نبي الله آدم علیه السلام

هوية الکتاب

نبي الله آدم عليه السلام في بيان صفة خلقه وعلة سجود الملائكة له

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1436 ه - 2015م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الأنبياء في نهج البلاغة (1) نبي الله آدم عليه السلام في بيان صفة خلقه وعلة سجود الملائكة له الجزء الأول

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1436 ه - 2015م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.Inahj.org E-mail: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وآله الطيبين الأخيار.

وبعد:

فهذه سلسلة خاصة بما ورد في كتاب نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حول بعض الأنبياء عليهم السلام، وقد تناول فيها الإمام جوانب مختلفة من حياتهم

ص: 5

وما ارتبط بمم ابتداءً من آدم عليه السلام، حيث بيّن الإمام علي عليه السلام العلة في خلقه وما رافق هذا الأمر من ابتلاء للملائكة وغير ذلك مما ارتبط بهذه الشخصية.

والحديث في نهج البلاغة عن الأنبياء عليهم السلام لم يكن شاملاً لجميع الأنبياء وإنما اكتفي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بذکر بعض منهم، وهم (آدم وموسى وعيسى وداود ويحي وسليمان والحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخذ الحيز الأكبر من البيان والتعريف في كلام أمير المؤمنين عليه السلام.

ولذا:

وجدت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تضع بين يدي القارئ الكريم هذا البيان الوارد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في

ص: 6

الشخصيات الربانية ضمن هذه السلسلة مع بیان موجز لما أورده الشرّاح لكتاب نهج البلاغة فضلاً عن رفد هذه الألفاظ الشريفة بما يناسبها من روایات نبوية شريفة عن آل البيت عليهم السلام، بغية الوصول إلى معنى واضح يأخذ بأيادينا وید القارئ الكريم إلى ما يحب الله ويرضى.

السيد نبيل الحسني

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 7

قال أمير المؤمنين عليه السلام في آدم عليه السلام:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْکِبْرِیَاءَ، وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًی وَ حَرَماً عَلَی غَیْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَی مَنْ نَازَعَهُ فِیهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلاَئِکَتَهُ الْمُقَرَّبِینَ، لِیَمِیزَ الْمُتَوَاضِعِینَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَکْبِرِینَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ، وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُیُوبِ:

«...إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ * فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِینَ * فَسَجَدَ الْمَلاٰئِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّٰ إِبْلِیسَ...»(1).

ص: 8


1- سورة ص، الآيات: 71 - 74

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِیَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَی آدَمَ بِخَلْقِهِ، وَ تَعَصَّبَ عَلَیْهِ لِأَصْلِهِ، فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِینَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَکْبِرِینَ، الَّذِی وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِیَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِیَّةِ، وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ، أَلاَ تَرَوْنَ کَیْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَکَبُّرِهِ، وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِی الدُّنْیَا مَدْحُوراً، وَ أَعَدَّ لَهُ فِی الْآخِرَةِ سَعِیراً وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ یَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ، یَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِیَاؤُهُ وَ یَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ، وَ طِیبٍ یَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ. وَ لَو فَعَلَ لَظَلّت لَهُ الأَعنَاقُ خَاضِعَةً، وَ لَخَفّتِ البَلوَی فِیهِ عَلَی المَلَائِکَةِ وَ لَکِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَبْتَلِی خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا یَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْیِیزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْیاً لِلاِسْتِکْبَارِ عَنْهُمْ، وَ إِبْعَاداً لِلْخُیَلاَءِ مِنْهُمْ»(1).

ومن كلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام أنه قال:

ص: 9


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، رقم الخطبة 191، شرح محمد عبده ص 313

«ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا باِلبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء وَوُصُول وَأَعْضَاء. وَفُصُول أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْت مَعْدُود وَأجَل مَعْلُوم، ثُمَّ نَفَخَ فيِها مِنْ رُوحِهِ، فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجیلُهَا، وَفِكَر يَتَصَرَّفُ بِهَا وَجَوَارِحَ یَخْتَدِمُهَا، وَأَدَوَات يُقَلِّبُهَا وَمَعْرِفَة يَفْرُقُ بِهَا بَیْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، والاَذْوَاقِ والمَشَامِّ وَالْاَلوَانِ وَالْاَجْنَاس، مَعْجُوناً بطيِنَةِ الْاَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالاَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ وَالْاَضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ، والْاَخْلاطِ المُتَبَايِنَةِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ، وَالبَلَّةِ وَالْجُمُودِ، وَ اسْتَأْدَی اللّه سُبْحَانَهُ الْمَلائِکَةَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهِمْ فِی الْإِذْعانِ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَالْخُنُوعِ لِتَکْرِمَتِهِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:

«اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ»(1).

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 34

اعْتَرَتْهُ الْحَمِیَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَیْهِ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ النّارِ وَاسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصالِ، فَأَعْطَاهُ اللّه النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِیَّةِ وَإِنْجازاً لِلْعِدَةِ، فَقالَ:

«فَإِنَّك مِنَ الْمُنْظَرِینَ * إِلی یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»(1).

ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا، عَيْشَهُ وَآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَحَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَعَدَاوَتَهُ، فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ، فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَالْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَبِالْإِغْتِرَارِ نَدَماً. ثُمَّ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ في تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَوَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، وَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِالَبَلِيَّةِ وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدَهِ أَنْبيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَى تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا

ص: 11


1- سورة الحجر، الآيتان: 37 - 38

حَقَّهُ واتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَآجَال تُفْنِيهمْ وَأَوْصَاب تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَة أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لاتُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ المُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذْلِكَ نَسَلَتِ القُرُونُ وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الْآبَاءُ وَخَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً، رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم لِإَنْجَازِ عِدَتِهِ»(1).

ص: 12


1- نهج البلاغة الخطبة الأولى، ص 25، محمد عبده

وقال عليه السلام أيضاً:

«فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ اخْتَارَ آدَمَ عَلَیْهِ السَّلامُ خِیرَةً مِنْ خَلْقِهِ وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَأَسْکَنَهُ جَنَّتَهُ وَأَرْغَدَ فِیهَا أُکُلَهُ وَأَوْ عَزَ إِلَیْهِ فِیمَا نَهَاهُ عَنْهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِی الإِقْدَامِ عَلَیْهِ التَّعَرَّضَ لِمَعْصِیَتِهِ وَالْمُخَاطَرَهَ بِمَنْزَلَتِهِ فَأَقْدَمَ عَلَی مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاهً لِسَابِقِ عِلْمِهِ فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَهِ لِیَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ وَلِیُقِیمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَی عِبَادِهِ»(1).

وهذا القول الصادر عن أمير المؤمنين ومولی الموحدين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام اشتمل على مجموعة بحوث ومسائل وهي كالآتي:

ص: 13


1- خطبة الاشباح، ص 155، محمد عبده

المبحث الأول العلة في امتحان الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام

ص: 14

بيّن عليه السلام في خطبته المعروفة بالقاصعة العلة في خلق الله آدم ببيان جديد غير الذي ورد في تفاسير القرآن الكريم حول قوله عزّ وجل:

«إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1).

فهو هنا يفصل بين الغاية من خلق آدم وهي جعل الخليفة في الأرض وبين العلة في خلقه وهي اختيار الملائكة المقربين كما سیمرّ بیانه.

أولاً - قال عليه السلام: الحَمدُ لله الَّذِي لَبسَ العِز والكِبريَاءَ، واختَارَهُمَا لِنَفسِه دُونَ خَلقِه

عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال قال تعالى: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري

ص: 15


1- البقرة، آية: 3

فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في ناري»(1).

والمعنى أن الكبرياء والعظمة مخصوصان بي کلصوق الرداء والإزار على أجسادكم ومن تكبر فقد أشرك بي بل غصب حقي، وعمدة التكبر، لتكبر على أهل الحق(2).

قال تعالى:

«وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(3).

أي جعل العز والكبرياء له ومحضورا على غيره، فلا يجوز لأحدٍ أن يتكبر ويتعزز لأن المخلوقات لا حول ولا قوة لها، وإنما العز والكبرياء للقادر القاهر الذي بيده ملكوت

ص: 16


1- مستدرك الوسائل - ميرزا حسين الطبرسي، ج 12، ص 31
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، المجلس الأول لمحمد تقي المجلسي: ج 4، ص 48
3- الجاثية، آية: 37

السموات والأرض وله الأسماء الحسنى فكيف للمخلوق الضعيف أن يساوي نفسه مع الله.

فالتكبر حرام وهو من الكبائر ولا يجوز للإنسان ذلك، قال الإمام علي عليه السلام:

«فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان، ونخاوته، ونزعاته، ونفثاته، واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم وإلقاء التعزز تحت أقدامكم وخلع التكبر من أعناقكم واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده»(1).

ثانياً - قال علیه السلام: واصطَفَاهُمَا لِجَلَالِه وجَعَلَ اللَّعنَةَ عَلَى مَن نَازَعَه فيهمَا مِن عِبَادِه

أي اختارهما - العزة والكبرياء - له وجعل العقاب على من نازعه عليهما من جميع

ص: 17


1- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده: خطبة القاصعة، ص 315

المخلوقات، فهاتان صفتان لا تكونان لمخلوق وإنما لخالق عظيم يستحق أن تكون له العزة والكبرياء العظمته وقدرته على خلق الأشياء والقدرة على كل شيء، يبقى الحلق عباداً متواضعين له، ومتذللين لكبريائه، كونه خالقهم فمن الواجب طاعة العبد لربه، فكل المخلوقات هم عباد الله.

وقال عليه السلام:

«فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِی الْکِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِیهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِیَائِهِ وَ أَوْلِیَائِهِ وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ کَرَّهَ إِلَیْهِمُ التَّکَابُرَ وَ رَضِیَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ»(1).

ثالثاً - قال عليه السلام: ثُمَّ اختَبَرَبذَلِكَ مَلَائِكَتَه المُقرَّبينَ، ليَميزَ المُتَوّاضِعينَ مِنهُم مِنَ المُستَكبرينَ

قال تعالى:

«وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ

ص: 18


1- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ص 317

صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(1).

فقال عليه السلام:

«فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ:

«...إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ»(2).

قال تعالى:

«يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(3).

وقوله تعالى:

«أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(4).

ص: 19


1- سورة العنكبوت، آية: 3
2- سورة ص، الآيات: 71 - 74
3- سورة غافر، آية: 19
4- سورة البقرة، آية: 33

رابعاً - قال عليه السلام: السر في أمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام

واستعبد الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم تعظيما له لما غيبه عن أبصارهم وذلك انه عز وجل إنما أمرهم بالسجود لآدم لما أودع صلبه من أرواح حجج الله تعالى ذكره، فكان ذلك السجود الله عز وجل عبودية ولآدم طاعة، ولما في صلبه تعظيما فأبى إبليس أن يسجد لآدم حسدا له إذ جعل في صلبه مستودع أرواح حجج الله دون صلبه فكفر بحسده وتأبيّه، وفسق عن أمر ربه، وطرد عن جواره ولعن وسمي رجيماً لأجل إنكاره للغيبة لأنه احتج في امتناعه عن السجود لآدم بأن قال:

«قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1).

ص: 20


1- سورة ص، 76

فجحد ما غيب عن بصره ولم يوقع التصديق به، واحتج بالظاهر الذي شاهده وهو جسد آدم عليه السلام وأنكر أن يكون يعلم لما في صلبه وجوداً، ولم يؤمن بأن آدم إنما جعل قبلة للملائكة وأمروا بالسجود له لتعظيم ما في صلبه، فمَثُل من آمن بالقائم عليه السلام في غيبته مثل الملائكة الذين أطاعوا الله في السجود لآدم ومثل من أنكر القائم عليه السلام في غيبته مثل إبليس في امتناعه عن السجود لآدم.

وروي عن الصادق عليه السلام، أنه قال: «إن الله تبارك وتعالى علّم آدم أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم - وهم أرواح - على الملائكة فقال انبئوني - بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض بتسبيحكم وتقديسكم من آدم عليه السلام قالوا:

«قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ

ص: 21

الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»(1).

قال الله تبارك وتعالی:

«يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ»(2).

وقفوا على عظیم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم:

«أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(3).

خامساً - قال عليه السلام: اعتَرَضَتِه الحَمِيَّةُ فَافتَخَرَ عَلَى آدَمَ بخَلقِه، وتَعَصَّبَ عَلَيه لأصلِه، فَعَدُوُّ الله إمَامُ المُتَعَصِّبينَ

الحمية العصبية: أي تعصب، قال:

ص: 22


1- البقرة، 32
2- البقرة، 33
3- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص 25

«خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1).

أي كما أن هنالك أئمة الهدى كذلك هنالك أئمة الكفر وإبليس هو إمام العصاة البغات الذين يتكبرون على الله وعلى عباده قوله تعالى:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(2).

إن إبليس عدو الله وإمام كل متكبر، فمن تبعه حشر معه في الآخرة.

قال عليه السلام:

«فاحذروا - عباد الله - عدو الله - أن يعديكم بدائه وأن يستفزكم بندائه وأن يجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوِّق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، وقال:

ص: 23


1- الاعراف، 12
2- سورة البقرة، آية: 257

«قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»(1)

قذفا بغيب بعيد»(2).

سادساً - قال عليه السلام: وسَلَفُ المُستَكبرينَ، الذِي وَضَعَ أسَاسَ العَصَبيَّةِ، ونَازَعَ الله ردَاءَ الجَبريَّةِ، وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّز وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

إن إبليس أول مخلوق تكبّر على الله وهو المنشأ لرذيلة العصبية والافتخار بالأصل التي نعاني منها اليوم، والسلف: المتقدم اليوم(3).

فالكبرياء رداء الله لذا لا يحق لأحد من خلقه أن يتكبر، فمن يفعل ذلك فقد نازع الله، وان إبليس لبس لباس التعزز وأظهر الوجه الحقيقي له

ص: 24


1- سورة الحجر، آية: 39
2- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، الخطبة القاصعة، ص 314
3- ينظر شرح نهج البلاغة لعلي محمد علي دخيل: ص 343

بعد ما كان من العابدين الذين يتذللون لله في العبادة فظهرت حقيقته فعلمت الملائكة أن إبليس ليس منهم ذلك إن الملائكة مطيعة لله.

وجاء في شرح جمج الصباغة للعلامة التستري ما روي (عن الإمام الصادق) عليه السلام:

«إذا خلق الله العبد في أصل الخلقة كافرة لم يمت حتّى يحبّب إليه الشرّ فيقرب منه، فابتلاه بالكبر والجبريّة، فقسا قلبه وساء خلقه، وغلظ وجهه وظهر فحشه، وقلّ حياؤه، وكشف الله ستره، وركب المحارم، فلم ينزع عنها، ثمّ ركب معاصي الله وأبغض طاعته ووثب على الناس لا يشبع من الخصومات، فاسألوا الله العافية واطلبوها منه».

وعنه عليه السلام أنه قال:

«أدنى الإلحاد الكبر»)(1).

