لعلنا نعتبر

هوية الكتاب

العتبه العباسیه المقدسه

قسم الشؤون الفکریه و الثقافیه

معهد تراث الانبیاء صلوات الله علیهم للدراسات الحوزویه الاکترونیه

سلسله اصدارات مدونه الکفیل

2

لعلّنا نعتبرُ

حنان الزیرجاوی

ص:1

اشارة

لعلنا نعتبر

حنان الزیرجاوی

إصدار:

معهد تراث الانبیاء علیهم السلام

للدراسات الحوزویة الاکترونیه

التابع للعتبه العباسیه المقدسه

الطبعه الاولی: 1441ه-

رقم الاصدار: 24

العدد: 100 نسخة

جمیع الحقوق محفوظة للمعهد

ص:2

مقدمة المعهد

معهد تراث الأنبياء، مؤسسة علمية حوزوية تُدرّس

المناهج الدينية المعدَّة لطلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنت وليست مباشرة.

يساهم المعهد في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت عليهم ووصولها إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصص من المبرمجين والمصممين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية.

وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد على عاتقه تأسيس جامعة متخصصة في هذا المجال، فتم إنشاء جامعة أم البنين لها الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلامية لإعداد مبلّغات رساليات قادرات على إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

ص: 1

على أنَّ المعهد لم يُهمل الجانب الإعلامي، فبادر إلى إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل على تقوية المحتوى الإيجابي على شبكة الانترنت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجهاً لإيصال فكر أهل البيت لة وتوجيهات المرجعية الدينية العليا إلى نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقي العصري.

وأحد فروع المعهد هي مدونة الكفيل، التي تهتم بنشر النتاجات الأدبية والعلمية للأقلام اليافعة والهادفة، ضمن المواضيع الإسلامية والعلمية والتربوية والاجتماعية والأدبية وكل ما من شأنه أن يساهم في زيادة الوعي الإيجابي في المجتمع. هذا الكتاب ( هي المجموعة القصصية الثانية لمؤلفتها ( حنان الزيرجاوي)، حيث سبقتها مجموعة قصصية أولى بعنوان ( خواطر قلم) مما نُشر على موقع المدونة على الانترنت، ارتأينا أن نجمعها في كتاب واحد أيضا ضمن سلسلة الإصدارات المتعلقة بما يُنشر في مدونة الكفيل. نسأل الله عزوجل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبله بقبوله الحسن، إنه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 2

الإهداء

عندما شحّت حقول خدماتي من تقديم شيء لإمام زماني أخذ قلمي ناطقاً لدعم دعوته قبل ظهوره، لأن ما يبقينا على إصرارنا هو ذلك النور الساطع والسراج المنير لكل من ضلّ طريقه في ظلمات الفتن، فأهدي هذه اللوحة من القصص للإمام الغريب ، الطالب بشار السليب، والمشرد في بقاع الأرض، أقدم له ما رسم قلمي من كلمات وهذا أقل ما أقدم .

ص: 3

ص: 4

الطفولة المقتولة

بين الماضي والحاضر

رقية طفلة صغيرة هي الأصغر إذ سبقها ولدان محمد وعلي وبنت اسمها فاطمة.

رقية هي المدلّلة عند أبيها يصحبها إلى محل عمله في دكانه الخاص الذي كان يعمل به.

كانت كثيراً ما تشاكس الزبائن بخفة دمها وقد أحب الكثيرون دلالها ومشاكستها.

بل لعل البعض أخذ يشتاق لتلك اللمحات الجميلة التي تصدر منها، فيأتي إلى دكان أبيها ليرى رقية ويداعبها ويخرج.

أصبحت واسطة جذب للزبائن وسط ضحكات أبيها وتقبيله لها.

هكذا كانت حياتها جميلة حتى في البيت تكون إلى جانب أبيها وتحاول أن تثير والدتها بأن تعتنقه وتقول: هو لي وحدي! وسط ضحكات أُمّها وإخوتها، وعند سماعها الأذان تسرع

ص: 5

لترتدي إحرامها الجميل الصغير وتهيئ سجادة الصلاة لها ولأبيها.

كثيراً ما حاول الآخرون أخذ مكانها ولكنها كانت تغلبهم بخفة دمها وشقاوتها، وعندما يقولون لها أتعبت أباك، تقول لهم : لا عليكم أنا عزيزته.. أنا حبيبته دعوني..

وفي يوم ربيعي جميل ومع نسمات الصباح الجميلة وهي مع أبيها في محل عمله دخل أحد الزبائن الذي اعتاد على شقاوة رقية داعبها ثم قال لها : أحضرتُ لكِ هدية جميلة. :فقالت: هل هي أجمل من أبي؟ لا أعتقد هناك هدية أجمل منه. ضحكا بقهقهة وقال لها: نعم هو أجمل هدية.

ولكن تعالي معي إلى السيارة في الجانب الآخر من الشارع وسأريك مفاجأة.

ذهبت معه بعد أن أمسكت بيده بقوة خوف السيارات المارة، وحين وصلت إلى سيارة ذلك الرجل ودخلت بها لترى المفاجأة وإذا بصوت انفجار يهز المكان، وساد الظلام وهي ترتجف من الخوف والهلع.. وبعد دقائق خرجت مسرعة نحو محل أبيها الذي أصبح ركاماً.

فعثرت بشيء، دققت النظر، وإذا برأس أبيها يشخب منه الدم! جلست وضعته في حجرها .. انحنت عليه تلثمه وتصرخ عالياً بابا .. بابا .. بابا، حتى أغمي عليها.

ص: 6

هرع إليها من كان قريب من المكان ليحملوها وهي بلا حراك.

أوصلوها إلى المستشفى وكان قلبها ينبض .

أسعفوها، فتحت عينيها، ودارت بهما وسط الحاضرين وهي تتمتم ..بابا.. بابا ..

وسط دموع الحاضرين وبهذه الأثناء حضرت أُمها لتعانقها وهي تبكي حبيبتي حبيبتي.. أين أبوك؟ ووسط تلك الدموع وهي تردد .بابا.. لم تتمالك الطفلة مشاعرها وتنادي: أين أبي ؟ أين أبي؟

وهي مذهولة مدهوشة لا تريد أن تصدق أن أباها رحل عنها وجسده تقطع أوصالاً، فأخذت تنادي: أريد أبي، قبل قليل كان معي، أين أبي ؟ أُريد أبي، وسط دموع الحاضرين وآهاتهم، قالت لها أمها: بنيتي، إن أباك مات ورحل عنا !

قالت :رقیه : لا لا لا، قبل قليل كان معي بكى كل من حضر عندها، وعلا الصراخ والبكاء في القاعة، جاء الطبيب والممرضون فشاهدوا ما يجري فاختنقوا بعبرتهم ونشيجهم كتب لها الطبيب وصفة من العلاج المهدئ وأُخرجت من المستشفى ورجعت إلى الدار ، ولكنها كانت ترفض أخذ العلاج

المهدّئ.

وتقول : أين أبي ؟ لقد وعدني بهدية، أين هو؟ أين هو أبي؟ أبي.. أبي، أين أنت؟

ص: 7

أخذت تركض إلى غرفته علّها تجده أخذت تشم رائحته في أرجاء الغرفة، هذه ملابسه، هذا قميصه، وهذه حاجياته، وهي تدور مذهولة وتكلم أباها.

وإذا بجنازة أبيها جاؤوا بها استعداداً للتوديع الأخير، ليدفن في مثواه الأخير، شمت ريح والدها، ركضت وهي تنادي: جاء أبي.. جاء أبي تسمّرت قدماها وهي ترى أباها وسط التابوت وقد علا العويل والصراخ في أرجاء الدار رمت بنفسها على الجنازة وهي تنادي أبي أبي إلى أين أنت ذاهب ؟

أتتركني وأنا مدللتك؟

بابا من يلاعبني ويضاحكني؟

وصارت تنادي بابا.. بابا .. ثم هدأت، والصراخ والعويل من أهلها والحاضرين يبكون لفقد عزيزهم ويبكون حال هذه الطفلة رقية، ولكنهم ذهلوا لأنها سكنت، حملوها وإذا بها قد التحقت بأبيها وفارقت روحها الطاهرة هذه الدنيا، لترفرف روحها مع أبيها الشهيد، لتكون قصة رقية الحاضرة بصمة تشابه ما جرى على السيدة رقية في الماضي، فالقتلة هم نفس القتلة، والقلوب المتحجرة التي لا تعرف للرحمة معنى ولا تجد فيها للإنسانية أثراً، ولتكون مواساة رقية الحاضرة للسيدة الطاهرة رقية بنت الإمام الحسين علیه السلام ، لتشير إلى مظلومية أهل البيت وأتباعهم في الماضي والحاضر.

ص: 8

آهات ما زالت تزفر

دخل بهدوء، بخطوات واثقة، وقلب يكاد لا يستقر بين تلك الأضلاع المرتجفة، بل كان يضع يده أو كلتيهما على صدره وهو يخاطب تلك العضلة المرتجفة: مهلاً مهلاً أيّها القلبُ أرجوك أتوسّلُ إليكَ لا تسبقني ؛ لكي تحظى بشرف اللقاء، رويدك أيها المتلهف شوقاً، ألم نتعاهد أن لا نخون بعضنا؟

هل الشوقُ دفعك إلى نقض العهود؟

فسمعت قهقهته وهو يقول: وهل للقيا مَنْ تُحِبُّ مِن عهود؟

فأمسكته بقوةٍ؛ كي لا يفرّ مني.

نعم، هذه أول مرة أتشرف بدخول مسجد كان أشرف الخلق يجلس فيه هنا وهناك، وكأنّي أسمع شجي صوته وهو و ينادي على الأمة يعظها، يرشدها، ينذرها، يبلغها، وأنا في طريقي إلى منبره الشريف لفت انتباهي شيء كأنه غريب على هذا المكان، شيء لا يوضع إلا في أماكن الخوف والتخويف.

نعم ، دققتُ النظر ظناً مني أنه يُخيّل إليَّ هذا.

ص: 9

ولكن عادت إلى عيني لتخبرني بحقيقة ما رأيت.

فخاطبتني: أيها المسكين إنّه سوطٌ.. إنّه سوط.

عجباً لهذا السوط أن تكون له تلك المكانة وذلك الاحترام فيوضع بهذا المكان ويُحجب بقداسة عن الملامسين، فجذبني فضولي لأجلس قبالته منبهراً متعجباً، وأفتح عيني تارةً وأغمضهما أخرى وأقترب منه .

فزعت وأنا أردد اسم الله ، وكدتُ أُجَنُ بعدما سمعت زفرةً خرجت من خلف ذلك الزجاج.

وإذا بصوتِ ذلك السوط يناديني: لا تخف رويدك. فتحت عيني باستغراب ،نعم، كادت عيني أن تخرجا من حدقيتهما .

نعم نعم أنا أكلمك ... يأتيني الصوت ثانياً من وراء تلك الحجب الزجاجية.

ألتفتُ يميناً شمالاً أرى الناس منشغلة ولا أظن أحداً سمع هذا الصوت.

ما بك؟! كأنك جننت؟! ها أنا أكلمك نعم، أنا أعلم ما تريد قوله: لم أنا هنا ؟

ولماذا وضعت خلف الزجاج؟ ومَنْ أكون؟

وماذا عملت؟

ص: 10

التقط نَفَساً وسأخبرُكَ، وسأشبع فضولك، ولكن بشرط أن تستمع إليَّ وأنت صامت.

