الثائر المنتفض أبو ذر الغفاري دراسة تاريخية
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1357 لسنة 2016 م مصدر الفهرسة:
IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.
رقم تصنيف BP32. A2 H8 2016 :LC.
المؤلف الشخصي: حسین، حیدر. العنوان: الثائر المنتفض أبو ذر الغفاري: دراسة تاريخية. بیان المسؤولية: تأليف الدكتور حيدر حسین؛ تقدیم سید نبیل قدوري الحسني. بيانات الطبعة: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة. 1437 ه - 2016 م.
الوصف المادي: 232 صفحة. سلسلة النشر: سلسلة أصحاب الإمام علي (عليه السلام؛ 1. تبصرة عامة: تبصرة ببيلوغرافية: يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 219 - 228). تبصرة محتويات: موضوع شخصي: أبوذر الغفاري، جندب بن جنادة بن سفیان، توفي 32 هجريا - نقد وتفسیر. موضوع شخصي: أبو ذر الغفاري، جندب بن جنادة بن سفيان، توفي 32 هجریا - دفع مطاعن. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - أصحاب. موضوع شخصي: أبو ذر الغفاري، جندب بن جنادة بن سفيان، توفي 32 هجريا - آرائه في الاقتصاد. مصطلح موضوعي: الصحابة - تراجم. مصطلح موضوعي: الإسلام والشيوعية. مصطلح موضوعي: الصحابة - العصر الإسلامي - تاريخ ونقد. مؤلف إضافي: الحسني، نبیل قدوري حسن، 1965 م، مقدم. تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة
ص: 1
ص: 2
سلسلة أصحاب الإمام على علیه السلام البدریون (1) الثائر المنتفض أبو ذر الغفاري دراسة تاريخية تأليف الدکتور حیدر حسين اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1647 ه - 2016 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع: www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
أين الخلف اليوم من هذا السلف؟
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والصلاة والسلام على خير الأنام محمد و آله الأطهار.
أمّا بعد:
لم يزل الإمام علي علیه السلام الفاروق بين الحق والباطل والمحك الذي يكشف التبر من التراب، والإيمان من النفاق، والفئة العادلة من الباغية، والسّنة من البدعة، والصالح من الطالح، ولأن الدين هو أثمن ما لدى العاقل فقد احتاج العاقل إلى علي بن أبي طالب علیه السلام؛ ولأن الدعوة إلى التمسك بالسلف الصالح أصبحت اليوم شعار الخلف، كان لا بدّ من
ص: 5
الرجوع إلى أولئك السلف لنرى أين كانوا وتحت أي راية ساروا، وإلى أي فئة انتسبوا وأي سنة أحيوا وأي بدعة أماتوا.
ولأجل هذا وغيره، ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تضع بين يدي القارئ الكريم مكنزاً معرفياً يعيد رسم صورة الإسلام ويوضح الطريق لمن تشوق لمعرفة رجال صدقوا في إيمانهم وكانوا دعاة ربانیین للإسلام وعاملين مجدين في بناء الحضارة الإنسانية منذ أن شرّفهم الله بالإسلام وصحبة رسوله الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم والتمسك بأخيه ووصيه وخليفته في أمته وولي من كان المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم وليه.
فكانوا صحابة وموالين وسلفاً صالحاً حتى قال فيهم الحاكم النيسابوري في مستدرکه نقلاً عن الحكم: (شهد مع علي - معركة - صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان ممن بايعوا تحت الشجرة)(1).
ولأجل معرفة هؤلاء (البدريون والشجريون)، الذين كانوا يقاتلون تحت راية الإمام علي علیه السلام في حربه للفئة الباغية معاوية وحزبه وأشياعه، ولمعرفة غيرهم من البدريين والشجريين وممن لم يشتركوا في صفين أو غيرها لكنهم عرفوا بموالاتهم للإمام علي علیه السلام، شرعت المؤسسة بالبحث والدراسة لهذا السلف الصالح، وبيان شخصيتهم وسيرتهم العطرة، ضمن
ص: 6
سلسلة تصدر تباعاً والموسومة ب (سلسة أصحاب الإمام علي علیه السلام)؛ فقدمنا منهم الصحابة البدريين والسابقين من المهاجرين والأنصار، فإن وفقنا الله لإكمالهم شرعنا بأهل البيعة تحت الشجرة.
وبناءاً عليه:
كان باكورة عملنا ضمن هذه السلسلة من السلف الصالح أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام الصحابي الأجل، السابق إلى الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم البدري الشجري صاحب أصدق ذي لهجة، أبو ذر الغفاري عليه الرحمة والرضوان وذلك ضمن البحث الموسوم ب (أبو ذر الغفاري الثائر المنتفض) للدكتور حيدر حسين، والذي تناول فيه جانباً مهماً من شخصية هذا الصحابي البدري الشجري في انتفاضته ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، في وجه الظلم والبدع والمحدثات، لا تأخذه في ثأره للحكم الشرعي والسنة المحمدية لومة لائم، ولا عذل عاذل، وهو بذاك يجسد جدلية الخوف بين رموز المجتمع الذي عاصره وشهده وعايشه؛ فكان يخافهم على دينه ويخافونه على دنياهم، كما قال له إمامه ومولاه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام حينما وجدوا وعلى راسهم خليفتهم إن هذا البدري الشجري لا ترهبه السلطة ولا رموزها، فعجزوا من تكميم فمه واطفاء جمرة تشيعه ومولاته لعترة نبيه، فغيبوا رسمه، ونفوا إلى الربذة
ص: 7
شخصه، ونسوا أن الحق لا يدرس رسمه ولا يغيب صاحبه فكان التاريخ لهم بالمرصاد فاصبح جذوة نار للثائرين في محاربة البدع، ونصر السنة وإحيائها؛ فأين الخلف اليوم من هذا السلف؟
السيد نبيل الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 8
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسل الله وخاتم أنبيائه سیدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
إن دراسة شخصية من أشهر شخصيات الصحابة في التاريخ الإسلامي تستدعي جمع ما ذكر بحقه من نصوص سواءً في كتب السيرة أو التراجم أو الطبقات، ليتسنى للباحث إخراجها بما ذكر من حقائق تاريخية تكاد تكون غير معروفة لدى بعضهم، لذا كان سبب اختيار دراسة «أبو ذر الغفاري الثائر المنتفض» لموقفه الفذ من الرسول وأهل بيته الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، وما جاء بحقه من قبلهم من كلام يُوضح منزلته عندهم، حباً، وتقديراً، وعرفاناً، وما جاء في غيره من الكتب التاريخية المتاحة بين أيدينا، فضلاً عن أن الباحث لم يجد هناك دراسة أو بحثاً بحقه، لذا قرر دراسته لبيان أنه الصحابي الثائر المنتفض ضد الظلم والطغيان في مدة من التاريخ حينما انفرد بعض رجال السلطة في قراراتهم.
الدراسة تتكون من مقدمة وفصلين، وضّحنا في المقدمة عنوان الدراسة، وسبب اختيارها، والفصل الأول تناول طابع الجانب الاجتماعي لأبي ذر الغفاري من اسمه ونسبه وكنيته وهجرته وإسلامه، وملامحه وخلقته، وغزواته: من معركة بدر، فتح بیت المقدس، غزوة حنين، غزوة تبوك، أبو ذر في مصر، وصفاته
ص: 9
الشخصية: الأمر بالمعروف، أمة، الزاهد، الشجاع، الصادق، العابد، العادل، العالم، الكريم، المتواضع، المؤمن. وكيف كانت حياته قبل البعثة النبوية الشريفة، وكذلك كيف كانت حياته بعد البعثة وإعلان إسلامه، ومنزلته عند الله ورسوله، وغيبيات الرسول عنه، ومناقبه، وكراماته، ووضعه المعاشي ووفاته.
أما الفصل الثاني فقد تناول الجانب الفكري لأبي ذر، وفيه بيّنا أنه كان محدثاً وفقيهاً، وكذلك تطرقنا إلى التعريف بشيوخه وتلاميذه، وبعدها انتقلنا إلى بيان موقف حكومة عثمان من الفقهاء، ثم ذكرنا أشهر أقوال أبي ذر في بيان فضائل أهل البيت علیهم السلام، ولا سيما الإمام علي علیه السلام، ثم مناظراته العلمية.
وقد ذكرنا في ثنايا الفصل كيف كانت علاقته سيئة مع عثمان ومعاوية التي أدّت في النهاية إلى نفيه خارج مكة المكرمة بسبب ثورة أبي ذر ضد سياسة عثمان التي كانت خارجة عن الدستور الإسلامي ثم كانت خاتمة الفصل مع بيان سياسة أبي ذر المالية.
قد يرى بعض الباحثين أن هناك زيادة تاريخية في ذكر غزواته مع ملامح شكله، وأنها ضمن الموضوع السياسي له، وللحقيقة نقول نعم صحيح لكن ما تم الحصول عليه من معلومات تاريخية في ما يخص غزواته من أنها نتف بسيطة لم يذكرها المؤرخون بشكل مفصل؛ لأنه ليس أميراً من أمراء السلطة لذا تسجل نقطة على المنهج بعدم تساوي صفحات الفصول، لذا ذكرنا الغزوات مع الشكل الخلقي للصحابي لبيان حقيقة أن من يقرأ صفات شكله قد يتبادر إليه أنه ضعيف الشكل والقوى والعقل.
ص: 10
وأيضاً قد يرى بعض الباحثين أن السياسة المالية لأبي ذر تدخل ضمن الجانب الاقتصادي، فلماذا لم يكن هناك فصل خاص به؟
وللإجابة نقول: الرأي صحيح، لكن سيكون عدد صفحات الفصل هنا قليلا ً، لذا تم إدراجها ضمن العلاقة ما بينهما، وكذلك قد يرى بعضهم أن ذكر الروايات في موضع إسلامه هو تکرار، لكن الحقيقة أن لكل رواية معنی خاص، لذلك حللنا النصوص لكي نوضح أن الدراسة غرضها إيضاح الأمر وبيان الأصوب بالدليل.
أما المصادر، يقف في مقدمتها القرآن الكريم كتاب الله جل جلاله، ومن ثم كتب التاريخ العام وفي مقدمتها تاريخ اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن جعفر البغدادي (ت: 292 ه / 904 م)، وتاريخ الرسل والملوك للطبري، محمد بن جرير (ت: 310 ه / 922 م)، ومروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي، علي بن الحسين (ت: 346 ه / 957 م)، لما فيها من روايات أكملت الصورة الحقيقية للشخصية.
أما في كتب الحديث والتفسیر کان (المسند) لأحمد بن حنبل (ت: 241 ه / 855 م) أهم المصادر التي تم الاعتماد عليها في مجمل الدراسة، وفي كتب الطبقات والتراجم، (تهذيب الكمال)، للمزي، يوسف بن عبد الرحمن (ت: 742 ه / 1342 م)، في ترجمة شيوخ وتلاميذ أبي ذر الغفاري. وفي كتب اللغة (لسان العرب) لأبن منظور، جمال الدين بن مکرم (ت: 711 ه / 1311 م) كونه متأخراً في الوفاة، فضلاً عن كونه جامعاً لآراء علماء اللغة.
ص: 11
وفي كتب البلدان (معجم البلدان) لياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله یاقوت بن عبد الله الرومي (ت: 626 ه / 1228 م)، كونه من المصادر المعتبرة.
من الصعوبات التي واجهت الدراسة هو قلة الروايات عنه في كتب الإخباريين العرب المسلمين، مما حدا بالباحث إلى اللجوء إلى كتب الحديث والتراجم المعروفة ولاسيما کتاب تقریب المعارف لابن صلاح الحلبي لبيان الكثير من ملامح شخصيته، لذا فإن النص الواحد أحياناً يستشهد به في مواضع متعددة ضمن فصول الدراسة..
ومن الصعوبات الأخر في الدراسة أن المؤرخين يكاد يكونوا متفقين في كثير من النصوص، مع تغير بسيط في تقديم الكلام وتأخيره، لذا لجئنا إلى ذكر الرواية حسب قدم وفاة المؤرخ، وبيان ما يتوافق معها من كتاب نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي.
وفي الختام ندعو الله جل جلاله أن يوفقنا في ما نصبو إليه، إنه نعم المولى ونعم النصیر. والحمد لله رب العالمين.
الباحث
ص: 12
ص: 13
ص: 14
• معني ذر:
قبل أن نوضح أسم الصحابي الجليل ونسبه وكنيته(1)، ينبغي أن نعرف المعنى العام الكلمة (ذر) في اللغة، ذكر أبن منظور، أن ذرر: (ذَرَّ الشيءَ يَذُرُّه: أخذه بأَطراف أَصابعه ثم نشره على الشيء. وذَرَّ الشيءَ يَذُرُّه إِذا بَدَّدَه. وفي حديث عمر: ذُرّي أَحِرَّ لَكِ أَي ذُرِّي الدقيق في القِدرِ لأَعمل لك حَرِيرَةً. والذَّرُّ: مصدر ذَرَرتُ، وهو أَخذك الشيء بأَطراف أَصابعك تَذُرُّه ذَرَّ الملح المسحوق على الطعام.
والذَّرُّ: صِغارُ النَّمل، واحدته ذَرَّة ٌ؛ وقيل: إِن مائة منها وزن حبة من شعير فكأنها جزء من مائة، وقيل: الذَّرَّةُ ليس لها وزن، ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة؛ ومنه سمي الرجل ذَرّاً وكني بأَبي ذَرِّ. وفي حديث جُبير بن مُطعِم: رأَيت
ص: 15
يوم حنين شيئاً أسود ينزل من السماء فوقع إِلى الأَرض، فَدَبَّ مثل الذَّرِّ وهزم الله المشركين)(1).
الذَّرُّ: النمل الأَحمر الصغير، واحدتها ذَرَّةٌ. وفي حديث ابن عباس: أَن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، نهى عن قتل النحلة، والنملة، والصُّرَدِ، والهُدهُدِ؛ وقيل: إِنما نهى عن قتلهن لأَنهن لا يؤذين الناس، وهي أَقل الطيور والدواب ضرراً على الناس مما يتأَذى الناس به من الطيور كالغراب وغيره؛ قيل له: فالنملة إِذا عضت تقتل؛ قال: النملة لا تَعَضُّ إِنما يَعَضُّ الذَّرُّ؛ قيل له: إِذا عَضَّت الذَّرَّةُ تقتل؛ قال: إِذا آذتك فاقتلها. قال: والنملة هي التي لها قوائم تكون في البراري والخَرِبات، وهذه التي يتأَذَّى الناس بها هي الذَّرُّ.
وذَرَّ الله الخلقَ في الأَرض: نَشَرَهُم والذُّرِّيَّةُ فُعلِيَّةٌ منه، وهي منسوبة إِلى الذَّرِّ الذي هو النمل الصغار، وكان قياسه ذَرِّيَّةٌ، بفتح الذال، لكنه نَسَبٌ شاذ لم يجئ إِلَّا مضموم الأَول. وقوله تعالی:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»(2).
وذُرِّيَّةُ الرجل: وَلَدُه، والجمع الذَّرَارِي والذُّرِّيَّاتُ. وفي التنزيل العزيز:
«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض»(3).
ص: 16
• إسمه:
اختلف في اسم الصحابي(1) الجليل أبي ذرّ الغفاريّ، فقيل هو جندب بن جنادة، وذكر بعض المؤرخين: أن اسمه جندب بن عبد الله(2)، وقيل بریر بن عبد الله، أو برير بن عشرقة، أو بریر بن جندب(3). ربما لأنهم اعتمدوا على رواية عن زيد بن أسلم أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قال لأبي ذر (یا برير)(4). بينما وضّح أحد المحدثين أن من قال اسم أبيه (بریر) أو (السكن) فقد وهم(5)، بدون بيان سبب هذا الوهم. وقيل اسمه جندب بن السّكن، والمشهور المحفوظ جندب بن جنادة(6)، الحجازي(7).
وكذلك ليس أسمه (قين) مثلما وصفه عثمان، ففي رواية الواقدي، أن أبا ذر لما دخل على عثمان، قال له:
لا أنعمَ اللهُ بقينِ عینا
نعم ولا لقاه يوما زَینا
تحيّةَ السخطِ إذا التقينا
ص: 17
فقال أبو ذر: ما عرفت اسمي (قينا) قط(1).
بل سمي واعتز باسم عبد الله، بسبب تسمية الرسول الكريم صلی الله علیه وآله وسلم له، ومما ذکر في ذلك رواية ما قاله له عثمان حينما استقبله:
(لا أنعم الله بك عينا يا جنیدب، فقال أبو ذر: أنا جندب، وسماني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم عبد الله، فاخترت اسم رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم الذي سماني به على اسمي)(2).
واسم جندب، بضم الجيم والدال، وحكي فتح الدال، وعن بعضهم فيه كسر أوله وفتح ثالثه، فكأنه لغة من واحد الجنادب الذي هو طائر(3).
مثلما اختلف المؤرخون في اسمه، كذلك اختلفوا فيما بعد جنادة أيضاً من أجداده، فقيل هو جنادة بن سفين(4) ابن (جنادة)(5) بن عبيد بن (الواقفة)(6) بن حرام بن غفار ابن مليل بن ضمرة(7) بن بكر بن عبد مناف بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(8).
ص: 18
وقيل هو جنادة بن كعيب بن صعير بن الوقعة بن حرام بن سفيان بن عبيد بن حرام(1) بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر(2). وقيل هو جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن صعير بن حرام بن غفار.
وقيل بریر بن أشقر بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن الوقعية بن حرام بن غفار (أخي ثعلبة) بن مليل ويقولون بریر بن عشرقة(3). دون أن يذكر أحدهم سبب هذا الاختلاف في النسب.
• كنيته:
ذكرت كثير من مصادر التاريخ والتراجم أن كنيته هي (أبو ذر)(4).
• أمه:
رملة بنت الرفيعة، وقيل الوقيعة، وهو الأصح لاتفاق أكثر المؤرخين عليه(5)، من بني غفار بن مليل، وذكر كان له أخ هو عمرو بن عبسة(6) لامه(7)، وأسلمت أمه معه لما
ص: 19
• ولادته:
لم يذكر أغلب المؤرخين تاریخ ولادته بشكل دقيق، ربما لأن تاريخ ولادته كان قبل البعثة النبوية، وكل الذي وجدناه ينسب إلى قبيلة غفار(3)، لذا قد يكون موضع ولادته هو موضع تكامل وتعايش القبيلة التي كني بها أبو ذر الغفاري(4).
ومما ذكره الطبري في تاريخ نشأته، وفي تحديد سماته الشخصية أنه كان يحب الوحدة والخلوة(5)، وربما حبه لهما من أجل الرؤيا والتفكر في فلسفة الطبيعة، والتأمل بالكون للوصول للخالق، وهي قد تكون طبيعة أغلب رجال العرب الموحدين قبل البعثة النبوية الشريفة بحثاً عن مقومات الدين الجديد في شبه الجزيرة العربية وأطرافها. لذلك قيل عنه
ص: 20
كان يتعبد قديماً(1).
كانت الحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية الشريفة تتصف بتعدد الأديان والمذاهب واختلافها، منها الشرائع السماوية الخاصة بالتوحيد مثل اليهودية، والمسيحية، ومنهم المشركين من عبدة الأصنام والأوثان، زاعمين أنها تنفع وتضر حالها حال البشر، وكذلك عبدة الكواكب المعروفة مثل الشمس والقمر(2)، وكذلك عبدة النار من المجوس(3)، وغيرهم، وكذلك هناك بعض القبائل العربية التي عبدت الجن، زيادة على وجود (الأحناف) أي الموحدين العرب، وهم فئة قليلة كانوا كثيري البحث عن الدين الخالص لله تعالى، والمائل عن دين الأجداد والآباء(4).
إزاء هذا الوضع الديني المتشعب آنذاك، نشأ الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري بفطرته السليمة متوجهاً للدين الحنيف المائل عن عبادة الآباء والأجداد، بعيداً كل البعد عن مختلف هذه الشرائع السماوية والفلسفات الدينية الأخرى، باحثاً عن الله جل وعلا في تأملات خلق الكون.
وقد يكون أبو ذر ممن يحسن القراءة والكتابة، ومتابعاً لحياة الأنبياء علیهم السلام، والدليل على ما ذهبنا إليه أنه كان يحفظ أحاديث الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم وروى عنه، لكن لم نجد أحاديثه الكثيرة في كتب الصحاح الست، وكذلك كتب مساند الحديث الأخری کونه
ص: 21
من الموالين لآل محمد صلی الله علیه و آله وسلم. وربما كانت لديه معرفة بظهور نبي عربي جديد في شبه الجزيرة العربية مما كان يتناقله أحبار اليهود، لذلك كان يتابع أخبار مكة جملةً وتفصيلاً، فكان واحداً من ضمن الشخصيات العربية الموحدة لله، والمتمسكين ببقايا ديانة نبي الله إبراهيم الخليل علیه السلام.
فالصحابي أبو ذر الغفاري إذن من هؤلاء الحنفاء، الذين اهتدوا فطرياً بالتأمل والتعمق في التفكير إلى عقيدة التوحيد، فدعا الله وعبده قبل أن يبعث الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم بثلاث سنوات، والدليل على ذلك في الحوار الذي دار بينه وبين ابن أخيه، حينما قال:
(وقد صليت، يا ابن أخي، قبل أن ألقى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بثلاث سنين. قال: لمن؟ قلت: لله. قال: فأين تتوجه؟ قلت: أتوجه حيث يوجهني ربي)(1). وكان قومه يعلمون عنه ذلك ويسمونه لترك دينهم وخروجه عليه الصابئ، أي الكافر لمعتقد الانسان قبل البعثة النبوية الشريفة في شبه الجزيرة العربية أن كل من يخالف أو يميل عن دين الآباء هو صابئ.
لأن الآلهة كانت آلهة قبائل، وكان نبذها معناه نبذه لقبيلته وخروجه على اجماعها، فلا يسع شخصاً عادياً مثل أبي ذر الغفاري أن يغير إله القبيلة إلا إذا خرج عليها وتعبد ألهاً آخر، لأن الصنم رمز القبيلة والمحامي والمدافع لها، والرابطة التي تربط بين أفرادها، فالخروج عليه معناه خروج عن إرادة الشعب وتفكيك لوحدته، وهو مما لا يسمح به، وإلا تعرض الثائر للعقاب(2).
ص: 22
هناك عدد من القرائن التي تؤكد أن الصحابي أبا ذر الغفاري كان عابداً لله تعالى قبل البعثة النبوية الشريفة، وسائحاً، وجاهداً، وزاهداً، باحثاً عن الدين الصحيح دین الرسول إبراهيم علیه السلام، في ظل ما يملكه من معلومات عن الله جل جلاله في ضوء فطرته السليمة الرافضة لعبادة الأصنام والأوثان، وذاكراً (لا اله إلا الله)، وداعياً الله قبل البعثة بسنين في قومه(1)، ولبيان ما ذكرناه أعلاه، نذكر حياته قبل هجرته إلى مكة، وتجلى ذلك في:
• إيمان أبي ذر:
الأمر الأهم الذي نود التنبيه إليه أن وصول الصحابي أبي ذر الغفاري إلى الإيمان بعقيدة التوحيد قبل البعثة النبوية الشريفة، وقبل سماعه بالمعجزات التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، وكتابه القرآن الكريم، إنما يضعه بين أصحاب النظر العقلي، والتحليل النظري، والفكر الفلسفي، ومن ثم يعطي الرجل مكانة متميزاً في هذا الميدان.
يبدو أن الرجل قد كانت له آراء فلسفية، ونظرات عميقة حول عدد من القضايا الفكرية، ولم تكن البيئة الفكرية التي عاش فيها من سعة الصدر ورحابته بحيث تسمح له أن يلقي بكل ما عنده إلى الناس، بسبب أن المعتقد الموجود لدى أغلب الرعية في تاريخ الشرق الأدنى، ومنها شبه الجزيرة العربية آنذاك أنهم خلقوا من أجل خدمة الآلهة، لذلك ينبغي عليه أن يكون مطيعاً لكل ما يوصي به الكاهن أو العراف من أوامر، لذلك كانوا يقدمون القرابين والنذور اليومية والأسبوعية والشهرية والموسمية من أجل رضا الآلهة وتستراً من غضبها، وكذلك هناك طقوس وتعاليم وصلوات خاصة يؤدونها من أجل
ص: 23
رضاها، زيادة على أن دينهم هو دين الآباء والأجداد ينبغي عدم المساس به.
لم يهتم أتباع مذاهب السلطة بأبي ذر الغفاري، معشار ما اهتموا بأصاغر الصحابة، ولو كان لأحد منهم بعض ما له من المناقب، لملأوا به كتبهم، رغم ما ذكر بحقه من المنزلة العليا عند الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، فذكر الصدوق رواية عن عبد العزيز القراطيسي، قال: (دخلت على أبي عبد الله علیه السلام فذكرت له شيئاً من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال:
«يا عبد العزيز، الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي، تُرتقي منه مرقاتٌ بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء، حتى انتهى إلى العاشرة».
قال علیه السلام:
«وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبد العزيز: لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملن عليه ما لا يطيقه فتكسره، فإنه من کسر مؤمناً فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته»(1).
• حوار أبي ذر مع النساء:
عرف في تاريخ شبه الجزيرة العربية إن كل من يغير دين الآباء والأجداد کافر، ويطلق عليه تسمية صابئ، أي المائل عن دین قومه(2)، وقد يكون أبو ذر الغفاري من حمل تلك التسمية نتيجة حواره مع بعض نساء قريش، وهنّ يدعون الأصنام لاقتناء
ص: 24
الأولاد، فذكر ابن عباس رواية منها:
(..، فجعلت امرأتان تدعوان ليلة آلهتهما، وتقول إحداهما يا(1) أساف(2) هب لى غلاماً، وتقول الأخرى یا نائلة(3) هب لي كذا وكذا، فقلت هن بهن فولتا وجعلتا تقولان الصابئ بين الكعبة وأستارها)(4).
وكلامه في تلك المدة مع نساء قريش المشركات، وهن لسن من قومه أولاً عن هكذا أمور دينية تخص عقلية ومعتقداً قديماً في قوم يضمون مجموعة من القبائل العربية ليس سهلاً، كونه يتعارض مع المعتقد، والكلام فيه يؤدي به إلى التهلكة ثانياً، وهذا يتطلب منه الشجاعة لكي يتكلم في أشياء خارج معتقدات الرعية الذين يعبدون الأصنام والأوثان، وبيان ما يحمله من فكر جديد لا يتوافق مع عباداتهم بل يضربها عرض الجدار، دون أن يحرص على حياته، وهو يدرك أن نتيجته قد تكون الموت بسبب رفض عبادة قريش، لذلك إما أن يثبت بما جاء به من دلائل على ما أتی به، أو يعتبر کافراً في نظرهم. لذلك وجدنا أن النساء كان حكمهن عليه بأنه كافر في نظرهن. لكنه حاول أن ينقل فطرته الدينية دون توجيه من نبي أو إرشاد.
ص: 25
• صلاته:
في ضوء بعض النصوص التاريخية اتضح أنه كان يصلي لله تعالى (صلاة الليل) دون أن توضح هذه المصادر تعاليمها كيف كانت آنذاك، لكي يتسنى معرفة ما هي ثوابت صلاتهم قبل البعثة، وهل هي فطرية مثلما وحدوا لله؟ أم هي مكتسبة من بقيه الشرائع السماوية الأخرى (اليهودية والمسيحية)؟
ويبدو أن تعاليم صلاتهم كانت الدعاء فقط، والدليل أن أبا ذر قال:
(كنت أصلي لله ليلاً كثيراً حتى أتعب).
وقد يكون التعب بسبب المناجاة الطويلة بين يدي الله تعالى، وربما أعطاه الله تعالی مناقب وکرامات كثيرة لأداء الصلاة، ولمنزلته عنده لما كان يقيمه من التوحيد الخالص، فذكر ابن عبد البر رواية عن ابن عباس قال: (قلت لأبي ذر، وما كان دينك؟ قال:
رغبت عن آلهة قومي التي كانوا يعبدون، فقلت:
أي شيء كنت تعبد؟ قال:
لا شيء، كنت أصلي من الليل حتى أسقط، كأني حقاء حتى يوقظني حر الشمس، فقيل له:
أين كنت توجه وجهك؟ قال:
حيث وجهني ربي)(1).
ص: 26
في الوقت الذي بدأ فيه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الدعوة سراً إلى الدين الجديد في شبه الجزيرة العربية، كان أبو ذر مع أخيه (أنيس) قد غادرا مع أمهما مضارب قبيلتهم غفار، سخطاً على خروج القبيلة عن تقاليد العرب التي تحرم الحرب في الشهر الحرام، فنزلوا حيناً من الدهر عند خال لهما، ثم غادروه ونزلوا على مقربة من مكة.
وفي هذا المكان سمع أبو ذر عن الرجل الذي يقول: إنه يتلقى وحي السماء، ويدعو إلى عقيدة التوحيد، فبعث بأخيه کي يتنسم له هذا الخبر الذي لم يكن بعد قد ذاع، وقال له: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني.
وعندما عاد (أنيس) من رحلته، سأله أبو ذر:
(ما صنعت؟
قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك، يزعم أن الله قد أرسله، يسمونه الصابئ.
قلت: فما يقول الناس؟
قال: يقولون: شاعر، کاهن، ساحر.. ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه الصادق وإنهم لكاذبون.
ولكن هذا القدر من الحديث، وذلك اليقين الذي تحدث به (أنيس) عن صدق محمد صلی الله علیه و آله وسلم لم يكفِ لهفة أبي ذر ولم يشبع نهمه، وهو الذي ينتظر مثل ذلك اليوم منذ
ص: 27
سنوات ثلاث .. فطلب من أخيه القيام على أمر أمهما وأمر معاشهم حتى يذهب بنفسه إلى مكة كي يباشر السماع ويقف بنفسه على حقيقة الموضوع.
وعندما وصل إلى مكة اختار رجلاً ضعيف البنية من بين أهلها، كي يسأله عن مكان هذا الداعية إلى نبذ عقيدة الأصنام، فقال للرجل: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟!.. ففزع الرجل، كيف شاع أمر الدعوة الجديدة، التي يريد أهل مكة أن يقبروها في مهدها، حتى بلغ خبرها إلى من هم خارج مكة، فجاء هذا الغريب يسأل عن مكان صاحبها، ولذلك صرخ الرجل في تعجب من سؤال أبي ذر، وقال: الصابئ؟!.. الصابئ؟!.. ويحكي أبو ذر كيف هجم عليه القوم وانهالوا عليه بالضرب حتى اصطبغت ملابسه وبشرته بدمائه، فيقول: فمال عليّ أهل الوادي بكل قدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي.. فارتفعت، حين ارتفعت كأني نصب أحمر!! «.. ولكن ذلك لم يصرف أبا ذر عن ما جاء من أجله.. فذهب إلى ماء بئر زمزم فاغتسل من دمائه، وشرب من مائه، ودخل المسجد واختفى خلف أستار الكعبة يترقب ما تأتي به الأيام من الأحداث.. واستمر في مخبئه هذا يتسمع خمسة عشر يوماً، وقيل ثلاثين يوماً، لا طعام له سوى ماء زمزم؟!
حتى كانت ليلة مقمرة أنصرف فيها رجال مكة إلى السمر عن الطواف بالأصنام المنصوبة حول الكعبة وفوقها، وجاءت امرأتان تطوفان بالأصنام، وتدعوان الصنم (إساف) والصنم (نائلة) بما هو مألوف عندهم من الدعاء... وقرر أبو ذر أن يسخر من المرأتين ومن معبودهن - و (إساف) إله ذكر، - و (نائلة) آلهة أنثي - فرفع أبو ذر صوته من مخبئه، وقال للمرأتين: أنكحا أحدهما الأخرى؟!.. ولكنهما استمرتا في دعاء الصنمين فقال: (هن مثل الخشبة)؟!... وعند ذلك فزعت المرأتان، وغادرتا مکان
ص: 28
الطواف في اتجاه باب المسجد، وهما تصيحان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا؟! وصادف ذلك دخول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى المسجد، للصلاة، في تلك الليلة التي خلا فيها المسجد من المشركين.. فسال المرأتين:
- ما بالكما؟.
قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها.. - ما قال لكما؟.
قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم (أي غليظة في فحشها، لا يمكن التلفظ بها).
ويحكي أبو ذر ما حدث بعد ذلك، وكيف (جاء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت، ثم صلی، فلما قضى صلاته، قلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال، وعليك ورحمة الله.. ثم قال: من أنت؟ قلت: من غفار..) ويعلق أبو ذر على هذا اللقاء، وعلى إسلامه، دون أن يدعوه الرسول إلى الإسلام، فيقول (فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام).
فأخبره الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بتفكيره في الهجرة من مكة، واحتمال أن تكون (يثرب)، (المدينة) هي مكان هذه الهجرة المرتقبة.. وطلب إليه أن يتولى أمر الدعوة إلى الإسلام في قبيلته غفار.. وقال له: (فهل أنت مبلغ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم؟.. ارجع إلى قومك فأخبرهم، حتى يأتيك أمري).. ولكن أبا ذر لم يشأ أن يغادر مكة سراً، ودون أن يتحدى أهلها في ذلك الوقت المبكر الذي لم تكن فيه الدعوة الإسلامية قد أعلنت بعد، ولم يكن فيه عدد المسلمين قد تجاوز أربعة، فقال للرسول صلی الله علیه و آله وسلم:
(والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فقام القوم إليه
ص: 29
فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس بن عبد المطلب فأكب عليه، وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟! وأنه طريق تجارتكم إلى الشام؟! فأنقذه منهم) وتكرر هذا المشهد في اليوم التالي حيث عاد أبو ذر لتحديهم علنا، فعادوا لضربه وأنقذه منهم ثانية العباس، عم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.
وهكذا تفرد أبو ذر مرة أخرى بأمر آخر عن غيره من الصحابة الذين أسلموا حتى ذلك التاريخ.
وعندما عاد أبو ذر إلى قومه، تبعه في العقيدة أخوه أنيس وأمه ثم أخذ في الجهر بالدعوة إلى الإسلام، وفي السخرية من أصنام غفار وآلهتهم.. حتى دخلت أعداد من قبيلته في الدين الإسلامي، وظل بينهم داعياً إلى الدين الجديد حتى هاجر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى المدينة، وقدم إليها أبو ذر فأسلم من بقي من قومه، ودعا لهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فقال:
«غفار غفر الله لها»(1).
فكانت ميزة أخرى تميز بها هذا الداعية إلى الإسلام بين قبيلته وقومه عن كثير من الذين أسلموا في ذلك الحين(2).
