قیس بن سعد خادم النبي و لسان الوصي

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 1194 لسنة 2018 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP34.5.Q29 A23 2018 :LC المؤلف الشخصي: عبد الزهرة، عمار حسن، مؤلف.

العنوان: قیس بن سعد خادم النبي ولسان الوصي: حياته وشعره: دراسة وتحليل.

بيان المسؤولية: تأليف عمار حسن عبد الزهرة؛ تقديم السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 199 صفحة؛ 24 سم. سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (384).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، سلسلة حياة السلف الصالح، صحابة الإمام علي (عليه السلام)؛ البدريون (6).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش: لائحة المصادر (الصفحات 169 - 196).

موضوع شخصي: قیس بن سعد بن عبادة بن دليم، توفي 60 للهجرة.

موضوع شخصي: قیس بن سعد بن عبادة بن دليم، توفي 60 للهجرة - شعر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول - 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - اصحاب.

مصطلح موضوعي: الصحابة والتابعون - تراجم.

مصطلح موضوعي: التاريخ الاسلامي - عصر صدر الإسلام.

مصطلح موضوعي: الشعر العربي - عصر صدر الاسلام - 610 - 661. مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 - - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق) - مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

سلسلة حياة السلف الصالح صحابة الأمام علي علیه السلام البدريون (6) حیاته وشعره دراسة وتحلیل تأليف اصدار في العتبة الجينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه / 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600 تنویه: إن الأفکار والآراء المذکورة في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

الإهداء أحنُّ إِلی صَوتِ أُمِّي.. لْمَسَةِ أُمِّي.. خُبْزِ أُمِّي.. وأنْ أکْبَرَ یَوماً علی صَدْرِ أُمِّي..

وکُنْتُ أعْشَقُ عُمْرِي؛ لأَنِّي إِذامِتُّ أَخْجَلُ مِنْ دَمْعِ أُمِّي..

وَلَم أَحْسَبْ یَوماً أَنَّ أُمِّي سَتَرْحَلُ عَنِّي..

إلیکِ یا جنَّةً الفِرْدَوسِ هذا الجُهْدِ المُبَارَک

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والصلاة والسلام على خير الأنام وبعد:

لم يزل الإمام علي عليه السلام الفاروق بين الحق والباطل والمحك الذي يكشف القير من التراب والإيمان من النفاق والفئة العادلة من الباغية والسنّة من البدعة والصالح من الطالح ولأن الدين هو اثمن ما لدى العاقل فقد احتاج العاقل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام؛ ولأن الدعوة إلى التمسك بالسلف الصالح أصبحت اليوم شعار الخلف كان لا بدّ من الرجوع إلى أولئك السلف لنرى أين كانوا أو تحت أي راية ساروا وإلى أي فئة انتسبوا وأي سنّة أحيوا وأي بدعة أماتوا.

ولأجل هذا وغيره:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تضع بين يدي القارئ الكريم مكنزاً معرفياً يعيد رسم صورة الإسلام ويوضح الطريق لمن تشوق لمعرفة رجال صدقوا في إيمانهم وكانوا دعاة ربانيين للإسلام وعاملين مجدين في بناء الحضارة الإنسانية منذ أن شرّفهم الله بالإسلام وصحبة رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والتمسك بأخيه ووصيه وخليفته في أمته وولي من كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم نبيه.

فكانوا صحابة وموالين وسلفاً صالحاً لمن أراد أن يعلم من هم السلف الصالح ومن أميرهم ومولاهم حتى قال فيهم الحاكم النيسابوري في مستدرکه نقلاً عن الحكم: (شهد مع علي - معركة - صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان من بايعوا

ص: 7

تحت الشجرة)(1)ولأجل معرفة هؤلاء (البدريون والشجريون) الذين كانوا يقاتلون تحت راية علي عليه السلام في حربه للفئة الباغية معاوية وحزبه واشياعه وممن لم يشتركوا لكنهم عرفوا بموالاتهم لعلي.

ولذا شرعت المؤسسة بالبحث والدراسة لهذا السلف الصالح، وبيان شخصيتهم وسيرتهم العطرة، ضمن سلسلة تصدر تباعاً والموسومة ب(سلسة أصحاب علي عليه السلام) فقدمنا منهم الصحابة البدريين والسابقين من المهاجرين والأنصار فإن وفقنا الله لإكمالهم شرعنا بأهل البيعة تحت الشجرة.

وبناءاً عليه:

كان بحثنا هذا الموسوم ب(قیس بن سعد خادم النبي ولسان الوصي، وفيه درس الباحث شخصية قيس عن طريق تتبُّع آثاره ومواقفه ثمَّ دراسة وتحليل تلك المواقف، وقد كانت الدِّراسة على محورين: الأول تبنَّى دراسة سيرة قیس بن سعد في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خلافة الإمام علي (عليه السلام)، والآخر درس سيرة قيس منذ تولِّي الإمام علي (عليه السلام) حكم المسلمين إلى وفاته في نهاية حكم معاوية بن أبي سفيان، ولم تقف الدِّراسة عند الجوانب التاريخية فقط؛ وإنَّما سعى الباحث فيها إلى جمع شعر قيس وخطبه وتحقيق ذلك من المصادر الرصينة. وأخيراً فإنَّ قیس بن سعد شخصية فريدة فذَّة قد صحب النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلِّ حروبه، وكان من رؤوس المعارضة لحكومة السقيفة، وظلَّ موالياً لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) طيلة حكمه، ثمَّ استمرَّ بولائه مع الإمام الحسن (عليه السلام) لم يغيِّر ولم يُبدِّل بالرغم ممَّا بذله معاوية من مال وحكم لقيس إلَّا أنَّه ظلَّ موالياً لأهل البيت (عليهم السلام) طيلة حياته.

السيد نبيل الحسني

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 180

المقدِّمة

اَلْحَمْدُلِلَّهِ عَلی ما اَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّکْرُ عَلی ما اَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ اِبْتَدَأها، وَسُبُوغِ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عَدَدُها، وَنأی عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإِدْراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بِالشُّکْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَی الْخَلایِقِ بِإجْزالِها، وَثَنّی بِالنَّدْبِ إلی أمْثالِها، وأتمَّ الصلاة وأزكى السلام على سادة خلق الله أجمعين، ومحالِّ علم الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين وآله الأولياء المعصومين وسلم تسليماً كثيراً.

إنَّ من يُطالع التاريخ الإسلامي بعين ناقدة، يكتشف حجم الظلم الذي أصاب بعض الشخصيات الإسلامية، وخصوصاً أولئك الذين التفُّوا حول أهل البيت (عليهم السلام)، فقد ظُلموا ظلماً شديداً لسببٍ واحد، ألا وهو مناصرتهم للحقِّ المتمثِّل باتِّباع أئمَّة الهدى من أهل بيت المصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون غيرهم، بالرغم من أنَّ هذه الشخصيات قد بذلوا جهدهم في سبيل نصرة دين الإسلام.

وقد يُصاب الذي يُطالع التاريخ بالدهشة الشديدة، عندما يمر بسيرة رجالٍ من أصحاب السبق والرفعة والفضيلة في الإسلام، إذ يجدهم الأوائل في الإسلام، ومن الذين شهدوا مشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها، فكانوا ممَّن شهد بدراً وأحداً وبيعة الشجرة وغيرها من المشاهد المشرفة، ثمَّ إنَّهم بعد ذلك نصبوا أنفسهم بسخاء لا مثيل له في سبيل خدمة الإسلام إلى آخر أعمارهم، وعلى الرغم من ذلك لا يوجد لهم ذکرٌ يوازي عطاءهم أو بعضه على أقل التقادیر.

ص: 9

وعلى العكس من ذلك نجد تخليداً وثناءً وذكراً على مدى الأيام لأشخاص لم يكن لهم أي عطاء يُذكر في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك بعد استشهاده، إلَّا أنَّهم ساندوا حكومة السقيفة ووقفوا معها فكان جزاءهم أن یُذكروا على مدى الزمن، وإن كان بعضهم لم يصحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من سنتين.

ولكن على الرغم من كلِّ ذلك تبقى إرادة الله تعالى التي تسمو فوق كلِّ الإرادات التي تحاول أن تُطفئ نور الله تعالى بظلام کُتَّابها، فيأبى إلَّا أن يُتمَّ نوره ولو كره المأجورون من أرباب السلطان وحاشيته.

ومن هذا المنطلق عزمت مؤسسة علوم نهج البلاغة بإعادة النظر في كُتب التاريخ والتراث الإسلامي، من أجل إحياء ذكرى تلك الشخصيات التي ظُلمت بسبب مساندتها لأهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصاً أولئك الذين ساندوا أمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام خلافته، وفي حروبه التي خاضها ضدَّ الناكثين والقاسطين والمارقين، أولئك الذين يقول عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام):

«أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا».

ومن تلك الشخصيات المظلومة قيس بن سعد بن عبادة، سيد الأنصار وابن سيدهم، وخادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك البطل الهام الذي حضر مشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلَّها، ثمَّ واصل جهاده مع أمير المؤمنين (عليه السلام) باذلاً روحه دونه، ويستمر بنفس العقيدة الراسخة مع الإمام الحسن (عليه السلام) فكان أوَّل من بايعه في خلافته.

ص: 10

ولا نريد أن نستبق الأحداث في هذه المقدِّمة؛ بل ندع القارئ الكريم يتعرَّف على هذه الشخصية بصورة مفصلة في هذه الدراسة التي جعلتها تحت عنوان: (قيس بن سعد خادم النبي ولسان الوصي)، وهذه التسمية التي احتوت وصفين: (خادم النبي، لسان الوصي) قد استقيتها من حياته (رضوان الله عليه)، إذ إنَّ قيساً قد لزم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ أوّل دخوله المدينة، فكان خادماً له، هذا بالنسبة للوصف الأول؛ أمّا الآخر، فقد أخذته من سيرته مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خلافته، إذ كان الإمام في غير مرَّة يُفوضُه للردِّ على الرَّسائل التي كانت ترده، فكان قیس (رضوان الله عليه) يتكلم بلسان الوصي أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

أما مادَّة الدِّراسة فقد اقتضت طبيعتها أن تكون على فصلين سبقها تمهید درستُ فيه مرجعيات الفكر الدِّيني في الإسلام.

أمَّا الفصلين: فالأول منها: تتبعت فيه سيرة قیس بن سعد في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتَّى خلافة الإمام علي (عليه السلام).

والفصل الثاني: عرضت فيه الأدوار القيادية لقیس بن سعد في خلافة الإمام علي (عليه السلام) وما بعدها حتَّى وفاته.

أما منهج الدّراسة فقد اعتمدت فيه على جنبتين: التاريخية والتحليلية، وذلك عن طريق تتبع الحوادث التاريخية ثم تحليلها ودراستها، فضلاً عن تحقيق الشعر المنسوب لقیس بن سعد.

وختاماً أستشهد بقوله تعالى: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ»، ولذلك لا أدَّعي الكمال لما ورد في هذه الدِّراسة، ولكن يبقى عذري فيما اختلَّ منها أنِّي بذلت غاية جهدي، وكلِّي آذان صاغية للتقويم والنصيحة.

ص: 11

ص: 12

التمهید

أولاً: مرجعيات الفكر الديني في الإسلام.

اشارة

تختلف الفرق الإسلامية في مرجعياتها التي تنهل منها أحكامها الشرعية من بعد القرآن والسُّنة النبوية، ولكن يمكن القول إنَّ عموم تلك الفرق ترجع إلى مدرستين هما:

مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهم الشيعة الإمامية، وهؤلاء يعتمدون في تشريعاتهم بشكل أساسي بعد القرآن والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والزهراء وأولادهما (صلوات الله عليهم أجمعين).

والمورد الآخر مدرسة الصحابة، وهم عموم المسلمين الذين رجعوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صحابته، فكانوا يستلهمون منهم أمور دينهم وعقائدهم.

ولسنا في صدد التقييم لهاتين المدرستين، أو الإثبات لأيٍّ منهما الحق، وإنَّما غاية ما نريده أن نكتشف حكم المعارك التي جرت بين أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وبين من حاربوه من الصحابة، على أنَّنا لا نناقش كلَّ الآراء التي تعرضت لهذه الحروب، وإنَّما نستهدف الرأي القائل بفضل كلا الطرفين، وأنَّهما مأجوران عند الله تعالى على الرغم ممّا جرى بينهما من حروب وقتال ودماء.

وسنتجاوز مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنَّهم أجمعوا على أحقيَّة طرف وبطلان آخر، فحكموا على الذين خرجوا على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالضلال، وبذلك فهم مالوا إلى طرفٍ وفقاً لأدلةٍ نقلية وعقلية، وتبرؤا من الطرف الذي خرج على إمامه كائن من کان، ولذلك فهم خارج نطاق بحثنا.

ص: 13

أمَّا مدرسة الصحابة، فهم يجمعون إلَّا من شذَّ منهم (في حدود اطلاعنا) على أنَّ الحروب التي حدثت في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولاسيَّما حربي الجمل وصفين، إنَّما هي فتنة أصابت المسلمين، كان الحقُّ فيها مع الخليفة الشرعي الذي بايعه عامة المسلمين، وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إلَّا أنَّه اجتهد بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع زوجته عائشة وخرجوا مطالبين بدم عثمان بن عفان، - الذي ثار عليه المسلمون وقتلوه في قصَّة معروفة مفصَّلة بكتب التاريخ - ولكن لهم أجرهم؛ لأنَّهم كانوا ينوون صلاحاً.

والمحصِّلة لما تبنته مدرسة الصحابة، أنَّ كلا الطرفين كان مجتهداً ولكلٍّ منهم أجره، وأنَّ الله تعالى سيثيبهم ويدخلهم الجنَّة جميعاً، على فرقٍ أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مجتهداً مصيباً وله أجره، ومن حاربه كان مجتهداً مخطأً ولكن له أجره أيضاً، ثمَّ أنَّ هذه فتنة قد صان الله تعالى عنها أيدينا، فنسأل الله تعالى أن يصون عنها السنتنا(1)، وعلى هذا الكلام يُغلق الحديث عن هاتين المعركتين من دون بيان المسبب وتميز الطرف المحق عن المبطل.

فكانت نتيجة ذلك الاجتهاد ثلاث حروب ضروس راح ضحيتها آلاف المسلمين، وهذا الرأي هو الذي نستهدفه بالدراسة والبحث، إذ كيف يمكن لطرفين حدثت بينهما معارك قُتِل فيها آلاف المسلمين ناهيك عمَّا یُصاحب المعارك من استنزاف للموارد الاقتصادية، أن يكونا مرضيين من لدن الله تعالى، وأنَّه (جلَّ وعلا) يجزيهما خيراً على ما تسبَّبا به من إراقةٍ للدماء، وأن يكون لكلٍّ منهما الحسنی.

ص: 14


1- ينظر: شرح العقيدة الطحاوية، صدر الدين محمد بن علاء الدين علّي بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفي: 792 ه): 1 / 493 - 494

وسنحاول دراسة هذا الرأي الذي تبنته مدرسة الصحابة، على وفق مرجعيتها التي تؤمن بها، وذلك من خلال الكشف عن رأي الصحابة بهذه المعارك، وإلى أيِّ جهة مالوا، ومع من کان سوادهم الأعظم؟ ومفهوم الصحابي في مدرسة الصحابة هو: (من لقي النبيّ صلّى اللهَّ عليه [وآله] وسلم في حياته مسلماً ومات على إسلامه)(1).

على أنَّ مدرسة الصحابة تجعل الصحابة في طبقاتٍ تبعاً لأسبقية الإيمان والجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ف (قَالُوا: بموالاة العشرَة من أصحاب النبي (عَلَيهِ السَّلَام) وَقَطعُوا بِأَنَّهُم من أهل الجنَّة وهم الخُلَفَاء الأربعة، وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر، وَسعد بن أَبي وَقاص، وَسَعِید بن زید بن عَمْرو بن ثقيل، وَعبد الرَّحْمَن، وَأَبُو عُبَيْدَة ابْن الْجراح، وَقَالُوا: بموالاة كل من شهد بَدرًا مَعَ النبي (عَلَيْهِ السَّلَام)، وَقَطعُوا بأنَّهم من أهل الجنَّة، وَكَذَلِكَ القَول فِيمَن شهد مَعَه أحداً إِلَّا رجلاً اسْمه قزمان فإنَّه قتل بأُحد جمَاعَة من المُشْركين وَقتل نَفسه، وَكَانَ يُنْسب إلى النِّفَاق، وَكَذَلِكَ كل من شهد بيعَة الرضْوَان بِالْحُدَيْبِية من أهل الجنَّة، وَقَالُوا قد صَحَّ الخَبَر بَأنَّ سبعين ألفَاً، من هَذِه الأمة يدْخلُونَ الجنَّة بِلَا حِسَاب، وإنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم يشفع في سبعين ألفَاً)(2)، وقالوا كذلك (ونقول: بِفضل المُهَاجِرين الَأْوَّلين بعد عمر بن الخطاب قطعاً، إِلَّا أنَّنا لَا نقطع بِفضل أحد مِنْهُم على صَاحبه، كعثمان بن عَفَّان، وَعُثْمَان بن مظغون، وَعلي وجعفر وحَمْزَة وَطَلْحَة وَالزُّبَير وَمصْعَب بن عُمَير، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوف، وَعبد الله بن مَسْعُود، وَسعد وَزيد بن حَارِثَة، وَأبي عُبَيدَة وبلال وَسَعِید بن زید وعمار بن یَاسر، وَأبي سَلمَة وَعبد الله بن جحش، وَغَيرهم

ص: 15


1- ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني: 1 / 8
2- ينظر: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغدادي التميمي الأسفراییني، أبو منصور (المتوفى: 492 ه): 1 / 344

من نظرائهم، ثمَّ بعد هَؤُلَاءِ أهل العقبَة، ثمَّ أهل بدر ثمَّ أهل الْمشَاهد کُلَّهَا مشهداً مشهداً؛ فَأهل كلِّ مشْهدٍ أفضل من أهل المشهد الَّذِي بعده، حَتَّى بلغ الْأَمر إِلَى الْحُدَيْبِيَة، فَكلُّ من تقدَّم ذكره من المُهَاجِرين وَالْأَنصَار (رَضِي الله عَنْهُم) إِلَى تَمام بيعَة الرضْوَان، فإنَّنا نقطع على غيب قُلُوبهم وَأَنَّهُمْ كلُّهم مُؤمنُونَ صَالِحُونَ، مَاتُوا على الإِيمَان وَالهدى وَالبر كلُّهم من أهل الْجنَّة، لَا يلج أحد مِنْهُم النَّار البَتَّةَ)(1)، وهناك من نقل إجماع علماء مدرسة الصحابة بخصوص الأفضلية فقال: (وَأجْمع أهل السُّنة على أَنَّ من شهد مَعَ رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسلم) بَدْرًا من أهل الْجنَّة، وَكَذَلِكَ كلُّ من شهد مَعَه بيعَة الرضْوَان بِالْحُدَيْبِية، وَقَالُوا: بِمَا ورد بِهِ الخَبَر بأن سبيعن ألفَاً من أمة الإسلام يدْخلُونَ الْجنَّة بَلَا حِسَاب... وَأَنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم يشفع فِي سبعين ألفَاً)(2)، وقال آخر: (فَقَدْ أَجَمْعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَلىَ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَالنَّاسِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ - عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ سَائِرُ العَشَرَةِ، ثُمَّ بَاقِي أَهْلِ بَدْرٍ، ثُمَّ بَاقِي أَهلِ أُحُدٍ، ثُمَّ بَاقِي أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، ثُمَّ بَاقِي الصَّحَابَةِ، هَکَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ الحَقِّ)(3)، وهناك من قسَّم طبقاتهم إلى أكثر من ذلك(4).

ص: 16


1- الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبو محمد علي بن أحمد بن سعید بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفي: 456 ه): 4 / 116
2- الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغدادي التميمي الأسفراییني، أبو منصور (المتوفي: 429 ه): 1 / 353
3- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي: 2 / 312
4- ينظر: الروَّضُ البَاسمْ في الذِّبِّ عَنْ سُنَّةِ أبي القَاسِم - صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - (وعليه حواشٍ لجماعةٍ من العلماء منهم الأمير الصّنعاني)، ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضی بن المفضل الحسني القاسمي: 1 / 140

وبعد استعراض الآراء السابقة التي تناولت طبقات الصحابة نجد أنَّها تجمع في تصنيفها لدرجات الصحابة على أساسين هما:

معركة بدر وبيعة الرضوان، فهاذان الأساسان مثَّلا محطَّتين مهمتَّين عند علماء مدرسة الصحابة، في تقسيمهم لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أساس الفضيلة والسبق في الجهاد، وقد استدلَّ بعضهم على ذلك بحديث نسبوه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مفاده: (لَنْ یَلِجِ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا أَوْ بَیْعَةَ الرِّضْوَانِ)(1).

وستَّخذ من هذين الأساسين منطلقاً في التعرف على الجهة التي مال إليها عموم الصحابة، وقاتلوا معها، في المعارك التي جرت بين أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وبين معارضيه، ثمَّ بعد ذلك نحاكم الفريق الذي خالف السواد الأعظم لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 17


1- معرفة الصحابة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران الأصبهاني (المتوفي: 430 ه): 3 / 1284

1 - أهل بدر

يتميز أهل بدر بمنزلةٍ سامية بمفهوم مدرسة الصحابة، بوصفهم الأسبق إيماناً وجهاداً، ويُقصد بهم الذين اشتركوا في معركة بدر ضدَّ کفار مكَّة، ومعركة بدر هي أول معركة خاضها المسلمون دفاعاً عن الدين الإسلامي، وكان عددهم فيها ثلاث مائة وبضعة عشر(1).

وقد بقي منهم بقية إلى عصر أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فكان السواد الأعظم منهم معه (عليه السلام) في حروبه التي خاضها، فوقفوا إلى جانبه وقاتلوا معه، وقد بلغ عدد البدريين في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة الجمل مائة وثلاثون بدرياً(2).

أمَّا في معركة صفين فقد بلغ عدد البدريين فيها مع الإمام علي (عليه السلام) سبعة وثمانين رجلاً، من المهاجرين سبعة عشر، ومن الأنصار سبعين(3)، وقيل: كان معه ثمانون بدرياً(4)، وقيل: سبعون(5)

ص: 18


1- ينظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 3 / 129، الرَّوضُ البَاسم في الذِّبِّ عَنْ سُنَّةِ أبي القَاسِم - صَلىَّ اللهُ عَلَيهِ [وآله] وَسَلَّمَ - (وعليه حواشٍ لجماعةٍ من العلماء منهم الأمير الصّنعاني)، ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضی بن المفضل الحسني القاسمي: 1 / 13
2- ينظر: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي المكي: 2 / 560
3- ینظر: مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي: 2 / 352
4- ينظر: المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن النيسابوري المعروف بابن البيع: 3 / 112، التدوين في أخبار قزوین، عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم: 1 / 193، بغية الطلب في تاريخ حلب، عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي: 1 / 311
5- ينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب،: 1 / 312

2 - أهل بيعة الرضوان

تتلخص حادثة بيعة الرضوان وفق ما تناقلته مصادر مدرسة الصحابة بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث عثمان بن عفان إلى قريش، بعد أن ورد هو والمسلمون أطراف مكّة، وقد أُشيع خبر قتل عثمان بن عفان بين الناس، وعندها دعا النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس للبيعة، فبايعوه تحت الشجرة(1)على الموت(2)، أو على عدم الفرار(3)، وكان عددهم ألفاً وخمسمائة(4)، وقيل: ألفاً وثلاثمائة(5).

وهذه الفئة التي بايعت بيعة الرضوان لهم حبوة وخصوصية ومزية في مدرسة الصحابة.

ص: 19


1- ينظر: تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، محمد بن جریر بن یزید بن کثیر بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 ه): 2 / 632، الإمامة والرد على الرافضة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران الأصبهاني (المتوفي: 430 ه): 1 / 304، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَایْماز الذهبي: 2 / 383
2- ينظر: المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَایْماز الذهبي 1 / 436
3- ينظر: المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفي: 732 ه): 1 / 139
4- ينظر: الطبقات الکبری، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد (المتوفى: 230 ه): 2 / 75، تاريخ الإسلام و وفیات المشاهير والأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَایْماز الذهبي: 2 / 383
5- ينظر: تاریخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (المتوفي: 571 ه): 31 / 41

وعندما نأتي إلى عصر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) نجد أنَّ هذه الفئة قد لزمته وحاربت معه في حروبه، وكان عدد من لزمه منهم تسعمائة(1)، وقيل: ثمانمائة(2)، وقيل: سبعمائة رجل(3).

ثانياً: قتلى المعارك التي جرت في عهد الإمام علي (علیه السلام)

1 - قتلى معركة الجمل

بعد مقتل عثمان بن عفان في المدينة المنورة آلت الأمور إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعد إلحاحٍ شديدٍ من المسلمين، وقد أوضح ذلك المشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول:

«فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، يَنْثَالُونَ عَلَّيَ مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ»(4).

وفي هذا المشهد قال (عليه السلام) لهم:

«دَعُونِی وَ اِلْتَمِسُوا غَیْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ لاَ تَقُومُ لَهُ اَلْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَیْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الاَفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّهَ قَدْ تَنَکَّرَتْ.

وَ اِعْلَمُوا أَنِّی إِنْ أَجَبْتُکُمْ رَکِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ؛ وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً»(5).

ص: 20


1- ينظر: مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي: 2 / 352
2- ينظر: تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 196، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1138، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة: 2 / 259، تاريخ الإسلام و وفیات المشاهير والأعلام: 3 / 545 - 546
3- ينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب: 1 / 312
4- نهج البلاغة، جمعه الشريف الرضي، تحقيق الشيخ فارس الحسُّون: 34
5- نفس المصدر: 179

ولاستجلاء الأمر أكثر نستشهد با قاله ابن الأثير (ت 630 ه):

(كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ: مِنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤمِنِينَ حَبِيبَةِ رَسُولِ اللهَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - إِلَى ابْنِهَا الْخَالِصِ زَیْدِ بْنِ صُوحَانَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاقْدُمْ فَانْصُرْنَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَخَذِّلِ النَّاسَ عَنْ عَلِيٍّ.

فَكَتَبَ إِلَيْهَا: أَمَّا بَعْدُ فَأَنَا ابْنُكِ الْخَالِصُ، لَئِنِ اعْتَزَلْتِ وَرَجَعْتِ إِلَى بَيْتكِ، وَإِلَّا فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ نَابَذَكِ.

وَقَالَ زَيْدٌ: رَحِمَ اللهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أُمِرَتْ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَهَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نُقَاتِلَ، فَتَرَكَتْ مَا أُمِرَتْ وَأَمَرَتْنَا بِهِ، وَصَنَعَتْ مَا أُمِرْنَا بِهِ وَنَهَتْنَا عَنْهُ.

وَکَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ عِنْدَ قُدُومِهَا عُثْمَانُ بْنُ حَنَيْفٍ فَقَالَ لَهُمْ: مَا نَقَمْتُمْ عَلَى صَاحِبِكُمْ؟ فَقَالُوا: لَمْ نَرَهُ أَوْلَى بِهَا مِنَّا وَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ. قَالَ: فَإِنَّ الرَّجُلَ أَمَّرَنِي فَأَكْتُبُ إِلَيْهِ فَأُعْلِمُهُ مَا جِئْتُم بِهِ، عَلَى أَنْ أُصَلِّيَ أَنَا بِالنَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَنَا كِتَابُهُ.

فَوَقَفُوا عَنْهُ، فَكَتَبَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَتَّى وَثَبُوا عَلَى عُثْمَانَ عِنْدَ مَدِينَةِ الرِّزْقِ، فَظَفِرُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ خَشُوا غَضَبَ الْأَنصَارِ، فَنَتَفُوا شَعْرَ رَأُسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَحَاجِبَيْهِ وَضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ. وَقَامَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ خَطِيبَيْنِ فَقَالَا: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ تَوْبَةً لِحَوْبَةٍ، إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَسْتَعْتِبَ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ عُثْمَانَ، فَغَلَبَ السُّفَهَاءُ الْحُلَمَاءَ فَقَتَلُوهُ! فَقَالَ النَّاسُ لِطَلْحَةَ: یَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ کَانَتْ کُتُبُكَ تَأْتِینَا بِغَیْرِ هَذَا. فَقَالَ الزُّبَیْرُ: هَلْ جَاءَکُمْ مِنِّی کِتَابٌ فِي شَأْنِهِ؟ ثُمَّ ذَکَرَ قَتْلَ عُثْمَانَ وَأَظْهَرَ عَیْبَ عَلِیٍّ. فَقَامَ إِلَیْهِ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَیْسِ فَقَالَ: أَیُّهَا الرَّجُلُ أَنْصِتْ حَتَّی نَتَکَلَّمَ. فَأَنْصَتَ. فَقَالَ الْعَبْدِیُّ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِینَ أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ أَجَابَ رَسُولَ اللّهَّ - صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ - فَکَانَ لَکُمْ بِذلِكَ فَضْلٌ، ثُمَّ دَخَلَ النّاسُ فِی الإِسلامِ کَما دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَام کَمَا دَخَلْتُمْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللّهَّ - صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - بَایَعْتُمْ رَجُلًا مِنْکُم فَرَضِینَا وَسَلَّمْنَا، وَلَمْ تَسْتَأْمِرُونَا فِي شَيْءٍ

ص: 21

مِنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ اللّهُ لِلْمُسلِمِینَ فِي إِمَارَتِهِ بَرَکَةً، ثُمَّ مَاتَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَیْکُمْ رَجُلًا فَلَمْ تُشَاوِرُونَا فِي ذَلِكَ فَرَضِینَا وَسَلَّمْنَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَعَلَ أَمْرَکُمْ إِلَی سِتَّةِ نَفَرٍ، فَاخْتَرْتُمْ عُثْمَانَ وَبَایَعْتُمُوهُ عَنْ غَیْرِ مَشُورَتِنَا، ثُمَّ أَنْکَرْتُمْ مِنْهُ شَیْئًا فَقَتَلْتُمُوهُ عَنْ غَیْرِ مَشُوَرةٍ مِنَّا، ثُمَّ بَایَعْتُمْ عَلِیًّا عَنْ غَیْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا، فَمَا الَّذِی نَقِمْتُمْ عَلَیْهِ فَنُقَاتِلُهُ؟ هَلِ اسْتَأْثَرَ بِفَيْءٍ، أَوْ عَمِلَ بِغَیْرِ الْحَقِّ، أَوْ أَتَی شَیْئًا تُنْکِرُونَهُ فَنَکُونُ مَعَکُمْ عَلَیْهِ، وَإِلَّا فَمَا هَذَا؟ فَهَمُّوا بِقَتْلِ ذلِكَ الرَّجُلِ، فَمَنَعَتْهُ عَشِیرَتُهُ، فَلَمَّا کَانَ الْغَدُ وَثَبُوا عَلَیْهِ وَعَلَی مَنْ مَعَهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِینَ. وَبَقِيَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بَعْدَ أَخْذِ عُثْمَانَ بِالْبَصرَةِ وَمَعَهُمَا بَيْتُ الْمَالِ وَالْحَرَسُ وَالنَّاسُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا اسْتَتَرَ.

وبَلَغَ حُکَیْمَ بْنَ جَبَلَةَ مَا صُنِعَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَیْفٍ فَقَالَ: لَسْتُ أَخَافُ اللّهَّ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُ! فَجَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَبْدِ القَیْسِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ رَبِیعَةَ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ دَارِ الرِّزْقِ، وَبِهَا طَعَامٌ أَرَادَ عَبْدُ اللهَّ بْنُ الزُّبَیْرِ أَنْ یُرْزَقَهُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهَّ: مَا لَكَ یَا حُکَیْمُ؟ قَالَ: نُرِیدُ أَنَّ نَرْتَزِقَ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ وَأَنْ تُخَلُّوا عُثْمَانَ، فَیُقِیمَ فِي دَارِ الْإِمارَةِ عَلَی مَا کَتَبْتُمْ بَیْنَکُمْ حَتَّی یَقدمَ عَلِیٌّ، وَایْمُ اللهَّ لَوْ أَجِدُ أَعْوَانًا عَلَیْکُمْ مَا رَضِیَتُ بِهَذِهِ مِنْکُمْ حَتَّی أَقْتُلَکُمْ بِمَنْ قَتَلْتُمْ، وَلَقَدْ أَصْبَحْتُمْ وَإِنَّ دِماءَکُمْ لَنَا لَحَلَالٌ بِمَنْ قَتَلْتُمْ، أَمَا تَخَافُونَ اللّهَّ؟ بِمَ تَسْتَحِلُّونَ الدَّمَ الْحَرَامَ؟ قَالَ: بِدَمِ عُثْمَانَ. قَالَ: فَالَّذِینَ قَتَلْتُمْ هُمْ قَتَلُوا عُثْمَانَ؟ أَمَا تَخَافُونَ مَقْتَ اللّهَّ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهَّ: لَا نَرْزُقُکُمْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ وَلَا نُخَلِّي سَبِیلَ عُثْمَانَ حَتَّی تَخْلَعَ عَلِیًّا. فَقَالَ حُکَیْمٌ: الَلَّهُمَّ إِنَّكَ حَکَمٌ عَدْلٌ فَاشْهَدْ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَسْتُ فِي شَكٍّ مِنْ قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَمَنْ کَانَ فِي شَكٍّ فَلْیَنْصَرِفْ. وَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَهُمْ. فَقَالَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ: الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي جَمَعَ لَنَا ثَأْرَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَۃِ، اللَّهُمَّ لَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا! فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَمَعَ حُكَيْمٍ أَرْبَعَةُ قُوَّادٍ، فَكَانَ حُكَيْمٌ بِحِیَالِ طَلْحَةَ، وَذُرَیْحٌ بِحِيَالِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ المُحْتَرِشِ بِحِیَالِ عَبْدِ الرَّحمَنِ بْنِ عَتَّابٍ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ بِحِیَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ هِشَامٍ، فَزَحْفَ طَلْحَةُ لِحُکَيْمٍ

ص: 22

وَهُوَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلَ حُكَيْمٌ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَيَقُولُ:

أَضْرِبُهُمْ بِالْيَابِسِ ضَرْبَ غُلامٍ عَابِسِ ٭٭٭ مِنَ الْحَيَاةِ آيِسِ فِي الْغُرُفَاتِ نَافَسِ فَضَرَبَ رَجُلٌ رِجْلَهُ فَقَطَعَهَا، (فَحَبَا حَتَّى) أَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا صَاحِبَهُ فَصَرَعَهُ وَأَتَاهُ فَقَتَلَهُ ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ وَقَالَ:

يَا سَاقِي لَنْ تُرَاعِي ٭٭٭ إِنَّ مَعِي ذِرَاعِي أَحْمِي بِهَا کُرَاعِي وَقَالَ أَيْضًا:

لَیْسَ عَلَيَّ أَنْ أَمُوتَ عَارُ ٭٭٭ وَالْعَارُ فِي النَّاسِ هُوَ الْفِرَارُ والْمَجْدُ لَا يَفْضَحُهُ الدَّمَارُ فَأَتَی عَلَیْهِ رَجُلٌ وَهُوَ رَثِيثٌ، رَأْسُهُ عَلَى آخَرَ، فَقَالَ: مَا لَكَ یَا حُکَیْمُ؟ قَالَ: قُتِلْتُ. قَالَ: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: وِسَادَتِي. فَاحْتَمَلَهُ وَضَمَّهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَكَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حُكَيْمٌ وَإِنَّهُ لَقَائِمٌ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ السُّيُوفَ لَتَأْخُذُهُمْ وَمَا يَتَتَعْتَعُ وَيَقُولُ: إِنَّا خَلَّفْنَا هَذَيْنِ، وَقَدْ بَايَعَا عَلِيًّا وَأَعْطَیَاهُ الطَّاعَةَ ثُمَّ أَقْبَلَا مُخَالِفَيْنِ مُحَاِربَيْنِ يَطْلُبَانِ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَفَرَّقَا بَيْنَنَا، وَنَحْنُ أَهْلُ دَارٍ وَجِوَارٍ، اللَّهُمَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا عُثْمَانَ، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: يَا خَبِيثُ، جَزِعْتَ حِينَ عَضَّكَ نَکَالُ اللهَّ إِلَى الْكَلَامِ مِنْ نَصْبِكَ وَأَصْحَابِكَ بِمَا رَكِبْتُمْ مِنَ الْإِمَامِ الْمَظلُومِ وَفَرَّقْتُمْ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَأَصَبْتُمْ مِنَ الدِّمَاءِ، فَذُقْ وَبَالَ اللهَّ وَانْتِقَامَهُ. وَقُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ، قَتَلَهَ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْحَمِ الْحُدَّانِيُّ، فَوُجِدَ حُکَیْمٌ قَتِيلًا بَیْنَ يَزِيدَ وَأَخِيهِ كَعْبٍ.

وَقِيلَ: قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ضُخَيْمٌ، وَقُتِلَ مَعَهُ ابْنُهُ الْأَشرَفُ وَأَخُوهُ الرِّعْلُ بْنُ جَبَلَةَ. وَلمَّا قُتِلَ حُکَيْمٌ أَرَادُوا قَتْلَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا إِنَّ سَهْلًا بِالْمَدِينَةِ،

ص: 23

فَإِنْ قَتَلْتُمُونِي انْتَصَرَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَقَصَدَ عَلِيًّا. وَقُتِلَ ذُرَيْحٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَفْلَتَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَجَأُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَنَادَی مُنَادِي طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: مَنْ كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ غَزَا الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِنَا بِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقُتِلُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَإِنَّ عَشِيرَتَهُ بَنِي سَعْدٍ مَنَعُوهُ، وَكَانَ مِنْهُمْ، فَنَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ شَدِیدٌ، وَضَرَبُوا فِيهِ أَجَلًا وَخَشَّنُوا صُدُورَ بَنِي سَعِدٍ، وَكَانُوا عُثْمَانِيَّةً فَاعْتَزَلُوا، وَغَضِبَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ حِيْنَ غَضِبَتْ سَعْدٌ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَمَنْ کَانَ هَرَبَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ لُزُومِ لطَّاعَةِ لِعَلِيٍّ، فَأَمَرَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ لِلنَّاسِ بِأُعْطِیَّاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، وَفَضَّلَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَخَرَجَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ حِينَ مَنَعُوهُمُ الْفُضُولَ، فَبَادَرُوهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِمُ النَّاسُ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ، وَخَرَجُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى طَرِيقِ عَلِيٍّ. وَأَقَامَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ثَأْرٌ إِلَّا حُرْقُوصُ بْنُ زُهَیْرٍ، وَكَتَبُوا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِمَا صَنَعُوا وَصَارُوا إِلَيْهِ، وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ، وَتَأْمُرُهُمْ أَنْ يُثَبِّطُوا النَّاسُ عَنْ عَلِيٍّ، وَتَحُثُّهُمْ عَلَى طَلَبِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَكَتَبَتْ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَإِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمَا کَانَ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَسيَّرَتِ الْكُتُبَ.

وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.

وَبَايَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَلَمَّا بَايَعُوهُمَا قَالَ الزُّبَيْرُ: أَلَا أَلْفُ فَارِسٍ أَسِيرُ بِهِمْ إِلَى عَلِيٍّ، أَقْتُلُهُ بَيَاتًا أَوْ صَبَاحًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا! فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَلْفِتْنَةُ الَّتِي كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْهَا. فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَتُسَمِّیهَا فِتْنَةً وَتُقَاتِلُ فِيهَا؟ قَالَ: وَيْلَكَ! إِنَّا نُبَصَّرُ وَلَا نُبْصِرُ، مَا كَانَ أَمْرٌ قَطٌّ إِلَّا وَإِنَّا أَعْلَمُ مَوْضِعَ قَدَمِي فِيهِ، غَيْرَ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي أَمُقْبِلٌ أَنَا فِيهِ أَمْ مُدْبِرٌ)(1).

ص: 24


1- الكامل في التاريخ: 2 / 578 - 581

ولنترك هذه المقدِّمة جانباً التي جئنا بها من أجل إيضاح مشهد معركة الجمل والدوافع التي أدَّت إليها، ولنعود إلى الأصل الذي انبثقنا منه وهو أنَّ طلحة والزبير وعائشة قد خرجوا من أجل الإصلاح والطلب بدم عثمان بن عفان، وقد اتَّخذوا من البصرة قاعدةً لهم، بعد أن استولوا عليها بمعركة قتل فيها جمع من المسلمين، وقد أسَّروا الوالي المنصَّب من لدن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فضربوه ونتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ثمَّ حبسوه، ولم يقتلوه خوفاً من أهل المدينة، لأنَّه كان من الأنصار، ثمَّ طاردوا كلَّ من رفضهم، وكلَّ من عارضهم، وبعد أحداث كثيرة يأتي الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبعد الإنذار والإعذار تحدث معركة ثانية أعظم من الأولى، ينتصر فيها الخليفة الشرعي على من ثار ضدَّه(1).

وراح ضحيَّة هذه المعركة من القتلى (حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أَصْحَاب علي، ونصفهم من أَصْحَاب عَائِشَة، من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مضر ألفان، وخمسمائة من قيس، وخمسمائة من تميم، وألف من بنی ضبة، وخمسمائة من بكر بن وائل وقيل: قتل من أهل البَصْرَة فِي المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل من أهل البَصْرَة فِي المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل البَصْرَة، و من أهل الكُوفَة خمسة آلاف، وقتل من بني عدي يَوْمَئِذٍ سبعون شیخاً، كلهم قَدْ قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن)(2).

ص: 25


1- ينظر: تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 181 - 191، تاریخ الرسل والملوك: 2 / 458 - 473، الكامل في التاريخ: 2 / 576 - 581، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام: 2 / 270
2- الفتنة ووقعة الجمل، سیف بن عمر الأسدي التَّمِيمي: 1 / 279، تاریخ الرسل والملوك: 4 / 538، ينظر: الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة، محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري التِّلمساني المعروف بالبُرِّي: 2 / 293

أمَّا مجموع من قُتل في تلك المعركة فقد قيل: ثَلَاثَة عشر ألفاً(1)، وقيل عشرون ألفاً(2)، وقيل: (ثلاثون ألفًا، لم تكن مقتلة أعظم منها)(3).

2 - قتلى معركة صفين

بعد معركة الجمل توجَّه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الشام التي ثار فيها معاوية بن أبي سفيان، معللاً ثورته بالثأر لعثمان بن عفان، وطالباً للقصاص من قتلته، وأعلن حربه ضدَّ الحكومة الشرعية المتمثلة بالإمام علي (عليه السلام)، وقد التقى الطرفان في صفين، فحدثت بينهما معركة كبيرة، راح ضحيتها ستون ألفاً(4)، وقيل: سبعون ألفاً(5)، وقِيلَ: تِسْعُونَ أَلفًا(6)، وقد وصف بعضهم حال القتلى فقال: (فلقد بلغني أنه كان يُدفن في القبر خمسون إنساناً. قال معمر: فلقد رأيتها مدّ البصر، يعني قبورهم)(7).

وكان من جملة المقتولين في هذه المعركة خمسة وعشرون بدرياً(8)، وثلاث وستون

ص: 26


1- تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 186
2- تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 186، المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2 / 571
3- تاريخ الإسلام ووفیات المشاهير والأعلام: 3 / 448
4- ينظر: تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 196، تاریخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي: 10 / 172
5- ينظر: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3 / 545، بغية الطلب في تاريخ حلب: 1 / 311
6- ينظر: المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2 / 571
7- بغية الطلب في تاريخ حلب: 1 / 312
8- ينظر: المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2 / 573، تاریخ الإسلام ووفیات المشاهير والأعلام: 3 / 542، سير أعلام النبلاء: 2 / 520

من أصحاب بيعة الرضوان منهم عمَّار بن یاسر (رضوان الله عليه)(1)، وقُتل في هذه المعركة أويس القرني، وهو من التابعين الذين شهد لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة(2)، وهؤلاء جميعاً كانوا في صفِّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقتلهم أصحاب معاوية بن أبي سفيان.

3 - قتلى معركة النهروان.

وفي أثناء معركة صفين انكسر معاوية وجيشه من أهل الشام، حتَّى وصل بالعراقيين أتباع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أن وصلوا إلى فصطاط معاوية ومركز قيادته، وقد لاحت بشائر النصر وأصبح القضاء على معاوية وحاشيته قاب قوسين أو أدنى، أمر معاوية جنده بإشارة من عمرو بن العاص أن ارفعوا المصاحف، وأطلقوا شعار (لا حكم إلَّا لله)، وهنا انشقَّ جيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام) واختلفوا عليه ما بين مؤيِّد لإتمام الحرب والقضاء على من تبقى من أنصار معاوية، وبين من انطلت عليه الخدعة، وأصبح شارعاً سيفه بوجه إمامه معترضاً عليه اتمام الحرب، وفي هذه الأثناء يطرح معاوية مع عمرو بن العاص مشروع التحكيم، الذي رفضه أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ولكنَّ أصحابه أصرُّوا عليه، وبعد المشاورة بين الحكمين وهما أبو موسى الأشعري من طرف الإمام علي (عليه السلام)، الذي لم يكن قابلاً به وإنَّما فُرِض عليه من قبل أتباعه من غير علم ودراية ووعي بعواقب الأمور، وعمرو بن العاص من لدن معاوية.

ص: 27


1- ينظر: تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 196، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1138، سير أعلام النبلاء: 2 / 526، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة: 2 / 259
2- ينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب: 1 / 312

وبعد مداولة استمرت لجلسات متعددة، خدع عمرو بن العاص أبا موسی الأشعري، فاتفق معه على خلع أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ومعاوية بن أبي سفیان، وإعادة الأمر شوری بین المسلمين، ولمَّا تمَّ الاتفاق قدَّم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وجعله يخلع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من الخلافة، ولمَّا وصل الدور إليه ثبَّت معاوية بن أبي سفيان حاكماً.