الإجابة.

فأجبته بحركة من رأسي بالموافقة؛ لعجز لساني عن باختصار وبإيجاز ولا تسألني المزيد فإنّ ذلك يجعلني لا أعرف للنوم طعماً.

فأجبته بالموافقة بهزّة رأس خفيفة.

أنا ذلك السوطُ الذي كان بيد ذلك العبد اللعين.

كان يلوّح بي ويضربُ كلّ مَنْ يُخالف لسيدِهِ أَمراً.

وكنتُ فَرِحاً وأنا أُلامس الأجساد الناعمة الرقيقة أتنقل بين جسد أبيض وآخر أسمر، ثم جسد شديد السواد، وافتخر على أصحابي بأنّي أكثر منهم ملامسة للأجساد.

يسير إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم لما مَسَكَني صاحبي ورأيته خلف أسياده، فجاؤوا إلى دار كنت أخشى أن أمر بالقرب منها؛ لأنّها عدوة السياط وليس لي صديق فيها.

بل كنت أعشق أهلها ؛ لأنهم لا يُتعبون أصدقائي.

نعم، اقتحموا تلك الدار، وأخرجوا منها رجلاً يخشاه الجميع، وسرنا وخرجت خلفنا امرأة في خمارها، وكان صوتها ينزل من السماء، بل هو صوت السماء.

ص: 11

هنا التفت سيد العبد الذي يحملني وأمره بالرجوع إليها وضربها.

وأنا لا أكاد أصدق ما أسمعه، عاد اللعين وهو يهزّ بي هزاً عنيفاً، وشعرت حينها أنّي أطيرُ في الهواء، وهوى بي نحو ذلك الجسد أمسكت نفسي، تعلّقتُ بكلّ شيء يُلامسني، توسّلتُ بالهواء أن يمسكني، ولكنّي فشلت.

خاطبت نفسي: مهلاً مهلاً لا تقسى على جسد أحب السجود والتذلل والخشوع والخضوع الله، ولكن قوة ذلك العبد أجبرتني على أن أهبط بقوة عجيبة، أحسستُ معها أنَّ ذلك الجسد قد تمزّق.. جرى.

كفى كفى ، أرجوك لا أستطيع أن أكمل.

فما زلتُ أتألم منذ ذلك اليوم..

ما الذي جاء بك نحوي؟

فالكثير الكثير يراني ولم يكترث بي.

وانقطع الصوت..

نعم، انقطع الصوتُ، وانقطع معه قلب لا يكاد يصدقُ ما جری

آه.. آه ..

ص: 12

قطرات بلا سحاب

بعد أن أتم صلاة الليل كعادته فتح كتاب الله تعالى؛ ليقرأ بعض الآيات الكريمة بصوته الشجيّ الذي ما أن تسمعه إلّا ويقشعر بدنك لعظمة خالق هذا الكون ورحمته وعطفه على ،عباده، ويُشعرك بأنك تُبحرُ في ذلك العالم المتلاطم الأمواج الذي

تتقاذفه الأهواء.

نعم هكذا اعتاد أن يفعل.

وقبل أذان الفجر بقليل خرج إلى باحة داره وهو ينظر إلى السماء ويفكر في هذا الخلق غير المتناهي، وإبداع صانعه وقدرة خالقه.

ثم تأخذه التفاتة إلى قمر تلك الليلة المنير.

نعم، إنّها ليلة الثالث عشر من الشهر القمري ونور القمر يُبهر الناظرين، وبين تلك الالتفاتة وسحر الانبهار، تذكر أنها ليلة

ص: 13

استشهاد الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين وبضعة المصطفى وحليلة المرتضى وأم السبطين.

جلس وهو يجر آهات حزنه .. جلس وهو يتذكر ما عانت من آلام جلس وهو خائر القوى..

ص: 14

المشكاة من هي؟

حينما ترى أشعة الشمس الهادئة، وهي تخترق الأشجار المتشابكة، وتهب نسمات الهواء بروائحه العليلة، وتتصادم مع وريقات الأشجار الجميلة، فيصدر صوت حفيفها يأخذ بالألباب، كأنه سُلَّم ،موسيقي، تعزف يد القدرة على أوتاره، إنه صوت الطبيعة صوت الهدوء، وأنت في قمة الخشوع والناس في جموع، وأنت عنهم في هجوع ، أعلم أنه صوت تسبيح أنفاس فاطمة لا ، لأنها جمال الرب في الوجود، وهي سيدة كل موجود.

وحيدة العصور وفريدة الدهور قدوة النساء وسيدتهن، كالقمر في ليلة البدر ، أو كالشمس في رابعة النهار عالمة غير معلّمة، وفاهمة غير مفهمة، وهي بضعة النبي صلی الله علیه و آله و سلم الله ، وخزانة الأسرار، ووالدة الأئمة الأطهار ، تبلغ الأحكام وتدرس علوم الدين والقرآن كان علمها من الله تعالى لا يقبل الشك

ص: 15

والخطأ والشبهات، وكيف لا وهي بضعة المصطفى محمد الله ، وروحه التي بين جنبيه.

هي الصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضية والمحدثة والزهراء وفاطمة القدسية بنت سيد الكائنات وفخر العالمين محمد صلی الله علیه و آله ولدتها أم المؤمنين خديجة سلام الله علیها الكبرى سلام الله علیها سلام الله علیها سيدة مكة

وعظيمة عصرها، وأرضعتها من مصدر العفاف والشرف ينبوع الطهر والنقاء، فتربت في هذين الحجرين الطاهرين، هي مشكاة نور الله جل جلاله ، زيتونة عم الورى بركاتها، هي عنصر الشجرة الطيبة التى هى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلمصلى الله عليه وسلم وفرعها على علیه السلام.

ولكنها ما لبثت حتى تفاجأت بالانقلاب وتبدل الأوضاع وأفاقت من نومة العز والرأفة والحنان في ظل حامل القرآن، ومشرع دستور الحكم والأديان، وحامل لواء العدل والإيمان على هول مصيبة فظيعة وأمر مفجع مؤلم ألا وهو رحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كانت بداية الأيام السود، وبدأ حالها بالجمود وأمرها بالركود، وصار الذين يطلبون القرب منها وينشدون رضاها بالأمس من أشد خصومها، بل هتكواسترها وأحرقوا دارها

ص: 16

وكسروا بابها وعصروها فكسروا أضلاعها وأسقط ما في أحشائها، وبدأ زمن الانقلاب وظهور سلطنة المنقلبين.

نعم، هذه هي حالة السيدة فاطمة الزهراء سلام الله علیها من بعد العز والشموخ ، تستصرخ وتستغيث برب العالمين.

عندما تعتريك هيبة وخضوع من هذا المنظر المهيب البديع، ولا يجالسك في تلكم اللحظات سوى الغفار السميع، فتعوم في بحار الأفكار، تناغي وتناجي الجبار، ثم تقول له: يا جابر العظم الكسير بكسر فاطمة يا جابر الهم العظيم بحق الفاهمة، يا جبار القلوب المنكسرة بحق القائمة، ويا أنيس النفوس المتعسرة بحق أُمّ الأئمة، أنت للقلب روح وللروح قلب، وأنت للعقل فكر وللفكر عقل ولب، وأنت للنفس تنفيس وللتنفيس نفس وحب وأنت للبدن مهجة وللمهج بئر وجب، فالسلام على مهجة المختار وحبيبة علي وصي الجبار.

ص: 17

سماء تحتضن الدماء

بين تخبط لآراء القوم ونية معدومة لنبلة قوس حرملة عليه لعنة الله للطيران في فضاء كربلاء نحو بريق نحر قمر رفعته شمس من بعيد، إذا بقرارة الشيطان استقرت في نفوس القوم بأن يقطعوا النزاع، ولا نزاع إلا في نفوسهم بين صراع الأفكار الشيطانية والرحمانية، لأن ما رفعته الشمس هو راية للسلام ونفوسهم لا تحوي إلّا الجهل والظلام.

استقرت آراء القوم بأن يطلقوا تلك النبلة غير الراضية على نفسها، وما هي بنبلة وإنما ظلام أطفأ نور ذلك القمر من هذه الحياة، فحلقت النبلة بين مطبات الرياح وهي تخاطب نفسها ماذا عساني أفعل؟

وما بين صراع ضمير النبلة وقرار الرامي (حرملة عليه لعنة الله، إذا بها سقطت في ذلك المنحر الشريف، سالت تلك الدماء وكأنها در منشور في أبريق فضة تحمل البراءة والسلام

ص: 18

لتصرخ للعالم بقتل الطفولة، فاستقبلتها أكف الرحمة والحنان والأبوة كي لا تقع على الأرض التي سترى تلك المآسي والجرائم لأنها لا تتحمل ما سيجري على أهلها وذويها من القتل وسفك للدماء وحرق للخيام وسبي للنساء، فرفعت تلك الأكف دماء البراءة والطفولة ورمت بها نحو السماء كي تحتضنها حجور مطمئنة وصدور دافئة من بين أكف السماء الزرقاء والحنان الذي لا تحمله تلك الأرض بعد أن ذبح فيها طير من طيور السلام من آل بيت أبي طالب علیهم السلام.

ص: 19

مشاهد في طريق الجنة

بما أنّي موظف ووظيفتي مرتبطة ببناء الإنسان؛ بناء فكره وشخصيته، بناء أخلاقه، وذاته، لذا اعتدت كل عام أن لا أقصد قبلة الأحرار إلّا بعد تعطيل الدوام.

شددت الرحال، وبما أن موعد اللقاء بالعشق الإلهي وذكرى الأربعين بعد ثلاثة أيام، فقد عزمت على المسير وسط تلك الأمواج البشرية الزاحفة المتلهفة للقيا منير العقول ملهم النفوس وداعيها إلى الإباء، والتضحية، والتقوى. غصتُ في أعماق تلك الأمواج التي اختلفت وجوهها بين أسمر والأبيض والأشقر، وتعددت لغاتها ولهجاتها وتباعدت أوطانها، ولكن جمعهم هدف واحد وغاية واحدة ونداء واحد:

لبيك يا حسين .. لبيك يا حسين..

رغم خطواتي البطيئة نوعاً ما، ولكن شعرت بأن قوة خفية تحركني بشغف كبير وأنا أسترق النظر في بعض الأحيان لأرى مشاهد لا تحدث في كل بقاع الدنيا إلّا هنا.

ص: 20

وقبل أن يحين وقت صلاة الظهر اتجهت نحو موكب الخدمة زوار قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام الأستريح وأتهيأ للصلاة جلست فلفت انتباهي رجل ستيني ومن ملامح عرفت أنه من بلد آخر، رأيته يبكي بصمت دموعه تنهمر بغزارة وهو يتمتم بكلمات فدفعني فضولي إلى الدنو منه فسمعت تمتمته وهو يقول: السلام عليك يا أبا عبد الله .

ألقيت عليه تحية الإسلام، فردَّ بأحسن منها، ومن جوابه تأكدتُ أنه من بلاد أخرى ولكنه يجيد لغة العرب.

بادرته سائلاً: هل هناك شيء أزعجك؟

هل أستطيع أن أقدم لك مساعدة؟

ما هذا الذي أراه؟ فغزير دموعك أقلقني..

فردَّ شاكراً وهو يقول: يحق لي أن أبكي وأفتخر في نفس قالها بينما هو يردد ما أعظمك يا سيدي..

