369


1- . تفسير العياشي 2:42/1258، الكافي 7:246/8، تفسير الصافي 2:3.
2- . تفسير العياشي 2:39/1251.
3- . تفسير العياشي 2:41/1252، الكافي 7:246/5.
4- . تفسير العياشي 2:41/1252.
5- . الكافي 7:247/11، تفسير الصافي 2:32.

في الجمع بين

أخبار حدّ

المحارب

و يمكن الجمع بين الأخبار بحمل أخبار التّرتيب على رجحان رعاية قدر الجناية، و صلاح الوقت، و خصوصيّات حال الجاني، و غير ذلك من المرجّحات، كما دلّ عليه الخبر الوارد في شأن النّزول من قوله عليه السّلام: «فاختار الرّسول القطع» (1).

و اختلاف الأخبار في كيفيّة التّرتيب، و إن اتّفقت على تعيّن النّفي للإخافة المجرّدة عن القتل و أخذ المال، و إن اختلفت في المراد من النّفي، ففي بعضها فسّر بالإيداع في الحبس، و في آخر بالغرق في البحر، و لكنّ المشهور فتوى و نصّا هو النّفي من مصر إلى مصر، و يمكن حمل الأوّل على من لا يؤمن فساده بتبعيده إلى أرض أخرى.

ثمّ لا فرق في الحكم بين الذّكر و الانثى إذا تحقّقت الإخافة، و تجريد السّلاح بقصدها، بل قال بعض بعدم اعتبار تحقّق الإخافة، كما إذا كان من جرّد السّلاح ضعيفا في الأنظار، تمسّكا بإطلاق الأدلّة، كإطلاقها لما إذا كان في برّ أو بحر، أو مصر، أو ليل أو نهار.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 34

ثمّ استثنى سبحانه من عموم الحكم بالجزاء التّائبين بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا إلى اللّه من محاربته و إخافته المؤمنين و إفساده في الأرض مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا و تستولوا عَلَيْهِمْ فإنّه يسقط عنه الحدّ الذي هو حقّ اللّه دون حقوق النّاس من الضّمان و القصاص للإشعار به بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، و عدم ثبوت مخصّص لأدلّة القصاص و الضّمان.

إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 35

ثمّ لمّا كان الدّاعي إلى محاربة المؤمنين و السّعي في الفساد حبّ المال و المنافع الدّنيويّة، أرشد النّاس بعد زجرهم عنه إلى عمل فيه جميع الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إن كنتم تطلبون خير الدّنيا و نفعها، فلا تطلبوه بالإفساد في الأرض و قطع الطّرق، بل اِتَّقُوا اَللّهَ و احترزوا عن مخالفة أحكامه وَ اِبْتَغُوا لأنفسكم إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ و اطلبوا القربة منه بالأعمال الصّالحة و الانقياد و الطّاعة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)

ص: 370


1- . الكافي 7:245/1، تفسير العياشي 2:39/1250، تفسير الصافي 2:31.

القمّي: «تقرّبوا إليه بالإمام» (1).

ثمّ خصّ الجهاد بالذّكر بقوله: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لغاية الاهتمام به لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بخير الدّنيا و الآخرة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 36

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ المال لا ينفع صاحبه في الآخرة مع الكفر و العصيان، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ من أموالها و خزائنها و زخارفها جَمِيعاً و كلاّ وَ مِثْلَهُ و ضعفه مَعَهُ فرضا، ثمّ جاءوا بذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ أنفسهم و يخلّصوها مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و عقوبات عقائدهم الفاسدة و أعمالهم السّيّئة ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ تلك الفدية وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يخلص ألمه إلى قلوبهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)قيل: إنّ الجملة تمثيل [للزوم العذاب لهم و]استحالة نجاتهم من العذاب بوجه من الوجوه المحقّقة و المفروضة (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أ رأيت لو كان [لك]ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: إنّك كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» (3).

عن العيّاشي عنهما عليهما السّلام: «أنّهم أعداء عليّ عليه السّلام» (4).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 37

ثمّ أكّد سبحانه امتناع خلاصهم بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ و يتمنّون الخلاص منها، قيل: إذا رفعهم لهب النّار إلى فوق فهناك يتمنّون الخروج وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ و ناجين مِنْها و من شدائدها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ثابت عليهم لا يزول أبدا. و في تخصيص الخلود في النّار بالكفّار دلالة على عدم الخلود للعصاة من أهل الإيمان.

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 38

وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

ص: 371


1- . تفسير القمي 1:168، تفسير الصافي 2:33.
2- . تفسير روح البيان 2:389.
3- . تفسير الرازي 11:221، تفسير روح البيان 2:389.
4- . تفسير العياشي 2:43/1260 و 1261، تفسير الصافي 2:33.

في بيان حدّ

السارق

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حدّ من أخذ أموال النّاس بالمحاربة و قطع الطّريق، بيّن حدّ أخذ أموالهم خفية بقوله: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ حدّهما الثّابت في الكتاب أنّه إذا قدرتم عليهما فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .

سئل الصادق عليه السّلام، في كم يقطع السّارق؟ قال: «في ربع دينار، بلغ الدّينار ما بلغ» ،

قيل: أ رأيت من سرق أقلّ من ربع دينار، هل يقع عليه حين سرق اسم السّارق، و هل هو عند اللّه سارق في تلك الحال؟ فقال: «كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه، فهو يقع عليه اسم السّارق، و [هو]عند اللّه سارق، و لكن لا يقطع إلاّ في ربع دينار أو أكثر، و لو قطعت أيدي السّرّاق في ما هو أقلّ من ربع دينار لألفيت عامّة النّاس مقطعين» (1).

و عنه عليه السّلام: «القطع من وسط الكفّ، و لا يقطع الإبهام» (2).

و في رواية: «يقطع أربع أصابع و يترك الإبهام، يعتمد عليها في الصلاة و يغسل بها وجهه [للصلاة]» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه كان إذا قطع السّارق ترك له الإبهام و الرّاحة، فقيل له: يا أمير المؤمنين، تركت عامّة يده؟ فقال: «فإن تاب فبأيّ شيء يتوضّأ، يقول اللّه فَمَنْ تابَ. . .» (4)الخبر.

ثمّ علّل الحكم بقطع اليد بقوله: جَزاءً من اللّه لهما بِما كَسَبا من الخيانة و مكافأة لهما على ما فعلا من السّرقة، و نَكالاً و عقوبة مِنَ اَللّهِ رادعة لهما عن العود، و لغيرهما من الجرأة على مثل عملهما وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و غالب على أمره، يمضيه كيف يشاء حَكِيمٌ في شرائعه يحكم بما يقتضيه الصّلاح.

في الاستدلال على

وجوب نصب

الامام

ثمّ اعلم أنّ المتكلّمين استدلّوا بالآية على وجوب نصب الإمام، بتقريب أنّها دالّة على وجوب إقامة الحدّ، و قد أجمعت الامّة على أنّها للإمام خاصّة دون الرّعيّة، فوجب وجود الإمام، و إلاّ يلزم وجود التّكليف و الخطاب بدون المكلّف و المخاطب؛ و هو محال إنّما الاختلاف بيننا و بين العامّة في أنّ نصب الإمام هل هو واجب على الرّعيّة، أو على اللّه؟ و العامّة قائلون بالأوّل، و الخاصّة بالثّاني، لاشتراطها عندهم بشرائط لا يطّلع عليها

ص: 372


1- . الكافي 7:221/6، تفسير الصافي 2:33.
2- . الكافي 7:222/2، تفسير الصافي 2:34.
3- . الكافي 7:225/17، تفسير الصافي 2:34.
4- . تفسير العياشي 2:44/1263، تفسير الصافي 2:34.

إلاّ اللّه، و لأنّها عهد اللّه كما قال سبحانه: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ (1). و من المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون بيد غيره تعالى حتّى النبيّ.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 39

ثمّ أنّه بعد إظهار الغضب على السّارق بحكمه بقطع يده، أعلن بسعة رحمته بقوله: فَمَنْ تابَ من السّرّاق إلى اللّه و ندم من فعله الشّنيع مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ على نفسه بالمعصية، و على غيره بسرقة ماله وَ أَصْلَحَ نيّته في التّوبة، و عمله بردّ المال فَإِنَّ اَللّهَ بسعة رحمته يَتُوبُ عَلَيْهِ و يعفو عنه، فلا يعذّبه بالقطع في الدّنيا و بالنّار في الآخرة إذا كانت توبته قبل الظّفر، و بالنّار فقط إن كانت بعده إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالتّائبين من المؤمنين.

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)في (الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام، في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى، فلم يعلم ذلك منه، و لم يؤخذ حتّى تاب و صلح، [فقال: «إذا صلح]و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من أخذ سارقا فعفا عنه فذاك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق منه: أنا أهب له؛ لم يدعه الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه، و إنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، و ذلك قول اللّه: وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ (3)، فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه» (4).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن الرّجل يأخذ اللّصّ يرفعه أو يتركه؟ فقال: «إنّ صفوان بن اميّة كان مضطجعا في المسجد الحرام، فوضع رداءه و خرج يهريق الماء، فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه، فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه، فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال [النبيّ]: اقطعوا يده، فقال صفوان: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ قال: نعم، قال: فإنّي أهبه له، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فهلاّ كان هذا قبل أن ترفعه إليّ» قيل: فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: «نعم» (5).

أقول: لأجل تلك الرّوايات ذهب أصحابنا إلى اشتراط القطع بمطالبة المسروق منه، و رفعه السّارق إلى الإمام، فإن عفا عنه قبل الرّفع سقط الحدّ. و قد ادّعى بعض الأصحاب عدم الخلاف فيه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 40

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

ص: 373


1- . البقرة:2/124.
2- . الكافي 7:250/1، تفسير الصافي 2:35.
3- . التوبة:9/112.
4- . الكافي 7:251/1، تفسير الصافي 2:35.
5- . الكافي 7:251/2، تفسير الصافي 2:35.

ثمّ لمّا أوجب اللّه تعالى قطع يد السّارق للمال و إن كان قليلا، و وعده بالمغفرة إذا تاب، عرّف ذاته المقدّسة بالسّلطنة التّامّة المطلقة، بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ يا محمّد أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السّلطنة التّامّة على جميع الموجودات، إذن يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه بحكمته وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ غفرانه برحمته [سواء أ]

كان الذّنب صغيرا أو كبيرا، لا يسئل عمّا يفعل.

ثمّ قرّر قدرته غير المتناهية بقوله: إن وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التّعذيب و المغفرة و غيرها قَدِيرٌ لا يمنعه مانع عن إنفاذ إرادته، و لا يدفعه دافع عن إمضاء مشيئته.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 41

ثمّ أنّه تعالى-بعد إثبات نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالأخبار الغيبيّة من قصّة مخالفة بني إسرائيل أمر موسى عليه السّلام بالجهاد مع العمالقة و ابتلائهم بالتّيه، و قصّة قابيل و هابيل ابني آدم، الموافقتين لما في الكتب السّماويّة، مع كونه صلّى اللّه عليه و آله اميّا، و بالأحكام المحكمة الموافقة للعقول السّليمة، و كان الكلّ أدلّة على صدق نبوّته، و مع ذلك كان المنافقون و اليهود مبالغين في إنكار رسالته و الإخلال في أمره-سلّى قلب حبيبه بعد خطابه بالتّشريف و التّعظيم بقوله: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنيع اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ و يبادرون إلى إنكار رسالتك بعد تماميّة الحجّة و وضوح صدقك مِنَ المنافقين اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بك، و لكن بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم، وَ الحال أنّه لَمْ تُؤْمِنْ بك قُلُوبُهُمْ و أفئدتهم وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا و اتّبعوا دين اليهودية، هم سَمّاعُونَ و مبالغون في القبول لِلْكَذِبِ و الفرية من علمائهم و أحبارهم.

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)و قيل: إنّ المراد أنّهم مبالغون في سماع أخبارك و أحاديثك ليكذّبوا عليك بالزّيادة و النّقص و التّغيير (1).

قيل: إنّهم كانوا يسمعون من الرّسول، ثمّ يخرجون و يقولون: سمعنا منه كذا و كذا؛ مع أنّهم لم

ص: 374


1- . تفسير روح البيان 2:393.

يسمعوا ذلك منه (1).

و مع ذلك هم سَمّاعُونَ و مبالغون في القبول لِقَوْمٍ آخَرِينَ من اليهود الّذين لَمْ يَأْتُوكَ و لم يحضروا عندك تكبّرا و إفراطا في البغضاء.

قيل: (سمّاعون) بنو قريظة، و (قوم آخرين) يهود خيبر (2).

و هم يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ الذي في التّوراة، و يزيلونه عن مواضعه مِنْ بَعْدِ أنّ اللّه وضعه في مَواضِعِهِ، ثمّ القوم الآخرون المحرّفون يَقُولُونَ لعوامهم و أتباعهم السمّاعين لهم عند إلقائهم الأقاويل الباطلة و الكلمات المحرّفة إليهم: إِنْ أُوتِيتُمْ من قبل محمّد هذا القول الذي قلنا لكم فَخُذُوهُ و اقبلوا منه، و اعملوا بمقتضاه لأنّه الحقّ، مع كونه باطلا محرّفا وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بل اوتيتم غيره فَاحْذَرُوا و امتنعوا عن قبوله.

قيل: سبب نزول الآية ما مرّ من حكم النبيّ بالرّجم، و حكومة ابن صوريا فيه (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: كان سبب نزولها أنّه كان في المدينة بطنان من اليهود من بني هارون؛ و هم النّضير و قريظة، و كانت قريظة سبعمائة، و النّضير ألفا، و كانت النّضير أكثر مالا و أحسن حالا من قريظة، و كانوا حلفاء لعبد اللّه بن ابيّ، فكان إذا وقع بين قريظة و النّضير قتل، و كان القتيل (2)من بني النّضير قالوا لبني قريظة: لا نرضى أن يكون قتيل منّا بقتيل منكم؛ فجرى بينهم في ذلك مخاطبات كثيرة، حتّى كادوا أن يقتتلوا، حتّى رضيت قريظة و كتبوا بينهم كتابا على أنّه أيّ رجل من النّضير قتل رجلا من بني قريظة أن يجنّب و يحمّم (3)، و التّجنبة أن يقعد على جمل، و يولى وجهه إلى ذنب الجمل، و يلطّخ وجهه بالحمأة (4)، و يدفع نصف الدّية، و أيّما رجل من قريظة قتل رجلا من النّضير أن يدفع إليه الدّية كاملة، و يقتل به.

فلمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [إلى المدينة]، و دخل الأوس و الخزرج في الإسلام، ضعف أمر اليهود، فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النّضير، فبعث إليهم بنو النّضير أن ابعثوا إلينا دية المقتول و بالقاتل حتّى نقتله، فقالت قريظة: ليس هذا حكم التّوراة، و إنّما هو شيء غلبتمونا عليه، فأمّا الدّية و أمّا القتل، و إلاّ فهذا محمّد بيننا و بينكم، فهلمّوا و تحاكموا إليه.

فمشت بنو النّضير إلى عبد اللّه بن ابيّ فقالوا: سل محمّدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الذي

ص: 375


1- . مجمع البيان 3:299، تفسير روح البيان 2:394، تفسير الصافي 2:22.
2- . في المصدر: و كان القاتل.
3- . يجنّب: يبعد، و يحمّم: يسوّد وجهه بالفحم.
4- . الحمأة: الطين الأسود.

بيننا و بين بني قريظة في القتل، فقال عبد اللّه بن ابيّ: ابعثوا [معي]رجلا يسمع كلامي و كلامه، فإن حكم لكم بما تريدون و إلاّ فلا ترضوا به، فبعثوا معه رجلا، فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ هؤلاء القوم، قريظة و النّضير، قد كتبوا كتابا بينهم و عهدا وثيقا تراضوا به، و الآن في قدومك يريدون نقضه، و قد رضوا بحكمك فيهم، فلا تنقض كتابهم و شرطهم، فإنّ [بني]النّضير لهم القوّة و السّلاح و الكراع (1)، و نحن نخاف (2)الدّوائر، فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك و لم يجبه بشيء، فنزل عليه جبرئيل بهذه الآيات . . . يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يعني: عبد اللّه بن ابيّ، و بني النّضير، وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا، يعني: عبد اللّه [بن ابيّ]، قال لبني النّضير: إن لم يحكم [لكم]بما تريدونه فلا تقبلوا (3).

ثمّ لمّا بيّن اللّه عزّ و جلّ فضائح اليهود و المنافقين كعبد اللّه بن ابيّ، نبّه على عدم إمكان علاج مرض كفرهم، بقوله: وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ بالإرادة التّكوينيّة فِتْنَتَهُ، و ابتلاءه بالكفر و الضّلال، أو فضيحته بالكفر، أو تعذيبه فَلَنْ تَمْلِكَ و لن تستطيع لَهُ مِنَ اَللّهِ في دفعها شَيْئاً يسيرا، إذن فاعلم أن أُولئِكَ اليهود و المنافقين هم اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الزّيغ و الرّين و الطّبع و الضّيق، و لذا ثبت لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ و ذلّة، بضرب الجزية على اليهود منهم، و إجلاء بني النّضير، و إظهار كذبهم و كتمانهم للحقّ، و تفضيح المنافقين بإظهار كفرهم، و خذلانهم بين المؤمنين وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ و دار الجزاء عَذابٌ بالنّار عَظِيمٌ بالخلود فيها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 42

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم و تقريعهم بقوله: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ و المال الحرام. و إنّما ذمّهم بالوصفين لتوغّلهم فيهما.

سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ (42)قيل: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة، سمع كلامه و لا يلتفت إلى خصمه، و كان يسمع الكذب و يأكل السّحت (4).

و قيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهوديّة، فالفقراء كانوا

ص: 376


1- . الكراع: اسم يجمع الخيل و السّلاح.
2- . زاد في المصدر: الغوائل و.
3- . تفسير القمي 1:168، تفسير الصافي 2:36.
4- . تفسير الرازي 11:235.

يسمعون أكاذيب الأغنياء، و يأكلون السّحت الذي يأخذونه منهم (1).

و قيل: كانوا سمّاعون للكذب الذي ينسبونه إلى التوراة، أكّالون للرّبا (2).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، في قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ قال: «هو الرّجل يقضي لأخيه الحاجة [ثمّ]يقبل هديّته» (1).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «السّحت أنواع كثيرة؛ منها: اجور الفواجر (2)، و ثمن الخمر و النّبيذ المسكر، و الرّبا بعد البيّنة، و أمّا الرّشا في الحكم فإنّه كفر باللّه العظيم و برسوله» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «السّحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغيّ، و أجر الكاهن، و الرّشوة» (4).

ثمّ لمّا كان سبب نزول الآية السّابقة محاكمة اليهود عند الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في أمر القتل، أو حدّ زنا المحصن، خيّره اللّه تعالى في الحكم بينهم، بقوله: فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك في ما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما هو الحقّ عند اللّه أَوْ أَعْرِضْ و تولّ عَنْهُمْ و لا تلتفت إليهم.

ثمّ أمّنه اللّه سبحانه-إثر التّخيير-من الضّرر على الحالين بقوله: وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تقبل الحكومة بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً يسيرا من الضّرر بسبب إعراضك عنهم و عدم اعتنائك بهم، و إن زادت معاداتهم فاللّه عاصمك وَ إِنْ حَكَمْتَ و قبلت الفصل بينهم فَاحْكُمْ و اقض بَيْنَهُمْ بحكم و قضاء ملابس بِالْقِسْطِ و العدل الذي امرت به إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ في الحكم، العادلين في القضاء؛ فيحفظهم من كلّ سوء و مكروه، و يكرمهم بالقرب إليه. في الحديث: «المقسطون عند اللّه على منابر من نور» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التّوراة و [أهل]الإنجيل يتحاكمون إليه، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم» (6).

في أن الحاكم مخيّر

في الحكم بين أهل

الكتاب إذا كان

المخاصمان أهل

ملّة واحدة

أقول: حكي اتّفاق أصحابنا على تخيير الحاكم في الصّورة إذا كان الخصمان أهل ملّة واحدة، و أمّا إذا كان أحدهما مسلما؛ فلا يجوز ردّ الحكم فيه إلى أهل الذّمّة. و إنّما الخلاف فيما إذا كانا ذمّيّين من أهل ملّتين كاليهودي و النّصراني. و الأقوى تحتّم

ص: 377


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:28/16، تفسير الصافي 2:38.
2- . في النسخة: الفواحش.
3- . الكافي 5:126/1، تفسير الصافي 2:37.
4- . الكافي 5:126/2، تفسير الصافي 2:37.
5- . تفسير روح البيان 2:395.
6- . التهذيب 6:300/839، تفسير الصافي 2:38.

الحكم بينهما بمذهب الإسلام، لعمومات وجوب الحكم و القضاء بالحقّ، و بما أنزل اللّه، و لم يثبت التّخصيص إلاّ فيما [إذا]كانا من أهل ملّة واحدة، و يؤيّده أنّ [في]الرّدّ إلى إحدى الملّتين إثارة الفتنة.

و قيل: إنّ التّخيير منسوخ بقوله: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ (1)؛ و هو مرويّ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (2)، قال: ما نسخ من المائدة غير هذه الآية، و غير قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ (3)، نسخها قوله: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ (4).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 43

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه اليهود على إعراضهم عن التّوراة التي يعتقدون أنّهم مؤمنون بها، و تحكيمهم من لا يؤمن به، باستفهام فيه تعجيب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ و يرضون هؤلاء اليهود بقضائك بينهم، وَ الحال أنّ عِنْدَهُمُ و في منظرهم اَلتَّوْراةُ التي تغنيهم عن حكمك، إذ فِيها حُكْمُ اَللّهِ صريحا في موضوع تشاجرهم في أمر القصاص و الدّية ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ و يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم و الرّضا بقضائك وَ ما أُولئِكَ المتحاكمون إليك بِالْمُؤْمِنِينَ بشيء من التّوراة و لا بحكمك لإعراضهم عنها و عنه، بل غرضهم اتّباع الهوى، و تحصيل مصالح الدّنيا.

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 44

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم و تقريعهم على إعراضهم عن التّوراة ببيان عظم شأنها بقوله: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ إلى بني إسرائيل، و الحال أنّ ما فِيها هُدىً من الضّلال، و رشاد إلى الحقّ، و بيان لكلّ حكم، وَ فيها نُورٌ ترتفع به ظلمة الجهل، و تزول به كدورة الشكّ، و قد كانت من أوّل نزولها يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا و انقادوا للّه و لأحكامه لِلَّذِينَ هادُوا و اتّبعوا شريعة موسى

إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ (44)

ص: 378


1- . المائدة:5/49.
2- . تفسير الرازي 11:235، تفسير أبي السعود 3:39.
3- . المائدة:5/2.
4- . تفسير أبي السعود 3:39، و الآية من سورة التوبة:9/5.

من بني إسرائيل و غيرهم وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ أيضا كانوا يحكمون به، و كان اهتمامهم ببعث النّاس إلى العمل بها بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ و بسبب كونهم موكّلين على وقايته من التّحريف و التّغيير و الضّياع و الإهمال، حسب ما وصّاهم اللّه به وَ كانُوا جميعا لشدّة اهتمامهم بحفظه كلّ زمان عَلَيْهِ شُهَداءَ بين النّاس يشهدون بصدقه و نزوله من اللّه. أو المراد: أنّهم عليه رقباء يراقبون على أن لا يغيّر و لا يضيّع.

عن الصادق عليه السّلام: «الربّانيّون: هم الأئمّة دون الأنبياء الّذين يربّون النّاس بعلمهم، و الأحبار: هم العلماء الربّانيّون-قال: -ثمّ أخبر عنهم فقال: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ، و لم يقل: بما حملوا منه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «فينا نزلت» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قيام النّبيّين و الربّانيّين و الأحبار بحفظ التّوراة و الاهتمام بإمضاء أحكامها من غير مبالاة، خاطب اليهود الّذين كانوا في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حرّضهم و حرّض رؤساءهم و أحبارهم بالاقتداء بمن قبلهم من الأنبياء، و اتّباعهم في عدم المبالاة من أحد في حفظ التّوراة و إمضاء أحكامها؛ بقوله: فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ [سواء أ]كانوا ملوكا أو غير ملوك، على أنفسكم و أعراضكم و أموالكم، في أن تحكموا بحكم التّوراة في الرّجم و القتل و غيرهما، و إيّاكم أن تحرّفوا كتاب اللّه بإسقاط الحدّ الواجب و التّساوي في الدية و القصاص وَ اِخْشَوْنِ و خافوا من عقابي على تغيير كتابي و الحكم بغير الحقّ.

ثمّ بعد الرّدع عن داعي الرّهبة الذي هو أقوى الدّواعي، ردع عن داعي الرّغبة بقوله: وَ لا تَشْتَرُوا و لا تستبدلوا بِآياتِي و أحكام كتابي ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً من الرّشوة و الجاه و سائر الحظوظ الدّنيويّة.

ثمّ هدّد المغيّرين لكتابه، الحاكمين بغير أحكامه بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ من الأحكام، مستهينا بها، رادّا لها فَأُولئِكَ المنكرون له بقلوبهم، التّاركون له بأعمالهم هُمُ اَلْكافِرُونَ باللّه و بكتابه حقّا، الخالدون في النّار أبدا.

عن (الكافي) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من حكم في درهمين بحكم جور؛ ثمّ جبر عليه، كان من أهل هذه

ص: 379


1- . تفسير العياشي 2:51/1279، تفسير الصافي 2:38.
2- . تفسير العياشي 2:50/1278، تفسير الصافي 2:39.

الآية» (1).

و عنهما عليهما السّلام: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه، ممّن له سوط أو عصا؛ فهو كافر بما أنزل اللّه على محمّد» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 45

ثمّ أخبر اللّه بما في التّوراة من حكم القصاص و المساواة فيه بين الوضيع و الشريف بقوله: وَ كَتَبْنا و أثبتنا عَلَيْهِمْ فِيها بالصّراحة أَنَّ اَلنَّفْسَ القاتلة تقاد بِالنَّفْسِ المقتولة بغير حقّ مطلقا، من غير فرق بين الوضيع و الشّريف، و القويّ و الضّعيف، و الصّغير و الكبير، وَ اَلْعَيْنَ تفقأ بِالْعَيْنِ إذا فقئت بغير حقّ وَ اَلْأَنْفَ يجذم بِالْأَنْفِ إذا جذم بغير حقّ، وَ اَلْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ المقطوعة بغير حقّ، وَ اَلسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ المقلوعة بغير حقّ، وَ كذا اَلْجُرُوحَ كلّها إذا عرف حدّ فيها قِصاصٌ معيّن، و مجازاة بالمثل إذا أمكنت المساواة، و أمّا إذا لم يمكن المساواة و القصاص بالمثل غالبا؛ كالجائفة و نحوها، ففيها الدية أو الحكومة.

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (45)ثمّ حثّ سبحانه المجنيّ عليه بالعفو عن القصاص بقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ على الجاني، و عفا عنه القصاص فَهُوَ كَفّارَةٌ و ماحية للذّنوب لَهُ .

في الحديث: «من اصيب بشيء من جسده فتركه للّه، كان كفّارة له» (3).

و روي أنّه «ثلاث من جاء بهنّ يوم القيامة مع الإيمان دخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شاء، و تزوّج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، و من قرأ دبر كلّ صلاة مكتوبة: قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ أحد عشر مرّات (4)، و [من]أدّى دينا خفيا» (5).

و قيل: إنّ ضمير (له) راجع إلى الجاني، و المراد: أنّه إذا عفا المجنيّ عليه عن الجاني فعفوه كفّارة لذنب الجاني، فلا يؤخذ به في الآخرة، كما أنّ القصاص كفّارة، و أمّا أجر العافي فعلى اللّه (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم القصاص و استحباب العفو، هدّد على مخالفة أحكامه بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ من حكم القصاص و غيره فَأُولئِكَ المخالفون هُمُ اَلظّالِمُونَ على

ص: 380


1- . الكافي 7:408/3، تفسير الصافي 2:39.
2- . الكافي 7:407/1، تفسير الصافي 2:39.
3- . تفسير روح البيان 2:398.
4- . كذا في النسخة و تفسير روح البيان. (5 و 6) . تفسير روح البيان 2:398.

أنفسهم بابتلائها بالعقاب الدّائم، أو الظّالمون على المجنيّ عليه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 46

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه أنّ النّبيّين و الربّانيّين و الأحبار كانوا يحكمون بحكم التّوراة، ذكر أنّ عيسى عليه السّلام مع كونه صاحب شرع و كتاب، مصدّق للتّوراة أيضا، بقوله: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ و أتبعناهم في الإسلام و الانقياد لحكم اللّه بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ و جئنا به بعدهم رسولا، حال كونه مُصَدِّقاً لِما نزل بَيْنَ يَدَيْهِ و قبل بعثته مِنَ كتاب اَلتَّوْراةِ و شاهدا على أنّها من اللّه، و معترفا بصدقها وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ الذي يكون فِيهِ هُدىً للحقّ، و إرشادا إلى تنزيه اللّه من الصّاحبة و الولد و المثل، و إلى جميع المعارف الحقّة الإلهيّة، وَ فيه نُورٌ ينكشف به سبيل السّلوك إلى اللّه من الأحكام و الآداب و الأخلاق، وَ يكون مُصَدِّقاً و موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ في العلوم و المعارف، وَ يكون هُدىً و رشادا إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله-كما قيل- وَ مَوْعِظَةً و نصحا و زجرا لِلْمُتَّقِينَ لأنّهم المنتفعون به.

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 47

في بيان أن القرآن

حافظ الكتب

السماوية

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بأنّ في الإنجيل هدى إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أمر النّصارى بالالتزام بجميع ما فيه بقوله: وَ لْيَحْكُمْ البتة أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ و المؤمنون به بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ من الأحكام، و البشارة ببعثة رسول اسمه أحمد، و لازم ذلك هو الالتزام بنسخ ما أخبر النبيّ بنسخه.

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (47)ثمّ هدّد على ترك الالتزام به بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ و لم يلتزم بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فيه، و لم يحمل النّاس عليه فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه و حدود العقل.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 48

ص: 381

ثمّ بعد بيان فضائل الكتابين، شرع سبحانه في ذكر فضائل القرآن بقوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد اَلْكِتابَ السّماوي؛ و هو القرآن العظيم، حال كونه ملابسا بِالْحَقِّ و مقرونا بشواهد الصّدق و مُصَدِّقاً و موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ و ما أنزل قبله مِنَ جنس اَلْكِتابَ السّماوي وَ مُهَيْمِناً و شاهدا عَلَيْهِ دالا على صدقه، أو حافظا له، لكون القرآن معجزة باقية دون سائر الكتب، و مصونا من التّغيير و التّحريف أبد الدّهر، و ليس على صدق سائر الكتب، دليل لعدم اشتمال واحد منها على الإعجاز، و انقطاع تواترها، و لو لا القرآن و صراحته بصدقها، لا طريق لأحد إلى تصديقها، فما دام بقاء القرآن تبقى الحجّة على صدق سائر الكتب.

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)ثمّ لمّا ذكر فضائل القرآن، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعمل به، و إجراء ما فيه من الأحكام بقوله: فَاحْكُمْ يا محمّد بَيْنَهُمْ و عند مشاجراتهم بِما أَنْزَلَ اَللّهُ إليك فيه من الأحكام وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ و لا تراع مشتهيات أنفسهم، و لا تعدل؛ خوفا من ضررهم و طمعا في إيمانهم عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ و ما تبيّن لك من الحكم، إلى غيره.

ففيه سدّ باب احتمال تغيير حكم اللّه على النبيّ و سائر النّاس لمصلحة دفع الضّرر عن النّفس أو عن الإسلام، أو ملاحظة أنّ تغيير الحكم أدخل في الهداية إلى الحقّ. فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجوز التمسّك بهذه الآية في الطّعن بعصمة الأنبياء بعد دلالة الأدلّة القاطعة على عصمتهم.

و قيل: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المقصود به غيره (1)، من باب إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

روي أنّ جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه، ثمّ دخلوا عليه و قالوا: يا محمّد، قد عرفت أنّا أحبار اليهود و أشرافهم، و أنّا إن اتّبعناك اتبعك كلّ اليهود، و أنّ بيننا و بين خصومنا حكومة؛ فنحاكمهم إليك، فاقض لنا و نحن نؤمن بك، فأنزل اللّه هذه الآية (2).

ثمّ لمّا ذكر اللّه كتب الفرق الثّلاث و أحكامهم، نبّه على أنّ كلّ دين كان حقّا قبل نسخه؛ بقوله: و لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيّتها (3)الفرق شِرْعَةً و دينا كان العمل به سببا لحياتكم؛ كشريعة الماء وَ مِنْهاجاً و طريقا واضحا إلى الحقّ.

ثمّ بيّن حكمة اختلاف الأديان في القرون [الماضية]بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ و اقتضت حكمته

ص: 382


1- . تفسير الرازي 12:12.
2- . تفسير الرازي 12:11، تفسير أبي السعود 3:47.
3- . في النسخة: أيها.

البالغة لَجَعَلَكُمْ من أوّل الدّنيا إلى فنائها أُمَّةً واحِدَةً و أهل ملّة فاردة وَ لكِنْ لم يشأ ذلك، بل جعل أديانكم مختلفة بعضها ناسخ لبعض لِيَبْلُوَكُمْ و يمتحنكم فِي ما آتاكُمْ من الدّين و الأحكام، هل تعملون بها منقادين للّه، خاضعين لأحكامه، مصدّقين بالحكمة في اختلافها، أو تقصّرون من العمل، و تتّبعون الشّبهات و الشّهوات؟

فإن آمنتم بأنّ دين الإسلام حقّ، و ما في القرآن-سواء كان موافقا للكتابين أو مخالفا لهما-أحكام اللّه و شرائعه فَاسْتَبِقُوا أيّتها (1)الفرق اَلْخَيْراتِ التي هداكم اللّه إليها من العقائد الحقّة، و الأعمال الصّالحة، و بادروا إليها انتهازا للفرصة كي لا تموتوا مع فساد العقائد، و سوء الأعمال، فإنّه يكون إِلَى اَللّهِ بعد الموت مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أيّها المؤمنون بالقرآن، و المنكرون له فَيُنَبِّئُكُمْ اللّه، و يخبركم إذن بِما كُنْتُمْ في الدّنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من كون القرآن كتاب اللّه و أحكامه، و إخباره تعالى بإثابة المؤمن به، و عقاب الجاحد له؛ فلا يبقى شكّ للمبطل و المحقّ.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 49

ثمّ أكّد اللّه وجوب الحكم بما أنزل اهتماما به بقوله: وَ أَنِ اُحْكُمْ -قيل: إنّ التّقدير: و أنزلنا إليك أن أحكم (2)، أو أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ و بأن احكم، فيكون عطفا على الحقّ، أو أمرناك أن احكم (3)- بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ إليك.

وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ (49)روي عن الباقر عليه السّلام: «إنّما كرّر الأمر بالحكم بينهم؛ لأنّهما حكمان أمر بهما جميعا، لأنّهم احتكموا إليه في زنا المحصن، ثمّ احتكموا إليه في قتل كان بينهم» (4).

أقول: عليه بعض مفسّري العامّة (5).

ثمّ لمّا كان الحاكم في معرض اتّباع هوى المتخاصمين، بالغ سبحانه في النّهي عنه بقوله: وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ و لا تراع ميولهم.

ثمّ نبّه اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بسوء (6)قصد اليهود، و إرادتهم تحريفه عن الحكم بالحقّ بقوله: وَ اِحْذَرْهُمْ من أَنْ يَفْتِنُوكَ و يصرفوك بخديعتهم عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ من الأحكام

ص: 383


1- . في النسخة: أيها.
2- . تفسير الرازي 12:13.
3- . تفسير الرازي 12:14، تفسير البيضاوي 1:269.
4- . مجمع البيان 3:315، تفسير الصافي 2:41.
5- . راجع: تفسير الرازي 12:14.
6- . كذا، و الظاهر: على سوء.

فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن حكمك بما نزل فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ تعالى بخذلانهم و تولّيهم عن حكمك أَنْ يُصِيبَهُمْ و يعاقبهم في الدّنيا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ الكثيرة، و قليل من معاصيهم التي لا تحصى؛ من تسليطك عليهم و تعذيبهم بالقتل و الإجلاء، و الذلّة و المسكنة، و ضرب الجزية، و يعاقبهم على بقيّتها في الآخرة.

ثمّ سلّى سبحانه قلب حبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ و قليل منهم مؤمنون شاكرون، فلا يعظم عليك تولّيهم عن حكمهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 50

ثمّ أنكر سبحانه عليهم التّولّي عن الحقّ، و وبّخهم عليه بقوله: أَ يتولّون فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ و ملّتها التي هي محض الهوى و الجهالة يَبْغُونَ و يطلبون؛ مع أنّهم أهل الكتاب و العلم.

أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)ثمّ أنكر كون حكم أحسن و أصلح من حكمه بقوله: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ و أعدل حُكْماً ثمّ نبّه على أنّ هذا الخطاب و الاستفهام الإنكاري أو التعجبي (1)يكون لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بحكمة اللّه و عدله؛ لأنّهم العارفون بأن لا أحد أعدل من اللّه، و لا حكم أحسن من حكمه، لا اليهود الّذين هم أهل الشّكّ و الرّيب و العناد.

روي أنّه كان بين النّضير و قريظة دم قبل أن يبعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا بعث تحاكموا إليه فقالت قريظة: بنو النّضير إخواننا، أبونا واحد، و ديننا واحد، و كتابنا واحد، فإن قتل بنو النّضير منّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا (2)من تمر، و إن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا مائة و أربعين وسقا من تمر، و اروش جناياتنا (3)على النّصف من اروش جناياتهم (4)، فاقض بيننا و بينهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فإنّي أحكم أن دم القرظيّ وفاء من دم النّضيري، و دم النّضيري وفاء من دم القرظيّ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم، و لا عقل (5)، و لا جراحة» . فغضب بنو النّضير و قالوا: لا نرضى بحكمك فإنّك عدوّ لنا، فأنزل اللّه هذه الآية أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يعني: حكمهم الأوّل (6).

و قيل: إنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه، و إذا وجب على أقويائهم لم

ص: 384


1- . في النسخة: التعجيبي.
2- . الوسق: مكيال، و هو ستون صاعا، و الصاع خمسة أرطال و ثلث.
3- . في تفسير الرازي: جراحاتنا، و الاروش جمع أرش: دية الجراحة.
4- . في تفسير الرازي: جراحاتهم.
5- . العقل: الدّية.
6- . تفسير الرازي 12:15.

يأخذهم به، فمنعهم اللّه تعالى منه بهذه الآية (1).

عن الصادق عليه السّلام: «الحكم حكمان؛ حكم اللّه، و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهليّة» (2).

[و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الحكم حكمان؛ حكم اللّه، و حكم الجاهلية]و قد قال اللّه عز و جل: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، و أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 51

ثمّ لمّا شرح اللّه سبحانه خيانة اليهود و النّصارى في كتاب اللّه، و عداوتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و استنكافهم عن قبول الحقّ، و تولّيهم عن حكم اللّه و رسوله، نهى المؤمنين عن موالاتهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا لأنفسكم اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ و أحبّاء، و لا تعاشروهم معاشرة الأصدقاء، و لا تتوقّعوا منهم النّصرة بعد وضوح كونهم لكم و لدينكم أعداء، كما لا يكون اليهود أولياء النّصارى و لا بالعكس؛ مع اتّفاقهم على الكفر، بل كلّ من الفريقين بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ آخر ممّن وافقهم على الدّين، دون من خالفهم، لوضوح أنّ ائتلاف القلوب لا يمكن مع الاختلاف في الدّين، وَ على هذا مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ في الباطن مِنْهُمْ فلا بدّ أن يحكم عليه بحكمهم، و يحشر في القيامة في زمرتهم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (51)روي أن عبادة بن الصّامت قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولايتهم، و اوالي اللّه و رسوله، فقال عبد اللّه بن ابيّ: إنّي رجل أخاف الدّوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ؛ و هم يهود بني قينقاع (4).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة تولّي الكفّار بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يرشد إلى الحقّ و عمل الخير بالتّوفيق و التّأكيد اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم (5)بترك موالاة المؤمنين، و اختيار موالاة الكافرين، بل يخذلهم و يخلّيهم و شأنهم فيقعون في الكفر و الضّلال بهوى أنفسهم لا محالة.

ص: 385


1- . تفسير الرازي 12:15.
2- . الكافي 7:407/1، تفسير الصافي 2:41.
3- . الكافي 7:407/2، تفسير الصافي 2:41.
4- . تفسير أبي السعود 3:49، تفسير روح البيان 2:402.
5- . كذا، و الظاهر: الظالمين أنفسهم؛ لأنّه متعدّ بلا حرف جر.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 52

ثمّ وبّخ سبحانه المنافقين بقوله: فَتَرَى يا محمّد، المنافقين اَلَّذِينَ استقرّ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الكفر و النّفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ و يبادرون إلى موالاتهم و مرافقتهم، و يَقُولُونَ للمؤمنين اعتذارا من صنيعهم القبيح: إنّا نواليهم لأنّا نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا و تدور علينا دائِرَةٌ من دوائر الدّهر، و دولة من دوله؛ كانقلاب الأمر و كون الغلبة للمشركين و اليهود.

فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)قيل: إنّ هذا كان في قلوبهم، و أمّا في الظاهر كانوا يقولون: إنّا نخاف أن يصيبنا مكروه من مكاره الزّمان كالجدب و القحط، فلا يعطونا الميرة و القرض (1).

فردّ اللّه عليهم بقوله: فَعَسَى اَللّهُ و يرجى من فضله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ هو فتح مكة، أو فتح قلاع خيبر لرسوله صلّى اللّه عليه و آله أَوْ أَمْرٍ آخر فيه استئصال اليهود و غيرهم من الكفّار، و إعزاز المؤمنين، كائن مِنْ عِنْدِهِ و بقدرته على خلاف العادة فَيُصْبِحُوا أولئك المنافقون المعتذرون عَلى ما أَسَرُّوا و أخفوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر و الشّكّ في أمر الرّسول نادِمِينَ .

عن الصادق عليه السّلام، في تأويل الآية: «أذن في هلاك بني اميّة بعد إحراق زيد بسبعة أيّام» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 53

ثمّ بيّن اللّه تعالى سوء عاقبة المنافقين المتعذّرين بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لليهود عند ظهور ندامة المنافقين تعجّبا أو تعريفا أَ هؤُلاءِ المنافقون هم اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا و حلفوا بِاللّهِ لكم، حال كونهم يجهدون جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و يبالغون في تغليظها إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ بالنّصرة و المعونة، فلمّا ظهرت شوكة الإسلام و دولته بحيث لا يرجى لغيره دولة، و ذلّت رقابكم للمؤمنين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و بطلت مساعيهم في حفظ موالاة أعداء اللّه فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ مغبونين بتحمّل المشاقّ و عدم الثّمرة، و استحقاق القتل و الهوان في الدّنيا و العذاب في الآخرة.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

ص: 386


1- . تفسير أبي السعود 3:49، تفسير روح البيان 2:403.
2- . تفسير العياشي 2:54/1293، تفسير الصافي 2:42.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 54

ثمّ لمّا كان تولّي الكفّار أمارة الارتداد و في حكمه، هدّد اللّه تعالى المرتدّين بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ و يرجع مِنْكُمْ بتولّي الكفار عَنْ دِينِهِ الحقّ؛ و هو الإسلام، إلى الكفر، فلن يضرّ اللّه شيئا، فإنّ دين اللّه لا يخلو من أنصار يحمونه فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ آخرين يُحِبُّهُمْ اللّه و يكرمهم بألطافه وَ يُحِبُّونَهُ و يطيعونه حقّ طاعته أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ خاضعين لهم رحماء بينهم أَعِزَّةٍ و أشدّاء عَلَى اَلْكافِرِينَ و من شدّتهم أنّهم يُجاهِدُونَ و يقاتلون الكفّار فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته، و إعلاء كلمته، و تقوية دينه، وَ لا يَخافُونَ لغاية تصلّبهم في الدّين، و حرصهم على نصرة الحقّ لَوْمَةَ أيّ لائِمٍ و طعن أيّ طاعن في ما يأتونه من الجهاد، و طاعة أمر اللّه ذلِكَ الأوصاف الحميدة و الأخلاق الكريمة فَضْلُ اَللّهِ و لطفه و إنعامه تعالى يُؤْتِيهِ و يعطيه مَنْ يَشاءُ إيتاءه و إعطاءه إيّاه من النّفوس الزكيّة و الذّوات المستعدّة، لا أنّهم مستقلّون بكسبه و تحصيله من غير حاجة إلى توفيقه و تأييده وَ اَللّهُ واسِعٌ فضلا و إنعاما على العباد عَلِيمٌ بقابليّتهم و استعداداتهم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)عن السّدّي: أنّها نزلت في الأنصار لأنّهم [هم]الذين نصروا الرّسول، و أعانوه على إظهار الدّين (1). و عن مجاهد: أنّها نزلت في أهل اليمن (2).

و روي من طرق العامّة: أنّها لما نزلت أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي موسى الأشعري و قال: «هم قوم هذا» (3).

و رووا أيضا: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا سئل عن هذه الآية، ضرب بيده على عاتق سلمان و قال: «هذا و ذووه» ثمّ قال: «لو كان الدّين معلّقا بالثّريّا لناله رجال من أبناء فارس» (4).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «هم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و أصحابه حين قاتل من قاتله من النّاكثين و القاسطين و المارقين» (1).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، قال يوم البصرة: «و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم» ، و تلا هذه الآية (2).

ص: 387


1- . مجمع البيان 3:321، تفسير الصافي 2:43.
2- . مجمع البيان 3:323، تفسير الصافي 2:43.

عن القمّي: «أنّها نزلت في مهديّ هذه الامّة و أصحابه» (1).

في نقل كلام الفخر

الرازي و رده

قال الفخر الرازي: و قال قوم: إنّها نزلت في عليّ عليه السّلام، و يدلّ عليه وجهان: الأوّل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دفع الرّاية إلى عليّ يوم خيبر قال: «لأدفعنّ الرّاية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله» ، و هذا هو الصّفة المذكورة في الآية.

الوجه الثاني: أنّه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إلى آخره، و هذه الآية في حقّ عليّ، فكان الأولى نزول ما قبلها أيضا في حقّه.

إلى أن قال: المقام الأوّل: أنّ هذه الآية من أدلّ الدّلائل على فساد مذهب الإمامية من الرّوافض، و تقرير مذهبهم: أنّ الّذين أقرّوا بخلافة أبي بكر و إمامته كلّهم كفروا و صاروا مرتدّين؛ لأنّهم أنكروا النّصّ الجليّ على إمامة علي عليه السّلام.

فنقول: لو كان الأمر كذلك لجاء اللّه بقوم يحاربهم و يقهرهم و يردّهم إلى الدّين الحقّ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ إلى آخر الآية، و كلمة (من) شرطية للعموم، فهي تدلّ على أنّ كلّ من صار مرتدّا عن دين الإسلام، فإنّ اللّه يأتي بقوم يقهرهم و يردّهم و يبطل شوكتهم، فلو كان الّذين نصّبوا أبا بكر للخلافة كذلك، لوجب بحكم الآية أن يأتي اللّه بقوم يقهرهم و يبطل مذهبهم، و لمّا لم يكن [الأمر]كذلك، بل الأمر بالضدّ، فإنّ الرّوافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مذاهبهم (2)الباطلة [أبدا]منذ كانوا، علمنا فساد مقالتهم و مذهبهم، و هذا كلام ظاهر لمن أنصف (3).

أقول: ظاهر الآية أنّ الخلق إذا كفروا و ارتدّوا، فلن يضرّوا اللّه شيئا، و أنّ دينه لا يخلوا من أنصار- كما ذكرنا سابقا-و ليس في الآية وعد بإتيان قوم يجاهدون المرتدّين حتّى يقهروهم و يردّوهم عن دينهم الباطل، كما ادّعاه النّاصب، و لو كان معنى الآية كما ذكره، لكان كذبا-نعوذ باللّه-لوضوح أنّه حدث بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مذاهب فاسدة، و ارتدّ القائلون بها قطعا؛ كمذهب التجسّم و النصب و غيرهما، و لم يقاتلوا و لم يقهروا، و لم يردّوا عن مذهبهم، بل لازم ذلك أن لا يبقى مرتدّ على وجه الأرض إلى يوم القيامة لعموم الآية، و هو خلاف الحسّ و الضّرورة.

و قد رووا أنّ جبلة بن الأيهم أسلم على يد عمر، و كان يطوف يوما جارّا رداءه، فوطأ رجل طرف ردائه، فغضب فلطمه، فتظلّم الرّجل إلى عمر، فقضى له بالقصاص عليه إلاّ أن يعفو عنه، فقال جبلة:

ص: 388


1- . تفسير القمي 1:170، تفسير الصافي 2:43.
2- . في المصدر: مقالاتهم.
3- . تفسير الرازي 12:20.

أنا أشتريها بألف، فأبى الرّجل، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرّجل إلاّ القصاص، فاستنظر عمر فأنظره، فهرب إلى الرّوم و ارتدّ (1). و لم يقتله أحد.

و القول بأنّ حكم الواحد ليس حكم الجماعة شطط من الكلام، نعم لا يبعد دلالتها على أنّه يكون في كلّ زمان جماعة متّصفة بالصّفات الكريمة المذكورة في الآية، و قد كان بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-و حين ارتداد المسلمين بإنكارهم النصّ الجليّ-جماعة متّصفة بالصّفات كأمير المؤمنين، و سلمان، و أبي ذرّ، و المقداد، و عمّار، و لكن لم يكن صلاح الإسلام في جهادهم، و إلاّ كانوا يجاهدون و لا يخافون في اللّه لومة لائم، كما لم يكن صلاح الدّين في إقدام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في جهاد المنافقين مع كثرتهم في زمانه، بل في جهاد المشركين قبل الهجرة.

ثمّ قال النّاصب: هذه الآية مختصّة بمحاربة المرتدّين، و أبو بكر هو الّذي تولّى محاربة المرتدّين (2).

أقول: لم يجاهد أبو بكر أحدا من المرتدّين، و إنّما حاربهم جيش المسلمين بأمر أبي بكر، و لم يكن هو في الجيش، بل لم يكن من حارب جيش أبي بكر من المرتدّين، بل كانوا منكرين لخلافته، و إنّما منعوه من الزّكاة بدعوى عدم أهليّته لأخذها، فاتّهمهم بالارتداد و إنكار وجوبها، حيث نقل أنّهم قالوا: أمّا الصّلاة فنصلّي، و أمّا الزّكاة فلا تغصب أموالنا.

روي عن أنس بن مالك أنّه قال: كرهت الصّحابة قتال مانعي الزّكاة، و قالوا: هم أهل القبلة، فتقلّد أبو بكر سيفه و خرج وحده، فلم يجدوا بدّا من الخروج على أثره (3).

نعم بعث خالد بن الوليد في جيش كثير إلى مسيلمة حتّى أهلكه اللّه على يد وحشي قاتل حمزة سيّد الشّهداء، و كان يقول: قتلت خير النّاس في الجاهليّة، و شرّهم في الإسلام (4).

فكان الأولى أن يقول النّاصب: إنّ الآية نزلت في خالد بن الوليد، و وحشي-و هو ممّا يضحك به الثّكلى، لوضوح أنّ خالدا كان ممّن يبغضه اللّه (3)-لأنّ صدق المجاهد عليهما حقيقة، و على أبي بكر مجاز بعلاقة السّببيّة، كما أنّ صدقه على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و أصحابه-عند محاربتهم الفرق الثّلاث المنكرين للنصّ الجليّ على وجوب موالاة عليّ عليه السّلام و أشياعه-حقيقة، و على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الآمر له بجهادهم مجاز.

ثمّ قال النّاصب: و لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول؛ لأنّه لم يتّفق له محاربة المرتدّين (4).

ص: 389


1- . تفسير الرازي 12:19.
2- . تفسير الرازي 12:20. (3 و 4) . تفسير روح البيان 2:405.
3- . زاد في النسخة: و يبغضه.
4- . تفسير الرازي 12:20.

أقول فيه: إنّه صلّى اللّه عليه و آله قد جاهد الأسود العنسي المرتدّ بالمعنى الذي ذكره و [كما]اتّفق لأبي بكر، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله على ما نقله هو في تفسيره، و غيره من العامّة، قالوا: إنّ بني مدلج ارتدّوا في زمانه، و كان رئيسهم ذو الحمار، و هو الأسود العنسي، و كان كاهنا ادّعى النّبوّة في اليمن، و استولى على بلادها، و أخرج عمّال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكتب صلّى اللّه عليه و آله إلى معاذ بن جبل و سادات اليمن، فأهلكه اللّه على يد فيروز الدّيلمي؛ دخل بيته فقتله، و أخبر رسول اللّه بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون، و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الغد، و أتى خبره في آخر شهر ربيع الأول (1).

ثمّ قال الناصب: و لأنّه تعالى قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ، و هذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب، فإن قيل: هذا لازم عليكم لأنّ أبا بكر كان موجودا في ذلك الوقت، قلنا: الجواب من وجهين؛ الأوّل: أنّ القوم الّذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردّة ما كانوا موجودين في الحال (2).

أقول فيه: إنّه لا شبهة أنّ نزول هذه السّورة و الآية كان في أواخر عمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كانت مدّة خلافة أبي بكر سنتين و ستّة أشهر تقريبا، فلا بدّ من أن يكون عامّة جيش أبي بكر موجودين في زمان النّزول. و أمّا جهاد أمير المؤمنين عليه السّلام مع المرتدّين فإنّه كان بعد أزيد من ثلاثين سنة من زمان الخطاب، فيمكن أن يقال أنّ أغلب جيشه عليه السّلام لم يكونوا موجودين في زمان نزول الآية، فظهر ممّا ذكر أنّه لا يمكن أن يقال بصدق الآية على جيش أبي بكر و نزولها في شأنه.

ثمّ قال: و الثاني: أنّ معنى الآية: فسوف يأتي اللّه بقوم قادرين متمكّنين من هذا الحراب، و أبو بكر و إن كان موجودا في ذلك الوقت إلاّ أنّه ما كان مستقلا في ذلك الوقت بالحراب و الأمر و النّهي، فزال السّؤال (3).

أقول: كان الأولى أن يقول: إن المراد من الآية: فسوف يبعث [اللّه]قوما يحبّهم و يحبّونه، لا سوف يوجد قوما، مع أن الآية-على تقدير دلالتها على قيام قوم تكون لهم تلك الصّفات بجهاد خصوص المرتدّين، و على تقدير تسليم كون الأمر بالجهاد، و لو لم يلتبس به مجاهد، حقيقة-لا تدلّ على كون كلّ من جاهدهم واجدا لتلك الصّفات، بحيث لا يكون معهم غيرهم، بل الظّاهر إرادة أن جماعة ممّن لهم هذه الصّفات يجاهدونهم، و إن كان معهم غيرهم ممّن كان متّصفا بضدّ تلك الصّفات.

فلا تدلّ الآية على اتّصاف كلّ فرد من أفراد جيش أبي بكر حتّى خالد بن الوليد الذي نكح زوجة

ص: 390


1- . تفسير الرازي 12:18.
2- . تفسير الرازي 12:20.
3- . تفسير الرازي 12:20.

مالك بن نويرة بعد قتله، أو الأمر بالجهاد لتلك الصّفات، فلا بدّ من تعيين المتّصفين بالصّفات من دليل آخر، و إنّما قلنا أنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه متّصف بتلك الصّفات لدلالة (رواية الرّاية) المتواترة بين الفريقين و غيرها عليه، و إن قال هذا المتعصّب إنّها من الآحاد (1).

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لم يثبت أنّ أبا بكر بعث جيشا نحو المرتدّين؛ لأنّ المرتدّ هو الذي كفر بعد إيمانه. و لم يثبت أنّ مسيلمة و أصحابه كانوا مسلمين ثمّ كفروا، و أمّا غيرهم من سائر الطّوائف الذين (2)نسبوهم إلى الارتداد، فالظّاهر أنّهم كانوا ممتنعين من دفع زكاتهم إلى أبي بكر لإنكارهم خلافته، لا لإنكارهم وجوب الزّكاة.

و يؤيّده ما رواه العامّة من أنّ أبا بكر قال: و اللّه، لو منعوني عتودا (3)ممّا أدّوا إلى رسول اللّه لقاتلتهم عليه (4)، و لم يقل: لو جحدوا الزّكاة لقاتلتهم. و أمّا الّذين قاتلهم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فكانوا من أظهر مصاديق المرتدّين؛ لأنّ وجوب حبّ أمير المؤمنين (5)و كونه مع الحقّ و الحقّ معه (6)، كان متواترا ضروريا بين الامّة، و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «حربك حربي، و سلمك سلمي» (7)، و غيره من النّصوص الجليّة.

و لو سلّم ذلك نقول: لم يجاهد أبو بكر أحدا منهم؛ لأنّ الظّاهر من قوله: يُجاهِدُونَ مباشرة الجهاد؛ كما باشر أمير المؤمنين عليه السّلام جهاد الفرق الثّلاث، لا القعود في البيت و الرّاحة، و الأمر به؛ كما فعله أبو بكر.

و على تقدير التّسليم لا دلالة في الآية على اتّصاف جميع المجاهدين بتلك الصّفات حتّى تكون الآية مدحا لجميع أفراد الجيش، بل تدل على أن جماعة ممّن لهم تلك الصفات يجاهدونهم، و إن كان معهم أو كان رئيسهم غير متّصف بها، بل متّصفا بضدّها. فإثبات تلك الصّفات لشخص معيّن محتاج إلى دليل خارج.

ثمّ قال النّاصب المتعصّب: فثبت أنّه لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول، و لا يمكن أن يكون المراد هو عليّ أيضا؛ لأنّه لم يتّفق له قتال مع أهل الردّة، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليه؟ (8).

ص: 391


1- . تفسير الرازي 12:23.
2- . في النسخة: التي.
3- . العتود: ما قوي و أتى عليه حول من أولاد المعزى.
4- . تفسير روح البيان 2:405.
5- . راجع: فضائل الصحابة/أحمد بن حنبل 2:669/1141، مستدرك الحاكم 3:172، الدر المنثور 6:7، الصواعق المحرقة:170، الكشاف 4:219.
6- . راجع: تاريخ بغداد 14:321، ترجمة علي عليه السّلام من تاريخ دمشق 3:153/1172.
7- . شرح نهج البلاغة/لابن أبي الحديد 2:297.
8- . تفسير الرازي 12:21.

أقول: قد ظهر و ثبت ممّا ذكرنا أنّ عليّا عليه السّلام و جماعة من أصحابه كانوا من أظهر المتّصفين بالصّفات المذكورة في الآية، و أنّ الفرق الثّلاث الّذين قاتلهم صلوات اللّه عليه من أظهر مصاديق المرتدّين، و لم يثبت للآية مورد انطباق [على]غيرهم.

ثمّ قال النّاصب: فإن قالوا: بل كان قتاله مع أهل الرّدّة؛ لأنّ كلّ من نازعه في الإمامة كان مرتدّا.

قلنا: هذا باطل من وجهين؛ الأوّل: أنّ اسم المرتدّ إنّما يتناول من كان تاركا للشّرائع الإسلاميّة، و القوم الّذين نازعوا عليّا ما كانوا كذلك في الظّاهر، و ما كان أحد يقول إنّه يحاربهم لأنّهم خرجوا من دين الإسلام، و عليّ لم يسمّهم البتّة بالمرتدّين، فهذا الذي يقوله الرّوافض (لعنهم اللّه) بهت على جميع المسلمين، و على عليّ أيضا (1).

أقول: إن كان المراد من تارك الشّرائع: جميعها، فلم يكن تارك الزّكاة وحدها مرتدّا، مع أنّه و أصحابه سمّوا مانعي الزّكاة مرتدّين. و إن كان المراد: تارك بعضها، فتارك طاعة الإمام، و تارك حبّ عليّ، و مستحلّ قتاله يكون مرتدّا.

و أمّا قوله: إنّ عليّا لم يسمّهم بالمرتدّين (2)، ففيه: أنّ النّاصب مع طول باعه لم يفهم ترادف لفظ المرتدّ و المارق من الدّين؛ لأنّ اللّه طبع على قلبه، أو لعدم اطّلاعه على أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و عليّا و عامّة المسلمين سمّوا الخوارج مارقين؛ لأنّهم مرقوا، أي خرجوا من دين اللّه، و استحلّوا قتال خليفة رسول اللّه. فإنكار النّاصب (لعنه اللّه) ارتدادهم-بل ارتداد الفرق الثّلاث الّذين دانوا ببغض عليّ عليه السّلام- مكابرة و إنكار للضّروري بين المسلمين.

ثمّ قال النّاصب: [الثاني: أنّه]لو كان كلّ من نازعه في الإمامة كان مرتدّا، لزم في أبي بكر و في قومه أن يكونوا مرتدّين، و لو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي اللّه بقوم يقهرونهم و يردّونهم إلى الدّين الصّحيح، و لمّا لم يوجد ذلك البتّة، علمنا أنّ منازعة عليّ في الإمامة لا تكون ردّة، و إذا لم تكن ردّة، لم يمكن حمل الآية على عليّ؛ لأنّها نازلة في من يحارب المرتدّين (1).

أقول: نحن نلتزم باللازم الذي ذكره، بل نقول: إنّه و أخوه لم يؤمنا باللّه طرفة عين، كما أن عليّا عليه السّلام لم يكفر باللّه طرفة عين، و أمّا قوله: لو كان كذلك. . . الى آخره، ففيه: أنّ الآية لا تدلّ على وجوب إتيان قوم يردّونهم إلى الدّين، و إلاّ لما وجد مرتدّ في العالم، و هو خلاف الوجدان-كما ذكرنا سابقا-مع أنّه نسب ابن أبي الحديد إلى المعتزلة أنّهم يقولون: إنّ عليّا عليه السّلام رضي بخلافة الثّلاثة، و لم ينازعهم

ص: 392


1- . تفسير الرازي 12:21.

فيها، و لو نازعوا عليّا فيها لكان دمهم هدرا (1)، و قد تكلّف في توجيه الخطبة الشّقشقيّة بما لا يرضى به صاحبها. و إنّما أطلنا في المقام المقال لتظهر شدّة عصبيّة إمام الضّلال، عليه أشدّ العذاب و النّكال، و ليعلم أنّ الهداية إلى الحقّ لا تحصل بكثرة الفضل و زيادة الاطّلاع على كلمات الرّجال، و إنّما هي موهبة من اللّه المتعال.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 55

ثمّ أنّه تعالى بعد المبالغة في النّهي عن موالاة الكفّار، و تنزيل أوليائهم منزلتهم، و تسميتهم باسم المرتدّين، و إظهار غنائه عنهم في نصرة دينه، حثّ المؤمنين إلى موالاة ذاته المقدّسة، و موالاة أوليائه بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ و الحافظ لصلاحكم، و مدبّر اموركم، و مربّي نفوسكم، و سائق جميع الخيرات إليكم اَللّهُ جلّ جلاله وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا و أخلصوا فيه، فاختصّوهم أيضا أنتم بالموالاة، و لا تخطئوهم إلى غيرهم.

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55)عن الصادق عليه السّلام: «يعني: أولى بكم، أي أحقّ بكم و باموركم من أنفسكم» (2).

ثمّ عرّف المؤمنين المخلصين بقوله: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ للّه من غير رياء و كسل وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ و الصّدقة إلى الفقراء، بلا منّ و لا أذى وَ هُمْ في حال الإيتاء راكِعُونَ في الصّلاة. و قيل: خاضعون للّه متواضعون له (3).

في تصدّق أمير

المؤمنين بخاتمه

على الفقير

عن الصادق عليه السّلام: «يعني عليّا و أولاده الأئمّة إلى يوم القيامة، ثمّ وصفهم اللّه فقال: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ، و كان أمير المؤمنين في صلاة الظّهر، و قد صلّى ركعتين، و هو راكع، و عليه حلّة قيمتها ألف دينار، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطاها إيّاه، و كان النّجاشي أهداها له، فجاء سائل فقال: السّلام عليك يا وليّ اللّه، و أولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدّق على مسكين، فطرح الحلّة إليه [و أومأ بيده إليه]أن احملها، فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيه هذه الآية، و صيّر نعمة أولاده بنعمته. . .» إلى أن قال: «و السّائل الذي سأل أمير المؤمنين عليه السّلام من الملائكة» (4).

ص: 393


1- . لم نجده في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة.
2- . الكافي 1:228/3 و فيه: و أنفسكم، تفسير الصافي 2:44.
3- . تفسير أبي السعود 3:52، تفسير روح البيان 2:407.
4- . الكافي 1:228/3، تفسير الصافي 2:44.

و عنه عليه السّلام أنّه سئل: الأوصياء طاعتهم مفروضة؟ قال: «نعم، هم الّذين قال اللّه: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (1)و هم الّذين قال اللّه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية (2).

و عن (الخصال) ، في احتجاج عليّ عليه السّلام على أبي بكر، قال: «فأنشدك باللّه، ألي الولاية من اللّه مع ولاية رسوله في آية زكاة الخاتم أم لك؟» قال: بل لك (3).

و فيه في تعداد مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام، قال عليه السّلام: «و أمّا الخامسة و السّتّون: فإنّي كنت اصلّي في المسجد فجاء سائل و أنا راكع، فناولته خاتمي من إصبعي، فأنزل اللّه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ الآية» (4).

و فيه عنه صلوات اللّه عليه-في حديث-قال: «و ليس بين الامّة خلاف أنّه لم يؤت الزّكاة أحد و هو راكع غير رجل» (5).

في نقل كلمات

الفخر الرازي و ردّه

قال الفخر الرازي في تفسيره: روى عكرمة أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر. و روى عطاء عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب، [و]روي أن عبد اللّه بن سلام قال: لمّا نزلت هذه الآية قلت: يا رسول اللّه، أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه على محتاج و هو راكع، فنحن نتولاه؟

و روي عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه، أنّه قال: صليت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما صلاة الظّهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السّائل يده إلى السّماء و قال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد الرّسول فما أعطائي أحد شيئا؛ و عليّ كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان فيها خاتم، فأقبل السّائل حتّى أخذ الخاتم بمرأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و أحلل عقدة من لساني-إلى قوله: -و اشركه في أمري، فأنزلت قرآنا ناطقا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً (6)اللّهمّ و أنا محمّد نبيّك و صفيّك، فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي اشدد به ظهري» .

قال أبو ذرّ: فو اللّه، ما أتمّ رسول اللّه هذه الكلمة حتّى نزل جبرئيل فقال: يا محمّد، اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إلى آخر الآية (7).

ثمّ قال الفخر: قالت الشيعة: إنّ هذه الآية دالّة على أنّ الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو عليّ بن أبي

ص: 394


1- . النساء:4/59.
2- . الكافي 1:146/16، تفسير الصافي 2:45.
3- . الخصال:549/30، تفسير الصافي 2:45.
4- . الخصال:580/1، تفسير الصافي 2:45.
5- . الاحتجاج:255، تفسير الصافي 2:45.
6- . القصص:28/35. (7 و 7) . تفسير الرازي 12:26.

طالب عليه السّلام (1).

بيان المقام الأوّل: أنّ الوليّ في اللّغة جاء بمعنى النّاصر، و المحبّ، كما في قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2)، و جاء بمعنى المتصرّف، قال عليه السّلام: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها. . .» ، فنقول: ها هنا وجهان:

الأوّل: أنّ لفظ الوليّ جاء بمعنيين (3)، و لم يعيّن اللّه مراده، و لا منافاة بين المعنيين، فوجب حمله عليهما، فوجب دلالة الآية على أنّ المؤمنين المذكورين في الآية متصرّفون في الامّة.

الثاني: أن نقول: الوليّ في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى النّاصر، فوجب أن يكون بمعنى المتصرّف، و إنّما قلنا أنّه لا يجوز أن يكون بمعنى النّاصر؛ لأنّ الولاية المذكورة في [هذه]الآية غير عامّة في كلّ المؤمنين، بدليل أنّه تعالى ذكر بكلمة (إنّما) ، و كلمة (إنّما) للحصر كقوله تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ (4)، و الولاية بمعنى النّصرة عامّة لقوله تعالى: اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، و هذا يوجب القطع بأنّ الولاية المذكورة في هذه [الآية]ليست بمعنى النّصرة، و إذا لم تكن بمعنى النّصرة كانت بمعنى التّصرّف؛ لأنّه ليس للوليّ معنى غير هذين المعنيين، فصار تفسير (5)الآية: إنّما المتصرّف فيكم أيّها المؤمنون هو اللّه و رسوله و المؤمنون الموصوفون بالصّفة الفلانية، و هذا يقتضي أنّ المؤمنين الموصوفين بالصّفات المذكورة في الآية متصرّفون في جميع الامّة، و لا معنى للإمام إلاّ الإنسان الذي يكون متصرّفا في كلّ الامّة، فثبت بما ذكرنا دلالة الآية على أنّ الشّخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الامّة.

أمّا بيان المقام الثّاني: و هو أنّه لمّا ثبت ما ذكرنا، وجب كون ذلك الإنسان هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و بيانه من وجوه:

الاول: أنّ كلّ من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال: [إن]ذلك الشّخص [هو]عليّ بن أبي طالب، و قد ثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص، فوجب أن يكون ذلك الشّخص هو عليّ، ضرورة أنّه لا قائل بالفرق.

الثاني: أنّه تظافرت الرّوايات على أنّ هذه الآية نزلت في [حق]عليّ، و لا يمكن المصير إلى قول من يقول أنّها نزلت في أبي بكر؛ لأنّها لو نزلت في حقّه لدلّت على إمامته، و أجمعت الامّة على أنّ هذه الآية لا تدل على إمامته، فبطل هذا القول.

ص: 395


1- . تفسير الرازي 12:26.
2- . التوبة:9/71.
3- . في المصدر: جاء بهذين المعنيين.
4- . النساء:4/171.
5- . في المصدر: تقدير.

و الثالث: أنّ قوله: وَ هُمْ راكِعُونَ لا يجوز جعله عطفا على ما تقدّم؛ لأنّ الصّلاة قد تقدّمت، و الصّلاة مشتملة على الرّكوع، و كانت إعادة ذلك الرّكوع تكرارا، فوجب جعله حالا، أي يؤتون الزّكاة حال كونهم راكعين، و أجمعوا على أنّ إيتاء الزّكاة حال الرّكوع لم يكن إلاّ في حقّ عليّ، فكانت الآية مخصوصة به، و دالّة على إمامته من الوجه الذي قرّرناه (1).

ثمّ تجشّم المتعصّب العنود في الجواب-تعصّبا على مذهبه الباطل، و بغضا لعليّ عليه السّلام و شيعته- بأجوبة أوهن من نسج العنكبوت، و لمّا كان مبالغا في إطناب العبارة في الكتاب بحيث يكون نقلها مملاّ، لخّصتها و نقلت حاصل مضمونها غالبا.

قال: و الجواب: أمّا حمل لفظ الوليّ على النّاصر و المتصرّف فغير جائز، لما ثبت في الاصول من عدم جواز استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى واحد (2).

أقول فيه: أنّه على تقدير التّسليم، ليس من المشترك اللّفظي، بل الأظهر أنّه موضوع للجامع، و هو المتصدّي لما هو صلاح المولّى عليه، من دفع خصومة، و التّصرّف في نفسه و ماله على الوجه الأحسن، و لمّا كان لازم ذلك المحبّة، قد يراد منه المحبّ، على سبيل الكناية، فقوله: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا (3)معناه: اللّه هو المتولّي لجميع امورهم على وفق الصّلاح من نصرتهم على الأعداء، و حفظهم من الهلاك الدّنيوي و الاخروي، و تربيتهم و تكميلهم و تنظيم امورهم، ثمّ رتّب على ولايته لهم، تصدّيه لأهمّ مصالحهم من إخراجهم من الظّلمات إلى النّور، بقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ (4)الآية، كما رتّب على قوله: أَنْتَ وَلِيُّنا (5)قوله: فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (6)لوضوح أنّ المراد من الولي ليس خصوص النّاصر أو المحبّ أو المتصرّف، لركاكة قولك: أنت ناصرنا فانصرنا، و أنت محبّنا، و أنت المتصرّف في أموالنا فانصرنا، بل المراد: أنت المتولّي لما فيه خيرنا و صلاحنا، و من المصالح المهمّة نصرتنا على الكفّار، فانصرنا عليهم.

ثمّ استدلّ على كون المراد من الوليّ: المحبّ و النّاصر بوجوه: الأوّل: أنّ اللاّئق-بما قبل الآية من قوله: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ (7)، و بما بعد الآية من قوله: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً (8)إلى آخره-أن يكون الوليّ بمعنى المحبّ و النّاصر، لكون لفظ الأولياء فيما قبل و فيما بعد بمعنى الأحبّاء و الأنصار، لا أئمّة متصرّفين في

ص: 396


1- . تفسير الرازي 12:26.
2- . تفسير الرازي 12:27.
3- . البقرة:2/257.
4- . البقرة:2/257.
5- . الأعراف:7/155.
6- . البقرة:2/286.
7- . المائدة:5/51.
8- . المائدة:5/57.

أرواحكم و أموالكم، لضرورة بطلانه، فإذا كان معنى لفظ الأولياء في الآيتين ذلك، كان لفظ الوليّ الواقع بينهما ذلك، لا الإمام، و إلاّ لزم وقوع الكلام الأجنبي فيما بين كلامين سيقا لغرض واحد (1).

أقول فيه: أنّه قد ذكرنا أنّ المحبّة و النّصرة من لوازم الولاية المطلقة المناسبة للّه و لرسوله، المقتضية لتخصيص المحبّة و الاعتماد بهما، و صرف التّوجّه من غيرهما حتّى من المؤمنين إليهما، إلاّ المؤمنين الّذين هم بمنزلة الرّسول و القائمين مقامه.

ثمّ قال: إنّ ظاهر الآية اتّصاف المؤمنين حال نزول الآية بالولاية، و أمير المؤمنين لم يكن حال نزولها إماما متصرّفا، فلا بدّ من حملها على المحبّة و النّصرة الحاصلتين في الوقت (2).

أقول فيه: إنّا نمنع عدم اتّصاف أمير المؤمنين عليه السّلام في الوقت بالولاية بمعنى أولويّة التّصرّف، بل نقول: إنّه كان إماما مفترض الطّاعة نافذ التّصرّف، و لكن في طول الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لا في عرضه، كما كان هارون كذلك في زمان موسى، و إليه أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في الرّواية المسلّمة بين الفريقين من قوله: «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى» (3).

ثمّ قال النّاصب: إنّ لفظ المؤمنين جمع، و إطلاقه على الواحد مجاز، فيجب حمله على العموم لأصالة الحقيقة (4).

أقول: إنّ لفظ الجمع مستعمل في المفهوم العامّ المتّصف بالصّفات المذكورة في الآية، و لا يلزم من وحدة المصداق الخارجي استعمال اللّفظ فيه، كما تقول: العلماء العدول قولهم حجّة، و كان العالم في عصرك منحصرا في شخص واحد، فلا يلزم مجاز.

ثمّ قال الناصب: إنّا بينّا بالبرهان البيّن أنّ الآية المتقدّمة و هي قوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (5)من أقوى الدّلائل على صحّة إمامة أبي بكر، فلو دلّت [هذه]الآية على إمامة عليّ بعد الرّسول، لزم التّناقض بين الآيتين، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على إمامة عليّ بعد الرّسول (6).

أقول فيه: إنّه بعد ما ثبت دلالة هذه الآية على إمامة عليّ عليه السّلام وجب القطع بأنّ الآية السّابقة لا دلالة فيها على إمامة أبي بكر، مع أنّه قد بيّنا أنّه لا ربط للآية السابقة بأبي بكر أصلا و لو لم تكن هذه المعارضة، و ليس هو ممّن يحبّه اللّه و رسوله و يحبّهما، و يشهد على ما ذكرنا أنّه لم يتمسّك عامّة

ص: 397


1- . تفسير الرازي 12:27.
2- . تفسير الرازي 12:28.
3- . صحيح البخاري 5:89/202، صحيح مسلم 4:1870/2404، سنن الترمذي 5:3730، مستدرك الحاكم 2:337.
4- . تفسير الرازي 12:28.
5- . المائدة:5/54.
6- . تفسير الرازي 12:28.

شيعة أبي بكر على خلافته بالنّصّ، و إنّما كان تمسّكهم بالإجماع، و اتّفاق أهل الحلّ و العقد، و اتّهموا عليّا عليه السّلام بالموافقة. نعم قالوا بتطبيق الآية السّابقة على أبي بكر، و كلّ من حارب المرتدّين إلى يوم القيامة، و يلزمهم دخول خالد بن الوليد، و الحجّاج بن يوسف فيها، و هو في غاية الفضاحة.

ثمّ قال الناصب: الحجة الخامسة: أنّ عليّا كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الرّوافض، فلو كانت [هذه]الآية دالّة على إمامته لاحتجّ بها في محفل من المحافل، و لم يتمسّك بها البتة، و ذلك يوجب القطع بسقوط قول الرّوافض (لعنهم اللّه) (1).

أقول فيه: إنّه قد تظافرت الرّوايات في احتجاجه عليه السّلام بهذه الآية على إمامته في كثير من المحافل (2)، و قد نقلنا بعضها، و من المعلوم أنّ إنكار هذا النّاصب و أضرابه (لعنهم اللّه) ليس بأنكر و أقبح من إنكارهم النّصوص الجليّة التي هي أجلى من الآية في إمامته عليه السّلام.

ثمّ قال الناصب: لو سلّمنا دلالة الآية على إمامة عليّ و نفوذ تصرّفاته، نقول: إنّه لم يكن نافذ التّصرّف في وقت النّزول و زمان الرّسول، فلا بدّ من القول بدلالتها على أنّه سيصير إماما بعد الرّسول، و نحن نقول بموجبه، و نحمله على إمامته بعد الثّلاثة، إذ ليس فيها تعيين الوقت، فإن قالوا: الامّة فيها على قولين؛ و كلّ من قال بدلالتها على إمامته قال بإمامته بعد الرّسول بلا فصل، فالقول بدلالتها على إمامته مع الفصل قول ثالث، قلنا: الظّاهر أنّه كان هذا الاحتمال مقرونا بهذا الاستدلال (3).

أقول: قد ذكرنا أنّه عليه السّلام كان في زمان الرّسول و نزول الآية نافذ التّصرّف كما كان هارون في زمان موسى، فالحجّة داحضة، و السّؤال ساقط، و يظهر جواب حجّته السّابعة و الثّامنة ممّا ذكرنا فلا نطيل بذكرهما.

في نقل اعتراضات

الفخر الرازي

و ردّه

ثمّ قال: و أمّا الوجه الذي عوّلوا عليه من أنّ الولاية بمعنى النّصرة عامّة، بخلاف الولاية في الآية فإنّها مختصّة بالمؤمنين الموصوفين فيها، فجوابه من وجهين:

الأوّل: منع اختصاص الولاية في الآية، و منع دلالة (إنّما) على الحصر، و الدّليل عليه قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ (4)و قوله: إِنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ (5)، و من المعلوم عدم انحصار مثل الدّنيا بالمثل المذكور، و حصول اللّعب و اللّهو في غير الحياة الدّنيا (6).

ص: 398


1- . تفسير الرازي 12:28 و 29.
2- . راجع: أمالي الطوسي:549/1168.
3- . تفسير الرازي 12:29.
4- . يونس:10/24.
5- . محمّد صلّى اللّه عليه و آله:47/36.
6- . تفسير الرازي 12:30.

أقول فيه: إنّ إنكار دلالة (إنّما) على الحصر إنكار للضّرورة، و أمّا آية إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا دالّة على حصر المثل الكامل في المثليّة، و الآية الثانية دالّة على حصر الحياة الدّنيا في اللّعب، لا حصر اللّعب و اللّهو فيها.

ثمّ قال: و الثّاني: أنّا نسلّم الاختصاص، و نقول: إنّ اللّه قسّم المؤمنين قسمين؛ أحدهما: الّذين جعلهم مولى عليهم، و الثاني: الأولياء؛ و هم المؤمنين الموصوفون في الآية، فالمعنى: أنّ اللّه جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الآخر، و لا يمكن أن يكونوا أنصارا لجميع المؤمنين حتّى أنفسهم، فثبت أنّ نصرة أحد القسمين من الامّة غير ثابتة لكلّ الامّة، بل مخصوصة بالقسم الثّاني من الامّة، فلم يلزم من كون الولاية في الآية خاصّة أن لا تكون بمعنى النصرة، و هذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التّأمّل فيه (1).

أقول: معنى كون النّصرة عامّة أنّ كلّ مؤمن يكون ناصرا لغيره من المؤمنين، و لا يختصّ بخصوص المؤمنين الموصوفين بالوصفين في الآية، فظهر أنّ بطلان جوابه من شدّة الوضوح غير محتاج إلى التّأمّل.

ثمّ قال: و أمّا استدلالهم بأنّ هذه الآية نزلت في [حق]عليّ، فهو ممنوع، فقد بيّنا أنّ أكثر المفسّرين زعموا أنّه في حقّ الامّة، و منهم من يقول أنّها نزلت في حقّ أبي بكر.

أقول: قال البيضاوي في تفسيره: وَ هُمْ راكِعُونَ متخشّعون في صلاتهم و زكاتهم، و قيل: هو حال مخصوصة ب(يؤتون) ، أي يؤتون الزّكاة في حال ركوعهم في الصّلاة حرصا على الإحسان و مسارعة إليها، فإنّها نزلت في عليّ عليه الصّلاة و السّلام حين سأله سائل و هو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه (2).

و قال آية اللّه العلامة الحلّي في (نهج الحق) ، بعد ذكر الآية: أجمعوا على نزولها في عليّ عليه السّلام، و هو مذكور في الصحاح الستّة، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصّحابة (3).

و قرّره فضل بن روزبهان مع شدّة تعصّبه و كمال اهتمامه في الرّدّ عليه على دعوى الإجماع، و لم ينكر عليه، و لم يناقش في سند الرّواية (4).

ثمّ قال الفخر النّاصب: أمّا استدلالهم بأنّ الآية مختصّة بمن أدّى الزّكاة في الرّكوع و هو عليّ بن أبي طالب، فنقول: هذا أيضا ضعيف من وجوه:

ص: 399


1- . تفسير الرازي 12:30.
2- . تفسير البيضاوي 1:272.
3- . نهج الحق:172، جامع الأصول 9:478.
4- . راجع: إحقاق الحق 2:408.

الأوّل: أنّ الزّكاة اسم للواجب لا للمندوب، لقوله تعالى: وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ (1)فلو أنّه أدّى الزّكاة في الرّكوع لكان قد أخّر [أداء]الزّكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، و ذلك عند أكثر العلماء معصية، و لا يجوز إسناده إلى عليّ، و حمل الزّكاة على الصّدقة النّافلة خلاف الأصل، لما بيّنا أنّ قوله: وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ ظاهر في أنّ كلّ ما كان زكاة فهو واجب (2).

أقول: الزّكاة في اللّغة: النّموّ، و إنّما سمّيت الصّدقة زكاة لكونها سببا لنموّ المال، كما قال اللّه تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ (3)و لم يثبت للفظ الزّكاة حقيقة شرعيّة حال نزول الآية، و ليس في قوله: آتَوُا اَلزَّكاةَ دلالة عليها، و لو فرض ظهوره في خصوص الواجبة كان ظهور الرّكوع في ركوع الصّلاة أقوى، كما أنّ ظهور الرّمي في رمي السّهم أقوى من ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس، فيصير قرينة على صرفه عن المعنى الحقيقي إلى المجازي، فيحمل لفظ الزّكاة على المندوبة بالقرينة المقارنة له.

و الحاصل أنّه لا شكّ أنّ الآية في بيان مدح المؤمنين، و حمل لفظ الزّكاة و الرّكوع على معناهما الحقيقي لا يناسب المدح، فلا بدّ من صرف أحد اللّفظين إلى المعنى المجازي، و صرف لفظ الزّكاة أولى، مضافا إلى دلالة الرّوايات الكثيرة من طرق الخاصّة و العامّة على أنّ الزّكاة في الآية خصوص المندوبة.

ثمّ قال الناصب: الثّاني: أنّ اللاّئق بعليّ أن يكون مستغرق القلب بذكر اللّه حال الصّلاة، و من كان كذلك لا يتفرّغ لاستماع كلام الغير و فهمه، و لهذا قال اللّه تعالى: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً (4)إلى آخر الآية (5).

أقول فيه: إنّ مقام الولاية المطلقة مقام الجامعيّة، لا يشغله شأن عن شأن، فالتوجّه إلى كلام الفقير توجّه إلى اللّه، و يشهد له أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مع كونه أكمل من عليّ عليه السّلام كان ملتفتا لركوب الحسن على ظهره في سجود الصّلاة المفروضة، فأطال سجوده حتّى ينزل الحسن من ظهره لئلا يسقط ولده على الأرض.

ثمّ قال الناصب: الثالث: أنّ دفع الخاتم إلى المسكين في الصّلاة عمل كثير، و اللاّئق بحال عليّ أن لا يفعل ذلك (6).

أقول فيه: إنّه ممنوع، مع أنّ في الرّواية أنّه عليه السّلام أومأ بخنصره، فأخرجه الفقير من خنصره، مع أنّه

ص: 400


1- . البقرة:2/277.
2- . تفسير الرازي 12:30.
3- . البقرة:2/276.
4- . آل عمران:3/191.
5- . تفسير الرازي 12:30.
6- . تفسير الرازي 12:31.

قال النّاصب بعد ذلك بقليل: إنّ العلماء احتجّوا بالآية على أنّ العمل القليل لا يقطع الصلاة (1). و ممّا ذكرنا يعلم فساد سائر ما لفّقه النّاصب.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 56

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على تولّي الرّسول و خلفائه بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا و يتّخذهم أولى بنفسه من نفسه، و يعتقد أنّهم متصرّفون في اموره، فهو من حزب اللّه و جنوده، و غالب على أعدائه فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ و أولياءه هُمُ اَلْغالِبُونَ على حزب أعداء اللّه، و جند الشّيطان، و أعوان الجهل.

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ (56)عن الباقر عليه السّلام، في قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ الآية، قال: «إنّ رهطا من اليهود أسلموا، منهم عبد اللّه بن سلام، و اسيد (2)، و ثعلبة، و ابن امين (3)، و ابن صوريا، فأتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول اللّه، و من وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ الآية.

[ثمّ]قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قوموا، فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم، هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرّجل الذي يصلّي، قال: على أيّ حال أعطاك؟ قال: كان راكعا، فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كبّر أهل المسجد، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: عليّ بن أبي طالب وليّكم [بعدي]، قالوا: رضينا باللّه ربّا و بالإسلام دينا، و بمحمّد نبيّا، و بعليّ بن أبي طالب وليّا، فأنزل اللّه: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ» (4).

و في (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا في هذا الموضع: المؤتمنون على الخلائق من الحجج و الأوصياء في عصر بعد عصر» (5).

و في (التوحيد) : عن الصادق عليه السّلام: «يجيء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة آخذا بحجزة ربّه، و نحن آخذون بحجزة نبيّنا، و شيعتنا آخذون بحجزتنا، فنحن و شيعتنا حزب اللّه، و حزب اللّه هم الغالبون، و اللّه لا يزعم أنّها حجزة الإزار و لكنّها أعظم من ذلك، يجيء رسول اللّه آخذا بدين اللّه و نجيء [نحن]آخذين بدين نبيّنا، و تجيء شيعتنا آخذين بديننا» (6).

ص: 401


1- . تفسير الرازي 12:31.
2- . في الأمالي: و أسد.
3- . في الأمالي: و ابن يامين.
4- . أمالي الصدوق:186/193، تفسير الصافي 2:46.
5- . الاحتجاج:248، تفسير الصافي 2:47.
6- . التوحيد:166/3، تفسير الصافي 2:47.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن مولاة أهل الكتاب، بالغ سبحانه في تأكيده، و عمّمه إلى جميع الكفّار بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا و لا تختاروا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً و تعاملوا (1)مع شريعتكم الغرّاء معاملة السّاخر و العائب مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ الّذين لم يؤمنوا بكتاب أَوْلِياءَ لأنفسكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)قيل: كان رفاعة بن زيد، و سويد بن الحارث أظهرا الإيمان ثم نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادّونهما (2). فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية.

ثمّ حذّرهم عن مخالفة نهيه بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و خافوا عذابه في موالاتهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ عن صميم القلب باللّه و اليوم الآخر، فإنّ حقيقة الإيمان تلازم الاتّقاء عن مخالفة أحكام اللّه و موالاة أعدائه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 58

ثمّ ذكر اللّه سبحانه استهزاءهم بالصّلاة التي هي أعظم العبادات و ركن دين الإسلام ازديادا لتنفير قلوب المسلمين منهم، بقوله: وَ إِذا نادَيْتُمْ المسلمين و دعوتموهم إِلَى اَلصَّلاةِ بأن أذّن المؤذّنون اِتَّخَذُوها فيما بينهم، أو عند أنفسهم هُزُواً و سخرية وَ لَعِباً و عبثا لاعتقادهم بأنّه لا فائدة فيها، و ذلِكَ الاستهزاء و اللّعب معلّل بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ حسن عبادة اللّه و الخضوع له، و قباحة الهزء بها، و لو كان لهم عقل لما اجترأوا على تلك العظيمة.

وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ اِتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصّلاة، و أنفع السّكنات الصوم (3).

في استهزاء اليهود

بدين الإسلام

قيل: كان المؤذّنون إذا أذّنوا للصّلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم، و تغامزوا سفها و استهزاء بالصّلاة، و تجهيلا لأهلها، و تنفيرا للنّاس عنها (4).

و قيل: كان منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينادي للصّلاة، و قام المسلمون إليها، فقالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلّوا لا صلّوا؛ على طريق الاستهزاء، فنزلت الآية (5).

ص: 402


1- . في النسخة: و عاملوا.
2- . مجمع البيان 3:328، تفسير الصافي 2:47.
3- . تفسير الرازي 12:33.
4- . تفسير روح البيان 2:408.
5- . تفسير الرازي 12:33.

و قيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصّلاة تنفيرا للنّاس عنها (1).

و قيل: قالوا: يا محمّد، لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيّا فقد خالفت فيما أبدعت جميع الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العير! فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (2).

و قيل: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذّن يقول: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، يقول: احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة، فتطايرت منها شرارة في البيت، فاحترق البيت، و احترق هو و أهله (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 59

ثمّ لمّا حكى اللّه عزّ و جلّ استهزاء أهل الكتاب بالدّين أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخهم بقوله: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ و تكرهون مِنّا و تسخطون علينا بسبب من الأسباب إِلاّ بسبب أَنْ آمَنّا بِاللّهِ و بوحدانيّته و كمال صفاته وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَ ما أُنْزِلَ على سائر الأنبياء مِنْ قَبْلُ نزول القرآن من التّوراة و الإنجيل و غيرهما من الكتب السّماويّة وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ متمرّدون عن قبول الحقّ، كافرون بجميع الكتب، حيث إنّكم إن كنتم مؤمنين بكتبكم النّاطقة بصحة القرآن لآمنتم به.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)و قيل: إنّ المراد: و لأجل أنّكم فاسقون، و لسنا مثلكم (1)، أو لأجل اعتقادنا بأنّكم فاسقون (5).

قيل: إنّما قال: أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ لأن أكثرهم كانوا متمرّدين طلبا للرّئاسة و الجاه و الحطام، لا للشّبهة في الرّسالة و الدّين، أو لئلاّ يظنّ من آمن منهم [أنّه]داخل في ذلك (6).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عمن يؤمن به من الرسل و سألوه عن دينه، فقال: «اومن باللّه، و ما أنزل إلينا، و ما انزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط، و ما اوتي موسى و عيسى و النّبيّون من ربّهم، لا نفرّق بين أحد منهم، و نحن له مسلمون» ، فحين سمعوا ذكر عيسى قالوا: لا نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدّنيا و الآخرة منكم، و لا دينا شرّا من دينكم. فأنزل اللّه هذه الآية (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 60

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ (60)

ص: 403


1- . تفسير الرازي 12:34. (5 و 6) . تفسير الرازي 12:35.
2- . مجمع البيان 3:330.

ثمّ أنّهم لمّا زعموا أنّ دين الإسلام شرّ الأديان، و أهله شرّ النّاس، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبكيتهم و تقريعهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ الذي زعمتم شرّه، و نقمتم منه مَثُوبَةً و جزاء عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه.

ثمّ كأنّهم قالوا: من هو؟ فأجاب سبحانه بقوله: مَنْ لَعَنَهُ اَللّهُ و قيل: إنّ المراد: دين من لعنه اللّه و أبعده عن رحمته (1)وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بكفره، و سوء سريرته، و انهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات وَ جَعَلَ جماعة مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ في زمان داود بدعائه عليهم حين اعتدوا في السّبت، وَ جماعة اَلْخَنازِيرَ في زمان عيسى حين كفروا بعد نزول المائدة و أكلها، وَ بعضا عَبَدَ اَلطّاغُوتَ و أطاع الشّيطان.

و روي أنّ المسخين كانا في أصحاب السّبت، فإن شبّانهم مسخوا قردة، و مشايخهم مسخوا خنازير (2).

قيل: لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود: يا اخوة القردة و الخنازير، فنكّسوا رؤوسهم و افتضحوا (3).

و قيل: إنّ المراد بالطاغوت: العجل (4)، و قيل: الأحبار الّذين أطاعوهم في معصية اللّه (5).

ثمّ قرّر شرّ مثوبتهم بقوله: أُولئِكَ الملعونون الممسوخون من اليهود شَرٌّ مَكاناً و أسوأ مقرّا من جميع الكفّار في الآخرة، عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: مكانهم سقر، و لا مكان أشدّ شرّا منه (6)وَ هم أَضَلُّ النّاس في الدّنيا عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ و قصد الطريق و النهج المستقيم الذي لا انحراف فيه عن الحقّ إلى غلوّ اليهود و النّصارى. و من المعلوم أنّ صفتي التّفضيل للزّيادة، لا بالإضافة إلى المؤمنين.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 61

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)

ص: 404


1- . مجمع البيان 3:332، تفسير الصافي 2:48.
2- . مجمع البيان 3:333، تفسير الصافي 2:48.
3- . مجمع البيان 3:333، تفسير الرازي 12:37.
4- . مجمع البيان 3:333، تفسير الرازي 12:37. (5 و 6) . تفسير الرازي 12:37.

ثمّ وبّخ اللّه تعالى اليهود بنفاقهم و قساوة قلوبهم و عدم تأثّرهم بالمواعظ و الآيات بقوله: وَ إِذا جاؤُكُمْ و حضروا عندكم قالُوا لكم نفاقا: آمَنّا بما آمنتم، و اتّبعنا الرّسول، وَ الحال أنّهم قَدْ دَخَلُوا مجلسكم ملابسين بِالْكُفْرِ ملازمين له وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا من ذلك المجلس متلبّسين بِهِ لم يؤثّر فيهم ما سمعوا و شهدوا من المواعظ و الآيات وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ و يسترون منكم من الكفر و الحسد، و الاجتهاد في المكر بالمسلمين، و البغض و العداوة.

قالوا: نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره اللّه بشأنهم، فإنّهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا، لم يتعلّق بقلبهم شيء من الدّلائل و النّصائح و التذكيرات (1).

و قيل: ضمير الخطاب في الجمع راجع إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و الجمع للتّعظيم (2).

و عن القمّي: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ» (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ استشهد اللّه على نفاقهم بسوء أعمالهم بقوله: وَ تَرى يا محمّد و تبصر كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ غير مستحيين منك، و يشرعون بالعجلة شوقا و رغبة فِي اَلْإِثْمِ و قول الكذب وَ اَلْعُدْوانِ و الظّلم على الخلق وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ و أخذ الرّشوة، و اللّه لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من تلك المعاصي العظام.

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

ثمّ وبّخ سبحانه الزّهاد و العلماء على ترك نهيهم عن المنكرات بقوله: لَوْ لا يَنْهاهُمُ و يردعهم اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ من اليهود عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ و كلامهم الكذب وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ و المال الحرام، مع علمهم بقبحها و حرمتها، و مشاهدتهم مباشرتهم لها، باللّه لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ من المداراة مع العصاة، و ترك نهيهم عن المنكر.

قيل: الربّانيّون علماء أهل الإنجيل، و الأحبار علماء اليهود، و قيل: كلّهم في اليهود (4).

في ذم تارك

النهي عن المنكر

قيل: في الآيتين دلالة على أن تارك النّهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه؛ لأنّه تعالى

ص: 405


1- . تفسير الرازي 12:38.
2- . تفسير أبي السعود 3:56، تفسير روح البيان 2:412.
3- . تفسير القمي 1:170، تفسير الصافي 2:48.
4- . مجمع البيان 3:335، تفسير الرازي 12:39.