كان أبو ذر (ممن هاجر إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من بني غفار إلى مكة، واختفى في أستار الكعبة أياماً كثيرة، لا يخرج منها إلا لحاجة الإنسان من غير أن يطعم أو يشرب شيئاً، إلا ماء زمزم(3) حتى رأى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالليل فآمن به)(4).
ص: 30
النص أعلاه أعطى دلائل على أن أبا ذر الغفاري كان يتردد إلى الكعبة للعبادة بشكل فطري دون أن يكون هناك إرشادات نبوية له، وقد يكون عالماً بوجود نبي جديد في شبه جزيرة العرب ربما مما سمعه من بعض رجال الدين اليهود والنصارى أو بعض الموحدین العرب.
معه كذلك إيمانه بالرسول الكريم ولقاؤه معه بالليل بشكل مباشر دون تردد يدلل لنا أنه في بداية البعثة النبوية وفي مرحلتها السرية الأولى، فكان من السابقين إلى تصدیق الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في رسالته، وهناك اتفاق على أنه أحد الخمسة الأوائل الذين أسلموا مبكراً، والخلاف هل هو الرابع(1) أو الخامس فيهم.
كان إسلامه ودعوة الإسلام لا تزال سراً بمكة، فولاّه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مسؤولية قومه، فعاد ومكث فيهم يدعو للإسلام جهراً، فأسلم معه كثير من قومه.
• أول من حيا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم:
ذكرت بعض المصادر التاريخية أن أول من حيّا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بتحية الإسلام هو أبو ذر الغفاري، فذكر أنه قال:
فكنت أنا أول من حيّاه بتحية الإسلام، قال: فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال:
«وعليك ورحمة الله»(2).
ص: 31
والنص بيّن أنه أول من أدّى السلام في بلاغة كهذهِ ربما لم يألفها رجال العرب من الصحابة، وكذلك يدلل النص على أنه كان من الخطباء المعروفين أولاً كونه يمتلك أسلوب بداية الخطاب لجلب من يريد التحدث إليه، وثانياً كان يملك آداب الكلام، وإلا كيف يبدأ بالسلام قبل الكلام، وثالثاً بداية الكلام بالسلام دلالة على سعة فكره التوحيدي لله، أو أراد إيصال فكرة للرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم بأنه من المؤمنين به وبقضيته، وهو ما نستطيع قوله بأن فطرة الدين الحنيف دين إبراهيم علیه السلام، وإلا كيف يبدأ بالسلام على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كبداية للحوار بينهما دون غيره؟!
• خادم النبي صلی الله علیه و آله وسلم:
مما ذكر في كتب التاريخ أن أبا ذر الغفاري كان يخدم الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، فذكر الذهبي رواية عن أسماء بنت یزید(1)، قال:
(حدثتني أسماء أن أبا ذر كان يخدم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فإذا فرغ من خدمته اوى إلى المسجد، وكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم المسجد فوجده نائماً، فنکته برجله، فجلس فقال له:
ص: 32
«ألا أراك نائماً».
قال: فأين أنام هل من بيت غيره؟ فجلس إليه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال:
«كيف أنت إذا أخرجوك منه»؟
قال: ألحق بالشام فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فأكون رجلاً من أهلها قال:
«كيف أنت إذا أخرجوك منها»؟
قال: إذاً أرجع إلى المسجد فيكون بيتي ومنزلي، قال:
«فكيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية»؟
قال: إذا أخذ سيفي فأقاتل عني حتى أموت، قال: فکشر إليه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقال:
«أدلك على خير من ذلك: تنقاد لهم حيث قادوك وتنساق لهم حيث ساقوك حتى تلقاني وأنت على ذلك»(1).
أولاً: إن الرواية عن أسماء وهي معروفة بكونها ثقة عند علماء الجرح والتعدیل، إلا أن الرواية فيها إساءة إلى خلق الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كونه نکته برجله، دلالة على عدم تواضعه مع رعيته، وكذلك توضح إن منزلة أبي ذر لم تكن مثلماً وصف عند المؤرخين بأنه كان يحبه، فقد روي عن بريدة عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم».
ص: 33
قيل: یا رسول الله، من هم، قال:
«عليُّ منهم، يقول: ذلك ثلاثاً وأبو ذر، وسلمان، والمقداد»(1).
وثانياً: إن الرواية وضّحت إنه كان يقيم في المسجد آنذاك، وليس له بيت من البيوت، وإنما بيته كان المسجد.
وثالثاً: الرواية بيّنت أن أبا ذر كان خادماً للنبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم.
• مدة انتظاره للرسول صلی الله علیه و آله وسلم:
مما جاء في مدة بقاء أبي ذر الغفاري من أيام بمكة للقاء النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم، ولم يكن له ما يعينه على البقاء سوى ماء زمزم، أكثر من خمس عشرةّ ليلة ويوماً، وبقاؤه هذه المدة دلالة على إيمانه بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم و بالرسالة التي يحملها، فقد ذكر ابن عباس، (قال أبو ذر فجئت حتى دخلت مكة فكنت بين الكعبة وأستارها خمس عشرة ليلة ويوماً، أخرج كل ليلة فأشرب من ماء زمزم شربة فما وجدت على كبدي سحفة جوع وقد تعكن بطني)(2).
إن بقائه هذه المدة من الأيام والليالي في انتظار الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، دليل على أنه يحمل في ذهنه رؤیا بوجود المبشر والنذير من رجالات قريش في مكة، زيادة على أنه ترك كل شيء من أجل إعلان التوحيد وفي أقدس مكان هو الكعبة، وكذلك لنبذ الكفر والشرك أمام مشركي قريش، ليس في قومه فحسب بل في مكة نفسها موطن الأصنام والأوثان، لذلك كان يقتنص الفرص المناسبة للنقاش حول المعبودات الموجودة في مكة، ويحث
ص: 34
المشركين منهم ولاسيما النساء على ترك عبادة الأصنام(1).
ممن هاجر إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من بني غفار إلى مكة، أبو ذر الغفاري(2).
واختلف المؤرخون في إسلام أبي ذر الغفاري، بعدد من الروايات منها:
ذكر ابن أبي شيبة الكوفي رواية عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: خرجنا من قومنا غفار أنا وأخي أنيس وأمنا، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال، وذي هيئة طيبة، قال: فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت من أهلك خالف إليهم أنيس، قال: فجاء خالنا فثنى علينا ما قيل له، قال: قلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد، قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، قال: وغطى رأسه فجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلنا، قال: فأتيا الكاهن بخبر أنيس، قال: فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ثلاث سنين، قال:
قلت: لمن؟
قال: لله.
ص: 35
قال: قلت: فأين كنت تتوجه؟
قال: حيث وجهني الله أصلي عشاء حتى إذا كان آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس، قال: قال أنيس: لي حاجة بمكة فاكفني حتى آتيك، قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني فقلت:
ما حسبك؟
قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قال:
قلت: فما يقول الناس له؟
قال: يزعمون أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر، قال أنيس:
فوالله لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد أنه شاعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون، وكان أنيس شاعراً، قال:
قلت: اكفني أذهب فأنظر، قال:
وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنفوا له وتجهموا له، قال:
فانطلقت حتى قدمت مكة، قال: فتضيفت رجلاً منهم، قال:
قلت: أين الذي تدعونه الصابئ؟
قال: فأشار إلي، قال: الصابئ، قال فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً علي، قال: فارتفعت حين ارتفعت وكأني نصب أحمر، قال: فأتيت
ص: 36
زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها، قال: فبينما أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان إذ ضرب الله على أصمختهم، قال: فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين، قال: فأتنا علىَّ وهما تدعوان أسافا ونائلة، قلت:
أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما ثناهما ذلك عن قولهما، قال: فأتتا عليَّ، فقلت:
هن مثل الخشبة غير أني لم أكن، قال: فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، قال: ما لكما؟
قالت: الصابئ(1) بين الكعبة وأستارها.
قالا: ما قال لكما؟
قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم، قال: وجاء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حتى انتهى إلى الحجر فاستلمه هو وصاحبه، قال: وطاف بالبيت ثم صلى صلاته، قال: فأتيته حين قضی صلاته، قال: فكنت أول من حيّاه بتحية الاسلام، قال:
«وعليك ورحمه الله ممن أنت»؟
قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده نحو رأسه، قال: قلت: في نفسي کره أني
ص: 37
انتميت إلى غفار، قال: فذهبت آخذ بيده، قال: فقد عنى صاحبه، وكان أعلم به مني، فرفع رأسه فقال:
«متی کنت ها هنا»؟
قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ عشر من بين يوم وليلة، قال:
«فمن كان يطعمك»؟
قال: قلت: ما كان لي طعام غير ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«إنها مباركة إنها طعام طعم».
قال: فقال: صاحبه: ائذن لي في إطعامه الليلة، فانطلق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأبو بكر فانطلقت معهما، قال: ففتح أبو بكر باباً فقبض إلى من زبيب الطائف، قال: فذلك أول طعام أكلته بها، قال: فلبثت ما لبثت أن غبرت ثم لقيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل فهل أنت مبلغ عني قومك، لعل الله أن ينفعهم بك، وأن يأجرك فيهم»؟
قلت: نعم، فانطلقت حتى أتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت، قال أنيس: وما بي رغبة عن دينك، إني قد أسلمت وصدقت، قال: فأتيت أمنّا، فقالت: ما بي رغبة عن دینکما، فإني قد أسلمت وصدقت، قال: فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفاراً قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم المدينة،
ص: 38
قال: وكان يؤمّهم إيماء بن رحضة وكان سيدهم، قال: وقال بقيتهم إذا قدم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: أسلمنا، قال: فقدم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم المدينة فأسلم بقيتهم، قال: وجاءت أسلم فقالوا: إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، قال: فأسلموا، قال: فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله»(1).
الملاحظ على الرواية أعلاه عدد من النقاط، منها:
أولاً: إن الراوي جعل أبا بكر قبله في الدخول بالدين الإسلامي، ومن ثم كذبوا على لسان أبي ذر حينما نسبوا إليه ما لم يُقله، أنه قال: (لم يسلم قبلي إلا الرسول وأبو بكر وبلال)(2)، وحذفوا الأسماء الأولى في تاريخ البعثة النبوية الشريفة، ألا وهم الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، والسيدة خديجة التي قال عنها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«ما نفعني مال قط ما نفعني مال خديجة»(3).
وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يفك في مالها الغارم ويحمل الكل ويعطي في النائبة ويرفد فقراء أصحابه(4).
وجعفر بن أبي طالب علیه السلام، وأعمامه الحمزة و أبي طالب علیهما السلام، اللذان وقفا إلى جنب
ص: 39
ابن أخيهم موقف البطولة والحسم.
عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«نحن بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة: رسول الله وحمزة سيد الشهداء وجعفر ذو الجناحين وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمهدي»(1).
مع علمنا البسيط في التاريخ لا توجد نصوص في كتب الطبقات والتراجم والسير تؤكد أن أبا بكر كان يتعبد لله قبل البعثة النبوية الشريفة، أو أنه كان من الموحدين العرب.
ثانياً: إن الراوي عفيف الكندي ذكر أسماء من كان إسلامه أولاً، فقال: (كنت امرأ تاجراً وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي، فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام. وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب. قال عفيف الكندي وأسلم وحسن إسلامه: لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)(2). لذلك لا يمكن قبول هذه الرواية لما بيناه من ملاحظات.
ص: 40
حدثني عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثني عن أبي جمرة عن ابن عباس قال: لما بلغ أبا ذر مبعث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قال لأخيه اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، فقال ما شفيتني مما أردت فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فرآه علي علیه السلام فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به على علیه السلام فقال:
أما نال للرجل أن يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى اذا كان اليوم الثالث، فعاد علي علیه السلام على مثل ذلك فأقام معه ثم قال:
ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟
قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت.
ففعل فأخبره قال فإنه حق وهو رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق حتى دخل على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه فقال له الرسول صلی الله علیه و آله وسلم:
ص: 41
«ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري».
قال والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه وأتی العباس فأكب عليه قال ویلکم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجّاركم إلى الشام، فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وأثاروا إليه فأكب العباس عليه(1).
ما يقف ضد هذه الرواية:
أولاً: حذف البخاري ذكر أعمام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأولاد عمه، مثل أبي طالب وحمزة وجعفر علیهم السلام، من روايته. ربما لأمر، أو لا، لكنه لم يذكر حقيقة من أولى بالدخول بالدين الإسلامي من أهل بيت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعده.
ثانياً: اختار روايته عن ابن عباس الذي ولد قبل هجرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأربع سنين(2)، ولم يسند روايته إلى أبي ذر أو من عاصره وسمع منه من التلاميذ المقربين له، كونهم من كان ملازماً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ومعروفين بصدقهم بلسان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.
ثالثاً: إن البخاري في روايته مدح العباس کونه خلّصَ أبا ذر مرتين من أيدي قريش حينما ضربوه، واهتمامه بهذا الجانب دون غيره من الجوانب في الرواية يوضح أنه أراد أن يعطي صفة المكانة له دون غيره من بني هاشم، وتناسی وجود زعیم قریش وهيبتها أبي طالب عم الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم.
ص: 42
رواية عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن عبد الله بن محمد، عن سلمة اللّؤلؤي، عن رجل، عن أبي عبد الله علیه السلام قال:
«ألا اُخبركم كيف كان إسلام سلمان وأبي ذرّ، فقال الرّجل وأخطأ: أمّا إسلام سلمان فقد عرفته فأخبرني بإسلام أبي ذرّ فقال: إنّ أبا ذرّ كان في بطن مرّ(1) يرعى غنماً له فأتی ذئب عن يمين غنمه فهشَّ بعصاه على الذئب، فجاء الذئب عن شماله فهشّ عليه أبو ذر ثم قال له أبو ذر: ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شراً، فقال له الذئب: شرّ والله مني أهل مكة بعث الله عزّ وجلّ إليهم نبياً فكذبوه وشتموه فوقع في أذن أبي ذرّ، فقال لامرأته: هلمّي مزودي وأدواتي وعصاي، ثم خرج على رجليه يريد مكّة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به، حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب فأتی زمزم وقد عطش، فاغترف دلوا فخرج لبن فقال في نفسه: هذا والله يدلّني على أنّ ما خبرني الذئب وما جئت له حق، فشرب وجاء إلى جانب من جوانب المسجد فإذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، كما قال الذئب، فما زالوا في ذلك من ذكر الرسول والشتم له حتى جاء أبو طالب من آخر النهار فلمّا رأوه قال بعضهم لبعض: كفّوا فقد جاء عمّه، قال: فكفّوا فما زال يحدّثهم ويكلّمهم حتى كان آخر النهار، ثم قام وقمت على أثره فالتفت إليّ فقال:
أذكر حاجتك!، فقلت:
ص: 43
هذا الرسول المبعوث فيكم، قال:
وما تصنع به؟ قلت:
أؤُمن به وأصدّقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته فقال:
وتفعل؟
فقلت: نعم.
قال: فتعال غداً في هذا الوقت إليّ حتى أدفعك إليه.
قال: بتّ تلك الليلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم فما زالوا في ذکر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وشتمه حتى إذا طلع أبو طالب فلما رأوه قال بعضهم لبعض: أمسكوا فقد جاء عمه، فأمسكوا فما زال يحدّثهم حتى قام فتبعته فسلمت عليه فقال:
أذكر حاجتك.
فقلت: الرسول المبعوث فیکم.
قال: وما تصنع به؟
فقلت: أؤمن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته.
قال: وتفعل؟
قلت: نعم.
فقال: قم معي، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة علیه السلام فسلمت عليه وجلست فقال لي:
ص: 44
ما حاجتك؟
فقلت: هذا الرسول المبعوث فیکم.
فقال: وما حاجتك إليه؟
قلت: أؤمن به وأُصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته.
فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟
قال: فشهدت.
قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر علیه السلام فسلّمت عليه وجلست فقال لي جعفر علیه السلام:
ما حاجتك؟
فقلت: هذا الرسول المبعوث فیکم.
قال: وما حاجتك إليه؟
فقلت: أومن به وأصدّقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء الاّ أطعته.
فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله؟
فقال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه علي علیه السلام فسلمت وجلست.
فقال: ما حاجتك؟
ص: 45
فقلت: هذا الرسول المبعوث فیکم.
قال: ما حاجتك إليه؟
قلت: أومن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته.
فقال: تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله؟
قال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فسلّمت وجلست، فقال لي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: ما حاجتك؟
قلت: الرسول المبعوث فيكم.
قال: وما حاجتك إليه؟
قلت: أومن به وأُصدقه ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته.
فقال: تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، فقال لي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«يا أبا ذرّ انطلق إلى بلادك فإنّك تجد ابن عمّ لك قد مات، وليس له وارث غيرك فخذ ماله، وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا».
قال: فرجع أبو ذر فأخذ المال، وأقام عند أهله حتى ظهر أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم)(1).
والنص بيّن أن أبا ذر الغفاري بقي يفكر في كلام الذئب، كيف وصف أهل مكة
ص: 46
بذلك الوصف قبل أن يلتقي بهم، لذلك حينما رآهم يشتمون الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كما قال الذئب، أيقن أن الله تعالی أرسل له هذا الحيوان لينبأه بحالهم، زيادة على أن النص فيه أمور عدة منها:
أولاً: إيمان أبي طالب علیه السلام عم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ودلائل إسلامه أن الرعية كانت تتجنب سب الرسول وشتمه أمامه، كونه كان فذاً في زعامته لقريش، ذا شخصية قويّة سيطرت على النفوس بطهارتها واستقامتها وترفعها عن الدنيا، زيادة على أنه كان يدعو للدين الحنيف حتى آخر النهار، ويعين النبي وينصره ويحميه دون أن يلقي بالاً لما يترتب على ذلك من مشاق ومتاعب مادية ومعنوية، وظل على ذلك حتى انتقل إلى أخراه، ومما جاء في الرواية: «قال أبو ذر بتّ تلك الليلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم فما زالوا في ذكر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وشتمه حتى إذا طلع أبو طالب فلما رأوه قال بعضهم لبعض: أمسكوا فقد جاء عمه، فأمسكوا فما زال يحدّثهم حتى قام فتبعته فسلّمت عليه فقال: أذكر حاجتك، فقلت: الرسول المبعوث فيكم، قال: وما تصنع به؟ فقلت: أومن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته، قال: وتفعل؟ قلت: نعم، فقال: قم معي، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة علیه السلام»(1).
ثانياً: إن أبا طالب كان الشخص المؤتمن علی ابن أخيه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، والدليل ما دار من حوار بينه وبين أبي ذر إذ جاء فيه: «ثم قام وقمت على أثره فالتفت إليّ فقال: أذكر حاجتك، فقلت: هذا الرسول المبعوث فيكم، قال: وما تصنع به؟ قلت: أُومن به وأصدّقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلاّ أطعته، فقال: وتفعل؟ فقلت:
ص: 47
نعم، قال: فتعال غداً في هذا الوقت إلىّ حتى أدفعك إليه»(1).
ثالثاً: إن أبا طالب علیه السلام كان يتابع ويمحّص في الرعية الراغبين بالدخول في الدين الجديد.
رابعاً: في النص دليل على رجوع أبي ذر الغفاري إلى غفار بعد إسلامه، من أجل نشر الدين الجديد، وكان ذلك بأمر الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم لمتطلبات الدعوة السرية آنذاك، وحفاظاً عليها وعلى أفرادها(2).
خامساً: ذکروا رواية عن عبد الرحمن بن سر، عن أبيه قال: (لما قدم بأبي ذر من الشام إلى عثمان، كان مما أبّنه به أن قال: أيها الناس إنه يقول: إنه خير من أبي بكر وعمر، قال أبو ذر: أجل أنا أقول، ذلك لقد رأيتني رابع أربعة مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ما أسلم غيرنا، وما أسلم أبو بكر ولا عمر، ولقد وليا وما وليت، ولقد ماتا وإني لحي، فقال علي علیه السلام:
«والله لقد رأيته وإنه لرابع الإسلام،» فردّ عثمان ذلك على علي علیه السلام، وكان بينهما کلام، فقال عثمان: والله لقد همت به، قال علي علیه السلام:
«وأنا والله لأهمُّ بك».
فقام عثمان ودخل بيته وتفرق الناس)(3).
لكنهم لم يتركوا حديثه بدون تزييف للواقع الإنساني والتاريخي حينما جعلوا بعض
ص: 48
الصحابة قبله مثل أبي بكر وبلال، وحذفوا أهل بيت النبوة من ذلك مثل الإمام علي وخديجة وجعفرٍ وزيدٍ وحمزة و أبي طالب علیهم السلام، ثم كذبوا على لسانه(1).
لم تذکر کتب التاريخ والتراجم شيئاً عن ذريته، ومما ذكره بعض المؤرخين أنه ليس له عقب(2)، ربما لأن العرب حينما اهتموا بعلم الانساب، أهتموا بالرجال فقط، لذلك ذکر بأنه لم يعقب، وعلى الرغم من ذلك الحال الذي كان يمر به، إلا إنه كان حامداً لله على وضعه، فذكر ابن عساکر رواية عن عبد الله بن خراش، قال: رأيت أبا ذر بالربذة في ظلة له سوداء وتحته امرأة له سحماء وهو جالس على قطعة جوالق، فقيل له يا أبا ذر إنك امرؤ ما يبقى لك ولد، فقال الحمد لله الذي يأخذهم في الفناء ويدخرهم في دار البقاء قالوا يا أبا ذر لو اتخذت امرأة غير هذه قال لأن أتزوج امرأة تضعني أحب إلي من امرأة ترفعني، قالوا له لو اتخذت بساطا ألين من هذا قال اللهم غفرا خذ ما خولت ما بدا لك(3).
أما بقية ذريته، فهناك روايتان، الأولى ذكر أن (له أبنة واحدة رافقته إلى الربذة مكان نفيه، وهي التي كانت تبكي عليه حين مرض وبنفس الوقت عينها على خط سير القوافل ما بين الكوفة ومكة، وكان قد أمرها عندما اقترب منه الموت أن تولم وليمة لأول ركب يفد إلى منفاه كي يجهزوه ويدفنوه.. وقبل أن يسلم روحه قال لابنته: استقبلي بي الكعبة، ففعلت، وقال: بالله، وعلى ملة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. ثم أسلم الروح)(4). يدلان على أنهم اثنين، تارة تذكر زوجته بدلاً من ابنته عند بعض
ص: 49
المؤرخين(1). وهو يتوافق مع ما ذكره الواقدي، قال (فأصابه قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه)(2).
والأقرب أنها ابنته لأنه سبق أن ذكرنا بأنه ليس له عقب، وهذا ما يميل له الباحث، وابنته هذه هي التي كانت ترعاه وتهتم به، أما زوجته فيمكن أن تكون قد تعبت بسبب شیخوختها وما مرّ بها من ظروف قاسية مع زوجها، ولذلك لم تكن لديها طاقة في توجيه زوجها إلى القبلة، الأمر الذي جعل ابنته هي من تتكفل بذلك.
لكن في رواية أخرى ذكر فيها: (فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته)(3). وهو دليل على وجود الزوجة مع البنت حين نفي، وأنهم ثلاثة. ولكن لا يمكن القبول بها لانفراد اليعقوبي بها دون غيره من المؤرخين.
في ضوء ما وجدناه من نصوص تاريخية تؤكد صحابته لرسول الله وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وكذلك كونه من المؤمنين الصادقين لله، وما جاء على لسان الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم بكلام الخالق بدلالة قوله تعالی:
«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(4)،
ص: 50
يؤكد مدى قرابته منهم، بدلاله قوله:
«منا أهل البيت»(1).
وما يؤكد ذلك أنهم لم يتركوه وحده حينما سُيّر إلى الربذة بأمر من عثمان، الذي لم يكتفِ بنفيه، بل أصدر أمراً آخر لم يسمح فيه للمؤمنين بمشایعته إلى خارج حدود المدينة، ولم يتمسك به أهل المدينة، إلا بنو هاشم ومواليهم من الصحابة المقربين لهم خرجوا معه، فذكر رواية عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن حفص التميميِّ قال: حدَّثني أبو جعفر الخثعميّ قال: (لما سیّر عثمان أباذرّ إلى الربذة شیّعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين علیهم السلام وعمّار بن یاسر، فلمّا كان عند الوداع قال أمير المؤمنين علیه السلام:
«يا أبا ذر إنّك إنّما غضبت لله عزَّ وجلَّ فأرجُ من غضبت له، إنَّ القوم خافوك على دنیاهم وخِفتَهُم على دينك فأرحلوك عن الفناء وامتحنوك بالبلاء ووالله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقاً ثمّ اتّقي الله عزَّ وجلَّ جعل له منها مخرجاً فلا يؤنِسُكَ إلاّ الحقّ ولا يوحِشُكَ إلاّ الباطل».
ثمَّ تكلّم عقيل فقال:
يا أبا ذرّ أنت تعلم أنّا نحبّك ونحن نعلم أنّك تحبّنا وأنت قد حفظت فينا ما ضيّع النّاس إلاّ القليل، فثوابك على الله عزَّ وجلَّ ولذلك أخرجك المخرجون وسيرك المسيّرون فثوابك على الله عزَّ وجلَّ، فاتّق الله واعلم أنّ استعفاءك البلاء من الجزع واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
ص: 51
ثمّ تكلّم الحسن علیه السلام فقال:
«يا عمّاه إنّ القوم قد أتوا إليكَ ما قد ترى وإنّ الله عزَّ وجلَّ بالمنظر الأعلى، فَدَع عنكَ ذكرَ الدُّنيا بذكر فراقها، وشدّة ما يَرِدُ عليك لرجاء ما بعدها، واصبر حتّى تلقی نبيّك صلی الله علیه و آله وسلم وهو عنك راضٍ إن شاء الله».
ثمَّ تكلّم الحسين علیه السلام فقال:
«يا عمّاه إنّ الله تبارك وتعالى قادرٌ أن يغيّر ما ترى وهو كلَّ يوم في شأن، إنَّ القوم منعوكَ دنياهُم ومنعتَهُم دينك، فما أغناك عمّا منعوك وما أحوجَهُم إلى ما مَنعتَهُم، فعليك بالصبر فإنَّ الخير في الصبر والصبر من الكرم وَدَعِ الجزعَ فإنَّ الجزع لا يُغنيك».
ثمَّ تكلّم عمّار فقال:
يا أبا ذر أوحش الله من أوحَشَكَ وأخافَ من أخافَكَ إنّه والله ما منع النّاس أن يقولوا الحقَ إلاّ الركونُ إلى الدنيا والحبُّ لها، ألا إنّما الطّاعة مع الجماعة والملك لمن غلب عليه، وإنَّ هؤلاء القوم دعوا النّاس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
ثمَّ تكلم أبو ذرّ فقال:
عليكم السّلام ورحمة الله وبركاته بأبي وأُمّي هذه الوجوه، فإنّي إذا رأيتكم ذكرت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بكم، ومالي بالمدينة شجن ولا سكن غيركم وإنّه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة فزعم أنّه يخاف أن اُفسد على أخيه النّاس بالكوفة، وآلی بالله
ص: 52
ليسيّرني إلى بلدة لا أرى فيها أنيساً ولا أسمع بها حسيساً، وإنّي والله ما أُريد إلاّ الله عزَّ وجلَّ صاحباً ومالي مع الله وحشة، حسبي الله، لا إله إلاَّ هو عليه توكّلت وهو ربُّ العرش العظيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين)(1).
من خلال النص وما جاء فيه نستنتجُ إنه كان علوي المذهب والهوى، لذلك كان مَحارباً من قبل السلطة الحاكمة في عهده، وكذلك لم أجد نصاً معيناً في كتب التاريخ والتراجم المتاحة بين أيدينا تؤكد أنه كان عمري الهوى أو عثمانياً، بل وجدت نصوص كثيرة جداً توضح أنه كان ضد عثمان قولاً، وفعلاً، وسراً، وعلانيةً، ربما نتيجة ما بدر من الأخير من أمور سياسية واقتصادية غير دقيقة أولاً، وخارجة عن سنن الله ورسوله ثانياً حسب وجهة نظره کونه من الفقهاء.
وكذلك وضّحت النصوص ميوله الكبيرة لأهل بيت النبوة، لاسيما الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، لذلك نقل كثيراً من الأحاديث الشريفة عنهم، لكن لم يذكر الكثير منها في كتب الصحاح المعتبرة الست والمساند الأخر عند بقية المذاهب الإسلامية الأربعة، بل ربما ركزت على الأحاديث التي حاولت تقليل قيمته عند رسول الله ليس إلا، وقد يكون سبب ذلك إلى ميول الرواة والكتاب إلى الاتجاهات الفكرية المناهضة لأهل البيت علیهم السلام من جهة، أو كانوا يكتبون ما تُمليه عليهم السلطة الحاكمة آنذاك، إذ اهتمت السلطة بمظاهر الترف والبذخ العائدة لهم.
منزلته أبي ذر في الجنة، روي عن أنس، رفعه قال: الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي
ص: 53
وعمار أحسبه، قال: وأبي ذر(1). فالحديث ربما يرفض من قبل بعض الرواة والمحدثين كونه لا يتوافق مع منهج السلطة الحاكمة المضادة لمنهج الرسول وأهل بيته علیهم السلام، لاسيما وأن الحديث قد جمع شيعة الإمام علیه السلام المقربين إليه في منزلة واحدة دون ذكر أي شخصية من الشخصيات التي كانت مواليه للبيت الأموي.
وعن أبي الأسود الدؤلي قال: (رأيت أصحاب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فما رأيت لأبي ذر شبيهاً)(2).
هذا الحديث وضّح أن منزلته ما بين الصحابة فريدة في النظرية والتطبيق، فالملاحظ على بعض ملامح حياته ومن خلال الدراسة إنه كان يسير أعماله الدنيوية للأخرة، أي يطبق ما سمعه من أحاديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قولاً وفعلاً، ويطبقها على نفسه قبل غيره من الرعية، لذلك كان يرشد وينصح أصحاب السلطة على ما يراه من اختلاف في تطبيق الحديث ، لذا من جراء ذلك كان غير مرغوب به من قبل السلطة التي حكمت المسلمين بعد وفاة أبي بكر.
مما ذكر في حب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأبي ذر الغفاري ما ذكر عن بريدة، قال: قال رسول الله محمد صلی الله علیه و آله وسلم:
«إنّ الله عزّ وجلّ أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنّه يحبهم: علي وأبو ذر والمقداد
ص: 54
وسلمان»(1).
فالحب في النص جاء بأمر من الله جل جلاله، والرسول صلی الله علیه و آله وسلم حامل لهذه الأمانة من عند الله بحق الصحابي الجليل، ثم جاء ذكره في الحديث بعد الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام لبيان منزلته مع منزلة المقداد وسلمان، أي أنهما الثلاثة الأقربون من أهل البيت علیهم السلام.
وفي رواية أخرى عن الفضيل، قال: (عرضت على أبي عبد الله علیه السلام أصحاب الردّة، فكلّما سمّيت إنساناً، قال: أعزب، حتى قلت: حذيفة قال: اعزب، قلت: ابن مسعود، قال: أعزب، ثم قال:
«إن کنت إنّما تريد الذين لم يدخلهم شيء، فعليك بهؤلاء الثلاثة: أبو ذر، وسلمان، والمقداد»(2).
أيضاً لبيان وتأكید منزلته عند الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم وإنه لم يرتد عن الدين الحنيف وأن منزلته كانت عظيمة عند رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وكيف لا تكون كذلك وكان خادمه في المسجد، وهو يدرك ويعلم من يكون خادمه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«یا أبا ذر رأيت كأني وزنت بأربعين أنت فيهم فوزنتهم»(3).
مما ذكر في كتب الحديث أن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، كان يتابع وجود أبي ذر من عدمه في المسجد، لتأكيد منزلته عنده وأمام الصحابة، لربما لأنه يدرك ماذا سوف يحدث له من بعده،
ص: 55
روى أبو الدرداء قال: (كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقده إذا غاب)(1).
عن عبد الرحمن بن غنم، إنه زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، فأمر بحماره فأوكف له، فقال أبو الدرداء لا أراني إلا متبعك، فأمر بحماره فأسرج فسارا على حماريهما، فلقيا رجلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية فعرفهما الرجل ولم يعرفانه فأخبرهما خبر الناس ثم إن الرجل قال:
وخبر آخر کرهت أن أخبركما أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء:
فلعل أبا ذر نفي.
قال: نعم والله، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرات، ثم قال أبو الدرداء:
ارتقبهم واصطبر، كما قيل لأصحاب الناقة: اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه، اللهم إن اتهموه فإني لا أتهمه، اللهم وإن استغشوه فإني لا أستغشه، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً، ويسرّ إليه حين لا يسرّ لأحد، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم
ص: 56
يقول:
«ما أظلَّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراءُ من ذي لهجة أصدق من أبي ذره»(1).
النص وضّح مدى معرفة الحكيم أبا الدرداء بسياسة عثمان، على الرغم من كونه واحداً من المقربين إليه كونه من أمراء القضاة في حمص، لذلك كان يدرك تماماً ماذا يحمل عثمان من نوايا تجاه أبي ذر الغفاري كونه دائما ما كان يقدم له النصح والإرشاد وهو لم يقبل بذلك، أو ربما لأن سياسة عثمان لا تقبل بالنصح وترى أن كل من يقدم لها النصح هو عدوّها، لذلك كانت نتيجة ذلك هو النفي، لكي يكون مثالاً لغيره لمن يريد أن يقف ضده مهما كانت منزلته من الصحابة، لكن هذا لا يمنعه من قول الحق في شخصية أبي ذر الغفاري حينما وصفه وصفاً دقيقاً بأنه لا يكذب، وكان واحداً من موادع اسرار الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم.
ظهره جنأ(1) (2)، وقال أبو قلابة عن رجل من بني عامر دخلت مسجد منى فإذا شیخ معروق آدم عليه حلة قطري فعرفت أنه أباذر بالنعت(3).
ومن ملامح خلقه وجود الشيب، ويروى عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول صلی الله علیه و آله وسلم:
«من سرَّه أن ينظر إلى شبیه عیسی ابن مریم صلی الله علیه و آله وسلم خلقاً وخلفاً فلينظر إلي أبي ذر رضي الله عنه»(4).
وكذلك جاء في مسند يعقوب بن شيبة من رواية سلمة بن الأكوع، (أن أبا ذر كان طويلاً)(5).
وذكر عفان بن مسلم قال حدثنا عبد الله الرومي قال: (دخلت على أم طلق(6) وإنها حدثته أنها دخلت على أبي ذر، فأعطته شيئاً من دقيق وسویق، فجعله في طرف ثوبه، وقال:
ثوابك على الله.