وفي هذه الأثناء تتأزَّم الأمور وتنشقُّ فئة من جيش الإمام علي (عليه السلام)، ويخرجوا مكفرين كلا الطرفين، ثمَّ يتخذون لهم معسكراً في النهروان، وقد قاموا بتهديد أمن المسلمين بعد أن قتلوا مجموعة من الناس(1).

وبعد الإنذار والإعذار من لدن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) توجَّه إليهم بعد أن تمادوا في غيِّهم وطغيانهم، فحدثت معركة بينهم وبينه (عليه السلام)، راح على إثرها ألفان وثمانمائة من الخوارج(2)، وسبعة فقط من جيش الإمام علي (عليه السلام)(3)، أوَّلهم يزيد بن نويرة(4)وهو صحابي من الأنصار: (شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهَّ صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ

ص: 28


1- سيأتي الكلام مفصَّلًا عن هذه الواقعة في موضوع دور قیس بن سعد في معركة النهروان
2- ينظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفي: 597 ه): 5 / 134، الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفي: 630 ه): 2 / 695، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفي: 1315 ه): 1 / 108 - 109
3- ينظر: تجارب الأمم وتعاقب الهمم، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسکویه (المتوفي: 421 ه): 1 / 561، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 ه): 5 / 134 الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315 ه): 1 / 108 - 109
4- ينظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفي: 597 ه): 5 / 134

[وآله] وَسَلَّمَ بِالجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ، شَهِدَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: «مَنْ جَازَ التَّلَّ فَلَهُ الجَنَّةُ»، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ نُوَيرَةَ: یَا رَسُولَ اللهَّ، إِنَّمَا بَينِي وَبَينَ الجَنَّةِ هَذَا التَّلُّ! فَأَخَذَ يَزِيدُ سَيْفَهُ فَضَارَبَ حَتَّى جَازَ التَّلَّ، فَقَالَ ابنُ عَمٍّ لَهُ: یَا رَسُولَ اللهَّ أَتَجْعَلُ لِي مَا جَعَلْتَ لابْنِ عَمِّي يَزِيدَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَاتَلَ حَتَّى جَازَ التَّلَّ، ثُمَّ أَقْبَلا يَخْتَلِفَانِ فِي قَتِيلٍ قَتَلاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وآله] وَسَلَّمَ لَهُمَا: «کِلاکُمَا قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَلَكَ يَا يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِكَ دَرَجَةٌ»، قَالَ: فَشَهِدَ يَزِيدُ مَعَ عَلِيٍّ يَومَ النَّهْرَوَانِ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ يَومَ النَّهْرَوَانِ)(1).

من يتحمَّل وزر المعارك؟

شدَّد الدين الإسلامي، وبنصوص شرعية قاطعة الدلالة على تحريم إراقة الدم أو هتك الحرمة. قال تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(2).

وقد أكَّد النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، على حرمة إراقة الدماء بنصوص كثيرةٍ جداً، وجعل ذلك من أولى لبنات تأسيس الدولة الإسلامية، فكان یرکِّز على بيان قيمة الإنسان المؤمن بالنسبة إلى الله تعالى، وقيمته أكبر من الدُّنيا بأسرها، وفي هذا المعنى يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا»(3)، وفي نصٍّ آخر: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلىَ اللهَّ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيِرْ

ص: 29


1- تاریخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفي: 463 ه): 1 / 568 - 569، الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني: 6 / 530
2- النساء: 93
3- المجتبى من السنن المشهور بسنن النسائي: 7 / 82، شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسی الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 ه): 7 / 254

حَقٍّ»(1)، وقال أيضاً: «لَوْ أَنَّ الثَّقَلَيِنْ اجْتَمَعُوا عَلىَ قَتْلِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وجُوهِهِمْ فِی النَّارِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ یَشْتَرِكُ بِشَطْرِ کَلِمَةٍ فِي قَتْلِ مُؤْمِنٍ إِلَّا کُتِبَ بَیْنَ عَیْنَیْهِ آیِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهَّ، إنَّ اللّهَّ حَرَّمَ الْجَنَّهَ عَلَی الْقَاتِلِ وَالْآمِرِ»(2).

وهذا الأمر لم يختص بدم المؤمن فقط، وإنّما تعدّى ذلك إلى الكافر في بعض الحالات؛ إذ روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «:مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، وَإِنْ کَانَ الْمَقْتُولُ کَافِراً»(3). ولم يكتف الإسلام بتشديد العقوبة على المُباشر بالقتل؛ بل تعدّى ذلك إلى من أعان على القتل ولو بشطر كلمة، وفي هذا المعنى ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «مَنْ أَعَانَ عَلَی قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ کَلِمَةٍ لَقِي اللهَ یَوْمَ الْقِیامَةِ مَکْتُوبٌ عَلَی جَبْهَتِهِ آیِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ»(4)، ولم يقف الإسلام عند هذا الحد، بل شدَّدَ العقوبة على من رضي بفعل القتل، ولو كان بأي مكان، وفي ذلك يُروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) قوله: «لو أنَّ رجلاً قُتِل بالمشرق وآخر رَضِي بالمغرب كان كمَن قتله واشترك في دمِه»(5)، وتعدَّى ذلك إلى النهي عن مشاهدة عملية القتل، إذ يُروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ مِنْکُمْ قَتِيلًا قُتِلَ صَبْرًا فَعَسَى أَنْ يُقْتَلَ مَظْلُومًا، فَتَنْزِلَ السَّخْطَةُ عَلَيْهِمْ فَتُصِيبَهُ مَعَهُم»(6).

ص: 30


1- سنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني: 2 / 874، الجامع الكبير - سنن الترمذي، محمد بن عیسی بن سَوْرة بن موسی بن الضحاك، الترمذي: 3 / 68
2- حديث الزهري، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد، الزهري، القرشي، أبو الفضل البغدادي: 1 / 479
3- المعجم الكبير، سلیمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي: 14 / 434
4- السنن الكبرى، البيهقي: 16492
5- روضة الواعظين: 461
6- المعجم الكبير: 4 / 218

وكان التأكيد على حرمة الدم من أولى الوصايا التي أوصى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع، «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي هَذَا فَإِنِّي لَا أَدْرِي لِعَلِّی لَا أَلْقَاکُمُ بَعْدَ عَامِي هَذَا» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا یَوْمُ الْحَجِّ الْأَکبَرُ وَهُوَ یَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهرٍ هَذَا؟» فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا شَهْرُ حَرَامٍ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» فَقَالُوا هَذَا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَکُمْ وَأَمْوَالَکُْمْ عَلَیْکُمْ حَرَامٌ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ تَلْقَوْنَ رَبَّکُمْ کَحُرْمَةِ یَوْمِکُمْ هَذَا فِي شَهْرِکُمْ هَذَا فِي بَلَدِکُمْ هَذَا، وَإِنَّکُمْ سَتَلقَوْنَ رَبَّکُمْ عَزَّ وَجَلَّ فَیَسْأَلُکُمْ عَن أَعْمَالِکُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ»(1).

فهذه الروايات جاءت کُلَّها بصدد بیان حرمة إراقة الدماء، ولذلك فنحن أمام قضية كبيرة جداً، لا بدَّ من إصدار حكم فيها، والقضية هي معارك ثلاث حدثت بين المسلمين راح ضحيتها ما يُقارب أو يزيد عن مائة ألف مسلم، ناهيك عمَّا سببت من تعطَّل وتأخر في جميع مجالات الدولة الإسلامية، وكذلك الاستنزاف الاقتصادي، فضلاً عمَّا خلفته من أيتام وأرامل.

ولو عدنا إلى المرجعيات الإسلامية التي أشرنا إليها سابقاً من أجل تحديد المسؤول عن هذه الحروب، ونُخصِّص الأمر بمدرسة الصحابة، لأنَّ الأمر مفروغ منه من لدن أصحاب مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

إنَّ أصحاب مدرسة الصحابة قد ألزموا أنفسهم باتباع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنحاكم الأطراف بهذا الأصل، فالطرف الذي مال معه جُلُّ الصحابة عدداً ونوعيةً يكون هو صاحب الحق دون سواه.

وإذا بحثنا عن الجهة التي مال إليها أكثر صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنَّنا نجدهم قد مالوا إلى الحكومة الشرعية المتمثلة بأمير المؤمنين علي بن

ص: 31


1- الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي : 5 / 2218

أبي طالب (عليه السلام)، وقد ذكر لنا التاريخ أنَّه كان معه في حروبه ما لا يحصى من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، وقيل: حضر معه من سائر المهاجرين والأنصار ثمانمائة من الصحابة جعل قیس بن سعد أميراً عليهم(2)، أمَّا من سائر أهل المدينة فكان معه أربعة آلاف مقاتل(3)، هذا بالنسبة للعدد.

أمَّا بالنسبة للصحابة من أصحاب الرفعة والفضيلة والسابقة في الدين والجهاد، فكان مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يوم الجمل مائة وثلاثون بدرياً(4)، وأَربعمائَة مِمَّن شهد بيعَة الرضوَان(5).

أمَّا في معركة صفين فقد كان مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (من أهل بدر سبعون رجلاً، وممَّن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلَّا النعمان بن بشير، ومسلمة بن مخلد)(6)، وقيل: (كان ممَّن شهد صفين مع علي من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً: منهم سبعة عشر من المهاجرين، وسبعون من الأنصار، وشهد معه من الأنصار ممَّن بايع تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم تسعمائة، وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة)(7).

ص: 32


1- ينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب: 1 / 312
2- ينظر: الإمامة والسياسة: 1 / 169
3- ينظر: تاریخ خليفة بن خياط: 1 / 184، تاريخ الإسلام ووفیات المشاهير والأعلام: 3 / 483
4- ينظر: تاريخ الإسلام ووفیات المشاهير والأعلام: 3 / 483، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي: 2 / 560
5- ينظر: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3 / 483
6- تاریخ الیعقوبی: 2 / 188، ينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب: 1 / 312
7- مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي: 2 / 352

أمَّا أصحاب معاوية بن أبي سفيان فقد وصفهم قیس بن سعد بن عبادة؛ لمّا خرج النعمان بن بشير في صفّين إليه بأمر معاوية حتَّى يرتدع (قیس) عن ذكر مساوئه ومثالبه، فقال قيس له فيما قال: «يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً أو أعرابياً أو یمانياً مستدرجاً بغرور، انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، الذين رضي الله عنهم، ثمَّ انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك، ولستما والله ببدريين ولا عقبيين ولا أحديين، ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن...»(1).

وقَالَ معاوية بن أبي سفيان للأنصار بعد أن استتبَّ له الحكم: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ بِمَا تَطْلُبُوْنَ مَا قِبَلِي؟ فَوَ اللهِ لَقَدْ کُنْتُمْ قَلِيْلاً مَعِی، کَثِیْراً عَلَيَّ، وَأَفْلَلْتُم حَدِّي يَوْمَ صِفِّيْنَ، حَتَّى رَأَيْتُ المَنَايَا تَلَظَّى فِي أَسِنَّتِکُم، وَهَجَوْتُمُوْنِي، حَتَّى إِذَا أَقَامَ اللهُ مَا حَاوَلْتُم مَيْلَهُ، قُلْتُم: ارْعَ فِيْنَا وَصِيَّةَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ)(2).

إذن لم يكن مع معاوية بن أبي سفيان عدد من الصحابة يُعتدُّ بهم، وكذلك لم يكن معه من أصحاب الريادة والفضل والسبق والجهاد في الإسلام، بشهادة الصحابي قیس بن سعد.

وهنا نتساءل هل يجوز لعائشة وطلحة والزبير أن يجتهدوا مقابل هذا العدد الهائل من الصحابة الذين كانوا في صفِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهل يمكن لهم أن يجتهدوا في قبال مائة وثلاثين بدرياً، وأَربعمائَة مِمَّن شهد بيعَة الرضوَان، وهؤلاء الصحابة كان فيهم الفقهاء والعلماء وحفظة القرآن.

وهذا الأمر لو عرضناه على الأصل الذي تمسَّکت به مدرسة الصحابة؛ لكان الجواب قطعاً لا يجوز لعائشة ولا للزبير ولا لطلحة أن يجتهدوا في قبالة الكفَّة التي

ص: 33


1- وقعة صفين، ابن مزاحم المنقري: 449 - 450
2- تاریخ دمشق: 49 / 430، سير أعلام النبلاء: 3 / 111

كانت مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من الصحابة، ولذلك واعتماداً على هذا الأصل هم مسؤولون عن الدماء التي أريقت بسببهم، إذ لا يُعقل أن نجعل لهم حقَّاً فيما ذهبوا إليه مقابل ذلك العدد الهائل من الصحابة، الذين انضمُّوا إلى عسكر الإمام علي (عليه السلام).

والأمر أكثر فضاعة مع معاوية بن أبي سفيان، فهو الطليق بن الطليق، ومن الذين أسلموا عام الفتح، فكيف له أن يجتهد أمام أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، والإجماع يقول أنَّهم أعلى منه في سبقهم وجهادهم وفضلهم.

وكيف له أن يجتهد في قتل خمسة وعشرين بدرياً، وثلاث وستين من أصحاب بيعة الرضوان، وهم جميعاً أعلى منه درجة في سبقهم للإسلام، وجهادهم ضدَّ أعدائه الذين كان معاوية وأبوه من رؤوسهم؟ وعلى هذا الأساس الذي ألزمت به مدرسة الصحابة نفسها، يكون المسؤولون عن الحروب الثلاث (لأنَّ النهروان كانت نتيجة لحربي الجمل وصفين)، هم عائشة والزبير وطلحة ومعاوية مع باقي القيادات الأخرى، التي وقفت في الصفِّ الذي حارب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسواد الأعظم من الصحابة، الذين وقفوا مع الحكومة الشرعية التي اختارها المسلمون.

ولذلك لا وجود لأي دليل يسمح لهم بالاجتهاد؛ لأنَّهم ثلة صغيرة في قبال عدد كبير يفوقهم أضعافاً مضاعفة، وهم من خيرة الصحابة ومن أولي السبق والفضيلة.

ص: 34

الفصل الأول سيرة قيس بن سعر في حياة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتى خلافة الإمام علي علیه السلام

ص: 35

ص: 36

توطئة:

في هذا الفصل سنبحث سيرة قیس بن سعد بن عبادة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدءاً من دخوله إلى المدينة المنورة ولقائه بقیس بن سعد ووالده، ثمَّ أدواره القيادية التي تلت حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدءاً من السقيفة ومروراً بحكم أبي بكر، وينتهي هذا الفصل بذكر بعض الحوادث التي جرت بين أبي بكر وعمر من جهة، وبين قیس بن سعد من جهة أُخرى.

وقد كان لقيس دوراً مشرفاً في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كان من خُلص أصحابه وأنصاره المقربين، أمَّا في عهد أبي بكر فكان من أقطاب المعارضة لحكم السقيفة، وقد ذكر له التاريخ مواقفاً مشرفة، وسنتحدَّث عن كلِّ ذلك في هذا الفصل، على أنَّ البداية ستكون بمبحث تعريفي نبين فيه السمات الشخصية لقيس بن سعد حتَّى يكون القارئ الكريم على وعي تام بهذه الشخصية ومميزاتها وما لها وما عليها، وبعد ذلك ندخل في صُلب موضوع الدراسة.

ص: 37

ص: 38

المبحث الأول: السمات الشخصية لقیس بن سعد بن عبادة

1 - نسبه:

قیس بن سعد بن عبادة بن دليم(1)بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طریف بن الخزرج بن ساعدة بن کعب بن الخزرج الأنصاري الساعدي(2)، يُكنَّى أبا الفضل وقيل أبا عبد الله، وقيل أبا عبد الملك. أمُّه فكيهة بنت عبيد بن دليم بن حارثة(3)، وقبيلته الخزرج من القبائل العربية التي كان لها مجدٌ في الجاهلية، ثمَّ ما لبثت أنَّ ألبسها الله تعالى لباس الإسلام فأشرقت بنور ربها ناصرةً وآويةً لنبيها، مقدِّمةً أبنائها فداءً للإسلام الحنيف، وإن يكن في ذلك فضل فسهمهُ الأكبر لزعيمها سعد بن عبادة، وهو سيد شريف في الجاهلية والإسلام، وهو من الذين حضروا العقبة، الذين سألوا النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) علام نبايعك يا رسول الله؟ فقال لهم:

ص: 39


1- الطبقات الکبری، ابن سعد: 6 / 121 ، الثقاة، محمد بن حبان: 3 / 339، کتاب الولاة وكتاب القضاة، محمد بن يوسف الكندي: 1 / 19، رجال البرقي: 63، الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم: 7 / 99، معجم الصحابة، عبد الباقي بن قانع: 2 / 346، فتح الباب في الكنى والألقاب، محمد الأصبهاني: 1 / 460، معرفة الصحابة، أبو نعيم الأصبهاني: 4 / 2308، الأبواب (رجال الطوسي)، الشيخ الطوسي: 79، تاریخ بغداد، الخطيب البغدادي : 1 / 529، تاریخ دمشق، ابن عساكر: 49 / 369، جامع الأصول، ابن الأثير: 12 / 729، مختصر تاریخ دمشق: الوافي بالوفيات:، خلاصة الاقوال، العلامة الحلي: 1 / 217، تهذيب الكمال، يوسف المزي: 24 / 40، الفوائد الرجالية، السيد بحر العلوم: 2 / 125 - 126، تهذيب التهذیب، ابن حجر العسقلاني: 8 / 335، الأعلام، الزركلي: 5 / 206، الكنى والالقاب، عباس القمي: 3 / 174
2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر: 2 / 594، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير: 2 / 441
3- سير أعلام النبلاء، الذهبي: 3 / 103

«تُبَایِعُونِي عَلَی السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالکَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي العُسْرِ وَالیُسْرِ، وعَلَی الْأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْکَرِ وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللّهَّ لَا تَخَافُونَ فِي اللّهَّ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَی أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَیْکُمْ، مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَکُمْ وَأَزْوَاجَکُمْ وَأَبْنَاءَکُمْ وَلَکُمُ الْجَنَّةُ»(1)، ولمَّا تمَّت له البيعة على ما شرط طلب منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يحددوا منهم أثنا عشر نقيباً، ولمَّا حددوا النقباء قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَنْتُمْ کُفَلَاءُ عَلَى قومكم ككفالة الحواريين لعیسی بن مَرْيَمَ، قَالُوا: نَعَمْ»(2)، وكان سعد بن عبادة من المبايعين في ذلك اليوم، وقد تم انتخابه نقيباً على بني ساعدة جميعهم، وكان سيد جواد وجيها في الأنصار، ذا ریاسة وسيادة متفق عليها بين قومه، وكان صاحب راية الأنصار في مشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها(3)، ولم يكن سعد بن عبادة بدعاً في السيادة والفضل والشرف، وإنَّما ورثها عن أبيه (دیلم)، وعن أجداده، إذ كانوا أصحاب إطعام في الجاهلية، وتبعهم في ذلك سعد في الجاهلية والإسلام، وكان سعد يجير فيجار لسؤدده(4).

وقد ورث قیس بن سعد (رضوان الله عليه) المكارم والفضائل عن أبيه وأجداده، فكان الخير فيهم أصيل، ولم يكتفِ قیس بما ورث عن آبائه من المجد والفضيلة، وإنَّما كان ذا إصرارٍ وعزيمة على أن يصنع له مجداً يضاهي أو يفوق ما ورث عن آبائه من المكارم، فكانت حياته مليئةً بالشرف والسمو والرفعة، ولم يدعُ أكرومةً إلا كان له فيها النصيب الأعظم، فكان ذا رياسةٍ ومجدٍ مستقلٍ في حياة أبيه ومنذ نعومة أظفاره، فقد لاح نجمه مشرقاً زاهياً في سماء المكارم، وهو ما يزال فتيَّاً، وكيف لا

ص: 40


1- البداية والنهاية: 4 / 397 - 398
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العصقلاني: 7 / 221
3- ينظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2 / 441
4- ينظر: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، الشيخ الطوسي: 1 / 327

يكون كذلك، وقد تأسَّست في عروقه الفضيلة من عراقة أسرته فيها، ثمَّ ما لبث أن تلقَّفته أيدي النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان له خير مربِّي، وكان قیس له خير خادم(1)، ثمَّ واصل ريادته في علياء الفضيلة عند باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فكان من خُلَّص أصحابه وأنصاره، بعدها ينتقل مشرقاً مضيئاً في سماء المجد عند مدرسة الكرم والفضيلة، كريم أهل البيت الإمام الحسن الزكي (عليه السلام)، وبذلك كانت حياته عبارة عن اشراقة منيرة با حمَّلها من مواقف شامخة خلَّدها التاريخ له بكلِّ عزَّةٍ وإباءٍ وشمم.

2 - هیأته:

للهيئة والشكل دخل كبير في تكوين شخصية الإنسان وكذلك علاقاته مع الآخرين، إذ إنَّ من طبيعة الناظر أن يعطي انطباعاً أولياً عن الشخص الذي أمامه، معتمداً في ذلك على الشكل الخارجي، ولا سيما لو كان المنظور إليه من أصحاب الوجاهة والقيادية، فإنَّ شكله الخارجي سيفرض له حجم الهيبة والاحترام الذي سیناله من ناظريه من أوَّل وهلة، وكلَّما كان القائد ذا طول متناسق وضخامة منسجمة وسلامة في الجسد مع وسامة شاملة كان أكثر هيبة عند قومه، إذ «الرعية تتفرس في العظيم في جثته عظماً في معنوياته، وتترسم منه كبر نفسياته، وشدَّة أمره، ونفوذ عزائمه، وترضخ له قبل الضئيل الذي يحسب أنَّه لا حول له ولا طول، وأنَّه يضعف دون إدارة الشؤون طوقه وأوقه، ولذلك إنَّ الله سبحانه لمَّا عرَّف طالوت لبني إسرائيل ملكاً عرَّفه بأنَّه أُوتي بسطةً في العلم والجسم، فبعلمه يدير شؤون

ص: 41


1- عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة دفع سعد بن عباده ابنه قيس إلى رسول الله ليكون خادماً عنده. ينظر: مسند أحمد: 24 / 228، سنن الترمذي: 5 / 570، السنن الكبرى، النسائي: 9 / 139، المعجم الكبير: 18 / 351، المستدرك على الصحيحين: 4 / 323، شعب الایمان: 1 / 444

الشعب الدينية والمدنية، ويكون ما أُوتي من البسطة في الجسم من مؤكدات الأبَّهة والهيبة، التي هي كقوةٍ تنفيذيةٍ لمواد العلم وشؤونه»(1).

وقیس بن سعد بن عبادة، أعطاه الله تعالى من مؤهلات القيادة والرفعة والعزيمة وشدة البأس مالم يُتاح لغيره من أقرانه، فكان (رضي الله عنه) عملاقاً ضخماً حسن الشكل والهيئة، وكان أحد العشرة العمالقة الذين يُعدون بقية العصر الأول، ممن كان طولهم عشرة أشبار بأشبار أنفسهم، وكان شبر الرجل منهم يُوصف بذراع أحدنا(2)، وكان إذا ركب الحمار خطَّت رجلاه الأرض، وكان سناطاً ليس له لحية(3)، ومع ذلك كان حسناً جميلًا(4).

وطوله ممَّا يُضرب به المثل فيقال: (سَرَاوِیل قیس) مثلاً لثوب الرجل الضخم الطَّوِيل، وقصَّة هذا المثل تتلخص ببعثةٍ أرسلها قيصر ملك الروم فيها شخصين من جيشه، يزعم أنَّ أحدهما أقوى الروم والآخر أطول الروم، متحدِّياً معاوية بن أبي سفيان في أن يجد من العرب من يفوقها، وكان شرط التحدي يتضمن في حال عثور معاوية على من يفوقها من العرب يضمن له قيصر الروم اطلاق عدد من أسرى المسلمين مع هدايا وتحف، وإن لم يجد فعلى معاوية مهادنة الروم ثلاث سنين، فلمَّا حضر الوفد لمعاوية قال لأصحابه من هذا القوي؟ فقالوا ما له إلَّا أحد الرجلين؛ إمَّا محمد بن الحنفية، وهو ابن الإمام علي (عليها السلام)، أو عبد الله

ص: 42


1- الغدير، الشيخ الأميني: 2 / 108
2- ينظر: اختيار معرفة الرجال: 1 / 327
3- تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 24 / 42، تاریخ دمشق: 49 / 404، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 316، سير أعلام النبلاء: 3 / 103
4- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1292، الاصابة في تميز الصحابة: 5 / 360، مستدرکات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي: 6 / 288

بن الزبير، وأمَّا الطويل فليس له إلَّا قیس بن سعد بن عبادة، فأرسل في طلب محمد بن الحنفية وقيس بن سعد بن عبادة، فلمَّا حضرا عنده، فذكر لهما معاوية أمر الرومييينِ، وكانت البداية من محمد بن الحنفية، فخيَّر الرومي القوي بين أن يجلس وهو يقيمه، وبين أن يجلس ويقيمه الرومي، وأیُّما قدر على أن يقيم الآخر من مكانه فقد غلبه، فجلس محمد ابن الحنفية وأعطى يده للرومي فاجتهد الرومي بكلِّ قوته على أن يقيمه أو يحركه من مكانه فلم يقدر، فغُلب الرومي وظهر لمن معه من الوفد خسارته، ثمَّ قام محمد (عليه السلام) وطلب من الرومي أن يجلس ويعطيه يده، ولمّا فعل ذلك تناول محمد يده وأقامه سريعاً ورفعه في الهواء ثمَّ ألقاه على الأرض، بعدها نهض قیس بن سعد فخلع سراويله وأعطاها للرومي الطويل وطلب منه أن يلبسها، فلمَّا ارتداها وصلت إلى ثدييه و أطرافها تخطُّ الأرض، ففرح معاوية فرحاً شديداً بهذا النصر، وقد لام بعض الحاضرين قيساً على خلعه لسراويله أمام القوم وقيل له هَلَّا بعثت بها.

فأنشأ قيس عند ذلك فقال(1):

أَرَدْتُ لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَ ٭٭٭ سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ

وَأَلَّا يَقُولُوا: غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ ٭٭٭ سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ

وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الْيَمَانِينَ سَيِّدٌ ٭٭٭ وَمَا النَّاسُ إِلَّا سَيِّدٌ وَمَسُوْدُ

بذَّجَمِيعُ الخَلْقِ أَصْلِي وَمَنْصِبي ٭٭٭ وَحَسْمٌ بِهِ أَعْلُوا الرِّجَالَ مَدِيدُ

ص: 43


1- الكامل في اللغة والأدب: 2 / 86، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، أبو منصور الثعالبي: 1 / 601، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، الزمخشري: 2 / 183، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان : 4 / 171، ثمرات الأوراق، ابن حجة الحموي: 2 / 285، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 350

وزاد عليها بعضهم بيتاً آخر هو(1):

فَكِدْهُمْ بِمِثْلِي إِنَّ مِثْلِي عَلَيْهِمُ ٭٭٭ شَدِيدٌ وَخَلْقِي فِي الرِّجَالِ مَزِيدُ

واستشهد بعضهم بالبيت الأول(2)، وبعضهم استشهد بالبيت الأول والثاني(3).

ثمَّ دعا معاوية بسراويل القيس فلمَّا جيئ له بها، قال قيس لمعاوية: نح عنك تبانك(4)هذا، فقال معاوية:

ص: 44


1- تاریخ دمشق، ابن عساكر: 49 / 431، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 24 / 45، البداية والنهاية: 11 / 359 - 361، سير أعلام النبلاء: 3 / 112، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، الذهبي: 2 / 532، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي: 1 / 96
2- مجمع البيان، الطبرسي: 3 / 66، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 5 / 148، في معرض تفسير سورة النساء آية: 26، المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيدة: 8 / 472 (مادة: سرل)
3- لسان العرب، ابن منظور: 11 / 336، تاج العروس من جواهر القاموس الزبيدي: 29 / 197 (مادة: سرول)
4- و«التُبَّانُ، بالضم والتشديد: سراويلُ صغيرٌ مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين». الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفي: 393 ه): 5 / 2086 (مادة: تَبَنَ)، ينظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، عیاض بن موسی بن عیاض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل (المتوفى: 544 ه): 1 / 118. أمَّا السخينة: «وَهِي شَيْء يعْمل من دَقِيق وَسمن أغْلظ من الحساء وأرق من العصيدة. وانما تُؤْكَل فِي شدَّة الدَّهْر وَغَلَاء السّعر وعجف المَال». غريب الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفي: 276 ه): 2 / 415، وبهذا الطعام عُيرت قریش فسُمیت السخينة. ينظر: جمهرة اللغة أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (المتوفي: 321 ه): 1 / 600، تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 ه): 7 / 82. ويظهر من الحوار الذي جرى بين قيس ومعاوية أنَّ قيساً أراد أن يبين أنَّ عمله لم يكن لمعاوية، ولذلك عندما أمر له معاوية بسراويل استهزأ به قيس وقال له: نح عنك تبانك، يريد أنَّ هذه السراويل ماهي إلَّا لباس قصير جداً لا يليق به وهي لا تستر سوى العورتين بالنسبة إليه، وفي هذا الكلام إهانة لمعاوية يُفهم منها أنَّك لست بمنزلتي ولا بمقداري، ولذلك ردَّ عليه معاوية بنسبة لبس التبان إلى أهل يثرب، فردَّ عليه قيس بأنَّ ذلك لباس اليهود الذين ببلدتنا، وزاد على ذلك إهانة أُخرى لمعاوية وهو تعيره بالسخينة، ويُفهم ممَّا سبق أنَّ قیساً حتَّى في الوضع الذي استقرَّ لمعاوية لم يكن معه على وئام، وإنَّما كان يُظهر له عداوته في كلِّ مجلس جمعها

أَمَّا قُرَیشٌ فَأقْوَامٌ مُسَروَلَةٌ ٭٭٭ واليَثْرِبیُّونَ أَصْحَابُ التَبَابِينِ فأجابه قيس:

تِلْكَ الْيَهُودُ الْتِي تَعْنِي بِبَلْدَتِنَا ٭٭٭ کَمَا قُرَيْش هُمْ أَهْلُ السَّياخِينِ(1).

وهذه الحادثة تكشف عن أنَّ قیس بن سعد (رضي الله عنه) كان أطول أهل زمانه وأعظمهم جثَّة، إذ لم يذكر لمعاوية شخصاً يفوق ذلك الرومي غيره، وتكشف أيضاً عن دور شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في حل المشكلات التي تواجه الدولة؛ وإن كانوا من أشد المعارضين لها مقدمين بذلك مصلحة الإسلام وأمنه على كلِّ شيء.

3 - شجاعته:

كلُّ من ترجم لقیس بن سعد وصفه بالشجاع الهمام وصاحب الرأي والبأس(2)، وكيف لا يكون كذلك وهو سيَّاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(3)، وأشدُّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)(4)، وقد وصفه

ص: 45


1- تاریخ دمشق: 49 / 431، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 24 / 45
2- ينظر: تاريخ الملوك والرسل: 4 / 552، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1289، تاریخ دمشق: 49 / 403، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 316، جامع الأصول: 12 / 729، الكنى والألقاب: 3 / 174
3- ينظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي: 1 / 38، بحار الأنوار: 29 / 164، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 367، مستدرکات علم رجال الحديث: 6 / 286
4- ينظر: إرشاد القلوب، الحسن بن محمد الديلمي: 2 / 380، بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 29 / 165، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبیب الله الخوئي: 10 / 367، الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي: 149، الصحیح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)، السيد جعفر مرتضى العاملي: 11 / 35

معاوية بن أبي سفيان بأنَّه أشدُّ من مائة ألف مقاتل(1)، وقد استحق بشجاعته وفروسيته أن يكون حاملاً لراية الأنصار(2)مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقائداً لبعض غزواته(3)، ولم يكتفِ (رضوان الله عليه) بأوسمة الفروسية التي حقَّقها مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شارك معه بكلِّ غزواته(4)، بل راح يصدح عالياً في تشييد معالم الشجاعة والإقدام مع الولي والوصي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فشارك معه بوصفه قائداً فاعلاً في الصفوف الأولى من جيشه (صلوات الله عليه) في حرب الجمل وصفين والنهراون(5)، وقد تولىَّ إدارة مصر بتنصيب من الإمام علي (عليه السلام)، وفيها ضاق به معاوية وأتباعه ذرعاً بما اتَّبعه من أساليب الحرب الباردة معهم، فكان بمفرده يمثِّل جيشاً جباراً عتیَّا، وقد سبق قول معاوية فيه عندما وصف سيفه بأنَّه أشدُّ عليه من مائة ألف مقاتل، لا بل يصل به الأمر من شدَّة قيس عليه أن يقول فيه: «والله يريد أن يفنينا غداً»(6)، والفضل ما شهدت به الأعداء، ويكفي في معرفة أهميَّة قيس بن سعد القتالية رسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إليه، وهو على آرذبيجان يحثُّه فيها على القدوم إليه بعد أن اجتمعت كلمة المسلمين على حرب معاوية، ومن جملة ما

ص: 46


1- ينظر: تاریخ الرسل والملوك، الطبري: 4 / 555، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، ابن مسکویه الرازي: 1 / 511، تاریخ دمشق: 29 / 429، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، جمال الدين الجوزي: 5 / 149، سير أعلام النبلاء: 3 / 110
2- ينظر: تاریخ الملوك والرسل: 4 / 552، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1289
3- ينظر: الطبقات الكبرى: 1 / 247، تاریخ دمشق: 49 / 401، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 316، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 403، سير أعلام النبلاء: 3 / 103، سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد: 6 / 211 الكنى والألقاب: 3 / 174
4- ينظر: الكنى والألقاب: 3 / 174
5- ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1292، الوافي بالوفيات: 24 / 212
6- ينظر: وقعة صفين، ابن مزاحم: 1 / 447، أعيان الشيعية، السيد محسن الأمين: 1 / 507

قال له فيها: «أمَّا بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي خليفة لك، وأقبل إليّ، فإنَّ المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجِّل الإقبال، فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال إن شاء الله، وما تأخّري إلّا لك، قضى الله لنا ولك بالإحسان في أمرنا كله»(1)، وهذه كلمة عظيمة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحقِّ قیس بن سعد، إذ كان تأخره لقیس خاصَّة دون غيره، ورفضه المسير إلى الحرب إلَّا بعد أن يأتي قيس، وكان يمكن أن ينطلق أمامه ويطلب منه الالتحاق به، ولكنَّ الإمام كان يعرف قيمة قيس بعسکره، وشدَّة بأسه على معاوية الذي كان يرتجف من سماع صوت اسمه.

ثمَّ يستمر قيس بصولاته الجهادية مع الإمام الحسن الزكي (عليه السلام) فكان في مقدمة جيشه(2)، وما كان بمعاوية إلاَّ أن يسعى جاهداً في إغرائه بشتَّى الوسائل، لكنَّه لم يفلح وخابت كلُّ آماله وأمواله في أن يتَّقي سيف قیس، أو يردُّه إلى غمده على أقلِّ التقادير، لأنَّ الذي أمامه فارس مغوار، قد تشرَّب الفروسية مع الإيمان الراسخ من مدرسة باب مدينة العلم فنهل من معينها الصافي حدَّ الارتواء، ولمَّا سنَّ معاوية لعن الإمام علي (عليه السلام) على المنابر(3)قرن قیساً معه فكان يلعنه(4)مع سيد الأوصياء وسيدي شباب أهل الجنة، وهذا إن دلَّ فإنَّه يدلُّ على شدَّة قيس بن سعد على معاوية، وصرامته التي جعلته يتفجَّر حقداً عليه، وبذلك كانت حياة قیس بن سعد سجِّلاً حافلاً بكلِّ معاني الشجاعة والإقدام، وكان متفانياً في نصرة آل البيت (عليهم السلام) متهالكاً في ولائهم.

ص: 47


1- تاريخ اليعقوبي: 2 / 203، وعنه في نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي: 5 / 148
2- ينظر: تاریخ دمشق: 49 / 403، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 316
3- ينظر: الكامل في اللغة والأدب: 2 / 216، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2 / 260
4- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2 / 260

4 - كرمه:

حاز قیس بن سعد (رضوان الله علیه) ناصية الكرم والجود في عصره حتَّى ضُرب به المثل(1)، وذاع صيته على ألسنة الناس، ولم يكن قيس في هذه الصفة بدعاً عن أجداده، وإنَّما كان امتداداً لمدرسة أسسها أسلافه من قبله، فكانوا أصحاب إطعام في الجاهلية، واستمر قيس وأبوه سعد عندما أسلموا فكانا أصحاب إطعام في الجاهلية والإسلام(2)، إذ كان لجدِّه دليم في الجاهلية منادي ينادي في كلِّ حول من أراد الشحم واللحم فليأت دار دليم، واستمر عبادة على هذه السُّنة، وتبعه من بعده ابنه سعداً، وما كان من قيس إلَّا أن يسير بسيرة أبيه وجده وجد أبيه فكان من أجود الناس(3).

وقد شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا البيت بالجود في حادثة سَرِيّةُ الخَبَطِ(4)، وملخصها أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا عبيدة بن الجراح في سريَّةٍ فيها المهاجرون والأنصار، وعددهم ثلاثمائة رجل إلى حيٍّ من جُهَيْنَةَ وهم في ساحل البحر، فأصابهم جوع شديد حتَّى وصل بهم الأمر أنَّهم كانوا يقتسمون التمرة الواحدة، وبلغ بهم الجوع أن أكلوا الخَبَطَ، وقال قائلهم: لو لقينا عدواً ما كان بنا حركة إليه.

ص: 48


1- ينظر: سير أعلام النبلاء: 3 / 107
2- ينظر: معجم رجال الحديث: 15 / 66 - 68
3- ينظر: تاریخ دمشق: 49 / 417
4- الخبط: ورق الأغصان الذي يسقط من الشجر، ويستعمل كعلف للإبل، وسُمِّيت هذه الغزوة به لأنهَّم أكلوه لِما أصابهم من الجوع. ينظر: لسان العرب: 7 / 282 (مادة: خبط)

وهنا تبرز الرجال؛ إذ المواقف تبيِّن المعدن الحقيقي للإنسان، وتجعله في مواجهة صورته الحقيقية بلا تصنُّع أو مؤثِّرات إضاءة، فقال قيس بن سعد وكان من ضمن السرية: من يشتري منِّي تمراً بجزور(1)، يوفيني الجزور ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: واعجباه لهذا الغلام، لا مال له يدان في مال غيره!. فوجد رجلاً من جُهينة، فقال له قیس بن سعد: بعني جزوراً وأوفيك سقةً(2)من تمرٍ بالمدينة.

قال الجهني: والله ما أعرفك، ومن أنت؟ قال: أنا قیس بن سعد بن عبادة بن دليم. قال الجهني: ما أعرفتني بنسبك أما إنَّ بيني وبين سعد خلة، سيد أهل يثرب.

فابتاع منه خمس جُزُرٍ كل جزور بوسقين من تمرٍ، اشترط عليه البدوي تمر ذخيرةٍ مصلبةٍ من تمر آل دليم. قال قيس: نعم، فقبل الشرط، فقال الجهني: فأشهد لي، فأشهد له نفراً من الأنصار ومعهم نفرٌ من المهاجرين، قال قيس: أشهد من تحب. فكان فيمن أُشهِد عمر بن الخطاب، فقال عمر: لا أشهد، هذا يدان ولا مال له، إنَّما المال لأبيه، قال الجهني: والله ما كان سعدٌ ليخني بابنه في سقةٍ من تمر! وأرى وجهاً حسناً وفعالاً شریفاً، فكان بين عمر وبين قیس کلام حتى أغلظ له قيس.

ثمَّ أخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كل يوم جزوراً، فلمَّا كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ فقال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت وهو يقضي دين الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، لا يقضي سقة تمرٍ لقومٍ مجاهدين في سبيل الله! فكاد أبو عبيدة أن يلين له ويتركه حتَّى جعل عمر يقول: اعزم عليه، فعزم عليه فأبى عليه أن ينحر، وبقيت جزوران معه قدم بهما قيس المدينة ظهراً يتعاقبون عليها، وبلغ سعد ما أصاب القوم من المجاعة فقال: إن

ص: 49


1- الجزور: الناقة المجزورة، وهي المعدَّة للنحر. ينظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيدة: 7 / 285 (مادة: الجيم والزاي والراء)
2- الوسق: مقياس يقدر بستين صاعاً. ينظر: العين، الخليل بن أحمد: 5 / 191 (مادة: وسق)

يكن قیسٌ کما أعرفه فسوف ينحر للقوم، فلمَّا قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابهم؟ قال: نحرت، قال: أصبت، انحر، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: ثمَّ نحرت، قال: أصبت، انحر، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: نُهیت، قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح أميري، قال: ولِم؟ قال: زعم أنَّه لا مال لي وإنَّما المال لأبي، فقلت: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويُطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي! قال: فلك أربع حوائط، وكتب له بذلك كتاباً، وأتي بالكتاب إلى أبي عبيدة فشهد فيه، وأدنى حائطٍ منها مردوده خمسين وسقاً.

وبعد مدَّة قدم الأعرابي على سعد بن عبادة قال: يا أبا ثابت! والله، ما مثل ابنك صنعت ولا تركت بغير مال؛ فابنك سيد من سادة قومه، نهاني الأمير أن أبيعه. قلت: لم؟ قال: لا مال له فلمَّا انتسب إليك عرفته فتقدمت لمَّا عرفت أنَّك تسمو على معالي الأخلاق وجسيمها، وأنَّك غير مذم بمن لا معرفة له لديك، ففرح سعد بما فعل ابنه وأعطاه يومئذٍ أموالاً عظاماً.

ثمَّ إنَّ قيساً وافي الأعرابي بما وعده وزاد عليه بكسوة، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل قيس فقال: إنَّه في بيت جود(1)، والجود من شيمة أهل ذلك البيت(2)، وهذه شهادة من سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) لقيس وآبائه، وحسبه من هذه الشهادة أن يفخر بها على سائر كرماء بني جنسه.

ص: 50


1- ينظر: المغازي، الواقدي: 2 / 774 - 777، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 2 / 1292، تاریخ دمشق: 49 / 413 - 413، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 316 - 317، سير أعلام النبلاء: 3 / 104 - 106، حياة الصحابة : 2 / 471، الصحیح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): 20 / 309 - 313
2- تاریخ الملوك والرسل: 3 / 33، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1290، تهذيب الكمال: 24 / 43، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 8 / 81، کنز العمال، المتقي الهندي: 13 / 360

وهناك شهادة أخرى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقیس و آله، إذ يُنقل أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام بذي قرد يوماً وليلةً وكانت مؤونته قليلة، بحيث جعل لكلِّ مائة من أصحابه جز وراً يتخذون منها طعاماً، ومن المعلوم أنَّ الجزور لا تكفي لنصف هذا العدد، وكان معه خمسمائة من أصحابه، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وجعل على حراستها سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه، واستمرت السفرة خمس ليالٍ، وفي أثناء هذه السفرة بعث سعد بن عبادة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذي قرد أحمال تمر وعشرة جزائر، وكان قیس بن سعد ضمن المجموعة التي رافقت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قام بتقديم ما بعثه أبوه من أحمال التمر والجزور إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عندها (صلى الله عليه وآله وسلم): «یا قیس، بعثك أبوك فارساً، وقوَّى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو؛ اللهمَّ ارحم سعداً وآل سعد، ثمَّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم المرء سعد بن عبادة»، فتكلمت الخزرج فقالت: يا رسول الله، هو بيتنا وسیدنا وابن سیدنا كانوا يطعمون في المحل، ويحملون الكل ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين»(1).

وإضافة إلى هذه الشهادات بالجود والكرم من سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ التاريخ قد حفِظَ لقيس كثيراً من المواقف التي يمكن لكلِّ واحدة منها أن تكون درساً أصيلاً للكرم وحُسن الضيافة ومنها:

أنَّ قيساً إذا ذهب مجاهداً في سبيل الله تعالى فإنَّه يُطعم من كان معه من المجاهدين، وإذا نفد ما عنده من أموالٍ أو أمتعة استلف واستدان حتَّى يُطعم من معه، وكان عمر بن الخطاب لمَّا يراه على هذه الحال يقول لمن حوله: أيُّها الناس إنَّكم لستم

ص: 51


1- ينظر: مغازي الواقدي: 2 / 546 - 547، تاریخ دمشق: 20 / 257 - 259

بحقيقين أن تقبلوا من هذا الفتى ولا تدرون ما يوافق أباه، فبلغ ذلك سعداً فصبح بعمر وقال: تريد أن تحجر علينا في أموالنا ما لنا ولعمر!.

وكان قیس بن سعد يطعم الناس في أسفاره مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت له صحفة يُدار بها حيث دار، و كان ينادي في كلِّ يوم هلمُّوا إلى اللحم والثريد(1).

وكان قیس بن سعد بن عبادة ينفق ويتفضل على من يسافر معه، وكان من جملة المسافرين أبو بكر وعمر، فكان ينفق ويتفضل عليهما وعلى غيرهما ممَّن يُسافر معه، فقال له أبو بكر: إنَّ هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك، فلمَّا قدموا من سفرهم، قال سعد بن عبادة لأبي بكر: أردت أن تبخِّل ابني! إنَّا لقوم لا نستطيع البخل(2).

وكان جدُّه دليم مهدي في الجاهلية إلى مناة الصنم عشر بدنات، وسار بعده عبادة ابنه على نهجه، وتبعها سعداً في الجاهلية، ولمَّا آل الأمر إلى قيس قال: لأهدينَّها إلى الكعبة، فكان يهديها(3).