ذمّهما بلفظ واحد، بل قيل: إنّ ذمّ تارك النّهي عن المنكر أقوى من ذمّ مرتكبه؛ لأنّ اللّه تعالى قال في ذمّ تارك النّهي عن المنكر: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ و الصّنع أقوى من العمل؛ لأنّ الصّنع هو العمل إذا صار راسخا، فجعل ذنب تارك النّهي ذنبا راسخا (1).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هي أشدّ آية في القرآن. و قال الضحّاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 64

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم و تقريعهم بأعمالهم السيئة، ذمّهم بعقائدهم السّخيفة الفاسدة بقوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ مقبوضة ممسكة عن العطاء.

وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ (64)قال بعض المفسّرين من العامّة: إنّ اليهود كانوا أكثر النّاس مالا و أخصبهم ناحية، فلمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و كذّبوه ضيقّ اللّه عليهم المعيشة، فوصفوا اللّه بالبخل (3).

و عن الحسن: أنّهم عبّروا عن عدم تعذيبهم في الآخرة إلاّ أيّاما قليلة بهذه العبارة الدالّة على العجز (4).

و عن القمّي: [قالوا:]قد فرغ اللّه من الأمر، لا يحدث اللّه [غير ما قدّره]في التّقدير الأوّل (5).

و في (التوحيد) : عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «لم يعنوا أنّه هكذا، و لكنّهم قالوا: قد فرغ من الأمر فلا يزيد و لا ينقص» (6).

و عن الرضا عليه السّلام، في كلام له في إثبات البداء مع سليمان المروزي و قد كان ينكره، فقال عليه السّلام: «أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؟» ، قال: أعوذ باللّه من ذلك، و ما قالت اليهود؟ قال: «[قالت:] يد اللّه مغلولة، يعنون أنّ اللّه قد فرغ من الأمر، فليس يحدث شيئا» . (7)الحديث.

ثمّ دعا سبحانه عليهم بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ في نار جهنّم، أو المراد: ألبسهم اللّه الفقر حتّى عجزوا عن الإنفاق و الإعطاء وَ لُعِنُوا و ابعدوا عن الرّحمة بِما قالُوا من الكلمة الشّنيعة، و بما

ص: 406


1- . تفسير الرازي 12:39.
2- . تفسير الرازي 12:40.
3- . تفسير الرازي 12:41، تفسير روح البيان 2:414.
4- . تفسير الرازي 12:41.
5- . تفسير القمي 1:171، تفسير الصافي 2:49.
6- . التوحيد:167/1، تفسير الصافي 2:49.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:182/1، تفسير الصافي 2:50.

اعتقدوا من العقائد السخيفة.

ثم ردّهم بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ و قدرته و رحمته واسعتان، و خزائنه غير نافذة يُنْفِقُ منها كَيْفَ يَشاءُ و يختار على من يشاء، يوسع تارة و يضيّق اخرى، على حسب ما تقتضيه حكمته. فاليدان كناية عن القدرة، و الجود و إسناد البسط إليهما كناية عن غاية الجود، حيث إنّ من له غاية الجود يعطي بيديه جميعا.

ثمّ ذمّهم بازدياد كفرهم بنزول الآيات، بقوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ و هم علماؤهم و رؤساؤهم- على ما قيل (1)- ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن طُغْياناً على طغيانهم وَ كُفْراً على كفرهم السّابقين.

ثمّ ذكر ابتلاءهم بالعقوبات الدّنيويّة بقوله: وَ أَلْقَيْنا و أوقعنا بَيْنَهُمُ و في فرقهم اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ المستمرّتين إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ حيث إنّهم لمّا أنكروا الحقّ و عارضوا الرّسول طلبا للرّاحة، و حفظا للجاه و الرّئاسة، ابتلاهم اللّه بسبب اختلاف العقائد و الأهواء بالمشقّات الكثيرة، و الغموم الوفيرة، فحرموا عن نيل مقاصدهم، وفاتتهم سعادة الدّنيا و الآخرة، و لذلك التّخالف و التّباغض بينهم كُلَّما أَوْقَدُوا و أشعلوا ناراً لِلْحَرْبِ مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و أثاروا فتنة بين المسلمين أَطْفَأَهَا اَللّهُ و أخمدها بإيقاع المنازعة و المعاداة فيهم، فلا يتّفقون على رأي، فيكون ذلك سببا لانصرافهم عن الحرب، و مقهوريّتهم للمسلمين.

قيل: كان اليهود في أشدّ بأس و أمنع دار، حتّى إنّ قريشا كانت تعتضد بهم، و كان الأوس و الخزرج تتكثّر بمظاهرتهم، فذلّوا و قهروا، و قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بني قريظة، و أجلى بني النّضير، و غلب على خيبر و فدك، فاستأصل اللّه شأفتهم حتّى إنّ اليوم تجد اليهود أذلّ النّاس (2).

ثمّ ذكر اللّه سبحانه غاية جهدهم في استخراج أنواع الحيل و المكر في تضعيف الإسلام، مع غاية ذلّهم و ضعفهم، بقوله: وَ يَسْعَوْنَ مع الوصف فِي اَلْأَرْضِ ليوقعوا فَساداً بين المسلمين.

قيل: إنّهم لمّا خالفوا حكم التّوراة سلّط اللّه عليهم بخت نصّر، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرّومي، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.

وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض و السّاعين فيها لإثارة الفتن، بل هو ممقوت عنده (3).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 65

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (65)

ص: 407


1- . تفسير روح البيان 2:414.
2- . تفسير الصافي 2:50.
3- . تفسير الرازي 12:45.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أهل الكتاب اعتقادا و عملا، و تهجين طريقتهم، وبّخهم على سفههم و خطأهم في الرأي بقوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتابِ نزّهوا أنفسهم عن الرّذائل، و أنصرفوا عن الكفر و العناد، و آمَنُوا بالرّسول، و بما انزل إليه وَ اِتَّقَوْا الكفر و الظّلم و الإفساد و سائر المعاصي، و اللّه لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ و لسترنا عليهم بالعفو خطيئاتهم وَ لَأَدْخَلْناهُمْ يوم القيامة جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ و خلّدناهم في العلّيّين؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله و إن جلّ.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 66

ثمّ ذكر الفوائد الدّنيويّة للإيمان بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ و عملوا بأحكامهما، و حفظوهما من التّحريف و التّغيير، و وفوا بما فيهما من العهد عليهم بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من سائر الكتب السّماويّة، أو القرآن العظيم المصدّق لكتبهم، و اللّه (1)لَأَكَلُوا و ارتزقوا من البركات السّماويّة التي تنزل عليهم مِنْ فَوْقِهِمْ وَ ممّا يخرج مِنْ الأرض التي تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ من الحبوب و الفواكه و النّباتات.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)و فيه تنبيه على أنّ ما أصابهم من الضّنك و الضّيق إنّما هو من شؤم جناياتهم و سيّئات أعمالهم، و لو تركوها لوجدوا سعادة الدّنيا من سعة الرّزق و العزّ و الجاه، و سعادة الآخرة من النّجاة من العذاب و الفوز بالجنّة و النّعم الدّائمة، فلا قصور في فيض الفيّاض.

و مع ذلك كان محلّ الأسف أنّ قليلا مِنْهُمْ أُمَّةٌ و جماعة مُقْتَصِدَةٌ عادلة غير مائلة إلى طرق الإفراط و التّفريط، و غير منحرفة عن نهج الحقّ و الطّريق المستقيم إلى الغلوّ و التّقصير.

عن القمّي رحمه اللّه: قوم من اليهود دخلوا في الإسلام فسمّاهم اللّه مقتصدة (2).

وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قيل: فيه معنى التّعجّب. و المعنى: ما أسوأ عملهم! و هم الّذين أقاموا على الجحود، و أصرّوا على الكفر (3)و الضّلال، و عارضوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 67

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (67)

ص: 408


1- . قوله: (و اللّه) يشير إلى وجود قسم، و ليس ثمّة قسم في الآية.
2- . تفسير القمي 1:171، تفسير الصافي 2:51.
3- . تفسير الصافي 2:51.

ثمّ لمّا وصف اللّه سبحانه المقتصدين منهم بالقلّة، و الجاحدين المتمرّنين منهم على الكفر و العناد بالكثرة، حثّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالتّبليغ و عدم المبالاة بكثرة الأعداء الجاحدين، مع وعده بالعصمة من شرّ الأعداء بقوله: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ إلى النّاس ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في عليّ، على ما تضافر عنهم عليهم السّلام و قالوا: «كذا نزلت» (1).

ثمّ هدّد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على ترك التّبليغ إعذارا له و إظهارا للاهتمام بالأمر بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرتك من تبليغ هذا الذي أنزل في عليّ صلّى اللّه عليه و آله و كتمته فَما بَلَّغْتَ من قبل اللّه إلى النّاس رِسالَتَهُ و ما امرت من أوّل بعثتك بتبليغه؛ لعدم ترتّب الفائدة على سائر الأحكام التي بلّغتها بدون تبليغ هذا الأمر، فتكون بترك تبليغ ولاية عليه السّلام عليّ بمنزلة تارك التّبليغ رأسا، و يكون عقابك عقابه وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ و يحفظك مِنْ شرّ اَلنّاسِ و ضرّهم، فلا تخف منهم و لا تبال بهم.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بعصمته و حفظه بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي إلى نيل المقاصد اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ و لا يمكّنهم من إنفاذ مرامهم.

قيل: بنزولها في قضيّة الرّجم و القصاص (2). و قيل: في قضيّة أخذ الأعرابي سيف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إرادته قتله فسقط من يده (3). و قيل: في أمر زيد و زينب بنت جحش (4). و قيل: في حقوق المسلمين (5). و قيل: في استهزاء اليهود و سكوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنهم (6). و قيل: في سكوت النبيّ عن تعييب الأصنام (7). و قيل: في تبليغ حكم الجهاد (8). و قيل: لرفع مهابة قريش و أهل الكتاب من قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين عابهم (9).

أقول: لا شبهة في نزولها في حجّة الوداع، فتلك الوجوه التي ذكرها مفسّرو العامّة غير مناسبة لنزولها في الوقت المذكور.

ثمّ أنّ الفخر الرازي بعد نقل الوجوه المذكورة عن العامّة في تفسيره قال: العاشر-أي من الوجوه- : أنّها نزلت في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و لمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده و قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه» ، فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة. و هو قول ابن عبّاس، و البرّاء بن عازب، و محمّد بن علي (10).

أقول: قال آية اللّه العلاّمة الحلّي في (نهج الحقّ) بعد ذكر الآية الشّريفة: نقل الجمهور أنّها نزلت في فضل عليّ عليه السّلام يوم غدير خمّ، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام و قال: «أيّها النّاس، أ لست أولى

ص: 409


1- . تفسير الصافي 2:51.
2- . تفسير الرازي 12:49. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 12:49. (6 و 7 و 8) . تفسير الرازي 12:49. (9 و 10) . تفسير الرازي 12:49.

منكم بأنفسكم؟» . قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و أخذل من خذله، و أدر الحقّ معه كيفما دار» (1).

و قال فضل بن روزبهان ردّا على العلاّمة: أمّا ما ذكره من إجماع المفسرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فهو باطل، فإنّ المفسّرين لم يجتمعوا (2)على هذا، و أمّا ما روي [من]أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذكره يوم غدير [خمّ]حين أخذ بيد عليّ قال: «أ لست أولى» ، فقد ثبت هذا في الصّحاح (3).

و قال القاضي نور اللّه التّستري (نوّر اللّه مضجعه) ، في ردّ النّاصب ابن روزبهان، و إثبات رواية العلاّمة (أعلى اللّه في الخلد مقامه) : روي الحديث-يعني ما ذكره العلاّمة-في صحاح القوم كالبخاري، و رواه أحمد بن حنبل إمامهم في مسنده بطرق متعدّدة على الوجه الذي ذكره المصنّف، و كذا رواه الثّعلبي في تفسيره، و ابن المغازلي الشّافعي في كتاب (المناقب) من طرق شتّى، و ابن عقدة في مائة و خمسة طرق، و ذكر الشّيخ ابن كثير الشّامي الشّافعي عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطّبري: أنّي رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلّدين ضخمين، و نقل عن ابن أبي المعالي الجويني أنّه كان يتعجّب و يقول: شاهدت مجلّدا ببغداد في يد صحّاف فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه: المجلّد الثامن و العشرون من طرق «من كنت مولاه فعليّ مولاه» و يتلوه المجلّد التاسع و العشرون، و أثبت الشّيخ ابن الجوزي الشافعي في رسالته الموسومة ب(أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب) تواتر هذا الحديث.

إلى أن قال القاضي: و بالجملة قد بلغ هذا الخبر في الاشتهار إلى حدّ لا يوازى به خبر من الأخبار، و تلقّته محقّقو الأمّة بالقبول، أنتهى (4).

و في (الجوامع) ، عن ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه: أنّ اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينصب عليّا للنّاس و يخبرهم بولايته، فتخوّف أن يقولوا: حامى ابن عمّه، و أنّ يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه. فنزلت هذه الآية، فأخذ بيده يوم غدير خمّ و قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» و قرأها (5).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام-في حديث-: «ثمّ نزلت الولاية، و إنّما أتاه ذلك يوم الجمعة بعرفة، أنزل اللّه تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (6)، و كان كمال الدّين بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال عند ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: امّتي حديثو عهد بالجاهليّة، و متى أخبرتهم بهذا

ص: 410


1- . نهج الحق:173.
2- . في المصدر: لم يجمعوا.
3- . إحقاق الحق 2:482.
4- . إحقاق الحق 2:485.
5- . جوامع الجامع:114، تفسير الصافي 2:51.
6- . المائدة:5/3.

في ابن عمّي يقول قائل، و يقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق لساني، فأتتني عزيمة من اللّه بتلة (1)، أوعدني إن لم أبلّغ أن يعذّبني، فنزلت: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ الآية، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام فقال: أيّها النّاس، إنّه لم يكن نبيّ من الأنبياء ممّن كان قبلي إلاّ و قد عمّره اللّه ثمّ دعاه فأجابه، فاوشك أن ادعى فاجيب، و أنا مسؤول و أنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون، فقالوا: نشهد أنّك قد بلّغت و نصحت و أدّيت ما عليك، فجزاك اللّه أفضل جزاء المرسلين، فقال: اللّهمّ اشهد-ثلاث مرّات -ثمّ قال: يا معشر المسلمين، هذا وليّكم من بعدي، فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب» (2).

و قال أبو جعفر عليه السّلام: «كان و اللّه، أمين اللّه على خلقه و غيبه و دينه الذي أرتضاه لنفسه» (3).

و عنه عليه السّلام: «أمر اللّه عزّ و جلّ رسوله بولاية عليّ عليه السّلام و أنزل عليه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ (4)الآية، و فرض ولاية اولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمر اللّه محمّدا، أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ، فلمّا أتاه ذلك من اللّه ضاق بذلك صدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و تخوّف أن يرتدّوا عن دينهم و أن يكذّبوه، فضاق صدره و راجع ربّه عزّ و جلّ، فأوحى اللّه إليه: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ الآية، و صدع بأمر اللّه تعالى ذكره، فقام بولاية عليّ عليه السّلام يوم غدير خمّ، فنادى: الصّلاة جامعة، و أمر النّاس أن يبلّغ الشّاهد الغائب» .

قال عليه السّلام: «و كانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الاخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال: يقول اللّه عزّ و جلّ: لا انزل عليكم بعدها فريضة، قد أكملت لكم الفرائض» (5). الخبر، إلى غير ذلك من الرّوايات.

و مع ذلك قال الفخر الرازي: و اعلم أنّ الرّوايات و إن كثرت إلاّ أنّ الأولى حمله على أنّه تعالى آمنه من اليهود و النّصارى، و أمره بإظهار التّبليغ من غير مبالاة منه بهم و ذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير و ما بعدها بكثير لمّا كان كلاما مع اليهود و النّصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها و ما بعدها (6).

و فيه: أنّ الظّاهر أن اللّه آمنه من ضرر جميع الكفّار سواء أكانوا يهودا أو نصارى أو غيرهم من المجوس و المشركين، و المرتدّين في زمانه، و المنافقين، كأصحاب الصّحيفة الملعونه و العقبة. و من المعلوم أنّ العامّ ليس أجنبيّا عن الخاصّ، مع أن الظّاهر بل المتيقّن أنّ الآية نزلت بعد تبليغ غالب

ص: 411


1- . أي قاطعة.
2- . الكافي 1:229/6، تفسير الصافي 2:52.
3- . الكافي 1:230/6، تفسير الصافي 2:52.
4- . المائدة:5/55.
5- . الكافي 1:229/4، تفسير الصافي 2:52.
6- . تفسير الرازي 12:50.

الأحكام، بل بعد تكميل الدّين، فلو كان المقصود تأمينه في تبليغ مطلق الأحكام كان الأنسب نزولها في أوائل البعثة، أو في أوائل الهجرة، و الحال أنّه صلّى اللّه عليه و آله كسر الأصنام و وبّخ المشركين مع غاية شوكتهم و حرصهم على عبادتها، و لعن اليهود و النّصارى على رؤوس الأشهاد، و حوّل القبلة من البيت المقدّس إلى الكعبة، و قاتل المشركين و اليهود، و لم ينقل منه صلّى اللّه عليه و آله خوف في مورد من الموارد.

و الحاصل: أنّه لم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوف في تبليغ الأحكام و تعليم العقائد سيّما بعد تذليل اليهود، و قتل بني قريظة، و إجلاء بني النّضير، و فتح قلاع خيبر و فدك، مع أنّه ليس من شأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الخوف من الأعداء في التّبليغ لعلمه بأنّ اللّه يحفظه حتّى يتمّ الحجّة.

و بعد تكميل الدّين و إتمام الحجّة على العالمين، يكون مجال الخوف من القتل عند تبليغ آخر الأحكام، و هو وجوب طاعة الإمام و الخليفة بعده، فاحتاج إلى التّأمين فيه من العدوّ فامنه بقوله: وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ و يشهد لذلك ما رواه كثير من العامّة في شأن نزول آية سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 68

ثمّ أنّه تعالى بعد تسفيه أهل الكتاب في ترك العمل بما أنزل اللّه، و تخطئتهم في عدم الإيمان بالقرآن، و تأمين الرّسول من ضرر الكفّار، أمره بتغليظ القول عليهم في ترك العمل بالكتب السّماويّة بقوله: قُلْ يا محمّد، لليهود و النّصارى تحقيرا لهم، و تصغيرا لشأنهم: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من الدّين، و لا يكون في قولكم و فعلكم شيء من الحقّ و الصّواب حَتّى تُقِيمُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من سائر الكتب السّماويّة، أو من القرآن العظيم، و تؤمنوا بجميعها، و توفوا بعهد اللّه الذي فيها من وجوب الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه، و تلتزموا بما فيها.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (68)ثمّ بيّن غاية خبثهم و شدّة عداوتهم بقوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من الآيات الدالّة على صدقك في النّبوّة طُغْياناً و عتوّا وَ كُفْراً و جحودا، فإذا كانوا بهذه المرتبة من الخباثة و العناد فَلا تَأْسَ و لا تحزن عَلى زيادة كفر اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ فإنّ ضرر ذلك

ص: 412


1- . المعارج:70/1، راجع: تفسير القرطبي 18:278، و تفسير أبي السعود 9:29، و الدر المنثور 8:277، و الغدير 1: 230.

راجع إليهم، لا إليك و لا إلى المسلمين.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 69

ثمّ أنّه تعالى بعد تغليظ القول على الكافرين من أهل الكتاب، أظهر اللّطف بالمؤمنين منهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و كتبه و رسله وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ الّذين هم أشدّ الفرق كفرا و ضلالا وَ اَلنَّصارى خصوص مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ، قد مرّ تفسيره في البقرة (1).

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ وَ اَلنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)قيل: فيها تنبيه على أن لا فضيلة لأحد إلاّ بالإيمان و العمل الصّالح من غير فرق بين من آمن أوّلا، أو بعد الكفر، فمن اتّصف بالوصفين كان له الأمن في القيامة (2).

أقول: لا شكّ في فضيلة الأوّل على الثّاني.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 70

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتذكّر أنّ خبث ذات طائفة بني إسرائيل و عتوّهم بنقض عهد اللّه، و قتل الأنبياء و اتباع الهوى، ليس مختصّا بزمانه بقوله: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ بالتوحيد و الإيمان، و العمل بأحكام التّوراة وَ أَرْسَلْنا مع ذلك العهد إِلَيْهِمْ بعد موسى رُسُلاً كثيرة ليذكّروهم العهد، و يبيّنوا أحكام دينهم.

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)ثمّ كأنّه قيل: فما عاملوا (3)مع الرسل؟ فأجاب بقوله: كُلَّما جاءَهُمْ من قبل اللّه رَسُولٌ من اولئك الرّسل بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ و لا يوافق شهواتهم من التّكاليف الشّاقّة عليهم، و الأحكام غير المرضيّة لهم، خالفوه و عادوه.

ثمّ كأنّه قيل: كيف خالفوا الرّسل، و ما عاملوا (4)معهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا هم من غير أن يتعرّضوا لهم بالإضرار و القتل وَ فَرِيقاً آخر منهم كانوا يَقْتُلُونَ هم كزكريّا و يحيى.

ص: 413


1- . سورة البقرة:2/62.
2- . تفسير روح المعاني 6:203. (3 و 4) . كذا، و الظاهر: كيف تعاملوا.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 71

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة جرأتهم على الأنبياء بقوله: وَ حَسِبُوا و ظنّوا لغرورهم بكونهم أولاد الأنبياء، و أنّهم بشفاعتهم يدفعون عنهم العذاب أَلاّ تَكُونَ لهم بمعاصيهم فِتْنَةٌ و بلاء من اللّه فَعَمُوا عن رؤية الآيات، و كفّ بصرهم عن إدراك المعجزات وَ صَمُّوا عن استماع الحقّ الذي ألقى إليهم الرّسل.

وَ حَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)قيل: كانت تلك الحالة إلى زمان داود و سليمان عليهما السّلام ثُمَّ تابَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ (1)بسبب إيمانهم بهما، و انقيادهم لهما ثُمَّ عَمُوا عن الدّين و طريق الهداية وَ صَمُّوا عن استماع مواعظ الأنبياء مرّة اخرى، و لكن لا كلّهم بل كَثِيرٌ مِنْهُمْ بعد بعثة عيسى عليه السّلام و خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ قليلا منهم آمنوا بهما.

قيل: إنّهم أفسدوا حتّى سلّط اللّه عليهم بخت نصّر، فقتل من أهل بيت المقدس أربعين ألفا ممّن يقرأ التّوراة، و ذهب بالبقيّة إلى أرضه، فبقوا هنالك على أقصى ما يكون من الذّل و النّكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة، فردّهم اللّه إلى أحسن حال، ثمّ أفسدوا مرّة أخرى فسلّط اللّه عليهم ملك بابل (2).

ثمّ هدّدهم على سيّئاتهم بقوله: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ و خبير بِما يَعْمَلُونَ من تكذيب الرّسل و قتلهم، و سائر معاصيهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد الفراغ من ذمّ اليهود، شرع في ذمّ النّصارى و بيان غاية كفرهم و ضلالهم، فبدأ بذكر الفرقة التي هي أضلّ فرقهم بقوله: لَقَدْ كَفَرَ القوم اَلَّذِينَ قالُوا و أعتقدوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ و هم اليعقوبيّة القائلون بحلول اللّه في عيسى، و اتّحاده معه، وَ الحال أنّه قالَ اَلْمَسِيحُ حين كونه فيهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّهَ و لا تشركوا به شيئا، و خصّوه بالخضوع و الطّاعة لكونه رَبِّي وَ رَبَّكُمْ و خالقي و خالقكم.

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ اَلْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ اَلنّارُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)

ص: 414


1- . تفسير الرازي 12:58.
2- . تفسير روح البيان 2:421.

و اعلموا أنّه قد اوحي إليّ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ شيئا في الالوهيّة و العبوديّة فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ فلن يدخلها أبدا لأنّها دار الموحّدين وَ مَأْواهُ و مسكنه في الآخرة هو اَلنّارُ لأنّها معدّة للمشركين وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الشّرك مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم و يدفعون عنهم العذاب بالغلبة أو الشّفاعة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 73

ثمّ ذمّ سبحانه الفرقة الاخرى منهم، و هم الملكانيّة أو النّسطوريّة-على ما قيل (1)-و حكم بكفرهم أيضا بقوله: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ عيسى و امّه إلهان، و إنّ اَللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ آلهة، وَ الحال أنّه ما مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ بالذّات للعبوديّة إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ و معبود فارد، هو الواجب الوجود، الكامل الصّفات.

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)ثمّ هدّد الفريقين بقوله: وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا و لم يرتدعوا عَمّا يَقُولُونَ و يعتقدون من الشّرك باللّه لَيَمَسَّنَّ و ليصيبنّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و ثبتوا على الشّرك مِنْهُمْ في الآخرة عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ في الغاية.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 74

ثمّ أنشأ معنى التّعجّب من اختيارهم هذه الأقاويل الفاسدة، و إصرارهم عليها، و أنكر عليهم ترك التّوبة حثّا عليها بقوله: أَ فَلا يَتُوبُونَ .

أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اَللّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)قيل: إنّ التّقدير: أيصرّون على الكفر، فلا يتوبون (2)؟ ! إِلَى اَللّهِ حتّى يتوب عليهم وَ لا يَسْتَغْفِرُونَهُ حتّى يغفر لهم وَ اَللّهُ غَفُورٌ لمن عصاه بالكفر أو غيره من المعاصي إن آمن و تاب رَحِيمٌ بمن استرحمه.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 75

ثمّ بيّن سبحانه غاية شأن عيسى و امّه بقوله: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ الذي تغلون في شأنه إِلاّ

مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآياتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ (75)

ص: 415


1- . تفسير روح البيان 2:422.
2- . تفسير روح البيان 2:423.

رجل مخلوق للّه، و مربوب له، و إنّما امتاز عن غيره بأنّه رَسُولٌ و مبلّغ عن اللّه شرائعه و أحكامه، و له معجزات باهرة قَدْ خَلَتْ و مضت في العالم مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ الكثيرة، خصّهم بالمعاجز العظيمة؛ كاليد البيضاء، و إحياء العصا و جعلها ثعبانا، و فلق البحر، و غير ذلك، و لم يدّع أحد ألوهيّتهم بظهور المعجزات منهم، هذا شأن عيسى عليه السّلام، وَ أمّا أُمُّهُ مريم فإنّها أيضا امرأة مخلوقة، غاية شأنها أنّها صِدِّيقَةٌ موقنة، مصدّقة بكلمات ربّها و كتبه كسائر الصدّيقات، مثل حوّاء و آسية. و أدلّ الدّليل على عدم كونهما إلهين أنّهما كانا في الدّنيا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ و الإله الخالق منزّه عن الحاجة إلى الطّعام و الشّراب.

في (العيون) : عن الرضا عليه السّلام: «معناه: أنّهما كانا يتغوّطان» (1).

و القمّي: «كانا يحدثان، فكنّى عن الحدث، و كلّ من أكل الطّعام يحدث» (2).

أقول: عليه بعض مفسّري العامّة (3).

عن (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، في جواب الزّنديق، قال: «و أمّا هفوات ا لأنبياء و ما بيّن اللّه في كتابه، فإنّ ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة اللّه الباهرة» إلى أن قال: «ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى، حيث قال فيه و في امّه: كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ يعني: أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل (4)، و من كان له ثقل فهو بعيد ممّا أدّعته النّصارى لابن مريم» (5).

ثمّ باهى سبحانه بإبطال عقيدتهم بأحسن بيان بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد كَيْفَ نُبَيِّنُ و نوضّح لَهُمُ اَلْآياتِ و نقيم البراهين المحكمات على بطلان عقائدهم.

ثمّ بالغ سبحانه في الإعلان بغاية ضلالتهم و بعدهم عن الحقّ بقوله: ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ و كيف يصرفون عن الحقّ و استماع الآيات و التّأمّل فيها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 76

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخهم، و إقامة البرهان على فساد عقيدتهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء النصارى: أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه ما لا يَمْلِكُ بنفسه و بذاته ضَرًّا من

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (76)

ص: 416


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:201/1، تفسير الصافي 2:73.
2- . تفسير القمي 1:176، تفسير الصافي 2:73.
3- . راجع: تفسير القرطبي 6:250.
4- . كذا في المصدر و النسخة، و الظاهر: ثفل، كما في تفسير الصافي، و الثفل: ما سفل أو رسب من كل شيء.
5- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 2:73.

الآلام و الأسقام و الفقر وَ لا نَفْعاً من الصحّة و الغنى و العزّ.

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالهم اَلْعَلِيمُ بعقائدهم، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 77

ثمّ أنّه تعالى بعد تفضيح أهل الكتاب و ذمّهم و توبيخهم، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنصحهم بقوله: قُلْ يا محمّد، مخاطبا للفريقين: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا و لا تجاوزوا فِي دِينِكُمْ و عقائدكم عن الحدّ غلوّا و تجاوزا غَيْرَ اَلْحَقِّ كادّعاء الوهيّة عيسى و امّه، و بنوّة عزير للّه وَ لا تَتَّبِعُوا في العقائد و الأعمال أَهْواءَ قَوْمٍ و ميول أنفس جمع جمعوا جميع مراتب الضّلال، و هم أسلافهم و أئمّتهم الّذين قَدْ ضَلُّوا عن الحقّ مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة على بعثة خاتم الرّسل وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ممّن تابعهم على ضلالهم و بدعهم وَ ضَلُّوا بعد ظهور نور الإسلام عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ و النّهج الحقّ المستقيم الذي دعوا إليه.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ اَلسَّبِيلِ (77)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 78 الی 79

ثمّ لمّا نهاهم اللّه عن اتّباع الأسلاف لكونهم في غاية الضّلال و الإضلال، و كانوا مفتخرين بأنّهم كانوا من أولاد الأنبياء، بالغ سبحانه في ذمّهم بكون أسلافهم ملعونين في ألسنة الأنبياء بقوله: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مع كونهم أقرب منكم إلى الأنبياء، و قد كان لعنهم عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ .

لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)

في ذكر مسخ بني

إسرائيل قردة

و خنازير

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا داود فإنّه لعن أهل أيلة (1)لمّا اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه، فقال: اللّهمّ ألبسهم اللّعنة مثل الرّداء على المنكبين، و مثل المنطقة (2)على الحقوين (3)، فمسخهم اللّه قردة، و أمّا عيسى عليه السّلام فإنّه لعن الّذين انزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك» (4).

ص: 417


1- . أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، و هي مدينة لليهود الذين حرّم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا، فمسخوا قردة و خنازير.
2- . المنطقة: ما يشدّ في الوسط.
3- . الحقو: الخصر.
4- . مجمع البيان 3:357؛ تفسير الصافي 2:74.

و زاد في (الجوامع) : «فقال عيسى عليه السّلام: اللّهمّ عذّب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لا تعذّبه أحدا من العالمين، و العنهم كما لعنت أصحاب السّبت فصاروا خنازير، و كانوا خمسة آلاف رجل» (1).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم» (2). و به قال أكثر المفسّرين، على ما قيل (3).

ثمّ كأنّه قيل: بأيّ سبب وقع ذلك؟ (4)فأجاب بقوله: ذلِكَ اللّعن و المسخ وقع بِما عَصَوْا اللّه.

القمّي رحمه اللّه: كانوا يأكلون لحم الخنزير، و يشربون الخمر، و يأتون النّساء أيام حيضهنّ (5)وَ كانُوا يَعْتَدُونَ على النّاس، أو يبالغون في العصيان، و في ارتكاب ما حرّم اللّه عليهم.

ثمّ بيّن كيفيّة مبالغتهم في المعصية بقوله: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ و لا يرتدعون عَنْ مُنكَرٍ و إثم فَعَلُوهُ .

و قيل: إنّ المعنى: لا ينهى بعضهم [بعضا]عن قبيح يعملونه، و تصالحوا على السّكوت و الكفّ عن النهي (6).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لمّا وقع التّقصير في بني إسرائيل جعل الرّجل [منهم]يرى أخاه في الذّنب فينهاه فلا ينتهي، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله و جليسه و شريبه، حتى ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض، و نزل فيهم القرآن يقول جلّ و عزّ: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الآية» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «لم يكونوا يدخلون مداخلهم، و لا يجلسون مجالسهم، و لكن إذا لقوهم (8)أنسوا بهم» (9).

ثمّ قال سبحانه تعجيبا من سوء فعلهم مؤكّدا له بأنفسهم بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ .

القمّي رحمه اللّه، عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل [عن]قوم من الشّيعة يدخلون في أعمال السّلطان، و يعملون لهم، و يجبون لهم و يوالونهم؟ قال: «ليس هم من الشّيعة، و لكنّهم من اولئك، ثمّ قرأ: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا. . .» (10).

ص: 418


1- . جوامع الجامع:116، تفسير الصافي 2:74.
2- . تفسير القمي 1:176، الكافي 8:200/240، تفسير الصافي 2:74.
3- . راجع: تفسير الرازي 12:63.
4- . تفسير روح البيان 2:425.
5- . تفسير القمي 1:176، تفسير الصافي 2:75.
6- . تفسير روح البيان 2:425.
7- . ثواب الأعمال:262، تفسير الصافي 2:75.
8- . في تفسير العياشي: و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و.
9- . تفسير العياشي 2:67/1322، تفسير الصافي 2:75.
10- . تفسير القمي 1:176، تفسير الصافي 2:75.

أقول: أظنّ أن ذكر الآية سهو من الرّاوي، فإنّ المناسب قوله: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 80

ثمّ لمّا وصف اللّه تعالى أسلافهم بفساد العقائد و الأعمال، ذمّ الحاضرين منهم بموالاة الكفّار بقوله: تَرى يا محمّد كَثِيراً مِنْهُمْ و هم كعب بن اشرف و أصحابه، على ما قيل (2). يَتَوَلَّوْنَ و يتصادقون [مع]

اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالإشراك باللّه، و اللّه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ و هيّأوا لسفر آخرتهم من الزّاد و هو أَنْ سَخِطَ اَللّهُ و غضب عَلَيْهِمْ بتولّيهم الكفّار، و بغضهم الرّسول و المؤمنين وَ فِي اَلْعَذابِ بالنّار هُمْ في الآخرة خالِدُونَ مقيمون أبدا.

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 81

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم ليسوا على دين موسى عليه السّلام أيضا بقوله: وَ لَوْ كانُوا هؤلاء اليهود الّذين يتولّون المشركين يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب بِاللّهِ وَ اَلنَّبِيِّ الذي يدّعون أنّهم على دينه، و يعترفون بنبوّته، و هو موسى عليه السّلام وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التّوراة، ما تصادقوا [مع]

المشركين، و مَا اِتَّخَذُوهُمْ لأنفسهم أَوْلِياءَ و أحبّاء؛ لأنّ حرمة مولاة المشركين متأكّدة في التّوراة و في شرع موسى عليه السّلام وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دين موسى و حكم التّوراة، و إنّما غرضهم من إظهار التديّن بأحكام التّوراة و دين موسى عليه السّلام حفظ الجاه و الرئاسة، كذا قيل (3).

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلنَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين لو كانوا مؤمنين باللّه و بمحمّد و كتابه ما اتّخذهم هؤالاء اليهود أولياء (4). و ذلك بعيد في الغاية.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 82

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

ص: 419


1- . المائدة:5/80.
2- . تفسير الرازي 12:65. (3 و 4) . تفسير الرازي 12:65.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم بموالاة المشركين، ذمّهم بمعاداة المؤمنين كمعاداة المشركين لهم بقوله: لَتَجِدَنَّ باللّه يا محمّد أَشَدَّ اَلنّاسِ عَداوَةً و أكثرهم بغضا لِلَّذِينَ آمَنُوا بك و اتّبعوك اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا من العرب لشدّة حرص الفريقين على الدّنيا و الجاه.

قيل: إنّ مذهب اليهود وجوب الإضرار بمن خالفهم في الدّين، و أمّا النّصارى فمذهبهم كفّ الأذى عن الغير مطلقا (1)، و لذا قال سبحانه: وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قالُوا و ادّعوا إِنّا نَصارى .

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: المراد به النّجاشي و قومه الّذين قدموا من الحبشة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و آمنوا به، و لم يرد جميع النّصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين (2).

قيل: إنّ الغرض من بيان التّفاوت تخفيف أمر اليهود على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (3)، و تفريغ خاطره عنهم، و عدم مبالاته بهم.

قيل: كان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصل في سبعين رجلا عليهم ثياب صوف، منهم اثنان و ستّون رجلا من الحبشة، و ثمانية من أهل الشّام منهم بحيرا الرّاهب، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن، فآمنوا و قالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. فأنزل اللّه هذه الآية (1).

ثمّ كأنّه قيل: ما سبب كونهم أقرب مودّة؟ (5)فأجاب بقوله: ذلِكَ الأقربيّة التي قلنا بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ و علماء، وَ منهم رُهْباناً و عبّادا وَ أَنَّهُمْ بسبب علمهم و زهدهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحقّ، و لا يتأنّفون من الإيمان بك كاليهود.

قيل: كان الّذين آمنوا به أصحاب الصّوامع (6).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 83 الی 85

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ (83) وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ اَلْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلصّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اَللّهُ بِما قالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ (85)

ص: 420


1- . تفسير روح البيان 2:428. (5 و 6) . تفسير روح البيان 2:428.

ثمّ وصف شدّة تأثّرهم باستماع الحقّ بقوله: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ من آيات القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ عند استماعه تَفِيضُ و تصبّ مِنَ اَلدَّمْعِ لامتلائها منه مِمّا عَرَفُوا ما انزل على الرّسول مِنَ اَلْحَقِّ .

عن ابن عبّاس: يريد النّجاشي و أصحابه، و ذلك أنّ جعفر الطّيّار قرأ عليهم سورة مريم، فأخذ النّجاشي تبنة من الأرض و قال: و اللّه ما زاد على ما قال اللّه في الإنجيل مثل هذا، و ما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر من القراءة (1).

ثمّ كأنّه قيل: ما كانوا يقولون عند استماع القرآن؟ (2)فأجاب بقوله: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا بأنّ ما سمعناه هو الحقّ، و شهدنا به، إذن فَاكْتُبْنا و أثبت أسماءنا مَعَ أسماء اَلشّاهِدِينَ على أنّ ما أنزلته هو الحقّ،

و اجعلنا في زمرتهم وَ ما العذر لَنا و لأيّ علّة لا نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما جاءَنا مع وضوح أنّه مِنَ اَلْحَقِّ الثّابت من عند اللّه، وَ الحال أنّا نَطْمَعُ و نتوقّع أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا في جنّته مَعَ اَلْقَوْمِ اَلصّالِحِينَ و يرزقنا مرافقتهم و صحبتهم

فَأَثابَهُمُ اَللّهُ و جازاهم بِما قالُوا من الاعتراف بالحقّ، و الشّهادة عليه، و إظهار الإيمان عن صميم القلب.

عن ابن عبّاس [قال: قوله: بِما قالُوا يريد بما سألوا]، يعني قولهم: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ (3).

جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار ملتفّة، و غرف عالية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا وَ ذلِكَ الجزاء الأوفى من اللّه جَزاءُ اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أقوالهم و أعمالهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 86

ثمّ أردف اللّه سبحانه وعد المحسنين بالثّواب بإيعاد الكافرين بالعقاب بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من القرآن بعد ما سمعوها، و جحدوا المعجزات بعدما شاهدوها أُولئِكَ في الآخرة أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و ملازموها.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (86)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 87

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (87)

ص: 421


1- . تفسير الرازي 12:68.
2- . تفسير أبي السعود 3:72.
3- . تفسير الرازي 12:69.

ثمّ لمّا ناظر اللّه سبحانه (1)اليهود و النّصارى، و أبطل عقائدهم الفاسدة بالحجج القاطعة، و مدح النّصارى و قسّيسيهم و رهبانهم بمودّة المؤمنين، و عدم الاستنكاف عن التّسليم للحقّ، و كان مجال توهّم حسن الرّهبانيّة و مشروعيتها في دين الإسلام، بيّن حرمتها في هذا الدّين، و إباحة المأكولات و المشروبات الطّيّبة، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا على أنفسكم طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ و لذائذ ما أباحه ممّا لا ضرر فيه عليكم وَ لا تَعْتَدُوا و لا تجاوزوا عن الحدود المقرّرة في دينكم إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ عن حدوده، المجاوزين عن شرائعه.

في التزام بعض

الصحابة بترك

الطيّبات

عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و بلال و عثمان بن مظعون، فأمّا أمير المؤمنين فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، و أمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنّهار أبدا، و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا» .

و زاد القمّي: «فدخلت امرأة عثمان على عائشة و كانت امرأة جميلة، فقالت عائشة: مالي أراك متعطلة (2)؟ فقالت: لمن أتزيّن، فو اللّه ما قربني زوجي منذ كذا و كذا، فإنّه قد ترهّب و لبس المسوح (3)و زهد في الدّنيا، فلمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرته عائشة بذلك، فخرج فنادى: الصّلاة جامعة، فاجتمع النّاس فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟ ! [ألا]إنّي أنام باللّيل، و أنكح و أفطر بالنّهار، فمن رغب عن سنتي فليس منّي، فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول اللّه، فقد حلفنا على ذلك. فأنزل اللّه لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» (4).

و في (الاحتجاج) : عن الحسن بن علي عليهما السّلام-في حديث-أنّه قال لمعاوية و أصحابه: «أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّ عليّا أوّل من حرّم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ» (5).

في نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

عن التّرهب

و عن بعض مفسّري العامّة أنّه ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما النّار، و وصف القيامة، و بالغ في الإنذار، فرقّ له النّاس و بكوا، فاجتمع عشرة من الصّحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، و تشاوروا و اتّفقوا على أن يترهّبوا و يلبسوا المسوح، و يجبّوا مذاكيرهم (6)، و يصوموا الدّهر، و يقوموا اللّيل و لا يناموا على الفراش، و لا يأكلوا اللّحم و الودك (7)، و لا يقربوا النّساء

ص: 422


1- . زاد في النسخة: مع.
2- . أي غير متزينة بالحلي.
3- . المسوح: جمع مسح، و هو كساء من شعر، و لباس الراهب.
4- . مجمع البيان 3:364، تفسير القمي 1:179، تفسير الصافي 2:79، و الآية من سورة المائدة:5/89.
5- . الاحتجاج:273، تفسير الصافي 2:80.
6- . جبّ المذاكر: قطعها.
7- . الودك: الدّسم و الشحم.

و الطّيب، و يسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت اميّة، و اسمها خولة، و كانت عطّارة: «أحقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه» ، فكرهت أن تكذّب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كرهت أن تبدي خبر زوجها، فقالت: يا رسول اللّه، إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق.

فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا جاء عثمان أخبرته زوجته بذلك، فمضى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فسأله النبيّ عن ذلك، فقال: نعم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أما إنّي لم آمر بذلك، إنّ لأنفسكم [عليكم]حقّا، فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإنّي أقوم و أنام، و أصوم و افطر، و آكل اللّحم و الدّسم، و آتي النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .

ثمّ جمع النّاس و خطبهم و قال: «ما بال أقوام حرّموا النّساء و الطّعام و الطّيب و النّوم و شهوات الدّنيا؟ ! أمّا إنّي لا آمركم أن تكونوا قسّيسين و لا رهبانا، فإنّه ليس من ديني ترك اللّحم و النّساء، و لا اتّخاذ الصّوامع، و إنّ سياحة امّتي الصّوم، و رهبانيتهم الاجتهاد، فاعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا، و حجّوا و اعتمروا، و أقيموا الصّلاة و آتوا الزّكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من هلك قبلكم بالتّشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم، فاولئك بقاياهم في الدّيارات و الصوامع» ، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

و روي أنّ عثمان بن مظعون جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ نفسي تحدّثني بأن أختصي، فأذن لي في الاختصاء. قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ اختصاء امّتي الصّيام» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني بأن أترهّب في رؤوس الجبال؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ ترهّب امّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصّلاة» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني بأن أخرج من مالي كلّه؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإن صدقتكم يوما بيوم، و تعفّ نفسك و عيالك، و ترحم المساكين و اليتيم فتعطيهم، أفضل من ذلك» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني أن اطلّق زوجتي خولة؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ الهجرة في امّتي من هجر ما حرّم اللّه عليه، أو هاجر [إليّ]في حياتي، أو زار قبري بعد وفاتي، أو مات و له امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع» .

قال: يا رسول اللّه، فإن نهيتني أن لا اطلّقها، فإنّ نفسي تحدّثني أن لا أغشاها؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ المسلم إذا غشي امرأته أو ما ملكت يمينه، فلم يكن [له]من وقعته تلك ولد، كان له وصيف في

ص: 423


1- . تفسير روح البيان 2:431.

الجنّة، و إن كان له من وقعته تلك ولد فمات قبله، كان له فرطا و شفيعا يوم القيامة، و إن مات بعده كان له نورا يوم القيامة» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني أن لا آكل اللّحم؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّي احبّ اللّحم و آكله إذا وجدته، و لو سألت ربّي أن يطعمنيه في كلّ يوم لأطعمنيه» .

قال: يا رسول اللّه، إنّ نفسي تحدّثني أن لا أمسّ الطّيب؟ قال: «مهلا يا عثمان، فإنّ جبرئيل أمرني بالطّيب غبا (1)و قال: يوم الجمعة لا مترك له، يا عثمان لا ترغب عن سنّتي، فمن رغب عن سنّتي ثمّ مات قبل أن يتوب، صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 88

ثمّ صرّح سبحانه بإباحة المأكولات و المشروبات الطيّبة بقوله: وَ كُلُوا أيّها المؤمنون مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حال كونه حَلالاً طَيِّباً و مباحا لذيذا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ في تحريم ما حلّل، و تحليل ما حرّم، فإنّ الإيمان موجب للالتزام بأحكام اللّه و الاجتناب عن مخالفتها و التّجاوز عن حدوده.

وَ كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 89

ثمّ لمّا كان نزول الآية في شأن بعض كبار الصّحابة الّذين حلفوا على ترك الطيّبات و قالوا: يا رسول اللّه، ما نصنع بأيماننا؟ بيّن اللّه حكم اليمين و كفّارته بقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بالكفّارة في الدّنيا، و بالنّار في الآخرة بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ و حلفكم غير المقصود به الجدّ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ و وثّقتم اَلْأَيْمانَ بألسنتكم و قلوبكم إذا حنثتم، فمن حلف و حنث فَكَفّارَتُهُ و ما يستر به ذنبه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ و تغذيتهم مشبعا، أو إعطاء كلّ مدّا مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ و أقصد ما ترزقون عيالكم.

لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

ص: 424


1- . الطّيب غبا: أي يوم يتطيب و يوم لا.
2- . تفسير روح البيان 2:431.

في كفارة اليمين

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «الوسط: الخلّ و الزيتون (1)، و أرفعه الخبز و اللّحم، و الصّدقة مدّ (2)من حنطة لكلّ مسكين» (3).

و عنه عليه السّلام: «كما يكون في البيت، فمنهم من يأكل أكثر من المدّ، و منهم من يأكل أقلّ من المدّ فبين ذلك، و إن شئت جعلت [لهم]ادما (4)، و الادم أدناه الملح، و أوسطه الخلّ و الزّيت، و أرفعه اللّحم» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «ما تقوتنّ به عيالك من أوسط ذلك. [قيل: و ما أوسط ذلك؟]فقال: الخلّ و الزّيت و التّمر و الخبز تشبعهم به مرّة واحدة» (6).

أَوْ كِسْوَتُهُمْ، عنه عليه السّلام، قال: «ثوب واحد» (7).

و في رواية: «ثوب يواري [به]عورته» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «الكسوة ثوبان» (7).

أقول: هذا محمول على ما إذا لم يواره واحد.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و إعتاق نسمة ذكرا كانت أو انثى، صغيرا أو كبيرا، لإطلاق الآية و الرّواية.

و عن الصادق عليه السّلام: «كلّ شيء في القرآن (أو) فصاحبه [فيه]بالخيار، يختار ما يشاء» (8).

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شيئا من الأمور المذكورة، عن الكاظم عليه السّلام، أنّه سئل عن كفّارة اليمين، ما حدّ من لم يجد، و إن الرّجل يسأل في كفّه و هو يجد؟ فقال: «إذا لم يكن عنده فضل من قوت عياله فهو ممّن لا يجد» (9)فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ يكون كفّارتها.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ صوم يفرّق فيه، إلاّ ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين» (10).

و عنه عليه السّلام: «صيام ثلاثة [أيام]في كفّارة اليمين [متتابعات]لا يفصل بينهنّ» (11).

و قرأ ابن مسعود: ثلاثة أيّام متتابعات (12).

ذلِكَ الذي ذكر و أمر به كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ و حنثتم وَ اِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ من أن تكثروا و من أن يحنث فيها، أو بالتّكفير بعد حنثها كَذلِكَ البيان الواضح يُبَيِّنُ اَللّهُ و يوضّح لَكُمْ آياتِهِ و حججه الدّالّة على معارفه و سائر أحكامه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة تعليمه و تبيينه

ص: 425


1- . في المصدر: و الزيت.
2- . زاد في المصدر: مدّ.
3- . الكافي 7:452/5، تفسير الصافي 2:80.
4- . الأدم: ما يستمرأ به الخبز.
5- . الكافي 7:453/7، تفسير الصافي 2:81. (6 و 7) . الكافي 7:454/14، تفسير الصافي 2:81.
6- . الكافي 7:452/4، تفسير الصافي 2:81.
7- . الكافي 7:452/3، تفسير الصافي 2:81.
8- . تفسير العياشي 2:71/1336، تفسير الصافي 2:81.
9- . الكافي 7:452/2، تفسير الصافي 2:81.
10- . الكافي 4:140/1، تفسير الصافي 2:81.
11- . الكافي 4:140/2، تفسير الصافي 2:81.
12- . تفسير الرازي 12:77.

جميع ما تحتاجون إليه.

في أقسام اليمين

عن الصادق عليه السّلام: «الأيمان ثلاثة: [يمين]ليس فيها كفّارة، و يمين فيها كفّارة، و يمين غموس توجب النّار، فاليمين التي ليس فيها كفّارة: الرّجل يحلف [باللّه]على باب برّ أن [لا]يفعله [فكفارته أن يفعله]، و اليمين التي تجب فيها الكفارة: الرّجل [يحلف]على باب معصية أن لا يفعله فيفعله، فتجب عليه الكفّارة، و اليمين الغموس التي توجب النّار: الرّجل يحلف على حقّ امرئ مسلم و (1)على حبس ماله» (2).

و عنه عليه السّلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك، فهو كفّارة يمينه» (3).

و عنه عليه السّلام: «ما حلفت عليه ممّا فيه البرّ فعليك الكفّارة إذا لم تف به، و ما حلفت عليه ممّا فيه المعصية فليس عليك فيه الكفّارة إذا رجعت عنه، و ما كان سوى ذلك ممّا ليس فيه برّ و لا معصية فليس بشيء» (4).

و عنه عليه السّلام: «لا حنث و لا كفّارة على من حلف تقيّة، يدفع بذلك ظلما عن نفسه» (5).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «لا يمين لولد مع والده، و لا للمرأة مع زوجها» (6).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 90 الی 91

ثمّ لمّا نهى اللّه تعالى عن تحريم طيّبات ما أحلّ، بيّن أنّ الخمر و ما أردفها ليس منها، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ الذي يدخل فيه كلّ مسكر وَ اَلْمَيْسِرُ و ما يقامر به وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ -و قد مرّ تفسيرهما (7)-كلّ ذلك رِجْسٌ و قذر تتنفّر منه العقول السّليمة، كائن مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ و تزيينه الدّاعي إليه، و هو كناية عن نهاية قبحه. فإذا كان كذلك فَاجْتَنِبُوهُ و احترزوا عنه لَعَلَّكُمْ باجتنابه تُفْلِحُونَ و تفوزون بسعادة الدّارين.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)عن الباقر عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه ما الميسر؟ فقال: كل ما تقومر عليه حتّى

ص: 426


1- . (و) ليست في الكافي.
2- . الكافي 7:438/1، تفسير الصافي 2:81.
3- . الكافي 7:443/2، تفسير الصافي 2:82.
4- . الكافي 7:446/5، تفسير الصافي 2:82.
5- . الخصال:607/9، تفسير الصافي 2:82.
6- . الخصال:621/10، تفسير الصافي 2:82.
7- . تقدم في تفسير الآية 219 من سورة البقرة.

الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم، قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها» (1).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «أمّا الخمر، فكلّ مسكر من الشّراب إذا خمر فهو خمر، و ما أسكر (2)كثيره فقليله حرام، و ذلك أنّ أبا بكر شرب قبل أن يحرّم الخمر، فسكر فجعل يقول الشّعر و يبكي على قتلى المشركين من أهل بدر، فسمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: اللّهمّ فامسك على لسانه، فلم يتكلّم حتّى ذهب عنه السّكر، فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك، و إنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ (3)البسر و التّمر، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقعد بالمسجد ثمّ دعا بآنيتهم التي كانو ينبذون فيها فأكفاها كلّها و قال: هذه كلّها خمر، و قد حرّمها اللّه، فكان أكثر شيء كفئ في ذلك اليوم من الأشربة الفضيخ، و لا أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شيء، إلاّ إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا. و أما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شيء، حرّم اللّه الخمر قليلها و كثيرها، و بيعها و شراءها، و الانتفاع بها.

في عقاب شارب

الخمر و حدّه

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الرّابعة فاقتلوه.

و قال: حقّ على اللّه أن يسقي من شرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات. و المومسات: الزّواني يخرج من فروجهنّ صديد؛ و الصّديد: قيح و دم غليظ مختلط يؤذي أهل النّار حرّه و نتته.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين ليلة، فإن عاد فأربعين ليلة من يوم شربها، فإن مات في تلك الأربعين من غير توبة، سقاه اللّه يوم القيامة من طينة خبال.

و سمّي المسجد الذي قعد فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم أكفئت الأشربة مسجد الفضيخ من يومئذ، لأنّه كان أكثر شيء اكفئ من الأشربة الفضيخ.

و أما الميسر، فالنّرد و الشّطرنج، و كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالاوثان التي كان يعبدها المشركون، و أمّا الأزلام فالأقداح التي كان يستقسم بها مشركو العرب في الأمور في الجاهليّة، كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشيء منه حرام من اللّه، و هو رجس من عمل الشّيطان، فقرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمر عشرة: عارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها،

ص: 427


1- . الكافي 5:122/2، تفسير الصافي 2:82.
2- . في تفسير القمي: فهو حرام و أما المسكر.
3- . الفضيخ: شراب البسر من غير أن تمسّه النار.
4- . تفسير القمي 1:180، تفسير الصافي 2:82.

و ساقيها، و حاملها، و المحمول إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها» (1).

في بيان حكمة

حرمة الخمر

و الميسر

ثمّ أنّه تعالى بعد الجمع بين الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام في النّهي مبالغة في قبح تعاطيهما، أفردهما بذكر مفاسدهما الدّنيويّة و الاخرويّة، فبدأ بذكر مفاسدهما الدّنيويّة بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ بسبب تعاطيهما أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ مع غاية ائتلافكم اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ و التّنازع و التّحاقد فِي شرب اَلْخَمْرِ وَ عمل اَلْمَيْسِرِ و بسببهما، لوضوح أنّ ذهاب العقل و المال موجبان لهيجان الغضب على من خالف هوى السّكران، و ذهب بمال المغلوب في المقامرة، فتقع المنازعة بين المخمورين فيضاربون و يقاتلون، و العداوة الشّديدة بين الغالب و المغلوب في المقامرة.

ثمّ ذكر المفاسد الاخرويّة بقوله: وَ يَصُدَّكُمْ الشّيطان و يمنعكم عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ و التّوجّه إليه بالقلب.

ثمّ خصّ الصّلاة بالذّكر مع أنّها من الذّكر بقوله: وَ عَنِ اَلصَّلاةِ تعظيما لشأنها بين العبادات، و إشعارا بأنّ الصدّ عنها كالصدّ عن الإيمان لأنّها عماده و ركنه.

ثمّ بالغ سبحانه بعد ذكر مفاسدهما في الرّدع عنهما بإنشاء الاستفهام التّقريري عن انتهائهم عنها بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ أيّها المسلمون بعد هذا النّهي الأكيد و الاطّلاع بمفاسدهما مُنْتَهُونَ عنهما، مرتدعون عن ارتكابهما أم لا؟ !

روي أنّ عمر لما سمعها قال: قد انتهينا يا ربّ (2).

في بيان وجوه

التأكيد في حرمة

شرب الخمر

ففي الآيتين وجوه من التّأكيد في تحريم الخمر و الميسر: الأوّل: حصر الرّجس فيهما و في قرينتيهما بكلمة (إنّما) .

و الثاني: تقرينهما بعبادة الأوثان.

و الثالث: الأمر باجتنابهما.

و الرابع: ترتيب الفلاح على تركهما.

و الخامس: شرح مفاسدهما الدّنيويّة و الاخرويّة.

و السّادس: المبالغة في الرّدع عنهما و الحثّ على اجتنابهما بالاستفهام التّقريري عن انتهائهم عنهما، فإنّه أمر بالانتهاء مقرونا بأخذ الإقرار من المكلّفين بامتثاله.

ص: 428


1- . الخصال:444/41، تفسير الصافي 2:83.
2- . تفسير الرازي 12:81.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 92

ثمّ زاد سبحانه في التّأكيد بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ في نهيه عنهما وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا عن مخالفتهما.

وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (92)ثمّ هدّد على المخالفة بقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عن الامتثال و الطّاعة فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و الرّسالة بالبيان الواضح حتّى تتمّ الحجّة عليكم، و قد فعل بما لا مزيد عليه، و أتمّ الحجّة بحيث لم يبق لكم مجال العذر، فليس في مخالفتكم إلاّ استحقاق العقاب الشّديد، و هو إلينا لا إليه.

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «أما و اللّه، ما هلك من كان قبلكم، و ما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا إلاّ في ترك ولايتنا و جحود حقّنا، و ما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدّنيا حتّى ألزم رقاب هذه الامّة حقّنا، و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 93

عن القمّي رحمه اللّه: لمّا نزل تحريم الخمر و الميسر و التّشديد في أمرهما، قال النّاس من المهاجرين و الأنصار: يا رسول اللّه، قتل أصحابنا و هم يشربون الخمر، و قد سمّاه اللّه رجسا و جعله من عمل الشّيطان، و قد قلت ما قلت، أفيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟

لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (93)فأنزل اللّه سبحانه قوله: لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ (2)من فعل الواجبات و ترك المحرّمات جُناحٌ و بأس فِيما طَعِمُوا و أكلوا و استلذّوا به من المأكولات و المشروبات.

في (المجمع) : في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: «فيما طعموا من الحلال» (3).

إِذا مَا اِتَّقَوْا عن الكفر وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا جميع الكبائر وَ آمَنُوا باللّه و رسوله ثُمَّ اِتَّقَوْا الصّغائر وَ أَحْسَنُوا إلى الخلق.

و قيل: التّكرار للتّأكيد.

ص: 429


1- . الكافي 1:353/74، تفسير الصافي 2:84.
2- . تفسير القمي 1:181، تفسير الصافي 2:84.
3- . مجمع البيان 3:372.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ فائدة الإحسان ليس منحصرة في نفي الجناح، بل له فائدة عظيمة بقوله: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ فإنّ حبّ اللّه عبده أعظم الفوائد في الدّنيا و الآخرة، و أعلى المقامات للمؤمن، و لذا سمّي رسول اللّه من بين الرّسل بحبيب اللّه.

عن القمّي: هذا لمن مات قبل تحريم الخمر، و الجناح هو الإثم، و هو على من شربها بعد التّحريم (1).

و قيل: فِيما طَعِمُوا [أي]ممّا لم يحرّم عليهم إِذا مَا اِتَّقَوْا أي المحرّم وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أي ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصّالحات ثُمَّ اِتَّقَوْا أي ما حرّم عليهم بعد كالخمر وَ آمَنُوا بتحريمه ثُمَّ اِتَّقَوْا أي استمرّوا و ثبتوا على اتّقاء المعاصي وَ أَحْسَنُوا أي و تحرّوا الأعمال الجميلة و اشتغلوا بها (2).

و روى البهائي (أعلى اللّه مقامه) في (حاشية أسرار التنزيل) عن (مصباح الشريعة) : عن الباقر (3)عليه السّلام: «التّقوى على ثلاثة أوجه: تقوى في اللّه (4)؛ و هي ترك الحلال (5)فضلا عن الشّبهة، و هي تقوى خاصّ الخاصّ، و تقوى من اللّه؛ و هي ترك الشّبهات فضلا عن الحرام، و هي تقوى الخاصّ، و تقوى من خوف النّار و العقاب؛ و هي ترك الحرام، و هي تقوى العامّ.

و مثل التّقوى كماء يجري في نهر، و مثل هذه الطّبقات الثّلاث في معنى التّقوى كأشجار مغروسة على حافّة ذلك النّهر [من]كلّ لون و جنس، و كلّ شجر يمتص الماء من ذلك النّهر على قدر جوهره و طبعه و لطافته و كثافته، ثمّ منافع الخلق من تلك الأشجار و الثّمار على قدرها و قيمتها، قال اللّه تعالى صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ (6).

فالتّقوى في الطّاعات (7)كالماء للأشجار، و مثل طبائع الأشجار [و الأثمار]في لونها و طعمها مثل مقادير الإيمان، فمن كان أعلى درجة في الإيمان و أصفى جوهرا بالرّوح كان أتقى، و من كان أتقى كانت عبادته أخصّ و أظهر (8)، و من كان كذلك كان من اللّه أقرب، و كلّ عبادة غير مؤسّسة على التّقوى فهي هباء منثور، قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ (9). انتهى كلامه صلوات اللّه عليه.

ثمّ قال الشّيخ رحمه اللّه: فنقول في بيان ذلك: إنّ أوائل [درجات]الإيمان تصديقات مشوبة بالشّكوك

ص: 430


1- . تفسير القمي 1:182، تفسير الصافي 2:84.
2- . تفسير الصافي 2:84.
3- . في المصباح: الصادق.
4- . في المصباح: باللّه.
5- . في المصباح: الخلاف.
6- . الرعد:13/4.
7- . في المصباح: للطاعات.
8- . في المصباح: أخلص و أطهر.
9- . مصباح الشريعة:38، تفسير الصافي 2:85، و الآية من سورة التوبة:9/109.

و الشّبهات على اختلاف مراتبها، و يمكن معها الشّرك، كما قال سبحانه: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (1)، و يعبّر عنها بالإسلام، كما قال اللّه عزّ و جلّ: قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (2)، و التقوى المتقدّمة عليها [هي]تقوى العامّ.

و أوسطها تصديقات لا يشوبها شك و لا شبهة، كما قال اللّه عزّ و جلّ: اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا (3)، و أكثر إطلاق الإيمان عليها خاصّة؛ كما قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (4)، و التّقوى المتقدّمة عليها [هي]تقوى الخاصّ.

و آخرها تصديقات كذلك، مع شهود و عيان، و محبّة كاملة للّه عزّ و جلّ، كما قال اللّه عزّ و جل: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (5)، و يعبّر عنها تارة بالإحسان؛ كما ورد في الحديث النبوي: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه» (6)، و اخرى بالإيقان، كما قال اللّه: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (7)، و التّقوى المتقدّمة عليها [هي]تقوى خاصّ الخاصّ.

و إنّما قدّمت [التقوى]على الإيمان لأنّ الإيمان [إنما]يتحصّل و يتقوّى بالتّقوى، لأنّها كلّما ازدادت ازداد الإيمان بحسب ازديادها، و هذا لا ينافي تقدّم أصل الإيمان على التّقوى، بل ازديادها بحسب ازدياده، و أيضا لأنّ الدّرجة المتقدّمة لكلّ منها غير الدّرجة المتأخرة، و مثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة، فكلّما أضاء له من الطّريق قطعة مشى فيها، فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة ا خرى، و هكذا (8).

أقول: مقصود الشيخ من ذكر الرّواية و توضيحها توجيه تكرار الأمر بالتّقوى في الآية بالمراتب الثّلاث المذكورة في الرّواية.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «اتي عمر بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البيّنة، فسأل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، فأمره أن يجلد ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين، ليس عليّ حدّ، أنا من أهل هذه الآية لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لست من أهلها، إنّ طعام أهلها لهم حلال، ليس يأكلون و لا يشربون إلاّ ما أحلّه اللّه لهم. ثمّ قال عليّ عليه السّلام: إنّ الشّارب إذا شرب لم يدر ما يأكل و لا ما يشرب، فاجلدوه ثمانين جلدة» (9).

ص: 431


1- . يوسف:12/106.
2- . الحجرات:49/14.
3- . الحجرات:49/15.
4- . الأنفال:8/2.
5- . المائدة:5/54.
6- . مجمع البيان 3:178.
7- . البقرة:2/4.
8- . تفسير الصافي 2:85.
9- . الكافي 7:215/10، تفسير الصافي 2:86.

ثمّ قال الشّيخ بعد نقل الرّواية: أقول: في قوله: (إلاّ ما أحلّه اللّه لهم) تنبيه على أنّهم يحترزون عن الشّبهات، بل [عن]كلّ ما يمنعهم عن الشّهود مع اللّه. و الجناح في الآية نكرة في سياق النّفي يعمّ كلّ مراتبه، كاستحقاق العتاب (1)، و السرّ فيه أنّ شكر نعم اللّه تعالى أن تصرف في طاعة اللّه سبحانه على وجهها، فليتدبّر فيه.

و على ما حقّقناه إن صحّ [أنّ]نزول [هذه]الآية ما ذكره القمّي وفاقا لطائفة من المفسّرين، فمعنى الآية: أنّ الّذين كانوا يشربون الخمر قبل نزول تحريمها، إذا كانوا بهذه المثابة من الإيمان و التّقوى و العمل الصّالح، فلا جناح عليهم في شربها (2).

أقول: حمل الآية على المعنى الذي ذكره غير ممكن، لوضوح عدم إمكان كون الجناح على شاربها قبل نزول تحريمها لقبح العقاب بلا بيان عقلا و إن لم يكونوا واجدين لأوّل مراتب التّقوى. نعم إذا كان المراد من قوله: فِيما طَعِمُوا جميع المأكولات و المشروبات، يصحّ اشتراط نفي الجناح على الإطلاق، و بجميع مراتبه بما إذا اتّقى جميع محرّماتها و مشتبهاتها، و يكون غرضهم من أكلها القيام بالأعمال الصّالحة، و أنّهم لا يشبعون من الطّعام و هم مطّلعون على بطون غرثى و أكباد حرّى، بل يحسنون إليهم بالزّائد ممّا يحفظون به رمقهم و أنفسهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 94

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة الخمر من المشروبات، ذكر حرمة لحم الصّيد من المأكولات على خصوص المحرّم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ و يمتحنكم و يختبرنّ طاعتكم و عصيانكم بِشَيْءٍ قليل، و بلاء يسير بالنّسبة إلى سائر البليّات الشّاقّة العظيمة، كبذل النّفس و المال، ثمّ فسّر ذلك الشيء بقوله: مِنَ اَلصَّيْدِ و هو ابتلاء سهل يسير (3).

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)و قيل: إنّ المراد: بعض الصّيد، و هو صيد البرّ (4).

قيل: إنّ اللّه امتحن امّة محمّد بصيد البرّ، كما امتحن امّة موسى بصيد البحر (5).

أمّا كيفيّة الابتلاء فإنّه قرّبه منكم بحيث تَنالُهُ و تصل إليه أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ فيسهل عليكم أخذه و طعنه.

ص: 432


1- . في الصافي: العقاب.
2- . تفسير الصافي 2:86. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 12:85.

عن القمي: نزلت في غزوة الحديبية، جمع اللّه عليهم الصّيد، فدخل بين رحالهم (1).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «حشر عليهم الصّيد في كلّ مكان حتّى دنا منهم ليبلوهم اللّه به» (2).

و عنه عليه السّلام: «حشر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عمرة الحديبية الوحوش حتّى نالتها أيديهم و رماحهم» (3).

و في رواية: «ما تناله الأيدي الفراخ أو البيض، و ما تناله الرّماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي» (4).

و في (المجمع) : عنه عليه السّلام: «الذي تناله الأيدي فراخ الطّير و صغار الوحش و البيض، و الذي تناله الرّماح الكبار من الصّيد» (5).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة الابتلاء بقوله: لِيَعْلَمَ اَللّهُ و يميز بين النّاس مَنْ يَخافُهُ و يخاف عقابه، و هو بِالْغَيْبِ عن الأنظار، و مستور عن الأبصار، فيتّقي الصّيد ممّن لا يخافه.

و قيل: في الآية حذف، و التقدير: ليعلم أولياء اللّه من يخافه حال إيمانه بالغيب (6).

ثمّ هدّد من يتّقي الصّيد بعد تحريمه بقوله: فَمَنِ اِعْتَدى على نفسه، و تعرّض للصّيد بَعْدَ ذلِكَ التّحريم و توضيح علّته فَلَهُ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ و في الدّنيا التّعزير الموجع.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذا العذاب هو أن يضرب بطنه و ظهره ضربا وجيعا و ينزع ثيابه (7).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 95

ثمّ أكّد سبحانه حرمة الصّيد في حال الإحرام بالتّصريح بالنّهي عنه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و أحكامه لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ و الحيوان الوحشي [سواء أ]

كان ممّا يؤكل أم لا وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون بإحرام الحجّ أو العمرة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ (95)عن الصادق عليه السّلام: «فاتّق (8)قتل الدّواب كلّها إلاّ الأفعى و العقرب و الفأرة، [فأمّا الفأرة]فإنّها توهي السّقاء و تضرم على أهل البيت [البيت]، و أمّا العقرب فإنّ نبيّ اللّه مدّ يده إلى الحجر فلسعته عقرب فقال: لعنك اللّه، لا تدعين برّا و لا فاجرا، و الحيّة إذا أرادتك فاقتلها، و إن لم تردك فلا تردها، و الكلب

ص: 433


1- . تفسير القمي 1:182، تفسير الصافي 2:87.
2- . الكافي 4:396/2، تفسير الصافي 2:87.
3- . الكافي 4:396/1، تفسير الصافي 2:87.
4- . الكافي 4:397/4، تفسير الصافي 2:87.
5- . مجمع البيان 3:377، تفسير الصافي 2:87.
6- . تفسير الرازي 12:86.
7- . تفسير الرازي 12:86.
8- . في تفسير الصافي: إذا أحرمت فاتق.

العقور و السّبع إذا أراداك فاقتلهما، فإن لم يريداك فلا تردهما، و الأسود (1)الغدر فاقتله على كلّ حال، و ارم الغراب و الحدأة رميا على ظهر بعيرك» (2).

و عنه عليه السّلام: «المحرم يقتل الزّنبور و النّسر و الأسود الغدر و الذّئب و ما خاف أن يعدو عليه» و قال: «الكلب العقور هو الذّئب» (3).

و عنه عليه السّلام: «كلّ ما خاف المحرم على نفسه من السّباع و الحيّات (4)فيقتله، و إن لم يردك فلا ترده» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بطريق عامّي: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهنّ في الحلّ و الحرم: الغراب، و الحدأة، و الحيّة، و العقرب، و الكلب العقور» (6).

و في رواية: «و السّبع الضّاري» (6).

أقول: الظّاهر من مجموع الرّوايات جواز قتل كلّ مؤذ لا يأمن المحرم منه على نفسه.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه كفّارة الصّيد في حال الإحرام بقوله: وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ أيّها المجرمون حال كونه مُتَعَمِّداً في قتله بأيّ نوع من أنواع القتل.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر الآية و إن كان اشتراط العمد في وجوب كفّارة الصّيد، و به قال بعض العامّة، إلاّ أنّه نسب إلى أكثرهم، و عامة أصحابنا عدم الاشتراط، بل قالوا بوجوبها و إن كان القتل خطأ أو نسيانا، و قالوا: وجه التّقييد في الآية أنّ سبب نزولها في من تعمّد (8).

روي أنّه عنّ (7)لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل: إنّك قتلت الصّيد و أنت محرم. فنزلت (8).

و قال بعض: نزل الكتاب بالعمد، و وردت السنّة بالخطأ (9).

و على أي تقدير فَجَزاءٌ واجب على قاتل الصّيد، و فدية ثابتة؛ حيوان مِثْلُ ما قَتَلَ و شبيه ما صاد، و لكن لا بدّ أن يكون الحيوان المماثل مَنْ جنس اَلنَّعَمِ الثّلاث: الإبل و البقر و الغنم، و يدخل فيه المعز.

عن الصادق عليه السّلام، في تفسيرها: «في الظّبي شاة، و في حمار الوحش بقرة، و في النّعّامة جزور» (10).

ص: 434


1- . الأسود: العظيم من الحيات.
2- . التهذيب 5:365/1273، تفسير الصافي 2:87.
3- . الكافي 4:363/4، تفسير الصافي 2:88.
4- . زاد في الكافي: و غيرها.
5- . الكافي 4:363/1، تفسير الصافي 2:88. (6 و 8) . تفسير الرازي 2:87.
6- . راجع: تفسير أبي السعود 3:79، كنز العرفان 1:324/4.
7- . عنّ: أي ظهر أمامه و اعترض.
8- . كنز العرفان 1:324/4.
9- . تفسير أبي السعود 2:79.
10- . التهذيب 5:341/1180، تفسير الصافي 2:88.

قيل: الجزور و البدنة واحد، و الفرق أن البدنة ما يحرز للهدي، و الجزور أعمّ (1).

و في صحيح سليمان: في البقرة بقرة، و في الحمار بدنة، و في النّعامة بدنة، و في ما سوى ذلك قيمته (2).

ثمّ وصف سبحانه الجزاء بكونه ممّا يَحْكُمُ بِهِ و بمماثلته للصّيد المقتول رجلان ذَوا عَدْلٍ و لكن لا في دينه، و إن كان من غيركم، بل لا بدّ من أن يكونا مِنْكُمْ و أهل دينكم.

قال بعض العامّة: لو كان أحدهما القاتل، جاز إذا كان القتل خطأ لا عمدا؛ لأنّه فاسق (3).

في (المجمع) : عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «ذو عدل» (4).

و في (الكافي) : عنهما عليهما السّلام: و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «العدل: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الإمام من بعده» ثمّ قالا: «هذا ممّا أخطأت به الكتّاب» (5).

و العيّاشي: «يعني رجلا واحدا» يعني الإمام (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «العدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الإمام من بعده يحكم به و هو ذو عدل، فإذا علمت ما حكم به رسول اللّه و الإمام فحسبك، و لا تسأل عنه» (7).

أقول: لعلّ المراد من ذَوا عَدْلٍ النبيّ و الإمام، على معنى الاجتزاء بحكم أحدهما، و أنّ المراد من الحكم بيان المثل للمقتول، فيحتاج في تعيين المثل إلى النّص من النبيّ أو الإمام، لا أنّه ينظر العدليين من سائر النّاس، كما عليه العامّة.

و روي أنّ رجلا سأل أبا حنيفة عن كفّارة الصّيد فأجاب، فقال: من يحكم بها؟ قال: ذوا عدل، قال: إن اختلفا؟ قال: يتوقّف عن الحكم حتّى يتّفقا، قال: إنّك لا تحكم وحدك في الصّيد حتّى يتّفق معك آخر، و تحكم في الدّماء و الفروج و الأموال برأيك! (8)

ثمّ وصف سبحانه الجزاء ثانيا بكونه هَدْياً و مرسلا بقصد التّقرّب إلى اللّه، و لا بدّ من كونه بالِغَ اَلْكَعْبَةِ و واصلا إليها.

عن الصادق عليه السّلام: «من وجب عليه هدي في إحرامه، فله أن ينحره حيث شاء إفداء الصّيد، فإنّ اللّه

ص: 435


1- . جواهر الكلام 20:191.
2- . التهذيب 5:341/1182.
3- . تفسير الرازي 12:92.
4- . مجمع البيان 3:375، تفسير الصافي 2:88.
5- . تفسير العياشي 2:78/1360، الكافي 4:396/3 و:397/5، تفسير الصافي 2:88.
6- . تفسير العياشي 2:78/1361، تفسير الصافي 2:88.
7- . التهذيب 6:314/867، تفسير الصافي 2:88.
8- . دعائم الإسلام 1:306.

يقول: هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ» (1).

و عنه عليه السّلام: «من وجب عليه فداء صيد أصابه و هو محرم، فإن كان حاجّا نحر هديه الذي يجب عليه بمنى، و إن كان معتمرا نحر بمكّة قبالة الكعبة» (2).

ثمّ وسّع اللّه تعالى على عباده بجعل البذل للجزاء المذكور بقوله: أَوْ كَفّارَةٌ معيّنة؛ و هي طَعامُ مَساكِينَ و إطعام للفقراء أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطّعام و مساويه، و هو يكون صِياماً .

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن محرم أصاب نعامة أو حمار وحش، قال: «عليه بدنة» . قيل: فإن لم يقدر على بدنة؟ قال: «فليطعم ستّين مسكينا» . قيل: فإن لم يقدر على أن يتصدّق؟ قال: «فليصم ثمانية عشر يوما، و الصّدقة مدّ على كلّ مسكين» .

و سئل عن محرم أصاب بقرة، قال: «عليه بقرة» . قيل: فإن لم يقدر على بقرة؟ قال: «فليطعم ثلاثين مسكينا» . قيل: فإن لم يقدر على أن يتصدّق؟ قال: «فليصم تسعة أيّام» . قيل: فإن أصاب ظبيا؟ قال: «عليه شاة» . قيل: فإن لم يقدر؟ قال: «فإطعام عشرة مساكين، فإن لم يجد ما يتصدّق به فعليه صيام ثلاثة أيّام» (3).

في بيان عن السجّاد عليه السّلام، في حديث الزّهري: «أ و تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟» ، قال: [قلت:]لا أدري. قال: «يقوّم الصّيد قيمة، ثمّ تفضّ تلك القيمة على البرّ، ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعا، فيصوم لكلّ نصف صاع يوما» (4).

و في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا أصاب المحرم الصّيد و لم يجد ما يكفّر في موضعه الذي أصاب فيه الصّيد قوّم جزاؤه من النّعم دراهم، ثمّ قوّمت الدّراهم طعاما لكلّ مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر على الطّعام صام لكلّ نصف صاع يوما» (5).

و عنه عليه السّلام، في محرم قتل نعامة، قال: «عليه بدنة، فإن لم يجد فإطعام ستّين مسكينا» [و قال: إن كان قيمة البدنة أكثر من إطعام ستّين مسكينا لم يزد على إطعام ستّين مسكينا، و إن كان قيمة البدنة أقل من إطعام ستّين مسكينا]لم يكن عليه إلاّ قيمة البدنة» (6).

و إنّما فرض اللّه الكفّارة على قاتل الصّيد حال الإحرام لِيَذُوقَ ذلك القاتل وَبالَ أَمْرِهِ و سوء عاقبة فعله من هتكه حرمة الإحرام.

ص: 436


1- . الكافي 4:384/2، تفسير الصافي 2:88.
2- . الكافي 4:384/3، تفسير الصافي 2:88.
3- . الكافي 4:385/1، تفسير الصافي 2:88.
4- . تفسير القمي 1:186، من لا يحضره الفقيه 2:47/208، تفسير الصافي 2:89.
5- . الكافي 4:387/10.
6- . الكافي 4:386/5.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ هذه الكفّارة إنّما هي إذا كان القتل بعد تحريم الصّيد بقوله: عَفَا اَللّهُ و تجاوز عَمّا سَلَفَ منكم من قتل الصّيد قبل تحريمه، أو من الدّفعة الاولى وَ مَنْ عادَ إلى قتله في حال إحرامه بعد التّحريم و علم القاتل به، أو بعد التعمّد في الدّفعة الاولى فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ و يعذّبه في الآخرة بالنّار وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و غالب لا يغالب ذُو اِنْتِقامٍ شديد ممّن أصرّ على عصيانه.

عن ابن أبي عمير مرسلا: «إذا أصاب المحرم الصّيد خطأ فعليه أبدا في كلّ ما أصاب الكفّارة (1)، فإن عاد فأصاب ثانيا متعمّدا فليس عليه فيه الكفّارة، و هو ممّن قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّهُ مِنْهُ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في الصحيح: «المحرم إذا قتل الصّيد، فعليه جزاؤه و يتصدّق بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيدا آخر، لم يكن عليه جزاؤه، و ينتقم اللّه منه، و النّقمة في الآخرة» (3).

و عليه أكثر الأصحاب-كما قيل (4)-و الأظهر اعتبار العود في إحرام واحد، و كون الدّفعة الاولى أيضا عن عمد، و إن أمكن دعوى الإطلاق، إلاّ أنّه ممنوع.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 96

ثمّ لمّا حرّم اللّه تعالى الصّيد و كان مظنّة فهم العموم، صرّح بتخصيصه بصيد البرّ، و إباحة صيد البحر بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ من السّمك الذي له فلس، سواء اخذ من الماء بعلاج، أو لفظه البحر و نضب عنه الماء و اخذ من غير حيلة و علاج وَ طَعامُهُ و المملوح منه-كما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (5)، و قيل: إنّه مذهب أهل البيت (6)، و قيل: إنّه أعمّ من الطّريّ و المملوح-ليكون مَتاعاً و انتفاعا لَكُمْ أيّها المقيمون وَ لِلسَّيّارَةِ و المسافرين بأن يتزوّدوا به.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «لا بأس بصيد المحرم السّمك و يأكله؛ مالحه و طريّه، و يتزوّد» .

و قال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ قال: «مالحه الذي يأكلون» (7).

وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ اصطيادا و قتلا و إشارة و دلالة و إغلاقا و إغراء للحيوان به، و بيعا و شراء و تملّكا و إمساكا و أكلا ما دُمْتُمْ حُرُماً و عليه يكون نهي الآية أعمّ من النّهي السّابق لا تأكيدا له.

ص: 437


1- . زاد في الكافي: و إذا أصابه متعمدا فإن عليه الكفارة.
2- . الكافي 4:394/3.
3- . التهذيب 5:372/1297.
4- . كنز العرفان 1:327/12.
5- . مجمع البيان 3:380.
6- . مجمع البيان 3:380.
7- . الكافي 4:392/1، تفسير الصافي 2:90.

عن الصادق عليه السّلام: «كلّ طير يكون في الآجام يبيض في البرّ و يفرخ في البرّ فهو من صيد البرّ، و ما كان من صيد البرّ يكون في البرّ و يبيض في البحر فهو من صيد البحر» (1).

و عنه عليه السّلام: «كلّ شيء يكون أصله في البحر و يكون في البرّ و البحر، فلا ينبغي للمحرم أن يقتله، فإن قتله فعليه الجزاء، كما قال [اللّه عزّ و جلّ]» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «لا يأكل المحرم طير الماء» (3).

ثمّ بالغ سبحانه في التّأكيد و الوعيد بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في القيامة-لا إلى غيره-في ما نهاكم عنه من المعاصي التي من جملتها الصّيد في حال الإحرام، فيجازيكم على المخالفة.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 97

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حرمة الإحرام و الحرم، و كونهما سببا لأمن الحيوانات من ضرر الإنسان، بيّن أنّ الكعبة و الحرم، و الأشهر الحرم، و هدي الكعبة أسباب لأمن الإنسان من جميع المخوفات و الآفات، و لنيلهم بالخيرات و السّعادات، بقوله: جَعَلَ اَللّهُ و صيّر اَلْكَعْبَةَ التي تكون لكمال حرمتها عنده و عند أنبيائه اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ المحترم قِياماً لِلنّاسِ و قواما لهم، و ما به صلاح امورهم.

جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

في بيان وجوه كون

الكعبة قياما للناس

قيل في وجه كونها قواما للنّاس امور: الأوّل: أنّ مكّة بلدة لا ضرع فيها و لا زرع، و لا يوجد فيها غالب ما يحتاج إليه أهلها، فجعل الكعبة معظّمة في القلوب حتّى صار أهل الدّنيا راغبين في زيارتها، فيسافرون إليها من كلّ فجّ عميق، و يأتون بجميع ما يحتاج إليه، فصار سببا لإسباغ النّعم على أهلها.

الثاني: أنّ العرب كانت عادتهم القتل و الغارة، و كان أهل الحرم آمنين على أنفسهم و أموالهم حتّى أنّ الرّجل لو رأى قاتل أبيه أو ابنه التجأ بالحرم ما كان يتعرّض له.

الثالث: أنّ أهل مكّة صاروا بسبب الكعبة أهل اللّه و خاصّته، و سادات الخلق إلى يوم القيامة.

ص: 438


1- . الكافي 4:392/1، تفسير الصافي 2:90.
2- . الكافي 4:393/2، تفسير الصافي 2:90.
3- . الكافي 4:294/9، تفسير الصافي 2:90.

الرابع: أنّ اللّه تعالى جعل الكعبة قياما للنّاس في دينهم بسبب ما جعل اللّه فيها [من]المناسك العظيمة و الطّاعات الشّريفة، و جعل تلك المناسك سببا لحطّ السّيّئات و رفع الدّرجات و كثرة الكرامات (1).

و عن الصادق سلام اللّه عليه: «من أتى هذا البيت يريد شيئا في الدّنيا و الآخرة أصابه» (2).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: ما دامت الكعبة قائمة و يحجّ النّاس إليها لم يهلكوا، فإذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا (3).

وَ جعل اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ الذي يؤدّى فيه الحجّ وَ اَلْهَدْيَ الذي يهدى إلى البيت و يذبح عنده وَ اَلْقَلائِدَ التي يقلّدون الهدي بها قياما للنّاس من العرب و أمثالهم، و سببا لراحتهم و السّعة في معائشهم.

أمّا الشّهر الحرام فلترك العرب فيه القتال و الغارة، فلذا كان الخوف يزول عنهم، و كانوا يسافرون للحجّ و التّجارة، و يشتغلون باكتساب منافع الدّين و الدّنيا، و إصلاح المعاش و المعاد.

و أمّا الهدي فكانوا يذبحونه هناك و يفرّقون لحمه بين الفقراء، فيصلح به معيشتهم، و يقوم به أمر دينهم و دنياهم.

و أمّا القلائد-و هي الناقة و البقرة و كلّ ما يجوز في الهدي-فإنّ العرب كانوا مبالغين في التّحرّز عن التّعرّض لها، حتّى إنّهم كانوا يقلّدون رواحلهم عند رجوعهم من مكّة من لحاء شجرة الحرم فيأمنون بذلك، و كانوا يموتون من الجوع و لا يتعرضون لها: و هي أفضل الهدايا، و لذا خصّها بالذّكر.

ثمّ ذكر سبحانه علّة جعل الأمور المذكورة قياما للنّاس بقوله: ذلِكَ الجعل المذكور، أو التّنبيه بذلك لِتَعْلَمُوا بالنّظر إلى المصالح و المنافع الدّينيّة و الدّنيويّة أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ و حقائق جميع الموجودات، و مصالحها و مفاسدها.

ثمّ أكّد سعة علمه بقوله: وَ أَنَّ اَللّهَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء عَلِيمٌ فعلم أنّ طباع العرب مجبولة على الحرص الشّديد بالمال و القتل و الغارة، و علم أنّه لو دامت بهم هذه الحالة لأدّى ذلك إلى فنائهم و انقطاعهم بالكلّية، فشرع لهم حرمة القتال في الأشهر الحرم و في الحرم، و ألزمهم بحرمة البيت الحرام حتّى يقدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه، و إصلاح معاشهم في الأشهر المعيّنة و المكان المعيّن؛ كذا قيل (4).

ص: 439


1- . تفسير الرازي 12:100.
2- . مجمع البيان 3:382، تفسير الصافي 2:90.
3- . تفسير القمي 1:187، تفسير الصافي 2:90.
4- . تفسير الرازي 12:101.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 98

ثمّ أنّه تعالى بعد الإعلام بغاية لطفه، أعلمهم بشدّة عقابه على من عصاه بقوله: اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ على مخالفة أحكامه و هتك حرماته؛ فلا تغترّوا بسعة لطفه و رحمته، و لا تأمنوا من أخذه.

اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ وَ أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)ثمّ بعد تربيته المهابة و الخوف في القلوب، أعلن بسعة غفرانه و رحمته تربية للرّجاء في قلوب العصاة بقوله: وَ اعلموا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالعباد، فلا تيأسوا بكثرة المعاصي من روح اللّه و رحمته.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا» (1).

عن الصادق، عن آبائه عليهم السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عن جبرئيل، قال: «قال اللّه تعالى: من أذنب [ذنبا] صغيرا أو كبيرا، و هو يعلم أنّ لي أن اعذّبه و أن أعفو عنه، عفوت عنه» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 99

ثمّ أنّه سبحانه بعد التّرهيب و التّرغيب حث على طاعة أحكامه، و الزّجر عن العصيان مبالغا في الوعيد عليه بقوله: ما عَلَى اَلرَّسُولِ و ليس في عهدته إِلاَّ اَلْبَلاغُ و قد بلّغ الأحكام و الوعد بالثّواب و الوعيد بالعقاب، و بالغ في بيانها، و خرج عمّا في عهدته من الرّسالة، و بقي عليكم من الطّاعة و الامتثال وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ من الأقوال و الأعمال الحسنة و السّيّئة وَ ما تَكْتُمُونَ و تخفون من الضّمائر و النيّات، و الخلوص و النّفاق، و يجازيكم بحسبها.

ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 100

ثمّ لمّا نهى عن تحريم الطيّبات من الأغذية و الأعمال، و بيّن أنّ الخمر و لحم صيد المحرم من الخبائث، حثّ على الالتزام بالطّيّبات و اجتناب الخبائث بقوله: قُلْ يا محمّد، للنّاس لا يَسْتَوِي عند اللّه و أوليائه، و في حكم العقل السّليم اَلْخَبِيثُ الرّذيل الرّوحاني من الجهل باللّه و عصيانه وَ اَلطَّيِّبُ المستحسن الرّوحاني من المعارف الإلهيّة و طاعته، كما لا يستوي الخبيث و الطّيّب الجسمانيّان في أنظار النّاس و طباعهم، وَ لَوْ أَعْجَبَكَ و سرّك كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ و شيوعه

قُلْ لا يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

ص: 440


1- . تفسير الرازي 12:102.
2- . التوحيد:410/10، تفسير الصافي 2:90.

و تداوله بين النّاس، فإنّ العبرة بالجود و الحسن و الرّداءة و القبح، دون القلّة و الكثرة، و التّعارف بين النّاس و عدمه، فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير.

فإذا كان كذلك فَاتَّقُوا اَللّهَ في مخالفة أوامره و نواهيه يا أُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السّليمة و الإدراكات الصّافية عن كدورات الشّهوات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بأعلى المقاصد من الخيرات الدّنيوية و النّعم الاخرويّة.

قيل: نزلت في حجّاج اليمامة لمّا هم المسلمون أن يوقعوا بهم، بسبب أنّه كان فيهم الحطيم، و قد أتى المدينة في السّنة السّابقة، و استاق سرح (1)المدينة، فخرج في العام القابل-و هو عام عمرة القضاء -حاجا، فبلغ ذلك أصحاب السّرح، فقالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هذا الحطيم خرج حاجا مع حجّاج اليمامة، فخلّ بيننا و بينه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «[إنّه]قلّد الهدي» . و لم يأذن لهم في ذلك، بسبب استحقاقهم الأمن بتقليد الهدايا. فنزلت الآية تصديقا له صلّى اللّه عليه و آله في نهيه إيّاهم (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ النبيّ وظيفته التّبليغ و بيان الأحكام، و كان المسلمون يسألونه عمّا لا يعنيهم من المسائل، نهاهم عن إكثار السّؤال عمّا يوجب التّشديد عليهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا الرّسول عَنْ أَشْياءَ و مطالب و أحكام إِنْ تُبْدَ و تظهر لَكُمْ تلك الأمور ببيان الرّسول تَسُؤْكُمْ و تغمّكم لما ترون من مخالفتها لطباعكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اَللّهُ عَنْها وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)روى أنس أنّهم سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأكثروا المسألة، فقام على المنبر فقال: «سلوني، فو اللّه لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلاّ حدّثتكم به» ، فقام عبد اللّه بن حذافة-و كان يطعن في نسبه- فقال: يا نبيّ اللّه، من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة بن قيس» (3).

في ذكر سؤال

عكاشة

و قال سراقة بن مالك-و يروى عكاشة بن محصن-يا رسول اللّه، الحجّ علينا في كلّ عام؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ويحك و ما يؤمنك أن أقول نعم، و اللّه لو قلت نعم لوجبت، و لو وجبت لتركتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .

ص: 441


1- . السّرح: الماشية.
2- . تفسير روح البيان 2:447.
3- . تفسير الرازي 12:106.

و قام آخر فقال: يا رسول اللّه، أين أبي؟ فقال: «في النّار» . و لمّا أشتّد غضب الرّسول قام عمر و قال: رضينا باللّه ربّا، و بالإسلام دينا، و بمحمّد نبيّا، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

وَ لا عن أشياء إِنْ تَسْئَلُوا الرّسول عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ و في زمان إتيان الوحي تُبْدَ لَكُمْ تلك المسألة و تظهر.

و قيل: إنّ المراد: إن تسألوا عن شيء نزل به القرآن لكّنكم ما فهمتم المراد منه، فهذا السّؤال جائز، و يظهر لكم جوابه.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها فأقبلت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال لها عمر: غطّي قرطك (2)، فإنّ قرابتك من رسول اللّه لا تنفعك شيئا، فقالت له: هل رأيت لي قرطا يا بن اللّخناء (3)، ثمّ دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك و بكت، فخرج رسول اللّه فنادى: الصّلاة جامعة، فاجتمع النّاس فقال: ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع! لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم (4)، لا يسألني اليوم أحد من أبوه إلاّ اخبرته، فقام إليه رجل فقال: من أبي يا رسول اللّه؟ فقال: أبوك غير الذي تدعى له، أبوك فلان بن فلان، فقام آخر فقال: من أبي يا رسول اللّه؟ قال: أبوك الذي تدعى له. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما بال الذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟ فقام إليه عمر فقال له: أعوذ باللّه يا رسول اللّه من غضب اللّه و غضب رسول اللّه، اعف عنّي عفا اللّه عنك. فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية» (5).

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «أنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها» (6).

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ حكمة النّهي عن السّؤال ليست منحصرة في الصّيانة عن مسألة المؤمنين، بل لكونه إيذاء للنبيّ و معصية للّه، بقوله: عَفَا اَللّهُ عن مسائلكم السّابقة و إيذائكم للرّسول، و تجاوز عَنْها وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، و فيه الحثّ على الانتهاء عن المسألة و عدم العود إلى إكثارها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 102

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)

ص: 442


1- . تفسير الرازي 12:106.
2- . القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من ذهب أو فضة أو نحوهما.
3- . اللّخناء: المرأة المنتنة.
4- . في المصدر: أحوجكم.
5- . تفسير القمي 1:188، تفسير الصافي 2:91.
6- . نهج البلاغة:487 الحكمة 105، تفسير الصافي 2:92.

ثمّ بالغ سبحانه في الزّجر عنه حيث وعظهم بأنّ أمثال هذه السّؤالات سؤالات قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ من أنبيائهم، فاجيبوا عنها ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ حيث جحدوا بالأجوبة، و لم يعملوا بها.

قيل: إنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء، فإذا امروا تركوها، فهلكوا (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 103

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن السّؤال عمّا يحتمل أن يكون في جوابه فضيحتهم، أو المشقّة عليهم، نهاهم عن التّكليف بما لم يكلّفهم اللّه به بقوله: ما جَعَلَ اَللّهُ و ما شرع شيئا مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ .

ما جَعَلَ اَللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)عن (المعاني) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت النّاقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلّون نحرها و لا أكلها، فإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة و لا يستحلّون ظهرها و لا أكلها، و الحام: فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه، فأنزل اللّه عزّ و جلّ أنّه لم يحرّم شيئا من ذلك» .

و قد روي أنّ البحيرة: النّاقة إذا أنتجت خمسة أبطن، فإذا كان الخامس ذكرا نحروه و أكله الرّجال و النّساء، و إن كان الخامس انثى بحروا اذنها-أي شقّوها-و كانت حراما على النّساء (2)؛ لحمها و لبنها، فإذا ماتت حلّت للنساء.

و السّائبة: البعير يسيّب بنذر يكون على الرّجل إن سلّمه اللّه من مرض، أو بلغ منزله أن يفعل ذلك.

و الوصيلة: من الغنم، كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن، فإذا كان السّابع ذكرا ذبح و أكل منه الرّجال و النّساء، [و إن كانت أنثى تركت في الغنم]و إن كان ذكرا و انثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح، و كان لحومهما (3)حراما على النّساء إلاّ أن يموت منها شيء فيحلّ أكلها للرّجال و النّساء.