ص: 58
فقلت لها: يا أم طلق، كيف رأيت هيئة أبي ذر؟
فقالت: يا بني، رأيته شعثاً(1) شاحباً)(2).
والمعروف في اللغة أن الرجل الشاحب هو المؤمن الخائف من الله جل وعلا ويبدو علیه آثار قلة المأكل والتنعم(3).
والمتتبع لهذه الصفات ربما تتجلى في نظره فكرة غير طيبة عنه، وهو عكس ما سوف نوضحه من تلك الشخصية القوية والمؤمنة بالله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم إذ اشترك في كثير من الفتوحات والغزوات في بداية البعثة النبوية الشريفة.
طمس تاريخ العرب قبل البعثة النبوية الشريفة وبعدها ولم يهتم بحياة الشخصيات الفذة في التاريخ ومنها شخصية أبي ذر ودوره في الفتوحات، لذلك لم نجد من تاريخ مشاركاته في الغزوات إلا الجزء اليسير، لذا وضّحنا ما تم العثور عليه من أجل إكمال الصورة الحقيقية عن شخصيته الفذة، شهد أبو ذر جوامع المشاهد(4)، بينما ذكر بقية المؤرخين أنه، لم يشهد بدراً ولا أحداً ولا الخندق، لأنه حين أسلم رجع إلى بلاد قومه، فأقام فيها، حتى مضت هذه المشاهد، ثم قدم المدينة على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(5).
ص: 59
ذكر أن عمراً ألحقه مع القراء(1)، كونه لم يشهد بدراً(2). وغرضه من هذا الإلحاق من أجل الحصول على العطاء، اعترافا بفضله، ولأنه لم يكن يومها قد هاجر إلى المدينة.
قد شهد فتح بیت المقدس مع عمر(3).
كان حامل راية غفار يوم حنين.
في السيرة النبوية لابن إسحاق بسند ضعيف عن بن مسعود قال: كان لا يزال يتخلف الرجل في تبوك فيقولون یا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، فتلوم أبو ذر على بعيره فأبطأ عليه فأخذ متاعه على ظهره ثم خرج ماشياً، فنظر ناظر من المسلمين فقال إن هذا الرجل يمشي على الطريق ، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم
«كن أبا ذر»
فلما تأملت القوم قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذر.
فقال صلی الله علیه و آله وسلم: «یرحم الله أبا ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويحشر وحده»(4).
ص: 60
عن محمد بن کعب أن أبا ذر (دخل مصر واختط بها داراً)(1). وكذلك ما جاء في کتاب الهيثمي، عن يزيد بن أبي حبيب (وكان أبو ذر من شهد الفتح مع عمرو بن العاص)(2).
الملاحظ على الرواية الأخيرة أن الهيثمي يذكرها ويقول أن الطبراني يذكرها لكن إسنادها منقطع، وهذا الانقطاع في الرواية لأن التاريخ اهتم بالسلطة بينما أبو ذر كان من المعارضين لها.
شارك أبو ذر الغفاري في فتح الشام من أوله، وكان له احترام في نفوس الجنود، ونفوذ على قادة جيش الفتح، وهو ما تحرص مصادر السلطة والحكام على إخفائه. فمما ذكر عن هودة بن خليفة، بإسناده، عن أبي عالية قال: (غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس وهو أمير على الشام، فغنموا وقسموا الغنائم، فوقعت جارية في سهم رجل من المسلمين وكانت جميلة، فذكرت لیزید فانتزعها من الرجل، وكان أبو ذر يومئذ بالشام، فأتاه الرجل فشكا إليه واستعان به على يزيد ليرد الجارية إليه، فانطلق إليه معه، وسأله ذلك فتلكأ عليه، فقال له أبو ذر: أما والله لئن فعلت ذلك، لقد سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول: إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية، ثم قام، فلحقه يزيد فقال له: أذكرك الله عز وجل أنا ذلك الرجل؟ قال: لا. فرد عليه الجارية)(3).
ص: 61
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حيث طبق الدستور الإسلامي الجديد وفق ما جاء في القرآن الكريم، لذا كان يتلو قوله تعالی:
«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).
ويعمل بها ليلاً ونهاراً، دون أن تأخذه في الله لومة لائم أو خشية الجبابرة والظالمين.
وقد يكون سبب ذلك سياسة عثمان المالية، وبني أمية، وجماعات من الذين أغدق عليهم عثمان من أموال بيوت مال المسلمين بدون حساب، أمثال عبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، والحكم، ومروان، وابن أبي سرح وأضرابهم، وتلاعب ولاته من بني أمية، وبني العاص بأموال المسلمين دون رعاية كتاب الله وسنن رسوله.
من أشهر صفاته أنه أمة للناس، وهذه الصفة قد تمثلت في شخص الأنبياء والأولياء الصالحين، فأبو ذر واحد من حمل هذه الصفة، ربما لمنزلته، قال الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم:
«إن أبا ذر يأكل وحده ويشرب وحده ويموت وحده، ويبعثه الرب يوم القيامة وحده»(2).
ص: 62
وهنا وصف دقیقُ وأن حاله حال الرسول إبراهيم علیه السلام حينما وصف بأنه أمة للناس.
من الميزات المهمة في شخصية أبي ذر الغفاري أنه كان زاهداً لله، فعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال:
«من أراد أن ينظر إلى زهد عیسی بن مریم فلينظر إلى زهد أبي ذر الغفاري»(1).
ولكن زهد أبي ذر هذا لم يكن عزوفاً عن الدنيا وإدارة ظهر لمشاكلها وأحداثها، وإنما كان موقفاً نضالياً يرفض صاحبه الانغماس في الملذات والترف، وفي الوقت نفسه يكافح ضد الذين سلكوا هذا السبيل، فأبو ذر كان يؤمن بأن له في أموال المجتمع حقوقاً مثل ما للآخرين، وأن استئثار الآخرين بهذه الأموال لا يعني اختصاصهم بها دونه وحتى في منفاه، وفد عليه سلمة بن نباتة(2) فحدثه عن تسابق أصحابه في حيازة الأموال، وتنمية الثروات، وقال له:
إن أصحابك قبلنا أكثر الناس مالا؟
فقال له أبو ذر: أما إنهم ليس لهم في مال الله حق إلا ولي مثله(3).
فهو لم يكن زاهداً زهد الإنسان الذي لا يرى لنفسه علاقة بالدنيا ومباهجها، وإنما
ص: 63
كان زاهداً زهد المناضل ضد احتواء هذه المباهج لملكاته وقدراته وتطويعها المزاياه الثورية التي اكتسبها من قبل ومن بعد بعثة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(1).
ومما قاله أبو ذر عن الزهد نقلاً عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قوله:
«إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها»(2).
ومن دلائل زهده رفض المال، وهو زينة الحياة الدنيا بنص القرآن الكريم في قوله تعالى:
«الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(3).
فقد ذكرت رواية عن محمد بن سيرين أنه قال: (بلّغ الحارثَ رجلٌ كان بالشام من قريش أن أبا ذر کان به عوز فبعث إليه بثلاثمائة دينار فقال ما وجد عبد الله من هو أهون عليه مني؟ سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«من سأل وله أربعون فقد ألحف، ولأبي ذر أربعون درهماً، وأربعون شاة وما هنان»(4).
له عليه واله إن أبا ذر الغفاري كان يتابع سياسة معاوية في الشام بدقة لبيان مدى حرص الأخير على مصلحة الإسلام والمسلمين، لذا حينما أراد معاوية الكيد به لأجل المكروه له وأمام
ص: 64
الرعية أرسل له المال(1)، ومما ذكر في ذلك: (كان أبو ذر ینکر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردها عليه)(2).
ويبدو أن معاوية حينما تضايق من سياسة أبي ذر الغفاري ضده في الشام، لجأ إلى أسلوب جديد في تعامله، لاسيما وإنه يعلم كيف كان وضعه الاقتصادي، فأراد کسب ودّه من جهة، ومن جهة أخرى أراد أن يعطيه هدايا وأموال من أجل أن ينهي كلامه المتكرر ضده بالشام، زيادة على أنه أراد إعطاء فكرة للفقراء من أهل الشام، بأنه شخصية مادية لا يحب إلا نفسه، وهذا الكيد من معاوية معروف في سياسته تجاه من يجدهم أعداءه. لذلك حاول إرسال الأموال إليه، متصوراً إنه يستطيع خرقه، ونسي أو تناسى أنه كان يحارب الاغنياء من أجل الفقراء، مع العلم أن معاوية حرمه من عطائه طيلة ذلك العام، وهو ما أفصح عنه أبو ذر في قوله: (إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها)(3).
فإن اعترف معاوية له بذلك، فمعاوية إذن لا يتفضل عليه، ولا يحسن بهذا المال إليه، بل هو يأكل حقه، ويظلمه. وإن كان يعطيه إياه صلة يستجلب رضاه بها، ويربح محبته وولاءه، فذلك مرفوض، لأن ولاءه ومحبته ورضاه لا تنال بالمال، بل بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، والكف عن مخالفة أحكام الشرع الشريف، والعمل بما يرضي الله تعالی.
ص: 65
ما هي من الصفات المهمة في شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري هو الصادق، والتي لم يشترك معه فيها أحد من أصحابه بشهادة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وهي (صدق اللهجة)، أي أنه أكثر الألسنة صدقاً في التعبير عن الرأي الحر، وأكثر الناس جرأة في إعلان ما يعتقد حقاً، وأن لسانه كان أكثر منابر العصر تعبيراً عن الحقائق التي شهدها.
أما شهادة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأبي ذر بهذه الميزة وذلك الامتياز، فإنها قد جاءت في حديثه الذي يقول فيه صلی الله علیه و آله وسلم:
«ما أظّلت الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ لهجةً من أبي ذره»(1).
ولقد اشتهر أمر هذا الحديث حتى أصبح من الصفات الشائعة لأبي ذر في كتب الطبقات الخاصة بالصحابة والمحدثين: صفة (صدق اللهجة)، وهو وصف لم يطلق على أحد غيره من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.
فالتأكيد على صدق لهجة الرجل، هو اليقين بأنه أصدق أهل زمانه لهجة، وهذا بدوره يقطع الطريق على من يحاول من بعض علماء الجرح والتعديل في النيل منه، والتشكيك في إنصافه عندما صوّروه أداة لبعض من أسلم من اليهود، دفعوا به لمناوئة عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان، ومن ثم فإن هذه الصفة من صفات أبي ذر لابد وأن تظل حاضرة في ذهن الباحث والدارس والقارئ، عند التعرض لأحداث ذلك الصراع الذي قام بينه وبين جهاز الدولة والأغنياء آنذاك.
ص: 66
وهذه الصفة التي يتميز بها أبو ذر قد جعلت الرجل أثيراً عند الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، قریباً منه، ومما نقل عن أبي الدرداء، قال: (كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب)(1) أي أن منزلة الرجل كانت كبيرة لدى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.
إن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كان شديد الحرص على أن يجد أبا ذر دائماً في المكان المرغوب لصفوة الصحابة وخيرة المسلمين، ولقد حدث أن انتشر وشاع تخلف الناس عن الخروج للقتال مع الرسول في غزوة تبوك، وأخذ بعض الصحابة ينقلون إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أخبار المتخلفين عن الاستعداد للقتال، فيقولون: (یا رسول الله: تخلف فلان.. فيقول لهم صلی الله علیه و آله وسلم:
«دعوه .. فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه»(2).
فذهب هذا الحكم معیاراً يميز الخارجين إلى القتال عن القاعدين عنه دون عذر مقبول.
وفي نفس هذه اللحظات كان أبو ذر قد استبطأ بعيره قد أخذ متاعه على ظهره، وتبع جیش الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مشياً على الاقدام. (فنظر ناظر من المسلمين، فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«كن أبا ذر»(3).
ويكمل ابن مسعود رواية الحديث فيقول: (فلما تأملت القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، ففرح رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فرحاً شديداً بتحقيق أمنيته في أن يكون أبو ذر في
ص: 67
مكانه الطبيعي بين الذين جعل الله فيهم خيراً فألحقهم بجيش الذاهبين للقتال، وقال:
«يرحم الله أبا ذر، يعيش وحده ويموت وحده.. ويحشر وحده»(1).
السؤال هو لماذا فرح الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بمقدم أبي ذر؟ هل أنه يحبه وأراد بیان منزلته أمام الصحابة؟ أم أراد بيان صدق موعده؟ أو إيمانه لمن في نفسه شكّ في إسلامه كونه مواليا لآل بيت النبوة؟
نعم إنه كان من الصادقين بدلالة ما جاء في إحدى الروايات، عن ثعلبة بن الحكم(2) قال، إن علياً علیه السلام قال:
«لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي، ثم ضرب بيده على صدره»(3).
وذكر الثقفي في تاريخه أن أبا ذر أتي بين يدي عثمان، فقال: (یا کذاب، فقال علي علیه السلام: ما هو بكذاب، قال: بلى والله إنه لكذاب، قال علي علیه السلام: ما هو بكذاب، قال عثمان: التراب في فيك يا علي، قال علي علیه السلام: بل التراب في فيك يا عثمان، قال علي علیه السلام: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّتِ الغبراءُ على ذي لهجةٍ أصدقَ من أبي ذر».
ص: 68
قال: أما والله على ذلك لأسيّرنه، قال أبو ذر: أما والله لقد حدثني خليلي عليه الصلاة والسلام: أنكم تخرجوني من جزيرة العرب)(1).
وكذلك كان عثمان يهتم بإلصاق تهمة الكذب بأبي ذر، رغم إخبارهم إياه بقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في حقه وتأكيده على صدقه، فهل كان عثمان يسعى لإسقاط هذه الكلمة عن الاعتبار ولماذا وهل يقاس الوحي الإلهي على لسان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، التي تدعو الأهواء لإطلاقها وإلصاقها بالأبرار والأخيار؟ ثم أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم وعلى لسان الإمام علي علیه السلام، قال: قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم:
« أبو ذر صدّيق هذه الأمة»(2).
يجب على الإنسان التفكر في ملكوت الله، وفي عظمته في خلقه، ومظاهر قدرته، وفي شدة بطشه وقوة سلطانه، فيصحح بذلك معرفته بالله، ويثبّت بها عقيدته، ويزكي عمله، ولا يجوز له أن يفكر في ذات الله، فالتفكر في ذلك لا يزيده إلا حيرة وتيها، وكيف يحيط الفكر المتناهي المحدود في وجوده وفي طاقته وفي أبعاده، بموجود تستحيل عليه النهايات في كل جهة من كماله، فعن أبي جعفر علیه السلام:
«إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظم
ص: 69
خلقه»(1).
وعن أبي عبد الله علییه السلام:
«من نظر في الله كيف هو، هلك»(2).
كان أبو ذر يعبد الله تعالي قبل مبعث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بثلاث سنين، وبايع الرسول على أن لا تأخذه في الله لومة لائم وعلى أن يقول الحق وإن كان مرا(3).
وحينما نفي أبو ذر الغفاري بجسده وروحه عن المدينة إلى الربذة بأمر عثمان، كان أول عمل له بعد نزوله هو بناء المسجد، وإقام الصلاة، وكذلك لم ينسَ أمر الصدقة، فعين عليها رجلاً من أهلها(4).
أخبرنا إبراهيم بن محمد وإسماعيل بن عبيد الله وأبو جعفر بن السمين بإسنادهم إلى أبي عيسى الترمذي قال حدثنا محمود بن عيلان حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن عثمان ابن عمير هو أبو اليقظان عن أبي حرب عن أبي الأسود الدؤلي عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراء أُصدقَ من أبي ذر»(5).
ص: 70
مما ذكر في بيان عدالته في التعامل ليس مع الإنسان بل مع الحيوان ما جاء ذكره عن أبي إسحاق عن جسر بن الحسن، قال: (كان عطاء أبي ذر أربعة آلاف، فكان يشتري عشرين فرسا فيرتبطها بحمص، فكان يحمل على عشر عاماً وعشر عاماً)(1).
ولأبي ذر رؤيا، وعقل، ونظرة شاملة ومتكاملة للكون والحياة، فهو يصف حالته الفكرية بعد أن اكتسب ما اكتسب من صحبة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، كان ملازماً له منذ لحق به في المدينة، ومما ذكر عن أشياخ من التيم قالوا قال أبو ذر: (تركنا محمد صلی الله علیه و آله وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء الا أذكرنا منه علما)(2). لكن كثير من كتب التاريخ والتراجم لم تنصف هذا العالم الكبير، بسبب أن التاريخ المدون هو تاريخ الملوك والحكام، وبطبيعة الأمر يكون التدوين بإشراف السلطة الحاكمة والأمراء والسلاطين وقادتهم، بشكل مباشر، فاهتموا بتاريخهم وأعطوا النور، وبأرخص الأشياء في أمورهم وملذاتهم، ولكنهم لم يهتموا ببعض الشخصيات الفقهية العلمية، ومنها شخصية أبي ذر الذي قيل عن علمه بأنه كان يوازي ابن مسعود في العلم والفضل(3).
ومما قيل بحقه من قبل الإمام علي علیه السلام، عن أبو إسحاق السبيعي، عن هانئ بن هانئ، سمع علياً يقول:
ص: 71
«أبو ذر وعاء مليءُ علماً، ثم وکی عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قبض»(1).
للتأكيد على أهمية العلم ومنزلته في عقل أبي ذر الغفاري وشخصيته، وليس مثلما نسب إليه في حديث عن سالم بن أبي سالم الجيشاني، عن أبيه، عن أبي ذر، أن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم قال:
«یا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولينٌ مال يتيم»(2).
هذا الحديث تبدو منه آثار الكيد بشخصية أبي ذر الغفاري، الذي كان المؤمن المحافظ على مال الله، والمحارب للخارجين عن سنته. فالحديث محمول على ضعف الرأي، فإنه لو ولي مال يتيم لأنفقه كله في سبيل الخير، دون أن يترك اليتيم فقيراً، فإنه كان لا يستجيز ادخار النقدين.
الكرم من الصفات المهمة في الشخصية العربية، التي لا يمكن تجاهلها في كثير من الشخصيات، ومنها شخصية الصحابي أبي ذر الغفاري، الذي كان كريماً لضيوفه وهو في أخر لحظات عمره، فذكر أنه لما حضرته الوفاة قالت له ابنته:
(إني وحدي في هذا الموضع، وأخاف أن تغلبني عليك السباع.
فقال: كلا إنه سيحضرني نفر مؤمنون، فانظري أترين أحداً؟
ص: 72
فقالت: ما أری أحداً.
قال: ما حضر الوقت، ثم قال: انظري، هل ترين أحداً؟
قالت: نعم أرى ركباً مقبلين.
فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، حوّلي وجهي إلى القبلة، فإذا حضر القوم فأقرئيهم مني السلام، فإذا فرغوا من أمري، فاذبحي لهم هذه الشاة، وقولي لهم: أقسمت عليكم إن برحتم حتى تأكلوا، ثم قضي عليه، فأتي القوم، فقالت لهم الجارية:
هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفي، فنزلوا وكانوا سبعة نفر، فيهم حذيفة بن اليمان، والأشتر، فبكوا بكاء شديداً وغسّلوه، وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه.
ثم قالت لهم: إنه يقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تأكلوا، فذبحوا الشاة، وأكلوا، ثم حملوا ابنته، حتى صاروا بها إلى المدينة)(1).
تجلّی کرم أبي ذر الغفاري في دعوته لأبنته وعزمها على إكرام ضيوفها، رغم ما جرى عليها من ويلات وآلام الحزن بفراق أبيها، لكنها نفّذت ما أراد منها والدها، توافقاً معه في خدمة الضيف.
وكان يحب أن يأكل بعد صاحبه وربما كرمه جعل منه أن يكون هكذا، أو لكي يكون طرفه الأخر في وضع نفسي للأكل أفضل منها هو الشبع مثلاً، أو احتراماً له، ففي رواية
ص: 73
عن أبي العلاء بن عبد الله(1)، عن نعيم قعنب قال:
(أتيت أبا ذر فجاءت امرأته بثریدة، فقال: كل فإني صائم، ثم قام يصلي، ثم انفتل فأكل، فقلت: إنا لله ما كنت أخاف أن تكذبني، قال: ما كذبت، إني صمت من هذا الشهر ثلاثة أيام، فكتب لي أجره وحل لي الطعام)(2).
إذا تواضع قلب الإنسان خشعت الجوارح(3).
وقوله تعالی:
«وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»(4)، أَي تواضَع لهما ولا تتعزز عليهما(5). لذلك ذكر عن أبي هريرة قال: (ومن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى فلينظر إلى أبي ذرّ)(6).
وتشبيه حال تواضعه بواحد من الأنبياء علیهم السلام ومن أصحاب العزم دلالة على علو صفة التواضع عنده.
ص: 74
ومن أدلة تواضعه مع الناس، وتمريغ خده على تراب الأرض، ما ذكره الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیهما السلام قال:
«إن أبا ذر عيَّر رجلاً على عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأمه فقال: يا ابن السوداء - وكانت أمه سوداء - فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: تعيره بأمه يا أبا ذر؟ قال: فلم يزل أبو ذر يمرغ، وجهه بالتراب ورأسه حتى رضي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(1).
ولقد بلغ به التواضع أنه كان يقدم لإمامة الصلاة في منفاه، رفيقاً اسمه مجاشع(2)، وهو دونه في كل الصفات والمؤهلات.
مما ذكر عن إيمان أبي ذر الغفاري، ما روي عن تغلبه بن حكيم قال: (بينا أنا جالس عند عثمان وعنده أناس من أصحاب محمد صلی الله علیه و آله وسلم من أهل بدر وغيرهم، فجاء أبو ذر، يتوكأ على عصاه، فقال: السلام عليكم، فقال: اتق الله يا عثمان، إنك تصنع كذا وكذا وتصنع كذا وكذا، وذكر مساويه، فسکت عثمان، حتى إذا انصرف قال: من يعذرني من هذا الذي لا يدع مساءة إلا ذكرها، فسكت القوم فلم يجيبوه، فأرسل إلى علي علیه السلام، فجاء فقام في مقام أبي ذر، فقال:
يا أبا الحسن ما ترى أبا ذر لا يدع لي مساءة إلا ذكرها، فقال علیه السلام:
«یا عثمان إني أنهاك عن أبي ذر، یا عثمان أنهاك عن أبي ذر، ثلاث مرات، أتركه
ص: 75
كما قال الله تعالى لمؤمن آل فرعون:
«وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».
قال له عثمان: بفيك التراب.
قال له علي علیه السلام، (بل) بفيك التراب، ثم انصرف)(1).
وضّح أبو ذر الغفاري في النص الأمر بتقوى الله، ولو أمكن عثمان تسجيل أية مؤاخذة على كلامه لبادر إليها.
إن إرسال عثمان إلى علي علیه السلام ليحضر، وليشتكي له أبا ذر يشير إلى أن عثمان کان بصدد الإقدام على شيء غير حميد، ولكنه يخشى من تصدي علي علیه السلام له، ولذلك بادر إلى تحذيره من التعدي على أبي ذر، وكرر ذلك ثلاث مرات بعبارة واحدة هي:
«یا عثمان، إني أنهاك عن أبي ذر»،
ليؤكد له خطورة ما يفكر فيه تجاه ذلك الصحابي الجليل.
الاستشهاد بالآية الكريمة التي تذكر مؤمن آل فرعون لم يتضمن أي شيء يوجب هذه الجرأة من عثمان على علي علیه السلام، وهتك حرمته بقوله: بفيك التراب.. لأن هذه الآية إنما قررت معادلة عقلية مفادها: أنه إن كان كاذباً فكذبه سيعود عليه بالضرر، وإن كان صادقاً، فعليهم أن يصلحوا ما أفسدوا، وأن يقوِّموا، وأن يسددوا، حتى لا
ص: 76
يصيبهم بعض الذي يعدهم به(1).
بلَّغ الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم الصحابي أبا ذر عدداً من الغيبيات الخاصة به منها:
ذكر ابن الجوزي في كتابه بعض غیبیات الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم بشأن أبي ذر الغفاري، وعلى لسان مالك الأشتر النخعي، في رواية عن يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم(2)، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، (أنه لما حضر أبا ذر الموت بكت امرأته، فقال لها:
ما يبكيك؟
قالت: أبكي لأنه لا بد أن لي بنعشك وليس لي ثوب من ثيابي يسعك كفناً، وليس لك ثوب يسعك.
قال: لا تبكي، فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول لنفر أنا فيهم:
«لیموتُنَّ رجلُ منكم بفلاةٍ من الأرض تشهدُهُ عصابةُ من المؤمنين»(3)
ص: 77
وليس من أولئك النفر رجل إلا قد مات في قرية وجماعة من المسلمين، وأنا الَّذي أموت بفلاة، والله، ما كذب ولا كذبت، فأبصري الطريق.
فقالت: إني وقد انقطع الحاج، وتقطعت الطرق. وكانت تشتد إلى كثيب تقوم عليه تنظر ثم ترجع إليه فتمرضه ثم ترجع إلى الكثيب. فبينا هي كذلك إذا هي بنفر تخب بهم رواحلهم كأنهم الرّخم، فلاحت بثوبها، فأقبلوا حتى وقفوا عليها.
قالوا: ما لكِ؟
قالت: امرؤ من المسلمين يموت فتكفنونه.
قالوا: ومن هو؟
قالت: أبو ذر.
ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إليه، حتى جاؤوا فقال: أبشروا، فحدّثهم الحديث الَّذي قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ثم قال: إني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيحتسبان ويصبران فيريان النار»(1).
أتسمعون لو كان لي ثوب يسعني كفناً لم أكفن به إلا في ثوب هولي أو لامرأتي ثوب يسعني كفناً إلا في ثوبها، فأنشدكم الله والإسلام أن يكفنني رجل منكم كان أميراً، أو عريفاً، أو نقيباً، أو بريداً، فكل القوم قد كان قارف بعض ذلك إلا فتى من الأنصار.
ص: 78
قال: أنا أكفنك، فإنّي لم أصب مما ذكرت شيئاً، أكفنك في ردائي هذا الَّذي عليّ، وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي.
قال: أنت، فكفّني. قال، فكفّنه الأنصاري والنفر الذين شهدوه)(1).
الرواية السابقة ذكرت عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حديثين مهمين بشأن وفاة الصحابي أبي ذر الغفاري، وقال صلی الله علیه و آله وسلم له في حياته، وبعد وفاته وبمرور الأيام والسنيين، وحينما أدرکه الموت كان لا يزل كلام رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عالقاً في ذهنه، وهو ينتظر ظهور واحدة من علامات وفاته، كونه مؤمناً بأنّ كلامه هو الحق، لذلك كان دائماً يترقب الطريق بالسؤال عن وجود مارة بالقرب من موضع سکنه.
وقد تكون أبنته غير عالمه بما قاله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لوالدها، لذلك كانت تبكي متخوفة من أمرها، لكن أبا ذر المؤمن بالله ورسوله كان مطمئناً من وجود مارة في الطريق.
والأمر المهم في النص أن عثمان كان يرى أن فقره الاقتصادي قد يكون في النفي بعیداً عن احتياجاته للمجتمع وهو لا يملك ثمن شراء الكفن.
وهنا يسأل الباحث، أين ذهبت ثروته من الجمال والأغنام التي أعطيت له من قبل عثمان حين نفي؟ إذ لولا بعض المارة يكفنه برداء من ملابسه لدفن من غیر کفن، بينما كان هناك كثير من الصحابة يملكون ثرواتٍ طائلة.
هناك عدد من الروايات التاريخية التي تؤكد أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أخبره بأمر النفي خارج
ص: 79
شبه الجزيرة العربية منها، ما ذكره: (.. فقال عثمان: فإني مسيرك إلى الربذة.
قال: الله أكبر، صدق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد أخبرني بكل ما أنا لاقٍ؟
قال عثمان: وما قال لك؟
قال: أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة. ويتولى مواراتي نفر من يردون من العراق نحو الحجاز)(1).
وهنا النص بيّن أن نفيه كان بأمر عثمان(2)، ولم يكن اختياراً منه، دون أن يختار موضعاً معيناً له من المواضع المعروفة حضارياً، وفي نفس أبي ذر الغفاري الرغبة بالنفي إليها.
مما قاله الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم في حقه وفي حياته، إنه يموت وحده، فقال صلی الله علیه و آله وسلم:
«يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويحشر وحده»(3).
قد يرى بعض الباحثين أن كل إنسان يحشر وحده ليس معه عشيرته أو أفراد أسرته، وهو أمر معروف، بدلالة قوله تعالی:
«وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى
ص: 80
مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» (1)(1).
أولاً: للإجابة على هذا الأمر ينبغي أن نوضح أنّ قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد خص به أبا ذر الغفاري دون غيره من الصحابة المقربين إليه، لذا قال فيه هذا الحديث، وهو كلام الله تعالى، فلابد من تحقيقه لصدق حديثه.
ثانياً: إن المراد من الحشر هنا وحده دون الناس «يحشر وحدهُ» أي إذا حشر الناس زمراً زمراً وفوجاً فوجاً، هو يحشر وحده لأنه كان متفرداً في زمانه بدین الحق من بين قومه المشركين بالله، وتشبيه حاله بحال من كان أمة من الأنبياء كالنبي إبراهيم علیه السلام، إذ جاء في قوله تعالى:
«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ»(2).
ثالثاً: إنّ منزلته هي بمثابة منزلة الأنبياء والأولياء الصالحين، لذلك بيّن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم أن أمر حشره وحده.
حينما أعلن أبو ذر الغفاري إسلامه، طلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم منه العودة لقومه، لوفاة ابن عم له، وليس له وارث سواه لمتطلبات الدعوة السرية كونها لم تعلن من عند الله
ص: 81
تعالی(1).
ريما إن إخبار أبي ذر بهذا الأمر من قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أكد على مدى قرب أبي ذر منه وأن علاقة بعضهم ببعض متينة، وهذه من الغيبيات التي أخبر بها أبو ذر من رسوله الكريم، وأوصاه بأخذ المال للاستفادة منه في الدعوة السرية وهي في مرحلتها الأولى، وهو بهذا الأمر قد يكون من ساهم بماله في سبيل الدعوة، حاله حال بعض الصحابة الذين أنفقوا مالهم للدين الإسلامي في بداية الدعوة، لكن للأمانة العلمية، لم يلتفت المؤرخون إلى ذلك وبيانه.
روى الكليني عن الإمام الصادق علیه السلام قال:
«إن أبا ذر أتی رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وعنده جبرئیل علیه السلام في صورة دحية الكلبي(2)، وقد استخلاه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فلما رآهما انصرف عنهما ولم يقطع كلامهما، فقال جبرئيل علیه السلام:
ص: 82
يا محمد هذا أبو ذر قد مرَّ بنا ولم يسلم علينا، أما لو سلم لرددنا عليه، يا محمد إنّ له دعاء يدعو به، معروفاً عند أهل السماء، فسله عنه إذا عرجت إلى السماء.
فلما ارتفع جبرئیل جاء أبو ذر إلى الرسول فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
ما منعك يا أبا ذر أن تكون سلمت علينا حين مررت بنا؟
فقال: ظننت يا رسول الله أن الذي معك دحية الكلبي قد استخليته لبعض شأنك.
فقال: ذاك جبرئیل علیه السلام يا أبا ذر، وقد قال: أما لو سلم علينا لرددنا عليه، فلما علم أبو ذر أنه كان جبرئيل علیه السلام دخله من الندامة حيث لم يسلم عليه ما شاء الله، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
ما هذا الدعاء الذي تدعو به، فقد أخبرني جبرئيل علیه السلام إن لك دعاء تدعو به معروفاً في السماء؟
فقال: نعم يا رسول الله أقول: اللهم إني أسألك الأمن والإيمان بك، والتصديق بنبيك، والعافية من جميع البلاء، والشكر على العافية، والغني عن شرار الناس»(1).
كان دحية الكلبي رجلاً جميلاً(2)، لذلك قيل عنه أنه كان أجمل الناس وجهاً(3).
ص: 83
وكان يضرب به المثل في حسن الصورة(1) لذلك كان جبرئيل علیه السلام يتشبه بصورته.
والأمر المهم في الرواية التي نقلت عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام هو توضح منزلته عند الله تعالى، لذا تكلم جبرائيل علیه السلام عنه سائلاً الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وكذلك أهمية التحية والسلام في الإسلام، فهي تكون بداية للتوافق والتسامح والتعايش ما بين المؤمنين، ثم الدعاء الخاص لأبي ذر الغفاري، الذي يّعلَمُه جبرائيل علیه السلام ولا يعلمه نبي الرحمة، ومنزلة دعائه عند الله.
يختص الله سبحانه وتعالى بعض عباده الصالحين من غير الأنبياء والأئمة ببعض الكرامات من أصل بیان منزلتهم للمجتمع حتى يجعل منهم قدة صالحة في تعاملهم مع الله تعالى ومن دلائل ذلك ما منحه الله تعالى لأبي ذر من الكرامات والفضائل ومنها قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عنه:
«أبو ذر منا أهل البيت»، أي إنه من نفس الذرية الصالحة لله لكنها لا تحمل صفة الإمامة أو النبوة، لكنها تحمل مزايا المؤمنين بالله ورسوله وأهل بيته الكرام، ومن کرامات الله عز وجل له:
من أشهر الكرامات التي أظهرها سبحانه وتعالى للصحابي أبي ذر الغفاري تحويل ماء زمزم إلى لبن حينما شربه، فذكر الكليني رواية منها: (حينما خرج، ..، يريد مكة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به، حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب
ص: 84
فأتی زمزم وقد عطش، فاغترف دلواً فخرج لبن، فقال في نفسه: هذا والله يدلّني على أنّ ما خبرني الذئب وما جئت له حق، فشرب)(1).
النص يوضح أن بئر زمزم كان يشرب منه المارّة من الرّعية بمختلف طبقاتهم، ووضّح أيضاً أن الدلو خرج باللبن، ومما ذكر في بعض الروايات أنه كان يشربها مرة واحدة على مدى اليوم والليلة في مدى خمسة عشر يوماً، ولا يوجد في كتب التاريخ المتاحة بين أيدينا نص أو نصوص تؤكد وجود شخصية أخرى قد تحول لها ماء زمزم إلى لبن لاسيما في بداية البعثة النبوية، أو أنه كان يشربها مرة واحدة على مدى الليلة واليوم.
من الكرامات الأخرى التي أظهرها الله تعالى لأبي ذر الغفاري هو كلامه مع الذئب، فالمعروف أن الحيوانات كانت تتكلم في عهد النبي سليمان علیه السلام بنص القرآن الكريم، وبقصته التي ذكرها الله تعالى بقوله:
«فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ»(2).