وفي ذات يوم باع قیس بن سعد متاعاً لمعاوية بن أبي سفيان بتسعين ألفاً، ولمَّا قبضها أمر منادياً في أهل المدينة من أراد القرض فليأت منزل قيس، فأقرض أربعين أو خمسين وأجاز بالباقي(4).

ثمَّ إنَّ قيساً مرض وكان له مال كثير عند الناس على شكل قروض فقلَّ عواده، ولمَّا سأل عن السبب، قيل له: إنَّهم يستحيون ممَّا لك عليهم من الدِّيون، قال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من العيادة، فأمر منادياً أن ينادي: من كان لقیس بن سعد عليه مال فهو

ص: 52


1- ينظر: تاریخ دمشق: 49 / 416 سير أعلام النبلاء: 3 / 106
2- ينظر: الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: 1 / 222
3- ينظر: تاریخ دمشق: 49 / 417
4- ينظر: تاريخ دمشق: 49 / 418، المنتظم في تاريخ الملوك والامم: 5 / 317 - 318، سير أعلام النبلاء: 106 - 107

في حلٍّ منه، فكسرت درجته لكثرة من عاده ذلك اليوم(1)، وقيل عنه أنَّه أقرض رجلًا ثلاثين ألفاً، ولمَّا جاءه ليردَّها إليه، قال له قيس: إنَّا قوم إذا أعطينا شيئا لم نرجع فيه2(2).

وفي ذات يومٍ جاءت عجوز إلى قیس بن سعد بن عبادة وكان يعرفها، فقال لها: كيف أنت؟ قالت: أحمد الله إليك ما في بيتي فأرة تدب، فقال: لقد سألت فأحسنت لأملأنَّ عليك بيتك فأراً، فأمر لها بدقيق كثير وزيت وما تحتاج إليه فحُمِل معها وانصرفت(3)، وذكر بعضهم أنَّ سعد بن عبادة قسَّم ماله بين ولده وخرج إلى الشام فمات، وولد له ولد بعده عن حمل لم يعلم به، فجاء أبو بكر وعمر إلى قیس بن سعد فقالا: إنَّ سعداً مات، ولم يعلم ما هو كائن وإنَّا نرى أن تردَّ على هذا الغلام، قال قيس: ما أنا بمغير شيئاً فعله أبي ولكنَّ نصيبي له(4).

وفي ذات مرة كانت بين قیس بن سعد وبين رجلٍ عداوة، وكان لقيسٍ على الناس دينٌ كثيرٌ، فأراد ذلك الرجل أن يكيد بقيس فذهب إلى الناس وقال لهم: قيسٌ يدعوكم، فحضر عند قیس ناسٌ كثير، فقال: ما بال الناس؟ فأُخبر بذلك، فأخذ صكاكاً كانت عنده بعشرين ألف دينار فقال: هذه لكم، فتوزَّعوها(5).

ص: 53


1- ينظر: نثر الدر في المحاضرات، منصور بن الحسين الرازي: 7 / 91، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 2 / 1293، تاریخ دمشق: 49 / 418، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار: 5 / 34، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 317 - 318، سير أعلام النبلاء: 106 - 107
2- ينظر: المستجاد من فعلات الأجواد، أبو علي التنوخي البصري: 1 / 51، البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي: 4 / 241، تاریخ دمشق: 49 / 418، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 317 - 318، سیر أعلام النبلاء: 106 - 107
3- ينظر: الكامل في اللغة والأدب، المبرد: 2 / 87، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 2 / 1292، تاریخ دمشق: 49 / 418، سير أعلام النبلاء: 106
4- ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2 / 1292، تاریخ دمشق: 49 / 421، سير أعلام النبلاء: 106 - 107
5- ينظر: لباب الآداب، أسامة بن منقذ: 1 / 92

ويُنقل أنَّه اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم فقال رجل: أسخی الناس عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقال آخر: أسخي الناس في عصرنا هذا قیس بن سعد بن عبادة، وقال الثالث: أسخي الناس عرابة الأوسي، فتلاحوا وأفرطوا وكثر ضجيجهم في ذلك بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: قد أكثرتم الجدال، والحل أن يذهب كل واحد منكم إلى صاحبه يسأله حتى ينظر ما يعطيه ونحكم على العيان، فقام صاحب عبد الله بن جعفر فصادفه وقد وضع رجله في غرز راحلته يريد ضيعة له، فقال له: يا بن عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قل ما تشاء، قال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج رجله من الغرز، وقال: ضع رجلك واستو على الناقة وخذ ما في الحقيبة، ولا تحد عن السيف؛ فإنَّه من سيوف علي بن أبي طالب وامض لشأنك، قال: فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطارف خز وفيها أربعة آلاف دينار وأعظمها وأجلها خطراً السيف، ومضى صاحب قيس بن سعد بن عبادة فلم يصادفه، فقالت له الجارية: هو نائم فما حاجتك إليه، قال: ابن سبيل ومنقطع به، قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبع مائة دينار ما في دار قیس مال في هذا اليوم غيره، وامض إلى معاطن الإبل فخذ راحلة مرحلة وما يصلحها وعبداً وامض لشأنك، فقيل إنَّ قيساً انتبه من رقدته فخبرته جاريته بما صنعت فأعتقها، وقال: لها ألا أنبهتني فكنت أزيده من عروض ما في منزلنا فلعل ما أعطيته لم يقع بحيث ما أراد، ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه وقد خرج من منزله يريد الصلاة، وهو متوكئ على عبدين وقد كف بصره، فقال: يا عرابة، قال: قل ما تشاء، قال: ابن سبیل ومنقطع به، قال: فخلَّى عن العبدين ثم صفق بيده اليمنى على اليسرى، ثمَّ قال: أوه أوه والله ما أصبحت ولا أمسي وقد ترکت الحقوق لعرابة من مال، ولكن خذهما يعني العبدين، قال ما کنت بالذي أفعل

ص: 54

أقص جناحيك، قال: إن لم تأخذهما فهما حران وإن شئت فأعتق وإن شئت فخذ، وأقبل يلتمس الحائط بيده، قال فأخذهما وجاء بهما، فحكم الناس على ابن جعفر قد جاد بمال عظيم وإنَّ ذلك ليس بمستنكر له إلَّا أنَّ السيف أجلها، وأنَّ قيساً أحد الأجواد حكَّم مملوكة في ماله بغير علمه واستحسانه فعلها وعتقه لها وما تكلم به، وأجمعوا على أنَّ أسخي الثلاثة عرابة الأوسي، لأنَّه وهب كلَّ ما يملك(1).

ولم يكن قيس مبذراً في أمواله، وإنَّما كان حريصاً في أن يضعها في مكانها الصحيح، وفي ذلك يُنقل أنَّه أتاه قوم يسألونه في حمالة فصادفوه في حائط له يتتبع ما يسقط من الثمر فيعزل جيّده عن ردّيه، ويجعل كل صنف منها على حدته، فهمُّوا أن يرجعوا عنه وقالوا: ما نظن عند هذا خيراً، ثمَّ عزموا على لقائه فأقاموا حتَّى فرغ من حائطه فكلموه فأعطاهم.

فقال رجل من القوم له: لقد رأيناك تصنع شيئاً لا يشبه فعالك، فقال: وما ذاك؟ فأخبروه؛ فقال: إنَّ الذي رأيتم يؤول إلى اجتماع ما ينفع وينمو، وأنَّ الذي رأيتم من صنیعي قضيت به حاجتكم(2).

وكان قيس يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ ارزُقنِي مالاً وفَعَالاً، فَإِنَّهُ لا تَصلحُ الفَعَالُ إِلاَّ بالمال»(3)، «اللَّهُمَّ وسِّع علىَّ فإنَّ القليل لا يسَعنِي ولا أَسَعَهُ»(4).

ص: 55


1- ينظر: تاریخ دمشق: 49 / 419 - 420، البداية والنهاية: 11 / 356 - 357
2- ينظر: المحاسن والأضداد، الجاحظ: 1 / 94
3- تاریخ بغداد: 1 / 530، تاریخ دمشق: 49 / 418، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 318، سير أعلام النبلاء: 3 / 107، البداية والنهاية: 11 / 356
4- الغارات: 1 / 222

5 - علمه:

كان قیس بن سعد خطيباً مفوهاً وعالماً جليلاً، وكان صاحب رأي ومعرفة(1)بدقائق الأمور، فهو سليل بيت عُرِف بالريادة والقيادة والسيادة، ثمَّ لازم خير البشر فكان يرتع في بحور علومه، فشکَّل نفسه وذاته بقالبٍ خطَّته يد النبوة للإنسان المثالي، إذ بالرغم من مصاحبته الشديدة واللصيقة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لنا التاريخ أنَّه خالفه أو أزعجه في يوم ما، بل كان مثال الصاحب النجيب، ثمَّ ينتقل إلى كنف باب مدينة العلم فيتمسَّك به ويهتدي بهديه، حتَّى قال عنه لمَّا ولَّاه مصر: «وَهُوَ مِمَّنْ أَرْضَی هَدْیَهُ وَأَرْجُو صَلَاحَهُ ونَصِیحَتَهُ»(2)، وقال له أيضاً وهو على آذربيجان: «وَعَلِّمْ مَنْ قِبَلِكَ مِمَّا عَلَّمَكَ اللّهُ»(3).

وهذه شهادة من إمام معصوم تبرهن على ما كان يتمتع به قیس بن سعد من علم وتبحر وريادة في دقائق الأمور، ويدل أيضاً على الحزم والرأي السديد وكمال العقل.

وقد حدَّث بالمدينة والكوفة ومصر، فكان ينقل عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) معلماً الناس أحكام دينهم في شتَّى مجالات الشريعة ممَّا يدلُّ على سعة علمه وتبحُّره، ومن تلك الروايات:

ص: 56


1- ينظر: السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي: 3 / 118
2- الغارات: 1 / 211، تاریخ الملوك والرسل: 4 / 549، البداية والنهاية: 10 / 487، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 6 / 59، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 98، بحار الأنوار: 33 / 535، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 3320، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 5 / 107، مستدرك نهج البلاغة، الشيخ هادي کاشف الغطاء: 112، أعيان الشيعة: 8 / 453
3- تاريخ اليعقوبي: 2 / 202، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 5 / 146، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: 12 / 265

قَالَ قيس بن سعد: (فِيهِمْ أُنْزِلَتْ: «هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»(1)، قَالَ: هُمُ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الحَارِثِ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ)(2).

وفي توضيح هذه الرواية قال ابْن عَبَّاس: (لمَّا بارز عَليٌّ وَحَمْزَة وَعبيدَة وَعتبَة وَشَيْبَة والوليد قَالُوا لَهُم: تكلمُوا نعرفكم. قَالَ: أَنا عَليّ وَهَذَا حَمْزَة وَهَذَا عُبَيْدَة. فَقَالُوا: أكفاء کرام فَقَالَ عَليّ: أدعوكم إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله، فَقَالَ عتبَة: هَلُمَّ للمبارزة، فبارز عَليّ شيبَة فَلم يلبث أَن قَتله وبارز حَمْزَة عتبَة فَقتله وبارز عُبَيْدَة الْوَلِيد فصعب عَلَيْهِ فَأتی عَليٌّ فَقتله، فَأنزل الله «هَذَانِ خَصْمَانِ»)(3).

وروي عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، (قَالَ: أَتَيْتُ الحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَقُلْتُ: رَسُولُ اللهَّ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَأَنْتَ یَا رَسُولَ اللهَّ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ، قَالَ: «أَرَأَیْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَکُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، لَوْ کُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَن یَسْجُدَ لِأحَدٍ لَأمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ یَسْجُدْنَ لِأزْوَاجِهِنَّ، لِمَا جَعَلَ اللّهُ لَهُمْ عَلَیْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ)(4).

وعَن قَيسِ بن سَعدٍ قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (کُلُّ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَيْهِ الْعَبْدُ كَبِيرٌ وَلَیسَ بِکَبِيرٍ مَا تَابَ عَنْهُ الْعَبْدُ)(5).

ص: 57


1- الحج: 19
2- صحيح البخاري: 5 / 75، صحیح مسلم: 4 / 2323، الرياض النضرة في مناقب العشرة، أبو العباس، أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبري (المتوفى: 694 ه): 3 / 114
3- الدر المنثور: 6 / 19
4- ينظر: سنن أبي داوود: 2 / 244، المعجم الكبير، الطبراني: 18 / 352، المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري: 2 / 187، مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: 2 / 78، بحار الأنوار: 20 / 93
5- سنن أبي داوود: 9 / 340

عَن قَيسِ بنِ سَعدٍ (قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ النَّاسِ)(1).

وقد سُمِع قَيْس بن سَعدٍ يُحَدِّثُ عَن رَجُلٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه و آله وسلم) فِي حَدِیثٍ ذَکَرَهُ، قَالَ: «الْقُرْآنَ هُوَ النُّوُر الْمُبِينُ، وَالذِّکْرُ الحَکِیمُ، وَالصِّراطُ المُسْتَقِیمُ»(2).

وروي عنه أنَّه قال: (سَمِعت رَسُول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُول:

«من شرب الخمر أَتَی عطشان يَوْم القِيَامَة أَلا وكل مُسكر خمر وَإِيَّاكُم والغبيراء(3)»)(4).

كان قيس يعلم الناس في مصر وينقل لهم أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن تلك الأحاديث قوله: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ کِذْبَةً مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَضْجَعًا مِنَ النَّارِ أَوْ بَیْتًا فِي جَهَنَّمَ». وسَمِعتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «مِنْ شَرِبَ الْخَمْرِ أَتَي عَطْشَانًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا فَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُبَیْرَاءَ»)(5).

ص: 58


1- سنن أبي داوود: 13 / 444، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 404، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 6 / 298، کنز العمال: 3 / 545، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 335، أعيان الشيعة: 8 / 452
2- سنن أبي داوود: 3 / 336
3- الغُبَيَراءَ: «هِيَ ضْرَبٌ من الشَرَّاب تَتخذه الحبشةُ من الذّرة، وَهِي تُسْکِرُ. وَیُقَال لَهَا: السُّکُرْکةُ» تهذیب اللغة: 8 / 125، «وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَغْبَرِ وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ لَوْنُ الْغُبَارِ فَیُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غُبَيْرَاءَ السَّكَرِ هُوَ شَرَابٌ یُتَّخَذُ مِنْ النِّيءِ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ عَلَى هَذَا اللَّوْنِ فَالْغُبَيْرَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِغَيْرِ إضَافَةٍ إلَى السَّکَرِ هُوَ نَبِيذُ الذُّرَةِ» طلبة الطلبة، عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، أبو حفص، نجم الدين النسفي (المتوفي: 537 ه): 1 / 159
4- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف : 3 / 180، الدر المنثور: 3 / 184، کنز العمال: 5 / 349
5- مسند أحمد: 24 / 231، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: 3 / 180، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 5 / 70

وعَن قَيسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَة روی: (أَنَّ أَبَاهُ دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَخْدِمَهُ فَأَتَى عَلَىَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَقَدْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِن أَبوَابِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)(1) وقوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» (قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: هَذِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ)(2).

عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، (أَنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «إنَّ رَبِّي حَرَّمَ عَلَيَّ الْخَمْرَ و الْكُوبَة و الْقِنِّين، إِیَّاکُمْ وَالْغُبَیْرَاءَ، فَإِنَّهَا ثُلُثُ خَمْرِ الْعَالَمِ»)(3).

وروی قَیْس بن سَعْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «إِنَّ أَرْبَى الرِّبَا أَنْ یَسْتَطِيلَ الرَّجُلُ فِي شَتَمِ أَخِيهِ، وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتِمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَشْتِمُهُمَا یَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يَشْتِمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتِمُهُمَا»(4).

قال قیس بن سعد: ليوم من إمام عادل خير من عبادة رجل في بيته ستين سنة(5).

عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «مَنْ شَدَّ سُلْطَانَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهَّ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْهَنَ اللهُ كَيْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(6).

ص: 59


1- مسند أحمد: 24 / 228، سنن الترمذي: 5 / 570، السنن الكبرى، النسائي: 9 / 139، المعجم الكبير: 18 / 351، شعب الإيمان: 1 / 444
2- المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز: 1 / 295، الجامع لأحكام القرآن، عبد الله القرطبي: 3 / 92
3- مسند أحمد: 24 / 229، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة: 5 / 89، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبو الحسن الهيتمي: 5 / 54
4- المعجم الكبير: 8 / 353، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 8 / 73، کنز العمال: 3 / 604
5- سراج الملوك :1 / 44
6- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 5 / 232

وقد روى قیس بن سعد (رضوان الله تعالى) عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) روایات متعددة منها:

روايته لحديث الغدير (مَنْ کُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِي مَولَاه)، إضافة إلى شهادته به عندما ناشد أمير المؤمنين (عليه السلام) صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حديث الغدير، وقد شهد به خالد بن زيد أبو أيوب، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، و قیس بن سعد بن عبادة، وعبد اللهّ بن بدیل بن ورقاء فشهدوا جميعا أنّهم سمعوا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدیر خم: «من کنت مولاه فعلي مولاه»، وكان في الحاضرين أنس بن مالك، والبراء بن عازب: فقال لهم الإمام علي (عليه السلام): «ما منعكما أن تقوما فتشهدا فقد سمعتها کما سمع القوم؟»، ثمَّ قال: «اللهمّ إن كانا کتماها معاندة فابتلهما» فعمي البراء بن عازب، و برص أنس بن مالك(1).

وروى قيس عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصَومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ»(2).

وله مناظرة مع معاوية بالقرآن والسُّنة، وفيها يحتج على معاوية بن أبي سفيان بمناقب علي (عليه السلام)، فيسأله معاوية عمَّن يروي هذه الأحاديث فيجيبه صادحاً مفتخراً بأنَّه أخذها عن خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله

ص: 60


1- ينظر: اختيار معرفة الرجال: 1 / 246، بحار الأنوار: 41 / 213، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 453، أعيان الشيعة: 3 / 551، معجم رجال الحديث: 4 / 185. وقد نقل خبر إصابة أنس بن مالك بالبرص بسبب هذه الحادثة ابن قتيبة في المعارف: 1 / 580
2- صحيح البخاري: 5 / 75، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد البيهقي: 3 / 73، التفسير الكبير، الفخر الرازي: 23 / 21، سعد السعود، السيد ابن طاووس: 102، شرح صحيح مسلم، النووي: 18 / 166، الدر المنثور: 6 / 19، بحار الأنوار: 19 / 313، البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني: 3 / 862، نيل الأوطار، الشوكاني: 8 / 86

وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1). ولذلك عدَّه الطوسي ممَّن روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(2).

قال قیس بن سعد: «كنت أسایر أمير المؤمنين كثيرا إذا سار إلى وجه من الوجوه، فلمَّا قصد أهل النهروان وصرنا بالمدائن، وكنت يومئذ مسايراً له إذ خرج إلينا قوم من أهل المدائن من دهاقینهم معهم براذین(3) قد جاءوا بها هدية إليه فقبلها، و كان فيمن تلقاه دهقان من دهاقين المدائن يدعی سرسفيل، وكانت الفرس تحكم برأيه فيما يعني وترجع إلى قوله فيها سلف، فلمَّا بصر بأمير المؤمنين، قال يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطوالع، فنحس أصحاب السعود و سعد أصحاب النحوس و لزم الحكيم في مثل هذا اليوم الاختفاء و الجلوس، وإنَّ يومك هذا يوم مميت قد اقترن فيه كوكبان قتالان، وشرف فيه بهرام في برج الميزان، واتقدت من برجك النيران وليس لك الحرب بمكان.

فتبسم أمير المؤمنين ثم قال: أيُّها الدهقان المنبئ بالأخبار والمحذِّر من الأقدار، أتدري ما نزل البارحة في آخر الميزان، وأيُّ نجم حل السرطان، قال: سأنظر ذلك وأخرج من كمه أسطرلابا وتقويما، فقال له أمير المؤمنين: أنت مسير الجاريات؟ قال: لا قال: أفتقضي على الثابتات؟ قال: لا قال: فأخبرني عن طول الأسد وتباعده عن المطالع والمراجع، وما الزهرة من التوابع والجوامع، قال: لا علم لي بذلك، قال: فما بين السواري إلى الدراري، وما بين الساعات إلى الفجرات، وكم قدر شعاع المدارات، وكم تحصيل الفجر في الغدوات، قال: لا علم لي بذلك، قال:

ص: 61


1- سنعرض لهذه الحادثة مفصلًا فيما بعد
2- الأبواب رجال الطوسي: 79
3- البراذين جمع بردون: وهو «دابَّةٌ خاصَّة لاَ تكونُ إلاَّ مِن الخَيْلِ» ينظر: تاج العروس من جواهر القاموس: 34 - 247

هل علمت یا دهقان أنَّ الملك اليوم انتقل من بيت إلى بيت في الصين، وتغلب برج ماجين واحترقت دور بالزنج، وطفح جُبُّ سرنديب، وتهدَّم حصن الأندلس، وهاج نمل السيح، وانهزم مراق الهند، وفقد ربان اليهود بإيلة، وجدم بطريق الروم برومية، وعمي راهب عمورية، وسقطت شرافات القسطنطينية، أفعالم أنت بهذه الحوادث، وما الذي أحدثها شرقها وغربها من الفلك، قال: لا علم لي بذلك، قال: فبأي الكواكب تقضي في أعلى القطب وبأيها تنحس من تنحس؟ قال: لا علم لي بذلك، قال: فهل علمت أنَّه سعد اليوم اثنان وسبعون عالماً في كلِّ عالم سبعون عالماً، منهم في البرِّ و منهم في البحر وبعض في الجبال وبعض في الغياض وبعض في العمران، فما الذي سعدهم؟ قال: لا علم لي بذلك، قال: یا دهقان أظنك حكمت على اقتران المشتري وزحل لما استنارا لك في الغسق، وظهر تلألؤ المريخ وتشريقه في السحر، وقد سار فاتصل جرمه بنجوم تربيع القمر، وذلك دليل على استخلاف ألف ألف من البشر كلهم يولدون اليوم والليلة ويموت مثلهم ويموت هذا، وأشار إلى جاسوس في عسكره لمعاوية فلمَّا قال ذلك ظن الرجل أنَّه قال خذوه فأخذه شيء في قلبه وتكسَّرت نفسه في صدره فمات لوقته، فقال للدهقان: ألم أرك عين التقدير في غاية التصوير، قال: بلى يا أمير المؤمنين، فقال: یا دهقان أنا مخبرك أنَّي وصحبي هؤلاء لا شرقيون ولا غربيون إنما نحن ناشئة القطب، وما زعمت البارحة أنَّه انقدح من برج الميزان فقد كان يجب أن يحكم معه لي لأنَّ نوره وضياءه عندي، فلهبه ذهب عنِّي يا دهقان هذه قضية عيص فاحسبها وولدها إن كنت عالما بالأكوار والأدوار، ولو علمت ذلك لعلمت أنك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة، ومضى أمير المؤمنين فهزم أهل النهروان و قتلهم، فعاد بالغنيمة والظفر، فقال الدهقان: ليس هذا العلم بأيدي أهل زماننا هذا علم مادَّته من السماء»(1).

ص: 62


1- فرج المهموم: 1 / 90 - 91، بحار الانوار: 40 / 167، مرآة العقول في شرح أخبار الرسول: 26 / 466، جواهر الكلام: 23 / 88، مصباح الفقاهة، السيد الخوئي: 1 / 325

وقال قيس عن أبيه: «إنَّه سمع علياً (عليه السلام) يقول: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن، فجاء رجل حسن الوجه طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله وطاعة رسوله، وهما عنك راضیان؛ قال علي : فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته فقال: يا علي أقر الله عينك ذاك جبريل»(1).

ومن الدلائل على علمه وسعة فكره، وكذلك قوة عقيدته ورصانة تعامله مع الإمام علي (عليه السلام)، وكيفية تسليمه لمقرراته ما جاء بهذا الخبر:

تذكر الروايات أنَّ الإمام علي (عليه السلام) كان يحاور الذين توقفوا عن قتال من نكث البيعة، ويستدلُّ عليهم بالأدلة الواضحة والبراهين الناصعة، وكان من رأيه (عليه السلام) التأنِّي معهم، لكنَّ مالك الأشتر (رضوان الله عليه) كان يحثُّه على جهادهم فيقول له: «يا أمير المؤمنين، إنَّا وإن لم تكن من المهاجرين والأنصار، فإنَّا فيهم، وهذه بيعة عامة، والخارج منها عاص، والمبطئ عنها مقصر، فإنَّ أدهم اليوم باللسان وغداً بالسيف، وما من ثقل عنك كمن خفَّ معك، وإنَّما أراد القوم الأنفسهم فأردهم لنفسك» فردَّ عليه الإمام علي (عليه السلام): «يا مالك دعني» ثمَّ أقبل على من استشكل القتال معه فقال لهم: «أرأيتم لو أنَّ من بايع أبا بكر أو عمر أو عثمان ثم نکث بیعته، أكنتم تستحلون قتالهم؟ قالوا: نعم، قال: فكيف تحرجون من القتال معي وقد بایعتموني؟ قالوا: إنَّا لا نزعم أنَّك مخطئ، وأنَّه لا يحل لك قتال من بايعك ثم نكث بيعتك، ولكن نشكُّ في قتال أهل الصلاة»، فينبري مالك الأشتر ويقول: «دعني يا أمير المؤمنين، أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك»، فيردُّ عليه الإمام (عليه السلام): «كفّ عنِّي»، بعدها ينصرف الأشتر وهو غاضب من تصرِّف هؤلاء القوم الذين يتخلَّون عن نصرة إمامهم ووليِّ أمرهم، فيلتقيه قيس

ص: 63


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: 2 / 78، شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي: 18 / 199

بن سعد في نفر من المهاجرين والأنصار، ويبدو أنَّ الخبر قد وصل إليه فقال له: «یا مالك، كلَّما ضاق صدرك بشيء أخرجته، وكلَّما استبطأت أمراً استعجلته، إنَّ أدب الصبر التسليم، وأدب العجلة الأناة، وإنَّ شرَّ القول ما ضاهي العيب، وشر الرأي ما ضاهي التهمة، وإذا ابتليت فاسأل، وإذا أمرت فأطع، ولا تسأل قبل البلاء، ولا تكلف قبل أن ينزل الأمر، فإنَّ في أنفسنا ما في نفسك، فلا تشق على صاحبك»(1).

وهذه الكلمات التي تفوه بها قیس بن سعد (رضوان الله عليه) تنمُّ عن عقيدة راسخة وإيمان مطلق بقرارات الإمام، لأنَّه يراها قرارات مقدَّسة منبثقة من السماء، فيطلب من مالك الأشتر (رضوان الله عليه) أن يصبر وأن يقدِّم رضا الإمام على رضا نفسه ويسلِّم لقراراته، ويظهر من كلام قيس أنَّه كان عطوفاً على الإمام يحسُّ بمشاعره وآهاته فيطلب من مالك أن لا يشقَّ عليه.

وقد شهد الإمام علي (عليه السلام) لقيس في العديد من المواطن بالسمو والرفعة والعلم والفضيلة، ومن جملة ما قال فيه:

قال الإمام علي (عليه السلام) بحقِّ قيس لما ولاَّه مصر: «وهو ممَّن أرضى هدْیَه وأرجو صلاحه ونُصْحَهُ»(2).

وقال فيه (عليه السلام): «إنَّ قيساً في سِّرٍ(3) وشرفٍ في جاهلية وإسلام، وقيس رجل العرب»(4)، وقال له لمَّا خطب في صفين: «أحسنت والله يا قيس وأجملت»(5).

ص: 64


1- الأمالي، الشيخ الطوسي: 717، بحار الأنوار: 32 / 71
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 6 / 59، بحار الأنوار: 33 / 535، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 337، أعيان الشيعة: 8 / 453
3- في سِرٍّ وشرف: أي في سِرٍّ قومه، وتعني في أفضلهم. ينظر: معجم ديوان الأدب، اسحاق الفارابي: 3 / 30 (مادة: السر)، تهذيب اللغة، الأزهري: 12 / 200، لسان العرب، ابن منظور الأفريقي: 4 / 359
4- تاریخ دمشق: 49 / 426
5- الأمالي، الشيخ الطوسي: 717، بحار الأنوار: 32 / 69، معجم رجال الحديث: 15 / 96

6 - دهاؤه:

الدهاء: من (دهو - دهي)، والدَّهْوُ والدَّهْيُ، لغتان في الدهاء، ورجل داهية: بصير بالأمور(1)، عاقل في تصرفاته(2)، والدهاء جودة الرأي والأدب(3).

أمَّا المكر: فهو من مَکَرَ، ويعني احتيال في خفية(4)، والمكر: الخديعة(5)، وهو «مثل الكيد فِي أَنَّه لَا يكون إِلَّا مَعَ تدبّر وفكر إِلَّا أَنَّ الكيد أقوى من المَكْر»(6)، وحكم الكيد في الحرب حلال، أمَّا المكر فهو حرام في كلِّ حال(7).

وكان قیس بن سعد بن عبادة الأنصاري أحد دهاة العرب(8)، وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة(9)، ودهاؤه يضرب به المثل(10)، وقد قال

ص: 65


1- ينظر: العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي: 4 / 76 (مادة: دو - دهي)
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيدة الأندلسي: 4 / 376 (مادة: دهي)، لسان العرب، ابن منظور الأفريقي: 14 / 270 (مادة: دها)
3- ينظر: القاموس المحيط، الفيروز آبادي: 1 / 1284، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة،: 1 / 301
4- ينظر: العين: 5 / 370. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الزهري: 10 / 135
5- ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر الجوهري: 2 / 819
6- ينظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: 1 / 259
7- ينظر: العين: 5 / 370. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الزهري: 10 / 135
8- ينظر: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: 1 / 88، معرفة الصحابة، أبو نعيم الأصبهاني: 4 / 2308، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1289، تاریخ دمشق: 49 / 403، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 404، تهذيب الأسماء واللغات، محي الدين النووي: 2 / 61، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والاعلام: 2 / 532، الإصابة في تميز الصحابة: 5 / 360، الأعلام، خير الدين الزركلي: 5 / 206
9- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1289، جامع الأصول: 12 / 729، الوافي بالوفيات: 24 / 212، البداية والنهاية: 11 / 141، السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: 3 / 118، أعيان الشيعة: 8 / 452
10- سير أعلام النبلاء: 3 / 107

عن نفسه: (لَوْلاَ الإِسْلاَمُ، لَمكَرْتُ مَکْراً لاَ تُطِيْقُهُ العَرَبُ»(1)، وقال: «لَولاَ أَنيِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه و آله وسلم): الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ لَكُنْتُ مِنْ أَمْکَرِ النَّاسِ)(2).

وقد حار معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص في أمره عندما ولَّاه الإمام علي (عليه السلام) مصر، وقد جاهدا بكلِّ ما يمتلكان من مكر وخديعة وحيلة على أن يخرجاه من مصر ويتغلبان عليه، ولكنَّه امتنع عليهما بما يملك من دهاء ومكايدة، فلم يقدرا عليه ولم يستطيعا أخذ مصر مدَّة حكمه لها، وكان أثقل خلق الله عليهما، وقد وصف معاوية رصانة رأي قيس ومكايدته بأنَّها خير من مائة ألف مقاتل(3).

(وكان يعدون دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة رهط يقال لهم: ذوو رأي العرب في مكيدتهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقيس بن سعد، والمغيرة بن شعبة، ومن المهاجرين عبد الله بن بديل الخزاعي، وكان قيس وابن بديل مع علي (عليه السلام)، وكان المغيرة معتزلا بالطائف وأرضها حتى حكم الحكمان)(4).

ص: 66


1- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1290، تاریخ دمشق: 49 / 423، سير أعلام النبلاء: 3 / 107، الوافي بالوفيات: 24 / 213، الإصابة في تميز الصحابة: 5 / 361، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 330
2- سنن أبي داوود: 13 / 444، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 404، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 4 / 298، کنز العمال: 3 / 545، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 335، أعيان الشيعة: 8 / 452
3- ينظر: تاریخ الرسل والملوك، الطبري: 4 / 555، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، ابن مسکویه الرازي: 1 / 511، تاریخ دمشق: 29 / 429، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، جمال الدين الجوزي: 5 / 149، سير أعلام النبلاء: 3 / 110
4- تاریخ دمشق: 29 / 423، ينظر أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 404، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 24 / 44، سير أعلام النبلاء: 3 / 108

ولا يصح أن نصف معاوية بن أبي سفيان ولا المغيرة ولا عمرو بن العاص بالدهاء اطلاقاً، لأنَّ التبصَّر بالأمور وجودة العقل والرأي والأدب لا تسمح لصاحبها بالخروج على وليِّ أمره وإمامه وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اجتمعت الكلمة عليه، وهل تجتمع جودة العقل وسلامة الرأي في شقِّ عصا المسلمين وإراقة الدماء بينهم ابتغاءً للملك والسلطان، أمَّا بالنسبة للمغيرة فكذلك لا تستقيم جودة العقل وحسن التصرف والتدبير بالاعتزال وعدم نصرة الحق، فإنَّه وإن لم ينصر الباطل في حينه فقد خذل الحق، وقد قال تعالى: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...»، ولذلك فإنَّنا نصف هؤلاء بالمكر والخديعة والغدر وهم أبعد ما يكون من الدهاء الممدوح، والدليل على ذلك قضية التحكيم التي رفع فيها معاوية وعمرو بن العاص المصاحف، واطلقا شعار الغدر: «لا حكم إلَّا لله» بعد أن لاحت علائم النصر للحق، وقد وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هذا الشعار بقوله: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ»(1)، وهنا يُبين الإمام علي (عليه السلام) معدن معاوية وعمرو بن العاص بأنَّهم يقولون حقَّاً ويبتغون من ورائه الباطل، وهذا هو المكر بعينه فهم يخدعون الناس بزبرج القول كالحية التي يكون ملمسها ناعم جميل رقيق لكن في أنيابها السم القاتل، وقد خدعوا الناس بمكرهم وسوء سريرتهم، ثمَّ أنَّ عمرو يُكمل مشوار خداعه ومكره فيمكر بالمغفل أبي موسى الأشعري ويخدعه في قضية التحكيم التي انتهت بعزل إمام الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) و تثبیت معاوية بن أبي سفيان، ولذلك فهما خادمان ماکرانْ وهما إلى النار بنصِّ رواية قيس بن سعد (رضوان الله عليه)، أمَّا المغيرة فإن صحت رواية اعتزاله فهو كان ينتظر إلى من تؤول الأمور فيكون مع الطرف الغالب، ويتقرب إليه ليحظى بسهمه منه، و قد کشف سوء سريرته قیس بن سعد (رضوان

ص: 67


1- نهج البلاغة: 84

الله عليه) عندما جاء المغيرة بن شعبة إلى الإمام علي (عليه السلام) لينصحه في أمر معاوية بن أبي سفيان، الذي وقف من اظهار البيعة للإمام علي (عليه السلام) وقال: إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولاَّنيها عثمان بایعته، فقال المغيرة للإمام علي (عليه السلام): «يا أمير المؤمنين إنَّ معاوية من قد عرفت وقد ولَّاد الشام من كان قبلك فولِّه أنت کیما تتسق عُرى الأمور ثمَّ اعزله إن بدا لك، فقال أمير المؤمنين: أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال: لا، قال: لا يسألني الله (عزَّ وجل) عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً، وما كنت متخذ المضلين عضداً، لكن أبعث إليه وادعوه إلى ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين، له ما لهم، و عليه ما عليهم، وإن أبي حاكمته إلى الله، فولَّی المغيرة وهو يقول: فحاکمه إذاً، فحاکمه إذا، فأنشأ يقول:

نصحت علياً في ابن حرب نصيحة *** فردَّ فما منِّي له الدهر ثانیه

ولم يقبل النصح الذي جنته به*** وكانت له تلك النصيحة كافيه

وقالواله: ما أخلص النصح كله *** فقلت له: إنَّ النصيحة غاليه

فقام قیس بن سعد فقال: يا أمير المؤمنين؟ إنَّ المغيرة أشار عليك بأمر لم يرد الله به، فقدَّم فيه رجلاً وأخَّر فيه أخرى، فإن كان لك الغلبة يقرب إليك بالنصيحة، و إن كانت لمعاوية يقرب إليه بالمشورة. ثمَّ أنشأ يقول:

كاد ومن أرسی ثبيراً مكانه *** مغيرة أن يقوى عليك معاوية

وكنت بحمد الله فينا موفَّقاً *** وتلك التي أراكها غير كافيه

فسبحان من علا السماء مكانها *** وأرضاً دحاها فاستقرَّت كما هیه(1)

ص: 68


1- الأمالي، الشيخ الطوسي: 88، بشارة المصطفی، محمد بن أبي قاسم الطبري: 404، بحار الأنوار: 32 / 387، حلية الأبرار، السيد هاشم البحراني: 2 / 282

فكشفه قيس وأظهر حقيقته، وكان كما قال إذ إنَّه لزم معاوية بعد قضية التحكيم واستقرار ملكه، وقد ولَّاه معاوية الكوفة.

ومن هنا يكون الصحيح الحق وصف قیس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بديل الخزاعي بالدهاء دون غيرهما من الثلاثة السابقين، لأنَّ هذين نصرا إمام الحق ودافعا عنه مدَّة حياتها بالسيف والرأي والمشورة.

7 - زهده:

كان قیس بن سعد بن عبادة (رضي الله عنه) زاهداً في الدنيا رافضاً لبهرجها وزبرجها، لأنَّه كان يعلم يقيناً أنَّها إلى زوالٍ مقتدياً في ذلك بسيده علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي طلَّق الدنيا طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، وقد تابعه قيس بالسير على خلاف خطى الدنيا وأهلها، فكان يُقدِّم عقيدته ومبادئه الزكية على كل أمرٍ عارض له، وقد سبق أن أشرنا إلى أنَّ قيساً كان سيداً مطاعاً في قومه له هيبة وجلالة بين الصحابة الكرام، ولذلك عرضت له الدنيا نفسها متأنِّقةً بزينتها الخلَّابة متمثلة بمعاوية بن أبي سفيان، ولكنَّه رفضها لأنَّه محترف خبير يعرف الزبد الذي يذهب جُفاءً من الغيث الذي يمكث في الأرض، فكان معاوية زيفاً من بهارج الدنيا الخدَّاعة الغرور، الذي يلمع ظاهره بخلاف باطنه الفاسد.

وقد رفض قيس كلَّ إغراءات معاوية وعروضه التي لم يعرضها لأحدٍ غيره في سبيل أن يشتري ولاءه، فكان قيس يتسامی عالياً فيرفض كل ما يبذله معاوية، لأنَّه قد وفي ببيعه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بمقابل رضي الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستبشر ببيعه و تجارته التي لن ولم تبور، ومن جملة عروض معاوية أنَّه عرض عليه قبل معركة صفين سلطان العراقيين ما بقيت له الحياة، وسلطان الحجاز لمن يحب من أهل بيته ما دام لمعاوية سلطان، ومع ذلك قال له معاوية: سلني

ص: 69

من غير هذا ما تحب فإنَّك لا تسألني من شيء إلَّا أوتيته(1)، فما كان من قيس إلاَّ أن يرفض رفضاً قاطعاً ويتسامی بصونه لعقيدته، ليخبر معاوية والتاريخ من بعده أنَّ ثمن ولائه غالياً لا تستوعبه كلَّ كنوز الشر فضلاً عن خزائن معاوية، لأنَّه قد ابتاع الدنيا بالآخرة، ورضي بأجر الله تعالى فرغب عن كلِّ شيءٍ دونه.

ومن المواطن الأخرى التي تبين سمو قيس وزهده في حطام الدنيا ما جرى بينه وبين معاوية عندما آلت إليه قيادة جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، فإنَّه حاول أن يستميل قيساً إلى صفِّه فأرسل إليه يعده ويمنِّيه بعروضه المغرية، فأجابه قيس بقلب ممتلئ بالإيمان وراسخ بالعقيدة فقال له: «لا والله لا تلقاني أبداً إلَّا وبيني وبينك الرمح»(2)، وعندما صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان، اعتزل قيس مع خمسة آلاف من أتباعه من بقية شرطة الخميس، ورفض بيعة معاوية إلَّا بعد أن أذن له الإمام الحسن (عليه السلام)، وقبل المبايعة اشترط الأصحابه « أماناً وألَّا يعاقبوا بشيء وأنَّه رجل منهم، ولم يأخذ لنفسه خاصة شيئاً»(3)، مع أنَّه كان بموقف يستطيع أن يشترط ما يريد لكنَّ زهده في الدنيا منعه من حبِّ المال والرياسة والمناصب بغير رضى الله تعالى، ومن هذه المواقف يظهر جلياً مدى زهد قیس بن سعد وتفانيه في ذات الله تعالى وحبِّ محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمَّا من ناحية العبادة فقد كان متهالكاً في أدائها حريصاً على رضا ربِّه مقدِّماً إيَّاه على رضا نفسه، وقد «بلغ من خوفه الله وطاعته إيَّاه أنَّه كان يصلي فلمَّا أهوى للسجود إذا في موضع سجوده ثعبان عظیم مطوق، فمال عن الثعبان برأسه،

ص: 70


1- ينظر: الغارات: 1 / 214، تاریخ الرسل والملوك: 4 / 550، تجارب الأمم: 1 / 508، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 99، بحار الأنوار: 33 / 536، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 338، أعيان الشيعة: 8 / 454
2- مقاتل الطالبيين: 1 / 73 - 74، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 16 / 43، بحار الأنوار: 44 / 52، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 346، أعيان الشيعة: 1 / 599
3- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1291

وسجد إلى جانبه، فتطوق الثعبان برقبته، فلم يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئاً حتَّى فرغ، ثمَّ أخذ الثعبان فرمی به»(1)، فكان قيس أُنموذجاً صالحاً للاقتداء به فقد رفض الدنيا وأهلها، وتمسَّك بالعروة الوثقى التي أوصلته إلى السعادة الحقيقية المتمثلة بالعبودية الخالصة لله تعالى.

8 - وفاته:

بعد حادثة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان رجع قیس بن سعد إلى المدينة، وانشغل بالعبادة والدعاء إلى أن توفِّي (رحمه الله) في آخر ملك معاوية، بما يقارب سنة تسع وخمسين أو سنة ستين للهجرة على أصح الآراء في المدينة المنورة(2)، وقد قضى حياته عابداً زاهداً موالياً لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو لزم رسول الله تعالى في حياته وبعد رحيله كان من أقطاب المعارضة لحكومة السقيفة، ثمَّ انبری مجاهداً مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) في كلِّ حروبه، وبعد شهادة الإمام علي (عليه السلام) لزم الإمام الحسن (عليه السلام) فكان صاحباً مخلصاً له، وقد جاهد معه بكلِّ اخلاص إلى أن تمَّ الصلح، وهكذا فقد كانت حياته (رضوان الله عليه) محطَّةً مكتنزة بالمفاخر والفضائل يقف عندها التاريخ مفتخراً بألقها ونصاعتها، أمَّا المتتبع والدارس فإنَّه يودُّ أن لا يفارقها لما فيها من عبق وريح زاكية، كأنَّك تتجول في جنَّة كثيرة الأزهار متنوعة الثمار قطوفها دانية وشكلها يسرُّ الناظرين. فسلام عليه بعدد مواقفه مع الرسول وعترته الهادية (صلوات الله عليهم وسلامه وبرکاته).

ص: 71


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر: 3 / 17
2- ينظر: تاریخ بغداد: 1 / 530، تاریخ دمشق: 49 / 400، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 26 / 46، البداية والنهاية: 11 / 361، الإصابة في تميز الصحابة: 5 / 361، تهذيب التهذيب: 8 / 396، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 349

ص: 72

المبحث الثانی: الأدوار القيادية لعقیس بن سعد في عهد رسول الله، (صلی الله علیه وآله وسلم)

أولاً: في عصر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

اشارة

قیس بن سعد بن عبادة من کرام أصحاب رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، ومن خُلَّص أنصاره(2)، وقد ابتدأ مشواره الريادي مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتشرفه بخدمته، إذ دفعه أبوه سعد بن عبادة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون خادماً له في أول دخوله إلى المدينة المنورة(3)، وهكذا نمت قدرات قيس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت سريرته خصبة طيبة تلقَّت غيث النبوة بقبول حسن فأنبتت نباتاً حسناً تفجَّر عن أدبٍ وخلق کریم، يُؤتي أكله كلَّ حين، ولم يدعُ أكرومةً إلَّا وكان له النصيب الأوفر منها، وكيف لا يكون كذلك وهو الملازم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملازمة لسيقة فكان بين يديه كصاحب الشرط من الأمير(4)، وهذا التمثيل الذي أجمعت عليه الأخبار الواردة في أمَّات المصادر التاريخية يحمل بين طياته دلالات كثيرة منها: أنَّ الشرط

ص: 73


1- جامع الأصول، ابن الأثير: 12 / 729، الوافي بالوفيات: 24 / 212
2- اختیار معرفة الرجال: 1 / 29
3- ينظر: مسند أحمد: 24 / 228، سنن الترمذي: 5 / 570، السنن الكبرى، النسائي: 9 / 139، المعجم الكبير: 18 / 351، المستدرك على الصحيحين: 4 / 323، شعب الإيران: 1 / 444
4- صحيح البخاري: 9 / 65، سنن الترمذي: 5 / 690، المستدرك على الصحيحين: 4 / 323 تاریخ بغداد: 4 / 443، السنن الكبرى، البيهقي: 8 / 267، سير أعلام النبلاء: 3 / 103، تاريخ الإسلام، الذهبي: 5 / 145، تهذيب الكمال: 24 / 41، شرح السنة، البغوي: 10 / 76، تهذيب التهذيب: 8 / 353، إكليل المنهج في تحقيق المطلب، محمد جعفر بن محمد طاهر الخراساني الكرباسي: 560

من الأشراط وهي أوائل الأشياء، والجمع: شُرط، وسُمُّوا كذلك؛ لأنَّ شرطة كلِّ شيء خياره، وهم نخبة السُّلطان من جنده(1)، وقيل لأنهَّم أعلمُوا أَنفسهُم بعَلاماتٍ، وقيل: هم أَوَّلُ كَتيبةٍ تَشهدُ الحرب وتتهيّأُ للموتِ(2)، والشْرُّطَة: «الأعوان والأولياء والأنصار، واحدهم: شُرْطي، منسوب إِلى الشُّرْطة، ويقال: شُرَطي منسوب إِلى الشُّرَط، والجميع: شُرَط»(3)، ومن هنا يمكن أن نستنتج أنَّ قیس بن سعد كان من خيار أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن النخبة الذين يعتمد عليهم في قضاء حوائجه، وقد وطنَّ نفسه وتهيأ للموت دون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان فدائياً له كما الشرطة التي تفدي السلطان بنفسها، وقد نصَّ بعض الرواة على أنَّ قیس بن سعد كان ينظر في أمور النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسعى في قضائها(4)، وهو لم يكن كالشرطي فحسب؛ بل كان كصاحب الشرطة أي: كبيرهم ورئيسهم ممَّا يدل على علو مكانته ومنزلته.