و الحام: الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره.

و يروى أن الحام هو من الإبل، إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب و لا يمنع من كلأ و لا ماء (4).

قيل: إنّ عمر بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكّة، و كان أوّل من غيّر دين إسماعيل، فاتّخذ الأصنام،

ص: 443


1- . تفسير روح البيان 2:449.
2- . زاد في المصدر: و الرّجال.
3- . في المصدر: لحومها.
4- . معاني الأخبار:148/1، تفسير الصافي 2:92.

و نصب الأوثان، و شرع البحيرة و السّائبة و الوصيلة و الحام، و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و لقد رأيته في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه (1)» . و يروى يجرّ قصبه في النّار (2).

و قال ابن عباس: قوله: وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ يريد عمر بن لحي و أصحابه، يقولون على اللّه هذه الأكاذيب و الأباطيل في تحريم هذه الأنعام (3).

و قيل: إنّ الرّؤساء يفترون على اللّه الكذب، فأمّا الأتباع و العوام فهم المعنيون بقوله: وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (2)أنّه افتراء على اللّه حتّى يخالفوهم و يهتدوا إلى الحقّ بأنفسهم.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 104

ثمّ نبّه سبحانه على غاية قصور عقلهم، و انهماكهم في التّقليد بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ على سبيل الارشاد و الهداية تَعالَوْا إِلى قبول ما أَنْزَلَ اَللّهُ من الكتاب المبيّن للحلال و الحرام وَ إِلَى اَلرَّسُولِ المبلّغ عنه، حتّى تقفوا على الحقّ قالُوا عصيانا و عنادا: حَسْبُنا و كفانا دليلا على الحقّ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الاعتقاد و الأعمال.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)ثمّ ردّهم اللّه بقوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدّين، وَ لا يَهْتَدُونَ إلى شيء من الحقّ و الصّواب.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 105

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان انهماك كثير من الكفّار في الضّلال، و إصرارهم على الكفر، أمر المؤمنين بالثّبات على الإيمان، و العمل بأحكام الإسلام، و عدم المبالاة بضلالة أهل الضّلال بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ و التزموا بحفظها من الضّلال و العصيان، و اهتمّوا بتكميلها بحسن الأخلاق، و لا تغتمّوا بانحراف النّاس عن الحقّ، فإنّه لا يَضُرُّكُمْ بوجه من الوجوه مَنْ ضَلَّ عن الحقّ بضلالة إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ بتوفيق اللّه إلى دينه و مرضاته.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)عن القمّي قال: أصلحوا أنفسكم، و لا تتّبعوا عورات النّاس و لا تذكروهم، فإنّه لا يضرّكم ضلالتهم

ص: 444


1- . القصب: المعى، و جمعه أقصاب، و قيل: القصب: اسم للأمعاء كلها، و قيل: هو ما كان أسفل البطن منها. (2 و 3) . تفسير الرازي 12:110.
2- . تفسير الرازي 12:110.

إذا كنتم صالحين (1).

عن (المجمع) : أنّ أبا بكر سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن هذه الآية، فقال: «ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة، و شحّا مطاعا، و هوى متّبعا، و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصّة (2)نفسك» (3).

ثمّ وعد سبحانه و أوعد الفريقين بقوله: إِلَى اَللّهِ وحده مَرْجِعُكُمْ في القيامة جَمِيعاً ضالّكم و مهتديكم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ من الهداية و الضّلالة؛ فيجازيكم على حسب ما تستحقّون.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قبل من أهل الكتاب الجزية و لم يقبل من العرب إلاّ الإسلام أو السّيف، عيّر المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفّار دون بعض فنزلت هذه الآية، أي لا يضرّكم ملامة اللاّئمين، إذا كنتم على الهدى (4).

و قيل: نزلت لمّا أشتدّ على المؤمنين بقاء الكفّار في كفرهم و ضلالهم (5).

و قيل: نزلت لمّا اغتّم المؤمنون لعشائرهم الذين ماتوا على الكفر، فنهوا عن ذلك (6).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 106 الی 107

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه المؤمنين بحفظ أنفسهم من الضّلال و العصيان، أردفه بالأمر بحفظ أموالهم من التّلف و الضّياع، و تعليم طريقه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ و عند تنازعكم إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ و أشرف عليه حِينَ اَلْوَصِيَّةِ هي أن يشهد عليها اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اِعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (107)

ص: 445


1- . تفسير القمي 1:188، تفسير الصافي 2:94.
2- . خويصّة الانسان: الذي يختصّ بخدمته، و يعني عليك بما يتصل بك من خدمك و مواليك و دع ما سواهم. و تطلق على حادثة الموت التي تخصّ كلّ إنسان، و يعني عليك بمبادرتها بالأعمال الصالحة و الاهتمام بها قبل وقوعها.
3- . مجمع البيان 3:392، تفسير الصافي 2:94. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 12:112.

و صلاح مِنْكُمْ و من أهل دينكم، [سواء أ]كان الموصي في الحضر أو في السّفر أَوْ رجلان آخَرانِ كائنان مِنْ غَيْرِكُمْ و ممّن خالفكم في الدّين، و إنّما تقبل شهادتهما إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ و سرتم فِي اَلْأَرْضِ و سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ و نالتكم مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ و قاربكم الأجل.

ثمّ كأنّه قيل: كيف يقيمان الشّهادة؟ فأجاب بقوله: تَحْبِسُونَهُما و تصبّرونهما للتّحليف مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ لتغليط اليمين بشرف الوقت، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه وقتئذ حلف من حلف» (1)، و لأنّه وقت اجتماع النّاس فيثقل على النّفوس الأبيّة الكذب في مشهد النّاس، فيستحلف حينئذ الآخران فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ و لكن هذا إِنِ اِرْتَبْتُمْ أيّها الورّاث فيهما بخيانة في التّركة.

ثمّ يقولون بعد الشّهادة و القسم: إنّا لا نَشْتَرِي بالقسم، أو باللّه و لا نطلب بِهِ لأنفسنا ثَمَناً و عوضا من متاع الدّنيا وَ لَوْ كانَ المقسم له و هو الميّت ذا قُرْبى و متّصلا بالرّحم وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ التي أمرنا اللّه بها و بحفظها، و نهانا عن كتمانها و تضييعها، فإن كتمناها أو ضيّعناها إِنّا إِذاً باللّه لَمِنَ اَلْآثِمِينَ و العاصين.

روي من طريق العامّة أنّ تميم بن أوس الدّاري و عدي بن زيد خرجا إلى الشّام للتّجارة، و كانا حينئذ نصرانيّين، و معهما بديل بن أبي مريم (2)مولى عمرو بن العاص و كان مسلما مهاجرا، فلمّا قدما إلى الشّام مرض بديل، فكتب كتابا فيه أسماء جميع ما معه و طرحه في درج الثّياب، و لم يخبرهما بذلك، و أوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله فمات، ففتّشاه فوجدا فيه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب، فغيّباه و دفعا المتاع إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فقالوا لهما: هل باع صاحبكما شيئا من متاعه؟ قالا: لا، قالوا: فهل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه؟ قالا: لا، إنّما مرض حين قدم البلد، فلم يلبث أن مات. قالوا: فإنّا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه، و فيها إناء منقوش مموّه بالذّهب وزنه ثلاثمائة مثقال. قالا: ما ندري، إنّما أوصى إلينا بشيء و أمرنا أن ندفعه إليكم ففعلنا، و ما لنا بالإناء من علم. فرفعوهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو، أنّهما لم يخونا شيئا مما دفع، و لا كتما، فحلفا على ذلك، فخلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبيلهما.

ثمّ أنّه وجد الإناء في مكّة، فقال من بيده: اشتريته من تميم و عديّ-و قيل: لمّا طالت المدّة أظهراه-

ص: 446


1- . تفسير روح البيان 2:455.
2- . كذا في النسخة و روح البيان أيضا، لكن في اسد الغابة 1:169 بديل بن مارية.

فبلغ ذلك بني سهم (1)أولياء بديل، فطلبوه منهما، فقالا: كنّا اشتريناه من بديل، فقالوا: ألم نقل لكما: هل باع صاحبنا من متاعه شيئا؟ فقلتما: لا. قالا: ما كان لنا بيّنة، فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزل قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ الآية (2).

و عن (الكافي) ، مرفوعا: «خرج تميم الدّاري و ابن بيدي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداري مسلما و ابن بيدي و ابن أبي مارية نصرانيّين، و كان مع تميم الدّاري خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذّهب و قلادة أخرجها إلى أسواق بعض العرب للبيع، فاعتل تميم الداري علّة شديدة، فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بيدي و ابن أبي مارية، و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته، فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة، فقال أهل تميم [لهما]: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا، ما مرض إلاّ أيّاما قلائل. قالوا: فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا: لا، قالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: [فقد]افتقدنا أفضل شيء كان معه؛ آنية منقوشة مكلّلة بالجوهر، و قلادة؟ . فقالا: ما دفع إلينا فقد أدّيناه إليكم، فقدّموهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأوجب عليهما اليمين فحلفا، فخلاّ عنهما» (3).

عن الصادق عليه السّلام، في تفسير الآية: «اللّذان منكم مسلمان، و اللّذان من غيركم [من]أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية، و ذلك إذا مات الرّجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين، أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر (4)، فيقسمان باللّه لا نشتري به ثمنا و لو كان ذا قربى، و لا نكتم شهادة اللّه، إنّا إذا لمن الآثمين. قال: و ذلك إن ارتاب وليّ الميّت (5).

فَإِنْ عُثِرَ و اطّلع بعد حلف الوصيّين عَلى أَنَّهُمَا بشهادتهما بالباطل، و حنثهما في اليمين بالكذب في القول أو الخيانة في المال اِسْتَحَقّا إِثْماً و ارتكبا ذنبا، فلا ينقض الحاكم شهادتهما لاحتمال شرائهما المال من الميّت، فإن ادّعياه و أنكر الوارث فَآخَرانِ يجيئان بعد ظلم الشّاهدين الأولين، و يَقُومانِ مَقامَهُما في الحبس إلى بعد الصّلاة و الحلف، و لكن يشترط أن يكون الآخران مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الحلف.

ص: 447


1- . في تفسير روح البيان: بني سهل.
2- . تفسير روح البيان 2:454.
3- . الكافي 7:5/7، تفسير الصافي 2:95.
4- . في الكافي: الصلاة.
5- . الكافي 7:4/6، تفسير الصافي 2:95.

ثمّ كأنّه قيل: من الذين استحق الكتابيّان المدّعيان للشّراء عليهم الحلف؟ قيل: هما اَلْأَوْلَيانِ بالميّت و الأقربان إليه فَيُقْسِمانِ كلا الآخرين بِاللّهِ لَشَهادَتُنا و حلفنا أَحَقُّ بالقبول و أولى مِنَ حلف الكتابيّين و شَهادَتِهِما مع كونها كاذبة وَ مَا اِعْتَدَيْنا و ما تجاوزنا في شهادتنا، و ما ظلمنا على الكتابيّين بإبطال حقّهما إِنّا إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ على أنفسنا بتعريضها لسخط اللّه بهتك حرمة اسمه المبارك، أو لمن الواضعين للحقّ في غير موضعه.

فتحصّل من الآيتين الشّريفتين أنّ من أشرف على الموت ينبغي أن يوصي و يشهد على وصيّته شاهدين عدلين من أهل الإيمان، فإن لم يوجدا بأن كان في سفر فيشهد رجلين من أهل الكتاب عدلين في دينهما، فإن ارتاب الوارث فيهما يؤمران بأن يحلفا بعد صلاة العصر أنّهما ما كتما الشّهادة و ما خانا في التّركة شيئا، فإن اطّلع على كذبهما في الشّهادة أو خيانتهما في التّركة بأن ظهر بأيديهما شيء منها، و ادّعيا أنّ الميّت ملّكهما إيّاه، و أنكره الورثة، حلف اثنان منهم و عمل بحلفهما.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول: فَإِنْ عُثِرَ إلى آخر الآية أمر أولياء تميم الدّاري أن يحلفوا باللّه على ما أمرهم به فحلفوا، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القلادة و الآنية من ابن بيدي و أبن أبي مارية و ردّهما إلى أولياء تميم الدّاري (1).

و في رواية بعض العامّة: كان تميم الدّاري يقول بعدما أسلم: صدق اللّه و رسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب الى اللّه (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه بقيت تلك الواقعة مخفيّة إلى أن أسلم تميم الدّاري، فلمّا أسلم أخبر بذلك و قال: حلفت كاذبا، و أنا و صاحبي بعنا الإناء بألف و قسّمنا الثّمن، ثمّ دفع خمسمائة درهم من نفسه، و نزع من صاحبه خمسمائة اخرى و دفع الألف إلى موالي الميت (3).

قيل اتّفق العلماء على أنّ هذه الآية أشكل ما في القرآن إعرابا و نظما و حكما (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 108

ثمّ بيّن سبحانه حكمة تشريع هذه الكيفيّة من الشّهادة بقوله: ذلِكَ الحكم الذي ذكرناه، و الطّريق الذي شرعناه أَدْنى و أقرب إلى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ و أن يؤدّيها الشّهود عَلى

ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ (108)

ص: 448


1- . الكافي 7:6/7، تفسير الصافي 2:96. (2 و 3) . تفسير الرازي 12:120.
2- . تفسير روح البيان 2:454.

وَجْهِها و نحوه الذي تحمّلوها على الميّت من غير تحريف و خيانة، من جهة أنّ الشّهود إمّا أن يخافوا بسبب الحلف و التّغليظ فيه من عذاب اللّه أَوْ يَخافُوا من أَنْ تُرَدَّ من قبل الحاكم أَيْمانٌ على الورثة، فيحلفوا على خيانة الشّهود بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فيفتضحوا بإبطال أيمانهم على رؤوس الأشهاد و العمل بأيمان الورثة، فأيّ الخوفين حصل، حصل المقصود، و هو الإتيان بالشّهادة على وجهها.

ثمّ حثّ اللّه سبحانه النّاس على العمل بأحكامه، و حفظ الأمانات و ردّها بقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ أيّها النّاس في شهاداتكم من أن تحرّفوها، و في أيمانكم من أن تكذّبوا فيها، و في أماناتكم من أن تخونوها، و في أحكام دينكم من أن تخالفوها وَ اِسْمَعُوا مواعظ اللّه سمع طاعة و قبول، و لا تكونوا من الفسّاق وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى طريق الجنّة، و لا يوفّق لعمل الخير اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ و الفريق الخارجين عن حدود الشّرع و العقل.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 109

في بيان بعض

أهوال القيامة

ثمّ لمّا كان دأبه سبحانه في كتابه العزيز بعد ذكر جملة من الأحكام العمليّة إمّا بيان مقدار من المعارف الالهيّة تنشيطا للقلوب، أو شرح قصّة من قصص الأنبياء و اممهم اعتبارا و موعظة للنّاس و بعثا لهم إلى امتثال الأحكام، أو ذكر أحوال القيامة ردعا لهم عن مخالفتها، أردف الأحكام المذكورة بذكر أهوال القيامة بقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اَللّهُ اَلرُّسُلَ و اممهم فيه، اذكروا أيّها المؤمنون، و هو يوم القيامة فَيَقُولُ لهم توبيخا لاممهم: ما ذا أُجِبْتُمْ من قبل اممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي و طاعة أحكامي؟ أكانت إجابتهم إجابة إقرار و تسليم، أم إجابة إنكار و جحود؟ قالُوا تشكّيا من اممهم: ربّنا لا عِلْمَ لَنا بما أنت تعلم من ضمائرهم و بواطن قلوبهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ و نحن لا نعلم إلاّ ما أظهروه من الجحود و العصيان.

يَوْمَ يَجْمَعُ اَللّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (109)قيل: إنّ المراد: إنّ علمك محيط بجميع الأشياء، و علمنا في جنب علمك كالمعدوم، فتعلم ما ابتلينا من قبلهم، و كابدنا من سوء إجابتهم، فنلتجئ إليك في الانتقام منهم (1).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ هذا الجواب إنّما يكون في بعض مواطن القيامة و ذلك عند زفرة جهنّم و جثوّ الامم على ركبهم، لا يبقى ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلاّ قال: نفسي نفسي، فعند ذلك تطير

ص: 449


1- . تفسير روح البيان 2:458.

القلوب من أماكنها، فيقول الرّسل من شدّة هول المسألة و هول الموطن: لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب، ثمّ ترجع إليهم عقولهم، فيشهدون على قومهم أنّهم بلّغوا الرّسالة، و أنّ قومهم كيف ردّوا عليهم (1).

و في (المعاني) : عن الصادق عليه السّلام: «يقولون: لا علم لنا بسواك» .

و قال: «القرآن كلّه تقريع، و باطنه تقريب» (2).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ لهذا تأويلا، يقول: ماذا اجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتموهم على اممكم؟ فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا» (3)الخبر.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 110 الی 113

ثمّ لمّا ذكر في أوائل السّورة سوء اعتقاد النّصارى في حقّ عيسى و امّه، و كانوا أحقّ الامم بالتّوبيخ حيث إنّهم تعدّوا من إساءة الأدب بساحة الأنبياء التي كانت لسائر الامم إلى إساءة الأدب بساحة جلال اللّه و كبريائه بقولهم بحلول اللّه تعالى في عيسى، أو أنّه ابنه، شرع في إثبات عبوديّة عيسى بحضرة الرّسل في القيامة، أولا بإظهار المنّة عليه بنعمته بقوله: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ مريم. و في ذكر والدته تقريع على من تكلّم في نسبه بما تكلّم، و على من ادّعى الوهيّته مع كونه متولّدا من امّ.

إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ تُكَلِّمُ اَلنّاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ قالَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ اَلشّاهِدِينَ (113)

ص: 450


1- . تفسير روح البيان 2:458.
2- . معاني الأخبار:232/1، تفسير الصافي 2:97.
3- . الكافي 8:338/535، تفسير الصافي 2:97.

ثمّ شرع في تعداد نعمه التي أنعمها عليه بالأصالة و على امّه بالتّبع بقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ و أعنتك بِرُوحِ اَلْقُدُسِ و واسطة إفاضة العلوم، و هو جبرئيل، و لذا كنت تُكَلِّمُ اَلنّاسَ بكلام الأنبياء، حال كونك طفلا كائنا فِي اَلْمَهْدِ و في حجر أمّك وَ كونك كَهْلاً من غير تفاوت في كلامك بين الوقتين و الحالتين وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ اَلْكِتابَ السّماوي كلّه، أو الكتابة و الخط (1)-كما قيل (2)- وَ اَلْحِكْمَةَ من المعارف و الأحكام وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ الّذين هما أفضل الكتب، و ألهمتك الأسرار المودعة فيهما وَ إِذْ تَخْلُقُ و تسوّي مِنَ اَلطِّينِ هيئته كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ و الخفافيش بِإِذْنِي و إقداري و تعليمي فَتَنْفُخُ فِيها بعد تصويرها فَتَكُونُ تلك الهيئة طَيْراً كسائر الطّيور بِإِذْنِي و إيجادي.

روي أنّ اليهود سألوا منه عليه السّلام على وجه التّعنّت، فقالوا له: اخلق لنا خفّاشا، و اجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالك، فأخذ طينا و جعل منه خفّاشا، ثمّ نفخ فيه فإذا هو يطير بين السّماء و الأرض.

في ذكر عجائب

الخفّاش

قيل: إنّما طلبوا منه خلق الخفّاش لأنّه أعجب من سائر الخلق، و من عجائبه أنّه لحم و دم يطير بغير ريش، و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض سائر الطّيور، و له ضرع يجري منه اللّبن، و لا يبصر في ضوء النّهار و لا في ظلمة اللّيل، و إنّما يرى في ساعتين، بعد غروب الشّمس ساعة، و بعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدّا، و يضحك كما يضحك الإنسان، و يحيض كما تحيض المرأة. فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا و قالوا: هذا سحر (3).

وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ و الأعمى الخلقي وَ اَلْأَبْرَصَ مع عجز جميع الأطبّاء عن إبرائهما و علاجهما بِإِذْنِي و إجابتي لدعائك وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتى من قبورهم بعد إحيائهم فيها بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ و منعت بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ و عن التّعرّض لك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ و أتيتهم بالمعجزات الباهرات، و قصدوك بالسّوء، و عارضوك بالجحود فَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ و جحدوا نبوّتك: ما هذا بإعجاز بل إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة.

وَ اذكر إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ و ألقيت في قلوبهم حين دعوتهم إلى الإيمان أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي، قد مرّ ذكر عدد الحواريّين، و وجه تسميتهم بهذا الاسم في سورة آل عمران (4).

فهم بعد إلقاء اللّه في قلوبهم الإيمان قالُوا : يا عيسى آمَنّا باللّه و بوحدانيّته وَ اِشْهَدْ عنده يوم القيامة بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ له، منقادون لأوامره و نواهيه،

و إِذْ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ مخاطبين لك يا

ص: 451


1- . في تفسير الرازي: و هي الخط.
2- . تفسير الرازي 12:125.
3- . تفسير روح البيان 2:460.
4- . تقدم في تفسير الآية (52) من سورة آل عمران.

عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ .

قيل: كان ذلك منهم في بدو أمرهم و حال عدم استحكام معرفتهم باللّه و يقينهم برسالة عيسى، و لذا أساءوا الأدب بخطابه باسمه و نسبته إلى امّه، و كان حقّهم أن يقولوا: يا رسول اللّه، و يا روح اللّه (1).

هَلْ يَسْتَطِيعُ و يقدر رَبُّكَ على أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً و خوانا (2)عليه الطّعام مِنَ اَلسَّماءِ قيل: إنّ المراد: هل جائز في حكمة اللّه إنزال المائدة من السّماء؟ و هل يعطيك ربّك إن تسأله ذلك؟ ! (3).

أقول: هذان التوجيهان منافيان لما حكاه اللّه عن عيسى عليه السّلام في جوابهم بقوله: قالَ عيسى: اِتَّقُوا اَللّهَ من أمثال هذا السّؤال الكاشف عن شكّكم في قدرته إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته و موقنين به

قالُوا لعيسى اعتذارا: إنّه ما دعانا إلى هذا السّؤال الشّكّ في قدرته تعالى، بل إنّا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها للاستشفاء من أمراضنا على قول، أو لسدّ الرّمق على قول آخر، حيث قيل: إنّ السّؤال كان في زمن المجاعة (4).

وَ تَطْمَئِنَّ بمشاهدتها قُلُوبُنا و يتقوّى علمنا الاستدلالي بالعلم الشّهودي وَ نَعْلَمَ بعين اليقين أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادّعاء الرّسالة، لكون هذه المعجزة أتمّ الأدلّة عليه وَ نَكُونَ عَلَيْها عند أهل العالم مِنَ اَلشّاهِدِينَ حتّى يزداد المؤمنون برسالتك إيمانا، و يؤمن الكافرون بك باطّلاعهم عليها.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 114 الی 115

في كيفية نزول

المائدة

فلمّا أظهروا أغراضا ظاهرة الصّحّة لسؤالهم قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ متضرّعا إلى اللّه: اَللّهُمَّ رَبَّنا اللّطيف بنا، المكمّل لنفوسنا أَنْزِلْ عَلَيْنا بجودك و تفضّلك مائِدَةً و خوانا من الطّعام مِنَ اَلسَّماءِ كي تَكُونُ لَنا تلك المائدة و يوم نزولها عِيداً و سرورا، و يوم سرور لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا و سابقنا و لاحقنا إلى يوم القيامة وَ تكون

قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ اَللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ اُرْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (114) قالَ اَللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ (115)

ص: 452


1- . تفسير روح البيان 2:462.
2- . الخوان: ما يؤكل عليه.
3- . تفسير الرازي 12:129.
4- . تفسير روح البيان 2:462.

آيَةً و دلالة مِنْكَ على كمال قدرتك، و صحّة نبوّتي وَ اُرْزُقْنا المائدة و الشّكر عليها، فإنّك خير المسؤولين وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ تخلق الرّزق و تعطيه بلا منّ و لا عوض.

قالَ اَللّهُ بطريق الوحي لعيسى، إجابة لمسؤوله من إنزال المائدة: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ و مجيب لسؤلكم فَمَنْ يَكْفُرْ بتوحيدي و رسالة رسولي بَعْدُ مِنْكُمْ يا بني إسرائيل مع مشاهدة الآية العظيمة الباهرة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بسبب إصراره على الكفر، و تمرّنه في الضّلال عَذاباً شديدا لا أُعَذِّبُهُ و لا أبتلي بمثله أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ .

في (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «أنّ عيسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما، ثمّ اسألوا اللّه ما شئتم يعطكموه، فصاموا ثلاثين [يوما]، فلمّا فرغوا قالوا: [يا عيسى]إنّا لو عملنا لأحد من النّاس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما، و إنّا صمنا و جعنا، فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السّماء، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة، و سبعة أحوات (1)حتّى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم» (2).

و عن عمّار بن ياسر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [قال]: «نزلت المائدة خبزا و لحما، و ذلك أنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منه» قال: «فقيل لهم: فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبّأوا و ترفعوا، فإن فعلتم ذلك عذّبتم» قال: «فما مضى يومهم حتى خبّأوا و ترفّعوا و خانوا» (3).

و عن سلمان الفارسي رضى اللّه عنه، قال: و اللّه، ما تبع عيسى شيئا من المساوئ قطّ، و لا انتهر يتيما (2)، و لا قهقه ضحكا، و لا ذبّ ذبابا عن وجهه، و لا أخذ على أنفه من نتن شيء قطّ، و لا عبث قطّ.

و لمّا سأله الحواريّون أن ينزّل عليهم المائدة لبس صوفا و بكى و قال: اَللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ الآية، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين و هم ينظرون إليها و هي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السّلام و قال: اللّهمّ اجعلني من الشّاكرين، اللّهمّ اجعلها رحمة و لا تجعلها مثلة و عقوبة. و اليهود ينظرون إليها، ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قطّ، و لم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسى عليه السّلام فتوضّأ و صلّى صلاة طويلة، ثمّ كشف المنديل عنها و قال: بسم اللّه خير الرّازقين. فإذا هو سمكة مشويّة ليس عليها فلوسها، تسيل سيلا من الدّسم، و عند رأسها [ملح]و عند ذنبها خلّ، و حولها أنواع البقول ما عدا الكرّاث، و إذا خمسة أرغفة: على واحد منها زيتون، و على الثّاني عسل،

ص: 453


1- . في النسخة: خوان، تصحيف، صوابه من مجمع البيان، و الأحوات: جمع حوت. (2 و 3) . مجمع البيان 3:410، تفسير الصافي 2:98.
2- . في النسخة: و لا انتهز شيئا.

و على الثّالث سمن، و على الرّابع جبن، و على الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح اللّه أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى: ليس شيء ممّا ترون من طعام الدّنيا، و لا من طعام الآخرة، و لكنّه شيء افتعله اللّه بالقدرة الغالبة، كلوا ما سألتم، يمددكم و يرزقكم (1)من فضله.

فقال الحواريّون: يا روح اللّه، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى؟ فقال عيسى عليه السّلام: يا سمكة، احيي بإذن اللّه تعالى، فاضطربت السّمكة و عاد عليها فلوسها و شوكها ففرقوا منها، فقال [عيسى]: ما لكم تسألون أشياء إذا اعطيتموها كرهتموها! ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا! يا سمكة، عودي كما كنت بإذن اللّه، فعادت السّمكة مشويّة كما كانت، فقالوا: يا روح اللّه، كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن، فقال عيسى: معاذ اللّه أن آكل منها، و لكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا أهل الفاقة و الزّمناء و المرضى و المبتلين فقال: كلوا منها، و لكم الهناء و لغيركم البلاء، فأكل منها ألف و ثلاثمائة رجل و امرأة من فقير و مريض و مبتلى، و كلّهم شبعان يتجشأ (2).

في ذكر مسخ

أصحاب المائدة

ثمّ نظر عيسى إلى السّمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السّماء، ثمّ طارت المائدة صعدا و هم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منها زمن (3)إلاّ صحّ، و لا مريض إلاّ برئ، و لا فقير إلاّ استغنى، و لم يزل غنيّا حتّى مات، و ندم الحواريّون و من لم يأكل منها، و كانت إذا نزلت اجتمعت الأغنياء و الفقراء و الصّغار و الكبار يتزاحمون عليها، فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيئ طارت صعدا و هم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم، و كانت تنزل غبّا يوما و يوما.

فأوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام: اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا و شكّكوا النّاس فيها، فأوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام: إنّي شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه عذبا لا اعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى عليه السّلام: إن تعذّبهم فإنّهم عبادك، و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، فمسخ منهم ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون رجلا، باتوا ليلتهم على فراشهم مع نسائهم في ديارهم، فأصبحوا خنازير يسعون في الطّرقات و الكناسات، و يأكلون العذرة و الحشوش، فلمّا رأى النّاس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السّلام و بكوا، و بكى على الممسوخين أهلوهم، فعاشوا ثلاثة أيّام ثم هلكوا (4).

و في (المجمع) : و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: «كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها و يأكلون

ص: 454


1- . في المصدر: و يزدكم.
2- . تجشأت المعدة: تنفست من امتلاء.
3- . الزّمن: المبتلى بمرض مزمن طالت مدته.
4- . مجمع البيان 3:410، تفسير الصافي 2:98.

منها ثمّ ترتفع، فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها، فرفع اللّه المائدة ببغيهم، و مسخوا قردة و خنازير» (1).

و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام [قال]: «المائدة التي نزلت على بني إسرائيل كانت مدلاّة بسلاسل من ذهب، عليها تسعة أخونة (2)و تسعة أرغفة» (3).

و في رواية: «تسعة ألوان أرغفة» (4).

و في (المجمع) : عن الكاظم عليه السّلام: «أنّهم مسخوا خنازير» (5).

و عن الرضا عليه السّلام: «و الجرّيث و الضبّ فرقة من بني إسرائيل، حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم، لم يؤمنوا فتاهوا، فوقعت فرقة في البحر، و فرقة في البرّ» (6).

و عن (الخصال) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث المسوخات: «و أمّا الخنازير فقوم من النصارى سألوا ربّهم إنزال المائدة عليهم، فلمّا نزلت عليهم كانوا أشدّ ما كانوا كفرا و أشدّ تكذيبا» (7).

قيل: نزلت المائدة يوم الأحد، فاتّخذه النّصارى عيدا (8).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 116

ثمّ بالغ سبحانه في تقريع النّصارى على اتّخاذ عيسى و امّه إلهين بحكاية خطابه في القيامة بما فيه تقريع منه بقوله: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ في القيامة بمشهد من النّصارى: يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ .

وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (116)عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «لم يقل، و سيقول؛ لأنّ (9)اللّه إذا علم شيئا هو كائن أخبر عنه خبر ما قد كان» (10).

و عن بعض المفسّرين أنّه تعالى خاطب عيسى حين رفعه إلى السّماء بقوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ

ص: 455


1- . مجمع البيان 3:412، تفسير الصافي 2:100.
2- . الأخونة: جمع خوان، و هو ما يوضع عليه الطعام ليؤكل، و في نسخة من المصدر: أحوتة.
3- . تفسير العياشي 2:85/1387، تفسير الصافي 2:100.
4- . تفسير العياشي 2:86/1389، تفسير الصافي 2:100.
5- . مجمع البيان 3:410، تفسير الصافي 2:100.
6- . التهذيب 9:39/166، تفسير الصافي 2:101.
7- . الخصال:494/2، تفسير الصافي 2:101.
8- . تفسير الرازي 12:131.
9- . في المصدر: لم يقله و سيقوله إن.
10- . تفسير العياشي 2:86/1392، تفسير الصافي 2:101.

لِلنّاسِ (1) المؤمنين بك: اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ و معبودين لأنفسكم مِنْ دُونِ اَللّهِ و في قباله، فعمل القائلون بالأقانيم بقولك، و ادّعوا أنّ اللّه ثالث ثلاثة؟ قالَ عيسى خضوعا و تواضعا: سُبْحانَكَ و انزّهك من أن يكون لك شريك في شيء تنزيها ما يَكُونُ و ما ينبغي لِي مع معرفتي و تمحّضي في عبوديّتك و الانقياد لأوامرك أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ و أن أدّعي لنفسي غير العبوديّة.

ثمّ فوّض الصّدق و الكذب إلى علمه المحيط بكلّ شيء حفظا للأدب بقوله: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ و تفوّهت به فَقَدْ عَلِمْتَهُ حيث إنّك بإحاطتك بي تَعْلَمُ ما اخفي فِي نَفْسِي و ضميري من المعلومات وَ لا أَعْلَمُ ما خفي فِي نَفْسِكَ و غيبك من معلوماتك. و إنّما عبّر عن خفيّات علمه تعالى بما في نفسه للمشاكلة و الازدواج.

ثمّ أكّد سعة علمه تعالى بقوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ ممّا كان و ممّا يكون.

في ذكر عدد حروف

الاسم الأعظم

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام، في تفسيرها: «أنّ الاسم الأكبر ثلاثة و سبعون حرفا، فاحتجب الربّ تعالى بحرف، فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه عزّ و جلّ، أعطى آدم اثنين و سبعين حرفا فتوارثها الأنبياء حتّى صارت إلى عيسى عليه السّلام، فلذلك قال: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، يعني اثنين و سبعين حرفا من الاسم الأكبر، يقول: أنت علّمتنيها، فأنت تعلمها وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، يقول: لأنّك احتجبت من خلقك بذلك الحرف، فلا يعلم أحد ما في نفسك» (2).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 117

ثم بالغ في تنزيه نفسه من القول الشّنيع بقوله: ما قُلْتُ لَهُمْ من قبلي و لا من قبلك قولا إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ من القول الحق. ثمّ فسّره بقوله: أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ الذي يكون رَبِّي وَ رَبَّكُمْ و خالقي و خالقكم وَ كُنْتُ بحسب وظيفة الرّسالة عَلَيْهِمْ شَهِيداً و رقيبا ما دُمْتُ مقيما فِيهِمْ اراعي أحوالهم و أحملهم على قول الحقّ و العمل الصالح، و أمنعهم عن الضلال و العصيان، أو كنت مشاهدا لأحوالهم من الكفر و الإيمان فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي و قطعت علاقتي من الأرض، و رفعتني إلى

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

ص: 456


1- . تفسير الرازي 12:136.
2- . تفسير العياشي 2:87/1394، تفسير الصافي 2:101.

السّماء كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ و الحافظ المقتدر عَلَيْهِمْ الناظر في أحوالهم و أعمالهم.

ثمّ لأجل دفع توهّم الاختصاص بيّن إحاطته بجميع الموجودات بقوله: وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء و كلّ موجود من الموجودات شَهِيدٌ و رقيب، لا يخرج من سلطانك و نفوذ إرادتك شيء.

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 118

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد تنزيه نفسه من الدّخل (1)في عقائدهم الفاسدة و أعمالهم السيّئة، تبرّأ من الدّخل في مجازاتهم بالشّفاعة و غيرها بقوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على كفرهم و عصيانهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ مقهورون تحت قدرتك مملوكون لك لا تعاملهم إلاّ بالعدل وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ و تعفو عن سيّئاتهم فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ الغالب في إرادتك اَلْحَكِيمُ في أفعالك لا تعفو إلاّ عمّن هو أهل له.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (118)

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 119

ثمّ بيّن سبحانه نفع قول الحقّ و الصّدق إشعارا بتصديق عيسى عليه السّلام بقوله: قالَ اَللّهُ هذا اليوم يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ في الدّنيا صِدْقُهُمْ في القول و الاعتقاد و النيّة و العمل.

قالَ اَللّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (119)ثمّ شرح النّفع بقوله: لَهُمْ جَنّاتٌ و بساتين ملتفّة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً ليس لهم خوف الخروج عنها.

ثمّ بشّرهم بأعلى المنافع و الحظوظ بقوله: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ بطاعتهم و صدقهم في القول و العمل وَ رَضُوا عَنْهُ بنيلهم أعلى الكرامات، و هو مقام الرّضوان و ذلِكَ المقام هو اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و النّجاح بأعلى المقاصد.

عن القمّي رحمه اللّه: الدّليل على أنّ عيسى لم يقل [لهم]ذلك، قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (2).

و عنه باسناده عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: [قال]: «إذا كان يوم القيامة و حشر النّاس للحساب، فيمرّون بأهوال يوم القيامة، و لا ينتهون إلى العرصة حتّى يجهدوا جهدا شديدا» .

ص: 457


1- . كذا، و الظاهر: الدخول أو التدخّل.
2- . تفسير القمي 1:191، تفسير الصافي 2:102.

قال: «ثمّ يقفون بفناء العرش (1)، و يشرف الجبّار عليهم و هو على عرشه، فأوّل من يدعى بنداء يسمع الخلائق أجمعون أن يهتّف باسم محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله النبيّ القرشيّ العربيّ» قال: «فيتقدّم حتّى يقف على يمين العرش» .

قال: «ثمّ يدعى بصاحبكم [علي عليه السّلام]يتقدّم حتّى يقف على يسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ يدعى بامّة محمّد فيقفون على يسار عليّ عليه السّلام، ثمّ يدعى بنبيّ نبيّ و أمّته معه، من أوّل النّبيّين إلى آخرهم و امّتهم معهم فيقفون على يسار العرش.

قال: «ثمّ أوّل من يدعى للمسائلة القلم» ، قال: «فيتقدّم فيقف بين يدي اللّه في صورة الآدميّين فيقول [اللّه]: هل سطّرت في اللّوح ما ألهمتك و أمرتك به [من الوحي]؟ فيقول القلم: نعم يا ربّ، قد علمت أنّي سطّرت في اللّوح ما أمرتني و ألهمتني به من وحيك. فيقول اللّه: فمن يشهد لك بذلك؟ فيقول: يا ربّ، هل اطّلع على مكنون سرّك غيرك؟ فيقول له [اللّه]: أفلحت حجّتك.

ثمّ يدعى باللّوح فيتقدّم في صورة الآدميّين حتّى يقف مع القلم، فيقول له: هل سطر فيك القلم ما ألهمته و أمرته به من وحيي؟ فيقول اللّوح: نعم يا ربّ، و بلغته إسرافيل، ثمّ يدعى بإسرافيل، فيتقدّم إسرافيل، مع اللّوح و القلم في صورة الآدميّين فيقول اللّه: هل بلّغك اللّوح ما سطّر فيه القلم من وحيي؟ فيقول: نعم يا ربّ، و بلّغته جبرائيل، فيدعى بجبرائيل [فيتقدم]حتّى يقف مع إسرافيل فيقول اللّه له: هل بلّغك إسرافيل ما بلّغ؟ فيقول: نعم يا ربّ، و بلّغته جميع أنبيائك، و أنفذت إليهم جميع ما انتهى إليّ من أمرك، و أديت رسالاتك إلى نبيّ نبيّ و رسول رسول، و بلّغتهم كلّ وحيك و حكمتك و كتبك، و إنّ آخر من بلّغته رسالتك و وحيك و حكمتك و علمك و كتابك و كلامك محمّد بن عبد اللّه العربيّ القرشيّ الحرميّ حبيبك» .

قال أبو جعفر عليه السّلام: «فأوّل من يدعى للمسائلة من ولد آدم محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيدنيه اللّه حتّى لا يكون خلق أقرب إلى اللّه يومئذ منه، فيقول اللّه: يا محمّد، هل بلّغك جبرئيل ما أوحيت إليك و أرسلته به إليك من كتابي و حكمتي و علمي، و أوحاه إليك؟ فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم يا ربّ، قد بلّغني جبرئيل جميع ما أوحيته إليه و أرسلته به من كتابك و حكمتك و علمك، و أوحاه إليّ. فيقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: هل بلّغت امّتك ما بلّغك جبرئيل من كتابي و حكمتي و علمي؟ فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم يا ربّ، قد بلّغت امّتي جميع ما اوحي إليّ من كتابك و حكمتك و علمك، و جاهدت في سبيلك.

فيقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: فمن يشهد لك بذلك؟ فيقول محمّد صلّى اللّه عليه و آله: يا ربّ، أنت الشّاهد لي بتبليغ

ص: 458


1- . في المصدر: العرصة.

الرّسالة، و ملائكتك، و الأبرار من امّتي، و كفى بك شهيدا. فيدعى بالملائكة فيشهدون لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ الرّسالة [ثمّ يدعي بأمه محمّد فيسألون: هل بلّغكم محمد رسالتي و كتابي و حكمتي و علمي و علّمكم ذلك؟ فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرسالة]و الحكمة و العلم.

فيقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: هل استخلفت في امّتك من بعدك من يقوم فيهم بحكمتي و علمي، و يفسّر لهم كتابي، و يبيّن لهم ما يختلفون فيه من بعدك حجّة لي، و خليفة في الأرض؟ فيقول محمّد: نعم يا ربّ، قد خلّفت فيهم عليّ بن أبي طالب أخي و وزيري و وصيّي و خير امّتي، و نصبته لهم علما في حياتي، و دعوتهم إلى طاعته، و جعلته خليفتي في امّتي [و إماما]تقتدي به الامّة بعدي إلى يوم القيامة، فيدعى بعليّ بن أبي طالب» .

إلى أن قال: «فيدعى بإمام إمام، و بأهل عالمه، فيحتجّون بحجّتهم، فيقبل اللّه عذرهم، و يجيز حجّتهم. قال: ثمّ يقول اللّه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» (1).

سوره 5 (المائدة): آیه شماره 120

ثمّ بيّن اللّه سعة ملكه، و عظم سلطانه، و كمال قدرته، إبطالا لدعاوى النّصارى، و تقريرا لما وعد الصّادقين بقوله: لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ من الموجودات يتصرّف فيها كيف يشاء وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، و في قوله: وَ ما فِيهِنَّ تنبيه على أنّ جميع الموجودات، لكونها مقهورة تحت قدرته و قضائه، بمنزلة الجمادات التي لا قدرة لها على شيء.

لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)الحمد للّه الذي أيّدني لإتمام سورة المائدة، و أسأله الإنعام عليّ بالتّوفيق لإتمام ما يتلوها من سورة الأنعام.

ص: 459


1- . تفسير القمي 1:191، تفسير الصافي 2:102.

ص: 460

في تفسير سورة الأنعام

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 1

في بيان وجه

نظم سورة الأنعام

ثمّ لمّا تمّت السّور التي كان أهمّ المقاصد فيهنّ محاجّة اليهود و النّصارى الّذين هم أعلم الملل الباطلة، و إبطال شبهاتهم و عقائدهم الفاسدة، و بيان ما ينتظم به امور المعاد و المعاش، من أحكام العبادات و السّياسات، و حقوق النّاس، و المحلّلات و المحرّمات من الأطعمة و الأشربة و المناكح، و المنّة على المسلمين بتكميل الدّين و إتمام النّعمة بنصب الحجّة على العالمين، ثمّ ختم المائدة ببيان كمال قدرته و عظمة سلطنته، انتظمت سورة الأنعام المبتدأ فيها بالحمد على نعمائه، و تأكيد ما في آخر السّورة السّابقة بإعادة بيان كمال قدرته، و شرح ملكيّته بالملكيّة الإشراقية الإيجاديّة المشتملة على محاجّة المشركين الّذين هم أجهل الملل، و إبطال بدعهم، و بيان بعض أحكام الأطعمة، و غير ذلك من الوجوه الموجبة لحسن النّظم.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُماتِ وَ اَلنُّورَ ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)فابتدأ فيها بقوله: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، و قد مرّ تفسيره، ثمّ بحمد ذاته المقدّسة بقوله: اَلْحَمْدُ بجميع أنواعه و أفراده، و الثّناء الجميل بأيّ نحو وجد ملك لِلّهِ و مختصّ بالواجب المستجمع لجميع الكمالات لا يشركه فيه غيره حمد أم لم يحمد.

ثمّ عرّف ذاته المقدّسة بكمال القدرة وسعة الإنعام تقريرا لاختصاصه به و حثّا عليه بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ و سوّى بقدرته و حكمته اَلسَّماواتِ و ما فيها من الكواكب و الملائكة وَ اَلْأَرْضَ و ما عليها و فيها من الحيوانات و النّباتات و غيرها.

و تخصيصهما بالذّكر لكونهما أعظم المخلوقات الجسمانيّة في الأنظار. و قد مرّ وجه جمع السّماوات و إفراد الأرض مع كونها مثلهنّ. و إنّما قدّم ذكر السّماوات مع تأخّرهنّ في الوجود من الأرض، لكونهنّ أعظم و أشرف في الأنظار، و لنزول البركات منهنّ، و كونهنّ بمنزلة الآباء للمواليد،

ص: 461

و الأرض بمنزلة الامّ.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّه لمّا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كان ردّا على الدّهريّة الّذين قالوا: إنّ الأشياء لا بدو لها و هي قائمة» (1).

وَ جَعَلَ و أنشأ اَلظُّلُماتِ إنّما جمعها لكثرة أسبابها وَ اَلنُّورَ أفرده لأنّه بسبب واحد، قيل: هو النّار، و إنّما قدّمت الظّلمات في الذّكر لكونها عدميّة، و مقدّمة على النّور الذي هو وجودي (2).

روي أنّ اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثمّ رشّ عليهم من نوره (2).

و روي أنّها نزلت تكذيبا للمجوس في قولهم: اللّه خالق النّور، و الشّيطان خالق الظّلمات (4).

و قيل: على ذلك خلق الخير و الشرّ (5).

عن ابن عباس رضى اللّه عنه، قال: جَعَلَ اَلظُّلُماتِ وَ اَلنُّورَ أي ظلمة الشّرك و النّفاق و الكفر، و النّور يريد نور الإسلام (3). و عليه يكون إفراد النّور لأنّ الحقّ واحد، و جمع الظّلمات لأنّ الباطل كثير.

ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المشركين و استبعد مع ذلك من عقلهم الشّرك بقوله: ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باعتقاد الشّرك بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ و يشركون مع دلالة جميع الموجودات على وحدانيّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 2

ثمّ استدلّ بأوضح الأدلّة عند الإنسان على كمال قدرته و أتمّ النّعمة عليه بقوله: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ و أوجدكم مِنْ طِينٍ لأنّ مبدأ وجود البشر آدم، و هو مخلوق من طين، أو لأنّ مبدأ وجودهم النّطفة، و هي متكوّنة من الأغذية النّباتيّة المتولّدة من طين ثُمَّ بعد الخلق قَضى و قدّر لكلّ واحد أَجَلاً خاصّا به، و أمدا معيّنا يؤخّر إليه موته، وَ له أَجَلٌ آخر و وقت مضروب مُسَمًّى و معيّن عِنْدَهُ مثبّت في اللّوح المحفوظ، لا يطّلع عليه غيره.

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (4)

في أنّ لكلّ إنسان

أجلين محتوم

و مسمى

عن القمّي: عن الصادق عليه السّلام: «الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه اللّه و حتمه، و المسمّى هو الذي فيه البداء، يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير» (5).

حكي عن حكماء الإسلام أنّ لكلّ إنسان أجلين: الأجل الطّبيعي، و الأجل الاخترامي. أمّا الطّبيعي؛

ص: 462


1- . الاحتجاج:28، تفسير الصافي 2:106، و في الاحتجاج: و هي دائمة.
2- . تفسير الرازي 12:151. (4 و 5) . تفسير روح البيان 3:3.
3- . تفسير الرازي 12:151.
4- . تفسير الرازي 12:151.
5- . تفسير القمي 1:194، تفسير الصافي 2:107.

فهو الذي لو بقي ذلك المزاج و لم تعترضه العوارض الخارجيّة، لانتهت مدّة بقائه إلى أنّ تتحلّل رطوبته و تنطفئ حرارته الغريزيّتان. و أمّا الاخترامي: فهو الذي يحصل بالعوارض كالغرق و الحرق و غيرهما من المهلكات (1).

و قيل: إنّ المراد من الأجل المقضيّ: مدّة عمره في الدّنيا، و من الأجل المسمّى: مدّة عمره في الآخرة، فإنّه لا آخر لها، و لا يعلم كيفيّة الحال فيها إلاّ اللّه (2).

و قيل: إنّ الأوّل مدّة حياة الدّنيا، و الثّاني مدّة البرزخ (3).

ثمّ بالغ سبحانه في استبعاد الشّرك منهم مع ذلك، أو في استبعاد إنكارهم البعث بقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ أيّها المشركون تَمْتَرُونَ و تشكّون في توحيد اللّه، أو البعث مع كون الإعادة أهون من الابتداء.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد تخصيص خلق العالم بنفسه خصّ استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله: وَ هُوَ اَللّهُ و المعبود المطلق فِي اَلسَّماواتِ و الملكوت الأعلى وَ فِي اَلْأَرْضِ و عالم الملك.

وَ هُوَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)عن الصادق عليه السّلام: «كذلك هو في كلّ مكان» (4).

ثمّ لمّا كانت معرفته باستحقاق العبادة لا توجب الانبعاث إليها إلاّ بعد معرفته بالعلم الكامل بضمائر العباد و أعمالهم، عرّف ذاته المقدّسة بسعة العلم بقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ و خفيّاتكم من العقائد و النيّات وَ جَهْرَكُمْ و إعلانكم من الأقوال و الأعمال وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ و تحصّلون لأنفسكم من الخير و الشرّ، و الطّاعة و العصيان، فيجازيكم على جميع ذلك بما تستحقّون.

عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «و لكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علما و قدرة و إحاطة و سلطانا، ليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السّماء، لا يبعد منه شيء، و الأشياء عنده سواء علما و قدرة و سلطانا و ملكا و إحاطة» (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 4 الی 5

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

ص: 463


1- . تفسير روح البيان 3:5. (2 و 3) . تفسير الرازي 12:153. (4 و 5) . التوحيد:133/15، تفسير الصافي 2:107.

ثمّ لمّا كان بيان هذه المعارف من النبيّ الاميّ بالعبارات التي فيها الإعجاز من الأدلّة الواضحة على صدق نبوّته، وبّخ سبحانه المشركين على عدم الالتفات إليها، و ترك التّأمّل فيها و الاعتناء بها بقوله: وَ ما تَأْتِيهِمْ و ما ينزل عليهم مِنْ آيَةٍ و حجّة واضحة مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ و حججه الباهرة على صدق نبوّته إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ و بها غير معتنين، بل إلى تكذيبها مسارعين، بل بها مستهزئين

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ و القرآن المقترن بدلائل الصّدق، أو بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله لَمّا جاءَهُمْ و أنزل إليهم، أو بعث فيهم، و استهزؤا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ و يبيّن لهم أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و صدق ما أخبروا به من العذاب في الدّنيا بقتلهم بأيدي المسلمين، و في الآخرة بتصليتهم في نار الجحيم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 6

ثمّ أشهد على صدق وعيده بما نزل من العذاب على الامم الماضية و وعظهم به بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا أولئك المكذّبون، و لم يعلموا علما يكون بمنزلة الرّؤية كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ و أهل عصر، كقوم عاد و ثمود، و قوم نوح و لوط و أضرابهم.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا اَلْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)ثمّ كأنّه قيل: كيف كان حالهم؟ فأجاب بقوله: مَكَّنّاهُمْ و أقدرناهم فِي اَلْأَرْضِ و أعطيناهم من البسطة في الجسم و السّعة في المال ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ و مقدارا لم نعطكموه وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّماءَ و أنزلنا عَلَيْهِمْ مطرا مِدْراراً غزيرا متتابعا وَ جَعَلْنَا و صيّرنا اَلْأَنْهارَ الكثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ في مساكنهم و بساتينهم، فهم لم يشكروا تلك النّعم، بل قابلوها بالكفر و التّكذيب للرّسل و الاستهزاء بالآيات فَأَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستئصال بِذُنُوبِهِمْ و سيئات عقائدهم و أعمالهم، و لم يعظم علينا إهلاكهم، لأنّا عمّرنا الأرض بغيرهم وَ أَنْشَأْنا و خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ بدلا منهم قَرْناً آخَرِينَ فاعتبروا أيّها المشركون بهم، و أحذروا أن تكونوا مثلهم، و يعاملكم اللّه معاملتهم بكفركم و طغيانكم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 7

ثمّ قطع اللّه رجاء رسوله عن إيمانهم بعد التّهديد و الوعظ و رؤية الآيات بقوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ

ص: 464

من السّماء كِتاباً تماما كالتّوراة، و كان مكتوبا فِي قِرْطاسٍ و ورق كما اقترحوه و شاهدوا نزوله بأعينهم فَلَمَسُوهُ بعد نزوله بِأَيْدِيهِمْ كي لا يبقى لهم شكّ في كونه كتابا نازلا من السّماء، و اللّه لَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على الكفر طعنا فيه، و عنادا للحقّ: إِنْ هذا الكتاب، و ما هو إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة لكلّ أحد.

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)روي أنّ بعض المشركين قالوا: يا محمّد، لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند اللّه، معه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند اللّه، و أنّك رسوله، فأنزل اللّه: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الآية (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية بعض اقتراحات المشركين، حكى بعض اعتراضاتهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يشهد بصدق نبوّته، فإنّه أقرب إلى قبول قوله؛ لأنّ كلّ من يرى الملك يقبل قوله، و يؤمن به، فرد اللّه ذلك بقوله: وَ لَوْ أَنْزَلْنا من السّماء مَلَكاً بصورته الأصليّة لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ و انقطع صحّة التّكليف، لكون إيمانهم بالإلجاء كما في القيامة، فحقّ إهلاكهم ثُمَّ إذن لا يُنْظَرُونَ و لا يمهلون، فيفاجأهم عذاب الاستئصال؛ لكون رؤية الملك كرؤية الآخرة لا ينفع الإيمان بعدها،

وَ لذا لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً يعاينوه لَجَعَلْناهُ رَجُلاً و صوّرناه بصورة البشر كضيفان إبراهيم و لوط، و كالملكين المتخاصمين عند داود، و كجبرئيل المتصوّر عند النبيّ بصورة دحية الكلبي؛ لأنّ الأبصار لا تقوى لرؤية الملك في هذا العالم الجسماني، وَ إذن لَلَبَسْنا و شبّهنا (2)الأمر عَلَيْهِمْ نحو ما يَلْبِسُونَ و يشبّهون (3)؛ لأنّهم يظنّون أنّه بشر، فيعود اعتراضهم بقولهم: ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً (4)، و لذا استحال أن يجعل الرّسل ملائكة لعدم الفائدة فيه.

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)

في محاجة

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع

المشركين

عن العسكري عليه السّلام، قال: «قلت لأبي عليّ بن محمّد: هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يناظر اليهود و المشركين إذا عاتبوه و يحاجّهم؟ قال: [بلى]مرارا كثيرة، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة، إذ ابتدأ عبد اللّه بن [أبي]اميّة المخزومي فقال: يا محمّد، لقد ادّعيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، و لا ينبغي

ص: 465


1- . تفسير روح البيان 3:11.
2- . في النسخة: و اشتبهنا.
3- . في النسخة: يشتبهون.
4- . المؤمنون:23/24.

لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا، و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيّا لكان يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمّد إلاّ [رجلا]مسحورا و لست بنبيّ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ أنت السّامع لكلّ صوت، و العالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل [اللّه]عليه: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ إلى قوله: ما يَلْبِسُونَ .

ثمّ قال رسول اللّه: و أمّا قولك: و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده، بل لو أراد [اللّه] أن يبعث إلينا نبيّا، لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، فالملك لم تشاهده حواسّك لأنّه من جنس هذا الهواء، لا عيان منه، و لو شاهدتّموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم: ليس هذا ملكا، بل هذا بشر؛ لأنّه إنّما يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه، لتفهموا عنه مقاله، و تعرفوا خطابه و مراده، و كيف كنتم تعلمون صدق الملك و أن ما يقوله حقّ، بل إنّما بعث اللّه بشرا، و أظهر على يده المعجزات التي ليست في طباع البشر الّذين قد علمتم ضمائر قلوبهم، فتعلمون بعجزكم عمّا جاء به أنّه معجز، و أنّ ذلك شهادة من اللّه بالصّدق له، و لو ظهر لكم ملك و ظهر على يده ما يعجز عنه البشر، لم يكن في ذلك ما يدلّكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتّى يصير ذلك معجزا، ألا ترون الطّيور التي تطير، ليس ذلك منها بمعجز؛ لأنّ لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها، و لو أنّ آدميّا طار كطيرانها كان ذلك معجزا، فاللّه عزّ و جلّ سهّل عليكم الأمر و جعله مثلكم بحيث تقوم عليكم حجّته، و أنتم تقترحون عمل الصّعب الذي لا حجّة فيه» (1)الحديث.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 10

ثمّ لمّا حكى اللّه تعالى إعراض المشركين عن المعجزات، و استهزاءهم بها، و إصرارهم على الكفّر، و عدم تأثّر قلوبهم بالنّصح، و كانت كلّها سببا لحزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّى قلب حبيبه بقوله: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرة مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السّابقة على بعثتك، و هم صبروا على استهزائهم فَحاقَ و أحاط، أو حلّ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ عقيب استهزائهم و سخريتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الدّين، أو العذاب الذي كان النبيّ يخبرهم به و هم يستهزءون به. و فيه وعد النبيّ بإهلاك المستهزئين به، فأنجز اللّه وعده يوم بدر.

وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

ص: 466


1- . الاحتجاج:29، تفسير الصافي 2:109.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 11

ثمّ لمّا ذكر اللّه في تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استهزاء قومه به، أمره بتهديدهم و إنذارهم بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين المكذّبين بك: سِيرُوا و سافروا فِي أقطار اَلْأَرْضِ لتعرفوا أحوال الأمم الماضية ثُمَّ اُنْظُرُوا بأبصاركم، و تفكّروا بقلوبكم في أنّه كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ بالرّسل و إلى ما صار مآل إعراضهم عن الآيات الإلهيّة، فاعتبروا ممّا نزل بهم من عذاب الاستئصال، و لا تغترّوا بما أنتم فيه من الصحّة و القوّة و النّشاط و السّعة.

قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ اُنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (11)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 12

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بعد تهديد المشركين و نصحهم بإلزامهم بالتّوحيد بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين و اسألهم عن أنّه: لِمَنْ يكون ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الموجودات خلقا و ملكا و تصرّفا؟

قُلْ لِمَنْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)فلمّا كان الجواب من أبده البديهيّات عند العقلاء بحيث لا ينبغي الخلاف فيه، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالمبادرة إليه بقوله: قُلْ كلّها لِلّهِ وحده لا شريك له، إيماء إلى أنّ هذا السّؤال ليس من حقّه الانتظار في الجواب، بل حقّه أن يبادر إلى جوابه بالاعتراف بأنّ الكلّ للّه؛ لظهور آثار الحدوث و الإمكان في الأجسام، و احتياج الحادث إلى الصّانع الواجب من أبده البديهيّات.

ثمّ بشّر برحمته على عباده مع كمال عظمته و قدرته تربية للرّجاء في القلوب بقوله: كَتَبَ و حتم عَلى نَفْسِهِ و ذاته المقدّسة اَلرَّحْمَةَ و العطوفة على العباد، و لذا لا يعجل على من أشرك به و عصاه بالعقوبة، و يقبل منهم التّوبة.

و قيل: إنّ المراد بالرّحمة: الهداية إلى معرفته بنصب الدّلائل على توحيده (1)و كمال صفاته.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لمّا فرغ اللّه من الخلق كتب كتابا: إنّ رحمتي سبقت غضبي» (2).

أقول: الظّاهر من سبق الرّحمة هو الغلبة و الكثرة، لا السّبق الزّماني.

و عن سلمان الفارسي رضى اللّه عنه: أنّه تعالى لمّا خلق السّماء و الأرض خلق مائة رحمة، كلّ رحمة ملء ما بين السّماء و الأرض، فعنده تسع و تسعون رحمة و واحدة بين الخلائق فيها يتعاطفون و يتراحمون، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتّقين (3).

ص: 467


1- . جوامع الجامع:123.
2- . تفسير الرازي 12:165.
3- . تفسير الرازي 12:165.

ثمّ أردف البشارة بالرّحمة بالتّهديد بالعقوبة تربية للخوف بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللّه و يبعثنّكم من القبور إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ الذي لا رَيْبَ لعاقل فِيهِ .

و قيل: إنّ من شؤون رحمته بالعباد جمع النّاس في يوم القيامة، و جعل دار الجزاء و الوعيد بها، و إلاّ لحصل الهرج و المرج، و لارتفع الضّبط و كثر الخبط (1)، و اختلّ النّظام.

ثمّ نبّه اللّه سبحانه على أنّ ترك الإيمان بالتّوحيد مع سعة رحمته تعالى، و الوعيد بالعقاب على الشّرك غاية الخسران بقوله: اَلَّذِينَ خَسِرُوا و غبنوا أَنْفُسَهُمْ و أضرّوا عليها بتضييع رأس المال من الفطرة الأصليّة و العقل السّليم، باتّباع الهوى و الانهماك في الشّهوات فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بوحدانيّة اللّه، بل يصرّون على الشّرك و العصيان، و لذا يخرجون عن قابليّة شمول الرّحمة الواسعة، و يستحقّون العذاب الدّائم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر كونه مالك المكان و المكانيّات من السّماوات و الأرض و ما فيهما، ذكر أنّه مالك الزّمان و الزّمانيّات بقوله: وَ لَهُ ما سَكَنَ و استقرّ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ و اشتملا عليه من الموجودات، أو ما سكن و تحرّك فيهما.

وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (13) قُلْ أَ غَيْرَ اَللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (14)روي أنّ كفّار مكّة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، قد علمنا أنّه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الفقر و الحاجة، فنحن نجمع لك من القبائل أموالا تكون أغنانا رجلا، و ترجع عمّا أنت عليه من الدّعوة، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد التّنبيه على كونه مالك جميع الموجودات، نبّه على إحاطته بها علما بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لكلّ المسموعات اَلْعَلِيمُ بجميع المعلومات، فيسمع نداء المضطرّين، و يعلم حاجات المحتاجين.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سعة ملكه و رحمته، و كمال غناه و إحاطته، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يعلن بتخصيصه بولايته، و إعراضه عن ولاية غيره بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين إنكارا على نفسك: أَ غَيْرَ اَللّهِ من مخلوقاته أَتَّخِذُ و أختار لنفسي وَلِيًّا و كافلا و معبودا؟ ! حاشاي من ذلك، مع أنّه تعالى

ص: 468


1- . تفسير الرازي 12:166.
2- . تفسير روح البيان 3:15.

بكمال قدرته كان فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما من غير مثال، وَ هُوَ بجوده و غناه يُطْعِمُ و يرزق جميع الموجودات، و يوصل إليها ما تحتاج إليه وَ لا يُطْعَمُ و لا يرزق، و لا يحتاج إلى شيء، و لا ينتفع بشيء، فهو تعالى جواد بالذّات غنيّ بالذّات، و غيره عاجز فقير محتاج. فالعدول عن ولاية القادر الغنيّ الجواد إلى ولاية العاجز الفقير المحتاج غاية الجهل، و عين السّفه.

ثمّ بعد إقامة البرهان العقلي على عدم جواز العدول عن اللّه إلى غيره في الولاية و العبادة، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلام النّاس بوجوب ولايته و التّمحّض بعبوديّته بقوله: قُلْ للنّاس: إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه و نفسه، و خصّ ولايته و عبادته به، و أمر غيري أن يكون تابعا في ذلك، و نهيت عن التّوجّه إلى غيره حيث خاطبني اللّه بقوله: وَ لا تَكُونَنَّ يا محمّد مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بي و بعبادتي و ولايتي.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 15

ثمّ لمّا أمر النّاس بتخصيص اللّه بالولاية و العبوديّة، و نهاهم عن الشّرك بأبلغ بيان، و كان من لوازم مخالفة أمر اللّه و نهيه العقوبة، أمر بإظهار الخوف من المخالفة تخويفا للنّاس من العذاب، و ردعا لهم عن العصيان بقوله: قُلْ يا محمّد، لعموم النّاس و خصوص المشركين: إِنِّي مع قربي و رسالتي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي و خالفت نهيه في اختيار الشّرك عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أهواله و عذابه، و هو يوم القيامة.

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)عن الصادق عليه السّلام: «ما ترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قول: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ حتّى نزلت سورة الفتح، فلم يعد إلى ذلك الكلام» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 16

ثمّ أشار إلى آثار رحمته و ولايته بقوله: مَنْ يُصْرَفْ و يدفع عَنْهُ العذاب يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ اللّه، و تفضّل عليه بأن وفّقه في الدّنيا للتبرّؤ عن الشّرك و السّيّئات، و للقيام بالأعمال الصّالحات وَ ذلِكَ الصّرف أو الرّحم هو اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ و النّجاح بأعلى المقاصد.

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ (16)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «و الذي نفسي بيده ما من النّاس أحد يدخل الجنّة بعمله» . قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه، قال: «و لا أنا، إلاّ أن يتغمّدني اللّه برحمته» . و وضع يده فوق رأسه، و طوّل بها صوته (2).

ص: 469


1- . تفسير العياشي 2:175/1947، تفسير الصافي 2:111.
2- . تفسير الرازي 12:171.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر البرهان العقلي و الأمر الإلهي علّة لوجوب اختصاص ولايته باللّه، ذكر علّة ثالثة له بقوله: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ و يبتليك بِضُرٍّ و بلاء كالمرض و الفقر و نحوهما فَلا كاشِفَ و لا دافع لَهُ بقدرته إِلاّ هُوَ تعالى وحده وَ إِنْ يَمْسَسْكَ و يصبك بِخَيْرٍ و نفع من سرور و صحّة و غنى و أمثالها، فلا قادر على منعه فَهُوَ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الضرّ و الخير و إبقائهما و رفعهما، و غير ذلك من الأمور قَدِيرٌ لا يمنعه عن إنفاذ إرادته مانع.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، أنّه [قال]: اهدي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغلة، أهداها كسرى، فركبها بحبل من شعر، ثمّ أردفني خلفه، ثمّ سار بي مليّا، ثمّ التفت إليّ فقال: «يا غلام» ، فقلت: لبّيك يا رسول اللّه، فقال: «احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده أمامك، تعرّف إلى اللّه في الرّخاء يعرفك في الشدّة، و إذا سألت فاسأل اللّه، و إذا استعنت فاستعن باللّه، فقد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه اللّه لك لم يقدروا عليه، و لو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصّبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 18

ثمّ قرّر سبحانه كمال قدرته و علمه و حكمته، الموجب على العاقل تخصيص ولايته به، و عدم العدول عنه إلى غيره، بقوله: وَ هُوَ تعالى اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ و الغالب عليهم بقدرته وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ المتقن في صنعه، الحافظ للمصالح في أفعاله، و اَلْخَبِيرُ و العليم بما صحّ أن يخبر عنه، فإذا كان اللّه مستجمعا لجميع الصّفات الكماليّة التي مرجع جميعها إلى العلم و القدرة، كان حقيقا بأن يعوّل عليه في جميع الأمور، و يرجع إليه في كلّ المطالب، و يعرض عمّا سواه.

وَ هُوَ اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ (18)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 19

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اَللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (19)

ص: 470


1- . تفسير روح البيان 3:16.

ثمّ لمّا لم يقنع المشركون بالبراهين القاطعة على توحيد اللّه و صدق دعوى رسالته، و لم يرتدعوا بالوعد و الوعيد عمّا كانوا عليه من الشّرك و الجحود، و طلبوا منه الشّاهد على صدق دعواه مع أنّ معجزاته شهادة اللّه على صدقه، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لمن طلب منك الشّاهد: أَيُّ شَيْءٍ من الأشياء، و أيّ موجود من الموجودات أَكْبَرُ و أعظم شَهادَةً على المدّعى بحيث لا يدانيها شهادة غيره.

و لمّا كان الجواب من البداهة بحيث لا ينبغي التّأمّل و الانتظار فيه، أمره اللّه بالمبادرة إليه بقوله: قُلِ اَللّهُ أكبر شهادة من جميع الموجودات، فإذا كان كذلك و تسالمتم عليه، فهو شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ .

عن القمّي عن الباقر عليه السّلام: «أنّ مشركي أهل مكّة قالوا: يا محمّد، ما وجد اللّه رسولا يرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدّقك بالذي تقول. و ذلك في أوّل ما دعاهم و هو يومئذ بمكّة، قالوا: و قد سألنا عنك اليهود و النّصارى، فزعموا أنّه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بامرئ (1)يشهد أنّك رسول اللّه. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّه شهيد بيني و بينكم» (2).

ثمّ شرح شهادة اللّه بصدقه بقوله: وَ أُوحِيَ من قبل اللّه إِلَيَّ هذَا اَلْقُرْآنُ الذي يكون لفظا و معنى من أعظم المعجزات، و من أوضح الشّواهد على صدقي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ و اخوّفكم من اللّه بما فيه من الوعيد أيّها الموجودون في وقت نزوله وَ انذر مَنْ بَلَغَ و وصل إليه هذا القرآن و سمعه من الإنس و الجن و العرب و العجم إلى يوم القيامة.

قال بعض: من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سمع منه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «و من بلغ أن يكون إماما من آل محمّد، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (4).

ثمّ وبّخ المشركين و أنكر عليهم القول بتعدّد الآلهة بلا دليل و لا شاهد، بقوله: أَ إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَتَشْهَدُونَ و تدّعون أَنَّ مَعَ اَللّهِ آلِهَةً أُخْرى من الأصنام الكثيرة و الكواكب و غيرها قُلْ : أنا لا أَشْهَدُ بما تدّعون من الشّركاء للّه لعدم الشاهد عليه، بل قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ و معبود واحِدٌ لا شريك له، للبراهين القاطعة على وحدانيّته، و امتناع الشّريك له، وَ لذا إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ به من الأصنام و غيرها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 20

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

ص: 471


1- . في المصدر: فتأتينا من.
2- . تفسير القمي 1:195، تفسير الصافي 2:112.
3- . تفسير روح البيان 3:17.
4- . مجمع البيان 4:437، تفسير الصافي 2:112.

ثمّ لمّا أنكر اليهود و النّصارى ثبوت ذكر لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله في كتبهم، كذّبهم اللّه تعالى بقوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ من اليهود و النّصارى يَعْرِفُونَهُ بحليته و نعوته المذكورة في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم المعيّنة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في اليهود و النّصارى، لأنّ اللّه قد أنزل عليهم في التّوراة و الإنجيل و الزّبور صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفة أصحابه و مهاجره (1)، و هو قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ إلى قوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ (2)فلمّا بعثه اللّه عزّ و جلّ عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله: فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (3).

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة قال عمر لعبد اللّه بن سلام: أنزل اللّه تعالى على نبيّه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، و لأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله منّي بابني؛ لأنّي لا أدري ما صنع النّساء، و أشهد أنّه حقّ من اللّه تعالى (4).

ثمّ ذمّهم اللّه بغاية الخسران و عدم الإيمان بقوله: اَلَّذِينَ خَسِرُوا و غبنوا أَنْفُسَهُمْ بإعراضهم عن ما في كتبهم من البيّنات على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله هو النبيّ المنعوت فيها فَهُمْ لأجل الخسران و الطّبع على القلوب لا يُؤْمِنُونَ بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 21

ثمّ نبّه سبحانه بأنّ المفترين على اللّه بنسبة ما ليس في كتابه إليه، أو نسبة الشّريك إليه و المكذّبين للمعجزات، أظلم النّاس بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً بأن قال: إنّ صفات النبيّ الموعود في الكتابين غير الصّفات التي تكون لمحمّد، أو قال: إنّ الملائكة بنات اللّه، و إنّ الأصنام شفعاؤنا عند اللّه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ من القرآن و سائر معجزات النبيّ.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (21)ثمّ هدّدهم بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ و لا يفوزون بمطلوب من النّجاة من النّار، و الدّخول في الجنّة، فكيف يحتمل الفلاح في حقّ من هو أظلم النّاس؟

ص: 472


1- . في المصدر: أصحابه و مبعثه و هجرته.
2- . الفتح:48/29.
3- . تفسير القمي 1:33، تفسير الصافي 2:112، و الآية من سورة البقرة:2/89.
4- . تفسير الرازي 12:179.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المشركين و تهويلهم بقوله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ في عرصة واحدة جَمِيعاً يكون لهم من الأحوال و الأهوال ما لا يحيط به المقال. و قيل: إنّ التّقدير: و اذكروا يوم نحشرهم جميعا (1)ثُمَّ نَقُولُ بلسان الملائكة لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا على رؤوس الأشهاد توبيخا و تقريعا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ و أندادكم اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّهم آلهتكم أو شفعاؤكم عند اللّه

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ -عن الصادق عليه السّلام: «يعني: معذرتهم» (2). و قيل: يعني: جوابهم (3). و قيل: يعني إشراكهم في الدّنيا من حيث العاقبة (4)-شيئا إِلاّ أَنْ قالُوا في الجواب تبرّؤا منهم: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا في الدّنيا مُشْرِكِينَ بك.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (23)قيل: وجه التّعبير عن الجواب بالفتنة، أنّه يكون كذبا مع علمهم بأنّه لا ينفعهم أصلا، و كان من كثرة الدّهشة و الوحشة (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 24

ثمّ أظهر التّعجّب من كذبهم في المقام و حرمانهم من نفع آلهتهم بقوله: اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا هؤلاء المشركون عَلى أَنْفُسِهِمْ بإنكار إشراكهم في الدّنيا، وَ كيف ضَلَّ و غاب عَنْهُمْ و بطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ على اللّه بنسبة قبول شفاعة الأصنام إليه.

اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)عن (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه-في حديث يذكر فيه أهوال القيامة-: «ثمّ يجتمعون في مواطن اخر يستنطقون فيه، فيقولون: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ، و هؤلاء خاصّة هم المقرّون في الدّنيا بالتّوحيد، فلم ينفعهم إيمانهم باللّه مع مخالفتهم رسله، و شكّهم في ما أتوا به عن ربّهم، و نقضهم عهودهم في أوصيائهم، و استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكذّبهم اللّه في ما انتحلوه من الإيمان بقوله: اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» (6).

و القمّي رحمه اللّه قال: إنّها في قدريّة هذه الامة، يحشرهم اللّه يوم القيامة مع الصّابئين و النّصارى و المجوس، فيقولون: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ، يقول اللّه اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ

ص: 473


1- . تفسير الرازي 12:181.
2- . مجمع البيان 4:440، تفسير الصافي 2:113.
3- . مجمع البيان 4:440.
4- . تفسير روح البيان 3:18.
5- . تفسير روح البيان 3:19.
6- . الاحتجاج:242، تفسير الصافي 2:113.

عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ، قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ لكلّ امّة مجوسا، و مجوس هذه الامّة الّذين يقولون: لا قدر، و يزعمون [أنّ]المشيئة و القدرة إليهم و لهم» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 25

ثمّ لمّا بيّن اللّه سوء حال المشركين في الآخرة، ذكر سوء حالهم في الدّنيا، و شدّة قساوة قلوبهم، و عدم تأثّرهم بالآيات [بقوله:]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تقرأ القرآن.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (25)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: حضر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبو سفيان، و الوليد بن المغيرة، و النّضر بن الحارث، و عقبة و عتبة و شيبة أبناء ربيعة، و اميّة و أبيّ ابنا خلف، و الحارث بن عامر، و أبو جهل، و استمعوا إلى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا للنّضر: ما يقول محمّد؟ فقال: لا أدري ما يقول، لكنّي أراه يحرّك شفتيه و يتكلّم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدّثكم به عن أخبار القرون الاولى، و قال أبو سفيان: إنّي لأرى بعض ما يقول حقّا. فقال أبو جهل: كلاّ، فأنزل اللّه تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (2).

وَ جَعَلْنا و أنشأنا عَلى قُلُوبِهِمْ من الكبر و الحسد و حبّ الدّنيا، و سائر الأخلاق الذّميمة أَكِنَّةً و أغطية مانعة من دخول الآيات فيها و تأثّرها بها كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ و يفهموه حقّ الفهم، وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً و صمما كراهة أن يسمعوها حقّ الاستماع.

و فيه مبالغة في غاية جهلهم بشؤون القرآن، و تأبّيهم عن قبول الحقّ، و بعدهم عن الهداية.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر طبع قلوبهم، و صمم آذانهم، أشار إلى عمى أعينهم بقوله: وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من آيات ربّهم و معجزة من معاجزك لا يُؤْمِنُوا بِها و لا يصدّقوا إعجازها، لفرط عنادهم و عتوّهم عن قبول الحقّ، بل لا يكتفون بعدم الإيمان، و يشاقّون اللّه حَتّى إنّهم إِذا جاؤُكَ و حضروا عندك و سمعوا منك القرآن يُجادِلُونَكَ و يخاصمونك في أنّه كلام اللّه و يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على معاندة الحقّ: إِنْ هذا القرآن، و ما هو إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و التّرّهات التي سطّرت في كتب السّابقين، مع وضوح أنّه أصدق الحديث و أحسنه عندهم.

ص: 474


1- . تفسير القمي 1:199، تفسير الصافي 2:114.
2- . تفسير الرازي 12:185.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 26

ثمّ بعد ذكر طعنهم في القرآن، و تكذيبهم أنّه كلام اللّه، ذكر معاملتهم معه بقوله: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ النّاس عَنْهُ و يمنعونهم عن الإيمان به وَ يَنْأَوْنَ و يتباعدون عَنْهُ بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه، و تأكيدا لنهيهم عنه و قيل: إنّ الضّميرين راجعان إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1). وَ الحال إِنْ يُهْلِكُونَ هلاك الأبد إِلاّ أَنْفُسَهُمْ بسعيهم في إطفاء نور الحقّ، و لا يتعدّى ضرره إلى غيرهم، وَ لكن ما يَشْعُرُونَ و لا يدركون هذا الأمر الواضح لغاية غباوتهم.

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 27

ثمّ بيّن كيفيّة هلاكهم بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمّد، أو أيّها الرّائي اولئك الكفّار إِذْ وُقِفُوا و أشرفوا عَلَى اَلنّارِ و الدّخول فيها، لرأيت أمرا هائلا عظيما لا يمكن بيانه. و قيل: إنّ جواب (لو) ما يفهم من قوله: فَقالُوا، قيل: التّقدير: إنّهم ينوحون و يقولون تمنّيا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ و نرجع الى الدّنيا و عالم التّكليف، و نتدارك سيّئاتنا، وَ أن لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا و أدلّة توحيده، و رسالة رسوله وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ به و بنبيّه.

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (27)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 28

ثمّ ردّهم اللّه سبحانه بأنّ هذا التّمنّي ليس للرّغبة في الإيمان، و ترك التّكذيب بَلْ لأجل أنّه بَدا و ظهر لَهُمْ بشهادة الجوارح، أو تجسّم العقائد و الأعمال ما كانُوا يُخْفُونَ من الكفر و الجحود، و بغض الرّسول، و سيّئات الأعمال مِنْ قَبْلُ و في دار الدّنيا، أو في موطن قالوا: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فخافوا من الوقوع في النّار [حين]

وقفوا عليها وَ لَوْ رُدُّوا و ارجعوا إلى الدّنيا فرضا، و اطمأنّوا بالخلاص من العذاب، و اللّه لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ و رجعوا إلى الكفر و الطّغيان، و استمرّوا على الطّريقة لغفلتهم عن ما رأوا في القيامة و غلبة حبّ الدّنيا و الشّهوات عليهم وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في التّمنّي المتضمّن للإخبار بإيمانهم، و إصلاح أعمالهم بعد الرّجوع إلى الدّنيا.

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في بني اميّة (2).

ص: 475


1- . تفسير الرازي 12:189.
2- . تفسير القمي 1:196، تفسير الصافي 2:115.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيبهم لآيات اللّه، حكى عنهم إنكار المعاد بقوله: وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا و تعيّشنا فيها، ثمّ نموت بعده وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ من القبور، و مخرجين منها إلى النّشور.

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

ثمّ بيّن اللّه أنّ إنكارهم سيعود إلى الإقرار، بقوله: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ و حبسوا للسّؤال في محضر عدله كما يحبس العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب، أو المراد: إذا اطّلعوا على جزاء ربّهم لترى لهم حالة فضيعة.

ثمّ قالَ ربّهم مشافهة أو بلسان الملك توبيخا لهم: أَ لَيْسَ هذا البعث ملابسا بِالْحَقِّ و الواقع؟ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ اللّه: إذن فَذُوقُوا و اطعموا اَلْعَذابَ طعما بِما كُنْتُمْ فى دار الدّنيا تَكْفُرُونَ بالبعث و تجحدونه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 31

ثمّ أنّ اللّه تعالى بعد الإعلان بغاية خسران المنكرين للتّوحيد و الرّسالة، أعلن بغاية خسران المنكرين للمعاد بقوله: قَدْ خَسِرَ و غبن في التّجارة اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ و أنكروا الرّجوع إليه في الدّار الآخرة لجزاء الأعمال، حيث ضيّعوا رأس مالهم من العقل السّليم و الفطرة الأصليّة، و اشتروا لأنفسهم العذاب الأليم الدّائم، و فوّتوا عليها الثّواب العظيم، و هم مستمرّون على التّكذيب حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ و ظهرت عليهم اَلسّاعَةُ التي لا يعلم وقتها إلاّ اللّه بَغْتَةً و فجأة.

قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ اَلسّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)قيل: سمّيت القيامة بالسّاعة لسرعة الحساب فيها (1)كأنّ وقته مقدار ساعة، أو لسرعتها إلى الوقوع لكون مسافتها الأنفاس. و إنّما جعلها اللّه غاية لتكذيبهم مع أنّ الموت غايته، ازديادا للتّهويل، و إلحاقا للموت و عالم البرزخ بالقيامة. و قد روي «أنّ من مات فقد قامت قيامته» (2).

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّه يحصل لهم حالتان سيّئتان؛ إحداهما: شدّة الحسرة بقوله: قالُوا حين رأوا

ص: 476


1- . تفسير الرازي 12:198.
2- . تفسير الرازي 12:198، تفسير روح البيان 3:22.

السّاعة و شدّة أهوالها، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يرى أهل النّار منازلهم من الجنّة فيقولون: يا حَسْرَتَنا (1)و ندامتنا عَلى ما فَرَّطْنا و قصّرنا فِيها و في مراعاة حقّها، و تهيئة ما يوجب السّلامة فيها من العذاب من الإيمان باللّه و بهذا اليوم، و تحصيل الأعمال الصّالحة.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: على ما فرّطنا في الدّنيا (2).

ثمّ بيّن الحالة الاخرى بقوله: وَ هُمْ يَحْمِلُونَ حين خروجهم من القبور أَوْزارَهُمْ و أثقال ذنوبهم عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا أيّها النّاس تنبّهوا أنّه ساءَ و بئس الشيء ما يَزِرُونَ و يحملون من الثّقل في ذلك اليوم.

قال بعض المفسّرين: روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة و أطيبها ريحا، و يقول: أنا عملك الصّالح، طالما ركبتك في الدّنيا فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله: يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً (3)، قالوا: ركبانا. و أنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة و أخبثها ريحا، فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدّنيا، فأنا أركبك اليوم، فذلك قوله: وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ (4).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 32

ثمّ لمّا كان حبّ الدّنيا و لذّاتها مانعا عن التّفكير في الآيات الدّالّة على البعث و عن الاعتراف به و باعثا على إنكاره، بيّن اللّه غاية خساسة الدّنيا و لذّاتها، و كمال شرف الآخرة بقوله: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و التّعيّش فيها، و التّلذّذ بما فيها إِلاّ لَعِبٌ و إلتذاذ سفهي سريع الانقضاء وَ لَهْوٌ و شاغل عن ذكر اللّه و تكميل النّفس، و هما لا يصلحان إلاّ للصّبيان و الجهّال، وَ باللّه لَلدّارُ اَلْآخِرَةُ و نعمها لشرفها و دوامها و خلوصها عن الكدورات-عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هي الجنّة (5)- خَيْرٌ و أفضل و أصلح في حكم العقل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللّه و يجتنبون الموبقات أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيّها النّاس و تفهمون ذلك؛ حتّى تعلموا ما تنالون به ما هو خير و أبقى.

وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 33

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ اَلظّالِمِينَ بِآياتِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ (33)

ص: 477


1- . مجمع البيان 4:453، تفسير الصافي 2:115.
2- . تفسير الرازي 12:198.
3- . مريم:19/85.
4- . تفسير الرازي 12:199.
5- . تفسير الرازي 12:203.

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدعو النّاس إلى توحيد اللّه و الاعتقاد بالمعاد، و الأشقياء منهم يسفّهونه و ينسبون أخباره الغيبيّة إلى الكهانة، و معجزاته إلى السّحر، و دعواه النّبوّة إلى الكذب، و كان ذلك سببا لحزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تكدّر خاطره الشّريف، سلّى سبحانه قلب حبيبه بقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ من الخرافات و إساءة الأدب في شأنك؛ فلا تحزن فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الواقع وَ لكِنَّ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر، و عليك بالإساءة و التّكذيب بِآياتِ اَللّهِ و المعجزات التي أجراها على يدك و لسانك يَجْحَدُونَ و يكذّبون، فتكذيبهم راجع إلى اللّه لا إليك. و فيه دلالة على كمال محبوبيّته عند اللّه.

و قيل: إنّ المعنى: أنّهم لا يكذّبونك في الباطن و السّر؛ فإنّهم معتقدون بصدقك، و لكنّهم يكذّبونك في الظّاهر و العلانية (1).

روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا، فقال له: و اللّه، إنّ محمّدا لصادق، و ما كذّب قطّ، و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللّواء و السّقاية و الحجابة و النّبوّة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية (2).

و روي أنّ حارث بن عامر من قريش قال: يا محمّد، و اللّه ما كذبتنا قطّ، و لكنّا إن اتّبعناك نتخطّف من أرضنا، فنحن لا نؤمن بك لهذا السّبب (3).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقي أبا جهل فصافحه [أبو جهل]، فقيل له في ذلك، فقال: و اللّه، إنّي لأعلم أنّه صادق، و لكنّا متى كنّا تبعا لعبد مناف، فأنزل اللّه الآية (1).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّه قرأ رجل على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، فقال: بلى و اللّه، لقد كذّبوه أشدّ التّكذيب، و لكنّها مخفّفة لا يُكَذِّبُونَكَ أي لا يأتون بباطل يكذّبون به حقّك» (2).

و في رواية اخرى، قال: «لا يأتون بحقّ يبطلون حقّك» (3).

و عن العيّاشي: عنه عليه السّلام: «أي لا يستطيعون إبطال قولك» (4).

و في (المجمع) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه كان يقرأ: لا يُكَذِّبُونَكَ أي (5)لا يأتون

ص: 478


1- . مجمع البيان 4:455، تفسير الصافي 2:116.
2- . الكافي 8:200/241، تفسير الصافي 2:116.
3- . تفسير القمي 1:196، تفسير الصافي 2:116.
4- . تفسير العياشي 2:97/1416، تفسير الصافي 2:116.
5- . في المصدر: كان يقرأ لا يُكَذِّبُونَكَ و يقول: إن المراد بها أنهم.

بحقّ أحقّ من حقّك (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 34

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببيان ابتلاء عموم الرّسل بتكذيب أممهم بقوله تعالى: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ كثيرة و ذوو معاجز باهرة، بعثوا إلى النّاس مِنْ قَبْلِكَ و في القرون السّابقة على بعثتك فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا و أنت أولى منهم بالصّبر وَ أُوذُوا بأنواع الأذيّة من الضرب و الشّتم و غير ذلك، و استمرّوا على ذلك مدّة طويلة حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا و الظّفر منّا، و أنت أحقّ بالنّصر و الظّفر على قومك.

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اَللّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ (34)ثمّ أكّد وعد النّصر بقوله: وَ لا مُبَدِّلَ و لا مغيّر لِكَلِماتِ اَللّهِ وعداته، و لا موجب للخلف فيها، و لذا لم يتّفق ذلك في وعد سائر الرّسل وَ لَقَدْ جاءَكَ فى القرآن، و بلغك بالوحي كثير مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ السّابقين، أنّهم كيف كذّبوا و اوذوا و صبروا أوّلا، ثمّ نصروا على قومهم آخرا، فيكون حالك كحالهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 35

ثمّ نبّه سبحانه على أنّه لا حيلة له إلاّ الصّبر تسكينا لحرصه البالغ على إيمان قومه، بقوله: وَ إِنْ كانَ كَبُرَ و شقّ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الإيمان بك و بكتابك فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ و قدرت على أَنْ تَبْتَغِيَ و تطلب نَفَقاً و منفذا فِي اَلْأَرْضِ تنفذ فيه إلى جوفها أَوْ سُلَّماً و مصعدا فِي اَلسَّماءِ فتصعد إليها فَتَأْتِيَهُمْ من جوف الأرض أو من فوق السّماء بِآيَةٍ يخضعوا لها و يلجأوا إلى الإيمان بها، فافعل، و لا تقدر على ذلك.

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي اَلسَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (35)عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام [قال]: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحب إسلام الحارث [بن عامر]بن نوفل بن عبد مناف، و دعاه و جهد به أن يسلم، فغلب عليه الشّقاء، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه هذه الآية» (2).

ص: 479


1- . مجمع البيان 4:455، تفسير الصافي 2:116.
2- . تفسير القمي 1:198، تفسير الصافي 2:117.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نفر من قريش، فقالوا: يا محمد، آتنا بآية من عند اللّه كما كانت الأنبياء تفعل، فإنّا نصدّق بك، فأبى اللّه أن يأتيهم بها، فأعرضوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فشقّ ذلك عليه فنزلت هذه الآية (1).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة عدم إنزال ما اقترحوه من الآية بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ هدايتهم إلى الحقّ لَجَمَعَهُمْ و ألزمهم عَلَى اَلْهُدى و دين الحقّ، و لكن لم يشأ ذلك لخبث ذاتهم، و غاية فساد أخلاقهم، فمنعهم التّوفيق، و شملهم الخذلان فَلا تَكُونَنَّ ألبتّة مِنَ اَلْجاهِلِينَ بقدرة اللّه و حكمته، و بخبث المشركين و عدم قابليّتهم للهداية.

عن القميّ رحمه اللّه: مخاطبة للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المعنيّ النّاس (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا علي، إنّ اللّه قد قضى الفرقة و الاختلاف على هذه الامّة، و لو شاء اللّه لجمعهم على الهدى حتّى لا يختلف اثنان من هذه الامّة و لا ينازع في شيء من أمره، و لا يجحد المفضول لذي الفضل فضله» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 36

ثمّ نبّه اللّه سبحانه على علّة عدم هدايتهم، و عدم تأثّرهم بالآيات و المواعظ بقوله: إِنَّما يَسْتَجِيبُ دعوتك إلى التّوحيد و الإيمان بك اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ مواعظك سمع القبول، و يفهمون كلامك فهم تدبّر، لا الّذين لا يسمعون دعوتك، و لا يفهمون كلامك؛ فإنّهم بمنزلة الموتى لا سمع لهم و لا فهم، حتّى يتأثّروا بمواعظك، و يهتدوا بهدايتك وَ هؤلاء اَلْمَوْتى سوف يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ و يخرجهم أحياء من قبورهم ثُمَّ إِلَيْهِ و إلى حكمه يُرْجَعُونَ في القيامة؛ فيجازيهم على كفرهم، فحينئذ يسمعون و يستجيبون و لكن لا ينفعهم.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)قيل: إنّما سمّى اللّه الكفّار موتى؛ لأنّ العقل و المعرفة حياة الرّوح، و الرّوح حياة الجسد، فكما أنّ الجسد إذا فارقه الرّوح يكون ميتا، فكذا الرّوح إذا فارقه العقل و المعرفة يكون ميتا، فموتهم يكون روحانيّا.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 37

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)

ص: 480


1- . تفسير الرازي 12:207.
2- . تفسير القمي 1:198، تفسير الصافي 2:118.
3- . كمال الدين:264/10، تفسير الصافي 2:117.

ثمّ حكى اللّه لجاج المشركين مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باقتراحهم، بقوله: وَ قالُوا عنادا و تعنّتا، لا طلبا لوضوح الحقّ: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ و معجزة غير الذي جاء به مِنْ رَبِّهِ كناقة صالح، و عصا موسى قُلْ إِنَّ اَللّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً عظيمة حسبما اقترحتموه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ نزول الآية يكون وبالا عليهم؛ حيث إنّهم إذا لم يؤمنوا بها لهلكوا كما عن القمّي رحمه اللّه (1). أو لا يعلمون أنّ إجابة مسؤولهم منافية للحكمة؟ أو لا يعلمون أنّه لا يحسن إجابة السّؤالات التّعنّتيّة عند العقل.

عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «سيريكم في آخر الزّمان آيات منها دابّة الأرض، و الدّجال، و نزول عيسى بن مريم، و طلوع الشّمس من مغربها» (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 38

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قدرته على إنزال كلّ آية، و أنّ حكمته مانعة عنه، استشهد على كمال قدرته و حكمته بخلق جميع الحيوانات، و تنظيم امورها على وفق الحكمة بقوله: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ و حيوان متحرّك يدبّ و يتحرّك فِي اَلْأَرْضِ و قطر من أقطارها وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ في الجوّ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ و جماعات أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها، مقدّرة أرزاقها و آجالها، مفطورة على معرفة خالقها. و معلوم أنّ القادر على خلقها و تدبير جميع أمورها قادر على إنزال آية.

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)و إنّما ذكر (جناحيه) لدفع احتمال إرادة السّرعة من الطّيران.

ثمّ نبّه سبحانه بعد بيان هذه المعارف على وفور ما في القرآن من العلوم بقوله: ما فَرَّطْنا و ما تركنا فِي هذا اَلْكِتابِ المنزل إليكم مِنْ شَيْءٍ من العلوم المحتاج إليها.

ثمّ بيّن أنّ سائر الحيوانات مثلكم في الحشر إلى القيامة بقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يوم القيامة يُحْشَرُونَ و يبعثون لإحقاق حقّهم من ظالميهم، و لاستفاء جزائهم على ما صدر منهم من الخيرات.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «يقتصّ للجمّاء من القرناء» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه أبصر ناقة معقولة و عليها جهازها، فقال: «أين صاحبها؟ مروه فليستعد [غدا] للخصومة» (2).

ص: 481


1- . تفسير الرازي 12:214.
2- . من لا يحضره الفقيه 2:191/867، تفسير الصافي 2:119.

و عن الصادق عليه السّلام: «أي بعير حجّ عليه ثلاث سنين، جعل من نعم الجنّة» (1)، و في رواية: «سبع سنين» (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 39

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته، و دفع اعتراض المشركين في النّبوّة، ذمّ المكذّبين، بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من القرآن العظيم و سائر المعجزات صُمٌّ عن استماع دعوة النبي إلى التّوحيد، و دين الحقّ، و المواعظ الإلهيّة وَ بُكْمٌ عن الإقرار بالتّوحيد و النّبوّة، و النّطق بالخير، عميّ لكونهم خائضين فِي أنواع اَلظُّلُماتِ من الجهل و الكفر و حبّ الدّنيا و الشّهوات، بحيث لا يرون المعجزات و الآيات.

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اَللّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الكفر و الضّلال يكون بسبب خذلانه، و الهداية بتوفيقه بقوله: مَنْ يَشَأِ اَللّهُ ضلالته لأجل خبث طينته و رذالة أخلاقه يُضْلِلْهُ عن طريق الحقّ و الصّواب ألبتّة بخذلانه و إيكاله إلى نفسه وَ مَنْ يَشَأْ هدايته و خيره يَجْعَلْهُ و يضعه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصله إلى كلّ خير، و يوفّقه للسّلوك في الدّين القويم و العمل به.

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في الّذين كذّبوا الأوصياء، هم صمّ و بكم كما قال اللّه: فِي اَلظُّلُماتِ، [من كان]من ولد إبليس فإنّه لا يصدّق بالأوصياء، و لا يؤمن أبدا، و هم الّذين أضلّهم اللّه، و من كان من ولد آدم آمن بالأوصياء فهم على صراط مستقيم» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستفهام التّقريري من المشركين و السّؤال التّبكيتي عنهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: أَ رَأَيْتَكُمْ و أخبروا في إِنْ أَتاكُمْ و نزل عليكم عَذابُ اَللّهِ في الدّنيا، كما نزل على الّذين من قبلكم من الامم أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّاعَةُ و جاءتكم القيامة التي فيها العذاب و الأهوال

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اَللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّاعَةُ أَ غَيْرَ اَللّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)

ص: 482


1- . من لا يحضره الفقيه 2:191/872، تفسير الصافي 2:119.
2- . من لا يحضره الفقيه 2:191/873، تفسير الصافي 2:119.
3- . تفسير القمي 1:199، تفسير الصافي 2:119.