لكن لا يوجد دليل سماوي أو تاريخي يؤكد استمرار نطق الحيوانات إلى مدة ما قبل البعثة النبوية الشريفة، لذا حينما يتكلم واحد من الحيوانات مع أحد الصحابة، يكون ذلك أعجازاً للصحابي لمنزلته عند الله تعالى، فعن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن عبد الله بن محمد، عن سلمة اللّؤلؤي، عن رجل، عن أبي عبد الله العلي قال:
ص: 85
«ألا أُخبركم كيف كان إسلام سلمان وأبي ذرّ، فقال الرّجل وأخطأ: أمّا إسلام سلمان فقد عرفته فأخبرني بإسلام أبي ذرّ فقال: إنّ أبا ذرّ كان في بطن مرّ(1) يرعى غنماً له فأتی ذئب عن يمين غنمه فهشَّ بعصاه على الذئب، فجاء الذئب عن شماله فهشّ عليه أبو ذر ثم قال له أبو ذر: ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شراً، فقال له الذئب: شرّ والله مني أهل مكة بعث الله عزّ وجلّ إليهم نبياً، فكذبوه، وشتموه، فوقع في اُذن أبي ذرّ، فقال لامرأته: هلمّي مزودي وأدواتي وعصاي، ثم خرج على رجليه يريد مكّة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به، حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب فأتی زمزم وقد عطش، فاغترف دلواً فخرج لبن فقال في نفسه: هذا والله يدلّني على أنّ ما خبرني الذئب وما جئت له حق، فشرب وجاء إلى جانب من جوانب المسجد فإذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كما قال الذئب»(2).
إن طبيعة الحياة الصحراوية تحتم على المرء الذي يعيش بها أن يجني من الحيوانات ما يساعده على تسهيل أمور العيش المناسبة بها، لاسيما فيما يتعلق بأمور النقل، لذا استخدمت الكثير من القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية الخيول، وأسهمت كثيراً في تربيتها، منذ مدة ليست بالقصيرة، لذا كان على أبو ذر الغفاري أن يربي هذا الحيوان حاله حال بقية أفراد قومه، فذكر عن الأوزاعي، عن يحيى قال: (كان لأبي ذر ثلاثون فرساً يحمل عليها، فكان يحمل على خمسة عشر منها يغزو عليها، ويريح بقيتها، فإذا
ص: 86
رجعت حمل على الخمسة عشر الأخرى)(1).
ولم يحدد المؤرخ ابن عساکر متی کانت له هذه الخيول؟ هل قبل البعثة النبوية الشريفة أم بعدها؟ ليتسنى معرفة وضعه المعاشي كيف كان. والواضح أنها قبل البعثة النبوية، برواية عن الذهبي عن خفاف بن إيماء بن رحضة قال: (كان أبو ذر رجلاً يصيب، وكان شجاعاً ينفرد وحده، ويقطع الطريق، ويغير على الصرم كأنه السبع، ثم إن الله قذف في قلبه الإسلام)(2).
أي إنه كان يقطع الطريق على المارة لبيان موقفهم من الدين الحنيف، والدليل هو قول العباس بن عبد المطلب جاء إلى قومه حينما ضربوه قال لهم إنه يقطع الطريق عليكم(3). لوقوع قبيلة غفار على طريق التجارة المار بين مكة والشام.
ومما ذكر في وضعه المعاشي؛ بينما أبو ذر الغفاري يرعى الغنم، كان يتابع منشغلاً في خلق الكون، وفلسفة التكوين قبل البعثة النبوية الشريفة، كان يعمل راعياً للأغنام كونها مصدر رزقه، أي لديه من الأغنام ما يساعده على العيش في ظل وضع اقتصادي ذي مستوى معاشي مقبول آنذاك حسب الرواية، لاسيما وأن أمه كان لديها أولاد أخرين، أي له أخوة من أمه، لذا قد يكون أبو ذر الغفاري تربي يتيماً عند زوج أمه لذلك أدرك معنى العطاء وأهميته على الفرد، ومن هنا جاءت نظرياته للسياسة المالية والعدالة بسبب ما عاناه.
ص: 87
بعد البعثة النبوية وهجرته إلى مكة، وبعدها إلى المدينة، والتحاقه بالرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، لم نجد نصاً يوضح إنه كان يملك شيئاً من الأغنام التي كان يرعاها في غفار، بل وجدنا نصاً تفيد بأنه كان يعمل خادماً لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، يقيم في المسجد الذي يؤويه(1)، وهذا يعطي انطباعاً بأنه زهد في الدنيا وترك ما فيها، ولم يأت بشيء سوى حاجاته الخاصة، ولا يوجد له ما يساعده على العيش، لذلك أختار المسجد، والدليل ما رواه إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذرّ قال: (كان قوتي على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صاعاً من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالی)(2).
وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه في بيان حاله المعاشي.
وحينما نفي إلى الربذة، اختلفت الروايات في ما سیّر به أبو ذر، منها ما ذكره اليعقوبي إن أبا ذر الغفاري أخرجه عثمان على جمل واحد، ومما جاء في كتابه (فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته)(3). ولم يذكر بأنه أعطاه ما يستوجب العيش من الإبل والأغنام مثلما ذكره بقية المؤرخين، الذين بينوا أنّ عثمان أعطاه من الحيوانات ما يساعده على العيش، على الرغم من نفيه، وهو ما سوف نوضحه في ضوء ما جاء من بعض النصوص التاريخية في المصادر المتاحة بين أيدينا:
طالما أن الإنسان في حياته يحتاج ما يساعده على استمرار العيش اجتماعياً واقتصادياً من الطعام والكسوة، لذا كانت تربية الأغنام من أهم الحرف والمهن التي كانت تمارس
ص: 88
في بيوتات العرب القاطنين في معظم شبه الجزيرة العربية، ربما بسبب أن أغلب أرض شبه الجزيرة العربية غير صالحة للزراعة لذلك تلجا أغلب القبائل إلى ممارسة مهنة الرعي، أو التجارة البسيطة، لما توفره هذه المهن من مساعدة مادية ومعنوية، وبما أن أبا ذر الغفاري كان راعيا قبل البعثة النبوية لذا كان لابد له من ممارسة هذه المهنة بعد عهد الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، فذكر الهيثمي رواية عن محمد بن سیرین، قال: (بلغ الحارث رجل كان بالشام من قريش أن أبا ذر کان به عوز فبعث إليه بثلاثمائة دينار، فقال ما وجد عبد الله من هو أهون عليه مني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«من سأل، وله أربعون فقد ألحف، ولأبي ذر أربعون درهماً، وأربعون شاة وما هنان»(1).
دلالة النص تؤكد على امتحانه حرفة الرعي في الشام، دون أن تحدد متى كان هذا الأمر، لأننا وضّحنا في الدراسة إنه هاجر للشام بعد وفاة أبي بكر، وكذلك حينما كان في المدينة مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، كان خادماً له، لذا قد يكون النص أعلاه في عهد عمر، وليس في عهد عثمان، لأنه حينما حضرته الوفاة كان لا يملك ثمن ثوب کفن، فكيف يملك كل هذا.
وجاء أيضاً حينما كان أبو ذر في الشام يغزل في داره، عن أم طلق، (قالت، ...، وفي يده صوف منفوش وعودين قد وضع أحدهما على الآخر وهو يغزله من ذلك الصوف)(2).
أما بعد نفيه للربذة ذكر الطبري (أن عثمان أعطاه: صرمة(3) من الإبل وأعطاه
ص: 89
مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابياً ففعل)(1).
وهو ما يقف الباحث ضده لأسباب عدة منها:
أولاً: نتساءل ما هو ثمن البعير الواحد؟ وهو يملك الثلاثين منها، وحينما أدركه الموت لا يملك ثمن ثوب كفن!
ثانياً: كيف لأبي ذر أن يتقبل هذه الصرمة، وهو يرفض أموال بیت المال حين ترسل إليه من عثمان أو معاوية أو من يمثلهما في السلطة، فهو دائماً ما كان يستفهم ما إذا كانت من حقه من بیت المال فلا بأس بها، وإن كانت غير حقه فيرجها لهم. وعرف عنه بأنه زاهدُ في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: الغرض من هذا العطاء هو ليس حباً لأبي ذر الغفاري، بل في النص هناك عهد منه بعدم اللجوء للمدينة مرة ثانية، وهذا دليل بعدم رغبة عثمان حتى رؤيته مرة ثانية لذلك أختار موضعاً بعيداً.
ومما وجد أيضاً في كتب التاريخ وفي بعض النصوص، أن هناك خادمين(2) لأبي ذر الغفاري، قد أعطاهم له عثمان بعد نفيه للربذة، ويرى هنا الباحث ضرورة الوقوف على هذا الأمر هو هل أن عثمان ارسل معه الخادمان؟ أو أنه أرسل معه خادمان لمكانته عنده؟ أو أنه كان يدرك أنه كان في آخر عمره، وبدأت عليه اثار الشيخوخة، وظهور
ص: 90
علامات الهرم والتحدب(1). لذلك أرسل معه الخادمين؟
للإجابة نقول إن عثمان أرسل معه خادمين لشيخوخته، ليس إلا والدليل، في النقطتين الآتيتين:
أولاً: إنه أعطاه خادمان لمكانته عنده، وهذا الرأي غير ناهض ولا يتوافق مع اسلوب تعامل عثمان معه، أو أن هذه الرواية التاريخية وضعت من قبل رواة السلطة لرفع منزلة عثمان، وبيان مدى اهتمامه بشخصية أبي ذر، وهي دون الحقيقة، والدليل على ما ذهبنا إليه هو التساؤل الآتي؟ كيف يخرجه بأمره للربذة، دون غيرها من المناطق البعيدة عن المدينة، ودون تشييع له من محبيه من جهة، ومن جهة أخرى يرسل معه خادمين، وعدداً من الأبل والخيول، ثم أن عثمان يدرك أن المال الذي يرسل لأبي ذر إن كان من عطائه يأخذه وبخلاف ذلك يرفضه، فكيف يعطيه وهو أعلم به من غيره، أليس هناك تناقض في الرواية؟!
ثانياً: إن أسلوب وقرارات نفيه، كانا غير منسجمين مع ما جاء في الرواية، كون موضع النفي لم يكن باختيار أبي ذر، وثانياً، إدراك عثمان بأن موضع الربذة هو الموضع الذي لا يصل فيه إليه كلام أبي ذر، وثالثاً، لكي لا يسمع كلامه بقية الرعية ذوي المستوى المعاشي المحدود فيؤثر فيهم، لذلك أرسل معه الخادمين لكي يتخلص منه نهائياً ويتأكد من رجوعه للمدينة.
وكذلك لم نعثر على نصوص أخر في المصادر التاريخية تؤكد على وجود ملكية مالية كان
ص: 91
له ولاسيما بعد هجرته عن المدينة لكي يأخذ الخادمين، بل وجدنا نصوص تؤكد أن طعامه (صاعاً من تمر)(1)، لذلك يميل الباحث إلى أن الرواية صيغت وفق ما يراه كتّاب السلطة، وخرجت هكذا بان عثمان قد أعطاه هذه الجمال والأغنام والخدم، وهو غير دقيق.
لذا فالوضع المعاشي له كان قبل البعثة النبوية الشريفة راعياً لغنم أهله، وبعد إسلامه لم نجد شيئاً من النصوص التي تؤكد على زيادة ملكيته أو تغيرها، وبعد هجرته للمدينة عمل خادماً للرسول الكريم، وفي عهد عثمان سُيّر للربذة التي توفي بها فقيراً لله وغنياً عن الناس.
مات أبو ذر الغفاري في منطقة الربذة(2) في سنة (32 ه / 652 م)(3) (4).
هناك دلائل موته هو فلاة الأرض، وصلى عليه الصحابي والفقيه ابن مسعود، لكن لم يوضح النص مكان قبره، لكن المعروف أن قبره في جبل عامل، وذكر العاملي، في ذلك له مقامان ينسبان إليه، أحدهما في قرية الصرفنة على ساحل البحر الأبيض، والآخر في مخاليس الجبل في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل عامل على رابية تطل على الأردن، ولا يزال هذان المسجدان باسمه في هاتين القريتين(5).
ص: 92
ص: 93
ص: 94
روى أبو ذر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(1)، وقيل أن من شيوخه أيضاً معاوية بن أبي سفيان(2). وهو ما ذهب إليه المؤرخ المزي في كتابه الكبير، وقد يكون رأيه غير دقيق في ذلك، لأسباب كثيرة منها أن الباحث لم يجد حديثاً واحداً في كتب الصحاح الستة، أو كتب المساند الأخرى المتاحة بين أيدينا نقله أبو ذر عن معاوية، أو بمعنى أدق متى كان أبو ذر يتعلم منه، هل في بلاد الشام حينما كان أبو ذر يؤنبه على ما يفعله في بيت مال المسلمين؟
ثم السؤال المهم في سير التاريخ لاسيما عصر الرسالة السماوية هو متى أسلم معاوية لكي يكون شيخاً لأبي ذر الغفاري الذي كان من الموحدين العرب قبل البعثة، ألم يسلم معاوية بعد فتح مكة سنة (8 ه / 629 م)، وفي هذه المدة يكون الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم قد أكمل نشر الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية وأطرافها، لذا قد يكون ما جاء به المزي لا يتوافق مع سيرة أبي ذر الغفاري الصحابي الجليل الذي رفض سياسة معاوية
ص: 95
كلها، فكيف نقل عنه أو درس على يديه!
7. جبير بن نفير الحضرمي(1).
8. أبو مسلم الجذمي(2).
9. جسرة بنت دجاجة العامرية(3).
10. أبو عبد الله الجسري(4).
11. أبو تميم الجيشاني(5).
ص: 98
12. أبو سالم الجيشاني سفيان بن هانئ(1).
13. أبو عبد الرحمن الحبلي(2).
14. حذيفة بن أسيد الغفاري(3).
ص: 99
15. أبو حرب بن أبي الأسود(1).
16. ابن الحوتكية(2).
17. خالد بن وهبان(3).
18. خرشة بن الحر(4).
19. أبو إدريس الخولاني(5).
ص: 100
22. ربعي بن حراش(1).
23. أبو أسماء الرحبي(2).
24. أبو العالية الرياحي(3).
25. أبو زرعة بن عمرو بن جرير(4).
ص: 102
28. زيد بن يثيع(1).
29. سعيد بن المسيب(2).
30. سوید بن غفلة(3).
31. أبو الشعثاء المحاربي(4).
32. أبو السليل ضريب بن نفير(5).
ص: 104
33. طهفة الغفاري(1).
34. عاصم بن سفیان بن عبد الله الثقفي(2).
35. عبد الله بن الصامت(3).
36. عبد الله بن عباس(4).
37. عبد الله بن عمر(5).
ص: 105
38. عبد الله بن وديعة الأنصاري(1).
39. عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني(2).
40. عبد الرحمن بن شماسة المهري(3).
ص: 106
41. عبد الرحمن بن غنم الأشعري(1).
43. عبيد بن الخشخاش(2).
43. عبيد بن عمير الليثي(3).
44. عطاء بن يسار(4).
ص: 107
50. مالك بن زبيد الهمداني(1).
51. أبو الأحوص المدني مولى بني ليث(2).
52. مرثد الذماري(3).
53. معاوية بن حديج الكندي(4).
54. المعرور بن سوید(5).
ص: 110
57. أبو عثمان النهدي(1).
58. یزید بن شريك(2).
سلطان في خلافة عمر كان أبو ذر الغفاري من ضمن الشخصيات الفقهية التي وضعت تحت أنظاره، وريما قرّبهم للاستفادة منهم فقهياً، أو أراد متابعتهم لمنزلتهم الدينية في
ص: 112
أقوامهم، لذلك كان يتخوف منهم لدورهم الفقهي ولاسيما أبو ذر الغفاري الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، لأنه كان جليس رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ومناصراً للحق، لذا حرص عمر أن يكون فقهاء المدينة ومنهم أبو ذر تحت أنظاره ومما ذكر في ذلك رواية عن صالح ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، قال:
(والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فجمعهم من الآفاق عبد الله وحذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر، فقال ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في الآفاق فقالوا أتنهانا؟ قال: لا أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم فما فارقوه حتی مات، ...،)(1).
وفضلاً عمّا بيّناه في الأسطر الأولى نرى أن حاجة عمر بن الخطاب لرجال الفقه في عصره طلب منهم الإقامة بجنبه، أو ربما لأنه أدرك مكانتهم العلمية في أمصارهم وإمكانياتهم في السيطرة على عقول الرعية حينما يكون هناك خروج عن كتاب الله وسنة النبي، أو إنه أعطى مدلولاً أخر إذ إنه لم يكن جامعاً الأمور الفقه والقضاء رغم قصر الفترة الزمنية بينه وبين وفاة الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم. أو أراد تحجيم دورهم الفقهي بما يتوافق مع ما يحمله من أفكار دينية، اجتماعية، سیاسية.
بعد وفاة الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم اختلفت اقلام المؤرخين في بيان إباحة التدوين من عدمه، فهناك من قال بإباحة التدوين بأدلة، وهناك الطرف الأخر المعارض الذي رفض التدوين
ص: 113
بأدلة أيضاً، ونحن لسنا بصدد بيان تلك الأدلة، ولكن ينبغي توضيح كيف كانت السلطة تتعامل مع الفقهاء في تلك المدة، وفي رواية أنّ رجلاً أتى أبا ذر فقال:
(إنّ المصدقين يعني جباة الصدقة ازدادوا علينا فنغيب عنهم بقدر ما ازدادوا علينا، قال قف مالك عليهم فقل ما كان لكم من حق فخذوه وما كان باطلاً فذروه فما تعدوا عليك جُعل في ميزانك يوم القيامة وعلى رأسه فتى من قريش فقال أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتوى)(1).
وقد بينها الدارمي، حينما ذكر رواية، قال حدثني أبو كثير، حدثني أبي قال:
(أتيت أبا ذر، وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنهَ عن الفتيا؟
فرفع رأسه إليه فقال: أرقيبٌ أنت عليَّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها)(2).
وسبب منع الفتيا كونهم ليسوا أمراء أو سلاطين، فقد روي عن ابن سیرین، أن عمر، قال لأبي موسی:
(أما بلغني أنك تفتي الناس ولست بأمير؟
ص: 114
قال: بلی.
قال: فولِّ حارَّها من تولى قارَّها)(1).
يقصد أنك لست الخليفة، ولذلك يحرم عليك الفتوى في أمور الدين، لأن حق الفتوى فقط للخليفة آنذاك وهو عمر بن الخطاب، وعلى الباقين طاعته.
وهنا نقف قليلًا أمام ما جاء في النص ونتسائل، هل هناك أحاديث الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم توجب عدم الحديث عنه؟ بطبيعة الامر الجواب، حسب علمنا البسيط في التاريخ لا، لمعرفة الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم بأن الرعية على مستويات عقلية، ومعرفية، مختلفة بأمور الدين والفقه، لذلك كان يتابع أمور دينه ولا يمنع ذلك شيئاً، إلا إذا كان هناك خروج عن القاعدة الفقهية المعروفة في الكتاب والسنة النبوية المطهرة أو تعارض معها.
كذلك لم نجد نصاً يوضح أن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم كان يحبس المحدثين عنه، بل على العكس هناك تأكيده على نشر العلم والمعرفة بين الأمصار الإسلامية، وليس في شبه الجزيرة العربية فحسب، فروي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:
«مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم، بأيهم اقتدیتم اهتديتم»(2).
دلالة على وجوب الرجوع لهم في حالة عدم وجوده آنذاك.
وطالما هناك نصوص تؤكد على عدم ممانعة الصحابة الفقهاء من الفتيا، فكان أبو ذر يفتي في عهد الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، ولا يوجد نص يعارض الفتوى فهذه دلالة على صحة
ص: 115
رؤياه في الفقه، وكذلك ليس من حق الصحابة منع الفتوى، والمعروف عنه هو وعاء العلم حسب ما جاء على لسان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، لذا فالخروج عن سنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو خطأ يحاسب عليه من يمثل الله جل وعلا على أرض الواقع، وبما أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يعترض عليه، لذا نرى أنّ فتواه صحيحة بموجب ما بيناه أعلاه، ورغم ما ذكرناه إلا أن فتواه لم تُذكر كلها بل ذكرت اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام نقلاً عن الطوسي في كتابه (الخلاف) (سوى فتوى واحدة. أي أنه من المقالين في الفتيا)(1). لكنهم تمسكوا بهذا الحديث كمحاولة لتقليل شأنه بين الصحابة.
بل هناك نصوص توضح كيف حبس بعض الصحابة الفقهاء بجرم الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لأنهم صحابة أتقياء رفضوا أن يكتموا الحق، ومما روي في ذلك ما جاء عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، أنّ عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر:
(ما هذا الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب)(2).
ولم يكن تصدي أبي ذر للفتيا بالأمر الذي يحدث فقط بعيدا عن عثمان، بل وفي مجلسه وحضرته كذلك، فذكر ابن لهيعة: ثنا أبو قبیل: سمعت مالك بن عبد الله الزيادي يحدث عن أبي ذر أنه دخل على عثمان، فقال عثمان:
یا کعب إن عبد الرحمن توفي وترك مالاً فما ترى.
قال: إن كان يعني زكاة فلا بأس.
ص: 116
فرفع أبو ذر عصاه فضرب کعباً، وقال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«ما أحب أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني أذر خلقي منه ست أواق».
أنشدك الله يا عثمان أسمعته مراراً قال: نعم(1).
النص وضّح أنه هناك نقاش وجدل كان يوماً في مجلس عثمان حول أمرين يتعلقان بالأموال والثروات.. أولهما: خاص بما على الإنسان في ماله.. هل عليه الزكاة فقط؟ أم ما هو أكثر من ذلك؟ وثانيهما: مدى حرية الخليفة والسلطة الحاكمة في التصرف في أموال الدولة بالأخذ والإعطاء؟(2).
وكان رأي أبي ذر إلى جانب فرض ما هو أكثر من الزكاة في أموال الناس، وضد إطلاق اليد لعثمان وولاته في التصرف بالأموال.. ووقف مع عثمان، ضد رأي أبي ذر، أناس تزعمهم کعب الأحبار الذي أغلظ له أبو ذر القول، واستخدم ضده عصاه، فدفع بها في صدره وكان هذا الصدام أول موقف عنيف يقفه أبو ذر الغفاري من السلطة الممثلة يومئذ في عثمان بن عفان، مما أدى إلى غضب عثمان منه وعليه.
كان أبو ذر قد اتخذ لنفسه سبيلاً قرر أن لا يحيد عنها، وهي الخروج من الدنيا فقيراً كحاله يوم ودع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عندما مات، وكان دائم الترديد لحديث الرسول الذي يقول فيه:
«إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها».
ص: 117
وعندما كان أبو ذر يردد هذا الحديث، كان ينظر إلى صحبه الذين أخذوا يجمعون الحظوظ من متاع الدنيا، ويغمزهم، ويقول لهم:
(والله ما منكم أحد إلا وقد نشب فيها بشيء غيري..).
وكان أيضاً دائم التحذير والإنذار للذين يجمعون الأموال ويصرفون في سبيلها جهداً كبيراً، فيذكر لهم قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن المكثرين من المال وكيف أن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من أنفق ما تحصل له من المال ذات اليمين وذات الشمال، دون کنز أو إمساك أو احتكار.
كان أبو ذر الغفاري، كثير الأسئلة لاسيما تلك التي كان يسمعها من الرهبان أو أحبار اليهود فيما يخص صحف الأنبياء علیهم السلام، وربما إنه لم يجد الإجابة الكافية عند رجال الدين الموحدين العرب وغيرهم، لذا وجد الإجابة عند الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، وهو ما سوف نوضحه:
من أجل إكمال الصورة العقائدية للصحابي أبي ذر الغفاري كان دائمَ البحث عن الشيء الذي لم يعرفه ويتعلمه، فكان في نفسه عدد من الأسئلة فيما يخص حياة الأنبياء الأوائل مثل إبراهيم وموسی علیهما السلام، كان قد سمعها أو قرأها قبل البعثة النبوية الشريفة، ولم يجد إجابة دقيقة لها تقنعه، فحين وجد الفرصة المناسبة مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم للسؤال
ص: 118
عنهم لم يتردد في طرحها، ومنها: (صحف إبراهيم) كانت محور سؤاله للنبي محمد، فعن أبو ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم علیه السلام قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«كانت أمثالاً، كلها: أيها الملك المسلط المبتلي إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من کافر أو فاجر فجوره على نفسه، وكان فيها أمثال: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدم وأخر، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه»(1).
مثلما علم أبو ذر الغفاري ما هي صحف النبي إبراهيم علیه السلام وعلى لسان الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، قد يكون هناك أمرُ أخر يدور في ذهنه، إلا وهي صحف النبي موسى علیه السلام، فأراد معرفتها أيضاً في ضوء علم الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم هل هي في نفس المحور أيضاً أي كلها أمثال، أو هناك وجهة أخرى لها؟ فذكر الطوسي، رواية عن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى علیه السلام قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«كانت عبراً كلها: عجب لمن أيقن بالنار ثم ضحك، عجب لمن أيقن بالموت ثم
ص: 119
يفرح، عجب لمن أبصر الدنيا وتقلبها بأهلها حالاً بعد حال ثم هو يطمئن إليها، عجب لمن أيقن بالحساب غداً ثم لم يعمل».
قلت: يا رسول الله فهل في الدنيا شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى ما أنزل الله عليك، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«اقرأ يا أبا ذر «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(1).
أي أن ذكر هذه الصحف في القرآن الكريم جاء في قوله تعالی:
«إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»
أي أن صحف النبي موسى علیه السلام التي كانت عبراً للإنسان وليست أمثالاً، وهناك فرق بين العبر والأمثال، ربما يعود هذا الاختلاف في مضمون الصحف بسبب اختلاف المدة والمكان لاختلاف أقوامهما، فكل قوم لهم عباداتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، فكانت هذه الصحف بمستوى، وما يحتاجه كل قوم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»، لتأكيد كلامه.
مثلما كان أبو ذر الغفاري يتابع ما هو موجود في صحف الأنبياء علیهم السلام كان يعلم بما سوف يحدث للإمام الحسين علیه السلام، ولعل الرسول الكريم أطلعه عليه كونه من أهل
ص: 120
البيت علیهم السلام، فقد روي عن عروة، قال: (سمعت أبا ذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة، فقال له الناس: يا أبا ذر أبشر فهذا قليل في الله تعالی.
فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن علي قتلاً، أو قال ذبحاً؟ والله لا يكون في الإسلام أعظم قتيلاً منه، وإن الله سیسلُّ سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبداً، ويبعث قائماً من ذريته فينتقم من الناس، وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار، وسكان الجبال في الغياض والآكام، وأهل السماء من قتله، لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم، وما من سماء يمر به روح الحسين إلا فزع له سبعون ألف ملك يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة، وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله، وما من يوم إلا وتعرض روحه على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيلتقيان)(1).
الملاحظ على النص أن أبا ذر الغفاري وصف حاله بالنفي بأنه أسهل كثيراً من حال الإمام الحسين علیه السلام، حينما يقتله بنو أمية، وأن أمره لله قليل مع عظمة ثورة الإمام الحسين علیه السلام، وكذلك علمه بغيب الثورة قبل حدوثها بأكثر من ثلاث عقد من الزمن، ربما تؤكد على أن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم قد أعلمه بخبر الإمام علیه السلام يوماً. وكذلك أمر وجود القائم من ذريته الإمام محمد المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف الأخذ بثأر جده.
من جملة المناظرات العلمية التي ذكرها المؤرخون والتي كانت ما بين أبي ذر الغفاري، وغيره من الرواة والفقهاء، مناظرته مع أبي هريرة، فروي عن الأحنف بن قیس، قال: (بينما نحن جلوس مع أبي هريرة إذ جاء أبو ذر، فقال:
ص: 121
يا أبا هريرة، هل افتقر الله منذ استغنى؟ فقال أبو هريرة:
سبحان الله، بل الله الغني الحميد، لا يفتقر أبداً، ونحن الفقراء إليه، قال أبو ذر:
فما بال هذا المال يجمع بعضه إلى بعض؟ فقال:
مال الله قد منعوه أهله، من اليتامى والمساكين. ثم انطلق. فقلت لأبي هريرة:
ما لكم لا تأبون مثل هذا، قال:
إن هذا رجل قد وطن نفسه على أن يذبح في الله. أما إني أشهد أني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، فإذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعیسی بن مریم براً، وزهد، ونسكاً، فعليكم به»(1).
الملاحظ على النص أن أبا ذر الغفاري أراد أن يوضح أنّ الحق معه، لذلك بادر إلى سؤاله ليوضح جملة أمور منها:
أولاً: إن سؤال أبي ذر لأبي هريرة كان صاعقاً ومثيراً، ولا يمكن له ولا لغيره تجاهله، لأن الإجابة عنه بالإيجاب تخالف البديهيات العقائدية في أكثر الأمور حساسية في الاعتقاد، وهو صادر عن رجل مثل الصحابي أبي ذر في فضله وعلمه وصفاء إيمانه.
ثانياً: حينما سمع جواب أبي هريرة جاءه بالسؤال المتضمن لاتهام لا مجال لأبي هريرة، ولا لغيره إلا أن يدفعه عن نفسه، وأن يبرر موقفه المخالف لما يتوقع من مثله.
ص: 122
ثالثاً: إن أبا هريرة يقول: إن التصريح بمثل هذه الأمور معناه تعريض الإنسان نفسه للذبح، مع أنها أمور من صميم هذا الدين ومن مسلماته. ولا بد أن يتخفى بها مرتكبوها، وأن يتظاهروا بالتنزه عنها. فما معنى أن تشيع عنهم، وأن يذبحوا من يطالبهم بالإقلاع عنها؟ وهل هذا يساعد على تبرئتهم منها؟
رابعاً: شهادة أبي هريرة لأبي ذر بصدقه الذي لا يضارعه فيه أحد، التي نقلها عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فما معنى إنكار صدقه، واتهامه بالكذب من قبل عثمان.
خامساً: إن أبا ذر أشبه الناس بالنبي عيسى علیه السلام في زهده ونسکه وبره، لتشهد بصفاء نیته، وبأنه لا يريد بمواقفه هذه جر نفع لنفسه، ولا هو بصدد تحقيق مآرب سياسية، وإنما هو يريد وجه الله، وإصلاح ما أفسده المتسلطون.
بيّن ابن الجوزي، أن أبا ذر الغفاري روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مئتين وواحداً وثمانين حديثاً، أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة وثلاثون(1). وقيل اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بسبعة عشر(2). بينما لدى تدقيق الباحث لأحاديثه في کتاب البخاري وجد أن مجمل أحاديثه ما بين (21 - 22) حديثاً من بين أحاديثه الكثيرة، وهو خادم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.
وقلة الأحاديث له في كتاب صحيح البخاري، تؤكد حقيقة ظلمه من قبل الرواة أولاً، والمحدثين والكتّاب ثانياً، حاله حال أهل البيت علیهم السلام، بسبب كونه موالياً لآل بيت
ص: 123
النبي، وأغلب أحاديثه في بيان منزلتهم لاسيما الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، وهو ما لا يتوافق مع منهج السلطة الحاكمة وسيرتها في كل العصور الأموية والعباسية وعلى مختلف مراحلها، أو على امتداد تاريخهم الطويل، فمن الطبيعي جداً أن لا نجد من أحاديثه سوى القليل، والمصطنعة في بعضها، أو الأحاديث التي فيها محاولات لتقليل شأنه ومنزلته الكبيرة عند الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم.
ومثلما ذكر ابن الجوزي هناك أحاديث كثيرة له لكن سوف نذكر ما جاء في فضائل أهل بيت النبي علیهم السلام، ولاسيما الإمام علي علیه السلام، ومنها:
لم يكن أبو ذر الغفاري صامتاً عن بيان فضل أهل البيت علیهم السلام في مكة، بل كان يذكر فضائلهم ومناقبهم في الكعبة وهو لا يتوافق مع خط سیر عثمان، ومما ذكر أن عثمان كان يؤاخذ أبا ذر الغفاري حينما يذكر الأخير مناقبهم، ومما ذكر في ذلك نقلاً عن سليم بن قيس الهلالي، قائلاً: بينا أنا وحبش بن معمر بمكة، إذ قام أبو ذر وأخذ بحلقة الباب ثم نادى بأعلى صوته في الموسم:
(أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن جهلني فأنا جندب بن جنادة، أنا أبو ذر. أيها الناس، إني قد سمعت نبیکم صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«إن مثل أهل بيتي في أمتي كمثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجي، ومن تركها غرق. ومثل باب حطة في بني إسرائيل».
أيها الناس، إني سمعت نبیکم صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
ص: 124
«إني تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله وأهل بيتي ، ،».
فلما قدم إلى المدينة بعث إليه عثمان، وقال له:
ما حملك على ما قمت به في الموسم؟
قال: عهد عهده إلي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأمرني به.
فقال: من يشهد بذلك؟
فقام علي والمقداد.
فشهدا، ثم انصرفوا يمشون ثلاثتهم.
فقال عثمان: إن هذا وصاحبيه يحسبون أنهم في شيء)(1).
الملاحظ على كلام الخطيب أبي ذر الغفاري التأكيد على منزلة أهل البيت علیهم السلام عند الله جل وعلا، والانقياد لهم هو الوصول إلى بر الأمان، وأيضاً أراد التذكير بوجودهم كونهم أحد الثقلين، وقد يكون أبو ذر الغفاري علل سبب أنصياعه في ركب أهل البيت علیهم السلام، وثانياً أراد تذكير الرعية بوجودهم وينبغي الانصياع إليهم بدلاً من الانصياع لغيرهم مع وجودهم.
وأيضاً في النص تجلت أمور منها:
أولاً: إن هذا التدبير النبوي فاجأ عثمان، ولم يكن يملك تلافي حصوله، بأية صورة. إذ لم يكن يعلم بالوصية، ولا بالموصي، ووجود الوصية دلالة على معرفة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم
ص: 125
بما تخبؤه الأيام للصحابة المقربين له من بعده.
ثانياً: إنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حصن أبا ذر من بطش الهيئة الحاكمة بإشهاده عليها من لا يمكنه رد شهادته، ولا تكذيبه، ألا وهو الإمام علي علیه السلام، زيادة على وجود شخصية فذة مثل المقداد.