ص: 25


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة للعلامة التستري: ج 2، ص 9، ط مؤسسة التاريخ العربي، بيروت 1432 ه / 2011 م

سابعاً - قال عليه السلام: أَلَا تَرَونَ كَيفَ صَغَّرَه الله بتَكَبُّره، ووَضَعَه بتَرَفُّعِه فَجَعَلَه فِي الدُّنيَا مَدحُوراً، وأَعَدَّ لَه فِي الآخِرَةِ سَعِيراً

كان إبليس مع الملائكة وكانت الملائكة تظن أنه منهم فكانت منزلته مثل منزلتهم، فبعد ما تكبر على الله أصبح رجيما مدحورا من رحمة الله؛ قال تعالى:

«اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا»(1).

فهو في الدنيا ملعون وفي الآخرة من الضالين. جاء في شرح بهج الصباغة للعلامة التستري ما روي في الكافي عن الصادق عليه السلام أنه قال:

«ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة وملك يمسكها، فإذا تكبر قال له: إتّضع وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس»(2).

ص: 26


1- الاعراف، 18
2- بهج الصباغة للتستري: ج 2، ص 9

وعنه عليه السلام قال:

«إن في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له سقر فشكى إلى الله شدة حرّه، وسأله أن يأذن له أن يتنفس فتنفس فأحرق جهنم»(1).

ثامناً - عليه السلام: ولَو أرَادَ الله أَن يَخلُقَ آدَمَ مِن نُورِ، يَخطَفُ الأَبصَارَ ضِيَاؤُه ويَبهَرُ العُقُولَ رُوَاؤُه، وطِيبٍ يَأخُذُ الأَنفَاس عَرفُه لَفَعَلَ، ولَو فَعَلَ لَظَلَّت لَه الأَعنَاقُ خَاضِعَةً

فلو خلق الله آدم من نور ساطع وجسد يملأ المكان رائحة طيبة لكانت الحجة واضحة عليهم حيث تظهر عظمة آدم عليه السلام، ولكن الله جعل هذه العظمة سراً من أسراره لكي يميز الخبيث من الطيب ويختبر عباده بما يجهلون، أي أن الله اختبر ملائكته بخلق آدم عليه السلام من هذه المادة وهي التراب ليميز منهم من هو مطيع ومن هو عاصٍ.

ص: 27


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 10

فلو خلقه من نور لخف الابتلاء على الملائكة لأن النور أقدس الموجودات، قال تعالی:

«نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ»(1).

أي إن الله عز وجل لو أراهم نورانية آدم عليه السلام خضعوا له، قال تعالى:

«إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»(2).

تاسعاً - قال عليه السلام: ولَخَفَّتِ البَلوَى فِيه عَلَى المَلَائِكَة وَلكِنَّ الله سُبحَانَه يَبتَلِي خَلقَه ببَعضِ مَا يَجهَلُونَ أَصلَه، تَمييزاً بالاِختِبَار لَهُم ونَفياً لِلاِستِكبَار عَنهُم، وإبعَاداً لِلخُیَلَاءِ مِنهُم

كما قلنا أن الله لو وضح لهم قدسية آدم عليه السلام وما حباه الله به من کرامات، كونه حجة الله وفيه أسراره حيث وضع في صلبه أقدس

ص: 28


1- النور، آية: 35
2- الشعراء، 4

الموجودات وهم محمد وآله الطيبين، فلو علمت الملائكة ذلك لما صعب عليهم الأمر وما سألوا الله بقولهم:

«أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»(1).

والدليل أن الملائكة عندما عرفوا أنّ آدم عليه السلام حجة الله سجدوا له، ولكن الله عز وجل أراد أن يظهر سرائر خلقه فيميز المطيعين منهم والعاصين له فظهر تكبر إبليس فأبعده عن الملائكة وطرده من رحمة الله، قال تعالى:

«لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»(2).

إذن فالله حبب لعباده التواضع وكره لهم التكبر، لأن التكبر أساس كل خطيئة.

ص: 29


1- البقرة، 30
2- الانفال، 37

المبحث الثاني بیان صفة خلق آدم عليه السلام

ص: 30

وجاء عنه عليه السلام في بيان صفة خلق آدم عليه السلام أنه قال:

«ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا، وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَ لاَطَهَا بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ، وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ مَعْلُومٍ»(1).

المسألة الأولى: الطينة التي خُلِق منها آدم عليه السلام

أولاً - قال عليه السلام: «ثُمَّ جَمَعَ سُبحَانَه مِن حَزنِ الأَرضِ وسَهلِهَا، وعَذبِهَا وسَبَخِهَا، تُربَةَ سَتهَا بِالمَاءِ حَتَّى خَلَصَت»

ص: 31


1- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، الخطبة الأولى، ص 25

إسناد الجمع إليه تعالى من التوسع في الإسناد من باب بني الأمير المدينة إذا الجمع حقيقة فعل ملك الموت بأمر الله بعد أن اقتضت الحكمة خلقة آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض.

فقد ورد في اللغة أن: (الحزن - بفتح الحاء - ما صعب من الأرض: ضد السهل؛ والسبخ: ما ملح ضد العذب؛ وسَنَّ الماء: أي صبه؛ والمراد صب عليها أو تنها بمعنی ملسها كما قال: مرمر مسنون؛ وحتى خلصت: أي صارت طينة خالصة)(1).

وقوله: ((حق خلصت) أي صارت طينة خالصة؛ وفي بعض النسخ: حتى خضلت بتقديم الضاد المعجمة على اللام أي ابتلت ولعلها أظهر)(2).

ص: 32


1- في ظلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ج 1، ص 30، ط انتشارات كلمة الحق، قم المقدسة، 1427 ه
2- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده: ص 26، الخطبة الأولى، ط دار الذخائر، قم المقدسة، 1412 ه

وجاء في تبيان الفصاحة للسيد عباس الموسوي: («سنها بالماء»: أي خلطها ومزجها (حتى خلصت) أي صارت طينة خالصة)(1).

قال السيد ابن طاووس في (كتاب سعد السعود) على ما حکی عنه في (البحار): (وجدت في صحف إدريس نسخة عتيقة أن الأرض عرّفها الله جل جلاله أنه يخلق منها خلقاً فمنهم من يطيعه ومنهم من يعصيه، فاقشعرت الأرض واستعفت إليه وسألته أن لا يأخذ منها من يعصيه ويدخله النار، وأن جبرائيل أتاها ليأخذ عنها طينة آدم عليه السلام فسألته بعزة الله أن لا يأخذ منها شيئا حتى يتضرع إلى الله تعالى وتضرعت فأمره الله تعالى بالانصراف عنها.

فأمر الله میکائیل فاقشعرت وتضرعت

ص: 33


1- تبيان الفصاحة للسيد عباس الموسوي: ص 15

وسألت فأمره الله بالانصراف عنها.

فأمر الله تعالى إسرافيل بذلك فاقشعرت وسألت وتضرعت فأمره الله بالانصراف عنها.

فأمر عزرائيل فاقشعرت وتضرعت فقال: قد أمرني ربي بأمر أنا ماض سرَّكِ ذاك أم ساءك فقبض منها كما أمره الله ثم صعد بها إلى موقفه فقال الله له: كما وليت قبضها من الأرض وهو کاره كذلك تلي قبض أرواح كل من عليها، وكلما قضيت عليه الموت من اليوم إلى يوم القيامة.

ومضمون هذه الرواية مطابق لأخبار أهل البيت عليهم السلام فإن الموجود فيها أيضا أن القابض هو عزرائيل وانه قبض «من حزن الارض وسهلها وعذبها وسبخها» أي من غليظها ولينها وطيبها ومالحها، وهذه إشارة إلى القبضة المأخوذة

ص: 34

من غير محل واحد من وجه الأرض ويوافقه سائر الأخبار، ولعل هذا هو السر في تفاوت أنواع الخلق لاستناده إلى اختلاف المواد وفي بعض الأخبار إنها أخذت من أديم الأرض أي من وجهها ومنه سمي آدم والمراد أنه سبحانه أجمع من أجزاء الأرض المختلفة)(1).

ثانياً - سبب تسمية نبي الله آدم عليه السلام بآدم

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:

«سمّي آدم عليه السلام آدم لأنه خلق من أديم الأرض وذلك أن الله تعالى بعث جبرائيل عليه السلام وأمره أن يأتيه من أديم الأرض بأربعة طينات طينة بيضاء، وطينة حمراء، وطينة غبراء، وطينة سوداء؛ وذلك من سهلها، وحزنها؛ ثم أمره أن يأتيه بأربع مياه ماء عذب، وماء ملح، وماء مر، وماء منتن، ثم أمره أن يفرغ الماء في الطين وأدمه الله بيده فلم يفضل شيء من

ص: 35


1- منهاج البراعة لحبيب الله الخوئي: ج 2، ص 256

الطين يحتاج إلى الماء ولا من الماء شيء يحتاج إلى الطين، فجعل الماء العذب في حلقه، وجعل الماء المالح في عينه، وجعل الماء المرفي أذنه، وجعل الماء المنتن في أنفه»(1).

هنا إشارة إلى أن الإنسان كأمه الأرض يجمع في استعداده وغرائزه بين المتناقضات والمفارقات كالطيب والخبيث، والأسود والأبيض، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«خلق ادم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على مثل الأرض منهم الأسود والأبيض والأحمر وما بين ذلك»(2).

ثالثاً - ولاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَرَّبَت

ولاطها: أي خلطها وعجنها؛ أو هو من الاط الحوض بالطين ملطه وطينه به. والبلة: بالفتح من

ص: 36


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج 1، ص 10
2- في ظلال فج البلاغة للشيخ محمد جواد مغنية: ج 1، ص 32

البلل. ولَزُبَ الطين: كَكَرُمَ، أي تداخل بعضه في بعض وصلب أو لزق، ومن باب نصر بمعنى التصق وثبت واشتد)(1).

قوله تعالى: «من طين لازب»(2).

وجاء في تبيان الفصاحة للسيد عباس الموسوي: (البلة): أي الرطوبة، و (حتى لزبت): أي اشتدت).

ومزجها مزجا جيدا حتى اشتدت واستمسكت وإنما خلقها من هذه العناصر المختلفة ليكون فيها استعداد للخير والشر والحسن والقبيح(3) حيث يشير هذا المعنى إلى قوله تعالی:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»(4).

ص: 37


1- نهج البلاغة شرح محمد عبدة: ص 26
2- الصافات 11
3- تبيان الفصاحة للسيد عباس الموسوي: ص 15
4- الحجر 28

رابعاً - اختلاف طينة المؤمن عن طينة الكافر

روي عن عبد الغفار الجازي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«إن الله عز وجل خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار»(1).

وقال:

« إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا طيب روحه وجسده فلا يسمع شيئا من الخير إلا عرفه ولا يسمع شيئا من المنكر إلا أنكره»(2).

قال وسمعته يقول:

«الطينات ثلاث: طينة الأنبياء، والمؤمن من تلك الطينة إلا أن الأنبياء هم من صفوتها، هم الأصل ولهم فضلهم والمؤمنون الفرع من طين لازب، كذلك لا يفرق الله عز وجل بينهم وبين شيعتهم»(3).

ص: 38


1- الكافي للكليني: ج 2، ص 3، ح 2
2- بصائر الدرجات للصفار: ص 36
3- شرح أصول الكافي للمازندراني: ج 8، ص 6، ح 2

وقال:

«طينة الناصب من حمأٍ مسنون وأما المستضعفون فمن تراب لا يتحول مؤمن عن إيمانه ولا ناصب عن نصبه ولله المشيئة فيهم»(1).

وعن إبراهيم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم عليه السلام بعث جبرائيل عليه السلام في أول ساعة من يوم الجمعة، فقبض بيمينه قبضة، بلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأخذ من كل سماء تربة، وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله عز وجل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه والقبضة الأخرى بشماله ففلق الطين فلقتين، فذرا من الأرض ذرواً ومن السموات ذرواً فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء

ص: 39


1- مرآة العقول: ج 5، ص 308

والأوصياء والصديقون والمؤمنون والسعداء ومن أريد کرامته، فوجب لهم ما قال كما قال، وقال للذي بشماله منك الجبارون المشركون والكافرون والطواغيت ومن أريد هوانه وشقوته فوجب لهم ما قال كما قال، ثم أن الطينتين خلطتا جميعاً وذلك قول الله عز وجل:

«إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى»(1).

فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير وإنما سمي النوى من أجل انه نأى عن كل خير وتباعد عنه، وقال الله عز وجل:

«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ»(2).

فالحي المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن، والميت الكافر وذلك قوله

ص: 40


1- سورة الأنعام، الآية: 95
2- نفس المصدر

عز وجل:

«أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ»(1).

فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكانت حياته حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته، كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور وذلك قوله عز وجل:

«لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ»(2).(3)

خامساً - السبب في خلق الله الإنسان من تراب

جاء في كتاب (في ظلال نهج البلاغة للشيخ محمد جواد مغنية): قال البعض أراد الله سبحانه أن يعلّم الناس الرويّة والأناة وعدم الاستعجال في

ص: 41


1- سورة الأنعام، الآية، 122
2- مراة العقول، ج 5، ص 318 - 319
3- يس 71

أمورهم، أما نحن فنظن أنه تعالی أراد أن يعلم الناس أنهم في الخلق سواء لا فرق بين أبيض وأسود وكما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

«كلكم من آدم وآدم من تراب»(1).

وان يعتبروا بقدرة الله التي خلقت من المادة الصماء إنساناً عاقلاً يفعل الأعاجيب ويومى(2) ويشير إلى ذلك قوله تعالی:

«أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ»(3).

وأيضاً أن يستدل الإنسان على النشأة الثانية بالأولى كما تشير الآية:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ»(4).

ص: 42


1- مکاتیب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للاحمدي الميانجي: ج 3، ص 51
2- ورد في نسخة الكتاب (يومئ)
3- سورة الكهف، الآية: 37
4- سورة الحج، الآية: 5

وقال الإمام عليه السلام:

«عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الاولى»(1).

وعلى أية حال فإن الأرض هي البيئة الطبيعية للإنسان ومصدر حياته وفيها يتعرف على خالقه ويعبده(2).

المسألة الثانية: الصورة التي خُلِق عليها آدم عليه السلام

أولاً - قال عليه السلام: فَجَبَلَ مِنهَا صُورَةً ذَاتَ أَحنَاءٍ ووُصُولٍ وأَعضَاءٍ، وفُصُولٍ أَجمَدَهَا حَتَّى استمسَكَت، وأَصلَدَهَا حَتَّى صَلصَلَت، لِوَقتٍ مَعدُودٍ وأَمَدٍ مَعلُومٍ

ضمير منها يعود إلى التربة، والمراد من الصورة صورة آدم عليه السلام قوله تعالی:

ص: 43


1- میزان الحكمة للشيخ محمد الريشهري: ج 3، ص 1822
2- في ظلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ص 33

«وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ»(1).