أَ غَيْرَ اَللّهِ تَدْعُونَ و هل إلى ما سواه من الأصنام تلتجئون لكشف العذاب و التخلص من الأهوال؟ أم إليه تعالى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الوهية أصنامكم،

و من المعلوم أنكم لا تدعون غير الله بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ و إليه خاصة تلتجئون لكشف العذاب عنكم في الدنيا و الآخرة، لمعرفتكم بالفطرت أنه لا قدرة لغيره على كشفه فَيَكْشِفُ إثر دعائكم ما تَدْعُونَ الله إِلَيْهِ من العذاب إِنْ شاءَ كشفه، و اقتضت حكمته الإجابة وَ تَنْسَوْنَ و تتركون ما كنتم تُشْرِكُونَ به من الأصنام.

عن ابن عباس رضى الله عنه: المراد: تتركون الأصنام و لا تدعونهم لعلمكم بأنها لا تضر و لا تنفع (1).

و قيل: إن المراد: لا تذكرونها في ذلك الوقت من شدة الهول و الوحشة (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 42

ثم لما ذكر سبحانه أنهم عند معاينتهم العذاب الشديد يدعونه دون غيره، نبه على أنه قد يبتليهم بالبليات الدنيوية العادية لتأديبهم، و صرف قلوبهم إلى ذاته المقدسة و ارتداعهم عن الكفر و العصيان بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ كانوا مِنْ قَبْلِكَ و قبل عصرك، فكذبوهم و خالفوهم فَأَخَذْناهُمْ و ابتليناهم بِالْبَأْساءِ و الشدائد، كالفقر و القحط وَ اَلضَّرّاءِ كالأمراض و الأوجاع، و نقصان الأموال و الأنفس لَعَلَّهُمْ و لأجل أنهم يَتَضَرَّعُونَ إلينا، و يخشعون لنا، و ينقادون للرسل.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 43 الی 45

ثم لائم المصرين منهم على الكفر، و و بخهم بعدم تأثرهم بتلك البليات بقوله: فَلَوْ لا و هلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا و عذابنا تَضَرَّعُوا إلينا في دفعه و التخلص منه مع انحصار طريقه فيه، وعدم العذر في تركه، ثم ذمهم ببيان مانعهم عنه بقوله: وَ لكِنْ قَسَتْ و صلبت قُلُوبُهُمْ بحيث لم يكن فيها رقة و خوف وَ زَيَّنَ لَهُمُ و حسن في نظرهم اَلشَّيْطانُ بتسويلاته ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادة

فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (45)

ص: 483


1- . تفسير الرازي 12:223.
2- . تفسير الصافي 2:120.

الأصنام، و معارضة الرسل، و توغلهم في المعاصي،

و انهماكهم في الشهوات فَلَمّا نَسُوا لذلك ما ذُكِّرُوا و و عظوا بِهِ من البليات اللاتي كانت، أخذهم بها لاجل أتعاضهم بها و توبتهم من الشرك و المعاصي، استدرجناهم بأن فَتَحْنا عَلَيْهِمْ من جميع الجهات أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من المنافع التي كانت مغلقة عنهم، و كثرنا عليهم النعم من الصحة و القوة و السعة حَتّى إِذا فَرِحُوا و بطروا بِما أُوتُوا من النعم، و اشتغلوا باللذات، و انهمكوا في الشهوات أَخَذْناهُمْ بعذاب الاستئصال بَغْتَةً و فجأة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة، متحسرون على ما فاتاهم من النعم الدنيوية و الآخروية.

قيل: إن عذاب الاستدراج أشد، لكون التحسر فيه أشد (1).

عن الباقر (2)عليه السلام: «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي، فإن ذلك استدراج منه» و تلا هذه الآية (3).

و في الحديث: «إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة، و يذكره الاستغفار، و إذا أراد الله تعالى بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار، و يتمادى بها» (4).

و عن القمي رحمه الله: عن الباقر عليه السلام: «فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: [فلما]تركوا و لا ية علي بن أبي طالب عليه السلام، و قد امروا بها فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ دونهم (5)في الدنيا، و ما بسط لهم فيها أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني: بذلك قيام القائم، حتى كأنهم لم يكن لهم سلطان قط» (6).

و قيل: إن المقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره و الشدائد عليهم تارة، فلم ينتفعوا به، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها و هو فتح أبواب الخيرات عليهم، و تسهيل موجبات المسرات و السعادات لديهم، فلم ينتفعوا [به ]أيضا، و هذا كما يفعله الأب الشفيق بولده، يخاشنه تارة، و يلاطفه اخرى طلبا لصلاحه حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الخيرات و النعم، لم يزيدوا على الفرح و البطر من غير انتداب لشكر، و لا إقدام على اعتذار و توبة، فلا جرم أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً (7).

فَقُطِعَ و استؤصل دابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، و فنوا من أولهم إلى آخرهم، ثم لما كان إهلاكهم تطهيرا للأرض، و نعمة على الرسل و المؤمنين، حمد ذاته المقدسة بقوله: وَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ على إهلاكهم، و تطهير الأرض منهم، و إراحة أوليائه من شرهم.

ص: 484


1- . تفسير الرازي 12:226.
2- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: عن النبي صلى الله عليه و آله.
3- . مجمع البيان 4:467، تفسير الصافي 2:120.
4- . علل الشرائع:561/1.
5- . في المصدر: يعني دولتهم.
6- . تفسير القمي 1:200، تفسير الصافي 2:121.
7- . تفسير الرازي 12:226.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 46

ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه و آله بإقامة البرهان على توحيده للمشركين، و أخذ الإقرار منهم به بقوله: قُلْ يا محمد أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ أَخَذَ اَللّهُ و سلب عنكم سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ اللذين هما أشرف القوى الظاهرية وَ خَتَمَ و طبع عَلى قُلُوبِكُمْ و أزال عقولكم التي هي أشرف القوى الباطنية.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اَللّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)عن ابن عباس رضى الله عنه، معناه: و طبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى (1).

القمي: عن الباقر عليه السلام «إذا أخذ الله منكم الهدى» (2).

مَنْ إِلهٌ قادر غَيْرُ اَللّهِ العزيز المقتدر يَأْتِيكُمْ و يرد إليكم ما اخذ منكم، و ينعم عليكم بِهِ فبالبديهة لا قادر عليه إلا الله، فهو المستحق للعبادة دون الأصنام و غيرها.

اُنْظُرْ يا محمد و تعجب كَيْفَ نُصَرِّفُ و نقرر اَلْآياتِ و البراهين و الإنذارات و التبشيرات بأساليب متفاوتة و بيانات مختلفة ثُمَّ المشركون هُمْ يَصْدِفُونَ و يعرضون عنها، و لا يؤمنون بها.

و في لفظ (ثم) إشارة لغاية بعد ذلك من العاقل.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 47

ثم أمر سبحانه النبي صلى الله عليه و آله بسؤال فيه تهديدهم بقوله: قُلْ يا محمد لهم: أَ رَأَيْتَكُمْ و أخبروني إِنْ أَتاكُمْ و نزل عليكم عَذابُ اَللّهِ في هذه الدنيا بَغْتَةً و بغير سبق أمارة تدلكم على إتيانه - و قيل: يعني: ليلا (3)- أَوْ جَهْرَةً و مع سبق الأمارة عليه -و قيل: يعني: نهارا (4)-ما ذا يكون حالكم؟

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اَللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظّالِمُونَ (47)ثم بين الحال بقوله: هَلْ يُهْلَكُ به هلاك السخط و الأبد إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالشرك و المعاصي، و أنتم هم.

عن القمي رحمه الله: نزلت لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و آله إلى المدينة، و أصاب أصحابه الجهد و العلل

ص: 485


1- . تفسير الرازي 12:227.
2- . تفسير القمي 1:201، تفسير الصافي 1:121. (3 و 4) . تفسير الرازي 12:228، تفسير أبي السعود 3:135.

و المرض فشكوا ذلك إليه، يعني لا يصيبكم (1)إلا الجهد و الضر في الدنيا، فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك، فلا يصيب إلا القوم الظالمين (2).

و عن الصادق عليه السلام: «يؤخذ بنو امية بغتة، و بنو العباس جهرة» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 48 الی 49

ثم لما كان المشركون يعارضون النبي صلى الله عليه و آله باقتراحهم، كما حكى الله عنهم قولهم: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، و يقدحون في نبوته بعدم إجابة مسؤلهم، ردهم الله بقوله: وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ لأن يقترح عليهم المعجزات، فإنها بيد الله يظهرها على مقتضى حكمته، بل ليس الغرض من إرسالهم إِلاّ أن يكونوا مُبَشِّرِينَ للناس بالجنة و المغفرة على الإيمان و العمل الصالح وَ مُنْذِرِينَ لهم بالعذاب على الكفر و العصيان.

وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ اَلْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)هذه و ظيفة الرسول و شأن الرسالة، و أما الناس فَمَنْ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ أَصْلَحَ عمله و أخلاقه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الهلاك و العذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة على ما فاتاهم من الدنيا،

و ما لم ينالوا من أعلى الدرجات في الجنة وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و أنكروا براهين التوحيد و معجزات الأنبياء يَمَسُّهُمُ و يصيبهم اَلْعَذابُ الشديد في الآخرة بِما كانُوا في الدنيا يَفْسُقُونَ من الشرك و التمرد عن طاعة الله و رسوله.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 50

ثم أمر النبي صلى الله عليه و آله بالجواب عن اقتراحاتهم بقوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ و ما أدعي أن عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ أن لي قدرته الكاملة على إيجاد الممكنات و التصرف فيها كيف أشاء، حتى تقترحوا علي إنزال الكتاب من السماء، أو قلب الجبال ذهبا، أو غيرها وَ لا أَعْلَمُ بنفسي اَلْغَيْبَ الذي خص ذاته المقدسة به حتى تسألوني عن و قت الساعة، أو و قت نزول العذاب، أو نحوهما وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ وَ لا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)

ص: 486


1- . في المصدر: فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه و آله، فأنزل الله عز و جل قُلْ لهم يا محمد: أَ رَأَيْتَكُمْ . . . اَلظّالِمُونَ أي أنهم لا يصيبهم.
2- . تفسير القمي 1:201، تفسير الصافي 2:121.
3- . تفسير العياشي 2:98/1419، تفسير الصافي 2:121.

مَلَكٌ من الملائكة حتى تكلفوني الرقي إلى السماء، أو تتوقعوا مني أن لا آكل الطعام و لا أمشي بين الناس.

قيل: إن المشركين قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فاطلب من الله أن يوسع علينا منافع الدنيا و خيراتها، و يفتح علينا أبواب السعادات (1). و كانوا يقولون: إن كنت رسولا فأخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح و المضار، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح، ولدفع المضار (2). و كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام (3).

و قيل: إن المقصود من القضية التبري من دعوى الالوهية (1).

ثم أنه صلى الله عليه و آله بعد التبري عن الدعاوى الثلث، أثبت لنفسه النبوة التي هي أعلى الكمالات البشرية، و امتيازه عن سائر الناس بمنصب الرسالة، بقوله: إِنْ أَتَّبِعُ في قولي و عملي إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ من ربي، دون رأيي و اجتهادي، و لا أؤدي إليكم إلا من قبل الله تعالى. و هي من الكمالات الممكنة للبشر، لا مجال لا ستبعاد ثبوتها له، فضلا عن الجزم بعدمها.

عن الرضا عليه السلام، أنه سئل يوما و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه، و قد كانوا تنازعوا في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه و آله في الشيء الواحد، فقال عليه السلام «إن الله عز و جل حرم حراما و أحل حلالا و فرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، أو رفع فريضة في كتاب الله رسمها [بين ]قائم بلا ناسخ (2)نسخ ذلك، فذلك شيء لا يسع الأخذ به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه و آله لم يكن ليحرم ما أحل الله، و لا ليحل ما حرم الله، و لا ليغير فرائض الله و أحكامة، و كان في ذلك كله متبعا مسلما مؤديا عن الله عز و جل، و ذلك قول الله عز و جل: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ، فكان عليه السلام متبعا لله مؤديا عن الله ما امر به من تبليغ الرسالة» (3).

ثم أكد عدم تساويه لسائر الناس بوجود ملاك الرسالة فيه من البصارة في قلبه، و معرفته الكاملة بالله بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ و الجاهل و العالم بالله و بحقائق الأمور، و الضال و المهتدي إلى الحق و إلى كل خير، لا يستوون عند الله أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ قيل: إن التقدير: ألا تسمعون كلامي الحق فتتفكرون فيه (4)حتى تعرفوا الفرق بين الالوهية، و النبوة، و البشرية، و بين الجاهل بكل شيء و العالم بجميع الأشياء.

ص: 487


1- . تفسير البيضاوي 1:302.
2- . في النسخة: نسخ.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السلام 2:20/45، تفسير الصافي 2:122.
4- . تفسير أبي السعود 3:137، تفسير روح البيان 3:34.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 51

ثم أمره الله سبحانه بإنذار الناس على حسب و ظيفة الرسالة بقوله: وَ أَنْذِرْ بالقرآن أو بما يوحى إليك، و خوف بِهِ من عقاب الله اَلَّذِينَ يعتقدون بالمعاد كالمؤمنين و أهل الكتاب، و الذين يترددون فيه من أهل الشرك يَخافُونَ من أَنْ يحيوا، و يُحْشَرُوا من قبورهم، و يساقوا إِلى رَبِّهِمْ و حكمه لجزاء أعمالهم، في حال لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ و ممن سواه وَلِيٌّ و ناصر يدافع عنهم العذاب بالقوة و القهر وَ لا شَفِيعٌ يشفع لهم في أن يعفى عن عقوبتهم لَعَلَّهُمْ و لأجل أنهم يَتَّقُونَ و يحترزون عن العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة، و يتوبون من ذنوبهم الموبقة.

وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)عن ابن عباس رضى الله عنه، قال: معناه: إنذارهم لكي يخافوا في الدنيا، و ينتهوا عن الكفر و المعاصي (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 52

ثم لما بين سبحانه مهانة المشركين عنده و استحقاقهم عذابه، نهى نبيه صلى الله عليه و آله عن إهانة المؤمنين و تبعيدهم عن مجلسه بقوله: وَ لا تَطْرُدِ و لا تبعد عن محضرك المؤمنين اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون رَبَّهُمْ و يصلون بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ صلاة الصبح و العصر، أو يذكرونه في كل حال، و هم يُرِيدُونَ بعبادتهم و دعائهم و ذكرهم وَجْهَهُ و مرضاته، لا الرياء و السمعة و سائر الأعراض الدنيوية.

وَ لا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظّالِمِينَ (52)ثم أكد النهي ببيان عدم العلة لطردهم بقوله: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى تملهم.

قيل: إن المشركين قالوا: يا محمد، إنهم اجتمعوا عندك و قبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا و ملبوسا عندك، و إلا فهم فارغون عن دينك (2).

فقال الله: ليس عليك ضرر عقائدهم الباطنية، و أعمالهم السيئة الخفية حتى تستحقهرهم، و تطعن في إيمانهم فيسوغ لك طردهم، و إنما عليك الاعتبار بظاهر حالهم و هو اتسامهم بسمة المتقين وَ ما مِنْ حِسابِكَ و جزاء أعمالك عَلَيْهِمْ و بيدهم مِنْ شَيْءٍ حتّى تخافهم و تتنفّر منهم.

ص: 488


1- . تفسير الرازي 12:233.
2- . تفسير الرازي 12:236، تفسير روح البيان 3:36.

و قيل: إنّ المعنى: أنّ ضرر أعمالهم لا يرجع إليك، كما أن ضرر أعمالك لا يعود إليهم (1).

و قيل: إنّ رزقهم ليس عليك، كما أنّ رزقك ليس عليهم (2)فَتَطْرُدَهُمْ عنك، لذلك إذن فلا تطردهم فَتَكُونَ بسبب طردهم مِنَ اَلظّالِمِينَ على نفسك بحرمان الأجر، و عليهم بمنعهم ممّا يستحقّون من مزيد التقرّب و الإلطاف.

في بيان حال

أصحاب الصفّة

عن القمّي رحمه اللّه قال: كان سبب نزولها أنّه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمّون أصحاب الصفّة (3)، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرهم أن يكونوا في صفّة يأوون إليها، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتعاهدهم بنفسه، و ربّما يحمل إليهم ما يأكلون، و كانوا يختلفون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقرّبهم و يقعد معهم و يؤنسهم، و كان إذا جاء الأغنياء و المترفون من أصحابه ينكرون عليه ذلك و يقولون: اطردهم عنك، فجاء يوما رجل من الأنصار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده رجل من أصحاب الصفّة قد لزق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحدّثه، فقعد الأنصاري بالبعد منهما، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تقدّم» ، فلم يفعل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعلّك خفت أن يلزق فقره بك؟ !» . فقال الأنصاري: اطرد هؤلاء عنك. فأنزل اللّه: وَ لا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية (4).

و عن عبد اللّه بن مسعود، أنّه قال: مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عنده صهيب و خبّاب و بلال و عمّار و غيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد، أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ فاطردهم عن نفسك، فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فقال عليه السّلام: «ما أَنَا بِطارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ» ، فقالوا: فأقمهم عنّا إذا جئنا، فإذا قمنا فاقعدهم معك إن شئت، فقال: «نعم» طمعا في إيمانهم (5).

و روي أنّ عمر قال له: لو فعلت حتّى ننظر إلى ما ذا يصيرون، ثمّ ألحّوا و قالوا للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: اكتب لنا بذلك كتابا، فدعا بالصّحيفة و بعليّ عليه السّلام ليكتب، فنزلت هذه الآية، فرمى الصّحيفة، و أعتذر عمر عن مقالته، فقال سلمان و خبّاب: فينا نزلت، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقعد معنا و ندنو منه حتّى تمسّ ركبتنا ركبته، و كان يقوم عنّا إذا أراد القيام، فنزل قوله: وَ اِصْبِرْ (6)الخبر.

و في رواية: أنّ رؤساء قريش قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين رأوا في مجلسه [الشريف]فقراء المؤمنين مثل [صهيب و]عمّار و خبّاب و بلال و سلمان و غيرهم: لو طردت هؤلاء الأعبد و أرواح

ص: 489


1- . تفسير روح البيان 3:36.
2- . تفسير الرازي 12:237.
3- . الصفّة: و هو مكان مظلّل في مسجد المدينة يأوي إليه فقراء المهاجرين و يرعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
4- . تفسير القمي 1:202، تفسير الصافي 2:123.
5- . تفسير الرازي 12:234.
6- . تفسير الرازي 12:234.

جبابهم-و كان عليهم جباب صوف لا غير-لجالسناك و حادثناك، فقال عليه السّلام: «ما أَنَا بِطارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ» ، فقالوا: فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا حتّى يعرف العرب فضلنا، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء، فإذا قمنا عن مجلسك فأقعدهم معك إن شئت، فهمّ عليه السّلام أن يفعل ذلك طمعا في إيمانهم، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

و قد غلط من استدلّ بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السّلام.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 53

ثمّ بيّن سبحانه أنّ فقر المؤمنين فتنة للأغنياء من المشركين بقوله: وَ كَذلِكَ الفتن و الابتلاء فَتَنّا و ابتلينا بَعْضَهُمْ الأغنياء بِبَعْضٍ الفقراء من المؤمنين، بأن قدّمناهم و فضّلناهم مع فقرهم على أشراف قريش في أمر الدّين لِيَقُولُوا في العاقبة؛ لجهلهم بمناط الفضل عند اللّه، مشيرين إلى فقراء المؤمنين، محقّرين لهم: أَ هؤُلاءِ الفقراء الأذلاّء مَنَّ اَللّهُ و أنعم عَلَيْهِمْ بالهداية و التّوفيق لإصابة الحقّ مِنْ بَيْنِنا و نحن الأشراف و الرّؤساء.

وَ كَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اَللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ (53)قيل: إنّ رؤساء الكفّار و أغنياءهم كانوا يحسدون فقراء الصّحابة على كونهم سابقين في الإسلام، مسارعين إلى قبوله، فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء المساكين، و أن نعترف لهم بالتّبعيّة، فكان ذلك يشقّ عليهم (2). فردّهم اللّه بقوله: أَ لَيْسَ اَللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ لنعمة هدايته، و التّوفيق للإيمان و العمل الصّالح.

ففيه تنبيه على أنّ علّة تقريبهم و الإنعام عليهم شكرهم لنعمة الرّسول و القرآن، و التّسليم لحكمهما، و هؤلاء المشركون بمعزل من ذلك.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 54

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن إهانة المؤمنين أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإكرامهم بقوله: وَ إِذا جاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا و يسلّمون لدلائل توحيدنا و إعجاز كتابنا فَقُلْ تكريما لهم و تعطّفا بهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ

وَ إِذا جاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

ص: 490


1- . تفسير روح البيان 3:36.
2- . تفسير الرازي 12:237.

من كلّ آفة و مكروه جسماني و روحاني.

ثمّ بشّرهم بأنّه كَتَبَ و حتم رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ و التّفضّل عليكم.

ثمّ فسّر أَنَّهُ رحمته بقوله: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ عملا سُوءاً و ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا بِجَهالَةٍ و غفلة عن قبحه و سوء عاقبته ثُمَّ تابَ و ندم على عمله مِنْ بَعْدِهِ و سأل اللّه العفو عن عقوبته وَ أَصْلَحَ ما أفسده قبل أن يغفر اللّه له و يرحمه فَأَنَّهُ غَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بعباده بإعطائهم الثّواب.

قيل: نزلت في أصحاب الصّفّة الّذين نهى اللّه عن طردهم (1).

عن عكرمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا رآهم بدأهم بالسّلام و يقول: «الحمد للّه الذي جعل في امتي من أمرني أن أبدأه بالسلام» (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ عمر لمّا اعتذر من مقالته و أستغفر اللّه منها، و قال للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: ما أردت بذلك إلاّ الخير، نزلت هذه الآية (3).

و قيل: نزلت في قوم أقدموا على ذنوب، ثمّ جاءوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مظهرين للنّدامة، فنزلت الآية فيهم (4).

عن (المجمع) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت في التّائبين» (5).

و قيل: نزلت في حمزة، و جعفر، و عمّار، و مصعب بن عمير، و غيرهم (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 55

وَ كَذلِكَ التّفصيل و التّبيين الواضح لدلائل التّوحيد و النّبوّة و الوعد و الوعيد نُفَصِّلُ اَلْآياتِ و نبيّن جميع ما يحتاج إليه النّاس من المعارف و الأحكام ليظهر الحقّ كلّه وَ لِتَسْتَبِينَ و تظهر لك سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ و المشركين، و سبيل المؤمنين الموحّدين، و يمتاز طريقهما.

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ (55)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 56

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ تفصيل الآيات لاستبانة سبيل المجرمين، نهى النّاس عن سلوك سبيلهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: إِنِّي بحكم عقلي السّليم، و دلالة الآيات و البراهين على

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ (56)

ص: 491


1- . تفسير الرازي 13:2، تفسير الصافي 2:124. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 13:2. (5 و 6) . مجمع البيان 4:476، تفسير الصافي 2:124.

التّوحيد نُهِيتُ و منعت من قبل ربّي أَنْ أَعْبُدَ الأصنام اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه قُلْ لهم قطعا لأطماعهم: إنّي لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ التي دعتكم إلى عبادة الأحجار و الأخشاب و سائر ما عملته أيديكم، مع وضوح عدم قابليّة شيء منها لعبادة الإنسان الذي هو أشرف منها و من سائر الموجودات، و عدم الدّاعي إليها إلاّ محض الهوى، بل أتّبع عقلي النّاهي عنها و الحاكم بأنّ شيئا ممّا سوى اللّه لا يضرّ و لا ينفع، فإن وافقتكم في عبادة الأصنام فإنّي قَدْ ضَلَلْتُ عن طريق الحقّ و الصّواب إِذاً كما ضللتم بحكم العقل الفطري وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ إلى شيء من خير الدّنيا و الآخرة كما أنتم لا تهتدون إليه. قيل: إنّ كفّار قريش كانوا يدعونه صلّى اللّه عليه و آله إلى دينهم (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 57

ثمّ لمّا تبرّأ عن الشّرك و اتّباع الهوى، أمره سبحانه بدعوة النّاس إلى اتّباع البرهان بقوله: قُلْ يا محمّد إِنِّي في ما أنا عليه من التّوحيد و التّبرّي من الشّرك عَلى بَيِّنَةٍ عظيمة، و حجّة واضحة كائنة مِنْ قبل رَبِّي على توحيده و سائر معارفه و صفاته. و هي كتابه النّاطق بالحقّ، وَ أنتم كَذَّبْتُمْ بِهِ و بما فيه من الآيات، فاستعدّوا للعذاب الذي أوعده اللّه على الشّرك و تكذيب القرآن، و لا تطلبوا منّي التّعجيل في نزوله، فإنّه ما عِنْدِي و ليس بإرادتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب، و لا حكم لي فيه إِنِ اَلْحُكْمُ في تعجيله و تأخيرهما من الأمور لأحد إِلاّ لِلّهِ وحده، و كلّما يقصّ و يخبر بالعذاب أو بغيره يَقُصُّ و يخبر اَلْحَقَّ و الصّدق لا خلف فيه وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفاصِلِينَ و الحاكمين بين عباده.

قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفاصِلِينَ (57)قيل: إنّ رؤساء قريش كانوا يستعجلون العذاب و يقولون: متى هذا الوعد؟ استهزاء و إلزاما، حتّى قام النّضر بن الحارث في الحطيم و قال: اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ اَلسَّماءِ أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 58

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ (58)

ص: 492


1- . تفسير روح البيان 3:40.
2- . تفسير روح البيان 3:41، و الآية من سورة الأنفال:8/32.

ثمّ أمره اللّه سبحانه بتأكيد عدم اختياره في تعذيبهم بقوله: قُلْ لهم: لَوْ أَنَّ عِنْدِي و في قدرتي و اختياري ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب باللّه لعذّبتكم و أهلكتكم عقيب استعجالكم غضبا لربّي، لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ و انقطع التّنازع و الكلام بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و لكنّ اللّه لم يكل الأمر إليّ، بل إلى إرادته و حكمته وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ و بأحوالهم، و بصلاح التّعجيل في تعذيبهم، أو إمهالهم بطريق الاستدراج، ليكون عذابهم أشدّ.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 59

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بعلمه بأحوال الظّالمين، أخبر بعلمه المحيط بجميع الموجودات بقوله: وَ عِنْدَهُ تعالى خاصّة، و تحت قدرته الكاملة مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ و خزائنه.

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)و قيل: إنّ المراد بالغيب: جميع الممكنات (1)، فإنّها من آثاره و صنائعه، و لازم ذلك إحاطته بها و حضورها عنده.

و قيل: إنّ المراد بالمفاتح: ما يتوصّل به إلى معرفة الموجودات، و هو علل وجودها المنتهية إلى ذاته المقدّسة التي هي علّة عللها، و العلم بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلولات (2)، و لذا لا يَعْلَمُها أحد إِلاّ هُوَ .

و قيل: إنّ المراد بالغيب: خصوص ما غاب من الحواسّ ممّا في عوالم الملكوت و الجبروت (3).

و قيل: إنّ المراد: الخمسة التي خصّ اللّه علمها بذاته المقدّسة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ اللّه: لا يعلم ما في الأرحام إلاّ اللّه، و لا يعلم ما في الغد إلاّ اللّه، و لا يعلم متى يأتي المطر إلاّ اللّه، و لا يعلم بأيّ أرض تموت النّفس إلاّ اللّه، و لا يعلم متى تقوم السّاعة إلاّ اللّه» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه على علمه بجميع الموجودات، أو خصوص ما غاب منها عن الحواسّ، قرّر سعة علمه بجميع المحسوسات بقوله: وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ من الحيوانات و النّباتات و الجمادات على اختلاف أجناسها و أنواعها و أفرادها.

ثمّ أشار إلى علمه بأحوال الموجودات بقوله: وَ ما تَسْقُطُ على الأرض مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق

ص: 493


1- . تفسير روح البيان 3:42.

الأشجار إِلاّ و هو يَعْلَمُها قيل: إنّ المراد: أنّه تعالى يعلم عدد أوراق الأشجار ثابتها و ساقطها (1)وَ لا حَبَّةٍ صغيرة تكون فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ و بطونها و تخومها إلاّ يعلمها.

ثمّ قرّر إحاطته بجميع ذرّات عالم الأجساد بقوله: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ من الموجودات إِلاّ و هو مكتوب فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللّوح المحفوظ.

في بيان فائدة كتابة

الأشياء في

اللوح المحفوظ

قيل: فائدة كتابة الأشياء في اللّوح المحفوظ، مع أنّ اللّه منزّه عن الجهل و النّسيان، أن الحوادث إذا كانت موافقة للمكتوب ازدادت الملائكة بذلك علما و يقينا بعظيم صفات اللّه و اعترض عليه بأنّ الملائكة ليست من أهل التّرقّي و التّنزّل، فقصر الفائدة على ذلك ممّا لا معنى له (2).

و فيه: أنّ زيادة المعرفة حظّ عظيم للملائكة، و إن لم يحصل لهم بذلك علوّ في المقام، لكون معرفتهم ضرورية.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 60

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح كمال قدرته و سعة علمه بأحوال العباد بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ و يمنع أرواحكم عن التّصرّف الكامل في أبدانكم بِاللَّيْلِ و يجعلكم فيها بالنوم كالميت، كما روي أنّ النّوم أخ الموت (3).

وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «يخرج الرّوح عند النّوم و يبقى شعاعه في الجسد، فبذلك يرى الرّؤيا، فإذا انتبه من النّوم عادت الرّوح إلى الجسد بأسرع من لحظة» (4).

وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ و كسبتم بجواركم من الحسنات و السّيئات بِالنَّهارِ و في تخصيص النّوم بالليل و الاكتساب بالنّهار جري على العادة ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ و يوقظكم فِيهِ من النّوم مع علمه بما يصدر عنكم من السيّئات ليمهلكم و لِيُقْضى و ينقضي أَجَلٌ مُسَمًّى و تستوفوا مدّة حياتكم المقدّرة في الدّنيا.

عن القمي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام، في قوله: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى قال: «هو الموت» (3).

ثُمَّ إِلَيْهِ بالموت مَرْجِعُكُمْ لمجازاة أعمالكم ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ و يخبركم بِما كُنْتُمْ في

ص: 494


1- . تفسير الرازي 12:234.
2- . تفسير روح البيان 3:43. (3 و 4) . تفسير روح البيان 3:44.
3- . تفسير القمي 1:203، تفسير الصافي 2:126.

الدّنيا تَعْمَلُونَ بالثّواب على الطّاعة، و العقاب على المعصية.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 61 الی 62

وَ هُوَ اَلْقاهِرُ و المستولي فَوْقَ عِبادِهِ و المقتدر عليهم، و المتصرّف فيهم كيف يشاء تصحيحا و تسقيما، و إحياء و إماتة، و تعذيبا و إثابة، وَ من قهاريّته أنّه يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ أيّها النّاس ملائكة حَفَظَةً يحفظونكم من الآفات و العاهات و البليّات، و يحفظون أعمالكم.

وَ هُوَ اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللّهِ مَوْلاهُمُ اَلْحَقِّ أَلا لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحاسِبِينَ (62)

في كتابة الملائكة

أعمال النّاس و بيان

حكمتها

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، في تفسير (المعقّبات) : «أنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا [به]إلى المقادير فيخلّون (1)بينه و بين المقادير» (2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ مع كلّ إنسان ملكين؛ أحدهما عن يمينه، و الآخر عن يساره، فإذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، و إذا تكلّم بسيّئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظره لعلّه يتوب منها، فإن لم يتب كتب عليه (3).

و روي أنّ على كلّ واحد ملكين باللّيل، و ملكين بالنّهار، يكتب أحدهما الحسنات و الآخر السّيئات، و صاحب اليمين أمير على [صاحب]الشّمال، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها، و إذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشّمال أن يكتب قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه ستّ ساعات أو سبع ساعات، فإن هو استغفر اللّه لم يكتب عليه، و إن لم يستغفر كتب سيئة واحدة (4).

قيل: إنّ العبد إذا همّ بحسنة فاح من فيه رائحة المسك، فيعلمون بهذه العلامة فيكتبونها، و إذا همّ بسيّئة فاح من فيه رائحة النّتن (5).

قيل: إنّ الحكمة في كتابة الأعمال أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله تكتب عليه و تعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، و إنّ العبد إذا وثق بلطف سيّده و اعتمد على عفوه و ستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطّلعين عليه (6).

ثمّ بيّن أنّ حفظ الأعمال يكون مستمرّا حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ و انتهت مدّة حياتكم تَوَفَّتْهُ و قبضت روحه رُسُلُنا المأمورون بقبض الأرواح، و هم عزرائيل و أعوانه وَ هُمْ لا

ص: 495


1- . في مجمع البيان: فيحيلون.
2- . مجمع البيان 6:431.
3- . تفسير الرازي 13:14.
4- . تفسير روح البيان 3:45.
5- . تفسير روح البيان 3:45.
6- . تفسير البيضاوي 1:305.

يُفَرِّطُونَ و لا يقصّرون في ما يؤمرون،

و لا يوخّرونه طرفة عين ثُمَّ إنّهم بعد الموت رُدُّوا و ارجعوا إِلَى اَللّهِ الذي هو مَوْلاهُمُ و مالكهم المتولّي لامورهم، و هو اَلْحَقِّ الثّابت، أو العدل في حكمه و قضائه أَلا تنبّهوا أنّ لَهُ اَلْحُكْمُ بين عباده في ذلك اليوم لا لغيره، يحكم للمطيع بالثواب و للعاصي بالعقاب وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحاسِبِينَ .

في الاعتقادات: أنّ اللّه تعالى يخاطب عباده من الأوّلين و الآخرين يوم القيامة بمجمل (1)حساب عملهم مخاطبة واحدة، يسمع منها كلّ واحد قضيّته دون غيره (2)، و يظنّ أنّه المخاطب دون غيره، لا يشغله عزّ و جلّ مخاطبة عن مخاطبة، و يفرغ من حساب الأوّلين في مقدار نصف ساعة من ساعات الدّنيا (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ لمّا استدلّ سبحانه بسعة علمه بجميع ما في البرّ و البحر من الموجودات و أحوالها على توحيده، استدلّ عليه بكمال قدرته على إنجاء من في البرّ و البحر من مهالكهما، و غاية رأفته بعباده، بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين: مَنْ يُنَجِّيكُمْ و يخلّصكم مِنْ ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ و المهالك و الأهوال التي تتّفق لكم فيهما في أسفاركم؛ بحيث يظلم عليكم طريق الخلاص منها.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (63) قُلِ اَللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)و قيل: إنّ المراد من الظّلمات: ظلمة اللّيل، و ظلمة السّحاب، و ظلمة الرّياح الشديدة، و ظلمة الأمواج الهائلة (4).

و ممّن ترجون النجاة بمقتضى العقل السّليم و الفطرة الأصليّة، و من تَدْعُونَهُ بخلوص النيّة، و تسألونه تَضَرُّعاً باللّسان وَ خُفْيَةً و في السرّ، و تلتزمون بالقيام بوظائف عبوديّته، و تقولون: باللّه لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ المهالك و الشدائد لَنَكُونَنَّ البتة بعد النّجاة منهما مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمته، المطيعين لأوامره، و الثّابتين على عبوديّته، فإن منعهم العناد و العصبيّة من الاعتراف بمنجيهم، مع وضوحه عندهم، فلا تنتظر لجوابهم،

و قُلِ اَللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها بفضله، بل وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ و غمّ شديد ينزل بكم ثُمَّ أَنْتُمْ بعد مشاهدة النّعمة و اطمئنانكم بالنّجاة تنقضون العهد و لا

ص: 496


1- . في النسخة: بمحلّ.
2- . في المصدر: غيرها.
3- . الاعتقادات للصدوق:75، تفسير الصافي 2:127.
4- . تفسير الرازي 13:21.

تشكرونه، بل تكفرونه بأن تُشْرِكُونَ غيره في الألوهيّة و العبادة، و هذا من أقبح القبائح.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 65

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ لهم: لا تأمنوا بعد النّجاة من عذاب اللّه، فإنّه هُوَ اَلْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ لأجل إشراككم و كفرانكم عَذاباً عظيما نازلا مِنْ فَوْقِكُمْ من المطر، و الطّوفان، و الصّاعقة، و الحجارة، و الرّياح الهائلة و الصّيحة، كما فعل بقوم نوح و قوم لوط و أصحاب الفيل، أَوْ ظاهرا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ و من أسفل منكم كالغرق، و الخسف، و الرّجفة، كما فعل بفرعون و قومه، و قارون، و أصحاب الأيكة أَوْ يَلْبِسَكُمْ و يخلطكم شِيَعاً و فرقا متخالفين بالأهواء و المذاهب، بحيث يشبّ بينكم الحرب وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ و يقتل بعضكم بعضا.

قُلْ هُوَ اَلْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)عن القميّ رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: «عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ هو الدّخان و الصّيحة أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هو الخسف أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هو الاختلاف في الدّين، و طعن بعضكم على بعض وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هو أن يقتل بعضكم بعضا، و كلّ هذا في أهل القبلة» الخبر (1).

و في (المجمع) : عن الصادق عليه السّلام: «مِنْ فَوْقِكُمْ من السّلاطين الظّلمة، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ العبيد السّوء، و من لا خير فيه أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبيّة وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هو سوء الجوار» (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أي من الأمراء، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أي من العبيد و السّفلة (3).

عن ابن عبّاس: لمّا نزل جبرئيل بهذه الآية شقّ ذلك على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و قال: «ما بقاء امّتي إن عوملوا بذلك!» فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك، فادع ربّك لامّتك، فسأل ربّه أن لا يفعل بهم ذلك، فقال جبرئيل: إنّ اللّه قد أمّنهم من خصلتين: أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعثه على قوم نوح و لوط، و لا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون، و لم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء

ص: 497


1- . تفسير القمي 1:204، تفسير الصافي 2:127.
2- . مجمع البيان 4:487، تفسير الصافي 2:127. (3 و 2) . تفسير الرازي 13:22.

المختلفة، و يذيق بعضهم بأس بعض بالسّيف» (1) .

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سألت ربّي أن لا يظهر على امّتي أهل دين غيرهم فأعطاني، و سألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني، و سألته أن لا يجمعهم على ضلال فأعطاني، و سألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني» (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ محلّ التّعجّب عدم تأثّر المشركين بالآيات، بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد، و تعجّب أنّا كَيْفَ نُصَرِّفُ و نبيّن اَلْآياتِ و الدّلائل على التّوحيد و الوعيد ببيانات مختلفة لَعَلَّهُمْ و لأجل أنّهم يَفْقَهُونَ الآيات و يفهمونها فيرجعوا عمّا هم عليه من الكفر و العناد، و هم لا يتأثّرون بها، و لا يرتدعون من عقائدهم الباطلة و أهوائهم الزّائغة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ ذمّ اللّه المشركين بتكذيبهم ما وعدهم من العذاب أو القرآن بقوله: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ المشركون المصرّون على الشّقاق، وَ الحال أنّ العذاب هُوَ اَلْحَقُّ الواقع، أو القرآن هو الصّدق الثّابت قُلْ لهم: إنّي لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ و حفيظ من الكفر و الضّلال بالقهر، حتّى أمنعكم من التّكذيب، و أجبركم على التّصديق، و إنّما عليّ تبليغ وعد اللّه المشركين بالعذاب، و قد بلّغت،

و لِكُلِّ نَبَإٍ و خبر من أخبار اللّه مُسْتَقَرٌّ و وقت وقوع يقع فيه من غير خلف و تأخير وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ صدق خبره و وعيده عند وقوعه في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عن مجلس المكذّبين إذا أضافوا إلى تكذيبهم الاستهزاء بالآيات، بقوله: وَ إِذا رَأَيْتَ المكذّبين اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ و يشرعون في الطّعن فِي آياتِنا و يستهزئون بها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و اخرج من مجلسهم، و استمرّ على مفارقتهم حَتّى ينصرفوا

وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (68) وَ ما عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

ص: 498


1- . مجمع البيان 4:487، تفسير الصافي 2:128.

عن الاستهزاء بالآيات، و يَخُوضُوا و يشرعوا فِي حَدِيثٍ و كلام غَيْرِهِ .

قيل: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد غيره (1)، و قيل: الخطاب لغيره، و المراد: إذا رأيت أيّها السّامع (2).

نقل أنّ المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في القرآن فشتموا و استهزءوا، فأمرهم اللّه أن لا يقعدوا معهم حتّى يشتغلوا بحديث غيره (3).

ثمّ عذّرهم في حال النّسيان بقوله: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ أمرنا بترك مجالستهم و قعدت معهم، فلا بأس عليك إذن فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى و الالتفات إلى أمرنا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ حيث وضعوا التّكذيب و الاستهزاء موضع التّصديق و الاستعظام، أو على أنفسهم بذلك.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال المسلمون: لئن كنّا كلّما استهزأ المشركون بالقرآن و خاضوا فيه قمنا عنهم، لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام، و أن نطوف بالبيت (2)؛ لأنّهم يخوضون أبدا.

فرخّص اللّه المؤمنين في مجالستهم عند ذلك مع الوعظ و التّذكير بقوله: وَ ما عَلَى المؤمنين اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ و يجتنبون قبائح أعمال الخائضين و أقوالهم مِنْ حِسابِهِمْ و جرمهم مِنْ شَيْءٍ يسير وَ لكِنْ عليهم ذِكْرى هم و وعظهم و التّنبيه على قبائح أعمالهم و أقوالهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الخوض حياء، أو كراهة لمساءتهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 70

ثمّ أكّد اللّه سبحانه أمره بالإعراض عن المستهزئين بقوله: وَ ذَرِ المشركين اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً و سخرية و هزوا بآيات اللّه، أو جعلوا دينهم اتّباع الهوى و الشّهوات بعبادتهم الأصنام، أو جعلوا عيدهم-الذي هو يوم العبادة-يوم لعبهم و لهوهم، كما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (3).

وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و ألهتهم شهواتها عن التّفكّر في عاقبة أمرهم، و أعرض عن مجالستهم و ملاطفتهم، و لا تشغل قلبك بهمّهم، و لا تبال بتكذيبهم، بل أنذرهم بالقرآن وَ ذَكِّرْ هم بِهِ مخافة أَنْ تُبْسَلَ و تسلم نَفْسٌ إلى الهلاك و العذاب بِما كَسَبَتْ و عملت من القبائح

ص: 499


1- . تفسير الرازي 13:24. (2 و 3) . تفسير الرازي 13:25.
2- . تفسير الرازي 13:26.
3- . تفسير الرازي 13:27.

و السّيئات.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أي ترتهن في جهنّم بما كسبت في الدّنيا (1).

و الحال أنّ النّفس لَيْسَ لَها عند ابتلائها بالعذاب مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ يدفعه عنها وَ إِنْ تَعْدِلْ تلك النّفس و تفد ممّا في الأرض كُلَّ عَدْلٍ و فداء، لا يقبل و لا يُؤْخَذْ مِنْها ذلك الفداء، فجميع طرق الخلاص منسدة عليها.

ثمّ أثبت الإبسال و التّسليم للعذاب على المستهزئين بقوله: أُولئِكَ اللاعبون اللاهون المغرورون بالدّنيا هم اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا و سلّموا إلى ملائكة العذاب بِما كَسَبُوا و حصّلوا لأنفسهم من العقائد و الأعمال.

ثمّ كأنّه قيل: ما يكون له إذا سلّموا إلى العذاب أو إلى ملائكته؟ فأجاب بقوله: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ ماء حَمِيمٍ مغليّ يتجرجر في بطونهم، و تتقطّع به أمعاؤهم وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بنار تشتعل بها أبدانهم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ باللّه و بآياته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 71 الی 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إصرار المشركين على شركهم، و تكذيبهم بالقرآن النّاطق بالتّوحيد، و استهزائهم بآياته، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوضيح بطلان دينهم، و أنّه ممّا ينكره العقل بقوله: قُلْ لهم إنكارا على نفسك، و على كلّ عاقل: أَ نَدْعُوا و نعبد مِنْ دُونِ اَللّهِ القادر على كلّ نفع و ضرّ ما لا يَنْفَعُنا شيئا إن عبدناه وَ لا يَضُرُّنا إن تركناه وَ هل نُرَدُّ و نرجع من مقام العلم و كمال العقل، و ملّة التّوحيد و دين الإسلام عَلى أَعْقابِنا و جهلنا الذّاتي و ضلالنا الجبلّي الباعثين الى الإشراك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اَللّهُ و أرشدنا بوساطة العقل السّليم، و دلالة الآيات، و مساعدة توفيقه إلى التّوحيد و دين الإسلام، إذن نكون كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ و ذهبت به اَلشَّياطِينُ و مردة الجنّ و الغيلان، و أضلّته فِي مفاوز اَلْأَرْضِ .

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اَللّهُ كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّياطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اِئْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (71) وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّقُوهُ وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)قيل: إنّه مبنيّ على ما زعمته العرب من أنّ الغيلان تستهوي الانسان (2)، و قيل: إنّ المعنى: كالذي

ص: 500


1- . تفسير الرازي 13:28.
2- . تفسير الصافي 2:130.

ألقته الشّياطين في وهدة عميقة في الأرض (1)، حال كونه حَيْرانَ لا يدري ما يصنع، و لا يهتدي إلى طريق السّلامة و النّجاة، و في تلك الحالة يكون لَهُ أَصْحابٌ و رفقاء يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى و يهدونه إلى الطّريق المستقيم قائلين له: اِئْتِنا و تعال إلينا حتّى نوصلك إلى المأمن و المقصود، و هو لا يجيبهم و لا يترك متابعة الغيلان فيهلك قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ و الدّين الحقّ الذي أرشدنا إليه و أمرنا باتّباعه هُوَ وحده اَلْهُدَى المحض، و ما سواه هو الضّلال البحت.

ثمّ شرح الدّين الذي هو هدى اللّه بقوله: وَ أُمِرْنا و الزمنا بحكم عقولنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ و ننقاد لإرادته و حكمه، و هذا رأس الأعمال القلبيّة،

وَ أمرنا أيضا أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ التي هي رأس الطّاعات الجوارحيّة، و أفضل الواجبات البدنيّة وَ اِتَّقُوهُ تعالى في مخالفته، و عصيان نواهيه.

ثمّ أشار سبحانه إلى وقت ظهور عمد منافع تلك الأعمال حثّا عليها بقوله: وَ هُوَ تعالى اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ من قبوركم، و في القيامة تجمعون للحساب و الجزاء؛ فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 73

ثمّ لمّا استدلّ على عدم قابليّة (2)الأصنام للعبادة بعجزهم عن النّفع و الضّر، بيّن كمال قدرته حثّا على تخصيصه بالعبادة، و إثباتا للمعاد بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ و ما فيها من العلويّات وَ اَلْأَرْضَ و ما فيها من السّفليّات، قائما بِالْحَقِّ و الحكمة الكاملة و النّظام الأتمّ، لا بالباطل و العبث وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ و حين يريد إيجاد شيء فيوجد بلا ريث.

وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ (73)قَوْلُهُ و إرادته اَلْحَقُّ الثّابت النّافذ، و قيل: إنّ المراد: و خلق يوم يقول، أو و أتقّوا يوم يقول (3)، و على التّقديرين هو يوم القيامة، وَ لَهُ تعالى خاصّة اَلْمُلْكُ و السّلطنة التّامّة الظّاهرية و الواقعيّة يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ لا ملك فيه لغيره، كما كان في الدّنيا بحسب الظّاهر.

عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول اللّه، ما الصّور؟ قال: القرن، قلت: كيف هو؟ قال: عظيم، و الذي نفسي بيده، إنّ أعظم دائرة فيه كعرض السّماء و الأرض (4). قيل: إنّ فيه من الثّقب على عدد أرواح

ص: 501


1- . تفسير الرازي 13:29.
2- . يريد عدم استحقاق.
3- . مجمع البيان 4:495.
4- . تفسير روح البيان 3:53.

الخلائق (1).

ثمّ لمّا لم يكن كمال قدرته باعثا على القيام بعبوديّته، و مثبتا للمعاد لكلّ أحد، إلاّ بعد معرفة كمال علمه بمن أطاعه و عصاه و من أماته و أحياه، عرّف ذاته المقدّسة بكمال العلم بقوله: عالِمُ اَلْغَيْبِ و ما لا تدركه الحواسّ وَ اَلشَّهادَةِ و ما يدركه وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ في أفعاله اَلْخَبِيرُ بجميع الأمور.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 74

ثمّ لمّا كان إبراهيم عليه السّلام معروفا بين جميع الملل بكمال العقل و العلم، و استقامة الرّأي، و إصابة النّظر، و حسن العقائد و الأعمال، و عظم الشّأن، و كان أهل الكتاب و مشركو العرب مفتخرين بأنهم ذرّيّته، معترفين بعلوّ مقامه، احتجّ اللّه سبحانه عليهم بإقراره بالتّوحيد، و إعراضه عن الشّرك، و توبيخه و إنكاره على النّاس عبادة الأصنام، بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ موبّخا له، و إنكارا عليه: أَ تَتَّخِذُ و تختار لنفسك أَصْناماً آلِهَةً و معبودين من دون اللّه، و في تنكير الأصنام إشعار بتحقيرها إِنِّي بعين عقلي، و بصيرة قلبي أَراكَ وَ قَوْمَكَ الّذين وافقوك في عبادتها راسخين فِي ضَلالٍ عن الحقّ، و بعد عن الصّواب مُبِينٍ و واضح عند العقل و العقلاء.

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)

في أنّ آزر كان

جدّ إبراهيم لأمّه

ثمّ اعلم أنّه ادّعي الإجماع على أنّ اسم أبي إبراهيم تارخ، و إنّما الخلاف في أنّ آزر كان لقبه، أو كان له اسمان، أو كان آزر عمّه، و إنّما اطلق عليه الأب؛ لأنّ العمّ صنو الأب؟ أو كان جدّه لامّه و هو الحق؛ لأنّ إطلاق الأب عليه حقيقة و على العم مجاز، و اتّفاق أصحابنا ظاهرا على أنّ آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّهم كانوا موحّدين لقوله تعالى: وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّاجِدِينَ (2).

عن القمّي عن الباقر عليه السّلام، قال: «في أصلاب النّبيّين» (3).

و في (المجمع) : عنهما عليهما السّلام، قالا: «في أصلاب النّبيّين؛ نبيّ بعد نبيّ، أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح، من لدن آدم» (4).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لم يزل ينقلني اللّه تعالى من أصلاب الطّاهرين إلى أرحام

ص: 502


1- . تفسير روح البيان 3:53.
2- . الشعراء:26/219.
3- . تفسير القمي 2:125، تفسير الصافي 4:54.
4- . مجمع البيان 7:324، تفسير الصافي 4:54.

المطهّرات، حتّى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنّسني بدنس الجاهلية» (1).

و عنه عليه السّلام: «لمّا خلق اللّه تعالى آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض، و جعلني في صلب نوح في السّفينة، و قذفني في صلب إبراهيم، ثمّ [لم يزل]تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام حتّى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قطّ» (2). و لو كان في آبائه كافر لم يصف أصلابهم بالطّهارة و الكرامة.

و روي أنّ حوّاء لمّا وضعت شيئا انتقل النّور المحمّدي من جبهتها إلى جبهته، فلمّا كبر و بلغ مبلغ الرّجال أخذ آدم عليه العهود و المواثيق أن لا يودع هذا السرّ إلاّ في المطهّرات المحصنات من النّساء، ليصل إلى المطهّرين (3).

و حمل الفخر الرازي و بعض آخر من العامّة الرّوايات النبويّة على أنّه لم يكن في آبائه ولد زنا، و استشهدوا عليه بقوله عليه السّلام: «ولدت من نكاح، لا من سفاح» (4).

و فيه: أنّه لا شهادة فيه لظهور كونه فخرا آخرا، مع بعد حمل الأصلاب الطّاهرين على ذلك، و يؤيّده فحوى قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ الآية، كما ذكرناه في البقرة (5)، و أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله جامعا لجميع المفاخر، و من المعلوم أن كون بعض آبائه مشركا لا يخلو من شين عليه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 75

ثمّ بيّن اللّه تعالى كمال عرفان إبراهيم عليه السّلام بقوله: وَ كَذلِكَ الذي أريناه من قبح عبادة الأصنام، و بصّرناه بفساد الإشراك بتقوية بصيرته، كنّا نُرِي و نبصّر إِبْراهِيمَ بتقوية نور بصره مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ليشاهد عجائب مخلوقاتنا، و يطّلع على سعة ملكنا و عظمة سلطاننا وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ بوحدانيّتنا و قدرتنا و حكمتنا.

وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ (75)عن الباقر عليه السّلام: «كشط له عن الأرضين حتّى رآهنّ و ما تحتهنّ، و عن السّماوات حتّى رآهنّ و ما فيهنّ من الملائكة و حملة العرش» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «كشط له عن الأرض و من عليها، و عن السّماء و من فيها، و الملك الذي يحملها، و العرش و من عليه» (7).

ص: 503


1- . مجمع البيان 4:497، تفسير الصافي 2:131.
2- . تفسير روح البيان 3:54.
3- . تفسير روح البيان 3:54.
4- . تفسير روح البيان 3:54.
5- . في تفسير الآية (125) من سورة البقرة.
6- . مجمع البيان 4:498، تفسير الصافي 2:131.
7- . تفسير القمي 1:205، تفسير الصافي 2:131.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «اعطي بصره من القوّة ما نفذ السّماوات، فرأى ما فيها، و رأى العرش و ما فوقه، و رأى ما في الأرض و ما تحتها» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا رأى إبراهيم ملكوت السّماوات و الأرض، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم، إنّ دعوتك مستجابة، فلا تدع على عبادي، فإنّي لو شئت أن اميتهم [لدعائك]ما خلقتهم، فإنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فاثيبه، و صنف يعبد غيري فليس يفوتني، و صنف يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني» (2).

قيل: إنّ ملكوت كلّ شيء باطنه و روحانيّته، و هو من الأوّليّات التي خلقها اللّه تعالى من لا شيء بأمر (كن) ، فالملك قائم بالملكوت، و الملكوت قائم بقدرة اللّه، فأرى سبحانه إبراهيم ملكوت الأشياء، و الآيات المودعة فيها الدّالّة على توحيده و كمال صفاته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 76 الی 78

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنكار إبراهيم عليه السّلام على آزر و قومه عبادة الأصنام، و حكمه بضلالتهم، احتجّ على مشركي العرب بما احتجّ به إبراهيم عليه السّلام على بطلان عبادة الأصنام بقوله: فَلَمّا جَنَّ و أظلم عَلَيْهِ اَللَّيْلُ و ستره بظلامه، و ظهرت الكواكب رَأى بينها كَوْكَباً من الكواكب السّبعة، قيل: كان الزّهرة (3)، و قيل: كان المشتري (4)قالَ استهزاء بقومه، أو إنكارا عليهم، أو حكاية لمقالهم لينكر (3)عليهم بإبطاله، أو إظهارا لمماشاته معهم كي يكون أدعى إلى استماع حجّته: هذا الكوكب رَبِّي .

فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ (76) فَلَمّا رَأَى اَلْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ (77) فَلَمّا رَأَى اَلشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (78)قيل: لمّا كان مرجع عبادة الأصنام إلى عبادة الكواكب؛ حيث إنّ النّاس رأوا أنّ الفصول الأربعة تكون بقرب الشّمس و بعدها، و بهما تحدث الأحوال المختلفة في العالم، و تكون السّعادات

ص: 504


1- . تفسير العياشي 2:102/1431، تفسير الصافي 2:132.
2- . تفسير العياشي 2:102/1432، تفسير القمي 1:206، الكافي 8:305/473، مجمع البيان 4:498، تفسير الصافي 2:132. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 3:153، تفسير روح البيان 3:56.
3- . كذا الظاهر، و في النسخة: ليكن.

و النّحوسات بوقوع الكواكب في طوالعهم على أحوال مختلفة، غلب على ظنّ أغلبهم أنّ مبدأ الحوادث هو الكواكب، فبالغوا في تعظيمها حتّى اشتغلوا بعبادتها.

ثمّ لمّا رأوا أنّها تغيب في كثير من الأوقات، اتّخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه، فصنم الشّمس من الذّهب المزيّن بأحجار منسوبة إليها كالياقوت و الألماس، و صنم القمر من الفضة (1). . . و هكذا.

و لذا استدلّ إبراهيم عليه السّلام على بطلان عبادة الأصنام ببطلان ربوبيّة الكواكب بقوله: فَلَمّا أَفَلَ الكواكب و غرب قالَ لا أُحِبُّ الأرباب اَلْآفِلِينَ الغائبين عن مربوبهم، للقطع بعدم صلوح الزّائل المتغيّر للرّبوبيّة.

ثمّ طلع القمر فَلَمّا رَأَى اَلْقَمَرَ بازِغاً و طالعا قالَ هذا الجرم المضيء رَبِّي و خالقي فَلَمّا أَفَلَ و غاب قالَ تنبيها لقومه على عدم صلوحه أيضا للرّبوبيّة بعلّة افوله و تغيّره الملازم للحدوث، و تذكيرا لهم بعجزهم عن معرفة ربّهم إلاّ بهدايته و توفيقه: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى معرفته بتوفيقه، و لم ينوّر قلبي لإدراك الحقّ لَأَكُونَنَّ البتّة مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ عن طريق الحقّ، المنحرفين عن نهج الصّواب. و فيه تعريض بضلال قومه في عبادتهم المتغيّر المقهور بإرادة غيره.

عنهما عليهما السّلام: «لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ أي ناسيا للميثاق» (2).

أقول: أي الميثاق على التّوحيد في عالم الذرّ.

ثمّ ذهب اللّيل و طلعت الشّمس فَلَمّا رَأَى اَلشَّمْسَ بازِغَةً و طالعة قالَ هذا الجرم المشهود رَبِّي .

ثمّ أشار إلى رجحان القول بالوهيّة الشّمس على القول بالوهيّة الكوكب و القمر بقوله: هذا الطّالع أَكْبَرُ من الكوكب و القمر جرما، و أقوى منهما ضياء، فهو أولى بالرّبوبيّة، قيل: في تذكير اسم الإشارة رعاية للأدب و تنزيه للربّ عن الانوثيّة (3)فَلَمّا أَفَلَتْ الشّمس كسائر الكواكب، و ثبّت امتناع ربوبيّتها أيضا لأجل الافول و التّغيّر و ألزم الفرق بالحجّة القاطعة قالَ مخاطبا لجميعهم، صادعا بالحقّ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ باللّه تعالى من الكواكب و الأصنام و غيرها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 79

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (79)

ص: 505


1- . تفسير الرازي 13:36.
2- . تفسير العياشي 2:103/1434 عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 2:133.
3- . تفسير الرازي 13:56.

ثمّ بعد التّبرّؤ ممّا سوى اللّه أعلن بخلوصه لعبادة موجد الكواكب و غيرها بقوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ و صرّفت قلبي، و أخلصت عبادتي لِلَّذِي بقدرته الكاملة و حكمته البالغة فَطَرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما فيهما من الكواكب و غيرها، و أخرج الكلّ من كتم العدم إلى الوجود، و فوّضت جميع أموري إليه، حال كوني حَنِيفاً و مائلا عن كلّ معبود غيره، و معرضا عن كلّ دين غير دينه وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ به شيئا في جهة من الجهات، و أمر من الأمور.

في (العيون) : عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله المأمون فقال له: يابن رسول اللّه، أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى» ، قال: فأخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي (1).

فقال الرّضا عليه السّلام: «إن إبراهيم عليه السّلام وقع على ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزّهرة، و صنف يعبد القمر، و صنف يعبد الشّمس، و ذلك حين خرج من السّرب (2)الذي اخفي فيه، فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى الزّهرة، قال: هذا ربّي؛ على الإنكار و الاستخبار، فلمّا أفل الكوكب قال: لا احبّ الآفلين؛ لأنّ الافول من صفات المحدّث لا من صفات القديم، فلمّا رأى القمر بازغا قال: هذا ربّي، على الإنكار و الاستخبار، فلمّا أفل قال: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالين، فلمّا أصبح و رأى الشّمس بازغة قال: هذا ربّي، هذا أكبر من الزّهرة و القمر، على الإنكار و الاستخبار، لا على الإخبار و الإقرار، فلمّا أفلت قال للأصناف الثّلاثة من عبدة الزّهرة و القمر و الشّمس: يا قوم إنّي بريء ممّا تشركون، إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السّماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين. و إنّما أراد إبراهيم عليه السّلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم، و يثبت عندهم أنّ العبادة لخالقها و خالق السّماوات و الأرض» الخبر (3).

أقول: عليه جمع من مفسّري العامّة، و حكي عن أكثرهم أنّه قال ذلك طلبا لمعرفة الربّ، و رووا أنّ نمرود رأى رؤيا فعبّرها الحكماء و الكهنة بأنّه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كلّ غلام يولد، فحبلت أمّ إبراهيم به و ما أظهرت حبلها، فلمّا جاءها الطّلق ذهبت إلى كهف في جبل و وضعت إبراهيم و سدّت الباب بحجر، فجاء جبرئيل عليه السّلام و وضع إصبعه في فمه فمصّه فخرج منه رزقه، و كان جبرئيل يتعهّده، و كانت امّه تأتيه أحيانا و ترضعه، فبقي على هذه الحالة حتّى كبر و عقل و عرف أن له ربّا، فسأل امّه و قال: من ربّي؟ فقالت: أنا. فقال: و من ربّك؟ قالت: أبوك. فقال: من ربّه؟ فقالت: ملك

ص: 506


1- . الأنعام:6/76.
2- . السّرب: حفير تحت الأرض لا منفذ له.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:197/1، تفسير الصافي 2:133.

البلد. فقال: من ربّه؟ فقالت: لا تسأل عن هذا، فإنّ عليك فيه خطرا عظيما، فنظر من باب الغار، فرأى النّجم الذي هو أضوأ النّجوم، فقال: هذا ربّي. . . إلى آخر القصّة (1).

و عن القمّي: عن الصادق عليه السّلام: «أنّ آزر أبا إبراهيم كان منجّما لنمرود بن كنعان فقال له: إنّي أرى في حساب النّجوم أنّ هذا الزّمان يحدث رجلا، فينسخ هذا الدّين و يدعو إلى دين آخر. فقال له نمرود: في أيّ بلاد يكون؟ قال: في هذه البلاد. و كان منزل نمرود كوثى ربّا (2)، فقال له نمرود: قد خرج إلى الدّنيا؟ قال آزر: لا. قال: فينبغي أن يفرّق بين الرّجال و النّساء، ففرّق بين الرّجال و النّساء، و حملت امّ إبراهيم عليه السّلام و لم يتبيّن حملها.

فلمّا حانت ولادتها قالت: يا آزر، إنّي قد اعتللت و اريد أن اعتزل عنك. و كان في ذلك الزّمان [أن] المرأة إذا اعتلّت اعتزلت عن زوجها، فخرجت و اعتزلت في غار و وضعت إبراهيم و هيّئته و قمّطته و رجعت إلى منزلها و سدّت باب الغار بالحجارة، فأجرى اللّه لإبراهيم عليه السّلام لبنا من إبهامه، و كانت امّه تأتيه، و وكّل نمرود بكلّ امرأة حامل، و كان يذبح كلّ ولد ذكر، فهربت امّ إبراهيم بإبراهيم من الذبح، و كان يشبّ إبراهيم في الغار يوما كما يشبّ غيره في الشّهر، حتّى أتى [له]في الغار ثلاث عشرة سنة. فلمّا كان بعد ذلك زارته امّه، فلمّا أرادت أن تفارقه تشبّث بها فقل: يا أمّي، لو أخرجتني؟ فقالت له: يا بني، إن علم أنّك ولدت في هذا الزّمان قتلك. فلمّا خرجت امّه و خرج من الغار و قد غابت الشّمس، نظر الى الزّهرة في السّماء فقال: هذا ربّي. فلمّا غابت الزّهرة قال: لو كان [هذا]ربّي ما تحرّك و ما برح، ثمّ قال: لا احب الآفلين-و الآفل: الغائب-فلمّا رأى القمر بازغا قال: هذا ربّي هذا أكبر و أحسن، فلمّا تحرّك و زال قال: لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالين، فلمّا أصبح و طلعت الشّمس و رأى ضوءها و قد أضاءت الدّنيا لطلوعها قال: هذا ربّي هذا أكبر و أحسن، فلمّا تحرّكت و زالت كشط اللّه له عن السّماوات حتّى رأى العرش و من عليه، و أراه اللّه ملكوت السّماوات و الأرض، فعند ذلك قال: يا قوم إنّي بريء ممّا تشركون، إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين، فجاء إلى امّه و أدخلته إلى دارها و جعلته بين أولادها» (3).

قال: و سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول إبراهيم عليه السّلام: هذا ربّي، أشرك في قوله: هذا ربي؟ قال: «من قال هذا اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم بشرك، و إنّما كان في طلب ربّه، و هو من غيره شرك» (4).

ص: 507


1- . تفسير الرازي 13:47، تفسير القرطبي 7:24، الدر المنثور 3:304.
2- . كوثى ربّا: من أرض بابل بالعراق، فيها مولد إبراهيم عليه السّلام و فيها مشهده.
3- . تفسير القمي 1:206، تفسير الصافي 2:134.
4- . تفسير القمي 1:207، تفسير الصافي 2:135.

أقول: يمكن الجمع بين الرّوايتين بأنّ الاستدلال بالافول وقع منه عليه السّلام مرّتين؛ المرّة الاولى طلبا لمعرفة نفسه، و الثّانية احتجاجا على قومه، مع أنّ الرّواية الأخيرة متضمّنة لما لا يقول به الشّيعة من كون أبي إبراهيم آزر، مضافا إلى بعد أنّه من كان يرتضع من إصبعه أو من إصبع جبرئيل، أن يحتمل كون الكوكب المحدود المتحرّك ربّا له.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 80

ثمّ حكى سبحانه محاجّة قوم إبراهيم معه بقوله: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ و أقاموا له براهين واهية على صحّة ما زعموه من ربوبيّة الكوكب و عبادة الأصنام كوجوب تقليد الآباء و غيره بعد احتجاج إبراهيم عليه السّلام على فساده بامتناع كون الحادث المتغيّر خالقا و ربّا، إذن قالَ لهم إبراهيم إنكارا عليهم و استعجابا منهم: يا قوم أَ تُحاجُّونِّي و تجادلونني فِي شأن اَللّهِ و توحيده وَ الحال أنّه تعالى قَدْ هَدانِ و أرشدني إلى الحقّ بتقوية عقلي، و إنارة قلبي، و نصب الآيات عليه.

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اَللّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)ثمّ قيل: إنّ القوم خوّفوه من ضرر آلهتهم حين طعن فيهم، و قالوا: أما تخاف أن يخبّلك آلهتنا لأجل أنّك تشتمهم؟ فأجابهم بقوله: وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ (1)في الرّبوبيّة و العبادة كوكبا كان أو صنما من أن يضرّني بسبب طعني فيه، لوضوح كون جميع الأجرام الفلكيّة، و الأجسام العنصريّة مقهورة بقدرة اللّه و إرادته، لا يقدر شيء منها على نفع أو ضرر إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من الضّرر عليّ، فعند ذلك يضرّني هو بتوسّط شيء من مخلوقاته و لو كان جمادا، فهو تعالى حقيق بأن يخاف منه لقدرته على كلّ شيء، و لكن لا يشاء ضررا على عبده إلاّ إذا علم صلاحه فيه، أو استحقاقه له، فإنّه وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً و أحاط بجميع خلقه خبرا، و من المعلوم أنّه لا يستحقّ ضرره و عذابه من يوحّده و ينزّهه عن المثل و الشّريك، بل يستحقّ حفظه و ثوابه و إكرامه أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ذلك، و لا تتنبّهون أنّ اللّه هو الضارّ النّافع دون آلهتكم، و أنّ المستحقّ للضرر و العذاب هو المشرك دون الموحّد.

قيل: إنّ التّقدير: أتعرضون عن التّأمّل في ما أقول، فلا تتذكّرون أنّ آلهتكم عجزة؟ (2)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 81

وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

ص: 508


1- . تفسير الرازي 13:61.
2- . تفسير أبي السعود 3:155، تفسير روح البيان 3:58.

ثمّ أنكر على قومه توقّعهم خوفه في مورد الأمن بقوله: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ من الأصنام التي لا قدرة لها على شيء، وَ أنتم لا تَخافُونَ من أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ القادر على كلّ شيء ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ و بإشراكه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً و برهانا قاطعا مع امتناع وجود البرهان على ربوبيّة الحادث المتغيّر المحتاج فَأَيُّ فريق من اَلْفَرِيقَيْنِ أفريق الموحّدين أم فريق المشركين أَحَقُّ و أولى بِالْأَمْنِ من الضّرر و العذاب من قبل اللّه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الأحقّ منهما، أخبروني به؟ و إنّما لم يقل: فأيّنا أحقّ، ليحترز عن تزكية نفسه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 82

ثمّ بادر تعالى إلى الجواب تنبيها على وضوحه عند العقل، و بداهته لدى العقلاء بحيث لا يحتاج إلى التّأمّل، بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و بوحدانيّته وَ لَمْ يَلْبِسُوا و لم يخلطوا إِيمانَهُمْ ذلك بِظُلْمٍ و عصيان من الإشراك به في العبادة-كما فعله الذين قالوا: إنّما نعبد الأصنام ليقرّبونا إلى اللّه -و ارتكاب القبائح الموبقة أُولئِكَ الفريق فقط لَهُمُ اَلْأَمْنُ من كلّ عقوبة، دون فريق المشركين الّذين ظلموا أنفسهم بارتكاب أعظم الذّنوب و القبائح وَ هُمْ خاصّة مُهْتَدُونَ إلى الحقّ، مرشدون إلى كلّ خير دون المشركين الّذين هم في ضلال مبين.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)في (المجمع) : عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «أنّه من تمام قول إبراهيم عليه السّلام» (1).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: لمّا نزلت هذه الآية شقّ على النّاس و قالوا: يا رسول اللّه، و أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه ليس الذي تعنون، ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصّالح: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية قال: «الظّلم الضّلال فما فوقه» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الزنا منه؟ قال: «أعوذ باللّه من اولئك، لا، و لكنّه ذنب إذا تاب تاب اللّه عليه» . و قال: «مدمن الزّنا و السّرقة و شارب الخمر كعابد الوثن» (4).

ص: 509


1- . مجمع البيان 4:506 منسوب إلى القيل، و لم ينسبه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، تفسير الصافي 2:136.
2- . مجمع البيان 4:506، تفسير الصافي 2:136، و الآية من سورة لقمان:31/13.
3- . تفسير العياشي 2:105/1442، تفسير الصافي 2:136.
4- . تفسير العياشي 2:105/1441، تفسير الصافي 2:136.

و في رواية قال: «أولئك الخوارج و أصحابهم» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ الظّلم هنا الشكّ» (2).

و عنه عليه السّلام وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال: «آمنوا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله من الولاية، و لم يخلطوها بولاية فلان و فلان» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 83

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ علم إبراهيم عليه السّلام و إصابته الحقّ كان بإفاضته تعالى و توفيقه بقوله: وَ تِلْكَ الحجج التي حكيناها إنّما هي حُجَّتُنا و براهيننا التي آتَيْناها و ألهمناها إِبْراهِيمَ بتقوية بصيرته و إنارة قلبه ليقيمها عَلى قَوْمِهِ .

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)ثمّ قرّر سبحانه ذلك بالتّنبيه على أنّ جميع الكمالات الجسمانيّة و الرّوحانيّة منه تعالى بقوله: نَرْفَعُ و نعلّي دَرَجاتٍ كثيرة و مراتب عظيمة من العقل و العلم، و الحكمة و النّبوّة، و الصّفات الكريمة، و الفضائل الجسيمة، و السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة مَنْ نَشاءُ رفعه و تعليته فيها، بمقتضى الحكمة و العلم، و الاستعدادات و القابليّات في خلقه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في فعاله من الرّفع و الخفض و غيرهما عَلِيمٌ باستعدادات الخلق و قابليّاتهم على كثرة مراتبها المتفاوتة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 84 الی 85

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضيله بنعمة الهداية و العلم و الحكمة، و إراءته ملكوت الموجودات، بيّن تفضيله بكرامة النّسل و شرافة الأصل بقوله: وَ وَهَبْنا لَهُ من رحمتنا إِسْحاقَ ابنه من صلبه وَ يَعْقُوبَ من إسحاق كُلاًّ منهما أو منهم هَدَيْنا إلى الحقّ، و أرشدنا إلى المقامات العالية من العلم و العمل و مكارم الأخلاق، وَ كذلك نُوحاً و هو كان من أجداده هَدَيْنا إلى كمال المعرفة و الحكمة و مقام الرّسالة مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة من زمان إبراهيم عليه السّلام.

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّالِحِينَ (85)

ص: 510


1- . تفسير العياشي 2:106/1445، تفسير الصافي 2:136.
2- . تفسير العياشي 2:105/1443، تفسير الصافي 2:136.
3- . تفسير العياشي 2:105/1444، تفسير الصافي 2:136.

قيل: كان بين إبراهيم و نوح عليهما السّلام أحد عشر أبا، أوّلهم سام بن نوح و آخرهم تارخ أبو إبراهيم.

عن الباقر عليه السّلام: «يعني هديناهم ليجعلوا الوصيّة في أهل بيتهم» (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أنعم على نوح أيضا نعمة كرامة النّسل بقوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ و نسله هدينا داوُدَ بن إيشا وَ سُلَيْمانَ بن داود اللذين خصّهما اللّه بالملك العظيم مع النّبوّة وَ أَيُّوبَ بن أموص الذي خصّه اللّه بالبلاء العظيم، و كمال الصّبر عليه مع النّبوّة وَ يُوسُفَ بن يعقوب الذي جمع اللّه له عظيم البلاء، و كمال الصّبر، و الملك مع النّبوّة وَ مُوسى وَ هارُونَ ابني عمران بن يصهر اللذين خصّهما اللّه بكمال المهابة، و المعجزات العظيمة القاهرة وَ كَذلِكَ الإنعام بالنّعم العظيمة نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ على أعمالهم الحسنة.

وَ هدينا زَكَرِيّا بن أذن من سبط يهودا وَ يَحْيى ابنه وَ عِيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وَ إِلْياسَ بن هارون أخي موسى الّذين خصّهم اللّه بغاية الزّهد و الإعراض عن الدّنيا كُلٌّ منهم مِنَ اَلصّالِحِينَ و الكاملين في مكارم الأخلاق و حسن الأعمال.

في أن

الحسنين عليهما السّلام ابنا

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

قال الفخر الرازي في تفسيره: الآية تدلّ على أنّ الحسن و الحسين من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ اللّه جعل عيسى من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه لا ينتسب إلى إبراهيم إلاّ بالامّ، فكذلك الحسن و الحسين عليهما السّلام من ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إن انتسبا إلى رسول اللّه بالامّ (2).

و يقال: إنّ أبا جعفر الباقر استدلّ بهذه الآية عند الحجّاج بن يوسف (3).

أقول: روي عن الصادق عليه السّلام أيضا أنّه قال: «و اللّه لقد نسب اللّه عيسى بن مريم في القرآن إلى إ براهيم عليه السّلام من قبل النّساء» ثمّ تلا هذه الآية (2).

و عن الكاظم عليه السّلام: «إنّما الحق عيسى عليه السّلام بذراري الأنبياء من طريق عليه السّلام مريم، و كذلك الحقنا بذراري النبي صلّى اللّه عليه و آله من قبل امّنا فاطمة عليها السّلام» (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 86 الی 87

وَ إِسْماعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

ص: 511


1- . الكافي 8:116/92، كمال الدين:216/2، تفسير الصافي 2:136. (2 و 3) . تفسير الرازي 13:66.
2- . تفسير العياشي 2:106/1447، تفسير الصافي 2:136.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:84/9، تفسير الصافي 2:137.

وَ هدينا إِسْماعِيلَ بن إبراهيم وَ اَلْيَسَعَ بن أخطوب وَ يُونُسَ بن متّى وَ لُوطاً ابن أخي إبراهيم وَ كلاًّ منهم فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ بالكمالات النّفسانيّة و الرّسالة.

و قد استدلّ كثير من المفسّرين على رجوع ضمير (و من ذرّيته) إلى نوح بعدم كون يونس و لوط من ذراري إبراهيم عليه السّلام، و عدم إطلاق الذرّيّة على ولد الصّلب، و قد عدّ إسماعيل بن إبراهيم من الذرّيّة (1).

و قيل برجوع الضّمير إلى إبراهيم عليه السّلام؛ لأنّ الآيات في بيان رفعة إبراهيم، و أنّ يونس كان من الأسباط، و لا بعد في عدّ لوط من ذرّيّته تنزيلا لابن أخيه منزلة ابنه، لكونه في تربيته (2).

و يدلّ عليه استدلال الصادقين عليهما السّلام بعد عيسى في الآية من ذرّيّة إبراهيم عليه السّلام في الرّوايتين السّابقتين.

و قيل برجوع ضمير (و ذريّته) إلى إبراهيم عليه السّلام، و كون قوله: (و اسماعيل) و ما بعده عطفا على قوله: (و نوحا) . ثمّ أنّه ذكر لتأخير ذكر إسماعيل مع كونه ابن إبراهيم لصلبه وجوها غير وجيهة (1).

و يحتمل كون لفظ إسماعيل في الآية معرّب شموئل، و هو النبيّ الذي نصب طالوت ملكا لبني إسرائيل، فعلى هذا لم يذكر إسماعيل بن إبراهيم في الآية، لكون المقصود في المقام الاحتجاج على المشركين بعلوّ مقام الأنبياء المذكورين بسبب هدايتهم إلى التّوحيد، و إنعام اللّه عليهم بكرامة اصولهم و فروعهم و فروع اصولهم، و لم يكن من فروع إسماعيل نبيّ غيره صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: في قوله تعالى: وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ دلالة على أفضلية الأنبياء على الملائكة (2)؛ لأنّ المراد من العالمين جميع ما سوى اللّه تعالى من المخلوقات، فيدخل فيه الملائكة. و فيه نظر، و إنّ كان المدّعى مسلّما عندنا، بل الظّاهر أنّه من ضروريات الإماميّة، ثمّ من المعلوم أنّ المراد من العالمين: هو عالم (3)زمانهم لوضوح عدم أفضليّتهم على خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

وَ هدينا بعضا مِنْ آبائِهِمْ و اصولهم وَ ذُرِّيّاتِهِمْ و فروعهم وَ إِخْوانِهِمْ الّذين هم فروع اصولهم-كإخوة يوسف على ما قيل-إلى المعارف الحقّة و الكمالات النّفسانيّة وَ اِجْتَبَيْناهُمْ بالنبوّة، و اصطفيناهم بالرّسالة وَ هَدَيْناهُمْ و أرشدناهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا ضلال فيه أبدا.

قيل: في الآية إشعار بأنّ شرط الرّسالة الرّجوليّة، فلا يجوز أن تكون المرأة رسولا و لا نبيّا (4).

ص: 512


1- . راجع: تفسير الرازي 13:64-65.
2- . تفسير الرازي 13:66.
3- . في النسخة: عالمي.
4- . تفسير الرازي 13:67.

قيل: في قوله: وَ مِنْ آبائِهِمْ دلالة على كون بعض آباء هؤلاء الأنبياء غير مؤمن (1).

أقول: فيه منع لاحتمال كون المراد من هدايتهم: الهداية إلى كمال المعرفة و اليقين لا الإيمان، مع احتمال أن يكون المراد من بعض آبائهم: الأجداد الأبي (2)، و من البعض الآخر الأجداد الأمّي (3)، لإمكان كونهم غير مؤمنين.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 88

ثمّ عظّم اللّه شأن الهداية التي هداهم بها بقوله: ذلِكَ الهدى الذي كان للأنبياء المذكورين، أو لهم و لبعض آبائهم و ذرّيّاتهم و إخوانهم، إلى الحقّ و حقائق الأشياء هُدَى اَللّهِ الكامل و فيضة التامّ يَهْدِي بِهِ إلى أعلى مراتب الكمالات الإمكانيّة و درجات القرب مَنْ يَشاءُ هدايته الكاملة مِنْ عِبادِهِ الطّيّبين بالفطرة، الطّاهرين من رذائل الأخلاق.

ذلِكَ هُدَى اَللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)ثمّ بالغ سبحانه في عظمة ذنب الشّرك بقوله: وَ لَوْ أنّ هؤلاء الأنبياء مع علوّ مقامهم، و كمال قربهم أَشْرَكُوا باللّه شيئا في الالوهيّة أو العبادة على فرض المحال، و اللّه لَحَبِطَ و ذهب عَنْهُمْ و بطل ما كانُوا مدّة أعمارهم يَعْمَلُونَ من الطّاعات و الحسنات، فلا يثابون على شيء منها، فكيف بمن دونهم لو أشرك! و فيه غاية التّرهيب.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 89

ثمّ بالغ سبحانه في عظم شأن هؤلاء الأنبياء الثّمانية عشر بقوله: أُولئِكَ الأنبياء المكرّمون هم اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ و فهم حقائقه و دقائقه وَ علّمناهم اَلْحُكْمَ و الفصل بين النّاس بالحقّ، أو الحكمة، وَ أعطيناهم اَلنُّبُوَّةَ و منصب هداية الخلق.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)ثمّ بشّر سبحانه بنصرة دينه، و أعلن بغناه عن إيمان المشركين بالنبوّة، أو بالثّلاثة المذكورة بقوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ المشركون فقد وَكَّلْنا بِها و وفّقنا لحفظها و رعاية حقّها قَوْماً آخرين لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ قيل: هم الأنبياء الثّمانية عشر (4)، و قيل: هم الأنصار (5)، و قيل: هم المهاجرون (6).

ص: 513


1- . تفسير الرازي 13:66.
2- . كذا، و الظاهر: الأجداد الأبويين.
3- . كذا، و الظاهر: الأجداد الامّيون. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 13:68.

و عن الصادق عليه السّلام: «قوما يقيمون الصّلاة، و يؤتون الزّكاة، و يذكرون اللّه كثيرا» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 90

ثمّ بالغ سبحانه في تحسين طريقة الأنبياء المذكورين بقوله: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى هم اَللّهُ إلى كلّ حقّ و خير، و وفّقهم لسلوك الطّريق المستقيم فَبِهُداهُمُ و طريقتهم في المعارف و الأخلاق الحسنة اِقْتَدِهْ و اتّبع.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

في أفضلية خاتم

النبيين صلّى اللّه عليه و آله على

جميع الأنبياء

قيل: فيه دلالة على أفضليّته صلّى اللّه عليه و آله من جميع الأنبياء؛ لأنّ خصال الكمال و صفات الشّرف كانت متفرّقة فيهم، فداود و سليمان كانا من أصحاب الشّكر على النّعمة، و أيّوب كان من أهل الصّبر على البليّة، و يوسف كان جامعا بينهما، و موسى كان صاحب المعجزات القاهرة و التّواضع و الوقار، و زكريّا كان كثير الذّكر، و يحيى كان كثير الخوف و البكاء، و عيسى كان كثير الزّهد، و إسماعيل كان صاحب الصّدق. و بالجملة قد غلب على كلّ منهم خصلة معيّنة، فجمع اللّه في حبيبه صلّى اللّه عليه و آله جميع خصالهم بأمره بالاقتداء بهم، و معلوم أنّه لم يقصّر في الامتثال (2).

ثمّ لمّا كان من أخلاق الأنبياء عدم الطّمع في أموال النّاس، و ترك سؤال الأجر على تبليغ الرّسالة، أمره سبحانه بإعلام النّاس بعدم طمعه في الأجر على تبليغ المعارف و الأحكام التي جميعها في القرآن بقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً و لا أطلب منكم على تبليغ القرآن جعلا، كما لم يسأله الأنبياء من قبلي على تبليغ الكتب السّماويّة.

ثمّ نبّه على علّة عدم سؤال الأجر على تبليغ كتابه بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى و عظة من اللّه لِلْعالَمِينَ و الخلق أجمعين من الإنس و الجنّ، و العرب و العجم، و الأبيض و الأسود، و لا ينبغي سؤال الأجر على الموعظة و التّذكير، لوجوب كون غرض المذكّر الآخرة، و فيه دلالة على عموم رسالته، و عدم اختصاصها بقوم دون قوم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 91

وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتابَ اَلَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اَللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

ص: 514


1- . المحاسن:588/88، تفسير الصافي 2:137.
2- . تفسير الرازي 13:70، تفسير روح البيان 3:62.

ثمّ لمّا أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بترك سؤال الأجر على تبليغ القرآن، و أخبر بأنّه نزل من اللّه تذكرة لجميع النّاس، و كان المشركون و أهل الكتاب منكرين لرسالته و كتابه، قائلين له: ما نزّل اللّه عليك كتابا و دينا، ردّهم اللّه تعالى بقوله: وَ ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه حقّ معرفته.

في وجوب ارسال

الرسول و انزال

الكتاب على

اللّه تعالى عقلا

و عن ابن عبّاس: ما عظّموه حقّ تعظيمه (1)، حيث إنّهم طعنوا في حكمته و لطفه، و حسبوه لاعبا عابثا بخلقه العالم إِذْ قالُوا إنكارا لرسالتك و كتابك، و كفرانا لأعظم نعمائه عليهم: ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ من الوحي و الكتاب، مع وضوح أنّه مناف لحكمته البالغة و تنزّهه من العبث، فإنّه لا حكمة في خلق العالم إلاّ تكميل النّفوس البشريّة، و فعليّة استعداداتهم للفيوضات الأبديّة بسبب كمال معرفتهم، و صلاح أخلاقهم، و حسن أعمالهم، و ذلك لا يتم إلاّ ببعث الرّسول، و إنزال الكتاب، و جعل القوانين و الأحكام و الثّواب و العقاب و الوعظ و التّذكير، فالاعتراف بحكمته تعالى ملازم للاعتراف بجميع ذلك.

روي أنّ مالك بن الصّيف من أحبار اليهود و رؤسائهم، خرج مع نفر إلى مكّة معاندين، ليسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «عن أشياء، و كان رجلا سمينا، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة فقال [له]صلّى اللّه عليه و آله: أنشدك بالذي أنزل التّوراة على موسى، هل تجد فيها أنّ اللّه يبغض الحبر السّمين؟» قال: نعم. قال: «فأنت الحبر السّمين، و قد سمنت من مكأكلتك (2)التي تطعمك اليهود و لست تصوم» (3). فضحك القوم، فخجل مالك بن الصّيف، فقال (4): ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فلمّا رجع مالك إلى قومه قالوا له: [ويلك، ما هذا الذي بلغنا عنك، أ ليس أن اللّه أنزل التّوراة على موسى، فلم قلت ما قلت؟ قال: أغضبني محمّد، فقلت ذلك، قالوا له:]و أنت إذا غضبت تقول على اللّه غير الحقّ و تترك دينك، فأخذوا الرّئاسة و الحبريّة منه. و جعلوهما إلى كعب بن الأشرف. فنزلت هذه الآية (5).

و أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتبكيتهم و نقض قولهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: مَنْ أَنْزَلَ من السّماء اَلْكِتابَ اَلَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى حال كون ذلك الكتاب نُوراً و ظاهرا بنفسه، أو مظهرا لما خفي من العلوم و المعارف وَ هُدىً و رشادا لِلنّاسِ إلى طريق الفلاح و مقام القرب من اللّه، أو إلى

ص: 515


1- . تفسير الرازي 13:72.
2- . المأكلة: ما يؤكل، و الطّعمة و المرتزق.
3- . زاد في تفسير روح البيان: أي تمسك.
4- . زاد في تفسير روح البيان: غضبا.
5- . تفسير روح البيان 3:63.

نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه.

ثمّ أنتم أيّها اليهود مع عظم شأن هذا الكتاب تَجْعَلُونَهُ في قَراطِيسَ و تكتبونه في أوراق متفرّقة، لكي تستدلّوا بالأوراق التي تُبْدُونَها و تظهرون للعوام ما تريدون إظهاره منها وَ تُخْفُونَ منهم كَثِيراً من تلك الأوراق ممّا فيه [من]نعوت محمّد و كتابه، و صفات أصحابه، و بعض الأحكام الذي تحبّون إخفاءه (1)كحكم رجم المحصن و حكم القصاص، و غيرهما وَ عُلِّمْتُمْ بسبب تفسير محمّد صلّى اللّه عليه و آله آيات ذلك الكتاب، من العلوم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ من قبل.

قيل: إنّ اليهود كانوا يقرأون الآيات المبشّرة بمقدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعثته، و ما كانوا يفهمون المراد منها، فلمّا بعث صلّى اللّه عليه و آله فسّرها لهم (2).

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالمبادرة إلى الجواب عن السّؤال عن منزل كتاب التّوراة بقوله: قُلْ أنزله اَللّهَ تنبيها على غاية وضوحه بحيث لا شبهة لأحد فيه، و تعيّنه بحيث لا يمكن غيره، أو على بهتهم بحيث لا يقدرون عليه.

ثمّ هدّدهم سبحانه بعد إصرارهم على الكفر و عدم ارتداعهم عنه بالحجج القاهرة بقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ ودعهم فِي خَوْضِهِمْ و باطلهم-عن القمّي: [يعني]في ما خاضوا فيه من التّكذيب (3)- يَلْعَبُونَ فإنّه ليس عليك إلاّ التّبليغ، و إقامة الحجج، و إنّما علينا حسابهم و عقابهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 92

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فساد قولهم: (ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أعلن بنزول القرآن من عنده تعالى بقوله: وَ هذا القرآن كِتابٌ عظيم الشّأن، فيه دلائل على أنّا أَنْزَلْناهُ بالوحي و بوساطة جبرئيل، و تولّينا تركيب ألفاظه و عباراته، بلا دخل بشر فيه، منها أنّه مُبارَكٌ كثير خيره، دائم نفعه. و قد مرّ في بعض الطّرائف أنّه ما من علم إلاّ و أصله فيه، و أنّ لتلاوته آثارا دنيويّة و اخرويّة (4).

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)قيل: إنّه مبارك على العوام بأن يدعوهم إلى ربّهم، و على الخواصّ بأن يهديهم إليه، و على خواصّ الخواصّ بأن يوصلهم إليه، و يخلّقهم بأخلاقه (5).

و منها أنّه مُصَدِّقُ و موافق للكتاب اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التّوراة و الإنجيل في العلوم

ص: 516


1- . كذا، و الظاهر: التي تحبّون إخفاءها.
2- . تفسير الرازي 13:79.
3- . تفسير القمي 1:210، تفسير الصافي 2:138.
4- . راجع: الطرفة (27) و (30) من المقدمة.
5- . تفسير روح البيان 3:64.

و المعارف، مع اميّة من جاء به، أو أنّه نازل حسب ما وصف في الكتب، و كان إنزاله ليتبرّك النّاس به وَ لِتُنْذِرَ به يا محمّد من يسكن أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ يكون حَوْلَها و أطرافها من أهل الشّرق و الغرب.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: سمّيت مكّة بامّ القرى؛ لأنّ الأرض دحيت من تحتها (1).

و قيل: لأنّها قبلة أهل الدّنيا (2)و محجّهم، فصارت كالأصل، و سائر البلاد و القرى تابعة لها، و يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الامّ، أو لأنّ الكعبة أوّل بيت وضع للنّاس، أو لأنّ بكّة أوّل بلدة سكنت.

قيل: احتجّت طائفة من اليهود بقوله: وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان رسولا إلى العرب (3). و فيه ما لا يخفى من الوهن.

ثمّ نبّه سبحانه بأنّ عدم الإيمان بالقرآن لا يكون إلاّ للعناد، بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و يخافون عذاب اللّه، و طهرت قلوبهم من حبّ الدّنيا و دنس العصبيّة و العناد، ككثير من الأحبار و الرّهبان، بمجرّد سماع القرآن يُؤْمِنُونَ بِهِ بلا حاجة إلى دلالة أمر خارج على صدقه؛ لأنّ خوف الآخرة يحملهم على النّظر و التّدبّر فيه، فيظهر لهم ما يصدّقه من كونه بجهة الفصاحة و البلاغة في أعلى درجة الإعجاز، و كونه مشتملا على الأخبار الغيبيّة، و كونه موافقا للكتب السّماويّة في العلوم و المعارف، مع كون من جاء به امّيّا، إلى غير ذلك من شواهد صدقه.

ثمّ بين سبحانه أنّ خوف الآخرة كما يحمل على الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، يحمل على العبادات التي أهمّها و أفضلها الصّلوات الخمس، بقوله: وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ الخمس بعد الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه يُحافِظُونَ و يداومون.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 93

ثمّ لمّا كان العلم بقباحة أمر من أقوى الرّوادع عن ارتكابه، أكّد صدق القرآن بأنّ الافتراء على اللّه في دعوى الرّسالة و نسبة القرآن إليه، من أشنع الظّلم، بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه و أقبح قولا

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

ص: 517


1- . تفسير الرازي 13:81.
2- . تفسير الرازي 13:81.
3- . تفسير الرازي 13:81.

مِمَّنِ اِفْتَرى و اختلق عَلَى اَللّهِ كَذِباً بادّعاء أنّ القرآن منه مع عدم كونه منه أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من قبله دين و شرع وَ الحال أنّه لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ من الدّين وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ و أخترع من نفسي كتابا مِثْلَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ من الكتاب.

قيل: إنّ الفقرة الأولى في مسيلمة الكذّاب-صاحب اليمامة، فإنّه كان يقول: محمّد رسول قريش، و أنا رسول بني حنيفة-و الأسود العنسي (1).

و الثّانية في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، روي أنّه كان يكتب الوحي، فلمّا نزل قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (2)و أملاه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله عليه، عجب عبد اللّه منه فقال: فتبارك اللّه أحسن الخالقين، فقال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: «هكذا نزلت الآية» فسكت عبد اللّه، و قال: إن كان محمّد صادقا، فقد اوحي إليّ مثله، و إن كان كاذبا فقد عارضته (3).

و الثّالثة في النّضر بن الحارث، فإنّه قال: لو نشاء لقلنا مثل هذا (4).

في (الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّها نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر، و هو ممّن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة هدر دمه، و كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا أنزل اللّه عزّ و جلّ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كتب: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «دعها، فإنّ اللّه عليم حكيم» و كان ابن أبي سرح يقول للمنافقين: إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليّ، فأنزل اللّه تبارك و تعالى فيه الذي أنزل (5).

في ارتداد عبد اللّه

بن أبي سرح

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان [بن عفان]من الرّضاعة أسلم و قدم المدينة، و كان له خطّ حسن، و كان إذا نزل الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعاه فكتب ما يمليه عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [من الوحي]، فكان إذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. سَمِيعٌ بَصِيرٌ يكتب: سميع عليم، و إذا قال: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يكتب: بصير، و يفرّق بين التّاء و الياء، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: هو واحد، فارتدّ كافرا و رجع إلى مكّة و قال لقريش: و اللّه ما يدري محمّد ما يقول، أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ ذلك، فأنا انزل مثل ما أنزل [اللّه]، فأنزل اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ .

ص: 518


1- . تفسير الرازي 13:83.
2- . المؤمنون:23/12-14.
3- . تفسير الرازي 13:84، أسباب النزول للواحدي:125، مجمع البيان 4:518.
4- . تفسير الرازي 13:84.
5- . الكافي 8:200/242، تفسير الصافي 2:139.

فلمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة أمر بقتله، فجاء به عثمان، قد أخذ بيده و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد، فقال: يا رسول اللّه اعف عنه، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ أعاد، فسكت [رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]، ثمّ أعاد، فقال: هو لك، فلمّا مرّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله. فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول اللّه أن تشير إليّ فأقتله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطّلقاء» (1).

و عن العيّاشي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام في تأويله: «من ادّعى الإمامة دون الإمام» (2).

ثمّ هدّد اللّه تعالى الفرق الثّلاث بسوء حالهم عند الموت بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمّد إِذِ اَلظّالِمُونَ من الفرق الثّلاث و غيرهم من الكفّار خائضون فِي غَمَراتِ اَلْمَوْتِ و سكراته و شدائده، لرأيت أمرا هائلا وَ اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون بقبض الأرواح باسِطُوا و مادّوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم-كالغريم الملحّ الذي يبسط يده إلى من عليه الحقّ، و يعنف عليه في المطالبة، و لا يمهله-قائلين لهم تغليظا و تعنيفا: أَخْرِجُوا إلينا أَنْفُسَكُمُ و أرواحكم من أجسادكم.

و قيل: إنّ المراد من الملائكة: ملائكة العذاب و هم باسطو أيديهم لتعذيبهم (3)، يقولون: أخرجوا أنفسكم من أيدينا و خلّصوها من العذاب إن قدرتم.

اَلْيَوْمَ و في هذه السّاعة، أو في الزّمان الممتدّ بعد الموت تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ و تعاقبون عقابا متضمّنا لغاية الذّل و التّحقير.

عن الباقر عليه السّلام: «العطش يوم القيامة» (4).

بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَقُولُونَ و تفترون عَلَى اَللّهِ قولا غَيْرَ اَلْحَقِّ من اتّخاذه الولد، أو كون الشّريك له في الملك، أو ادّعاء النّبوّة و الوحي وَ كُنْتُمْ تعرضون عَنْ آياتِهِ القرآنية، و براهين توحيده، و تَسْتَكْبِرُونَ عن الإقرار بها و التّسليم لها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 94

ثمّ لمّا كان المشركون يفتخرون بالمال و الأولاد و العشيرة، حكى سبحانه مخاطبته إيّاهم يوم القيامة

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

ص: 519


1- . تفسير القمي 1:210، تفسير الصافي 2:139.
2- . تفسير العياشي 2:109/1456، تفسير الصافي 2:140.
3- . تفسير الرازي 13:85.
4- . تفسير العياشي 2:110/1457، تفسير الصافي 2:140.

ترهيبا لهم بقوله: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا من الدّنيا فُرادى و منقطعين عن الأموال و الأولاد و العشيرة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و على الهيئة التي ولدتم عليها في الدّنيا.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّهم يحشرون عراة حفاة غرلا» (1)، قالت عائشة: وا سوأتاه! الرّجل و المرأة كذلك، فقال عليه السّلام «لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قرأ على فاطمة بنت أسد هذه الآية، فقالت: و ما فرادى؟ فقال: «عراة» ، قالت: وا سوأتاه، فسأل اللّه أن لا يبدي عورتها، و أن يحشرها بأكفانها (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «تنوّقوا في الأكفان، فإنّكم تبعثون بها» (4).

ثمّ وبّخهم على عدم تقديم شيء منها إلى الآخرة بصرفه في سبيل اللّه بقوله: وَ تَرَكْتُمْ و خلّفتم ما خَوَّلْناكُمْ و تفضّلنا عليكم بما كنتم تفتخرون به، و تؤثرونه على الآخرة من الحطام وَراءَ ظُهُورِكُمْ و في الدّنيا التي انتقلتم منها إلى هذه الدّار، و ما قدّمتم منه إليها شيئا، و ما حملتم معكم منه نقيرا، و حرمتم أنفسكم من الانتفاع به.

ثمّ وبّخهم على عبادة الأوثان بزعم أنّهم شفعاؤهم بقوله: وَ ما نَرى مَعَكُمْ اليوم شُفَعاءَكُمُ من الأصنام اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مضافا إلى الرّجاء بشفاعتهم أَنَّهُمْ فِيكُمْ و في خلقكم و عبادتكم شُرَكاءُ للّه لَقَدْ تَقَطَّعَ الوصل الذي كان بَيْنَكُمْ و بينهم، و انفصم حبل مودّتكم، و تشتّت جمعكم، وَ ضَلَّ و ضاع عَنْكُمْ اليوم ما كُنْتُمْ في الدّنيا تَزْعُمُونَ و تتوهّمون من شفاعتهم و نفعهم.

عن الصادق عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في معاوية و بني اميّة و شركائهم و أئمّتهم (5)لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ يعني المودّة» .

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 95

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان التّوحيد و جملة من دلائله، و إثبات النّبوّة و صدق القرآن تبعا و استطرادا، عاد إلى إقامة البرهان على وجود الصّانع القادر الحكيم، و وحدانيّته تنبيها على أنّه المقصود الأهمّ في

إِنَّ اَللّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ ذلِكُمُ اَللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (95)

ص: 520


1- . غرلا: جمع أغرل، و هو الذي لم يختن.
2- . مجمع البيان 4:521، تفسير روح البيان 3:69، و الآية من سورة عبس:80/37.
3- . الخرائج و الجرائح 1:91/150، تفسير الصافي 2:140.
4- . الكافي 3:149/6، تفسير الصافي 2:140.
5- . تفسير القمي 1:211، تفسير الصافي 2:141.

السّور المباركة بقوله: إِنَّ اَللّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ كالحنطة و الشّعير و غيرهما و خالقه وَ فالق اَلنَّوى التي تكون في جوف الثّمرات كالتّمر و المشمش و أمثالهما، و خالقها، كما عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه (1). أو شاقّهما بالنباتات و الأشجار، كما عن أكثر المفسّرين (2). فإنّ الحبّة و النّواة إذا وقعتا في الأرض الرّطبة، و مرّت بهما مدّة، يشقّهما (3)اللّه تعالى شقّتين: إحداهما في أعلاهما، و الاخرى في أسفلهما.

ثمّ يُخْرِجُ النّبات أو الشّجر اَلْحَيَّ بالرّوح النّباتي، و القوّة النّامية من الشّقّ الأعلى مِنَ الحبّ و النّوى اَلْمَيِّتِ لعدم تلك الرّوح فيهما، و العرق الحيّ بالرّوح النّباتي من الشّقّ الأسفل منهما، وَ هو تعالى مُخْرِجُ الحبّ أو النّوى اَلْمَيِّتِ مِنَ النّبات أو الشّجر اَلْحَيَّ .

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، في حديث الطّينة: «تأويل الحبّ بطينة المؤمنين [التي]ألقى اللّه تعالى عليها محبّته، و تأويل النّوى بطينة الكافرين الذين نأوا عن كلّ خير» قال: «و إنّما سمّي النّوى من أجل أنه نأى عن كلّ خير و تباعد منه» (4).

و عن القمّي رحمه اللّه قال: «الحبّ ما أحبّه، و النّوى ما نأى عن الحقّ» .

و قال أيضا: «فالق الحبّ أي يفلق العلم من الأئمّة، و النّوى ما بعد عنه» (5).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث الطّينة (6): فقال اللّه: يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ فالحيّ: المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر، و الميّت الذي يخرج من الحيّ هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن» (7).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال: يخرج المؤمن من الكافر، و مخرج الكافر من المؤمن (8).

و عنه رضى اللّه عنه، في رواية اخرى: أنّ المراد من إخراج الحيّ من الميّت إخراج الحيوان من النّطفة أو البيضة، و من إخراج الميّت من الحيّ إخراج النّطفة أو البيضة من الحيوان (9).

قيل: لمّا كان الاعتناء بإخراج الحيّ من الميّت أكثر من إخراج الميّت من الحيّ، أتى سبحانه في بيان الأوّل بالجملة الفعليّة للدّلالة على اعتناء الفاعل بفعله (10)، و في بيان الثّاني بالجملة الاسميّة غير الدّالّة عليه (11).

ص: 521


1- . تفسير الرازي 13:89.
2- . مجمع البيان 4:523، عن الحسن و قتادة و السدّي.
3- . في النسخة: يشق.
4- . الكافي 2:4/7، تفسير الصافي 2:141.
5- . تفسير القمي 1:211، تفسير الصافي 2:141.
6- . في النسخة: الغيبة.
7- . الكافي 2:4/7، تفسير الصافي 2:141.
8- . تفسير الرازي 13:92، تفسير روح البيان 3:70.
9- . تفسير الرازي 13:92.
10- . تفسير الرازي 13:93.
11- . تفسير الرازي 13:93.

ثمّ لمّا أثبت سبحانه كمال قدرته و حكمته، خصّ استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله: ذلِكُمُ القادر المدبّر الحكيم اَللّهَ المستحقّ للعبادة دون غيره فَأَنّى تُؤْفَكُونَ و كيف تصرفون عنه إلى غيره، و تتركون عبادته، و تشتغلون بعبادة خلقه؟ !

و قيل: إنّ المراد: لمّا أنّه تعالى يخرج الحيّ من الميّت، و الميّت من الحيّ، كيف تنكرون المعاد و الإحياء بعد الموت (1)؟

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 96 الی 97

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على توحيده بفلقه الحبّ و النّوى، و عجيب تصرّفه في الأرضيّات، استدلّ بما هو أعجب منه، من ظهور كمال قدرته بتصرّفه في الفلكيّات، و فلقه الفجر، بقوله: فالِقُ اَلْإِصْباحِ و خالق عمود الفجر، أو شاقّ ظلمة اللّيل بنور الصّبح، أو شاقّ الصّبح ببياض النّهار وَ جَعَلَ بقدرته الكاملة و حكمته البالغة اَللَّيْلَ لأن يكون للنّاس و عامّة الحيوانات سَكَناً و زمان وقوف عن الحركة، أو وقت راحة لاحتياجهم إلى الرّاحة و السّكون.

فالِقُ اَلْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (96) وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)في (نهج البلاغة) : «و لا تسر أوّل اللّيل فإنّ اللّه جعله سكنا، و قدّره مقاما لا ظعنا، فأرح فيه بدنك و روّح ظهرك» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «تزوّج باللّيل، فإنّ اللّه جعله سكنا» (3).

و في (الكافي) : كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتّى يطلع الفجر، و يقول: «إنّ اللّه جعل اللّيل سكنا لكلّ شيء» (4).

وَ جعل اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ على أدوار مختلفة ليكونا حُسْباناً و مقدارا للأوقات، فإنّه تعالى قدّر حركة الشّمس و القمر بمقدار من السّرعة و البطء لا يتجاوزانه إلى أقصى منازلهما، فتتمّ الشّمس جميع البروج الاثني عشر في ثلاثمائة و خمسة و ستّين يوما و ربع يوم، و يتمّ القمر في ثمانية و عشرين يوما، و بهذا التّقدير تنتظم مصالح العالم المتعلّقة بالفصول الأربعة من نضج الثّمار و امور الحرث و النسل، و نحو ذلك ممّا يتوقّف عليه النّظام ذلِكَ التّقدير و التّسيير بالحساب المعيّن

ص: 522


1- . تفسير الرازي 13:94.
2- . نهج البلاغة:372 الرسالة 12، تفسير الصافي 2:141.
3- . الكافي 5:366/3، تفسير الصافي 2:141.
4- . الكافي 6:236/3، تفسير الصافي 2:142.

تَقْدِيرُ المدبّر اَلْعَزِيزِ المقتدر الذي قهرهما بإرادته اَلْعَلِيمِ بتدبيرهما و تنظيم امور خلقه.

وَ هُوَ القادر اَلَّذِي جَعَلَ و أنشأ بقدرته لَكُمُ و لأجل انتفاعكم اَلنُّجُومَ المختلفة في المواضع المتفرّقة من الشّمال و الجنوب و المشرق و المغرب لِتَهْتَدُوا و تعرفوا بِها الطّرق إلى البلاد فِي ظُلُماتِ اللّيالي في اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ و المفاوز و اللّجج. و في تخصيص هذه المنفعة بالذّكر بعد ذكر منافعها إجمالا إشعار بعظمة نعمة الاهتداء.

و عن القمّي رحمه اللّه: «النّجوم آل محمّد» (1).

ثمّ منّ سبحانه على النّاس بتعليمهم دلائل توحيده بقوله: قَدْ فَصَّلْنَا و شرحنا اَلْآياتِ و الحجج البيّنات على التّوحيد لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يتدبّرون الآيات، و يستدلّون بالمحسوسات على المعقولات، و ينتقلون من المشهودات إلى المغيّبات، فإنّهم المنتفعون بها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 98

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده و كمال قدرته و حكمته بخلق الإنسان و اختلاف حالاته بقوله: وَ هُوَ اللّه اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ و أوجدكم مع كثرتكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي أبوكم آدم، فإنّ حوّاء خلقت من ضلعه، و عيسى و إن كان خلق من نفخ روح القدس إلاّ أنّه من قبل امّه مريم ينتهي إليه وجوده، فالكلّ منتهون إلى أب واحد، و ذلك مع دلالته على كمال القدرة منّة عظيمة، لكونه سببا للالفة.

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)ثمّ ذكر سبحانه اختلاف حالاتهم بقوله: فَمُسْتَقَرٌّ و ثبات مستمرّ لكم في الأصلاب، أو في الأرحام، أو فوق الأرض وَ مُسْتَوْدَعٌ و ثبات غير مستمرّ في الأصلاب، أو في الرّحم، أو في القبور. و إنّما عبّر عنه بالاستيداع تشبيها له بالوديعة عند الودعيّ في سرعة الزّوال، أو في كون الثّبوت في الرّحم، أو في القبور من قبل الأب، أو من سائر النّاس.

و قيل: إنّ المراد من المستقرّ و المستودع مكان الاستقرار و الاستيداع (2).

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال لأبي بصير حين سأله عن هذه الآية: «ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه؟» ، قال: [قلت:]يقولون مستقرّ في الرّحم، و مستودع في الصّلب، فقال: «كذبوا، المستقرّ من استقرّ الإيمان في قلبه فلا ينزع منه أبدا، و المستودع الذي يستودع الإيمان زمانا ثمّ يسلبه، و قد كان الزّبير

ص: 523


1- . تفسير القمي 1:211، تفسير الصافي 2:142.
2- . تفسير الرازي 13:103.

منهم» (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: «مستقرّ في الرّحم، و مستودع في الصّلب، و قد يكون مستودع الإيمان ثمّ ينزع منه، و لقد مشى الزّبير في ضوء الإيمان و نوره حين قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى مشى بالسّيف و هو يقول: لا نبايع إلاّ عليّا» (2).

و في رواية قال: «المستقرّ الثّابت، و المستودع المعار» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام، في هذه الآية: «ما كان من الإيمان المستقرّ فمستقرّ إلى يوم القيامة و أبدا، و ما كان مستودعا سلبه اللّه قبل الممات» (4).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه خلق النّبيّين على النّبوّة فلا يكونون إلاّ أنبياء، و خلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين، و أعار قوما إيمانا، فإن شاء تمّمه لهم، و إن شاء سلبهم إيّاه» قال: «و فيهم جرت فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ» .

و قال: «إنّ فلانا كان مستودعا إيمانه، فلمّا كذّب علينا سلب إيمانه ذلك» (5).

و قيل: إنّ المستقرّ حال الإنسان بعد الموت، فإنّ السّعادة و الشّقاوة تبقى بعد الموت أبدا، و المستودع حاله قبل الموت، فإنّه يتبدّل، فقد يكون الكافر مؤمنا، و المؤمن قد يكون زنديقا، فلكون حالاته في شرف الزّوال شبّهت بالوديعة.

و على أيّ تقدير، فإنّ اختلاف الحالات مع اشتراك جميع أفراد الإنسان في الجسميّة و لوازمها، دالّ على أنّه بإرادة القادر المختار الحكيم (6).

ثمّ أظهر سبحانه على النّاس بتوضيح دلائل توحيده بقوله: قَدْ فَصَّلْنَا و شرحنا اَلْآياتِ و أدلّة التّوحيد لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و يفهمون دقائق الأمور. و إنّما ذكر في الآية السّابقة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، و في هذه الآية لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لأن دلالة النّجوم و منافعها على قدرته تعالى و حكمته أوضح من دلالة إيجاد نفوس كثيرة من نفس واحدة و اختلاف حالاتها، فإنّها محتاجة إلى التّأمّل و الدقّة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 99

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ اُنْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

ص: 524


1- . تفسير العياشي 2:111/1464، تفسير الصافي 2:142.
2- . تفسير العياشي 2:111/1466، تفسير الصافي 2:142.
3- . تفسير العياشي 2:113/1470، تفسير الصافي 2:142.
4- . تفسير العياشي 2:111/1467، تفسير الصافي 2:142.
5- . الكافي 2:306/4، تفسير الصافي 2:143.
6- . تفسير الرازي 13:103.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده و قدرته بإنزال الأمطار، و إنبات الزّروع و الأشجار من الحبّ و النّوى، و إخراج الحبوب و الأثمار و اختلاف حالاتها، بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي أَنْزَلَ بقدرته مِنَ اَلسَّماءِ المعروف (1)، أو من جهة العلوّ بالأمطار ماءً مباركا.

ثمّ بيّن سبحانه أعظم فوائد الإنزال بتلوين الخطاب إعظاما لنفسه بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ من الأرض نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ من الزّرع و الشّجر و غيرهما ممّا له نبات.

ثمّ لمّا أشار في قوله: فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى (2)إلى ما ينبت من الحبّ و هو الزّرع، و إلى ما ينبت من النّوى و هو الشّجر، ذكر القسمين المذكورين و بدأ بذكر ما يخرج من نبات الزّرع بقوله: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ نبتا غضّا خَضِراً متشعّبا من أصل النّبات الخارج من الحبّ، ثمّ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً منضّدا بعضه فوق بعض كسنبل الحنطة و الشّعير و أمثالهما.

ثمّ ذكر الشّجر و ما يخرج منه، و بدأ بذكر النّخل لكونها أعظم نفعا بقوله: وَ مِنَ اَلنَّخْلِ لا من جميعها، بل مِنَ خصوص طَلْعِها و هو شيء يخرج منها كأنّه نعلان مطبقان، يخرج قِنْوانٌ و أعذاق شبه عناقيد العنب، يخرج منها التّمر دانِيَةٌ ملتفّة متقاربة، أو بعضها قريبة من المجتني، سهلة المجتنى، و بعضها بعيدة لم تذكر اختصارا.

ثمّ ذكر أنفع الأشجار بعد النّخل بقوله: وَ جَنّاتٍ و بساتين مِنْ أَعْنابٍ مختلفة بالصّنف وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ أخرجنا من الأرض بذلك الماء الواحد بالطّبع، حال كون كلّ من الأنواع الثّلاثة مُشْتَبِهاً وَ متماثلا في الأوراق غَيْرَ مُتَشابِهٍ في الثّمر طعما و شكلا، فإنّ بعضه حلو و بعضه حامض، و بعضه حلو حامض.

و قيل: إنّ بعض الثّمرات متشابه في الهيئة و اللّون و الطّعم، و بعضها غير متشابه (3).

اُنْظُرُوا أيّها النّاس بنظر الاعتبار إلى كلّ شجر، و إِلى ثَمَرِهِ الحاصل منه إِذا أَثْمَرَ و حين أظهر اكله، كيف يكون صغيرا ضئيلا لا ينتفع به وَ إلى يَنْعِهِ و نضجه، أو حال نضجه، كيف يصير كبيرا لذيذا نافعا مع كونه من أرض واحدة و ماء واحد! إِنَّ فِي ذلِكُمْ الأثمار و الأحوال

ص: 525


1- . لفظ السماء مؤنث، و قد يذكّر.
2- . الأنعام:6/95.
3- . تفسير الصافي 2:143.

المختلفة لها، و اللّه لَآياتٍ عظيمة، و دلالات واضحة على وجود الصّانع القادر الحكيم لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه و بوحدانيّته، أو للّذين يطلبون الإيمان باللّه، فإنّهم المنتفعون بالاعتبار و الاستدلال بها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 100 الی 101

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام من المشركين بالبراهين المتقنة، وبّخ عبدة الملائكة منهم بقوله: وَ جَعَلُوا في اعتقادهم لِلّهِ الواحد القادر الحكيم بعد وضوح وحدانيّته شُرَكاءَ و أندادا، أعني بهم اَلْجِنَّ و إنّما سمّى الملائكة بالجنّ؛ لسترهم عن الأنظار، و تحقيرهم [بالنسبة إلى مقام الالوهية]

(1)، وَ الحال أنّه تعالى خَلَقَهُمْ بقدرته الكاملة، و لا يكون المخلوق شريكا لخالقه.

وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ اَلْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)و قيل: إنّ المراد بالجنّ الشّياطين الّذين دعوهم إلى عبادة الأصنام (2).

و قيل: إنّ المراد أهرمن (3)و جنده من الأبالسة (4).

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: نزلت الآية في الزّنادقة الذين قالوا: إنّ اللّه و إبليس أخوان؛ فاللّه خالق النّاس و الدواب الأنعام و الخيرات، و إبليس خالق السّباع و الحيّات و العقارب و الشّرور (5).

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين القائلين بأنّ له الولد بقوله: وَ خَرَقُوا و اختلقوا لَهُ بهوى أنفسهم بَنِينَ كاليهود القائلين بأنّ عزير ابن اللّه، و النّصارى القائلين بأنّ المسيح ابن اللّه وَ بَناتٍ كمشركي العرب القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ لهم بعظمة اللّه و شناعة هذا الزّعم لوضوح امتناع الولادة من واجب الوجود.

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن كلّ ما لا يليق به من الشّريك و الولد و غيرهما بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ ربّهم و ينسبون إليه من الندّ و الولد و سائر النّقائص.

ثمّ شرع سبحانه في إقامة البراهين على بطلان القول باتّخاذه الولد بقوله: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و موجدهما بلا سبق مثال و استعانة بشيء هو اللّه، فإذا كان كذلك فهو غنيّ عن الولد.

ثمّ من البديهيّات أنّ الولادة لا يمكن بدون الزّوجة و الصّاحبة، فإذن أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ و كيف

ص: 526


1- . الزيادة من تفسير أبي السعود 3:167.
2- . تفسير الرازي 13:115.
3- . و هو إله الشرّ عند المجوس.
4- . تفسير الرازي 13:113.
5- . تفسير الرازي 13:113.

بوجد له نسل وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ تعالى صاحِبَةٌ يلقي في رحمها نطفة؟ !

ثمّ أشار إلى البرهان الثّالث بقوله: وَ خَلَقَ سبحانه كُلَّ شَيْءٍ ممّا يرى و ما لا يرى، و المخلوق يمتنع أن يكون ولدا لخالقة.

ثمّ أشار إلى البرهان الرّابع بقوله: وَ هُوَ تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ ممّا يمكن وجوده و ما لا يمكن عَلِيمٌ أزلا و أبدا بحيث لا تخفى عليه خافية، فإذا علم أن لا كمال له و لا نفع في اتّخاذه الولد يمتنع عليه اتّخاذه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 102

ثمّ بعد إبطال دعوى الشّرك بوجوهه المختلفة، صرّح سبحانه بتوحيده في جميع الجهات بقوله: ذلِكُمُ المتّصف بالصّفات الجلاليّة و الجماليّة هو اَللّهُ المستحقّ للعبادة، و هو رَبُّكُمْ و مدبّر اموركم دون غيره لا إِلهَ و لا معبود في الوجود إِلاّ هُوَ لعدم إمكان التّعدّد لواجب الوجود، و هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، لا خالق غيره في عرضه، لامتناع تعدّد الخالق؛ لأنّه إن أراد أحد الخالقين مثلا خلق شيء و أراده الآخر و تكافئا، يحصل التّمانع و التّعطيل في الوجود، و إن لم يرد أحدهما إيجاد شيء لزم التعطيل في واجب الوجود، و هو نقص لا يليق به، و إن أراد و لم يقدر على مزاحمة الآخر، لزم عجزه من إنفاذ إرادته، و هو أيضا نقص لا يليق بالواجب.

ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)فإذا ثبت تفرّده في خلق العالم، و تربية الموجودات، و استحقاق العبادة فَاعْبُدُوهُ أيّها النّاس و لا تعبدوا غيره.

ثمّ قرّر تفرّده تعالى بتدبير الأمور و إنجاح حوائج النّاس، لصرف قلوبهم إلى نفسه، و قطع تعلّقها بالأسباب بقوله: وَ هُوَ تعالى مع كمال جوده و رأفته، و سعة قدرته و حكمته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و كلّ أمر من الأمور وَكِيلٌ و رقيب يراقب اموركم و يدبّرها، فكلوها إليه و توسّلوا به في إنجاح مطالبكم، فإنّه هو القادر على القيام بها، الوافي بإتمامها، لا منجح للمقاصد و لا مصلح للمهمّات إلاّ هو.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 103

ثمّ بعد التّنبيه بوجوب رفع الحاجات إليه، و كان لرؤية من يتوسّل به في قضائها و علمه بها دخل

ص: 527

في السّؤال منه و التّوكّل عليه، نفى سبحانه إمكان رؤية ذاته المقدّسة بحسّ البصر بقوله: لا تُدْرِكُهُ و لا تصل إليه تعالى اَلْأَبْصارُ الظّاهريّة.

لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (103)ثمّ أثبت علمه و إحاطته بقوله: وَ هُوَ تعالى يُدْرِكُ و يرى اَلْأَبْصارُ الرّافعة إليه للطّلب، و الأعين المادّة إليه للسّؤال.

ثمّ وصف نفسه بما هو علّة للقضيّتين بقوله: وَ هُوَ اَللَّطِيفُ و الغامض الذي لا تدركه العقول، و العميق الذي لا تناله الاوهام و قيل: هو اللّطيف في صنعه و الوهيّته، أو بعباده (1)اَلْخَبِيرُ المطّلع على دقائق الأشياء و خفيّات الأمور، لا يعزب عنه شيء.

عن الرضا عليه السّلام، في رواية قال: «لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ و هذه الأبصار ليست هذه (2)الأعين، إنّما هي الأبصار التي في القلوب، لا تقع عليه الأوهام، و لا يدرك كيف هو» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في رواية: «و أمّا قوله: لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصارَ فهو كما قال: لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ [يعني لا تحيط به الأوهام وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصارَ يعني]يحيط بها» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «يعني إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ (5)، ليس يعني بصر العين-إلى أن قال: -إنّما عنى إحاطة الوهم، كما يقال: فلان بصير بالشّعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدّراهم، و فلان بصير بالثّياب، اللّه أعظم من أن يرى بالعين» (6).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السّند و الهند و البلدان التي لم تدخلها و لم تدركها ببصرك، و أوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون ؟ !» (7).

و عن الرضا عليه السّلام: «و أمّا اللّطيف فليس على قلّة و قضافة (8)و صغر، و لكن ذلك على النّفاذ في الأشياء، و الامتناع من أن يدرك [كقولك للرجل]: لطف عنّي هذا الأمر، و لطف فلان في مذهبه و قوله، يخبرك أنّه غمض فيه العقل، و فات الطّلب، و عاد متعمّقا متلطّفا لا يدركه الوهم، فكذلك لطف اللّه تبارك و تعالى عن أن يدرك بحدّ، أو يحدّ بوصف، و اللّطافة منّا الصّغر و القلّة، فقد جمعنا الاسم

ص: 528


1- . تفسير الرازي 13:133.
2- . في العياشي و المجمع: هي.
3- . تفسير العياشي 2:114/1474، مجمع البيان 4:533.
4- . التوحيد:262/5، تفسير الصافي 2:145. و في النسخة: لا تدركه الأبصار، و لا تحيط بها.
5- . الأنعام:6/104.
6- . الكافي 1:76/9، التوحيد:112/10، تفسير الصافي 2:145.
7- . الكافي 1:77/11، تفسير الصافي 2:145.
8- . القضافة: من قضف يقضف، إذا دقّ و نحف لا عن هزال.

و اختلف المعنى» .

قال: «و أمّا الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء و لا يفوته، ليس للتّجربة و لا للاعتبار بالأشياء فتفيده التّجربة و الاعتبار علما، و لولاهما ما علم؛ لأنّ من كان كذلك كان جاهلا، و اللّه لم يزل خبيرا بما يخلق، و الخبير من النّاس المستخبر عن جهل المتعلّم، فقد جمعنا الاسم و اختلف المعنى» (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 104

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد و الرّسالة، نبّه النّاس عن لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله على تماميّة الحجّة عليهم بقوله: قَدْ جاءَكُمْ أيّها النّاس آيات فيها بَصائِرُ و علوم، أو براهين مِنْ رَبِّكُمْ تبصّركم الحقّ و تعرّفكم الصّواب، و تمّ ما عليّ من تبليغها، و بقي ما عليكم من التّبصّر و الإيمان بها فَمَنْ أَبْصَرَ بها الحقّ و آمن به فَلِنَفْسِهِ أبصر، و إيّاها نفع وَ مَنْ عَمِيَ عن رؤية الحقّ و كفر به فَعَلَيْها ضرّ وَ ما أَنَا من قبل ربّي عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ حتّى اجبركم على قبول الحقّ و الإيمان به، بل إنّما أنا نذير، و اللّه مجازيكم بما تستحقّون.

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 105

ثمّ لمّا ادّعى النّبوّة استدلّ سبحانه عليها بقوله: وَ كَذلِكَ التّصريف البديع، و بيان الحجج الواضحة بعبارات مختلفة بالغة أعلى درجة الإعجاز نُصَرِّفُ اَلْآياتِ الدالّة على جميع المعارف و المواعظ و الأحكام، و نأتي بها حالا بعد حال، لتتمّ الحجّة على المعاندين وَ لِيَقُولُوا في عاقبة الأمر، أو لئلاّ يقولوا: دَرَسْتَ و قرأت يا محمّد هذه العلوم على غيرك و تقرأها علينا، و تدّعي الوحي بها إليك وَ لِنُبَيِّنَهُ و نوضّحه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يفهمون، أو يكونوا بتبيينه عالمين بما فيه من المعارف و العلوم. و إنّما كنّى عن الآيات بالضّمير المفرد المذكّر باعتبار القرآن.

وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 106 الی 107

ثمّ لمّا أشار سبحانه إلى قدح المشركين في القرآن بأنّه مطالب مأخوذة من أهل الكتاب، و إلى

اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

ص: 529


1- . الكافي 1:95/2، تفسير الصافي 2:145.

تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ادّعاء نزول الوحي إليه، و كان مجال فتور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في التّبليغ و تكدّر خاطره الشّريف، أمره سبحانه بالقيام بوظيفة الرّسالة، و عدم الاعتناء بترّهات المشكرين بقوله: اِتَّبِعْ يا محمّد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن، و دم على ما أنت عليه من تبليغه و التّديّن بأحكامه التي عمدتها وجوب التّوحيد، و الإيمان بأنّه لا إِلهَ إِلاّ هُوَ تعالى، وحده لا شريك له وَ أَعْرِضْ عَنِ أباطيل اَلْمُشْرِكِينَ و لا تعتن بها، و لا يكن قدحهم في القرآن سبب فتورك في تبليغ رسالتك، و لا يثقلن عليك إصرارهم على ضلالهم، فإنّه بإرادة اللّه حيث خلّى بينهم و بين أنفسهم و الشّيطان المغوي لهم

وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ بالمشيئة التّكوينيّة إيمانهم بالتّوحيد، و تركهم الشّرك ما أَشْرَكُوا أبدا، و لكن تركهم و اختيارهم حتّى يظهر خبث طينتهم و سوء سريرتهم.

و عن (المجمع) ، في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: «و لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى لا يعصيه أحد ما كان يحتاج إلى جنّة و نار، و لكنّه أمرهم و نهاهم و امتحنهم و أعطاهم ماله عليهم به الحجّة من الآلة و الاستطاعة، ليستحقّوا الثّواب و العقاب» (1).

و إنّما بعثناك إليهم نذيرا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً حتّى يجب عليك إجبارهم بالإيمان بالتّوحيد و النبوّة، و قهرهم على ترك الشّريك وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ من قبل ربّك بِوَكِيلٍ و قيّم حتّى يجب عليك تدبير امورهم، و النّظر في مصالحهم.

قيل: الحافظ للشيء من يصونه عمّا يضرّه، و الوكيل عليه من يجلب الخير له (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 108

ثمّ قيل: إنّه لمّا طعن المشركون في القرآن بقولهم للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّما درست على علماء أهل الكتاب، غضب المؤمنون و شتموا الأصنام، فنهى اللّه عن ذلك (3)بقوله: وَ لا تَسُبُّوا و لا تشتموا أيّها المؤمنون آلهتهم اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه فَيَسُبُّوا اَللّهَ بسبب سبّكم آلهتهم عَدْواً و غضبا، أو تجاوزا عن الحقّ إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ و عن سفة و جهالة، حيث إنّهم ما قدروا اللّه حقّ قدره.

وَ لا تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ فَيَسُبُّوا اَللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: لمّا نزل إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (4)قال

ص: 530


1- . مجمع البيان 4:536، تفسير الصافي 2:147.
2- . تفسير روح البيان 3:82.
3- . تفسير الرازي 13:139.
4- . الأنبياء:21/98.

المشركون: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا و شتمها لنهجونّ إلهك، فنزلت (1).

و عن السّدي: أنّه لمّا قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: ندخل عليه و نطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنّا، فإنّا نستحي أن نقتله بعد وفاته، فيقول العرب: كان يمنعه فلمّا مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان و أبو جهل و النّضر بن الحارث مع جماعة إليه و قالوا له: أنت كبيرنا، و خاطبوه بما أرادوا، فدعا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و قال: هؤلاء قومك و بنو عمّك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم و يتركوك على دينك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «قولوا: لا إله إلاّ اللّه» . فأبوا، فقال أبو طالب: قل غير هذه الكلمة، فإنّ قومك يكرهونها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنا بالذي أقول غيرها حتّى تأتوني بالشّمس فتضعوها في يدي» . فقالوا له: اترك شتم آلهتنا، و إلاّ شتمناك و من يأمرك بذلك (2).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الشّرك أخفى من دبيب النّملة على صخرة سوداء في ليلة ظلماء» . فقال: «كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون اللّه، فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى اللّه المؤمنين عن سبّ آلهتهم، لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا باللّه من حيث لا يعلمون» (3).

و قيل: إنّ اللّه أجرى شتم الرّسول منزلة شتمه (4)؛ لأنّ العرب كانوا معتقدين باللّه، و يقولون: إنّ الأصنام شفعاؤنا عنده، فلم يمكن إقدامهم على سبّ اللّه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «أ رأيت أحدا يسبّ اللّه؟» . فقيل: لا، و كيف قال ذلك؟ قال: «من سبّ وليّ اللّه فقد سبّ اللّه» (5).

و عنه عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا نرى في المسجد رجلا يعلن بسبّ أعدائكم و يسبّهم. فقال: «ما له لعنه اللّه، يعرّض بنا، قال اللّه: وَ لا تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ الآية» .

و قال عليه السّلام: «لا تسبّوهم فإنّهم يسبّوكم» .

و قال: «من سبّ وليّ اللّه فقد سبّ اللّه» .

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «من سبّك فقد سبّني، و من سبّني فقد سبّ اللّه، و من سبّ اللّه فقد أكبّه اللّه على منخريه في نار جهنّم» (6).

كَذلِكَ التزيين الذي يكون لسبّ اللّه في نظر المشركين زَيَّنّا و حسّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ و طائفة

ص: 531


1- . تفسير الرازي 13:139.
2- . تفسير الرازي 13/140.
3- . تفسير القمي 1:213، مجمع البيان 4:537، تفسير الصافي 2:147.
4- . تفسير الرازي 13:140.
5- . تفسير العياشي 2:114/1475، تفسير الصافي 2:147.
6- . الاعتقادات للصدوق:107، تفسير الصافي 2:147.

من الكفّار عَمَلَهُمْ السّيّء.

قيل: يعني في زعمهم حيث قالوا: إنّ اللّه أمرنا بها (1).

و قيل: يعني: أمهلناهم و خلّيناهم و شأنهم حتّى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشّيطان حتّى زيّن لهم (2).

و قيل: إنّ المراد: زيّنا لكلّ من المؤمنين و الكافرين عملهم من الخير و الشّرّ، و الطاعة و العصيان، بإيجاد ما يمكّنهم منه توفيقا و خذلانا (1).

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ و المالك لأمرهم مَرْجِعُهُمْ بعد الموت، أو البعث يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ و يخبرهم بِما كانُوا في الدّنيا يَعْمَلُونَ من الحسنات و السيّئات بإعطائهم الجزاء المستحقّ.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 109

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية طعن المشركين في القرآن بكونه من تعليمات أهل الكتاب، حكى طعنهم في نبوّة صلّى اللّه عليه و آله النبي بأنّه لا يقدر على ما اقترحنا عليه من المعجزة، بقوله: وَ أَقْسَمُوا و حلفوا بِاللّهِ و كان يمينهم جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و أغلظها و أشدّها لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ممّا اقترحوه لَيُؤْمِنُنَّ بِها .

وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا اَلْآياتُ عِنْدَ اَللّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)روي أنّ قريشا قالوا: يا محمّد، إنّك تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا، فيضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، و تخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، و أنّ صالحا أخرج النّاقة من الجبل، فأتنا أنت أيضا بآية بيّنة، فإن فعلت ذلك لنصدقنّك و نؤمن لك، و حلفوا على ذلك و بالغوا في تأكيد الحلف، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أيّ شيء تحبّون؟» . قالوا: تجعل لنا الصّفا ذهبا، أو ابعث لنا بعض موتانا حتّى نسأله عنك أحقّ ما تقول أم باطل، أو أرنا الملائكة يشهدون لك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فإن فعلت بعض ما تقولون تصدّقونني؟» ، قالوا: نعم، و اللّه لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين، و سأل المسلمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينزلها عليهم حتّى يؤمنوا، فهمّ عليه السّلام بالدّعاء فجاء جبرئيل عليه السّلام فقال: إن شئت كان ذلك، و لئن كان فلم يصدّقوك عنده ليعذّبنّهم بعذاب الاستئصال، و لئن شئت تركتهم حتّى يتوب تائبهم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية (2).

ص: 532


1- . تفسير روح البيان 3:84.
2- . تفسير روح البيان 3:85.

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يجيبهم بقوله: قُلْ لهم إِنَّمَا اَلْآياتُ و خوارق العادات كلّها عِنْدَ اَللّهِ و بقدرته و إرادته، لا بقدرتي و إرادتي، و هو يظهر منها ما يشاء و تقتضيه حكمته.

ثمّ بيّن سبحانه حكمة عدم إحابتهم مخاطبا للمسلمين المشتاقين إلى إيمانهم بقوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ و أيّ شيء يعلمكم أيّها المؤمنون حين سألوا الآية أَنَّها إِذا جاءَتْ يؤمنون بها، فإنّا نعلم أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بها و يصرّون على كفرهم، فينزل عليهم عذاب الاستئصال، كما نزل على أصحاب المائدة، فيكون في ترك إجابتهم إمهالهم، و رحمة بمن في أصلابهم.

قيل: كلمة (أنّ) في أَنَّها إِذا جاءَتْ بمعنى (لعلّ) ، و المعنى لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون (1). و قيل: إنّ (لا) في لا يُؤْمِنُونَ زائدة (2).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 110

ثمّ بيّن سبحانه علّة عدم إيمانهم بالآيات بقوله: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ و نحوّل قلوبهم عن قبول الحقّ إلى إنكاره، أو نطبع عليها فلا يفهمون وجه الإعجاز في الآيات، وَ نحوّل أَبْصارَهُمْ و نعميها عن رؤية ما انزل لفساد استعدادهم، و خباثة طينتهم، و سوء أخلاقهم، فلا يؤمنون به كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ مع كمال ظهوره أَوَّلَ مَرَّةٍ و في بدو الأمر. عن القمّي: يعني في الذر و الميثاق (3).

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)عن الباقر عليه السّلام «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ، يقول: نقلّب (4)قلوبهم، فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، و نعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى.

و قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أوّل ما يقلبون عنه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثمّ الجهاد بألسنتكم، ثمّ الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفا و لم ينكر منكرا، نكّس قلبه و جعل أعلاه أسفله، و لم يقبل خيرا أبدا» (5).

وَ نَذَرُهُمْ و نتركهم فِي طُغْيانِهِمْ و عتوّهم عن قبول دينك حال كونهم يَعْمَهُونَ عن الحقّ، و يتحيّرون فيه، عقوبة لهم على ترك إيمانهم بك في أوّل بعثتك.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 111

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

ص: 533


1- . تفسير الرازي 13:144.
2- . مجمع البيان 4:539.
3- . تفسير القمي 1:213، تفسير الصافي 2:149.
4- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: ننكّس.
5- . تفسير القمي 1:213، تفسير الصافي 2:149.

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح شدّة إصرارهم على الكفر و العناد، و عدم إيمانهم بأعظم الآيات بقوله: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةَ شاهدين على صدقك كما اقترحوه وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى بعد إحيائهم بدعائك في صدقك و وجوب الإيمان بك، بل وَ لو حَشَرْنا و جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ من موجودات هذا العالم من الجمادات و النّباتات و الحيوانات، أو ممّا يدبّ في الأرض، حال كونهم قُبُلاً و أفواجا، أو كفلاء بصدق دعوتك، و صحّة نبوّتك، و عن القمّي رحمه اللّه: أي عيانا (1)ما كانُوا مع مشاهدة تلك الآيات لِيُؤْمِنُوا بك بالطّوع و الرّغبة أبدا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ إيمانهم بالقهر و الإجبار، فلا فائدة في إجابة مسؤولهم من إنزال الآيات، إذ ليس غرضهم من سؤالها إلاّ التهكّم و التّعنّت، كما هو معلوم عندك و عند قليل من المؤمنين كعليّ عليه السّلام وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصورهم يَجْهَلُونَ هذه الدّرجة من خبث ذاتهم و رذالة أخلاقهم، فيطمعون في إيمانهم، أو المراد: أنّ أكثر المشركين الّذين يسألون الآيات، يجهلون أنّها لو جاءتهم لا يؤمنون.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 112

ثمّ لمّا كان لجاج القوم سببا لملالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّى سبحانه قلبه الشّريف ببيان كون هذه البليّة عامّة بقوله: وَ كَذلِكَ التّزيين الذي جعلناه لأعمال الامم، أو كذلك العدوّ الذي جعلناه لك جَعَلْنا في كلّ عصر لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء عَدُوًّا و مبغضين، كانوا هم شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ و مردتهما. كما عن ابن عبّاس (2).

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112)و عن الصادق عليه السّلام: «من لم يجعله اللّه من أهل صفة الحقّ، فأولئك شياطين الإنس و الجنّ» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «ما بعث اللّه نبيّا إلاّ و في أمّته شيطانان يؤذيانه و يضلاّن النّاس بعده، فأما صاحبا نوح فنيطيفوس و خرّام، و أمّا صاحبا إبراهيم فمكثل و رزام، و أمّا صاحبا موسى فالسّامري و مر عقيبا، و أمّا صاحبا عيسى فبولس و مرينون، و أمّا صاحبا محمّد فحبتر و زريق» (4).

قيل: حبتر كثعلب وزنا و معنى، كنّى به عن رجل كثير الحيلة، و بزريق عن آخر في عينه زرقة (5).

ص: 534


1- . تفسير القمي 1:213، تفسير الصافي 2:149.
2- . مجمع البيان 4:544 عن الحسن و قتادة و مجاهد.
3- . الكافي 8:11/1، تفسير الصافي 2:150.
4- . تفسير القمي 1:214، تفسير الصافي 2:149.
5- . تفسير الصافي 2:150.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة عداوتهم بقوله: يُوحِي و يسرّ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ لتخريب أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ و المزيّن من الكلام الكذب و الباطل ليغرّه إلى إهلاك نفسه غُرُوراً .

قيل: إنّ من الجنّ شياطين و من الإنس شياطين، و إنّ الشّيطان من الجنّ إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرّد من الإنس [و هو شيطان الإنس]، فأغراه بالمؤمن ليفتنه (1)، و ذلك بمشيئة اللّه لحكمة الامتحان، و بروز الاستعدادات.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ عدم العداوة، أو عدم الإيحاء، أو عدم التّزيين للكلام ما فَعَلُوهُ البتّة، فإذا كان فعلهم بمشيئة اللّه فَذَرْهُمْ يا محمّد وَ ما يَفْتَرُونَ من الكفر، أو دعهم مع ما زيّن لهم إبليس و غرّهم به-كما عن ابن عبّاس (2)-فإنّ لهم عندنا عقوبات شديدة، و لك على تحمّل الأذى منهم مثوبات عظيمة. و فيه غاية التّهديد. و قيل: منسوخ بآية السّيف (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 113 الی 114

ثمّ بعد بيان علّة إيحائهم الأباطيل، بيّن سبحانه علّة تزيينها بقوله: وَ لِتَصْغى و تميل إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و ترغب إلى استماعه قلوبهم وَ لِيَرْضَوْهُ لأنفسهم وَ لِيَقْتَرِفُوا و يكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ و مكتسبون من السّيّئات، و أمّا الّذين يؤمنون بالآخرة فإنّهم لا يميلون إلى استماعه و لا يرضون به لعلمهم ببطلانه و سوء عاقبته.

وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَ فَغَيْرَ اَللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (114)

ثمّ روي أنّ مشركي مكّة بعد اقتراحهم الآيات قالوا: يا محمّد، اجعل بيننا و بينك حكما من أحبار اليهود، أو من أساقفة النصارى يفصل بيّن المحقّ و المبطل، فإنّهم قرأوا الكتب قبلك (4)، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينكر عليهم ما سألوه بقوله: أَ فَغَيْرَ اَللّهِ قيل: إنّ التّقدير: أميل إلى قولكم، فغير اللّه أَبْتَغِي و أطلب حَكَماً و قاضيا بالحقّ بيني و بينكم (5)، يحكم بصحّة نبوّتي وَ هُوَ تعالى اَلَّذِي حكم بها حيث إنّه أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتابَ السّماوي المشتمل على وجوه من الإعجاز، حال كونه مُفَصَّلاً و مبيّنا فيه المحقّ و المبطل، و مع ذلك لا حاجة إلى حكومة أهل الكتاب.

ص: 535


1- . تفسير الرازي 13:154.
2- . تفسير الرازي 13:156.
3- . ناسخ القرآن العزيز و منسوخه:33. (4 و 5) . تفسير روح البيان 3:90.

ثمّ بيّن اللّه عدم أهليّة أهل الكتاب للحكميّة لشدّة عداوتهم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتمانهم الحقّ بقوله: وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ و فهّمناهم ما فيه من علائم النبيّ و صفات كتابه يَعْلَمُونَ بسبب شهادة كتبهم بصدق كتابك أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ متلبّسا بِالْحَقِّ و الصدق، و مع ذلك يكتمون الشّهادة على أنّه منزّل منه فَلا تَكُونَنَّ يا محمّد مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ و الشّاكّين في علمهم بصدق كتابك، و فيه توبيخهم. أو من الممترين في أنّه منزّل من ربّك بسبب جحودهم، و فيه تهييج للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله على الثّبات على يقينه. و قيل: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد غيره (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 115 الی 116

ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن أعظم شهادة منه تعالى على صدق نبوّته بقوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ و آياته النّازلة إليك في الإعجاز و الشهادة على صدق دعواك، و بيان جميع ما يحتاج إليه النّاس إلى يوم القيامة، حال كونها صِدْقاً في إخبارها وَ عَدْلاً مستقيما في حكومتها؛ لا كذب فيها، و لا تجاوز عن الحقّ لا مُبَدِّلَ و لا مغيّر من خلق اللّه لِكَلِماتِهِ .

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (115) وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (116)قيل: إنّ المراد: لا يأتي أحد بما هو أصدق و أعدل منها، بل و لا بما يساويها في الصّدق و العدالة، فكيف يجوز ابتغاء حكم غيره تعالى؟ ! (2)

و قيل: إنّ المعنى: لا خلف فيها و لا نقص، أو لا تأثير لشبهات الكفّار في دلالتها على صدقك (3).

ثمّ هدّد المبتغين للتحكيم بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقال المتحاكمين اَلْعَلِيمُ بخبث ذاتهم و سوء أعمالهم، فيعاقبهم عليها.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الإمام يسمع في بطن امّه، فإذا ولد خطّ بين كتفيه» (4)و في رواية: «بين عينيه» (5)و في اخرى: «على عضده الأيمن: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً الآية (6)، فإذا صار الأمر إليه جعل اللّه له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كلّ بلدة» (7). و في رواية: «فبهذا يحتجّ اللّه على خلقه» (8).

ص: 536


1- . تفسير الرازي 13:159.
2- . تفسير أبي السعود 3:178، تفسير روح البيان 3:91.
3- . تفسير الرازي 13:162.
4- . الكافي 1:318/4، تفسير الصافي 2:151.
5- . الكافي 1:319/6، تفسير الصافي 2:151.
6- . الكافي 1:318/3، تفسير الصافي 2:151.
7- . الكافي 1:318/4، تفسير الصافي 2:151.
8- . الكافي 1:318/2، تفسير الصافي 2:151.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ القرآن الذي هو معجزة باهرة حكم اللّه بصدق نبوّتك فلا حاجة بعده إلى تحكيم غيره في ذلك، بيّن أنّ موافقة الكفّار في ما يطلبونه من التحكيم و غيره صرف الضّلال، بقوله مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بطريق (إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) : وَ إِنْ تُطِعْ الكفار يا محمّد في ما يطلبونه و يشتهون، نظرا إلى كونهم أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ و يحرفوك عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دينه الحقّ، حيث إنّهم مع إصرارهم على دينهم الباطل غير قاطعين به، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ في عقائدهم و مجادلتهم في التّوحيد و أعمالهم إِلاَّ اَلظَّنَّ بصحّة ما وجدوا عليه آباءهم، لا القطع الحاصل من البرهان وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ و يكذبون في ادّعاء القطع، أو يقولون عن تخمين و استحسان.

قيل: إنّ أهل مكّة كانوا يستحلّون [أكل]الميتة و يدعون المسلمين إلى أكلها، و كانوا يقولون: إنّما ذلك ذبح اللّه، فهو أحلّ ممّا ذبحتم بسكاكينكم، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 117 الی 118

ثمّ بعدما بيّن سبحانه ضلالة أكثر النّاس، بيّن علمه بأحوال جميعهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ و أيّ شخص ينحرف عَنْ سَبِيلِهِ و دينه الحقّ و قيل: أعلم بمعنى: يعلم (2)وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى الحقّ.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)

ثمّ لمّا كان من ضلالة المشركين تحليل الميتة و ما لم يذكر عليه اسم اللّه، أمر اللّه المؤمنين بعد تحذيرهم من اتّباع المضلّين بتخصيصهم المذكّى بالأكل بقوله: فَكُلُوا أيّها المؤمنون مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه خاصّة دون ما مات حتف أنفه، أو ذكر اسم الأصنام عليه إِنْ كُنْتُمْ بكتاب اللّه و بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان باللّه و كتابه موجب للاحتراز عن غير ما أحلّه. و يحتمل أن يكون المراد الأمر بتعميم الأكل بكلّ ما ذكّي على اسم اللّه، و إن كان سائبة و أخواتها.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 119

وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

ص: 537


1- . تفسير روح البيان 3:92.
2- . تفسير روح البيان 3:92.

ثمّ أنكر عليهم الاحتراز عن أكل ما حرّمه المشركون على أنفسهم، و إن ذكر اسم اللّه عليه، بقوله: وَ ما لَكُمْ من العذر في أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه أو نحره، وَ الحال أنه قَدْ فَصَّلَ و شرح لَكُمْ في كتابه بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ (1)الآية، أو قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ (2)الآية، أو بالوحي على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ من الحيوانات إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ من المحرّمات، فإنّ الضّرورات تبيح المحذورات وَ إِنَّ كَثِيراً من النّاس كعمرو بن لحي الذي غير دين إسماعيل، و حرّم كثيرا من الأنعام، و أباح الميتة، و من بعده من المشركين لَيُضِلُّونَ الضّعفاء عن طريق الحقّ بترغيبهم إلى عبادة الأصنام، و أكل الميتة، و التّحرّج عن أكل السائبة و الوصيلة و أخواتهما و إن ذكر اسم اللّه عليها، و الاحتجاج بالاعتبارات السّخيفة بِأَهْوائِهِمْ الزائغة و الشّبهات الفاسدة، و بِغَيْرِ عِلْمٍ و حجّة قاطعة، و اقتباس من الشّريعة.

ثمّ هدّدهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ و المتجاوزين عن حدود اللّه بتحليل ما حرّم و تحريم ما أحلّ، فيعاقبهم في الآخرة أشدّ العقاب.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 120

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى حرمة الميتة، و تفصيل المحرّمات من الحيوان، نهى عن مطلق معاصيه بقوله: وَ ذَرُوا و اتركوا أيّها المؤمنون ظاهِرَ الذّنب و علنه ممّا يعمل بالجوارح، فإنّه سبب اَلْإِثْمِ و العقاب وَ باطِنَهُ و سرّه ممّا يفعل في القلب، كإرادة السّوء، و الكبر، و الحسد، و غيرها.

وَ ذَرُوا ظاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)و قيل: إنّ أهل الجاهلية كانوا يرون الزّنا في السرّ حلالا، فحرّم اللّه تعالى بهذه الآية السرّ منه و العلانية (3).

ثمّ هدّد سبحانه المرتكبين للذّنب بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ و يرتكبون اَلْإِثْمِ و العصيان سَيُجْزَوْنَ و يعاقبون في الآخرة بِما كانُوا في الدنيا يَقْتَرِفُونَ و يرتكبون.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 121

وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

ص: 538


1- . المائدة:5/3.
2- . الأنعام:6/145.
3- . تفسير الرازي 13:167.

ثمّ بعد الإشارة إلى حرمة ما لم يذكر اسم اللّه عليه، صرّح سبحانه بها بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ حال ذبحه أو نحره.

ثمّ أكّد سبحانه حرمة أكله بقوله: وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ و خروج عن حدود اللّه وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ من إبليس و جنده لَيُوحُونَ و ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ و أتباعهم من المشركين لِيُجادِلُوكُمْ و يعارضوكم في تحليل الميتة، بأن يقولوا: إنّكم تأكلون ممّا قتلتم، و لا تأكلون ممّا قتله اللّه وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الحرام، و ساعدتموهم على باطلهم إِنَّكُمْ إذن لَمُشْرِكُونَ باللّه غيره في طاعته.

و عن عكرمة: يعني بالشّياطين مردة المجوس، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش، و ذلك لأنّه لمّا نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش، و كانت بينهم مكاتبة: إنّ محمّدا و أصحابه يزعمون أنّهم يتّبعون أمر اللّه، ثمّ يزعمون أنّ ما يذبحونه حلال و ما يذبحه اللّه حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين [من]ذلك [شيء]، فأنزل اللّه تعالى هذه [الآية] (1).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من لم يسمّ إذا ذبح فلا تأكله» (2).

عن الورد بن زيد-في حديث-قال لأبي جعفر عليه السّلام: مسلم ذبح و لم يسم؟ فقال: «لا تأكل، إنّ اللّه يقول: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ (3)، وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ» (4).

عن الحلبي: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام-في حديث-أنّه سأله عن الرّجل يذبح فينسى أن يسمّي، أ تؤكل ذبيحته؟ قال: نعم، إذا كان لا يتّهم، و كان يحسن الذّبح قبل ذلك» (5).

عن محمّد بن مسلم، قال: سألته عن رجل ذبح فسبّح أو كبّر أو هلّل أو حمد اللّه عزّ و جلّ، قال: «هذا كلّه من أسماء اللّه تعالى، لا بأس به» (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 122

ثمّ لمّا ذكر أنّ المؤمنين يساوون المشركين في صورة موافقتهم في استحلال الحرام، أنكر عليهم ذلك التّساوي مع كثرة ألطافه بهم بقوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً لا حياة له، قيل: إنّ التقدير: أنتم أيّها

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)

ص: 539


1- . تفسير الرازي 13:170.
2- . من لا يحضره الفقيه 3:211/980.
3- . الأنعام:6/118.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:210/973.
5- . من لا يحضره الفقيه 3:211/979.
6- . من لا يحضره الفقيه 3:211/978، تفسير الصافي 2:153.

المؤمنون مثل المشركين، و من كان ميتا (1)فَأَحْيَيْناهُ بنفخ الرّوح فيه، و أعطيناه القوى المتحرّكة و المدركة وَ جَعَلْنا لَهُ مع ذلك من الخارج نُوراً عظيما يَمْشِي بِهِ و يسير بسببه فِي اَلنّاسِ آمنا محمودا، يمكن أن يكون كَمَنْ مَثَلُهُ و صفته العجيبة أنّه ثابت أو مستقرّ فِي اَلظُّلُماتِ العديدة، و لَيْسَ بِخارِجٍ و ناج مِنْها في وقت من الأوقات و حال من الأحوال، حاشاه من أن يكون مثله كَذلِكَ الزّين الذي يكون للإيمان في قلوبكم من جانب اللّه زُيِّنَ و حسّن من قبل الشّيطان و بتسويلاته لِلْكافِرِينَ خصوصا المشركين منهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي.

فقوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً تمثيل لمن هداه اللّه و أنقذه من الضّلالة، و جعل له نور الحجج و الآيات يتأمّل بها في الأشياء، فيميّز بين الحقّ و الباطل و أهلهما، و قوله: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ تمثيل لمن بقي في الضّلالة لا يفارقها.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: نزلت في حمزة و أبي جهل، قال: إنّ أبا جهل رمى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بفرث، فاخبر حمزة بما فعل أبو جهل و هو راجع من الصّيد و بيده قوس، و كان يومئذ لم يؤمن [بعد]، فلقي أبا جهل، فضرب رأسه بالقوس، فقال أبو جهل: أما ترى ما جاء به! سفّه عقولنا و سبّ آلهتنا. فقال حمزة: و أنتم أسفه النّاس، تعبدون الحجارة من دون اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله. فنزلت الآية (2).

و قال مقاتل: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبي جهل، و ذلك أنّه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشّرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ يوحى إليه، و اللّه لا نؤمن به إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (3).

و عن عكرمة: أنّها نزلت في عمّار و أبي جهل (4)، و رواه في (المجمع) عن الباقر عليه السّلام (3).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام: «مَيْتاً لا يعرف شيئا، و نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ إماما يؤتمّ به، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ الذي لا يعرف الإمام» (4).

و عنه عليه السّلام: «الميت الذي لا يعرف هذا الشأن، يعني هذا الأمر، وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً إماما يأتمّ به، يعني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ قال بيده [هكذا]: هذا الخلق الذين لا يعرفون شيئا» (5).

ص: 540


1- . تفسير روح البيان 3:96.
2- . تفسير روح البيان 3:96. (3 و 4) . تفسير الرازي 13:173.
3- . مجمع البيان 4:555، تفسير الصافي 2:154.
4- . الكافي 1:142/13، تفسير الصافي 2:153.
5- . تفسير العياشي 2:117/1485، تفسير الصافي 2:153.

و عن الصادق عليه السّلام: «كانَ مَيْتاً عنّا، فَأَحْيَيْناهُ بنا» (1).

و عن القمّي قال: جاهلا عن الحقّ و الولاية، فهديناه إليها (2). قال: النّور: الولاية، و فِي اَلظُّلُماتِ يعني ولاية غير الأئمّة عليهم السّلام (3).

و عنه عليه السّلام-في حديث-: «قال اللّه تعالى: يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ (4)فالحيّ: المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر، و الميت: الذي يخرج من الحيّ [هو]الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن، فالحيّ: المؤمن، و الميت: الكافر، و ذلك قوله عزّ و جلّ: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، و كانت حياته حين فرّق [اللّه]بينهما بكلمته، و كذلك يخرج اللّه عزّ و جلّ المؤمن في الميلاد من الظّلمة بعد دخوله فيها إلى النّور، و يخرج الكافر من النّور إلى الظّلمة بعد دخوله في النّور، و ذلك قوله عزّ و جلّ: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكافِرِينَ» (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 123 الی 124

ثمّ لمّا كان أبو جهل من أكابر قريش، و كان يفتخر بعظمته بينهم، نبّه سبحانه على أنّ العظمة و الرّئاسة من موجبات الفتنة و الخذلان بقوله: وَ كَذلِكَ النّحو الذي فعلنا في مكّة من جعل أكابرها و صناديدها مجرمين ماكرين في إطفاء نور الهداية جَعَلْنا في القرون السالفة فِي كُلِّ قَرْيَةٍ و بلدة أَكابِرَ ها و أعاظمها مُجْرِمِيها و مذنبيها و ماكريها في الإخلال بأمر نبيّها، و قيل: إنّ المراد: كما زينا للكافرين أعمالهم، جعلنا مجرمي كلّ قرية أكابرها، بأن خلّيناهم و أنفسهم لِيَمْكُرُوا و يغدروا فِيها و يحتالوا في إضلال أهلها، و معارضة الأنبياء كبرا و حسدا عليهم و حفظا لرئاستهم (6).

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123) وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اَللّهِ اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)قيل: إن صناديد قريش أجلسوا على كلّ طريق من طرق مكّة أربعة نفر ليصرفوا النّاس عن الإيمان

ص: 541


1- . مناقب ابن شهر آشوب 3:270، تفسير الصافي 2:153.
2- . في النسخة: إلينا.
3- . تفسير القمي 1:215، تفسير الصافي 2:153.
4- . يونس:10/31.
5- . الكافي 2:4/7، تفسير الصافي 2:154، و الآية من سورة يس:36/70.
6- . تفسير الرازي 13:174.

بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا يقولون لكلّ من يقدم: إيّاك و هذا الرّجل، فإنّه كاهن ساحر كذّاب (1).

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ وبال مكرهم يحيق بهم و لا يتعدّاهم وَ ما يَشْعُرُونَ بذلك أصلا، بل يزعمون أنّهم يمكرون بك و بالمؤمنين.

ثمّ بيّن سبحانه بعض جرم الأكابر بقوله: وَ إِذا جاءَتْهُمْ من عند اللّه آيَةٌ و معجزة دالّة على صدق نبوّتك قالُوا عنادا و لجاجا: لَنْ نُؤْمِنَ بك و بهذه الآية حَتّى نُؤْتى من جانب اللّه مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اَللّهِ من الوحي و منصب الرّسالة، فتكون متبوعا لا تابعا. ففيه دلالة على أنّ إصرارهم على الكفر كان لغاية الحسد لا لطلب الحجّة.

روي أنّ الوليد بن المغيرة قال: و اللّه، لو كانت النّبوّة حقّا لكنت أحقّ بها (2). و قد مرّ ما حكي عن أبي جهل من قوله: زاحمنا بنو عبد مناف في الشّرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ اوحي إليه (3).

قيل: إنّ المراد برسل اللّه: خصوص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الجمع للتّعظيم (4).

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: اَللّهُ أَعْلَمُ من كلّ شيء حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فإنّ استحقاقها ليس بكثرة المال و الجاه الدّنيوي، بل إنّما هو بالفضائل النّفسانيّة، و لذا خصّها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله دون غيره من أكابر مكّة الفاقدين لها.

ثمّ هدّد سبحانه الأكابر المتكبّرين بقوله: سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا و عصوا اللّه بالاستكبار و الحسد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5)صَغارٌ و ذلّ و حقارة عِنْدَ اَللّهِ في الآخرة، أو من عند اللّه، مكان ما تمنّوا من عزّ النّبوّة و شرف الرّسالة في الدّنيا، وَ عَذابٌ بالنّار شَدِيدٌ غايته بِما كانُوا في الدّنيا يَمْكُرُونَ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يحسدونه.

عن القمّي رحمه اللّه: «أي يعصون اللّه في السرّ» (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 125 الی 126

فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

ص: 542


1- . تفسير روح البيان 3:98.
2- . تفسير الرازي 13:175.
3- . تفسير روح البيان 3:99، تفسير الصافي 2:154.
4- . تفسير روح البيان 3:99.
5- . في النسخة: و الحسد على النبيّ.
6- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:155.

ثمّ نبّه سبحانه على كمال سلطنته ببيان أنّ إيمان المؤمن و كفر الكافر بإرادته و توفيقه و خذلانه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إلى السّعادة الأبديّة و مقام قربه و رحمته بتعريفه و توفيقه للإيمان يَشْرَحْ و يوسّع صَدْرَهُ و قلبه لِلْإِسْلامِ بتجليته من الأخلاق الرّذيلة، و تجلية عين بصيرته بنور العقل، فيرى الحقّ و يبادر إلى قبوله بسهولة و رغبة.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن شرح الصّدر [ما هو]. فقال: «[نور]يقذفه اللّه في قلب المؤمن، فينشرح له [صدره]و ينفسح» . فقالوا: هل لذلك أمارة يعرف بها؟ فقال: «نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و التّجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزوله» (1).

وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ يَجْعَلْ صَدْرَهُ بسبب تراكم الأخلاق السّيّئة كالكبر و الحسد و حبّ الجاه و المال فيه ضَيِّقاً حَرَجاً شديد الضّيق بحيث لا يبقى فيه مجال لتمكّن الحقّ، أو منسدّ المنافذ بحيث لا تدخل فيه المواعظ و المعارف.

عن الصادق عليه السّلام، [أنه]قال لموسى بن أسمر (2): «أتدري ما الحرج؟» قال: قلت: لا، فقال بيده و ضمّ أصابعه، كالشيء المصمت الذي لا يدخل فيه شيء، و لا يخرج منه شيء (3).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «قد يكون ضيّقا و له منفذ يسمع منه و يبصر، و الحرج هو الملتئم الذي لا منفذ له يسمع به و لا يبصر منه» الخبر (4)و لذا ينبو عن قبول الحقّ، و يكون إيمانه في امتناعه منه و ثقله عليه كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ و يعرج إليها كَذلِكَ الضّيق الذي جعل اللّه لصدر الكافر يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ و الشكّ. كما عن الصادق عليه السّلام (5). أو العذاب، أو اللّعنة في الدّنيا و العذاب في الآخرة. و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هو الشّيطان، أي يسلّطه (6)عَلَى اَلَّذِينَ يعلم أنهم بسبب خبث ذاتهم و سوء اختيارهم لا يُؤْمِنُونَ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دين الإسلام أبدا.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «من يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ بإيمانه في الدّنيا إلى جنّته و دار كرامته [في الآخرة] يَشْرَحْ صَدْرَهُ للتّسليم للّه و الثّقة به، و السّكون إلى ما وعده من ثوابه حتّى يطمئنّ إليه وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عن جنّته و دار كرامته في الآخرة لكفره به و عصيانه له في الدّنيا يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً حتّى يشكّ في كفره، و يضطرب من اعتقاده قلبه حتّى يصير كَأَنَّما

ص: 543


1- . مجمع البيان 4:561، تفسير الصافي 2:155.
2- . في تفسير العياشي: لموسى بن أشيم.
3- . تفسير العياشي 2:119/1490، تفسير الصافي 2:155.
4- . معاني الأخبار:145/1، تفسير الصافي 2:155.
5- . تفسير العياشي 2:119/1491، تفسير الصافي 2:156.
6- . تفسير الرازي 13:184.

يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (1) .

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «و اعلموا أنّ اللّه إذا أراد بعبد خيرا شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحقّ، و عقد قلبه عليه فعمل به، فإذا جمع اللّه له ذلك تمّ له إسلامه، و كان عند اللّه إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقّا، و إذا لم يرد اللّه بعبد خيرا، و كله إلى نفسه فكان صدره ضيّقا حرجا، فإن جرى على لسانه [حقّ]لم يعقد قلبه عليه، و إذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه اللّه العمل به، فإذا اجتمع ذلك عليه حتّى يموت و هو على تلك الحال، كان عند اللّه من المنافقين، و صار ما جرى على لسانه من الحقّ الذي لم يعطه اللّه أن يعقد عليه قلبه و لم يعطه العمل به حجّة عليه، فاتّقوا اللّه و سلوه أن يشرح صدوركم للإسلام، و أن يجعل ألسنتكم تنطق بالحكمة (2)حتّى يتوفّاكم و أنتم على ذلك» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، فأضاء لها سمعه و قلبه حتّى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم، و إذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء فأظلم لها سمعه و قلبه» ثم تلا: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ الآية (4).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور (5)، و فتح مسامع قلبه، و وكّل به ملكا يسدّده، و إذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء، و سدّ مسامع قلبه، و وكّل به شيطانا يضلّه» ، ثمّ تلا هذه الآية (6).

وَ هذا التّشريح لصدور المؤمنين، و التّضييق لقلوب الكافرين، و جعل الرّجس عليهم صِراطُ رَبِّكَ و دأبه الذي يستمرّ عليه مُسْتَقِيماً لا عوج فيه و لا انحراف عنه، أو هذا البيان الذي يكون في القرآن صراط ربّك؛ كما عن ابن مسعود (7).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذا الذي أنت عليه يا محمّد دين ربّك مستقيما (8).

و عن القميّ: «يعني الطّريق الواضح» (9).

قَدْ فَصَّلْنَا و شرحنا اَلْآياتِ و المطالب الكثيرة واحدا بعد واحد لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و يتنبّهون بالآيات و النّذر، فانّهم المنتفعون بها.

ص: 544


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:131/27، التّوحيد:242/4.
2- . في الكافي: بالحق.
3- . الكافي 8:408، تفسير الصافي 2:156.
4- . الكافي 2:170/6، تفسير الصافي 2:156.
5- . في تفسير العياشي: نكتة بيضاء.
6- . الكافي 1:126/2، تفسير العياشي 2:118/1489، تفسير الصافي 2:156.
7- . مجمع البيان 4:562.
8- . تفسير الرازي 13:187.
9- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:157.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 127

ثمّ بشّر سبحانه المتذكّرين بقوله: لَهُمْ في الآخرة دارُ اَلسَّلامِ و منزل مصون من جميع المكاره و الآفات، قيل: إنّ السّلام اسم من أسماء اللّه (1). و إضافة الدّار إليه تعالى مبالغة في تشريفها و تعظيمها، و المراد الجنّة.

لَهُمْ دارُ اَلسَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)و عن القمّي: «يعني: [في]الجنّة، و السّلام الأمان و العافية و السّرور» (2).

و هي معدّة عِنْدَ رَبِّهِمْ اللّطيف بهم حاضرة لديه، أو المراد أنّه تعالى متكفّل بها، و قيل: عند ربّهم كناية عن غاية شرفها و كرامتها (3).

ثمّ بالغ سبحانه في التّبشير بقوله: وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ و محبّهم، أو النّاظر في صلاحهم، و عن القمّي رحمه اللّه: «يعني: أولى بهم» (4)جزاء بِما كانُوا في الدّنيا يَعْمَلُونَ من الخيرات و الحسنات.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 128 الی 129

ثمّ أنّه تعالى بعد البشارة بغاية لطفه بالمؤمنين، أوعد بعتابه و شدّة عذابه للمشركين بقوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إلى القيامة جَمِيعاً و يقول عتابا و توبيخا لهم: يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ و جماعة الشّياطين، أنتم قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ و أضفتم إلى جماعتكم كثيرا مِنَ اَلْإِنْسِ بإغوائكم و تسويلاتكم، و صيّرتموهم أولياءكم و أتباعكم.

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ اَلنّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)عن القمّي رحمه اللّه: «من والى قوما فهو منهم، و إن لم يكن من جنسهم» (5).

وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ و أتباعهم مِنَ اَلْإِنْسِ بعد استماع العتاب و التّوبيخ إظهارا للنّدامة: رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ و انتفع بَعْضُنا بِبَعْضٍ أمّا انتفاع الجنّ بالإنس فبإغوائهم و طاعتهم إيّاهم، و أمّا انتفاع الإنس من الجنّ فبإعانتهم إيّاهم على نيل الشّهوات وَ بَلَغْنا الآن أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنا و أدركنا الوقت الذي وقّته لنا من يوم القيامة، بعدما كنّا مكذّبين به طاعة للشّياطين و اتّباعا للشّهوات.

ص: 545


1- . تفسير الرازي 13:188.
2- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:157.
3- . تفسير الرازي 13:189.
4- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:157.
5- . تفسير القمي 1:216، تفسير الصافي 2:158.

ثمّ كأنّهم قالوا: ماذا تعامل معنا بعد إفراطنا في عصيانك؟ قالَ اللّه لهم و للشّياطين الّذين والوهم: اَلنّارُ مَثْواكُمْ و منزل إقامتكم، حال كونكم خالِدِينَ فِيها أبدا إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ عدم كونكم فيها.

قيل: هو وقت المحاسبة (1)، و قيل: هي الأوقات التي يخرجون منها لشوب من حميم، ثمّ يكون مرجعهم إلى الجحيم (2)، و قيل: هو وقت الانتقال من النّار إلى الزّمهرير (3).

روي أنّهم يدخلون واديا فيه برد شديد، فهم يطلبون الردّ من ذلك البرد إلى الجحيم (4).

و يحتمل أن يكون المراد من المستثنى: العصاة من المؤمنين؛ فإنّهم من أولياء الشّيطان، و لا خلود لهم.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: استثنى اللّه قوما سبق في علمه أنّهم يسلمون و يصدّقون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5).

ثمّ لمّا كان مجال توهّم الظّلم في تخليد الكفّار في النّار، دفعه سبحانه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في فعاله لا يصدر منه الظّلم، و إنّما يعاقب على حسب الاستحقاق عَلِيمٌ بأحوال الثّقلين و أعمالهم،

و بما يستحقّون من الجزاء وَ كَذلِكَ التولّي الذي كان بين الجنّ و الإنس، أو الذي بين اللّه تعالى و بين المؤمنين نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّالِمِينَ بَعْضاً آخر منهم.

قيل: يعني نجعل المحبّة و النّصرة بينهم (6)، و قيل: نكل بعضهم إلى بعض في القيامة (7)، و قيل: نقرن بينهم في النّار؛ كلّ ذلك للسّنخيّة التي تكون بينهم طينة و أعتقادا و أخلاقا و عملا، و قيل: يعني نسلّط بعضهم على بعض، فنأخذ من الظالم بالظّالم (8).

عن (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام: «ما انتصر اللّه من ظالم إلاّ بظالم، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّالِمِينَ بَعْضاً» (9).

و عن القمّي رحمه اللّه قال: «نولّي كلّ من تولّى أولياءهم فيكونون معهم» (10)جزاء بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و يرتكبون من الظلم و القبائح.

قيل: إنّ الآية تدلّ على أنّ الرعيّة إذا كانوا ظالمين، سلّط اللّه عليهم ظالما مثلهم، و أيضا تدلّ على أنّه لا بدّ في الخلق من أمير؛ لأنّه تعالى إذا لم يخل أهل الظّلم من أمير ظالم، فبأن لا يخلي أهل

ص: 546


1- . تفسير الرازي 13:192.
2- . تفسير روح البيان 3:103.
3- . تفسير الرازي 13:192، تفسير روح البيان 3:103.
4- . تفسير الرازي 13:192.
5- . تفسير الرازي 13:192.
6- . تفسير الرازي 13:193.
7- . مجمع البيان 4:565.
8- . تفسير روح البيان 3:104.
9- . تفسير العياشي 2:118/1487، الكافي 2:251/19، تفسير الصافي 2:158.
10- . تفسير القمي 1:216، و زاد فيه: يوم القيامة، تفسير الصافي 2:158.

الصّلاح من أمير يحملهم على زيادة الصّلاح، كان أولى (1).

في لزوم وجود

السلطان في الأرض

و لو كان جائرا

و النهي عن سبّ

السلطان

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يصلح للنّاس إلاّ أمير عادل أو جائر» ، فأنكروا قوله: «أو جائر» فقال: «نعم، يؤمّن السّبيل، و يمكّن من إقامة الصّلاة و حجّ البيت» (2).

و عن مالك بن دينار، [جاء]في بعض كتب اللّه تعالى: أنا اللّه مالك الملوك، قلوب الملوك و نواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، و من عصاني جعلتهم عليه نقمة، لا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك، لكن توبوا إليّ اعطّفهم عليكم (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 130

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ العذاب في القيامة لا يكون إلاّ بعد إتمام الحجّة بقوله: يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ و جماعة الثّقلين المنكرين للبعث أَ لَمْ يَأْتِكُمْ في الدّنيا من قبلنا رُسُلٌ مِنْكُمْ و أنبياء يجانسونكم حتّى تميلوا إليهم، و تستفيدوا منهم، و هم كانوا يَقُصُّونَ و يتلون عَلَيْكُمْ آياتِي و كتابي وَ يُنْذِرُونَكُمْ و يخوّفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا و شدّة أهواله و عذابه؟

يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)قيل: إنّ اللّه كما أرسل رسلا من الإنس، أرسل رسلا من الجنّ، و أستدلّ بهذه الآية و بقوله: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (1)و الأكثر على أنّه ما كان من الجنّ رسول، و إنّما كان الرّسول من الإنس خاصّة.

و ضمير (منكم) راجع إلى مجموع الثّقلين، فيكفي كونه من الإنس، أو إلى أحد الثّقلين لا كلّ منهما، أو إلى كلّ منهما، أو كان رسل الجنّ رسل الإنس؛ للإجماع على اختصاص الرّسل بالإنس، و ما روي من أنّ اللّه بعث نبيّا إلى الجنّ يقال له يوسف فقتلوه (2)، و أرسل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إلى الثّقلين، لا دلالة فيه على أنّ ذلك النبيّ كان من الجنّ.

ثمّ لمّا لم يجدوا بدّا من الاعتراف بالرّسل و تبليغاتهم قالُوا مجيبين: بلى شَهِدْنا و أعترفنا عَلى أَنْفُسِنا بالكفر و استحقاق العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه علّة كفرهم و شقاقهم مع الرّسل بقوله: وَ غَرَّتْهُمُ و فتنتهم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا

ص: 547


1- . تفسير الرازي 13:195، و الآية من سورة فاطر:35/24.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:242/1، تفسير الصافي 2:158.

و شهواتها، فلم يؤمنوا بالرّسل وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في القيامة أَنَّهُمْ كانُوا في الدّنيا كافِرِينَ بالبعث و دار الجزاء.

قيل: تشهد جوارحهم عليهم بالشّرك (1)و إنكار الحشر.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 131

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة بعث الرّسل بقوله: ذلِكَ المذكور من إرسال

ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131)الرّسل، و التّبليغ و الإنذار، لأجل أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مع كمال عدله و حكمته مُهْلِكَ أهل اَلْقُرى و معذّبهم بعذاب الاستئصال بِظُلْمٍ صادر منهم، أو متلبّسا بظلم منه على القرى وَ الحال أنّه أَهْلُها غافِلُونَ عمّا يسخطه و يرضاه، معذورون في عصيان أوامره و نواهيه لجهلهم بها حتّى يكون لهم على اللّه حجّة، و يصحّ قولهم: رَبَّنا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

و حاصل الآية أنّ إرسال الرّسول و إنزال الكتاب، إنّما كان لإتمام الحجّة على النّاس، و لولاه كان تعذيبهم على مخالفة الأحكام مع جهلهم بها ظلما ممتنعا صدوره من اللّه؛ لمنافاته لربوبيّته و الوهيّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 132

ثمّ لمّا كان بعد إرسال الرّسل و إتمام الحجّة على النّاس تفاوت فاحش بينهم في الإيمان و الكفر و الطّاعة و العصيان، نبّه سبحانه بعلمه بمراتب استحقاقاتهم المختلفة بقوله: وَ لِكُلٍّ من مكلّفي الجنّ و الإنس؛ كفّارهم و مؤمنيهم دَرَجاتٌ و مراتب متفاوتة في القرب من اللّه و البعد عنه، و في مقدار استحقاق المثوبة و العقوبة، حاصلة تلك الدّرجات لهم مِمّا عَمِلُوا من الحسنات و السّيّئات وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ و جاهل بما يرتكبون من الطّاعة و العصيان، و بمراتب استحقاقاتهم؛ فيجزي كلّ عامل على حسب استحقاقه.

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (132)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 133

ثمّ أعلن سبحانه بغناه عن طاعة الخلق بقوله: وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ المطلق بذاته لا حاجة له إلى طاعة

وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)

ص: 548


1- . تفسير الرازي 13:196.
2- . القصص:28/47.

المطيعين، و لا ضرر عليه من معصية العاصين، و إنّما كلّف الثّقلين لأنّه ذُو اَلرَّحْمَةِ الواسعة على خلقه، و من رحمته عليهم أن يكلّفهم بما يوجب تكميل نفوسهم و استعدادهم للفيوضات الأبديّة و النّعم الدّائمة، و تعاليهم إلى الدّرجات العالية، و سعادتهم بالقيام إلى الطّاعة و التّحرّز عن القبائح.

ثمّ لمّا أعلن سبحانه بغناه وسعة رحمته، أردفه بإظهار كمال قدرته ببيان فيه ترهيب للقلوب بقوله: إِنْ يَشَأْ اللّه أيّها النّاس يُذْهِبْكُمْ من وجه الأرض و يهلككم وَ يَسْتَخْلِفْ و يخلق بدلا منكم مِنْ بَعْدِكُمْ و بعد إهلاككم ما يَشاءُ خلقه من قوم يكونون أطوع منكم له تعالى كَما أَنْشَأَكُمْ و أوجدكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ و من نسلهم مع عدم كونهم مثلكم في العصيان، بل كانوا مطيعين كأصحاب سفينة نوح، و لكنّه تعالى لم يشأ إذهابكم، و لم يعجل في إهلاككم رحمة عليكم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 134 الی 135

ثمّ بالغ سبحانه في ترهيب العصاة بقوله: إِنَّ ما تُوعَدُونَ من العذاب على الكفر و العصيان، و اللّه لَآتٍ و كائن لوجود المقتضي و هو الاستحقاق، و الوعد الذي لا خلف فيه، و عدم فرض المانع عنه إلاّ قدرتكم على تعجيز اللّه وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له تعالى، و فائتين منه، و هاربين من سلطانه.

إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ اَلدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (135)

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ يا محمّد، تهديدا لقومك العصاة: يا قَوْمِ اِعْمَلُوا ما تريدون من الطّغيان و العصيان مجدّين فيه عَلى غاية مَكانَتِكُمْ و منتهى قدرتكم و استطاعتكم، أو اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر و الطّغيان و عداوة الرّسول، و لا تنحرفوا عنه، و إِنِّي عامِلٌ أيضا بما امرت به من الصّبر على عداوتكم، و الجدّ في تبليغ رسالتي على مكانتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ في الآخرة مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ هذه اَلدّارِ الفانية التي خلقت لتلك العاقبة، و النتيجة من الفلاح و النّعمة و الرّاحة الدّائمة، و من لا تكون له.

ثمّ صرّح بحرمان المشركين من العاقبة المحمودة بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ المشركون الّذين هم اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بالكفر و العصيان، و لا ينجون أبدا من العذاب، و لا يفوزون بمقاصدهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 136

ص: 549

ثمّ لمّا أمرهم تهديدا بالثّبات على أعمالهم، شرع في ذكر بعض أعمالهم القبيحة بقوله: وَ جَعَلُوا هؤلاء المشركون لِلّهِ تعالى مِمّا ذَرَأَ و خلق بقدرته الكاملة في الأرض مِنَ اَلْحَرْثِ و الزّرع وَ من اَلْأَنْعامِ الثّلاثة؛ الإبل و البقر و الغنم نَصِيباً و سهما، مع أنّ الكلّ له، و لأصنامهم التي جعلوها شركاء أنفسهم في أموالهم نصيبا فَقالُوا مشيرين إلى نصيب اللّه: هذا النّصيب لِلّهِ خاصّة، و ذلك كان بِزَعْمِهِمْ الفاسد و ادّعائهم الباطل، لا بالحجّة و البرهان وَ هذا النّصيب الآخر لِشُرَكائِنا في أمو النا من الأصنام فَما كانَ من النّصيب لِشُرَكائِهِمْ و أصنامهم فَلا يَصِلُ و لا يدفع شيء منه إِلَى اَللّهِ بل يدفع إلى سدنة (1)الأصنام وَ ما كانَ من النّصيب لِلّهِ تعالى فَهُوَ يَصِلُ و يدفع إِلى شُرَكائِهِمْ بصرفه في سدنتها، و ذبح النّسائك (2)عندها.

وَ جَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اَللّهِ وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)ثمّ ذمّهم سبحانه على ذلك التّقسيم، مع أنّ الجميع للّه، ثمّ صرفهم نصيب اللّه في مصارف الأصنام، بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ بشركة الجمادات في ما خلقه اللّه، ثمّ ترجيحها عليه تعالى.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كان المشركون يجعلون للّه من حروثهم و أنعامهم نصيبا و للأوثان نصيبا، فما كان للصّنم أنفقوه عليه، و ما كان للّه أطعموه الصّبيان و المساكين، و لا يأكلون منه البتّة، ثمّ إن سقط ممّا جعلوه للّه في نصيب الأوثان تركوه و قالوا: إنّ اللّه غنيّ، و إن سقط ممّا جعلوه للأوثان في نصيب اللّه أخذوه و ردّوه إلى نصيب الصّنم و قالوا: إنّه فقير (3).

و قيل: كانوا إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله ممّا للّه، و لا يفعلون مثل ذلك في ما للّه عزّ و جلّ (4)

و قيل: إنّه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للأصنام في نصيب اللّه سدّوه، و إن كان على ضدّ ذلك تركوه (5).

و قيل: إنّهم كانوا إذا أصابهم القحط استعانوا بما للّه، و وفّروا ما جعلوا لشركائهم (6).

و قيل: إن زكا و نما نصيب الآلهة جعلوه لها و قالوا: لو شاء اللّه زكّا نصيب نفسه، و إن زكا نصيب اللّه و لم يزك نصيب الآلهة قالوا: لا بدّ لآلهتنا من نفقة، فأخذوا نصيب اللّه و أعطوه السّدنة (7).

أقول: لا تنافي بين الوجوه لإمكان أنّ جميعها كان عملهم، و بعض الوجوه مرويّ عن أئمّتنا (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 137

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

ص: 550


1- . أي خدمة الأصنام.
2- . النّسائك و النّسك: جمع النّسيكة، و هي الذبيحة. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 13:204. (6 و 7) . تفسير الرازي 13:204.
3- . راجع: مجمع البيان 4:571، تفسير الصافي 2:160.

ثمّ حكى سبحانه عن مشركي العرب مذهبا آخر أقبح من الأول إظهارا لخفّة عقولهم، و تحقيرا لهم في أنظار العقلاء بقوله: وَ كَذلِكَ التزيين الذي يكون في أنظارهم للتّشريك بين اللّه و بين الأصنام في ما خلقه سبحانه من الحرث و الأنعام زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ الإناث بدفنهنّ أحياء في الأرض خوفا من الفقر، أو السّبي، أو عارا من التّزويج، و الذّكور بنحرهم للحلف عليه شُرَكاؤُهُمْ و أولياؤهم من الشّيطان لِيُرْدُوهُمْ و يهلكوهم إلى الأبد.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: لِيُرْدُوهُمْ في النّار (1)، بالإغواء إلى الأعمال القبيحة وَ لِيَلْبِسُوا و يخلطوا عَلَيْهِمْ بالتّسويلات دِينَهُمْ الحقّ الذي كان عليه إسماعيل، و يضلّوهم عنه.

و قيل: إنّ المراد من شركائهم: سدنة آلهتهم (2)، و عليه يكون المراد: أنّ عاقبة تزيينهم إهلاكهم و تشويش دينهم عليهم، لظهور أنّه لم يكن قصد السّدنة من التّزيين ذلك، و إنّما هو قصد الشّياطين.

ثمّ لمّا كان شيوع تلك القبائح في أولاد إسماعيل ثقيلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّى سبحانه قلبه الشّريف بأنّ صدور هذا القبيح منهم إنّما كان بمشيئة اللّه لأنّه خلاّهم و أنفسهم، و سلّط عليهم الشّياطين وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ عدم صدوره منهم ألجأهم على تركه، أو قوّى عقولهم و صرف قلوبهم عنه، إذن ما فَعَلُوهُ البتّة، فإذا علمت أنّ اللّه شاء عصيانهم، و أنّه مع كمال قدرته على أخذهم تركهم على ما هم عليه ليزدادوا إثما فَذَرْهُمْ و اتركهم أنت أيضا وَ ما يَفْتَرُونَ على اللّه و كذبهم عليه من قولهم: إنّ اللّه أمرنا به، فإنّ لهم في الآخرة عذابا عظيما.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 138

ثمّ حكى سبحانه أنّهم قسّموا أنعامهم ثلاثة أقسام؛ فجعلوا قسما منها و من حرثهم لآلهتهم وَ قالُوا مشيرين إلى هذه القسمة: هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ لآلهتنا حِجْرٌ و ممنوعة من التّصرّف فيها لا يَطْعَمُها و لا يذوق منها أحد إِلاّ مَنْ نَشاءُ أن يطعمها، و هم خدمة الآلهة، و خصوص الرّجال دون النّساء، و هذا الحكم يكون بِزَعْمِهِمْ الباطل و هوى أنفسهم الفاسد، لا بالحجّة و الأخذ من الشّريعة، و قسمة منها جعلوها بحيرة و سائبة و حام، و قالوا مشيرين إليها: وَ هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ على النّاس ظُهُورُها و ركوبها، و قسمة منها جعلوها للذّبح على النّصب، و قالوا مشيرين

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهَا اِفْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

ص: 551


1- . تفسير الرازي 13:206.
2- . تفسير الرازي 13:206.

إليها: وَ هذه أَنْعامٌ للذّبح للأصنام، و هم لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهَا حين ذبحها أو نحرها، بل يذكرون عليها اسم الأصنام، و قيل: يعني لا يحجّون و لا يلبّون عليها، و هم نسبوا ذلك التّقسيم إلى اللّه اِفْتِراءً عَلَيْهِ تعالى (1).

ثمّ هدّدهم بقوله: سَيَجْزِيهِمْ اللّه و يعاقبهم في الآخرة بِما كانُوا يَفْتَرُونَ عليه فيما ينسبون إليه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 139

ثمّ حكى سبحانه حكمهم الباطل في أجنّة البحائر و السّوائب و الحوامي بقوله: وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ اَلْأَنْعامِ من الأجنّة خالِصَةٌ و محلّلة لِذُكُورِنا خاصّة و قيل: إن تاء (خالصة) للمبالغة كراوية (2).

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ اَلْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)وَ مُحَرَّمٌ أكلها من قبل اللّه عَلى أَزْواجِنا و إناثنا، إن ولدت من امّها حيّة وَ إِنْ يَكُنْ ما في البطون مَيْتَةً حين ولادته فَهُمْ جميعا ذكورهم و إناثهم فِيهِ شُرَكاءُ متساوون لا تفاوت بين ذكورهم و إناثهم في حلّية أكله.

ثمّ هدّدهم بقوله: سَيَجْزِيهِمْ اللّه في الآخرة وَصْفَهُمْ و كذبهم عليه في التّحليل و التّحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ في فعاله، عامل مع خلقه على حسب ما يستحقّون عَلِيمٌ بأقوالهم و أفعالهم و بمقدار استحقاقهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 140

ثمّ أشار سبحانه إلى مفسدة قتل الأولاد و تحريم الانتفاع بالأنعام بقوله: قَدْ خَسِرَ و تضرّر أو هلك المشركون اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ و فوّتوا على أنفسهم النّعمة العظيمة و أعلى الحظوظ البشريّة، و ارتكبوا أعظم الذّنوب و أقبح الظّلم بالتّوهّمات السّخيفة لأجل أنّ لهم سَفَهاً و خفّة عقل، و كونهم ملابسين بِغَيْرِ عِلْمٍ و غاية جهالة، بشناعة هذا العمل و مضارّه في الدّنيا و الآخرة وَ حَرَّمُوا على أنفسهم الانتفاع بالأنعام التي جعلوها سائبة و حاميا، مع كونها [من]

ما رَزَقَهُمُ اَللّهُ و أشياء تفضّل عليهم بإيجادها، و تسليطهم عليها، و إباحة الانتفاع بها أكلا و ركوبا و حملا، و هم

قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اَللّهُ اِفْتِراءً عَلَى اَللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

ص: 552


1- . جوامع الجامع:137.
2- . تفسير الرازي 13:208، جوامع الجامع:137.

بنسبة تحريمها إلى اللّه يفترون اِفْتِراءً عظيما عَلَى اَللّهِ، فهم قَدْ ضَلُّوا و انحرفوا عن طريق الرّشد إلى مصالحهم الدّنيويّة و الاخرويّة وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إليه أبدا، و إن بالغت في هدايتهم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 141

ثمّ لمّا وبّخ اللّه سبحانه المشركين على جعل نصيب من الحرث و الأنعام للأصنام، و تحريم ما رزقهم اللّه، عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده الذي هو المقصود الأصلي في السّورة المباركة بكونه خالق الزّرع و الأشجار و الأنعام؛ بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ و أخرج من العدم إلى الوجود جَنّاتٍ ذوات كروم مَعْرُوشاتٍ و محمولات على ما يحملها من الأخشاب و غيرها وَ جنات غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ .

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ (141)قيل: هي الجنّات التي لا غرس لها، بل يكون فيها ما ينبت منبسطا على وجه الأرض كالقرع و البطّيخ و أمثالهما (1)، و قيل: هي التي فيها الكروم المنبسطة على الأرض (2)، و قيل: هي التي فيها الأشجار المستغنية عن العريش لاستوائه و ذهابه إلى العلوّ بقوّة ساقه (3).

وَ أنشأ اَلنَّخْلَ بأصنافها المختلفة وَ اَلزَّرْعَ من الحبوب التي يقتات بها-كما عن ابن عبّاس (4)-حال كون كلّ من النّخل و الزّرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ و ثمره، و متفاوتا بعضه مع بعض في الطّعم و الهيئة، لكلّ صنف من ثمرهما طعم غير الآخر، و هيئة غير هيئة الآخر، وَ أنشأ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّانَ حال كون بعض ثمرهما مُتَشابِهاً مع بعض في الطّعم و الهيئة و اللّون و الجودة و الرّداءة، وَ بعضه غَيْرَ مُتَشابِهٍ من جميع الجهات أو من بعضها؛ كالرّمانتين اللّتين لونهما واحد و طعمهما مختلف.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مالكيّته لجميع النباتات، أذن للنّاس بالانتفاع بكلّ واحد منها بقوله: كُلُوا و انتفعوا أيّها النّاس مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ و صلح للانتفاع، و إن لم يدرك و لم يينع لأنّه خلق لكم، و لا تحرّموا على أنفسكم منه شيئا، و لا تجعلوا للأصنام منه نصيبا وَ لكن آتُوا الفقراء و أعطوهم حَقَّهُ و ما ثبت عليكم فيه من الضّغث (5)و الحصّة يَوْمَ حَصادِهِ و حين جذاذه.

ص: 553


1- . تفسير الرازي 13:211.
2- . تفسير الرازي 13:212.
3- . تفسير الرازي 13:211.
4- . تفسير الرازي 13:212.
5- . الضّغث: هو قبضة الحشيش المختلط من الأخضر و اليابس.

قيل: اريد بالحقّ ما يتصدّق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدّرة؛ لأنّ الزّكاة فرضت بالمدينة، و الآية مكيّة (1). و قيل: بل هو الزّكاة، أي لا تؤخّروها عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء، و الآية مدنيّة (2).

و في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «في الزّرع حقّان: حقّ تؤخذ به، و حقّ تعطيه، أمّا الذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أمّا الذي تعطيه فقول اللّه عزّ و جلّ: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فالضّغث تعطيه ثمّ الضّغث حتّى تفرّغ» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «هذا من الصّدقة تعطي المسكين القبضة بعد القبضة، و من الجذاذ الحفنة بعد الحفنة» (4).

و القمّي: عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية، قال: «الضّغث من السّنبل، و الكفّ من التّمر إذا خرص» (5).

و عنه عليه السّلام فيها قال: «أعط من حضرك من مشرك و غيره» (6).

و عنه عليه السّلام: «لا تصرم باللّيل، و لا تحصد باللّيل-إلى أن قال: -و إن حصدت باللّيل لم يأتك السّؤال، و هو قول اللّه: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته، فإذا خرج فالحفنة [بعد الحفنة]، و كذلك عند الصّرام» . الخبر (7).

و عن الرضا عليه السّلام، سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد؟ قال: «ليس عليه شيء» (8).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالانتفاع و الصّدقة، نهى عن الإسراف بقوله: وَ لا تُسْرِفُوا و لا تتجاوزوا الحدّ في الصّدقة، أو في منعها و قيل: يعني لا تضيّعوا ثمرتكم بأن تجعلوا (9)للأصنام فيها نصيبا، أو لا تنفقوها في معصية اللّه (10)إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ و لا يرضى عنهم.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدّق الرّجل بكفّيه جميعا، و كان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفّيه صاح به: أعط بيد واحدة، القبضة بعد القبضة، و الضّغث بعد الضّغث من السّنبل» (11)

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «كان فلان بن فلان الأنصاري-و سمّاه-كان له

ص: 554


1- . تفسير أبي السعود 3:192.
2- . تفسير أبي السعود 3:192.
3- . تفسير العياشي 2:120/1496، الكافي 3:564/1، تفسير الصافي 2:162.
4- . الكافي 3:565/2، تفسير الصافي 2:162.
5- . تفسير القمي 1:218، تفسير الصافي 2:162.
6- . تفسير العياشي 2:119/1494، تفسير الصافي 2:162.
7- . الكافي 3:565/3، تفسير الصافي 2:163.
8- . تفسير القمي 1:218، تفسير الصافي 2:163.
9- . في النسخة: تجعلوها.
10- . تفسير الرازي 13:214.
11- . تفسير العياشي 2:121/1501، الكافي 3:566/6، تفسير الصافي 2:163.

حرث، و كان إذا أخذه تصدّق به و يبقى هو و عياله بغير شيء، فجعل اللّه عزّ و جلّ ذلك سرفا» (1).

و عنه عليه السّلام-في حديث-قال: «و في غير آية من كتاب [اللّه]يقول: إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ فنهاهم عن الإسراف و نهاهم عن التّقتير، و لكن أمر بين أمرين، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو اللّه أن يرزقه فلا يستجيب له» (2).

روي أنّها نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس، عمد إلى خمسمائة نخلة فجذّها ثمّ قسّمها في يوم واحد، و لم يدخل منها إلى منزله شيئا (3).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 142

ثمّ استدلّ سبحانه بأنّه خالق الأنعام و مالكها بقوله: وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ أنشأ ما تكون حَمُولَةً تحمل عليها الأثقال، أو ما تكون صالحة للحمل عليها لطول قوائمها و عظم جثّتها، وَ يكون فَرْشاً على الأرض، شبّه قسم منها به لقصر قوائمها و دنوّها من الأرض، أو فرشا يفرش للذّبح، أو يفرش ما ينسج من صوفها و وبرها.