وقد شارك مع النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) في مشاهده كلها(5)، وكان يحمل راية الأنصار في بعضها، إضافة إلى ذلك قيادته لبعض الغزوات(6)، وقد استعمله

ص: 74


1- ينظر: العين: 6 / 236
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 8 / 14، ينظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، عیاض بن موسی السبتي: 2 / 247، لسان العرب: 7 / 330
3- شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، نشوان بن سعيد الحميري: 6 / 3414
4- ينظر: سنن الترمذي: 5 / 690، السنن الکبری: 8 / 267، شرح السنة: 10 / 76
5- ينظر: الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 334
6- ينظر: الطبقات الکبری: 1 / 247، تاریخ دمشق: 49 / 401، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 316، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 403، سير أعلام النبلاء: 3 / 103، سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد: 6 / 211 الكنى والألقاب: 3 / 174

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصدقة(1)، وممَّا تقدم نستطيع القول أنَّ قیس بن سعد كان يمتلك منزلة مرموقة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو الذي يخدمه ويقف بين يديه ينظر في أموره، وإذا ما خرج إلى الجهاد سلَّمه رايةً من راياته، وهذه الأمور تتطلب من الشخص الذي يقوم بها أن يكون على قدر عالٍ من المسؤولية والحنكة في التدبير والسلامة في التصرف، وهناك حوادث كثيرة تكشف عن المنزلة التي يتمتع بها قیس بن سعد عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن تلك الحوادث:

1 - حادثة فتح مكة

عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكَّة المكرَّمة فاتحاً لها بذلك الموكب العظيم الذي أذهل مشركي قريش حتَّى صاروا يتسابقون إلى إعلان مسالمتهم ويحاولون التقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليضمنوا سلامتهم، وعندما اقترب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مدخل مكَّة أعطى رايته إلى سعد بن عبادة، فصار يسير بها أمام الكتيبة، ولمَّا مرَّ سعد براية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من جانب أبي سفيان الذي خرج مذعوراً خائفاً يحاول أن يجد له مخرجاً يضمن به سلامته، فناده سعد بن عبادة: «یَا أَبَا سُفیَانَ اليَوْمَ يَوْمُ المَلحَمَةِ اليَوْمَ تُسْتَحَلّ الحُرْمَةُ اليَوْمَ أَذَلّ اللهُ قُرَیْشًا»، ولمَّا سمع أبو سفيان مقالته ارتعد و ازداد خوفاً ولم يجد له سبيلاً يردُّ به على سعد بن عبادة، فهرع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتمس منه عفواً وجُنَّة من هدير وزئیر سعد بن عبادة، فقال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «یَا رَسُولَ الله، أُمِرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِك؟ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرّ بِنَا قَالَ: يَا أَبَا سُفْیَانَ، اليَوْمَ يَوْمُ المَلحَمَةِ اليَوْمَ تُسْتَحَلّ

ص: 75


1- ينظر: تاریخ دمشق: 49 / 409، سير أعلام النبلاء: 3 / 104

الحُرْمَةُ اليَوْمَ أَذَلّ اللهُ قُرَيْشًا، وَإِنّي أَنْشُدُك اللهَ فِي قَوْمِك، فَأَنْتَ أَبَرّ النّاسِ، فَأَنْتَ النّاسِ، وَأَرْحَمُ النّاسِ»، فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان «یَا رَسُولَ الله، مَا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيشٍ صَوْلَةٌ»، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):» اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَةِ اليَوْمَ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشًا»، ثمَّ أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سعد بن عبادة فعزله، وجعل اللواء إلى ابنه قيس بن سعد بن عبادة فدخل قيس باللواء إلى مكة وغرزه بالحجون(1)، وهو موضع في مكة يقع في ناحية من بيت الله(2). ودخول قیس بن سعد بلواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة المكرمة يدلُّ دلالة واضحة على مدى أهميته وكياسته وعلو منزلته لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2 - حادثة جيش أسامة

وهذه هي الحادثة الثانية التي يأخذ فيها قیس بن سعد دوراً ريادياً يُكلِّفه به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وملخص هذه الحادثة أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما اقتربت وفاته خطَّط لإبعاد كلِّ المنافقين والمناوئين للإمام علي (عليه السلام)، وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل فجعلهم تحت إمرة أسامة بن زيد مولاه، وأمره بالخروج إلى ناحية من الشام حتَّى تكون المدينة التي هي مركز دولة الإسلام مهيأة تماماً للخليفة الشرعي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إلَّا أنَّ القوم طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأذن بالمقام ريثما يصلحوا شأنهم ويتهيؤوا للسفر، فأذن لهم بالمدَّة التي يحتاجونها في التهيؤ للسفر، وأمر أسامة بن

ص: 76


1- ينظر: المغازي: 2 / 821 - 822، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 2 / 597، تاریخ دمشق: 23 / 454، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2 / 441، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 17 / 272، کنز العال: 10 / 531
2- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 3 / 85

زيد أن يعسكر خارج المدينة إلى أن يلحق به القوم، وصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحثُّهم على الخروج والتعجيل إلى الوجه الذي أمرهم إليه، وفي هذه الأثناء مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرضه الذي توفِّي فيه، ولمَّا رأى القوم ذلك تباطؤا عمَّا أمرهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخروج، فأمر سيَّافه قیس بن سعد بن عبادة والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار بأن يأخذوا المتخلفين ويرحلوا بهم إلى عسكرهم، فجمعوهم ورحلوا بهم إلى عسكرهم، وهناك اجتمعوا بالقائد أسامة بن زيد وقالا له: (إنَّ رَسُولَ الله لَمْ یَرْخُصْ لَكَ فِي التَّخَلُّف، فَسِرْ مِنْ وَقْتِكَ هَذَا لِيَعَلَمَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ذَلِكَ)، وعندها ارتحل بهم أسامة وعاد قیس بن سعدَ والحباب بن المنذر فأعلما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برحلة القوم، فقال لهما: «إنَّ القَوْمَ غَيْر سَائِرِیْنَ»، وهذا ما كان من أمرهم فهم عندما ارتحلوا خلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه وطلبوا منه العودة إلى المعسكر الأول، واحتجَّوا بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نزل به مرض الموت والمدينة المنورة هي اليوم بأمس الحاجة لهذا الجيش، فعاد بهم أسامة إلى المعسكر الأول، ثمَّ بعد ذلك تتم المراسلة بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من جانب وعائشة من جانبٍ آخر، وكانت تخبرهم بالأخبار أولاً بأول إلى أن اشتدَّ المرض برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسلت إليهم صهيباً سراً وأخبرتهم بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دنت وفاته فقد اشتدَّت علته، ولمَّا وصل الخبر إليهم رجعوا إلى المدينة ودخلوها في الليل سراً، وفي هذه الأثناء أفاق رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) وقال: «لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم» فقيل له: وما هو یا رسول الله؟ فقال: «إن الذين كانوا في جيش أسامة قد رجع منهم نفر يخالفون عن أمري، ألا إنَّي إلى الله منهم بريء، ويحكم نفذوا جيش أسامة»، فلم يزل يقول ذلك حتَّى قالها

ص: 77

مرات كثيرة، ولكنَّ القوم خالفوا أمر رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) و نفَّذوا مخططهم واستولوا على مقاليد الخلافة في حادثة السقيفة المعروفة(1).

وما يهمنا في هذه الحادثة هي اشخاص قیس بن سعد بن عبادة من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعله على جماعة من الأنصار وتكليفه بجمع المتخلفين عن جيش أسامة بن زيد ثمَّ إلحاقهم بالمعسكر، ومن هذا الأمر يمكن أنَّ نستنتج أن قیس بن سعد كان ممن يثق به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّه كان يعلم أنَّ عاقبته على خير، ولذلك فهو لم يكن من جملة جيش أسامة بن زيد، إذ أبقاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة لأنَّه يعلم بعقيدته اتِّجاه الإمام علي (عليه السلام).

3 - في حادثة السقيفة.

بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتشاورون في أمرهم، ويبدو أنَّهم عرفوا نية قرش في الاستيلاء على خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعزل أهل بيته عنها ولذلك حاولوا أن يشكَّلوا جبهة موحدة تقف بوجه الاستبداد القرشي وتحفظ للأنصار مكانتهم، لا سیَّما وأنَّ الأنصار قد حاربوا قريشاً على مدى سنين فكانوا يتوجَّسون من تسلّم زمام الخلافة أشخاص قد و تروهم في حربهم مع كفَّار قريش وبذلك يتمكَّنوا منهم ويبطشوا بهم، فحاول الأنصار تدارك أمرهم وتوحيد صفوفهم وترشيح شخصية تنوب عنهم وتحفظ حقوقهم، وقد وقع الاختيار على سعد بن عبادة وكان مريضاً، لكن توجس الأنصار من الخطر دعاهم أن يحملوه ويضعوه في سقيفة بني ساعدة ويجتمعوا حوله، وقد أوضح هذا الهاجس الحباب بن المنذر عندما تخاصم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة

ص: 78


1- ينظر: إرشاد القلوب: 2 / 337 - 338، بحار الأنوار: 28 / 107 - 108، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 305

من جانب والأنصار من جانب آخر إذ قال: (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْکُمْ أَمِيرٌ فَإِنَّا والله مَا نَنْفَسُ هَذَا الأَمْرَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ وَلَکِنَّا نخاف أَنْ يَلِيَهَا. أَوْ قَالَ یَلِيَهُ. أَقْوَامٌ قَتَلْنَا آبَاءَهُمْ وَإِخْوَتَهُمْ)(1)، وقد صدقت فراسة الحباب، وكانت هواجس الأنصار في محلها، فإنَّ الذي توجَّسوا منه حدث يوم الحرة وأُخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر(2).

وهكذا آلت الأمور إلى قريش، بعد أن شرخ جبهة الأنصار بشیر بن سعد سيد الأوس حسداً بسعد بن عبادة سيد الخزرج، الذي ثقلت كفَّته علیه و آلت الأمور إليه فاشتعلت الغيرة عند بشير بن سعد، وتأجَّجت لديه الأنا فثقلت عليه ریاسة سعد بن عبادة الخزرجي، لأنَّه نظر إليها على أنَّها منقبة ستنالها الخزرج على قبيلته الأوس ويصبح هو وقبيلته تابعاً للخزرجيين، ولذلك سارع إلى بيعة أبي بكر اليزيح الإمارة عن سعد بن عبادة، وتابعته قبيلته فتسارعت بعده لتبايع أبا بكر حتَّى لا يكون للخزرج عليهم فضيلة الرياسة، حتَّى أنَّهم تكاثروا وتزاحموا على أبي بكر وصاروا يطأون سعداً من شدَّة تزاحمهم، وهو بينهم مريضاً على فراشه حتَّى قال لهم: قتلتموني، قال عمر: اقتلوا سعداً قتله الله، فوثب قیس بن سعد فأخذ بلحية عمر وقال له: والله يا بن صهاك الجبان في الحرب والفرار الليث في الملأ والأمن لو حرکت منه شعرة ما رجعت وفي وجهك واضحة فقال أبو بكر: مهلا يا عمر مهلا فإن الرفق أبلغ وأفضل، فقال سعد: يا بن صهاك الحبشية أما والله لو أن لي قوة على النهوض لسمعتها مني في سككها زئيرا أزعجك وأصحابك منها ولألحقنکما بقوم کنتما فيهم أذنابا أذلاء تابعين غير متبوعين لقد اجترأتما. ثمَّ قال لقبيلته الخزرج: احملوني من مكان الفتنة، فحملوه ونقلوه إلى منزله، وبعد مدَّة بعث أبو بكر إليه

ص: 79


1- الطبقات الکبری: 3 / 135 - 136، أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري: 1 / 580، السقيفة وفدك، الجوهري: 51، تاریخ دمشق: 30 / 275، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2 / 52 - 53، کنز العمال: 5 / 606
2- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2 / 53

قائلاً: أن قد بايع الناس فبايع، فقال: لا والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي وأخضب منكم سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما أقلت يدي فأقاتلكم بمن تبعني من أهل بيتي وعشيرتي، ثم وأيم الله لو اجتمع الجن والإنس عليَّ لما بايعتكما أيَّها الغاصبان حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي؛ وهكذا لم يبايع سعد بن عبادة أبا بكر ولا عمر بن الخطاب من بعده(1)، وكان لا يُصليِّ بصلاتهم ولا يقضي بقضائهم، ولو وجد أعواناً له في الحرب لصال عليهم وقاتلهم.

ولمَّا تسلَّم عمر الحكم خشي سعد غائلة عمر فهاجر إلى الشام ومات بحوران مقتولاً، وزُعم أنَّ الجنَّ رموه بسهم في الليل، وقيل أنَّ محمد بن سلمة الأنصاري تولَّى ذلك بجعل جُعِل له عليه، وروي أنه تولَّى ذلك المغيرة بن شعبة وقيل خالد بن الوليد(2).

وما يهمنا من هذه الواقعة هو موقف قیس بن سعد بن عبادة مع عمر بن الخطاب الرأس المدبِّر للسقيفة ورده عليه، وكذلك وقوفه ضدَّ أبي بكر وحكمه فهو من الذين لم يبايعوا أبا بكر(3)، وهم اثنا عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وستة من الأنصار، والمهاجرين هم: أبو ذر الغفاري، سلمان الفارسي، خالد بن سعید بن العاص، المقداد بن الأسود، بريدة الأسلمي، عمار بن یاسر، أمَّا الأنصار فهم: خزيمة بن ثابت، سهل بن حنیف، أبو الهيثم بن التيهان، قیس بن سعد بن عبادة الخزرجي، أُبي بن كعب، أبو أيوب الأنصاري(4).

ص: 80


1- ينظر: تاريخ الرسل والملوك: 3 / 222، الاحتجاج، الطبرسي: 1 / 93 - 94، بحار الأنوار: 28 / 182 - 183، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون): 3 / 507
2- ينظر: الاحتجاج: 1 / 93 - 94، بحار الأنوار: 28 / 182 - 183
3- ينظر: اختيار معرفة الرجال: 1 / 29، الأبواب (رجال الطوسي): 79، رجال ابن داوود الحلي: 155، جامع الرواة محمد علي الأردبيلي: 2 / 25، نقد الرجال، التفرشي: 4 / 58، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 335، منتهى المقال في أحوال الرجال، محمد بن اسماعيل المازندراني: 5 / 243، طرائق المقال، السيد علي البروجردي: 2 / 104، معجم رجال الحديث: 15 / 96
4- ينظر: الرجال، أحمد البرقي: 63، الدر النظيم، يوسف بن حاتم العاملي: 441، غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام، السيد هاشم البحراني: 119

ثانياً: في حكم أبي بكر

استمرَّ قیس بن سعد في معارضته لحكومة أبي بكر بعد حادثة السقيفة، ولم يكن في معارضته منحازاً إلى أبيه، وإنَّما كان موالياً ومدافعاً لحقِّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد قال لمعشر قريش عندما تجمهروا عند أبي بكر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول صعود له على منبره الشريف في جملة من اعترضوا على أبي بكر: (يا معشر قريش قد علم خياركم أن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحقُّ بمكانه في سبق سابقة وحسن عناء، وقد جعل الله هذا الأمر لعلي بمحضر منك وسماع أذنيك، فلا ترجعوا ضلالاً فتنقلبوا خاسرين)(1).

وبعد أن أتمَّ المعترضون كلامهم وهم الاثنا عشر، الذين سبقت الإشارة إليهم فأقاموا الحجة على أبي بكر بأنَّ الحقَّ لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو الخليفة والوصي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال أبو بكر: أقيلوني أقيلوني وليتكم ولست بخيركم، فقال المعترضون له: إن كنت صادقا فانزل عن المنبر ولا تعد فنزل، فقال عمر بن الخطاب: والله ما أقلناك ولا استقلناك. ثمَّ أخذ عمر بن الخطاب بيد أبي بكر وانطلق به إلى منزله.

ومكث أبو بكر في منزله ثلاثة أيَّام لا يخرج منه فلمَّا كان اليوم الرابع دخل عليه عمر فقال: ما الذي يقعدك، إنَّ أصلع قریش قد طمع فيها فقال أبو بكر: إليك عني يا عمر إني لفي شغل عنها، أما رأيت ما فعل بي الناس، وفي هذه الأثناء دخل عليه عثمان بن عفان في ألف رجل، وقال: ما يقعدكم عنها، والله لقد طمعت فيها بنو هاشم، ثمَّ جاء معاذ بن جبل في ألف رجل، وقال: ما يقعدكم عنها وقد طمع أصلع قريش فيها، بعدها دخل سالم مولى حذيفة في ألف رجل، وما زالوا يجتمعون

ص: 81


1- الرجال، أحمد بن محمد بن خالد البرقي: 65

حتى صاروا أربعة آلاف رجل، وجاءوا شاهرين أسیافهم يقدمهم عمر حتَّى توسطوا مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نفر من أصحابه، فقال عمر: يا أصحاب علي، لئن تكلم اليوم أحد منكم ما تكلم به بالأمس لنأخذن ما فيه عيناه، فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص الأموي، فقال: يا بن الخطاب، أبأسیافكم تهددوننا، وأسيافنا أحد منها، ومنها ذو الفقار وبجمعكم تفزعونا، وبقتلنا والله مدحنا وذمکم، وفينا من هو أكبر منكم: حجة الله، ووصي رسول الله، ولولا أنِّي أمرت بطاعة إمامي لشهرت سیفي وجاهدتكم في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(1)، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): «شكر الله مقامك».

ثمَّ قال سلمان: الله أكبر، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «بینا أخي وابن عمي في مسجدي وهو في جماعة من أصحابه إذ نكبت عنهم جماعة من کلاب أهل النار، يريدون قتله وقتل من معه، ولست أشك أنكم هم»، فهمَّ به عمر بن الخطاب، فنهض علي (عليه السلام) فتناول أثياب عمر بن الخطاب وخناقه، وجلد به الأرض، ووضع رجله على صدره، وقال: «یا بن صهاك، لولا كتاب من الله سبق، وعهد من رسول الله، لأهرقت دمك، أنت أقل صبرا وأضعف ناصرا».

ثم أقبل على أصحابه، وقال: انصرفوا - يرحمكم الله - فوالله إن رفع أحدهم علیکم سيفا أو طرفاً لألحقن آخرهم بأولهم، ثمَّ رفع رجله عن صدر عمر وركله، وقال له: «اذهب، فإنَّ الله فيك أمراً هو بالغه»، وهكذا تمت حكومة أبي بكر بالإكراه بعد أن اعتزل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه (رضي الله عنهم) أبا بكر وسلطته(2).

ص: 82


1- سورة البقرة: 249
2- ينظر: الدر النظيم : 446 - 447، البرهان في تفسير القرآن: 2 / 780 - 781، الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة: 58 - 59، مواقف الشيعة، الأحمدي الميانجي: 3 / 436 - 437

وظلَّ قیس بن سعد ملازماً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حافظاً للعهد معتقداً بإمامته، منابذاً لسلطة السقيفة ومن يقف في صفِّها، فكان في عصره مثالاً للشيعيِّ الموالي الذي لم يخرج عن طوع إمامه، أو يتَّبع خصومه أو يظهر لهم المودة، بل كان صلد الإيمان ثاقب البصيرة، وكان لسانه كالسيف القاطع على أعداء أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكلماته كالشواظ من النحاس لا تأخذه في الله لومة لائم. ومن الحوادث التي تدلل على ما سبق ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عباس بقولهم:

(كنَّا جلوساً عند أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار، وإذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافي في جيش قام غباره وكثر صهيل أهل خيله، وإذا بقطب رحی ملوي في عنقه قد فتل فتلا، فأقبل حتى نزل عن جواده ودخل المسجد، ووقف بين يدي أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره، ثمَّ قال: أعدل يا بن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل، وما ارتفعت إلى هذا المكان إلَّا كما يرتفع الطافي من السمك على الماء، وإنَّما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك وسياسة الجيوش وتقديم العساکر، وأنت بحيث أنت، من لين الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلة التحصيل، لا تحمي ذمارا، ولا تضرم نارا، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد صهاك خيرا، إنِّي رجعت منكفئاً من الطائف إلى جدَّة في طلب المرتدین، فرأيت علي بن أبي طالب ومعه عتاة من الدين حماليق، شزرات أعينهم من حسدك بدرت حنقاً عليك، وقرحت آماقهم لمكانك، منهم ابن یاسر، والمقداد، وابن جنادة أخو غفَّار، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر لعله من ولد عقيل أخيه، فتبين لي المنكر في وجوههم، والحسد في احمرار أعينهم، وقد توشَّح علي بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله، ولبس رداءه السحاب، ولقد أسرج له دابته العقاب، وقد نزل علي على عين ماء اسمها روية،

ص: 83

فلمَّا رآني اشمأز وبربر، وأطرق موحشاً يقبض على لحيته، فبادرته بالسلام استكفاءً واتِّقاءً ووحشة، فاستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزلة، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاءً عن مراوغته، فبدأني ابن یاسر بقبيح لفظه و محض عداوته، فقر عني هزوا بما تقدَّمت به إلي بسوء رأيك، فالتفت إليَّ الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه کهمهمة الأسد أو كقعقعة الرعد، فقال لي بغضب منه: أو كنت فاعلا يا أبا سليمان؟! فقلت له: إي والله، لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك. فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إليَّ طبعه الذي أعرفه به عند الغضب، فقال: يا بن اللحناء مثلك من يقدر على مثلي أن يجسر!، أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة، ويلك إنِّي لست من قتلاك ولا من قتلى صاحبك، وإنِّي لأعرف بمنيتي منك بنفسك. ثمَّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني، فدعا إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمد عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي، ينفتل له كالعلك المستخن، وأصحابي هؤلاء وقوف ما أغنوا عنِّي سطوته، ولا كفَّوا عنِّي شرته، فلا جزاهم الله عنِّي خيرا، فإنَّهم لمَّا نظروا إليه كأنَّهم نظروا إلى ملك موتهم، فو الذي رفع السماء بلا أعماد، لقد اجتمع على فكِّ هذا القطب مائة رجل أو يزيدون من أشدِّ العرب فيها قدروا على فکِّه، فدلني عجز الناس عن فتحه إنَّه سحر منه أو قوة ملك قد رُکِّبت فيه، ففکَّه الآن عنِّي إن كنت فاكَّه، وخُذ لي بحقِّي إن كنت آخذا، وإلا لحقت بدار عزِّي ومستقر مکرمتي، قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الديار، فالتفت أبو بكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل كان ولايتي ثقل على كاهله، وشجا في صدره.

فالتفت إليه عمر فقال: فيه دعابة لا تدعه حتى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحکما في خلده، فجریا منه مجرى الدماء لا يدعانه حتى يهينا منزلة، ويورطاه ورطة الهلكة.

ص: 84

ثمَّ قال أبو بكر لمن بحضرته: ادعوا إليَّ قیس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فليس لفك هذا القطب غيره قال: وكان قيس سيَّاف النبي وكان رجلاً طويلاً، طوله ثمانية عشر شبراً في عرض خمسة أشبار، وكان أشد الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فحضر قيس فقال له: يا قيس إنَّك من شدة البدن بحيث أنت، ففك هذا القطب من عنق أخيك خالد، فقال قيس: ولم لا يفكّه خالد عن عنقه؟ قال: لا يقدر عليه، قال: فما لا يقدر عيله أبو سليمان وهو نجم عسکرکم وسيفكم على أعدائكم كيف أقدر عليه أنا؟، قال عمر: دعنا من هزئك وهزلك وخذ فيما حضرت، فقال: أحضرت لمسألة تسألونها طوعا، أو كرهاً تجبروني عليه؟ فقال له: إن كان طوعاً وإلا فكرهاً، قال قيس: یا بن صهاك خذل الله من يكرهه مثلك، إنَّ بطنك لعظيمة وإنَّ کر شك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك عجب، قال: فخجل عمر من قیس بن سعد، وجعل ينكث أسنانه بأنامله، فقال أبو بكر: وما بذلك منه، اقصد لما سألت، فقال قيس: والله لو أقدر على ذلك لما فعلت، فدونكم وحدادي المدينة، فإنَّهم أقدر على ذلك منِّي، فأتوا بجماعة من الحدادين، فقالوا: لا ينفتح حتى نحميه بالنار، فالتفت أبو بكر إلى قیس مغضباً فقال: والله ما بك من ضعف عن فكِّه، ولكنَّك لا تفعل فعلاً يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا بأعجب من أنَّ أباك وأم الخلافة ليبتغي الإسلام عوجاً فحصد الله شوكته، وأذهب نخوته، وأعزَّ الإسلام بوليّه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق.

قال: فاستشاط قیس بن سعد غضباً وامتلأ غيظاً، فقال: يا بن أبي قحافة، إن لك عندي جوابا حميا، بلسان طلق، وقلب جري، ولولا البيعة التي لك في عنقي السمعته منِّي، والله لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجة لي في عليٍّ بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك إلِّا «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ

ص: 85

أَنْکَاثًا»(1)، أقول قولي هذا غير هائب منك ولا خائف من معرَّتك(2)، ولو سمعت هذا القول منك بداة لما فتح لك منِّي صلحاً، إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من یرومها بعد من ذكرته، لأنَّه رجل لا يقعقع بالشنان(3)، ولا يغمز جانبه كغمز(4) التينة، ضخم صنديد، وسَمْكُ منيف(5)، وعزٌّ، بازخٌ أشوس(6)، بخلافك والله أيتها النعجة العرجاء، والديك النافش، لا عزّ صمیم، ولا حسب کریم، وأيم الله لئن عاودتني في أبي لألجمنَّك بلجام من القول يمجُّ فوكَ منه دما، دعنا نخوض في عمايتك، ونتردَّى في غوايتك، على معرفة منَّا بترك الحق واتِّباع الباطل، وأمَّا قولك إنَّ علياً إمامي، ما أنكر إمامته ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت الله عهداً بإمامته وولايته يسألني عنه، فأنا إن ألقى الله بنقض بيعتك أحب إليَّ أن انقض عهده وعهد رسوله وعهد وصيه وخليله، وما أنت إلَّا أمير قومك، إن شاءوا تركوك وإن شاءوا عزلوك فتبّ إلى الله ممَّا اجترمت، وتنصَّل إليه ممَّا ارتكبته، وسلِّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيماً بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنَّك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع

ص: 86


1- النحل: 92
2- المعرة: الأذى والشدَّة في الحرب. ينظر: مجمل اللغة، ابن فارس: 4 / 613 (مادة: عرَّ)، لسان العرب: 4 / 556 (مادة: عرر)
3- القعقعة: «حكاية صوت السلاح». الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: 3 / 1269 (مادة: قعقع). الشنان: «الخلق من كلِّ آنية صُنعت من جلد». لسان العرب: 13 / 241 (مادة: شنن). والمعنى أنَّ أبا قيس عندما يحارب لا يكون سلاحه خَلِق أو قعقعته مجرد صوت بلا سلاح
4- غمز: «الإشارة بالجفن أو الحاجب». العين: 4 / 386
5- السَمْك: المرتفع. ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 6 / 733 (مادة: سمك). المنيف: الطويل. ينظر تهذیب اللغة: 15 / 342
6- البرزخ: هو خروج الصدر ودخول الظهر. جمهرة اللغة: 1 / 288 (مادة: بزخ). أشوس: الذي يرفع رأسه وينظر بأحد شقَّي عينه تغيظاً. ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 8 / 112 (مادة: شوس)

السَّحاب، وتعلم أيّ الفريقين شرّ مكاناً وأضعف جنداً، وأمَّا تعیيرك إيِّاي فإنَّه مولاي، هو والله مولاي ومولاك ومولى المؤمنين أجمعين، آه.. آه.. أنَّى لي بثبات قدم، أو تمکُّن وطئ حتَّى ألفظ لفظ المنجنيق الحجرة، ولعلَّ ذلك يكون قريباً، ونكتفي بالعيان عن الخبر، ثمَّ قام ونفض ثوبه ومضى، وندم أبو بكر عمَّا أسرع إليه من القول إلى قيس.

وجعل خالد يدور في المدينة والقطب في عنقه أَیَّاما، ثمَّ أتى آتٍ إلى أبي بكر فقال له: قد وافي علي بن أبي طالب الساعة من سفره، وقد عرق جبينه، واحمر وجهه، فأنفذ إليه أبو بكر الأقرع بن سراقة الباهلي، والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأتياه فقالا: یا أبا الحسن إنَّ أبا بكر يدعوك لأمر قد أحزنه، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم يجبهما، فقالا: يا أبا الحسن ما ترد علينا فيما جئناك له؟ فقال: «بئس والله الأدب أدبکم، أليس يجب على القادم أن لا يصير إلى الناس في أجلبتهم إلَّا بعد دخوله في منزله، فإنَّ لكم حاجة فاطلعوني عليها في منزلي حتَّى أقضيها إن كانت ممكنة إن شاء الله تعالى»، فصار إلى أبي بكر فأعلماه بذلك، فقال أبو بكر: قوموا بنا إليه، ومضى الجمع بأسرهم إلى منزله، فوجدوا الحسين (عليه السلام) على الباب يقلب سيفاً ليبتاعه، قال له أبو بكر: يا أبا عبد الله إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك، فقال: نعم.

ثم استأذن للجماعة فدخلوا ومعهم خالد بن الوليد، فبدأ به الجمع بالسلام، فردَّ عليهم السلام مثل ذلك، فلمَّا نظر إلى خالد قال: «نعمت صباحا يا أبا سلیمان نعم القلادة قلادتك». فقال: والله يا علي لا نجوت منِّي إن ساعدني الأجل.

فقال له علي (عليه السلام): «أفٍّ لك يا بن دميمة، إنِّك - والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة - عندي لأهون، وما روحك في يدي لو أشاء إلَّا كذبابة وقعت على إدام

ص: 87

حار فطفقت منه، فاغن عن نفسك غنائها، ودعنا بحالنا حكماء، وإلَّا لألحقنَّك بمن أنت أحق بالقتل منه، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى، وخذ فيما بقي، والله لا تجرَّعت من الجرار المختمة إلَّا علقمها، والله لقد رأيت منیتي ومنيتك وروحي وروحك، فروحي في الجنة وروحك في النار».

قال: وحجز الجميع بينها وسألوه قطع الكلام.

فقال أبو بكر لعليٍّ (عليه السلام): إنَّا ما جئناك لما تناقض منه أبا سليمان، وإنَّما حضرنا لغيره، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيمين على خلافي والاجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، ولا تردنا فيردُّ عليك منَّا مالاً يوحشك ويزيدك تنويماً إلى تنويمك.

فقال علي (عليه السلام): «لقد أوحشني الله منك ومن جمعك، وآنس بي كل مستوحش، وأما ابن الوليد الخاسر، فإنِّي أقصُّ عليك نبأه، إنَّه لمَّا رأي تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع منِّي في موضع رفع ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت عنه عندما خطر بباله، وهمَّ بي وهو عارف بي حقَّ معرفته، وما كان الله ليرضى بفعله».

فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلَّة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟!.

فقال علي (عليه السلام): «یا أبا بكر وعلى مثلي يتفقَّه الجاهلون؟! إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمركم بيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا علي ستغدر بك أمتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلَّا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة،

ص: 88

فاصبر، أنت كبيت الله: من دخله كان آمنا ومن رغب عنه كان كافرا، قال الله (عزَّ وجل): «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا..»(1)، وإنيِّ وأنت سواء إلاَّ النبوة، فإنِّي خاتم النبيين وأنت خاتم الوصيين، وأعلمني عن ربِّي سبحانه بأنِّي لست أسلُّ سيفاً إلَّا في ثلاثة مواطن بعد وفاته، فقال: تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، ولم يقرب أوان ذلك بعد، فقلت: فما أفعل يا رسول الله بمن ینکث بیعتي منهم ويجحد حقِّي؟ قال: فاصبر حتَّى تلقاني، وتستسلم لمحتك حتَّى تلقی ناصراً عليهم، فقلت: أفتخاف عليَّ منهم أن يقتلونني؟! فقال: تالله لا أخاف عليك منهم قتلاً ولا جراحاً، وإنِّي عارف بمنيتك وسببها، وقد اعلمني ربيِّ، ولكنّي خشيت أن تفنيهم بسيفك فيبطل الدين، وهو حديث، فيرتدُّ القوم عن التوحيد، ولولا أنَّ ذلك كذلك، وقد سبق ما هو كائن، لكان لي فيما أنت فيه شأن من الشأن، ولرويت أسيافا، وقد ظمئت إلى شرب الدماء، وعند قراءتك صحيفتك تعرف نبأ ما احتملت من وزري، ونعم الخصم محمد والحكم الله».

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنَّا لم نرد هذا كلَّه، ونحن نأمرك أن تفتح لنا الآن عن عنق خالد هذه الحديدة، فقد آلمه بثقله وأثَّر في حلقه بحمله، وقد شفيت غليل صدرك منه.

فقال علي (عليه السلام): «لو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء وأقرب للفناء، ولو قتلته والله ما قدته برجل ممَّن قتلهم يوم فتح مكَّة وفي کرته هذه، وما يخالجني الشك في أنَّ خالداً ما احتوى قلبه من الإيمان على قدر جناح بعوضة، وأمَّا الحديد الذي في عنقه فلعلِّي لا أقدر على فکِّه، فيفكّه خالد عن نفسه أو فکُّوه أنتم عنه، فأنتم أولى به إن كان ما تدعونه صحيحا».

ص: 89


1- سورة البقرة: 125

فقام إليه بريدة الأسلمي وعامر بن الأشجع فقالا: يا أبا الحسن والله لا يفکُّه عن عنقه إلَّا من حمل باب خیبر بفردید، ودحا به وراء ظهره، وحمله وجعله جسراً تعبر الناس عليه وهو فوق زنده، وقام إليه عمار بن یاسر فخاطبه أيضاً فيمن خاطبه، فلم يجب أحداً، إلى أن قال له أبو بكر: سألتك بالله وبحقِّ أخيك المصطفی رسول الله إلَّا ما رحمت خالدا وفككته من عنقه.

فلمَّا سأله بذلك استحيى، وكان (عليه السلام) كثير الحياء، فجذب خالداً إليه، وجعل يخذف من الطوق قطعة قطعة ويفتلها في يده، فانفتل كالشمع.

ثم ضرب بالأولى رأس خالد، ثم الثانية، فقال: آه يا أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قلتها على كره منك، ولو لم تقلها لأخرجت الثالثة من أسفلك، ولم يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله عن عنقه». وجعل الجماعة يكبرون ويهللون ويتعجبون من القوة التي أعطاها الله سبحانه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وانصرفوا شاکرین)(1).

وهذه الرواية فيها دلالات كثيرة وما يهمُّ البحث منها هو موقف قیس بن سعد الذي يمكن أن نلخّصه بالآتي:

1 - إنَّ قیس بن سعد كان يُعرف بالقوة المفرطة، بحيث كان المرشَّح الأول والأوحد من لدن أبي بكر الحاكم لفكِّ قطب الرحى عن عنق خالد بن الوليد، وذلك بقوله: (فليس لفكِّ هذا القطب غيره)، وتعبيره هذا يدلُّ على الجزم والتأكيد بأنَّه ليس هناك من هو قادر على فكِّ القطب غير قیس بن سعد بن عبادة، ولذلك عندما رفض قیس بن سعد طلبهم لم يبقَ لهم منفذ سوى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى هذا صحَّت المقولة التي تنصُّ على أنَّ قیس بن سعد (أشدُّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين (عليه السلام))، ثمَّ أنَّ ترشيح أبي بكر لقیس بن سعد لم يلقَ اعتراضاً ممَّن كان حاضراً ما يعني أنَّهم يوافقونه الرأي.

ص: 90


1- إرشاد القوب: 2 / 378 - 384، الصحیح من سيرة الإمام علي (عليه السلام): 11 / 33 - 43

2 - امتناع قيس عن فكِّ قطب الرَّحى بقوله: «والله لو أقدر على ذلك لما فعلت»، وهذا قرار جازم من قیس بن سعد لا يحتمل النقاش، فإنَّه أقسم بالله تعالى بأنَّه لا يفعل فيما لو كان قادراً عليه، مع أنَّ الموقف يستدعي من قيس الإقدام والمحاولة، لأنَّه لو استطاع أن يفكَّ قطب الرحى لعلا نجمه ولشاع صيته، إذ إنَّه استطاع أن يفعل شيئاً لم يستطع أن يفعله القائد العام لقوات أبي بكر المسلحة، ولاستطاع أن يتقرَّب من السلطة الحاكمة، لكنَّه لم يفعل ذلك لأنَّه مطيع لأمر مولاه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ولا يمكن أن يتجاوزه اطلاقاً، وقد نصَّ أبو بكر على ذلك بقوله: «والله ما بك من ضعف عن فكِّه، ولكنَّك لا تفعل فعلاً يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن»، وهذا المقطع من كلام أبي بكر يدلُّ على أنَّ قيساً كان مطيعاً لإمامه وسيده، وكذلك محبَّاً له محبَّةً كبيرة بحيث شکَّلت عنده ظاهرة واضحة للعيان، ولم تكن خافية على أحد.

3 - عقيدة قیس بن سعد بالإمام علي (عليه السلام): (وأمَّا قولك إنَّ علياً إمامي، ما أنكر إمامته ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت الله عهداً بإمامته وولايته يسألني عنه، فأنا إن ألقى الله بنقض بيعتك أحبُّ إليَّ أن انقض عهده وعهد رسوله وعهد وصيه وخليله... وأمَّا تعبيرك إيَّاي فإنَّه مولاي، هو والله مولاي ومولاك ومولى المؤمنين أجمعين).

4 - تقییم قیس بن سعد لحكومة أبي بكر بقوله: (وما أنت إلا أمير قومك، إن شاءوا تركوك وإن شاءوا عزلوك)، وقيس هنا يبين ضعف أبي بكر في الإدارة وسيطرة حاشيته عليه، وأنَّه لا يملك قرارته وإنَّما هي تملى عليه، ويبين أيضاً بأنَّ إمارته منوطة بإرضاء حاشيته فهم الذين يقررون ملکه أو عزله متى شاءوا، ولذلك فحكومة أبي بكر لم تكن واقعية فهو محكوم بمن حوله وليس حاكماً عليهم.

ص: 91

5 - نصيحته لأبي بكر:

(فتب إلى الله ممَّا اجترمت، وتنصَّل إليه ممَّا ارتكبته، وسلم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيماً بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب، وتعلم أيُّ الفريقين شرّ مكاناً وأضعف جنداً).

في هذا القول ينصح قیس بن سعد أبا بكر، فيطلب منه التوبة من ارتكابه لجريمة غصب الخلافة كما وصفها، ثمَّ يأمره بتسليم الخلافة إلى من هو أولى به من نفسه الإمام علي (عليه السلام)، وهو هنا يشير إلى حديث الغدير الذي نصَّ على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على كلِّ المسلمين، ولذلك فإنَّه يصف جلوس أبي بكر في موضع الإمام علي (عليه السلام) وتسميته باسمه بركوب العظيم، ويقصد بذلك أن اغتصاب أبي بكر للخلافة كان أمراً عظيماً خطره، وكذلك تسميته باسمه وهو لقب (أمير المؤمنين)، ثمَّ يصف له عمر إمارته وحكمه بالقصير الفاني، الذي سرعان ما ينقشع كما السحاب، الذي سرعان ما يتلاشى في السماء وتنقضي حياته.

6 - وصف بيعته لأبي بكر:

(والله لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجَّة لي في عليٍّ بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك إلَّا «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا».

يؤكد قیس بن سعد لأبي بكر بالقسم أنَّ بيعته له لم تكن بيعة بالمفهوم الحقيقي لأنَّها لم تكن عن اختيار وقصد، وقد نسب البيعة ليده ونفاها عن قلبه ولسانه، ثمَّ نفي أن تكون لأبي بكر حجَّة عليه، لأنَّه قد بايع الإمام علي (عليه السلام) في يوم الغدير وأصبح هو صاحب الحجَّة عليه، ثمَّ يصف بمثل اقتبسه من القرآن الكريم

ص: 92

من قوله تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا»(1)، وهذه الآية تصف (امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها ريطة بنت عمرو بن سعد بن کعب بن زید مناة بن تميم، كانت اتَّخذت مغزلاً بقدر ذراع، وصنارة مثل الإصبع، وفتل عظمة على قدرها، وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكنّ يغزلنّ من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها)(2)، والقصد من إيراد هذا المثل القرآني بيان بيعة أبي بكر التي كانت تصرف أحمق كفعل هذه المرأة الحمقاء، لأنَّ قيس يعرف جيداً فساد هذه البيعة التي هي كمن يغزل الصوف ثمَّ ينقضه.

وهنا نتساءل هل أنَّ هناك ثمَّة تعارض بين ما ذكرناه سابقاً من أنَّ قيساً لم يبايع أبا بكر وبين هذا القول الذي ينسب إليه وفيه يقرُّ بالبيعة لأبي بكر. وفي الجواب على ذلك نقول أنَّ كل عمل يُشترط في صحته القصد والاختيار وسلامة العقل وغيرها من الشروط التي ذكرها الفقهاء، ولو رجعنا لقول قیس بن سعد فإنَّه ينص ويُقسم بالله مؤكداً بأنَّ بيعته لا تشتمل على شروط الصحة، لأنَّه لم يكن معتقداً بها وقاصداً إليها، بل كانت بيعة يدٍ ولم يقرها القلب أو اللسان، ثمَّ يؤكَّد من خلال المثل القرآني بأنَّه كان مسلوب الاختيار والإرادة كهذه المرأة التي فقدت عقلها فأصبحت تتصرف بلا وعي ولا اختيار، وبذلك فهو يُثبت عدم صحة بيعته لعدم توفُّر شرائطها، أمَّا كيف تمَّ إرغام قيس على البيعة وإن كانت شكلية، فإنَّه يمكن أن تكون تغليباً لمصلحة الإسلام كما فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما سالم من أجل الإسلام.

ص: 93


1- النحل: 92
2- الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي: 6 / 38

7 - أبو بكر يحاول الانتقاص من قیس بن سعد:

أراد أبو بكر أن يحرج قیس بن سعد ويقلل من مكانته، وذلك بقوله:

(والله ما بك من ضعف عن فكِّه، ولكنَّك لا تفعل فعلاً يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا بأعجب من أنَّ أباك وأم الخلافة ليبتغي الإسلام عوجاً فحصد الله شوكته، وأذهب نخوته، وأعزَّ الإسلام بوليه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق).

فأبو بكر في هذا النص يحاول أن يضع قیس بن سعد في موقف محرج، فهو من جانب يصفه بالولاء والمحبَّة للإمام علي (عليه السلام)، ومن جانب آخر يذکِّره بموقف أبيه الذي طالب بالخلافة، وبذلك يجعل قيس بين أمرين: إمَّا أن ينتصر الأبيه ويتخلَّى عن الإمام علي (عليه السلام)، أو العكس فيتخلَّى عن أبيه، وفي كلتا الحالتين يكون قیس بن سعد محرجاً.

ولكنَّ أبا بكر فاته أنَّه أمام إنسان مقدام لا تأخذه في الله لومة لائم، صاحب لسان طلق بلیغ قد استحوذ على مجامع البيان ومكامن الفصاحة مع قوة الجنان.

فأجابه قيس جواباً ردَّ كيده إلى نحره، وقلب سحره عليه فقال له:

(إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته، لأنَّه رجل لا يقعقع بالشنان، ولا يغمز جانبه كغمز التينة، ضخم صنديد، وسمك منيف، وعزّ، بازخ أشوس، بخلافك والله أيتها النعجة العرجاء، والديك النافش، لا عزّ صمیم، ولا حسب کریم، وأيم الله لئن عاودتني في أبي لأجمنَّك بلجام من القول يمجُّ فوك منه دماً).

ص: 94

وقيس في قوله هذا ينتصر لأبيه ويجعله أهلاً للخلافة، ولكن بعد الإمام علي (عليه السلام) لا بوجوده، وذلك بقوله: (إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته)، وقد ذكر أبو بكر الإمام علي (عليه السلام) في أوَّل كلامه ثمَّ ذكر سعد بن عبادة، وبهذا يكون الاسم الموصول (مَنْ) راجعاً إلى الإمام علي (عليه السلام)، ومعنی کلام قيس أنَّ أبي يستحق الخلافة لو لم يكن الإمام علي (عليه السلام) موجوداً؛ وذلك لما حواه من صفاتٍ مؤهلة، فهو بطل لا يقعقع من فراغ، ولا يتمايل في مشيه كأنَّه النساء، وقد أمتلك مؤهلات جسمية من ضخامة وارتفاع، إضافةً إلى أنَّه صاحب عزٍّ وجاه، وهو بخلاف أبي بكر الذي يفتقر لكلِّ ما سبق إذ وصفه بالنعجة العرجاء والديك النافش، ولمَّا كانت هذه مؤهلات أبي بكر فسعد بن عبادة أحق منه بالخلافة لما حواه من فضائل.