ثم التفت نحوي وقال: أتعلم ما حصل لي؟

فأجبته مع حركة بكتفى: لا أعلم.

فقال لي: بعد أن شعرت بالتعب جلست على كرسي في الطريق، وبمجرد أن جلست وإذا بشاب يقف أمامي ظننته يريد

ص: 21

حاجة أو ربما ينتظر رفيقاً له، وصادف وقوفه أمامي، ولكنه لم يتحرك من مكانه مدة جلوسي، فقبل أن أهم بالنهوض سألته:

أخي ألك حاجة ؟

أتريد أن أساعدك؟

فابتسم في وجهي وقال: يا عم، إني لا أملك شيئاً لأخدم به الزائرين إلّا جسدي، فأنا أصنع ظلاً من الشمس لكل زائر يجلس ليستريح!

عانقته شاكراً وتساقطت دموعي، ومازالت لا ترضى أن تبقى في محاجرها.

دمعت عيناي بتأثر مثلما حدث لهذا الغريب وأنا أردد ما صنعت يا حسين بهذه الأنفس لترقى إلى هذا العطاء؟

هؤلاء الخدّام يعلمون أن لا تصوير سيجعل منهم مشهورين، ولا أموال ستغدق عليهم..

لأكمل رحلتي بوعي مختلف عما سبقه وعي قرر أن يراقب خدّام الإمام الحسين علیه السلام علیه السلام وأن يتعلم منهم ما يصنع الإنسان، لأنني تعلمت في مسيري هذا أن وظيفتهم البناء الروحي للإنسان، وهذا ما كان ينقصني من خبرة في وظيفتي.

ص: 22

قيود لم تحجب الشمس

هل سمعت يوماً عن شمس قيَّدها الظلام؟!

كان يوم العاشر من محرم انتصار للدم درس للأخوة فناء وتضحية، فداء ووفاء، عزّ وإباء، تقودها عبقة فواحة نثرت شذى عبيرها في كل حيّز تواجدت ،به هذا من فضله وألق من نبله وكرامةً لآل بيت رسوله إن القلم والفكر عاجزان عن وصفها والإطراء عن شخصها، مهما حاولنا الخوض في عظمة هذه الشخصية الفذة، كلما ازددنا تعجباً من مواطن عزها وشموخها وعبقريتها ، ونبوغها الفكري، كيف لا وهي ابنة حيدر.

لما بدت تلك الحمول سيرها، أشرقت تلك الشمس على ربى متنها، لم تكسرها قيودهم وسبيها ، ولم تحجب شمسها بظلم حاديها بعد فقد إخوتها، فسحابة ظلماء كهذه لم تستطع حجب روع نور شمسها. عندما أكتب عن تلك السيدة معلنة عن اسمها أبدأ بحرف الزاي تتساقط عندي تباعاً الحروف التي قبلها وبعدها كأنها

بسباق ! أو أنها تستسلم لتلك القائدة أو لا تستطيع خط العبارات

ص: 23

عنها، ليس سهلاً لملمة تلك الحروف وجمع شملها لاستعادة الكتابة فقد يسقط حرف آخر سهواً!

هكذا تفعل الحروف عند ذكرها ، فما بالك بالروح؟ حتى وأن جمعت الحروف المناسبة كيف ترمم كسر الروح وترأب صدعها؟

خانتني يدي وهي تكتب وتستدعي الحروف، فجاءت الياء حزينة وممزقة الفؤاد وتمسك معها النون النون تمشى بتكبر وهيبة ووقار، ولها شأن عظيم، لكن الدماء تغطيها وخلفها تمشي الباء وقد غطاها السواد، كانت محتشمة بكرامة ورفعة لم يُعرف مثلها على طول الزمان.

سيدتي (زينب سلام الله علیها)، ها هي حروف اسمك وقد اكتملت يا مولاتي وأتمت معها حكايات النضال والتضحيات، كشمس أبت أن تحجبها قيود الظلام.

حتى عانقت الشمس، ونثرت شعاعها نبراساً مد خيوطه على امتداد الزمن، وبقى كمعين لا ينضب ولا يفنى.

ص: 24

شاهد عيان .. ولكن ليس بإنسان

كنت غارقة بين طيَّات الطفوف وأحداثها المتشابكة المروعة في نفس الوقت كانت كل المواقف والبطولات لها جبل يجسدها من تلك الأنوار الطاهرة من الصغير والكبير، فإذا بي أصل إلى محطة ضبابية بعد ذبح سيد الشهداء علیه السلام ، بحثت عن إنسانِه فلم أجد، فدققت النظر فوجدت تلك المواقف والشهادات لم تكن لإنسان، هذا ما حيّرني، لأن هذه المواقف لا أظن أن تكون إلا من إنسان ذي شأن، بعد التمحيص والتدقيق بين طيات المواقف أوصلت الخيوط المتشعبة وإذا بي أجد أن الذي يجسد ذلك هو حيوان، وأي حيوان!

العجيب الذي يذهلني أن الأنساب تطلب في الإنسان 3 وليس في الحيوان، دققت في نسب مهر الحسين علیه السلام ا فوجدته من : سلالة كانت ملاصقة لبيت النبوة ومهبط الوحي، أخذتني تيارات التفكير والتعمق وعواصف الرجوع للماضي.

ص: 25

ما هي إلا ساعات وإذا بالمهر يرى دين الله قد قطع بسيوف الغدر والنفاق ورماح الظلم والشقاق من أيادي ليس للرحمة في قواميسهم وجود، أخذ يقبل البدن المبارك المكرم، يمرغ ناصيته بالدم المطهر المعطر، ويصهل صهيلاً عالياً، توجه نحو الخيام يضرب الأرض برجله ليخبر أهل البيت باستشهاد سبط الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلمصلی الله علیه و آله وسلم ، فعرفت النساء مقتل الإمام علیه السلام .

..

كانت نجوم آل محمد علیهم السلام منيرة داخل ليل الخيام، صوت أفزع الجميع وأبكاهم، هذا الصوت لم يسمع من قبل لأن عظم المصيبة أنطقته، دخل لقلوب المخدرات الفزع، عندما سمعن المهر يحمحم ويصهل صهيلاً عالياً وهو ينادي: الظليمة الظليمة لأمَّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها .

نداء هذا المهر لم يكن عن جزاف، كيف وهو قد حمل الرسالة بأكملها على ظهره ورأى لهيب العطش يحرق أوراقها ؟! كبراق جده حمله كي يلاقي رب الجلالة، حمل نوره على ظهره ليضيء به ظلمات ،زمانهم، ليتم رسالة السماء وما بدأ به نبينا، لكن ماذا جرى ؟ قد أطفئوا النور ليعم الظلام، في حين أن الحيوان لم يرتض لنفسه أن ينزع عن نفسه رداء الوفاء، فأظهر المواساة تجاه الإمام الحسين علیه السلام علیه السلام ، حين أخذ يرفس برجليه كل من يقترب منه.

وجه للمقارنة بين بني أمية وبين الميمون فرس فهل هناك هناك الإمام الحسين علیه السلام علیه السلام؟ !

ص: 26

صراخ الأطفال لا يحمله فحوى المقال

بين هدوء وضجيج من أصلاب مصيبة لا تحملها مقل السماء إلّا أهطلت عليها ببكاء الدماء إذ بعد ذبح وسحق ورضٌ وحرق خيام وسبي حرم خرجت تلك الأقار من خباء النبوة والكرامة بعد أن ولجت فيها نيران الشر والنفاق، فقلب يهفو للبحث عن أب، وآخر يهفو نحو أخ وتلك تبحث عن عم فتهرول في البيداء من صحراء كربلاء، لا تعلم إلى أين المقصد، عند النهر كفوف قطيعة وعلى الغبراء نحور ذبيحة، أين الملاذ من سياط الأعداء، ما كان من أصوات صراخ الأطفال وبكائهم إلا قبلتان تلوذ بهما، واحدة كعبة السواد التي خيمت عليها المصائب والهموم الثقال لرعايته الحرم ،والأطفال، وهي على التل تندب بنشيج الحنين أخاها الحسين علیه السلام ، تلك مولاتنا زينب سلام الله علیها لا الكبرى سلام الله علیها، وكعبة أخرى أضماها العطش وأهلكتها حرارة المرض وأخذت بقواها، مع ذلك كانت عليه هموم الجبال، فمسؤولية العيال لم تكن الوحيدة، فقد كانت عليه مسؤولية

ص: 27

الأُمَّة بأكملها، هو ذلك عليل كربلاء يتكئ على عصا تحمل الحزن والأسى لما رأته عيناه الغائرتان المهطلة بدموع الشوق للالتحاق بسفينة العشق والشهادة مع أبيه الإمام الحسين علیه السلام ، ينظر يميناً شمالاً لا يرى إلا نيراناً أحرقت ذلك الخباء والملاذ وأطفالاً مشردة على رمال كربلاء الحارة.

بين هاتين القبلتين لا يجد الأطفال سبيلاً إلا الصراخ والبكاء من شدة المصيبة وألم الحيرة لعدم وجود الملاذ، فهذه الأصوات من صراخهم تسرد لنا بين طياتها مصائب فجيعة لا تتحملها براعم ندية بهذا العمر إلا إن كانت قد غرست وسقيت وترعرعت في بيت النبوة.

ص: 28

ناقة تبكي لراكبها

ذهبت كعادتي إلى مجلس العزاء في المسجد القريب من بيتنا، الذي كنت مواظباً على حضوره لسماع ما يلقيه الخطيب على أسماعنا من مواعظ و حِكَم، فقد من الله تعالى عليه بطريقة وأسلوب شيق في طرح معلومته التي يستقيها من المصادر الموثوقة، يؤطرها بأسلوب ممتع جميل لتصل إلى المستمع صافية لا تشوبها شائبة.

دخلت المسجد واتَّخذت مكاناً يمكنني من رؤية المتحدث، لأني أشعر بلذة أكبر عندما أرى من يلقي عليَّ حديثه.

ختام مجلس العزاء رسم لنا صورة حزينة تدمي القلب تجعل العين تُخرج ما فيها من دمع ينساب على خدود باردة فيحرقها بحرارته.

نعم..

ها هو يذكرنا بما عانته عقيلة الطالبيين مولاتنا زينب سلام الله علیها .

ص: 29

لحظة ركوب تلك الناقة العجفاء، وأنا متفاعل مع الحدث تساءلت مع نفسي، كيف تجرأوا على أن يجعلوا زينب سلام الله علیها تمتطي تلك الناقة الهزيلة بغير وطاء ؟!

كيف وافقت تلك الناقة بأن تحمل خير النساء بعد أمها هكذا ؟

وكيف.. ولماذا؟ وأين؟

تساؤلات جمة تجول بخاطري.

انتهى المجلس، خرجت وأنا أكفكف دموعي لترتسم أمام مخيلتي في طريق العودة، محاورة ظننتها يقيناً بعد الفراغ منها

لكنها من بنات أفكاري الغارقة في هول ما جرى.

كأني أمسكت تلك الناقة وزمجرت بوجهها معاتباً بما في داخلي، إذا بها تكشر بوجهي ورغاء فمها كاد يغطي وجهي. .مهلاً .. مهلاً .. يا صاحب القلب المحترق ألماً لما سمعت.

مهلاً ..

ألا تسمع مني لعلّي أجد لنفسي عذراً عندكم وقبولاً. سأروي لك باختصار مشاهد ذلك اليوم المروعة.