ثالثاً: إنّ عثمان لم يستطع أن يفعل شيئاً، سوى أنه أحال الأمر إلى الإمام علي علیه السلام وكأنه يريد أن ينقل إليه فكرة مفادها أنه هو الذي يدبر هذا الأمر مع صاحبيه: (أبي ذر والمقداد)، ودليل ذلك ما جاء على لسانه حين قال: إن هذا وصاحبيه يحسبون أنهم في شيء.
رابعاً: إنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم اختار مكة والكعبة بالذات لتكون المكان الذي يقوم أبو ذر فيها ذلك المقام، وفي موسم الحج، وذلك لم يكن اعتباطاً ولكن كان يدرك أن الناس يأتون إلى مكة لأداء فريضة الحج من كل فج عميق، وهو ما أخبر به الله جل وعلا في القرآن الكريم في قوله تعالی:
«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(1).
وهو بذلك يريد نشر فكر الدين المحمدي حيث يشاء، زيادة على أن اختياره للحرم الشريف لمكانتها الدينية لذلك يكون في مأمن من أي تعدٍ عليه، قد یکون أو يخطر ببال أحد في محاولة لإسكاته بالقوة.
خامساً: إنّ الذي نادى به أبو ذر هو ثلاثة أحاديث، لها ثلاث خصوصیات:
ص: 126
• إنه صلی الله علیه و آله وسلم لم يطلب منه أن يبلغ الناس نصاً خاصاً جديداً، ومبتكراً، ليتطرق احتمال في أن يكون هذا النص مصنوعاً من الأساس، أو أنه قد توهَّم فيه، أو غفل عن بعض خصوصیاته.
• إن الحديث الأول يتناول موضوعاً يهم كل إنسان، لأنه يوضح طريق النجاة من المهالك والفوز بالآخرة.
• ناظر إلى موضوع الهدى والضلال بعد فقد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إذ بفقده يشعر الناس بحاجتهم إلى الهداية، وإلى المرجعية في الأمور الحادثة.
لذا قرر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن المرجع لهم من بعده هو كتاب الله وأهل بيته، ولم يرجع الناس إلى حكامهم لمعرفة أحكامهم، وأخذ معالم دینهم؟ كما قضت به السياسة العمرية بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، حيث منع من الفتوى إلا للأمراء، فإذا سمع الناس هذا وذاك، فلا بد أن يراجعوا حساباتهم، وأن يكون موقع الخليفة، وكذلك الخلافة في معرض إعادة النظر فيه، على أساس هذين الحديثين الشريفين.
سادساً: إن الحق في أن يرووا للناس ما سمعوه من نبيهم، وأن يبينوا لهم أحكام دينهم، في موسم الحج وفي غيره، وعند باب الكعبة وسواها، وفي حال الإمساك بحلقة بابها، وفي غير هذه الحال، وليس لأحد أن يمنعهم من ذلك، أو أن يسألهم عن أسبابه، وأبو ذر واحد من الصحابة الشجعان الذين لم يستطيعوا أن يتركوا الباطل وهم لا يفعلون شيئاً.
إن سياسة أبي ذر كانت واحدة سواء في ولاية الشام التابعة للخلافة الاسلامية أو في
ص: 127
المدينة مقر الخلافة، كلاً حسب الظرف الذي تعيشه الرعية، فحينما وجد أن هناك شبهات حول آل بيت النبوة، وقف وقفة الحق ضد من أراد بهم السوء. فذكر أنه بلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الغفاري، إن الله اصطفی آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك زبدها، ومحمد وارث علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه.
أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها، أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بیت نبیکم، لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وبلغ عثمان أيضاً أن أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد، فيقول كما كان يقول، ويجتمع إليه الناس، حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه.
ص: 128
وكان يقف على باب دمشق، إذا صلى صلاة الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له.
فقال لهم: أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟ فبعث إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، فأتاه، فقال:
يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص عليه الخبر. فقال علي علیه السلام: نعم.
قال: وكيف تشهد؟
قال: لقول رسول الله:
«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر».
فلم يقم بالمدينة إلا أياماً، حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها.
قال: أتخرجني من حرم رسول الله؟
قال: نعم، وأنفك راغم.
قال: فإلى مكة؟
قال: لا.
قال: فإلى البصرة؟
قال: لا.
ص: 129
قال: فإلى الكوفة؟
قال: لا ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها. يا مروان أخرجه، ولا تدع أحدا يكلمه حتى يخرج، فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته، فخرج وعلي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون، فلما رأى أبو ذر علياً قام إليه، فقبل يده، ثم بکی، وقال:
إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله علیهم السلام فلم أصبر حتى أبكي، فذهب علي علیه السلام يكلمه فقال له مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد، فرفع علي علیه السلام السوط فضرب وجه ناقة مروان، وقال:
«تنح، نحاك الله إلى النار ثم شیعه»(1).
النص واضح وصريح بأن أهل بيت النبوة علیهم السلام هم السماء ولا يعلو عليها إلا الله الخالق الجبار، وهم المصطفين الأخيار من دون البشر، وهم النور الذي يضيء كل شيء ولا نور سواهم، كيف لا، وإنّ الإمامة فيهم ورثة حق الأنبياء حين قال النبي إبراهيم علیه السلام حينما جعله الله تعالى إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين، أي أنهم أئمة بالوراثة ذرية بعضها من بعض.
عرف عن أبي ذر الغفاري بأنه كان كثير الذكر لفضائل الإمام علي علیه السلام، فذكر القاضي نعمان المغربي رواية عن ابن الزبير، قال: (فجعلت أتحدث وأبو ذر يقطع
ص: 130
حديثي بذكر فضائل علي علیه السلام.
فقلت: يا أبا ذر إن المرء قد يحب المرء ثم يقصر.
فأغاظ ذلك ابن عباس. فقال: يا أبا ذر أناشدك الله بما لنا عليك من حق إلا حدثتنا بمناقب علي علیه السلام.
ثم قال أبو ذر: نعم، إنّ لكم على حقوقاً لا أضرب لها أمدا ولا أحصي لها عدداً).
قال: فأسألك بحق حقوقنا عليك إلا حدثتنا؟
قال أبو ذر: نعم، كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بحراء، وكان علي علیه السلام على الصفا عند دار حمزة بن عبد المطلب، فدعاه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقال:
«يا علي إني لأرجو أن تكون صاحبي في سفري هذا».
فقال: «یا رسول الله، وأي سفر هو»؟
فقال: «ذكرت لي أرض يقال لها يثرب، فان أعجل في القضاء، فاتبعني».
فأقام بعده ليلتين، ثم انطلق إلى حراء، فلم يجده، فخنقته العبرة، واقشعر، فأراد أن ينطلق ليتبعه. فذكر أنه لا زاد معه وأنه لا يهتدي الطريق. وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد أمره في الليلة التي خرج فيها أن يضطجع مضجعه. وأن يؤدي عنه أمانات كانت عنده، وأن يحكم أشياء عهدها إليه في أهله، ثم يلحق، ففعل ذلك. فلما قضاه وأراد اللحوق برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أتی أمه فاطمة بنت أسد ليلاً، فقرع الباب عليها.
فقالت: من هذا؟
ص: 131
فقال: «أنا علي».
فقالت: إن اللات والعزى منك بريئان.
فقال لها علي: «اخفضي من صوتك ولا توقظي نوامك وأكرمي ضيفك، فأما اللات والعزى فهما مني بريئان كما ذكرت، وأنا منهما بريء».
ففتحت له الباب، فجلس.
فقال لها: «هل عندك من شيء آكله»؟
فرقت له، فقالت: ارفع الكساء، فثم خبزة وشيء من تمر.
فأخذه، ثم جعل يلاطفها حتى نامت. فوثب الحائط، ثم سار ليلته ويومه فأمسى بالروحاء واستبطاه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وظهر الغم به عليه.
فقيل له في ذلك، فقال:
«وما لي لا أغتم وقد خلفت خليلي، ابن أبي طالب بمكة أمرته باللحوق بي إذا قضى ما عهدت إليه، ولا أدري ما فعل الله به، وإن الله عز وجل قد أعطاني فيه ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة: أعطاني في الدنيا، فإنه صاحب لوائي، وهو يواري عورتي، وإنه صاحب مجلس القضاء من بعدي، فأنا لا أخشى عليه أن يموت في حياتي. وأما التي أعطاني به في الآخرة، فإنه صاحب لوائي - لواء الحمد - يقدمني به إلى الجنة، وهو عون لي على مفاتيح خزائن الجنة، وإنه صاحب حوضي يوم القيامة، فأنا آمن عليه أن يرتد کافراً بعد إذ هداه الله ولكني أخاف عليه جهلة قريش»، ...،". وذكر باقي الحديث(1).
ص: 132
وصايا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأبي ذر، وصية جامعة لمختلف شؤون الحياة، إذ لم يدر في فكر أحد من الرعية تساؤل ما، إلا والرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد وضعه نصب عينه، فعن أبي الأسود الدؤلي قال: قدمت الربذة فدخلت على أبي ذر جندب بن جنادة، فحدثني أبو ذر قال: دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في مسجده فلم أر في المسجد أحداً من الناس إلا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام على جانبه جالس فاغتنمت خلوة المسجد، فقلت:
یا رسول الله بأبي أنت وأمي، أوصني بوصية ينفعني الله بها، فقال صلی الله علیه و آله وسلم:
«نعم، وأكرم بك يا أبا ذر إنك منا أهل البيت، وإني موصيك بوصية فاحفظها فإنها جامعة لطرق الخير، وسبله فإنك إن حفظتها كان لك بها كفيلاً».
«يا أبا ذر أعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك واعلم أنّ أول عبادة الله المعرفة به أنه الله الأول قبل كل شيء فلا شيء قبله، والفرد فلا ثاني له، والباقي لا إلى غاية، فاطر السماوات والأرض وما فيهما، وما بينهما من شيء، وهو اللطيف الخبير وهو على كل شيء قدير، ثم الإيمان بي والإقرار بأن الله تعالی أرسلني إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً ودَاعِياً إلى الله بِإِذنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، ثم حب أهل بيتي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».
«واعلم يا أبا ذر إن الله عز وجل جعل أهل بيتي في أمتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخلها كان آمنا».
«يا أبا ذر احفظ ما أوصيك به تكن سعيداً في الدنيا والآخرة».
ص: 133
«یا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ».
«يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
«یا أبا ذر إياك والتسويف بأملك فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غد لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم تكن غداً لم تندم على ما فرطت في اليوم».
«یا أبا ذر كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظر غداً لا يبلغه».
«يا أبا ذر لو نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره».
«یا أبا ذر كن كأنك في الدنيا غريب أو كعابر سبيل، وعدَّ نفسك من أصحاب القبور».
«یا أبا ذر إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري ما اسمك غداً».
«يا أبا ذر إن تدركك الصرعة قبل العثرة، فلا تقال العثرة، ولا تمكّن من الرجعة، ولا يحمدك من خلفت بما تركت، ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به».
«يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على درهم و دینارك».
«يا أبا ذر هل ينتظر أحدكم إلا غنىً مطغياً أو فقراً منسياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فإنه شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر،
ص: 134
إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه، ومن طلب علما ليضرب به وجوه الناس إليه يوم لم يجد ريح الجنة».
«يا أبا ذر من ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنة».
«یا أبا ذر إذا سئلت عن علم لا تعلمه فقل: لا أعلمه تنجُ من تبعته، ولا تفتِ بما لا علم لك به، تنجُ من عذاب الله يوم القيامة».
«يا أبا ذر يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنة لفضل تأدیبكم وتعليمكم، فيقولون: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله».
«یا أبا ذر إنّ حقوق الله جل ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد وإنّ نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين».
«يا أبا ذر إنك في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطيء لحظة ولا يدرك حريص ما لم يقدر له ومن أعطي خيراً فالله أعطاه ومن وقي شر والله وقاه».
«يا أبا ذر المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم الزيادة، إن المؤمن لیری ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، وإن الكافر ليرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه».
«یا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل الذنوب بين عينيه ممثلة، الإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد الله بعبد شراً أنساه ذنوبه».
«يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت أمره».
ص: 135
«يا أبا ذر إن نفس المؤمن أشد ارتکاضاً من الخطيئة من العصفور حين يقذف به في شركة».
«يا أبا ذر من وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه».
«يا أبا ذر إن الرجل ليحرم رزقه بالذنب يصيبه».
«يا أبا ذر دع ما لست منه في شيء ولا تنطق فيما لا يعنيك واحرس لسانك كما تحرس رزقك. يا أبا ذر إن الله جل ثناؤه ليدخل قوما الجنة فيعطيهم حتى يملئوا وفوقهم قوم في الدرجات العلى، فإذا نظروا إليهم عرفوهم فيقولون: ربنا إخواننا كنا معهم في الدنيا فيم فضّلتهم علينا؟ فيقال: هيهات هيهات إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون ويظمئون حين تروون ويقومون حين تنامون ويشخصون حين تخفضون».
«یا أبا ذر جعل الله جل ثناؤه قرة عيني في الصلاة، وحبب إلي الصلاة كما حبب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإن الجائع إذا أكل شبع، وإن الظمآن إذا شرب روی، وأنا لا أشبع من الصلاة».
«یا أبا ذر أيما رجل تطوع في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة كان له حقاً واجباً بيت في الجنة».
«يا أبا ذر إنك ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار، ومن يكثر قرع باب الملك يفتح له».
«يا أبا ذر ما من مؤمن يقوم مصلياً إلا تناثر عليه البر ما بينه وبين العرش ووکل به
ص: 136
ملك ينادي: يا ابن آدم لو تعلم ما لك في الصلاة ومن تناجي ما انفتلت».
«يا أبا ذر طوبى لأصحاب الألوية يوم القيامة يحملونها فيسبقون الناس إلى الجنة، ألا هم السابقون إلى المساجد بالأسحار وغير الأسحار». «يا أبا ذر الصلاة عمود الدين واللسان أكبر، والصدقة تمحو الخطيئة، واللسان أكبر، والصوم جنة من النار، واللسان أكبر، والجهاد نباهة، واللسان أكبر».
«يا أبا ذر الدرجة في الجنة فوق الدرجة كما بين السماء والأرض، وإن العبد ليرفع بصره فيلمع له نور یکاد يخطف بصره فيفزع لذلك فيقول: ما هذا؟ فيقول: هذا نور أخيك، فيقول: أخي فلان كنا نعمل جميعا في الدنيا وقد فضّل علي هكذا؟ فيقال له: إنه كان أفضل منك عملاً، ثم يجعل في قلبه الرضا حتى يرضى».
«یا أبا ذر الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وما أصبح فيها مؤمن إلا حزيناً، فكيف لا يحزن المؤمن وقد أوعده الله تعالى أنه وارد جهنم ولم يعده أنه صادر عنها وليلقين أمراضاً و مصیبات وأموراً تغيظه وليظلمن فلا ينتصر، يبتغي ثواباً من الله عز وجل فما يزال فيها حزيناً حتى يفارقها، فإذا فارقها أفضى إلى الراحة والكرامة».
«يا أبا ذر ما عبد الله عز وجل على مثل طول الحزن».
«یا أبا ذر من أوتي من العلم ما لم يبکه لحقيق أن يكون قد أوتي علم ما لا يعنيه، إن الله نعت العلماء فقال عز وجل: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا».
ص: 137
«يا أبا ذر من استطاع أن يبكي فليبك، ومن لم يستطع فليشعر قلبه الحزن وليتباك، إن القلب القاسي بعيد من الله تعالی ولكن لا يشعرون».
«يا أبا ذر يقول الله تبارك وتعالى: لا أجمع على عبد خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة».
«یا أبا ذر لو أن رجلاً كان له كعمل سبعين نبيا لأحتقره وخشي أن لا ينجو من شر يوم القيامة. يا أبا ذر إن العبد ليعرض عليه ذنوبه يوم القيامة فيمن يرهب من ذنوبه فيقول: أما إني كنت مشفقا فيغفر له».
«يا أبا ذر إن الرجل ليعمل الحسنة فيتكل عليها ويعمل المحقرات حتى يأتي الله وهو عليه غضبان وإنّ الرجل ليعمل السيئة فيفرق منها يأتي آمنا يوم القيامة».
«يا أبا ذر إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة، فقلت: فكيف ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: يكون ذلك الذنب نصب عينيه تائبا منه فاراً إلى الله تعالی حتى يدخله الجنة».
«یا أبا ذر الكيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه وهواها وتمنى على الله الأماني».
«یا أبا ذر إن أول شيء يرفع من هذه الأمة الأمانة والخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعاً».
«یا أبا ذر والذي نفس محمد بيده لو أن الدنيا كانت تعدل عند الله جناح بعوضة أو ذباب ما سقى الكافر منها شربة من ماء».
ص: 138
«یا أبا ذر إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا من ابتغي به وجه الله، وما من شيء أبغض إلى الله تعالى من الدنيا خلقها ثم عرضها فلم ينظر إليها ولا ينظر إليها حتى تقوم الساعة، وما من شيء أحب إلى الله تعالى من الإيمان به وترك ما أمر بترکه».
«يا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى أوحي إلى أخي عيسى علیه السلام: يا عيسى لا تحب الدنيا فإني لست أحبها وأحب الآخرة، فإنما هي دار المعاد».
«يا أبا ذر إن جبرئيل علیه السلام أتاني بخزائن الدنيا على بغلة شهباء، فقال لي: يا محمد هذه خزائن الدنيا ولا تنقصك من حظك عند ربك، فقلت: حبيبي جبرئيل لا حاجة الي فيها، إذا شبعت شکرت ربي وإذا جعت سألته».
«يا أبا ذر إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا فقّهه في الدين، وزهّده في الدنيا، وبصره بعيوب نفسه».
«يا أبا ذر ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه منها سالما إلى دار السلام».
«يا أبا ذر إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه فإنه يلقى الحكمة».
فقلت: يا رسول الله من أزهد الناس؟ فقال صلی الله علیه و آله وسلم:
«من لم ينس المقابر والبلى وترك فضل زينة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد غدا من أيامه وعدَّ نفسه في الموتی».
«یا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى لم يوح إلي أن اجمع المال إلى المال ولكن أوحى إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين».
ص: 139
«یا أبا ذر إني ألبس الغليظ وأجلس على الأرض وألعق أصابعي وأركب الحمار بغیر سرج وأردف خلفي فمن رغب عن سنتي فليس مني».
«يا أبا ذر حب المال والشرف أذهب لدين الرجل من ذئبين ضاريين في زرب الغنم فأغارا فيها حتى أصبحا فما ذا أبقيا منها».
قال: قلت: يا رسول الله الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيراً، هم يسبقون الناس إلى الجنة، فقال صلی الله علیه و آله وسلم:
«لا، ولكن فقراء المسلمين، فإنهم يتخطون رقاب الناس، فيقول لهم خزنة الجنة كما أنتم حتى تحاسبون فيقولون: بم نحاسب فو الله ما ملكنا فنجور ونعدل ولا أفيض علينا فنقبض ونبسط ولكنّا عبدنا ربنا حتى دعانا فأجبنا».
«يا أبا ذر إن الدنيا مشغلة للقلوب والأبدان، وإن الله تبارك وتعالی سائلنا عما نعمنا في حلاله فكيف بما نعمنا في حرامه».
«يا أبا ذر إني قد دعوت الله جل ثناؤه أن يجعل رزق من يحبني الكفاف وأن يعطي من يبغضني كثرة المال والولد».
«یا أبا ذر طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة الذين اتخذوا أرض الله بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباًة واتخذوا كتاب الله شعاراً ودعاءه دثاراً، يقرضون الدنيا قرضاً».
«يا أبا ذر حرث الآخرة العمل الصالح، وحرث الدنيا المال والبنون».
«یا أبا ذر إن ربي أخبرني فقال: وعزتي وجلالي ما أدرك العابدون درك البكاء وإني
ص: 140
لأبني لهم في الرفيق الأعلى قصراً لا يشركهم فيه أحد».
قال: قلت: يا رسول الله أي المؤمنين أكيس، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم له استعداداً».
«یا أبا ذر إذا دخل النور القلب انفسح القلب واستوسع، قلت: فما علامة ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله».
«يا أبا ذر اتق الله ولا ترى الناس أنك تخشى الله فيكرموك وقلبك فاجر».
«يا أبا ذر لتكن لك في كل شيء نية صالحة حتى في النوم والأكل».
«یا أبا ذر ليعظم جلال الله في صدرك، فلا تذكره كما يذكره الجاهل عند الكلب: اللهم اخزه وعند الخنزير: اللهم اخزه».
«يا أبا ذر إن لله ملائكة قياماً من خيفته ما رفعوا رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعا: سبحانك وبحمدك ما عبدناك كما ينبغي لك أن تعبد، ولو كان لرجل عمل سبعين نبيا لاستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ، ولو أن دلوا صب من غسلين في مطلع الشمس لغلت منه جماجم من في مغربها، ولو زفرت جهنم زفرة لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر جاثيا لركبته يقول: رب نفسي حتى ينسى إبراهيم إسحاق عليهما السلام ويقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم فلا تنسني».
«یا أبا ذر لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت من السماء الدنيا في ليلة ظلماء لأضاءت لها الأرض أفضل مما يضيء القمر ليلة البدر، ولوجد ريح نشرها جميع أهل
ص: 141
الأرض، ولو أن ثوباً من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم».
«یا أبا ذر أخفض صوتك عند الجنائز وعند القتال وعند القرآن».
«يا أبا ذر إذا تبعت جنازة فليكن عقلك فيها التفكر والخشوع واعلم أنك لاحق به».
«يا أبا ذر اعلم أن كل شيء إذا فسد فالملح دواؤه فإذا فسد الملح فليس له دواء، واعلم أن فيكم خلقين: الضحك من غير عجب، والكسل من غير سهر».
«يا أبا ذر رکعتان مقتصدتان في تفکر خیر من قيام ليلة والقلب ساه».
«یا أبا ذر الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبي ورب شهوة ساعة تورث حزناً طويلاً».
«يا أبا ذر لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حافر لها».
«یا أبا ذر لا تصيب حقيقة الإيمان حتى ترى الناس كلهم حمقى في دينهم وعقلاء في دنیاهم».
«يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب فهو أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى منك على الله خافية».
«يا أبا ذر استح من الله فإني والذي نفسي بيده لأظل حين أذهب إلى الغائط متقنعا بثوبي أستحي من الملكين الذين معي».
ص: 142
«يا أبا ذر: أتحب أن تدخل الجنة؟».
قلت: نعم، فداك أبي، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«فأقصر من الأمل، واجعل الموت نصب عينيك، واستح من الله حق الحياء».
قال: قلت: يا رسول الله، كلنا نستحي من الله، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«ليس كذلك الحياء ولكن الحياء من الله أن لا تنسى المقابر والبلى، والجوف وما وعي، والرأس وما حوى، ومن أراد كرامة الآخرة فليدع زينة الدنيا، فإذا كنت كذلك أصبت ولاية الله».
«يا أبا ذر يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح».
«یا أبا ذر مثل الذي يدعو بغیر عمل کمثل الذي يرمي بغير وتر».
«يا أبا ذر إن الله يصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده ويحفظه في دویرته والدور حوله ما دام فيهم».
«یا أبا ذر إن ربك عز وجل يباهي الملائكة بثلاثة نفر: رجل في الأرض القفر فيؤذن ثم يقيم ثم يصلي، فيقول ربك للملائكة: انظروا إلى عبدي يصلي ولا يراه أحد غيري، فينزل سبعون ألف ملك يصلون وراءه ويستغفرون له إلى الغد من ذلك اليوم، ورجل قام من الليل فصلي وحده فسجد ونام وهو ساجد، فيقول تعالى: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده ساجد، ورجل في زحف يفر أصحابه وثبت هو يقاتل حتى يقتل».
ص: 143
«یا أبا ذر ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة وما من منزل ينزله قوم إلا وأصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم».
«یا أبا ذر ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا یا جارة هل مر بك ذاكر لله تعالى أو عبد وضع جبهته عليك ساجداً لله فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت: نعم اهتزت وانشرحت وترى أن لها الفضل على جارتها».
«یا أبا ذر إن الله عز وجل ثناؤه لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بالكلمة العظيمة، قولهم اتخذ الله ولدا فلما قالوها اقشعرت الأرض وذهبت منفعة الأشجار».
«يا أبا ذر إن الأرض لتبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحاً».
«یا أبا ذر إذا كان العبد في أرض في (يعني قفر) فتوضأ أو تیمم ثم أذن وأقام وصلی، أمر الله عز وجل الملائكة فصفوا خلفه صفاً لا يرى طرفاه، يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، ويؤمنون على دعائه».
«يا أبا ذر من أقام ولم يؤذن لم يصل معه إلا ملكاه اللذان معه».
«يا أبا ذر ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها وأهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً».
«يا أبا ذر الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارين».
«يا أبا ذر الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء وإملاء
ص: 144
الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر».
«یا أبا ذر لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ولا تأكل طعام الفاسقين».
«يا أبا ذر أطعم طعامك من تحبه في الله وكل طعام من يحبك في الله عز وجل».
«يا أبا ذر إن الله عز وجل عند لسان كل قائل، فليتق الله امرؤ وليعلم ما يقول».
«يا أبا ذر اترك فضول الكلام وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك».
«يا أبا ذر كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع».
«یا أبا ذر ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان».
«يا أبا ذر إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وإكرام حملة القرآن العاملين به وإكرام السلطان المقسط».
«یا أبا ذر ما عمل من لم يحفظ لسانه».
«يا أبا ذر ولا تكن عياباً ولا مداحاً ولا طعاناً ولا ممارياً».
«يا أبا ذر لا يزال العبد يزداد من الله تعالى بعداً ما مشي خلفه»؟!
«يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة».
«يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة».
فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كيف يعمر مساجد الله؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
ص: 145
«لا يرفع فيها الأصوات ولا يخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع، واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك».
«يا أبا ذر إن الله تعالى يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكل نفس تتنفس فيه درجة في الجنة، وتصلي عليك الملائكة، ويكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات ويمحى عنك عشر سيئات».
«يا أبا ذر أتعلم في أي شيء أنزلت هذه الآية؟ «اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
قلت: لا أدري فداك أبي وأمي، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«في انتظار الصلاة خلف الصلاة».
«يا أبا ذر إسباغ الوضوء في المكاره من الكفارات، وكثرة الاختلاف إلى المساجد فذلكم الرباط. يا أبا ذر يقول الله تعالى: إن أحب العباد إلي المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم».
«یا أبا ذر کل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة: قراءة مصل، أو ذكر الله، أو سائل عن علم».
«يا أبا ذر کن بالعمل بالتقوى أشد اهتماما منك بالعمل، فإنه لا يقل عمل بالتقوى وكيف يقل عمل يتقبل، يقول الله «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».
ص: 146
«يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شریکه فیعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه ومن أين ملبسه، أمن حل ذلك أم من حرام».
«یا أبا ذر من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله عز وجل من أين أدخله النار».
«يا أبا ذر من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل».
«یا أبا ذر إن أحبكم إلى الله عز وجل ثناؤه أكثركم ذكرا له، وأكرمكم عند الله عز وجل أتقاكم له، وأنجاكم من عذاب الله أشدكم له خوفاً».
«يا أبا ذر إن المتقين الذين يتقون الله عز وجل من الشيء الذي لا يتقي منه، خوفاً من الدخول في الشبهة».
«يا أبا ذر من أطاع الله عز وجل فقد ذكر الله عز وجل وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن».
«يا أبا ذر أصل الدين الورع ورأسه الطاعة».
«يا أبا ذر کن ورعا تكن أعبد الناس، وخير دینکم الورع».
«يا أبا ذر فضل العلم خير من فضل العبادة، واعلم أنكم لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ما ينفعكم ذلك إلا بورع».
«يا أبا ذر إن أهل الورع والزهد في الدنيا هم أولياء الله تعالی حقاً».
ص: 147
«يا أبا ذر من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر».
قلت: وما الثلاث، فداك أبي وأمي؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«ورع يحجزه عما حرم الله عز وجل عليه، وحلم يرد به جهل السفيه، وخلق يداري به الناس».
«یا أبا ذر إن سرك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله وإن سرك أن تكون أكرم الناس فاتق الله، وإن سرك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يد الله عز وجل أوثق منك بما في يدك».
«يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ».
«یا أبا ذر يقول الله جل ثناؤه وعزتي وجلالي لا يؤثر عبدي هواي على هواه إلا جعلت غناه في نفسه وهمومه في آخرته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكففت عليه ضيقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر».
«یا أبا ذر لو أن ابن آدم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدرکه رزقه كما يدركه الموت».
«يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن؟».
قلت: بلى يا رسول الله، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فلو أن الخلق كلهم جهدوا أن ينفعوك بشيء لم يكتب لك ما قدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم
ص: 148
يكتبه الله عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل الله عز وجل بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما يكره خيراً كثيراً وإن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، و «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
«يا أبا ذر استغن بغني الله يغنيك الله».
فقلت: وما هو یا رسول الله؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«غذاء يوم وعشاء ليلة، فمن قنع بما رزقه الله فهو أغنى الناس».
«یا أبا ذر إن الله عز وجل يقول: إني لست کلام الحكيم أتقبل ولكن همه وهواه، فإن كان همه وهواه فيما أحب وأرضى جعلت صمته حمداً لي وذكراًة ووقاراً وإن لم يتكلم».
«یا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
«یا أبا ذر التقوى هاهنا وأشار إلى صدره».
«يا أبا ذر أربع لا يصيبهن إلا مؤمن: الصمت وهو أول العبادة، والتواضع لله سبحانه، وذكر الله تعالى على كل حال وقلة الشيء يعني قلة المال».
«یا أبا ذر همّ بالحسنة وإن لم تعملها لكيلاً تكتب من الغافلين».
«يا أبا ذر من ملك ما بين فخذيه وما بين لحييه دخل الجنة».
قلت: يا رسول الله وإنا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
ص: 149
«يا أبا ذر وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إنك لا تزال سالماً ما سكت فإذا تكلمت كتب الله لك أو عليك».
«يا أبا ذر وإن الرجل يتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوى في جهنم ما بين السماء والأرض».
«يا أبا ذر ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له».
«یا أبا ذر من صمت نجا فعليك بالصدق ولا تخرجن من فيك كذبة أبداً».
قلت: يا رسول الله فما توبة الرجل الذي يكذب متعمداً؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«الاستغفار وصلاة الخمس تغسل ذلك».
«يا أبا ذر إياك والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، قلت: يا رسول الله ولم ذاك بأبي أنت وأمي قال: لأن الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها».
«يا أبا ذر سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله وحرمة ماله كحرمة دمه».
قلت: يا رسول الله وما الغيبة؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«ذكرك أخاك بما يكره».
قلت: يا رسول الله فإن كان فيه ذاك الذي يذكر به؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«اعلم أنك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس هو فيه بهته».
ص: 150
«یا أبا ذر من ذب عن أخيه المسلم الغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار».
«يا أبا ذر من اغتيب عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فنصره نصره الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فإن خذله وهو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا والآخرة».
«یا أبا ذر لا يدخل الجنة قتات، قلت: وما القتات قال: النمام، یا أبا ذر صاحب النميمة لا يستريح من عذاب الله عز وجل في الآخرة».
«یا أبا ذر من كان ذا وجهين ولسانين في الدنيا فهو ذو لسانين في النار».
«یا أبا ذر المجالس بالأمانة وإفشاء سر أخيك خيانة فاجتنب ذلك واجتنب مجلس العشرة».
«یا أبا ذر تعرض أعمال أهل الدنيا على الله من الجمعة إلى الجمعة في يومين الاثنين والخميس فيغفر كل عبد مؤمن إلا عبدا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا عمل هذين حتى يصطلحا».
«یا أبا ذر إياك وهجران أخيك، فإن العمل لا يتقبل مع الهجران».
«يا أبا ذر أنهاك عن الهجران، وإن كنت لا بد فاعلاً فلا تهجره فوق ثلاثة أيام کملاً، فمن مات فيها مهاجراً لأخيه كانت النار أولى به».
«يا أبا ذر من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار».
«یا أبا ذر من مات وفي قلبه مثقال ذرة من كبر لم يجد رائحة الجنة إلا أن يتوب قبل ذلك».
ص: 151
فقال رجل: يا رسول الله إني ليعجبني الجمال حتى وددت أن علاقة سوطي وقبال نعلي حسن فهل يرهب على ذلك؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«كيف تجد قلبك؟».
قال: أجده عارفاً للحق مطمئنا إليه، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«ليس ذلك بالكبر ولكن الكبر أن تترك الحق وتتجاوزه إلى غيره، وتنظر إلى الناس فلا ترى إن أحداً عرضه کعرضك ولا دمه کدمك».
«يا أبا ذر أكثر من يدخل النار المستكبرون».
فقال رجل: فهل ينجو من الكبر أحد یا رسول الله؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«نعم، من لبس الصوف وركب الحمار وحلب العنز وجالس المساكين».
«یا أبا ذر من حمل بضاعته فقد بريء من الكبر يعني ما يشتري من السوق».
«يا أبا ذر من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة».
«یا أبا ذر أزره المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين كعبيه».
«يا أبا ذر من رفع ذيله وخصف نعله وعفر وجهه فقد بريء من الكبر».
«یا أبا ذر من كان له قميصان فليلبس أحدهما وليكس في الآخر أخاه».
«یا أبا ذر سیکون ناس من أمتي يولدون في النعيم ويغذون به، همتهم ألوان الطعام والشراب ويمدحون بالقول أولئك شرار أمتي».
ص: 152
«یا أبا ذر من ترك لبس الجمال وهو يقدر عليه تواضعاً لله عز وجل في غير منقصة وأذل نفسه في غير مسكنة وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة، فأولئك خيار أمتي، طوبی لمن صلحت سريرته وحسنت علانيته وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله».
«يا أبا ذر البس الخشن من اللباس والصفيق من الثياب لئلاً يجد الفخر فيك مسلكاً».
«یا أبا ذر يكون في آخر الزمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم وشتائهم، يرون أن لهم الفضل بذلك على غيرهم أولئك تلعنهم ملائكة السماوات والأرض».
«یا أبا ذر ألا أخبرك بأهل الجنة قلت: بلى يا رسول الله، قال: كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره»(1).
مما جاء في أحدى وصايا الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم للصحابي أبي ذر الغفاري، وصية العمل بين الله وكتابه من جهة وبين مختلف طبقات الرعية، وربما هي دستور العمل لمن يريد الحفاظ على مكانته عند الله، ومما جاء فيها على لسان الصحابي:
قلت: يا رسول الله أوصني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك كله».