ثمَّ إنَّ قیس بن سعد لم يُجزم بتصدي أبيه للخلافة و إنَّما أرسل الكلام مشروطاً إذ قال: «إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته» و (إن) أداة شرط، والمعنى في حال تحقق فعل الشرط وهو (إن كان أبي رام الخلافة) يتحقق جواب الشرط وهو (فحقيق من يرومها)، ولكن بشرط آخر (بعد من ذكرته)، فجواب الشرط متعلق بتحقق شرطين هما: طلب سعد بن عبادة للخلافة، وأن يكون بعد الإمام علي (عليه السلام) لا مع وجوده، ويُفهم من كلام قيس تشكيك بطلب سعد بن عبادة للخلافة، فهو لم يسلِّم لأبي بكر في مدَّعاه، وإنَّما وافقه جدلاً بصيغة الشرط.

وبذلك فقد هزم قيس أبا بكر ولم يُنكر موالاة الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك دافع عن أبيه بطريق آخر، إذ فضَّله على أبي بكر وجعل منه أحق بالخلافة من أبي بكر الذي يفقد أبسط مؤهلاتها.

ص: 95

ص: 96

الفصل التاني الأدوار القيادية لقيس بن سعد في خلافة الإمام علي (علیه السلام) وما بعدها حتى وفاته

ص: 97

ص: 98

توطئة:

نصَّ أهل الرجال على أنَّ قیس بن سعد بن عبادة من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1)، ومن أصفياء أوليائه الذين لم يرتدُّوا ولم ينزعجوا(2)، وهو لم يفارقه في السرَّاء والضراء(3)، وكان قيس طالبيِّ الرأي، ومن كبار الشيعة القائلين بمحبَّة الإمام علي (عليه السلام) وولائه، وقد شهد معه حروبه كلِّها، وكان في كلِّ ذلك مخلصاً في اعتقاده وودِّه(4).

و ممَّا سبق نجد أنَّ هناك اتفاق على سبق ومحبَّة وولاء قیس بن سعد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو ممَّن تمسَّك به ومال إليه بكلِّ جوارحه، وبقي ملازماً له (عليه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يتوانَ عن نصرته أو يُقصِّر في استجابته؛ بل كان مقداماً مطيعاً لكلِّ ما يأمره به مولاه علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وسندرس في هذا الفصل دور قیس بن سعد في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع بيان أهم الأدوار القيادية في تلك الفترة، وكذلك ندرس دور قیس بن سعد بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) وصولا إلى خلافة الإمام الحسن (عليه السلام)، وانتهاءً بأدواره في حكم معاوية بن أبي سفيان.

ص: 99


1- ينظر: خلاصة الأقوال، العلامة الحلي: 231، وسائل الشيعة، الحر العاملي: 30 / 451، التحرير الطاووسي، حسن بن زين الدين العاملي: 472، منتهى المقال في أحوال الرجال، محمد المازندراني: 5 / 243
2- ينظر: اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي: 1 / 29
3- ينظر: المستدرك على الصحيحين: 4 / 323
4- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 10 / 112

ص: 100

المبحث الأول: الأدوار القيادة لقيس بن سعد في خلافة الإمام علي (علیه السلام)

أولاً: معركة الجمل.

بعد مقتل عثمان بن عفان توافد المسلمون على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يبايعونه بالخلافة، وقد هبُّوا عليه مجتمعين حتَّى وطئ الحسنان وشُقَّ ثوب الإمام علي (عليه السلام) من هول ما اجتمع عليه من المبايعين بالخلافة، وفي وصف ذلك يقول (عليه السلام): «فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى لَقَدْ وُطِیءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ»(1).

ورغم ذلك فالإمام علي (عليه السلام) لم يستجب لهم في بادئ الأمر فأكدوا عليه مراراً، وبعد الإلحاح عليه أوضح لهم سياسته في الحكم مخيِّراً بين حكمه إيَّاهم أو وزارته لهم، وكذلك كشف لهم معطيات واقعهم المعاصر التي تُنذر بكثير من الحوادث الصعبة، وذلك بقوله (عليه السلام): «دَعُوني وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَکَّرَتْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُکُمْ رَكِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا کَأَحَدِکُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُکُمْ وَأَطْوَعُکُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَکُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً»(2).

ص: 101


1- نهج البلاغة: 34
2- نهج البلاغة: 179

ومع هذا فإنَّ المسلمين أصرُّوا عليه بقبول بيعتهم له، وتسلُّمه لمقاليد حكمهم، ولمَّا قام بالأمر وساس الناس بما يُرضي الله تعالى، فساوی بینهم بالعطاء وحكَّم العدل في كلِّ أمورهم، ولم يفضِّل بعضهم على بعض، فكانوا عنده سواسية بكلِّ ألوانهم وأشكالهم وأطيافهم.

وهذه السياسة وإن كانت منصفة للشريحة العظمى من المجتمع إلَّا أنها لم تكن مرضية أبداً لأصحاب المصالح والمطامع وطلَّاب الدنيا، فصاروا يتشاورون فيما بينهم في إيجاد وسيلةً يخرجون بها من حكم العدل هذا، وقد وجدوا لهم في قمیص عثمان الذي ساهموا في قتله بالأمس وسيلة ومنفذاً للوصول إلى غاياتهم في السلطة والتحکُّم برقاب الناس، فانبرى الزبير وطلحة وعائشة ومعاوية ينادون بالثأر لدم عثمان، وتناسوا أنَّهم ساهموا جميعاً في قتله.

فخرج الزبير وطلحة ومعها عائشة إلى البصرة يطلبون الثأر لدم عثمان، وكأنَّ عثمان قُتِل بالبصرة أو أنَّ أهل البصرة هم من قتلوه، وتناسوا أنَّ عثمان إنَّما قُتِل بالمدينة وأنَّ قتلته ما زالوا فيها، وأنَّهم من أبرز المشاركين في قتله، ثمَّ راحوا يؤلِّبون الناس للثورة على الإمام علي (عليه السلام)، ويرسلون إلى رؤساء القبائل يطلبون منهم النصرة في حربهم للإمام علي (عليه السلام)، وقد استغلُّوا انضام عائشة معهم فاستمالوا قلوب الناس بطلبهم النصرة لزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمِّ المؤمنين، وقد استجاب لهم جمع غفير من أصحاب المصالح والرعاء.

ولمَّا بلغ الإمام علي (عليه السلام) خروج طلحة والزبير خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمَّ قال:

«أمَّا بعد، فقد بلغني مسير هذين الرجلين، واستخفافها حبيس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستفزازهما أبناء الطلقاء، وتلبيسها على الناس بدم عثمان،

ص: 102

وهما ألَّبا عليه، وفعلا به الأفاعيل، وخرجا ليضر با الناس بعضهم ببعض، اللهمَّ فاكفِ المسلمين مؤنتهما، واجزهما الجوازي»(1).

وما كان من أمر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلَّا أن حاججهم وبرهن لهم بطلان دعواهم، فهو لم يُرد الخلافة وإنَّما الناس أرادوه، وهم كانوا من ضمن من بايع مریدین غیر مکرهين، ولذلك وجب عليهم إطاعته، وفي ذلك يقول (عليه السلام):

«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُما، وَإِنْ كَتَمْتُما، أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي، وَلَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَایَعُونِي، وَإِنَّکُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَبَایَعَنِي، وَإِنَّ العَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَان غَاصِب، وَلاَ لِعَرَض حَاضِر، فَإِنْ کُنْتُما بَایَعْتُمانِي طَائِعَيْنِ، فَارْجِعَا وَتُوبَا إِلَى الله مِنْ قَرِيب، وَإِنْ کُنْتُما بَایَعْتُمانِي کَارِهَيْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُما لِي عَلَيْکُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِ کُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِ کُمَا الْمَعْصِیَةَ»(2).

ثمَّ حاججهم باتِّهامه بقتل عثمان بن عفان، فقال لهم:

«وَقَدْ زَعَمْتُما أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمانَ، فَبَيْنِي وَبَيْنَکُمَا مِنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَعَنْکُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ أمْرِئٍ بَقَدْرِ مَا احْتَمَلَ»(3).

وقال أيضاً:

«وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْکَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً، وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَکُوهُ، فَإِنَّ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ، وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي، مَا لَبَّسْتُ وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ، وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»(4).

ص: 103


1- الأمالي، الشيخ الطوسي: 715
2- نهج البلاغة: 641
3- المصدر نفسه
4- المصدر نفسه: 263

ولكنَّهم ازدادوا طغياناً فكانوا في غيِّهم يعمهون، ولمَّا أتمَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الحجَّة عليهم قرَّر المسير إليهم بنفسه، وكانت الخطَّة هي البدء بمتمردي البصرة ثمَّ الشام، وهذا القرار لقي رجاءات من قبل سكنة المدينة المنورة، تتضمن طلبات بإرسال شخص ينوب عنه في قيادة الجيش، لأنَّهم كانوا يريدونه بینهم يتبركون به، وقد تكلَّم جمع منهم في ذلك(1).

ولكنَّ قیس بن سعد بن عبادة كان له رأي آخر أفصح عنه بقوله:

(يا أمير المؤمنين، إنَّه والله ما غمَّنا بهذين الرجلين كغمنا بعائشة، لأنَّ هذين الرجلين حلالا الدَّم عندنا، لبيعتهما ونكثهما، ولأنَّ عائشة من علمت مقامها في الإسلام، ومكانها من رسول الله، مع فضلها ودينها وأمومتها منَّا ومنك، ولكنَّهما يقدمان البصرة، وليس كلُّ أهلها لهما، وتقدِم الكوفة، وكلُّ أهلها لك، وتسير بحقِّك إلى باطلهم، ولقد كنَّا نخاف أن يسيرا إلى الشام، فيقال: صاحبا رسول الله وأمُّ المؤمنين، فيشتدُّ البلاء، وتعظم الفتنة، فأمَّا إذا أتيا البصرة وقد سبقت إلى طاعتك، وسبقوا إلى بيعتك، وحكم عليهم عاملك، ولا والله ما معهما مثل ما معك، ولا يقدمان على مثل ما تقدم عليه، فسر فإنَّ الله معك، وتتابعت الأنصار فقالوا وأحسنوا)(2).

فقدَّم قيس تحليلاً متكاملاً لواقع متمردي البصرة، فهو حدَّد محور القوة عندهم وهي مكانة عائشة بقيمتها الاعتبارية بوصفها زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا الأمر سيكون عامل جذب لتعاطف المسلمين معهم.

وكذلك حدَّد محاور القوة عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي ذاتها محاور ضعف عند المتمردين، وصار يقارن بين الجهتين فهم يقدمون البصرة وليس كلُّ أهلها معهم، والبصرة قد سبقت بطاعتها للإمام علي (عليه السلام)، وبايعه أهلها،

ص: 104


1- ينظر الأمالي للشيخ الطوسي: 716
2- الإمامة والسياسة: 1 / 59

وقد حكم عليها عامل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكلُّ هذه الأمور لا تصب في صالح عائشة وأنصارها، إضافة إلى ذلك اجتماع أهل الكوفة على بيعة الإمام علي (عليه السلام)، ولذلك فمعطيات المعركة كلّها نبئ برجحان كفَّة الإمام علي (عليه السلام)، ومن هنا كان قيس يخالف من يطلب بقاء الإمام في المدينة وإرسال من ينوب عنه في إدارة المعركة. و تحليل قيس يكشف عن عقلية عسكرية متمرِّسة، ووعي ثاقب بمعطيات الأحداث.

أمَّا عن حال معاوية فكان لقیس بن سعد تحليل آخر يختلف عمَّا سبق، وذلك بقوله:

(يا أمير المؤمنين، ما على الأرض أحدٌ أحبُّ إلينا أن يقيم فينا منك، لأنَّك نجمنا الذي نهتدي به، ومفزعنا الذي نصير إليه، وإن فقدناك لتظلمنَّ أرضنا وسماؤنا، ولكن والله لو خليت معاوية للمكر، ليرومنَّ مصر، وليفسدنَّ اليمن، وليطمعنَّ في العراق، ومعه قوم یمانیون قد أشربوا قتل عثمان، وقد اكتفوا بالظن عن العلم وبالشكِّ عن اليقين، وبالهوى عن الخير، فسر بأهل الحجاز وأهل العراق، ثمَّ ارمه بأمر يضيق فيه خناقه، ويقصر له من نفسه؛ فقال: أحسنت والله يا قيس، وأجملت)(1).

وفي هذا النصِّ أيضاً يؤكد قیس بن سعد على ضرورة تولِّي أمير المؤمنين (عليه السلام) قيادة الجيش الحرب الباغي معاوية بن أبي سفيان، وقد بدأ قيس حديثه بیان منزلة أمير المؤمنين (صلوت الله وسلامه عليه)، وأنَّه لا يوجد من هو أحبُّ إليهم في الإقامة بينهم منه، ثمَّ استدرك كلامه ببيان خطر معاوية بن أبي سفيان، وقدَّم قراءة عسكرية متكاملة لخطط معاوية، فبیَّن استراتيجيته في الوصول للحكم عن طريق المكر، وأوضح أنَّه لو تركه الإمام (عليه السلام) المكره فإنَّه سيطلب مصر، ثمَّ يفسد اليمن، وبعدها يطمع في العراق وهو ما حصل بعينه، فإنَّ معاوية قد أخذ مصر بعد

ص: 105


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 715 - 718

التحكيم ثمَّ أرسل جيشه إلى اليمن ففسد فيها وقتل خلقاً كثيراً، وبعدها انتقل إلى أطراف العراق وصار يغزو حدوده، ولمَّا استشهد الإمام علي (عليه السلام) طمع في العراق وأخذه في نهاية المطاف، ثمَّ بيَّن طبيعة جُند معاوية وهم يمانيون أشربوا حُبَّ الثأر لقتل عثمان، مكتفين بالظن عن العلم، وبالشكِّ عن اليقين، وبالهوى عن الخير، وفي ختام حديثه يُصرِّح قيس بالطلب من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسير بأهل الحجاز والعراق لملاقاة المتمردين، لأنَّه كان يعي جيداً عظم خطر المتمردِّين، وبالخصوص معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يُتقن فنَّ المكر والخداع وتزوير الحقائق، ولذلك لم يعطِ نتيجة حتمية لمعركة الشام بخلاف معركة البصرة، فكان قيس مصيباً في تحليلاته إذ أُخمدت فتنة البصرة في وقتها، وما زالت فتنة معاوية قائمة حتَّى يومنا هذا، وقد تجلَّت بتسلّط بني أمية على مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية.

وقراءة قيس هذه لاقت من أمير المؤمنين (عليه السلام) قبولاً واستحساناً عاليا، إذ قال له: «أحسنت والله يا قيس، وأجملت»، وهي عبارة غاية في المدح.

- المسير إلى البصرة

بعد ذلك قرَّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) المسير إلى البصرة من أجل إخماد فتنة الزبير وطلحة وعائشة، ولمَّا تجمع جيشه سار في طلبهم حتَّى نزل بذي قار، وهي مدينة تقع على أعتاب البصرة، ولمَّا رأى قلة من معه قال: «والله إنَّه ليحزنني أن أدخل على هؤلاء في قلَّة من معي»، فأرسل إلى الكوفة الإمام الحسن ابنه (عليهما السلام)، وعمار بن یاسر، وقيس بن سعد، وكتب إليهم کتاباً، ولمَّا قدموا الكوفة خطب الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الإمام علي (عليه السلام) وسابقته في الإسلام، وبيعة الناس له، وخلاف من خالفه، ثمَّ أمر بكتاب الإمام علي (عليه السلام) فقُرئ عليهم وهذا نصُّه:

ص: 106

«مِنْ عَبْدِ الله عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، جَبْهَةِ الأَنْصارِ وسَنَامِ الْعَرَبِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُخْبِرُکُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ کَعِیانِهِ: إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ، فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُکْثِرُ اسْتِعْتَابَه، وَأُقِلُّ عِتَابَهُ، وَكَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجيِفُ، وَأَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِيفُ، وَكَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَب، فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ، وَبَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَکْرَهِینَ وَلاَ مُجْبَرِينَ، بَلْ طَائِعِینَ مُخَیَّرِینَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَقَلَعُوا بِهَا، وَجَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ، وَقَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ، فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِکُمْ، وَبَادِرُوا جَهَادَ عَدُوِّکُمْ، إِنْ شَاءَ اللهُ»(1).

وفي نسخة الشيخ الطوسي (أعلى الله مقامه) إضافة على ما سبق نصُّها:

«وكان هذان الرجلان أوَّل من فعل على ما بويع عليه من كان قبلي، ثمَّ إنَّهما استأذناني في العمرة، وليسا يريدانها، فنقضا العهد، وآذنا بحربٍ، وأخرجا عائشة من بيتها، ليتخذانها فئة، وقد سارا إلى البصرة اختيارا لها، وقد سُرت إليكم اختیاراً لكم، ولعمري ما إیَّاي تجيبون، ما تجيبون إلَّا الله ورسوله، ولن أقاتلهم وفي نفسي منهم حاجة، وقد بعثت إليكم بالحسن بن علي، وعمار بن یاسر، و قیس بن سعد، مستنفرين فكونوا عند ظنِّي بكم، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله»(2).

ولمَّا قُرئ الكتاب على النَّاس انبری خطباء الكوفة فقالوا: «والله لقد أردنا أن نركب إلى المدينة حتَّى نعلم علم عثمان، فقد أنبأنا الله به في بيوتنا، ثمَّ بذلوا السَّمع والطاعة، وقالوا: رضينا بأمير المؤمنين، ونطيع أمره، ولا نتخلف عن دعوته، والله لو لم يستنصرنا لنصرناه سمعاً وطاعة»(3).

ص: 107


1- نهج البلاغة: 583
2- الأمالي، الشيخ الطوسي: 718، مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، المير جهاني: 4 / 109، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي: 4 / 54
3- الأمالي، الشيخ الطوسي: 719

ولمَّا سمع الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) ذلك منهم قام خطيباً فقال: «أيَّها الناس، إنَّه قد كان من أمير المؤمنين علي ما تكفيكم جملته، وقد أتيناكم مستنفرین الكم، لأنَّكم جبهة الأمصار، ورؤساء العرب، وقد كان من نقض طلحة والزبير بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم، وهو ضعف النساء، وضعف رأيهن، وقد قال الله (تعالى): «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ»(1)، وأيم الله لو لم ينصره أحد لرجوت أن يكون له فيمن أقبل معه من المهاجرين والأنصار، ومن يبعث الله له من نجباء النَّاس كفاية، فانصروا الله ينصركم»(2).

ثمَّ قام عمار بن یاسر (رضوان الله عليه) فقال: (يا أهل الكوفة، إن كانت غابت عنكم أبداننا فقد انتهت إليكم أمورنا، إنَّ قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجِّيهم، فبه أحيا الله من أحيا، وقتل من قتل، وإنَّ طلحة والزبير أوَّل من طعن، وآخر من أمر، ثمَّ بايعا أوَّل من بايع، فلمَّا أخطأهما ما أملا نكثا بيعتهما على غير حدث كان، وهذا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستنفر کم، وقد أظلَّكم في المهاجرين والأنصار، فانصروه ينصركم الله)(3).

بعد ذلك قام قیس بن سعد خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: (أيَّها الناس، إنَّ هذا الأمر لو استقبلنا به الشُّورى لكان عليٌّ أحقُّ الناس به في سابقته وهجرته وعلمه، وكان قتال من أبي ذلك حلالا، فكيف والحجُّة قامت على طلحة والزبير، وقد بايعاه وخلعاه حسدا؟!)(4).

ص: 108


1- النساء: 34
2- الأمالي، الشيخ الطوسي: 719، صحيفة الحسن، الشيخ جواد القيومي: 114
3- الإمامة والسياسة: 1 / 64، الأمالي، الشيخ الطوسي: 719
4- الأمالي، الشيخ الطوسي: 719، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 17 / 23

ثمَّ قام خطباؤهم فأسرعوا في ردِّهم بالإجابة، ولمَّا رأي قيس منهم ذلك أنشد شعراً فقال(1):

جزى الله أهل الكوفة اليوم نصرةً *** أجابوا ولم يأتوا بخذلان من خذل

وقالوا على خيرُ حافٍ وناعلٍ *** رضينا به من ناقض العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبي تعمُّداً *** يسوقُ بها الحادي المنيخ على جمل

فما هكذا كانت وصاةُ نبيِّكم *** ومَا هكذا الإنصاف أعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقالٍ لقائلٍ *** ألا قبَّح الله الأمانيَ والعلل

وقال أيضاً(2):

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا *** علياً وأبناءَ الرسولِ محمدِ

وقلنا لهم: أهلاً وسهلاً ومرحباً *** نمدُّ يدينا من هدى وتوددِ

فما للزبير الناقضِ العهدِ حرمةٌ *** ولا لأخيه طلحةَ فيه من يدِ

أتاكم سليلُ المصطفى ووصيُّه *** وأنتم بحمدِ اللهِ عارضة الندي

فمن قانم یرجی بخيل إلى الوغی *** وضم العوالي والصفيح المهنَّدِ

يسودُ من أدناه غير مدافعٍ *** وان كان مانقضیه غير مسوَّدِ

فإن يكُ مانهوى فذاك نريدهُ *** وان نخطُ مانهوی فغيرتعمُّدِ

ص: 109


1- الأمالي، الشيخ الطوسي: 719
2- الجمل، الشيخ المفيد: 133، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 17 / 24، الأربعين في حبِّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، علي أبو معاش: 4 / 207 - 208، وقد ذكر من هذه الأبيات بيتين الحاج حسين الشاكري في كتابه علي في الكتاب والسنة والأدب: 4 / 26. وقد ذكر هذ القصيدة الشيخ الطوسي في الأمالي ونسبها للنجاشي: 719 - 720

ثمَّ يخرج أهالي الكوفة ملبيين دعوة إمامهم فيلحقوا به، وعندها يتكامل جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فينطلق بمن معه لدخول البصرة، وكان قیس بن سعد أحد قادة الألوية، وقد قيل في وصف موكبه عندما دخل البصرة «مرَّ بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء، متنکِّب قوساً متقلد سیفاً، تخطُّ رجلاه في الأرض في ألف من النَّاس الغالبُ على تيجانهم الصفرة والبياض معه راية صفراء، قلت: من هذا؟ قيل: هذا قیس بن سعد ابن عُبَادة في عدَّة من الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان»(1)، وبذلك تتابع أحداث معركة الجمل، وينتصر فيها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمَّ ينطلق بعد ذلك إلى الكوفة ويتَّخذ منها مركزاً للخلافة، ومنطلقاً لتحرير الشام.

ثانياً: في حكومة مصر

تولى إدارة مصر قیس بن سعد بن عبادة بتنصيب من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما ولَّاه الإدارة قال له: «سِرْ إِلَى مِصْرَ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا وَاخْرُجْ إِلَى رَحْلِكَ وَاجْمَعْ إِلَيْكَ ثِقَاتِكَ وَمَنْ أَحْبَبْتَ أَنْ یَصْحَبَكَ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَمَعَكَ جُنْدٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْعَبُ لِعَدُوِّكَ وَأَعَزُّ لِوَلِيِّكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى الْمُحْسِنِ، وَاشْتَدَّ عَلَى الْمُرِيبِ، وَارْفُقْ بِالْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّ الرِّفْقَ یُمْنٌ»(2).

ص: 110


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر: 2 / 360
2- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 547 - 548، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 5 / 97، الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ابن خلدون: 2 / 223، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: 1 / 285

فقال قيس بن سعد: (أَمَّا قَوْلُكَ: اخْرُجْ إِلَيْهَا بِجُنْدٍ، فَوَ الله لَئِنْ لَمْ أَدْخُلْهَا إِلَّا بِجُنْدٍ آتِیهَا بِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا، فَأَنَا أَدَعُ ذَلِكَ الْجُنْدَ لَكَ، فَإِنْ کُنْتَ احْتَجْتَ إِلَيْهِمْ كَانُوا مِنْكَ قَرِيبًا، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَبْعَثَهُمْ إِلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِكَ کَانُوا عُدَّةً)(1).

ثمَّ أخذ قیس بن سعد كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وتوجَّه إلى مصر في سبعة من أصحابه، فدخلها مستهلّ شهر ربيع الأوَّل سنة سبع وثلاثين للهجرة(2)، وأوَّل ما دخلها صعد على المنبر، وأمر بكتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقُرِئ على أهل مصر، ونصُّه:

«بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الله عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، سلام عليكم فاني أحمد الله كَثِيرًا الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله بِحُسْنِ صَنِيعِهِ وَتَقْدِیرِهِ وَتَدْبِیرِهِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ دِينًا لِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ وَخَصَّ بِهِ مَنِ انْتَخَبَ مِنْ خَلْقِهِ، فَكَانَ مِمَّا أَكْرَمَ الله بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَخَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ یُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْفَرَائِضَ وَالسَّنَةَ، لِكَيْمَا يَهْتَدُوا، وجمعهم لكيما يَتَفَرَّقُوا، وَزَکَّاهُمْ لِكَيْ يَتَطَهَّرُوا، وَوَفَّقَهُمْ لِكَيْلَا يَجُورُوا. فَلَمَّا قَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قَبَضَهُ الله إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ الله وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ وَرَحْمَتُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَخْلَفُوا بَعْدَهُ أَمِيرَيْنِ صَالِحَيْنِ، عَمِلَا بِالْكِتَابِ، وَأَحْسَنَا السِّيرَةَ وَلَمْ يَعْدُوَا السنة ثم توفاهما الله فَرَحِمَهُمَا الله، ثُمَّ وَلَّی بَعْدَهُمَا وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثًا، فَوَجَدَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ مَقَالًا فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا عَلَيْهِ فَغَیَّرُوا، ثُمَّ جَاءُونِي فَبَايَعُونِي فَأَسْتَهْدِي اللهَّ بِهُدَاهُ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى التَّقْوَى، أَلَا وَإِنَّ لَكُمْ

ص: 111


1- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 548، الكامل في التاريخ: 2 / 123، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 191
2- الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 191

عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِكِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولُ الله، وَالْقِيَامَ عَلَيْکُمْ بِحَقِّهِ وَالنُّصْحَ لَكُمْ بِالْغَيْبِ وَاللهَّ الْمُسْتَعَانُ وَحَسْبُنَا اللهَّ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ قَیْسَ بْنَ سَعْدٍ بْنِ عُبَادَةَ فَوَازِرُوهُ وكَانِفُوهُ وَأَعِینُوهُ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ أَمَرْتُهُ بالإحسان إنِّي مُحْسِنِکُمْ وَالشِّدَّةِ عَلَى مُرِيبِکُمْ وَالرِّفْقِ بِعَوَامِّکُمْ وَخَوَاصِّکُمْ، وَهُوَ مِمَّنْ أَرْضَی هَدْيَهُ وَأَرْجُو صَلَاحَهُ وَنَصِیحَتَهُ أَسْأَلُ اللهَّ لَنَا وَلَکُمْ عَمَلَا زَاکِیًا وَثَوَابًا جَزِیلًا وَرَحْمَةً وَاسِعَةً وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وبرکاته»(1).

بعدها قام قيس فقال: (الْحَمْدُ لله الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ وَأَمَاتَ الْبَاطِلَ وَكَبَتَ الظَّالِمينَ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَا خَيْرَ مَنْ نَعْلَمُ بَعْدَ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله وسلم) فقُومُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَبَايِعُوهُ عَلَى كِتَابِ الله وَسَنَةِ رَسُولِهِ، فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَعْمَلُ لَكُمْ بِذَلِكَ فَلَا بَيْعَةَ لَنَا عَلَيْكُمْ)(2).

وبعد هذه الخطبة قام النَّاس وبايعوا، واستقامت مصر كلَّها لقیس بن سعد سوى قرية يُقال لها (خَرْبتا)، لأنَّ أهلها كان هواهم لعثمان بن عفان فأعظموا قتله، وخرج منهم مسلمة بن مخلد وأظهر الطلب بدم عثمان، فأرسل إليه قیس بن سعد وقال له: (وَيْحَكَ أَعَلَيَّ تَثِبُ! فَوَالله مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مُلْكَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ وَأَنِّي قَتَلْتُكَ)(3).

ص: 112


1- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 548 - 549، البداية والنهاية: 7 / 250 - 251
2- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 548 - 549، الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: 2 / 123، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: 1 / 285
3- جمل من أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البَلاَذُري: 2 / 390، تاریخ الرسل والملوك: 4 / 550، الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192

فبعث إليه مسلمة: (إِنِّي کَافٌّ عَنْكَ مَا دُمْتَ أَنْتَ وَالِيَ مِصْرَ)(1).

فأرسل إليه وإلى أهل (خَرْبتا): (إِنِّي لَا أُكْرِهُکُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَإِنِّي کَافٌّ عَنْکُمْ، فَهَادَنَهُمْ وَجَبَی الْخَرَاجَ لَيْسَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ..)(2).

وكان قیس بن سعد يبتغي تهدئة الوضع وبثَّ حالة الاستقرار في البلاد، ولم يشأ الدُّخول في معركة منذ أوَّل دخوله لمصر، ولذلك أعطى الأمان لأهل (خَرْبتا)، وهكذا استقامت مصر لقیس بن سعد بفضل سياسته وحنكته وتدبيره، (فَکَانَ أَثْقَلَ خَلْقِ الله عَلَى مُعَاوِيَةَ لِقُرْبِهِ مِنَ الشَّامِ، وَمَخَافَةَ أَنْ يُقْبِلَ عَلِيٌّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَيْسٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ، فَيَقَعُ بَيْنَهُمَا مُعَاوِيَةُ)(3)، فحاول أن يستميل قیس بن سعد إلى صفِّه، فكتب إليه: (سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ نَقَمْتُمْ عَلَى عُثْمَانَ ضَرْبَةً بِسَوْطٍ أَوْ شَتِيمَةَ رَجُلٍ أَوْ تَسْيِيرُ آخَرَ وَاسْتِعْمَالَ فَتًی، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ دَمَهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَقَدْ رَکِبْتُمْ عَظَیِمًا، وَجِئْتُمْ أَمْرًا إِدًّا، فَتُبْ إِلَى الله يَا قَيْسُ، فَإِنَّكَ مِنَ الْمُجْلِبِينِ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَمَّا صَاحِبُكَ فَإِنَّا اسْتَيْقَنَّا أَنَّهُ الَّذِي أَغْرَى بِهِ النَّاسُ وَحَمَلَهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَإِنَّهُ لَمْ یَسْلَمْ مِنْ دَمِهِ عُظْمَ قَوْمِكَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ يَا قَيْسُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُطَالِبُ بِدَمِ عُثْمَانَ فَافْعَلْ، وَتَابِعْنَا عَلَى أَمْرِنَا، وَلَكَ سُلْطَانُ الْعِرَاقَيْنِ إِذَا ظَهَرْتُ مَا بَقِيتُ، وَلِمَنْ أَحْبَبْتَ مِنْ أَهْلِكَ سُلْطَانُ الْحِجَازِ مَا دَامَ لِي سُلْطَانٌ، وَسَلْنِي مَا شِئْتَ، فَإِنِّي أُعْطِيكَ وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِرَأْيِكَ فِيمَا كتبت بِهِ إليك والسلام)(4).

ص: 113


1- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 550، الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192
2- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 550، الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: 2 / 923
3- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 550، الكامل في التاريخ: 2 / 624، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192
4- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 550 - 551، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 5 / 98، الكامل في التاريخ: 2 / 623، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 193، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 99

ومعاوية في رسالته هذه یرکِّز على أمرين: الأوَّل يدعوه فيه إلى الطلب بدم عثمان، ويحاول أن يُثبت أنَّ الإمام علي (عليه السلام) أحد المشاركين في قتله ويجعل هذا الأمر من اليقين، وبذلك يبرر لقیس بن سعد میلانه إليه، ويعطيه الحُجَّة في انحيازه عن الإمام علي (عليه السلام) إليه.

والآخر: يرغِّب فيه قیس بن سعد، ويبذل له مغريات لا حدَّ لها، فقد أعطاه سلطان العراقين (الكوفة البصرة)، وسلطان الحجاز، ما دام معاوية عنده سلطان، ثمَّ فتح له قائمة المغريات بلا نهاية بقوله (وَسَلْنِي مَا شِئْتَ، فَإِنِّي أُعْطِيكَ).

ولكنَّ قیس بن سعد يستمرُّ بسياسته الهادفة إلى الاستقرار، ولم يتعجَّل الحرب، ولذلك رأى أن يدافعه ولا يبدي له أمره، فكتب إليه: (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَهِمْتُ مَا ذَکَرْتَهُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ أُقَارِبْهُ، وَذَكَرْتَ أَنَّ صَاحِبِي هُوَ الَّذِي أَغْرَى بِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرْتَ أَنَّ عُظْمَ عَشِيرَتِي لَمْ تَسْلَمْ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، فَأَوَّلُ النَّاسِ كَانَ فِيهِ قِيَامًا عَشِيرَتِي، وَأَمَّا مَا عَرَضْتَهُ مِنْ مُتَابَعَتِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لِي فِيهِ نَظَرٌ وَفِكْرَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْرَعُ إِلَيْهِ، وَأَنَا کَافٌّ عَنْكَ، وَلَيْسَ يَأْتِيكَ مِنْ قِبَلِي شَيْءُ تَكْرَهُهُ، حَتَّی تَرَی وَنَرَى إِنْ شَاءَ اللهَّ والمستجار اللهَّ (عَزَّ وَجَلَّ)، والسلام عَلَيْك ورحمة اللهَّ وبركاته)(1).

فلمَّا وصل الكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان راه مُقارباً مباعداً، ولم يحصل منه على شيء، ورأى أنَّ الترغيب قد فشل، فلجأ إلى الترهيب، وكتب إليه: (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ کِتَابَكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَدْنُو فَأَعُدَّكَ سِلْمًا، وَلَا مُتَبَاعِدًا فَأَعُدَّكَ حَرْبًا، وَلَيْسَ مِثْلِي یُصَانِعُ الْمُخَادِعَ وَيَنْخَدِعُ لِلْمَكَايِدِ، وَمَعَهُ عَدَهُ الرِّجَالِ وَبِيَدِهِ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ، وَالسَّلَامُ)(2).

ص: 114


1- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 551، الكامل في التاريخ: 2 / 624، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 193
2- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 551، الكامل في التاريخ: 2 / 624، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 193، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: 2 / 624

فلمَّا وصل الكتاب إلى قیس بن سعد، وكان مضمون الكتاب يجعل قيس بين خيارين لا ثالث لهما إمَّا مع معاوية وإما مع علي (عليه السلام)، ولذلك لا تفيد معه المماطلة والمدافعة فأظهر له ما في نفسه، فكتب إليه: (أَمَّا بَعْدُ فَالْعَجَبُ مِنَ اغْتِرَارِكَ بِي، وَطَمَعِكَ فِيَّ، وَاسْتِقَاطِكَ إِیَّايَ، أَتَسُومُنِي الْخُرُوجَ عَنْ طَاعَةِ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَارَةِ، وَأَقُوَلِهمُ بِالْحَقِّ، وَأَهْدَاهُمْ سَبِيلًا، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَسِيلَةً، وَتَأْمُرُنِي بِالدُّخُولِ فِي طَاعَتِكَ، طَاعَةَ أَبْعَدِ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَقُوَلهِمْ بِالزُّورِ، وَأَضَلِّهِمْ سَبِيلًا، وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ رَسُولِ الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - وَسِيلَةً، وَلَدِ ضَالِّينَ مُضِلِّینَ، طَاغُوتٍ مِنْ طَوَاغِيتِ إِبْلِيسَ! وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي مَالِئٌ عَلَيْكَ مِصْرَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَوَالله إِنْ لَمْ أَشْغَلْكَ بِنَفْسِكَ حَتَّى تَكُونَ أَهَمَّ إِلَيْكَ إِنَّكَ لَذُو جَدٍّ، وَالسَّلَامُ)(1).

فلم يقدر معاوية بن أبي سفيان ولا صاحبه عمرو بن العاص على أن يخرجا قيس من مصر أو يغلباه، إذ كان يمتنع عنها بالدهاء والمكايدة، فكان أثقل خلق الله عليهما، وكانا يخافان أن يقبل عليهما الإمام علي (عليه السلام) في أهل العراق، وقيس في أهل مصر فيكونا بينهما(2).

فلجأ معاوية إلى الكذب والخداع بعد أن عجزت به كل السُّبل في التخلُّص من قیس بن سعد، وقد اعتمد في خطوته هذه على جهل الناس وقلِّة معرفتهم بحقوق الإمامة، وكيفية الاتباع للمعصوم والتسليم التَّام لقراراته دون اعتراض أو تعقیب، فعمل معاوية على الإفادة من هذه الثغرة الموجودة في أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فكان يبثُّ سمومه من خلالهم، وما قضية التحكيم وانشقاق الخوارج من جيش الإمام علي (عليه السلام) إلّا أمثلة حيَّة لذلك.

ص: 115


1- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 552، الكامل في التاريخ: 2 / 624 - 625، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 194، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 100
2- ينظر: تاريخ الرسل والملوك: 4 / 552، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 509، الكامل في التاريخ: 2 / 265

فعوَّل معاوية على هذه السلبية واستثمرها في التخلُّص من قیس بن سعد، فألَّف کلاماً على لسانه بالزور والبهتان قال فيه: (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، للأمير مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ من قيس بن سَعْدٍ، سلام عَلَيْك، فَإِنِّى أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَّ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو، أما بعد، فإني لما نظرت رأيت أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً محرماً براً تقياً، فنستغفر اللهَّ عَزَّ وَجَلَّ لذنوبنا، ونسأله العصمة لدينا أَلا وإنِّي قَدْ ألقيت إليكم بالسلم، وإني أجبتك إِلَى قتال قتله عثمان، إمام الهدى المظلوم، فعول علي فِيمَا أحببت من الأموال والرجال أعجل عَلَيْك، والسلام»(1)، وكان يجمع أهل الشام فيقرأ عليهم الكتاب ثمَّ يقول لهم: «لَا تَسُبُّوا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَلَا تَدْعُوا إِلَى غَزْوِهِ، فَإِنَّهُ لَنَا شِيعَةٌ، يَأتِينَا کِيْسُ نَصِيحَتِهِ سِرًّا، أَلَا تَرَوْنَ مَا يَفعَلُ بِإِخْوَانِکُمُ الَّذِينَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ خَرْبَتَا، يُجْرِي عَلَيْهِمْ أُعْطِيَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ»(2).

وبدأ معاوية يبثُّ هذا الخبر في الشام ويطلب منهم عدم اشاعة الخبر، معللاً ذلك بخوفه من أن يُعزل قيس ويُستبدل بغيره فيكون وبالاً على شيعة عثان في مصر، وهو يبتغي العكس فهو يطلب الكتان ليجعل خبره مقبولاً بين الناس، ثمَّ وجَّه جواسيسه في العراق أن أشيعوا خبر انضمام قيس إليه، وكتب إِلَى بعض بني أمية في المدينة: (أَنْ جَزَى الله قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ خَيْرًا، فَإِنَّهُ قَدْ كَفَّ عَنْ إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي دَمِ عُثْمَانَ وَاكْتُمُوا ذَلِكَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَلِيٌّ إِنْ بَلَغَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شِيعَتِنَا).

ص: 116


1- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 553
2- تاریخ الرسل والملوك: 4 / 552، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 509، الكامل في التاريخ: 2 / 625، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 194 (3) کتاب الولاة وكتاب القضاة، محمد بن يوسف المصري: 1 / 20

حتَّى إذا انتشر الخبر بين الناس، اجتمع أصحاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إليه، وبدأوا يناقشونه في أمره، وقد انطلت عليهم خدعة معاوية، فراحوا يُشكِّکون في ولاء قیس بن سعد ويطلبون من الإمام علي (عليه السلام) أن يعزله، وبدأوا يلحون في ذلك حتَّى وصلوا إلى حدِّ إرغامه (عليه السلام) على تولية شخص آخر الإدارة مصر يخلف قیس بن سعد.

وقد قال لهم الإمام علي (عليه السلام) - وهو العارف بأساليب معاوية وأصالة ونقاء قیس بن سعد -: «وَیْحَكُمْ أَنَا أَعْلَمُ بقیس؛ إنَّه والله مَا غَدَرَ، وَلَکِنَّهَها إِحْدَى فِعْلاتِهِ»(1)، «وَیَحْكُمْ إِنَّهُ يَفْعَلْ فَدَعُونيِ»(2)، وقال بعد أن رفض مقولتهم: «إن قیساً في سرٍّ وشرف(3) في جاهلية وإسلام، وقيس رجل العرب»(4)، وقال: «إنِّي والله ما أصدَّق هذا على قیس»(5).

فأصرَّ على الإمام علي (عليه السلام) من كان معه من رؤساء العراق، وأهل المدينة وعزموا عليه بأن يعزل قیس بن سعد، وزعموا له أنَّه تغيَّر وتبدَّل حتَّى اضطروه إلى ذلك(6)، وهو ممَّا غُلِب عليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يكن رأيه كالتحكيم(7).

ص: 117


1- جمل من أنساب الأشراف: 2 / 405
2- کتاب الولاة وكتاب القضاة: 1 / 20
3- في سِرٍّ وشرف: أي في سِرٍّ قومه، وتعني في أفضلهم . ينظر: معجم ديوان الأدب، اسحاق الفارابي: 3 / 30 (مادة: السر)، تهذيب اللغة، الأزهري: 12 / 200، لسان العرب، ابن منظور الأفريقي: 4 / 359
4- تاریخ دمشق: 49 / 426
5- تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 510، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 101
6- ينظر: كتاب الولاة وكتاب القضاة: 1 / 20، الاستیعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1292، الوافي بالوفيات: 24 / 212 . (7) ينظر: بحار الأنوار: 33 / 540
7- ينظر: بحار الأنوار: 33 / 540

وعند ذلك بعث أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى قيس: «إِنِّي قَدِ احْتَجْتُ إِلَى قُرْبِكَ، فَاسْتَخْلِفْ عَلَى عَمَلِكَ وَاقْدم»(1).

ولمَّا وصل الكتاب إلى قیس بن سعد عرف بحاسَّته السياسية وحنكته التدبيرية أنَّ هذا الأمر قد دُبِّر له، وفيه مكيدة فقال: (هَذَا مِنْ مَکْرِ مُعَاوِيَةَ، وَلَوْلا الْكَذِبُ لَكدتُّ بمُعَاوِيَةَ مَکْرًا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ)(2).

وعندما حصل معاوية على ما يريد، ونفَّذ مبتغاه بدفع خطر قيس عنه صار يفتخر بمکیدته هذه، ويتبجَّح بها متباهياً أمام ذوي الرأي من قريش ويقول: (مَا ابتدعت مكايدة قطّ كَانَتْ أعجب عندي من مكايدة كدتُّ بِهَا قيساً من قبل علي، وَهُوَ بِالْعَرَاقِ حين امتنع منِّي قيس)(3). ومدة ولاية قيس بن سعد لمصر بلغت أربعة أشهر وخمسة أيام(4).

بعده يتولَّى إدارة مصر محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) حتَّى سنة ثمان وثلاثين، وفي هذه السَّنة تقوي شوكة معاوية بن أبي سفيان بعد قضية التحكيم وانشقاق جیش أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وفي هذه الأثناء يطمع معاوية بحكم مصر لما لها من واردات مالية كثيرة، فيعمل على تأليب الأوضاع على محمد بن أبي بكر، وعندها تتدهور الأمور فتفسد مصر على محمد بن أبي بكر، ولمَّا وصلت الأخبار إلى الإمام علي (عليه السلام) قال: «مَا لِمصْرَ إِلَّا أَحَدُ الرَّجُلَیْنِ، صَاحِبُنَا الَّذِي عَزَلْنَا يَعنِي

ص: 118


1- كتاب الولاة وكتاب القضاة: 1 / 20
2- المصدر نفسه
3- ينظر: تاريخ الرسل والملوك: 4 / 550، جمل من أنساب الأشراف: 2 / 390، کتاب الولاة وكتاب القضاة محمد بن يوسف الكندي: 1 / 19، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 508، الكامل في التاريخ: 2 / 624، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 192، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 98
4- ينظر: کتاب الولاة وكتاب القضاة: 1 / 20، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأثار: أحمد بن على المقریزی: 4 / 155

قَيْسًا -، أَوِ الْأَشْتَرُ»(1)، فأرسل إليها مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، وقال لقيس بن سعد: «أَقِمْ عِنْدِي عَلَى شُرْطَتِي حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحُكُومَةُ، ثُمَّ تَسِيرَ إِلَى أَذْرَبَيْجَانَ»(2).

ثالثاً: في قيادة شرطة الخميس.

لم يعزل الإمام علي (عليه السلام) قيس من مصر بصورة مباشرة، لأنَّه كان يعلم جیداً مدى وفائه وصلابة عقيدته، ولذلك قال له فيما عرضناه سابقاً: «إِنِّي قَدِ احْتَجْتُ إِلَى قُرْبِكَ، فَاسْتَخْلِفْ عَلَى عَمَلِكَ وَاقْدم»، وهذا الكلام من أمير المؤمنين (عليه السلام) بحدِّ ذاته يُعدُّ مکرمة عظيمة لقيس بن سعد، فهو لم يقل له أنَّي عزلتك وإنَّما قال له احتجت إلى قربك، وفي ذلك منصب لا يعادله إمارة الدنيا بأكملها فضلاً عن مصر.