ص: 30

أتوا بنا عنوة بعد أن جوعونا ، كلَّما أبطأنا بالسير أشبعونا ضرباً، حتى أوقفونا وسط لفيف من الأطفال والنساء، كانت من بينهم امرأة ذات جلال ،وقدر خَفِرة ذات هيبة ووقار، كانت تُركِب الأطفال والنساء حتى لم تبق من النياق إلّا أنا وأختي، بقي

رجل بانت عليه العلة والتعب وتلك المرأة العظيمة فدنت منه وقالت له: أركب.

قال: لا، لا بل اركبي أنت.

فعلاً أركبها ظهري وأنا أشعر أن عظامي تؤلمها، لم أتمالك نفسي انهمرت دموعي لأبلل بها أرض كربلاء.

ص: 31

بين زنزانتين

وهو يؤدي زيارة يوم الأربعاء، والتي اعتاد أن يؤديها، ويزور كل إمام بيومه الخاص به، وكما تعلمون أحبتي أن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام هو أحد الأئمة الأطهار علیهم السلام، الذين يزارون في هذا اليوم.

فعندما وصل إلى هذا المقطع من الزيارة يا مولاي يا أبا إِبْرَاهِيمَ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ»، أحس برعدة في ثنايا جسده النحيف، ودمعة ترقرقت وسط تلك العينين الغائرتين.

عذراً سادتي..

فصاحبي الذي أروي عنه هو سجين في أحد سجون الطاغية قبل عشرين سنة، وحدثني بها منذ زمن، وقصصتها عليكم بخط قلمي كما هي.

ص: 32

نعم انسابت تلك الدموع المحرقة على وجنتيه، بعد أن عجزت العينان عن حبسهما، لأن ذلك اليوم كان ذكرى استشهاد مولانا الإمام موسى بن جعفر علیه السلام .

لعلي أدعه يتحدث لكم عن تلكم الأحداث بنفسه ليعطيها من ألمه مسحة من الآهات.

لما قرأت هذا المقطع من الزيارة جاءني فضول، بل قل تساؤل، بل ربما اسم المكان الذي أنا فيه مع اختلاف النزيل، ووصف المكان، كل تلك أو بعضها جعلتني استذكر، ولعل عالم الخيال رسم لي صورة تلك الزنزانة وذلك السجان.

هي.. هي..

يا سادتي.. ،كلا، ليست هي.

فمکان سجني غرفة كبيرة مضاءة بالمصابيح، وأتوسد فراشاً ناعماً جلبه لي أهلي في أحد الزيارات، نعم أنا في قسم (الثقيلة)، ولكن يزورني الأهل وبعض الأصدقاء بين فترة وأُخرى.

ص: 33

ففي تلك اللحظات من الزيارة قلت لنفسي، كيف كان حال مولاي الإمام في زنزانة مظلمة لا يعرف منها الليل من النهار؟

وبدأت بكيف ثانية وسكتُ.

أيتها النفس أكملي أداء الزيارة بخشوع، وحضور قلب وبعدها اسألي ما تودين معرفته.

فاسترسلت بتلك الكلمات التي تخاطب أولئك الأطهار، وتشعر وأنت تردد كلماتها بأنك تخاطب أناساً يسمعونك ويتفاعلون معك.. وهي الحقيقة أحبتي.

فرغت وعدت لأكرر كيف، وكيف، وكيف؟

حتى غلبني النعاس.

وإذا بيد تمسك بيدي، وتأخذني إلى مكان مظلم مخيف ورائحة نتنة تنبعث من ذلك المكان، وصاحب اليد يهمسر بأُذني، هذه حقيقة تلك الزنزانة التي تتساءل عنها.

وفجأة، أنار المكان حتى أني لم أستطع فتح عيني من شدة النور الذي ملأ المكان.. وأصبحت رائحة ذلك المكان رائحة زكية ، لم أشم مثلها في هذه الدنيا، وصوت صاحب اليد يهمس بی ثانية، هكذا أصبحت بعد أن حلّ بها الإمام، ولكن من لم ير

ص: 34

نور الإمامة لا يبصر هذا ولا يشم ذاك، فيعتقدون أنها حالكة الظلام.

فتطلعت بأرجائها، وفحصت جوانبها، وصرت أبحث عن مدخلها، فإذا هي تحت الأرض، وقد تركت السلاسل والأثقال جانباً.

جلست في إحدى زواياها، وأنا أخاطب نفسي.

سيدي ومولاي يا موسى بن جعفر، نحن نئن من سجننا، ولكن شتان بين زنزانتنا وقيدك في زنزانتك، فهلا أغدقت علينا من صبرك صبراً، ومن كظمك كظماً.

ساعد الله قلبك سيدي ومولاي.

ص: 35

رنين هاتفي أفسد حلمي!

بعد رحلة مكوكية بين أبي وأُمّي، نجحت في إقناع أبي، بأن تصحبني والدتي للذهاب إلى النجف الأشرف، لأداء زيارة ليلة المبعث النبوي الشريف، حيث طالما حلمت أن أحضر تلك الليلة عند ضريح مولاي أمير المؤمنين علیه السلام علیه السلام .

انشغلت تلك الليلة وأنا بغاية الفرح والسرور بإعداد ما نحتاجه للسفر، وأنا غير مصدقة لما أسفرت عنه مباحثاتي مع والدي.

خرجنا أنا وأُمِّي وأُختي التي تصغرني بعامين صباحاً، حتى وصلنا إلى مرآب السيارات الذي من خلاله نستقل أحد الحافلات للذهاب إلى النجف الأشرف.

ولجنا باب الحافلة وبدأنا نفتش عن مكان فارغ بين مقاعد تلك الحافلة، فجلست أُمّي وأختي جنباً إلى جنب، بعد أن رأيت إلى جانب المقعدين مقعداً فارغاً، إلى جنب امرأة ثلاثينية العمر وقد بدى عليها الوقار، والحشمة بادية على ملبسها، وإطراق

ص: 36

رأسها وهي تمسك مسبحة ترابية ويرافق حركة أصابعها تحريك شفتيها.

حييتها بتحية الإسلام، فردت بأحسن منها، واستأذنتها بالجلوس إلى جنبها، فأسرعت بالموافقة، وهي تقول: تفضلي تفضلي، أهلاً بك.

جلست إلى جنبها وأنا أشعر بالراحة والطمأنينة.

التفتت نحوي لتبادرني السؤال، ويرافق كلامها ابتسامة رقيقة إن شاء الله متوجهة إلى النجف الأشرف؟

نعم، أنا وأُمّي وأختي.

وهل تعودتم الحضور عند مرقد مولاي أمير المؤمنين علیه السلام علیه السلام

ليلة المبعث ؟

كلا، هذه أول سنة سأحظى بهذا الشرف.

تجرأت أكثر : لم أعرف اسمك إلى الآن لأناديك به؟

اسمي (خديجة )، وأنت؟

أنا (فاطمة)، خديجة وليلة المبعث يا له من عزف جميل !

تبسمت في خجل، وأي عزف تقصدين يا فاطمة؟ أقصد أنها ليلة المبعث، وأول امرأة آمنت هي السيدة خديجة سلام الله علیها اللزوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم آه.. نعم.. نعم عزيزتي، سأروي لك ما تحبين سماعه.

نعم، كلّي آذان صاغية.

ص: 37

في ليلة من ليالي المبعث، وبعد أن أديت أعمال تلك الليلة وبعد صلاة الصبح آويت إلى فراشي، وكأني أرى سيدتي خديجة سلام الله علیها بنت خويلد سلام الله علیها ، وهي تبارك لي عملي، أمسكت إحدى يديها وقلت لها : عذراً سيدتي هلا تحدثينني عن أجواء تلك الليلة.

ابتسمت و اقتربت مني، ووضعت يدها الكريمة على رأسي، وقالت: حسناً يا ابنتي حسناً.

في تلك الليلة مثل كل ليلة يخرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلمصلى الله عليه وسلم إلى ذلك المكان، ويعود بعد أن يمضي وقته هناك، ولكن في تلك الليلة حدث ما لم يحدث في أي ليلة أُخرى، فكلها خرجت لصحن الدار أرى حركة في السماء لم أشاهدها من قبل، وكأن حدثاً كبيراً يُحضر له في السماء، وبقيت أراقب وأراقب، وقد تأخر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالعودة إلى قريب الفجر، جاء يبشرني بنزول الوحي عليه.

نعم.. نعم..

وكان معه ابن عمه أمير المؤمنين علیه السلام غمرني فرح كبير، وأنا أنطق بالشهادتين وأفتخر على كل الوجود بأني أول من نطق بها بعدهما.

وودتُ أن تكمل سيدتي خديجة سلام الله علیها حديثها ولكن رن هاتفي فأيقظني وأنا أعيش لحظات في غاية الجمال.

ص: 38

محادثة قبل السحر

اعتادت أن تتلو بعض آيات القرآن الكريم قبل أن تخلد إلى النوم لتشعر بالطمأنينة والسعادة الغامرة؛ لتسافر في عالم الملكوت، وهي تتأمل في بليغ نطقه، وتتدبر جميل معانيه، وختمت تلاوتها بالآية الكريمة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التغابن: 14 ) . آوت إلى فراشها وهي تردد هذه الآية الكريمة، وتسبح الله تعالى، سبحانك ربي كيف لمن يعاشره الإنسان ويحبه، ويغدق عليه مما رزقه الله تعالى، ويقابل هذا الإحسان بالعداء والبغض، هل فعلاً من يفعلون ذلك يحملون قلباً بشرياً وعواطف

وأحاسيس؟

كيف لمن يُحسن إليه ، يقابل ذلك الإحسان بالإساءة؟

كانت تدور في رأسها تلك الأسئلة وغيرها، وهي تقلب صفحات التاريخ لتقف على تلك النماذج وتشمئز نفسها، كلما

ص: 39

تذكرت واحدة منهن، وانتهى بها المطاف إلى خائنة فاقت الأخريات في كل شيء، فبدأت تخالجها أفكارها، كيف تجرأت هذه اللعينة على إمام معصوم كالإمام الجواد علیه السلام ؟!

فأخذتها الغفوة عنوة ليسري بها عالم أحلامها إلى زمن كان الإنسان يخشى أن يقال له شيعي وهنا التفتت لترى باب ذلك الزمان قد فتح مصراعيه ليتلقفها بأكف حنان، ودمعة حزن ليهمس بأذنها : أراك مشوشة البال تغرقين ببحر أفكار تكاد تسلبك رغيد نومك.

التفتُ إليه فأجبتُه : نعم.. نعم..

سبرت أغوار ذلك العالم الذي لم آلفه، ولم يتسن لي أن أرى ملامحه، فقدحت في قلبي التفاتة، وناديت في ذلك العالم : يا من يسمع صوتي، أنادي.. هل من مجيب على ندائي؟

وفي صخب عالم لم يألف الهدوء سرى إلى سمعي صوت لا أكاد أميز نبراته، وهو يهمس في أذني ماذا؟ ماذا ؟

فأجبته وأنا تهزني قشعريرة خوف: نعم.. نعم.. فأعاد .. ماذا تريدين وسط هذا الصخب؟

هنا استجمعت قواي وكأني أصارع موجاً جارفاً: هل لي بإجراء مكالمة عبر أثير زمانكم؟

ص: 40

مكالمة ؟!