وفي جسم الإنسان أجزاء کالرأس واليدين والصدر والرجلين وإليها أشار بكلمة أعضاء وفيه أضلاع، وإليها أشار بالأحناء، وفيه مفاصل، وهي ملتقى العظام ولولاها لعجز الإنسان عن الحركة، وقد عبّر الإمام عنها بالفصول، وفيه عصب يشد الأعضاء بعضها إلى بعض وهو المقصود من كلمة (وصول) من الوصل(2).

وقال السيد محمد الشيرازي رحمه الله (فصول) لعل المراد منها الأحوال المختلفة كفصل الشباب وفصل الهرم، والمراد ما هو أعظم من العضو الرأس فصل، بينما العين في الرأس عضو وهكذا(3).

جاء في شرح جمج الصباغة للعلامة

ص: 44


1- غافر، 64
2- في ظلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ص 33
3- شرح نهج البلاغة للسيد محمد الشيرازي، ص 21

التستري: «فجبل منها صورة» قال ابن أبي الحديد: قال الرواندي: أي خلق خلقا عظيما، واعترض عليه بأن (جَبَلَ) بمعنى خلق سواء كان عظيما أم غير عظيم، وعلق على الرأيين العلامة التستري أن جبل، وذرأ، وأنشأ كلها بمعنى: خلق إلا أن لكل منها خصوصية لا يصح استعمال أحدها في موضع الآخر. فإن ذرأ معناه: خلق متکثر منتشر؛ قال تعالى:

«يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ...»(1).

وأنشأ معناه خلقٌ حادث جديد؛ قال تعالى:

«هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ»(2).

وجَبَل معناه: خلق غليظ؛ قال الجوهري:

يقال للرجل إذا كان غليظاً: إنه لذو جبلة، وامرأة

ص: 45


1- الشوری، 11
2- النجم، الآية: 32

مجبال، أي: غليظة الخلق، وشيء جَبِل بکسر الباء، أي: غليظ جاف.

ويقال: أجبل الشاعر، إذا صعب عليه القول، فكأنه بلغ المكان الغليظ، وأجبل الحافر إذا بلغ المكان الصلب.

وقال الزمخشري: ناقة جبلة السنام تامته، رجل جبل الوجه، وجبل الرأس: غليظهما وسيف جبل ومجبال: لم يرقّق، قال الشاعر:

أ فی الحديدةِ لا نابٌ ولا جبلٌ *** وسألناهم فاجبلوا إذا لم ينولوا

قال الكميت:

فبان وأبقى لنا من بنيه *** لهاميم سادوا ولم يجبلوا(1)

ثانياً - أَجمَدَهَا حَتَّى استمسَكَت، وأَصلَدَهَا حَتَّى صَلصَلَت

ص: 46


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة للعلامة التستري: ج 1، ص 477

بعد أن صار الماء والتراب طيناً جمداً وتماسكت أجزاؤه، وأصبح جسماً واحداً، يابساً متيناً، إذ هبت عليه الريح سمع له صلصلة، وأسند جمود الطين وصلصلته إلى الله، لأنه هو الذي خلق التراب والماء، ومزجهما حتى صارا طينا، وبهذه الأطوار الأربعة تمّ الجسم وكمل، ومع هذا أبقاه الله سبحانه بلا روح إلى أمد معين، لأن حكمته تعالی قضت أن يكون لكل أجل كتاب(1).

وجاء في كتاب منهاج البراعة: أي جعلها جامدة بعدما كانت طينة لينة حتى صار لها استمساك وقوام وجعلها صلبة متينة حتى صارت صلصالا يابسا يسمع له عند النقر صوت كصلصلة الحديد(2).

وقال أبو عبده (الصلصال) الطين الحر خلط

ص: 47


1- في ظلال فج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ج 1، ص 33
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 2، ص 257

بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا أصبح في النار فهو الفخار(1).

وقال تعالى:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ»(2).

الإنسان آدم الصلصال الطين اليابس تسمع له عند النقر صلصلة أي صوت وقيل طين صلب يخالطه الكثب وقيل منتن من حمأ أي من طين متغير (مسنون) أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة كما يصب الذهب والفضة وقيل أنه الرطب وقيل عن سيبويه قال أخذ منه سنة الوجه(3).

ثالثاً - لِوَقتٍ مَعدُودٍ وأَمَدٍ مَعلُومٍ

قال تعالى:

ص: 48


1- صحاح اللغة للجوهري: ج 5، ص 1745، مادة (صلصل)
2- الحجر، الآية 226
3- مجمع البيان للطبرسي: ج 6، ص 114

«هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا»(1).

جاء في منهاج البراعة ما نقل من (مجمع البيان) وقد كان شيئاً إلا أنه لم يكن شيئاً مذكوراً لأنه كان تراباً وطيناً إلى أن نفخ فيه الروح وقيل أنه أتي على آدم أربعون سنة لم يكن شيئاً مذكوراً لا في السماء ولا في الأرض لأنه كان جسداً ملقىً من طين قبل أن ينفخ فيه الروح.

وروي عن عطاء عن ابن عباس: أنه تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة وعن بعض الصحف السماوية أن طينة آدم عليه السلام عجنت أربعين سنة ثم جعلت لازباً، ثم جعلت حمأً مسنوناً أربعين سنة ثم جعلت صلصالاً كالفخار أربعين سنة ثم جعلت جسدا ملقىً على طريق الملائكة أربعين

ص: 49


1- سورة الإنسان، الآية: 1

سنة ونفخ فيها من روحه بعد تلك المدة(1).

قال الشيرازي رحمه الله: (الوقت المعلوم) هو الوقت الذي ينفخ فيه الروح، (وأمد معلوم) الأمد المدة من الزمان باعتبار الامتداد(2).

وقال الشيخ الصدوق: (ويوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية)(3).

ص: 50


1- منهاج البراعة لحبيب الله الخوئي: ج 2، ص 257
2- شرح نهج البلاغة للسيد محمد الشيرازي: ص 21
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج 2، باب 142، ص 402، ح 2

المبحث الثالث بث الروح في الطينة واختلاف الألوان والأضداد

ص: 51

ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ، وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ، مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ، وَ الْأَخْلاَطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ، وَ الْبَلَّةِ وَ الْجُمُودِ(1).

المسألة الأولى: نفخ الروح في آدم عليه السلام

نسب تعالى الروح إلى نفسه دلالة على شرف الإنسان، قال تعالى:

ص: 52


1- شرح نهج البلاغة الخطبة الأولى، ص 26

«فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(1).

وقال الشيخ محمد مغنية: واختلفوا في معنى الروح وبصرف النظر عن التي نفخها سبحانه في آدم أو مريم، فمنهم من قال: إن الله سبحانه حجب علمها عن العباد فلا ينبغي الحديث عنها بحال لقوله تعالی:

«قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(2).

وقال آخر: هي على هيئة الإنسان، لها رأس ویدان وبطن ورجلان، ولكنها ليست إنساناً! وقال ثالث: هي نور لطيف وهواء خفيف. ونقل عن فلاسفة اليونان أهم يفرّقون بين العقل والروح والنفس، فالعقل أرفع وأشرف من الروح، وهي أشرف من النفس.

ص: 53


1- سورة الحجر، الآية: 29؛ سورة ص، الآية: 72
2- سورة الاسراء، الآية: 85

وللروح في لغة القران معانٍ منها:

أولا: الرحمة:

«لا تيأسوا من روح الله»(1).

ثانيا: جبرائیل:

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ»(2).

ثالثا: القرآن:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا»(3).

والقاسم المشترك المعنى الروح هو كل ما يحيا به الشيء مادياً ومعنوياً.

أما المراد بالروح التي نفخها سبحانه في آدم فهي الحياة .. حتى لو كان للروح ألف معنى ومعنى، لان الحديث في كلام الإمام عليه السلام وفي قوله تعالی:

ص: 54


1- سورة يوسف، الآية، 87
2- سورة الشعراء، الآية: 193
3- سورة الشورى، الآية 52

«فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(1).

مساق عن جسد آدم الذي بقي جامداً بلا روح لوقت معدود، وأمد معلوم.. ومثلها تماماً الروح التي نفخها في مريم، كما في قوله تعالی:

«فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا»(2).

أي أنه تعالى خلق جنيناً في رحم مريم بلا تلقيح(3).

وقال السيد حبيب الله الخوئي: (بقي الكلام في إفاضة الروح إليه سبحانه فنقول أن الإفاضة من باب التشريف والإكرام، روي في (الكافي) بإسناده عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله عن قوله تعالی:

«وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(4)، کَیفَ هَذَا

ص: 55


1- سورة الحجر، الآية: 29
2- سورة الأنبياء: 91
3- في ظلال نهج البلاغة محمد جواد مغنية: ص 34
4- سورة الحجر، الآية: 29

اَلنَّفْخُ فَقَالَ إِنَّ اَلرُّوحَ مُتَحَرِّكٌ کَالرِّیحِ وَ إِنَّمَا سُمِّیَ رُوحاً لِأَنَّهُ اُشْتُقَّ اِسْمُهُ مِنَ اَلرِّیحِ وَ إِنَّمَا أَخْرَجَهُ عَلَی لَفْظَةِ اَلرُّوحِ لِأَنَّ اَلرُّوحَ مُجَانِسٌ لِلرِّیحِ وَ إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَی نَفْسِهِ لِأَنَّهُ اِصْطَفَاهُ عَلَی سَائِرِ اَلْأَرْوَاحِ کَمَا اِصْطَفَی بَیْتاً مِنَ اَلْبُیُوتِ فَقَالَ بَیْتِی وَ قَالَ لِرَسُولٍ مِنَ اَلرُّسُلِ خَلِیلِی وَ أَشْبَاهِ ذَلِكَ وَ کُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مُحْدَثٌ مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ»(1))(2).

فعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عن قوله تعالى: «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» قال عليه السلام:

«روح اختاره الله واصطفاه وخلقه وأضافة إلى نفسه وفضّله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم»(3).

ص: 56


1- الكافي للكليني، باب الروح، ج 1، ص 134
2- منهاج البراعة لحبيب الله الخوئي: ج 2، ص 259
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 4، ص 260، ح 1

وروي عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:

«إن الله سبحانه وتعالى أحد صمد ليس له جوف، وإنما الروح خلق من خلقه، نصر وتأييد وقوة يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين»(1).

وجاء عن اليقطيني قال: سألت أبا الحسن علي بن محمد العسكري عن قوله عز وجل:

«وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ»(2).

فقال عليه السلام:

«ذلك تعبير الله تبارك وتعالى لمن شبهه بخلقه ألا ترى إنه تعالى قال:

«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»(3).

ص: 57


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 4، ص 262، ح 10
2- سورة الزمر، الآية: 67
3- سورة الأنعام، الآية: 91

إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ثم نزّه عز وجل نفسه عن القبضة واليمين وقال سبحانه وتعالى: «عَمَّا يُشْرِكُونَ»(1)»(2).

عن ابن أذينة عن الأحوال قال: سألت أبا عبد الله عن الروح التي في ادم عليه السلام في قوله تعالى:

«فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي».

قال:

«هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة»(3).

المسألة الثانية: الأذهان والفكر والجوارح

قال الإمام علي عليه السلام:

«فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ

ص: 58


1- سورة الأعراف، الآية: 190
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 4، ص 253، ح 2
3- مرآة العقول في شرح اخبار الرسول للعلامة المجلسي: ج 1، باب الروح، ص 489

بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ، وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ».

اشتمل هذا الكلام على مفردات وهي: (أذهان، وفكر، وجوارح) وقيل في معناها:

(أذهان: جمع ذهن أي الفهم، - وفكر - بكسر الفاء وفتح الكاف - جمع فكر - بسكون الكاف - وهو النظر في الشيء. وجوارح: جمع جارحة: وهو العضو الذي يستعمله الإنسان في شؤونه والأذواق: جمع ذوق، ويكون باللسان والفرج، ويطلق أيضا على الطبع)(1).

إن الإنسان العاقل الذي خلقه الله على الفطرة لا يعمل عملاً إلا بعد فكر وإمعان في الأمر، فيبتعد عن الأشياء الخطرة لأن الله خلق له

ص: 59


1- في ظلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ص 30

أدوات النظر والسمع وسائر الأعضاء التي من خلالهما يميز الأشياء التي تنفعه والتي تضره، فهذه الجوارح يجعلها في خدمته، ومصدر هذه الحواس هو العقل وهو الحاكم عليها كما ورد في كتاب مرآة العقول عن المجلسي بإسناده عن يونس بن يعقوب، قال: كان عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين و محمّد ابن النّعمان وهشام بن سالم والطيار وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله عليه السلام:

«يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟»

فقال هشام: یابن رسول الله إنّي أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله عليه السّلام:

ص: 60

«إذا أمرتكم بشيء فافعلوا».

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملّة سوداء متّزر بها من صوف وشملّة مرتد بها والنّاس يسألونه فاستفرجت النّاس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: أيّها العالّم، إنّي رجل غريب أتأذن لي لي في مسألة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟ فقال لي: يا بنيّ أيّ شيء تريد من هذا السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي فقال: يا بنيّ سل وإن كانت مسألتك حمقاء، قلت: أجبني فيها، قال لي: سل، قلت: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟

ص: 61

قال: أرى بها الألوان والأشخاص، قلت: فَلَكَ أنف؟، قال: نعم، قلت : فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة، قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق -ه الطعم، قلت: فلك أذن؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح و الحواس، قلت: أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بنّي إنّ الجوارح إذا شكت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستبين اليقين ويبطل الشّك.

قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشكّ الجوارح؟ قال: نعم، قلت: لا بدّ من

ص: 62

القلب وإلاّ لم يستيقن الجوارح؟ قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان فإنّ الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماما يصحّ لها الصحيح ويتيقن به ما شككت فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟

قال: فسكت ولم يقل لي شيئا، ثمّ التفت إليّ فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟ فقلت: لا، فقال: أمن جلسائه؟ قلت: لا، قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: فأنت إذا هو، ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو هو عبد الله الله عليه السّلام فقال:

«یا هشام من علمك هذا؟»

ص: 63

قلت: شيء أخذته منك وألفته، فقال عليه السلام:

«هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم و موسی»(1).

روي في (العيون) عن ابن السكيت أنه قال للرضا عليه السلام بعد سؤاله عن وجه اختلاف معجزات موسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال عليه السلام:

«العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه».

فقال ابن السكيت: هذا والله الجواب(2).

أعطى الله للإنسان نعماً كثيرة منها الذوق

ص: 64


1- مرآة العقول: ج 2، ص 172
2- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق المتوفى (سنة 381 ه): ج 2، ص 86، ح 12

فيعرف به الطعم الحلو من المر وأعطاه الشم ليميز به الريح الطيب عن الخبيث وأعطاه النظر ليميز به طريقه ويبتعد عن المضار ويميز بين الألوان، فالله خلق الإنسان بأكمل وجه وأتم خلق والإنسان هو أعظم مخلوقات الله والدليل على ذلك هو نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأئمتنا الأطهار عليهم السلام، قال تعالى:

«إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»(1).

أما (الأجناس) قال السيد الشيرازي: (والمراد من الأجناس كالعربي، والتركي، والفارسي، وقال البعض أنه مطلق الأمور الكلية لا الجنس المصطلح في علم المنطق والكلام)(2).