وعندما عاد قیس بن سعد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) جعله على شرطة الخميس(3)، وصار يُعرف بصاحب شرطة الخميس بنصِّ رواية الإمام الصادق (عليه السلام)(4).

وشرطة الخميس مصطلح مكوَّن من مفردتين:

شرطة: من الشَّرْطُ: وهو «إلزام الشيءِ والتزامهُ في البيع ونحوه والجمعُ شُرُوط وقد شَرَطَ له یَشْرِطُ ويَشْرُط شَرْطاً، والشَّرِيطَةُ كالشَّرْطِ وقد شارَطَهُ وشَرَطَ له في ضيعتِه يَشْرِطُ، وشَرَطَ للأَجير یَشْرُط شَرْطاً والشَّرْطُ العلامة»(5)، وشرطة كلِّ

ص: 119


1- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 95، الكامل في التاريخ: 2 / 704، کنز الدرر وجامع الغرر، أبو بكر بن أيبك الدوادار: 3 / 390، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 103
2- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 95، الكامل في التاريخ: 2 / 704، كنز الدرر وجامع الغرر، أبو بكر بن أيبك الدوادار: 3 / 390، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 1 / 103
3- الطبقات الکبری: 6 / 122، تاریخ دمشق: 49 / 428، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 6 / 244
4- بحار الانوار: 444 / 62، معجم رجال الحدیث: 15 / 97
5- المحكم والمحيط الأعظم: 8 / 13 (مادة: شرط)

شيء خياره، ومن ذلك سُمِّيت الشرطة؛ لأنَّهم نخبة السُّلطان من جنده(1)، وهم أوَّل الجيش ممَّن يتقدَّم لتنفيذ الأوامر، وأول من يشهد الواقعة(2)، وأوَّل من يتهيَّأ للموت، وسُمُّوا شرطة لأنَّهم أعلموا أنفسهم بعلاماتٍ(3).

أمَّا الخميس: فهو الجيش، وسُمِّي كذلك لأنَّه يُقسَّم على خمسِ فرق: المقدّمة والقلب، والميمنة، والميسرة، والساق(4).

وقد ظهر هذا المصطلح في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عندما قال لأصحابه: «تَشرَّطوا فأنا أشارطکم على الجنَّة، ولستُ أشارطكم على ذهب ولا فضَّة»(5)، فانتدب له ستَّة آلاف من أنصاره، قال أبو عبد الله [الصادق] (عليه السلام) قال: «كانوا شرطة الخميس ستَّة آلاف رجل أنصاره»(6)، فاشترط لهم الإمام علي (عليه السلام) الجنَّة وهم اشترطوا له القتل دونه.

سأل رجل الأصبغ بن نباته (رضوان الله عليه) (كيف سُمِّيتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ قال: إنَّا ضمنا له الذبح، وضمن لنا الفتح، یعني أمير المؤمنين صلوات الله علیه)»(7).

ص: 120


1- ينظر: العين: 6 / 235 (مادة: شرط)، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير: 2 / 460، لسان العرب: 7 / 33
2- ينظر: مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار: 3 / 201، مشارق الأنوار على صحاح الآثار، عیاض بن موسى اليحصبي السبتي: 2 / 247، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير: 2 / 460
3- ينظر: المخصص، ابن سيدة: 1 / 322، لسان العرب: 7 / 330(مادة: شرط)
4- ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: 3 / 924 (مادة: خمس)، لسان العرب: 6 / 70
5- الاختصاص، الشيخ المفيد: 2
6- الاختصاص: 2
7- الاختصاص: 65، اختیار معرفة الرجال: 1 / 321

- منزلة شرطة الخميس.

لم يكن هذا المصطلح ولید صدفة، وإنَّما جاءت هذه التسمية من الله تعالى، وقد أخبر به النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصيَّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ليس بالمصطلح فحسب وإنَّما به وبأسماء من ينضوي تحت لوائه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعبد الله بن يحيى الحضرمي في يوم الجمل: «أبشر يا بن يحيى فإنَّك وأباك من شرطة الخميس حقَّاً، لقد أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس، والله سمَّاكم في السماء شرطة الخميس على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)(1). وعن أبي الجارود، قال: قلت للأصبغ بن نباتة: (ما كان منزلة هذا الرجل فيكم؟ قال: ما أدري ما تقول؟ إلَّا أن سيوفنا كانت على عواتقنا، فمن أومى إلينا ضربناه بها، وكان يقول لنا: «تشترَّطوا تشرَّطوا، فوالله ما اشتراطكم لذهب ولا فضة، وما اشتراطكم إلَّا للموت، إنَّ قوماً من قبلكم من بني إسرائيل تشارطوا بينهم فما مات أحد منهم إلَّا كان نبيَّ قومه، أو نبيَّ قريته، أو نبيَّ نفسه، وإنَّكم بمنزلتهم غير أنَّكم لستم بأنبياء»)(2).

فهذه الكوكبة من المؤمنين قد اختارهم الله تعالى ليكونوا أنصاراً لولیِّه الإمام علي (عليه السلام)، وهم الصفوة الذين كان يصول بهم الإمام علي (عليه السلام) ضد الباطل وأنصاره، وكيف لا يكونوا كذلك ومنهم سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وأبو سنان وأبو عمرة وجابر بن عبد الله وسهل وعثمان ابنا حنيف الأنصاريان(3).

ص: 121


1- الرجال، البرقي: 3 - 4، خلاصة الأقوال: 192، نقد الرجال: 3 / 152، خاتمة المستدرك: 7 / 306
2- اختیار معرفة الرجال: 1 / 19 - 20، جامع الرواة، محمد علي الأردبيلي: 2 / 545، خاتمة المستدرك، الميرزا حسين النوري الطبرسي: 3 / 296، طرائف المقال، السيد علي البروجردي: 2 / 342
3- الرجال، البرقي: 3 - 4

وكانت هذه الثلة المؤمنة سيوفها على عواتقها وهم رهن إشارة الإمام علي (عليه السلام)، مسلِّمين له زمام أمورهم، بدليل قول الأصبغ بن نباته (رضوان الله عليه) عندما قال: (إلا أن سيوفنا كانت على عواتقنا، فمن أومى إلينا ضربناه بها)، وهذا التسليم أوصلهم إلى أن يكونوا بمنزلة الأنبياء.

وكانوا فرساناً شجعاناً يُلبُّون أمر إمامهم إذا ما دعاهم للحرب والنِّزال، وفي ذات مرَّة أغار جیش معاوية على أطراف العراق، فانتدب الإمام علي (عليه السلام) أصحابه فأجابه شرطة الخميس، فأرسلهم بعد أن جعل عليهم قیس بن سعد بن عبادة، فساروا إلى جيش معاوية حتَّى وصلوا إلى تخوم الشام(1)، ولم يرجع قیس بن سعد إلَّا بعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام)(2).

هكذا كانت شرطة الخميس ثُلَّة مؤمنة صابرة ومثابرة، وكان زعيمهم قیس بن سعد بن عبادة، ولم تنتهِ زعامته لهم باستشهاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، بل أجمعوا على تأميره عليهم، فبايعوه على قتال معاوية بن أبي سفيان وتعاهدوا على ذلك، وقد راسل معاوية قيساً يطلب منه الكفَّ عن الحرب والدخول في طاعته، إلَّا أنَّ قيساً كان يرفض ذلك إلى أن أرسل إليه سجلاً مفتوحاً وختم عليه بأسفله وكتب له فيه: (اكْتُبْ فِي هَذَا السِّجِلِ مَا شِئْتَ، فَهُوَ لَكَ)، فاشترط له ولشيعة علي (عليه السلام) الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يشترط لنفسه شيئاً خاصة، ولم يسأل معاوية في ذلك السجل مالاً(3)، ولم يهادن معاوية إلاَّ بعد أن رجع للإمام الحسن (عليه السلام) وهو من طلب منه ذلك، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «دخل قیس بن سعد بن

ص: 122


1- الغارات: 2 / 189- 191، بحار الأنوار: 34 / 58، مستدرك سفينة البحار: 9 / 44
2- الأعلام من الصحابة والتابعين، الحاج حسين الشاكري: 5 / 38
3- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 164، تجارب الأمم وعاقب الهمم: 1 / 574، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 186

عبادة الأنصاري صاحب شرطة الخميس على معاوية، فقال له معاوية بايع، فنظر قیس إلى الحسن (عليه السلام)، فقال: أبا محمد بایعت؟ فقال له معاوية: أما تنتهي أما والله أنِّي(1)، فقال له قيس: ما شئت، أما والله لأن شئت لتناقصن، فقال، وكان مثل البعير جسيماً، وكان خفيف اللحية، قال: فقام إليه الحسن فقال له: بایع یا قیس فبايع»(2).

وهكذا كان قیس مخلصاً تقياً براً وفياً لعقيدته ودينه، لم يؤثر نفسه على معتقده رغم كلِّ الإغراءات التي قُدِّمت إليه، أصرَّ على أن يكون رقماً صعباً عتیَّاً، وجبلاً صلداً أمام سياسة معاوية وأتباعه، إذ لم تزده المناصب إلَّا حبَّاً بمنهج الحقِّ وطريق الرشاد، وإصراراً في رفض سياسية الباطل.

رابعاً: في حكومة أذربيجان

جعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قیس بن سعد عندما رجع من مصر (على مقدِّمته من أهل العراق إلى قبل أَذْرَبِيجان، وعلى أرضها وشرطة الخميس)(3)، وعندما أرسله إلى أَذْرَبِيجان والياً عليها حصلت - کما يبدو - مشادَّة بين قیس بن سعد وبين عبد الله بن شبيل الأحمسي، فيسأل الأخير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أن يوصي قیساً به خيراً، فيكتب أمير المؤمنين (صلوات الله علیه) کتاباً لقيس قال فيه:

«أمّا بعد، فأقبل على خراجك بالحقِّ، وأحسن إلى جندك بالإنصاف، وعلِّم من قبلك ممَّا علَّمك الله، ثمَّ إنَّ عبد الله بن شبيل الأحمسي سألني الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيراً، فقد رأيته وادعاً متواضعاً، فألن حجابك وافتح بابك واعمد إلى

ص: 123


1- هنا معاوية أراد أن يُهدد قیس بن سعد إلاّ أنَّ قيساً لم يأبه به فقاطعه قبل ان يُتمَّ كلامه وقال له ما معناه: افعل ما تشاء فأنا لا أخشاك. فقيس هنا قاطع معاوية واسكته فلم يتم كلامه وبادره بالكلام غير آبهٍ لتهدیده
2- اختیار معرفة الرجال: 1 / 326، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 349، معجم رجال الحديث: 15 / 97
3- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 158

الحقِّ فإن وافق الحقُّ ما يحبو أسرّه «وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(1)»(2).

وعندما اجتمعت كلمة المسلمين على قتال معاوية بن أبي سفيان، بعث الإمام علي (عليه السلام) إلى قیس بن سعد - وهو على أَذْرَبِيجان - قائلاً:

«أمّا بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي خليفة لك، وأقبل إليَّ، فإنَّ المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجِّل الإقبال، فأنا سأحضرنَّ إلى المحلِّين عند غرَّة الهلال، إن شاء الله، وما تأخُّري إلَّا لك، قضى الله لنا ولك بالإحسان في أمرنا كلِّه»(3).

وفي هذا النص بيان جليٌّ لمنزلة قيس بن سعد عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو سيّد الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلاً عن عصمته يقول لقیس بن سعد (وما تأخّري إلَّا لك)، فهو ينتظر قدوم قیس بن سعد، بل يتأخَّر لأجله ولا ينطلق إلى حرب الباغي معاوية وأنصاره إلَّا بعد قدوم قیس بن سعد، وفي ذلك المنزلة عظيمة لقيس ما بعدها من منزلة، وكذلك بيان المنزلة قيس العسكرية وقيمته القتالية.

خامساً: معركة صفين

بعد أن ألقى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كلَّ الحجج والبراهين على معاوية وأتباعه، وأوضح لهم طريق الصواب وجادة الحق، ولكنَّهم أبوا إلَّا

ص: 124


1- سورة ص: 26
2- تاريخ اليعقوبي: 2 / 202، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 5 / 146، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: 12 / 265
3- تاريخ اليعقوبي: 2 / 203، مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة): 4 / 156، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 5 / 148، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: 12 / 188

طغياناً وبغياً وأصرُّوا على باطلهم وغيِّهم، وقد أرسل لهم رسلاً ورسائل متعددة، ومن تلك الرسل جرير بن عبد الله البجلي، إذ بعثه أمير المؤمنين (عليه السلام) رسولاً إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره بالبيعة، ولمَّا وصل إليه الرسول أقعده معاوية عنده برهةً من الزمن، ثمَّ كتب إليه كتاباً وأرسله معه إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وأرسل معه أيضاً رجلاً من بني عبس لا يعرف جریر بن عبد الله عنه شيئاً، ثمَّ قَالَ جرير (رسول أمير المؤمنين): (خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْكُوفَةَ، فَاجْتَمَعَ الناسُ إِلَى عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ وَلا يَشُكُّونَ أَنَا بيعةُ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا فُتِحَ الْكِتَابُ لَمْ يُوجد فِيهِ بِشَيْء، وَقَامَ الْعَبْسِي فَقَالَ: من هَاهُنَا مِنْ أَفْنَاءِ قَيْسٍ، إِنِّي أَخُصُّ مِنْ قيسٍ غَطَفَانَ وَأَخُصُّ مِنْ غَطَفَانَ عَبْسًا، وَإِنِّي أحلفُ بِالله لَقَدْ تركتُ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ.. أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ شَيْخٍ خَاضِبِينَ لِحَاهُمْ بِدُمُوعِ أَعْيُنِهِمْ، مُتَعَاقِدِينَ مُتَحَالِفِينَ لَيَقْتُلُنَّ قَتَلَتَهُ، وَإِنِّي أَحْلِفُ بِالله لَيَقْتَحِمَنَّهَا عَلَيْكُمْ ابنُ أَبِي سُفْیَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلافٍ مِنْ خِصْيَانِ الْخَيْلِ فَمَا ظَنُّكُمْ بَعْدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفُحُولِ؟ فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سعدٍ: يَا أَخَا عبسٍ لَا نُبَالِي بِخِصْيَانِ خَيْلِكَ وَلا بِبُکَاءِ کُهُولِكَ، وَلا يَكُونُ بُکَاؤُهُمْ بُکَاءَ يَعْقُوبَ عَلَى یُوسُفَ. ثُمَّ دَفَعَ الْعَبْسِيُّ كِتَابًا مِنْ مُعَاوِيَةَ فِيهِ:

أَتَانِي أَمْرٌ فِيهِ للنَّاس غمَّة *** وفيه اجْتِدَاعٌ للأنوفِ أَصِيلُ

مُصَابُ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَهذِهِ *** تكادُ لَهَا صمُّ الجبال تزولُ

فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مثلَ هالكٍ *** أُصيبَ بِلا ذحلٍ وَذَاكَ جليلُ

دعاهم فَصَمُّوا عَنْهُ عِنْدَ دُعَائِهِ *** وَذَاكَ عَلَى مَا فِي النفوسِ دَلِیلُ

ندمتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَبَع الْهَوَى *** وحسبيَ مِنْهُ حسرةُ وعويلُ

سأنعَى أَبا عمروٍ بكلِ مهنَّدٍ *** وبيضٍ لَهَا فِي الدَّارعين صليلُ

فأَمَّا الَّتِي فِيهَا المودةُ بَيْنَنَا *** فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حييتُ سبيلُ

سَأُلْقحُها حَرْبًا عَواناً مُلِحَّةً *** وَإِنِّي بِهَا مِنْ عَامِهَا لكفيلُ

ص: 125

قَالَ: فَأَمَرَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلامُ) قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ يُجِيبَهُ عَنْ كِتَابِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ قَيْسٌ:

مُعَاوِيَ لَا تعجلْ عَلَيْنَا مُعَاوِيَا *** فَقَدْ هجتَ بِالرَّأْيِ السفيهِ الأَفَاعِيَا

وحرّكتَ مِنَّا كلَّ شيءٍ كَرِهْتَهُ *** وأبقيتَ حَزَّاتِ النفوسِ كَمَا هِيَا

بعثتَ بِقِرْطَاسَیْنِ صفْرین ضَلَّةَ *** إِلَى خَيْرِ مَنْ يَمْشِي بنعلٍ وَحَافيَا

مَضَى وبَقي بَعْدَ النَّبِيِّ محمدٍ *** عَلَیْهِ سلامُ اللهِ عَوْداً وَبَادِیًا

أَلا لَيْتَ شِعْرِي والأماني ضلَّةٌ *** عَلَى أيِّ مَا تَنْوِي أردتَ الأَمَانِيَا

عَلَى أَنَّ فِينَا لِلْمَوَارِبِ مَطْمَعًا *** وَإِنَّكَ متروكٌ بِشَامِكَ عَاصِیَا

أَبَى اللهُ إِلا أَنَّ ذَا غَیْرُ کَائِنٍ *** فَدَعْ عَنْكَ مَا مَتَّتْك نفسُكَ خَالِيَا

وأكثرْ وأقللُ إِنَّ شامَكَ شحمةٌ *** تَعَجَّلها طاهٍ يبادِرُ شَاوِیَا

مِنَ الْعَامِ أَوْمِنْ قابلٍ كلُ كائنٍ *** قريبٌ، وأبْعد بِالَّذْيِ لَيْسَ جَائِيَا(1) وهذه الحادثة تكشف بدلالة واضحة عن قيمة قيس لدي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد فوَّضه بالردِّ على رسول معاوية دون أن يقيده بشيء، وكذلك يمكن أن نستشعر اعترافاً ضمنياً من لدن الإمام علي (عليه السلام) بشاعرية قيس وفصاحته ومقدرته على الردِّ بصورة تناسب الموقف الذي هو بصدده، كذلك يعد رأيا نقديا في صالح شعر قیس بن سعد من معدن البلاغة وأساسها أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ خوَّله بالإجابة على الشعر المرسل من لدن معاوية، وهذا اقرار منه بموهبة قيس

ص: 126


1- الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي: 1 / 414 - 415، تاریخ دمشق: 72 / 73 - 74، مختصر تاریخ دمشق: 6 / 28 - 30

وسلامته الابداعية وقوته الشعرية، ولمَّا ألقي قيس قصيدته التي ردَّ بها على معاوية أقرَّها أمير المؤمنين (عليه السلام) دون أن يُعلق أو يُضيف عليها شيئاً، وهذا يعني أنَّ قيساً أجاد في رده بحيث أصبح كلامه ردَّاً بالنيابة عن إمام معصوم مفترض الطاعة.

وهذه ليست الحادثة الوحيدة التي ردَّ فيها قيس على رسول معاوية، إذ تذکر بعض المصادر أنَّ أحدهم جاء بكتاب من معاوية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) فسُئِل ما الخبر؟ (فقال: إنَّ في الشام يلعنون قاتلي عثمان ويبكون على قميصه؛ فقال أمير المؤمنين: ما قميص عثمان بقميص يوسف ولا بكاؤهم عليه إلا كبكاء أولاد يعقوب؛ فلمَّا فتح الكتاب وجده بياضاً فحولق(1).

فقال قيس بن سعد:

ولستَ بناجٍ من عليٍّ وصَحبِه *** وإنْ تَكُ في جابلقٍ(2) لَم تَكُ نَاجِيا»(3)

وهاتان الحادثتان يمكن أن نستنتج منها على أنَّ قيساً كان من شعراء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذين يعتمد عليهم في الردِّ على الرسائل التي تأتيه، والوفود التي تقابله.

ص: 127


1- قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله
2- جابَلْقُ: «مدينة بأقصى المغرب، وأهلها من ولد عاد» معجم البلدان، شهاب الدین یاقوت بن عبد الله الحموي (المتوفي: 626 ه): 2 / 91، وقيل: «جَابَلَق وجابَلَص مَدینتان إِحداهما بِالْمَشْرِقِ والأُخرى بِالْمَغْرِبِ لَيْسَ وَرَاءَهُمَا شَيْءٌ» لسان العرب: 7 / 10. وقد قصد قيس بذلك أنَّ معاوية لو كان في أقصى مكان من الأرض فإنَّهم سيصلون إليه ولا ينجو منهم
3- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: 2 / 350، بحار الأنوار: 32 / 571، شجرة طوبی: 1 / 45

ولمَّا أتمَّ الحجة عليهم قرَّر المسير إليهم فجمع أتباعه من المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أمَّا بعد فإنَّكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، مبارکو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدونا، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم»(1). فتکلم جمع من المهاجرين والأنصار، وكان ثالث من تكلم بعد هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعمار بن یاسر، قیس بن سعد بن عبادة، ومن جملة ما قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلَّى على رسوله الكريم: «یا أمیر المؤمنين انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرج، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم والديلم، لإدهانهم في دين الله، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، إذا غضبوا على رجل مؤمن حبسوه أو ضربوه، أو حرموه من عطائه، أو سيره إلى خارج بلده وأصبح فيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين»(2).

وعندما توجَّه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى أهل الشام، وهو في طريقه إلى صفين أنشد قیس بن سعد بين يديه قصيدته اللامية المشهورة التي قال فيها(3):

قلت لما بغى العدوّ علينا *** حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

حسبنا ربّنا الذي فتح البصرة *** بالأمس والحديث طويل

وله شكر ما مضى وعلى ذا *** إن هذا من شكره لقليل(4)

ص: 128


1- وقعة صفين: 92، أعيان الشيعة: 1 / 473
2- وقعة صفين: 93، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 3 / 172 - 173، أعيان الشيعة: 1 / 473، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: 1 / 313، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 2 / 93
3- هذا البيت ذُکِر في: الفتوح، ابن اعثم الكوفي: 3 / 42
4- خصائص الأئمة، الشريف الرضي: 43، أقسام المولى، الشيخ المفيد: 36، الفصول المختارة، الشيخ المفيد: 291، رسالة في معنى المولى، الشيخ المفيد: 20، کنز الفوائد، أبو الفتح الكراكجي: 234، الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 221، مناقب آل أبي طالب: 2 / 230، الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي: 402، کتاب = الأربعين، محمد طاهر القمي الشيرازي: 69، بحار الأنوار: 37 / 150، أعيان الشيعة: 8 / 457

وعليّ إمامنا وإمام *** لسوانا أتی به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولا *** ه فهذا مولاه خطب جليل

إنَّ ما قاله النبيّ على الأمّة *** حتم مافيه قال وقيلُ

وقد ذُكر مع هذه الأبيات أبياتاً أخرى(1):

يا بن هند أين الفرار من الموت *** وللموت في الفجاج ذيول

ولواء النبي يخفق في کف *** علي نصيرہ جبریل

ثم حامت عليه من سلف الخزرج *** قوم كأنهم اكليل

عند ذاك العيان يخلفه الظن *** وما غيره هناك سبيل

حتَّى إذا حضر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى صفين التي عسکر بها قبالة جيش معاوية، وانتظر هناك الباغين عسى أن يفيقوا إلى أمرهم، ولكنَّهم ظلوا في طغيانهم يعمهون، ولمَّا أتمَّ عليهم الحجة بدأ بتعبئة أصحابه فأخرج الألوية وصار يعقدها القادة جنده، ثمَّ أخرج لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يُرَ ذلك اللواء منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونادي على قیس بن سعد بن عبادة فرفعه إليه، وعندها التفَّت حوله الأنصار وأهل بدر، وصاروا يبكون لذكرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنشأ قیس بن سعد قائلاً(2):

ص: 129


1- الفتوح، ابن اعثم الكوفي: 3 / 42
2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3 / 1292، تاریخ دمشق: 10 / 244، أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4 / 404، الوافي بالوفيات: 24 / 213

هَذَا اللِّوَاء الَّذِي کُنَّا نحفُّ بِهِ *** مَعَ النَّبِي وَجِبْرِيل لنا مدد

مَا ضرَّ من كَانَت الْأَنْصَار عيبته *** أَن لَا يكون لَهُ من غَيرهم أحد

قومٌ إِذا حَاربُوا طَالَتْ أكفُّهم *** بالمشرفية حَتَّى يُفتح الْبَلَد

والنَّاس حرب لنا في الله كلهم *** مستجمعون فما ناموا ولا فقدوا(1)

فاليوم ننظره حتى يقيم له *** أهل الشنان ومن في دينه أود

أهل الصلاة قتلناهم ببغيهم *** والمشركون قتلناهم بما جحدوا

حتی تطیعوا علياً إنَّ طاعته *** دين عليه يثيب الواحد الصمد

من ذاله في قريش مثل حالته *** في كل معمعة أو مثله أحد

لوعدد الناس مافيه لما برحت *** تثني الخناصر حتى ينفد العدد

هلا سألت بنا والخيل سانحة *** تحت العجاجة والفرسان تطرد

وخيل كلب ولخم قد أضرَّ بها *** وقاعنا إذ غدوا للموت فاجتلدوا

من كان أصبر فيها عند أزمتها *** إذ الدماء على أجسادها جسدوا

ولمَّا انتقل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى توزيع القادة على صنوف العسكر كان قیس بن سعد أحد قادة الجند، إذ أسند إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) قيادة رجالة أهل البصرة(2)، فكان في مقدمة الجيش يدافع عن الحقِّ بكلِّ ما يملك على بصيرة من أمره، مطمئنَّاً بما يؤول إليه جهاده، غير آبه بمعاوية وجمعه.

ص: 130


1- ذكر تتمَّة القصيدة أحمد بن اعثم الكوفي في الفتوح: 3 / 161- 162
2- وقعة صفين: 208، تاریخ الرسل والملوك: 5 / 11، جمل من أنساب الأشراف: 2 / 303، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 118، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 15 / 238

ولمَّا أتمَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) توزيع قادته وكتائبه، واصطفَّ الجيشان للقتال وحان أوان اللقاء بدقِّ طبول الحرب، وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) كعادته قبل كلِّ حرب يوصي جنده و أتباعه فيقول لهم: «لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوکُمْ، فَأَنْتُمْ بِحَمْدِ الله عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْکِکُمْ قِتَالَهُمْ حُجَّةً أُخْرَى، فَإِذَا هَزَمْتُمُوهُمْ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَكْشِفُروا عَوْرَةً، وَلَا تُمَثِّلُوا بِقَتِيلٍ، وَإِذَا وَصَلْتُمْ إِلَى رِحَالِ الْقَوْمِ فَلَا تَهْتِكُوا سِتْرًا وَلَا تَدْخُلُوا دَارًا، وَلَا تَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلا مَا وَجَدْتُمْ فِي عَسْکَرِهِمْ، وَلَا تُهَیِّجُوا امْرَأَةً بِأَذًى، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَکُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَکُمْ وَصُلَحَاءَکُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضِعَافُ الْقُوَى وَالْأَنْفُسِ»(1).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يرغب أن يلاقي أهل الشام جميعهم بجمع أهل العراق خوفاً على الفريقين من الهلاك، فكان يأمر الرجل ذا الشرف من قادته فيخرج وتخرج معه جماعة من الجند، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة فيقتتلان ما سمح لهم به الوقت ثمَّ ينصرفان. وكان قیس بن سعد من ضمن القادة الذين خرجوا من جيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مقاتلاً لجند معاوية(2)، فكان شديد البأس عليهم قد أوجع قلب معاوية في مواطن الحرب كلِّها.

ولمَّا توالت الهزائم لجند معاوية وكثر القتل فيهم تعاظمت الأمور عليه، دعا عمرو بن العاص و بسر بن أرطاة و عبيد الله بن عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقال لهم: (إنَّه قد غمَّني مقام رجال من أصحاب علي منهم

ص: 131


1- وقعة صفين: 203 - 204، تاریخ الرسل والملوك: 5 / 10 -11، الكامل في التاريخ: 2 / 645، کنز الدرر وجامع الغرر: 3 / 370، نهاية الأرب في فنون الأدب: 2 / 117، مستدرك نهج البلاغة: 59، أعيان الشيعة: 1 / 484
2- وقعة صفين: 195، تاریخ الرسل والملوك: 4 / 574، الكامل في التاريخ: 2 / 637، کنز الدرر وجامع الغرر: 3 / 369، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، علي بن محمد أحمد المالكي (ابن الصباغ): 1 / 449

سعید بن قيس الهمداني في قومه والأشتر في قومه والمرقال وعدي بن حاتم و قیس بن سعد في الأنصار، وقد علمتم أن یمانیتکم وقتكم بأنفسها أياماً كثيرة حتَّى لقد استحييت لكم، وأنتم عدتهم من قريش وأنا أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء و قد عبَّأت لكلِّ رجل منهم رجلاً منکم فاجعلوا ذلك إليَّ، قالوا: ذاك إليك قال: فأنا أكفيكم غداً سعيد بن قيس وقومه، وأنت يا عمرو للمرقال أعور بني زهرة، وأنت یا بسر لقیس بن سعد وأنت يا عبيد الله للأشتر، وأنت يا عبد الرحمن لأعور طيء يعني عدي بن حاتم، وقد جعلتها نوباً في خمسة أيَّام لكلِّ رجلٍ منكم يوم فكونوا على أعنَّة الخيل»(1).

ولمَّا كان اليوم الثالث من الاتِّفاق برز قیس بن سعد في كمأة الأنصار كأنَّه فنیق مقرم وهو يقول:

أنا ابن سعدٍ زانه عبادة *** والخزرجيون رجالٌ سادة

ليس فراري في الوغى بعادة *** إن الفرار للفتی قلادة

یا رب أنت لقني الشهادة *** القتل خير من عناق غادة

حتى متى تشي لي الوسادة

ثمَّ حمل على بسر بن أرطأة، فضربه قيس بالسيف ضربة أثخنه بها فردَّه على عقبه، ورجع القوم ولقيس الفضل في المعركة(2)، إذ حقَّق انتصاراً على بسر وجماعته وأرجعه إلى سیده معاوية مهزوماً يجرُّ أذيال الخيبة والخسران، ما زاد في محنة معاوية الذي أصبح

ص: 132


1- وقعة صفين: 427 - 428، وعنه في بحار الأنوار: 23 / 512
2- وقعة صفين: 428، الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي: 3 / 62، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 8 / 71، أعيان الشيعة: 1 / 492، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 345

الانكسار واضحاً في جيشه وعسكره، وكان أشدُّ الناس عليه في ذلك الأنصار لما لقيه منهم من شدَّة البأس في الحرب والنزال، ولذلك دعا النعمان بن بشیر بن سعد الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ولم يكن معه من الأنصار غيرهما، فقال لهما: «يا هذان، لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال، حتى والله جبنوا أصحابي، الشجاع والجبان، وحتى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلا قالوا قتلته الأنصار، أما والله لألقينهم بحدي وحديدي، ولأعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه، ثم لأرمينهم بأعدادهم من قریش، رجال لم يغذهم التمر والطفيشل، يقولون نحن الأنصار، قد والله آووا ونصروا ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم»(1).

وقد أغضب ذلك النعمان فقال: «يا معاوية، لا تلو منَّ الأنصار بسرعتهم في الحرب فإنَّهم كذلك كانوا في الجاهلية، فأمَّا دعاؤهم الله فقد رأيتهم مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] يفعلون ذلك كثيرا، وأمَّا لقاؤك إيَّاهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديماً، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل، وأمَّا التمر والطفيشل فإنَّ التمر كان لنا، فلمَّا أن ذقتموه شاركتمونا فيه، وأمَّا الطفيشل فكان لليهود، فلمَّا أكلناه غلبناهم عليه، کا غلبت قريش على السخينة»(2).

بعدها تكلَّم مسلمة بن مخلد فقال: «يا معاوية، إنَّ الأنصار لا تُعاب أحسابها ولا نجداتها، وأمَّا غمَّهم إيِّاك فقد والله غمُّونا، ولو رضينا ما فارقونا وما فارقنا جماعتهم، وإنَّ في ذلك لما فيه من مباينة العشيرة، ومباعدة الحجاز وحرب العراق، ولكن حملنا ذلك لك، ورجونا منك عوضه، وأمَّا التمر والطفيشل فإنَّهما يجرَّان

ص: 133


1- وقعة صفين: 545، بحار الأنوار: 32 / 515، أعيان الشيعة: 1 / 507
2- وقعة صفين: 546، بحار الأنوار: 32 / 516، أعيان الشيعة: 1 / 507

عليك نسب السخينة والخرنوب»(1). وقد انتهى هذا الكلام إلى الأنصار في جيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فجمعهم قیس بن سعد وقام فيه خطيباً: «إنَّ معاوية قد قال ما بلغكم، وأجاب عنکم صاحباکم، فلعمري لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس، وإن وترتموه في الإسلام فقد وترتموه في الشِّرك، وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين الذي أنتم عليه، فجدوا اليوم جداً تنسونه به ما كان أمس، وجدوا غداً جداً تنسونه به ما كان اليوم، وأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرائيل وعن يساره میکائیل، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. وأمَّا التمر فإنَّا لم نغرسه، ولكن غلبنا عليه من غرسه، وأمَّا الطفيشل فلو كان طعامنا لسمَّينا به اسماً کما سُمِّیت قريش السخينة»(2).

ثمَّ أنشد قیس بن سعد في ذلك فقال(3):

يا ابن هند دعِ التوثب في الحرب *** إذا نحن في البلاد نأینا

نحن من قد رأيتَ فادنُ إذ شئتَ *** بمن شئت في العجاج إلينا

إنْ برزنا بالجمع نلقكَ في الجم *** ع وإنْ شنت محضة أسرينا

فالقنا في اللفيف نلقكَ في الخز *** رج ندعو في حربنا أبوينا

أي هذين ما أردتَّ فخذه *** ليس منَّا وليس منك الهوينا

ثمَّ لا تنزعُ العجاجة حتَّى *** تنجلي حرَبنا لنا أو علينا

ص: 134


1- وقعة صفين: 546، أعيان الشيعة: 1 / 507
2- وقعة صفين: 546، بحار الأنوار: 32 / 516، أعيان الشيعة: 1 / 507
3- وقعة صفين: 546 - 547، أعيان الشيعة: 1 / 507

ليتَ ماتطلب الغداة أتانا *** أنعم اللهُ بالشَّهادة عينا

إنَّنا إنَّنا الذين إذا الفتح *** شهدنا وخيبرا وحنينا

بعد بدر وتلك قاصمة الظهر *** وأحد وبالنضير ثنینا

يوم الأحزاب، قد علم الناس *** شفينا من قِبَلِكُم واشتفينا

(فلمَّا بلغ شعره معاوية دعا عمرو بن العاص فقال: ما ترى في شتم الأنصار؟ قال: أرى أن توعد ولا تشتم، ما عسى أن نقول لهم؟ إذا أردت ذمهم فذم أبدانهم ولا تذم أحسابهم؛ قال معاوية: إن خطيب الأنصار قیس بن سعد يقوم كل يوم خطيباً، وهو والله يريد أن يفنينا غداً إن لم يحبسه عنَّا حابس الفيل(1)، فما الرأي؟ قال: الرأي التوكّل والصَّبر)(2).

فقیس بن سعد لم يكن سيفاً ماضياً على معاوية فحسب بل كان لساناً قاطعاً، ولم يكن لسانه أقلُّ من سيفه صرامة وشدة على معاوية، فهو بحسب تعبيره يقوم كلَّ يوم خطيباً فيرميه وعسكره بشواظٍّ من نار ذات سموم حتَّى جعله يخاف الهلاك والفناء من لسان قيس، وكيف لا يكون كذلك وهو لسان الأنصار وخطيبهم.

ص: 135


1- (هوَ فيلُ أبرهَة الحبَشيِ الَّذِي جاءَ يَقصِد خَراب الكعبةِ، فحبسَ الله الفيلَ فلَم يدخُل الحرمَ، ورَدّ رأسَهُ رَاجعًا مِن حيثُ جاء). النهاية في غريب الحديث والأثر: 1 / 329 (مادة: حبس)، لسان العرب: 6 / 44، تاج العروس: 15 / 525. وقصد معاوية أن يُصاب قیس بن سعد بمثل ما أصيب به فيل أبرهة الحبشي، فيُحبَس ویُردُّ رأسه فلا يتقدَّم، ويرجع عن حربه من حيث أتي. وأهم ما يُلاحظ في ذلك أنَّ معاوية يطلب معجزة تُكفيه من قیس بن سعد، فهو لا يؤمن بالأسباب الطبيعية لأنَّها غير مجدية مع قیس بن سعد في نظره، وهذا إن دلَّ فإنَّه يدلُّ على شدة قيس وقوة عزيمته، ونصاعة ولائه وإخلاص عقیدته لإمامه
2- وقعة صفين: 447، أعيان الشيعة: 1 / 507

وحتَّى يتخلص معاوية من لسان قيس قرَّر أن يضغط عليه بقومه فأرسل إلى رجالٍ من الأنصار، منهم عقبة بن عمرو، وأبو مسعود، والبراء بن عازب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وخزيمة بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعمرو بن عمير، والحجاج بن غزية، وطلب منهم أن يسيروا إلى قيس ويطلبوا منه أن يكفَّ عن شتم معاوية(1)، فقال: لهم (إنَّ مثلي لا يشتم، ولكنِّي لا أكفُّ عن حربه حتَّى ألقى الله)(2).

وفي أحدى الحملات تحركت الخيل من نحو معاوية فظن قيس أنَّ فيها معاوية، فاستوى على فرسه و حمل على الخيل حتى جاش في وسطها، ثمَّ حمل على رجل يشبه معاوية ظنَّاً منه أنَّه هو فقنعه بالسيف فقتله فإذا هو غيره، ثمَّ حمل على آخر فقتله، ثمَّ تبعها بحملة أخرى على آخر فقتله(3)، ولمَّا رأى العسکر شدَّة بأسه تحاشاه الناس واحتموا منه، وعندها صاح معاوية بأهل الشام: «ويحكم يا أهل الشام إذا رأيتم هذا الرجل في الحرب فاحترسوا منه، فإنَّه والله الأسد الضرغام»(4)، ثمَّ رجع قیس إلى عسكره ويبدو أنَّه سمع معاوية بعد ذلك يشتمه فأنشأ يقول:

قولوا لهذا الشاتمي معاوية *** إن كل ما أوعدت ریح هاويه

خوفتنا أكلب قوم عاوية *** إليَّ يابن الخاطنين الماضية

ترقل إرقال العجوز الخاوية *** في أثر الساري ليالي الشاتيه

ولمَّا لم ينتهِ قیس بن سعد عن معاوية، بل راح يشتدُّ عليه أكثر من ذي قبل قرر أن يستعين بالنعمان بن بشير فسأله أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم.

ص: 136


1- ينظر: وقعة صفين: 548، الفتوح: 3 / 111
2- وقعة صفين: 548، وعنه في أعيان الشيعة: 3 / 552
3- وقعة صفين: 548
4- الفتوح: 3 / 111

فخرج النعمان حتى وقف بين الصفين فقال: «يا قيس، أنا النعمان بن بشير. فقال قيس: هيه يا ابن بشير فما حاجتك؟ فقال النعمان: يا قيس، إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضى لنفسه، ألستم معشر الأنصار، تعلمون أنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين، فلو کنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً لكانت واحدة بواحدة، ولكنَّكم خذلتم حقاً ونصرتم باطلاً، ثمَّ لم ترضوا أن تكونوا كالنَّاس حتَّى أعلمتم في الحرب ودعوتم إلى البراز، ثمَّ لم ينزل بعليٍّ أمر قط إلَّا هونتم عليه المصيبة، ووعدتموه الظفر، وقد أخذت الحرب منَّا ومنكم ما قد رأيتم، فاتقوا الله في البقية»(1).

فضحك قيس ثمَّ قال: (ما كنت أراك يا نعان تجترئ على هذه المقالة، إنَّه لا ينصح أخاه من غشَّ نفسه، وأنت والله الغاش الضال المضل. أمَّا ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار تكفيك فخذها منِّي، واحدة قتل عثمان من لست خيراً منه، وخذله من هو خير منك، وأمَّا أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث، وأما معاوية فوالله أن لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار، وأمَّا قولك إنَّا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنَّا مع رسول الله، نتَّقي السيوف بوجوهنا، والرِّماح بنحورنا، حتَّى جاء الحقُّ وظهر أمر الله وهم کارهون، ولكن انظر یا نعمان هل ترى مع معاوية إلَّا طليقاً أو أعرابياً أو يمانياً مستدرجاً بغرور، انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، الذين رضي الله عنهم، ثمَّ انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك، ولستُما والله ببدريين ولا عقبيين ولا أحديين، ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن، ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك)(2).

ص: 137


1- وقعة صفين: 548 - 549، بحار الأنوار: 32 / 517، أعيان الشيعة: 1 / 507
2- وقعة صفين: 549، بحار الأنوار: 32 / 517 - 518

ثمَّ أنشأ يقول(1):

والراقصات بكلِّ أشعث أغبر *** خوص العيون تحثّها الركبانُ

ما ابن مخلد مفلتاً أسيافنا *** عمَّن نحاربه ولا نعمانُ

تركا العيان وفي العيان كفايةٌ *** لو كان يدفع صاحبيك عيانُ

وجدا معاوية بن صخرٍ شبهةً *** فيها التلبس والبيان يهانُ

ذكرا ابن عفان فقلت ألا أربعا *** ما أنتما سفها ولا عثمانُ

ما تعدل الأنصار ساعةً *** والحق في الأنصار والبرهانُ

وجدت قريشاً في الحوادث منطقاً *** هذا الشقي وصهره مروانُ

لم تبسطوا كفَّا لنصرة هالكٍ *** لالا ولا عصبت علينا بنانُ

ولمَّا قتل قنبر (رضوان الله عليه) غلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حرب غلام معاوية اغتمَّ معاوية لذلك غمَّاً شديداً، فقال له بسر بن أرطاة: (ما لي أراك منکسر القلب على حرب! عليك بالتَّسلِّي عن حرب، واستعمل الشجاعة والصبر، فإنَّك كاتب النبي صلى الله عليه وآله، وعامل عمر بن الخطاب، وولي الخليفة المظلوم عثمان بن عفان، فقال معاوية: صدقت ولكن علياً يطول عليَّ بخصال شتَّی، بقرابته من الرسول، وقدمته في الإسلام، وبأسه في الحرب، فقال عمرو بن العاص: إنَّك إذا نظرت في هذا فإنَّ له من الفضائل ما لا تحصى، أبوه سيد في بني هاشم وأمَّه سيدة في بني هاشم، وهو فقيه في حجر قريش، وقد بايعه المهاجرون والأنصار،

ص: 138


1- الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي: 3 / 168

ولكن والله لنقاتلنَّه أو نردَّه على عقبيه صاغرا. قال: فلمَّا سمع معاوية ذلك اشتدَّ ظهره واجتري على الحرب)(1).

وقد بلغ ذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه، وكان هناك قيس فقام وقال: (أمير المؤمنين، لا يهولنَّك أمر ابن آكلة الأكباد، ومن معه من أصحابه، فوالله إنَّا لو قتلنا عن آخرنا حتَّى لا يبقى منَّا أحد لعلمنا أنَّنا على بصيرة من ديننا ويقين من أمرنا، فلا ترتفع بقول بسر بن أرطاة فقبَّح الله بسراً و أصلاه نار جهنَّم، قال: فأثنى عليه علي (رضي الله عنه) وعلى قومه من الأنصار ثناءً حسناً)(2).

فأنشأ قیس بن سعد يقول(3):

نُبِّئت بسراً أطال الله شقوته *** قال المحال وعمراً دعوة العاص

في عصبة الشام منهم كل ذي جيفٍ *** عاتي المقالة عند الحرب حياص

قروا طليقا لامر ليس رغبتهم *** إلا الفجور على ذي رغبةٍ حاصي

والراقصات بأشياخ محلقة *** صلع الرؤوس كبيض الرأل جریاص

ما في علي لأهل الشام من طمع *** ليث العرين وأفعى بين أعياص

كم من قتيل لأهل الشام قد سلبت *** عنه الثياب كزق سائل شاص

قد كان يؤمل أن هاب العراق له *** عرسٌ سميطٌ تراها ذات إخلاص

لاتحسبن یا بن هند في عداوتكم *** كالمرء سعد أبي الزهري وقاص

ص: 139


1- الفتوح: 3 / 127
2- الفتوح: 3 / 127
3- الفتوح: 3 / 127 - 128. قد ذكر في المصدر أنَّ القائل قیس بن سعيد، ويبدو أنَّ ذلك قد وقع سهواً من الكاتب، إذ السياق جميعه يتكلم عن قيس بن سعد

أو تحسبني كعبد الله في نفر *** باعوا عليا بودان ومقلاص

أو كابن مسلمة الراضي بشبهتهِ *** لله فيما يماري ربه عاصي

فالحرب توقدها الأنصار مشعلةً *** والطيبون رجال غير إنكاص

ثمَّ صاح قیس بن سعد بالأنصار فحمل وحملوا معه على أهل الشام، فقاتلوا قتالاً شديداً ثم رجعوا إلى مواضعهم(1) فأنشأ قائلًا(2):

هذا علي وابن عمِّ المصطفی *** أوَّل من أجابه ممَّن دعا

هذا الإمام لا نبالي من غوی وهكذا تستمرُّ الحرب بين الحق والباطل وکلَّاً يكتب تاريخه بما يسطِّر من مواقف، فالرجال إنَّما تعرف بالمواقف، ولا مواقف أشدُّ من الحرب عندما يشتدُّ رحاها ويستعرُّ شظاها، ثمَّ ما تلبث الأمور إلَّا وتنكشف عن أسود العراق وهم يجولون على أهل الشام، وما يلبث أهل الشام إلَّا أن ينهزموا من أمام ليوث العرين، وهنا تتجلَّى إرادة الله تعالى أن لا بُدَّ من امتحان يميز به الطيب من الخبيث، فيرفع أهل الشام المصاحف بإشارة من عمرو بن العاص مع النداء (لا حكم إلَّا لله)، فانطلت هذه الخدعة على ثلة من جيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وانشقَّ الجيش ما بين مؤيِّدٍ لمتابعة الحرب التي أذنت بالنصر للحق وأتباعه بعد أن وصل الأبطال إلى فصطاط معاوية، وبين معارض انطلت عليه خدعة عمر بن العاص فجرَّد حسامه وهجم على إمامه يطلب منه ايقاف الحرب وهكذا أفل نجم النصر بعد أن لاح عالياً بسبب الرعاع والجهلة وعديمي الإيمان. وآلت الأمور بعد ذلك إلى التحكيم وقد

ص: 140


1- الفتوح: 3 / 128
2- الفصول المختارة: 271، مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: 2 / 246، بحار الأنوار: 38 / 277، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 281

أجبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبوله، وكان من قبل قد نبَّههم وقال لهم أنَّ (شعار لا حكم إلَّا الله) «کَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ»(1)، ولكنَّهم قد استحكم فيهم الشيطان فأصمَّهم وأعاهم عن الحقِّ بعد أن كانوا يسمعون ويبصرون.