ص: 153
فقلت : يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمور دينك».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«صِل قرابتك وإن قطعوك، وأحبَّ المساكين وأكثر مجالستهم».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
ص: 154
«قل الحق وإن كان مراً».
قلت: يا رسول الله زدني، قال صلی الله علیه و آله وسلم:
«لا تخف في الله لومة لائم».
قلت: يا رسول الله زدني، قال:
«یا أبا ذر ليردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجد عليهم فيما تأتي، فكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ويجد عليهم فيما يأتي».
قال: ثم ضرب على صدري وقال:
«یا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن المحارم، ولا حسب كحسن الخلق»(1).
فالوصية أعلاه تحوي جملة من الأمور منها: ما هو خاص بعبادة الله جل وعلا وأداء فرائضه وسننه، وبيان أن أفضل الأعمال عنده هو الجهاد في سبيله؛ وكذلك حدد عدداً من الصفات ينبغي توفرها في شخصيته منها: الصمت، وعدم الكلام، إلا في ما يرضي الله ورسوله، وعدم الضحك في غير محله، ومنعه من الإكثار فيه ذلك أنه يميت القلب، ويذهب الهيبة من الإنسان، وكذلك عليه بطبقات المجتمع آنذاك، وكيفية التعايش والتسامح معهم، والنظر إلى الأغنياء والفقراء بمستوى واحد ولا يهمل الفقراء منهم، بل هم الأوجب في النظر بشؤونهم، وأهمية صلة الرحم فإنها تطيل العمر، وتزيد الألفة والمحبة بين الأقرباء وتشعرهم بالوحدة أمام أعدائهم، ولا تأخذه في قول الحق
ص: 155
لومة لائم حتى وإن كانت على نفسه.
قبل أن نبين كيف كانت السياسة المالية واضحة في ذهن أبي ذر الغفاري تلك السياسة التي نهجها في حياته، نود أن نعرض إلى السياسة المالية التي وضع أسسها الدين الإسلامي الحنيف، الذي استهدف منها إذابة الفقر، ومكافحة الحرمان، وتطوير الحياة الاقتصادية بحيث تتحقق الفرص المتكافئة لعامة المواطنين، بحيث لا يبقى ظل البؤس والحاجة، ويعيش الجميع حياة يسودها الرخاء والرفاه.
كان أهم ما عني به الدين الإسلامي الزام الولاة بالاحتياط في أموال الدولة، فلم يجز لهم بأي حال أن يصطفوا منها لأنفسهم شيئاً كما لم يجز لهم أن ينفقوا أي شيء منها التوطيد حكمهم ودعم سلطانهم.
إن التطاول في البنيان كان عند الأمم السابقة كالفرس، والروم وسواهما، ولم نجد له أثراً يذكر في تاريخ العرب في زمن البعثة النبوية لاسيما في الحجاز وأطرافها، وفي حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم سوى ما حفل به القرآن الكريم من حديث عن الأمم البائدة، كحديثه عن (إرم ذات العماد) وسواها.
وربما يفهم من كلامنا هذا أن الدين الحنيف قد حرم التطاول في البنيان، وهو رأي غير صحيح وإنما حرم الاسراف والتبذير في أموال المسلمين، بالبناء الواسع والكبير، ولكنه حدّ في إنفاق الأموال حدوداً ووضع قيوداً، وفرض على الناس الالتزام بها. ومخالفة هذه الحدود والقيود هي التي أخذها أبو ذر على معاوية وغيره من المتصدين السياسة العباد والبلاد.
ص: 156
لذلك وضع أبو ذر معاوية أمام خيارين كلاهما مرّ.. فإما أن يعترف بأنه بني الخضراء من مال الله تعالى، وهذه هي الخيانة التي يستحق بها العقوبة، التي سوف تسقطه عن مقامه. أو أنه بناها من ماله، ومن أين لمعاوية المال؟ فيكون قد وقع في الإسراف الذي ورد النهي عنه في كتاب الله سبحانه، وذم الله المسرفين فيه، فقال عز من قال:
«وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»(1).
وقال تعالى:
و«وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ»(2).
وقال أيضاً:
«وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ»(3).
وآيات كثيرة أخرى. فمعاوية خاسر في كلتا الحالتين. لذا كانت سياسة المالية سوآءً في الشام أو في المدينة، أو حين نفي على حد سواء، وقد توجهت في محاور منها:
أدرك أبو ذر الغفاري بآثار البؤس في الناس، وأحس أن السلطة تتوسل بالتسميات القانونية إلى انتهاب المسميات الحقوقية من أربابها والاستحواذ على الثروة الاجتماعية وتبديدها دون مستحقيها.
ص: 157
ومن أجل نشر الفكر الاقتصادي الإسلامي الصحيح وفق ما جاءت به شريعة السماء كان لابد له أن يدور في المدينة، وينادي بالإصلاح تحت مقومات الدين الحنيف وأسسه، بعيداً عن حياة الملوك والأكاسرة الذين يعيشون لدنياهم في كنز الذهب والفضة، وبالمقابل نسيان ذكر اليتامى والفقراء، ففي رواية عن أبي العلاء بن الشخير(1)، عن الأحنف، قال: (رأيت أبا ذر قام بالمدينة على ملأ من قريش، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه، فوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، فما رأيت أحد رد عليه شيئاً)(2).
لذلك كان فقه أبي ذر الغفاري غير مرغوب لدى عثمان، ربما بسبب ما كان يثيره في الطرقات من كلام لا يتوافق مع سياستهم المالية، ودليل ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد في رواية، (أن عثمان قال يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضی؟
فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك.
فقال له أبو ذر: یا بن اليهوديين، أتعلمنا ديننا.
فقال عثمان: قد كثر أذاك لي، وتولعك بأصحابي، إلحق بالشام)(3).
أي أن عثمان أستشار کعب في هذا الأمر الفقهي، وتجاهل الفقهاء العرب المسلمين
ص: 158
الأخرين من أمثال أبي ذر في مساعدته له، وقد وجد أبو ذر من إجابة كعب أموراً هي:
1. خروج عن المتعارف عليه.
2. زيادة على عدم معرفته بهذا الأمر دليل على عدم معرفته بالسنّة النبوية الشريفة والقرآن الكريم وهذه طامة كبری كونها تلزم الخليفة بأن تكون لديه معرفة تامة بالسنّة النبوية على أقل تقدير.
3. فضلاً عن أخذ رأي كعب الأحبار تلك الشخصية اليهودية دون غيرها من الشخصيات، قد جعل منها عثمان محل ثقة له بدلاً من الفقهاء العرب المسلمين.
4. ناهيك عن جواب عثمان وهو يصف کعب الأحبار بأنه من أصحابه المقربين رغم قصر مدة إسلامه قياساً بإسلام الصحابي أبي ذر الغفاري، وهذا يعني أنه لم يكن عنده اطلاعُ كافٍ على أمور القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة لكنه القريب اليوم عنده، بينما أصبح أبو ذر الغفاري من المبعدين عنه.
مما ذكر في كيفية متابعة الصحابي أبي ذر الغفاري لبيت مال المسلمين في الشام لاسيما في عهد معاوية، إنه كان يتابع تغيرات الوضع الاقتصادي للمسلمين في ضوء الرؤيا الواقعية لطبيعة التعايش بينهم، فروي عن الطبري عن يزيد الفقعسي، قال: (لما ورد ابن السوداء(1) الشام لقي أبا ذر، فقال:
يا أبا ذَرّ، ألا تعجب إلى معاوية، يقال: المال مال الله؟ إلا أن كل شيء كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذرّ، فقال:
ص: 159
ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال:
يرحمك الله يا أبا ذر؛ ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره، قال:
فلا تقله، قال:
فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين)(1).
النص السابق وضّح أن أبا ذر الغفاري قال لمعاوية إن المال الذي تقصده لله، هو حصة لكل المسلمين الموجودين في الشام دون تمایز بینهم على أساس القربى والمودة، ولهم فيه نصيب متساوٍ لا فرق بين فرد وآخر، وأنت أمين على هذا المال من جهة. وليس للوالي (لك) حق التصرف به إلا بما يرضي الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله وسلم کون عائديته للجميع دون استثناء من جهة أخرى. وقولك تسمية مال الخزينة مال الله، أراد منها معاوية الشيوع وسيلة للتلاعب والاستحواذ على مقدرات الرعية بما يراه مناسباً له.
مما تعلمه أبو ذر الغفاري في حياته من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إنه كان لا يدخر شيئاً من رزقه، متیقناً بأن الرازق هو الله تعالى الذي يدرك عباده أينما حلوا، فذكر الذهبي: (أن مقدار رزقه أربع مائة دينار وكان لا يدخر ماله)(2).
وهذا المقدار من المال قد ينفقه في حاجته، وما زاد عنه كان يعطيه للفقراء والمساكين، والدليل على ما ذهبنا إليه هو أنه لا توجد نصوص تاريخية تؤكد امتلاكه
ص: 160
لثروة هائلة، حاله حال بقية الصحابة، بل وجدنا أنه على فراش الموت ولم يكن يقتني وربما كان سبب عدم ادخاره أنه سمع من رسول الله ما يؤكد منعه للادخار، فقد روی همام عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: إن خليلي صلی الله علیه و آله وسلم عهد إلي:
«أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله عز وجل»(1).
وذكر من مذهبه لأبي ذر الغفاري أنه يحرم على الإنسان ادخار ما زاد على حاجته من المال(2). كان أبو ذر يذهب إلى رأي خاص به وهو أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفقه في سبيل الله، أو يعده لكريم(3)، ويأخذ بظاهر قوله تعالی:
«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(4).
فكان يقوم بالشام ويقول يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، ولعل أبا ذر الغفاري يرى أن الدولة كالفرد سواء بسواء، فإذا كنزت ولم تتجرد انحطت وتولدت لديها الأطماع.
من النصوص التي تؤكد على اشتراكية أبي ذر الغفاري في بيت ماله الخاص دون
ص: 161
العام، هو تعامله مع غلامه، حينما كان يعطي له حقوقه كاملة وفي الوقت نفسه كان يتابع ما عليه من واجبات على الرغم من الفارق الاجتماعي ما بينهما، فقد روي عن المعرور بن سوید، قوله: (دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه بُرد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر، لو أخذت بُرد غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوباً غيره، قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان له أخوة تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلّبسه مما يلبس، ولا يكلّفه ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فَليُعنِه»(1).
وفي ذلك يذكر ابن عساکر رواية أيضاً عن سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه: أنه رآه في نمرةٍ موتزراً بها قائماً يصلي فقلت:
يا أبا ذر ما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال:
لو كان لي رأيته علي، قلت:
رأيت عليك منذ أيام ثوبين، فقال:
یا بن أخي أعطيتهما من هو أحوج مني إليهما، قلت:
والله إنك لمحتاج إليهما، قال:
اللهم غفراً إنك لمعظَّمٌ للدنيا، ألست ترى عليّ هذه البردة ولي أخرى للمسجد ولي أعنز نحلبها ولي أحمرة تحمل عليها میرتنا وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهمة طعامنا، فأي:
ص: 162
نعمة أفضل مما نحن فيه)(1).
بينت النصوص كيف كان الصحابي أبو ذر الغفاري ينظر بعين الرحمة والرأفة إلى الرق ويرفق بهم ويداريهم، وينبغي معاملتهم معاملة إنسانية مثلما يتعامل مع أي شخص أخر من الرعية دون تمييز طبقي بينهم على أساس المنزلة والقبيلة والعرف السائد في المجتمع.
يمتلك أبو ذر الغفاري قناعة اقتصادية كبيرة، ولعلّه وضع خطوطاً عريضة لمقدار ما يسرفه في حياته اليومية، وبقي على هذا الحال إلى أطول مدة ممكنة، فذكر أبو هلال، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، (أن أبا ذر كان عطاؤه أربعة آلاف، فإذا أخذه دعا خادمه فسأله ما يكفيه للسنة فاشتراه، ثم اشتری فلوساً بما بقي، وقال: إنه ليس من وعاء ذهب ولا فضة يوكأ عليه إلا وهو يتلظى على صاحبه).(2)
والنص يبيّن صحة ما ذهبنا إليه أولاً، ثم أن ما يزيد عن حاجته من بیت المال كان يعطيه للأقرب إليه، وهو خادمه ثانياً، وإن العطاء ليس دَيناً ينبغي على المرء التمسك به ثالثاً، لذلك قال الأحنف بن قيس: قال لي أبو ذر خذ العطاء ما كان متعة فإذا كان دینا فارفضه(3). وهنا تجلت أروع سمات القناعة في مقدار ما يأتيه من الأموال.
ورفض أبو ذر الغفاري أن يكون طعامه كثيراً وعطاؤه كبيراً لكي لا يقف بين يدي الله
ص: 163
طويلًا، لذا كان حريصاً على تطبيق ما سمعه وتعلمه من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ومما ذكر في ذلك رواية ذكرها ابن عساكر الدمشقي في كتابه عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من أهل الشام (أنه دخل على أبي ذر وهو يوقد تحت قدر له من حطب قد أصابه مطر، ودموعه تسيل، فقالت له امرأته: لقد كان لك عن هذا مندوحة، فلو شئت لكفیت، فقال:
فأنا أبو ذر، وهذا عيشي فإن رضيت، وإلا فتحت كنف الله، قال: فكأنما ألقمها حجراً حتى إذا أنضج ما في قدره جاء بصحفة فكسر فيها خبز له غليظاً، ثم جاء بالذي كان في القدر فکدره عليه، ثم جاء به إلى امرأته، فقال لي ادن فأكلنا جميعاً ثم أمر جاريته أن تسقينا فسقتنا مذقة من لبن معزاة فقلت:
يا أبا ذر لو اتخذت في بيتك عيشاً، فقال:
عباد الله أتريد لي من الحساب أكثر من هذا العيش، هذا مثال نرقد عليه، وعباءة نبسطها، وكساء نلبسه، وبرمة نطبخ فيها، وصحفة نأكل فيها، وربطة فيها زيت، وغرارة فيها دقيق، أتريد لي من الحساب أكثر من هذا، قلت:
فإن عطاءك أربع مائة دينار، وأنت في شرف من العطاء فأين يذهب عطاؤك، فقال لي:
أما إني لن أعمي عليك لي في هذه القرية، - وأشار إلى قرية بالشام - ثلاثون فرساً فإذا خرج عطائي اشتريت لهم علفاً وأرزاقاً لمن يقوم عليها، ونفقة الأهلي فإن بقي منها شيء اشتريت بها فلوسا فجعلته عند نبطي ها هنا، فإن احتاج أهلي إلى لحم أخذوا منه وإن احتاجوا إلى شيء أخذوا منه ثم أحمل عليها في سبيل الله ليس عند آل أبي ذر دینار
ص: 164
ولا درهم)(1).
في ورفض النفقة عليه بسبب ما يملكه من بعض الحاجات الضرورية له في الحياة، وما ذكر في ذلك رواية عن سفيان بن عمار بن معاوية الدهني عن أبي شعبة قال: "مرّ قوم بأبي ذر بالربذة فعرضوا عليه النفقة، فقال: أبو ذر عندنا أعنز نحلبها، وأحمرة ننتقل عليها، ومحررة تخدمنا، وفضل عباءة إني لأخاف الحساب فيها"(2).
روي أن الصحابي أبا ذر الغفاري كان مطيعاً لعثمان، فذكر الذهبي رواية عن عبد الله بن سیدان، عن أبي ذر قال:
(لو أمرتني أن أحبو لحبوت ما استطعت)(3).
وهنا تمثيل رائع لوصف حالة الطاعة الموجودة في نفس أبي ذر الغفاري لعثمان أنه إذا طلب منه المساعدة في أمور الحياة أعانه، وهو ما لم يحصل بسبب أن أغلب أعوان عثمان من أقربائه، الذين كانوا لا يحبون أبا ذر الغفاري كونه من الموالين لأهل بیت النبوة؛ وكذلك غير مخلصين للدين الحنيف، وإلا ماذا يسمى موقفهم تجاه عثمان وسياسته المالية وتمایزها بين الرعية.
تتجلى أعظم هيبة للسلطان الحاكم في نظر أبي ذر الغفاري حينما وصف حال من يريد ذلة السلطان بأنه لا توبه له، لذا كان ينظر إليه بعين الاحترام والوقار، كونه يمثل
ص: 165
نواة الدين الإسلامي، لذا لابد له من احترامه، وأمام الجميع، وبيان الهيبة له، لأنه يمثلهم، لذا ذكر ابن عساکر رواية عن يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب حدثني رجل من أصحاب الأجر عن شيخين هم من بني ثعلبة رجل وامرأته قالا:
(نزلنا الربذة فمرّ بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية فقالوا هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فاستأذناه أن نغسل رأسه فأذن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق حسبته قال من أهل الكوفة فقالوا يا أبا ذر فعل، بك هذا الرجل وفعل فهل أنت ناصب له راية فنكلمك برجال ما شئت؟ فقال: يا أهل الإسلام لا تعرضوا علي ذاكم ولا تذلوا السلطان فإنه من أذلَّ السلطان فلا توبة له، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، وأطول جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت ورأيت أن ذلك خير لي ولو سيّرني ما بين الأفق إلى الأفق أو قال ما بين المشرق والمغرب لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت ورأيت أن ذلك خير لي ولو ردني إلى منزلي لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت ورأيت أن ذلك خير لي)(1).
وفضلاً عمّا ذكرناه أعلاه بيّنا حال أبي ذر الغفاري كواحد من الرعية تحت حكم عثمان، وما ينبغي له من إبداء الطاعة والولاء لله جل جلاله، في كل أمور الواجبات والحقوق الشرعية منه تجاهه، وفي الوقت نفسه بيَّن أن طاعة السلطان إن كان مقيماً حكمه لله عز وجل هي طاعة الله، وأذلالها في أمر كهذا هو إذلال للدين ومعصية للخالق، زيادة على طاعته حتى لو صلبه، وهنا تجلى الولاء الكامل والمطلق لأبي ذر تجاه عثمان.
ص: 166
كان أبو ذر الغفاري كثير النصح للأمراء والولاة الذين لا يعملون بما أوجب الله ورسوله، وحينما يجد تفاوتا في العمل ما بين الدستور الإسلامي وبين رأيهم الشخصي، لم يكن يبقى صامتاً بل يتكلم في ذلك، ومما روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين، قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له
(أنت الذي فعلت وفعلت، فقال أبو ذر:
نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني، قال عثمان:
كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت الشام علينا، فقال له أبو ذر:
اتبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام، فقال عثمان:
مالك وذلك لا أم لك، قال أبو ذر:
والله ما وجدت لي عذراً إلا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فغضب عثمان، وقال:
أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذاب، أما أن أضربه، أو أحبسه، أو أقتله. فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلم علي علیه السلام فقال:
«أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون: فإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب».
فأجابه عثمان بجواب غليظ، وأجابه علي علیه السلام يمثله)(1).
ص: 167
والنص فيه أمور منها:
أولاً: إن أبا ذر عاتب عثمان بأنه لم يأخذ بنصيحته، وإنه كان مرشداً لسيرته تجاه الرعية، وفي الوقت نفسه كان ناصحاً لعامله على الشام بنفس الحرص، لكن إجابته له كانت بأنه كذاب وخائن كونه أخرج رعيتهما في الشام عليهما.
ثانياً: إن سيرته لم تكن مثل سيرة صاحبيه اللذين سبقوا في الإسلام كونه كان بعيداً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً: وصف أبي ذر بأنه الشيخ الكذاب، وهو عکس وصفه الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم به:
«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر»(1).
رابعاً: هو وجود النية المسبقة عند عثمان في فعل ثلاثة احتمالات هي إما أن يضربه أمام الملأ، وهو بهذا الأمر ينقص من هيبته عند المسلمين مثلما يتصور عثمان، أو يحبسه لكي يتخلص من صوته الحق في مكان ضيق لا يسمعه أحد، أو قتله، وهنا الخطوة الأكثر خطورة على مصلحة عثمان السياسية لمنزلته عند بني هاشم، لذلك طلب من الصحابة الاستشارة.
خامساً: دخوله على عثمان لم يكن دخولاً حراً، ربما لأنه كان تحت أمر المتابعة والاتهام، ربما كان دخول غيره أيسر من دخوله.
سادساً: إن الإمام علياً علیه السلام ما زاد على أن قدم نصيحة لعثمان بأن لا يستعجل في حكمه على أبي ذر بالكذب. وأرشده إلى الاقتداء بالعبد الصالح، بأن يقول:
ص: 168
«وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»(1).
الاستشهاد بالآية الكريمة التي تذكر مؤمن آل فرعون لم يتضمن أي شيء يوجب هذه الجرأة من عثمان على الإمام علي علیه السلام، وهتك حرمته بقوله: (بفيك التراب) لأن هذه الآية معناها إن كان كاذباً فكذبه سيعود عليه بالضرر، لأنه يُظهر أنه ظالم، لا يتورع عن التجني على الأبرياء، وذلك يسقطه عن منازل الكرامة والشهامة، ويعرضه لعذاب الله الأليم، ويورده الجحيم. وإن كان صادقاً، فعليهم أن يصلحوا ما أفسدوا، وأن يقوِّموا، وأن يسددوا، حتى لا يصيبهم بعض الذي يعدهم به. كما أن أحد الفريقين مسرف على نفسه كاذب، فيحتمل أن يكون ذلك القائل هو المسرف الكاذب، ويحتمل أن يكونوا هم المبتلين بالإسراف وبالكذب.
عرف عن أبي ذر الغفاري بأنه كان الناصح دائماً للخليفة، ومما ذكر في حرق المصاحف هو رواية ذكرها الثقفي في تاريخه: (أن أبا ذر رأى أن عثمان قد أمر بتحريق المصاحف، فقال له:
یا عثمان لا تكن أول من حرق كتاب الله فيكون دمك أول دم يهراق)(2).
وربما المقصود بالمصاحف هي الصحف التي كانت تكتب من قبل بعض الصحابة.
كان الصحابي أبو ذر الغفاري من المتابعين جداً للسياسة المالية في عهد عثمان بالذات
ص: 169
دون غيره من الخلفاء، وقد تكون أخطاؤه في السياسة المالية هي سبب المتابعة التي ولّدت فيما بعد مناظرات وصراعات ما بينهما، فهناك رواية عن عبد الله بن سیدان(1)، قال: (تناجی عثمان وأبو ذر حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذر مبتسماً، وقال: سامع مطيع، ولو أمرني أن آتي عدن..)(2).
لم يوضح الذهبي في النص سبب المناجاة ما بين الصحابي أبي ذر الغفاري وعثمان، لكن الذي يبدو أنها مناجاة ثنائية ما بين الفقراء والاغنياء، ما بين من يأكل صاعاً من تمر(3)، وبين من يأكل ما تشتهيه النفوس.
فالمناجاة هنا ليست من أجل مصلحة الصحابي أبي ذر الغفاري، لا بل من أجل مصلحة المسلمين جميعهم، حفاظاً على المصلحة العامة للإسلام، وهو ما كان يريد أبو ذر إيصاله في ضوء ما رسمه له رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لا أن يحكم عليه عثمان بأنه من خوارج الفتنة بسبب مناداته بالعدل بين الرعية، ففما يروى عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت قال: (قال أبو ذر لعثمان: يا أمير المؤمنين افتح الباب لا تحسبني من قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يعني الخوارج)(4).
لم تكن علاقة الصحابي أبي ذر الغفاري بعثمان علاقة طيبة، ربما بسبب اختلاف
ص: 170
وجهات النظر بينهما إلى مفهوم الدين الحنيف، لذا كثرت بينهما الخلافات، ومما ذكر عن ابن عباس، قال: (استأذن أبو ذر على عثمان، فأبى أن يأذن له. فقال لي:
استأذن لي عليه، قال ابن عباس، فرجعت إلى عثمان فاستأذنت له عليه، قال:
إنه يؤذيني، قلت:
عسى أن لا يفعل. فأذن له من أجلي، فلما دخل عليه قال له:
إتق الله يا عثمان.
فجعل يقول: إتق الله. وعثمان يتوعده، قال أبو ذر:
إنه قد حدثني نبي الله صلی الله علیه و آله وسلم: أنه يجاء بك وبأصحابك يوم القيامة فتبطحون على وجوهكم، فتمر عليكم البهائم فتطأكم، كلما مرت آخرها ردت أولها، حتى يفصل بين الناس)(1).
الملاحظ على النص جملة أمور منها:
أولا: إن عثمان لا يأذن لأبي ذر بالدخول عليه، بحجة أنه يؤذيه، لكن نصوص التاريخ تؤكد إنه كان يسدي إليه النصائح والإرشاد، ويذّكره بما سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ويطلب منه إصلاح الأمور، وكف عماله عن ظلم الناس، فإذا كان عثمان يتأذى بذلك فهذا يدلل إنه كان يكره الحق، وهو بذلك أنكر واحدة من أشهر صفات الحاكم العادل عند الله.
ص: 171
ثانياً: في عدم إيذان عثمان بي ذر في الدخول عليه اختلاف في وجهة النظر والموقف مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لأنه كان يتفقده دائماً في مجلسه لاسيما إذا غاب، إذ كان أبو ذر ذا منزلةٍ رفيعةٍ عند الله ورسوله، كيف يكون حاله هكذا، وكذلك كانت منزلته لدى الناس عامة، بصدقه وعلمه، وتقواه وزهده. فإنه مُنع أمثاله من الدخول على عثمان، لمجرد أنه ينطق بكلمة الحق.
يبدو أنّ سياسة النفي التي اتبعها عثمان مع أبي ذر الغفاري بسبب إرشاد الأخير له، لم تكن الأولى وليست الأخيرة، فقد ذكر إنه لما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال: رحم الله أبا ذر، قال عمار: نعم، رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان، وبلغ عثمان عن عمار کلام، فأراد أن يسيره أيضاً، فاجتمعت بنو مخزوم إلى الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، وسألوه إعانتهم، فقال الإمام علي علیه السلام:
«لا ندع عثمان ورأيه»(1).
فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فأمسك عنه.
وكذلك ذكر اليعقوبي، إنّ عثمان سيّر عبد الرحمن بن حنبل(2)، صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى القموس من خيبر، وكان سبب تسييره إياه أنه بلغه کرهه مساوئ ابنه
ص: 172
وخاله، وأنه هجاه(1).
ثالثاً: إصرار أبي ذر على الدخول على عثمان، وتوسيطه ابن عباس لأجل هدف كان في ذهنه، ألا وهو تذكيره بالله إن كان عرش السلطة أغواه. ثم لما أذن له، ودخل عليه لم يزد على أن صار يأمره بتقوى الله تعالى. وكان جواب عثمان على أمر أبي ذر له بتقوى الله هو التهديد والوعيد، والاعتزاز بالشوكة والسلطان، فأين هذا الجواب من ذاك الخطاب؟!
ذكر ابن أبي الحديد عن أهل السير على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أنّ عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زید بن ثابت مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول: (بشر الكانزین بعذاب أليم، ويتلو قول الله تعالی:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(2).
فرفع ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر نائلاً (مولاه): أن انته عما يبلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله، فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضاه. فأغضب عثمان
ص: 173
ذلك، وأحفظه فتصابر)(1).
بيّن النص أنّ عطاء عثمان لم يكن على معيارٍ ثابتٍ ومعينٍ، مع من أتصف قرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، أو سبقه في الإسلام، أو منزلته عند الله ورسوله، بل كان يقسمها وفق قرابتهم له، وما جاء في أحد كتب التاريخ (كان عثمان جواداً وصولاً بالأموال، وقدّم أقاربه وذوي أرحامه، فسوّى بين الناس في الأعطية، وكان الغالب عليه مروان بن الحكم بن أبي العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعلى شرطه عبد الله بن قنفذ التيمي، وحاجبه حمران بن أبان مولاه)(2).
والنص يوضح أن الغالب عليه هو مروان بن الحكم، وغيره من بني أمية، لذلك نقم الناس عليه بعد ولايته بست سنين، وتكلم فيه من تكلم، وقالوا: (أثر القرباء، وحمی الحمى، وبني الدار، واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين)(3)، وقد يكون هذا العمل الذي قام به عثمان غير مدروس من قبله، أو أنه رسم وخطط السياسة المالية وفق أهواء مستشاريه من أقاربه بني أمية.
إنّ قول أبي ذر بين الناس في الطرقات والشوارع (بشر الكافرين بعذاب أليم) يدل على أنه كان يكفّر من يتصرف ببيت مال المسلمين على هذا النحو، ومع علمنا البسيط في التاريخ إن هذا الأمر لم يكن ه محصوراً بأبي ذر، فقد كانت عائشة أم المؤمنين تكفّر عثمان، ومن مقولاتها المشهورة:
ص: 174
(اقتلوا نعثلاً فقد كفر)(1).
ولا ينحصر سبب الكفر بإنكار الألوهية أو النبوة، واتخاذ دين آخر غير الدين الإسلامي. بل قد يحصل الكفر بالاستهزاء بأحكام الله.
إنّ المناداة في الطرقات والشوارع، وعدم وجود معترض من الرعية عليه في ذلك، يدل على أنّ أذهانهم تقبلت الأمر بالنسبة للمتسلطين والحاكمين، أو هي مستعدة لقبوله، وهو يشير أيضاً إلى تناقص التأييد لعثمان بدرجة كبيرة وخطيرة، ولذلك لم يجترئ هو، ولا حزبه على مواجهة أبي ذر في البداية، ولذلك رفع أمر أبي ذر إلى عثمان مراراً، وهو ساکت.
ومما دلَّ عليه النص ذهاب أعاظم الصحابة إلى تكفير عثمان. علماً بأنّ هؤلاء الكبار لم يكونوا من فريق واحد، بل هم من جميع الفئات، فضلاً عن أنّ من بينهم أعاظم الذين كانوا من مؤيديه، والساعين إلى تكريس الأمر له، وفيهم أيضاً أبرار الصحابة وخيارهم وعلماؤهم، من أمثال أبي ذر، وعمار، و ابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، بل فيهم الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام كما ورد في بعض الأحاديث عنه.
إنّ ذهابهم إلى ذلك يدل على أنّ أمر عثمان لم يكن بالإمكان التغاضي عنه، والمرور عليه بلا اكتراث.
إنّ أبا ذر لم يصرح باسم عثمان، بل اتبع طريقة تجعل التدخل لإسكاته غير مبرر ولا مقبول. فهو إنما يقرأ القرآن، وهو يتحدث عن قواعد عامة تتضمن إدانات لمن يترك أمر الله تعالى، وليس هو مسؤولاً عن تطبيقات الناس، ولا عن توهماتهم، أصاب الناس في ذلك
ص: 175
أم أخطأوا، وليس لعثمان أن يسخط، أو أن يمنع من إدانة أهل الكفر والباطل.
مما جاء في كتب التاريخ إنّ أبا ذر الغفاري، بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بقي في المدينة، ولم يهاجرها في حياة أبي بكر، على الرغم من كونه لم يبايعه، ومال إلى جهة الإمام علي علیه السلام(1)، لكنه بعد وفاة أبي بكر هاجر إلى الشام ، فلم يزل بها حتى، ولي عثمان فاستقدمه لشكوى معاوية منه(2)، قيل اختلف هو ومعاوية في قوله تعالی:
«الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ»(3).
فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. وقال أبو ذر: نزلت فينا وفيهم. فدار بينهما کلام، فكتب معاوية إلى عثمان يشكوه، فكتب إليه أن أقدم(4).
يتبين إنّ أبا ذر الغفاري كان يدور في طرقات الشام ليعظَ الناس ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ورسوله، دون الانجراف خلف من لم يتمسك بطاعة الله، لذلك كان يروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ما سمعه منه في فضائل أهل بيته ومنزلتهم علیهم السلام ويحضهم على التمسك بعترته. وطبيعي أنّ هذا الأمر لا يتوافق مع ما رسمه معاوية لأهل الشام، لذلك بدأ معاوية يراقب تحركاته في ضوء عيونه الموجودة في شوارع الولاية في الشام، وفي الوقت نفسه كان أبو ذر يبحث عما هو جديد في سياسة معاوية المالية والاجتماعية،
ص: 176
وحينما بني معاوية الخضراء بدمشق، قال أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف(1).
وحينما رأى أبو ذر قصر معاوية الجديد وقف ذاهلاً عن كل شيء إلا عن أمر الله وطاعته، فاستأنف سيرته الأولى وقال: هذه هي الخيانة أو الإسراف، فقال له معاوية: ما الذي أغضبك علينا يا أبا ذر؟ قال إنك أغنيت الأغنياء، وأفقرت الفقراء. فحاول معاوية أن يشتري أبا ذر بالمال كما حاول عثمان من قبل.. ولكن ما لأبي ذر بد من طاعة الله تعالى، والعمل بوصية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فاستمر في ثورته، وشعارها العودة إلى سيرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وسنّته، وتعاليم القرآن ومبادئه، فاهتزت الأرض من تحت معاوية، وكادت الثورة تأتي أكلها، وتعمل السيوف في معاوية عملها قبل أن تصل إلى عثمان لولا أنّ معاوية أسرع وعمل على إرجاع أبي ذر إلى عثمان(2).
الأمر الأهم أنّ معاوية كان يشيع في الناس مفاهیم مزورة يؤسس عليها سياساته الظالمة، ويكون لها وظيفة ضبط حركة الناس، والتحكم بردة فعلهم تجاه تلك السياسات. فكان يجعل فعله فعل الله عز وجل، وكأنه يتلقى الأمر منه، لذا يدعي للناس أنه خازن، فمن أعطاه فالله يعطيه، ولكنه لم يبين للرعية كيف حصل على معرفة مراد الله في العطاء، أو المنع، هل بنحو الإلهام أو إلقاء الشيطان؟ وكيف میز الإلهام الإلهي عن الإلقاء الشيطاني، وإنّ ما سمعه من أخبار جبرئيل له عن الله، أو من تصورات بعض شياطين الجن؟ ونحن نعلم أنّ جبرئيل علیه السلام قد انقطع عن الإتيان بالوحي الإلهي منذ ارتحل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
ص: 177
إلا إن كان معاوية يدّعي الرسالة مجدداً، أو يدعي مرتبة من الربوبية للناس. ومن حيث جعل فعله هو نفس فعل الله سبحانه، حيث قال: (فمن أعطيته فالله يعطيه، ومن حرمته فالله يحرمه)، وبذلك يتحقق مصداق قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن معاوية:
«بأنه فرعون هذه الأمة».
فإن فرعون قد سبقه إلى ادعاء الربوبية.