ص: 65


1- إبراهيم، 11
2- شرح نهج البلاغة لمحمد الشيرازي: ص 22

المسألة الثالثة: الاختلاف في الألوان والأضداد والأخلاط في خلق الإنسان وخُلقه

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ، وَ الْأَخْلاَطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ، وَ الْبَلَّةِ وَ الْجُمُودِ

والمراد بالألوان الأولى الأعراض كالسواد والصفار، وبالثانية الأحوال كالحر والبرد، والمساءة والمسرة، والأخلاط الأصناف المختلطة(1).

(بطينة الالوان المختلفة) روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله بعد أن سأله عبد الله بن سلام أن آدم خلق من الطين كله أو من طينة واحدة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من الطين كله، ولو خلق من طين واحد لما عرف ص: 66


1- في ظلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ص 30

الناس بعضهم بعضا وكانوا على صورة واحدة».

قال: فلهم في الدنيا مثل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«التراب فيه أبيض وفيه أخضر وفيه أشقر وفيه أغبر وفيه أحمر وفيه أزرق وفيه عذب وفيه مالح وفيه خشن وفيه لين وفيه أصهب فلذلك صار الناس فيهم لين وفيهم خشن وفيهم أبيض وفيهم أصفر وأحمر وأصهب وأسود على ألوان التراب»(1).

قال الشيخ محمد مغنية: (يشير الإمام بهذا أن في طبيعة الإنسان ومزاجه قوى عناصر منها ما ينسجم بعضها مع بع-ض كانسجام العلم مع الحلم، والصدق مع الوفاء، وكانسجام الجبن مع البخل، والكذب مع الرياء، ومنها ما يختلف بعضها مع الآخر كاختلاف الرضا والغضب، والضحك والبكاء، والحفظ والنسيان، وغير ذلك

ص: 67


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج 2، ص 471، ح 33

وكلها لخير الإنسان ومصلحته وبقائه واستمراره ولو نقصت منه صفة واحدة لاختل توازن الإنسان ولم ينتفع بشي.

ونضرب لذلك مثلاً واحداً أنّه لولا النسيان لتراكمت الهموم على الإنسان ولم يستمتع بشيء ولانتهت حياته في أمد قصير، ولولا الحفظ لأنسدّ باب العلم بشتى أنواعه بل ولم يهتدِ الإنسان إلى أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، وإذا خرج من بيته استحال أن يعود إليه؛ وهكذا سائر الصفات المتباعدة منها والمتقاربة.. وكلها تجري على نظام مشترك، وقدر جامع، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على وحدة الخالق والمدبر الذي لا إله إلا هو، قال تعالى:

«قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا»(1))(2).

ص: 68


1- سورة الطلاق، الآية: 3
2- في ضلال نهج البلاغة لمحمد جواد مغنية: ج 1، ص 35

جاء في شرح بهج الصباغة للعلامة التستري..: (قال الناظم: الدليل على الصانع إنا رأينا أشياءً متضادة من شأنها التنافي والتباين والتفاسد مجموعة، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة المجتمعة في كل حيوان، وفي أكثر سائر الأجسام، فعلمنا أن جامعها قسرها على الاجتماع ولولا ذلك لتباينت وتفاسدت، ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتناثرات، وتتقاوم من غير جامع جمعها، لجاز أن يجتمع الماء والنار ويتقاوما من ذاتهما، بغير جامع مدبر مقيم يقيمهما، وهذا محال.

هذا، وقال المبرد: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه وهو عليل فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج ولو نشر بالمناشير لما أحس به، ونصف الآخر منقرس لو

ص: 69

طار الذباب بقربه لآلمه.

وقال الجاحظ لمتطبب يشكو إليه علته: قد اصطلحت الأضداد على جسدي إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي)(1).

المسألة الرابعة: لماذا جعل الله الأرواح في الأبدان

حدثنا عبد الله بن بن الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لأي علة جعل الله عز وجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محمل؟ فقال عليه السلام:

«إن الله تبارك وتعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عز وجل، فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدّر لها في ابتداء التقدير نظرا لها ورحمة بها وأحوج بعضها إلى بعض وعلق بعضها على

ص: 70


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة للعلامة التستري: ج 1، ص 480

بعض ورفع بعضها على بعض في الدنيا ورفع بعضها فوق بعض درجات في الآخرة وكفى بعضها ببعض وبعث إليهم رسله واتخذ عليهم حججه مبشرين ومنذرين يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبدهم بها، ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الأجل ومثوبات في العاجل ومثوبات في الأجل ليرغّبهم بذلك في الخير ويزيدهم في الشر وليد بهم بطلب المعاش والمكاسب فيعملوا بذلك إنهم بها مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم الأبد وجنة الخلد ويأمنوا من الفزع إلى ما ليس لهم بحق».

ثم قال عليه السلام:

«يا بن الفضل، إن الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم، ألا ترى انك لا ترى فيهم إلا محبا للعلو على غيره حتى يكون منهم لمن قد نزع إلى دعوى الربوبية، ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوة

ص: 71

بغير حقها، ومنهم من قد نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها وذلك مع ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام المناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجمعهم، يا بن الفضل: إن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون»(1).

أولاً: علة خلق آدم من غير أب وأم

ما هي العلة التي من أجلها خلق الله آدم عليه السلام من غير أب وأم - وخلق عيسى بن مريم عليهما السلام من غير أب وخلق سائر الخلق من أم وأب؟

سُئل الامام الصادق عليه السلام عن العلة في خلق آدم من غير أب وأم، فأجاب كما في

ص: 72


1- علل الشرائع للشيخ للصدوق: ج 1، الباب 13: العلة التي من أجلها جعل الله الأرواح في الأبدان، ص 22، ح 1

الرواية: عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لأي علة خلق الله عز وجل آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من غير أب وخلق سائر الناس من الآباء والأمهات؟ فقال عليه السلام:

«ليعلم الناس تمام قدرته وكمالها، ويعلموا أنه قادر على أن يخلق خلقا " من أنثى من غير ذكر، كما هو قادر على أن يخلقه من غير ذكر ولا أنثى، وأنه عز وجل فعل ذلك لِيُعلم أنه على كل شيء قدير»(1).

قال تعالى:

«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2).

ثانياً - الحنين إلى طينة الأصل

عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

ص: 73


1- علل الشرائع للشيخ للصدوق: ج 1، الباب 12: العلة التي من أجلها خلق الله تعالى آدم من غير أب وأم، ص 15، ح 1
2- سورة آل عمران، الآية: 59

«إن الله عجن طينتنا وطينة شيعتنا فخلطنا بهم وخلطهم بنا فمن كان في خلقه شيء من طينتنا حنَّ إلينا فأنتم والله منا»(1).

محبيهم وعنه عليه السلام قال:

«إن الله عز وجل خلقنا من عليين وخلق محبينا من دون ما خلقنا منه وخلق عدونا من سجين وخلق مما خلقهم منه فلذلك يهوي كل إلى كل»(2).

فمن هاتين الروايتين وغيرهما نستدل أن كل إنسان يختار مصيره في الانتماء لمن يحب فإن الله قد خيّر البشر فخيّرهم بين الخير والشر والحق والباطل وكذلك خيرهم بين الجنة والنار وجعل السبيل إليهما من خلال أعمالهم، وحتى الطينة التي خلق منها فمنهم من هوى طينة الصالحين ومنهم من

ص: 74


1- بصائر الدرجات للصفار: ج 1، باب خلق الأئمة عليهم السلام، ص 47، ح 8
2- بصائر الدرجات للصفار: ج 1، باب خلق الأئمة عليهم السلام، ص 47، ح 9

هوى طينة الفاسقين فكل إنسان يحب قرينه.

قال تعالى:

«كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(1).

وروي عن فضيل بن الزبير عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«يا فضيل أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّا أهل بيت خلقنا من عليين وخلق قلوبنا من الذي خلقنا منه وخلق شيعتنا من أسفل من ذلك وخلق قلوب شيعتنا منه؛ وأن عدونا خلقوا من سجين وخلق قلوبهم من الذي خلقوا منه وخلق شيعتهم من أسفل من ذلك وخلق قلوب شيعتهم مما خلقوا منه فهل يستطيع أحد من أهل عليين أن يكون من أهل سجين وهل يستطيع أهل سجين أن يكونوا من أهل علين»(2).

ص: 75


1- سورة المدثر، الآية: 38
2- بصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفّار: ج 1، باب خلق الأئمة عليهم السلام، ص 48، ح 16

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة تحقيق محمد عبده / طبعة جديدة / منقحة مصححة مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع.

3. مستدرك الوسائل، المؤلف ميرزا حسين النوري الطبرسي ج 12 / تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث / سنة الطبع 1408 1988 م / مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - بيروت - لبنان.

4. روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه

ص: 76

/ المؤلف محمد تقي المجلسي، ج 4 المتوفى 1070 / تحقيق نمقه وعلق عليه واشرف على طبعه السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي بناه الاشتهاردي.

5. كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق المتوفى 381 / صححه وقدمه العلامة الشيخ حسين الاعلمي / منشورات مؤسسة الاعلمي بيروت - لبنان.

6. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة لعلامة الشيخ محمد تقي التستري / مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان.

7. في ظلال نهج البلاغة / شرح الشيخ محمد جواد مغنية / منشورات الرضا.

8. تبيان الفصاحة في شرح نهج البلاغة للسيد عباس علي الموسوي / مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع.

9. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة العلامة

ص: 77

المحقق الحاج ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي 1261 ه - 1324 ه دار المحجة البيضاء.

10. مرآة العقول في شرح اخبار الرسول شرح كتاب الكافي للكليني تأليف العلامة الحجة فخر الأمة المولى الشيخ محمد باقر المجلسي قدس سره، 1111 ه، تحقيق الشيخ مصطفى صبحي الخضر / تصحيح علاء الأعلمي / شركة الأعلمي للمطبوعات.

11. تفسير مجمع البيان / الشيخ البرسي الوفاة 548 / تحقيق وتعلقي لجنة من العلماء والمحققين 1415 ه 1995 م - الناشر مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.

12. علل الشرائع للشيخ الصدوق المتوفى 381 ه مؤسسة الاعلمي / الجزء الأول والثاني.

13. الصحاح المؤلف الجوهري الجزء الخامس الوفاة 393 / المجموعة علوم اللغة العربية / الطبعة الرابعة / سنة الطبع 1407 - 1987 م / نشر دار العلم

ص: 78

- بيروت - لبنان.

14. الكافي / الشيخ الكليني الوفاة 329 ه / تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري / الطبعة الخامسة / سنة الطبع 1363 / المطبعة الحيدري / نشر دار الكتاب الاسلامية - طهران.

15. بحار الانوار الجامعة لاخبار الائمة الاطهار / تأليف العلامة الحجة فخر الأمة المولى الشيخ محمد باقر المجلسي طبعه منقحه بتعاليق العلامة الشيخ علي النمازي الشاهرودي / منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.

16. بصائر الدرجات للثقة الجليل المحدث النبيل شيخ القميين / ابو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار المتوفى سنة 290 ه من اصحاب الامام الحسن العسكري عليه السلام / منشورات شركة الاعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.

17. عيون اخبار الرضا عليه السلام للشيخ

ص: 79

الصدوق المتوفى 381 ه / صححه وقدم له وعلق عليه العلامة الشيخ حسين الأعلمي / منشورات الأعلمي، بيروت - لبنان.

ص: 80

المحتويات

مقدمة المؤسسة...5

المبحث الأول العلة في امتحان الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام

أولاً - قال عليه السلام: الحَمدُ لله الَّذِي لَبسَ العِزَّ والكِبريَاءَ، واختَارَهُمَا لِنَفسِه دُونَ خَلقِه...15

ثانياً - قال عليه السلام: واصطَفَاهُمَا لِجَلَالِه وجَعَلَ اللَّعنَةَ عَلَى مَن نَازَعَه فِيهمَا مِن عِبَادِه...17

ثالثاً - قال عليه السلام: ثُمَّ اختَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَه المُقَرَّبينَ، لِيَميِزَ المُتَوَاضِعِينَ مِنهُم مِنَ المُستَكبِرينَ...18

رابعاً - قال عليه السلام: السر في أمره تعالى الملائكة بالسجود أدم عليه السلام...20

خامسا - قال عليه السلام: اعتَرَضَته الحَمِيَّةُ فَافتَخَرَ عَلَى آدَمَ بخَلقِه، وتَعَصَّبَ عَلَيه لأصلِه، فَعَدُوُّ الله إمَامُ المُتَعَصِّبينَ...22

سادساً - قال عليه السلام: وسَلَفُ المُستَكبرينَ، الَّذي وَضَعَ

ص: 81

أسَاسَ العَصَبيَّةِ، ونَازَعَ الله ردَاءَ الجَبريَّةِ، وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّز وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ...24

سابعاً - قال عليه السلام: أَلَا تَرَونَ كَيفَ صَغَّرَه الله بتَكَبُّره، ووَضَعَه بتَرَفُّعِه فَجَعَلَه فِي الدُّنيَا مَدحُوراً، وأعَدَّ لَه فِي الآخِرَةِ سَعِيراً...26

ثامناً - عليه السلام: ولَو أرَادَ الله أن يَخلُقَ آدَمَ مِن نُورِ، يَخطَفُ الأبصَارَ ضِيَاؤُه ويَبهَرُ العُقُولَ رُوَاؤُه، وطِيبِ يَأخُذُ الأنفَاسَ عَرفُه لَفَعَلَ، ولَو فَعَلَ لَظَلَّت لَه الأعنَاقُ خَاضِعَةً...27

تاسعاً - قال عليه السلام: ولَخَفَّتِ البَلوَى فيه عَلَى المَلَائِكَة ولَكِنَّ الله سُبحَانَه يَبتَلِي خَلقَه ببَعضِ مَا يَجهَلُونَ أصلَه، تَمييزاً بالاِختِبَار لَهُم ونَفياً لِلاِستِكبَار عَنهُم، وإبعَاداً لِلخُيَلَاءِ مِنهُم...28

المبحث الثاني بيان صفة خُلِق آدم عليه السلام

المسالة الأولى: الطينة التي خلق منها آدم علیه السلام...31

أولاً - قال عليه السلام، «ثُمَّ جَمَعَ سُبحَانَه مِن حَزنِ الأَرضِ وسَهلِهَا، وعَذبِهَا وسَبَخِهَا، تُربَةً سَنهَا بِالمَاءِ حَتَّى خَلَصَت»...31

ثانياً - سبب تسمية نبي الله آدم عليه السلام بآدم...35

ثالثاً - ولاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزبَت...36

رابعاً - اختلاف طينة المؤمن عن طينة الكافر...38

خامساً - السبب في خلق الله الإنسان من تراب...41

المسالة الثانية: الصورة التي خُلِق عليها آدم عليه السلام...43

أولاً - قال عليه السلام: فَجَبَلَ مِنهَا صُورَةَ ذَاتَ أَحنَاءٍ ووُصُولٍ

ص: 82

وأَعضَاءٍ، وفُصُولٍ أجمَدَهَا حَتَّى استمسَكَت، وأَصلَدَهَا حَتَّى صَلصَلَت، لِوَقتٍ مَعدُودٍ وأَمَدٍ مَعلُومٍ...43

ثانياً - أَجمَدَهَا حَتَّى استمسَكَت، وأَصلَدَهَا حَتَّى صَلصَلَت...46

ثالثاً - لِوَقتٍ مَعدُودٍ وأَمَدٍ مَعلُومٍ...48

المبحث الثالث بث الروح في الطينة واختلاف الألوان والأضداد

المسالة الأولى: نفخ الروح في آدم عليه السلام...52

المادة الثانية: الأذهان والفكر والجوارح...58

المسالة الثالثة: الاختلاف في الألوان والأضداد والأخلاط في خلق الإنسان وخُلقه...66

المسالة الرابعة: لماذا جعل الله الأرواح في الأبدان...70

أولاً: علة خلق آدم من غير أب وأم...72

ثانياً - الحنين إلى طينة الأصل...7.