وَ مِنَ اَلْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّه مالكها، أذن في الانتفاع بها بقوله: كُلُوا أيّها النّاس و انتفعوا من الأنعام الحمولة و الفرش لكونها مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ و أنعم به عليكم وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ و لا تطيعوه في تسويلاته بجعل الأصنام شريكا فيها، و تحريم الانتفاع ببعضها بجعله سائبة أو بحيرة أو حاميا إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 143 الی 144

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ اَلنّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (144)

ص: 555


1- . الكافي 4:55/5، تفسير الصافي 2:163.
2- . الكافي 5:67/1، تفسير الصافي 2:163.
3- . تفسير الرازي 13:214.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أصناف الأنعام التي رزقها اللّه عباده بقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و أصناف متصاحبات، ثمّ فسّرها بقوله: مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ الكبش و النّعجة، أو الأهلي و الوحشي وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ التّيس و العنز، أو الأهلي و الوحشي.

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأن ينكر على المشركين تحريم ما زعموه حراما بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: آلذَّكَرَيْنِ من الضّأن و المعز حَرَّمَ اللّه عليكم أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ منهما أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ منهما من الأجنّة، ذكرا كانت الأجنّة أم انثى، مع أنّكم لا تقرّون برسول من اللّه إليكم حتّى تدّعوا أنّه أخبركم بها.

ثمّ أمره بمطالبة الحجّة على الحرمة بقوله: نَبِّئُونِي و أخبروني بِعِلْمٍ و حجّة قاطعة على تحريم اللّه شيئا من ذلك إِنْ كُنْتُمْ أيّها المشركون صادِقِينَ في نسبة التّحريم إليه سبحانه.

وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ الجمل و النّاقة، أو العراب و البخاتيّ (1)وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ الذّكر و الانثى، أو الأهلي و الوحشي قُلْ يا محمّد، إنكارا عليهم و إفحاما لهم: آلذَّكَرَيْنِ من الأصناف الأربعة حَرَّمَ اللّه عليكم أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ منها أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

ثمّ أنكر عليهم وجود الحجّة على ما أدّعوه من الحرمة بعد عدم اعترافهم برسول و عدم حكم العقل القاطع بها، بقوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ و حضّارا إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ و حكم عليكم بِهذا الحكم.

و حاصل الاحتجاج: أنّ طريق معرفة حكم اللّه منحصر ببيان الرّسول و حكم العقل و المشاهدة و السّماع من اللّه، و أنتم لا تؤمنون برسول، و ليس لكم برهان عقليّ على التّحريم، و لم تسمعوا من اللّه هذا الحكم، فثبت أنّ القول بتحريم اللّه هذه الأنعام و ما في بطونها افتراء عليه.

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام [قال]: «حمل نوح عليه السّلام في السّفينة الأزواج الثمانية التي قال اللّه عزّ و جلّ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ الآية، فكان من الضّأن [اثنين]: زوج داجنة يربّيها النّاس، و الزّوج الآخر الضّأن التي تكون في الجبال الوحشيّة، احلّ لهم صيدها، و من المعز اثنين: زوج داجنة يربّيها النّاس، و الزّوج الآخر الظّباء التي تكون في المفاوز، و من الإبل اثنين: البخاتي و العراب، و من البقر اثنين: زوج داجنة للنّاس، و الزّوج الآخر الوحشية، و كلّ طير طيّب وحشي و إنسيّ» (2).

و في (الفقيه) : عن داود الرقّي، قال: سألني الخوارج عن هذه الآية مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ الآية، ما الذي أحلّ اللّه من ذلك، و ما الذي حرّم؟ فلم يكن عندي فيه شيء، فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا

ص: 556


1- . العراب: الإبل العربية، و البخاتي: الإبل الخراسانية.
2- . الكافي 8:283/427، تفسير الصافي 2:165.

حاجّ، فأخبرته بما كان، فقال: «إنّ اللّه تعالى أحلّ في الاضحيّة [بمنى الضأن و المعز الأهلية، و حرم أن يضحى فيه بالجبلية، و أمّا قوله عزّ و جلّ: وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ فإنّ اللّه تعالى أحلّ في الأضحية بمنى]الإبل العراب و حرّم منها البخاتي، و أحلّ البقر الأهليّة أن يضحى بها و حرّم الجبليّة» .

فانصرفت إلى الرّجل و أخبرته بهذا الجواب، فقال: هذا شيء حملته الإبل من الحجاز (1).

أقول: الظّاهر أنّ الخارجي كان عالما بالحكم، و أراد أن يمتحن داود بمعرفته. و في الآية دلالة على أنّ عدم وجدان الدّليل على الحرمة كاف في القول بإباحة مشكوك الحرمة.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون المشركين في القول بحرمة بعض الأنعام مفترين عليه، ذمّهم بكونهم لأجل افترائهم عليه أظلم النّاس على أنفسهم بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ على نفسه بإهلاكها الأبديّ، و على ربّه بتضييع حقّه مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ بنسبة تحريم ما أحلّه إليه كَذِباً ليغير دينه الحقّ، كعمرو بن لحيّ المغيّر لدين إسماعيل حيث إنّه بحر (2)البحائر و سيّب السّوائب، و ككبرائهم المقرّرون لذلك، و لِيُضِلَّ و يحرف اَلنّاسَ عن الصّراط المستقيم بِغَيْرِ عِلْمٍ بسوء عاقبة هذا التّغيير و الإضلال. و قيل: إن لام (ليضل) لام العاقبة (3).

ثمّ هدّد سبحانه المفترين بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي إلى الحقّ، أو إلى ثوابه و طريق الجنّة اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ فكيف بقوم هم أظلم النّاس!

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 145

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمطالبة الحجّة من المشركين على ما زعموه من حرمة بعض الأنعام و ما في بطونها، و ظهور عجزهم عن إقامتها، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإقامة الحجّة على حلّية جميع الأنعام بقوله: قُلْ يا محمّد لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ من ربّي من الأحكام طعاما يكون مُحَرَّماً من قبله عَلى طاعِمٍ و آكل يَطْعَمُهُ و يأكله، [سواء أ]

كان ذكرا أو انثى إِلاّ أَنْ يَكُونَ ذلك الطّعام مَيْتَةً و حيوانا خرج روحه بغير التّذكية الشّرعيّة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً و مصبوبا من العروق بعد

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

ص: 557


1- . من لا يحضره الفقيه 2:293/1451، تفسير الصافي 2:165.
2- . بحر الناقة: شقّ اذنها.
3- . تفسير روح البيان 3:113.

الذّبح أو النّحر دون الدّم المتخلّف بعد الذّبح، كما في الكبد و الطّحال و اللّحم أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ و قذر، و كلّ قذر نجس و حرام، و إنّما خصّ حرمة لحمه بالذّكر مع أنّ شحمه أيضا حرام لكونه أهمّ ما فيه و عمدة ما يقصد منه بالأكل أَوْ فِسْقاً و هو الحيوان الذي أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ و رفع الصّوت عند ذبحه أو نحره باسم الأصنام، و إنّما سمّاه فسقا لتوغّله فيه.

عن القمّي رحمه اللّه: قد احتجّ قوم بهذه الآية على أنّه ليس شيء محرّما إلاّ هذا، و أحلّوا كلّ شيء من البهائم؛ القردة و الكلاب و السّباع و الذّئاب و الاسد و البغال و الحمير و الدّوابّ، و زعموا أنّ ذلك كلّه حلال و غلطوا في هذا غلطا مبينا (1)، و إنّما هذه الآية ردّ على ما أحلّت العرب و حرّمت؛ لأنّ العرب كانت تحلّل على نفسها [أشياء]و تحرّم أشياء، فحكى اللّه ذلك لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله ما قالوا (2).

و قال الفاضل المقداد: و هنا سؤال، و هو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات، و هو غير مذكور في الآية، فكيف يقول: لا أجد إلاّ كذا. . . الدّال على الحصر؟ و كذا في قوله: إِنَّما حَرَّمَ و (إنّما) للحصر.

و الجواب: أنّ (اوحي) فعل ماض، و (أجد) للحال، فمنطوقها: لا أجد في ما اوحي إليّ في الماضي غير هذه الأربعة، و ليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلّى اللّه عليه و آله، فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها، و كذا الكلام في (إنّما) ، فإنّ الحصر فيها للحكم الحالي (3).

تحقيق في دفع

إشكال

أقول: حكي الوجهان المذكوران لدفع الإشكال عن بعض العامّة أيضا، و فيهما ما لا يخفى من الضّعف، مع أنّهما منافيان للأخبار العاميّة و الخاصيّة. و قد روى العامّة أن ابن عبّاس و عائشة استدلاّ بالآية على حلّية لحم الحمار (4).

و روى أصحابنا عن الصادقين عليهما السّلام أنّهما قالا: «ليس الحرام إلاّ ما حرّم اللّه» ، و تليا هذه الآية (3).

فالحقّ في الجواب: أنّ جميع ما في آية المائدة داخل في الميتة، و جميع النّجاسات داخل في عموم الرّجس، فإنّ عموم العلّة من قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ يوجب عموم الحكم لكلّ رجس، و أمّا حرمة كلّ ذي ناب من الوحش، و كلّ ذي مخلب من الطّير، و كلّ ما لا فلس له من السّمك، فإن قلنا: بأنّ المراد من الرّجس: الخبيث، و أنّه ما استخبثه الشّارع، فبأدلّة حرمة الأشياء المذكورة نعلم دخولها في الآية، لعموم العلّة، و إن قلنا: إنّ الرّجس هو القذر، فيختصّ بالنّجاسات، و حينئذ لا بدّ من الالتزام بتخصيص مفهوم الآية بتلك الأدلّة، أو كونها قرينة على إرادة الحصر الإضافي أو الحصر الحقيقي، و تنزيل حرمة غير هذه الأربعة منزلة المباح إعظاما لحرمة هذه الأربعة.

ص: 558


1- . في المصدر: بيّنا.
2- . تفسير القمي 1:219، تفسير الصافي 2:166. (3 و 4) . كنز العرفان 2:303.
3- . تفسير العياشي 2:125/1513 و 1514، تفسير الصافي 2:167.

ثمّ بيّن أنّ هذه الأربعة أيضا مباحة عند الضّرورة منّة على العباد بقوله: فَمَنِ اُضْطُرَّ و ألجأته الضّرورة إلى أكل شيء من تلك المحرّمات، و كان غَيْرَ باغٍ لذّة، أو غير متعدّ على مضطرّ آخر مثله وَ لا عادٍ و متجاوز في الأكل على قدر الضّرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ له لا يؤاخذه بأكله رَحِيمٌ به لا يرضى بضرره و مشقّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 146

ثمّ بيّن سبحانه أنّه حرّمت أشياء اخر على خصوص اليهود بسبب كثرة عصيانهم بقوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ حيوان ذِي ظُفُرٍ و إصبع كالإبل و الطّيور.

وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ اَلْحَوايا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (146)و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه الإبل و النّعامة (1). و في رواية اخرى: إنّه الإبل فقط (2).

وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما و ثروبهما إِلاّ ما حَمَلَتْ و اشتملت به ظُهُورُهُما من شحم الكتفين إلى الوركين من داخل و خارج. كما قيل (1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: إلاّ ما علق بالظّهر من الشّحم (2).

و عن قتادة: إلاّ ما علق بالظّهر و الجنب من داخل بطونها (3).

أَوِ اَلْحَوايا و ما التصق بالمباعر (4)و المصارين من الشّحوم أَوْ مَا اِخْتَلَطَ و التصق بِعَظْمٍ كشحم الإلية، و كان ذلِكَ التّحريم عليهم جزاء جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ و ظلمهم على أنفسهم بارتكاب المعاصي من أكل الرّبا، و أخذ أموال النّاس بالإثم، و قتل الأنبياء.

قيل: إنّهم كلّما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء ممّا أحلّ لهم. و فيه ردّ على ما أدّعوا من أنّ كلّ ذلك لم يزل محرّما على الامم الماضية، و كانوا مصرّين عليه؛ و لذا أكّد سبحانه كذبهم في الدّعوى بقوله: وَ إِنّا لَصادِقُونَ (5)في إخبارنا بتخصيص حرمة تلك الأشياء بعلّة بغيهم، و إنّهم لكاذبون في أنّها لم تزل محرّمة.

ص: 559


1- . تفسير روح البيان 3:115.
2- . تفسير الرازي 13:223.
3- . تفسير الرازي 13:223.
4- . المباعر: جمع مبعر، و هو مكان خروج البعر من الأمعاء، أو المصران الحاوي للبعر.
5- . تفسير روح البيان 3:115.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 147

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم على تكذيبه بقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمّد، مع شهادتنا بصدقك في اختصاص حرمة الأشياء المذكورة بهم، أو فيه و في دعوى الرّسالة و تبليغ الأحكام فَقُلْ للمكذّبين: حقّ عليكم العذاب، و لكن رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ للمؤمن و الكافر، و لذا لا يعجل في عقوبتكم على تكذيبكم رسوله، فلا تغترّوا بإمهاله فإنّه يعذّبكم وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ و عذابه إذا جاء وقته عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ و العاصين بتكذيب الرّسل، و الإصرار على الكفر، و العناد مع الحقّ.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ (147)

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 148

ثمّ حكى سبحانه احتجاج المشركين على صحّة قولهم بالشّرك و حرمة السّوائب و أخواتها بقوله: سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه احتجاجا على صحّة قولهم: لَوْ شاءَ اَللّهُ و أراد منّا أن لا نشرك به شيئا و لا نحرّم شيئا ما أَشْرَكْنا نحن وَ لا آباؤُنا الأقدمون وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ لقدرته على منعنا عمّا لا يرضاه، و عدم تمكّننا من التّخلّف عن إرادته، و كوننا مجبورين فيما يصدر منّا-كما يقول الأشاعرة-و حيث رأينا أنّه صدر منّا الشّرك و التّحريم و لم يمنعنا عنهما، علمنا، أنّه أراد منّا ذلك و رضي بما نحن عليه من الاعتقاد و العمل، و أنت كاذب عليه فيما تدّعيه من بغضه إيّاه و نهيه عنه.

سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اَللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ (148)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: كَذلِكَ التّكذيب الذي صدر منهم بك على تلك الحجّة كَذَّبَ المشركون اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم و لم يؤمنوا بهم حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا و طعموا طعم عذاب الاستئصال، فكان تعذيبهم على تكذيب الرّسل و بقائهم على الشّرك حجّة قاطعة على عدم رضائنا بما هم عليه.

قُلْ لهم يا محمّد: بعدما ثبت أنّ حجّتكم ضعيفة ظنيّة هَلْ عِنْدَكُمْ غيرها دليل يفيد مرتبة مِنْ عِلْمٍ برضا اللّه بما أنتم عليه من الشّرك و سائر الأباطيل فَتُخْرِجُوهُ و تظهروه لَنا حتّى نتّبعه؟ ليس لكم ذلك، بل إِنْ تَتَّبِعُونَ فيما تدّعون شيئا إِلاَّ اَلظَّنَّ الحاصل لكم من عدم صرف اللّه قلوبكم من الشّرك، و عدم قهره إيّاكم على التّوحيد وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ و تخمّنون، أو

ص: 560

تكذّبون أقبح أنواع الكذب.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 149

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتأكيد الحجّة عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المشركين: و إن ثبت أنّ حجّتكم على صحّة الشّرك داحضة فَلِلّهِ على توحيده و عدم رضاه بالشّرك اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ غاية المتانة، و البيّنة الواضحة من تعذيبه المشركين، و آيات كتابه المقرونة بالإعجاز، و البراهين التي قررّها رسوله، و إنّما وكلكم إلى عقولكم و قدرتكم و اختياركم لاقتضاء ذلك حكمته فَلَوْ شاءَ بالإرادة التّكوينيّة، و أقتضت حكمته إجباركم على الهداية و الإيمان لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ البتّة، و حملكم على الإيمان لا محالة، فلا يكون منكم ضالّ و لا مشرك.

قُلْ فَلِلّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)عن القمّي رحمه اللّه قال: «لو شاء لجعلكم كلّكم على أمر واحد، و لكن جعلكم على الاختلاف» (1).

عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ للّه [على النّاس]حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرّسل و الأنبياء و الأئمّة، و أمّا الباطنة: فالعقول» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، سئل عن قوله: قُلْ فَلِلّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ، فقال: «إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالما؟ فإن قال: نعم، قال له: أ فلا عملت [بما علمت]، و إن كان جاهلا قال له: أ فلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة» (3).

و عنه عليه السّلام: «الحجّة البالغة التي تبلغ الجاهل من أهل الكتاب فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه» (4).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 150

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال دليل المشركين على صحّة مفترياتهم و إنكار مشاهدتهم اللّه و سماعها منه، طالب منهم إحضار (5)غيرهم ممّن شاهده و سمع منه بقوله: قُلْ هَلُمَّ أيّها المشركون و أحضروا شُهَداءَكُمُ و قادتكم اَلَّذِينَ ينصرون مذهبكم لأجل أنّهم يَشْهَدُونَ عن علم و عيان أَنَّ

قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اَللّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

ص: 561


1- . تفسير القمي 1:220، تفسير الصافي 2:168.
2- . الكافي 1:13/12، تفسير الصافي 2:168.
3- . أمالي الطوسي:9/10، تفسير الصافي 2:169.
4- . تفسير الصافي 2:169.
5- . كذا، و الظاهر: طالبهم بإحضار.

اَللّهَ حَرَّمَ هذا الذي تدّعون حرمته، فَإِنْ شَهِدُوا على سبيل الفرض أنّ اللّه حرّمه فَلا تَشْهَدْ أنت مَعَهُمْ و لا تصدّقهم؛ لأنّهم كاذبون متّبعون لهوى أنفسهم وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ المشركين اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدّالّة على توحيدنا وَ اَلَّذِينَ ينكرون البعث، و لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء وَ الّذين هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره و يشركونه خلقه.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 151

ثمّ لمّا أبطل قولهم بحرمة ما حرّموه من قبل أنفسهم، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بدعوتهم إلى الإيمان بحرمة ما حرّمه اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد، لقومك المشركين: تَعالَوْا و جيئوا يا قوم أَتْلُ و أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ و هو أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الكواكب و الأصنام و غيرهما.

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)ثمّ أردف النّهي عن الشّرك بالنّهي عن إيذاء الوالدين، لكونهما بعده تعالى أعظم نعمة و حقّا بقوله: وَ بِالْوالِدَيْنِ أحسنوا إِحْساناً عظيما. و إنّما وضع وجوب الإحسان موضع تحريم الإساءة، للمبالغة في تحريمها، و للإشارة إلى عدم جواز الاكتفاء بترك الإساءة في شأنهما.

عن القمّي رحمه اللّه قال: «الوالدين رسول اللّه و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما» (1).

وَ أن لا تَقْتُلُوا بالدّفن في الأرض أَوْلادَكُمْ الإناث مِنْ أجل إِمْلاقٍ و فقر، أو من خشيته، فإنّه ليس عليكم رزقهم، بل نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ فكما أنّه يجب عليكم الاتّكال علينا في رزقكم، كذلك يجب عليكم الاتّكال علينا في رزقهم؛ فلا تخافوا الفقر و العجز عن الإنفاق عليهم، وَ أن لا تَقْرَبُوا و لا ترتكبوا اَلْفَواحِشَ و الأعمال الشديدة القباحة ككبائر الذّنوب أو الزّنا، سواء ما ظَهَرَ مِنْها و ما يفعل علانية وَ ما بَطَنَ و خفي منها.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كانوا يكرهون الزّنا علانية و يفعلون ذلك سرّا، فنهاهم [اللّه]عن الزّنا علانية و سرّا (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما ظهر: هو الزّنا، و ما بطن: المخالّة» (3).

ص: 562


1- . تفسير القمي 1:220، تفسير الصافي 2:169.
2- . تفسير الرازي 13:233.
3- . مجمع البيان 4:590، تفسير الصافي 2:169، و المخالّة: الصداقة.

و في (الكافي) : عن السجاد عليه السّلام: «ما ظهر نكاح امرأة الأب، و ما بطن: الزّنا» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن تضييع حقوق الاصول و هم الوالدان، و حقوق الفروع و هم الأولاد، و حقوق نفسه من حفظها من أرتكاب الفواحش الموجبة لهلاك الأبد، نهى عن تضييع حقوق النّاس بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ قتلها بأيّ علّة من العلل إِلاّ بِالْحَقِّ الذي جعله اللّه من حكمه بوجوب قتلها في الحدّ، أو جوازه في القصاص.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ دم أمرى مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، و زنا بعد إحصان، و قتل نفس بغير حقّ» (2). و إنّما خصّه سبحانه بالذّكر مع دخوله في عموم الفواحش، للإشعار بعظم شأنه.

ثمّ أكّد سبحانه النّواهي بالحثّ على امتثالها بقوله: ذلِكُمْ المذكور من الأحكام ممّا وَصّاكُمْ اللّه بِهِ و أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون منافع دينكم و دنياكم.

و إنّما عبّر عن الأمر بالمحافظة بلفظ الوصيّة، لما فيه من اللّطف و الرّحمة حتّى يكون المكلّف أقرب إلى القبول و القيام إلى الطّاعة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 152

ثمّ بيّن المحرّم السّادس بقوله: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ و لا تتصرّفوا فيه بخصلة من الخصال إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ما يفعل به من حفظه و تنميته، أو أحسن من التّرك كحفظه فقط، أو تجارة يكون غيرها أنفع، و استمرّوا على ذلك حَتّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ و قوّته، و هو كناية عن حلمه و رشده.

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اَللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)عن الصادق عليه السّلام: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام، و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد، و كان سفيها أو ضعيفا، فليمسك عنه وليّه [ماله]» (3).

عن أبي جعفر عليه السّلام-في حديث-قال: «إنّ الجارية ليست مثل الغلام، إنّ الجارية إذا تزوّجت و دخل بها و لها تسع [سنين]، ذهب عنها اليتم، و دفع إليها مالها، و جاز أمرها في الشّراء و البيع، و اقيمت عليها الحدود التامّة، و اخذت لها بها» قال: «و الغلام لا يجوز أمره في الشّراء و البيع، و لا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر، أو ينبت قبل ذلك» (4).

ص: 563


1- . الكافي 5:567/47، تفسير الصافي 2:169.
2- . تفسير الرازي 13:233.
3- . من لا يحضره الفقيه 4:163/569، تفسير الصافي 2:170.
4- . الكافي 7:198/1.

وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ في المكيلات وَ اَلْمِيزانَ في الموزونات، و أكملوا الحقّ فيهما، حال كونكم متلبّسين بِالْقِسْطِ و العدل و التسوية، لا ينقص من عليه الحقّ منه شيئا، و لا يطلب من له الحقّ زيادة عليه شيئا، و إن كان اتّباع العدل عسرا، فنحن لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ بعدل يكون وُسْعَها و ميسورها، و أمّا معسورها فمعفوّ عنه لا تؤاخذ به.

وَ إِذا قُلْتُمْ قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما فَاعْدِلُوا فيه و لا تجوروا و لا تجاوزوا عن الحقّ وَ لَوْ كانَ المقول له أو عليه ذا قُرْبى منكم و صاحب رحم وَ بِعَهْدِ اَللّهِ من نذوركم و أيمانكم، و ما أمركم به من ملازمة العدل و العمل بأحكامه أَوْفُوا و اعملوا على نحو الكمال، ذلِكُمْ الذي فصّل لكم من الأحكام ممّا وَصّاكُمْ اللّه بِهِ و أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ما فيه من الحسن و الصّلاح، و تعملون به.

قيل: إن النّكتة في ختم الآية الاولى بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كون التّكاليف الخمسة التي فيها امورا ظاهرة يكفي في العمل بها التّعقّل و الفهم، و في ختم هذه الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ كون التّكاليف الأربعة التي فيها امورا غامضة محتاجة إلى الاجتهاد و الفكر حتّى يقف المكلّف على موضع الاعتدال (1).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 153

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب، من عمل بهنّ دخل الجنّة، و من تركهنّ دخل النّار (2).

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)وَ اعلموا أَنَّ هذا الذي ذكرت في السّورة المباركة من التّوحيد و المعاد و أحكام الدّين صِراطِي و مسلكي و شرعي المؤدّي إلى كلّ خير، أو إلى جنّتي و رضواني، حال كونه مُسْتَقِيماً مستويا لا عوج فيه، إذن فَاتَّبِعُوهُ أيّها النّاس، و لا تعدلوا عنه إلى غيره وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ المتفرّقة و المذاهب المختلفة كاليهودية و النّصرانيّة و غيرهما من الملل فَتَفَرَّقَ و تباعد بِكُمْ أو أمالكم (3)عَنْ سَبِيلِهِ الحقّ و دينه المرضيّ ذلِكُمْ الاتّباع ممّا وَصّاكُمْ اللّه و أمركم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضّلالات.

ص: 564


1- . تفسير الرازي 13:236.
2- . تفسير الرازي 14:3.
3- . كذا، و الظاهر: تتباعد بكم أو تميلكم. . .

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا تلا هذه الآية خطّ خطّا ثمّ قال: «هذا سبيل الرّشد» أو «سبيل اللّه» ، ثمّ خطّ عن يمينه و شماله خطوطا، ثمّ قال: «هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه» (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في هذه الآية: «سألت اللّه أن يجعلها لعليّ ففعل» (2).

و في (الاحتجاج) : عنه صلّى اللّه عليه و آله، في خطبة الغدير: «معاشر النّاس، إنّ اللّه [قد]أمرني و نهاني، و قد أمرت عليّا و نهيته فعلم الأمر و النّهي من ربّه، فاسمعوا لأمره تسلموا، و أطيعوه تهتدوا، و انتهوا لنهيه ترشدوا، و صيروا إلى مراده، و لا تتفرّق بكم السّبل عن سبيله.

معاشر النّاس، أنا الصّراط المستقيم (3)الذي أمركم باتّباعه، ثمّ عليّ من بعدي، ثمّ ولدي من صلبه أئمّة يهدون بالحقّ و به يعدلون» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، قال لبريد العجلي: «تدري ما يعني ب صِراطِي مُسْتَقِيماً؟» ، قال: قلت: لا، قال: «ولاية عليّ و الأوصياء» ، قال: «و تدري ما يعني فَاتَّبِعُوهُ؟» ، قال: قلت: لا، قال: «يعني: عليّ بن أبي طالب» . قال: «و تدري ما يعني وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ؟» . قال: قلت: لا، قال: «ولاية فلان و فلان و اللّه» قال: «و تدري ما يعني فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ؟» قال: قلت: لا. قال: «يعني سبيل عليّ» (5).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 154

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه وصاياه بجميع الامم بالالتزام بالمحرّمات المفصّلة في الآيات غير المتغيّرة بتغيير الشّرائع، منّ على النّاس بتكميل شريعته لهم بالأحكام التي شرّعها في التّوراة المنزلة على موسى عليه السّلام بقوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ المسمّى بالتّوراة، لأجل أن يكون تَماماً و مكمّلا للنّعمة و الكرامة عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ القيام به، و ادّى حقّ العمل بأحكامه، و اجتهد في تبليغه كائنا من كان من الأنبياء و المؤمنين، وَ ليكون تَفْصِيلاً كافيا و بيانا وافيا لِكُلِّ شَيْءٍ من العلوم و الأحكام التي يحتاج إليها النّاس، و منها البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء و ذكر علائمه و نعوته، وَ يكون هُدىً من الضّلالة و رشادا إلى كلّ حقّ وَ رَحْمَةً و تفضّلا عظيما بالمؤمنين به، العاملين بأحكامه لَعَلَّهُمْ بالنّظر إلى ظهور قدرة اللّه و كمال حكمته في إنزال هذا الكتاب بِلِقاءِ رَبِّهِمْ

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ تَماماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)

ص: 565


1- . تفسير الرازي 14:3.
2- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 2:171.
3- . في المصدر: صراط اللّه المستقيم.
4- . الاحتجاج:62، تفسير الصافي 2:171.
5- . تفسير العياشي 2:127/1520، تفسير الصافي 2:171.

و الحشر إلى دار الجزاء، أو بلقاء ثوابه و عقابه يُؤْمِنُونَ به عن صميم القلب، و يوقنون حقّ اليقين.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 155 الی 157

ثمّ لمّا منّ سبحانه على بني إسرائيل و غيرهم بإتمام النّعمة عليهم بإنزال التّوراة، و بيّن مالها من الفضائل، منّ على مشركي أهل مكّة و بني إسماعيل و غيرهم، و احتجّ عليهم بإنزال القرآن الذي هو أفضل الكتب السّماوية بقوله: وَ هذا القرآن الذي بين أيديكم كِتابٌ كريم عظيم الشّأن أَنْزَلْناهُ من السّماء إليكم، و الدّليل على أنّه من قبلنا لا من قبل الرّسول كما تزعمون، أنّه مُبارَكٌ كثير النّفع لدينكم و دنياكم. و قيل: يعني: ثابت لا يتطرّق إليه النّسخ؛ كما تطرّق في الكتابين (1)فَاتَّبِعُوهُ و اعملوا بما فيه من الأحكام وَ اِتَّقُوا اللّه في تكذيبه و مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ باتّباعه و اتّقاء مخالفته،

و إنّما كان إنزاله عليكم لأجل كراهة أَنْ تَقُولُوا يا أهل مكّة يوم القيامة اعتذارا من كفركم و ضلالكم و احتجاجا علينا: إِنَّما أُنْزِلَ اَلْكِتابُ التّوراة و الإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ كائنتين مِنْ قَبْلِنا هما اليهود و النّصارى وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ و تلاوتهم الكتاب لَغافِلِينَ و بما فيه جاهلين، لكونه على غير لغتنا،

فلم نقدر على قراءته و فهمه أَوْ تَقُولُوا يوم القيامة: لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا من السّماء اَلْكِتابُ العربيّ كما انزل على الطّائفتين الكتاب العبريّ لَكُنّا بسبب شدّة ذكائنا و قوّة أفهامنا أَهْدى و أرشد مِنْهُمْ إلى كلّ حقّ، أو إلى ما فيه من العلوم و المعارف و الأحكام فَقَدْ جاءَكُمْ القرآن الذي هو بَيِّنَةٌ و حجة واضحة قاطعة للعذر، كائنة مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم وَ هُدىً إلى كلّ حقّ، و خير و رشاد من الضّلال وَ رَحْمَةٌ عظيمة و نعمة جسيمة للمؤمنين به، كما كانت التّوراة كذلك.

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اِتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ اَلْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتابُ لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اَللّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي اَلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ اَلْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)قيل: الفرق بين البيّنة و الهدى، أنّ البيّنة الوضوح فيما يعلم بالسّمع، و الهدى الوضوح فيما يعلم بالسّمع و العقل (2).

ثمّ ذمّهم سبحانه على تكذيبهم القرآن بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ و أضرّ على نفسه و غيره مِمَّنْ كَذَّبَ

ص: 566


1- . تفسير الرازي 14:5.
2- . تفسير الرازي 14:5.

بِآياتِ اَللّهِ المنزلة، و القرأن الذي هو في درجة الإعجاز، مع العلم به وَ صَدَفَ و أعرض، أو صدّ النّاس عَنْها و منعهم من الإيمان بها.

ثمّ هدّدهم بعد إنكار كون أحد أظلم منهم بقوله: سَنَجْزِي في الدّنيا أو الآخرة أو فيهما الكفّار اَلَّذِينَ يَصْدِفُونَ و يعرضون، أو يصدّون النّاس عَنْ آياتِنا القرآنيّة سُوءَ اَلْعَذابِ و أشدّه بِما كانُوا في الدّنيا يَصْدِفُونَ النّاس و يضلّونهم عن الحقّ على التّجدّد و الاستمرار.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 158

ثمّ لمّا بيّن سبحانه انقطاع عذر الكفار في عدم إيمانهم بتوحيده و رسالة رسوله بسبب نزول القرآن الذي هو أفضل الكتب السّماويّة بلغتهم، أكّد سبحانه ذلك ببيان أنّه لا عذر لهم في عدم الإيمان إلاّ انتظار وقوع أحد امور كلّها من المحالات، أو بلوغ وقت انقطاع التّكليف، بقوله إنكارا عليهم: هَلْ يَنْظُرُونَ و ينتظرون في إيمانهم برسالتك و صحّة دينك إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ من السّماء بصورتهم الملكيّة، يشهدون عندهم برسالتك، أو الملائكة الموكّلون على قبض الأرواح أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ عندهم بتصديقك و هم يشهدون بأعينهم، أو بالعذاب، أو بجميع آيات القيامة و أشراط السّاعة و الهلاك الكلّي أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ من المعجزات القاهرات أو أشراط السّاعة.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ (158)عن الصادق عليه السّلام: «الآية المنتظرة: القائم» (1).

مع أنّه يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ كالدّخان، و دابّة الأرض، و طلوع الشّمس من مغربها، و خروج الدجّال، و غيرها.

و عنهم عليهم السّلام: «أنّه العذاب في الدّنيا» (2).

لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لصيرورته ضروريا لها، و لكن ذلك إذا لَمْ تَكُنْ تلك النّفس آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ و في حال عدم معاينة الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام: «يعني [في]الميثاق» (3).

أَوْ ما كَسَبَتْ و حصّلت فِي حال إِيمانُها قبل ذلك خَيْراً و عملا صالحا.

ص: 567


1- . كمال الدين:336/8، تفسير الصافي 2:173.
2- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 2:172.
3- . الكافي 1:355/81، تفسير الصافي 2:173.

عن أحدهما عليهما السّلام، في قوله: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قال: «المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه، و قلّة حسناته، فلم يكسب في إيمانه خيرا» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قال: «الإقرار بالأنبياء و الأوصياء و أمير المؤمنين خاصّة» قال: «لا ينفع إيمانها لأنّه سلب» (2).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث خروج الدجّال و قاتله، و دابّة الأرض، و في آخره: «ثمّ ترفع الدابّة رأسها، فيراها من بين الخافقين بإذان اللّه جلّ جلاله، و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التّوبة فلا تقبل توبة، و لا عمل يرفع، و لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» ثمّ فسّر صعصعة راوي الحديث طلوع الشّمس من مغربها بخروج القائم عليه السّلام (3).

ثمّ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتهديد المصرّين على الكفر بقوله: قُلِ يا محمّد: اِنْتَظِرُوا إتيان أحد الأمور الثّلاثة إِنّا أيضا مُنْتَظِرُونَ لذلك، و حينئذ لنا الفوز و عليكم الويل بما حلّ بكم من سوء العاقبة.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 159

ثمّ أنّه تعالى بعد إتمام الحجّة على المشركين بنزول القرآن بلسان عربيّ مبين، و وعيدهم على تكذيبه، و توبيخهم على الإصرار على الكفر، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالتبرّي منهم و عدم التّعرّض لهم بالقتال، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا و شعّبوا دِينَهُمْ .

إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اَللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: يريد المشركين، بعضهم يعبدون الملائكة و يزعمون أنّهم بنات اللّه، و بعضهم يعبدون الأصنام و يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه (4).

و عن مجاهد: هم اليهود و النّصارى، كلّ منهم تفرّقوا فرقا، و كفّر بعضهم بعضا (5).

و قيل: هم أهل البدع من هذه الامّة (6)، [و قد]روي عن الباقر عليه السّلام (7).

وَ كانُوا شِيَعاً و أحزابا في الضّلالة، أو كانوا أتباعا لأئمّة الضّلال، كلّ فرقة تشايع (8)إماما.

ص: 568


1- . تفسير العياشي 2:128/1525، تفسير الصافي 2:173.
2- . الكافي 1:355/81، تفسير الصافي 2:173.
3- . كمال الدين:527/1، تفسير الصافي 2:173.
4- . تفسير الرازي 14:7.
5- . تفسير الرازي 14:7.
6- . تفسير الرازي 14:8.
7- . مجمع البيان 4:600، تفسير الصافي 2:174.
8- . في النسخة: شافع.

و القمّي [قال]: فارقوا أمير المؤمنين عليه السّلام، و صاروا أحزابا (1).

لَسْتَ مِنْهُمْ و من السّؤال عن تفرّقهم و عقائدهم، أو من قتالهم (2)، أو من عقابهم فِي شَيْءٍ و قيل: يعني: أنت برئ منهم (3)، أو على التّباعد التامّ من الاجتماع معهم في شيء من مذاهبهم الفاسدة (4)إِنَّما أَمْرُهُمْ في الإمهال و الإهلاك في الدّنيا، و الحكم بينهم فيما اختلفوا فيه راجع إِلَى اَللّهِ وحده، لا إليك و لا إلى غيرك ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ و يخبرهم يوم القيامة بِما كانُوا في الدّنيا يَفْعَلُونَ من المعاصي و القبائح بأن يعاقبهم على رؤوس الأشهاد.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 160

ثمّ أعلن سبحانه بكمال فضله على المحسنين، و غاية عدله في عقاب العاصين بقوله: مَنْ جاءَ و أتى من المؤمنين يوم القيامة بِالْحَسَنَةِ من الإيمان و العمل الصّالح فَلَهُ من الثواب عَشْرُ حسنات أَمْثالِها تفضّلا من اللّه تعالى. و قيل: إنّ العشر كناية عن مطلق الإضعاف (5).

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)وَ مَنْ جاءَ و أتى في ذلك اليوم بِالسَّيِّئَةِ و الفعلة القبيحة فَلا يُجْزى الجائي بها إِلاّ سيّئة مِثْلَها عدلا منه تعالى وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة العقاب.

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أعطى اللّه سبحانه إبليس ما أعطاه من القوّة، قال آدم: يا ربّ سلّطته على ولدي، و أجريته فيهم مجرى الدمّ في العروق، و أعطيته ما أعطيته، فما لي و لولدي؟ فقال: لك و لولدك السّيّئة بواحدة، و الحسنة بعشر أمثالها، قال: ربّ زدني، قال: التّوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النّفس الحلقوم، فقال: يا ربّ زدني، قال: أغفر و لا ابالي، قال: حسبي» (6).

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 161

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد، و إبطال مذهب الشّرك و أباطيل أهل الجاهليّة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلان النّاس بأنّ توحيده في الرّبوبيّة ملّة إبراهيم، و الدّين القويم، و الصّراط المستقيم، بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين الزّاعمين أنّهم على الدّين الحقّ: إِنَّنِي هَدانِي و أرشدني رَبِّي بلطفه إِلى

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (161)

ص: 569


1- . تفسير القمي 1:222، تفسير الصافي 2:174.
2- . في النسخة: قبالهم.
3- . تفسير الرازي 14:8.
4- . تفسير الصافي 2:175.
5- . تفسير الرازي 14:9.
6- . تفسير القمي 1:42، تفسير الصافي 2:176.

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى قربه و رضوانه، و أوحى إليّ دِيناً قِيَماً قويما، كان هو مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حال كونه عليه السّلام حَنِيفاً و مائلا عن كلّ باطل، أو حال كون ملّته حنيفيّة وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ . و فيه ردّ [على]ما ادّعوه من أنّهم على دين إبراهيم.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 162 الی 163

ثمّ أمره سبحانه بالإعلان بتوحيده في العبادة و تمحّضه في الخلوص له تعالى بقوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي و خضوعي وَ نُسُكِي و عباداتي كلّها، أو قرباني.

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ (163)و قيل: إنّ الصّلاة: صلاة العيد، و النّسك: الاضحيّة (1).

وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي و حياتي و موتي، أو ما أنا عليه في حياتي و ما أكون عليه عند موتي من الإيمان و الطّاعة، خالصة لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ وحده لا شَرِيكَ لَهُ فيها، وَ بِذلِكَ التّوحيد أو الإخلاص أُمِرْتُ من جانب ربّي وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين لعبادته في عالم الذرّ لأنّه أوّل من أجاب، أو في هذه الامّة لأنّ إسلام النبيّ قبل إسلام أمّته.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 164

ثمّ أمر سبحانه بأن يبالغ في التزامه بالتّوحيد في الرّبوبيّة و العبادة بإظهار غاية قباحة الشّرك من نفسه، و إنكاره عليهم بعد قيام البراهين القاطعة على وجوب التّوحيد بقوله: قُلْ يا محمّد: أَ غَيْرَ اَللّهِ من الملائكة و الكواكب و الأصنام و غيرها أَبْغِي و أطلب لنفسي رَبًّا وَ هُوَ تعالى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ باعتراف جميع الفرق، و بحكم العقل القطعي لبداهة وجوب انتهاء وجود الممكن إلى الواجب، و امتناع تعدّده، و كون الممكن شريكا له.

قُلْ أَ غَيْرَ اَللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)ثمّ نبّههم على أنّ ضرر الشّرك و عقابه عليهم بقوله: وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الأنفس ضررا إِلاّ كان ذلك الضّرر عَلَيْها لا يتعدّاها إلى غيرها وَ لا تَزِرُ و لا تحتمل نفس وازِرَةٌ و حاملة المعصية وِزْرَ نفس أُخْرى و حملها و عقوبتها.

و فيه ردّ على المشركين القائلين للمؤمنين: اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ (2).

ص: 570


1- . تفسير روح البيان 3:129.
2- . العنكبوت:29/12.

ثُمَّ أنتم بعد الموت إِلى رَبِّكُمْ و مليككم، و إلى حكمه و محضر عدله مَرْجِعُكُمْ و مصيركم فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم يومئذ بِما كُنْتُمْ في الدنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الرّشد و الغيّ، و الحقّ و الباطل، بإعطاء الثّواب العظيم للمحقّين، و الحكم بالعقاب الشّديد للمبطلين.

سوره 6 (الأنعام): آیه شماره 165

ثمّ أنّه تعالى لمّا بدأ في السّورة المباركة ببيان كمال قدرته و حكمته و الوهيّته في عالم الوجود، ختمها ببيان كمال منّته و رأفته و وفور نعمه، و شدّة عقابه و سعة رحمته بقوله: وَ هُوَ اللّه القادر اَلَّذِي خلقكم و منّ عليكم بأن جَعَلَكُمْ خَلائِفَ اَلْأَرْضِ و ساكنيها بعد بني الجان، أو بعد فناء الامم الماضية، أو خلفاء نفسه في الأرض تتصرّفون فيها كتصرّف الملاّك في أملاكهم، و تنتفعون بها و بما خلق فيها وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ في القوى الجسمانيّة، و العقل و العلم، و الشّرف و المال، و غيرها من الكمالات الوجودية و السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة فَوْقَ بَعْضٍ آخر، و فضّل كلاّ منكم في الصّفات الخلقيّة، و المحاسن الخلقيّة على الآخر بجوده و رأفته إلى دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة، لا للجهل و القرابة أو غيرهما من الدّواعي النّفسانيّة، بل لِيَبْلُوَكُمْ و يعاملكم معاملة الممتحن لطاعتكم و عصيانكم فِي ما آتاكُمْ و جعل عليكم من التّكاليف و الأحكام.

وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ اَلْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)ثمّ هدّد سبحانه على عصيانه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ في الآخرة على عصيانه و مخالفة أحكامه، ثمّ رغّب في طاعته بقوله: وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ للذّنوب، و ستّار للمعاصي بفضله و كرمه البتّة رَحِيمٌ بعباده المطيعين له بإفاضة نعمه الجسيمة عليهم في الدّنيا و الآخرة لا محالة.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك حتّى نزلت على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فعظّموها و بجّلوها، فإنّ اسم اللّه عزّ و جلّ فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم النّاس ما في قراءتها ما تركوها» (1).

و عن الرضا عليه السّلام: «نزلت الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتّسبيح و التّهليل و التّكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة» (2).

ص: 571


1- . الكافي 2:455/12، ثواب الأعمال:105، تفسير الصافي 2:178.
2- . تفسير القمي 1:193، تفسير الصافي 2:178.

ص: 572

في تفسير سورة الأعراف

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختم اللّه سورة الأنعام-المشتملة على ردّ المشركين و إبطال بدعهم-بالوعيد بالعقاب السّريع و وعد المؤمنين بسعة رحمته و غفرانه، أردفها بسورة الأعراف المتضمّنة للردّ على المشركين، و تهديدهم بالعقوبات النّازلة في الدّنيا على الامم الّذين كانوا مثلهم في الكفر و الطّغيان و معارضة الأنبياء العظام، و توعيدهم بالعقوبات الشّديدة في الآخرة، و لمدح المؤمنين بالنّصرة و الإكرام في الدّنيا، و الفوز بالنّعم الدّائمة في الآخرة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)فافتتحها سبحانه-على دأبه الجاري في الكتاب الكريم-بأسمائه المباركة تيمّنا و تعليما للعباد، ليتبرّكوا بذكرها عند الشّروع في كلّ أمر ذي بال بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ و قد مرّ تفسيره.

ثم ابتدأ فيها بذكر الحروف المقطّعات بقوله: المص توجيها للقلوب إلى ما بعدها من المطالب المهمّة، و إرمازا من إسمائه الحسنى، و إيماء إلى العلوم الكثيرة التي يستنبطها الرّاسخون في العلم منها.

عن الصادق عليه السّلام، في حديث قال: «و المص أنا اللّه المقتدر الصّادق» (1).

و عن العيّاشي عنه عليه السّلام أنّه أتاه رجل من بني اميّة، و كان زنديقا، فقال له: قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه: المص أي شيء أراد بهذا؟ و أيّ شيء فيه من الحلال و الحرام؟ و أي شيء فيه ممّا ينتفع به النّاس؟ قال: فاغتاظ عليه السّلام من ذلك فقال: «أمسك ويحك، الألف: واحد، و اللام: ثلاثون، و الميم: أربعون، و الصّاد: تسعون، كم معك» ؟ فقال الرجل: مائة و واحد و ستّون، فقال: «إذا انقضت سنة إحدى و ستين و مائة فينقضي ملك أصحابك» ، قال: فنظر، فلمّا انقضت سنة إحدى و ستّين و مائة يوم

ص: 573


1- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 2:179.

عاشوراء دخل المسوّدة الكوفة و ذهب ملكهم (1).

و قيل: إنّ (المص) اسم للكتاب العزيز، و قيل: اسم للسّورة (2). و كلا القولين مبنيّان على الاجتهاد الذي لا اعتماد عليه.

ثمّ بيّن سبحانه أهمّ المطالب، و هو صدق الكتاب العزيز الدالّ على صدق النّبوّة بقوله: كِتابٌ عظيم الشّأن، كاف لإثبات نبوّتك يا محمّد، شاهد صدق على صدقك، واف بجميع ما تحتاج إليه امّتك أُنْزِلَ من جانب اللّه بتوسّط أمين وحيه إِلَيْكَ تفضّلا منه عليك، فإذا علمت ذلك فَلا يَكُنْ و لا يوجد فِي صَدْرِكَ و قلبك حَرَجٌ و ضيق مِنْهُ، من جهه الخوف من التكذيب في تبليغه.

قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يخاف تكذيب قومه و إعراضهم من قبول قوله و أذاهم، فكان يضيق صدره في الأداء، فأمّنه اللّه تعالى بهذه الآية (3).

أو بسبب الشّكّ في أنّه نازل من اللّه لِتُنْذِرَ النّاس و تخوّفهم من سخطه و عذابه على الشّرك و العصيان بِهِ و بآياته وَ ليكون هذا الكتاب ذِكْرى و عظة لِلْمُؤْمِنِينَ به.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد شهادته بصدق القرآن الذي هو دليل على صدق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمره رسوله بتبليغه و عدم المبالاة بتكذيب قومه، أمر النّاس باتّباعه و العمل بكتابه، و دعاهم بذاته المقدّسة إليه بقوله: اِتَّبِعُوا أيّها النّاس، و لازموا في عقائدهم و أعمالكم ما أُنْزِلَ بتوسّط محمّد صلّى اللّه عليه و آله إِلَيْكُمْ جميعا مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، المراعي لصلاحكم، من القرآن الجامع لجميع المعارف و الأحكام.

اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)ثمّ بعد أمرهم بالمعروف نهاهم عن الشّرك الذي هو أعظم المنكرات بقوله: وَ لا تَتَّبِعُوا بإغواء الشّياطين شيئا من خلق اللّه، و لا تتّخذوا مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه من الكواكب و الأصنام و غيرها

ص: 574


1- . تفسير العيّاشي 2:135/1544، تفسير الصافي 2:179. قوله عليه السّلام: «إذا انقضت سنة إحدى و ستين و مائة. . .» استظهر صحته العلامة المجلسي في بحار الأنوار 10:164، حسب ترتيب الأبجدية عند المغاربة «أبجد، هوز، حطي، كلمن، صعفض، قرست، تخذ، ظغش» فالصاد المهملة عندهم ستون، و الضاد المعجمة تسعون، فحينئذ يستقيم ما في أكثر النسخ في عدد المجموع، و لعل الاشتباه في قوله: و الصاد تسعون من النسّاخ، لظنهم أنه مبنيّ على المشهور، و بذلك يصح المجموع المذكور و يطابق سنة انهيار و سقوط دولة بني اميّة، أي سنة 131 ه.
2- . تفسير روح البيان 3:133.
3- . تفسير روح البيان 3:134.

أَوْلِياءَ و آلهة محبوبين، فاذكروا ما ينفعكم، و اتّعظوا بمواعظ اللّه، و لكنّ زمانا أو تذكّرا و اتّعاظا قَلِيلاً ما و في غاية القلّة تَذَكَّرُونَ و تتعظون، لشدّة قساوة قلوبكم، و غلبة شهواتكم. و يمكن أن يكون توصيف تذكّرهم بالقلّة بملاحظة قلّة المتذكّرين.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ لمّا كان التّخويف بعذاب الاستئصال في الدّنيا أردع لهم من الكفر و القبائح، شرع سبحانه في تهديد المشركين على شركهم و عدم اتّعاظهم و اتّباعهم لكتاب اللّه، و معارضتهم الرّسول و تكذيبه بما نزل على الامم الماضية-المعارضين للرّسل، التّابعين للشّياطين-من عذاب الاستئصال في الدّنيا بقوله: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ من القرى، و كثيرا من بلدة من البلاد أَهْلَكْناها و أردنا إفناء أهلها عقوبة على شركهم و إصرارهم على الكفر، و معارضة الأنبياء، و انهماكهم في الشّهوات، و تعرّضهم على قبائح الأعمال.

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاّ أَنْ قالُوا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (5)ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة إهلاكهم بقوله: فَجاءَها بَأْسُنا و قرب منها عذابنا، إمّا بَياتاً و ليلا و هم مستريحون غافلون عنه، كقوم لوط أَوْ نهارا و هُمْ قائِلُونَ نائمون غير متوقّعين سوءا و مكروها، كقوم شعيب، اهلكوا في وسط النّهار و هم قائلون. فلا يغترّ هؤلاء الكفرة بحال الأمن و الرّاحة، فإنّ عذاب اللّه يقع دفعة و بغتة.

قيل: إنّ ذكر نزول العذاب في الوقتين، لاختصاصهما بالرّاحة، و عدم توقّع العذاب فيهما، و لذا كان أشدّ، كما أنّ النّعمة غير المرتقبة ألذّ.

فَما كانَ دَعْواهُمْ و تضرّعهم، كما عن ابن عبّاس (1)إِذا جاءَهُمْ و نزل عليهم بَأْسُنا و عذابنا شيئا إِلاّ أَنْ قالُوا اعترافا باستحقاقهم له و ندامة على شركم و طغيانهم: يا ويلنا إِنّا كُنّا من قبل ظالِمِينَ باختيار الشّرك، و ارتكاب السيّئات.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 6 الی 7

فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنّا غائِبِينَ (7)

ص: 575


1- . تفسير الرازي 14:21.

ثمّ هدّدهم اللّه بأهوال يوم القيامة بقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ توبيخا و تقريعا كافّة الامم اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الرّسل، عمّا أجابوهم بعد دعوتهم إلى الهدى و دين الحقّ، و نقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ وَ و اللّه لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ عن تأدية الرّسالة، و عمّا اجيبوا به من ردّ و تكذيب، أو قبول و طاعة، فيقولون تشكيّا من اممهم: لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فيقام الرّسل فيسألنّ عن تأدية الرّسالات التي حملوها إلى اممهم، فيخبرون أنّهم قد أدّوا ذلك إلى اممهم، و تسأل الامم فيجحدون، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ (1)الآية» .

و فائدة هذا السّؤال تضعيف (2)الإكرام للرّسل، و الإهانة و الفضيحة للكفّار.

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ و لننبّئنّ لهم (3)جميعا جميع ما صدر عنهم من التّبليغ و الإنكار و المعارضة بِعِلْمٍ كامل منّا بظواهرهم و بواطنهم، لأنّا كنّا شاهدين عليهم، مطّلعين على خفيّاتهم وَ ما كُنّا غائِبِينَ عنهم في حال من الأحوال، و لا غافلين عن أعمالهم و أحوالهم في آن من الآنات.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالسّؤال عنهم (4)يوم القيامة، هدّدهم بوزن الأعمال و عقائدهم بقوله: وَ اَلْوَزْنُ لأعمال النّاس و عقائدهم: تعيين راجحها و مرجوحها، و جيّدها و رديئها يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ الثّابت بحيث لا مجال للرّيب فيه.

وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

في بيان الوجوه

و الأقوال في الميزان

إنّما الكلام في الميزان و الموزون. أمّا الأوّل: فمجمل القول فيه أنّ الميزان في القيامة حسّي و معنوي، أمّا الحسّي: فالحقّ أنّه ينصب ميزان له عمود و كفّتان، في بعض الرّوايات العاميّة: طول عموده خمسون ألف سنة، و إحدى كفّتيه من نور فيوضع فيها الحسنات، و الاخرى من الظّلمة يوضع فيها السيّئات (5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه تعالى ينصب ميزانا له لسان و كفّتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها و شرّها (6).

و عن عبد اللّه بن سلاّم: أنّ ميزان ربّ العالمين [ينصب]بين الجنّ و الإنس، يستقبل به العرش، إحدى كفّتي الميزان على الجنة، و الاخرى على جهنّم، و لو وضعت السّماوات و الأرض في إحداهما

ص: 576


1- . الاحتجاج:242، تفسير الصافي 2:180.
2- . أي مضاعفة.
3- . كذا، و الظاهر: و لننبّئنّهم.
4- . كذا، و الظاهر: بسؤالهم.
5- . تفسير روح البيان 3:137.
6- . تفسير الرازي 14:24.

لوسعتهنّ، و جبرئيل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه (1). إلى غير ذلك من الرّوايات.

و أمّا المعنوي: فهو النبيّ و الوصيّ و الدّين، فميزان أعمال كلّ امّة نبيّها و شريعتها التي أتى بها.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ نَضَعُ اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ (2)، قال: «هم الأنبياء و الأوصياء» (3).

و في رواية: هم الموازين (4).

و عن مجاهد و الضحّاك و كثير من العامّة: أنّه العدل و القضاء (5). و أنكروا الميزان الحسّي، و استدلّ لقولهم بأنّ الميزان ما يعرف به مقدار الشيء، و مقادير الثّواب و العقاب لا يمكن معرفتها بالميزان، و أمّا نفس الأعمال فغير قابلة للوزن؛ لأنّها أعراض قد فنيت، و وزن المعدوم محال، و على تقدير بقائها كان وزنها محالا.

و عن (الاحتجاج) : عنه عليه السّلام (6)أنّه سئل أو ليس توزن الأعمال؟ قال: «لا، لأنّ الأعمال ليست أجساما، و إنّما هي صفة ما عملوا، و إنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء و لا يعرف ثقلها و خفّتها، و إنّ اللّه لا يخفى عليه شيء» . قيل: فما معنى الميزان؟ قال: «العدل» . قيل: فما معناه في كتابه فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ؟ قال: «فمن رجح عمله» (7).

أقول: بناء على ما هو الحقّ من تجسّم الأعمال في الآخرة، و إمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه، و كون الحكمة في الوزن تهويل العاصي و تفضيحة، و تبشير الميطع و ازدياد فرحة، و إظهار غاية العدل. ففي الرواية وجوه من الإشكال، فلا بدّ من تأويلها إن أمكن، و إلاّ فطرحها أو حملها على التقيّة.

و أمّا الموزون، فهو نفس الأعمال و ما ينتهي الى اختيار العباد من الحسنات و السيّئات.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أمّا المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فتثقل حسناته على سيّئاته (8).

و قيل: الموزون صحائف (9).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عمّا يوزن يوم القيامة، فقال: «الصّحف» (10).

ص: 577


1- . تفسير الرازي 14:25.
2- . الأنبياء:21/47.
3- . الكافي 1:346/36، معاني الأخبار:31/1، تفسير الصافي 2:181.
4- . بحار الأنوار 71:226.
5- . تفسير الرازي 14:25.
6- . أي عن الامام الصادق عليه السّلام.
7- . الاحتجاج:351، تفسير الصافي 2:181.
8- . تفسير الرازي 14:24.
9- . تفسير الرازي 14:25.
10- . تفسير الرازي 14:25.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان، و يؤتى له بتسعة و تسعين سجلا، كلّ سجلّ منها مدّ البصر، فيها خطاياه و ذنوبه، فتوضع في كفّة الميزان، ثمّ يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، يوضع في الاخرى فترجّح» (1).

و قيل: إنّ الموزون بالميزان الحسيّ هو أعمال الجوارح دون الأعمال القلبيّة؛ كالعقائد و النيّات و غيرهما، فإنّه يقام لها الميزان المعنوي و هو العدل، فالحسّي للحسّي، و المعنوي للمعنوي.

و قيل: يوزن نفس المؤمن و الكافر (2)، فيظهر بالميزان عظم قدر الأول و ذلّ الثّاني و مهانته.

روي أنّه يؤتى يوم القيامة بالرّجل العظيم الطّويل الأكول الشّروب فيوزن، فلا يزن جناح بعوضة (3).

و قيل: إنّ الوزن لأهل الحقّ و الصّدق و أصحاب البرّ، دون الكفّار و أهل الباطل؛ لأنّه لا وزن للباطل و أهله.

عن السجّاد عليه السّلام-في حديث-: «اعلموا عباد اللّه أنّ أهل الشّرك لا ينصب لهم الموازين، و لا ينشر لهم الدّواوين، و إنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا، و إنّما نصب الموازين و نشر الدّواوين لأهل الإسلام، فاتّقوا اللّه عباد اللّه» (4).

أقول: يدلّ عليه قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً (5)، و يمكن حمل الآية و الرّواية على أنّه لا ينصب لهم الميزان لتعيين وزن حسناتهم و مقدار ثوابها بالنّسبة إلى سيّئاتهم، لحبط حسناتهم. و أمّا تعيين مقدار عظمة سيّئاتهم في أنظار النّاس فيحتاج إلى نصب الميزان.

و قيل: إنّ وزن الأعمال يكون بعد الحساب؛ لأنّ المحاسبة لتقرير الأعمال، و الوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها، فينبغي أن يكون بعدها.

و على أيّ تقدير فَمَنْ ثَقُلَتْ و رجحت مَوازِينُهُ بسبب كثرة الحسنات، أو عظم قدرها فَأُولئِكَ المؤمنون المحسنون هُمُ بالخصوص اَلْمُفْلِحُونَ و النّاجون في الآخرة، الفائزون بالجنّة و النّعم الدّائمة و الكرامة الأبديّة.

روي أنّ داود عليه السّلام سأل ربّه أن يريه الميزان الذي ينصب يوم القيامة، فرأى كل كفّة ملء ما بين المشرق و المغرب فغشي عليه، فلمّا أفاق قال: إلهي من يقدر أن يملأ كفّته بالحسنات؟ فقال اللّه

ص: 578


1- . تفسير الرازي 14:25.
2- . بحار الأنوار 71:226.
3- . تفسير روح البيان 3:137.
4- . الكافي 8:75/29.
5- . الكهف:18/105.

تعالى: يا داود، إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة من صدقة (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق» (2).

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بكثرة السيّئات، أو شدّة قبحها فَأُولئِكَ خفاف الموازين هم اَلَّذِينَ خَسِرُوا في الدّنيا و غبنوا أَنْفُسَهُمْ بأن ضيّعوا فطرتهم السّليمة التي هي بمنزلة رأس مالهم في سوق الدّنيا بِما كانُوا فيها بِآياتِنا الدالّة على توحيدنا في الالوهيّة، و كمال الصّفات و المعجزات الشّاهدة على صدق نبيّنا، و البراهين الواضحة على وجوب طاعة أوليائنا يَظْلِمُونَ و حقّها يضيّعون، حيث إنّ حقّها أن يصدّقوها، و هم يكذّبون.

قيل: إنّما قال اللّه: مَوازِينُهُ بصيغة الجمع، لأنّ كلّ عبد ينصب له موازين بالقسط تناسب حالاته، فلبدنه ميزان توزن به أوصافه، و لروحه ميزان توزن به نعوته، و لسرّه ميزان توزن به أحواله، و لخفيّه ميزان توزن به أخلاقه (3).

و قيل: إنّ لأفعال القلوب ميزانا، و لأفعال الجوارح ميزان، و للأقوال ميزان (4).

و عن الزجّاج: أنّه قد يطلق الجمع على الواحد، كما يقال: خرج فلان إلى مكّة على البغال (5).

و قيل: إنّ الموازين جمع موزون (6).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فانّما يعني الحساب (4)، توزن الحسنات و السيّئات، و الحسنات ثقل الميزان، و السيّئات خفّة الميزان» (5).

و عنه عليه السّلام: «هي قلّة الحسنات و كثرتها» (6).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 10

ثمّ أنّه تعالى بعد زجر النّاس عن متابعة الشّياطين و عبادة الأصنام، بتخويفهم من العذاب الدّنيوي و الاخروي، شرع سبحانه في ترغيبهم إلى اتّباع ذاته المقدّسة بتذكيرهم نعمه العظام بقوله: وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ و أسكناكم أيّها النّاس فِي اَلْأَرْضِ أو أقدرناكم على التّصرّف فيها بالسكونة (7)و الزّرع و غيرهما من وجوه الانتفاعات وَ جَعَلْنا و أوجدنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ و ما به بقاؤكم و تقوّم اموركم من المطاعم و المشارب و الملابس و المناكح، و ما به تحصّلون الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة،

وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

ص: 579


1- . تفسير روح البيان 3:137.
2- . تفسير روح البيان 3:137.
3- . تفسير روح البيان 3:137. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 14:26.
4- . في النسخة: يعني إنّما الحسنات.
5- . التّوحيد:268/5، تفسير الصافي 2:181.
6- . تفسير الصافي 2:181.
7- . كذا، و الظاهر: بالسّكن، أو السّكنى.

و مع ذلك قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ تلك النّعم العظام. و هو نظير قوله: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 11 الی 13

ثمّ نبّه سبحانه على عدم انحصار نعمه بالتّمكين في الأرض و خلق ما يعيشون به، بل أصل الوجود الذي هو أعظم النّعم منه تعالى، بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ و أخرجناكم من العدم إلى الوجود، مبتدئا بخلق أبيكم آدم من طين ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بأحسن صورة بعد خلق آدم و تصويره و نفخ الرّوح فيه.

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّاغِرِينَ (13)عن الباقر عليه السّلام: «أمّا (خلقناكم) فنطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظما ثمّ لحما، و أمّا (صورناكم) فالعين و الأنف و الأذنين و الفم و اليدين و الرّجلين، صوّر هذا و نحوه، ثمّ جعل الدّميم (2)و الوسيم و الجسيم و الطّويل و القصير، و أشباه هذا» (3).

في أمر اللّه الملائكة

بالسجود لآدم

ثمّ لمّا كان خلق الإنسان من آدم عليه السّلام، و كان إكرام الأب منّة على الأبناء، أتبع نعمة الخلق ببيان إكرام آدم عليه السّلام بإسجاد الملائكة له بقوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ جميعا: اُسْجُدُوا لِآدَمَ تكريما له، و قيل: لمّا كان خلق نوع البشر بخلق أوّل فرد منه، كنّى سبحانه عن خلق أبي البشر بالخطاب إلى النّوع، و على أيّ تقدير فَسَجَدُوا كلّهم لأدم من غير ريث إِلاّ إِبْلِيسَ فإنّه وحده خالف أمر ربّه و لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّاجِدِينَ لآدم، فعاتبه جلّ جلاله،

و قالَ : يا إبليس ما مَنَعَكَ عن طاعتي، و أيّ شيء أجرأك على أَلاّ تَسْجُدَ لآدم إِذْ أَمَرْتُكَ مع الملائكة بالسّجود له، و حين أوجبته عليك.

قالَ إبليس: كيف أمرتني بالسّجود لآدم و أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ و أفضل؟ و لا يجوز أمر الأفضل بالسّجود و التّواضع للمفضول، أمّا فضيلتي على آدم فلأنّك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ و هي حقيقة لطيفة مشرقة علويّة فعّالة وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ كثيف ثقيل، مظلم منفعل، و من الواضح أنّ المخلوق من الأفضل أفضل.

في عدم جواز

القياس في الدين

عن ابن عبّاس أنّه قال: كانت الطّاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربّه و قاس،

ص: 580


1- . سبأ:34/13.
2- . الدّمامة: قبح المنظر و صغر الجسم.
3- . تفسير القمي 1:224، تفسير الصافي 2:182.

و أوّل من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدّين بشيء من رأيه قرنه اللّه مع إبليس (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث: «فطرده اللّه عن جواره، و لعنه و سمّاه رجيما، و أقسم بعزّته: لا يقيس أحد في دينه إلاّ قرنه مع عدوّه إبليس في أسفل درك من النّار» (2).

و عنه عليه السّلام أنّه دخل عليه أبو حنيفة، فقال: «يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس؟» ، قال: نعم أقيس، قال: «لا تقس، فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فقاس ما بين النّار و الطّين، و لو قاس نوريّة آدم بنوريّة النّار، عرف فضل ما بين النّورين و صفاء أحدهما على الآخر» (3).

قالَ اللّه تعالى لابليس و هو في جنّة عدن-كما عن ابن عبّاس (4)-أو في جنّة الدّنيا: فَاهْبِطْ و انزل أو انتقل مِنْها إلى الأرض، أو إلى خارجها، أو من المنزلة التي أنت عليها، أو من زمرة الملائكة فَما يَكُونُ جائز لَكَ يا إبليس أَنْ تَتَكَبَّرَ و تترفّع في وقت من الأوقات، أو مكان من الأمكنة، لا سيّما فِيها لأنّها مكان المطهّرين من الرّذائل.

ثمّ أكّد الأمر بخروجه بقوله: فَاخْرُجْ من الجنّة، أو من زمرة الملائكة المكرمين إِنَّكَ بتكبّرك و عصيانك بعد مِنَ اَلصّاغِرِينَ و من زمرة الأذلاّء المهينين.

عن ابن عبّاس: يريد أنّ أهل السّماوات ملائكة متواضعون خاشعون، فاخرج إنّك من الصّاغرين. و الصّغار: الذلّة (5).

في التواضع و ذمّ

التكبر

قيل: إنّ إبليس طلب التكبّر فابتلاه اللّه بالذلّة و الصّغار، تنبيها على صحّة ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من تواضع رفعه اللّه، و من تكبّر وضعه اللّه» (6).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ لمّا اشتدّت عداوته لآدم عليه السّلام و ذريّته طلب الفسحة لإغوائهم و قالَ بعد طرده من الجنّة و الرّحمة: ربّ أَنْظِرْنِي و أمهلني في الدّنيا، و أدم حياتي إِلى يَوْمِ القيامة الذي فيه يُبْعَثُونَ من قبورهم و يحشرون إليك لجزاء أعمالهم. و لمّا اقتضت الحكمة ابتلاء آدم و ذريّته، استجاب دعاءه

و قالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ و الممهلين، و لكن لا إلى يوم البعث، و هو النّفخة الثانية، بل إلى يوم يموتون جميعا بالنّفخة الاولى.

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ (15)

ص: 581


1- . تفسير الرازي 14:34.
2- . علل الشرائع:62/1، تفسير الصافي 2:183.
3- . الكافي 1:47/20، الاحتجاج:362، علل الشرائع:86/1، تفسير الصافي 2:183.
4- . تفسير الرازي 14:35.
5- . تفسير الرازي 14:35.
6- . تفسير الرازي 14:35.

عن الصادق عليه السّلام: «يموت إبليس ما بين النّفخة الاولى و الثانية» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا» (2).

عن ابن عبّاس: أنّ الدّهر يمرّ بإبليس فيهرم، ثمّ يعود ابن ثلاثين (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ أنّ اللّعين بعدما رأى إسعاف مسألتة قالَ معارضة للّه: فَبِما أَغْوَيْتَنِي و بسبب أن أوقعتني في عصيانك بأمرك إيّاي بالسّجود، بعزّتك لأغوينّ آدم و ذريّته، و لَأَقْعُدَنَّ ترصّدا لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ و على منهجك القويم الموصل لهم إلى كلّ خير، و هو دين الإسلام. و قيل: إنّ الباء في قوله: (فبما) للقسم، و المعنى: فبقدرتك عليّ و نفاذ سلطانك فيّ (4).

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

ثمّ أنّ اللّعين بعد إعلانه بترصّده لذريّة آدم و قعوده على طريقهم إلى الجنّة كقعود السرّاق على طريق العابرين ترصّدا لهم، بيّن تهاجمه عليهم من الجهات التي يعتاد الهجوم منها، و محاصرته إيّاهم من الجوانب بقوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ و لأحملنّ عليهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ و قدّامهم، يعني: أشكّكهم في صحّة البعث، أو افتّرهم عن الرّغبة فيما ينفعهم في الآخرة، أو أزيّن لهم الدّنيا، أو أبعثهم إلى تكذيب الأنبياء الحاضرين في عصرهم وَ مِنْ خَلْفِهِمْ قيل: يعني: اوهمهم أنّ الدّنيا أزليّة باقية، و ازيّنها في نظرهم، أو افتّرهم عن الرّغبة في المنافع الاخرويّة، أو أبعثهم إلى تكذيب الماضين من الأنبياء وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ قيل: يعني: ارغّبهم في الكفر، أو أصرفهم عن الحقّ، أو افتّرهم عن الرّغبة في الآخرة و الأعمال الحسنة وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ قيل: يعني: اوقعهم في المعاصي، و أزيّن لهم السّيئات و ارّغبهم في الباطل.

عن الباقر عليه السّلام: «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ معناه: أهوّن عليهم أمر الآخرة وَ مِنْ خَلْفِهِمْ آمرهم بجمع الأموال و البخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم، وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ افسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضّلالة، و تحسين الشّبهة، وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ بتحبيب اللّذات إليهم، و تغليب الشّهوات على قلوبهم» (5).

ص: 582


1- . علل الشرائع:402/2، تفسير الصافي 2:183.
2- . تفسير العياشي 2:428/2327، تفسير الصافي 2:183.
3- . تفسير روح البيان 3:142.
4- . تفسير الرازي 14:38.
5- . مجمع البيان 4:623، تفسير الصافي 2:184.

و قيل: إنّ الجهات مؤوّلة بالقوى الأربعة المفوّتة للسّعادات الرّوحانيّة، فالمراد من قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ القوّة الخياليّة التي تكون في البطن المقدّم من الدّماغ، ترد عليها صور المحسوسات، و من قوله: مِنْ خَلْفِهِمْ القوّة الوهميّة التي تكون في البطن المؤخّر منه، تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات، و من قوله: عَنْ أَيْمانِهِمْ القوّة الشهويّة التي تكون في الكبد، و من قوله: وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ القوّة الغضبيّة التي تكون في البطن الأيسر من القلب.

قيل: إنّ النّكتة في تخصيص الأيمان و الشّمائل بكلمة (عن) الدّالّة على المجاوزة: أنّ الملكين الكاتبين للأعمال لمّا كانا قاعدين عن اليمين و الشّمال، لا يقرب الشّيطان منهما، بل يتباعد عنهما.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له: تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم، ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك و تتغرّب (1)، فعصاه و هاجر، ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسّم مالك و تنكح امرأتك، فعصاه فقاتل» (2).

روي أنّ الشّيطان لمّا قال هذا الكلام رقّت قلوب الملائكة على البشر، فقالوا: يا إلهنا، كيف يتخلّص الإنسان من الشّيطان، مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع؟ فأوحى اللّه تعالى إليهم: إنّه بقي للإنسان جهتان؛ الفوق و التّحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدّعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع، غفرت له ذنب سبعين سنة (3).

ثمّ أخبر اللّعين ظنّا بنتيجة حملاته و محاصرته بني آدم بقوله: وَ لا تَجِدُ يا ربّ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ لك، مطيعين لأحكامك، عاملين برضاك.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 18

ثمّ أنّه تعالى بعد إجهار اللّعين بمعارضته له، و معاندته لبني آدم، عاتبه زجرا و مهانة و قالَ له طردا من الجنّة، أو السّماوات: اُخْرُجْ مِنْها حال كونك مَذْؤُماً مذموما عندي و عند ملائكتي و سائر خلقي مَدْحُوراً و مطرودا عن جنّتي و رحمتي، فبعزّتي لَمَنْ تَبِعَكَ و اقتفى خطواتك من ذريّة آدم، و أطاعك مِنْهُمْ في الدّنيا، و خالفني في أحكامي لَأَمْلَأَنَّ البتّة جَهَنَّمَ أيّها التّابع و المتبوع مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ لا ينجو منها أحد منكم إذا لم تتوبوا.

قالَ اُخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

ص: 583


1- . في النسخة: و تتعرب. (2 و 3) . تفسير الرازي 14:42.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد العتاب على اللّعين و طرده من الجنة و وعيده بالنّار، خاطب آدم عليه السّلام لطفا به و رحمة عليه بقوله: وَ يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حوّاء اَلْجَنَّةَ و دار الكرامة فَكُلا و تمتّعا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما و من أيّ نوع من الثّمار و النّعم وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ -مرّ تفسيره في البقرة (1)-

فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ و زيّن في نظرهما قرب الشّجرة و الأكل منها ببياناته المموّهة لِيُبْدِيَ لَهُما و يبرز في نظرهما ما وُورِيَ و ستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما و عوراتهما، و يخزيهما بانكشافها عند الملائكة.

وَ يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ (20)قيل: إنّ اللّعين علم أنّ لهما سوءة، و أنّهما إن أكلا منها بدت، بقراءته في كتب الملائكة، و لم يكن آدم يعلم ذلك.

أقول فيه: إنّ اللّه علّم آدم علم كلّ شيء، فكيف يمكن أن لا يعلم عورة نفسه؟ ، مع أنّه يلزم أن يكون إبليس أعلم منه.

و قيل: لم يرياها من أنفسهما، و لا أحدهما من الآخر.

و عن الصادق عليه السّلام: «كانت سوآتهما لا تبدو لهما» ، يعني كانت داخلة (2).

أقول: يحتمل كون التّفسير من الرّاوي.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة وسوسة الشّيطان بقوله: وَ قالَ اللّعين لآدم و زوجته: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ الأكل من هذِهِ اَلشَّجَرَةِ لعلّة من العلل إِلاّ كراهة من أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ لطيفين قويّين غنيّين عن ما يحتاج إليه البشر من الطّعام و الشّراب و غيرهما أَوْ تَكُونا في الجنّة مِنَ اَلْخالِدِينَ و الدّائمين، لا تخرجون منها و لا تموتون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 21 الی 23

وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ (21) فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (23)

ص: 584


1- . تقدم في تفسير الآية (35) من سورة البقرة.
2- . تفسير العياشي 2:140/1554، تفسير القمي 1:225، تفسير الصافي 2:186.

ثمّ أكّد اللّعين صدق قوله و نصحه بأن حلف باللّه لهما وَ قاسَمَهُما كذبا: إِنِّي لَكُما فيما أقول لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ و الدّالّين لكما إلى الخير و الصّلاح

فَدَلاّهُما و حطّهما من المنزلة العالية التي كانت لهما بطاعة اللّه إلى مهوى عصيانه الذي هو أنزل المراتب، و أجرأهما على أكل الشجرة المنهيّ عنها بِغُرُورٍ و تسويل عظيم.

عن ابن عبّاس: أي غرّهما باليمين، و كان آدم عليه السّلام يظنّ أن لا يحلف أحد باللّه كاذبا (1).

قيل: إنّ اللّعين أوّل من حلف باللّه كاذبا.

فأكلا منها فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ و وجدا طعم ثمرها أخذتهما العقوبة، فتهافت عنهما لباسهما فورا، و بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما و ظهرت عوراتهما بشؤم العصيان.

قيل: كان لباسهما من حلل الجنّة.

و قيل: كان ظفرا في أشدّ اللّطافة و اللّين و البياض، و كان حاجبا من النّظر إلى أصل البدن، فلما أصابا الخطيئة نزع عن بدنهما، و بقي على رؤوس الأصابع تذكيرا لما فات من النّعم و تجديدا للنّدم (2).

و قيل: كان لباسهما نورا يحول بينهما و بين النّظر إلى البدن، فلمّا عصيا زال النّور عنهما (3).

و على أي تقدير، لمّا انكشفت عورتهما، استقبحا ذلك و استحييا من الملائكة وَ طَفِقا و أخذا يَخْصِفانِ و يرقعان و يلزقان عَلَيْهِما و على عوراتهما ورقة فوق ورقة مِنْ وَرَقِ أشجار اَلْجَنَّةِ .

قيل: كان ذلك الورق من شجرة التّين، و لم تسترهما شجرة غيرها، فقال اللّه تعالى: كما سترت آدم اخرج منك المعنى قبل الدّعوى، و سائر الأشجار يخرج منها الدّعوى قبل المعنى، و لهذه الحكمة يخرج ثمر سائر الأشجار في أكمامها أوّلا، ثمّ تظهر الثّمرة من أكمامها ثانيا، و ثمرة التّين أوّل ما يبدو يبدو بارزا (4)من غير أكمام (5).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أسكنه اللّه الجنّة و أباحها له إلاّ الشجرة؛ لأنّه خلق خلقة لا تبقى إلاّ بالأمر و النّهي و الغذاء و اللّباس و الأكنان و التّناكح، و لا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلاّ بالتّوقيف، فجاءه إبليس»

ص: 585


1- . تفسير الرازي 14:49.
2- . تفسير روح البيان 3:145.
3- . تفسير روح البيان 3:146.
4- . كذا، الظاهر: أول ما تبدو تبدو بارزة، و الذي في روح البيان: و شجرة التين أول ما يبدو ثمره يبدو بارزا. . .
5- . تفسير روح البيان 3:146.

إلى أن قال: «فقبل آدم عليه السّلام قوله، فأكلا من الشّجرة، و كان كما حكى اللّه بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما و سقط عنهما ما ألبسهما اللّه من لباس الجنّة، و أقبلا يستران من ورق الجنّة» . الخبر (1).

فدلّت الآية على قبح كشف العورة عقلا من لدن آدم عليه السّلام.

وَ ناداهُما رَبُّهُما المالك لأمرهما عتابا و توبيخا: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ مقاربة تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ قيل: ثمّ نادى آدم عليه السّلام ربّه: أ ما خلقتك بيدي، أ ما نفخت فيك من روحي، أ ما أسجدت لك ملائكتي، أ ما أسكنتك في جنّتي و في جواري؟ ! وَ ألم أَقُلْ لَكُما حين أبى الشّيطان عن السّجود و قال: لأقعدنّ صراطك المستقيم: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُما و لذريّتكما عَدُوٌّ و مبغض مُبِينٌ ظاهر العداوة و البغض؟ ! قيل: كان خجلتهما بهذا العتاب أشدّ عليهما من كلّ محنة (2)، فاعترفا بذنبهما و اعتذرا عن خطئهما و

قالا رَبَّنا و مليكنا، إنّا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بإيقاعها في العصيان، و تعريضها للحرمان من الجنان وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذنبنا وَ تَرْحَمْنا بقبول توبتنا بربوبيّتك لَنَكُونَنَّ مِنَ زمرة اَلْخاسِرِينَ و المغبونين، حيث بعنا الجنّة و نعيمها بأكلة من الشّجرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 24 الی 25

قالَ اللّه تعالى: يا آدم، و يا حوّاء، و يا إبليس اِهْبِطُوا و انزلوا من الجنّة، أو السّماوات إلى الأرض، في حال بَعْضُكُمْ يكون لِبَعْضٍ آخر عَدُوٌّ و مبغض إلى الأبد-قيل: العداوة ثابتة بين الجنّ و الإنس أبدا- وَ يكون لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ و مكان و تعيّش إِلى حِينٍ انقضاء آجالكم.

قالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25)

و قالَ تعالى تقريرا لما سبق: فِيها تَحْيَوْنَ و تعيشون وَ فِيها تَمُوتُونَ و تقبرون وَ مِنْها بعد إحيائكم في القبور تُخْرَجُونَ لتجزون بما كنتم تعملون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 26

ثمّ لمّا ذكر اللّه قضيّة ابتلاء آدم بكشف العورة و اضطراره إلى سترها بأوراق الأشجار، بيّن منّته على ذريّته بخلق اللّباس و سائر ما يحتاجون إليه، مخاطبا لهم بقوله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المطر

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اَللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

ص: 586


1- . تفسير القمي 1:43، تفسير الصافي 2:186.
2- . تفسير روح البيان 3:146.

الذي يخرج به القطن، و يحيي الحيوانات التي لها صوف و شعر و وبر، فكأنّا أنزلنا إليكم لِباساً من السّماء كي يُوارِي سَوْآتِكُمْ و يغنيكم عن أوراق الأشجار، و يقطع عذركم في كشف العورة، وَ أنزلنا رِيشاً و زينة تتجمّلون بها بين النّاس.

و قيل: إنّ الرّيش كل ما يعيش به الإنسان من المتاع و المأكول.

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا اللّباس: فالثّياب التي تلبسون، و أمّا الريش (1): فالمتاع و المال (2)» انتهى.

وَ لكن لِباسُ اَلتَّقْوى و الخوف من اللّه و الالتزام بأحكامه ذلِكَ اللّباس خَيْرٌ و أنفع لصاحبه و لابسه، و أقرب له إلى اللّه تعالى ممّا خلق من اللّباس.

عن الباقر عليه السّلام: «ما لباس التّقوى: فالعفاف، إنّ العفيف لا تبدو له عورة و إن كان عاريا من الثّياب، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا من الثّياب، ذلِكَ خَيْرٌ يقول: و العفاف خير» (3).

و عن ابن عبّاس: لباس التّقوى: العمل الصالح (2).

و عن جماعة من المفسّرين هو الإيمان (3)، و قيل: هو السّمت الحسن، و [قيل]: هو الحياء (6)، و قيل: هو السّكينة و الإخبات و العمل الصالح (7).

و إنّما شبّه التّقوى باللّباس لأنّه يستر عيوب صاحبه، و يحفظه ممّا يضرّه كما يستر اللّباس عورته و يحفظه. و قيل: لأنّه يقيه من العذاب (4).

و قيل: إنّ المراد من لباس التّقوى: مطلق اللّباس، و المراد من قوله: ذلِكَ خَيْرٌ يعني: من التّعرّي، فإنّ أهل الجاهليّة كانوا يتعبّدون بالتعرّي في الطّواف بالبيت (5).

و قيل: إنّه ما يلبس في الحروب كالدّروع و الجواشن و المغافر.

و قيل: إنّه الملبوسات المعدّة للصّلاة.

عن القمي: لباس التّقوى الثياب البياض (6).

ص: 587


1- . في تفسير القمي: الرياش. (2 و 3) . تفسير القمي 1:226، تفسير الصافي 2:187.
2- . تفسير الرازي 14:52.
3- . تفسير الرازي 14:52، عن قتادة و السّدي و ابن جريج. (6 و 7) . تفسير الرازي 14:52.
4- . تفسير روح البيان 3:148.
5- . ورد في حديث عن الامام الصادق عليه السّلام أنه قال: «كانت سنة العرب في الحجّ، أنّه من دخل مكّة و طاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها، و كانوا يتصدّقون بها و لا يلبسونها بعد الطواف، فكان من وافى مكّة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثمّ يردّه، و من لم يجد عارية اكترى ثيابا، و من لم يجد عارية و لا كرى، و لم يكن له إلاّ ثوب واحد، طاف بالبيت عريانا. . .» راجع بحار الأنوار 35:291/7 عن تفسير القمي. و منه يتبين ما كانوا يتعبّدون بالتعري في الطواف، بل كانوا يتعرّون عند الاضطرار، و قيل: كانوا يطوفون عراة لأنّهم يقولون: لا نعبد في ثياب أذنبنا فيها. راجع بحار الأنوار 83:169، روح البيان 3:153.
6- . تفسير القمي 1:225، تفسير الصافي 2:187.

ثمّ بيّن سبحانه أهمّ منافع خلق اللّباس بقوله: ذلِكَ الإنزال للّباس، أو خلقه بعض مِنْ آياتِ اَللّهِ و دلائله الدالّة على كمال قدرته و فضله و رحمته على بني آدم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ عظم نعمه، و يعرفون غاية فضله و كرمه.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة عداوة الشّيطان لآدم و لذريّته و نهيه تعالى عن اتّباعه، أخذ في نصح بني آدم تأكيدا لنهيه السّابق بقوله: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ و لا يغرّنّكم بتسويلاته، و لا يوقعنّكم في البليّة، بأن يمنعكم من دخول الجنّة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم و حوّاء بإغوائه مِنَ اَلْجَنَّةِ بعدما كانا فيها، و عرفتم أنّه من شدّة عداوته لهما كان يَنْزِعُ و يسلب عَنْهُما بإيقاعهما في معصية واحدة لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما و يخزيهما عند الملائكة، مع أنّ اللّه أكرمهما بغاية الكرامة، فكيف أنتم! و لا تتوهّموا حيث لا ترونه أنّه بعيد منكم غافل عنكم (1)إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ بنفسه وَ قَبِيلُهُ و جنوده الّذين هم من نسله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ و من مكان لا تبصرونهم، و من المعلوم أنّ الحذر من عدوّ يراكم و لا ترونه أصعب، فكونوا منه على حذر عظيم.

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)عن مجاهد قال: قال الشّيطان: اعطينا أربع خصال: نرى، و لا نرى، و نخرج من تحت الثّرى، و يعود شيخنا فتى (2).

روي «أنّه يجري من ابن آدم مجرى الدّم» (3).

ثمّ أنّه تعالى أكّد النّهي عن اتّباعه و موالاته، و الأمر بالتحرّز عنه، بالتّنبيه على عدم المناسبة و السّنخيّة الموجبة للموالاة بينه و بين المؤمنين، بقوله: إِنّا جَعَلْنَا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ و أصدقاء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بتوحيدنا، و رسالة رسلنا، و دار الجزاء، للتّسانخ بينهم في الخباثة و سوء الأخلاق، و التّناسب في الطّغيان و الخذلان، دون المؤمنين الذين لا يسانخونهم و لا يناسبونهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 28

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اَللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اَللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

ص: 588


1- . زاد في النسخة: بأنكم لا ترونه.
2- . تفسير الرازي 14:54.
3- . تفسير روح البيان 3:150.

ثمّ شرع في قدح الّذين لا يؤمنون بتوحيده بقوله: وَ إِذا فَعَلُوا فعلة فاحِشَةً متناهية في القبح، كعبادة الأصنام و تحريم السّائبة و أخواتها، و الطّواف بالبيت عراة، و اعترض عليهم فيها قالُوا مستدلّين على صحّة عملهم من الفاحشة: إنّا وَجَدْنا مرتكبين لتلك الفاحشة مواظبين عَلَيْها آباءَنا و كبراءنا، و هم كانوا أعقل و أعلم، فعلينا أن نقلّدهم وَ اَللّهُ أَمَرَنا بِها .

و لمّا كان استدلالهم بتقليد آبائهم في غاية الفساد، لأنّه ظنّي، و الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا، أعرض سبحانه عن ردّه، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّ دليلهم الثاني بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إِنَّ اَللّهَ حكيم في فعاله، عليم بمصالح عباده، و من الواضح أنّ اللّه الحكيم لا يَأْمُرُ عباده بِالْفَحْشاءِ و القبائح.

و قد ثبت بحكم العقول السّليمة، و بيان الرّسل أنّ هذه الأعمال من أقبح القبائح، فكيف يمكن أن يأمر اللّه بها، مع أنّكم لا ترون اللّه، و لا تسمعون كلامه، و لا تعترفون برسالة رسوله؟ فبأيّ دليل علمتم بأمره؟ ثمّ أنكر عليهم الدّعوى بقوله: أَ تَقُولُونَ و تفترون عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من أنّه أمركم بها.

عن الصادق عليه السّلام قال: «من زعم أنّ اللّه يأمر بالفحشاء فقد كذب على اللّه، و من زعم أنّ الخير و الشرّ إليه فقد كذب على اللّه» (1).

عن العبد الصالح عليه السّلام قال: «هل رأيت أحدا زعم أنّ اللّه أمر بالزّنا، و شرب الخمر، و شيء من هذه المحارم؟» فقيل: لا، قال: «ما هذه الفاحشة التي يدّعون أنّ اللّه أمرهم بها؟» قيل: اللّه أعلم و وليّه. فقال: «إنّ هذا في أئمّة الجور؛ ادّعوا أنّ اللّه أمرهم بالائتمام بقوم لم يأمرهم اللّه بالائتمام بهم، فردّ اللّه عليهم، فأخبر أنّهم قالوا على اللّه الكذب» (2).

أقول: لعلّ المراد أنّ الإنكار في الآية راجع إلى تقليد آبائهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 29

ثمّ بيّن اللّه ما أمر به من المحسّنات العقليّة بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: أَمَرَ رَبِّي جميع النّاس بِالْقِسْطِ و العدل في الأمور، و التوسّط في المعاش من المأكل و المشرب و اللّباس و غيرها، و سائر ما تستحسنه العقول، عن ابن عبّاس: القسط هو قول: لا إله إلاّ اللّه (3)وَ أن أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ و استقبلوا بمقاديم أبدانكم إلى القبلة للدّعاء و العبادة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و في مكان

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

ص: 589


1- . تفسير العياشي 2:141/1558، تفسير الصافي 2:188.
2- . تفسير العياشي 2:140/1557، تفسير الصافي 2:188.
3- . تفسير الرازي 14:57.

للصلاة، أو في وقتها.

عن الصادق عليه السّلام: «المساجد محدثه، فامروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام» (1).

و عنه عليه السّلام: «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني: الأئمّة» (2).

أقول: هذا تأويل، و الأوّل تفسير.

وَ اُدْعُوهُ و اعبدوه أيّها النّاس حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ و الطّاعة بصلاتكم و سائر عباداتكم، مبرّأين عن الشّرك فيها.

ثمّ هدّدهم على مخالفة أحكامه بقوله: كَما بَدَأَكُمْ اللّه و أنشأكم أوّلا تَعُودُونَ إليه بأن يحييكم بعد موتكم ثانيا، ليجازيكم على أعمالكم و خلوص نيّاتكم.

عن ابن عبّاس: كما بدأ خلقكم مؤمنا أو كافرا، تعودون فيبعث المؤمن مؤمنا و الكافر كافرا، فإنّ من خلقه اللّه في أوّل الأمر للشّقاوة، أعمله بعمل أهل الشّقاوة، و كانت عاقبته الشّقاوة، و إنّ [من]خلقه للسّعادة أعمله بعمل أهل السعادة، و كانت عاقبته السّعادة (3).

عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «خلقهم حين خلقهم مؤمنا و كافرا، و شقيّا و سعيدا، و كذلك يعودون يوم القيامة مهتد و ضالّ» (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ما أمر به من المحسّنات المسلّمة عند العقول، بيّن اختلاف النّاس في قبوله و ردّه بقوله: فَرِيقاً من النّاس هَدى هم اللّه إلى الصّواب، و وفّقهم بقبول أوامره بطيب طينتهم و قوّة عقولهم و حسن أخلاقهم وَ فَرِيقاً آخر منهم خذلهم بخبث طينتهم و ضعف عقولهم، و سوء أخلاقهم، و لذا حَقَّ و استقرّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلالَةُ عن الحقّ.

فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)ثمّ بيّن غاية ضلالتهم بقوله: إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا و اختاروا اَلشَّياطِينَ و مردة الجنّ و الإنس أَوْلِياءَ و أحبّاء متبوعين لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ الذي هو وليّهم الحقّ، فيخالفونه و يطيعونهم فيما أمروهم به وَ يَحْسَبُونَ مع ذلك إِنَّهُمُ في طاعتهم لهم مُهْتَدُونَ إلى الحقّ، و الحال أنّهم مخطئون ضالّون.

ص: 590


1- . التهذيب 2:43/136، تفسير الصافي 2:188.
2- . تفسير العياشي 2:141/1560، تفسير الصافي 2:188.
3- . تفسير الرازي 14:58.
4- . تفسير القمي 1:226، تفسير الصافي 2:188.

عن (العلل) : عنه عليه السّلام: «إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَللّهِ يعني: أئمّة دون أئمّة الحقّ» (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 31

ثمّ لمّا أمر اللّه تعالى بالقسط في جميع الأمور من المأكل و المشرب و اللّباس و غيرها، و بإقامة الصّلاة، رغّب عباده بالتزيّن في الصّلاة، و نهاهم عن الإسراف في المأكل و المشرب بقوله: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا و استصحبوا زِينَتَكُمْ و ثيابكم الجيّدة الطّاهرة، و سائر ما تتجمّلون به عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ و في وقت كلّ صلاة.

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ (31)

في استحباب

التزين و التمشيط

عند كلّ صلاة

عن الحسن بن علي عليه السّلام أنّه كان إذا قام إلى الصّلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له في ذلك، فقال: «إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال، فأتجمّل لربّي» و قرأ الآية (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصّلاة في الجمعات و الأعياد» (3).

و القمّي قال: في العيدين و الجمعة يغتسل و يلبس ثيابا بيضا (4).

و عن الرضا عليه السّلام: «من ذلك التمشّط عند كلّ صلاة» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «تمشّطوا فإنّ التمشّط يجلب الرّزق، و يحسّن الشّعر، و ينجز الحاجة، و يزيد في ماء الصّلب، و يقطع البلغم» (6).

و قيل: إنّ المراد بالزّينة: مطلق اللّباس، و كان أهل الجاهلية من قبائل العرب يطوفون بالبيت عراة (7)، و كانوا يقولون: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذّنوب و دنسناها بها، فكان الرّجال يطوفون بالنّهار و النساء باللّيل عراة (8)، فأمرهم اللّه أن يلبسوا ثيابهم و لا يتعرّوا عند كلّ مسجد، سواء دخلوه للصّلاة أو للطّواف، و كانوا قبل ذلك يدعون ثيابهم وراء المسجد عند قصد الطواف (7).

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية. قال: «الغسل عند لقاء الامام» (8).

ص: 591


1- . علل الشرائع:610/81 عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 2:189.
2- . تفسير العياشي 2:143/1571، تفسير الصافي 2:189.
3- . مجمع البيان 4:637، تفسير الصافي 2:189.
4- . تفسير القمي 1:229، تفسير الصافي 2:189.
5- . من لا يحضره الفقيه 1:75/319، تفسير الصافي 2:189.
6- . الخصال:268/3، تفسير الصافي 2:189. (7 و 8) . في النسخة: عريانا.
7- . تفسير روح البيان 3:153.
8- . تهذيب الأحكام 6:110/197، تفسير الصافي 2:190.

ثمّ قيل: كان من بدع المشركين أنّهم لا يأكلون في أيّام الحجّ إلاّ قوتا، و يعظّمون بذلك حجّهم، فهم المسلّمون به، فنزلت (1)وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا ممّا تشتهون من الطّعام و الشّراب وَ لا تُسْرِفُوا بالإفراط في الأكل و الشّرب، و إتلاف نعم اللّه، و بالتّعدّي إلى الحرام و تحريم الحلال إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ لإسرافهم، و لا ينظر إليهم نظر الرّحمة.

نقل أنّه كان لهارون الرّشيد طبيب نصراني، فقال لعلي بن حسين بن واقد: ليس في كتابكم شيء من علم الطبّ؟ فقال له: إنّ اللّه جمع الطبّ كلّه في نصف آية في كتابنا، قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا، فقال النّصراني: و هل يؤثر عن رسولكم شيء من الطبّ؟ قال: نعم، جمع رسولنا صلّى اللّه عليه و آله الطبّ في ألفاظ يسيرة، قال: ما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الدّاء، و الحمية رأس كلّ دواء، و عوّدوا كلّ جسم ما اعتاده» ، فقال النّصراني: ما ترك كتابكم و لا نبيّكم لجالينوس شيئا (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: كل ما شئت، و البس ما شئت، ما أخطأك خصلتان: السّرف و المخيلة (3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «من سأل النّاس و عنده ما يقوته يوما فهو من المسرفين» (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 32

ثمّ لمّا طاف المسلمون كساة (5)، و أكلوا اللّحم و الدّسم في أيّام الحجّ، عيّرهم المشركون لأنّهم كانوا يطوفون عراة، و لا يأكلون اللّحم و الدّسم حال الإحرام، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يردّهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: مَنْ الذي حَرَّمَ على النّاس زِينَةَ اَللّهِ من الألبسة الفاخرة اَلَّتِي أَخْرَجَ بقدرته و لطفه لِعِبادِهِ من الأرض و الحيوانات و المعادن؛ كالقطن و الكتّان و الحرير و الصّوف و الوبر و الدّروع و غيرها وَ اَلطَّيِّباتِ و المستلذّات مِنَ اَلرِّزْقِ كاللّحوم و الدّسوم و الألبان و غيرها.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)عن الصادق عليه السّلام: «بعث أمير المؤمنين عليه السّلام عبد اللّه بن عبّاس إلى ابن الكوّاء و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلّة، فلمّا نظروا إليه قالوا: يا ابن عبّاس، أنت خيرنا في أنفسنا، و أنت تلبس هذا اللّباس! قال: هذا أوّل ما اخاصمكم فيه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ

ص: 592


1- . تفسير روح البيان 3:154.
2- . تفسير روح البيان 3:155، و فيه: لجالينوس طبا.
3- . تفسير روح البيان 3:155.
4- . تفسير العياشي 2:143/1570، تفسير الصافي 2:190.
5- . في النسخة: كاسيا.