في الشام أدرك أبو ذر الغفاري أنّ الأمر الاقتصادي فيها أخطر مما هو عليه في المدينة، فلم تكن بساطة الحياة هي الأمر السائد كما هو حال المدينة، ولم تكن القاعدة هي الجماعية والمساواة، والشذوذ هو الاستئثار والتفاوت في الثروات كما هو الحال في العاصمة.. وإنما كان العكس هو السائد في الشام، إذ كانت هذه الولاية قد تحولت إلى صورة عربية إسلامية لما كان عليه نظام الحكم، أبهة، وفخامة، مثلما كانت أيام قيصرية الرومان البيزنطيين.
ولقد أتاح عهد عثمان لمعاوية في الشام أن يستكمل كل أبهة الملك، وأن يبلغ بالأمر كل المدى الذي أراده. ووجد أبو ذر أنّ القضايا التي كانت لا تزال محل جدل في المدينة قد حُسمت في الشام، فقد كان معاوية يتصرف في مال الامارة بحرية مطلقة، ويسميه مال الله. وكانت قد نبتت بذور ترى في الخليفة ومن ثم في نوابه ظلاً لله في الأرض، ومن ثم فإنهم أحرار في تصرفاتهم، لا رقابة عليهم من البشر ولا قيود.
فاعترض أبو ذر على معاوية، وطلب إليه أن يتصرف كأميرقد وكلت إليه رعاية
ص: 178
أموال المسلمين فهي لهم، وهم أصحاب الأمر والنهي فيها، وكان يعنف معاوية، ويقول له:
(یا معاوية، لقد أغنيت الغني وأفقرت الفقير)(1).
تصدى أبو ذر لمعاوية في هذا الأمر بالذات، وبيّن للناس كذبه فيما يدعيه، فقال: كذبت والله يا معاوية. ثم قدّم الدليل العملي القاطع على ذلك، حين قال: إنك لتعطي من حرم الله، وتمنع من أعطى الله. أي أنّ الله سبحانه قد جعل - مثلاً لليتامی والمساكين، وأبناء السبيل، والعاملين عليها حقاً في المال، ولكن معاوية، يحرمهم من هذا الحق. كما أنّ الله تعالى قد منع من إعطاء الأغنياء أموالاً جعلها سبحانه للفقراء، ولكن معاوية يعطيهم إياها، ويخالف بذلك ما أمر الله به.
كان أبو ذر يحدث الأغنياء من الناس عن أنّ جمعهم للمال، وحجبه عن مصارفه، إنّما هو كنز و احتكار، وإذا كان القرآن الكريم قد وعد الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم، فلقد أخذ أبو ذر يخطب في مجتمعات الشام ويقول:
(يا معشر الأغنياء: واسوا الفقراء. بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم واستمر في دعايته وإثارته هذه للفقراء ضد الأغنياء، حتى تبلورت حركة جماهيرية عمادها الفقراء، ثم استمر الأمر في التصاعد حتى أخذ هؤلاء الفقراء بزعامة أبي ذر ينفذون أفكارهم وآراءهم بأيديهم، ويضعون تعاليم أبي ذر في التطبيق والممارسة رغماً عن سلطة
ص: 179
الدولة، وجهاز حکم معاوية بن أبي سفيان).
وذكر بعض المؤرخين قوله: (ما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس)(1).
وسلك معاوية مع أبي ذر سبيل التهديد، وقال له: (يا أبا ذر خير لك أن تنتهي عما أنت فيه)(2)، ولكن الرجل لم يعبأ بهذا التهديد وقال لمعاوية: (والله لا أنتهي حتى توزع الأموال على الناس كافة). وعند ذلك لجأ معاوية إلى حيلة أخرى أراد بها أن يفسد ما بين أبي ذر وبين أنصاره وحزبه من الفقراء، وذلك في محاولة لإيهامهم أن الرجل ممن يتلقى منه الهدايا والصلات، فبعث في جنح الظلام أحد رسله يحمل ألف دینار لأبي ذر.
وفي الصباح، بعث إليه ثانية الرسول نفسه يخبره أنّ العطاء لم يكن له، وأنه قد أخطأ الطريق إليه، ويقول له: (يا أبا ذر أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك، وإني أخطأت بك، ففعل ذلك)(3). ولكنّ أبا ذر كان قد أنفق الدنانير الألف على الفقراء قبل أن يطلع عليها عنده الصباح، فطلب من رسول معاوية التأخير ثلاثة أيام حتى يجمعها له ممن أخذوها من الفقراء. وعندما عاد الرسول إلى معاوية بالقصة، أدرك أن الرجل عصي على أن تنال منه هذه الأساليب، وذلك لأن (فعله يصدق قوله)(4) في قضايا الأموال والثروات.
ص: 180
وعند ذلك قرر ضرورة إخراجه من الشام، فكتب إلى عثمان يصور له حال أبي ذر مع الفقراء، وكيف أصبحت الشام في حالة ثورة حقيقية، فقال: (إنّ أبا ذر قد ضيق علي. وقد كان كذا وكذا، للذي يقوله الفقراء.. تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك. فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك)(1).
استجاب عثمان لرجاء معاوية مخافة الثورة (الفتنة) في الشام، ووافق على عودة أبي در ثانية إلى المدينة وهو الذي طلب منه الخروج منها، وكتب إلى معاوية يطلب معالجة الأمر برفق، فالثورة التي أشعلها أبو ذر على وشك الاندلاع، فقال: (إن الفتنة قد أخرجت خطمها (أنفها) وعينيها، ولم يبق إلا أن تثب، فلا تنكأ القرح، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت)(2). وطلب عثمان من معاوية أن يجهز أبا ذر، وأن يبعثه إلى المدينة بصحبة (مرافق).
واتخذ معاوية من أمر عثمان سبيلاً للانتقام من أبي ذر، فاركبه بعيراً ضامراً على ظهره فراش يابس يدمي فخذي الراكب (قتب یابس) وأوصی به خمسة من الجنود الصقالبة ذوي المهارة في العدو، ومسابقة الريح "يطيرون به، حتى أتوا المدينة وقد تسلخت(3) بواطن أفخاذه، وكاد أن يتلف".
وأراد معاوية أن يسيء إلى سمعة الرجل ونزاهته، فاخرج أهله ليلحقوا به، وفي متاعهم جراب ثقيل يشدّ يد حامله، وجمع الناس ليروا أهل أبي ذر، حتى يوهمهم أنّ في متاع الرجل أموالاً يحملها ذووه، وقال للحضور: (انظروا إلى هذا الذي يزهد في
ص: 181
الدنيا ما عنده)(1) ولكن امرأة أبي ذر خاطبت الناس قائلة: إنّ ما نحمل ليس دراهم ولا دنانير، ولكنها «اموال» كان أبو ذر يعطيها لبيته من عطائه الذي يناله من بيت مال المسلمين.
وعندما لقي الناس أبا ذر بالمدينة، وهو على حافة الموت من رحلته القاسية هذه، قال له بعضهم (لا إنك تموت من ذلك)، ولكن الرجل أنكر عليهم هذه النبوءة بالنهاية القريبة، وقال لهم إن طريق الجهاد لا يزال طويلاً أمامه: (هيهات. لن أموت حتى أنفی)(2) ثم ذكر لهم أنّ أمامه من المتاعب أكثر من ذلك الذي وقع به حتى الآن.
كان أبو ذر الغفاري يأتي مكان عامل الشام معاوية كل يوم، ويتكلم بما يرضي الله ورسوله للتذكير بأن سياسته لم تكن بموجب الدستور الإسلامي (القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك حاول جاهداً تذکیرهم أولاً، من أجل جلب انتباه الرعية بأن واليهم عاملهم بسياسة خارجة عن كتاب الله وسنة نبيه ثانياً، ولمنع تكرار الظلم والجور، لذلك كان أبو ذر يقول: (والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقاً يطفأ وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذَّباً، وأثرة بغير تقی، وصالحاً مستأثراً عليه، فقال حبیب بن مسلمة الفهري لمعاوية إنّ أبا ذر لفسد عليكم الشام، فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه)(3).
ص: 182
ولتأكيد دور أبي ذر في الشام نذكر رواية عن جلام بن جندل الغفاري، قال: كنت غلاماً لمعاوية على قنسرين والعواصم، في خلافة عثمان، فجئت إليه يوماً أسأله عن حال عملي، إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار اللهم العن الآمرين بالمعروف، التاركين له. اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبار معاوية وتغير لونه، وقال: يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهم، لا. قال: من عذيري من جندب بن جنادة، يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت، ثم قال: أدخلوه علي، فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه، حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدو الله وعدو رسوله تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني أستأذن فيك.
قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجل من قومي، فالتفت إليه، ...، فأقبل على معاوية وقال: ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتها الإسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ودعا عليك مرات ألا تشبع. سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، يقول:
«إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم، الذي يأكل ولا يشبع، فلتأخذ الأمة حذرها منه».
فقال معاوية: ما أنا ذاك.
قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل"، أخبرني بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وسمعته يقول، وقد مررت به:
« اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب».
وسمعته صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
ص: 183
«إست معاوية في النار».
فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه(1).
والنص يوضح أموراً منها:
أولاً: إنّ الرواية من جلام غلام معاوية على الرغم من انتمائه لقبيلة غفار، ولم يعلم الصوت لمن إلا بعد أن أعلمه معاوية، ثم أن صوته لا يزال يتكرر يومياً، باعتراف الراوي دلالة على متابعةٍ لشؤون الفقراء في الشام، ثم يذكر لهم بلغة اللعن للكانز الذهب والفضة والناهي عن المعروف، وهي صفات قد تكون في شخصية معاوية وهو والي الشام.
ثانياً: هي شجاعة أبي ذر في مواجهة عامل الشام لعثمان ألا وهو معاوية وبيان أنه وأبوه هم أعداء الله ورسول الإسلام، وليس هو مثلما يدّعي، وتذكيره بأنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد لعنه، وتنبأ به، وأعطى علامات حكمه بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.
ثالثاً: كان لابد لمعاوية من سجنه رغم ضحکه مما سمعه، لأنه يدرك أن كلامه صحيح، ودقيق، وتقويم صادق لشخصيته، وخوفاً من رعیته في الشام من سماعه ذلك أو التعرف عليه بالشكل المباشر أمر بحبسه تجنباً للفوضى والاضطراب الذي قد يحدث بسببه.
ما ذكر الواقدي في تاريخه، عن سعيد بن عطاء، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه،
ص: 184
عن جده، قال: لما صد الناس عن الحج في سنة ثلاثين أظهر أبو ذر بالشام عيب عثمان، فجعل كلما دخل المسجد أو خرج شتم عثمان، وذكر منه خصالاً كلها قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عثمان(1).
السؤال هنا لماذا لم يمنع معاوية أبا ذر عن شتم عثمان؛ وفضّل أن يُرسل إلى عثمان ويعلمه بخبر أبي ذر؟
في ضوء ما وجد من نصوص تاريخية تؤكد مظلومية أبي ذر الكبيرة من قبل عثمان دون غيره من الخلفاء، لذلك كان أبو ذر الغفاري أيضاً كثير القدح به، ليس في الشام فحسب مثلما بيّنا أعلاه بل حتى في المدينة وأمام عينه أيضاً، ومما ذكره ابن أبي الحديد عن الواقدي، قال: "...، ثم أتی به (أبو ذر) فوقف بين يديه، فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان، أما رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ورأيت أبا بكر وعمر، هل هديك كهديهم، أما إنك لتبطش بي بطش جبار. فقال عثمان: أخرج عنا من بلادنا، فقال أبو ذر، ما أبغض إلي جوارك"(2).
کتب معاوية إلى عثمان: (إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان لك في القوم حاجة، فاحمله إليك)(3).
حين شعر معاوية بالخطر عليه من سياسة أبي ذر الغفاري التي بدأت تستهوي قلوب
ص: 185
بعض الرجال في الشام، شکاه إلى عثمان، دون أن يتخذ الاجراء ضده، وربما كان في نفس معاوية أمران، أولهما: للتخلص منه في الشام وبذلك يستطيع السيطرة عليها دون إرباك اجتماعي، وسياسي، وديني، تخلقه سياسة أبي ذر، وثانيهما، أدراك معاوية أن عثمان لا يتقبل سياسة أبي ذر الغفاري السائدة في الشام ولا في غيرها من الأمصار الإسلامية، لأنها تؤدي بالجميع إلى المشاكل التي ربما تزيد البلاء عليهم، لذلك كتب إليه، فكانت النتيجة مثلما خطط لها معاوية.
فكتب إليه عثمان: (أما بعد.. فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر أبي ذر، جندب بن جنادة، فإذا ورد عليك كتابي هذا فابعث به إليَّ، واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها، وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار، حتى يغلبه النوم، فينسيه ذكري وذكرك).
النص فيه عدد من الأمور منها: تخوف السلطة الحاكمة الموجودة في الشام أو المدينة آنذاك من لسان صدق أبي ذر الغفاري كونه ينطق ويطبق ما رسم في الدستور الإسلامي، زيادة على كونه فقيهاً يعلم ويدرك الأمور الفقهية وليس بحاجة للسؤال عنها، فضلا عن شجاعته فانه كان لا يتخوف من بيان الباطل وصاحبة لذلك قيل إنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، فضلاً عن أن رسالة عثمان فيها توجيه الدليل أن لا يتوقف في المسير لكي لا يتكلم عنهما في الطريق، ويتعب من استمرارية السير الطويل، وهو لا يتوافق مع منهج السنة النبوية الشريفة الراشدة إلى تغيير المنكر واصلاحه وهو ما ابتغاه أبو ذر الغفاري، فعن أبي سعيد الخدري، قال: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول من رأى منكم منكرا فإن استطاع أن يغيره بيده فليفعل وقال مرة فليغيره بيده فإن لم يستطع بيده
ص: 186
فبلسانه فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(1).
هناك نوايا ومكيدة من عثمان ضد أبي ذر، لاسيما بعد وصول کتاب معاوية له، والاطلاع عليه فقد أدرك خطره، فكتب عثمان إلى معاوية:
(أن احمل جندباً إليّ على أغلظ مرکب وأوعره. فوجّه به مع من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب، حتى قدم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد. فلما قدم بعث إليه عثمان: الحق بأي أرض شئت؟
قال بمكة؟
قال: لا.
قال: بیت المقدس؟
قال: لا.
قال: بأحد المصرين؟
قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة، فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات)(2).
السؤال هنا لماذا مانع عثمان اختيار أبي ذر لهذه الامصار الإسلامية القريبة من أرض الحجاز، هل تجنب ما سوف ينادي به في الأمصار عن سياسة عثمان واأعوانه، أو أراد
ص: 187
أن ينفيه إلى أرض فقيرة، وبعيدة لا يصل منها للأمصار الإسلامية ما يأتي به أبو ذر من أفكار وفلسفات إسلامية كان قد سمعها وتعلمها من رسوله الكريم.
للإجابة عن السؤال يجدر بنا الرجوع إلى النص:
أولاً: بيان السبب الحقيقي وراء نفيه من الشام مقر الوالي الأموي معاوية إلى المدينة، فأبو ذر كان يوضح للرعية أن سياسية معاوية هذه فيكم لم تكن بموجب الدستور الإسلامي القرآن الكريم، وكذلك هي ليست بسنّة الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم كونها خارجة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك حينما وجد أن الوالي يعمل خارج معايير الدين الحنيف، كان لا بد له من تغييره، بيده، أو قلبه، أو لسانه وهو أضعف الإيمان وهو ما فعله أبو ذر الغفاري حينما أخذ يتكلم بكلام الفقهاء لمنع العمل القبيح والرجوع للعمل المعروف.
ثانياً: وهو المهم في كلامه مع معاوية حينما دخل عليه، بيّن أبو ذر ما سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بحقه قبل توليته للشام، وكيف وصفه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم (بواسع البلعوم) دلالة على إنه صلی الله علیه و آله وسلم كان يتكلم عن الغيبيات التي سوف تحدث بعد وفاته، لأنه لا يتكلم عن فراغ بل هو يتكلم عن وحي يوحى، علمه شديد القوى بدلالة قوله تعالی:
«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(1).
وربما هذا الكلام هو الذي أثار معاوية ضده.
ثالثاً: وهو الأهم في النص، إن ضحك معاوية لما جاء به أبو ذر دلالة على استهانته
ص: 188
بما طرحه أبو ذر من جهة، وربما أعطى لمعاوية رسالة بشدة خطره عليه إن بقي حاله على ما هو عليه، وهو ما عبر عنه معاوية بالابتسامة التي تخفي خلفها نوايا غير حسنة، لذلك أمر بحبسه لكي يكون داخل غرفة صغيرة لكي لا يستمر في نشر أفكاره في الشام ومنع استمراره في نشر صوته في الولاية، ولكي يطمئن أكثر بعث إلى عثمان بتفاصيل ما جرى بينما من نزاع داخل البلاط الملكي.
رابعاً: أمر بأن يخرجوه، ويركبوه قتب ناقة بغير وطاء، وأن ينفى إلى حيث لا أنيس له، وأن تنخس الناقة التي يركبها، وأن لا يشیعه أحد.
إنّ سياسة الصحابي أبي ذر الغفاري واحدة سواء كانت في بلاد الشام أم في المدينة، كلاً حسب الظرف الذي تعيشه الرعية، وحينما وجد أبو ذر تفاوتاً بين الناس؛ اقتصادياً، واجتماعياً، وقف وقفة الحق ضد الباطل، بينما حاول عثمان أن يخفف عنه، فاستضافه في داره عدة أيام، وأحسن إليه فيها.
وكان بعمله هذا يرجو ويأمل منه أن يبدأ بداية جديدة وفق أهواءه، وليس وفق ما سمعه وتعلمه من كتاب الله وسنة رسوله. ولكن هذا لم يحدث، بسبب شخصيته المؤمنة بالله تعالى، فتجدد النزاع بينهما وبدأ الصراع من جديد(1).
ص: 189
ومما ذكر أن أبا ذر كان يتجول في المدينة بعد عودته إليها، فرأى تلك المباني الفخمة التي استحدثها الأغنياء من دور وقصور، وأنّ امتدادها يصل للعاصمة، يسكنها هؤلاء الأغنياء بينما بعض أهل المدينة لا زالوا فقراء، لذلك كانت حياتهم الجديدة موضع نقده السديد. وعندما تحقق أنّ المباني الجميلة لقصور الأغنياء قد بلغت إلى مكان (سلع)(1) قفزت إلى ذاكرته نبوة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حينما قال له فيها إن ذلك سيكون إيذاناً باختلافك مع القوم، وإنكاره عليهم نمط حياتهم الجديدة، فأخذ في الطواف بالمدينة، محذراً قائلاً: (بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار)(2).
وقرر الرجل أن يكرر بذل النصح لعثمان، وفي رواية أن عثمان قال: لا أنعم الله بك عينا يا جنیدب، فقال أبو ذر: أنا جندب، وسماني رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عبد الله، فاخترت اسم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي سماني به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء، فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، يقول:
«إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً، جعلوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلاً»(3).
فحين سمع عثمان كلام أبي ذر الذي فيه دلائل على وجود بني العاص في هذه المدة،
ص: 190
فقال عثمان لمن حضر: "أسمعتموها من رسول الله؟ قالوا: لا، قال عثمان: ويلك يا أبا ذر، أتكذب على رسول الله، فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني صدقت، قالوا، لا والله ما ندري، فقال عثمان: ادعوا لي علياً، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فأعاده، فقال عثمان لعلي علیه السلام: أسمعت هذا من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، قال: لا، وقد صدق أبو ذر. فقال كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول: "ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". فقال من حضر: أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله(1).
والنص فيه أمور منها: أن عثمان حاول أن يظهر لأنصاره المقربين إليه، وبشهادة الإمام علي علیه السلام. أن أبا ذر الغفاري كذّاب، وهم بدورهم ينقلون ما دار من حديث في مجلسه إلى بقية الرعية في محاولة منه لتقليل منزلته عند أهل المدينة، ولاسيما إنه حاول تقليل شأن بني العاص أبناء عمومته، فكان كلام الإمام علي علیه السلام دقيقاً ورائعاً في حقه بأنه لم يسمع الحديث من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لكن ليس أبو ذر الغفاري كذّاباً لأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وصفه بصادق اللهجة، وليس بالضرورة أن يكون الإمام علیه السلام قد سمع كل أحاديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.
وحينما وجد عثمان أن أبا ذر قد عاد إلى عهده القديم، وأنه قد أصبح يمارس في المدينة ما كان يمارسه فيها قديماً، وما مارسه في الشام من الإثارة والتحريض، فتح معه الحديث عن ما أحدثه بالشام، وقال له:
(يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك؟)(2).
ص: 191
وعندما أخبره أبو ذر بدوافعه إلى موقفه هذا قال عثمان:
(يا أبا ذر، علىَّ أن أقضي ما عليّ وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علي أن أجبرهم على الزهد)(1).
ولكن أبا ذر لم يرض بقول عثمان هذا، فلم يكن الأمر في نظره أمر زهد لا يستطيع الخليفة أن يجبر الناس عليه، وإنما كان أمر أغنياء يزدادون غنی و فقراء يزداد فقرهم بسبب اولئك الاغنياء، وأمر حقوق لهؤلاء الفقراء في أموال الأغنياء تتعدى مقدار الزكاة ، فقال لعثمان:
(إنني أرى ألا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والاخوان ويصلوا القربات)(2).
وفي هذا اللقاء بين أبي ذر وعثمان، تزامن أن أحضرت إلى الأخير أكياس النقود التي أخذت من تركة عبد الرحمن بن عوف الزهري(3)، وكانت عظيمة بلغت من الكثرة حداً جعلها تحجب الرؤية بين عثمان وجلسائه. ودار الحديث حول هذه الثروة التي جمعها ابن عوف، ومدى تطابق سلوكه هذا مع السلوك النموذجي لصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وانحاز عثمان، ومعه كعب الأحبار(4) إلى صف الدفاع عن عبد الرحمن بن
ص: 192
عوف، لأنه كان يؤدي فريضة الزكاة (ومن أدى الفريضة فقد قضى ما عليه)(1).
اعترض أبو ذر على موقفهم هذا، وعندما أمن كعب الأحبار على قول عثمان: (إن الله قد أعطى لابن عوف خير الدنيا والآخرة، فقال كعب:
صدقت يا أمير المؤمنين، غضب أبو ذر، وتحامل على آلامه، ورفع عصاه فضرب بها رأس كعب الأحبار، وقال: له:
یا بن اليهودي ما أنت وما ههنا(2)، تقول لرجل مات وترك هذا المال: إن الله أعطاه خير الدنيا والآخرة؟ وتقطع على الله بذلك وأنا سمعت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، يقول: ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطا)(3)؟ فغضب عثمان من أبي ذر، واسترضی خاطر کعب الأحبار وطلب منه التنازل له عن ضرب أبي ذر له، ففعل. ثم طلب، غاضباً، من أبي ذر أن يغادر المدينة، قائلا له: (وارِ عني وجهك(4).
فقال أبو ذر: أسير إلى مكة؟
ص: 193
قال: لا والله.
قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟ قال: أي والله.
قال: فإلى الشام؟
قال: لا والله.
قال: البصرة؟
قال: لا والله، فاختر غير هذه البلدان.
قال: لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك، ولو تركتني في دار هجرتي (المدينة) ما أردت شيئاً من البلدان، فسيرني حيث شئت من البلدان.
فقال: فإني مسيرك إلى الربذة.
قال: الله أكبر، صدق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد أخبرني بكل ما أنا لاقٍ؟
قال عثمان: وما قال لك؟
قال: أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة، ويتولى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز)(1).
الملاحظ على تسلسل الأحداث التاريخية التي جرت بين أبي ذر وعثمان في المدينة أولاً، وفي الشام مع معاوية ثانياً، ثم مرة أخرى في المدينة ثالثاً، أنها كلها تحكي أن أبا
ص: 194
ذر كان يجبر وأحيانا بالقوة القاهرة على مغادرة المكان الذي يمارس فيه الموعظة والاثارة والتحريض لأنه لا يستطيع الاستسلام للسياسة الخاطئة للخليفة واعوانه.
ثم إن شخصية أبي ذر النضالية ليست بالتي تنسحب من بين الناس إلى مكان منعزل في الصحراء، حتى ولو كان هذا الانسحاب تعبيراً عن الاحتجاج والغضب والرفض لنمط الحياة الذي أخذ يسود في ذلك الحين. فلقد كان الرجل ولوعاً بجماهير الفقراء، كما ولعت به هذه الجماهير. فضلا عن إن قرية الربذة معزولة عن بقية قرى المدينة، ولم تكن الحياة بها مرغوبة حتى لرجل زاهد مثل أبي ذر، وربما كان يخشى على نفسه من العيش في الربذة أن يرتد (بفعل بيئتها) بسبب التطور الذي ألحقه الإسلام بعقول الناس وحياتهم، فكان يتردد على المدينة حتى يظل على صلة بحضارتها. وعبر ابن الأثير عن هذا الموقف بقوله: (وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيا)(1).
السؤال هو: لماذا رد أبو ذر الغفاري على كعب الأحبار اليهودي؟
إن أبا ذر كان يعرف أن كعب الأحبار یرید بفتاواه هذه التزلف لعثمان، والحصول على المكانة الرفيعة لديه الأمر الذي يعطيه القدرة على تمرير أمور قد تكون على درجة من الخطورة على الدين الجديد وأهله لاسيما وأن جذوره ذات أصول يهودية.
وربما كان أبو ذر يعلم أن عثمان كان يسعى للاستغناء بكعب الأحبار عن كثير ممن لم يكن يسعد بأن يحتاج إليهم، فكان يطلب منه الفتوى، محاولًا أن يضعه في مقام علمي رفيع لم يكن أهلًا له، لأنه يعلم أن طلب خليفة المسلمين الفتوى من كعب سوف يدفع الكثيرين لأخذ كل المسائل الفقهية عنه؛ غثها وسمينها، وهذا يعطيه
ص: 195
الفرصة لأن يدس في هذا الدين من إسرائيلياته ما يشاء. لذا كان لأبد لأبي ذر من کسر هيبته أمام الناس، ووضع الأمور في نصابها.
زيادة على أن عثمان كان عليه أن لا يهتم بهذا المقدار برجل كان من علماء أهل الكتاب، وإسلامه حديث في زمن عمر، و المفروض منه أن يكون في مقام رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وهو المعلم للناس، والعالم بأمور الدين، والذي يسأله الناس عن الأحكام، وعن الحلال والحرام. فإذا رأى الناس أنه يجهلها، ويتعلمها من كعب، فسيرون أن كعباً أعلم أهل الأرض والسماء، وسيتخذونه مرجعاً لهم، وکھفاً وملاذاً في أمور دينهم ودنياهم. وهذا تغرير بالناس، وهو أمر في غاية الخطورة. وقد أدرك أبو ذر ذلك، فتصدى له.
والسؤال هو لماذا وصف أبو ذر الغفاري كعب بابن اليهوديتين، للإجابة نقول أولاً: إن أبا ذر يصفه بأنه ابن اليهوديين، ليفهم الناس أن هذا الرجل ليس له قدم في هذا الدين، ولم يكن من الصحابة الأوائل، وأنه حديث العهد به، فمن أين يأتيه علم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وكذلك علم کتاب الله؟ لذلك الأجدر بعثمان أن يلجأ إلى الصحابة من حوله، الذين كانوا قرأوا، وسمعوا، وعاشوا، مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فهم أولى بالفتيا منه.
ثم إذا كان خليفة المسلمين لا يعرف مثل هذا الحكم البديهي، ولا يجد في الصحابة الأخیار من يعرفه، فعلى الإسلام السلام، وأين كان باب مدينة علم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن عثمان، ألم يكن ناصراً لما سبقه من الخلفاء، ولماذا أذن لا يسأله عما يجهله، كما كان يسأله أسلافه. بل كان عثمان نفسه يرجع إليه علیه السلام في أمور كان يعجز عنها. ولا نجد ما هو سبب قرب كعب من أصحاب عثمان، بينما أصبح أبو ذر من الغرباء عنه، إلى حد
ص: 196
أنه صار يستحق العقوبة بالنفي والتغريب، لمجرد أنه أراد نهي كعب عن المنكر، فهل أصبح کعب الأحبار اليهودي أحب إلى عثمان من أبي ذر الذي تشتاق إليه الجنة؟!
ولكن لماذا سئل عثمان بالحكم بالاقتراض من بيت مال المسلمين، للإجابة: أولاً، نقول: إذا جاز لعثمان أن يتصرف في بيت المال بالاقتراض، ليصرفه فيما ينوبه من أموره الخاصة، فلماذا لا يجوز لكثير من ذوي الحاجات الخاصة من المسلمين أن يقترضوا من بیت المال لأجل أمورهم الشخصية؟ تحت قاعدة (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)(1)، فإن غيره من عامة الناس كانوا أحوج منه للاقتراض من بيت المال.
ثم إنه لم يكن بحاجة إلى الاقتراض، فهو يملك من الأموال الكثيرة، وما بينه المسعودي، قال: ذكر عبد الله بن عتبة: (أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومئة ألف دينار، وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين، وغيرهما مئة ألف دينار، وخلف خيلاً، وإبلا كثيرةً)(2).
فإذا ثبت هذا بيت ماله الخاص، هل اراد فتح باب جدید علی بیت المال، والذي سوف تكون نتائجه غير معروفة. فضلًا عن أن أبا ذر قدم دليلًا حسياً على جهل كعب الأحبار بأية إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وأثبت جهله بكتاب الله، فما معنى عودة عثمان لسؤاله؟ وما معنى تصديه للإجابة، بعد أن لامست عصا أبي ذر صدره وجسده؟
والسؤال هل سُيِّر أبو ذر الغفاري أم نفي بالقوة؟ اختلف المؤرخون في هذا الأمر
ص: 197
فمنهم من قال إنه اختار النفي، بدلالة رواية نقلت عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت(1)، (قالت أم ذر: والله ما سیر عثمان أبا ذر تعني إلى الربذة، ولكن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال له: إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها)(2).
وهذه الرواية إفك مفترى على أم ذر(3)، وغير دقيق ما نقل فيها، لأن كلام الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم فيه قرائن على وجود أمر النفي بالاجبار وليس الاختيار لما سوف نوضحه من الآراء في الرواية الآتية.
إذ تذكر أنه حينما أراد عثمان نفي أبي ذر الغفاري، وطلب منه في بادئ الأمر أن يختار بلداً لينفيه إليها اختار أبو ذر المدن الإسلامية المعروفة إلا أن عثمان لم يرضَ لأبي ذر الرحيل إلى المدينة المنورة، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر بل أجبره على الذهاب إلى الرَبذة مرغماً. فذكر ابن أبي الحديد، رواية: (فقال: اخرج عنا من بلادنا.
فقال أبو ذر: ما أبغض إليّ جوارك، فإلى أين أخرج؟
قال: حيث شئت.
قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد؟
قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أفأردك إليها!
ص: 198
قال: أفأخرج إلى العراق؟
قال: لا.
قال: ولم؟
قال: تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الأئمة.
قال: أفأخرج إلى مصر؟
قال: لا.
قال: فإلى أين أخرج؟
قال: حيث شئت.
قال أبو ذر: فهو إذن التعرب بعد الهجرة، أأخرج إلى نجد؟
فقال عثمان: الشرف الأبعد أقصى فأقصى، إمض على وجهك هذا، ولا تعدون الربذة. فخرج إليها)(1).
هذه الرواية هي الصحيحة والدقيقة لأسباب منها:
أولاً: هو أن أبا ذر طلب النفي إلى أمصار إسلامية كبيرة ومعروفة ولها باع في الدين الجديد، وبرغبته مثل مصر والعراق، لكن عثمان رفض ذلك لأسباب خاصة في نفسه، فلذلك طلب أن يختار موضعاً بعيداً بل الأبعد، الأبعد، ومن ثم فقد حدد له مكان
ص: 199
الربذة أخيراً.
ثانياً: أن الأَعرابي إذا قيل له: يا عرَبَيُّ فَرِحَ بذلك وهَشَّ له. والعَرَبيُّ إِذا قيل له: يا أَعرابيُّ غَضِبَ له. فشخصية أبي الغفاري من الصحابة الأوائل الذين تركوا البادية، واستَوطَنَ المُدُنَ. وشخصية أبي ذر لم تحب سمة الأعرابي، أي يقال: تعرّب الرجل: صار أعرابيا بعد أن كان عربياً. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد(1)، لأنه كان يعدّ من الكبائر في نظرهم.
وهذا تصريح واضح أن التعرب ليس مجرد سکني البادية سواء أقام فيها المشركون أم الكفار أو لا، وإنما حقيقة الموضوع هو السكني حيث يقل الدين ولا يمكن معه معرفة الأحكام وإظهار شعائره، وهذا غالباً ما يكون في بلاد الكفر والشرك. وهذا دليل على عدم رضا أبو ذر بقرار عثمان بقرار عثمان بنفية إلى الربذة.
ثالثاً: قول الله عز وجل:
«قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا»(2).
فَهؤُلاء قوم من بَوادي العَرَب قَدِمُوا على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في المدينةُ طَمَعاً في الصَّدقَات، لا رَغبَةً في الإسلام، فسماهم الله تعالى الأَعرابَ، ومثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال عز من قال:
«الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا»(3).
ص: 200
رابعاً: إن قسم عثمان ضده بوجود بعض الصحابة في المدينة (ذكر الثقفي في تاريخه أن أبا ذر أتي بين يدي عثمان، فقال:
یا كذاب ، فقال علي علیه السلام:
«ما هو بكذاب».
قال: بلى والله إنه لكذاب، قال علي علیه السلام:
«ما هو بكذاب».
قال عثمان: التراب في فيك يا علي، قال علي علیه السلام:
«بل التراب في فيك يا عثمان».
قال علي علیه السلام: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول:
«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
قال: أما والله على ذلك لأسيّرنّه، قال أبو ذر:
أما والله لقد حدثني خليلي عليه الصلاة والسلام: أنكم تخرجوني من جزيرة العرب)(1).
وعلى الرغم من ذلك يأتي أحد كتاب الحديث ويذكر أن نفي عثمان له كان بسبب
ص: 201
خلافٍ بسيطٍ بينه وبين معاوية، ومما ذكر في ذلك عن زيد بن وهب قال: (مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له ما أنزلك منزلك هذا؟ قال:
كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(1) قال معاوية نزلت في أهل الكتاب فقلت نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذلك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال لي إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمّروا علي حبشيا لسمعت"(2).
خامساً: ما ذكره الواقدي فقد روى أيضاً، عن مالك بن أبي الرجال، عن موسی بن ميسرة، أن أبا الأسود الدؤلي، قال: "كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته فقلت له: ألا تخبرني، أخرجت من المدينة طائعاً، أم أخرجت كرها؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغنى عنهم، فأخرجت إلى المدينة، فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى. ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إذ مر بي علیه السلام، ...، قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذاً ألحق بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض الجهاد. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قلت: أرجع إلى المسجد، قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به. فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع. فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع، والله
ص: 202
ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي"(1).