ص: 83

المجلد 2

هوية الکتاب

نبي الله آدم عليه السلام ما جرى له في الجنة وهبوطه الى الأرض

ص: 1

ص: 2

سلسلة الأنبياء في نهج البلاغة نبي الله آدم عليه السلام ما جرى له في الجنة وهبوطه إلى الأرض الجزء الثاني

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1436 ه - 2015 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.Inahj.org E-mail: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

بسمه تعالی

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وآله الطيبين الأخيار.

تناولنا في الكتاب السابق جانباً مما ورد في کلام أمير المؤمنين علي عليه السلام المجموع في کتاب نهج البلاغة حول نبي الله آدم عليه السلام، وفي هذا الكتاب سنتناول بقية ما ورد عنه عليه السلام حول نبي الله آدم ضمن ثلاثة بحوث تفرعت الى مجموعة من المسائل بحسب مقتضيات البحث والله الموفق لكل خير.

ص: 5

المبحث الرابع سجود الملائكة لأدم عليه السلام وامتناع إبليس لعنه الله

ص: 6

المسألة الأولى: في سجود الملائكة وكيف جرى

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام:

«وَ اسْتَأْدَی اللّه سُبْحَانَهُ الْمَلائِکَةَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهِمْ فِی الْإِذْعانِ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَالْخُنُوعِ لِتَکْرِمَتِهِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:

«اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ»(1).

اعْتَرَتْهُ الْحَمِیَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَیْهِ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزَ بِخِلْقَهِ النّارِ وَاسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصالِ، فَأَعْطَاهُ اللّه النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِیَّةِ،

ص: 7


1- سورة البقرة: 34

وَإِنْجازاً لِلْعِدَة، فَقالَ:

«فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلی یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»(1)(2).

قبل أن يخلق الله سبحانه وتعالی آدم قال للملائكة:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(3).

فسمع الملائكة الوصية وحفظوها، ولما تمِّ كل شيء من خلق آدم طلب سبحانه من ملائكته أن يؤدوا الوديعة والوصية التي عهد بها إليهم من قبل، وهي السجود لآدم عند تمام خلقه وإلى هذا أشار الإمام بقوله: "في الإذعان بالسجود له

ص: 8


1- سورة الحجر، الآية: 37، 38
2- نهج البلاغة محمد عبده: ج 1، ص 26 - 27
3- الحجر: 28 - 29

والخشوع لتكرمته"، قال سبحانه:

«اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا»(1) له سجود التحية.

روي عن أبي بصير قال لأبي عبد الله عليه السلام: سجدت الملائكة لآدم عليه السلام ووضعوا جباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى(2). وقوله عليه السلام: "والخشوع لتكرمته" وقد تكون الحكمة في إخبار الملائكة من قبل أن لا يفاجئوا بوجوب السجود لآدم فيشتد وقعه عليهم، وأنه تعالی أراد أن يعلمنا كيف نفعل اذا أردنا أن نخبر أو نطلب شيئاً من شخص أو مجموعة لم يكن ذلك الأمر في حسبانه، كما هو شأن الملائكة آنذاك بالنسبة لآدم والسجود له ولذا قالوا:

ص: 9


1- البقرة: 34
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 11، ص 99، باب سجود الملائكة

«أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»(1).

وجاء في البحار عن أبي جعفر محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ان الله تبارك وتعالی أراد أن يخلق خلقاً بيده وذلك بعدما مضى من الجن والنسناس(2) في الأرض سبعة آلاف سنة وكان من شأنه خلق آدم كشط عن أطباق السماوات وقال للملائكة: أنظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس، فلما رأوا ما يعملون من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق عظم ذلك عليهم وغضبوا لله وتأسفوا على أهل الأرض ولم يملكوا غضبهم

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 30
2- قال كراع النسناس فيما يقال دابه في كراد الوحوش تصاد وتؤكل وهي على شكل الانسان بعين واحد ورجل ويد تتكلم مثل الانسان. لسان العرب: ج 6، ص 230

فقالوا: ربنا أنت العزيز القادر الجبار القاهر العظيم الشأن، وهذا خلقك الضعيف الذليل يتقلبون في قبضتك ويعيشون برزقك ويستمتعون بعافيتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام لا تأسف عليهم، ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم وترى وقد عظم ذلك علينا واكبرناه فيك، قال فلما سمع ذلك من الملائكة قال:

«إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً».

يكون حجة في أرضي على خلقي، فقالت الملائكة سبحانك:

«أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا».

كما أفسد بنو الجان، ويسفكون الدماء كما سفكت بنو الجان، ويتحاسدون ويتباغضون؟، فاجعل ذلك الخليفة منا فإنا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء:

ص: 11

«نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»».

فقال: عز وجل:

«إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».

إني أريد أن أخلق خلقا بيدي وأجعل من ذریته أنبياء ومرسلين وعباداً صالحين وأئمة مهتدين أجعلهم خلفاء على خلقي في أرضي، ينهونهم عن معصيتي وينذروهم من عذابي، ويهدوهم الى إطاعتي ويسلكون بهم سبيلي. وأجعلهم لي حجة عليهم وعذرا ونذرا وأبين النسناس عن أرضي وأطهرها منهم، وأنقل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وخيرتي وأسكنهم في الهواء وفي أقطار الأرض فلا يجاورن نسل خلفي، واجعل بين الجن وبين خلقي حجابا فلا يرى نسل خلقي الجن ولا يجالسونهم ولا يخالطونهم، فمن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم أسكنهم مساكن العصاة

ص: 12

وأوردهم مواردهم ولا أبالي قال: فقالت الملائكة: يا ربنا افعل ما شئت:

«قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».

قال: فباعدهم الله من العرش مسيرة خمسمائة عام

قال: فلاذوا بالعرش فأشاروا بالأصابع، فنظر الرب جل جلاله إليهم ونزلت الرحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال: طوفوا به، ودعوا العرش فانه لي رضا. فطافوا به وهو البيت الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا. فوضع الله البيت المعمور توبةً لأهل السماء، ووضع الكعبة توبة لأهل الأرض، فقال الله تبارك وتعالی:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ

ص: 13

مَسْنُونٍ (6) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ»(1).

وجاء في تفسير النور علَّم الله تعالی آدم أسماء وأسرار العالم، بما في ذلك أسماء أوليائه والجماد، وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام ماذا علمه الله تعالى قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى البساط تحته فقال وهذا مما علمه(2).

وجاء في البحار «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ» أسماء أنبياء الله وأسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهما وأسماء رجال من خيار شیعتهم وعصاة أعدائهم «ثُمَّ عَرَضَهُمْ» عرض محمدا وعليا والأئمة (على الملائكة) اي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ

ص: 14


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 11، ص 73
2- تفسير النور للشيخ محسن قراعتي: ج 1، ص 92

هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». أنّ جميعكم تسبحون وتقدسون، وان ترككم هنا أصلح من إيراد من بعدكم، أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم فبالحري أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن، كما لا تعرفون أسماء أشخاص ترونها، قالت الملائكة «سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».

العليم بكل شي والحكيم والمصيب في كل فعل، فقال الله تعالی «يَا آدَمُ» له أنبئ هؤلاء الملائكة و «بِأَسْمَائِهِمْ» أسماء الأنبياء والأئمة عليهم السلام و «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ» فعرفوها أخذ عليهم العهد والميثاق بالإيمان بهم والتفضل لهم، قال الله تعالی عند ذلك: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ما كان يعتقد إبليس من الإباء على

ص: 15

آدم إن أمر بطاعته وإهلاكه إن سلّط عليه، ومن اعتقادكم انه لا أحد يأتي بعدكم إلا وانتم أفضل، منه بل محمد وآله الطيبون أفضل منكم، الذين أنبأكم آدم بأسمائهم(1).

المسألة الثانية: امتناع إبليس لعنه الله عن السجود

أولا: قال عليه السلام: (فسجدوا إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة)

أي غشته العصبية والضلالة واستكبر على الله. قال تعالى:

«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»(2).

وقوله عليه السلام:

«وادّرع لباس التعزز واخلع قناع التذلل».

ص: 16


1- بحار الانوار للمجلسي ج 11، ص 74
2- الفتح: 26

إن الله تعالى كان يعلم أن إبليس من الضالين ومن المتكبرين منذ البدء ولكن أراد أن يظهر ما بداخله للملائكة ولجميع المخلوقات فلما أمره بالسجود أبى ذلك وتعصب حيث نزع ذاك الوجه الذي كان يتعبد فيه وأظهر حقيقته.

وجاء في البحار: خلق الله آدم فبقى أربعين سنة مصورا وكان يمر به إبليس اللعين فيقول لأمر ما خلقت، فقال العالم علیه السلام فقال إبليس: لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته، زیاده وقال ثم نفخ فيه فلما بلغت فيه الروح الى دماغه عطس فقال الحمد لله، فقال الله له يرحمك الله، قال الصادق فسبقت له من الله الرحمة ثم قال تبارك وتعالى للملائكة: «اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا» فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى إن يسجد فقال الله «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»

ص: 17

فقال «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1).

ثانياً: قال عليه السلام: وتعَزُز بِخِلقَةِ النَارِ واستوهَنَ خَلقَ الصَّلصَالِ

قال الإمام الصادق عليه السلام: "فأول من قاس إبليس واستكبر والاستكبار هو أول معصية عصي الله بها، قال: "فقال إبليس يا رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدکها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقال الله لا حاجة لي إلى عبادتك، إنما اُريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد فأبى أن يسجد فقال تبارك وتعالى: «فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ»(2).

وقوله عليه السلام:

ص: 18


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي : ص 100، ج 11. وخطبة القاصعة 190
2- بحار الانوار للعلامة المجلسي: ج 11، ص 100

«فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لأصله»(1).

عن الصادق عليه السلام أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال له: «يا أبا حنيفة بلغني أنك تقیس»؟، قال نعم قال: «لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس بين النار وبين الطين ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر»(2).

ثالثا: قال عليه السلام: فَأَعطَاه الله النظِرَةَ استِحقَاقاً لِلسُّخطَةِ

طلب إبليس من الله أن يمهله ويبقيه حيا ما دام على وجه الأرض إنسان ليتولى غوايته للبشر أبناء

ص: 19


1- نهج البلاغة: خطبة القاصعة، ج 2، ص 313
2- أصول الكافي لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني: ج 1، ص 38

آدم وعدوه الأكبر طلب الإمداد له وهو يعلم أن ذلك يعود عليه بالشر والوبال، ومع هذا أمر وآثر أن يتحمل كل شيء من أجل التنكيل بآدم وذريته والانتقام منه، فاختار الله تعالى لإبليس ما اختار لنفسه واستحق غضب الله وعذابه بسوء ما اختار «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا»(1).

وقال عليه السلام:

«ما ابتلي أحد بمثل الإملاء له»(2).

وقال عليه السلام:

«ألا ترون كيف صفره الله بتكبره ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحورا واعد له

ص: 20


1- سورة الاسراء: 18
2- في ظلال نهج البلاغة للشيخ محمد جواد مغنية : ج 1، ص 37

في الآخرة سعيرا»(1).

إن إمهال إبليس هو زيادة له في الكفر وزيادة له في عذاب الدنيا والآخرة، قال تعالى: «إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا»(2) فالإمهال هو عقاب بحد ذاته.

رابعا: قال عليه السلام: واستِتمَاماً لِلبَلِيَّةِ

ومثلما ابتلي الله إبليس بآدم ليتم الحجة عليه وإن الله كان يعلم ما بداخل إبليس فأتمّ الحجة عليه وأظهر إبليس حقده، فكذلك الله علم أن من البشر من هو مثل إبليس فأبقى إبليس لإغوائهم لكي تظهر أفعالهم وسرائرهم لتتم الحجة عليهم، وقوله عليه السلام: "ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من ولد آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين منهم من هذا العالم" فإن الله

ص: 21


1- نهج البلاغة: خطبة القاصعة، ص 313، برقم 191
2- آل عمران: 178

جعل إبليس فتنة للمتكبرين والمنافقين الذين اتخذوا الشيطان وليا لهم، أما العباد الصالحون فلا خوف عليهم، قال تعالى: «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ»(1).

خامساً: قال عليه السلام: وإِنجَازاً لِلعِدَةِ، فَقَالَ: (فَإِنَكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ)

إن إبليس عبد الله ستة الاف سنة فأضاعها بتكبره في ساعة واحدة، فأمهله الله تلك النظرة إلى الوقت المعلوم، قال الإمام عليه السلام "فاعتبروا بما فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمِن سنّي الدنيا أم من سنّي الآخرة"(2) وقال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا

ص: 22


1- الحجر: 42
2- نهج البلاغة: الخطبة القاصعة: ج 1، ص 314

لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»(1).

جاء في منهاج البراعة في شرح السيد حبيب الله قال: اختلفوا في المراد في يوم «الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»، فقيل أولاً: احدهما: ان المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الاولى حين تموت كل الخلائق، وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لان من المعلوم انه تموت كل الخلائق فيه، وقيل إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم لأن العالم بذلك هو الله تعالى لا غيره، قال تعالى «إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ»(2). وقوله «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ»(3).

ثانيا: ان المراد من الوقت المعلوم هو الذي

ص: 23


1- الشوری: 20
2- الأعراف: 187
3- لقمان: 34

ذكره الله تعالى بقوله: «إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1).

ثالثا: ان المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه الا الله وليس المراد منه يوم القيامة(2).

وجاء عن وهب بن جميع مولی اسحاق بن عمار، سألت أبا عبد الله عن قول إبليس «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»، قال له وهب: جعلت فداك أي يوم هو؟ قال: يا وهب أتحسب انه يوم يبعث الله فيه الناس؟ ان الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول يا ويليه من هذا اليوم فيأخذ بناصيته، فيضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم(3).

ص: 24


1- الحجر: 36
2- منهاج البراعة لحبيب الله الخوئي: ج 2، ص 267
3- تفسير العياشي لمحمد بن مسعود العياشي: ج 2، ص 292، ح 14

وجاء في البحار: عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى «إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»: قال يوم الوقت المعلوم يوم يذبحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصخرة التي في بيت المقدس(1).