قالها متعجباً ومستغرباً: ماذا تقصدين بمكالمة؟

في عالمنا الذي أعيش فيه، فإن من يريد أن يكلم شخصاً تبعده المسافات يتصل عبر أثير زماننا.

تطلبين.

مهلاً.. مهلاً..

دعيني آلف، بل دعيني أستبق الزمان لأهيئ لكِ ما مرَّت برهة صمت قاتلة، وإذا به يهمس لي ثانياً : تفضلي ..

تفضلي أيها المتطفلة على الزمان فأثيرنا متاح لك..

تكلمت في أثيرهم دون معرفة رقم هاتف، وناديت أريد أن أتكلم مع أم الفضل

فأدهشتني سرعة الإجابة: أي أم فضل تريدين؟ فلدينا الكثير الكثير، أهي صالحة أم طالحة؟

فأجبت: بل هي

طالحة؟

أي نوع من الذنوب ارتكبت؟

فأجبت: لا أعلم عنها ، وعن ذنوبها كثيراً، لكن أعلم أن لها ذنباً يفوق كل الذنوب، هي قاتلة لبعلها وهو خير خلق الله في

زمانه

ص: 41

قليلاً.

أم الفضل بنت المأمون إذا هي !

فقلت: نعم.

فبادرني أن الاتصال بها صعب جداً جداً.. ولكن انتظري وإذا بصوت يرتجف، ويتلعثم في الكلمات. أنا أم الفضل من يناديني؟

فدهشت وارتعدت فرائصي ثم هدأت قليلاً وأنا أخاطب نفسي: هذا طلبك.. هذا مرادك..

فبادرتها بالسؤال: كيف تجرأتِ على قتل إمام معصوم؟!

وكيف للمرأة الرقيقة الحنونة أن تفعل ما فعلت؟!

فإذا بذلك الصوت المرتعش يجيبني: كنت في زمان غير زمانكم كنت أحمل بغضاً وحقداً وحسداً لو وجهته نحو جبل لتضعضع، فقد غُذيت وتر فقد غُذيت و تربيت وطُعِمت حقداً وبغضاً لأهل هذا البيت بحقدي وبغضي هذا كنت أتمنى تقطيعه إربا إرباً ولكن لم يتسنَّ لي ذلك، ولما جاءت الفرصة وطلب مني أن أدس له سماً، فرحت فرحاً شديداً، وكم كنت في نشوة الفرح وأنا أراه يتناوله، كنت مأمورة بدس السم فقط، ولكن بغضي لهم جعلني أفرغ البيت من الماء لأني أعلم أن المسموم يطلب الماء، وأوصدت

ص: 42

الأبواب جميعاً بشكل محكم، وخرجت وأنا أشعر بالزهو لانتصار نفسي!

هنا انقطع صوتها .. ناديت.. ناديت.. لم يجبني أحد. وأنا أنادي وإذا بأُمّي توقظني.. وهي مفزوعة.. ما بك؟ ما بك؟

،فانتبهت أنا كنت في عالم ليس عالمي.

استغفرت الله وتوضأت وجلست على سجادتي وأنا أبكي على مصيبة إمامي الجواد علیه السلام الذي مات عطشاناً كجده الحسين علیه السلام.

ص: 43

سور يلعن صانعيه

«فيه آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (آل عمران )

كلما قرأت هذه الآية المباركة، وبعض الآيات الأخرى التي تتحدث عن الحج، وكذلك الروايات التي تتحدث عن الصلاة في مسجد الرسول الأعظم نبينا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، احترق شوقاً لتلك الأماكن ، وعندما يأتي شهر رمضان المبارك وأقرأ دعاء «اللهُمَّ ارْزُقْنِي حَجَّ بَيْتِك الحرام في عامي هذا وَفي كُلّ

عامِ ما أَبْقَيْتَنِي فِي يُسْرِ مِنْكَ وَعافِيَةٍ وَسَعَةِ رِزْقِ، وَلا تُخْلِنِي مِنْ تِلْكَ المَواقِفِ الكَرِيمَةِ وَالمَشاهِدِ الشَّرِيفَةِ، وَزِيارَةِ قَبْرِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَفِي جَمِيعِ حَوائِجِ الدُّنْيا وَالآخرةِ، فَكُنْ لِي. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِيما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الأَمْرِ المَحْتُومِ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ القَضاء الَّذِي لا يُرَدُّ وَلا يُبَدَّلُ أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الحَرامِ المَبْرُورِ حُجُهُم المَشْكُورِ سَعْيُهُم المَغْفُورِ ذُنُوبُهُم،

ص: 44

المُكَفِّرِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ، وَاجْعَلْ فِيما تَقضي وَتُقَدِّرُ أَنْ تُطِيلَ عُمْرِي وَتُوَسْعَ عَلَيَّ رِزْقِي وَتؤَدِّيَ عَنِّي أَمَانَتِي وَدَيْنِي، آمِينَ رَبَّ العالمينَ».

ألح في الدعاء الله تعالى متوسلاً بآل بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي رزقني الله تعالى ما طلبت منه حتى لا أطيل عليكم أحبتي ولا أرهقكم بكثير كلامي، وصلنا إلى مدينة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، وأنا التمس لنفسي عذراً مما هي فيه من فرحة وشوق واضطراب، بل خشيت أن أنعت بالجنون.

كنت غير مصدق..

هل أنا فعلاً في مكان وطأته أقدام أشرف مخلوق في الوجود؟

هل سأسجد لله في بقعة سجد فيها النبي صلی الله علیه و آله و سلم ووصيه وابنته

وأبناؤهم علیهم السلام؟

وهل ؟ وهل؟ وهل؟

تركت كل من حولي وتوجهت إلى تلك الروضة من الجنة، وأنا أنظر تارة إلى القبر الشريف وأخرى إلى مكان المنبر، وكم وددت أن تلامس شفتاي تراب قبره الطاهر أو أحظى بلمسة من منبره الشريف ولكن ..

نعم.. ولكن..

ص: 45

جلست مستغرقاً بباحة فكر يتلاطم ،موجه كاسراً جناح الصمت في داخلي، وأنا غارق في أحلام مخيلتي التي أعادتني إلى الوراء كثيراً، لتشعرني بمنطق الوحي ولين القول، وبعيداً عن فضاضة القلب لأغبط من كان هناك، وبين تلك الأحلام وشغف الذكريات أيقظني صوت مرشدنا وهو ينادي: هيا أيها الحجاج الكرام لنزر أئمة البقيع، بمجرد سماعي لكلمة البقيع انهمرت دموعي لتشق بحرارتها برودة وجنتي.

ها قد وصلنا ؟ قد وصلنا ..

أبصرت القبور من مسافة وأنا لا أعرف قبر من هذا، وهذا قبر مَن، ولكن أيقنت أن أولهم المجتبى فزين العابدين فالباقر فالصادق علیه السلام .

مازالت تلك الدموع الحارقة تنهمر بغزارة غير معتادة، وأجول ببصري بين تلك القبور وأرنو من بعيد إلى تلك المراقد الشامخة لدينا، ومن خلف ذلك السور الذي أحاط بتلك القبور أمرنا أن نزورهم.

فأديت الزيارة لهم، ثم عدت إلى إمامي محمد الباقر علیه السلام لقرب ذكرى وفاته عند زيارتي وخاطبته بهمس .. سيدي..

ص: 46

سيدي.. عرفت الدنيا بمأساة كربلاء، وختمتها بسُمّ يقطع كبدك.. سيدي.. تعساً لهذا السور اللعين وهو يمنعني من أن أشم عطر تراب قبرك ..

تباً لك أيها الحديد الذي يشد بعضه بعضاً كيف تقف حائلاً بيني وبين أن أمرغ جبهتي برحيق قبر إمامي.

بعداً لك أيها ... !

وقبل أن أكمل كلامي وإذا بأنة تداعب سمعي..

صمت برهة..

وإذا بأخرى تفزعني..

جلت ببصري أُحدق إلى من هم إلى جنبي فالكل

مشغول..

هنا .. هنا ..

أنا ذلك السور الذي شتمتني..

وقفتُ متعجباً .. ونظرت إليه بتمعن ورويَّة..

نعم.. أنا .. الذي أُشتَم دائماً، وكأني أنا الجاني وأنا المذنب.

معظمكم يفعل ذلك ولا يعلم حقيقة الأمر.

فقلت بدهشة: أنت أيها السور تكلمني !

ص: 47

.نعم.. أنا .. منذ زمن بعيد حملني أناس في قسوة كقسوة قلوبهم، وأنا قطع لا يعرف بعضها بعضاً، وأتوا بآلاتهم ونارهم وبدأوا يحرقون أوصالي، ويلصقون تلك القطع ببعضها حتى عملوا مني سوراً كبيراً ووضعوني هنا، ولما عرفت المهمة التي صنعت من أجلها كنت أسقط مرة تلو الأخرى لعلهم يتركوني ويأتون بغيري لكن لم أنجح بذلك، أخذت أتقرب رويداً رويداً قبل أن يثبتوني لعلّي ألامس تلك القبور، فيأتي كبيرهم ليأمرهم بإعادتي إلى مكاني أعلمت ما أنا عليه ؟

فلماذا تشتمني؟ ما ذنبي أنا؟ ماذ أنا في كل صباح ومساء ألعنهم، نعم.. ألعن من صنعني. لأنه جعلني حائلاً لتلك القلوب التي تهفو لتقبيل قبور أحبتهم..

أنا ألعنهم.. أنا ألعنهم..

ص: 48

باب بين حدثين

حين سمعت بمن جاء لخطبتها ذُهلت، وفرحت صَلَّى اللهُ وفرحتها أنها ستصبح زوجةً لخير خلق الله بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. وجاءت تلك اللحظة التي كانت تنتظرها، في واقع تجسّد بيد كريمة رؤوفة، تمسكها لعالم تتجسّد فيه الجنة. جاء بها بعلها أمير المؤمنين علیه السلام لا ؛ لينقلها من بيتها ذي الكرم والإيمان والخلق إلى بيت من بيوت الله تعالى. وهنا تبدأ أول نفحات الإيمان، وهنا تتجسّد أول لمسات الحنين، وهنا يظهر معدن الخلق والإيثار. لقد تسمّرت قدماها على الأرض، والحزن رافقها ساعتها ..

أفرأيت عروساً بيوم زفافها تحمل كل ذلك الألم في نفسها ؟!

أتدرون لماذا حدث هذا؟

نعم، حدث هذا عندما رأت ذلك الباب الذي لم يدافع عمّن لاذت به.

ص: 49

هنا نظرت إلى ذلك الباب نظرة عتاب مصحوبة بزفرات ممزوجة بلؤلؤ تناثر على وجنتيها.

وهي بين هذا وذاك، بين عتاب وأنين، وإذا همسات باب فاطمة سلام الله علیها، يطلق أنينه الذي لم ينقطع من ذلك اليوم، ويخاطبها: سيدتي، أنا من أعياه حزن السنين، دعيني أسمعكِ حجتي، ألا يحق لي أن أدافع عن نفسي؟

فسبقته بنطق حروفها، وبصوت رفيع حزين في خاطري تجول كلمات منذ سنين، هلا أصغيت لي. نعم.. نعم، حباً وكرامة.