وبعد أن آل الأمر إلى التَّحكيم اجتمع أنصار معاوية يخطِّطون للمرحلة القادمة ويضعون الاحتمالات لمن سيرسله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حكماً عن جانبه، إذ إنَّهم استقرُّوا على عمرو بن العاص، فقال لهم معاوية بعد أن سأله عتبة بن أبي سفيان عن أقرب الناس لأمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إنَّ لعلي خمسة رجال من ثقاته، منهم عدي بن حاتم، وعبد الله بن عباس، وقيس بن سعد، وشريح بن هانئ، والاحنف بن قيس، وأنا أصفهم لك: أما ابن عباس فإنه لا يقوى عليه، وأما عدي بن حاتم فيرد عمراً سائلاً، ويسأله مجيباً، وأمَّا شریح بن هانئ فلا يدع العمر و حياضاً، وأما الأحنف بن قيس فبديهته کرويته، وأمَّا قیس بن سعد فلو كان من قریش بايعته العرب»(2) وفي قول معاوية هذا تظهر قيمة قس بن سعد من الشرف والفضيلة والرفعة، وتمام النصح لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فهو بنصِّ کلام معاوية موضع ثقته.

ولكنَّ أهل العراق أصرُّوا على أبي موسى الأشعري وابتعدوا بذلك عن جادَّة الحقِّ بعد أن كانوا فيها، وينزل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى رأيهم بعد أن أوضح لهم فساد اختيارهم وبعدهم عن الصواب، فيجتمع الحكمان ويخدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، فيخلع أبو موسى الإمام علي (عليه السلام) ويثبت عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان(3).

ص: 141


1- نهج البلاغة:، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 556، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 127، الكامل في التاريخ: 2 / 685 - 686
2- الإمامة والسياسة: 1 / 122
3- الإمامة والسياسة: 1 / 122 وما بعدها

سادساً: حرب الخوارج

يرجع كلا الطرفين أهل العراق إلى عراقهم بعد أن خالفوا أمر إمامهم منكسرين، وأهل الشام إلى شامهم فرحين مستبشرين وقد بايعوا معاوية بالخلافة وصاروا يسلمون عليه بها(1)، أمَّا أهل العراق فقد خرجت منهم طائفة رفضت حكم الحكمين، ونادت بشعار (لا حكم إلَّا لله)، وكفَّرت كلا الطريفين (أهل العراق وأهل الشام)، واجتمعوا إلى عبد الله بن وهب الراسبي وبايعوه، ثمَّ أنَّه اجتمع بجماعته وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «فإنَّ هذين الحكمين قد حکما بغير ما أنزل الله، وقد كفر إخواننا حين رضوا بهما، وحكموا الرجال في دينهم، ونحن على الشخوص من بين أظهرهم، وقد أصبحنا والحمد لله ونحن على الحق من بين هذا الخلق»(2)، بعدها اتَّفقوا على المسير إلى جسر النهروان والتجمُّع هناك(3).

وقد نصحهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيَّن لهم طريق الحق، لكنَّهم عصوا وتجبروا ورفضوا كل أساليب السلام، وأصرُّوا على الحرب والقتال، ولم يسر إليهم إلَّا بعد أن صاروا يفسدون في الأرض، ويُهددون أمن المسلمين، فقتلوا عبد الله بن خَبَّاب وزوجته وبقروا بطنها وهي حامل متم، ثمَّ قتلوا ثلاث نسوة من طَيِّء(4)، ولمَّا أقدموا على هذه الجرائم، وبعد المشاورة مع أهل الحل والعقد من أصحابه قرَّر المسير إليهم فجمع جيشه، وسار إليهم عن طريق ناحية الأنبار، وبعث قيس بن

ص: 142


1- ينظر: الأخبار الطوال، أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري: 202
2- الأخبار الطوال: 202
3- ينظر: الأخبار الطوال: 202 - 204، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 590، البداية والنهاية: 7 / 310 - 311
4- ينظر: البدء والتاريخ، المطهر بن طاهر المقدسي: 5 / 136، الكامل في التاريخ: 2 / 690 - 692، البداية والنهاية: 7 / 318

سعد إلى المدائن، وأمره أن يلتقي بواليها سعد بن مسعود، ويجمع جيش المدائن ثمَّ يلحق به ناحية النهروان(1)، وهناك اجتمع الناس وتكامل جيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقام بتوزيع الألوية فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أَبا أَيُّوب الْأَنصارِي، وَعلى الرَّجَّالة أَبَا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وكانوا في سَبْعَمِائَةٍ - قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ(2)، ثمَّ إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أرسل إليهم عبد الله بن عباس فناظرهم فيما يدَّعون وقد حجَّهم في كلِّ اعتراضاتهم، وأجابهم على تساؤلاتهم، فرجع منهم جمع غفير(3)، ثمَّ توجَّه إليهم أمير المؤمنين علي فأجاب على كلِّ تساؤلاتهم(4)، ولمَّا رأی تشبُّث بعضهم بالباطل وإصرارهم قال لهم: (أَنِ ادْفُعُوا إِلَيْنَا قَتَلَةَ إِخْوَانِنَا مِنْکُمْ أَقْتُلُهُمْ بِهِمْ، ثُمَّ أَنَا تَارِکُکُمْ وَكَافٌّ عَنْکُمْ حَتَّى أَلْقَى أَهْلَ الْمَغْرِبِ(5)، فَلَعَلَّ اللهَّ يُقْبِلُ بِقُلُوبِكُمْ وَيَرُدُّکُمْ إِلَى خَيٍرْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ. فَقَالُوا: کُلُّنَا قَتَلَهُمْ، وَكُلُّنَا مُسْتَحِلٌّ لِدِمَائِکُمْ وَدِمَائِهِمْ)(6)، ثمَّ خرج بعد ذلك قیس بن سعد واستأذن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحديث إلى الخوارج فقال لهم: «عِبَادَ اللهَّ، أَخْرِجُوا إِلَيْنَا طِلْبَتَنَا مِنْکُمْ، وَادْخُلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي خَرَجْتُمْ مِنْهُ، وَعُودُوا بِنَا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّنَا وَعَدُوِّکُمْ، فَإِنَّكُمْ رَكِبْتُمْ عَظِيمًا مِنَ الْأَمْرِ، تَشْهُدُونَ عَلَيْنَا بِالشِّرْكِ،

ص: 143


1- ينظر: البداية والنهاية: 7 / 319
2- ينظر: الإمامة والسياسة: 1 / 128، البداية والنهاية: 7 / 319 - 320
3- ينظر: البدء والتاريخ، المطهر بن طاهر المقدسي: 5 / 136، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 556 - 557، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 124 - 125، البداية والنهاية: 7 / 311
4- ينظر: تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1 / 558 - 560، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5 / 126 - 127، البداية والنهاية: 7 / 310 - 311
5- يعني حزب معاوية من أهل الشام
6- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 83، الكامل في التاريخ: 2 / 692 - 693، البداية والنهاية: 7 / 319

وَتَسْفِکُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ»(1) فَقَال لَه عبد الله بن شَجَرَةَ السُّلَمِيُّ: «إِنَّ الْحَقَّ قَدْ أَضَاءَ لَنَا، فَلَسْنَا مُتَابِعِيکُمْ أَوْ تَأْتُونَا بِمِثْلِ عُمَرَ»(2)، فَقَالَ: «مَا نَعْلَمُهْ فِينَا غَيَرْ صَاحِبِنَا(3)، فَهَلْ تَعْلَمُونَهُ فِيکُمْ؟»(4) قَالُوا: «لاَ. قَالَ: نَشَدْتُكُمُ اللهَّ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنْ تْهُلِکُوهَا، فَإِنيِّ لَا أَرَى الْفِتْنَةَ إِلَّا وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْکُمْ»(5).

بعدها أمر أمير المؤمنين (عليه السلام): أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول: «مَنْ جَاءَ إِلَى هَذِهِ الرَّايَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنِ انْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ الْمَدَائِنِ فَهُوَ آمِنٌ، إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لنا فيكم إلا فيمن قَتَلَ إِخْوَانَنَا»(6)، فانصرف كثير منهم، ولم يبقَ سوى ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي بعد أن كانوا أربعة آلافٍ(7)، وهذه البقية رفضت أن تسمع ولم يكن لهم جواب إِلَّا أن تنادوا فيمَا بَينهُم «أَنْ لَا تُخَاطِبُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ وَتَهَيَّئُوا لِلِقَاءِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ»(8) ولمَّا أنهی أمير المؤمنين (عليه السلام) كلَّ سُبل السلام مع هذه الفئة الضالة قال لأصحابه: «لا تبدؤوهم بالقتال حتى يبدؤوكم»(9)، فأقبل الخوارج ينادون: «لاَ حُكْمَ إِلاَّ لله،

ص: 144


1- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 83، الكامل في التاريخ: 2 / 692 - 693
2- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 83، الكامل في التاريخ: 2 / 692 - 693
3- هنا أراد قیس بن سعد أن يحتجَّ على الخوارج، فهو كأنَّه قال لو سلمنا جدلًا بسلامة وصحة قيادة عمر بن الخطاب، فإننا لا نعلم له مثيل غير صاحبنا يعني الإمام علي (عليه السلام)، ولو وِجِدَ فيكم غيره أخرجوه لنا، فقالوا لا يوجد، وبهذه النتيجة فقد حجَّهم في مدَّعاهم، ولا يعني كلامه موافقته لهم في البحث عن شخصية تشابه عمر بن الخطاب. وهذا الأسلوب هو أحد أساليب المحاورة والحجاج، التي من خلالها يحتجُّ المحاور على خصمه
4- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 83، الكامل في التاريخ: 2 / 692 - 693
5- تاريخ الرسل والملوك: 5 / 83، الكامل في التاريخ: 2 / 692 - 693
6- الإمامة والسياسة: 1 / 128، البداية والنهاية: 7 / 319 - 320
7- ينظر: البداية والنهاية: 7 / 319 - 320
8- ينظر: البداية والنهاية: 7 / 319 - 320
9- الأخبار الطوال: 210

الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ»(1)، حتَّى خالطوا جيش أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهنا تبدأ المعركة فيسطَّر أنصار الحق أروع البطولات في حربِّهم ضدَّ الباطل، ويحمل قیس بن سعد على شريح بن أبي أوفي فيقتله(2)، وما تمضي سوى برهة من الزمن إلَّا والخوارج صرعی تحت سنابك الخيول(3).

وقد تقدَّم الدور الريادي لقیس بن سعد في هذه المعركة، فهو كما هو ذاك الصنديد الذي تمرَّس صفاء العقيدة منذ نعومة أضفاره، حتَّى صارت عنده بديهة لا تحتمل الشك، فهو يميل مع مولاه باب مدينة العلم أينما مال من غير تردير في إجابة أو فتور في عمل. ويمكن أن نلاحظ دوره في هذه المعركة بثلاث محاور:

1 - أرسله أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى المدائن ليُجهز أهلها لحرب الخوارج ثمَّ من بعدها لأهل الشام، وقد أنجز مهمَّته ولحق بإمامه ليكون في الصفوف الأولى للعسكر.

2 - تولَّى قيادة أهل المدينة في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهم أغلبهم من الصحابة، وفيهم أهل الشرف والفضيلة والسبق في الإسلام، وإعطاء لواء أهل المدينة لقیس بن سعد يكشف عن المنزلة الرفيعة في وفاء العقيدة التي يتمتع بها (رضوان الله عليه).

3 - خطابه إلى الخوارج ونصحه لهم بكلام يتفتَّق منه الوعي وادراك الأمور ومعرفة خواتيمها، فقد نصح وبيَّن طريق الرشاد، ولمَّا أبي أعداء الله تعالى إلَّا الشِّقاق والحرب بيَّن لهم حالهم التي هم فيها ألا وهي سيطرة الفتنة عليهم.

ص: 145


1- الإمامة والسياسة: 1 / 128، تاریخ الرسل والملوك: 5 / 86، ينظر : تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 561
2- الأخبار الطوال: 210
3- ينظر : تاریخ الرسل والملوك: 5 / 86 ، الإمامة والسياسة: 1 / 128، ينظر: تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 591، البداية والنهاية: 7 / 319 - 320

وإلى هنا أفرزت هذه المعركة جوانباً حيَّةً في شخصية قيس بن سعد فهو فضلاً عن شجاعته وإقدامه، وأهليته لقيادة الجند وزعامة العسكر كان لساناً يعتمد عليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك كان محوراً تنظيمياً في العسكر، أذ بعثه أمير المؤمنين (عليه السلام) يستنفر أهل المدائن ويلمُّ جيشها مع واليها، ثمَّ يُلحق ذلك الجيش بعسكر أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 146

المبحث الثاني: الأدوار القيادیة لقیس بن سعد بعد استشهاد الإمام علي (علیه السلام)

أولا: دوره في خلافة الإمام الحسن (علیه السلام).

وبعد معركة النهروان وفي سنة أربعين للهجرة النبوية يستشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام)، في بيت الله وهو ساجد له تعالى بضربة من أشقى البرية، عبد الرحمن بن ملجم المرادي (لعنه الله).

فينتقل المسلمون بالبيعة إلى الإمام الحسن المجتبى بن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وأوَّل من بایعه قیس بن سعد بن عبادة قائلاً له (عليه السلام): «ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى كِتَابَ الله وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وِقِتَالِ الْمُحِلِّينَ. فَقَالَ الْحَسَنُ [عَلَيه السَّلَام]: عَلَى کِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُمَا يَأْتِیَانِ عَلَى کُلِّ شَرْطٍ. فَبَايَعَهُ النَّاسُ»(1)، وكان الإمام الحسن (عليه السلام) يشترط على المبايعين فيقول لهم: «إِنَّكُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، تُسَالِمُونَ مَنْ سَالْمَتُ، وَتُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ»(2).

ص: 147


1- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 158، تاریخ دمشق: 13 / 263، المنتظم في تاريخ الملوك والامم: 5 / 165 - 166، الكامل في التاريخ: 2 / 751، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 220، تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 6 / 245، سير أعلام النبلاء: 4 / 340، تاریخ ابن الوردي، عمر بن مظفر: 1 / 157، دیوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: 2 / 640
2- تاریخ الرسل والملوك: 5 / 162، الکامل في التاريخ: 2 / 751، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20 / 220، تاریخ ابن الوردي، عمر بن مظفر: 1 / 157، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: 2 / 640

وهكذا يبدأ قیس بن سعد حياته مع الإمام الحسن (عليه السلام) بموقف مشرِّف يُثبت به ولاءه لأهل البيت النبوي (عليهم السلام)، فيسابق الكل ويضع يده بيد الإمام الحق يبايعه على كتاب الله تعالى وسنة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويُضيف على ذلك قتال المحلين، الذين خرجوا على الولاية الحقَّة، وشقُّوا عصا المسلمين، ويبدو أنَّ قيساً أراد من هذا الشرط أن يُثبت ولاءه لإمامه الحسن (عليه السلام)، بعدما تثاقل الناس في نصرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في آخر حياته الشريفة.

ولمَّا تمت البيعة للإمام الحسن (عليه السلام) بعث برسائل عدَّة(1) إلى معاوية بن أبي سفيان مناشداً إياه في حقن دماء المسلمين، وتسليم الأمر لمن هو أهله، ولكنَّ معاوية أصرَّ على تجبِّره وعتوِّه، ولم ينصع إلى نُصح الإمام إيَّاه، فقرر المسير إليه بعد تكرار الإنذار، ولمَّا علم معاوية بذلك جمع جنده وسار يريد العراق سابقاً للإمام الحسن (عليه السلام) بذلك نتيجة تخاذل أهل العراق، ولمَّا بلغ الإمام الحسن (عليه السلام) ذلك أمر بالصلاة جماعة ولمَّا اجتمع الناس صعد المنبر فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أمَّا بعد: فإنَّ الله كتب الجهاد على خلقه، وساه کرهًا، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2) فلستم أيُّها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون. بلغني أنَّ معاوية بلغه أنَّا كنا أزمعنا على المسير إليه، فتحرك لذلك، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكر كم بالنُّخَيْلَة، حتى ننظر وتنظروا، ونرى وتَرَوْا»(3).

ص: 148


1- ينظر: مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 63 وما بعدها
2- سورة الأنفال: 46
3- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 70، وعنه نقل في أعيان الشيعة: 1 / 568، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 38، وعنه نقل في بحار الأنوار: 44 / 50 وعنه كذلك في جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: 2 / 9

ولكنَّ الناس سكتوا فلم يجيبوه، فنهض عدي بن حاتم الطائي فوبَّخهم وتوجَّه مجيباً لما دعا إليه إمامه، وخرج من ساعته ليعسكر بالنخيلة، وبعدها قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فلاموا الناس على موقفهم وأقبلوا على الإمام الحسن (عليه السلام) فأجابوه إلى ما أمر به، فشكرهم الإمام قائلاً «صدقتم - رحمكم الله - ما زلت أعرفكم بصدق النية، والوفاء بالقول والمودة الصحيحة، فجزاكم الله خيرا»(1).

ثمَّ بدأ الناس بالخروج والتجمع حتَّى أصبح المعسكر بعدد جيد وعدَّة حسنة، بعدها دعا الإمام الحسن (عليه السلام) عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وقال له:

«یابن عم، إنِّي باعث معك اثنا عشر ألفاً من فرسان العرب وقُرَّاء المصر، الرجل:

منهم يزن الكتيبة فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط وجهك، وافرش لهم جناحك وادنهم من مجلسك فإنَّهم بقية ثقة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وسرّ بهم على شطِّ الفرات حتَّى تقطع بهم الفرات، ثمَّ تصير إلى مسكن، ثمَّ امض حتَّى تستقبل معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتَّى آتيك فإنِّي في إثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كلَّ يوم، وشاور هذين، يعني قیس بن سعد، وسعيد بن قيس، فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتَّى يقاتلك، فإن فعل فقاتل، فإن أصبت فقیس بن سعد على الناس، وإن أصيب قيس فسعيد بن قيس على الناس»(2).

ص: 149


1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 70، وعنه ثقل في أعيان الشيعة: 1 / 568، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 39، وعنه ثقل في بحار الأنوار: 44 / 50
2- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 71، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: وعنه ثقل في بحار الأنوار: 44 / 50

وهكذا سار عبيد الله بالجيش حتى وصل إلى أطراف الشام وعسكر في مدينة (مسکن) قبالة معاوية بن أبي سفيان، فأرسل معاوية بخيله إلى جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، فتصدَّى لهم عبيد الله بمن معه فضربوهم حتَّى ردُّوهم إلى مكانهم، ولمَّا أقبل الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله (أنَّ الحسن قد راسلني، في الصلح وهو مسلم الأمر إليّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا، وإلّا دخلت وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، يعجّل لك في هذا الوقت النصف، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر)(1)، فانسلَّ عبيد الله ولحق بمعاوية، وعندما حانت صلاة الصبح انتظره الناس فلم يأت، ولمَّا طلبوه لم يجدوه، وعندها تقدَّم قیس بن سعد فصلَّی بالناس ثم خطبهم فقال:

(أيّها الناس، لا يهولنَّكم ولا يعظمنَّ علیکم ما صنع هذا الرجل الوله الورع (أي: الجبان) إنَّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إنَّ أباه عمّ رسول الله (ص)، فأخذ فداءه فقسَّمه بين المسلمين، وإنَّ أخاه ولَّاه علي أمير المؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين، فاشتری به الجواري، وزعم أنَّ ذلك له حلال، وإنَّ هذا ولَّاه على اليمن، فهرب من بسر بن أرطأة وترك وِلْدَه حتَّى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع)(2)، فتعالت أصوات الجند حامدةً لله تعالى أن كشف لهم زيف عبيد الله، وفي هذه الأثناء خرج من جانب معاوية بسر بن أرطأة بصحبة عشرين ألف وصاح بقيس ومن معه: (هذا أميركم قد بايع، وهذا الحسن قد صالح فعلام تقتلون أنفسكم؟)(3).

ص: 150


1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 73، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 42 ، وعنه نقل في بحار الأنوار: 44 / 50
2- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 73، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 42، وعنه نُقل في بحار الأنوار: 44 / 51
3- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 73، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 43، وعنه تقل في بحار الأنوار: 44 / 52

فقال قیس بن سعد لمن معه: (اختاروا إحدى اثنتين: إمَّا القتال مع غير إمام، أو تبايعون بيعة ضلال، فقالوا: بل نقاتل بلا إمام، فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردُّوهم إلى مصافِّهم)(1).

فأراد معاوية أن يشتري قيساً كما اشترى عبيد الله بين عباس، فكتب إليه يدعوه ويمنيه، ولكنَّ قیساً أجابه بقلبٍ مطمئن راسخ بالإيمان: (لا والله لا تلقاني أبدا إلّا وبيني وبينك الرمح)(2).

ولمَّا تيقن معاوية من عدم امكانية شراء ولاء قیس بن سعد ولو بذل مهما بذل في ذلك كتب إليه: (أَمَّا بعد فَإنَّما أنت یَهُودِيّ بن يَهُودِيّ، إِن ظفر أحب الْفَرِيقَيْنِ إِلَيْك عزلك، واستبدل بك، وَإِن ظفر أبغضهما إِلَيْك قَتلك، ونكَّل بكَ، وَقد كَانَ أَبوك وتر قوسه، ورميَ غير غرضهِ، فَأكْثر الحزَّ، وَأَخْطَأ الْمفصل، فخذلهُ قومَهُ، وأدرکه يومَه، ثمَّ مَاتَ طریداً بحوران. والسلام)(3).

وواضح في لهجة معاوية في هذه الرسالة حدَّة الغضب الذي ناله جرَّاء امتناع قيس منه، فحاول أن يغيض قيساً بهذه الكلمات لينال منه شيئاً يريح به فؤاده، ولكن أنَّى له ذلك وأمامه فارس من فرسان البلاغة قد لوی عنان الفصاحة حتَّى صارت طوع يده يقلِّبها كيفما شاء، ولذلك لم يدم فرح معاوية حتَّى جاءه الرد الذي هزَّ أركانه، إذ كتب إليه قیس بن سعد:

ص: 151


1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 73، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 43
2- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 73، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 43 بحار الأنوار: 44 / 52، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 346
3- البيان والتبيين: 2 / 58، ينظر باختلاف يسير بالألفاظ : عيون الأخبار، ابن قتيبة: 2 / 232، الكامل في اللغة والأدب: 2 / 87، العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي: 5 / 86، مروج الذهب و معادن الجوهر: 3 / 16 - 17، مقاتل الطالبين: أبو الفرج الأصبهاني (المتوفي: 356 ه): 1 / 74، نثر الدر في المحاضرات: 3 / 18، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 43، بحار الأنوار: 44 / 52، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 346

(أمَّا بعد، فَإنَّك وثن بن وثن، دخلت فِي الإسلام کرها، وَخرجت منهُ طَوْعًا، لم يقدم إيمانك، وَلم يحدث نفاقك، وَقد كَانَ أبي رحمه الله وتر قوسه وَرمي غَرَضه، فشغب عَلَيْهِ من لم يبلغ کعبه، ولم يشق غباره، وَنحن بحمد الله أنصار الدّين الَّذِي خرجتَ مِنْهُ، وأعداءُ الدّين الَّذِي دخلت فيه. والسلام)(1).

فلما قرأ معاوية ردَّ قیس اغتاظ وأراد إجابته، ولكن منعه عمرو بن العاص إذ قال له: (مهلا، إنْ كاتبته أجابك بأشدّ من هذا)(2)، وفي رواية أخرى (قَالَ لَهُ عَمْرو:

أجبه؛ فَقَالَ: أخاف أن يجيبني بها هو أشرّ من هذا)(3).

في هذه الأثناء يغدر أصحاب الشقاق والنفاق بالإمام الحسن (عليه السلام)، بعد أن راسلهم معاوية بن أبي سفيان وبذل لهم المال والجاه، وكان نتيجة ذلك أن صار بعضاً من أهل القبائل يتوجَّهون إلى معاوية قبيلة بعد قبيلة(4)، وكتب جماعة من رؤساء القبائل في السرِّ إلى معاوية بن أبي سفيان بالسمع والطاعة، وأبدوا استعدادهم لتسليمهم الإمام الحسن (عليه السلام)، أو قتله إن شاء ذلك، وقد أرسل معاوية كتبهم هذه إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، مع خبر التحاق عبيد الله بن العباس بعسكره، وقد أردف معاوية مع ذلك طلب الصلح مع الإمام

ص: 152


1- البيان والتبيين: 2 / 58، ينظر باختلاف يسير بالألفاظ: عيون الأخبار، ابن قتيبة ت 276: 2 / 232، جمل من انساب الاشراف ت 279: 3 / 39 - 40، الكامل في اللغة والأدب: 2 / 87، العقد الفريد، ابن عبد ربَّه الأندلسي: 5 / 86، مروج الذهب ومعادن الجوهرت 346: 3 / 16 - 17، مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 74، نثر الدر في المحاضرات: 3 / 18، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 43، بحار الأنوار: 44 / 52، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 346 - 347
2- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 74، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 43، بحار الأنوار: 44 / 52، وفيات الأئمة: 100، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 347
3- جمل من انساب الاشراف: 3 / 40
4- الفتوح: 4 / 289

(عليه السلام) مشترطاً على نفسه شروطاً كثيرة(1)، وأخذ معاوية يُشيع خبر غدر أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) به وتفرَّقهم عنه في جيش قیس بن سعد من أجل إضعاف عزيمتهم، لكنَّ قیس ثبَّتهم وبدأ يُشغلهم بالقتال حتَّى قتلوا وجرحوا من جیش معاوية جماعة كثيرة، وفي المقابل جُرِحَ من أصحاب قيس جماعة أيضاً، ولمَّا نظر معاوية إلى بسالة قيس ومن معه أرسل إليه بأنَّه أتانا خبر يقين بتفرق أهل الكوفة واختلافهم في أمر الحسن (عليه السلام) فعلام القتال؟ ثمَّ دعاه إلى الهدنة حتَّى يتبين له الأمر فأمسك قیس بن سعد عن القتال ينتظر الخبر(2).

ثمَّ إنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) قد طُعن في فخذه الشريف(3)، وقد رأي تفرق الناس عنه وانثيالهم إلى معاوية، طلباً للدنيا التي سارت بركبه، واستحلالهم دمه ونهبهم فسطاطه وماله، ورسائلهم التي كانوا يحثُّون فيها معاوية للمسير إلى الكوفة حتَّى يسلموه هو وإخوته، ورأى أنَّه لم يبقَ معه إلَّا فرقة قليلة من أهل بيته وخاصته من شيعته وشيعة أبيه، وهم لا يقومون بقتال أهل الشام وأهل العراق الذين انضموا إلى معاوية، ولذلك قرَّر أن يُصالح معاوية بن أبي سفيان وفق شروط معينة حفاظاً على من تبقَّى من الثلة المؤمنة(4)، وقد كتب فيما بينه وبين معاوية کتاباً نصُّه:

هذا ما اصطلح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب [عليه السلام] معاوية بن أبي سفیان، صالحه على:

ص: 153


1- ينظر: بحار الأنوار: 44 / 47 - 48
2- ينظر: الفتوح: 4 / 288 - 289
3- ينظر: الفتوح: 4 / 288، مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 72، تاريخ اليعقوبي: 2 / 210، وفيات الأئمة: 101
4- ينظر: وفيات الأئمة: 104

[أولا] أن يسلم إليه الحكم على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الصالحين.

[ثانيا] وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شوری بين المسلمين.

[ثالثا] وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.

[رابعا] وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.

وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه.

[خامسا] وعلى أنه لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غائلة سرا وعلانية، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق، شهد على ذلك عبد الله بن نوفل بن الحارث وعمر بن أبي سلمة وفلان وفلان(1).

فوافق معاوية على الشروط كلها وأعطى الأمان لكلِّ الناس واستثنى من ذلك قیس بن سعد بن عبادة، وكتب في ذلك إلى الإمام الحسن (عليه السلام): (الناس كلُّهم آمنون إلَّا قیس بن سعد، فإنَّه لا أمان له عندي)(2)، وفي رواية أخرى: (إنيِّ قد

ص: 154


1- ينظر: الفتوح: 4 / 290 - 291، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (عليهم السلام)، محمد بن طلحة الشافعي: 357، کشف الغمة في معرفة الأئمة: 2 / 193، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، علي بن محمد أحمد المالكي (ابن الصباغ): 2 / 729، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة: 136، بحار الأنوار: 44 / 65، ينابيع المودة لذوي القربی، القندوزي: 425 - 426
2- الفتوح: 4 / 292

آليت أنِّي متى ظفرت بقیس بن سعد بن عبادة أن أقطع لسانه ويده، فراجعه الحسن [عليه السلام]، وقال: لا أرى أن يطلب قيس وغيره بتبعة قَلَّت أو كثرت فبعث إليه معاوية حينئذ برقٍّ أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه فإنِّي ملتزمه)(1)، وقد أضاف بعضهم شروطاً أخرى اشترطها الإمام (عليه السلام) على معاوية منها: أن يترك سبَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)(2)، وأن يعمل بكتاب الله وسنَّة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يوافي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه(3).

وبذلك حصل الاتفاق على الصلح وأملى الإمام الحسن (عليه السلام) شروطه على معاوية وأشهد عليه شهوداً؛ ولمَّا تمَّ ذلك قرَّر معاوية المسير إلى الكوفة حتَّى يأخذ البيعة من أهلها فاعترضه قیس بن سعد فيمن تبقَّى من عسكر الإمام الحسن (عليه السلام)، ومنعه من التقدِّم نحو الكوفة، قائلاً له: (لا أدعك تسير حتَّى تأتيني من الحسن [عليه السلام] کتاباً)(4)، و(لا أفارق هذا المكان حتَّى يأذن لي الحسن [عليه السلام] بالانصراف)(5)، فأرسل معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السلام) يطلب منه أن يأمر قیس بن سعد بالانسحاب إلى الكوفة لأنَّه يودُّ المسير إليها، وقد أجابه الإمام (عليه السلام) إلى ذلك(6)، وانصرف قیس بن سعد إلى الكوفة قائلاً(7):

ص: 155


1- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 347
2- ينظر: مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصبهاني: 1 / 76، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16 / 42، بحار الأنوار: 44 / 48
3- ينظر: بحار الأنوار: 44 / 56
4- وفيات الأئمة: 105
5- وفيات الأئمة: 105
6- وفيات الأئمة: 103
7- الفتوح: 4 / 292، وقد ذُكر هذان البيتان في مصادر أخرى ولكن بتبديل لفظة (مُسَلِّماَ) ب(مُسَالِمَا) ومنها: مناقب آل أبي طالب: 3 / 196، بحار الأنوار: 44 / 56، مستدرك سفينة البحار: 5 / 494

أتاني بأرض العال من أرض مسكنٍ *** بأنَّ إمام الحقِّ أضحی مسلِّما

فما زلتُ من نُبِئْتُهُ متلدداً *** أراعي نجوماً خاشعً القلب ناجماً

ولمَّا تمَّ الصلح ووصل قيس إلى الكوفة أعتزل في أربعة آلاف فارس وأبي أن يبايع(1)، فأرسل إليه معاوية بن أبي سفيان، فقال لمن أُرسِل إليه: (إنيِّ قد حلفت أن لا ألقاه إلَّا وبيني وبينه الرمح أو السیف)(2)، فأمر معاوية بأن يجعلوا بينه وبين قیس رمحاً أو سيفاً لیبر بیمینه، وعندها دعاه الإمام الحسن (عليه السلام) و أمره بالدخول على معاوية(3)، فلبَّى الأمر ودخل على معاوية بعد أن وضعوا بينه وبين معاوية سيفاً، وهنا طلب معاوية من قيس البيعة، فالتفت قيس إلى الإمام الحسن (عليه السلام) وقال له: (یا بن رسول الله إنَّ لك في عنقي بيعة، وإنِّي والله لا أخلعها أبداً حتَّى تكون أنت الذي تخلعها، فقال له الحسن: «فأنت في حلٍّ وسَعةٍ من بيعتي...» فقال له معاوية: يا قيس إنِّي قد كنت أكره أن تجتمع الناس إليَّ وأنت حي؛ فقال قيس: وأنا والله يا معاوية قد كنت أكره أن يصير هذا الأمر إليك وأنا حي)(4)، ثمَّ قال قيس لمعاوية: (لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبي الله يا ابن أبي سفيان، إلَّا ما أحب، قال: فلا يُردُّ أمر الله؛ قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس لقد اعتضتم الشرَّ من الخير، واستبدلتم الذلَّ من العزِّ، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عمِّ رسول ربِّ العالمين، وقد وليکم الطليق بن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف تجهل ذلك

ص: 156


1- مقاتل الطالبيين: 1 / 79، وعنه نقل في بحار الأنوار: 44 / 54 و وفيات الأئمة: 111
2- مقاتل الطالبيين: 1 / 79، وعنه نقل في بحار الأنوار: 44 / 54 و وفيات الأئمة: 111
3- ينظر: الفتوح: 4 / 292
4- الفتوح: 4 / 292

أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم لا تعقلون)(1)، ثمَّ (جثا معاوية على سريره وأكبَّ على قيس حتَّى مسح يده على يده، فما رفع قيس إليه يده)(2)، فنادى من حضر: (بايع قيس فقال: كذبتم، والله ما بایعت)(3).

فهذا قيس بن سعد الذي شمخ بایمانه عالياً حتَّى قارب عنان السماء، ورسخت عقيدته حتَّى كانت أوثق من الجبال، فلم يستطع معاوية بكلِّ ما أوتي من سلطان وأموال أن يزعزع تلك العقيدة الراسية، فبذل له ما لم يبذله لغيره، إذ أعطاه سلطان العراق مع سلطان مكَّة، مع صكٍّ مختوم يكتب به ما يشاء، لكنَّ قيساً أبى إلَّا رفعة ومجداً، ولم يبدل عزَّ الطاعة بذلِّ المعصية، فصدح شامخاً متأنِّفاً بما أوتي من عزيمة الإيمان وشيمة الإباء رافضاً لكلِّ ما بذله معاوية، ولسان حاله يقول ما عند الله خير وأبقى، فهزم جيشي معاوية اللذان لم يُغلبا المال والسلطان، ورجع خاسئاً وهو حسير يجرُّ أذيال الهزيمة النكراء التي ألحقها به قيس، وليته تعلَّم من قيس قيمة ماله وسلطانه اللذان لم يستطيعا شراء نفس أبية واحدة، لكنَّ معاوية تجبَّر وعتی وراح يزمجر متوعداً قیساً بألوان العذاب علَّه يغلبه بما أوتي من بهرج القوة والبأس الكاذب، إلّا أنَّ قيساَ يسحقه بشجاعة أصيلة وبأس شدید و مراس لا يقام، فيردُّ له الصاع صاعات مثبتاً له أنَّ ساحة الوغى هي الفيصل وفيها يثبت الشجاع، وهنالك هُزمت كلُّ جيوش معاوية وعاد صاغراً ذليلاً رغم أنَّه لم يقهر حتَّى مع عبيد الله بن العباس الذي اشتراه بألف ألف درهم، فيما أبخس الثمن الذي باع به دینه! وبس رجل يبيع آخرته بحفنةٍ من الدراهم سرعان ما يزول بريقها.

ص: 157


1- تاريخ اليعقوبي: 2 / 216 - 217
2- مقاتل الطالبيين: 1 / 79 - 80، وعنه نقل في بحار الأنوار: 44 / 54، وفيات الأئمة: 111
3- تاريخ اليعقوبي: 2 / 216

فكان قيس بهذه الصلابة والشدة وقوة المراس مع العدو، ولكن نجده سهلاً هيناً ليناً مع إمامه متَّبعاً ما يأمره به مسلِّماً بذلك كلَّ التسليم، قد وطَّن نفسه في سبيل إرضاء أئمته، فهو يحارب متي حاربوا ويسالم متى سالموا، لا يتقدَّم على ما وقفوا عليه، ولا يتأخَّر فيما تقدَّموا إليه، وقد سبق أن رأينا ثباته على عقيدته بإمامه الحسن المجتبى (عليه السلام)، على الرغم من غدر عبيد الله بن العباس، وهو ابن عم الإمام الحسن (عليه السلام)، فإنَّه هرع إلى معاوية وباع دينه بحفنة من متاع الدنيا، تاركاً قيادة جند خليفة الله الشرعي الإمام الحسن (عليه السلام)، ليضع نفسه في خانة الغادرين والخائنين، ويفسح الطريق واسعاً أمام شخص آخر يعتلي صهوة جواده ليطلق العنان على رحبه في سماء الفضيلة والعزة والكرامة، ويصنع مجداً جديداً يضمُّه إلى ما سبق، وذلك الشخص هو قیس بن سعد فيتولَّى قيادة العسكر ويصنع من انكسارهم بسبب غدر قائدهم، إلى ثباتٍ وإرادةٍ استطاع معها أن يقابل بما بقي عنده من الجند وهم بضعة آلاف (أقل العشرة) أن يصادم ويحارب بسر بن أرطأة وهو معه عشرين ألفاً، ويردَّه خائبة إلى مواقعه الأولى في الشام، ويستمر مع ذلك رغم كل ما قدَّمه معاوية من اغراءات، لكنَّه يُصرُّ متمسکاً بحبل الله القويم ويشهر سيفه صادحاً بكلِّ ما أوتي من قوةٍ وعزمٍ وشدَّة، لا تهزَّه قلة عدد جنده وكثرة عدوِّه، ولم يبرح من مكانه حتَّى أتاه أمر الإمام الحسن (عليه السلام)، وعندما دخل معاوية الكوفة لم يهزّه جمعه وعديده، ولم يغيِّر رأيه فيه؛ بل زاد من حدَّته وراح يزلزل معاوية بشواظٍ من براكين كلماته اللاهبة، ويُعلن صراحة أمام الملأ أمنيته التي سعى جاهداً إليها، وهي أن يفرِّق بين رأس معاوية وجسده.

وهكذا يصنع قيس مجده مرصَّعاً بجواهر ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ليحلق بعقيدته السامية بعيداً في سماء الفضيلة، تاركاً الدنيا وزينتها للأوغاد عبَّاد الدرهم والدينار.

ص: 158

ثانياً: دوره في حكم معاوية

وبعد أن تمَّ الصلح بين الإمام الحسن (عليه السلام)، وبين معاوية بن أبي سفيان، بدأ حكم بني أمية، وأصبح معاوية حاكماً للمسلمين، وقد اتَّخذ من الشام مرکزاً الحكمه وسلطانه.

أمَّا قیس بن سعد فإنَّه بعد أن وضعت الحرب أوزارها واستتبَّ الوضع لمعاوية، غادر الكوفة إلى المدينة المنورة مسقط رأسه، لكنَّ نقمته على بني أمية ما زالت تتأجج في نفسه، وروحه الثائرة لم تخمد نيرانها، وصوته الولائي لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يهدأ، وإذا القدر قد حكم بغمد سيفه، فإنَّ لسانه ما فتئ يدكُّ حصون الظالمين، ويهتف علانية بالحقِّ المبين، داعياً إلى علي بن أبي طالبٍ وأولاده (عليهم السلام)، ولسان حاله يقول: إن أُمرتُ بترك جهاد السيف، فجهاد الكلمة ما زال موضوعه حاضراً، وساحته مفتوحة للمبارزة، وهو أعظم الجهاد عندما يكون مع سلطان جائر، بحسب ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»(1)، ولذلك فإنَّ قیس بن سعد راح يُصرِّح بصوت مجلجلٍ ببطلان حكم معاوية بن أبي سفيان، ونشر فضائل الإمام علي بن أبي طالب وأولاده (عليهم السلام)، فكان منبراً حياً لنشر معالم الإسلام الحقيقي، فاضحاً مخططات بني أمية وزعيمهم معاوية بن أبي سفيان.

وكان يتحين الفرص التي تجمعه بمعاوية لينطلق بلسان أمضى من السيف يجرِّد عنه لباس شرعية الحكم التي يزعمها لنفسه، فكان وقع لسان قيس عليه أشدُّ من السيف، وأمضى من الرمح.

ص: 159


1- مسند أحمد بن حنبل: 17 / 228، السنن الكبرى، النسائي: 7 / 193، شعب الإهان: 10 / 67

وقد ذكر لنا التاريخ مواقفاً لقيسٍ مع معاوية بن أبي سفيان، ومن تلك المواقف:

روى «أبان عن سليم وعمر بن أبي سلمة - حديثهما واحد، هذا وذلك - قالا: قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) وصالح الحسن (عليه السلام). فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار. فسأل عن ذلك، فقيل له: (إنَّهم محتاجون ليست لهم دواب) فالتفت معاوية إلى قیس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار، ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟ فقال قيس -وكان سيد الأنصار وابن سيدهم -: أقعدنا - يا أمير المؤمنين - أن لم تكن لنا دواب فقال معاوية: فأين النواضح؟ فقال قيس: أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد رسول الله حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم کارهون.

قال معاوية: اللهمَّ غفرا؛ قال قيس: أما إنَّ رسول الله قال: (إنَّكم سترون بعدي إثرة). فقال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتَّى نلقاه؛ فقال: فاصبروا حتَّى تلقوه.

ثمَّ قال قيس: یا معاوية، تعيرنا بنواضحنا؟ والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا؛ ثمَّ دخلت أنت وأبوك كرهاً في الإسلام الذي ضربناكم عليه.

فقال له معاوية: كأنَّك تمن علينا بنصرتك إيَّانا، والله لقريش بذلك المن والطول. ألستم تمنُّون علينا يا معشر الأنصار - بنصرتكم رسول الله وهو من قريش وهو ابن عمنِّا ومنَّا؟ فلنا المن والطول إذ جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداکم بنا.

فقال قيس: إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعث محمداً رحمةً للعالمين، فبعثه إلى الناس كافة، إلى الجن والأنس والأحمر والأسود والأبيض، واختاره لنبوته واختصه برسالته.

ص: 160

فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب وكان أبو طالب عمه يذب عنه ويمنع منه ويحول بين كفار قريش وبينه أن يروعوه أو يؤذوه، ويأمره بتبليغ رسالات ربه، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه علياً بموازرته ونصرته، فوازره علي ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة وكل ضيق وكل خوف، واختص الله بذلك علياً من بين قريش وأكرمه من بين جميع العرب والعجم، فجمع رسول الله صلى الله عليه و آله جميع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب وأبو لهب، وهم يومئذ أربعون رجلا فدعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخادمه يومئذ علي (عليه السلام)، ورسول الله يومئذ في حجر عمه أبي طالب، فقال: «أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي»، فسكت القوم حتى أعادها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات. فقال علي عليه السلام: «أنا يا رسول الله، صلى الله عليك». فوضع رسول الله رأس علي في حجره وتفل في فيه وقال: «اللهم املأ جوفه علما وفهما وحكما». ثم قال لأبي طالب: «یا أبا طالب، اسمع الآن لابنك علي وأطع، فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسی». وآخي بين الناس وآخى بين علي وبين نفسه.

فلم يدع قیس بن سعد شيئا من مناقبه إلا ذكرها واحتج بها وقال: منهم أهل البيت جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنَّة بجناحين، اختصَّه الله بذلك من بين الناس، ومنهم حمزة سيد الشهداء، ومنهم فاطمة سيدة نساء العالمين. فإذا وضعت من قريش رسول الله وأهل بيته وعترته الطيبين، فنحن والله خير منكم يا معشر قریش - وأحب إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته منکم.

لقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاجتمعت الأنصار إلى والدي سعد ثمَّ قالوا: (لا نبایع غير سعد). فجاءت قريش بحجَّة علي وأهل بيته وخاصمونا بحقِّه وقرابته من رسول الله (صلى الله علیه و آله)، فما يعدو قريش أن يكونوا ظلموا

ص: 161

الأنصار أو ظلموا آل محمد (عليهم السلام). ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا القريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق ولا نصيب مع علي بن أبي طالب وولده من بعده.

فغضب معاوية وقال: يا بن سعد، عمَّن أخذت هذا وعمَّن رويته وعمَّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس: سمعته وأخذته ممَّن هو خير من أبي وأعظم عليَّ حقَّاً من أبي؛ قال: ومن هو؟ قال: ذاك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عالم هذه الأمة وديَّانها وصديقها وفاروقها الذي أنزل الله فيه ما أنزل وهو قوله عز وجل: «.. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(1)، فلم يدع قیس آية نزلت في علي عليه السلام إلَّا ذكرها.

فقال معاوية: فإن صديقها أبو بكر وفاروقها عمر، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال قيس: أحق بهذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ..»(2)، والذي أنزل الله جل اسمه فيه: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»(3)، والله لقد نزلت: (وعلي لكل قوم هاد)، فأسقطتم ذلك، والذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدیر خم فقال: «من کنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه»، وقال له رسول الله في غزوة تبوك: «أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي»(4).