ص: 25


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 11، ص 109

المبحث الخامس ما جرى لأدم عليه السلام في الجنة

ص: 26

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ثُمّ أَسكَنَ سُبحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرغَدَ فِيهَا عَيشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلّتَهُ وَ حَذّرَهُ إِبلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ، فَاغتَرّهُ عَدُوّهُ نَفَاسَةً عَلَيهِ بِدَارِ المُقَامِ، وَ مُرَافَقَةِ الأَبرَارِ، فَبَاعَ اليَقِينَ بِشَكّهِ وَ العَزِيمَةَ بِوَهنِهِ، وَ استَبدَلَ بِالجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاغتِرَارِ نَدَماً

أولاً قال عليه السلام: "ثمَّ أسكَنَ سُبحَانَه آدم دَاراً أرغَدَ فِيهَا عَيشَه، وآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَه"

قال عليه السلام: "وكل نعيم دون الجنة فهو محقور"(1).

ص: 27


1- نهج البلاغة: الحكمة 386. ص 583

وقال تعالى: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا»(1).

وقال تعالى: «ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ»(2) فهي أمان من كل المصائب والابتلاءات التي تكون في الدنيا.

ثانيا: قال عليه السلام: وحَذَّرَه إبلِيس وعَدَاوَتَه

قال تعالى: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا»(3) وقوله تعالى: «فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى».

وقوله عليه السلام: «فاحذروا عباد الله - عدو الله أن يعدیکم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وان يجلب علیکم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوّق

ص: 28


1- البقرة: 35
2- الحجر: 46
3- بحار الانوار للعلامة المجلسي: ج 11، ص 109، الحكمة 386

لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب وقال «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»(1)»(2).

فوسوس إليه الشيطان فقال: «يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى».

ثالثا: قال عليه السلام: فَاغتَرَّه عَدُوُّه نَفَاسَةً عَلَيه بدَار المُقَامِ، ومُرَافَقَةِ الأبرَار

(أي انتهز منه غرة فأغواه وكان الحامل للشيطان على غواية آدم هو حسده)(3) لأن الله أعطاه منزلة عظيمة إذ جعله خليفة واسجد له الملائكة وجعل في صلبه أشرف البرية من أنبياء وأوصياء وحسده على وجوده بالجنة، هم

ص: 29


1- سورة الحجر: 37
2- نهج البلاغة: الخطبة القاصعة، برقم 191، ج 2، ص 314
3- الخطبة القاصعة شرح محمد عبده نهج البلاغة

الملائكة.

(وقيل في بيع اليقين بالشك وجوه): الوجه الأول: ان معیشة آدم في الجنة كانت على حال يعلمها يقينا، وما كان يعلم كيف يكون معاشه بعد مفارقتها.

الوجه الثاني: إن ما أخبره الله من عداوة إبليس «إِنَّ هَذَا عَدُوُّلَكَ» كان يقينا، فباعه بالشك في نصح إبليس اذ قال: «إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ».

الوجه الثالث: إن هذا مثل قديم للعرب لمن عمل عملا لا ينفعه وترك ما ينبغي له ان يفعله.

الوجه الرابع: إن كونه في الجنة كان يقينا فباعه بأن أكل من الشجرة فأهبط إلى دار التكليف، التي من شأنها الشك في المصير أما الجنة

ص: 30

او النار(1).

وجاء في البحار «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ» فقيل هي «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا» وقیل هي: {اللهم لا اله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا اله الا أنت سبحانك وبحمدك ربي اني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم} وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام وقيل هي "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر" وقيل هي رواية تختص بأهل البيت: أن آدم رأي مكتوب على العرش أسماء مكرمة معظمة، فسأل عنها فقيل له: هذه أسماء أجلّة الخلق عند الله منزلة، والأسماء محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين فتوسل آدم إلى ربه بهم

ص: 31


1- بحار الانوار ج 11، ص 88

في قبول توبته ورفع منزلته فتاب عليه(1).

بعدما توسل آدم بهذه الأسماء وهي أسماء أهل البيت كما في قوله: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ» حيث تاب عليه بفضل هذه الأسماء المكرمة عند الله، وجاء في العلل عن الباقر عليه السلام لولا أن الله عز وجل تاب على آدم ما تاب على مذنب أبدا(2).

رابعاً: قال عليه السلام: واستَبدَلَ بالجَذَلِ وَجَلًا وبالاِغتِرَار نَدَماً

فالجذل هو الفرح والوجل الخوف. والمعنى أن آدم عليه السلام كان يعيش في الجنة حيث السعادة والهناء والنعيم فيها، فكل الخيرات والأمان والاستقرار في الجنة، فبعد ما أغواه الشيطان أصبح

ص: 32


1- بحار الانوار ج 11، ص 111
2- علل الشرائع للصدوق: ج 1، ح 1، ص 87 باب علة الذنوب

خائفا وهكذا عاقبة التفريط حيث ندم آدم علی تلك الخطيئة ودعا الله أن يتوب عليه.

ص: 33

المبحث السادس هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض وتلقيه الكلمات

ص: 34

أولا: توبة آدم عليه السلام

قال عليه السلام: ثُمّ بَسَطَ اللّهُ سُبحَانَهُ لَهُ فِي تَوبَتِهِ، وَ لَقّاهُ كَلِمَةَ رَحمَتِهِ وَ وَعَدَهُ المَرَدّ إِلَي جَنّتِهِ، وَ أَهبَطَهُ إِلَي دَارِ البَلِيّةِ وَ تَنَاسُلِ الذّرّيّةِ.

جاء في تفسير النور إن الكلمات التي جعلها الله لآدم لكي يتوسل بها ويتوب عن زلته هي أسماء أكرم خلق الله تعالى وهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فقد ورد في تفسير الدر المنثور نقلا عن ابن عباس بأنه لما أذنب آدم بالذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد

ص: 35

وعلي وفاطمة والحسن والحسين(1).

وقيل إن أول توبة قبلت نتيجة التوسل بمحمد وآل محمد والمستفاد من هذه الروايات ان فضل أهل البيت عليهم السلام كان على جميع الخلق فلولا ان تاب الله على آدم بفضل هذه الأسماء لما تاب الله على خلقه وكذلك توضح الروايات بان أهل البيت عليهم السلام هم وسيلة الله في استجابة الدعاء فبفضل هذه الأسماء يقبل الدعاء.

قال عليه السلام: «فما زلت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربه عز وجل وقال يا رب تب علي، واقبل معذرتي، وأعدني الى مرتبتي، وارفع لديك درجتي فلقد تبين نقص الخطيئة وذلّها في أعضائي وسائر بدني»، قال الله تعالى: «يا آدم أما تذكر أمري إياك بأن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند

ص: 36


1- تفسير النور للشيخ محسن قراعتي: ج 1، ص 99

شدائدك ودواهيك وفي النوازل [التي] تبهظك؟ قال آدم: یا رب بلى.. قال الله عز وجل له فتوسل «بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم خصوصاً فأدعني أجبك إلى ملتمسك وأزدك فوق مرادك».

فقال ادم: يا رب يا الهي وقد بلغ عندك من محلهم أنك بالتوسل [إليك] بمم تقبل توبتي وتغفر خطيئتي، وأنا الذي أسجدت له ملائكتك وأبحته جنتك وزوجته حواء أمتك واخدمته کرام ملائكتك قال الله تعالی: یا آدم انما أمرت الملائكة بتعظيمك وبالسجود لك إذ كنت وعاءً لهذه الأنوار. ولولا كنت سألتني بهم قبل خطيئتك ان اعصمك منها. وأن أفطنك لدواعي عدوك إبليس حق تتحرّز منه لكنت قد جعلت ذلك ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي. فالآن

ص: 37

فبهم ادعتني لأجبك فعند ذلك قال ادم: (اللهم بجاه محمد واله الطيبين) بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من الهم لمّا تفضلت علي بقبول توبتي وغفران زلتي وإعادتي من کرامتك الى مرتبتي، فقال الله عز وجل: قد قبلت توبتك، واقبلت برضواني عليك، وصرفت الآئي ونعمائي إليك وإعادتك الى مرتبتك من كرامتي ووفرت نصيبك من رحمتي(1).

فذلك قوله عز وجل: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ».

فبفضل هذه الأسماء "وَ وَعَدَهُ المَرَدّ إِلَي جَنّتِهِ" ولكن جعل الطريق إليها محفوفاً بالمكاره، قال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».

ص: 38


1- تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ص 226. توسل آدم عليه السلام بمحمد وآله عليهم السلام

ثانيا: اختيار الله لأدم عليه السلام دار الدنيا

قال عليه السلام وَ أَهبَطَهُ إِلَي دَارِ البَلِيّةِ وَ تَنَاسُلِ الذّرّيّةِ.

إن الدنيا دار ابتلاء ودار اختبار البشر ليعرف الله أيّهم أحسن عملا ويميز بين الحق والباطل وبين الخير والشر.

قال الإمام عليه السلام: "دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها، أحوالٌ مختلفةٌ، وتارة متصرفة، العيش فيها مذموم، والأمان فيها معدوم، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها"(1).

قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»

ص: 39


1- نهج البلاغة: الخطبة 224، في ذم الدنيا، ج 2، ص 376

فالدنيا تغوي الإنسان وتطيل في أمله وتخدعه بزغارفها ولذاتها والأئمة الأطهار علیهم السلام يحذورن الناس منها ومن عواقبها.

وقوله عليه السلام: "وتناسل الذرية" قال أمير المؤمنين عليه السلام: "فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده(1)

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2) فمن خصائص الدنيا التناسل والتكاثر لكي تتم الحجة علی الخلق، فإن الله جعل من الأسرة امة مصغرة فلابد من إنشاء أسرة صالحة تنفع المجتمع وتخرج ذرية صالحة تكون داعية للخير ومتبعة سنة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 40


1- نهج البلاغة: خطبة الأشباح
2- الحجرات: 13

إن سائلا قد يسأل كيف بدأ النسل؟ والمعنى هل كان ابتداء الخلق من الإخوان وهل هذا جائز؟

جاء في العلل في علة بدء النسل، جاء عن زرارة قوله: سئل أبو عبد الله عن بدء النسل من آدم كيف كان؟ وعن بدء النسل من ذرية آدم عليه السلام؟ أناساً يقولون: إن الله عز وجل أوحى إلى آدم أن يزوج بناته ببنيه وإن هذا الخلق كله أصله من الإخوة والأخوات؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، يقول من قال بأن الله عز وجل خلق صفوة خلقه، وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال وقد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب فوالله لقد تبینت أن بعض البهائم قد تنكرت له أخته فلما نزا عليها

ص: 41

ونزل كشفت له عنها، فلما علم أنها أخته اخرج غرموله ثم قبض عليه بأسنانه حتى قطعه فخر میتا وآخر تنكرت له أمه ففعل هذا بعينه فكيف الإنسان في أنسيته وفضله وعمله؟ غير أن جيلا من هذا الخلق الذي ترون رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم، وأخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه فصاروا إلى ما قد ترون من الضلال والجهل بالعلم، كيف كانت الأشياء الماضية من بدء ان خلق الله ما خلق وما هو كائن أبدا، ثم قال ويح بحجاز ولا فقهاء هو این هم عمالهم يختلف فيه فقهاء اهل العراق، ان الله عز وجل أمر القلم فجري على اللوح المحفوظ بما هو كائن الى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام، وان في كتب الله كلها فيما جرى فيها القلم في كلها تحريم الأخوات على الأخوة مع ما حرم الكتب الأربعة المشهورة في هذا العالم: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان،

ص: 42

انزلها الله عن اللوح المحفوظ على رسله صلوات الله عليهم أجمعين فالتوراة علی موسی علیه السلام والزبور على داود عليه السلام والإنجيل على عيسى عليه السلام والقرآن على محمد صلی الله عليه وآله وسلم وعلى النبيين عليهم السلام وليس فيها تحليل شيء من ذلك حقا أقول ما أراد من يقول هذا وشبهه إلا تقوية حجج المجوس، فمالهم قاتلهم الله، ثم انشأ يحدثنا كيف كان بدء النسل من آدم وكيف كان بدء النسل من ذريته(1).

ثالثاً: هل كان إبليس من الملائكة أم من الجن؟

عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئاً من أمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة، وكانت الملائكة ترى أنه منها وكان الله

ص: 43


1- علل الشرائع للصدوق باب (17) علة بدء النسل: ج 1، ح 2، ص 26

يعلم انه ليس منها ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ولا كرامة، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر، وقال: كيف لا يكون من الملائكة والله يقول للملائكة: «اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» فدخل عليه الطيار فسأله وأنا عنده فقال له جعلت فداك قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟ فقال: نعم يدخلون في هذه المنافقون والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة(1).

رابعاً: العلة التي من أجلها فرض الله على الناس خمس صلوات في خمس مواقيت

روي عن الحسين بن أبي العلا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أهبط الله آدم من الجنة ظهرت فيه شامة سوداء في وجهه من قرنه إلى

ص: 44


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 11، ص 105

قدمه فطال حزنه وبكاؤه على ما ظهر به فأتاه جبرائیل فقال له: ما يبكيك يا ادم؟ فقال: لهذه الشامة التي ظهرت بي، قال قم فصلِّ فهذا وقت الصلاة الأُولى، فقام فصلى فانحطت الشامة إلى عنقه فجاءه في وقت الصلاة الثانية فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الثانية فقام فصلی فانحطت الشامه إلى سِرته، فجاءه وقت الصلاة الثالثة فقال یا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الثالثة فصلى فقام فانحطت الشامة إلى ركبتيه، فجاءه في الصلاة الرابعة فقال يا آدم قم فصلِّ فهذا وقت الصلاة الرابعة فقام فصلى فانحطت الشامة إلى رجليه، فجاءه في الصلاة الخامسة فقال یا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الخامسة فقام فصلی فخرج منها، فحمد الله واثنى عليه فقال جبرائیل یا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشامة من صلى من ولدك في كل يوم

ص: 45

وليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشامة(1).