وهو يتوافق مع ما جاء على لسان الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم بأنه طريد الأمة، إذ جاء عن أبي المثنى المليكي، أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان إذا خرج إلى أصحابه قال: (عويمر حكيم أمتي، وجندب طريد أمتي يعيش وحده ويموت وحده والله وحده يكفيه)(2).
سادساً: أما قوله إن عثمان لم يخرجه بل خیره بين الكف عما يقول، وبين الخروج فمناف لما بيناه أعلاه من النقاط، لأن أبا ذر كان يغلظ القول في إنكار ما يراه منکراً، وفي حق عثمان يقول لم يبق أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على ما عهد، وكلام الإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام حينما سار معه إلى حدود المدينة بعد صدور أمر النفي من عثمان (فأرحلوك عن الفناء) يدل عليه(3).
سابعاً: ذكر الواقدي: أن أبا ذر، قال: ويحك يا عثمان، أما رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ورأيت أبا بكر وعمر، هل هديك كهديهم، أما إنك لتبطش بي بطش جبار. فقال عثمان: أخرج عنا من بلادنا(4). هنا جاء أمر الخروج من عثمان وليس اختیارا من أبي ذر.
ثامناً: دلالة عدم رضا أبي ذر بقرار عثمان حينما أمر بنفيه، بسبب رغبته منع الجور الذي وجده في سياسة عثمان، لذلك نفي عن أهله وإخوانه، وعن حرم مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ومما ذكر برواية عن أبي أمامة، قال: حدثني الصلت، عن زيد بن کثیر، عن
ص: 203
أبي أمامة قال: كتب أبو ذر إلى حذيفة بن اليمان يشكو إليه ما صنع به عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد يا أخي فخف الله مخافة يكثر منها بکاء عينيك وحرر قلبك، وسهر ليلك، وأنصب بدنك في طاعة ربك، فحق لمن علم أن النار مثوى من سخط الله أن يطول بکاؤه ونصبه وسهر ليله حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه، وحق لمن علم أن الجنة مثوى من رضي الله عنه أن يستقبل الحق كي يفوز بها، ويستصغر في ذات الله الخروج من أهله وماله، وقيام ليله وصيام نهاره وجهاد الظالمين الملحدين بيده ولسانه حتى يعلم أن الله أوجبها له، وليس بعالم ذلك دون لقاء ربه، وكذلك ينبغي لكل من رغب في جوار الله ومرافقة أنبيائه أن يكون، يا أخي أنت ممن أستريح إلى الضريح إليه بثي وحزني، وأشكو إليه تظاهر الظالمين علي، إني رأيت الجور يعمل به بعيني، وسمعته يقال فرددته فحرمت العطاء، وسیرت إلى البلاد، وغربت عن العشيرة، والإخوان، وحرم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وأعوذ بربي العظيم أن يكون هذا مني له شكوى إن ركب مني ما ركب، بل أنبأنك أني قد رضيت ما أحب لي ربي. وقضاه علي، وأفضيت ذلك إليك لتدعو الله لي ولعامة المسلمين بالروح والفرج، وبما هو أعم نفعا وخير مغبة وعقبي، والسلام.
فكتب إليه حذيفة :
بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد يا أخي فقد بلغني كتابك تخوفني به، تحذرني فيه منقلبي، وتحثني فيه على خط نفسي، فقديما يا أخي كنت بي و بالمؤمنين حفياً لطيفاً، وعليهم حدبا شفيقاً، ولهم بالمعروف آمراً، وعن المنكرات ناهياً، وليس يهدي إلى رضوان الله إلا هو، لا إله إلا هو، ولا يتناهی من سخطه إلا بفضل رحمته وعظيم منه، فنسأل الله ربنا لأنفسنا، وخاصتنا، وعامتنا، وجماعة أمتنا مغفرة عامة ورحمة
ص: 204
واسعة، وقد فهمت ما ذكرت من تسييرك يا أخي وتغريبك وتطريدك، فعز والله علي يا أخي ما وصل إليك من مكروه، ولو كان يفتدى ذلك بمال لأعطيت فيه مالي، طيبة بذلك نفسي، يصرف الله عنك بذلك المكروه، والله لو سألت لك المواساة ثم أعطيتها لأحببت شطر ما نزل بك، ومواساتك في الفقر، والأذى، والضرر، لكنه ليس لأنفسنا إلا ما شاء ربنا، يا أخي فافزع بنا إلى ربنا، ولنجعل إليه رغبتنا، فإنا قد استحصدنا، واقترب الصرام، فكأني وإياك قد دعينا فأجبنا، وعرضنا على أعمالنا فاحتجنا إلى ما أسلفنا، يا أخي ولا تأس على ما فاتك، ولا تحزن على ما أصابك، واحتسب فيه الخير، وارتقب فيه من الله أسنى الثواب، يا أخي لا أرى الموت لي ولك إلا خيرا من البقاء، فإنه قد أظلتنا فين يتلو بعضها بعضا كقطع الليل المظلم، قد ابتعثت من مركبها ووطئت في حطامها، تشهر فيها السيوف، وينزل فيها الحتوف فيها يقتل من اطلع لها والتبس بها، وركض فيها، ولا تبقى قبيلة من قبائل العرب من الوبر والمدر إلا دخلت عليهم، فأعز أهل ذلك الزمان أشدهم عتوا، وأذلهم أتقاهم، فأعاذنا الله وإياك من زمان هذه حال أهله فيه، لن أدع الدعاء لك في القيام، والقعود، والليل، والنهار، وقد قال الله ولا خلف لموعوده: "ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" فنستجير بالله من التكبر عن عبادته، والاستنكاف عن طاعته، جعل الله لنا ولك فرجا ومخرجا عاجلا برحمته، والسلام عليك(1).
لما أُخرج أبو ذر الغفاري إلى الرَّبذة، أمر عثمان، فنودي في الناس أن لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشیّعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به، وتحاماه الناس إلا علي
ص: 205
ابن أبي طالب علیه السلام، وعقيلًا أخاه، وابناه الإمامان الحسن والحسين علیهما السلام، والصحابي عمّار بن یاسر، فهم خرجوا معه يشيعونه، فقال الإمام علي علیه السلام:
«یَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ - إِنَّ اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَی دُنْیَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَی دِینِكَ - فَاتْرُكْ فِی أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَیْهِ - وَ اُهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَیْهِ - فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَی مَا مَنَعْتَهُمْ - وَ مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ - وَ سَتَعْلَمُ مَنِ اَلرَّابِحُ غَداً وَ اَلْأَکْثَرُ حُسَّداً - وَ لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرَضِینَ کَانَتَا عَلَی عَبْدٍ رَتْقاً - ثُمَّ اِتَّقَی اَللَّهَ لَجَعَلَ اَللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً - لاَ یُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ اَلْحَقُّ - وَ لاَ یُوحِشَنَّكَ إِلاَّ اَلْبَاطِلُ - فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْیَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ - وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ»(1).
وقوله علیه السلام «إنّما غضبت لله» دليل على أن إنكاره بما كان ينكره إنما يقصد به وجه الله تعالى، وقوله علیه السلام «إن القوم خافوك على دنياهم» یعني خافوك على أمر الخلافة بتنفيرك عنهم «وخفتهم على دينك» بترك موافقتهم والمماشاة معهم وأخذ العطاء منهم وبردك إلى الارتداد کما ارتدوا(2).
اعترض عليهم مروان فقال: يا علي، إن أمير المؤمنين، قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيعوه، فإن كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك، فحمل عليه علي بن أبي طالب علیه السلام بالسوط، وضرب بين أذني راحلته، وقال:
«تنح نحاك الله إلى النار».
ومضى مع أبي ذر فشیعه، ثم ودعه وانصرف. فلما أراد علي علیه السلام الانصراف بکی أبوذر، وقال: رحمكم الله أهل البيت، إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب علیه السلام، فقال عثمان: يا معشر المسلمين من يعذرني من علي؟ ردَّ رسولي عما وجهته له، وفعل
ص: 206
كذا، والله لنعطينه حقه، فلما رجع علي استقبله الناس، فقالوا له: إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر، فقال علي:
«غضب الخيل على اللجُمٍ(1)».
فلما كان بالعشي جاء إلى عثمان، فقال له: ما حملك على ما صنعت بمروان ولم اجترأت عليَّ ورددت رسولي وأمري؟ قال علیه السلام:
«أما مروان فإنه استقبلني يردني فرددته عن ردي، وأما أمرك فلم أرده».
قال عثمان: ألم يبلغك أني قد نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشییعه؟
فقال علي علیه السلام:
«أو كل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا فيه أمرك! بالله لا نفعل».
قال عثمان: أقِد مروان، قال علیه السلام:
«ومم أقيده»؟
قال: ضربت بين أذني راحلته وشتمته، فهو شاتمك وضارب بين أذني راحلتك قال علي علیه السلام:
«أما راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، واأما أنا فو الله لئن شتمني لأشتمنَّكَ أنت مثلها بما لا أكذب فيه، ولا أقول إلا حقاً».
قال عثمان: ولم لا يشتمك إذا شتمته، فوالله ما أنت عندي بأفضل منه؟ فغضب علي بن أبي طالب وقال:
ص: 207
«ألي تقول هذا القول!؟ وبمروان تعدلني!؟ فأنا والله أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، وأمي أفضل من أمك، وهذه نَبلي قد نَثَلتُها، وهلم فأنثل بنبلك».
فغضب عثمان واحمرَّ وجهه، فقام ودخل داره، وانصرف علي علیه السلام، فاجتمع إليه أهل بيته، ورجال من المهاجرين والأنصار.
فلما كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان، شكا اليهم علياً، وقال: إنه يعيبني، ويظاهر من يعيبني، يريد بذلك أبا ذر وعمار بن یاسر وغيرهما، فدخل الناس بينهما حتى اصطلحا، وقال له علي علیه السلام:
«والله ما أردت بتشييع أبي ذر إلا الله تعالی»(1).
من خلال النص يبدو أن الإمام علياً علیه السلام دافع عنه أبي ذر لله، بينما فهم عثمان بأنه خروج عن طاعة الخليفة، وتناسا عثمان أرجعاه لمروان إلى المدينة هو خروج عن سنة الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، ثم تشييعه لأبو ذر الغفاري خارج المدينة يدلل على أن الإمام علیه السلام كان يشعر بما لم يشعر به غيره من الناس بشوق أبي ذر الغفاري للمدينة، وقبر الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم، زيادة على أن النص وضّح الصراع الدائر بين طرفي النزاع وهما الإمام علي علیه السلام وشیعته من جهة، وعثمان وبطانته من جهة أخرى، ووصلت تلك الحدة درجة من الخطورة أصبحت فيها الأمور أوضح من الشمس في رابعة النهار بانقسام الصحابة إلى جهة عثمان وقسم أخر للإمام علي بن أبي طالب علیه السلام وربما سياسة التمييز الطبقي التي طبقها عثمان كانت واحدة من أشهر الاسباب في انقسام الصحابة.
ص: 208
الخاتمة
ص: 209
ص: 210
في نهاية البحث والدراسة عن واحد من الشخصيات الفذة في التاريخ الإسلامي ألا وهو الصحابي الجليل جندب بن جنادة المعروف ب (أبي ذر الغفاري)، الذي كان دائماً سائحاً، باحثاً، عن الدين القيم، وعن صحف الأنبياء الأوائل لاسيما النبيين إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، ربما كان ممن يتابع أخبارهم من كلام رجال الدين اليهود والنصاری.
كان أبو ذر حنيفًا لله جل جلاله مائلًا عن كل العبادات الموجودة في شبه الجزيرة العربية وأطرافها، مؤمنا بالله لا جل جلاله قبل البعثة النبوية الشريفة بشكل فطري دون أن يكون هناك رسول، ولا كتاب سماوي يرشدان إلى التوحيد.
وأيضاً عُرف أبو ذر الغفاري بأنه خطيبٌ، بليغٌ، يشهد له بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حينما قال في حقه، أول من حيّا بتحية الإسلام، ودافع عن أهل البيت علیهم السلام وبين منزلتهم في مواسم الحج في مكة، وفي حرم الكعبة، لتوجيه الرعية بأن أهل الحق
ص: 211
موجودون وقريبون منکم.
كذلك قال عنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صادق اللسان واللهجة، ولم يصف بالكذب إلا من قبل عثمان، وقد يكون رأي عثمان فيه هكذا لأنه لم يسمع ما قاله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بحقه:
«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
وربما اعتمد عثمان على ما ذكر من روايات أبي هريرة أو غيره من الرواة وكان أبو ذر أمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، حينما وجد أن معاوية بنسب ما موجود في (بيت مال المسلمين) إلى مال الله لكي يتصرف به كيف يشاء، فقد فتح أبو ذر أعين الناس على أمور لم يكن يسعد معاوية ولا عثمان، ولا غيرهما من الأمويين والحاكمين أن يبحث الناس عنها، ومن ثم يحصلوا على معرفتها.
كذلك كان أبو ذر فقيهاً، صلباً، مدافعاً عن قيم السماء بكل إخلاص، طبق كل ما سمعه من أحاديث الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم على نفسه قبل أن يتابع غيره من الصحابة والولاة، وما مناظراته في مجلس عثمان إلا دليل ما ذهبنا إليه، حيث ناظر كل من وقف ضد الدستور السماوي سواء أكان عثمان نفسه أم كعب الاحبار اليهودي أو الراوي الشهير أبا هريرة.
غه وكان محدثاً بارعاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، تتلمذ على يديه عدد كبير من
ص: 212
الرواة من الصحابة والتابعين يزيد عددهم على الخمسين، لكن لم نجد من رواياته في كتب الصحاح والمساند المعروفة عند أهل الحديث إلا الجزء اليسير منها، لأنه وقف ضد السلطة الحاكمة، وبما أن التاريخ يكتب من قبل السلطة فمن الطبيعي جداً أن لا نجد إلا الأحاديث القليلة، بل حتى غزواته لم نجد منها سوى نتف بسيطة على الرغم من خوضه بعض الغزوات المهمة في التاريخ، وحتى ملامح شكله وصفت من قبل رجال الطبقات بأنه نحيف وأحدب وفقيرا.. ليس إلا، بينما الحقيقة إنه فقير الله جل جلاله وغني أمام الولاة وأتباعهم، أربك أصحاب السلطة في تعاملهم معه ذلك أنهم خرجوا عن سنة الله وفرائضه لذا لم يجدوا حلًا لكي يتجنبو نصائحه إلا النفي لكي يكون عبرة لغيره من جهة، وليبعدوا عن أنظارهم.
كان أمة للناس في قومه، وكذلك وصف حاله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إذ قال يحشر وحده لمنزلته عند الله جل جلاله وهي منزلة الأنبياء، والأئمة، والصالحين. لذا أعطي من الكرامات ما يعطى للأنبياء والأئمة والصالحون من بقية البشر ومنها كلامه مع الذئب وتحويل ماء زمزم إلى لبن. وهذه الكرامات لم نجدها عند غيره من الصحابة.
منزلته قريبة من الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم لذلك أعلمه بغيبيات كثيرة سوف تحدث له بعد وفاته. وتحققت هذه الغيبيات واحدة منهن في زمن الرسول والبقية بعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم، وهذا يوضح المنزلة القريبة له من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وصلته الوثيقة به. لذلك كان دائما يقدم النصح والإرشاد للولاة بأنهم سائرون في الطريق الذي
ص: 213
يتوافق مع منهج الدين الإسلامية وسنته الشريفة، بينما فهم الطرف الأخر أن هذا العمل الذي يقوم به أبو ذر الغفاري الغرض منه تحريض الرعية على بني أمية.
کان کریم النفس قانعاً بما يؤتيه الله جل جلاله من فضله، ووضح ذلك حينما سير إلى الربذة، وقال لقومه كيف أنتم ومقتل الإمام الحسين علیه السلام، لكن بقي أمر نفيه ما أثار حزنه الكبير بسبب ابتعاده عن حرم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأهله واصحابه المقربين له لاسيما أهل البيت علیهم السلام الذين شايعوه على الرغم من اصدار عثمان أمراً بمنع ذلك، ولم يتوقف الأمر على هذا الحال بل تناجى الإمام علي علیه السلام وعثمان بسبب ذلك.
ص: 214
ص: 215
ص: 216
• القرآن الكريم.
1. ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد، (ت: 630 ه / 1232 م)
. أسد الغابة، دار الكتاب العربي، بيروت، (لبنان / د. ت).
. الكامل في التاريخ، مطبعة ودار صادر للطباعة (بيروت / 1386 ه).
. اللباب في تهذيب الأنساب، دار صادر للنشر، بيروت، (د. ك / د. ت).
2. ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد، (ت: 606 ه / 1209 م)، النهاية في غريب الحديث والأثر، تح: محمود محمد الطناحي، ط 4، مؤسسة إسماعیلیان للطباعة، قم، (ایران، 1394 ه).
3. أحمد بن حنبل، (ت: 241 ه / 855 م)، مسند أحمد، دار صادر، بیروت ( لبنان / د. ت).
4. البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، (ت: 256 ه / 869 م)، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة، (د. ك / 1401 ه).
5. البيهقي، أحمد بن الحسين، (ت: 458 ه / 1065 م)، دلائل النبوة، تح: د، عبد المعطي قلعجي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت (لبنان / 1405 ه).
ص: 217
6. الجرجاني، عبد الله بن عدي، (ت: 365 ه / 975 م)، الكامل، تح: يحيی مختار غزاوي، ط 3، دار الفكر للطباعة، بيروت، لبنان / 1409 ه).
7. ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي، (ت: 597 ه / 1116 م):
. کشف المشكل، تح، د، علي حسين البواب، ط 1، دار الوطن للنشر، (الرياض / 1418 ه).
. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تح: محمد عبد القادر عطا، و مصطفى عبد القادر عطا، راجعه وصححه: نعیم زرزور، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، (لبنان / 1412 ه).
8. ابن أبي حاتم الرازي، عبد الرحمن بن محمد، (ت: 327 ه / 938 م)، الجرح والتعديل، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، الهند، دار إحياء التراث، (بيروت / 1371 ه).
9. الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله، (ت: 405 ه / 1014 م)، المستدرك، تح: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار الفكر للطباعة، بيروت، لبنان / د. ت).
10. ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد السبتي، (ت: 354 ه / 964 م):
. مشاهير علماء الامصار اعلام فقهاء الاقطار، تح: مرزوق علي إبراهيم، ط 1، مطبعة دار الوفاء للطباعة، (المنصورة / 1411 ه).
. الثقات، ط 1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية. بحیدر آباد الدكن الهند، مؤسسة الكتب الثقافية للنشر، (1393 ه).
. صحيح ابن حبان، تح: شعيب الأرنؤوط، ط 2، مؤسسة الرسالة، (د. ك / 1414 ه).
11. ابن حجر العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد،
ص: 218
(ت: 852 ه / 1449 م):
. الإصابة في تمييز الصحابة، تح: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، ط 1، دار الكتب العلمية، (بيروت / 1415 ه).
. تقريب التهذيب، تح: مصطفى عبد القادر عطا، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، ( لبنان / 1415 ه).
. تهذيب التهذيب، ط 1، دار الفكر للطباعة، بيروت، (لبنان / 1404 ه).
12. ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد، (ت: 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، مؤسسة إسماعيليان للنشر (د. ت / د. ك).
13. أبو الصلاح الحلبي، تقي بن نجم، (ت: 447 ه / 1055 م)، تقريب المعارف، تح: فارس تبریزیان الحسون، (د. ك / 1417 ه).
14. ابن إدريس الحلي، محمد بن أحمد، (ت: 598 ه / 1201 م)، مستطرفات السرائر، تح، محمد مهدي الموسوي الخرسان، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، (د. ك / 1429 ه).
15. الحميري، محمد بن عبد المنعم، (ت: 900 ه / 1494 م)، الروض المعطار في خبر الأقطار، تح: د، إحسان عباس، ط 2، مطبعة هيدلبرغ، بیروت، مكتبة لبنان (د. ك / 1984 م).
16. الخزرجي الأنصاري اليمني، أحمد بن عبد الله، (ت: 10 ه / 16 م)، خلاصة تذهیب تهذيب الكمال، تح: عبد الفتاح أبو غدة، ط 4، مطبعة ودار البشائر للنشر، حلب / 1411 ه).
17. الدارمي، عبد الله بن الرحمن، (ت: 255 ه / 868 م)، سنن الدارمي، مطبعة الاعتدال، (دمشق / 1349 ه.).
18. الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان (ت : 748 ه / 1347 م):
ص: 219
. تذكرة الحفاظ، دار إحياء التراث العربي، بیروت، لبنان / د. ت).
. تاريخ الإسلام، تح: د. عمر عبد السلام تدمری، ط 1، مطبعة لبنان بیروت، دار الكتاب العربي، (د. ك / 1407 ه).
. سير أعلام النبلاء، تح: شعيب الأرنؤوط، حسين الأسد، ط 9، مؤسسة الرسالة، بیروت، (لبنان / 1413 ه).
19. الزيلعي، جمال الدين، (ت: 762 ه / 1360 م)، نصب الراية، تح: أيمن صالح شعبان، ط 1، مطبعة مطابع الوفاء، المنصورة، دار الحديث، (القاهرة / 1415 ه).
20. ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، (ت: 605 ه / 1208 م)، تنبیه الخواطر ونزهة النواظر، ط 2، مطبعة حيدري، تهران، دار الكتب الإسلامية، (د. ت / 1368 ه).
21. العاملي، محمد، (ت: 1009 ه / 1600 م)، مدارك الأحكام، تح ونشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - مشهد المقدسة، ط 1، مطبعة مهر، (قم / 1410 ه).
22. ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، (ت: 463 ه / 1070 م)، الاستیعاب، تح: علي محمد البجاوي، ط 1، دار الجيل، بیروت (لبنان / 1412 ه).
23. ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري، (ت 230 ه / 844 م)، الطبقات الكبری، مطبعة دار صادر، (بيروت / د. ت).
24. السمعاني، عبد الكريم بن محمد، (ت: 562 ه / 1166 م)، الأنساب، تح: عبد الله عمر البارودي، ط 1، دار الجنان للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت (لبنان / 1408 ه).
25. الشريف المرتضی، علي بن الحسين، (ت: 436 ه / 1044 م)، الشافي في الإمامة، ط 2، مطبعة مؤسسة إسماعیلیان، (قم / 1410 ه).
26. الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، (ت: 381 ه / 991 م)، الخصال، تح: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة (قم /
ص: 220
1403 ه).
27. الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، (ت: 764 ه / 1362 م)، الوافي بالوفيات، تح: أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى، مطبعة بیروت، دار إحياء التراث، ( د. ك / 1420 ه).
28. الضحاك: ابن أبي عاصم، (ت: 287 ه / 900 م)، الأحاد والمثاني، تح: باسم فيصل أحمد الجوابرة، ط 1، دار الدراية للطباعة، (د. ك / 1411 ه).
29. الطبراني، سليمان بن أحمد، (ت: 360 ه / 970 م):
. المعجم الكبير، تح: حمدي عبد المجيد السلفي، ط 2، دار إحياء التراث العربي، (د. ت / د. ك).
. مسند الشاميين، تح: حمدي عبد المجيد السلفي، ط 2، مؤسسة الرسالة في بيروت / 1417 ه).
30. الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب، (ت: 548 ه / 1153 م):
. الاحتجاج، تح: محمد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة (النجف / 1386 ه).
. مکارم الأخلاق، ط 6، منشورات الشريف الرضي، (د. ك/ 1392 ه).
31. الطبري، محمد بن جریر، (ت: 310 ه / 922 م)، تاريخ الطبري، تح: نخبة من العلماء الأجلاء، ط 4، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، (لبنان / 1403 ه).
32. الطوسي، محمد بن الحسن، (ت: 460 ه / 1067 م):
. الأبواب (رجال الطوسي)، تح، جواد القيومي الإصفهاني، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، (1415 ه / قم).
. الأمالي، تح: قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، ط 1، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، (قم / 1414 ه).
33. العجلي، أحمد بن عبد الله الكوفي، (ت: 261 ه / 874 م)، معرفة الثقات، ط 1،
ص: 221
دار ومكتبة المدينة المنورة، (د. ك / 1405 ه).
34. ابن عساکر، علي بن الحسن بن هبة (ت: 571 ه / 1175 م)، تاريخ مدينة دمشق، تح: علي شيري، مطبعة ودار الفكر للطباعة، بيروت، (لبنان / 1415 ه).
35. العصفري، خليفة بن خیاط، (ت: 240 ه / 854 م)، طبقات خليفة، تح: الدكتور سهیل زکار، دار الفكر للطباعة، بيروت، (لبنان / 1414 ه).
36. الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، خطب الإمام علیه السلام، (ت: 40 ه / 660 م)، نهج البلاغة، تح: محمد عبده، ط 1، مطبعة النهضة، دار الذخائر، قم، (ایران / 1412 ه).
37. العيني، محمود بن أحمد، (ت: 855 ه / 1451 م)، عمدة القاري، مطبعة بيروت، دار إحياء التراث العربي، ( د. ك / د. ت).
38. الفراهيدي، الخليل بن أحمد، (ت: 170 ه / 786 م)، العين، تح: د، مهدي المخزومي، د، إبراهيم السامرائي، ط 2، مؤسسة دار الهجرة، قم، (ایران / 1409 ه).
39. الفيض الكاشاني، محمد محسن، (ت: 1091 ه / 1680 م)، الوافي، تح: ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، ط 1، مطبعة طباعة أفست نشاط أصفهان، نشر مكتبة الامام أمير المؤمنين علي علیه السلام العامة (أصفهان / 1411 ه).
40. ابن کثیر، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي (ت: 774 ه / 1362 م)، البداية والنهاية، تح: علي شيري، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بیروت، (لبنان، 1408 ه).
41. الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، (ت: 329، 328 ه / 939، 940 م)، الكافي، تح: علي أكبر الغفاري، ط 5، مطبعة حيدري، دار الكتب الإسلامية، (طهران / 1393 ه).
42. ابن أبي شيبة الكوفي، عبد الله بن محمد، (ت: 235 ه / 849 م)، المصنف، تح: سعيد اللحام، ط 1، دار الفكر للطباعة، بیروت، لبنان / 1409 ه).
ص: 222
43. ابن قتيبة الدينوري، محمد بن مسلم، (ت: 276 ه / 889 م)، المعارف، تح: د، ثروت عكاشة، ط 2، مطبعة مطابع دار المعارف، (مصر / 1969م).
44. ابن ماجة القزويني، محمد بن يزيد، (ت: 273 ه / 886 م)، سنن ابن ماجة، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، (د. ك / د. ت).
45. المازندراني، مولی محمد صالح، (ت: 1081 ه / 1670 م)، شرح أصول الكافي، تح: الميرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط: علي عاشور، ط 1، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، (لبنان / 1421 م).
46. المالكي، سليمان بن خلف بن سعد ابن أيوب الباجي، (ت: 474 ه / 1081 م)، التعديل والتجريح، تح: أحمد البزار، مطبعة وزارة الأوقاف، (مراکش / د. ت).
47. المتقي الهندي، علي المتقي بن حسام، (ت: 975 ه / 1567 م)، کنز العمال، تح: بكري حياني، تصحیح وفهرسة: صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، بیروت، (لبنان / 1409 ه).
48. المجلسي، محمد باقر، (ت: 1111 ه / 1699 م)، بحار الانوار، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، (لبنان / 1403 ه).
49. المزي، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، (ت: 742 ه / 1341 م)، تهذیب الكمال في أسماء الرجال، تح: د، بشار عواد معروف، ط 4، مؤسسة الرسالة، بیروت، (لبنان / 1406 ه).
50. المسعودي، علي بن الحسين بن علي، (346 ه / 957 م)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط 2، (د. ك / 1363 ه).
51. مسلم، النيسابوري، (ت: 261 ه / 874 م)، صحیح مسلم، دار الفكر، بیروت، (لبنان / د.
ت).
52. ابن منده الأصفهاني، أبو عمرو، (ت: 475 ه / 1082 م)، الفوائد، تح: مسعد
ص: 223
عبد الحميد، ط 1، دار الصحابة للتراث، (طنطا / 1412 ه).
53. ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم، (ت: 711 ه / 1311 م)، لسان العرب، دار أدب الحوزة، (د. ك / 1405 ه).
54. الميداني، أحمد بن محمد، (ت: 518 ه / 1124 م)، مجمع الأمثال، مطبعة ونشر مؤسسة الطبع والنشر بالآستانة، (د. ك / 1366 ه).
55. النسائي، أحمد بن شعيب، (ت: 303 ه / 915 م)، سنن النسائي، ط 1، (د. ك / 1348 ه).
56. النووي: محي الدين بن شرف، (ت: 676 ه / 1277 م) شرح صحيح مسلم، دار الكتاب العربي، بيروت (لبنان / 1407 ه).
57. النويري، أحمد بن عبد الوهاب، (ت: 733 ه / 1133 م)، نهاية الأرب في فنون الأدب، مطابع گوستاتسوماس، دار وزارة الثقافة والارشاد القومي المؤسسة المصرية العامة، (د. ك / د. ت).
58. ابن هشام الحميري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، (ت: 213 ه / 828 م)، السيرة، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، دار مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، (بمصر / 1383 ه).
59. الهيثمي، علي بن أبي بكر، (ت: 807 ه / 1404 م) مجمع الزوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، (لبنان / 1408 ه).
60. الواقدي، محمد بن عمر بن واقد السهمي، (ت: 207 ه / 822 م)، المغازي، تح، د، مارسدن جونس، نشر دانش اسلامي، (د. ك / 1405 ه).
61. ياقوت الحموي، شهاب الدين، (ت: 626 ه / 1228 م)، معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بیروت (لبنان / 1399 ه).
62. اليعقوبي، أحمد بن ابي يعقوب بن جعفر، (ت: 284 ه / 897 م)، تاریخ
ص: 224
اليعقوبي، دار صادر، بیروت، لبنان / د. ت).
63. الأمين، حسن، مستدركات أعيان الشيعة، مطبعة ودار التعارف للطباعة، (د. ك / 1978 م).
64. الأميني، عبد الحسين، الغدیر، ط 4، دار الكتاب العربي، بیروت (لبنان / 1977 م).
65. الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تح: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات ، بیروت، (لبنان / 1403 ه).
66. الزركلي: خير الدين، الأعلام، ط 5، دار العلم للملايين، بیروت، (لبنان / 1980 م).
67. علي، د. جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، ط 1، مطبعة آوند دانش، دار إحياء التراث (د. ت / د. ك).
68. اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام:
. موسوعة طبقات الفقهاء، تح: جعفر السبحاني، ط 1، مطبعة الاعتماد، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، (قم / 1422 ه).
. معجم طبقات المتكلمين، تقدیم، جعفر السبحاني، ط 1، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، (قم / 1426 ه).
ص: 225
ص: 226
مقدمة المؤسسة:...5
المقدمة:...9
الفصل الأول: الجانب الاجتماعي
اسم أبي ذَرِّ الغَفَارِيِّ ونسبه وكنيته:...15
حياته قبل البعثة النبوية:...21
إيمانه قبل البعثة النبوية:...23
حياته بعد البعثة النبوية الشريفة:...27
هجرته إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم وإسلامه:...35
الرواية الأولى:...35
الرواية الثانية:...41
الرواية الثالثة:...43
ذريته:...49
مذهبه:...50
منزلته عند الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم:...53
1. عند الله تعالى:...53
2. عند رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:...54
ص: 227
3. صلته بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم:...55
منزلة أبي ذر عند أبي الدرداء:...56
ملامح أبي ذر وخلقته:...57
غزواته:...59
1. معركة بدر:...60
2. فتح بیت المقدس:...60
3. غزوة حنين:...60
4. غزوة تبوك:...60
5. أبو ذر في مصر:...61
6. فتح الشام:...61
صفاته الشخصية:...62
الأمر بالمعروف:...62
أمّة:...62
الزاهد:...63
الصادق:...66
العابد:...69
ص: 228
العادل:...71
العالم:...71
الكريم:...72
المتواضع:...74
المؤمن:...75
غیبیات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عنه:...77
دلائل وفاته:...77
خروجه للربذة:...80
موته وحده:...80
وفاة ابن عمه:...81
مناقبه:...82
کرامات أبي ذر:...84
1. تحویل ماء زمزم إلى لبن:...84
2. كلامه مع الذئب:...85
وضعه المعاشي:...86
تربية الأغنام:...88
ص: 229
الخدم:...90
وفاته:...92
الفصل الثاني: الجانب الفكري
شيوخه:...95
تلاميذه:...96
الإقامة الجبرية للفقهاء:...112
الفقيه:...113
أبو ذر وصحف الأنبياء علیهم السلام:...118
الأنبياء:...118
صحف النبي إبراهيم علیه السلام:...118
صحف النبي موسى علیه السلام:...119
أبو ذر وعلمه بالإمام الحسين علیه السلام:...120
مناظرة أبي ذر الغفاري مع أبي هريرة:...121
المحدث:...123
ذکر فضائل أهل البيت علیهم السلام:...124
ذكر فضائل أهل البيت علیهم السلام في المدينة:...127
فضائل الإمام علي علیه السلام برواية أبي ذر:...130
ص: 230
وصايا الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم لأبي ذر:...133
من وصايا الرسول لأبو ذر:...153
سیاسه أبي ذر المالية:...156
توعية الرعيّة:...157
بیت المال في فكر أبو ذر:...159
ادخار المال:...160
اشتراكية أبي ذر الغفاري:...161
قناعته بالعطاء:...163
دلائل طاعته لعثمان:...165
أبو ذر ناصحاً لعثمان:...167
عثمان وحرق المصحف:...169
خلاف أبي ذر مع عثمان:...169
علاقة أبي ذر ب (عثمان):...170
سبب خروج أبي ذر:...173
هجرته إلى الشام:...176
أبو ذر في الشام:...178
ص: 231
متابعة أبي ذر تذکیر معاوية:...182
منزلة عثمان عند أبي ذر:...184
دور معاوية في النفي:...185
موقف عثمان من كتاب معاوية:...187
عودة أبي ذر للمدينة ثانيةً:...189
موقف الإمام علي علیه السلام وأصحابه من النفي:...205
الخاتمة:...211
قائمة المصادر والمراجع
المصادر والمراجع:...217
أولاً: المصادر...217
ثانياً: المراجع:...225
المحتويات...227
ص: 232