اَلرِّزْقِ، و قال اللّه: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (1).

و عنه عليه السّلام، أنّه رآه سفيان الثّوري و عليه ثياب كثيرة القيمة حسان، فقال: و اللّه، لآتينّه و لاوبّخنّه، فدنا منه فقال: يابن رسول اللّه، ما لبس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل هذا اللباس، و لا عليّ و لا أحد من آبائك؟ فقال [له]: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في زمان قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره، و إنّ الدّنيا بعد ذلك أرخت عزاليها (2)، فأحقّ أهلها بها أبرارها-ثمّ تلا هذه الآية قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ الآية-فنحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه اللّه، غير أنّي يا ثوري، ما ترى عليّ من ثوب إنّما ألبسه للنّاس» .

ثمّ اجتذب يد سفيان فجرّها إليه، ثمّ رفع الثّوب الأعلى و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، فقال: هذا لبسته لنفسي، و ما رأيته للنّاس. ثمّ جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ خشن و داخل ذلك الثّوب ثوب ليّن، فقال: «لبست هذا الأعلى للنّاس، و لبست هذا لنفسك تسرّها» (3).

و عنه عليه السّلام، أنّه كان متكئا على بعض أصحابه، فلقيه عبّاد بن كثير و عليه ثياب مرويّة (4)حسان فقال: يا أبا عبد اللّه، إنّك من أهل بيت النّبوّة، و كان أبوك من كان (5)، فما هذه الثّياب المرويّة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثّياب؟ فقال له: «ويلك يا عبّاد مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ إنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يراها عليه، ليس بها بأس، ويلك يا عبّاد، إنّما أنا بضعة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلا تؤذني» . و كان عبّاد يلبس ثوبين من قطن (6).

و عنه عليه السّلام أنّه قيل له: أصلحك اللّه، ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يلبس [الخشن، يلبس] القميص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلك، و نرى عليك اللّباس الجيّد؟ فقال له: «[إنّ]عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، و لو لبس مثل ذلك اليوم لشهّر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا إذا قام لبس لباس عليّ عليه السّلام و سار بسيرته» (7).

ثمّ لمّا لم يكن للمشركين جواب عن السؤال الإنكاري غير السّكوت، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالجواب عن سؤال نفسه بقوله: قُلْ يا محمّد: ما حرّم اللّه الزّينة و الطّيّبات على أحد، بل هِيَ حلال لِلَّذِينَ آمَنُوا بالأصالة فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و للمشركين و الكفّار بتبعهم، و تكون للمؤمنين حال كونها خالِصَةً

ص: 593


1- . الكافي 6:441/6، تفسير الصافي 2:191.
2- . العزالي: جمع عزلاء، و هو مصبّ الماء من القربة و نحوها، و أرخت الدنيا عزاليها: بمعنى كثر نعيمها.
3- . الكافي 6:442/8، تفسير الصافي 2:191.
4- . نسبة إلى مرو، و هي بلدة بخراسان.
5- . في الكافي: و كان.
6- . الكافي 6:443/13، تفسير الصافي 2:192، و فيه: ثوبين قطريين.
7- . الكافي 6:444/15، تفسير الصافي 2:192.

و مختصّة [بهم]لا يشركهم فيها الكفّار يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و عالم الآخرة كَذلِكَ التّفصيل و التّبيين الواضح نُفَصِّلُ و نبيّن اَلْآياتِ الدالّة على المعارف و الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ حسن العرفان و الطّاعة دون غيرهم لعدم أهليّتهم للانتفاع بها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 33

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال حرمة ما حرّم المشركون، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببيان ما حرّم اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ على النّاس اَلْفَواحِشَ و القبائح التي بلغ قبحها النّهاية، سواء ما ظَهَرَ مِنْها كالزّنا المعلن به، و غيره من الكبائر وَ ما بَطَنَ و خفي كالزّنا في السرّ وَ اَلْإِثْمَ و ما توسّط في القبح كالصّغائر وَ اَلْبَغْيَ و الإضرار بالغير نفسا أو مالا بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و مجوّز له وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ في الوهيّته و عبادته شيئا لم يحكم العقل بجواز إشراكه و عبادته، و ما لَمْ يُنَزِّلْ اللّه بِهِ إليكم سُلْطاناً و برهانا.

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)عن الكاظم عليه السّلام: «أمّا اَلْفَواحِشَ فإنّها الزّنا، و أمّا قوله ما ظَهَرَ مِنْها يعني: الزّنا المعلن به و نصب الرّايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهليّة. و أمّا قوله: ما بَطَنَ يعني ما نكح من أزواج الآباء؛ لأنّ النّاس كانوا قبل أن يبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا كان للرّجل زوجة و مات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن امّه، فحرّم اللّه عزّ و جلّ ذلك. و أمّا اَلْإِثْمَ فإنّها الخمر بعينها، و قد قال اللّه عزّ و جلّ في موضع آخر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ (1). فأمّا اَلْإِثْمَ في كتاب اللّه فهي الخمر و الميسر (2)، و إثمهما كبير، و أمّا اَلْبَغْيَ فهو الزّنا سرا» (3).

أقول: في الرّواية ما لا يخفى من الخلل، و لا يبعد حملها على بيان أظهر المصاديق الشّائعة بين المشركين في زمان النّزول. نعم فسّر جمع من المفسّرين اَلْفَواحِشَ بخصوص الزّنا بدعوى انصراف الفاحشة في العرف إليه، و لقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً (4)، و ما ظَهَرَ بالزّنا العلانية، أو القبلة و الملامسة، و ما بَطَنَ بالسرّ منه، أو بالدّخول، و اَلْإِثْمَ، بخصوص الخمر و اَلْبَغْيَ بالكبر و الظّلم على الغير (5). و في الكلّ نظر.

ص: 594


1- . البقرة:2/219.
2- . زاد في تفسير العياشي: فهي النّرد.
3- . الكافي 6:406/1، تفسير العياشي 2:146/1580، تفسير الصافي 2:193.
4- . النساء:4/22.
5- . راجع: تفسير الرازي 14:65 و 66.

و على ما قلنا من عموم الفواحش و الإثم، يكون إفراد البغي بالذّكر مع دخوله في الأوّلين، للمبالغة في الزّجر عنه. و تقييد البغي بِغَيْرِ اَلْحَقِّ مع دخول القيد في مفهومه للتّأكيد. و تقييد الاشتراك ب ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً للتهكّم و للإشعار بعدم جواز الالتزام بشيء لا حجّة عليه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ القرآن له ظهر و بطن، فجميع ما حرّم اللّه في القرآن هو الظّاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب هو الظاهر، و الباطن [من ذلك]أئمّة الحق» (1).

وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي تتقوّلوا و تفتروا.

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: ما حجّة اللّه على العباد؟ فقال: «أن يقولوا ما يعلمون، و يقفوا عند ما لا يعلمون» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفية: «يا بني، لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم» (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 34

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى معظم محرّماته، أو بعضها بنحو العموم و الإجمال و بعضها بنحو التّفصيل، هدّد النّاس على مخالفتها بقوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الامم و طائفة من الطوائف أَجَلٌ و أمد معيّن في علم اللّه و اللّوح المحفوظ، يعيشون فيه و يمهلون إلى انقضائه بمقتضى الحكمة البالغة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ و انقضت مدّة عيشهم و مهلتهم في الدّنيا، أتاهم الموت أو عذاب الاستئصال، إذا لا يَسْتَأْخِرُونَ و لا يمهلون ساعَةً و زمانا قليلا وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ و لا يعجلون، و لو كانوا طالبين للتّأخير و التّقديم، مشتاقين إليهما. فاستنهضوا الفرصة و لا تأمنوا مكر اللّه و بأسه.

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)عن ابن عبّاس: أنّ معنى الآية أنّ اللّه أمهل كلّ امّة كذّبت رسولها إلى وقت معيّن، و هو تعالى لا يعذّبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقّين لعذاب الاستئصال، فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة (4).

عن الصادق عليه السّلام: «هو الذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر» (5).

و عنه عليه السّلام: «تعدّ السّنين، ثمّ تعدّ الشّهور، ثمّ تعدّ الأيام، ثمّ تعدّ الأنفاس، فإذا جاء أجلهم لا

ص: 595


1- . تفسير العياشي 2:145/1578، الكافي 1:305/10، تفسير الصافي 2:194.
2- . التوحيد:459/27، تفسير الصافي 2:194.
3- . من لا يحضره الفقيه 2:381/1627، تفسير الصافي 2:194.
4- . تفسير الرازي 14:67.
5- . تفسير العياشي 2:147/1581، و لم يرد فيه: في ليلة القدر، تفسير الصافي 2:194.

يستأخرون ساعة و لا يستقدمون» (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 35 الی 36

ثمّ بعد بيان المحرّمات و التّهديد على مخالفتها، بيّن اللّه تعالى وجوب متابعة الرّسل، و وعدهم بالثّواب على طاعتهم و العقاب على تكذيبهم و مخالفتهم بقوله: يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ و إذا جاءكم من قبلي رُسُلٌ مِنْكُمْ جنسا؛ ليكون إرشادهم أقطع للعذر، و أبين للحجّة، و هم يَقُصُّونَ و يتلون عَلَيْكُمْ آياتِي من الكتب السّماويّة و دلائل التّوحيد، و يبيّنون أحكام شريعتي فَمَنِ اِتَّقى مخالفتي في الإيمان بهم و مخالفتهم في أحكامهم وَ أَصْلَحَ عقائده و أخلاقه و أعماله بامتثاله أوامرهم، و انتهائه عمّا نهوا عنه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بوجه من الوجوه ممّا يصيب العصاة من عذاب الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أبدا على ما فاتهم من الدّنيا، لاستغراقهم في اللّذّات الروحانيّة في الدّنيا، و النّعم التي أعدّها اللّه للمتّقين في الآخرة.

يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اِتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدّالّة على توحيدي و رسالة رسلي وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها و ترفّعوا عن الإيمان بها، و تجافوا عن قبولها تعظّما أُولئِكَ البعيدون عن رحمتي أَصْحابُ اَلنّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، لا خلاص لهم منها و لا مناص.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 37 الی 39

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتابِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

ص: 596


1- . الكافي 3:262/44، تفسير الصافي 2:194.

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّ المكذّبين للرّسل، و المفترين على اللّه بالبدع و الأحكام الفاسدة الباطلة بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ على نفسه، و أخسر في تجارته مِمَّنِ اِفْتَرى و تقوّل عَلَى اَللّهِ قولا كَذِباً و نسب إليه حكما باطلا، كحرمة البحيرة و أخواتها أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ و أنكر دلائله الدالّة على توحيده في الالوهيّة و العبادة و العظمة، و رسالة رسله، و دار جزائه.

أُولئِكَ البالغون في الظّلم غايته يَنالُهُمْ و يصل إليهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الشّقاوة كما عن ابن عبّاس (1)، أو من العقوبات كما عن القمّي (2)، أو من الأرزاق و الأعمار و الحظوظ الدّنيويّة المكتوبة لهم في اَلْكِتابِ و لوح القضاء.

حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ و نزلت عليهم رُسُلُنا و المبعوثون من قبلنا من الملائكة الموكّلين بقبض الأرواح، لأجل أنّهم يَتَوَفَّوْنَهُمْ و يقبضون أرواحهم، إذن قالُوا لهم توبيخا و تقريعا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ في حياتكم تَدْعُونَ و تعبدونه مِنْ دُونِ اَللّهِ و بدلا منه، من الأصنام و الكواكب و غيرها، و ترجون نفعه لكم عند الشّدائد؟ فادعوهم الآن لينجوكم من أيدينا قالُوا في جوابهم تحسّرا و تندّما: إنّهم قد ضَلُّوا و غابوا عَنّا و لا ينفعوننا اليوم وَ شَهِدُوا و اعترفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الخبيثة أَنَّهُمْ كانُوا في الدّنيا كافِرِينَ باللّه، عابدين لما لا يستحقّ العبادة.

قيل: هذا بيان سوء حالهم في القيامة، و المراد من (الرّسل) ملائكة العذاب، و من (التّوفية) جمعهم و استكمال عدّتهم للحشر إلى النّار، حتّى لا ينفلت منهم أحد (3)إذن قالَ اللّه تعالى، أو خازن النّار: اُدْخُلُوا أيّها المشركون اليوم فِي زمرة أُمَمٍ و جماعات مشركين قَدْ خَلَتْ و مضت تلك الامم في الأزمنة التي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ في الدّنيا و هم كانوا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ جنسا فِي اَلنّارِ فيدخلونها فوجا بعد فوج، و امّة بعد امّة.

فلمّا رأوا سوء عاقبة الشّرك كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ منهم في النّار لَعَنَتْ تلك الامّة أُخْتَها و شريكتها في الكفر و الضّلال، و تبرّأت من الجماعة الموافقة لها في الشّرك، فهم يكونون على تلك الحالة حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا و تلاحقوا في النّار و اجتمعوا فِيها جَمِيعاً و كافّة قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا و أدناهم منزلة، و هم الأتباع و السّفلة، تخفيفا للعذاب عن أنفسهم، و ازديادا لِأُولاهُمْ دخولا و أعلاهم منزلة في الدّنيا من الرّؤساء و القادة: رَبَّنا هؤُلاءِ الرّؤساء و الكبراء أَضَلُّونا عن الدّين الحقّ، بأن سنّوا لنا سنّة سيّئة فاقتدينا بهم، فَآتِهِمْ و أنزل بهم عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا مِنْ

ص: 597


1- . تفسير الرازي 14:71.
2- . تفسير القمي 1:230، تفسير الصافي 2:195.
3- . تفسير الرازي 14:71.

اَلنّارِ حيث إنّهم ضلّوا بأنفسهم عن الحقّ، و أضلّوا أتباعهم قالَ اللّه تعالى أو خازن جهنّم: لِكُلٍّ من المتبوع و التّابع منكم عذاب ضِعْفٌ أمّا الرّؤساء فبضلالهم و إضلالهم، و أمّا الأتباع فبكفرهم و تقليدهم وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ قدره و شدّته لكلّ فريق.

وَ قالَتْ أُولاهُمْ و قادتهم مخاطبين لِأُخْراهُمْ و أتباعهم بعد استماعهم جواب اللّه أو الخازن: فَما كانَ لَكُمْ أيّها الأتباع إذن عَلَيْنا شيء مِنْ فَضْلٍ و مزيّة بخفّة عذابكم و شدّة عذابنا، بل كلّنا متساوون في العذاب قدرا و شدّة، لأنّا ما ألجأناكم إلى الكفر، بل اتّبعتم هوى أنفسكم كما اتّبعنا فَذُوقُوا اَلْعَذابَ و اطعموا طعمه بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ لأنفسكم من الكفر و العصيان.

عن القمّي: قالوا ذلك شماتة بهم (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 40

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد المشركين و المكذّبين للرّسل بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالّة على التّوحيد و الرّسالة و البعث وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها و امتنعوا ترفّعا عن الإقرار بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ حتّى ترفع إليها أدعيتهم و أعمالهم في حياتهم، و أرواحهم بعد موتهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُجْرِمِينَ (40)عن الباقر عليه السّلام: «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السّماء فتفتح لهم أبوابها، و أمّا الكافر فيصعد بعمله و روحه، حتّى إذا بلغ السّماء نادى مناد: اهبطوا إلى سجّين؛ و هو واد بحضرموت يقال له برهوت» (2).

و روي أنّ روح المؤمن يعرج بها إلى السّماء، فيستفتح لها فيقال: مرحبا بالنّفس الطيّبة التي كانت في الجسد الطّيب، و يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السّابعة، و يستفتح لروح الكافر فيقال لها: ارجعي ذميمة (3)، فإنّه لا تفتح لك أبواب السّماء.

وَ لا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ في الآخرة أبدا حَتّى يَلِجَ و يدخل اَلْجَمَلُ مع عظم جثّته فِي سَمِّ اَلْخِياطِ و ثقب الإبرة، و هذا محال، فدخول الكافر في الجنّة أيضا محال وَ كَذلِكَ الحرمان من الجنّة نَجْزِي فرق اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة.

ص: 598


1- . تفسير القمي 1:230، تفسير الصافي 2:196.
2- . مجمع البيان 4:646، تفسير الصافي 2:196.
3- . تفسير روح البيان 3:160.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ بيّن شدّة عذابهم بقوله: لَهُمْ مِنْ نار جَهَنَّمَ مِهادٌ و فراش يقعدون و يضطجعون عليه وَ مِنْ فَوْقِهِمْ و على أجسادهم غَواشٍ و أغطية من النّار فيحيط بهم العذاب من كلّ جانب وَ كَذلِكَ الجزاء الفظيع و العذاب الشديد نَجْزِي القوم اَلظّالِمِينَ على أنفسهم (1)باختيار الشّرك و معارضة الأنبياء.

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلظّالِمِينَ (41) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)

ثمّ أنّه تعالى على دأبه في الكتاب العظيم بعد وعيد الكفّار، شرع في وعد المؤمنين بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله، وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ، و واظبوا على الحسنات و ترك السيّئات بمقدار وسعة بحيث لا يشقّ عليهم (2)، فإنّا لا نُكَلِّفُ نَفْساً من النّفوس إِلاّ تكليفا يكون امتثاله و القيام به وُسْعَها و دون طاقتها، بحيث لا يكون حرج عليها، أُولئِكَ العباد المطيعون أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و ملازمو النّعمة هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال لنعمهم و لا نفاد.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 43

ثمّ بعدما بشّرهم ربّهم بطيب المسكن و دوام النّعمة، بشّرهم بفراغ القلب من الآلام الرّوحانيّة، و صفاء المنظر بقوله: وَ نَزَعْنا و سلبنا ما فِي صُدُورِهِمْ و قلوبهم مِنْ غِلٍّ و حقد كان لهم على المؤمنين في الدّنيا، و حسد على ما أتى الكمّلين في الآخرة من فضله و إحسانه، فلا يكون بينهم إلاّ التّوادد و التّحابب، فهم إخوان على سرر متقابلين، كما لا يكون بين الكفّار في جهنّم إلاّ التّباغض و التّنافر بحيث يلعن بعضهم بعضا.

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهارُ وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اَللّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «العداوة تنزع منهم» ، أي من المؤمنين في الجنّة (3).

و أمّا صفاء منظرهم بأنّه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ و أسفل قصورهم اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة، و قيل: إنّ جريان الأنهار كناية عن المكاشفات و الفيوضات الرّوحانيّة وَ قالُوا بعد مشاهدة منازلهم

ص: 599


1- . كذا، و الظاهر: الظالمين أنفسهم.
2- . في النسخة: عليه.
3- . تفسير القمي 1:231، تفسير الصافي 2:197.

و كثرة فضل اللّه عليهم: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا بفضله إلى معرفته، و أرشدنا بتوسّط رسوله لهذا الدّين القويم، و أوصلنا بتوفيقه لِهذا الجزاء العظيم وَ ما كُنّا في الدّنيا لِنَهْتَدِيَ بعقولنا و سعينا لَوْ لا أَنْ هَدانَا اَللّهُ بلطفه إليه.

عن (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «إذا كان يوم القيامة دعي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليهم السّلام فينصبون للنّاس، فإذا رأتهم شيعتهم قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا الآية، يعني: هدانا إلى ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليهم السّلام» (1).

ثمّ يذكرون علّة انتساب هدايتهم إلى اللّه بقوله: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا من جانب اللّه بِالْحَقِّ و الدّين الصّدق، أو بالمعجزات و دلائل الصّدق، فاهتدينا بإرشادهم، و صدّقناهم و اتّبعناهم بتوفيقه. و إنّما يقولون ذلك نشاطا و سرورا بإنجاز ما وعدهم اللّه على لسان رسله، و فرحا بانقلاب يقينهم البرهاني باليقين الشّهودي وَ نُودُوا من قبل اللّه عند رؤيتهم الجنّة، أو بعد استقرارهم فيها إظهارا للمنّة عليهم: أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ التي وعد المتّقون و أنتم أُورِثْتُمُوها و ملّكتموها بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ لطاعة اللّه و مرضاته، فادخلوها، أو أقيموا فيها خالدين.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من أحد إلاّ و له منزل في الجنّة و منزل في النّار، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله في النّار، و المؤمن يرث الكافر منزله في الجنّة، فذلك قوله: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ليس من كافر و لا مؤمن إلاّ و له في الجنّة و النّار منزل، فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار، رفعت الجنّة لأهل النّار، فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل: لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة اللّه، ثمّ يقال لأهل الجنّة: رثوهم (3)بما كنتم تعملون، فيقسّم بين أهل الجنّة منازلهم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام (5)، في هذه الآية: «أنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان؛ فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، و هو الشّراب الطّهور، و اغتسلوا من الاخرى فجرت عليهم نضرة النّعيم، فلم يشعثوا و لم يشحبوا، و يبشّرهم خزنة الجنّة قبل أن يدخلوها بأن يقولوا لهم: أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فإذا دخلوا فيها قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا الآية» (6).

و في الخبر: «يقال لهم: جوزوا الصّراط بعفوي، و ادخلوا الجنّة برحمتي، و اقتسموها بأعمالكم» (7).

ص: 600


1- . الكافي 1:346/33، تفسير الصافي 2:197.
2- . مجمع البيان 4:649، تفسير الصافي 2:197.
3- . رثوهم: فعل أمر من ورث يرث.
4- . تفسير الرازي 14:82.
5- . في روح البيان: عن السدّي.
6- . تفسير روح البيان 3:163.
7- . تفسير روح البيان 3:163.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 44

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى وعيد الكفّار بالنّار و وعد المؤمنين بالجنّة، ذكر مخاطبة المؤمنين للكفّار بقوله: وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ بعد استقرارهم فيها، و إشرافهم على جهنّم فرحا بما هم فيه من النّعم أَصْحابَ اَلنّارِ المنكرين للتّوحيد و الرّسالة و الحشر، توبيخا و شماتة لهم: أَنْ قَدْ وَجَدْنا و شهدنا بالعيان ما وَعَدَنا رَبُّنا في الدّنيا بلسان رسوله من الثّواب و الكرامة على الإيمان و الطاعة حَقًّا و صدقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ اليوم، و شاهدتم أيّها المكذبون ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب الشّديد على الكفر به و عصيانه و تكذيب رسله حَقًّا؟ و إنّما لم يقل سبحانه: (ما وعدكم ربكم) إشعارا بعدم قابليّتهم لأن يكونوا طرفا لوعد اللّه و توجّهه قالُوا و هم في النّار تحسّرا و تندّما: نَعَمْ وجدنا جميع ما وعده حقّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ من قبل ربّ العزّة بَيْنَهُمْ و في وسطهم، أو من بينهم أذانا يسمع الخلائق-كما عن القمّي (1)- أَنْ لَعْنَةُ اَللّهِ و عذابه ثابت أو مستقرّ عَلَى الكفارين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحابَ اَلنّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ (44)عن الكاظم و الرضا عليهما السّلام: «المؤذّن أمير المؤمنين عليه السّلام» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنا ذلك المؤذّن» (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 45

ثمّ ذمّ اللّه الظّالمين بقوله: اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ النّاس عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دين الإسلام، و يمنعونهم عن قبوله بالقهر أو التّطميع أو غيرهما من الحيل وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و يطلبون فيها ميلا و انحرفا عمّا هي عليه من الاستقامة، بإلقاء الشّكوك و الشّبهات فيها و في دلائل صحّتها وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء كافِرُونَ جاحدون. و فيه إشعار بعلّة ما سبق من سوء أعمالهم.

اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 46 الی 47

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ اَلنّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (47)

ص: 601


1- . تفسير القمي 1:231، تفسير الصافي 2:197.
2- . تفسير العياشي 2:147/1583، الكافي 1:352/70، تفسير القمي 1:231، تفسير الصافي 2:197.
3- . مجمع البيان 4:651، تفسير الصافي 2:198.

ثمّ لمّا حكى اللّه تعالى مخاطبة أهل الجنّة لأهل النّار، و كان مجال توهّم القرب بينهما، و تلذّذ أهل النّار برائحة الجنّة و نعمها، و تأذّي أهل الجنّة من نتن الجحيم و حرّها، دفع التوهّم بقوله: وَ بَيْنَهُما حِجابٌ و سور كسور المدينة وَ عَلَى اَلْأَعْرافِ و أعالي ذلك السّور-كما عن ابن عبّاس (1)-أو المأمورون على تعريف الفريقين رِجالٌ من أشراف أهل الإيمان و الطّاعة قيل: هم الأنبياء يجلسهم اللّه على أعالي ذلك السّور تميّزا لهم عن سائر أهل القيامة، و إظهارا لشرفهم و علوّ مرتبتهم، و ليكونوا مشرفين على أهل الجنّة و النّار، مطّلعين على أحوالهم و مقدار ثوابهم و عقابهم (2)، و قيل: هم الشّهداء (3)يَعْرِفُونَ كُلاًّ من أهل الجنّة و النّار بِسِيماهُمْ و علامتهم التي أعلمهم اللّه بها.

في معنى الأعراف

و المراد من

أصحابه

عن الصادق عليه السّلام: «الأعراف: كثبان (1)بين الجنّة و النّار، و الرجال: الأئمّة» (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النّار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النّار» (6).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية: «نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الّذين لا يعرف اللّه عزّ و جلّ إلاّ بسبيل معرفتنا، و نحن الأعراف يوقفنا اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة على الصّراط، فلا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرنا و أنكرناه» (2).

و عن سلمان رضى اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ عليه السّلام أكثر من عشر مرات: «يا عليّ، إنّك و الأوصياء من بعدك أعراف بين الجنّة و النّار، و لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفكم و عرفتموه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكركم و أنكرتموه» (3). إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة بهذا المضمون، أو ما يقرب منه.

و في بعضها: «الرّجال هم الأئمّة من آل محمّد، و الأعراف صراط بين الجنّة و النّار» (4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن أصحاب الأعراف، فقال: «إنّهم قوم استوت حسناتهم و سيّئاتهم، فقصرت بهم الأعمال» . الخبر (5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنهم، فقال: «قوم استوت حسناتهم و سيّئاتهم، فإن أدخلهم النّار

ص: 602


1- . الكثبان، جمع الكثيب: هو الرمل المجتمع المحدودب. (5 و 6) . مجمع البيان 4:653، تفسير الصافي 2:198.
2- . الكافي 1:141/9، تفسير الصافي 2:198.
3- . تفسير العياشي 2:148/1586، تفسير الصافي 2:199.
4- . بصائر الدرجات:516/5، تفسير الصافي 2:199.
5- . تفسير الصافي 2:199.

فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنّة فبرحمته» (1). و عليه جمع من مفسّري العامّة (2).

و يجمع بين الرّوايات ما في (الجوامع) عن الصادق عليه السّلام قال: «الأعراف كثبان بين الجنّة و النّار، يوقف عليها كلّ نبيّ و كلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضّعفاء من جنده، و قد سيق المحسنون إلى الجنّة» . الخبر (3).

ففيه الدّلالة على أنّ الرّجال الّذين على الأعراف أشراف المؤمنين، و أسفلهم الّذين استوت حسناتهم و سيّئاتهم.

وَ نادَوْا أولئك السّفلة (4)أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ و المحسنين الّذين سبقوهم إليها، إذا عاينوهم يدخلونها و هم بعد واقفون منتظرون للشّفاعة: أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ عن الصادق عليه السّلام، في الرّواية السّابقة: «فيقول الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا (5)إلى الجنّة، فيسلّم عليهم المذنبون، و ذلك قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (6). الخبر لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أن يدخلهم اللّه أيّاها بشفاعة النبيّ و الإمام.

وَ إِذا صُرِفَتْ و وقعت أَبْصارُهُمْ -حال كونهم على الأعراف تِلْقاءَ أَصْحابِ اَلنّارِ و مقابلهم-عليهم قالُوا تضرّعا إلى اللّه و تعوّذا به: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا في النّار مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ .

عن الصادق عليه السّلام، في الرّواية السّابقة: «و ينظر هؤلاء إلى أصحاب النّار فيقولون: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا . الخبر (7).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى إشراف أشراف المؤمنين الّذين هم على الأعراف، حكى توبيخهم أصحاب النّار، و شماتتهم بهم إلتذاذا لأنفسهم، و ازديادا لعذاب هؤلاء الكفرة بقوله: وَ نادى أَصْحابُ

وَ نادى أَصْحابُ اَلْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اَللّهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

ص: 603


1- . الكافي 2:282/1، تفسير الصافي 2:200.
2- . تفسير الرازي 14:88.
3- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:200.
4- . السفلة: نقيض العلوة، سفلة الناس أو سفلتهم: أسافلهم.
5- . في جوامع الجامع: سبقوا.
6- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:201.
7- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:201.

اَلْأَعْرافِ الّذين هم أشراف المؤمنين رِجالاً من رؤساء الكفار الّذين كانوا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ تقريعا و توبيخا، و قالُوا : لقد شاهدتم أيّها الرّؤساء أنّه ما أَغْنى و لم يكف في دفع العذاب عَنْكُمْ اليوم جَمْعُكُمْ الأعوان و الأتباع و الأموال في الدّنيا وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ به من النّسب و الجاه، على الأنبياء و الأولياء و الفقراء من المؤمنين.

و قيل: إن كلمة (ما) في ما أَغْنى استفهاميّة، و (ما) في ما كُنْتُمْ مصدريّة (1).

ثمّ بالغوا في تقريعهم و توبيخهم بقولهم، مشيرين إلى فقراء المؤمنين: أَ هؤُلاءِ الفقراء الضّعفاء اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ و حلفتم على أنّه لا يَنالُهُمُ اَللّهُ و لا يصيبهم بِرَحْمَةٍ منه و فضل أبدا؟ ثمّ يلتفتون إلى فقراء المؤمنين و يقولون لهم: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ على رغم هؤلاء الرّؤساء المتكبّرين عليكم لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ حين يخاف الكفرة المتكبّرون وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حين يحزن هؤلاء.

و عن الصادق عليه السّلام، في الحديث السّابق: «و ينادي أصحاب الأعراف-و هم الأنبياء و الخلفاء-رجالا من أهل النّار و رؤساء الكفّار، يقولون لهم مقرّعين: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ و استكباركم، أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اَللّهُ بِرَحْمَةٍ، إشارة لهم إلى أهل الجنّة الّذين كان الرّؤساء يستضعفونهم و يحقّرونهم لفقرهم، و يستطيلون عليهم بدنياهم، و يقسمون أنّ [اللّه]لا يدخلهم الجنّة اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين، عن أمر من أمر اللّه عزّ و جلّ لهم بذلك: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي لا خائفين و لا محزونين» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 50

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مخاطبة أهل الجنّة و أصحاب الأعراف لأصحاب النّار، حكى مخاطبة أهل النّار لهم بقوله: وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ بعد استقرارهم فيها أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ بعد استغراقهم في نعمها: أَنْ أَفِيضُوا و صبّوا أيّها المؤمنون عَلَيْنا شيئا قليلا مِنَ اَلْماءِ البارد أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ و أنعم عليكم بفضله من سائر الأشربة، أو منها و من الفواكه و الأطعمة ليخفّف عنّا به حرّ النّار، أو العطش و الجوع.

وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالُوا إِنَّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ (50)عن ابن عبّاس: لمّا صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النّار بفرج بعد اليأس (3).

ص: 604


1- . تفسير روح البيان 3:169.
2- . جوامع الجامع:146، تفسير الصافي 2:201.
3- . تفسير الرازي 14:92.

و قيل: إنّ أهل النّار لمّا بقوا فيها جياعا عطاشا قالوا: يا ربّنا، إنّ لنا قرابات في الجنّة فأذن لنا حتّى نراهم و نكلّمهم، فأمر اللّه الجنّة فتزحزحت (1)فيؤذن في ذلك، فينظرون إلى قراباتهم في الجنّة، و إلى ما هم فيه من أنواع النّعيم، فيعرفونهم و لا يعرفهم أهل الجنّة لسواد وجوههم، فينادون قراباتهم من أهل الجنّة بعد إخبارهم بقرابتهم و يقولون: أَفِيضُوا عَلَيْنا (2).

و قيل: إنّ المراد من (ما رَزَقَكُمُ اَللّهُ) الأطعمة و الفواكه (3).

عن الصادق عليه السّلام: «يوم التّناد يوم ينادي أهل النّار أهل الجنّة: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ» (4).

عن أحدهما عليه السّلام قال: «إنّ أهل النّار يموتون عطاشا، و يدخلون قبورهم عطاشا، و يدخلون جهنّم عطاشا، فيرفع لهم قراباتهم من أهل الجنّة، فيقولون: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ» (5).

روي أنّه لا يؤذن لأهل الجنّة في الجواب أربعين سنة (6).

ثمّ يؤذن لهم في جوابهم، كما حكى اللّه تعالى بقوله: قالُوا في جوابهم: أَنْ شراب الجنّة و طعامها ممنوعان منكم؛ لأنّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ بأنّكم أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا و أستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تكفرون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 51

ثمّ شرع اللّه تعالى في ذمّ الكفّار و قدحهم بأشنع ذمائمهم و صفاتهم، و تهديدهم بأشدّ العذاب بقوله: اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و جعلوا دِينَهُمْ الذي أمرهم اللّه بالتديّن به، و هو دين الإسلام لَهْواً و بطرا وَ لَعِباً و عبثا، حيث إنّهم يحرّمون ما شاءوا، و يحلّون ما شاءوا، و لا يتّبعون أحكام اللّه، بل يتّبعون هوى أنفسهم التي زيّنها الشّيطان لهم، قيل: كان دينهم دين إسماعيل فغيّروه بهواهم. و قيل: إنّ المراد: أنّهم اتّخذوا اللّهو و اللّعب دينا لأنفسهم. و عن ابن عبّاس: يريد المستهزئين المقتسمين (7).

اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)وَ غَرَّتْهُمُ و شغلتهم اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و لذّاتها و زخارفها عن ذكر اللّه، و التدبّر في آياته و دلائل توحيده، و التفكّر في عواقبهم، فصار همّهم في تحصيل الجاه و المال و سائر المشتهيات فَالْيَوْمَ

ص: 605


1- . في النسخة: فتزخرفت.
2- . تفسير الرازي 14:92.
3- . تفسير الرازي 14:93.
4- . تفسير العياشي 2:150/1592، تفسير الصافي 2:202.
5- . تفسير العياشي 2:149/1591، تفسير الصافي 2:202.
6- . تفسير روح البيان 3:171.
7- . تفسير الرازي 14:93.

نَنْساهُمْ و لا نعتني بهم، و لا نلتفت إليهم، كما لا يلتفت الناسي إلى المنسي، أو نتركهم في النار أبدا كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا و لم يلتفتوا إليه، و لم يعتنوا بما ينفعهم فيه، و لم يستعدوا له.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به و برسله، و خافوه في الغيب، و قد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا، أي أنه لا يأمر لهم بخير و لا يذكرهم به» (1).

و عن الرضا عليه السلام: «أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا، و قال: إنما يجازي من نسيه و نسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم، كما قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» (2).

وَ مثل ما كانُوا في الدنيا بِآياتِنا و دلائل توحيدنا، و رسالة رسلنا يَجْحَدُونَ و إياها ينكرون عنادا و استكبارا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 52

ثم أنه تعالى بعد شرح أحوال الكفار و المؤمنين في القيامة ببيان معجز، أعلن بانقطاع عذر الكفار في ترك الإيمان بالنبوة و الكتاب بقوله: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ عظيم الشأن فَصَّلْناهُ و شرحنا ما فيه من المعارف و الأحكام و المواعظ، و غيرها من العلوم واحدا بعد واحد مبنيا عَلى عِلْمٍ كامل منا بتفاصيله و و اقعيات الأمور، و منافع ما فيه، ليكون ذلك الكتاب هُدىً و رشادا إلى الحق، و سعادة الدنيا و الآخرة وَ رَحْمَةً و نعمة تامة و فضلا عظيما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به، المصدقين بأنه من الله، فإنهم المنتفعون و المتدبرون في آياته، المقتبسون من أنواره.

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 53

ثم و بخهم الله على ترك الإيمان مع انقطاع عذرهم فيه بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ و يتوقعون شيئا آخر بعد هذا القرآن يكون باعثا لهم على الإيمان بالله و برسوله و اليوم الآخر، مع أنه ليس شيء أبعث من

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

ص: 606


1- . التوحيد:259/5، تفسير الصافي 2:202.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السلام 1:125/18، تفسير الصافي 2:202، و الآية من سورة الحشر:59/19.

هذا الكتاب إِلاّ تَأْوِيلَهُ و و قوع ما هددوا به فيه، من عذاب الاستئصال في الدنيا، أو مجيء يوم القيامة يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ كفروا به و نَسُوهُ و تركوا العمل بما فيه مِنْ قَبْلُ و في دار الدنيا إيمانا و اعترأ فا بصدق الرسل: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا لهدايتنا بِالْحَقِّ و الدين القويم، أو بالمعجزات الباهرات. فلما رأوا أنه لا ينفعهم إيمانهم، و لا مخلص لهم من العذاب، قالوا تمنيا و تحسرا: فَهَلْ لَنا اليوم مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا و يدفعوا بشفاعتهم العذاب عنا؟ أَوْ نُرَدُّ و نرجع إلى الدنيا فَنَعْمَلَ فيها عملا غَيْرَ العمل اَلَّذِي كُنّا نَعْمَلُ و نتدين بدين غير الذي كنا نتدين به، فإنه لا يمكن الخلاص إلا بأحد هذين الأمرين.

ثم نبه الله سبحانه على امتناع مطلوبهم و مأمولاهم بقوله: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم التي كانت بمنزلة رأس ما لهم، في الكفر و العصيان وَ ضَلَّ و غاب أو فآت عَنْهُمْ منافع ما كانُوا يَفْتَرُونَ على الله أن يقبل شفاعته من الأصنام، و ظهر لهم بطلان الأديان التي كانوا ينصرونها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 54

ثم لما كان الاعتقاد بالمعاد متوقفا على معرفة الله بالوحدانية و كمال القدرة و العلم، عرف ذاته المقدسة بتلك الصفات بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ هو اَللّهُ اَلَّذِي بقدرته الكاملة خَلَقَ اَلسَّماواتِ السبع بما فيها من الكواكب و غيرها وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ عن القمي رحمه الله: في ستة أوقات (1).

إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (54)عن الصادق عليه السلام: «أن الله خلق الخير يوم الأحد، و ما كان ليخلق الشر قبل الخير، و في الأحد و الاثنين خلق الأرضين، و خلق أقواتها يوم الثلاثاء، و خلق السماوات يوم الأربعاء و يوم الخميس، و خلق أقواتها يوم الجمعة» (2). الخبر.

أقول: الظاهر أن المراد من الأيام في الروآية: الأوقات التي لو كانت الشمس -التي بطلوعها و غروبها توجد الأيام و تتعدد-موجودة لكانت تلك الأوقات [هي]تلك الأيام. و أما تقدير الأوقات فيحتمل أنه كان إما بنسبة كل موجود إلى الآخر، و إما بالنسبة إلى حركة فلك الأفلاك. و إرادة غيره من قوله خَلَقَ اَلسَّماواتِ .

و قيل: إن الله خلق الموجودات تدريجا، ليعلم العباد التأني في الأمور.

ص: 607


1- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:203.
2- . الكافي 8:145/117، تفسير الصافي 2:203.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «و لو شاء أن يخلقها في أقل من لمح البصر لخلق، و لكنه جعل الأناة و المداراة مثالا لا منائه، و إيجابا للحجة على خلقه» (1).

و عن الرضا عليه السلام: «و كان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين، و لكنه عز و جل خلقها في ستة أيام ليظهر على الملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء، فيستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة» (2).

و قيل: للتنبيه على أن لكل شيء حدا محدودا و و قتا معينا، فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فتأخير ثواب المطيعين و عقاب العاصين لذلك.

ثُمَّ اِسْتَوى و استولى بعلمه و تدبيره عَلَى اَلْعَرْشِ . عن أمير المؤمنين عليه السلام: «استوى تدبيره، و علا أمره» (3).

و عن الكاظم عليه السلام: «استولى على ما دق و جل» (4).

و عن الصادق عليه السلام: «استوى على كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء» (5).

و في روآية: «لم يبعد منه بعيد، و لم يقرب منه قريب» (6).

فحاصل الروايتين (7): أن المراد بالعرش جميع الموجودات؛ كما مر في آية الكرسي أنه أحد معنييه.

و قيل: إن المراد بالعرش هو السرير (8)، كما هو معناه لغة، و كنى به عن الملك، فإنه إذا اختل ملك ملك يقال: ثل عرشه، و إذا استقام ملكه و اطرد أمره و حكمه يقال: استوى على عرشه و استقر على سرير ملكه.

و عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إن الملائكة تحمل العرش، و ليس العرش كما يظن كهيئة السرير، و لكنه شيء محدود مخلوق مدبر، و ربك عز و جل مالكه، لا أنه عليه؛ ككون الشيء على الشيء» (9).

ثم استشهد سبحانه على كمال قدرته و تدبيره بقوله: يُغْشِي و يغطي اَللَّيْلَ بظلمته اَلنَّهارَ و يذهب بنوره، و هو مع ذلك يَطْلُبُهُ و يشتاق إلى مجيئه بعده حَثِيثاً و سريعا لا يفصل بينهما شيء، فإن في تنظيم تعاقب الليل و النهار-مع و ضوح أن فيه منافع عظيمة؛ إذ به يتم أمر الحياة،

ص: 608


1- . الاحتجاج:254، تفسير الصافي 2:203.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السلام 1:134/33، تفسير الصافي 2:203.
3- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 2:204.
4- . الاحتجاج:386، تفسير الصافي 2:204.
5- . الكافي 1:99/6، تفسير الصافي 2:204.
6- . الكافي 1:99/8، تفسير الصافي 2:204.
7- . أي اللتين عن الامامين الكاظم و الصادق عليهما السلام.
8- . تفسير روح البيان 3:174.
9- . التوحيد:316/3، تفسير الصافي 2:205.

و كمال صلاح الموجودات -دلالة و اضحة على كمال قدرته و حكمته.

ثم قرر ذلك بقوله: وَ اَلشَّمْسَ التي هي سلطان الكواكب وَ اَلْقَمَرَ الذي هو نائبها وَ اَلنُّجُومَ التي هي خدمها، خلقهن حال كونهن مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ مقهورات تحت إرادته.

ثم لما كان ما سوى الله إما جسماني له مائدة و مدة و حجم و مقدار؛ و يسمى بعالم الخلق، و إما روحاني لا مائدة له و لا مدة له و لا حجم؛ و يسمى بعالم الأمر، بالغ سبحانه في تعريف ذاته المقدسة بالوحدانية، و كمال القدرة و التدبير و السلطنة فيهما بقوله: أَلا لَهُ تعالى خاصة اَلْخَلْقُ و عالم الجسمانيات وَ اَلْأَمْرُ و عالم الروحانيات، إيجادا أو إعداما، و تصرفا و تدبيرا، لا مالك شيء منهما غيره تَبارَكَ و تعالى بالوحدانية في الالوهية و القدرة، و تعظم بالفردانية في السلطنة و الربوبية اَللّهُ الذي هو رَبُّ اَلْعالَمِينَ و خالقها و مدبرها.

ففيه رد على الذين اتخذوا من دون الله أربابا، و دعوتهم إلى القول بتوحيده في الربوبية لجميع الكائنات، و تنظيم عالم الوجود، كالملك المتمكن في مملائكته بتدبيره.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 55

ثم لما بين الله سبحانه أن تدبير العالم بيده و جميع الخيرات نازل منه، أمر الناس بسؤاله و رفع حوائجهم إليه، و قطع طمعهم عن غيره بقوله: اُدْعُوا و سئلوا رَبَّكُمْ اللطيف بكم، السميع لدعائكم، القادر على إجابتكم جميع حوائكم الدنيوية و الآخروية، و ليكن دعاؤكم له تَضَرُّعاً و خضوعا و تذللا وَ خُفْيَةً و سرا بحيث بلا يسمعه غيركم، فإنه أقرب إلى الخلوص و الاستجابة، و لا تعتدوا في دعائكم، و لا تجاوزوا فيه عن حد ما امرتم إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ و لا يرضى عن المتجاوزين عن الحد؛ بالاقتراح عليه، و طلب ما لا ينبغي طلبه.

اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (55)عن النبي صلى الله عليه و آله: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، و حسب المرأ أن يقول: اللهم إني أسئلك الجنة و ما قرب إليها من قول و عمل، و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول و عمل» (1).

في استحباب

الاخفات في الدعاء

و عنه صلى الله عليه و آله، أنه كان في غزاة، فأشرف على و اد، فجعل الناس يهللون و يكبرون، و يرفعون أصواتهم، فقال: «يا أيها الناس، أربعوا (2)على أنفسكم، أما إنكم لا تدعون أصما (3)و لا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم» (4).

ص: 609


1- . تفسير أبي السعود 3:233.
2- . اربعوا: تريثوا و انتظروا.
3- . كذا، و في المجمع: الأصم، و في الصافي: أصم.
4- . مجمع البيان 4:662، تفسير الصافي 2:206.

و عنه صلى الله عليه و آله قال: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» (1).

و عن الصادق عليه السلام: «استعن بالله في جميع امورك تضرعا (2)إليه آناء الليل و النهار، قال الله: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ و الاعتداء من صفة قراء زماننا هذا و علامتهم» (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 56

ثم أنه تعالى بعد بيان كونه مدبر امور العالم و مصلحها، نهى الناس عن الإفساد بقوله: وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بقتل و نهب، و هتك عرض، و إشاعة الكفر بَعْدَ إِصْلاحِها و تنظيم امورها على أحسن نظام.

وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (56)و قيل: يعني لا تفسدوا فيها باختيار الكفر، و ارتكاب المعاصي بعد إصلاحها ببعث الرسل و تشريع الأحكام.

عن الباقر عليه السلام: «أن الأرض كانت فاسدة، فأصلحها الله بنبيه صلى الله عليه و آله. الخبر (4).

و القمي رحمه الله: أصلحها برسول الله صلى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام، فأفسدوها حين تركوا أمير المؤمنين عليه السلام (5).

ثم لما كان داعي الإفساد تحصيل المنافع الدنيوية، و هو يكون في الدعاء، أكد الترغيب إليه بقوله: وَ اُدْعُوهُ و سئلوه كل ما تحتاجون إليه من المنافع خَوْفاً من أن ترد دعوتكم بسوأ أعمالكم وَ طَمَعاً و رجاء أن يستجاب لسعة رحمته إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ، و من الأعمال الحسنة: الدعاء بأدائه.

و فيه ترجيح للطمع، و تغليب جانب الرحمة، و تنبيه على و سيلة الإجابة، و هو القيام بوظائف العبودية.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 57

وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ اَلْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

ص: 610


1- . تفسير الرازي 14:131.
2- . في مصباح الشريعة: متضرعا.
3- . مصباح الشريعة:58، تفسير الصافي 2:206.
4- . تفسير العياشي 2:150/1593، تفسير الصافي 2:206.
5- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:206.

ثم لما بشر سبحانه بسعة رحمته، قرره بما أراهم من إنزال الأمطار النافعة التي منها حياة كل شيء، و فيها الشهادة على سعة رحمته، و كمال قدرته، و تدبيره لمصالح خلقه بقوله: وَ هُوَ القادر المدبر الرحيم اَلَّذِي يُرْسِلُ بقدرته و حسن تدبيره اَلرِّياحَ الأربعة، حال كونها بُشْراً و إعلاما للناس بما يسرون به بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ و قدام المطر المحيي للأرض حَتّى إِذا أَقَلَّتْ الرياح و حملت بسهولة سَحاباً و غماما سارية في العلو، حال كونها ثِقالاً بحمل الماء سُقْناهُ و سيرناه لِبَلَدٍ و إلى أرض مَيِّتٍ حاف (1)لا نبات فيها، أو لأجل الأرض اليابسة فَأَنْزَلْنا بِهِ أي بسبب السحاب أو بالبلد اَلْماءَ و المطر النافع فَأَخْرَجْنا بِهِ من الأرض ما تعيشون به مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ و جميع أنواعها.

ثم استدل سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها و إخراج الثمرات منها، على إحياء الرمم، و إخراج الموتى منها للحشر، و جزاء الأعمال بقوله: كَذلِكَ الإحياء و الإخراج نُخْرِجُ اَلْمَوْتى من الأرض إلى الحشر بعد إحيائهم في القبور. و إنما ضربنا لكم المثل لَعَلَّكُمْ أيها الناس تَذَكَّرُونَ و تتنبهون على أن من قدر على ذلك قدر على هذا بلا ريب.

عن ابن عباس رضى الله عنه: إذا مات الناس كلهم في النفخة الاولى مطرت السماء أربعين يوما قبل النفخة الأخيرة مثل مني الرجال، فينبتون من قبورهم بذلك المطر، كما ينبتون في بطون أمهاتهم، و كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح، ثم تلقى عليهم نومة فينائمون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية -و هي نفخة البعث-جاشوا و خرجوا من قبورهم و هم يجدون طعم النوم في رؤسهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ فيناديهم المنادي: هذا ما وَعَدَ اَلرَّحْمنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 58

ثم أنه تعالى بعد بيان رحمته العامة بإنزال المطر و إخراج الثمار من الأرض، نبه على أن عدم نبت الثمار من الأرض الصلبة أو السبخة ليس لعدم نزول المطر عليها، أوعدم النفع فيه، بل إنما هو لخباثة الأرض، وعدم قابليتها للتأثر به بقوله: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ و الأرض الخيّرة لرخاوتها، و قوّة استعدادها

وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

ص: 611


1- . كذا، و لعلّه من قولهم: حفا شاربه، فهو حاف، إذا بالغ في قصّه. أو تصحيف (جاف) من الجفاف. و ينبغي تأنيث هذه الكلمة نظرا إلى قوله: (أرض) ثمّ قوله: (لا نبات فيها) .
2- . تفسير روح البيان 3:180، و الآية من سورة يس:36/52.

يَخْرُجُ نَباتُهُ من الأشجار و الزّروع و الرّياحين و الأزهار بِإِذْنِ رَبِّهِ و قدرته و إرادته، وَ البلد اَلَّذِي خَبُثَ بأن كان سبخا أو صلبا لا تأثّر بنزول المطر عليه، لا يَخْرُجُ نباته منه إِلاّ نباتا نَكِداً قليلا غير نافع.

في أن النفوس

صنفان طيبة

و خبيثة

قيل: هو مثل الاختلاف في الذّات و الطّينة و تشبيههما في الطّيب و الخبث بالأراضي الطيّبة و الخبيثة، فإنّ النّفوس البشريّة بعضها بذاتها و جوهرها طيّبة نقيّة نورانية، مستعدّة لقبول الحقّ و التأثّر بالمواعظ و الحكم، و التنوّر بآيات القرآن الذي هو ماء الحياة للقلوب الميّتة؛ كنفوس المؤمنين على اختلاف مراتبهم، فإنّهم إذا تليت عليهم آيات القرآن و ذكرت لهم دلائل التّوحيد و المعاد، ظهر منهم الانقياد و الخضوع، و أشرقت قلوبهم بأنوار العقائد الحقّة و المعارف الإلهية، و خرجت من جوارحهم أزهار الطّاعة و الأعمال الحسنة.

و بعضها خبيثة سجّينيّة ظلمانيّة، لا تتأثّر بشيء من المواعظ و الحكم، و لا تنقاد لقبول الحقّ، بل لا تزيده آيات القرآن و دلائل التّوحيد و غيره من المعارف إلاّ بعدا و كفرا و طغيانا؛ كنفوس الكفّار المصرّين على الكفر. فالنّفس الطيّبة الطاهرة يخرج نباتها من المعارف الحقّة، و الأخلاق الكريمة، و الأعمال الصّالحة بإذن ربّها و توفيقه و تفضّله، و النّفس الخبيثة لا يخرج منها إلاّ نباتا نكدا قليل الفائدة.

و قيل: إنّ المراد من المثل أنّ الأرض الخبيثة مع قلّة نفعها لا يهملها صاحبها، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا في تحصيل ما يليق بها. فمن طلب النّفع اليسير بالمشقّة العظيمة كان طلبه للمنافع العظيمة الاخرويّة بالمشقّة أولى.

كَذلِكَ التّصريف البديع نُصَرِّفُ اَلْآياتِ الدالّة على المعارف و الحكم و الأحكام لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ألطاف اللّه و نعمه الجسمانيّة و الرّوحانيّة.

و إنّما ختم سبحانه الآية السّابقة بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكونها متضمّنة لدليل صحّة المعاد، و ختم هذه الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لكونها متضمّنة لبيان النّعمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة.

و إنّما ختم سبحانه الآية السّابقة بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكونها متضمّنة لدليل صحّة المعاد، و ختم هذه الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لكونها متضمّنة لبيان النّعمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة.

عن القمّي رحمه اللّه: مثل للأئمّة يخرج علمهم بإذن ربّهم، و لأعدائهم لا يخرج علمهم إلاّ كدرا فاسدا (1).

و في (المناقب) : قال عمرو بن العاص للحسين عليه السّلام: ما بال لحاكم أوفر من لحانا؟ فقرأ عليه السّلام هذه الآية (2).

و روي أنّ معاوية سأل الحسن عليه السّلام عن ذلك، فقرأ عليه السّلام هذه الآية.

ص: 612


1- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:208.
2- . مناقب ابن شهر آشوب 4:67، تفسير الصافي 2:208.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 59 الی 62

في قصة نوح

و كيفية دعوته

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خبث ذات الكفار، ذكر سبحانه قصص الامم الماضية و سوء عاقبة المصرّين منهم على الكفر، تهديدا لمشركي عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تسلية لخاطره الشّريف، و إثباتا لنبوّته؛ لأنّ ذكرها مع امّيته من الإخبار بالمغيّبات، فابتدأ سبحانه بذكر معارضة قوم نوح و هلاكهم بقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ لهدايتهم إلى التّوحيد و دين الحقّ، فدعاهم أوّلا إلى التّوحيد الذي هو أهمّ الاصول فَقالَ لقومه رحمة و شفقة: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، و خصّوه بالخضوع و الطّاعة، فإنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مستحقّ للعبادة و الطّاعة في عالم الوجود غَيْرُهُ تعالى.

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)ثمّ هدّدهم على الاشراك ببيان معلن بغاية شفقته عليهم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأصنام من أن ينزّل اللّه عليكم عَذابَ الاستئصال في يَوْمٍ عَظِيمٍ من أيام الدّنيا لعظمة عذابه،

أو عذاب النّار في يوم القيامة الذي هو أعظم الأيام و أشدّها قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ و الأكابر من طائفته: إِنّا لَنَراكَ و نعتقدك يا نوح منغمرا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن الحقّ، و انحراف واضح عن الصّواب حيث خالفت العامّة في قولك، و خرجت عن ربقة تقليد آبائنا الأقدمين في رأيك.

قالَ نوح مبالغا في استمالتهم بندائهم و إضافتهم إلى نفسه، بعد تغليظهم عليه في القول المقتضي للتّغليظ عليهم في الجواب: يا قَوْمِ كيف تنسبونني إلى الضّلال و الحال أنّه لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أبدا و انحراف عن الصّواب بوجه وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رسل رَبِّ اَلْعالَمِينَ مبعوث من قبله إليكم لارشدكم إلى الحقّ و أهديكم إلى التّوحيد،

فأنا على حسب وظيفتي أُبَلِّغُكُمْ و أؤدي إليكم رِسالاتِ رَبِّي من توحيده و أحكامه و مواعظه وَ أَنْصَحُ لَكُمْ و اشير إليكم ما فيه خيركم و صلاحكم وَ أَعْلَمُ مِنَ عقوبة اَللّهِ أو من معارفه و أحكامه بوحيه و تعليمه ما لا تَعْلَمُونَ، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب من قبلهم، و لذا كانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السّلام.

ص: 613

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ لمّا كان القوم تعجّبوا من أدّعائه الرّسالة و بالغوا في تكذيبه، أنكر عليهم بقوله: أَ وَ عَجِبْتُمْ - قيل: إنّ التّقدير: أكذّبتم و عجبتم (1)-من أَنْ جاءَكُمْ و نزل عليكم ذِكْرٌ و موعظة، أو وحي، أو كتاب مِنْ رَبِّكُمْ و خالقكم اللّطيف بكم عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ و بشر مثلكم لِيُنْذِرَكُمْ من بأس اللّه، و يخوّفكم من عقوبته وَ لِتَتَّقُوا مخالفة اللّه، و تحترزوا سخطه بإنذاره، و لأجل أنّه وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتّقوى، و تفوزون بأكمل السّعادة و أفضل النّعم بطاعته.

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)و في ذكر (لعلّ) إشعار بعدم علّيّة التّقوى لشمول الرّحمة.

فَكَذَّبُوهُ بعد الإبلاغ و الإنذار و الإعذار، و أصرّوا على معارضتة حتّى حقّ عليهم العذاب، فصنع نوح الفلك و فار التنّور فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ آمنوا مَعَهُ من أهله و غيرهم فِي اَلْفُلْكِ، قيل: هم أربعون (2)وَ أَغْرَقْنَا بالطّوفان الكفّار اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و أستمرّوا على التّكذيب.

ثمّ نبّه سبحانه على علّة إهلاكهم بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ في البصيرة، مكفوفين عن رؤية المعجزات، قاصرين عن فهم المواعظ، لم يكونوا يرجى منهم الهداية و الإيمان.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 65 الی 68

في قصة هود

ثمّ أردف سبحانه قصّة قوم نوح بقصّة هود و تكذيب قومه، و ابتلائهم بالعذاب بقوله: وَ إِلى قوم عادٍ بن إرم بن سام بن نوح، أو ابن شالخ بن أرفخشد بن سام، و هم قوم كانوا باليمن بالأحقاف؛ و هو الرّمل الذي كان بين عمان و حضرموت-كذا قيل (3)-أرسلنا أَخاهُمْ في النّسب كان اسمه هُوداً قيل: هو ابن عبد اللّه بن رباح (4)بن خلود بن عاد (5).

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)

ص: 614


1- . تفسير الرازي 14:152.
2- . تفسير البيضاوي 1:344، و فيه: كانوا أربعين رجلا و أربعين امرأة.
3- . تفسير الرازي 14:155.
4- . في روح البيان: رياح.
5- . تفسير البيضاوي 1:344، تفسير روح البيان 3:185.

عن السجاد عليه السّلام أنّه قيل له: إنّ جدّك قال: «إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم» ، فقال: «ويلك، أما تقرأ القرآن وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً (1)، وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً (2)فهو مثلهم، كانوا إخوانهم في عشيرتهم، و ليسوا إخوانهم في دينهم» (3).

عن الباقر عليه السّلام-في حديث- «و بشّر نوح ساما بهود و قال: إنّ اللّه باعث نبيّا يقال له هود، و أنّه يدعو قومه إلى اللّه فيكذّبونه» . الخبر (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا حضرت نوحا الوفاة دعا الشيعة فقال لهم: [اعلموا]أنّه سيكون من بعدي غيبة يظهر فيها الطّواغيب، و إنّ اللّه عزّ و جلّ سيفرّج عنكم بالقائم من ولدي، اسمه هود، له سمت و سكينة و وقار، يشبهني في خلقي و خلقي» (5).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الأنبياء بعثوا خاصّة و عامّة، و أمّا هود فإنّه ارسل إلى [عاد]بنبوّة خاصّة» (6).

في كيفية دعوة

هود و محاجته

قالَ هود لقومه: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ و لمّا كان قومه مطّلعين على واقعة الطّوفان و هلاك قوم نوح، هدّدهم على الشّرك بقوله: أَ فَلا تَتَّقُونَ بأس اللّه و عذابه، أشار به إلى التّخويف بمثل واقعة قوم نوح المشهورة عندهم

قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد اللّه و رسالة هود مِنْ قَوْمِهِ في جوابه مغلّظين له في القول: يا هود إِنّا لَنَراكَ متمكّنا و راسخا فِي سَفاهَةٍ و خفّة العقل، حيث فارقت الجماعة، و خالفت العامّة وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ ألبتّة مِنَ اَلْكاذِبِينَ في دعوى توحيد المعبود، و رسالتك.

قالَ هود لهم بلين و عطوفة، بعد ما سمع منهم الكلام الشّنيع: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أبدا وَ لكِنِّي لكمال عقلي و غاية رشدي رَسُولٌ مِنْ رسل رَبِّ اَلْعالَمِينَ فإنّه لا يكون الرّسول إلاّ من كمل عقله و تمّ رشده و صلاحه، و ما أقول لكم شيئا من قبل نفسي،

بل أُبَلِّغُكُمْ و أؤدّي إليكم رِسالاتِ رَبِّي على حسب وظيفتي وَ أَنَا مع ذلك لَكُمْ فيما أدعوكم إليه من توحيد اللّه و إخلاص العبادة له ناصِحٌ و مشير إلى محض خيركم أَمِينٌ و ثقة عند اللّه في تأدية رسالته، و عندكم في النّصح، لا أغشّ و لا أخون أبدا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 69

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اَللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

ص: 615


1- . الأعراف:7/85.
2- . هود:11/61.
3- . تفسير العياشي 2:150/1595، تفسير الصافي 2:209.
4- . الكافي 8:115/92، تفسير الصافي 2:209.
5- . كمال الدين:135/4، تفسير الصافي 2:209.
6- . كمال الدين:219/2، تفسير الصافي 2:209.

ثمّ لمّا كانوا متعجّبين من ادّعاء الرّسالة، أنكر عليهم تعجّبهم بقوله: أَ وَ عَجِبْتُمْ و استبعدتم أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ و وعظ مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ و يحذّركم من عقوبة اللّه على الشّرك به و الطّغيان عليه.

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد التّهديد و التّوعيد بالعذاب على الكفر، شرع في ترغيبهم إلى الإيمان باللّه و طاعته بقوله: وَ اُذْكُرُوا نعمة اللّه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ و سكّان في الأرضين متمتّعين بما فيها مِنْ بَعْدِ إهلاك قَوْمِ نُوحٍ بالطّوفان عقوبة على شركهم و طغيانهم و تكذيبهم نوحا عليه السّلام.

و قيل: إنّ المعنى: أنّ اللّه سلّطكم في محالّهم بأن جعلكم ملوكا فيها.

قيل: إنّ شدّاد بن عاد ملك معمورة الأرض (1).

ثمّ بالغ في ترغيبهم بقوله: وَ زادَكُمْ على سائر النّاس فِي اَلْخَلْقِ و الجثّة بَصْطَةً و عظمة من حيث القامّة و القوّة.

قيل: لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام؛ كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، و قامة الصغير ستّون ذراعا (2).

عن الباقر عليه السّلام: «كانوا كالنّخل الطّوال، و كان الرّجل منهم ينحو (3)الجبل بيده فيهدم منه قطعة» (4).

ألا فَاذْكُرُوا اَللّهَ و نعمه الجسام عليكم، كي يبعثكم ذكر نعمه إلى القيام بشكره، و بذل الجهد في طاعته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بالمقصد الأعلى؛ و هو النّجاة من العذاب، و الدّخول في الجنّة و النّعم الدّائمة.

في (الكافي) : عن الصادق عليه السّلام: «أتدري ما آلاء اللّه؟» قيل: لا، قال: «هي أعظم نعم اللّه على خلقه؛ و هي ولايتنا» (5).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 70 الی 71

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اَللّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اَللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ (71)

ص: 616


1- . تفسير روح البيان 3:186.
2- . تفسير الرازي 14:157، تفسير روح البيان 3:186.
3- . في تفسير الصافي: ينحر، يقال: نحا إليه، أي مال إليه، و أنحى عليه: أقبل عليه، و يقال: نحر الشيء: قابله.
4- . مجمع البيان 4:674، تفسير الصافي 2:210.
5- . الكافي 1:169/3، تفسير الصافي 2:211.

ثمّ أنّهم بعدما سمعوا تلك المواعظ البليغة و النّصائح الجليلة، بالغوا في معارضتة و تكذيبه و قالُوا مجيبين عنه إنكارا عليه و استبعادا لقوله بالتّوحيد، حبّا لما ألفوه، و تمسّكا بتقليد الآباء: أَ جِئْتَنا يا هود من مكان اعتزالك، أو من السّماء؟ ، قالوه استهزاء له، أو المراد: حضرت في مقابلنا، أو في محافلنا و قلت ما قلت لِنَعْبُدَ اَللّهَ وَحْدَهُ و نخصّه بالخضوع و الضّراعة وَ نَذَرَ و نترك عبادة ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا الأقدمون، من الكواكب أو الأصنام، و نعرض عن سيرتهم، و نخرج عن ربقه تقليدهم، لا يكون ذلك أبدا، فإذا علمت أنّا نكون ثابتين على ما نحن عليه من الشّرك، غير معتنين بما تدعونا إليه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا و تهدّدنا به من العذاب الذي أمرتنا بالاتّقاء منه إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى رسالتك و وعيدك، و كانوا مستهزئين به في سؤالهم نزول العذاب، مظهرين عدم احتمالهم صدقه.

فلمّا رآهم مصرّين على كفرهم، مجدّين في تكذيبه، يئس من إيمانهم و قالَ تأسّفا عليهم: يا قوم قَدْ وَقَعَ و وجب عَلَيْكُمْ مِنْ قبل رَبِّكُمْ مع سعة رحمته رِجْسٌ و عذاب، أو الرّين في القلوب وَ غَضَبٌ شديد لأجل كفركم و إصراركم عليه و على معارضة رسوله.

ثمّ بالغ في توبيخهم على عبادة الجمادات و تسميتها آلهة، و مجادلتهم في ذلك بقوله: أَ تُجادِلُونَنِي و تعارضونني فِي شأن أَسْماءٍ و ألفاظ سَمَّيْتُمُوها و وضعتموها للجمادات أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ من قبل أنفسكم و بمقتضى شهواتكم، مع أنّه لا معنى لها في الحقيقة و لا مسمّيات، لعدم إمكان تعقّل تحقّق الألوهيّة في الممكن و لو كان أعلى و أشرف بمراتب من الجمادات فضلا عنها، مع أنّكم لم تكتفوا بالتّسميّة، بل التّزمتم بعبادتها، و الحال أنّه ما نَزَّلَ اَللّهُ بِها و بجوار عبادتها مِنْ سُلْطانٍ بيّن، و حجّة واضحة، و برهان قاطع، و من الواضح أنّه لا ينبغي للعاقل أن يلتزم بدين ليس عليه بيّنة ساطعة و حجّة قاطعة، فإن كنتم مصرّين على ما أنتم عليه من اللّجاج و عبادة الجماد، و مستهزئين بما أدعوكم إليه من التّوحيد، و سائلين منّي إنزال العذاب فَانْتَظِرُوا نزوله عليكم و إِنِّي أيضا مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ له حتّى ترون و أرى هلاككم و استئصالكم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 72

ص: 617

ثمّ أخبر سبحانه بنزول عذاب الاستئصال عليهم، و إكرام هود و من آمن به تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديدا لمعارضيه من مشركي مكّة بقوله: فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ و آمنوا به من عذاب الخزي بِرَحْمَةٍ عظيمة مِنّا عليهم، و إكرامنا إيّاهم بسبب إيمانهم و طاعتهم وَ قَطَعْنا بالعذاب دابِرَ القوم اَلَّذِينَ كفروا و كَذَّبُوا بِآياتِنا من دلائل التّوحيد و معجزات هود، و استأصلناهم و أهلكناهم عن آخرهم وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ بشيء من الحقّ، و لم يرج لهم (1)الإيمان أبدا.

فَأَنْجَيْناهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ قَطَعْنا دابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)و كان هلاكهم بالرّيح العقيم تخرج من تحت الأرضين السّبع، و ما خرجت منها ريح قطّ إلاّ على قوم عاد حين غضب اللّه عليهم، فأمر الخزّان عليهم أن يخرجوا منها مثل سعة الخاتم فعتت على الخزّان، فخرج على مقدار منخر الثّور تغيّظا منها على قوم عاد، فضجّ الخزنة إلى اللّه تعالى من ذلك فقالوا: ربّنا إنّها عتت عن أمرنا و نحن نخاف أن يهلك من لم يعصك من خلقك و عمّار بلادك، فبعث اللّه إليها جبرئيل فردّها بجناحه فقال لها: اخرجي على ما امرت به، و أهلكت قوم عاد و من كان بحضرتهم.

و عن (المجمع) : عنه عليه السّلام (2): «أنّ للّه تعالى بيت ريح مقفل [عليه]لو فتحت لأذرت (3)ما بين السّماء و الأرض، فما ارسل إلى عاد إلاّ قدر خاتم» قال: «و كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبيّنا صلّى اللّه عليهم أجمعين يتكلّمون بالعربيّة» (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 73

ثمّ ذكر سبحانه قصة دعوة صالح و معارضة قومه و هلاكهم بالعذاب بقوله: وَ إِلى قوم ثَمُودَ و هم قبيلة من العرب سمّوا باسسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاد بن إرم بن سام-و قيل: سمّوا به لقلّة مائهم (5)-أرسلنا أَخاهُمْ في النّسب صالِحاً .

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اَللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)عن الباقر عليه السّلام: «أنّه ارسل إلى ثمود، و هي قرية واحدة لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة» (6).

و قيل: كانت مساكنهم بين الحجاز و الشّام إلى وادي القرى، فبعث اللّه إليهم صالحا، و كان من

ص: 618


1- . في النسخة: بهم.
2- . في مجمع البيان: عن أبي جعفر عليه السّلام.
3- . أذرت الريح التراب: أطارته و فرّقته.
4- . مجمع البيان 4:676، تفسير الصافي 2:212.
5- . تفسير الرازي 14:161.
6- . اكمال الدين:220/2، تفسير الصافي 2:212.

أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا، فدعاهم إلى عبادة اللّه، و قالَ لهم بلطف و عطوفة: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ .

في كيفية دعوة

صالح و محاجته

و معارضته قومه

قيل: لمّا دعاهم إلى التّوحيد طالبوه بالمعجزة فقال: ما تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا في عيدنا، و نخرج أصنامنا، و تسأل إلهك و نسأل أصنامنا، فإذا ظهر دعاؤك اتّبعناك، و إن ظهر أثر دعائنا اتّبعتنا، فخرج معهم فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معيّنة، فأخذ مواثيقهم أنّه إن فعل ذلك آمنوا به فقبلوا، فصلّى ركعتين و دعا اللّه؛ فتمخّضت تلك الصّخرة كما تتمخّض الحامل، ثمّ انفرجت و حرّكت النّاقة من وسطها، و كانت في غاية الكبر (1).

فبعد ظهور هذه المعجزة قال صالح: يا قوم قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ عظيمة، و حجّة واضحة على صدقي في دعوى الرّسالة و التّوحيد مِنْ قبل رَبِّكُمْ فلا عذر لكم في ترك الإيمان بعدها، فإنّكم سألتم أن اخرج من الصّخرة ناقة لتكون آية على صدقي، فانظروا هذِهِ ناقَةُ اَللّهِ لَكُمْ آيَةً ظاهرة، و معجزة باهرة فَذَرُوها و دعوها تَأْكُلْ و ترتع من الكلأ و العشب فِي أَرْضِ اَللّهِ و أكرموها وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و لا تقربوها بإيذاء و مكروه فضلا عن القتل و الجرح فَيَأْخُذَكُمْ و يصيبكم إذن عَذابٌ أَلِيمٌ .

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 74 الی 76

ثمّ أنّه بعد تهديدهم على العصيان رغّبهم في الطّاعة و الانقياد بتذكيرهم نعم اللّه الموجبة لشكره بقوله: وَ اُذْكُرُوا نعمة اللّه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ إهلاكه قوم عادٍ بشركهم و طغيانهم وَ بَوَّأَكُمْ و أسكنكم فِي اَلْأَرْضِ التي كانوا يسكنونها، و هي أرض حجر بين الحجاز و الشّام، و أنتم تَتَّخِذُونَ و تبنون مِنْ سُهُولِها و المسطّحات الليّنات منها لأنفسكم قُصُوراً و أبنية رفيعة وَ تَنْحِتُونَ و تنجرون من اَلْجِبالَ و الصّخور بُيُوتاً و مساكن.

وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اَللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)نقل أنّه لمّا أهلك اللّه تعالى عاد، أقام ثمود مقامهم و عمّروا بلادهم و أخلفوهم في أرضهم في

ص: 619


1- . تفسير الرازي 14:162.

خصب وسعة، و طالت أعمارهم و كثرت نعمهم، و بنوا قصورا في الأرض السّهلة لصيفهم، و نحتوا في الجبال بيوتا لشتائهم.

و قيل: إنّهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا من الجبال بيوتا؛ لأن السّقوف و الأبنيّة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، فعتوا على اللّه و أفسدوا في الأرض.

ثمّ بالغ صالح في ترغيبهم بقوله: فَاذْكُرُوا آلاءَ اَللّهِ و نعمه العظام عليكم، و اجتهدوا في أداء شكرها بالتّوحيد و القيام بالطّاعة وَ لا تَعْثَوْا و لا تسعوا فِي اَلْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ فيها.

قالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا عن الإيمان به و اتّباعه، و هم مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا و استحقروا لفقرهم لِمَنْ آمَنَ به مِنْهُمْ و اتّبعوه، إنكارا و استهزاء بهم: أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ و لمّا كانت رسالته لشهادة معجزاته واضحة، عدل المؤمنون عن جواب سؤالهم، و أخبروا بإيمانهم بما جاء به و قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ صالح بِهِ من التّوحيد و الأحكام مُؤْمِنُونَ مصدّقون

قالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا عنادا أو لجاجا: إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ من رسالة صالح و صدق دعواه من التّوحيد و وعد العذاب كافِرُونَ و جاحدون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 77 الی 79

في كيفية عقر

ناقة صالح

ثمّ أنّه روي أنّه زيّنت عقر الناقة امرأتان لمّا أضرّت بمواشيهما، و كانتا كثيرتي المواشي، و كانت إحداهما جميلة الخلق، فطلبت ابن عمّ لها يقال له مصدع ابن دهر، و جعلت له نفسها إن عقر النّاقة، فأجابها إلى ذلك، ثمّ طلبت قدار بن سالف و كان رجلا أحمر أزرق قصيرا، يزعمون أنّه ولد زنا، و لكنّه ولد في فراش سالف، فقالت: يا قدار، أزوّجك أي بناتي شئت على أن تعقر النّاقة، و كان متّبعا في قومه، فأجابها أيضا، فانطلق قدار و مصدع فاستعانا بطغاة ثمود، فأتاهم تسعة رهط فاجتمعوا على عقر النّاقة، فأوحى اللّه تعالى إلى صالح: أنّ قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم صالح ذلك، فقالوا: ما كنّا لنفعل (1).

فَعَقَرُوا اَلنّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ اِئْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ اَلنّاصِحِينَ (79)

ص: 620


1- . تفسير روح البيان 3:192.

و قيل: إنّ صالح قال لقومه: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم بيده، فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم، ثمّ ولد العاشر فأبى أبوه أن يذبحه، فنبت نباتا سريعا، و لما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشّراب، فأرادوا ماء يمزجونه به؛ و كان يوم شرب النّاقة، فما وجدوا الماء و اشتدّ ذلك عليهم، فقال الغلام: هل لكم في أن أعقر النّاقة؟ فشدّ عليها، فلمّا بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى خلف، فأحاشوها عليه فَعَقَرُوا اَلنّاقَةَ فسقطت (1).

وَ عَتَوْا و تجافوا عَنْ امتثال أَمْرِ رَبِّهِمْ بترك مسّ الناقة بسوء. قيل: إن مصدعا و قدارا و أصحابهما التّسعة رصدوا النّاقة حين صدرت عن الماء، فكمن لها مصدع في أصل صخرة، فمرّت النّاقة عليه فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثمّ خرج قدار فعقرها بالسّيف فخرّت ترغو (2)، ثمّ طعنها في لبتها (3)و نحرها، و خرج أهل البلد و اقتسموا لحمها (4).

وَ قالُوا استهزاء: يا صالِحُ اِئْتِنا بِما كنت تَعِدُنا من العذاب على مسّ النّاقة بسوء إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فإنّ الرّسول لا بدّ من أن يكون صادق القول و الوعد.

روي أنّهم لمّا عقروا النّاقة هرب ولدها إلى جبل فرغا ثلاثا، و كان صالح قال لهم بعد بلوغه خبر قتل النّاقة: ادركوا الفصيل عيسى أن يدفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، فانفرجت الصّخرة بعد رغائه فدخلها، فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم، تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام. و قد عقروا النّاقة يوم الأبعاء، فقال لهم صالح: ابشروا بعذاب اللّه و نقمته، فقالوا: ما علامته؟ فقال: تصبحون غداة يوم الخميس و وجوهكم مصفرّة، ثمّ تصبحون يوم الجمعة و وجوهكم محمرّة، ثمّ تصبحون يوم السّبت و وجوهكم مسودّة، ثمّ يصبّحكم العذاب أوّل يوم الأحد.

فكان الأمر كما وصف، حيث أصبحوا يوم الخميس كأنّ وجوههم طليت بالزّعفران؛ صغيرهم و كبيرهم، ذكرهم و انثاهم، فأيقنوا بالعذاب، فطلبوا صالحا ليقتلوه، فهرب منهم و اختفى في موضع فلم يجدوه، فجعلوا يعذّبون أصحابه ليدلّوهم عليه، فلمّا أصبحوا يوم الجمعة أصبحت وجوههم محمرّة كأنّما خضّبت بالدّماء، فصاحوا بأجمعهم و ضجّوا و بكوا و عرفوا أنّ العذاب قد دنا إليهم، و جعل كلّ واحد يخبر الآخر بما يرى في وجهه، ثمّ أصبحوا يوم السّبت و وجوههم مسودّة كأنّها طليت بالقار و النّيل (5)، فصاحوا جميعا: ألا قد حضر العذاب، فلمّا كانت ليلة الأحد خرج صالح و من آمن معه

ص: 621


1- . تفسير الرازي 14:162.
2- . رغت الناقة: إذا صوّتت و ضجّت.
3- . اللّبّة: موضع النحر من عنق الناقة.
4- . تفسير روح البيان 3:193.
5- . القار: الزّفت، و النّيل: مادة زرقاء للصّباغ تستخرج من ورق نبات بنفس الاسم.

من بين أظهرهم إلى الشام فنزل رملة فلسطين.

فلمّا كان يوم الأحد و هو اليوم الرّبع و ارتفع النّهار، تحنّطوا بالصّبر (1)لئلا يتعرّض لهم السّباع لمرارته، و تكفّنوا بالأنطاع (2)، و ألقوا نفوسهم على الأرض يقلّبون أبصارهم إلى السّماء مرّه و إلى الأرض اخرى، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فأتتهم صيحة من السّماء فيها صوت كلّ صاعقة و صوت كلّ شيء له صوت (3).

فَأَخَذَتْهُمُ بعد تلك، و من أثرها اَلرَّجْفَةُ و الزّلزلة من الأرض، فانقطعت قلوبهم في صدورهم فَأَصْبَحُوا كبيرهم و صغيرهم فِي دارِهِمْ و بلدهم جاثِمِينَ موتى غير متحرّكين.

في ذكر قصة

ثمود و هلاكهم

عن الصادق عليه السّلام، في قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (4): «هذا فيما كذّبوا صالحا، و ما أهلك اللّه تعالى قوما قطّ حتّى يبعث إليهم قبل ذلك الرّسل فيحتجّوا عليهم، فبعث اللّه إليهم صالحا، فدعاهم إلى اللّه فلم يجيبوا و عتوا عليه و قالوا: لن نؤمن لك حتّى تخرج لنا من هذه الصّخرة ناقة عشراء (5)، و كانت الصّخرة يعظّمونها و يعبدونها، و يذبحون عندها في رأس كلّ سنة، و يجتمعون عندها، فقالوا له: إن كنت كما تزعم نبيّا رسولا، فادع إلهك حتّى يخرج لنا من هذه الصّخرة الصمّاء ناقة عشراء، فأخرجها اللّه كما طلبوا منه، ثمّ أوحى اللّه إليه: أن يا صالح، قل لهم: إنّ اللّه قد جعل لهذه النّاقة من الماء شرب يوم و لكم شرب يوم، و كانت النّاقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم الماء، فيحلبونها فلا يبقى صغير و لا كبير إلاّ شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان اللّيل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب النّاقة ذلك اليوم، فمكثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ أنّهم عتوا على اللّه و مشى بعضهم إلى بعض فقالوا: اعقروا هذه النّاقة و استريحوا منها، لا نرضى أن يكون لها شرب يوم و لنا شرب [يوم]، ثمّ قالوا: من الذي يلي قتلها و نجعل له جعلا (6)ما أحبّ، فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا، لا يعرف له أب يقال له قذار، شقيّ من الأشقياء مشؤوم عليهم، فجعلوا له جعلا، فلمّا توجّهت النّاقة إلى الماء الذي كانت ترده، تركها حتّى شربت ذلك الماء و أقبلت راجعة، فقعد لها في طريقها فضربها بالسّيف ضربة فلم تعمل شيئا، فضربها ضربة اخرى فقتلها و خرّت إلى الأرض على جنبها، و هرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرّات إلى

ص: 622


1- . الصّبر: عصارة شجر مرّ، واحدته: صبرة.
2- . الأنطاع، جمع نطع، و هو بساط من جلد.
3- . تفسير روح البيان 3:194.
4- . القمر:54/23.
5- . العشراء: الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر.
6- . الجعل: ما يجعل على العمل من أجر و رشوة، و كذا الجعالة و الجعال.

السّماء، و أقبل قوم صالح فلم يبق أحد منهم إلاّ شركه في ضربته، و اقتسموا لحمها فيما بينهم، فلم يبق منهم صغير و لا كبير إلاّ أكل منها.

فلمّا رأى ذلك صالح أقبل إليهم فقال: يا قوم، ما دعاكم إلى ما صنعتم، أعصيتم ربّكم؟ ! فأوحى اللّه إلى صالح: إنّ قومك قد طغوا و بغوا، و قتلوا ناقة بعثتها إليهم حجّة عليهم، و لم يكن عليهم منها ضرر، و كان لهم فيها أعظم المنفعة، فقل لهم: إنّي مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام، فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم و صددت عنهم، و إن هم لم يتوبوا و لم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثّالث، فأتاهم صالح فقال لهم: يا قوم، إنّي رسول اللّه ربكم إليكم، و هو يقول لكم: إن أنتم تبتم و رجعتم و استغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم، فلمّا قال لهم ذلك كانوا أعتى ما كانوا و أخبث، و قالوا: يا صالح، إئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين، قال: يا قوم، إنّكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرّة، [و اليوم الثاني وجوهكم محمرّة، و اليوم الثالث وجوهكم مسودّة.

فلّما أن كان أوّل يوم أصبحوا و وجوههم مصفرّة]، فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: قد جاءكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح و لا نقبل قوله و إن كان عظيما، فلمّا كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرّة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح، و لا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها، و لم يتوبوا و لم يرجعوا، فلمّا كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودّة، فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: يا قوم، قد أتاكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لا نقبل (1)ما قال لنا صالح، فلمّا كان نصف اللّيل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم، و فلقت قلوبهم، و صدعت أكبادهم، و قد كانوا في تلك الثلاثة أيام قد تحنّطوا و تكفّنوا و علموا أنّ العذاب نازل بهم، فماتوا أجمعون في طرفة عين صغيرهم و كبيرهم» . إلى أن قال: «ثمّ أرسل اللّه عليهم مع الصّيحة النّار من السّماء فأحرقتهم أجمعين» (2).

فَتَوَلّى صالح و أعرض عَنْهُمْ بعد هلاكهم وَ قالَ تحسّرا و تحزّنا عليهم: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي و دعوتكم إلى الحقّ وَ نَصَحْتُ لَكُمْ بالتّرغيب و التّرهيب، و بذلت جهدي في هدايتكم إلى ما فيه خيركم و صلاحكم وَ لكِنْ لمرارة الحقّ و ثقل النّصح عليكم، كنتم لا تُحِبُّونَ اَلنّاصِحِينَ و تستهزئون بي و بالمؤمنين.

عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: لمّا مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالحجر في غزوة تبوك-يعني: مواضع ثمود-قال

ص: 623


1- . في الكافي: قد أتانا.
2- . الكافي 8:187/214، تفسير الصافي 2:215.

لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم هذه القرية، و لا تشربوا من مائها، و لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين، إلاّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . ثمّ قال: «لا تسألوا رسولكم الآيات، فإنّ هؤلاء قوم صالح، سألوا رسولهم الآية، فبعث اللّه إليهم النّاقة، فكانت ترد من هذا الفجّ، و تصدر من هذا الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورودها» و أراهم مرتقى الفصيل [حيث ارتقى]، ثمّ أسرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله السّير حتّى جاوز الوادي (1).

في ذكر فضيلة

لأمير المؤمنين عليه السّلام

روى الفخر الرازي و غيره من العامّة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السّلام: «يا علي، أتدري من أشقى الأوّلين؟» قال: «اللّه و رسوله أعلم» ، قال: «عاقر ناقة صالح» ، ثمّ قال: «أتدري من أشقى الآخرين؟» قال: «اللّه و رسوله أعلم» . قال: «قاتلك» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 80 الی 84

ثمّ ذكر سبحانه قصّة قوم لوط و هلاكهم بقوله: وَ لُوطاً أرسلنا إلى قومه. قيل: كان ابن هاران أخي إبراهيم (3).

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ (84)و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أمّ إبراهيم و امّ لوط كانتا اختين، و هما ابنتا لاحج، و كان اللاحج نبيّا منذرا و لم يكن رسولا» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان لوط ابن خالة إبراهيم، و كانت سارة امرأة إبراهيم اخت لوط، و كان لوط و إبراهيم نبيّين منذرين» (5).

في كيفية دعوة

لوط

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إبراهيم خرج من بلاد نمرود و معه لوط لا يفارقه و سارة، إلى أن نزل بأعلى الشّامات، و خلّف لوطا بأدنى الشامات» (6).

و قيل: إنّ لوطا هاجر مع ابراهيم إلى الشّام، و نزل الاردنّ-و هو كورة بالشّام-فأرسله

ص: 624


1- . تفسير روح البيان 3:194.
2- . تفسير الرازي 14:163، تفسير روح البيان 3:195، تفسير الكشاف 2:121.
3- . تفسير روح البيان 3:195.
4- . الكافي 8:370/560، تفسير الصافي 2:217.
5- . علل الشرائع:549/4، تفسير الصافي 2:217.
6- . الكافي 8:371 و 373/4، تفسير الصافي 2:217.

اللّه إلى أهل سدوم و هو بلد بحمص (1).

و قيل: ارسل إلى خمسة بلاد أعظمها سدوم، و كان في كلّ بلد أربعة ألف ألف نفس، و كان لوط يأمرهم بالخيرات و ينهاهم عن الفواحش (2).

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ توبيخا لهم و إنكارا لعملهم القبيح عليهم: أَ تَأْتُونَ و ترتكبون الفعلة اَلْفاحِشَةَ و اللّواطة البالغة في القبح الغاية ما سَبَقَكُمْ بِها و ما بادر قبلكم إليها مِنْ أَحَدٍ من بني آدم مِنَ اَلْعالَمِينَ و القرون الأوّلين.

ثمّ صرّح بمراده من الفاحشة بقوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ و تنكحون اَلرِّجالَ و الذّكران شَهْوَةً و طلبا للذّة النّفس مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ و متجاوزين عن الزّوجات اللاتي خلقن لقضاء الشّهوة بهنّ، و ابيح التمتّع منهنّ. ثمّ أضرب عن التّوبيخ و ذمّهم بخبث الذّات و خفّة العقل بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و متجاوزون عن حدود العقل و الشّرع، أو متجاوزون في الفساد.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس، فإنّه أمكن من نفسه» (3).

و [في](الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام، في قوم لوط: «أن إبليس أتاهم في صورة حسنة فيها تأنيث، و عليه ثياب حسنة، فجاء إلى شبّان منهم، فأمرهم أن يقعوا به، و لو طلب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه؛ و لكن طلب إليهم أن يقعوا به، فلمّا وقعوا به التذّوه، ثمّ ذهب [عنهم]و تركهم، فأحال بعضهم على بعض» (4).

في قصة قوم

لوط

في (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: أنّ لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة، و كان نازلا فيهم و لم يكن منهم، يدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عن الفواحش، و يحثّهم على الطّاعة، فلم يجيبوه و لم يطيعوه، و كانوا لا يتطهّرون من الجناية، بخلاء أشحّاء على الطعام (5)، فأعقبهم البخل الدّاء الذي لا دواء له في فروجهم، و ذلك أنّهم كانوا على طريق السيّارة إلى الشّام و مصر، و كان ينزل بهم الضّيفان، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضّيف فضحوه، و إنّما فعلوا ذلك لتنكل (6)النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك، فأوردهم البخل هذا الدّاء حتّى صاروا يطلبونه من الرّجال و يعطون عليه الجعل، و كان لوط سخيّا كريما، يقري الضّيف إذا نزل به، فنهوه عن ذلك، فقالوا: (لا تقري ضيفا ينزل بك) ، فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك، فكان لوط إذا نزل به الضّيف كتم

ص: 625


1- . تفسير روح البيان 3:195.
2- . تفسير روح البيان 3:195.
3- . تفسير الصافي 2:217.
4- . الكافي 5:544/4، تفسير الصافي 2:217.
5- . في النسخة: على الضيافة.
6- . أي تدفع عنهم.

أمره مخافة أن يفضحه قومه، و ذلك أنّه لم يكن للوط عشيرة فيهم» (1).

و عن (العلل) و (العيّاشي) : مثله (2).

وَ ما كانَ جَوابَ لوط و أتباعه النّاهين عن الفاحشة من قَوْمِهِ بعد إبلاغهم النّصح شيئا إِلاّ أَنْ قالُوا فيما بينهم تخلّصا من مواعظ لوط و أتباعه: يا قوم أَخْرِجُوهُمْ جميعا مِنْ قَرْيَتِكُمْ و بلدكم إِنَّهُمْ أُناسٌ و جماعة يَتَطَهَّرُونَ من الرّذائل، و يتنزّهون من الخبائث و الفواحش، قيل: كانوا مستهزئين بهم (3)بهذا القول،

فاستحقّوا العذاب بطغيانهم و كفرهم و استخفافهم بلوط فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أتباعه المؤمنين به إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ و زوجته الكافرة إنّها كانَتْ مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في القرية غير المدركين للنّجاة. قيل: كانت تبطن الكفر و تغري الكفار على إنكار لوط (4)

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ من السّماء مَطَراً معجبا؛ لأنّه كان من الحجارة فَانْظُرْ و تأمّل أيّها العاقل، النّاظر في العواقب، و المتأمّل في الأمور كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُجْرِمِينَ و العاصين بالكفر و تكذيب الرّسل حتّى تعتبر بحالهم، و تحترز من أعمالهم.

في هلاك قوم

لوط

قيل: لمّا كثرت فيهم اللّواطة زمانا عجّت الأرض إلى ربّها، فسمعت السّماء فعجّت إلى ربّها، فسمع العرش فعجّ إلى ربّه، فأمر اللّه السّماء أن تحصبهم، و الأرض أن تخسف بهم، فأمطروا أوّلا بالحجارة، ثمّ خسفت بهم الأرض. و قيل: خسف بالمقيمين و امطرت الحجارة على مسافريهم.

روي أنّ تاجرا منهم كان في الحرم، فوقف له الحجر أربعين يوما حتّى قضى تجارته، و خرج من الحرم فوقع عليه (5).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 85

في قصة شعيب

و قومه

ثمّ ذكر سبحانه قصّة دعوة شعيب و معارضة قومه له و هلاكهم بقوله: وَ إِلى قبيلة مَدْيَنَ بن إبراهيم أرسلنا أَخاهُمْ في النّسب، و كان اسمه شُعَيْباً قيل: هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين، و إنّ مدين تزوّج ريثا بنت لوط فولدت له و كثر نسله،

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

ص: 626


1- . مجمع البيان 4:685، تفسير الصافي 2:218.
2- . علل الشرائع:548/4، تفسير العياشي 2:432/2339، تفسير الصافي 2:218.
3- . في النسخة: لهم.
4- . تفسير روح البيان 3:196.
5- . تفسير روح البيان 3:197، تفسير أبي السعود 3:246.

فصاروا قبيلة سمّوا باسم أبيهم، و إنّ شعيبا بكى من خشية اللّه حتّى ذهبت عيناه، و كان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعة قومه، و كانوا أهل بخس للمكيال و الميزان (1)، فدعاهم شعيب أوّلا إلى التّوحيد و قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ فإنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و خالق مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ، ثمّ استدلّ على صحّة نبوّته و صدق دعوته بمعجزته التي لا بدّ لكلّ نبيّ من إتيانها إثباتا لنبوّته بقوله: قَدْ جاءَتْكُمْ و ظهرت لكم بَيِّنَةٌ و معجزة باهرة مِنْ قبل رَبِّكُمْ تصديقا لنبوتّي.

أقول: لم نعثر على تفصيل معجزاته.

و قيل: إنّه كان إذا أراد الصّعود على الجبل العظيم انحطّ الجبل ليصعد عليه بسهولة، و كان يخبر بالمغيّبات.

ثمّ لمّا كان القبيح الشائع في زمانه في قومه البخس في المكيال و الميزان، بدأ بعد الدّعوة إلى التّوحيد بالنّهي عن البخس بقوله: فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ إذا أدّيتم حقوق النّاس به وَ اَلْمِيزانَ إذا وزنتموها وَ لا تَبْخَسُوا و لا تنقصوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ و حقوقهم مطلقا [سواء أ]كانت في المكيلات و الموزونات، أو في غيرهما وَ لا تُفْسِدُوا بالشّرك و تضييع الحقوق فِي اَلْأَرْضِ و لا تشيعوا الظّلم فيها بَعْدَ إِصْلاحِها من جانب اللّه ببعث الرّسل، و تشريع الأحكام، و إيجاب العدل ذلِكُمْ الإيفاء خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع في الدّنيا لإيجابه رغبة النّاس في معاملتكم و كثرة أرباحكم، و في الآخرة بغاية إكرامكم و إجزال ثوابكم على التّوحيد و العدل في الحقوق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بي و بدار الجزاء.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 86

ثمّ أنّه قيل: إنّ القوم كانوا إذا رأوا أحدا يريد شعيبا يقولون له: لا يفتننّك شعيب عن دينك فإنّه كذّاب، و كانوا يتوعّدون من آمن به، و قيل: إنّهم يقطعون الطّريق، فنهاهم عن ذلك بقوله: وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ و في كلّ طريق، حال كونكم تُوعِدُونَ و تهدّدون النّاس على الإيمان بي، أو تخوّفونهم على أنفسهم و أموالهم و قيل: إنّ المراد: و لا تقتدوا بالشّيطان في قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (2).

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (86)وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و تمنعون عن السّلوك في طريق عبوديّته بتحصيل معارفه و المداومة

ص: 627


1- . تفسير روح البيان 3:200.
2- . الأعراف:7/16.

على العمل بأحكامه مَنْ آمَنَ بِهِ و صدّق بربوبيّته و توحيده وَ تَبْغُونَها و تطلبون لها عِوَجاً و ميلا و انحرافا عن الاستقامة التي تكون للحقّ بإلقاء الشّبهات و الحيل و التّسويلات.

في كيفية دعوة

شعيب و محاجّته

ثمّ رغّبهم في الإيمان و الطاعة بقوله: وَ اُذْكُرُوا نعمة اللّه عليكم إِذْ كُنْتُمْ في بدو الأمر قَلِيلاً من حيث النّسل و المال فَكَثَّرَكُمْ فيهما بفضله و رحمته.