واصطفی سبحانه من ولده أنبياء، أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم میثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ویروهم آیات المقدرة، من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعایش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يُخل الله تعالى خلقه من نبي مرسل، او کتاب

ص: 46


1- علل الشرائع: باب 36، العلة التي من أجلها فرض الله على الناس خمس صلوات، ج 2، ص 225، ح 2

منزل، او حجة لازمة او محجة قائمة، رسل لا تُقصّر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده او غابر عرّفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء إلى أن بعث الله سبحانه وتعالى محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 47

المبحث السابع اصطفاء الله تعالى من ولد آدم عليهم السلام أنبياء

ص: 48

أولاً: معنى الاصطفاء

قال عليه السلام: وَ اصطَفَي سُبحَانَهُ مِن وَلَدِهِ أَنبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَي الوحَيِ مِيثَاقَهُم، وَ عَلَي تَبلِيغِ الرّسَالَةِ أَمَانَتَهُم، لَمّا بَدّلَ أَكثَرُ خَلقِهِ عَهدَ اللّهِ إِلَيهِم، فَجَهِلُوا حَقّهُ وَ اتّخَذُوا الأَندَادَ مَعَهُ، وَ اجتَالَتهُمُ الشّيَاطِينُ عَن مَعرِفَتِهِ، وَ اقتَطَعَتهُم عَن عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِم رُسُلَهُ، وَ وَاتَرَ إِلَيهِم أَنبِيَاءَهُ، لِيَستَأدُوهُم مِيثَاقَ فِطرَتِهِ، وَ يُذَكّرُوهُم منَسيَّ نِعمَتِهِ، وَ يَحتَجّوا عَلَيهِم بِالتّبلِيغِ، وَ يُثِيرُوا لَهُم دَفَائِنَ العُقُولِ، وَ يُرُوهُم آيَاتِ المَقدِرَةِ، مِن سَقفٍ فَوقَهُم مَرفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحتَهُم مَوضُوعٍ، وَ مَعَايِشَ

ص: 49

تُحيِيهِم وَ آجَالٍ تُفنِيهِم وَ أَوصَابٍ تُهرِمُهُم، وَ أَحدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيهِم، وَ لَم يُخلِ اللّهُ سُبحَانَهُ خَلقَهُ مِن نبَيٍّ مُرسَلٍ، أَو كِتَابٍ مُنزَلٍ أَو حُجّةٍ لَازِمَةٍ أَو مَحَجّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لَا تُقَصّرُ بِهِم قِلّةُ عَدَدِهِم، وَ لَا كَثرَةُ المُكَذّبِينَ لَهُم، مِن سَابِقٍ سمُيّ لَهُ مَن بَعدَهُ أَو غَابِرٍ عَرّفَهُ مَن قَبلَهُ، عَلَي ذَلِكَ نَسَلَتِ القُرُونُ وَ مَضَتِ الدّهُورُ، وَ سَلَفَتِ الآبَاءُ وَ خَلَفَتِ الأَبنَاءُ إِلَي أَن بَعَثَ اللّهُ سُبحَانَهُ مُحَمّداً، رَسُولَ اللّهِ صَلّی اللهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وَسَلَّم(1).

اصطفی: اختار من ولد آدم

أخذ عليهم الميثاق أن يبلّغوا ما أوحي إليهم ويكون ما بعده بمنزلة التأكيد له، أو أخذ عليهم أن اج لا يشرعوا للناس إلا ما يوحى إليهم(2).

ص: 50


1- شرح نهج البلاغة محمد عبده: ص 26
2- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده: ج 1، ص 27

قال تعالى:

«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(1).

وقوله تعالی:

«وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ»(2).

وقوله تعالی:

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ»(3).

ص: 51


1- النجم: 3-4
2- المائدة: 116
3- الاحزاب: 7

ثانياً: أخذ الميثاق

«أَخَذْنَا» أي أذكر يا محمد حين أخذ الله الميثاق «مِنَ النَّبِيِّينَ» خصوصا بأن يصدقوا بعضهم بعضاً، وقيل أخذ «مِيثَاقَهُمْ» على أن يعبدوا الله ويدعون إلى عبادة الله، أن يصدّقوا بعضهم بعضا أو ينصحوا لقومهم ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أصحاب الشرائع «وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا»، أي عهدا شديدا على الوفاء بما حُملوا من أعباء الرسالة وقيل على أن يعلنوا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلن محمد صلی الله عليه وآله وسلم أن لا نبيَّ من بعده(1).

قال تعالى: «مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»(2).

ص: 52


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 15، ص 6
2- الصف: 6

ثالثا: تبليغ الرسالة

قال عليه السلام: "وعَلی تَبلیغِ الرِّسَالَةِ أمانَتَهُم ، لَمّا بَدَّلَ أکثَرُ خَلقِهِ عَهدَ اللَّهِ إلَیهِم"

إن قضية الإرشاد وهداية الناس ودعوتهم إلى الله هي قضية الأنبياء، فهم أمناء الله في أرضه یُجهدون أنفسهم في سبيل إيصال ما أنزل الله وما كلّف الله به العباد ويتحملون في ذلك ألوان العذاب.

وقوله عليه السلام: "أرسله داعيا الى الحق وشاهدا على الخلق فبلَّغ رسالات ربه غير وانٍ ولا مقصر وجاهد في الله أعداءه غير واهن ولا معذر امام من اتقى وبصر من اهتدى"(1)، أشار إلى أن المراد بعهد الله هو میثاق الفطرة.

والميثاق يعني عهده المأخوذ عليهم في الذر كما

ص: 53


1- نهج البلاغة: الخطبة 116، ج 1، ص 197

في الآية المباركة: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ»(1)، وقوله تعالى: «وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ»(2).

أي أنهم ضلّوا عن الفطرة التي فطرها الله لهم في التصديق به وبالرسل والأولياء والكتب السماوية.

رابعاً: قال عليه السلام: "فَجَهلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأئدَادَ مَعَه"

قال تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»(3)، الند: المِثل، والمراد ما عبدوا من الأصنام(4). قال الإمام عليه السلام:

«إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 54


1- الأعراف: 172
2- الصافات: 71
3- سورة الأنعام، الآية: 91
4- شرح نهج البلاغة لمحمد عبده: ج 1، ص 28

نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل وأنتم معشر العرب على شردين وفي شردار منيخون بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة»(1).

وقال علي محمد علي في بيان قوله "الآثام بكم معصوبة" فمعصوبة مشدودة ومن يعبد صنماً فهو مشدود بأوثق الشد إلى جميع الآثام.(2)

خامساً: قال عليه السلام: "واجتَالَتهُمُ الشَّيَاطِينُ عَن مَعرفَتِه، واقتَطَعَتهُم عَن عِبَادَتِه"

اجتالتهم: صرفتهم عن قصدهم الذي وجِّهوا إليه بالهداية المغروزة في فطرهم.

قال الإمام علي عليه السلام:

ص: 55


1- نهج البلاغة: الخطبة 26
2- شرح نهج البلاغة لعلي محمد علي: الخطبة 26

"إن الشيطان اليوم قد استفلهم وهوغدا متبرّئ منهم، ومتخلٍ عنهم فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلالة والعمي وصدِّهم عن الحق وجماحهم في التيه»(1).

وجاء في القاموس اجتالهم؛ حوّلهم عن قصدهم(2).

والمراد من هذا الكلام إن الشياطين صرفتهم عن طاعة الله إلى طاعة الشيطان ومن عبادة الخالق إلى عبادة المخلوق وهو الشيطان قال تعالى:

«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ»(3).

ص: 56


1- نهج البلاغة: الخطبة 108
2- القاموس المحيط: ص 273، مادة جول
3- سورة يس، الآية: 62

سادساً: قال عليه السلام: "فَبَعَثَ فِيهِم رُسُلَه، ووَاتَرَ إلَيهِم أنبيَاءَه"

إن الله بعث أنبياءه بشكل متواتر أي بين كل نبي ونبي فترة قال تعالی:

«ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ»(1).

وجاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«بعث الله رسلَه بما خصّهم به من وحيه وجعلهم حجة له على خلقه لئلّا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إلیهم»(2).

وعنه عليه السلام قال:

ص: 57


1- سورة المؤمنون، الآية: 44
2- نهج البلاغة، خطبة 180

«كلما مضى منهم سلف قام بدين الله خلف»(1).

أي إن الله تعالی أرسل رسله لكي يلقوا الحجة على عباده ويبلغوهم وينذروهم لكي لا يكون لأحد حجة على الله يوم الحساب.

روي عن الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«إن العلم الذي نزل مع آدم عليه السلام لم يرفع، وما مات عالم إلا وقد ورث علمه، إن الأرض لا تبقى بغير عالم»(2).

سابعاً: قال عليه السلام: "لِيَستَادُوهُم مِيثَاقَ فِطرَتِه، ويُذكِّرُوهُم مَنسِيَّ نِعمَتِه"

قال تعالى:

ص: 58


1- نهج البلاغة، خطبة 94
2- أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني المتوفي (328 ه): باب الأئمة ورثوا علم الأنبياء، ج 1، ح 8، ص 128

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

روي عن هاشم بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: (قلت «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»(2)، قال عليه السلام: «التوحيد»(3).

عن زرارة قال: (سألت أبا جعفر عن قوله تعالى: «حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ»(4)، فقلت: ما الحنيفية؟ قال عليه السلام:

«هي الفطرة»)(5).

ص: 59


1- سورة الروم، الآية: 30
2- سورة الروم، الآية: 30
3- بحار الأنوار للمجلسي: باب الدين الحني والفطرة، ج 3، ص 203، ح: 5
4- سورة الحج: الآية: 31
5- بحار الأنوار للمجلسي: باب الدين الحنيف والفطرة، ج 3، ص 202

فالله تعالی أرسل الرسل ليطلبوا من العباد أداء الفطرة وهي التوحيد لله وحده لا شريك له والتصديق بالرسل والأنبياء والكتب السماوية، وأرسلهم لتذكرة الناس بما أنعم الله عليهم من نعمٍ ظاهرة ونِعمٍ باطنة ليتذكروا ما مَنَّ الله عليهم من العطاء الجزيل، ومن نعم الله على البشر إرسال الرسل لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

وقوله عليه السلام:

«وأردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم»:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1).

ص: 60


1- سورة النساء، الآية: 59

فالردّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والردّ إلى الرسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرقة(1)، قال تعالى:

«وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(2).

ثامناً: قال علیه السلام: "ويَحتَجُّوا عَلَيهِم بالتَّبلِيغ"

قال تعالى: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(3).

وقوله عليه السلام:

«أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور والنور

ص: 61


1- عهده الى مالك الأشتر، ص 465
2- النحل: 14
3- النساء: 165

الساطع والضياء اللامع إزاحةً للشبهات واحتجاجا بالبينات وتحذيرا بالآيات وتخويفا بالمثُلات»(1).

أي يحتجون على الناس بالتبليغ وما أنزل الله لهم من حجج وافية وكافية لدلالة صنع الخالق وما أعطاهم من بينات خلال الرسل.

والكتب السماوية والبراهين الواضحة مثل معجزات موسى وعيسى وباقي الرسل ومعجزة الرسول القرآن الكريم فكل نبي يأتي وله معاجز فبهذه المعاجز والدلائل تحتج الرسل على الخلق فتكون حجة كافية.

تاسعاً: قال عليه السلام: "ويُثِيرُوا لَهُم دَفَائِنَ العُقُولِ"

قال تعالى:

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا

ص: 62


1- نهج البلاغة: الخطبة 2، ص 31

يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1).

وقال عليه السلام:

«أنشأ الخلق إنشاءً وابتدأه ابتداءً، بلا رؤية أجلها، ولا تجربة استفادها ولا حركة أحدثها ولا همامة نفس اضطرب فيها».

روي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه هذه اعمى السلام في قوله تعالى «وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى»(2). فمن لم يدلّه خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك بالشمس والقمر والآيات

ص: 63


1- سورة البقرة، الآية: 164
2- نهج البلاغة الخطبة: ص 23

العجيبات على أن وراء ذلك امرا هو أعظم منه فهو في الآخرة أعمى: قال: فهو أي عن مالم یعاين اعمى وأضلّ سبيلا(1).

روي عن هشام بن الحكم إنه قال: كان من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه السلام قال: ما الدليل على صانع العالم؟ فقال: أبو عبد الله عليه السلام وجود الأفاعيل التي دلّت على أن صانعها صنعها، ألا ترى انك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانياً وإن كنت لم ترَ الباني ولم تشاهده، قال: وما هو؟ قال: هو شيء بخلاف الأشياء، ارجع بقولي: شيء إلى إثباته وإنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحسّ ولا يجسّ ولا يُدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيره

ص: 64


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: باب إثبات الصانع، ج 3، ص 28

الزمان(1).

عاشراً: قال علیه السلام: "ويُرُوهُم آيَاتِ المَقدِرَةِ، مِن سَقفٍ فَوقَهُم مَرفُوعٍ ومِهَادٍ تَحتَهُم مَوضُوعٍ"

قال تعالى: «وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ»(2).

وقال تعالى:

«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)... إلی قوله (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا»(3).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتد بالصخور ميدان أرضه»(4).

وقوله تعالى:

ص: 65


1- المصدر السابق: ج 3، ص 29، ح 3
2- سورة الطور، الآية: 5
3- سورة النبأ، الآية: 6 - 12
4- نهج البلاغة، خ 1، ص 22

«اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ»(1).

تحدثنا هذه الآيات عن قدرة الله وإبداعه بخلقه للعالم العلوي وهو خلق السموات بغير عماد فمن يستطيع أن يأتي بمثل هذا الخلق غيره، هو القادر فالأنبياء وخلفاؤهم يذكّرون الناس بقدرة وبهذه الآيات العجاب التي توضح صنع الله الخالق.

حادي عشر: قال عليه السلام: "ومَعَايش تُحييهم وأجَالٍ تُفنِيهم وأَوصَابٍ تُهرمُهُم، وأحدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيهِم"

أي إن الله جعل من الغذاء والماء مصدرا

ص: 66


1- سورة الرعد، الآية: 2

للحياة وجعل الموت فناء البشر وجعل من العلل والأمراض والأوصاب هو هلاكاً للبشر.

أي مثلما جعل الماء والغذاء سبباً للحياة كذلك وضع أسباب كثيرة للموت ومثلما جعل من الماء والغذاء بناء وقوة للجسم فإنه جعل من الأمراض والعلل هرماً له، والأحداث والتقلبات التي تمر على الإنسان كلها أسباب من عند الله، فمن أسماءه المانع والمغني والضار والنافع، وفكل هذه المسببات هي من عند الله، قاله تعالى:

«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ»(1).

ص: 67


1- سورة الشعراء، الآية: من 78 - 81

ثاني عشر: قال علیه السلام: "ولَم يُخلٍ الله سُبحَانَه خَلقَه مِن نَبيِّ مُرسَلٍ، أَو كِتَابٍ مُنزَلٍ أَو حُجَّةٍ لَازمَةٍ أو مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ"

قال عليه السلام:

«بعث الله رسله بما خصّهم به من وحيه وجعلهم حجة به على خلقه، لئلاً تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم»(1).

لا تكون الحجة من الله على العباد إلا بعد البيان منه من خلال الرسل والكتب السماوية والسنّة النبوية الثابتة عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام، فالقرآن والسنة هو المراد بالمحجة القائمة أما الحجة اللازمة فهو العقل، أو الإمام المعصوم فالأرض لا تخلوا من حجة ونحن في زمان الغيبة فان القرآن هو حجة علينا قال الإمام

ص: 68


1- نهج البلاغة، الخطبة: 143، ج2 ، ص 228

عليه السلام :

«ثم انزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه وسراجا لا يخبو توقده وبحرا لا يدرك قعره ومنهاجا لا يضل نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوؤه وفرقانا لا يخمد برهانه»(1).

وكذلك إن أقوال الأئمة حول الغيبة ووصايا الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف حول غيبته كلها حجة علينا فالله تعالى ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومون عليهم السلام وضحوا كل شيء حتى في زماننا هذا.