أما كانَ لكَ أن تقاوم أولئك الطغاة؟ لم كنتَ طوع أمرهم؟ أما شعرت بذلك الجسم الرقيق النحيف وهو يلتمسك الابتعاد ؟

البتول؟

ألم تستطع أن تأمر ذلك المسمار فينخلع بعيداً؟

أم خفت على نفسك أن تُصبح أشلاء ولم تخف على صدرِ كيف تحركت ولم يأذن أهلك أن تنفتح ؟

أما خشيت أن تحرقك السماء بفعلتك هذه ؟!

ليتني قال الباب لم أكن قد تجمعت أوصالي من هنا وهناك لأكون ما أكون فأنا وما زلت أطهر باب من بين تلك الأبواب جميعاً.

ص: 50

أ فتعلمين من هي الأيادي التي لامستني؟ يحسدني الحاسدون على ذلك.

ولكن ماذا أصنع، وقد أقدمَ القومُ على حرقي؟

فذاك اللعين، وضعَ كلّ قواه على صدري، وكلما حاولتُ أن أُمسِكَ نفسي لم أستطع، تعلّقتُ بالجدار الذي قبالتي فأفلتني.

كنتُ أقاوم، وأقاوم وأقاوم، ولكن فشلت فقلتُ المسماري: أخرج من سباتك، واتكأ على حائطنا، الذي هو خلفنا، ولم أعلم أن انكاءه يكون على صدر البتول؛ لينفذ إلى صدرها .

أنا لا أحتمل اللوم والتقريع.

آه.. آه.. أيها الباب كيف لي أن أراك صباحاً ومساءً؟

ولكن ذلك الباب الذي وجدته مفتوحاً في أول يوم دخلت دار أمير المؤمنين علیه السلام وجدته مغلقاً عندما جاءت تواسي زينب سلام الله علیها..

دخلته شابة وجاءت إليه وهي عجوز فوجدته موصداً..

وحينما رآها الباب أجهش باكياً؛ لتختلط دموعه ودموعها..

ص: 51

أميرة المؤمنات

السلام على أُم أبيها ومسند بنيها، وحامية شيعة زوجها وأبيها، السلام على فاطمة من مهد الحضارة، إلى موت الاحتضار ، فهي الحضارة، وبقتلها كل العالم احتضر، فهي الأميرة التي جمعت عالیها بدانیها و دانیها بعاليها، فكانت هي باب الله الذي منه يؤتى ..

أميرة ليست كالأميرات.. لم تجلس على عرش الأمارة...

ولم ترتد ملابس الأميرات، رغم أنها بنت خير البشرية خير الأنام، زوجة أشجع الفرسان، وأم الأئمة الكرام، هذه الأميرة لم يراعوا حقها، لم يصونوا حجابها، رغم أنها لم تنازعهم على خزائن الدنيا وملذاتها، ولم تطلب شيئاً لها منهم كأن الكون أصم.. لم يسمع صوت فاطم وهي تنادي (وا أبتاه وا محمداه)..

شيئاً فشيئاً نقترب من الفاجعة الأليمة..

شيئاً فشيئاً نرى الظلام يحل في ذلك البيت الذي كان

يسطع نوراً لأعنان السماء، يا ترى ما سبب هذا الظلام؟!

ص: 52

ماذا حدث في هذا اليوم الحالك بالهموم؟! آه... آه.. على بيت الوحي على أعتابه حطب..

وا أسفاه لبنت النبي صلی الله علیه و آله و سلم ..

اليوم ألم الفراق يكابد قلب الحسنين، اليوم تصبح الحوراء حزينة ويتيمة، لوحدها لا تستطيع حمل هذا المصاب الفجيع.. أن ترى ضلع أمها بالباب يتكسر، وهي تنادي بأنفاس ثقيلة وصوت ضعيف أيا فضة سنديني، فوالله قد أسقطوا جنيني وترى القوم انتهكوا بيتهم، ولم يراعوا حقهم، ولم يرحموا حال الصغار حينما قاموا بحرق الدار

أما الوصي.. يا حزن، فقد أطال مكوثه، فدمعه على الخد يراق، وكان الصوت يتردد وهي تقول: خلّوا عن ابن عمي..

ما أسرع لحاقها بالرسول..

ماذا أكتب أيها القلم؟

أ أكتب دموعاً وأشجاناً؟!

أم أكتب آهات وأحزاناً ودمعات؟!

أم أكتب لوعات ومصائب حلت بأهل بيت النبوة

وموضع الوحي..

ص: 53

اكتبي ولا تتردي لئن كتبت عن أميرتك وسيدتك فإنني أرتقي لألوح أعنان السماء، وأنا أنثر أنقى الكلمات وأعطر الهمسات، وأكون رقيقاً جداً كالتي كتبت في شأنها.

أظن أنني سأكتب بك بالإشارة دون إمساكك، ولا أضغط عليك لأنك بذلك تنكسر كما كُسر ضلعها، ومهما كتبت من أحرف وكلمات، وصغت فيها العبارات، فهذه

الكلمات الممزوجة لا تستوفي حق الزهراء الزاهرة في سماء الرحمة والعطاء، وما الرحمة إلا محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، وما العطاء الا هي وعلي علیهما السلام: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، فكانت هي كوثر النفس بالتنفيس عن هموم شيعتها ومحبيها ، وكانت هي العقل الواعي في زمن الظلم والتدهور والتداعي، وكانت هي القلب المقبل على الله بالنور والهداية، وكانت هي الروح الباقية من أمر الله تعالى،

ولكن ما رعوها حق رعايتها فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولعن الله ظالميها من الآن إلى قيام يوم الدين.

ص: 54

آمنة بنت الهدى. . رمز لامرأة نصرت حسين عصرها

كانت الطالبات في داخل الصف بانتظار مدرستهن المحبوبة لديهن.

نعم، مدرسة التربية الإسلامية التي اعتادت الطالبات على بسمتها الجميلة وكلماتها الدافئة وهي تنصح هذه وتلاطف تلك، وحتى غضبها كان محبوباً لديهن؛ لأنها تعرف ما تعاني كل واحدة وتساعد من تحتاج المساعدة في رأي أو مشورة.

كُنَّ في الانتظار وأعينهن تربو صوب باب الصف، فدخلت عليهن وأدَّت تحية الإسلام التي دأبت عليها مع طالباتها.

ولكن هناك شيئاً غريباً يحدث اليوم فالحزن والوجوم قد وشح وجهها.

هنا بدأت كل واحدة تهمس للأخرى.

ص: 55

وإذا بصوتها الحنون الذي ينساب إلى أسماعهن كماء رقراق عذب يوقف الهمسات يوقف كل حركة داخل الصف.

بناتي العزيزات..

حبيباتي الغاليات..

أعلم بما تنها مشن به نعم أعلم.

ولكن لأقطع عليكن تلك السلسلة من الأفكار والتساؤلات وأشبع لديكن هذا الفضول.

من منكن تعرف أي ذكرى أليمة تمر علينا اليوم؟

أجابت فاطمة وهي تكاد تنزل الدموع من عينيها اليوم

ذكرى استشهاد سيدة نساء العالمين مولاتي فاطمة الزهراء سلام الله علیها.

أحسنتِ عزيزتي، أحسنتِ.

هذا سبب حزني، سبب وجومي سبب ألمي..

إذاً، سنجعل درس هذا اليوم عن سيرة فاطمة الزهراء سلام الله علیها.

عن عبادتها عن زهدها، عن عفتها، عن جهادها، ونبحث ونقلب صفحات التاريخ ونسبر أغواره لنقتدي بمن سارت على نهجها لنعرف من ارتبطت بها.

لقد كانت مولاتنا الزهراء سلام الله علیها مثالاً في كل شيء لمن تبحث عن القدوة.

ص: 56

وهنا سألت إحدى الطالبات: اسمحي لي..

تفضلي عزيزتي.

كيف تجرأ القوم على ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ كيف؟

إنه النفاق عزيزتي ، إنه الانقلاب على الأعقاب أستاذتي.

نعم، زينب سلام الله علیها، تفضلي.

آه آه

اسمك يا زينب يهيج آلاماً ..

اسمك زينب واسم أبيك علي، أليس كذلك؟

نعم.. نعم أستاذتي.

فنزلت دمعة من عين المدرسة وهي تحاول أن تخفيها عن طالباتها، ولكن اختناق صوتها فضح ما أرادت أن لا تظهره، فشاركتها بعض الطالبات بأن انسابت دموعهن كاللؤلؤ يتناثر صفائح بيضاء نقية.

حاولت أن تعيد جو الصف الطبيعي.. فأشارت إلى زينب قائلة: نعم زينب تفضلي يا بنتي..

ماذا كنتِ أن تريدين قوله؟

أستاذتي..

ص: 57

نعم.

هل هناك نساء في عصرنا شابهت مولاتنا الزهراء سلام الله علیها أو

مولاتنا زينب سلام الله علیها في بعض مواقفها ؟

بوركتِ عزيزتي..

بوركت من تتخذ الزهراء و زینب علهماالسلام قدوة لها.

لابد أن يظهر ذلك على كل مواقفها.

عزيزاتي..

سمعتن سؤال زينب سلام الله علیها؟

من تذكر لنا مثالاً لامرأة شابهت الزهراء سلام الله علیها عليا أو مولاتنا زينب سلام الله علیها ؟

مَن مِن نساء عصرنا تركت أثراً؟

أجابت سندس نعم أستاذتي نعم..

تفضلي عزيزتي..

إنها بنت الهدى شقيقة الشهيد الصدر.

وكيف عرفتِ ذلك؟ ومن هي هذه المرأة؟

أستاذتي..

لقد جمعنا أبي يوماً أنا وأخواتي الثلاثة، وبدأ يحدثنا ويسدي لنا النصائح، ومن ضمن كلامه قال من تريد أن تنجح في حياتها

ص: 58

وتفوز بآخرتها لابد أن تقتدي بمولاتنا زينب سلام الله علیها عليها ومن سارت

على هديها كالسيدة بنت الهدى.

فاستغربنا من ذكر هذا الاسم الذي لم تألفه.

فبادرت أختى لسؤاله ومن هي بنت الهدى؟

فتنهد أبي طويلاً وقال: رحمك الله يا بنت الهدى.

عزيزاتي..

إنها شقيقة السيد محمد باقر الصدر، هذه المرأة المجاهدة العابدة الزاهدة التي آلت على نفسها إلا أن يُشابه موقفها موقف زينب سلام الله علیها مع الحسين علیه السلام..

ص: 59

ندم متأخر

هو جماد .. نعم، ولكن في صمت الجماد كثير من الكلام.. كان عليه أن يسبّحَ تسبيحة الزهراء سلام الله علیها عله يفقه الحياة، أتى حانياً عنقه من الذل والهوان حتماً سيُدار عليه الحسبان، هو بيد من كان وبظهر من يلوّع كان يا لجرمي ! يا ليت ما كان لم يكن يتقلب كذبيحة على دكة الذبح من فرط تفكيره، يحاول أن يُلقي معاذيره ، تعب أنهكه من النظر إلى الباب التي كانت وراءها فاطمة البتول سلام الله علیها، ماذا يقول الآن وهو بين يدي الله تعالى والرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

تعالوا نسأل الخيوط والسلاسل، تعالوا نسأل يوماً فيه تهدمت المنازل، تعالوا لساعة فيها العيون ذوابل.

نعم، هكذا سمع النذير يقول فماذا يجيب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ؟!

أخذ يتلعثم ويقول بتهدّج:

لولد فاطمة أقدم الاعتذار ، لأنني مأمور بيد الذي اغتر بالحياة أيما اغترار ضربت فاطمة فهاجت وماجت البحار.