فهذه الحادثة تكشف بصورة واضحة عن هوى الأنصار الذي كان يتعارض مع بني أمية متمثلة بمعاوية بن أبي سفيان، ولذلك فهم لم يخرجوا لاستقباله، إضافة إلى

ص: 162


1- الرعد: 43
2- هود: 17
3- الرعد: 7
4- كتاب سليم بن قيس: 311 - 314، وعنه في بحار الأنوار: 33 / 173 - 176

ذلك تكشف هذه الواقعة أنَّ الأنصار ما زالوا يميلون إلى كفَّة آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك كان خلافهم مع بني أميَّة خلاف عقيدة، إلَّا أنَّ معاوية أراد أن يصدر الخلاف بين قریش والأنصار على أنَّه خلاف قبلي، مدعياً أفضلية قریش على الأنصار بوصفها قبيلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك أراد أن يُلبس نفسه جلباب الشرعية للخلافة بوصفه ابن عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليعكس بذلك ثقافته الجاهلية التي ما زالت مترسِّخة في نفسه.

ولمَّا أتمَّ معاوية حديثه وتفاخره أجابه قیس بن سعد رادَّاً عليه وموضحاً له رأي الإسلام فيما ادَّعاه، ليبين له أنَّه شخصية إسلامية نمت وترعرعت في تعاليمه وثقافته بخلاف معاوية الذي شبَّ وشاب على عدائه، وقد انطلق في ذلك من تذکیر معاوية بتاريخه هو وأبيه العدائي للإسلام، وكيف أنَّهما دخلاه کرهاً عندما عزَّ ولم يكن لهما نصيرٌ أو بدٌّ في البقاء سوى إعلان الإسلام على كرهٍ منهما.

ثمَّ بين لمعاوية نظرية الإسلام في الأفضلية بين الناس، ومن هو أحقّ بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو المبعوث رحمة للعالمين إلى الناس كافَّة بصنوفهم وألوانهم، فكان الأحقُّ به من اتَّبعه دون سواه، وأوَّل من اتَّبعه هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولذلك فهو الأحقُّ به، وأستدل عليه بحديث الدار ثمَّ بدأ بتعداد فضائل الإمام علي (عليه السلام) الواحدة تلو الأخرى، لينتهي ببيان اختصاص الإمام علي وأولاده (عليهم السلام) بالخلافة دون غيرهم من الناس، ثمَّ أعقب هذه النتيجة باستدلال من نوع آخر وهو الآيات القرآنية التي تبين فضيلة الإمام علي (عليه السلام) وأحقِّيته بالخلافة دون سواه.

وبدء قیس بن سعد في استدلاله وحجاجه مع معاوية بن أبي سفيان بالسُّنة النبوية ثمَّ الختام بالقرآن الكريم، يدلُّ دلالة واضحة على علم قيس ودقة نظره، فهو قدَّم السُّنة النبوية لأنَّها قطعية الدلالة لا يشوبها تعدد التأويلات، وأخَّر القرآن

ص: 163

الكريم لأنَّه يحتمل التأويل، وبذلك يكون لمعاوية سعة في المناورة، ولكنَّه قطع عليه الطريق بذلك، على أنَّ معاوية أراد أن يناور في الجولة الأخيرة ليحفظ شيئاً من ماء الوجه، فأراد أن يحرف لقب الصديق إلى أبي بكر، ولقب الفاروق إلى عمر، إلَّا أنَّ قيساً انهال عليه بذكر الآيات الواحدة تلو الأخرى مع تأويلها المختص بالإمام علي (عليه السلام)، ولم يكن لمعاوية من بدٍ سوى القبول بالهزيمة النكراء وجرِّ أذيال الخيبة والخسران.

وهكذا كان قيس يجاهد أفضل الجهاد وأعظمه عندما كان يقول الحقَّ بوجه طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان في زمن قد أخرس الألسن الخوف أو المال أو الجاه، وهو لم يخف من جبروت معاوية، وكذلك لم تخرسه دراهم ودنانير معاوية؛ فكان نعم المجاهد.

ومن مواقفه مع معاوية ما ذكرته بعض كتب التاريخ بما نصُّه: (دَخَلَ قَيْسُ بنُ سَعْدٍ فِي رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ بِمَا تَطْلُبُوْنَ مَا قِبَلِي؟ فَوَ اللهِ لَقَدْ كُنْتُمْ قَلِيْلاً مَعِي، كَثِيْراً عَلَيَّ، وَأَفْلَلْتُمْ حَدِّي يَوْمَ صِفِّيْنَ، حَتَّى رَأَيْتُ المَنَايَا تَلَظَّى فِي أَسِنَّتِکُم، وَهَجَوْتُمُوْنِي، حَتَّى إِذَا أَقَامَ اللهُ مَا حَاوَلْتُم مَيْلَهُ، قُلْتُم: ارْعَ فِيْنَا وَصِيَّةَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - هَيْهَاتَ یَأْبَی الحَقِیْنُ العِذْرَةَ(1).

فَقَالَ قَيْسٌ: نَطْلُبُ مَا قِبَلَكَ بِالإِسْلاَمِ الكَافِي بِهِ اللهُ مَا سِوَاهُ، لاَ بِمَا تَمُتُّ بِهِ إِلَيْكَ الأَحْزَابُ، فَأَمَّا عَدَاوَتُنَا لَكَ، فَلَو شِئْتَ کَفَفْتَهَا عَنْكَ، وَأَمَّا الهِجَاءُ فَقَوْلٌ یَزُوْلُ بَاطِلُهُ، وَيَثْبُتُ حَقُّهُ، وَأَمَّا اسْتِقَامَةُ الأَمْرِ عَلَيْكَ فَعَلَی کُرْهٍ مِنَّا، وَأَمَّا فَلُّنَا حَدَّكَ، فَإِنَّا

ص: 164


1- حقن: الحَقين: اللَّبَنُ المَحقونُ فِي مِحْقَنٍ، وحَقَنْتُه: جَمَعْتُه في سِقاء ونحوِه. و(أَبَي الحَقيُن العِذْرة) مَثل أصلُه أنّ أعرابياً أَتَى حَيّاً فسألهم اللَّبَن، فقيل له: ما عندَنا لَبَنٌ، فالتفت إلى سِقاء فيه لبن فقال: یأبَي الحَقينُ العِذْرة، أي يأبَى الحقين أنْ أقبَلَ عُذْرَكم. ينظر: العين: 3 / 50، الدلائل في غريب الحديث، قاسم بن ثابت السرقسطي: 3 / 1066

کُنَّا مَعَ رَجُلٍ نَرَی طَاعَتَهُ لله، وَأَمَّا وَصِيَّةُ رَسُوْلِ الله (صَلَّى اللهَّ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) بِنَا، فَمَنْ أَبِهِ رَعَاهَا، وَأَمَّا قَوْلُكَ: یَأْبَی الحَقِیْنُ العِذْرَةَ، فَلَيْسَ دُوْنَ الله يَدٌ تَحْجُزُكَ، فَشَأْنُكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: سَوْءةً، ارْفَعُوا حَوَائِجَكُم)(1). وأُضِیف على ما سبق قول القيس: (فدونك أمرك يا معاوية؛ فإنَّما مثلك كما قال الشاعر:

يا لكِ مِنْ قُبّرَةٍ بمَعْمَرِ *** خلالكِ الجوّ، فبِيضي واصْفِري(2))(3).

فما كان من أمر معاوية بعد أن حاججه قیس بلسان طلق لا يهاب سلطان الجور والظلم إلَّا الشتم، فقال له: سَوْءةً، وهي: (كلُّ عملٍ وأَمرٍ شائن؛ تَقول: سَوْءَةً لفُلَان؛ نَصْبٌ لأنَّه شَتْمٌ ودُعاء)(4)، وهذه عادة أهل الباطل عندما يُلجمون بالحجَّة والبرهان، فإنَّهم يلجؤون إلى الشتم، لأنَّه لا وسيلة لهم سواه.

وفي حادثة أخرى التقى قيس بمعاوية وجرت بينهما المحاورة الآتية:

(وَأَنْتَ يَا قَيْسُ تُلْجِمُ عَلَيَّ مَعَ مَنْ أَلْجَمَ، أَمَا وَاللهَّ لَقَدْ كنت أحب أن لا تأتيني هَذَا الْيَوْمَ إِلَّا وَقَدْ ظَفِرَ بِكَ ظُفْرٌ مِنْ أَظَافِرِي مُوجِعٌ، فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: وَأَنَا وَالله قَدْ کُنْتُ کَارِهًا أَنْ أَقُومَ فِي هذا المقام فَأُحَیِّیَكَ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَلِمَ؟ وهلِ أنت إلا حبر من أَحْبَارِ اليَهُود؟ فَقَالَ لَهُ قَیْسٌ: وَأَنْتَ يَا مُعَاوِيَةُ كُنْتَ صَنَمًا مِنْ أَصْنَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ كَارِهًا، وَخَرَجْتَ مِنْهُ طَائِعًا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، مُدَّ يَدَكَ، فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: أنَّ شِئْتَ. زِدْتَ وَزِدْتُ)(5).

ص: 165


1- جمل من أنساب الأشراف: 5 / 56 - 75، العقد الفريد: 4 / 119 - 120، مروج الذهب ومعادن الجوهر: 3 / 17، الإمتاع والمؤانسة: 1 / 383 - 384، تاریخ دمشق: 49 / 430 - 931، سير أعلام النبلاء: 3 / 113 - 112
2- دیوان طرفة بن العبد، تحقيق مهدي محمد ناصر الدين: 1 / 49
3- العقد الفرید: 4 / 120
4- تهذيب اللغة: 13 / 90
5- تاریخ دمشق: 49 / 399، البداية والنهاية: 11 / 354 - 355

فمعاوية في هذه المحادثة يهدد قیس بن سعد، ويأمره بالسكوت عنه وعدم التعرض له، فيقول له: (وَأَنْتَ یَا قَیْسُ تُلْجِمُ عَلَيَّ مَعَ مَنْ أَلْجَمَ)، واللجام: (حبْلٌ أَو عَصًا تُدْخَل فِي فَمِ الدَّابَّةِ وتُلْزق إِلى قَفَاهُ)(1)، وجاء معاوية بهذا التمثيل ويقصد به أمراً لقيس بأن يلجم فاه ولا يتكلم عليه، أي يغلقه.

لكنَّ قیساً ردَّ عليه ردَّاً عنيفاً وكان دائماً يذکِره بأنَّه دخل إلى الإسلام کرهاً، ولم يدخله عن اختيارٍ أو صدق نية، وخرج منه طائعاً، وهنا قیس بن سعد يؤكِّد نفاق معاوية بن أبي سفيان، ولمَّا سمع معاوية منه ذلك خفَّف من وطأة كلامه، فقال: (اللهمَّ غفرا)، لكنَّ قیساً زاد من حدَّة لسانه وقال له: (أنَّ شِئْتَ. زِدْتَ وَزِدْتُ)، کُلَّما تُزيد في شتمي أُزيد بفضحك، وبيان حقيقتك.

وهكذا يستمر قیس بن سعد بجهاده الذي بدأه مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ جهاد الكلمة مع الحكومات التي تلت استشهاد رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، وقد سبق أن عرضنا مواقفه مع أبي بكر وعمر، وكيفية تصدِّيه لأبي بكر في أول صعود له على منبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، في جملة من أعترض على حكم أبي بكر، وكذلك تصدِّيه لعمر بن الخطاب في أكثر من حادثة.

ثمَّ انتقل إلى جهاد السيف قارناً معه جهاد الكلمة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فتصدى للناكثين والقاسطين والمارقين بكلِّ شجاعة بل وقوة بأس.

ثمَّ يستمر بالوتيرة نفسها مع الإمام الحسن (عليه السلام) في خلافته فيتصدَّى لطغيان معاوية وحزبه من أهل الشام، وهو في كلِّ مراحل الجهاد السابقة يحتلُّ الصدارة والقيادة والرياسة.

ص: 166


1- لسان العرب: 12 / 543

فهو مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حاملاً لراية الأنصار وقائداً في بعض الغزوات، ومع الإمام علي (عليه السلام) في مقدِّمة جيشه وقائداً لشرطة الخميس، ومع الإمام الحسن (عليه السلام) قائداً للجند كذلك بعد أن انسحب عبيد الله بن العباس إلى معاوية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كلِّه. فهو على طول خطِّه الجهادي في الخطِّ الأول للمواجه، مضحياً بكلِّ شيء نصرة للإسلام.

ولم يستطع معاوية بما أوتي من مال وسلطان، أن يزعزع إيران قیس، أو يشتري ولاءه، وعلى طول خطِّ المعركة، بدءاً من خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ثمَّ خلافة الإمام الحسن (عليه السلام)، وانتهاءً بوفاته (رضوان الله عليه).

فكان نعم الصحابي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونعم الموالي لأمير المؤمنين علي وأولاده (عليهم السلام)، ولإخلاصه في صحبته وموالاته حفظ التاريخ له جهاده، وأصبح جوهرةً لامعةً في جبينه تُضيئ بالإخلاص للعقيدة وصدق النية، وسلامة المبدأ، فهنيئاً له جهاده وإخلاصه، وهنيئاً له أجره عند الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين....

ص: 167

ص: 168

المصادر والمراجع

- أبواب (رجال الطوسي)، الشيخ الطوسي، المتوفي: 460، تحقيق: جواد القيومي الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط: 1، رمضان المبارك 1415 ه.

- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (المتوفي: 548)، تحقيق: تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف، 1386 ه - 1966 م.

- الأخبار الطوال، أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (المتوفي: 282 ه)، تحقيق: عبد المنعم عامر، مراجعة: الدكتور جمال الدين الشيال، دار إحياء الكتب العربي - عیسی البابي الحلبي وشركاه / القاهرة، ط: 1، 1960 م.

- الاختصاص، الشيخ المفيد، (المتوفي: 413 ه)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، السيد محمود الزرندي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، ط: 2، 1414 ه - 1993 م.

- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، الشيخ الطوسي المتوفي: 460 ه، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، تصحیح و تعلیق: میر داماد الأسترابادي، مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، (د ط)، 1404 ه.

- الأربعين في حب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، علي أبو معاش، دار الاعتصام، (د ط)، 1428 ه.

ص: 169

- إرشاد القلوب، الحسن بن محمد الديلمي، (المتوفَّى في القرن الثامن)، انتشارات الشريف الرضي، أمير - قم، ط: 2، سنة الطبع: 1415 - 1374 ش.

- الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري الدرعي الجعفري السلاوي (المتوفى: 1315 ه)، تحقيق: جعفر الناصري / محمد الناصري، دار الكتاب - الدار البيضاء، (د ط)، (د ت).

- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفي: 463 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط: 1، 1412 ه - 1992 م.

- أسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفي: 630 ه)، تحقيق: علي محمد معوض - عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، ط: 1، (د ت).

- الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفي: 852 ه)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 1، 1415 ه - الأعلام من الصحابة والتابعين، الحاج حسين الشاكري، ستارة - قم، ط: 2، 1418 ه.

- الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (المتوفي: 1396 ه)، دار العلم للملايين، ط: 15، أيار / مايو 2002 م.

- أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، (المتوفي: 1371 ه)، تحقیق وتخریج: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات - بيروت - لبنان، (د ط)، (د ت).

ص: 170

- الاقتصاد، الشيخ الطوسي، (المتوفي: 460 ه)، مطبعة الخيام - قم، منشورات مكتبة جامع چهلستون - طهران، (د ط)، 1400 ه.

- أقسام المولى، الشيخ المفيد، (المتوفي: 413 ه)، تحقيق: الشيخ مهدي نجف، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، (د ط)، 1414 ه - 1993 م.

- إكليل المنهج في تحقيق المطلب، محمد جعفر بن محمد طاهر الخراساني الكرباسي، تحقيق : السيد جعفر الحسيني الاشكوري، المتوفي: 1175، دار الحديث للطباعة والنشر، ط: 1، 1425 ه - 1383 ش.

- الأمالي، الشيخ الطوسي (المتوفي: 460 ه)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع - قم، ط: 1، 1414 ه.

- الإمامة والرد على الرافضة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران الأصبهاني (المتوفي: 430 ه)، تحقيق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة / السعودية، ط: 2، 1415 ه - 1994 م.

- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري (المتوفي: 279 ه)، تحقيق: طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، (د ط)، (دت).

- الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي (المتوفى: 1370 ه)، مكتبة الحيدرية - نجف الأشرف، الطبعة: الثانية، 1381 ه - 1992 م.

- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، (المتوفي: 1111 ه)، مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان، ط: 2 مصححة، 1403 - 1983 م.

- البدء والتاريخ، المطهر بن طاهر المقدسي (المتوفي: نحو 355 ه)، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعید، (د ط)، (دت).

ص: 171

- البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفي: 774 ه)، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط: 1، 1408 ه، ه - 1988 م.

- البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، المتوفى: 1107 ه، تحقیق: قسم الدراسات الاسلامية / مؤسسة البعثة - قم، (د ط)، (د ت).

- بشارة المصطفی، محمد بن أبي القاسم الطبري (المتوفي: 525 ه)، تحقيق: جواد القيومي الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط: 1، 1420 ه.

- البصائر والذخائر ، أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (المتوفي: نحو 400 ه)، تحقيق: د / وداد القاضي، دار صادر - بيروت، ط: 1، 1908 ه - 1988 م.

بغية الطلب في تاريخ حلب، عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي، کمال الدين ابن العديم (المتوفي: 660 ه)، تحقيق: د. سهیل زکار، دار الفكر، (د ط)، (د ت).

- البيان والتبيين، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255 ه)، دار ومكتبة الهلال، بيروت، (د ط)، 1423 ه.

- تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 ه)، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، (د ط)، (د ت).

- تاریخ ابن الوردي، عمر بن مظفر بن عمر بن محمد ابن أبي الفوارس، أبو حفص، زين الدين ابن الوردي المعري الكندي (المتوفى: 749 ه)، دار الكتب العلمية - لبنان بیروت، ط: 1، 1417 ه - 1996 م.

ص: 172

- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَایْماز الذهبي (المتوفى: 748 ه)، تحقيق، عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي، بیروت، ط: 2، 1413 ه - 1993 م.

- تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، محمد بن جریر بن یزید بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 ه)، دار التراث - بيروت، ط: 2، 1387 ه.

- تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي (المتوفى: 284 ه)، دار صادر - بيروت - لبنان (د ط)، (د ت).

تاریخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفي: 463 ه)، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط: 1، 1422 ه - 2002 م.

- تاریخ خليفة بن خیاط، أبو عمرو خليفة بن خیاط بن خليفة الشيباني العصفري البصري (المتوفى: 240 ه)، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، دار القلم مؤسسة الرسالة - دمشق بيروت، ط: 2، 1397.

- تاریخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (المتوفي: 571 ه)، تحقیق، عمرو بن غرامة العمر وي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د ط)، 1415 ه - 1995 م.

- تجارب الأمم وتعاقب الهمم، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسکویه (المتوفي: 421 ه)، تحقيق، أبو القاسم إمامي، سروش، طهران، ط: 2، 2000 م.

ص: 173

- التحرير الطاووسی، حسن بن زين الدين العاملي، ( المتوفي: 1011 ه)، تحقيق: فاضل الجواهري، سيد الشهداء (ع) - قم، (د ط)، 1411 ه.

التدوين في أخبار قزوین، عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي القزويني (المتوفى: 623 ه)، تحقیق، عزیز الله العطاردي، دار الكتب العلمية، (د ط)، 1408 ه - 1987 م.

- تذكرة الحفاظ (أطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان)، أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، المعروف بابن القيسراني (المتوفى: 507 ه)، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الرياض، ط: 1، 1415 ه - 1996 م.

- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، أبو محمد، زكي الدين المنذري (المتوفي: 666 ه)، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 1، 1917 م.

- تهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفي: 676 ه)، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ومقابلة أصوله: شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، (د ط)، (د ت).

- تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 ه)، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، ط: 1، 1329 ه.

- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي (المتوفي: 742ه)، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط: 1، 1400 ه - 1980 م.

ص: 174

- تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 ه)، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 1، 2001 م.

- الثقات، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354ه)، راقب طباعته: الدكتور محمد عبد المعید خان مدیر دائرة المعارف العثمانية، وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، دائرة المعارف العثمانية بحیدر آباد الدين الهند، ط 1، (1393 ه - 1973 م).

- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429 ه)، الناشر: دار المعارف - القاهرة، (د ط)، (د ت).

- ثمرات الأوراق (مطبوع بهامش المستطرف في كل فن مستظرف للشهاب الأبشيهي)، ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي (المتوفى: 837 ه)، مكتبة الجمهورية العربية، مصر، (د ط) (د ت).

- جامع الأصول في أحاديث الرسول، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - التتمة تحقيق بشير عيون، مكتبة الحلواني - مطبعة الملاح - مكتبة دار البيان، ط: 1، (د ت).

- جامع الرواة، محمد علي الأردبيلي، (المتوفي: 1101 ه)، مكتبة المحمدي (د ط)، (د ت).

- الجامع الكبير - سنن الترمذي، محمد بن عیسی بن سَوْرة بن موسی بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279 ه)، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، (د ط)، 1998 م.

ص: 175

- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقیق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط: 1، 1422 ه.

- الجرح والتعديل، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327 ه)، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحیدر آباد الدكن - الهند، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط: 1، 1271 ه 1952 م - الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، أبو الفرج المعافي بن زکریا بن يحيى الجريرى النهرواني (المتوفي: 390 ه)، تحقيق: عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط: 1، 1426 ه - 2005 م.

- الجمل، الشيخ المفيد (المتوفي: 413 ه)، مكتبة الداوري - قم - ایران، (د ط)، (د ت).

- جمل من أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري (المتوفي: 279 ه) تحقیق : سهیل زکار ورياض الزركلي، دار الفكر - بيروت، ط1، 1417 ه - 1996 م.

- جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية بيروت - لبنان، (د ط)، (د ت).

- جواهر الكلام، الشيخ الجواهري (المتوفي: 1266 ه)، تحقیق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، خورشید دار الكتب الإسلامية - طهران، ط: 2، 1365 ش.

ص: 176

- الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة، محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن موسی الأنصاري التِّلمساني المعروف بالبُرِّي (المتوفي: بعد 645 ه)، نقحها وعلق عليها: د محمد التونجي، الأستاذ بجامعة حلبدار، الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع - الرياض ط: 1، 1403 ه - 1983 م.

- حديث الزهري، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف العوفي، الزهري، القرشي، أبو الفضل البغدادي (المتوفى: 381 ه)، دراسة وتحقيق: الدكتور حسن بن محمد بن علي شبالة البلوط، أضواء السلف، الرياض، ط: 1، 1418 ه – 1998 م.

- حياة الصحابة، محمد یوسف بن محمد إلياس بن محمد إسماعيل الكاندهلوي (المتوفي: 1384 ه)، حققه، و ضبط نصه، وعلق عليه: الدكتور بشار عوّاد معروف، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط: 1، 1420 ه - 1999 م.

- خاتمة المستدرك، میرزا حسين النوري الطبرسي، المتوفي: 1320، تحقیق: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، ستارة - قم، ط: 1، رجب 1415 ه.

- خصائص الأئمة، الشريف الرضي، (المتوفي: 406 ه)، تحقيق: محمد هادي الأميني، مجمع البحوث الإسلامية - الآستانة الرضوية المقدسة - مشهد - إيران، (د ط)، ربيع الثاني 1406 ه.

- خلاصة الأقوال العلامة الحلي، المتوفي: 726 ه، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط: 1، 1417 ه.

الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 ه)، دار الفكر - بيروت، (د ط)، (د ت).

ص: 177

- الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي (المتوفي: 664 ه )، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، (د ط)، (د ت).

- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، السيد علي خان المدني الشيرازي (المتوفي: 1120)، تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، منشورات مكتبة بصيرتي - قم، (د ط)، 1397 ه.

- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد بن الحسين بن علي بن موسی الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 ه)، دار الكتب العلمية - بیروت، ط: 2، 1405 ه.

- الدلائل في غريب الحديث، قاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي، أبو محمد (المتوفي : 302 ه)، تحقيق: د. محمد بن عبد الله القناص، مكتبة العبيكان، الرياض ط 1، 1422 ه - 2001 م.

- ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفي: 808 ه)، تحقيق: خليل شحادة، دار الفکر، بیروت، ط: 2، 1408 ه - 1988 م.

- دیوان طرفة بن العبد، طَرَفَة بن العَبْد بن سفیان بن سعد البكري الوائلي أبو عمرو الشاعر الجاهلي (المتوفى: 564 م)، تحقيق: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، ط: 3، 1423 ه - 2002 م.

- ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، جار الله الزمخشري (المتوفي 583 ه)، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط: 1، 1412 ه.

ص: 178

- رجال ابن داود، ابن داود الحلي (المتوفى: 740)، تحقيق: تحقیق وتقديم: السيد محمد صادق آل بحر العلوم، منشورات مطبعة الحيدرية - النجف الأشرف ظن، (د ط)، 1392 ه - 1972 م.

- الرجال، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المتوفي: 274 ه، چاپخانه دانشگاه تهران، (د ط)، (د ت).

- رسالة في معنى المولى، الشيخ المفيد، (المتوفي: 413 ه)، تحقيق: الشيخ مهدي نجف، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، ط: 2، 1414 ه - 1993 م.

- الرَّوضُ البَاسمْ في الذِّبِّ عَنْ سُنَّةِ أبي القَاسِم -صَلَّى اللهَّ عَلَیْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - (وعليه حواشٍ لجماعةٍ من العلماء منهم الأمير الصّنعاني)، ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضی بن المفضل الحسني القاسمي (المتوفى: 890 ه)، اعتني به: علي بن محمد العمران، فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، (د ت)، (د ط).

- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري (ت 508 ه)، تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي - قم، (د ط)، (د ت).

- الرياض النضرة في مناقب العشرة، أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبري (المتوفى: 694 ه)، دار الكتب العلمية، (د ت).

- سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفي: 942 ه)، تحقیق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، ط: 1، 1414 ه - 1993 م.

ص: 179

- سراج الملوك، أبو بكر محمد بن محمد ابن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي (المتوفي: 520 ه)، من أوائل المطبوعات العربية - مصر، 1289 ه، 1872 م.

- سعد السعود، السيد ابن طاووس، المتوفي: 664 ه، منشورات الرضي - قم، (د ط)، 1363 ه.

- السقيفة وفدك، الجوهري (المتوفي: 323)، تقدیم و جمع وتحقيق: الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني، شركة الكتبي للطباعة والنشر - بيروت - لبنان، ط: 2، 1413 ه - 1993 م.

- سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي المكي (المتوفى: 1111 ه) تحقیق، عادل أحمد عبد الموجود علي محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 1، 1419 ه - 1998 م.

- سنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه یزید (المتوفى: 273 ه)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، (د ط)، (د ت).

- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا - بیروت، (د ط)، (د ط).

- السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303 ه)، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعیب الأرناؤوط، عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط: 1، 1421 ه - 2001 م.

ص: 180

- سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَایْماز الذهبي (المتوفى: 748 ه)، دار الحديث - القاهرة، (د ط)، 1427 ه - 2006 م.

- السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، أبو الفرج، نور الدين ابن برهان الدين (المتوفى: 1044 ه)، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 2، 1427 ه.

- شجرة طوبی، الشيخ محمد مهدي الحائري، (المتوفي: 1369 ه)، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، ط: 5، محرم الحرام 1385 ه.

- شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، (المتوفي: 1411 ه)، تحقيق: تعليق: السيد شهاب الدين المرعشي النجفي / تصحیح: السيد إبراهيم الميانجي، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قم - إيران، (د ط)، (د ت).

- شرح السنة، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفي: 516 ه)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت، ط: 2، 1403 ه - 1983 م.

- شرح العقيدة الطحاوية، صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفي: 792 ه)، تحقيق: جماعة من العلماء، تخریج: ناصر الدين الألباني، دار السلام للطباعة والنشر التوزيع والترجمة، ط: 1، 1426 ه - 2005 م.

- شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، أبو حامد، عز الدين (المتوفي: 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهیم، دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، (د ط)، (د ت).

ص: 181

- الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفي: 360 ه)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن - الرياض السعودية ط: 2، 1420 ه - 1999 م.

- شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسی الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 ه)، حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، أشرف على تحقيقه و تخریج أحاديثه: مختار أحمد الندوي، صاحب الدار السلفية ببومباي - الهند، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط: 1، 1423 ه - 2003 م.

- شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، نشوان بن سعيد الحميري اليمني (المتوفي: 573 ه)، د حسين بن عبد الله العمري - مطهر بن علي الإرياني - د یوسف محمد عبد الله، دار الفكر المعاصر (بيروت - لبنان)، دار الفكر (دمشق - سورية) ط 1، 1420 ه - 1999 م - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفي: 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م - الصحیح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)، السيد جعفر مرتضى العاملي، دفتر تبلیغات إسلامي، ط: 1، 1430 - 1388 ه - الصحیح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، السيد جعفر مرتضی العاملي، دار الحديث للطباعة والنشر - قم - ایران، ط: 1، 1426 - 1385 ش.

ص: 182

- صحيفة الحسن (عليه السلام)، جمع الشيخ جواد القيومي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، (ط: 1)، سنة الطبع: 1375 ش - الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة، الشهيد نور الله التستري، (المتوفي: 1019 ه)، تحقيق: السيد جلال الدين المحدث (د ط)، 1367 ه.

- الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام، أبو العباس (المتوفي: 976 ه)، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي - کامل محمد الخراط، مؤسسة الرسالة - لبنان، ط: 1، 1417 ه - 1997 م.

- الطبقات الکبری، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد (المتوفى: 230 ه)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت / ط: 1، 1410 ه - 1990 م.

- طرائف المقال، السيد علي البروجردي (المتوفي: 1313 ه)، تحقيق: السيد مهدي الرجائي مع مقدمة آية الله العظمى المرعشي النجفي / إشراف: السيد محمود المرعشي، بهمن - قم، ط: 1، 1410 ه.

- طلبة الطلبة، عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، أبو حفص، نجم الدين النسفي (المتوفي: 537 ه)، المطبعة العامرة، مكتبة المثنى ببغداد، (د ط)، (د ت).

- العقد الفريد، أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدیر بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفي: 328 ه)، دار الكتب العلمية - بیروت، ط: 1، 1404 ه.

ص: 183

- علي في الكتاب والسنة والأدب، الحاج حسين الشاكري، مطبعة ستاره، مراجعة:

فرات الأسدي، ط: 1، 1418 ه.

- العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 ه)، تحقيق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، (د ت).

- عيون الأخبار، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفي: 276 ه)، دار الكتب العلمية - بيروت، (د ط)، 1418 ه.

- الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي المتوفي: 283، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني الأرموي المحدث، (د ط)، (د ت).

- غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام، السيد هاشم البحراني (المتوفي: 1107 ه)، تحقيق: السيد علي عاشور، (د ط)، (د ت).

- الغدير، الشيخ الأميني المتوفي: 1392 ه، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان، ط: 4، 1397 - 1977 م.

- فتح الباب في الكنى والألقاب، أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مَنْدَه العبدي (المتوفي: 395 ه)، أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، مكتبة الكوثر - السعودية - الرياض، ط: 1، 1417 ه - 1996 م.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة - بيروت، 1379، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، (د ط)، (د ت).

ص: 184

- الفتنة ووقعة الجمل، سیف بن عمر الأسدي التَّمِيمي (المتوفى: 200 ه)، تحقيق: أحمد راتب عرموش، دار النفائس، ط: 7، 1413 ه / 1993 م.

- الفتوح، أحمد بن اعثم الكوفي (المتوفي: 314 ه) تحقيق: علي شيري (ماجستر في التاريخ الإسلامي)، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 1، سنة الطبع: 1411 ه.

- فرج المهموم، السيد ابن طاووس (المتوفي: 666 ه)، منشورات الرضي - قم، (د ط)، 1363 ش.

- الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغدادي التميمي الأسفر اییني، أبو منصور (المتوفى: 429 ه)، دار الآفاق الجديدة - بیروت، ط: 2، 1977 م.

- الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: 395 ه)، حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، (د ط)، (د ت).

- الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبو محمد علي بن أحمد بن سعید بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفي: 456 ه)، مكتبة الخانجي - القاهرة، (د ت)، (د ط).

- الفصول المختارة، الشيخ المفيد (ت 413 ه)، تحقيق: السيد نور الدين جعفریان الأصبهاني، الشيخ يعقوب الجعفري، الشيخ محسن الأحمدي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، ط 2، 1414 - 1993 م

ص: 185

- الفصول المهمة في معرفة الأئمة، علي بن محمد أحمد المالكي (ابن الصباغ) (المتوفي: 855 ه)، تحقيق: سامي الغريري، دار الحديث للطباعة والنشر، المطبعة : سرور، ط 1، 1422 ه.

- الفوائد الرجالية، محمد باقر الوحيد البهبهاني المتوفي: 1205 ه، (د ت)، (د ط).

- القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادی (المتوفي: 817 ه)، تحقيق: مکتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف: محمد نعیم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط: 8، 1426 ه - 2005 م.

- الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفي: 630 ه)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط: 1، 1417 ه / 1997 م.

- الكامل في اللغة والأدب، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفي: 285 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي - القاهرة، ط: 3، 1417 ه - 1997 م.

- كتاب الأربعين، محمد طاهر القمي الشيرازي ( المتوفي: 1098 ه)، تحقيق: السيد مهدي الرجائی، المطبعة : أمير، ط: 1، 1418 ه.

- الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235 ه)، تحقيق: کمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، ط: 1، 1409 ه.

ص: 186

- کتاب الولاة وكتاب القضاة للكندي، أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري (المتوفي: بعد 355 ه)، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، وأحمد فرید المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط: 1، 1424 ه - 2003 م.

- کتاب سلیم بن قیس، سلیم بن قیس الهلالي الكوفي، ( المتوفي: ق 1 ه )، تحقيق: محمد باقر الأنصاري الزنجاني، المطبعة: نگارش، ط: 1، 1422 ه - 1380 ش.

- کشف الغمة في معرفة الأئمة، علي بن أبي الفتح الإربلي (المتوفي: 693 ه)، دار الأضواء - بيروت - لبنان، ط: 2، 1405 ه - 1985 م.

- الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفي: 427 ه)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظیر الساعدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط: 1، 1422، ه - 2002 م.

- کنز الدرر وجامع الغرر، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري، تحقيق: بيرند راتکه، إدوارد بدین، وآخرون، الناشر: عيسى البابي الحلبي، (د ط)، (دت).

- کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي بن حسام الدين ابن قاضي خان القادري الشاذلي الهندي البرهانفوري ثم المدني فالمكي الشهير بالمتقي الهندي (المتوفي: 975 ه)، تحقيق: بكري حياني - صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، ط: 5، 1401 ه / 1981 م.

- کنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي، (المتوفي: 449 ه)، المطبعة: غدیر، ط: 2، 1369 ش.

- الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي (المتوفى: 1359 ه)، مكتبة الصدر - طهران، (د ط)، (د ت).

ص: 187

- لباب الآداب، أبو المظفر مؤيد الدولة مجد الدين أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيزري (المتوفى: 584 ه)، تحقيق: أحمد محمد شاکر، مكتبة السنة، القاهرة، ط: 2، 1407 ه - 1987 م.

- لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر - بيروت، ط: 3، 1414 ه.

- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفي: 1188 ه)، مؤسسة الخافقين ومكتبتها - دمشق، ط: 2، - 1402 ه - 1982 م.

- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (المتوفي: 807 ه)، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 ه، 1994 م.

- مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، جمال الدين، محمد طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي الكجراتي (المتوفى: 986 ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط 3، 1387 ه - 1967 م - مجمل اللغة لابن فارس، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه)، دراسة وتحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة - بیروت، (د ط)، (دت).

- المحاسن والأضداد، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفي: 255 ه)، دار ومكتبة الهلال، بیروت، (د ت)، 1423 ه.

ص: 188

- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفي: 542 ه)، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 1، - 1422 ه.

- المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي (المتوفي: 458 ه)، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 1، 1421 ه - 2000 م.

- مختصر تاریخ دمشق لابن عساکر، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، تحقيق: روحية النحاس، ریاض عبد الحميد مراد، محمد مطیع، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق - سوریا، ط 1، 1402 ه - 1984 م - المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفي: 732 ه)، المطبعة الحسينية المصرية، ط 1، (د ت).

- المخصص، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي (المتوفى: 458 ه)، تحقيق: خليل إبراهم جفال، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 1، 1417 ه 1996 م.

- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلامة المجلسي، (المتوفي: 1111 ه)، قدّم له: العلم الحجّة السيّد مرتضى العسكري - إخراج ومقابلة وتصحيح السيد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلامية، ط: 2، 1404 - 1363 ش.

- مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن على بن الحسين بن على المسعودي (المتوفى: 346 ه)، تحقيق: أسعد داغر، دار الهجرة - قم، 1409 ه.

ص: 189

- المستجاد من فعلات الأجواد، المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم داود التنوخي البصري، أبو علي (المتوفى: 384 ه)، (د ط)، (د ت).

- المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة، عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق، ابن مندة العبدي الأصبهاني، أبو القاسم (المتوفي: 470 ه)، تحقيق أ. د. عامر حسن صبري التَّميميُّ، وزارة العدل والشؤون الإسلامية البحرين، (د ط)، (د ت).

- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النازي الشاهرودي، المتوفي: 1405 ه، تحقيق: تحقیق و تصحیح: الشيخ حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، (د ط)، 1418 ه.

- المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعیم بن الحكم النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفي: 405 ه)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: 1، 1411 ه - 1990 م.

- مستدرك نهج البلاغة، الشيخ هادي کاشف الغطاء، (المتوفي: 1361 ه)، منشورات مكتبة الأندلس، (د ط)، (د ط). - مستدرکات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (المتوفي:

1405)، شفق - طهران، ط: 1، ربيع الآخر 1412 ه.

- مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 ه)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط: 1، 1421 ه - 2001 م.

ص: 190

- المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261 ه)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، (د ط)، (د ط).

- مشارق الأنوار على صحاح الآثار، عیاض بن موسی بن عیاض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل (المتوفى: 544 ه)، المكتبة العتيقة ودار التراث، (د ط)، (د ت).

- مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، المير جهاني (المتوفي: 1388 ه)، (د ط)، 1388 ه.

- مصباح الفقاهة، السيد الخوئي (المتوفي: 1413 ه)، ط 1، المطبعة، قم، مكتبة الداوري - قم، دار الكتب الإسلامية - طهران.

- مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (عليه السلام)، محمد بن طلحة الشافعي، (المتوفي: 652 ه)، تحقيق: ماجد ابن أحمد العطية، (د ط)، (دت).

- المعارف، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276 ه)، تحقيق: ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط: 2، 1992 م.

- معجم البلدان، شهاب الدين أبو عبد الله یاقوت بن عبد الله الرومي الحموي (المتوفي: 626 ه)، دار صادر، بیروت، ط: 2، 1995 م.

- معجم الصحابة، أبو الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق بن واثق الأموي بالولاء البغدادي (المتوفى: 351 ه)، تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة المنورة، ط: 1، 1418 ه.

ص: 191

- المعجم الكبير، سلیمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفي: 360 ه)، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة، ط: 2، (د ت).

- المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (إبراهيم مصطفی/ أحمد الزيات حامد عبد القادر / محمد النجار)، دار الدعوة، (د ط)، (د ت).

- معجم ديوان الأدب، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن الحسين الفارابي، (المتوفي: 350 ه)، تحقيق: دكتور أحمد مختار عمر، مراجعة: دكتور إبراهيم أنيس، مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، (د ط)، عام النشر: 1424 ه - 2003 م - معجم رجال الحديث، السيد الخوئي (المتوفي: 1413 ه)، (د ط)، 1413 - 1992 م.

- معجم مقاییس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه)، عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، (د ط)، 1399 ه - 1979 م.

- معرفة الصحابة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران الأصبهاني (المتوفى: 430 ه)، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن للنشر، الرياض، ط: 1، 1419 ه - 1998 م.

- المغازي، محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، الواقدي (المتوفى: 207 ه)، تحقيق: مارسدن جونس، دار الأعلمي، بيروت، ط: 3، 1409 / 1989.

- مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفي: 606 ه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط: 3، 1420 ه.

ص: 192

- مقاتل الطالبيين، أبي الفرج الأصفهاني، المتوفي: 356 ه، تحقيق: تقديم وإشراف: كاظم المظفر، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، ط: 2، 1385 ه - 1965 م.

- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت 588 ه)، تحقيق: تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المطبعة: الحيدرية - النجف الأشرف، الناشر: المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف، (د ط)، 1376 - 1956 م - مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، المتوفي: 588 ه، تحقيق: تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف، (د ط)، 1376 ه - 1956 م.

- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 ه)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1412 ه - 1992 م.

- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 ه)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1412 ه - 1992 م.

- المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَایْماز الذهبي (المتوفى: 748 ه)، تحقيق: محب الدين الخطيب، (د ط)، (د ت).

- منتهى المقال في أحوال الرجال، الشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني، تحقيق: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التّراث - قم، ستاره - قم، ط: 1، ربيع الأول 1416 ه.

ص: 193

- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبیب الله الهاشمي الخوئي، (المتوفى: 1324 ه)، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، ط: 4، المطبعة الإسلامية بطهران، (د ت).

- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبیب الله الهاشمي الخوئي، (ت 1324 ه)، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، مطبعة الاسلامية بطهران، ط 4، (د ت).

- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 ه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط: 2، 1392 ه.

- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (المتوفي: 845 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1418 ه.

- مواقف الشيعة، الأحمدي الميانجي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط: 1، 1416 ه.

- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث وبمساعدة: السيد محمد کاظم الطباطبائي، السيد محمود الطباطبائي نژاد، دار الحديث للطباعة والنشر، ط: 2، 1425، دار الحديث.

- نثر الدر في المحاضرات، منصور بن الحسين الرازي، أبو سعد الآبي (المتوفى: 421 ه)، تحقیق: خالد عبد الغني محفوط، دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان، ط: 1، 1424 ه - 2004 م.

- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، أبو المحاسن، جمال الدين (المتوفى: 874 ه)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر، (د ط)، (د ت).

ص: 194

- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، أبو المحاسن، جمال الدين (المتوفى: 874 ه)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر، (د ط)، (د ت).

- نقد الرجال، التفرشي، (المتوفي: ق 11)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، ستارة - قم، ط: 1، 1418 ه.

- نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري، شهاب الدين النويري (المتوفى: 733 ه)، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ط: 1، 1423 ه.

- النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، (د ط)، 1399 ه - 1979 م.

- نهج البلاغة، مجموعة خطب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وأوامره وكتبه ورسائله وخحمه ومواعضه، جمعه الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، تحقيق: الشيخ فارس حسون، (د. ط)، (د. ت).

- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي، مؤسسة التضامن الفكري - بیروت، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، ط 1، 1387 - 1968 م.

- نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 ه) تحقيق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، مصر، ط 1، 1413 ه - 1993 م.

- الوافي بالوفیات، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى: 764 ه)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث - بیروت، (1420 ه - 2000 م).

ص: 195

- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي (المتوفي: 1104 ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، مهر - قم، ط: 2، 1414 ه.

- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلکان البرمكي الإربلي (المتوفى: 681 ه)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بیروت، (دت)، (د ط).

- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلکان البرمكي الإربلي (المتوفى: 681 ه)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، (دت)، (د ط).

- وقعة صفين، ابن مزاحم المنقري (المتوفي 212 ه)، تحقيق: تحقیق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط: 2، المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع - القاهرة، المدني - مصر، 1382 ه.

- ينابيع المودة لذوي القربی، القندوزي، (المتوفي: 1294 ه)، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة للطباعة والنشر، ط: 1، 1416 ه.

ص: 196

فهرس المحتویات

مقدمة المؤسسة...7

المقدِّمة...9

التمهير...13

أولاً: مرجعيات الفكر الدِّيني في الإسلام...13

1 - أهل بدر...18

2 - أهل بيعة الرضوان...19

ثانياً: قتلى المعارك التي جرت في عهد الإمام علي (علیه السلام)...20

1 - قتلى معركة الجمل...20

2 - قتلى معركة صفين...26

3 - قتلى معركة النهروان...27

من يتحمَّل وزر المعارك؟...29

ص: 197

الفصل الأول سيرة قيس بن سعد في حياة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتی خلافة الإمام علي علیه السلام المبحث الأول: السمات الشخصية لقيس بن سعد بن عبادة...39

1 - نسبه...39

2 - هیأته...41

3 - شجاعته...45

4 - کرمه...48

5 - علمه...56

6 - دهاؤه...65

7 - زهده...69

8 - وفاته...71

المبحث الثاني: الأدوار القيادية لقیس بن سعد في عهد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)...73

أولاً: في عصر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)...73

1 - حادثة فتح مكة...75

2 - حادثة جيش أسامة...74

3 - في حادثة السقيفة...78

ثانياً: في حكم أبي بكر...81

ص: 198

الفصل الثاني الأدوار القيادية لقيس بن سعد في خانة الإمام علي (علیه السلام) ومابعدها حتی وفاته المبحث الأول: الأدوار القيادية لقيس بن سعد في خلافة الإمام علي (علیه السلام)...101

أولاً: معركة الجمل...101

- المسير إلى البصرة...106

ثانياً: في حكومة مصر...110

ثالثاً: في قيادة شرطة الخميس...119

- منزلة شرطة الخميس...121

رابعاً: في حكومة أذربيجان...123

خامساً: معرکة صفین...124

سادساً: حرب الخوارج...142

المبحث الثاني: الأدوار القيادية لقیس بن سعد بعد استشهاد الإمام علي (علیه السلام)...147

أولا: دوره في خلافة الإمام الحسن (علیه السلام)....147

ثانياً: دوره في حكم معاوية...159

المصادر والمراجع...169

فهرس المحتويات...197

ص: 199

ص: 200

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.