سأل جابر الأنصاري النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: هل ينتفع الشيعة بالقائم عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته؟ فقال صلى الله

ص: 69


1- نهج البلاغة، الخطبة: 197، ج 2، ص 342

عليه وآله وسلم:

«إي والذي بعثني بالنبوة إنهم أم يتنفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب»(1).

عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: قال سمعته يقول:

«إن الأرض لا تخلوا الا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردَّهم وإن نقصوا شيئا أتمّه لهم»(2).

عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق»(3).

ص: 70


1- بحار الأنوار للمجلسي: الباب العشرون، ج 52، ص 93، ح 8
2- الكافي للكليني: ج 1، ح 2، ص 178
3- الكافي للكليني: ج 1، ص 177

ثالث عشر: قال علیه السلام: "رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِم قِلَّةُ عَدَدِهِم، ولَا كَثرَةُ المُكَذِّبينَ لَهُم"

وعلى الرغم من قلة عددهم إلاّ أنهم بلغوا رسالات ربهم وتعرضوا إلى شتى أنواع العذاب حتى قيل عنهم إنهم سحرة واتهموا بالكذب، يقول الإمام علي عليه السلام في خطبته القاصعة:

«ولقد كنت معه صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له (يا محمد انك قد ادعيت عظيما لم يدعه أباؤك ولا احد من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه، علمنا أنك في ورسول وان لم تفعل علمنا انك ساحر كذاب)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وما تسألوني؟» قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك»(1).

إلى أن يقول عليه السلام:

ص: 71


1- نهج البلاغة، الخطبة: 143. ص 328

«فقلت أنا (لا اله إلاّ الله فإني أول مؤمن بك يا رسول الله وأول من أقرّ بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا بنبوتك، وإجلالا لكلمتك فقال القوم كلهم: بل ساحر کذاب عجيب السحر خفيف فيه وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا؟»(1).

فرغم كل المخالفين والمعاندين فقد بلغ الرسل رسالات الله وثبتوا دعائم الدين وقواعد الإسلام، ونشروا راية التوحيد فقد نصرهم الله وأيّدهم لقوة عزيمتهم وثقتهم به، قال تعالى:

«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ»(2).

ص: 72


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: 191
2- سورة غامر، الآية: 51

رابع عشر: قال عليه السلام: "مِن سَابقٍ سُمِّي لَه مَن بَعدَه أو غَابر عَرَّفَه مَن قَبلَه"

من سابق بيان للرسل، وكثير من الأنبياء السابقين سُميت لهم أسماء الأنبياء الذين يأتون بعدهم فبشّروا بهم كما ترى ذلك في التوراة. والغابر الذي يأتي زياده بعد أن يشير به السابق جاء معروفا بتعريف من قِبَله(1).

قال تعالى:

«وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»(2).

روي في البحار للمجلسي (عن أبي أمامة قال: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال صلی الله عليه وآله وسلم:

ص: 73


1- شرح نهج البلاغة، محمد عبده: الخطبة الأولى، ص 28
2- سورة الصف، الآية: 6

«دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي أنه خرج منها شيء أضاءت منه قصور الشام».

بيان قوله ما كان بدء أمرك، أي ابتداء ظهوره، ودعوة إبراهيم عليه السلام قوله:

«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ»(1).

وبشارة عيسى عليه السلام:

«وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»(2).

إن الأنبياء جميعهم بشّروا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أنه أرسل لعامة الناس، قال تعالى:

ص: 74


1- سورة البقرة: الآية: 129
2- سورة الصف، الآية: 6

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1))(2).

فالرسول الأكرم خاتم الرسل وسيد الأولين والآخرين والمحمود بصفاته الذي قال عنه الله جل وعلا: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(3).

فاختاره الله من بين الأنبياء والأوصياء حبيباً ونجيباً، واصطفاه من بين خلقه.

خامس عشر: قال عليه السلام: "عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ القُرُونُ وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبنَاءُ إلَى أن بَعَثَ الله سُبحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ اللہِ صَلّی اللہُ عَلَیهِ وآلِهِ وَسَلَّم"

قال الإمام علي عليه السلام:

«بل تعاهدهم بالحجج على ألسُن الخيرة من

ص: 75


1- سورة الانبياء، الآية: 107
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 438
3- سورة القلم، الآية: 4

أنبيائه ومتحملي وودائع رسالته قرنا فقرنا حتى تمت بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

قال عليه السلام:

«فلما مهد أرضه».

قوله تعالی:

«وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ»(2).

«وأنفذ أمره».

فيها بما أراد من الجبال والبحار وغيرها.

«اختار آدم عليه السلام خيرة من خلقه».

قوله تعالی:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 76


1- نهج البلاغة: خطبة الأشباح، ج 1، ص 155
2- سورة الذاريات، الآية: 48

وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(1).

«وجعله اول جبلته». أي: خليقته من البشر:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...»(2).

«وأسكنه جنته وأرغده».

أي: أوسعه.

«فيها أُكُله».

قوله تعالى :

«وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا...»(3).

«واوعز». أي: تقدم.

«إليه فيما نهاه عنه».

ص: 77


1- سورة البقرة، الآية: 30 - 33
2- النساء: 1
3- البقرة: 35

في قوله تعالى لهما:

«وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ»(1).

«وأعلمه أن في الإقدام عليه». أي: على ما نهاه عنه.

«التعرض لمعصيته».

قوله تعالى:

«وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى»(2).

«والمخاطرة بمنزلته».

قوله تعالى:

«إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى»(3).

«فأقدم على ما نهاه عنه».

ص: 78


1- البقرة: 35
2- طه: 121
3- طه: 117

قوله تعالى:

«فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ...»(1).

«موافاةً لسابق علمه».

يمكن أن يكون مفعولا مطلقا لقوله «فأقدم».

والأصل (إقداما موافاة)، وان يكون مفعولا له، من باب «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا...»(2). لسابق علمه بجعله في الأرض خليفة لهم(3).

«فاهبطه بعد التوبة».

إن ظاهر کلامه عليه السلام هنا وفي الآتي إن إهباطه کان بعد توبته، وهو ظاهر قوله تعالى في

ص: 79


1- طه 121
2- قصص: 8
3- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة للعلامة التستري: ج 1، ص 488

سورة طه: «ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى»(1).

ثم قال: «اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا...»(2).

ولكن - في سورة البقرة - قال:

«وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ...»(3).

ويمكن الجمع بأن توبته كانت فورا بعد عتاب الله تعالى له.

قال سبحانه:

«فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا

ص: 80


1- طه 122
2- طه 123
3- البقرة: 36 - 37

وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(1).

وإنما قبول توبته كان بعد الإهباط.

قال عليه السلام:

«وفي إثبات الوصية».

ثم أمر الله تعالى الملائكة بإخراجه فأخذوا بيده ليخرجوه، فقال اللهم بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام تب عليّ. فأوحى الله اليه: أهبط إلى الأرض حتى أتوب عليك.

وفيه: وقد هبط آدم على الصفا وحواء على المروة، فاشتق للجبلين هذين الاسمين.

وكان مكثه في الجنة - فيما روي - سبع ساعات «من ساعات الدنيا» وروي إنه دخلها قبل زوال الشمس وخرج قبل أن تغيب(2).

ص: 81


1- الاعراف: 22 - 23
2- بهج الصباغة للتستري: ج 1، ص 486

قال عليه السلام:

«ليعمر أرضه».

وفي خبر عن الإمام الصادق عليه السلام ما معناه أن ملكا زار آدم بعد هبوطه، فلما رأى قلقه سلّاه ثلاثاً بأن قال له: إن الله تعالى قال لنا فيك «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...»(1).

فهو خلقك لان تكون في الارض اي ايستقيم ان تكون في السماء؟!

«وليقيم الحجة به على عباده».

وفي خبر: إن الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ولو لم يبقَ في الأرض إلا رجلان لوجب أن يكون أحدهما الحجة.

هذا واشتهر إجماع الإمامية على عدم جواز صدور معصية ولو صغيرة من الأنبياء ولو قبل

ص: 82


1- البقرة: 30

نبوتهم، ولكن قال شيخنا المفيد في (مقالاته): (إن الصغيرة لا تجوز منهم مع الاستخفاف مطلقا، وأما بدونه فجاز وقوعها منهم قبل النبوة وعلى غير التعمد).

وما قاله الصواب وعليه يحتمل أكل آدم من الشجرة، أنه لم يكن عن تعمد لقوله: «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا»(1).

وفي خبر الهروي عن الإمام الرضا عليه السلام:

«أما قوله تعالى في آدم: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته يجب أن تكون في الأرض

ص: 83


1- طه: 115

ليتم مقادير أمر الله عز وجل، فلما اُهبط إلى الأرض وجُعل حجة وخليفة، عُصِم بقوله عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(1).

ومثله خبر ابن الجهم عنه عليه السلام مع زيادة قال:

«إن إبليس ألبس عليهما بأن المراد بهذه الشجرة في خطابه تعالي الشخص لا الجنس، وحلف لهما وما ظن آدم أن احداً يحلف بالله كذباً»(2).

والحمد لله رب العالمين

ص: 84


1- آل عمران: 33
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة للعلامة محمد التستري، ج 1، ص 489

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة تحقيق محمد عبده، طبعة جديدة ومنقحة ومصححة / مؤسسة التاريخ العربي.

3. في ظلال نهج البلاغة / شرح الشيخ محمد جواد مغنية / منشورات الرضا.

4. لسان العرب / ابن منظور / سنة الطبع 1405 / الناشر: نشر ادب الحوزة - علوم اللغة العربية.

5. بحار الانوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار عليهم السلام / تأليف الشيخ محمد باقر

ص: 85

المجلسي قدس سره / طبعة منقحة بتعاليق العلامة الشيخ علي النمازي الشاهرودي قدس سره / منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات / بيروت - لبنان.

6. اصول الكافي / تأليف ثقة الاسلام ابي جعفر محمد بن يعقوب الكليني قدس سره / منشورات شركة الاعلمي للمطبوعات / بيروت - لبنان.

7. تفسير النور / الشيخ محسن قراءتي / دار المؤرخ العربي / بيروت - لبنان.

8. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة / العلامة المحقق الحاج میرزا حبیب الله الهاشمي الخوئي 1261 ه - 1324 / دار المحجة البيضاء.

9. تفسير العياشي / جزئين.

10. علل الشرائع للصدوق / المتوفي 381 /

ص: 86

مؤسسة الاعلمي / الجزء الأول والثاني.

11. تفسير الامام حسن العسكري.

12. الكافي للكليني / الوفاة 329 / تحقيق وتصحيح وتعليق: علي اكبر الغفاري / الطبعة الخامسة / سنة الطبع 1363 / النشر دار الكتب الاسلامية.

13. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة / العلامة الشيخ محمد تقي التستري / مؤسسة التاريخ العربي / بيروت - لبنان.

87

ص: 87

المحتويات

المبحث الرابع سجود الملائكة لآدم عليه السلام وامتناع إبليس لعنه الله

المسألة الأولى: في سجود الملائكة وكيف جرى...7

المسألة الثانية: امتناع إبليس لعنه الله عن السجود...16

أولا: قال عليه السلام: {فسجدوا إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة}...16

ثانياً: قال عليه السلام: وتعَرَّزَ بِخِلقَةِ النَّارِ واستوهَنَ خَلقَ الصَّلصَالِ...18

ثالثا: قال عليه السلام: فَأَعطَاه الله النَّظِرَةَ استِحقَاقَاً لِلسُّخطَة...19

رابعا: قال عليه السلام: واستِتمَاماً لِلبَليَّةِ...21

خامساً: قال عليه السلام: وإِنجَازاً لِلعِدَةِ، فَقَالَ: (فَإِنَكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ)...22

ص: 88

المبحث الخامس ما جرى لآدم عليه السلام في الجنة

أولاً قال عليه السلام: "ثُمَّ أسكَنَ سُبحَانَه آدم دَاراً أَرغَدَ فِيهَا عَيشَه، وآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَه:...27

ثانيا: قال عليه السلام: وحَذَّرَه إبلِيسَ وعَدَاوَتَه...28

ثالثا: قال عليه السلام: فَاغتَرَّه عَدُوُّه نَفَاسَةً عَلَيه بدَار المُقَامِ، ومُرَافَقَةِ الأَبرَار...29

رابعاً: قال عليه السلام: واستَبدَلَ بالجَذَلِ وَجَلًا وبالاِغتِرَار نَدَماً...32

المبحث السادس هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض وتلقيه الكلمات

أولا: توبة آدم عليه السلام...35

ثانيا: اختيار الله لأدم عليه السلام دار الدنيا...39

ثالثاً: هل كان إبليس من الملائكة أم من الجن؟...43

رابعاً: العلة التي من أجلها فرض الله على الناس خمس صلوات في خمس مواقيت...44

المبحث السابع اصطفاء الله تعالى من ولد آدم عليهم السلام أنبياء

أولاً: معنى الاصطفاء...49

ثانياً: أخذ الميثاق...52

ثالثا: تبليغ الرسالة...53

ص: 89

رابعاً: قال علیه السلام: "فَجَهلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأَندَادَ مَعَه"...54

خامساً: قال عليه السلام: "واجتَالَتهُمُ الشَّيَاطِينُ عَن مَعرفَتِه، واقتَطَعَتهُم عَن عِبَادَتِه"...55

سادساً: قال علیه السلام: "فَبَعَثَ فِيهِم رُسُلَه، ووَاتَرَ إلَيهُم أَنبيَاءَه"...57

سابعاً: قال علیه السلام: "لِيَستَادُوهُم مِيثَاقَ فِطرَتِه، ويُذَكِّرُوهُم مَنسِيَّ نِعمَتِه"...58

ثامناً: قال علیه السلام: "ويَحتَجُّوا عَلَيهِم بالتَّبلِيغِ"...61

تاسعاً: قال علیه السلام: "ويُثِيرُوا لَهُم دَفَائِنَ العُقُولِ"...62

عاشراً: قال علیه السلام: "ويُرُوهُم آيَاتِ المَقدِرَةِ، مِن سَقفٍ فَوقَهُم مَرفُوعٍ ومِهَادٍ تَحتَهُم مَوضُوعٍ"...65

حادي عشر: قال عليه السلام: "ومَعَايشَ تُحييهِم وأجَالِ تُفنِيهِم وأَوصَابٍ تهُرمُهُم، وأحدَاثٍ تَتَابَعَ عَلَيهِم"...66

ثاني عشر: قال عليه السلام: "ولَم يُخلِ الله سُبحَانَه خَلقَه مِن نَبيٍّ مُرسَلٍ، أَو كِتَابٍ مُنزَلٍ أَو حُجَّةٍ لَازمَةٍ أَو مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ"...68

ثالث عشر: قال علیه السلام: "رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِم قِلَّةُ عَدَدِهِم، ولَا كَثرَةُ المُكَذِّبينَ لَهُم"...71

رابع عشر: قال عليه السلام: "مِن سَابقٍ سُمِّي لَه مَن بَعدَه أو غَابرِ عَرَّفَه مَن قَبلَه"...73

خامس عشر: قال عليه السلام: "عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ القُرُونَ ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبنَاءُ إلَى أن بَعَثَ الله سُبحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسَلَّم"...75

ص: 90

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.