ص: 60

لفاطمة كنت شاهداً على ظلمها من الأشرار، أسقطوا محسنها وليس له من يُجار، (وا محمداه كان نداؤها سيدة الوقار، وكادت السماء أن تنهار.

ضَربتُ فاطمة ضربة كادت بنفسي أن تموت حسرة، كنتُ أتلوّى عليها ضرباً وهي تناولني بيدها الرؤوم، رؤوفة حتى هنا يا سيدتي واخجلتي واخجلتي، وأخذ السوط بنفسه يلوم.. ثم نادى النذير: النار، علها تقول شيئاً لبضعة المختار، فلما رأتها أكبرتها والدمع تحجر في عينيها، فقالت لها بنت الرسول :فاطمة أو هل تعرفين معناي ؟ أنا المفطومة عن أن يعرفني الخلق أنا المفطومة ووُلدي عنكِ قد قال الله مولاي أنا بنت من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى أنا بنت رسول الملك الديان

أنا التي عجز عن وصفها البيان..

أتعلمين أي دار ستحرقين؟

أتعلمين أي جسد ستلهبين؟

تصاعدت النيران بلظاها، كأن لهيبها أيد تلطم بنفسها وتستغيث مولاها ..

وهي تردد اقتحمت الدار ولا علم لي صدقيني، هؤلاء الأوغاد هم من أوقدوني، صدقيني يا سيدة نساء العالمين، وبعد

ص: 61

ما سمعتك تستغيثين، صرخت (اللهم اجعلني برداً وسلاماً على فاطم كما جعلتني برداً وسلاماً على إبراهيم).

فضحت النيران بالعويل والصراخ و راحت تتمرغ بالتراب لتطفئ نفسها ، عل التراب يطهر جرمها ..

ص: 62

نساء مؤمنات

استيقظت على أصوات هدير عجلات السيارات في ليلة حالكة الظلام بعد أن تم إطفاء الكهرباء عن تلك القرية التي هي بوابة لناحية من نواحي هذا البلد المعطاء..

استيقظت وكأنها كانت تحلم بتلك الأصوات المفزعة.

ولكنها أدركت أنها في يقظة وليست في حلم، أصغت السمع ثانية لتدرك أنها فعلاً أصوات سيارات قادمة نحو القرية.

ومن صوتها عرفت أن أعداد السيارات ليس بقليل..

رغم أن أهل القرية كانوا حذرين لعلمهم بأن الخطر ربما يداهمهم في أي وقت..

لكن برودة الجو والظلام الحالك جعلاهم في غفلة ..

أسرعت وأيقظت زوجها وولدها.. وهي تصرخ بهم و استيقظوا .. استيقظوا فإن العدو قادم نحونا..

استيقظ الأب والابن وكلّ قد أمسك سلاحه بيده وقالا لها كيف عرفت؟

:قالت انصتوا واسمعوا لتلك الأصوات..

نعم.. إنهم قادمون !

ص: 63

قال الأب لابنه : بنى أسرع وأيقظ أبناء قريتنا وأنا سأطلق بعض الإطلاقات في الهواء لأنبههم..

ذهب الولد وأمسك الأب سلاحه وجلس في المتراس الذي أعده مسبقاً لمثل هذه الحالة..

وما هي إلا دقائق إلا وقد استيقظ أهل القرية ووصل الأوباش قريباً منهم..

فبدأت المعركة سريعاً أسرع مما كانوا يتوقعون.. ولم يمهل أزيز الرصاص الولد أن يعود.. وتعالى صوت دوي انفجارات قنابل الهاون وصواريخ القاذفات..

وبدأ الرجال البواسل بالدفاع عن قريتهم يملأ قلوبهم

الإيمان بالله تعالى والدفاع عن أرضهم وعرضهم ومقدساتهم.. لم يخفق لهم قلب من الخوف.. لم يكن أزيز الرصاص يخيفهم، بل لا يكادون يسمعونه بعد أن علا صوت زغاريد النساء عليه.. واستمرت المعركة واقترب العدو كثيراً..

كانت تناول زوجها العتاد، جلبت له الطعام والماء وهو في

خندقه، لم تفارقه، كانت إلى جنبه إلى أن طلع الفجر .. فانسلت من جنبه إلى لقاء ربها لأداء صلاة الصبح التي تحبها كثيراً.. لأنها تلتقي بمعشوقها بهدوء بدون ضجيج.. ولكن هذا اليوم كان هناك ضجيج محبب لها ..

ص: 64

نعم أدَّت صلاتها ورفعت يديها بقلب مطمئن بأن ينصرهم على الأعداء..

بعد انصرافها من الصلاة عادت إلى جنبه و همست بإذنه بكل رقة وعطف ألا تصلي ؟ قال لها: الأعداء قريبون منا .. قالت لا عليك اعطني البندقية واذهب فإننا نقاتلهم

لأجل هذه الصلاة.

أمسكت بندقية زوجها وأخذت موضعه وبدأت تقاتل الأعداء بكل صلابة ورباطة جأش.

وبينما هي كذلك أتتها رصاصة غادرة وقعت في قلبها.

وهنا فرغ الزوج من صلاته فلم يسمع صوت بندقيته!

أسرع راكضاً إلى موضعه فوجدها مبتسمة وهي تمسك سلاحها وتتمتم بكلمات: عدني أن لا يدخلوا قريتنا وأغمضت عينها.

ص: 65

النية الصادقة

منذ صغرها تعلقت بالإمام الحسين علیه السلام ، حب فطري بداخلها، بدأ يتعاظم مع مرور السنين وهي تشاهد ذلك الحب الهستيري الجنوني الذي ينتاب المحبين وخصوصاً أيام عاشوراء، فتراها يسافر قلبها في شغاف حب ليس له نظير وتمتطي صهوة جواد ذلك العشق الأزلي لتحط رحالها عند تراب القبر لتعفر جبهتها به ليكون لها واقياً من لظى النار يوم القيامة، هكذا كانت هواجسها وهي تسافر في كل ليلة بروحها إلى ذلك المعشوق الذي عشقته بعد عشقها لخالقها، وكانت تسمع الحكايات الجميلة من جدتها وأُمها وبعض أقاربها ممن كُنَّ قد لثمن الشباك وطفن حول الضريح ، تسمع وهي تزداد شوقاً لفعل ذلك لعلَّها تطفئ بعض لهيب ذلك الشوق ، وكان هذا الحلم يراودها كثيراً ولكن كان ذلك الأب العطوف الذي أثقلته هموم الحياة وضيق ذات اليد لا يحقق لها أحلامها، وبعد سنوات وسنوات بعد ما مضى من العمر ما مضى وأصبحت أكثر إدراكاً وإيماناً

ص: 66

وارتباطاً بالله تعالى، جاء خبر ما كنت تصبو إليه منذ صغرها، ونداء الأب: غداً سنذهب إلى كربلاء لن تصدق ما سمعته، أتت مسرعة إلى جنب أبيها وبغنوج البنت التي تلاطف أباها أفعلاً ما تقول؟!

نعم، يا ابنتي..

لم تنم تلك الليلة وهي تسبح في محيط أفكارها كيف سأقبل الشباك؟ ماذا أناجي سيدي ؟ وهل أعطر روحي بأنفاسه و... وما زالت هذه الأمنيات وهي في الطريق الطويل إلى أن وصلوا، ولكن الأب أتعبهم بالمسير على الأقدام فوصلوا وقد نال التعب منهم الكثير، فجلسوا بين الحرمين ليأخذوا قسطاً من الراحة ولكن المفاجأة المدوية التي كادت أن تصرعها عندما علمت بأنه لا يسمح بالدخول للحرم هذه الأيام لوجود عملية صيانة وترميم، انهارت من البكاء وكاد يغمى عليها.

هنا رفعت رأسها إلى السماء ونظرت ملياً ثم رمقت المرقد الشريف بنظرة ملؤها الحزن، وأخذت تناجي المولى أبا عبد الله علیه السلام: أنت تعلم كم هو حبي وشوقي ولهفي إليك، وكاد حلمي أن يتحقق بأن أطهر شفتي بلثمة من ضريحك الطاهر، ولكن يبدو أني لا أستحق هذا الشرف، ولكن أقسم عليك

ص: 67

بغربة زينب سلام الله علیها أن تحمل حاجتي إلى الله تعالى بأن يسهل لي زيارتك ولقياك في قادم الأيام..

وعادت لترفع رأسها وناجت معبودها: إلهي بحق الحسين علیه السلام أجب دعوتي تقول هذه الكلمات وهي مختنقة بعبرتها .. ثم عادوا إلى بيتهم، ولكن المفاجأة التي لم تكن تتوقعها أنه وبعد شهرين استجيب دعاؤها، وأي استجابة ، تهيأت الظروف لأن تبقى في كربلاء لأشهر وهي تلثم الضريح في كل يوم وتسجد لله شكراً على استجابة الدعاء.

ص: 68

وفاء العهد

مر وهو يحمل رايته التي اعتاد كل سنة أن يحملها وهو في طريقه لزيارة أبي الأحرار الإمام الحسين علیه السلام وهو الذي لم يفارق هذه الزيارة ولا ترك المسير على قدميه تلك المسافة الطويلة وهو يشحذ همم أصحابه ورفاق طريقه.

يسير في ذلك الطريق المتعرج الطويل بهمة عالية، وكان مثالاً للآخرين إذ كان دأبه قراءة القرآن الكريم الذي حفظ بعض أجزائه أو يردد بعض الأدعية المشهورة أو يكثر من الصلاة على محمد وآل محمد.

هذه الراية التي يبدو عليها القِدَم وقد تبدّل لونها قليلاً لفتت نظر أحد السالكين في هذا الطريق، ليست فقط الراية، بل و تصرف هذا العاشق الولهان وبكاؤه إن سمع ناعياً للحسين علیه السلام وتعلقه بهذا البيرق واحتضانه له . فأخذه الفضول وبدأ يراقبه، بل لا يفارقه وكأنه رجل أمن يراقب مشتبهاً به، يراقب كل حركاته، بل أصبح رفيقاً لدربه دون

ص: 69

أن يكلّمه، فأصبح ينزل أين ما ينزل صاحب البيرق، ينام، يستيقظ، يجلس، يسير، هو معه.

وفي إحدى محطات الطريق راه انحرف قليلاً عن الطريق واتّجه صوب صورة كبيرة بدأ يدقق النظر إلى الصورة، ومال معه حيث مال، وإذا به يرى نفس هذه الراية يحملها صاحب الصورة وهو شاب في مقتبل العمر.

رأى صديقه الذي لا يعرفه ولم يكلمه يتّجه صوب تلك الصورة ليرسم عليها قبلة وتمتم بكلمات لم يسمعها، ثم سالت منه الدموع لتغرق لحيته مع نشيج أخذ يسمعه من يمر بقربه، ثم مسح تلك الصورة بذلك البيرق وكأنه يقول لصاحب الصورة الثمها .. الثمها ..

و مسح تلك الدموع التي ظننتُ أنها تحرق خديه بتلك الراية، وودّع صاحب الصورة وعاد إلى طريق المسير.

هنا تملكني الفضول ولم أستطع صبراً على السكوت ودنوت منه سلمت عليه.

فرد السلام بأسلوب مهذب جميل.

أتسمح لي بمصاحبتك لأكون لك رفيق طريق.. التفت إليَّ باسماً وهو يقول: كلنا رفقة في طريق الجنة. بادلته الابتسامة وقلت له هذه موافقة منك لصحبتي. هزّ رأسه بالإيجاب مع ضحكة خفيفة: يسعدني ذلك.