ثمّ وعظهم و هدّدهم على الكفر و المخالفة بقوله: وَ اُنْظُرُوا و تفكّروا في الأمم الماضية أنّه كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض منهم؛ كقوم نوح و عاد و ثمود، و اعتبروا بهم، و احذروا أن تكونوا مثلهم في الكفر و الشّقاق مع الرّسل و استحقاق عذاب الاستئصال.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 87 الی 90

ثمّ لمّا كان الكفّار يطعنون على المؤمنين بالفقر و يقولون لهم: لو كنتم على الحقّ لكان لكم القوّة و الثّروة، و حيث إنّ لنا الغنى و الشّوكة كان الحقّ معنا، ردّهم بأنّ الحقّ لمن كان له حسن العاقبة، و سلّى قلوب المؤمنين به، و هدّد الكفّار بالعذاب بقوله: وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من التّوحيد و دار الجزاء و أحكام اللّه و قوانينه المقرّرة في شرعه وَ طائِفَةٌ اخرى منكم لَمْ يُؤْمِنُوا بما جئت به إصرارا على الكفر، و لجاجا مع الحقّ فَاصْبِرُوا يا قوم و تربّصوا، و لا تغترّوا بما آتاكم اللّه في الدّنيا حَتّى يأتي الوقت الموعود، و هو يوم القيامة، أو وقت نزول عذاب الاستئصال، إذن يَحْكُمَ اَللّهُ بَيْنَنا و بينكم بالحق من نصري و نصر من معي و إعلاء درجاتنا، و خزي الكافرين و تعذيبهم وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ و أعدل القاضين، لا معقّب لحكمه، و لا رادّ لقضائه.

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اَللّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ (87) قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنّا كارِهِينَ (88) قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اَللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اَللّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ (89) وَ قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90)

في محاجة شعيب

مع قومه و كيفية

هلاك القوم

قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا عن قبول الحقّ مِنْ قَوْمِهِ بعد المواعظ الشافية و النّصائح البليغة: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ بالأصالة وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ

ص: 628

تبعا لك مِنْ قَرْيَتِنا و بلدنا بغضا لكم، و تخلّصا من زحمتكم و فتنتكم أَوْ لَتَعُودُنَّ و لترجعنّ فِي مِلَّتِنا من عبادة الأصنام.

و إنّما عبّروا عن الدخول في ملّتهم بالعود-مع أنّ شعيبا لم يكن على ملّتهم قطّ، لعدم جواز الكفر على الأنبياء-لاعتقادهم في حقّه الكفر قبل إظهاره الدّعوة إلى التّوحيد.

فلمّا سمع شعيب منهم هذا الكلام الشّنيع قالَ إنكارا عليهم و تعجّبا من قولهم: أنعود أَ وَ لَوْ كُنّا كارِهِينَ لملّتكم، متنفّرين من الدّخول في دينكم؟ ! لا يكون ذلك أبدا، فإنّه بعد حكم العقل الفطري بالتّوحيد، و شهادة جميع الموجودات، و انتظام العالم أحسن نظام، و اتّفاق جميع الأنبياء من أوّل الدّنيا عليه،

و على بطلان الشّرك و عبادة الأصنام قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اَللّهِ كَذِباً عظيما إِنْ أشركنا و عُدْنا كما تزعمون فِي مِلَّتِكُمْ الباطلة، و قلنا بأنّ اللّه اتّخذ لنفسه ندّا بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اَللّهُ مِنْها بتكميل عقولنا، و تهذيب أخلاقنا، و إلهامه إيّانا أنّه ليس كمثله شيء، و أنّ الأصنام لا تضرّ و لا تنفع.

ثمّ بالغ في الإنكار بقوله: وَ ما يَكُونُ جائزا لَنا بحكم العقل السّليم أَنْ نَعُودَ فِيها و نتديّن بها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ ضلالنا و خزينا، و لا يشاء ذلك أبدا؛ لأنّه رَبُّنا اللّطيف بنا و بجميع عباده، لا يريد لنا إلاّ ما يقرّبنا إليه، و يؤهّلنا لفضله و رحمته. و فيه الاعتراف بعجز نفسه عن تحصيل كلّ خير، و أنّ الهداية و الضّلالة بتوفيق اللّه و خذلانه.

ثمّ لمّا كان فضله متوقّفا على القابليّة و الاستعداد، و إثابته و تعذيبه على الإيمان و الكفر، و الطاعة و العصيان، و كلّها منوطة بعلمه بحقائق الأشياء و ضمائر عباده و أحوالهم و أعمالهم، أعلن بسعة علمه بقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ من القابليّات و الضمائر و الظّواهر عِلْماً (1)لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

ثمّ لما وعده الكفّار أن يخرجوه من بلدهم، أو يعيدوه في ملّتهم، أظهر اعتماده على اللّه بقوله: رَبَّنَا اِفْتَحْ و احكم بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ و بما نستحقّه وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ و أعدل الحاكمين تحلّ المعضلات و تفصل الأمور

وَ قالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ تثبيطا للنّاس عن اتّباعه: أيّها النّاس لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً و أمتثلتم ما أمركم به من الإيمان بتوحيد اللّه، و ترك البخس إِنَّكُمْ إِذاً ألبتّة لَخاسِرُونَ و متضرّرون في دنياكم لفوات نفع البخس عنكم، و في دينكم لترككم ما كان عليه آباؤكم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 91 الی 93

فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ اَلْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

ص: 629


1- . لم يرد في النسخة تفسير قوله تعالى: عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا .

فلمّا بالغوا في الضّلال و الإضلال استحقّوا عذاب الاستئصال فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ و الزلزلة الشّديدة الحاصلة من الصّيحة. عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: رجفت بهم الأرض و أصابهم حرّ شديد، فرفعت لهم سحابة فخرجوا إليها يطلبون الرّوح منها، فلمّا كانوا تحتها سالت عليهم بالعذاب و معه صيحة جبرئيل (1)فأحاط بهم العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ و بلد أمنهم جاثِمِينَ خامدين ساكنين لا حراك لهم.

عن الصادق عليه السّلام: «بعث اللّه عليهم صيحة واحدة فماتوا» (2).

ثمّ بيّن اللّه تعالى أن جثومهم كان على قولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ (3)بقوله: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً و هدّدوه بأن يخرجوه من القرية، أخرجهم اللّه منها بالإهلاك فصاروا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا و لم يقيموا بها مع قوّتهم و شوكتهم، فهم المخرجون منها بحيث أضمحلّت آثارهم منها دون شعيب. ثمّ ردّ اللّه عليهم قولهم: لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً (4)بقوله: اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ اَلْخاسِرِينَ دنيا و آخرة، لا الّذين اتّبعوا شعيبا

فَتَوَلّى و أعرض عَنْهُمْ شعيب بعد هلاكهم. و قيل: قبل ذلك. وَ قالَ يا قَوْمِ و اللّه لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ و أدّيت إليكم رِسالاتِ رَبِّي بأوفى بيان، بحيث لم يبق لكم العذر في ترك الإيمان، فلم تصدّقوني وَ نَصَحْتُ لَكُمْ أبلغ نصح، فلم تقبلوا منّي، و أنذرتكم من سوء عاقبة الكفر و العصيان، فلم تعتنوا بقولي فَكَيْفَ آسى و أتحزّن بعد ذلك كلّه عَلى هلاك قَوْمِ استحقّوا ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال لكونهم كافِرِينَ باللّه و رسله و دار الجزاء.

قيل: إنّه اشتدّ حزنه على قومه لكثرتهم، و قرابتهم، و طول الألفة (5)بهم، و توقّعه إجابتهم إلى قبول قوله (6).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 94 الی 95

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا اَلضَّرّاءُ وَ اَلسَّرّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

ص: 630


1- . تفسير روح البيان 3:203.
2- . مجمع البيان 4:693، تفسير الصافي 2:220.
3- . الأعراف:7/88.
4- . الأعراف:7/90.
5- . في النسخة: الفتنة.
6- . تفسير الرازي 14:183.

ثمّ عزّى نفسه بأنّهم أهلكوا أنفسهم بسوء اختيارهم و إصرارهم على الكفر، و مشاقّة اللّه و رسوله، فليسوا بأهل لأن يأسى و يحزن عليهم، ثمّ بيّن اللّه تعالى غاية لطفه بعباده، و أنّه لا يكتفي في هدايتهم بإرسال الرّسل، بل كان يوجد لهم منبّهات اخر بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ و محلّة قوم، بلدا كانت أو رستاقا (1)مِنْ نَبِيٍّ منذر لهدايتهم، فكذّبه أهلها إِلاّ أَخَذْنا و ابتلينا أَهْلَها و ساكنيها بِالْبَأْساءِ و الشّدائد من الفقر و الفّاقة وَ اَلضَّرّاءِ من الأمراض و الأوجاع. و قيل في تفسيرهما على العكس؛ لأجل أنّه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ و رجاء أنّهم يخشعون لنا و ينقادون لأوامرنا، فإنّ البلايا من الفقر و المرض ترقّ القلوب و تؤثّر الانكسار و التّواضع في النّفوس.

ثُمَّ إذا لم يتأدّبوا بالبلاء بَدَّلْنا ما كان من حالهم بأن أعطيناهم مَكانَ اَلسَّيِّئَةِ و البليّة التي كانت أصابتهم اَلْحَسَنَةَ من الرّخاء و السّعة و الصحّة، لتدعوهم النّعمة بعد النّقمة و الرّخاء بعد الشدّة إلى الشّكر و الخضوع و الطّاعة، فلم ينفعهم ذلك و بقوا على كفرهم و طغيانهم حَتّى عَفَوْا و كثروا عددا و عدة و نعمة وَ قالُوا جهلا بأنّ الشّدائد كانت لتأديبهم، و الإحسان إليهم بالنّعم كان لتنبيههم: إنّ هذه التّغييرات من عادة الزمان في أهله، و قَدْ مَسَّ و أصاب آباءَنَا و أجدادنا في سالف الزّمان البأساء مرّة، و اَلضَّرّاءُ اخرى وَ اَلسَّرّاءُ من النّعمة و الرّخاء ثالثة، فلم ينتقلوا عمّا كانوا عليه، فكونوا أنتم كما كان آباؤكم.

فلمّا لم ينتفعوا بتلك الأحوال المختلفة، و لم ينقادوا، بل اصرّوا على ما هم عليه من الكفر و الطّغيان و تكذيب الرّسل فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب بَغْتَةً و فجأة وَ هُمْ حال نزوله لا يَشْعُرُونَ به و لا يحتملون ابتلاءهم به، فكان عذابهم لعدم انتظارهم له أشدّ عليهم نكالا و أعظم حسرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 96

ثمّ دعا سبحانه النّاس إلى الإيمان و رغّبهم فيه بتنبيههم على فوائده بقوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى المهلكة بكفرهم و عصيانهم آمَنُوا بي و بوحدانيّتي، و صدّقوا رسلي الّذين أرسلناهم إليهم لهدايتهم، بدل كفرهم و تكذيبهم وَ اِتَّقَوْا المعاصي و السيّئات بدل ارتكابهم لها و انغمارهم فيها، و اللّه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ كثيرة مِنَ اَلسَّماءِ بالأمطار النافعة وَ من اَلْأَرْضِ بإنبات النّباتات الكثيرة و الثّمار و الزّروع، و إكثار المواشي و إدامة الأمن و السّلامة، و لوسّعنا عليهم جميع

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)

ص: 631


1- . الرّستاق: معرّب «روستاه» و هي القرية بالفارسية.

الخيرات، و يسّرناها لهم من كلّ جانب وَ لكِنْ الأسف كلّ الأسف أنّهم كَذَّبُوا الرّسل فيما جاءوا به من التّوحيد و الشّرائع، و استكبروا عن الإيمان بهم، و عتوا على ربّهم فَأَخَذْناهُمْ بعذاب الاستئصال، و أهلكناهم عن آخرهم، لا للتشفّي؛ لأنّه محال علينا، بل كان هلاكهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسعيهم من الكفر و المعاصي العظام الموجبين لاستحقاقهم ذلك في الدّنيا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 97 الی 99

ثمّ هدّد اللّه تعالى النّاس على كفرهم و عصيانهم بعذاب الاستئصال بأن أنكر عليهم الأمن منه بقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى من الكفّار أَنْ يَأْتِيَهُمْ و ينزل عليهم بَأْسُنا و عذابنا بَياتاً و ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ مستريحون لا يحتملون وقوع العذاب عليهم

أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى و حال ارتفاع الشّمس وَ هُمْ من غاية غفلتهم يَلْعَبُونَ و يشتغلون بما لا ينفعهم في الدّين و الدّنيا، بل يضرّهم كإنكار التّوحيد و تكذيب الرّسل، أو يصرفون هممهم في تحصيل الدّنيا.

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ (99)

ثمّ بالغ سبحانه في إنكار الأمن عليهم بقوله: أَ فَأَمِنُوا هؤلاء المكذّبون للرّسل مَكْرَ اَللّهِ و عذابه البغتي أو استدراجه لهم (1)فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ و أخذه فجأة إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ و المضرّون على أنفسهم بجهلهم باللّه و قدرته، و تركهم النّظر في عواقب الأمور، و عدم اعتبارهم من حال الامم الماضية و المهلكة، فإنّهم الّذين لا يخافون اللّه و عذابه.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 100

ثمّ نبّه اللّه تعالى على أنّ ذكر قصص الأنبياء و عصيان اممهم و إنزال العذاب على معارضيهم، كان لعبرة النّاس بقوله: أَ وَ لَمْ يَهْدِ و لم يتّضح لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ و يسكنونها و يعيشون فيها مِنْ بَعْدِ إهلاك أَهْلِها الذين كانوا ساكنين فيها، فعذّبوا بذنوبهم و طغيانهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أهلكناهم بكفرهم و أَصَبْناهُمْ بالعذاب بِذُنُوبِهِمْ كما أصبنا بالعذاب من قبلهم؟ لا و اللّه لا يهتدون؛ لأنّا نختم على أفئدتهم وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بكفرهم و إصرارهم عليها (2)فَهُمْ إذن لا

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)

ص: 632


1- . في النسخة: بهم.
2- . في النسخة: عليهم.

يَسْمَعُونَ مواعظ اللّه و آياته، و ما يقصّ عليهم من العبر سماع القبول، أو لا يعتنون بها كي ينتفعوا بها و يعتبروا منها، فكأنّهم لا يسمعونها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 101

ثمّ بيّن اللّه تعالى كيفيّة الطبع على القلوب بقوله: تِلْكَ اَلْقُرى الخمس التي نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ بعضا مِنْ أَنْبائِها و أخبارها التي فيها الغبطة و التّذكير وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، و مع ذلك طبع على قلوبهم فَما كانُوا بعد مجيء الرّسل، و مشاهدة المعجزات، و استماع المواعظ و التّهديدات لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ بل استمرّوا على كفرهم السّابق، و أصرّوا على ما كانوا عليه من التكذيب كَذلِكَ الطّبع الذي كان على قلوب أهالي القرى الخمس المهلكة الّذين مرّ ذكرهم يَطْبَعُ اَللّهُ و يختم عَلى قُلُوبِ جميع اَلْكافِرِينَ المصرّين على كفرهم من أهل عصرك و غيرهم، فلا يدخل في قلوبهم الإيمان، و لا تؤثّر فيها الآيات و النّذر، فلا يحزنك تكذيبهم و إعراضهم.

تِلْكَ اَلْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اَللّهُ عَلى قُلُوبِ اَلْكافِرِينَ (101)

في ذكر بعض اخبار

عالم الذر و الطينة

عن القمّي رحمه اللّه: لا يؤمنون في الدّنيا بما كذّبوا في الذرّ، و هو ردّ على من أنكر الميثاق في الذرّ الأوّل (1).

عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه خلق الخلق، فخلق من أحبّ ممّا أحبّ، و كان ما أحبّ أن خلقه من طينة الجنّة، و خلق من أبغض ممّا أبغض، [و كان ما أبغض]أن خلقه من طينة النّار، ثمّ بعثهم في الظّلال» . فقيل: و أيّ شيء الظّلال؟ قال: «أ لم تر إلى ظلّك في الشّمس؛ شيء و ليس بشيء، ثمّ بعث منهم النّبيّين فدعوهم إلى الإقرار باللّه، و هو قوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ (2)، ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيّين، فأقرّ بعضهم و أنكر بعض، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا، فأقرّ بها و اللّه من أحبّ و أنكرها من أبغض، و هو قوله: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ثمّ قال: «كان التّكذيب ثمّ» (3). و في رواية اخرى: «فمنهم من أقرّ بلسانة و لم يؤمن بقلبه، فقال اللّه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ» (4).

و عنهما عليهما السّلام: «بعث اللّه الرّسل إلى الخلق و هم في أصلاب الرّجال و أرحام النّساء، فمن صدّق

ص: 633


1- . تفسير القمي 1:236، تفسير الصافي 2:222.
2- . الزخرف:43/87.
3- . الكافي 2:8/3، تفسير الصافي 2:222.
4- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:222.

حينئذ صدّق بعد ذلك، و من كذّب حينئذ كذّب بعد ذلك» (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 102

ثمّ لمّا كان الكفّار عند مساس البأساء و الضرّاء، يعاهدون اللّه بقولهم: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (2)، عيّرهم سبحانة على نقض العهد بقوله: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ وفاء بعد عَهْدٍ عاهدوه مع حكم العقل بوجوبه.

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)ثمّ أكّد ذلك التّعيين بقوله: وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ و خارجين من حدود العقل و الدّين، و علمنا أغلبهم عن شكر ربّهم و طاعته آبين.

و قيل: إنّ المراد من العهد: نصب الأدلّة الدالّة على توحيده و رسالة رسوله.

و عن ابن مسعود قال: العهد هنا الإيمان، و الدليل عليه قوله تعالى: إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً (3)يعني: آمن و قال: لا إله إلاّ اللّه (4).

و قيل: إنّ المراد به: العهد الذي أخذه اللّه منهم في عالم الذرّ.

عن ابن عبّاس قال: يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم اللّه و هم في صلب آدم حيث قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5)، فلمّا أخذ اللّه منهم هذا العهد و أقرّوا به ثمّ خالفوا ذلك، صار كأنّه ما كان لهم عهد، فلهذا قال: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ (6)

العياشي: عن أبي ذرّ رضوان اللّه عليه قال: و اللّه، ما صدق أحد ممّن أخذ ميثاقه فوفى بعهد اللّه غير أهل بيت نبيّهم و عصابة قليلة من شيعتهم، و ذلك قول اللّه: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (7).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال لأبي بصير: يا أبا بصير، إنّكم وفيتم بما أخذ اللّه عليه ميثاقكم من ولايتنا، و إنّكم لم تبدّلوا بنا غيرنا، و لو لم تفعلوا لعيّركم اللّه كما عيّرهم حيث يقول جلّ ذكره: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (8).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّها نزلت في الشاكّ» (9).

ص: 634


1- . تفسير العياشي 2:282/1971، تفسير الصافي 2:223.
2- . يونس:10/22.
3- . مريم:19/87.
4- . تفسير الرازي 14:188.
5- . الأعراف:7/172.
6- . تفسير الرازي 14:188.
7- . تفسير العياشي 2:154/1601، تفسير الصافي 2:223.
8- . الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 2:223.
9- . الكافي 2:293/1، تفسير الصافي 2:223.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 103

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصّة موسى و دعوته، و مخالفة فرعون و غرقه بجنوده، و لمّا كان موسى أكثر معجزة و أقواها من سائر الأنبياء، و قصّته أشدّ تأثيرا في نفوس اليهود و النّصارى، بسطها بقوله: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ في بني إسرائيل و مملكة مصر مُوسى بن عمران ملتبسا بِآياتِنا الدالّة على رسالته إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر، قيل: اسمه وليد بن مصعب، و قيل: قابوس (1)وَ مَلاَئِهِ و أشراف مملكته، و إنّما خصّهم بالذّكر مع عموم رسالته لكون غيرهم تبعا لهم فَظَلَمُوا بالمعجزات و الآيات، و كفروا بِها حيث نسبوها إلى السّحر، وسعوا في الإفساد في أمر نبوّته و في الأرض فَانْظُرْ يا محمّد، أو أيّها العاقل بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض بالإفساد في أمر الرّسل.

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (103)ثمّ أنّه روى الصّدوق عن الباقر عليه السّلام-في حديث-: «ثمّ أنّ اللّه تعالى أرسل الأسباط اثني عشر بعد يوسف، ثمّ موسى و هارون إلى فرعون و ملئه إلى مصر وحدها» (2).

و روى العيّاشي: «أنّ فرعون بنى سبع مدائن يتحصّن فيها من موسى عليه السّلام، و جعل فيما بينها آجاما و غياضا (3)، و جعل فيها الأسد ليتحصّن بها من موسى، فلمّا بعث اللّه موسى عليه السّلام إلى فرعون فدخل المدينة، فلمّا رآه الأسد تبصبصت (4)و ولّت مدبرة، و لم يأت مدينة إلاّ انفتح له بابها، حتّى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه. قال: فقعد على بابه و عليه مدرعة (5)من صوف و معه عصاه، فلمّا خرج الآذن قال له موسى عليه السّلام استأذن لي على فرعون، فلم يلتفت إليه، قال: فمكث بذلك ما شاء اللّه يسأله أن يستأذن له، قال: فلمّا أكثر عليه قال له: أما وجد ربّ العالمين من يرسل غيرك؟ ! قال: فغضب موسى عليه السّلام فضرب الباب بعصاه، فلم يبق بينه و بين فرعون باب إلاّ انفتح، حتّى نظر فرعون إليه و هو في مجلسه، فقال: ادخلوه، فدخل عليه و هو في قبّة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا» (6).

و في رواية: «أنّ موسى و هارون أتيا باب فرعون، فضرب عصاه بالباب، ففزع فرعون فشاب رأسه فاستحيى فخضب بالسّواد (7)، فأذن لموسى في الدّخول، فدخل هو و أخوه هارون عليه» .

ص: 635


1- . تفسير روح البيان 3:210.
2- . كمال الدين:220/2، تفسير الصافي 2:223.
3- . الآجام: جمع أجمة، و هي الشجر الكثير الملتفّ، و الغياض: جمع غيضة، مجتمع الشجر في مغيض ماء.
4- . تبصبص الكلب: حرّك ذنبه.
5- . المدرعة: جبّة من صوف مشقوقة المقدّم.
6- . تفسير العياشي 2:154/1603، تفسير الصافي 2:224.
7- . تفسير الرازي 14:189، تفسير روح البيان 3:210.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 104 الی 108

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ من الرّسل مبعوث إليك مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ لأدعوك إلى عبادته، و أنهاك عن دعوى الالوهيّة، فقال فرعون: كذبت،

ما أنت برسول، فقال موسى عليه السّلام: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ قولا إِلاَّ اَلْحَقَّ و الصّدق.

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (108)ثمّ أخبر بأنّ له معجزة دالّة على صدقه بقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ و أتيت إليكم بِبَيِّنَةٍ واضحة و معجزة باهرة دالّة على صدقي مِنْ قبل رَبِّكُمْ فإذا تبيّن لك صدق رسالتي فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ و فكّهم من قيد العبوديّة، و خلّهم حتّى أذهب بهم إلى الأرض المقدّسة التي هي موطن آبائهم. قيل: كان يستعملهم في الأعمال الشاقّة لعدم اعترافهم بربوبيّته.

قالَ فرعون: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ و معجزة من عند إلهك الذي أرسلك فَأْتِ بِها و أظهرها إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى رسالتك حتّى نعلم بصدقك

فَأَلْقى موسى عليه السّلام عَصاهُ من يده على الأرض فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ و حيّة (1)عظيمة مُبِينٌ لا يشكّ أحد في أنّها ثعبان.

في رواية العيّاشي: «كان لها شعبتان، فإذا هي حيّة قد وقع إحدى الشّعبتين في الأرض و الشّعبة الاخرى في أعلى القبّة، قال: فنظر فرعون إلى جوفها و هو يلتهب نيرانا، قال: و أهوت إليه فأحدث و صاح: يا موسى خذها» (2).

وَ نَزَعَ موسى عليه السّلام بعد معجزة العصا يَدَهُ و أخرجها من جيبه أو جناحه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا خارقا للعادة لِلنّاظِرِينَ إليها.

روي أنّ موسى أرى فرعون يده و قال: ما هذه؟ فقال: يدك، ثمّ أدخلها جيبه و عليه مدرعة صوف و نزعها، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشّمس. و كان عليه السّلام آدم (3)شديد الأدمة (4).

و عن ابن عبّاس قال: كان لها نور ساطع يضيء ما بين السّماء و الأرض (5)

ص: 636


1- . في النسخة: و جثّة.
2- . تفسير العياشي 2:155/1603، تفسير الصافي 2:224.
3- . أدم: اشتدت سمرته، فهو آدم.
4- . تفسير روح البيان 3:211.
5- . تفسير الرازي 14:196.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 109 الی 116

فلمّا رأى فرعون هاتين المعجزتين و شاور مع أشراف (1)قومه في أمر موسى عليه السّلام قالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ في مجلس المشورة: إِنَّ هذا الرّجل المدّعي للرّسالة لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسّحر ماهر فيه،

يطلب السّلطنة يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ بوسيلة سحره مِنْ أَرْضِكُمْ و مملكتكم، و يجعل الحكومة فيها لبني إسرائيل، فلمّا سمع فرعون ذلك منهم قال لهم: فَما ذا تَأْمُرُونَ و بأيّ شيء تشيرون عليّ؟

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ و أخّر أمرهما، و لا تعجل في شأنهما وَ أَرْسِلْ الرّسل فِي اَلْمَدائِنِ و البلاد التي فيها السّحرة، حال كون رسلك حاشِرِينَ و جامعين من له علم بالسّحر

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بالسّحر حاذق فيه.

قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)عن العيّاشي: روي أنّه لم يكن في جلسائه يومئذ ولد سفاح، و لو كان لأمر بقتلهما. الخبر (2).

قيل: كان له مدائن فيها السّحرة المعدّة لوقت الحاجة إليهم، و لم يكن في زمان السّحرة أكثر من زمان موسى عليه السّلام.

في معارضة السحرة

مع موسى عليه السّلام

وَ جاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد إرسال الشّرطة إليهم و إحضارهم قالُوا : يا فرعون إِنَّ لَنا عندك لَأَجْراً عظيما ألبتّة إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ على موسى في عمل السّحر

قالَ فرعون: نَعَمْ إنّ لكم لأجرا جزيلا عندي وَ إِنَّكُمْ مع ذلك لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ عندي منزلة و مقاما.

قيل: إنّه قال لهم: تكونون أوّل من يدخل مجلسي، و آخر من يخرج منه.

نقل أنّه كان في المدائن أخوان ماهران في السّحر، فلمّا بلغهم أنّ فرعون طلبهم لمعارضة موسى عليه السّلام جاءوا إلى قبر أبيهم و قالوا: يا أبه، إنّ فرعون طلبنا لنعارض رجلين معهما عصا إذا ألقياها تصير ثعبانا يأكل كلّ ما يراه، و لذا ضيّقا على فرعون، قال أبوهم: انظروا هل تصير ثعبانا حال نوم

ص: 637


1- . كذا، و الظاهر: شاور أشراف.
2- . تفسير العياشي 2:156/1604، تفسير الصافي 2:225.

صاحبيها، فإن صارت ثعبانا عند نومهما فإنّه ليس من السّحر، و لا يقدر أهل العالم على معارضة الرّجلين. ثمّ حضر الأخوان مع أصحابهما-و كانوا أثني عشر ألفا، و قيل: سبعين ألفا-عند فرعون و قالوا ما قالوا، ثمّ ذكر الأخوان لأصحابهما ما وقع بينهما و بين أبيهما من السّؤال و الجواب، ففتّش السّحرة عن حال العصا وقت نوم موسى عليه السّلام، فعلموا أنّ موسى عليه السّلام إذا نام تصير العصا حيّة و تحرسه، فتردّد القوم و فتروا عن معارضته.

فجلس فرعون في قصره، و طلب موسى عليه السّلام، و أحضر السّحرة كي يعارضوه، و حضر عامّة أهل مصر، فاصطفّ السّحرة في جانب و قام، موسى و هارون عليهما السّلام في جانب آخر، فتقدّم السّحرة إليهما (1)

و قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أوّلا وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ حبالنا و عصيّنا أوّلا، فجعلوا الاختيار لموسى في السّبقة إلى الإلقاء.

قيل: كان سبب إيمانهم تأدّبهم مع موسى عليه السّلام (2).

قيل: في تغيير النّظم إشعار بميلهم إلى كونهم السّابقين في الإلقاء (3).

قالَ لهم موسى تأكيدا لأمر المعجزة: أَلْقُوا انتم، أولا حبالكم و عصيّكم فَلَمّا أَلْقَوْا ما معهم سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ و خيّلوا إليهم ما لا حقيقة له وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ و بالغوا في إرعابهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .

روي أنّهم جمعوا حبالا غلاظا و خشبا طوالا كأنّها حيّات جسام غلاظ، و لطّخوا تلك الحبال بالزّئبق، و جعلوا الزّئبق داخل تلك العصيّ، فلمّا أثّرت حرارة الشّمس فيها تحرّكت و التوى بعضها على بعض، و كانت كثيرة جدّا، فتخيّل النّاس أنّها تتحرّك و تلتوي باختيارها، و صار الميدان كأنّه مملوء بالحيّات (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 117 الی 122

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك، فألقاها فَإِذا هِيَ صارت حيّة عظيمة تَلْقَفُ و تبلع ما يَأْفِكُونَ و يزوّرون.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ اَلْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)

ص: 638


1- . تفسير روح البيان 3:212 و 213.
2- . تفسير روح البيان 3:213.
3- . تفسير الرازي 14:202.
4- . تفسير روح البيان 3:213.

روي [أنّها]لما تلقّفت حبالهم و عصيّهم و ابتلعتها بأسرها، أقبلت على الحاضرين فهربوا، و ازدحموا حتّى هلك منهم جمع كثير لا يعلم عددهم إلاّ اللّه. ثمّ أخذها موسى و صارت عصا كما كانت، و أعدم اللّه بقدرته القاهرة تلك الأجرام العظام، و قيل: فرّقها أجزاء لطيفة، فقالت السّحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا و عصيّنا (1).

فَوَقَعَ ما هو اَلْحَقُّ الثابت في الواقع، و ظهر صدق موسى عليه السّلام وَ بَطَلَ و أضمحلّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السّحر،

و أمّا فرعون و ملؤه فَغُلِبُوا في مجلسهم هُنالِكَ بحيث لم تكن غلبته أظهر من ذلك وَ اِنْقَلَبُوا و رجعوا عن معارضته إلى محالّهم صاغِرِينَ بحيث لا صغار و لا ذلّ في حقّ مبطل مثل ذلك

وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ و خرّوا على الأرض ساجِدِينَ بالشدّة كأنّه ألقاهم ملق، إظهارا لبهور الحقّ و عدم تمالكهم من قبوله، و إعلاما بكسر فرعون بإيمان الّذين أتى بهم لكسر موسى عليه السّلام، و انقلاب الأمر عليه.

استدلّ المتكلّمون بهذه الآية على غاية فضيلة العلم؛ لأنّ السّحرة لعلمهم بحقيقة السّحر و منتهاه علموا أنّ ما أتاه موسى عليه السّلام خارج عن السّحر، و أنّه من المعجزات الإلهية لا من التمويهات البشرية،

و لذا قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ و لو لم يكونوا كاملين في علم السّحر لم يمكنهم الاستدلال بتلك المعجزة لاحتمال كونها السّحر الكامل.

ثمّ لمّا كان في كلامهم «ربّ العالمين» ، و كان فرعون مدّعيا للرّبوبيّة أوضحوه بقوله: رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ فإنّ فرعون و إنّ ربّى موسى في صغره فإنّه لم يربّ هارون.

قيل: إنّهم لمّا قالوا: آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ قال فرعون: إياي عنوا، فلمّا قالوا: رَبِّ مُوسى قال: إيّاي عنوا، لأنّي ربّيت موسى، فلمّا قالوا: وَ هارُونَ زالت الشّبهة، و عرف الكلّ أنّهم كفروا بفرعون (2).

و قيل: إنّما خصّوهما بالذّكر تفضيلا و تشريفا لهما (3).

عن ابن عبّاس: آمنت السّحرة و اتّبع موسى عليه السّلام من بني إسرائيل ستمائة ألف (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 123

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)

ص: 639


1- . تفسير روح البيان 3:213.
2- . تفسير الرازي 14:206.
3- . تفسير الرازي 14:207.
4- . تفسير روح البيان 3:214.

ثمّ قالَ فِرْعَوْنُ للسّحرة بعد إيمانهم لموسى عليه السّلام إنكارا عليهم و توبيخا لهم: آمَنْتُمْ بِهِ و صدّقتموه في دعوى رسالته قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان به، مع أنّكم عبيدي، و لم يجز لكم عمل بغير إذني إِنَّ هذا الصّنيع البتّة لَمَكْرٌ عظيم مَكَرْتُمُوهُ و حيلة واضحة احتلتموها أنتم و موسى فِي هذه اَلْمَدِينَةِ قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها بذلك المكر أَهْلَها و ساكنيها من القبط و تخلّى لكم و لبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ جزاء مكركم و صنيعكم، و عن قريب تدرون سوء عاقبة عملكم.

قيل: إنّ فرعون لمّا رأى إيمان السّحرة بموسى عليه السّلام حجّة قوية على صحّة نبوّته، ألقى الشّبهة في ذلك بقوله إِنَّ هذا لَمَكْرٌ يعني أنّ إيمانهم به ليس إلاّ لتواطئهم مع موسى على ذلك، و غرضهم منه انقراض سلطنة القبط، و إخراجهم من مصر.

و عن ابن مسعود، و ابن عبّاس: أنّ موسى و أمير السّحرة التقيا، فقال له موسى عليه السّلام: أ رأيتك إن غلبتك أتؤمن بي و تشهد أنّ ما جئت به الحقّ؟ قال السّاحر: لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه سحر، فو اللّه لئن غلبتني لأؤمننّ بك، و فرعون ينظر إليهما و يسمع قولها. فهذا هو قول فرعون إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 124 الی 127

ثمّ فصل ما أجمله أوّلا من التّهديد بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ من طرف وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ذلك الطّرف ثُمَّ بعد ذلك لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ على جذوع النّخل تفضيحا لكم، و تنكيلا و عبرة لأمثالكم.

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَ قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)قيل: هو أوّل من سنّ ذلك، فشرعة اللّه تعالى لقطّاع الطّريق تعظيما لجرمهم (2).

ثمّ لمّا سمع السّحرة هذا التهديد الشديد قالُوا إعلاما بثباتهم على دينهم، و عدم مبالاتهم بالموت، و القتل، بل شغفهم على لقاء اللّه: إِنّا إِلى رَبِّنا و رحمته الواسعة مُنْقَلِبُونَ راجعون، إن

ص: 640


1- . تفسير الرازي 14:208.
2- . تفسير روح البيان 3:214.

فعلت بنا ذلك.

قيل: إنّ المراد: أنا نموت لا محالة قتلتنا أم لا، فلا نبالي بوعيدك (1)، أو أنّا و إيّاكم جميعا ننقلب إلى اللّه، فيحكم بيننا و بينكم وَ ما تَنْقِمُ مِنّا و لا تغضب علينا، أو لا تنكر منّا و لا تعيب علينا لجهة من الجهات إِلاّ لأجل أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا و معجزاته التي أجراها على يد موسى عليه السّلام لَمّا جاءَتْنا و شاهدناها، و هذا الإيمان بحكم العقل عين الصّواب و كلّ المنقبة.

عن ابن عبّاس: يريد: ما أتينا بذنب تعذّبنا عليه إلاّ أن آمنّا بآيات ربّنا من المعجزات الجارية على يد موسى عليه السّلام (2).

ثمّ أعرضوا عن فرعون و توجّهوا إلى اللّه و تضرّعوا إليه و قالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ و أفض عَلَيْنا وصب في قلوبنا صَبْراً كاملا كثيرا-كما يصبّ الماء في الإناء-حين القطع و الصّلب وَ تَوَفَّنا و أقبض أرواحنا حال كوننا مُسْلِمِينَ و لأوامرك و أوامر رسولك منقادين، و بتوحيدك و بما جاء به موسى عليه السّلام متديّنين.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ فرعون قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، ثمّ صلبهم على شاطئ نيل مصر (3).

ثمّ روي أنّ فرعون بعد ما رأى من موسى عليه السّلام ما رأى من معجزة العصا و اليد البيضاء، خافه خوفا شديدا، و لذا لم يجب و لم يتعرّض له بسوء، بل خلّى سبيله (4).

وَ لذا قالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ اعتراضا و إنكارا عليه: أَ تَذَرُ و تترك مُوسى وَ قَوْمَهُ من بني إسرائيل الّذين تبعوه على دينه لِيُفْسِدُوا على النّاس دينهم فِي هذه اَلْأَرْضِ و هذا البلد وَ يَذَرَكَ و يتركك وَ آلِهَتَكَ و معبوداتك-قيل: كان يعبد الكواكب (5)، و قيل: إنّه صنع لقومه أصناما على صورته، و أمرهم أن يعبدوها تقرّبا إليه (6)-فأجابهم فرعون و قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ كما كنّا نقتّلهم قبل مجيء موسى وَ نَسْتَحْيِي و نبقي نِساءَهُمْ أحياء لنستخدمهنّ كما [كنّا]

نستخدمهنّ فيما قبل وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ و على ما يزيد في حقّهم مقتدرون، و على مملكة مصر مستقلّون، كما كنّا كذلك من قبل، و بنو إسرائيل تحت أيدينا في ذلّ الأسر و الهوان كما كانوا كذلك، فلم تتغيّر حالنا و حالهم بغلبة موسى علينا بالسّحر. فلمّا فشا هذا

ص: 641


1- . تفسير روح البيان 3:214.
2- . تفسير الرازي 14:209.
3- . تفسير روح البيان 3:215.
4- . تفسير روح البيان 3:215.
5- . تفسير روح البيان 3:215.
6- . تفسير روح البيان 3:215.

التّهديد من فرعون في بني إسرائيل خافوا منه خوفا شديدا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 128 الی 129

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ و أتباعه تسلية لهم، و تقوية لقلوبهم: يا قوم، لا تخافوا و لا تحزنوا، و اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ و استنصروا منه في دفع تعدّيات فرعون و قومه، و توكّلوا على اللّه وَ اِصْبِرُوا على ما أصابكم في سبيله، و لا تصغوا إلى ما قال فرعون من الأباطيل إِنَّ هذه اَلْأَرْضَ التي يدّعي فرعون السّلطنة فيها لِلّهِ خاصّة لا لفرعون و غيره، و هو تعالى يُورِثُها و يسلّط على التصرّف فيها مَنْ يَشاءُ سلطنته مِنْ عِبادِهِ إلى أجل معلوم، ليس الأمر بيد فرعون وَ اَلْعاقِبَةُ المحمودة من الغلبة و النّصرة و خير الآخرة لِلْمُتَّقِينَ و المنزّهين من الشّرك و العصيان، و أنتم منهم، و فيه وعد بالنّصر و إهلاك القبط.

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)عن الباقر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب عليّ عليه السّلام: إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أنا و أهل بيتي الّذين أورثنا اللّه الأرض، و نحن المتّقون، و الأرض كلّها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فعمّرها فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، و له ما أكل منها حتّى يظهر القائم من أهل بيتي» الخبر (1).

فلم تستكن قلوب بني إسرائيل من الاضطراب، و لذا قالُوا : يا موسى، قد كنّا أُوذِينا من ظلم فرعون و قومه مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرّسالة وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا رسولا.

عن القمّي رحمه اللّه قال: قال الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام: قد أوذينا قبل مجيئك يا موسى بقتل أولادنا، و من بعد ما جئتنا. لمّا حبسهم فرعون لإيمانهم بموسى عليه السّلام (2).

فلمّا رأى موسى شدّة خوف قومه من تهديدات فرعون، و عدم تسكين قلوبهم بما أشعر به في كلامه السّابق من الوعد بهلاك فرعون و نصرتهم عليه، صرّح بما كنّى عنه بقوله: قالَ عَسى رَبُّكُمْ اللّطيف بكم، و أرجو منه أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ و يمكّنكم بعد إهلاكه فِي

ص: 642


1- . تفسير العياشي 2:157/1608، تفسير الصافي 2:228.
2- . تفسير القمي 1:237، تفسير الصافي 2:228.

هذه اَلْأَرْضِ التي تمكّن فيها، و تستريحون في محلّ راحته من بأسه فَيَنْظُرَ و يرى أنّكم بعد تلك النّعمة العظيمة عليكم كَيْفَ تَعْمَلُونَ أتطيعونه أو تعصونه، أو تشكرونه أو تكفرونه؟ فيجازيكم حسبما يظهر منكم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 130

ثمّ بيّن اللّه تعالى غاية لطفه بفرعون و قومه بإنزال المحن و الشّدائد عليهم حالا بعد حال ليؤدّبهم و يردعهم عن ما هم عليه من الكفر و الطّغيان بقوله: وَ لَقَدْ أَخَذْنا و ابتلينا آلَ فِرْعَوْنَ و قومه بِالسِّنِينَ المجدبة-كما عن القمي (1)-أو القحط وَ نَقْصٍ كثير مِنَ اَلثَّمَراتِ بإنزال الآفات الكثيرة على بساتينهم و أشجارهم، تأديبا لهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ و يتنبّهون أنّ ذلك بشؤم ما هم عليه من التمرّد و الطّغيان و الكفر و العصيان.

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)قيل: إنّ السّنين و القحط و الجوع كان لأهل البوادي، و نقص من الثّمرات كان لأهل القرى (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 131

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ تلك المحن مع أنّها لم توجب تنبّههم و اتّعاظهم، و لم تؤثّر في قلوبهم الرّقة و الخشوع، زادتهم عتوا بقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ من قبل اللّه اَلْحَسَنَةُ من الخصب و السّعة و الصحّة قالُوا لَنا هذِهِ الحسنة، و بحسن إقبالنا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من قحط و مرض و ضرر يَطَّيَّرُوا و يتشاءموا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ و تبعه في الدّين-القمّي رحمه اللّه قال: الحسنة هاهنا: الصحّة و السلامة و الأمن و السّعة، و السيئة هنا الجوع و الخوف و المرض (3).

فَإِذا جاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)أَلا إِنَّما يكون طائِرُهُمْ و ما به خيرهم و شرّهم و نفعهم و ضرّهم عِنْدَ اَللّهِ و بإرادته و مشيئته، لا فاعل لها غيره تعالى وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ما يصيبهم بقضاء اللّه و إرادته و بشؤم أعمالهم، و من يعلمه قليل منهم، و لكن لا يعلمون بمقتضاه.

و عن ابن عبّاس قال: إنّما طائرهم ما قضى عليهم و قدّر لهم (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 132 الی 137

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفانَ وَ اَلْجَرادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفادِعَ وَ اَلدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

ص: 643


1- . تفسير القمي 1:237، تفسير الصافي 2:228.
2- . تفسير روح البيان 3:217.
3- . تفسير القمي 1:237، تفسير الصافي 2:229.
4- . تفسير الرازي 14:216.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إسنادهم الحوادث إلى عادة الدّهر و شؤم موسى، حكى مبالغتهم في الإصرار على تكذيب موسى عليه السّلام، و لجاجهم معه، و إنكار معجزاته و إسنادها إلى السّحر بقوله: وَ قالُوا بعد مشاهدتهم المعجزات، من العصا و اليد البيضاء و القحط و نقص الثّمرات و غيرها: يا موسى مَهْما تَأْتِنا بِهِ و أيّ ما تظهر لنا مِنْ آيَةٍ و فعلة عجيبة لِتَسْحَرَنا بِها و تسكّر أبصارنا و تموّه علينا فَما نَحْنُ لَكَ في دعوى رسالتك و إعجاز ما أتيت به بِمُؤْمِنِينَ و مصدّقين،

فغضب موسى فدعا عليهم فَأَرْسَلْنا بدعائه عَلَيْهِمُ اَلطُّوفانَ وَ اَلْجَرادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفادِعَ وَ اَلدَّمَ حال كون المذكورات آياتٍ مُفَصَّلاتٍ و علامات بيّنات بحيث لم يكن يشكّ فيها أحد. و قيل عنى بالمفصّلات متفرّقات منفصلات لامتحان أحوالهم قيل: كان امتداد كلّ اسبوعا، و بين كلّ آيتين سنة، و قيل: شهر.

فَاسْتَكْبَرُوا و ترفّعوا مع ذلك على الإيمان بموسى وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ و معاندين للحقّ. عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ القوم لمّا قالوا [لموسى عليه السّلام]: مهما تأتنا به من آية من ربّك، فهي عندنا من باب السّحر، و نحن لا نؤمن بها البتّة، و كان موسى عليه السّلام رجلا حديدا (1)، فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب اللّه له، فأرسل عليهم الطّوفان الدّائم ليلا و نهارا سبتا إلى سبت، حتّى كان الرّجل منهم لا يرى شمسا و لا قمرا، و لا يستطيع الخروج من داره، و جاءهم الغرق فصرخوا إلى فرعون و استغاثوا به، فأرسل إلى موسى عليه السّلام و قال: اكشف عنّا العذاب، فقد صارت مصر بحرا واحدا، فإن كشفت هذا العذاب آمنّا بك، فأزال اللّه عنهم المطر، و أرسل الرّياح فجفّفت الأرض، و خرج من النبات ما لم يروا مثله قطّ.

فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنّا لا نشعر، فلا و اللّه لا نؤمن بك و لا نرسل معك بني إسرائيل، فنكثوا العهد، فأرسل اللّه عليهم الجراد فأكل النّبات، و عظم الأمر عليهم، حتّى صارت عند طيرانها تغطّي الشّمس، و وقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا فأكلت النّبات، فصرخ أهل مصر، فدعا

ص: 644


1- . الحديد من الحدّة: ما يعتري الإنسان من الغضب.

موسى عليه السّلام فأرسل اللّه ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر.

فنظر أهل مصر إلى أنّ بقيّة من كلئهم و زرعهم تكفيهم فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا و لا نؤمن بك، فأرسل اللّه بعد ذلك عليهم القمّل سبتا إلى سبت، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلاّ أكلته، فصاحوا، فسأل موسى عليه السّلام ربّه فأرسل اللّه عليها ريحا حارّة فأحرقتها و احتملتها الريح إلى البحر، فلم يؤمنوا، فأرسل اللّه عليهم الضّفادع بعد ذلك، فخرجت من البحر مثل اللّيل الدّامس، و وقعت في الثّياب و الأطعمة، فكان الرّجل منهم يسقط و على رأسه ذراع من الضّفادع، فصرخوا إلى موسى عليه السّلام و حلفوا بالهه: لئن رفعت عنّا هذا العذاب لنؤمننّ بك، فدعا اللّه تعالى فأمات الضّفادع، و أرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر.

ثمّ أظهروا الكفر و الفساد، فأرسل اللّه عليهم الدّم فجرت أنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب، و بنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيّب، حتّى بلغ منهم الجهد فصرخوا، و ركب فرعون و أشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل، فجعل يدخل الرّجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دما، و مكثوا سبعة أيام في ذلك لا يشربون إلاّ الدّم، فقال فرعون: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ الآية (1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا سجد السّحرة و آمن به النّاس، قال هامان لفرعون: إنّ النّاس قد آمنوا بموسى، فانظر من دخل في دينه فاحبسه، فحبس كلّ من آمن به من بني إسرائيل، فجاء إليه موسى عليه السّلام فقال له: خلّ عن بني إسرائيل، فلم يفعل، فأنزل اللّه عليهم في تلك السّنة الطّوفان، فخرّب دورهم و مساكنهم حتّى خرجوا إلى البريّة و ضربوا الخيام، فقال فرعون لموسى: ادع [لنا]ربّك حتّى يكفّ عنّا الطّوفان حتّى اخلّي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى عليه السّلام ربّه، فكفّ عنهم الطّوفان، و همّ فرعون أن يخلّي عن بني إسرائيل، فقال له هامان: إن خلّيت عن بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك، فقبل منه و لم يخلّ عن بني إسرائيل.

فأنزل اللّه عليهم في السّنة الثانيّة الجراد، فجردت كلّ شيء كان لهم من النّبت و الشّجر حتّى كانت تجرد شعرهم و لحاهم، فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا و قال: يا موسى، ادع ربّك أن يكفّ عنّا الجراد حتّى اخلّي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى عليه السّلام ربّه فكفّ عنهم الجراد، فلم يدعه هامان أن يخلّي عن بني إسرائيل.

فأنزل اللّه عليهم في السنة الثالثة القمّل، فذهبت زروعهم و أصابتهم المجاعة، فقال فرعون لموسى عليه السّلام: إن دفعت عنّا القمّل كففت عن بني إسرائيل، فدعا موسى عليه السّلام ربّه حتّى ذهب القمّل» .

ص: 645


1- . تفسير الرازي 14:217.

و قال: «أوّل ما خلق اللّه القمّل في ذلك الزّمان، فلم يخلّ عن بني إسرائيل، فأرسل اللّه عليهم بعد ذلك الضّفادع، فكانت تكون في طعامهم و شرابهم و يقال إنّها تخرج من أدبارهم و آذانهم و آنافهم، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا، فجاءوا إلى موسى عليه السّلام فقالوا: ادع اللّه يذهب عنّا الضّفادع، فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى عليه السّلام ربّه، فرفع اللّه عنهم ذلك.

فلمّا أبوا أن يخلّوا عن بني إسرائيل حوّل اللّه ماء النيل دما، فكان القبطيّ يراه دما، و الاسرائيلي يراه ماء، فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، و إذا شربه القبطيّ يشربه دما، فكان القبطيّ يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبّة في فيّ، فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دما، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فقالوا لموسى عليه السّلام: لئن رفع عنّا الدّم لنرسلنّ معك بني إسرائيل، فلمّا رفع اللّه عنهم الدّم غدروا و لم يخلّوا عن بني إسرائيل» (1)الخبر.

و قيل: إنّ المراد بالطّوفان الموت (2).

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الطّوفان هو الموت» (3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما الطّوفان؟ فقال: «هو طوفان الماء و الطّاعون» (2).

و عن سعيد بن جبير: كان إلى جنبهم كثيب أعفر (3)، فضربه موسى عليه السّلام بعصاه فصار قمّلا، فأخذت في أبشارهم و أشعارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم، و لزم جلودهم كأنّه الجدري، فصاحوا و صرخوا و فزعوا إلى موسى عليه السّلام فرفع عنهم فقالوا: قد تيقّنّا الآن أنّك ساحر عليم، و عزّة فرعون لا نؤمن لك أبدا (6).

و قيل: إنّ المراد بالقمّل الجراد الصّغار الذي لا أجنحة له (7).

و قيل: إنّ المراد بالدّم أنّه تعالى سلّط عليهم الرّعاف (8) .

ثمّ أنّه روي أنّ موسى عليه السّلام مكث فيهم بعدما غلب السّحرة عشرين سنة يريهم الآيات، ثمّ لمّا أصرّوا على الكفر و الطّغيان نزل عليهم الرجز، قيل: هو الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب، و قيل: هو الطّاعون، قال به سعيد بن جبير، و قال: فمات به من القبط تسعون (4)ألف إنسان في يوم واحد، فتركوا غير مدفونين (5).

و في الرّواية السابقة، عن الباقر عليه السّلام: «فأرسل اللّه عليهم الرّجز؛ و هو الثّلج، و لم يروه قبل ذلك،

ص: 646


1- . تفسير القمي 1:237، و في مجمع البيان 4:721، و تفسير الصافي 2:230 عن الباقر و الصادق عليهما السّلام. (2 و 3) . تفسير الرازي 14:218.
2- . تفسير العياشي 2:157/1609، تفسير الصافي 2:229.
3- . الكثيب الأعفر: الرّمل الأحمر، أو الأبيض القليل البياض. (6-7) . تفسير الرازي 14:218.
4- . في تفسير الرازي: سبعون.
5- . تفسير الرازي 14:219.

فماتوا فيه و جزعوا و أصابهم ما لم يعهدوه قبله» الخبر (1).

وَ لَمّا وَقَعَ و نزل عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ من السّماء فزعوا إلى موسى عليه السّلام فزع الامّة إلى نبيّها و قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ متوسّلا بِما عَهِدَ عِنْدَكَ من النّبوّة. و قيل: إنّ (الباء) للقسم، و المعنى: نقسمك بعهد اللّه الذي عندك (2)، أو نقسم به لَئِنْ كَشَفْتَ و رفعت عَنَّا اَلرِّجْزَ و العذاب لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ البتّة، و نصدّقك في رسالتك وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ تذهب بهم أينما شئت

فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ و لكن لا مطلقا، بل إِلى أَجَلٍ و حدّ معيّن من الزّمان هُمْ بالِغُوهُ فإذا بلغوه نهلكهم، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ و ينقضون العهد مبادرين إليه.

و في الحديث السابق عن الباقر عليه السّلام: «فدعا ربّه فكشف عنهم الثّلج، فخلّى عن بني إسرائيل، فلمّا خلّى عنهم اجتمعوا إلى موسى عليه السّلام، و خرج موسى من مصر و اجتمع إليه من كان هرب من فرعون، فبلغ فرعون ذلك فقال له هامان: قد نهيتك عن أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد اجتمعوا إليه، فجزع فرعون و بعث في المدائن حاشرين و خرج في طلب موسى» (3)، فآل أمره إلى الغرق.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 136 الی 137

ثمّ أخبر اللّه تعالى بإنجازه وعد موسى عليه السّلام لبني إسرائيل من قوله: «عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم و يستخلفكم في أرض مصر» بقوله: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ و أخذناهم بذنب نكثهم العهد، أو سلبنا عنهم النّعمة بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ و بحر القلزم، و كان قريبا من مصر بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا و براهين توحيدنا، و معجزات رسولنا وَ كانُوا عَنْها معرضين كأنّهم كانوا عنها غافِلِينَ * وَ أَوْرَثْنَا و ملّكنا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ و يقهرون و يستذلّون بذبح أبنائهم و استخدام نسائهم مَشارِقَ اَلْأَرْضِ المقدّسة من الشام و مصر وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب و وفور النّعم و الأمن، فتملّكوها بعد الفراعنة و تمكّنوا فيها بالتصرّف و الاستراحة وَ تَمَّتْ و انجزت

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

ص: 647


1- . تفسير القمي 1:238، تفسير الصافي 2:231.
2- . كذا، و في تفسير الرازي 14:220 أقسمنا بعهد اللّه عندك.
3- . تفسير القمي 1:238، تفسير الصافي 2:231.

بذلك الإهلاك و التّوريث كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى و وعده بالنّصر، و الغلبة على الأعداء، و توريث الأراضي المقدّسات عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ مع غاية ضعفهم و ذلّهم و أسرهم في أيدي الفراعنة بِما صَبَرُوا على الشّدائد و المحن التي أصابوها منهم وَ دَمَّرْنا و خرّبنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ من القبط من العمارات و القصور العالية وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ و يرفعون من جنّات الكروم و الأشجار المحتاجة إلى العريش، أو من الأبنية الرّفيعة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 138 الی 139

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمه الجسام على بني إسرائيل، ذكر نعمة مجاوزتهم من البحر مع السّلامة، و كفرانهم لتلك النّعم لغاية جهلهم؛ بقوله: وَ جاوَزْنا و عبرنا بإعجاز موسى عليه السّلام و كرامته بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ القلزم بعد إغراق فرعون و قومه فيه، و إهلاكهم فَأَتَوْا و مرّوا عَلى قَوْمٍ من العمالقة الكنعانيّين-على قول-أو على قبيلة في نواحي مصر، فرأوهم يَعْكُفُونَ و يواظبون عَلى عبادة أَصْنامٍ كانت لَهُمْ فلمّا شاهدوهم على ذلك قالُوا لفرط جهلهم، و غاية سفههم: يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا صنما أيضا ليكون لنا إِلهاً و معبودا نعبده كَما يكون لَهُمْ من الأصنام آلِهَةٌ و معبودات يعبدونها. فغضب موسى من قولهم و قالَ لهم: يا قوم إِنَّكُمْ في الحقيقة قَوْمٌ تَجْهَلُونَ و تفرطون في السّفه

إِنَّ هؤُلاءِ القوم العاكفين على الأصنام مُتَبَّرٌ و مهلك ما هُمْ فِيهِ من الدّين الفاسد، حيث إنّ اللّه يذهب به و يبيد أصنامهم وَ باطِلٌ و مضمحلّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها، لا يترتّب عليه نفع في الدّنيا و لا في الآخرة، و إن كانوا متقرّبين به الى اللّه، لأنّه محض الكفر. و الحاصل أنّه لا أصنامهم تبقى و لا دينهم ينفع.

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 140 الی 141

ثمّ أنكر عليهم عبادة الأصنام بعد مشاهدتهم آيات وحدانية اللّه و عظام نعمه بقوله: قالَ أَ غَيْرَ اَللّهِ من الأصنام و الجمادات أَبْغِيكُمْ و أطلب لكم إِلهاً و معبودا وَ هُوَ الذي خصّكم بنعمه

ص: 648

الجسام، و فَضَّلَكُمْ بتلك الخصائص عَلَى اَلْعالَمِينَ فإنّه تعالى لم يعط أحدا من الخلق ما أعطاكم من الآيات الباهرات و المعجزات القاهرات، لا و اللّه لا يجوز لي الابتغاء و لا لكم الاشتراك به.

قالَ أَ غَيْرَ اَللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

ثمّ ذكّرهم أعظم نعم اللّه بقوله: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ و خلّصناكم بقدرة اللّه و رحمته مِنْ أسركم في أيدي آلِ فِرْعَوْنَ و قومه من القبط، فإنّهم كانوا يَسُومُونَكُمْ و يطلبون لكم سُوءَ اَلْعَذابِ و شديده.

ثمّ ذكّرهم أشدّ عذابهم بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ و يكثرون في ذبحهم و إهلاكهم وَ يَسْتَحْيُونَ و يستبقون نِساءَكُمْ و بناتكم ليستخدموهنّ وَ فِي ذلِكُمْ الإنجاء، أو سوء العذاب بَلاءٌ و فوز بالنّعمة، أو محنة و كرب مِنْ جانب رَبِّكُمْ اللّطيف بكم، و المالك لاموركم عَظِيمٌ في الغاية.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 142 الی 143

ثمّ أنّه روي أنّ موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل و هو بمصر: إن أهلك اللّه عدوّهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و يذرون، فلمّا هلك فرعون سأل اللّه ربّه ذلك الكتاب، فبيّن اللّه كيفيّة نزول التّوراة (1)بقوله: وَ واعَدْنا مُوسى و دعوناه إلى الطّور ثَلاثِينَ لَيْلَةً من ذي القعدة بأيّامها ليمقاتنا و الوقت الذي وقّتناه، كي يصوم في تمامها، و يجتهد في العبادة فيها وَ أَتْمَمْناها بعد و أكملناها بِعَشْرٍ من ليالي ذي الحجّة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ و الوقت المضروب لعبادة مليكه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً من أوّل ذي القعدة إلى العيد الأضحى.

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (142) وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ (143)روي أنّ اللّه أمر موسى عليه السّلام بصوم ثلاثين يوما؛ و هو شهر ذي القعدة، فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف (2)فيه فتسوّك، فقالت الملائكة: كنّا نشمّ من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسّواك، فأوحى اللّه إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره اللّه أن يزيد عليها عشرة

ص: 649


1- . تفسير الرازي 14:226.
2- . خلف الشيء خلوفا: تغيّر و فسد، و الخلوف: رائحة فم الصائم.

أيام من ذي الحجّة لهذا السبب (1)، و هذه حكمة زيادة العشر على الثلاثين.

و قيل: إنّ اللّه أمره أن يصوم ثلاثين يوما، و أن يعمل فيها ما يقرّبه إلى اللّه، ثمّ انزلت التوراة [عليه] في العشر البواقي، و كلّمه فيه أيضا. و هذه حكمة تعبير الأربعين بثلاثين و عشر (2).

وَ قالَ مُوسى حين ذهابه إلى ميقات ربّه لِأَخِيهِ هارُونَ الذي كان شريكا له في النّبوّة و تابعا له: اُخْلُفْنِي و قم مقامي فِي قَوْمِي بني إسرائيل، و سر فيهم بسيرتي. ثمّ أكّد وصيّته بهم بقوله: وَ أَصْلِحْ جميع ما يجب أن يصلح من امورهم و امور دينهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ و لا تسلك طريقتهم في الإفساد، و لا تساعدهم و لا تجبهم إليه.

وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا و حضر في الوقت الذي وقّتناه لحضوره، أو إلى المكان الذي واعدناه فيه وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ مشافهة بلا واسطة ملك قالَ بعد استماع كلامه: رَبِّ أَرِنِي نفسك و مكّنني من رؤيتك أَنْظُرْ بعين رأسي إِلَيْكَ .

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «و سأل موسى، و جرى على لسانه من حمد اللّه عزّ و جلّ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، و سأل أمرا جسيما فعوقب» (1).

قالَ اللّه تعالى: لَنْ تَرانِي أبدا، لا في الدّنيا و لا في الآخرة وَ لكِنِ إن أردت أن تراني في الدّنيا اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ الذي أنت عليه-قيل: هو أعظم جبل بمدين، يقال له زبير (2)-و أنا أتجلّى بجلوة من جلواتي فَإِنِ اِسْتَقَرَّ الجبل و ثبت مَكانَهُ و لم يتفتّت بذلك التّجلّي فَسَوْفَ تَرانِي .

قيل: لمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى لها، و جعل طور أو زبير يتواضع، فلمّا رأى اللّه تواضعه رفعه من بينها و خصّه بالتّجلّي (3).

عن ابن عبّاس قال: لمّا قال موسى عليه السّلام: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ كشف الحجاب، و أبرز له الجبل و قال: انظر، فنظر فإذا أمامه مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون [ألف]نبيّ، محرمين ملبّين، كلّهم يقولون: أرني أرني (4).

فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، قيل: كشف نوره من حجبه قدر ما بين الخنصر و الإبهام (5)، و ظهرت له

ص: 650


1- . التوحيد:262/5، و فيه: فعوتب بدل: فعوقب، تفسير الصافي 2:234.
2- . تفسير روح البيان 3:233.
3- . تفسير روح البيان 3:234.
4- . تفسير روح البيان 3:231.
5- . تفسير روح البيان 3:234.

عظمته و اقتداره-و عن سهل بن سعد: أنّ اللّه أظهر من تسعين (1)ألف حجاب نورا قدر الدّرهم (2)-إذا جَعَلَهُ دَكًّا مفتّتا كأن لم يكن وَ خَرَّ مُوسى و سقط على الأرض صَعِقاً و مغشيا عليه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ موسى بن عمران عليه السّلام لمّا سأل ربّه النّظر إليه وعده اللّه أن يقعد في موضع، ثمّ أمر الملائكة أن يمرّوا عليه موكبا بعد موكب بالبرق و الرّعد و الرّيح و الصّواعق، فكلّما مرّ به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أفيكم ربّي؟ فيجاب: هو آت، و قد سألت عظيما يا بن عمران» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لمّا سأل موسى عليه السّلام ربّه تعالى و قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فلمّا صعد موسى عليه السّلام على الجبل فتحت أبواب السّماء، و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد و في رأسها النّور، يمرّون به فوجا بعد فوج، يقولون: يا بن عمران، اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى عليه السّلام واقفا حتّى تجلّى ربّنا جلّ جلاله، فجعل الجبل دكّا و خرّ موسى صعقا فَلَمّا أن ردّ اللّه عليه روحه و أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ (4).

و عن القمّي رحمه اللّه قال: فرفع اللّه الحجاب و نظر إلى الجبل، فساخ الجبل في البحر، فهو يهوي حتّى السّاعة، [و نزلت الملائكة و فتحت أبواب السماء، فأوحى اللّه إلى الملائكة: أدركوا موسى لا يهرب، فنزلت الملائكة و أحاطت بموسى عليه السّلام، و قالوا: تب يابن عمران، فقد سألت اللّه عظيما، فلمّا نظر موسى عليه السّلام إلى الجبل قد ساخ]. و الملائكة قد نزلت فوقع موسى عليه السّلام على وجهه من خشية اللّه و هول ما رأى، فردّ اللّه عليه روحه، فرفع رأسه و أفاق و قال: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ أي أوّل المصدّقين بأنّك لا ترى (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الكروبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل، جعلهم اللّه خلف العرش، لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم» ثمّ قال: «إنّ موسى عليه السّلام لمّا سأل ربّه ما سأل، أمر واحدا من الكربيّين فتجلّى للجبل و جعله دكا» (6).

عن الرضا عليه السّلام: أنّه سئل: كيف يجوز أن يكون كليم اللّه موسى بن عمران لا يعلم أنّ اللّه لا يجوز عليه الرّؤية حتّى يسأله هذا السّؤال؟

ص: 651


1- . في تفسير روح البيان: سبعين.
2- . تفسير روح البيان 3:234.
3- . تفسير العياشي 2:159/1616، تفسير الصافي 2:234.
4- . تفسير العياشي 2:158/1614، تفسير الصافي 2:234.
5- . تفسير القمي 2:240، تفسير الصافي 2:235.
6- . بصائر الدرجات:89/2، تفسير الصافي 2:235.

فقال عليه السّلام: «إنّ كليم اللّه علم أنّ اللّه منزّه عن أن يرى بالأبصار، و لكنّه لمّا كلّمه اللّه و قرّبه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ اللّه كلّمه و قرّبه و ناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعته، و كان القوم سبعمائة ألف، فاختار منهم سبعين ألفا، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف [ثمّ اختار منهم سبعمائة]ثمّ اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، و صعد موسى عليه السّلام إلى الطّور، و سأل اللّه أن يكلّمه و يسمعهم كلامه، فكلّمهم اللّه و سمعوا كلامه من فوق و أسفل، و يمين و شمال، و وراء و أمام؛ لأنّ اللّه أحدثه في الشّجرة، ثمّ جعله منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة. فلمّا قالوا هذا القول العظيم و استكبروا و عتوا، بعث اللّه عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا، فقال موسى عليه السّلام: يا ربّ، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم و قالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم؛ لأنّك لم تكن صادقا فيما ادّعيت من مناجاة اللّه إيّاك؛ فأحياهم و بعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يريك تنظر إليه لأراك (1)، فتخبرنا كيف هو و نعرفه حقّ معرفته.

فقال موسى عليه السّلام: يا قوم، إنّ اللّه لا يرى بالأبصار، و لا كيفيّة له، و إنّما يعرف بآياته، و يعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى تسأله.

فقال موسى عليه السّلام: يا ربّ، إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل و أنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه إليه: يا موسى، سلني ما سألوك فلم اؤاخذك بجهلهم.

فعند ذلك قال موسى عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ [و هو يهوي] فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بآية من آياته جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ منهم بأنّك لا ترى» (2).

أقول: ما في الرّواية من التّوجيه، و إن كان أحسن الوجوه في دفع الإشكال، إلاّ أنّ الظاهر بل المتيقّن أنّ قضيّة اختيار موسى عليه السّلام سبعين رجلا لميقات ربّه كان بعد هذا الميقات الذي سأل فيه الرّؤية و اعطي فيه التّوراة.

و ما نقله الطّبرسي-من أنّ المراد من قوله: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ عرّفني نفسك تعريفا واضحا جليّا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطرّ الخلق إلى معرفتك أَنْظُرْ إِلَيْكَ يعني: أعرفك معرفة

ص: 652


1- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لأجابك.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:200/1، تفسير الصافي 2:233.

ضرورية كأنّي أنظر إليك؛ كما جاء في الحديث: «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر» بمعنى: ستعرفونه معرفة جليّة هي في الجلاء مثل إبصاركم القمر إذا امتلأ و استوى بدرا قالَ لَنْ تَرانِي لن تطيق معرفتي على هذه الطّريقة، و لن تحتمل قوتّك تلك الآية وَ لكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فإنّي اورد عليه آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجلّيها و استقرّ مكانه، فسوف تثبت لها و تطيقها فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ فلمّا ظهرت للجبل آية من آيات ربّه جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً لعظم ما رأى فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ممّا اقترحت وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ بعظمتك و جلالك. انتهى (1).

و به قال بعض العامّة حيث قال: إنّه سأل المعرفة الضّروريّة، أو الآيات الباهرات التي تزول عندها الخواطر و الوساوس، انتهى (2)-مخالف لظاهر الآية و صريح الرّوايات المرويّة بطريق العامّة و الخاصّة.

و قيل: إنّه الرّؤية، و أراد تأكيد الدّليل العقلي الدالّ على امتناع الرّؤية بالدليل السّمعي من قوله لَنْ تَرانِي . و فيه ما لا يخفى من الضّعف، فالأولى الكفّ عن التكلّم في توجيه الآية و إيكال علمه إلى الرّاسخين في العلم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 144

ثمّ أنّه تعالى بعد إفاقة موسى عليه السّلام و توبته من سؤال الرّؤية في يوم عرفة-على رواية-أظهر غاية لطفه به و قالَ له في يوم النّحر-كما روي (3)-: يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ و فضّلتك أو آثرتك عَلَى اَلنّاسِ جميعا من الأوّلين و الآخرين بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي و مخاطبتي إيّاك مشافهة في الأرض بلا واسطة ملك، فإنّ مجموع الأمرين لم يكن و لا يكون لأحد غيرك فَخُذْ الآن ما آتَيْتُكَ و أعطيتك من التّوراة وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمي عليك.

قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (144)

ص: 653


1- . جوامع الجامع:156، تفسير الصافي 2:235.
2- . تفسير الرازي 14:229.
3- . تفسير الرازي 14:236.

ص: 654

الفهرس

[57]و أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و الله 5

[58]ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم 5

[59-61]إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 5

[62 و 63]إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله و إن الله لهو العزيز الحكيم 10

[64]قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله 10

[65]يا أهل الكتاب لم تحاجون فى إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من 13

[66 و 67]ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به و الله 14

[68]إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبى و الذين آمنوا و الله و لى 14

[69]ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون 14

[70]يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و أنتم تشهدون 15

[71]يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون 15

[72 و 73]و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار15

[74]يختص برحمته من يشاء و الله ذو الفضل العظيم 17

[75]و من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك و منهم من إن تأمنه بدينار17

[76]بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين 18

[77]إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة 18

[78]و إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب و ما هو من 19

[79 و 80]ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا20

[81 و 82]و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول 22

[83]أ فغير دين الله يبغون و له أسلم من فى السماوات و الأرض طوعا و كرها24

[84]قل آمنا بالله و ما أنزل علينا و ما أنزل على إبراهيم و إسماعيل و إسحاق 25

ص: 655

[85]و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو فى الآخرة 26

[86]كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم 27

[87 و 88]أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين *خالدين 28

[89]إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم 28

[90]إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم 29

[91]إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا30

[92]لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون و ما تنفقوا من شىء فإن الله به 30

[93]كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل 32

[94]فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون 34

[95]قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين 34

[96 و 97]إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا و هدى للعالمين *فيه آيات 34

[98]قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و الله شهيد على ما تعملون 40

[99]قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا و أنتم 41

[100 و 101]يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد42

[103]و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم 43

[104 و 105]و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن 46

[106 و 107]يوم تبيض وجوه و تسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد50

[108 و 109]تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق و ما الله يريد ظلما للعالمين *و لله ما فى 52

[110]كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر53

[111]لن يضروكم إلا أذى و إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون 55

[112]ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس و باؤ56

[113 و 114]ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم 58

[115]و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه و الله عليم بالمتقين 60

[116]إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا و أولئك 60

[117]مثل ما ينفقون فى هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث61

[118]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما62

[119]ها أنتم أولاء تحبونهم و لا يحبونكم و تؤمنون بالكتاب كله و إذا لقوكم قالوا63

[120]إن تمسسكم حسنة تسؤهم و إن تصبكم سيئة يفرحوا بها و إن تصبروا64

ص: 656

[121-123]و إذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم *إذ65

[124 و 125]إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة 69

[126]و ما جعله الله إلا بشرى لكم و لتطمئن قلوبكم به و ما النصر إلا من عند الله 70

[127]ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين 71

[128]ليس لك من الأمر شى أ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون 71

[129]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله 73

[130-132]يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم 73

[133]و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت 74

[134]الذين ينفقون فى السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس 76

[135]و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم 77

[136]أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين 82

[137 و 138]قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة 82

[139 و 140]و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين *إن يمسسكم قرح 83

[141]و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين 84

[142]أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم 85

[143]و لقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه و أنتم 87

[144]و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم 90

[145]و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا و من يرد ثواب الدنيا96

[146]و كأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله و ما97

[147 و 148]و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا فى أمرنا و ثبت 99

[149 و 150]يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا100

[151]سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا100

[152]و لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم و تنازعتم فى 101

[153]إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و الرسول يدعوكم فى أخراكم فأثابكم 103

[154]ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم و طائفة قد105

[155]إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما108

[156]يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا و قالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى 109

[157]و لئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله و رحمة خير مما110

ص: 657

[158]و لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون 111

[159]فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك 111

[160]إن ينصركم الله فلا غالب لكم و إن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده 117

[161]و ما كان لنبى أن يغل و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس 118

[162]ا فمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله و مأواه جهنم و بئس 121

[163]هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون 121

[164]لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم 122

[165]أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند125

[166 و 167]و ما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله و ليعلم المؤمنين *و ليعلم 126

[168]الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم 127

[169]و لا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم 128

[170]فرحين بما آتاهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من 129

[171]يستبشرون بنعمة من الله و فضل و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين 130

[172-174]الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا131

[175]إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم 134

[176]و لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا135

[177]إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا و لهم عذاب 135

[178]و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم 136

[179]ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب 137

[180]و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر138

[181]لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء سنكتب ما قالوا139

[182]ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد141

[183]الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار141

[184]فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤ بالبينات و الزبر و الكتاب 142

[185]كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن 143

[186]لتبلون فى أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم 144

[187]و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه 145

[188]لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا 146

ص: 658

[189]و لله ملك السماوات و الأرض و الله على كل شىء قدير147

[190]إن فى خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولى 147

[191]الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون فى خلق 149

[192]ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار151

[193]ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا152

[194]ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف153

[195]فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم 154

[196 و 197]لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد*متاع قليل ثم مأواهم جهنم 156

[198]لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها157

[199]و إن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله و ما أنزل إليكم و ما أنزل إليهم 158

[200]يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم 159

في تفسير سورة النساء 165

[1]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة 165

[2]و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى 169

[3]و إن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى 170

[4]و آتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا172

[5]و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما و ارزقوهم فيها173

[6]و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم 175

[7]للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب مما ترك 177

[8]و إذا حضر القسمة أولوا القربى و اليتامى و المساكين فارزقوهم منه 179

[9]و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله 179

[10]إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا181

[11]يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين 182

[12]و لكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم 185

[13]تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجرى من تحتها188

[14]و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب 189

[15]و اللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن 189

[16]و الذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان 190

ص: 659

[17]إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب 190

[18]و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال 192

[19]يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها و لا تعضلوهن 193

[20]و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا194

[21]و كيف تأخذونه و قد أفضى بعضكم إلى بعض و أخذن منكم ميثاقا195

[22]و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة و مقتا196

[23]حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم و أخواتكم و عماتكم و خالاتكم و بنات 197

[24]و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم و أحل لكم 198

[25]و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما200

[26]يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و يتوب عليكم و الله 202

[27]و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا202

[28]يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا202

[29]يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة 203

[30]و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما فسوف نصليه نارا و كان ذلك على الله 204

[31]إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا205

[32]و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا206

[33]و لكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان و الأقربون و الذين عقدت أيمانكم 207

[34]الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا209

[35]و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها إن يريدا211

[36]و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و بذى القربى 212

[37]الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل و يكتمون ما آتاهم الله من فضله 214

[38]و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس و لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و من 215

[39]و ما ذا عليهم لو آمنوا بالله و اليوم الآخر و أنفقوا مما رزقهم الله و كان الله بهم 216

[40]إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا216

[41]فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا216

[42]يومئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض و لا يكتمون 217

[43]يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون 218

[44]أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة و يريدون أن 222

ص: 660

[45]و الله أعلم بأعدائكم و كفى بالله وليا و كفى بالله نصيرا223

[46]من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا223

[47]يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن 224

[48]إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله 225

[49]أ لم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء و لا يظلمون 226

[50]انظر كيف يفترون على الله الكذب و كفى به إثما مبينا227

[51]أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت 227

[52]أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا228

[53]أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا228

[54]أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم 228

[55]فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه و كفى بجهنم سعيرا229

[56]إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم 229

[57]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها230

[58]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن 230

[59]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم فإن 231

[60]أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك 240

[61]و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون 241

[62]فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن 241

[63]أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم و عظهم و قل لهم فى 242

[64]و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك 242

[65]فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى 243

[66-68]و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا244

[69 و 70]و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين 245

[71]يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا246

[72 و 73]و إن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن 246

[74]فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة و من يقاتل فى 247

[75]و ما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء247

[76]الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله و الذين كفروا يقاتلون فى سبيل 248

ص: 661

[77]أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما248

[78]أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم فى بروج مشيدة و إن تصبهم حسنة 249

[79]ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و أرسلناك 250

[80]من يطع الرسول فقد أطاع الله و من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا251

[81]و يقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول و الله 252

[82]أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا252

[83]و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول 253

[84]فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين عسى الله أن 254

[85]من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها و من يشفع شفاعة سيئة يكن 255

[86]و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها إن الله كان على كل شىء256

[87]الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه و من أصدق من الله 257

[88]فما لكم فى المنافقين فئتين و الله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا257

[89]ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى 258

[90]إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت 259

[91]ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة 261

[92]و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة 262

[93]و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه 264

[94]يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا و لا تقولوا لمن ألقى 266

[95 و 96]لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر و المجاهدون فى 268

[97]إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا269

[98]إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا 271

[99]فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم و كان الله عفوا غفورا272

[100]و من يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغما كثيرا و سعة و من يخرج273

[101]و إذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن 273

[102]و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا275

[103]فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم فإذا اطمأننتم 277

[104]و لا تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون 280

[105 و 106]إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن 281

ص: 662

[107]و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا281

[108]يستخفون من الناس و لا يستخفون من الله و هو معهم إذ يبيتون ما لا 283

[109]ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم 283

[110]و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما284

[111]و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه و كان الله عليما حكيما284

[112]و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما284

[113]و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا284

[114]لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين 285

[115]و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين 286

[116]إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله 287

[117 و 118]إن يدعون من دونه إلا إناثا و إن يدعون إلا شيطانا مريدا*لعنه الله و قال 287

[119]و لأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام و لآمرنهم فليغيرن 288

[120]يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا289

[121]أولئك مأواهم جهنم و لا يجدون عنها محيصا289

[122]و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها290

[123]ليس بأمانيكم و لا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له 290

[124 و 125]و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون 291

[126]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و كان الله بكل شىء محيطا292

[127]و يستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلى عليكم فى الكتاب 293

[128]و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا293

[129]و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم فلا تميلوا كل الميل 295

[130]و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته و كان الله واسعا حكيما296

[131]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من 297

[132 و 133]و لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و كفى بالله وكيلا*إن يشأ يذهبكم 297

[134]من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا و الآخرة و كان الله سميعا298

[135]يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو299

[136]يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذى نزل على رسوله 299

[137 و 138]إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله 300

ص: 663

[139]الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة 301

[140]و قد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها302

[141]الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ا لم نكن معكم و إن كان 303

[142 و 143]إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا305

[144]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون 306

[145 و 146]إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار و لن تجد لهم نصيرا*إلا الذين 306

[147]ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و آمنتم و كان الله شاكرا عليما307

[148]لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم و كان الله سميعا307

[149]إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا308

[150 و 151]إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون 309

[152]و الذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم 309

[153]يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى 309

[154]و رفعنا فوقهم الطور بميثاقهم و قلنا لهم ادخلوا الباب سجدا و قلنا لهم لا 310

[155]فبما نقضهم ميثاقهم و كفرهم بآيات الله و قتلهم الأنبياء بغير حق و قولهم 311

[156]و بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما311

[157]و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه 312

[158]بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما313

[159]و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم 314

[160 و 161]فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و بصدهم عن 315

[162]لكن الراسخون فى العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل 316

[163]إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده و أوحينا إلى 316

[164]و رسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك و كلم الله 318

[165]رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و كان 318

[166]لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله 319

[167]إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا319

[168 و 169]إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا*إلا319

[170]يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم و إن 320

[171]يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق إنما320

ص: 664

[172]لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون و من 322

[173]فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله 322

[174]يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا323

[175]فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه و فضل 323

[176]يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت 324

في تفسير سورة المائدة 327

[1]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام 327

[2]يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا الهدى و لا 328

[3]حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به و المنخنقة 330

[4]يسئلونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات و ما علمتم من الجوارح 333

[5]اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم 335

[6]يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى 336

[7]و اذكروا نعمة الله عليكم و ميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا و أطعنا342

[8]يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنكم شنآن قوم 343

[9 و 10]وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم *و الذين 344

[11]يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم 344

[12]و لقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل و بعثنا منهم اثنى عشر نقيبا و قال الله 346

[13]فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن 347

[14]و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به 348

[15]يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من 350

[16]يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى 352

[17]لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله 352

[18]و قالت اليهود و النصارى نحن أبناؤا الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم 353

[19]يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا354

[20]و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمت الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء355

[21]يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم و لا ترتدوا على 355

[22 و 23]قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن 356

[24]قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا357

ص: 665

[25]قال رب إنى لا أملك إلا نفسى و أخى فافرق بيننا و بين القوم 357

[26]قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأس على 358

[27-29]و اتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل 360

[30]فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين 362

[31]فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال 363

[32]من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد365

[33]إنما جزاؤا الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون فى الأرض فسادا أن 367

[34]إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم 370

[35]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة و جاهدوا فى سبيله 370

[36]إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الأرض جميعا و مثله معه ليفتدوا به من 371

[37]يريدون أن يخرجوا من النار و ما هم بخارجين منها و لهم عذاب 371

[38]و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله و الله عزيز371

[39]فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم 373

[40]ا لم تعلم أن الله له ملك السماوات و الأرض يعذب من يشاء و يغفر لمن 373

[41]يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا آمنا374

[42]سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض 376

[43]و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك 378

[44]إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين 378

[45]و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف380

[46]و قفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة 381

[47]و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك 381

[48]و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا381

[49]و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن 383

[50]أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون 384

[51]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء385

[52]فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا386

[53]و يقول الذين آمنوا أ هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم 386

[54]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم 387

ص: 666

[55]إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة 393

[56]و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون 401

[57]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا و لعبا من الذين 402

[58]و إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا و لعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون 402

[59]قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل 403

[60]قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله و غضب عليه و جعل 403

[61]و إذا جاؤكم قالوا آمنا و قد دخلوا بالكفر و هم قد خرجوا به و الله أعلم بما404

[62 و 63]و ترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم و العدوان و أكلهم السحت لبئس ما405

[64]و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه 406

[65]و لو أن أهل الكتاب آمنوا و اتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم و لأدخلناهم جنات 407

[66]و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم 408

[67]يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته 408

[68]قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما412

[69]إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى من آمن بالله و اليوم 413

[70]لقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل و أرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما413

[71]و حسبوا ألا تكون فتنة فعموا و صموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا و صموا414

[72]لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم و قال المسيح يا بنى 414

[73]لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد و إن لم ينتهوا415

[74]أ فلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم 415

[75]ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا415

[76]قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع 416

[77]قل يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد417

[78 و 79]لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود و عيسى ابن مريم ذلك 417

[80]ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط419

[81]و لو كانوا يؤمنون بالله و النبى و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيرا419

[82]لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا و لتجدن 419

[83-85]و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا420

[86]و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم 421

ص: 667

[87]يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن الله لا 421

[88]و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا و اتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون 424

[89]لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان 424

[90 و 91]يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من 426

[92]و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على 429

[93]ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا429

[94]يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشىء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم 432

[95]يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم و من قتله منكم متعمدا433

[96]أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم و للسيارة و حرم عليكم صيد البر437

[97]جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام و الهدى 438

[98]اعلموا أن الله شديد العقاب و أن الله غفور رحيم 440

[99]ما على الرسول إلا البلاغ و الله يعلم ما تبدون و ما تكتمون 440

[100]قل لا يستوى الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله 440

[101]يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم و إن تسئلوا441

[102]قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين 442

[103]ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام و لكن الذين كفروا443

[104]و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا444

[105]يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله 444

[106 و 107]يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية 445

[108]ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد448

[109]يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام 449

[110-113]إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك و على والدتك إذ أيدتك 450

[114 و 115]قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا452

[116]و إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أ أنت قلت للناس اتخذونى و أمى إلهين من 455

[117]ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى و ربكم و كنت عليهم شهيدا456

[118]إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم 457

[119]قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها457

[120]لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن و هو على كل شىء قدير459

ص: 668

في تفسير سورة الأنعام 461

[1]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى خلق السماوات و الأرض و جعل 461

[2]هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده ثم أنتم 462

[3]و هو الله فى السماوات و فى الأرض يعلم سركم وجهركم و يعلم ما463

[4 و 5]و ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين *فقد كذبوا463

[6]ا لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض ما لم نمكن لكم 464

[7]و لو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن 464

[8 و 9]و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون *و لو465

[10]و لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به 466

[11]قل سيروا فى الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين 467

[12]قل لمن ما فى السماوات و الأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة 467

[13 و 14]و له ما سكن فى الليل و النهار و هو السميع العليم *قل أ غير الله أتخذ وليا468

[15]قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم 469

[16]من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه و ذلك الفوز المبين 469

[17]و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يمسسك بخير فهو على كل 470

[18]و هو القاهر فوق عباده و هو الحكيم الخبير470

[19]قل أى شى أ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم و أوحى إلى هذا القرآن 470

[20]الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا471

[21]و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح 472

[22 و 23]و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم 473

[24]انظر كيف كذبوا على أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون 473

[25]و منهم من يستمع إليك و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و فى آذانهم 474

[26]و هم ينهون عنه و ينئون عنه و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون 475

[27]و لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون 475

[28]بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم 475

[29 و 30]و قالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين *و لو ترى إذ وقفوا على 476

[31]قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا476

[32]و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو و للدار الآخرة خير للذين يتقون ا فلا477

ص: 669

[33]قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين 477

[34]و لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا و أوذوا حتى أتاهم نصرنا479

[35]و إن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض أو479

[36]إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون 480

[37]و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية و لكن 480

[38]و ما من دابة فى الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا481

[39]و الذين كذبوا بآياتنا صم و بكم فى الظلمات من يشإ الله يضلله و من يشأ482

[40 و 41]قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أ غير الله تدعون إن كنتم 482

[42]و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم 483

[43-45]فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا و لكن قست قلوبهم و زين لهم الشيطان ما483

[46]قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم من إله غير485

[47]قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم 485

[48 و 49]و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين فمن آمن و أصلح فلا خوف486

[50]قل لا أقول لكم عندى خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إنى ملك 486

[51]و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي و لا 488

[52]و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ما عليك من 488

[53]و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا أ ليس الله 490

[54]و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه 490

[55]و كذلك نفصل الآيات و لتستبين سبيل المجرمين 491

[56]قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد491

[57]قل إنى على بينة من ربى و كذبتم به ما عندى ما تستعجلون به إن الحكم 492

[58]قل لو أن عندى ما تستعجلون به لقضى الأمر بينى و بينكم و الله أعلم 492

[59]و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو و يعلم ما فى البر و البحر و ما تسقط493

[60]و هو الذى يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى 494

[61 و 62]و هو القاهر فوق عباده و يرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت 495

[63 و 64]قل من ينجيكم من ظلمات البر و البحر تدعونه تضرعا و خفية لئن أنجانا496

[65]قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم 497

[66 و 67]و كذب به قومك و هو الحق قل لست عليكم بوكيل *لكل نبأ مستقر498

ص: 670

[68 و 69]و إذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى 498

[70]و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و غرتهم الحياة الدنيا و ذكر به أن 499

[71 و 72]قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا و لا يضرنا و نرد على أعقابنا بعد إذ500

[73]و هو الذى خلق السماوات و الأرض بالحق و يوم يقول كن فيكون قوله 501

[74]و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك و قومك فى ضلال 502

[75]و كذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من 503

[76-78]فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين *504

[79]إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من 505

[80]و حاجه قومه قال أتحاجونى فى الله و قد هدان و لا أخاف ما تشركون به إلا508

[81]و كيف أخاف ما أشركتم و لا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به 508

[82]الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون 509

[83]و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك 510

[84 و 85]و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته 510

[86 و 87]و إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين *و من آبائهم 511

[88]ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا513

[89]أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد513

[90]أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا514

[91]و ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل 514

[92]و هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه و لتنذر أم القرى و من 516

[93]و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى و لم يوح إليه شىء517

[94]و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء519

[95]إن الله فالق الحب و النوى يخرج الحى من الميت و مخرج الميت من 520

[96 و 97]فالق الإصباح و جعل الليل سكنا و الشمس و القمر حسبانا ذلك تقدير522

[98]و هو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع قد فصلنا الآيات 523

[99]و هو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شىء فأخرجنا منه 524

[100 و 101]و جعلوا لله شركاء الجن و خلقهم و خرقوا له بنين و بنات بغير علم سبحانه 526

[102]ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه و هو على كل شىء527

[103]لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير527

ص: 671

[104]قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه و من عمى فعليها و ما أنا529

[105]و كذلك نصرف الآيات و ليقولوا درست و لنبينه لقوم يعلمون 529

[106 و 107]اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين *و لو529

[108]و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا530

[109]لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون 532

[110]و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة و نذرهم فى طغيانهم 533

[111]و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى و حشرنا عليهم كل شىء قبلا533

[112]و كذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس و الجن يوحى بعضهم إلى 534

[113 و 114]و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليقترفوا ما هم 535

[115 و 116]و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم 536

[117 و 118]إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين *فكلوا مما537

[119]و ما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه و قد فصل لكم ما حرم عليكم إلا537

[120]و ذروا ظاهر الإثم و باطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا538

[121]و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق و إن الشياطين ليوحون إلى 538

[122]أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله فى 539

[123 و 124]و كذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها و ما يمكرون إلا541

[125 و 126]فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل 542

[127]لهم دار السلام عند ربهم و هو وليهم بما كانوا يعملون 545

[128 و 129]و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس و قال 545

[130]يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى 547

[131]ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم و أهلها غافلون 548

[132]و لكل درجات مما عملوا و ما ربك بغافل عما يعملون 548

[133]و ربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما548

[134 و 135]إن ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين *قل يا قوم اعملوا على مكانتكم 549

[136]و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا549

[137]و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم 550

[138]و قالوا هذه أنعام و حرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم و أنعام 551

[139]و قالوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا و محرم على أزواجنا و إن 552

ص: 672

[140]يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم 552

[141]و هو الذى أنشأ جنات معروشات و غير معروشات و النخل و الزرع مختلفا553

[142]و من الأنعام حمولة و فرشا كلوا مما رزقكم الله و لا تتبعوا خطوات 555

[143 و 144]ثمانية أزواج من الضأن اثنين و من المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم 555

[145]قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو557

[146]و على الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر و من البقر و الغنم حرمنا عليهم 559

[147]فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة و لا يرد بأسه عن القوم 560

[148]سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شىء560

[149]قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 561

[150]هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد561

[151]قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا562

[152]و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا الكيل 563

[153]و أن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله 564

[154]ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن و تفصيلا لكل شىء565

[155-157]و هذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه و اتقوا لعلكم ترحمون *أن تقولوا إنما566

[158]هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك أو يأتى بعض آيات ربك 567

[159]إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم فى شىء إنما أمرهم إلى الله 568

[160]من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها569

[161]قل إننى هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا و ما569

[162 و 163]قل إن صلاتى و نسكى و محياى و مماتى لله رب العالمين *لا شريك له 570

[164]قل أ غير الله أبغى ربا و هو رب كل شىء و لا تكسب كل نفس إلا عليها و لا 570

[165]و هو الذى جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات 571

في تفسير سورة الأعراف 573

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم المص *كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج573

[3]اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا574

[4 و 5]و كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون *فما كان دعواهم 575

(6 و 7) فلنسئلن الذين أرسل إليهم و لنسئلن المرسلين *فلنقصن عليهم بعلم و ما575

[8 و 9]و الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون *و من 576

ص: 673

[10]و لقد مكناكم فى الأرض و جعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون 579

[11-13]و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا580

[14 و 15]قال أنظرنى إلى يوم يبعثون *قال إنك من المنظرين 581

[16 و 17]قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم *ثم لآتينهم من بين 582

[18]قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم 583

[19 و 20]و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه 584

[21-23]و قاسمهما إنى لكما لمن الناصحين *فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة 584

[24 و 25]قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم فى الأرض مستقر و متاع إلى حين 586

[26]يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآاتكم و ريشا و لباس التقوى 586

[27]يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما588

[28]و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر588

[29]قل أمر ربى بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد و ادعوه مخلصين 589

[30]فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من 590

[31]يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه 591

[32]قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هى للذين 592

[33]قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغى بغير594

[34]و لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون 595

[35 و 36]يا بنى آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى فمن اتقى و أصلح 596

[37-39]فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم 596

[40]إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء598

[41 و 42]لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش و كذلك نجزى الظالمين *و الذين 599

[43]و نزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الأنهار و قالوا الحمد لله 599

[44]و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل 601

[45]الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون 601

[46 و 47]و بينهما حجاب و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم و نادوا601

[48 و 49]و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم 603

[50]و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما604

[51]الذين اتخذوا دينهم لهوا و لعبا و غرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما605

ص: 674

[52]و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون 606

[53]هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد606

[54]إن ربكم الله الذى خلق السماوات و الأرض فى ستة أيام ثم استوى على 607

[55]ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين 609

[56]و لا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها و ادعوه خوفا و طمعا إن رحمت الله 610

[57]و هو الذى يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا610

[58]و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك 611

[59 و 62]لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى 613

[63 و 64]أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم و لتتقوا614

[65-68]و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أ فلا تتقون 614

[69]أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم و اذكروا إذ615

[70 و 71]قالوا أ جئتنا لنعبد الله وحده و نذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت 616

[72]فأنجيناه و الذين معه برحمة منا و قطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا و ما كانوا617

[73]و إلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد618

[74-76]و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد و بوأكم فى الأرض تتخذون من 619

[77-79]فعقروا الناقة و عتوا عن أمر ربهم و قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من 620

[80-84]و لوطا إذ قال لقومه أ تاتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين 624

[85]و إلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد626

[86]و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به 627

[87-90]و إن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به و طائفة لم يؤمنوا فاصبروا628

[91-93]فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين *الذين كذبوا شعيبا كأن 629

[94 و 95]و ما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء و الضراء لعلهم 630

[96]و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض 631

[97-99]أ فأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا و هم نائمون *أ و أمن أهل القرى 632

[100]أ و لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم 632

[101]تلك القرى نقص عليك من أنبائها و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا633

[102]و ما وجدنا لأكثرهم من عهد و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين 634

[103]ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه فظلموا بها فانظر كيف635

ص: 675

[104-108]و قال موسى يا فرعون إنى رسول من رب العالمين *حقيق على أن لا 636

[108-116]قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم *يريد أن يخرجكم من 637

[117-122]و أوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون *فوقع الحق 638

[123]قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة 639

[124-127]لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين *قالوا إنا640

[128 و 129]قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من 642

[130]و لقد أخذنا آل فرعون بالسنين و نقص من الثمرات لعلهم يذكرون 643

[131]فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من 643

[132-135]و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين *فأرسلنا643

[136 و 137]فانتقمنا منهم فأغرقناهم فى اليم بأنهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين *647

[138 و 139]و جاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا648

[140 و 141]قال أ غير الله أبغيكم إلها و هو فضلكم على العالمين *و إذ أنجيناكم من آل 648

[142 و 143]و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة 649

[144]قال يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى و بكلامي فخذ653

الفهرس 655

ص: 676

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.