ص: 70

فتجرأتُ أكثر بعد أن صليت على محمد وآل محمد وقلت له : هل تسمح لي بسؤال لعلي أشبع فضولي؟

فأجابني مع التفاتة رقيقة: نعم.

رغم أني أعلم ما تريد أن تعرفه.

فابتسمت مع إرخاء لعيني: نعم.. نعم..

هذه الراية أو كما يطلقون عليها البيرق هي الراية التي رأيتها مع صاحب الصورة الذي وقفت أمامه.

سألته باستغراب: هي نفسها ؟

نعم، هي نفسها.

وسأروي فضولك وأخبرك بقصتي وقصتها .

صاحب هذه الصورة رفيق دربي منذ الطفولة، وبعد سقوط النظام الصدامي المجرم حيث بدأت جموع الزائرين بالمسير إلى قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام خرجنا أنا وإياه وأقسم أن يحمل هذه الراية في كل سنة.

ومرت ثلاث سنوات ونحن على هذا الحال، وفي السنة الرابعة وبينما نحن في طريقنا كالعادة تأخرت عنه قليلاً في حاجة لي، وبينما أنا أُريد اللحاق به وإذا بناصبي عفن فجر نفسه وسط . جموع الزائرين وسقط من سقط شهيداً أو جريحاً، فأسرعت لا أكاد أرى الأرض التي أسير عليها لأتفحص إخواني الزائرين الذين أصابهم الانفجار.

ص: 71

تفحصت تفحصت، وإذا بي أرى راية رفيق دربي قد سقطت على الأرض، أسرعت نحوها لأجده في أنفاسه الأخيرة! نظر إليَّ وهو مبتسم وأمسك يدي بيده الضعيفة التي لا تكاد أن تستقر وهو يقول لي : هذه رايتي أمانة عندك، فهل تعاهدني على حملها كل سنة ؟

فأجبته بعيون اغرورقت بالدموع: نعم، نعم، أعاهدك..

فنطق التشهد وفارقنا مبتسماً.

وها أنا ذا على عهدي مع رفيق دربي، ولن أخلف ذلك العهد معه.

يقص عليه وهو يبكي ولم أتمالك نفسي من أن أشاركه البكاء بحرقة وألم.

عرفت معنى الوفاء بالعهد بأبهى صوره.

أيمكن أن نتّصف بالإيمان ونفي بعهودنا وخاصة عهدنا مع الله تعالى عهدنا مع إمام زماننا عجل الله تعالی فرجه الشریف ؟

ص: 72

حقد صانع .. حنان مصنوع

عندما أصبح يوم عاشوراء كانت الموجودات – كل منها ينتظر دوره..

كانوا شطرين منهم من كان مشتاقاً متلهفاً، ومنهم من كان مجبوراً مكروهاً.

أرى ،نبلة يشرئب عنقها نحو قربة ماء شرفها ساقي عطاشا كربلاء..

وأرى نبلة أُكرهت على الانطلاق بين طيات الرياح نحو نحر كأنه إبريق فضة يتلألأ ، لتتناثر قطرات الدم كأنها در منشور

فترفعها أكف الرحمة نحو السماء..

أرى سيفاً أُكره ليكون بيد الطغاة ..

وسيفاً يفتخر بيدي الإباء..

أرى درعاً يفتخر بأنه محام قد صَد عن ريحانة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 73

أرى شمساً خيّمت عليها معالم الحزن ؛ لأنها ستصهر ذلك الجسد الباقي على رمضاء كربلاء، تحرق تلك الوجوه من آل بيت الرسالة..

أرى خيمة تندب حظها أسى؛ لأنها لم تكن ملاذاً لبنات الزهراء سلام الله علیها إلا أياماً معدودات..

نظرت نحو صورة أخرى من واقعة كربلاء، حيث صديقان يتعاتبان ويندبان حظهما ! لماذا لا يلتقيان في واقعة كربلاء؟

أيها القارئ، قد ابتعد تفكيرك نحو من هم الصديقان؟

أحدهما من عالم المعنى، والآخر من عالم المادة هما الماء والعطش، إذ إنهما مهما طال فراقهما يلتقيان، لكن هذا لم يكن مقدّراً لهما يوم عاشوراء، فهو بأبي وأُمي كان صديقه العطش، والماء لسوء حظه كان مكرهاً على صداقة الظالمين فلم يلتقيا.

ص: 74

نداء العقيدة

كان يتفرّج على التلفاز بعد يوم نال منه التعب ما نال وكادت قواه أن تغور من شدة عمله اليدوي الشاق، الذي يمارسه ليوفر لعائلته ما يسد رمقهم. في الحقيقة هو يعمل أكثر من اللازم لكي يستطيع أن يشتري الدواء لأمه التي نال منها المرض اللعين. وهو ما بين هذا وذاك يداعب أطفاله ليشعرهم بالسعادة، ويشاكس زوجته بلطافة ليخفف عنها معاناتها ..

جلس بينهم وهو يشعر بسعادة تغمره وهو يرى من حوله يشعرون بوجوده ويشاركونه مشاعره، وأحدهم يداعب الآخر، وصوت أُمّه الشغوفة الحنون وهي ما زالت تراه ذلك

الطفل المدلل في أحضانها بني، خذ قسطاً من الراحة فإنك متعب.. بني أخاف عليك أن تمرض أو تتأذى..

قم لفراشك يا نور عيني..

ص: 75

فيبتسم بوجهها ابتسامة عطوفة: حسناً أُمي أمرك، لا تقلقي، سأقوم لارتاح قليلاً..

بينما هم بالنهوض وإذا به يسمع ذاك النداء الذي يهز القلوب المؤمنة من شاشة التلفاز..

نعم قام على قدميه ليذهب إلى مكان راحته، وقبل أن ينقل خطواته سمع ذلك النداء الذي اهتزت له القلوب الحية المؤمنة بالعقيدة والإيمان..

هنا توقفت قدماه، ولم يستطع أن يحركها وأنصت بكل جوارحه لذلك النداء..

وهو يتمتم بكلمات تكاد لا تخرج من العبرة التي غلبت عليه ..

،نعم تمتم بمناجاة رقيقة: لبيك سيدي يا صانع المعجزات، لبيك مرجعي، فأنا طوع أمرك .. سأقدم نفسي فداءً للوطن والمقدسات وحماية الأرض والعرض.

يتمتم بهذه الكلمات، ولاحت منه نظرة لصاحبة القلب الرؤوف، فرأى أن الدموع قد أغرقت خديها، وهي تهفو بكلمة:

ولدي..

هنا تغلب على كل عواطفه، وقال: نعم يا أماه، سألتي

النداء ..

ص: 76

بينما هو يكلم ذات القلب الرقيق.. وإذا بتلك الزوجة المؤمنة تقول بصوت ضعيف من لنا ؟!

هنا جلس و احتضن فلذات كبده، ويده على رأس بعضهم : أما تحبين أن تتأسي بنساء كربلاء، عزيزتي، لا عليك، فالذي خلقهم يحفظهم ويرزقهم..

ساخنة ..

ولم يطل الحديث، بل شدّ الرحال سريعاً، يودعهم بقبلات وهو يردد: لبيك سيدي .. لبيك مرجعي

ص: 77

تجليات عاشق الولاية

في صبيحة يوم الثالث عشر من شهر رجب الأصب كان شوقي كبيراً لزيارة مولاي أمير المؤمنين علیه السلام ، وكان ذلك الشوق يصاحبه شوق آخر لزيارة مولاي الإمام الحسين علیه السلام ، لزيارته في النصف من رجب، تلك الزيارة التي تسمى زيارة الغفلة، وهو شوق يختلط بحسرة وآهات لذكرى استشهاد مولاتي زينب سلام الله علیها ، لأقف على تلها، وكأني أسمع نداءها.

عذراً أحبتي، فقلبي الذي يشده الشوق لم يلتفت أني بذكرى الولادة الميمونة، فخطفه الأنين ليعرّج على ما ذكرت. نعم، خرجت متأبطاً حقيبتي الصغيرة التي اعتدت حملها معي في سفري، رحلتي تستمر لساعات، قادتني قدماي للحافلة الكبيرة ذات الخمسين راكباً، بدأت أبحث عن رفيق سفر أُجالسه، أحادثه لأنه دائماً لا يفارقني كلام مولاي أمير المؤمنين علیه السلام ، آه .. آه.. من وحشة السفر وبعد الطريق وقلة الزاد.

ص: 78

وهنا بدأت أضحك في داخلي، نبحث عن من يسد وحشة الطريق عنا في سفرنا الدنيوي، وهو سفر قصير، ونهمل سفر الآخرة الموحش الطويل.

بدأت أتفحص، وجوه الجالسين، وإذا بقلبي يشده ذلك الرجل الوقور، ذو كريمة تشابك فيها لؤلؤ تناثر بين طيات ذلك سواد، فاقتربت منه وحييته بتحية الإسلام، فكان كما أخبرني قلبي أنه رجل ودود، ذو منطق يشعرك بالارتياح.

جلست بجواره وبدأنا نتبادل أطراف الحديث، وشفتاه لا تفارقان التسبيح والتهليل، والصلاة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم وآله.

فبادرته مستأذناً منه بسؤال: إن شاء الله وجهتنا واحدة إلى مرقد مولاي أمير المؤمنين علیه السلام ؟

فتبسم مستبشراً في وجهي نعم يا ولدي العزيز.

وأخذت الأحاديث تقلبنا يميناً وشمالاً، إلى أن قال لي:

سأروي لك حكاية عن أحد المؤمنين فيما يخص تجليات من أحب و أهل البيت علیهم السلام.

فقلت بشغف : كلي شوق لسماعها .

وقبل أن يبدأ راودني الفكر ليقول لي: إنما هي حكايته فأصغيت له بكل جوارحي:

ص: 79

في ليلة الثالث عشر ... كما يروى، نعم في ليلة الثالث عشر من شهر رجب الأصب، بعد أن أتم صلاة الليل، وتلاوة بعض الآيات الكريمة، خرج ليروح عن نفسه قليلاً، فجلس على أريكة وضعت في الحديقة، وبدأ يفكر في الخلق العظيم، وهو يعلم أن التفكر ساعة فيه من الثواب العظيم.

وأثناء تفكره لاحت منه التفاتة إلى قمر تلك الليلة، فبدأ يحدث نفسه وكأنما يخاطب القمر : هنيئاً لك، فقد تشرفت برؤية مولود هذه الآية.

وهو يداعب بنات أفكاره مستغرقاً بجمال تلك الليلة وإذا بصوت القمر يدغدغ مسامعه :

نعم تحسدني، بل أقول تغبطني لأن المؤمن يغبط، ولا يحسد، نعم تغبطني كما فعل الكثير، وهو من حقكم، نعم في غروب تلك الليلة همست لي الشمس بعذب صوتها أيها القمر المنير أترى بيت الله ؟

نعم، أيتها الشمس، نعم..

لقد دخلت فيه سيدة عظيمة جليلة، لتضع خير الخلق بعد النبی صَلَّى اللهُ علیه و آله و سلم

وقد حرصت على تظليلها، وددت أن أستمر، ولكن هذا وقتك فأوصيك بها خيراً.

ص: 80

بدأ وقت ظهوري، ولم أكن ككل ليلة أوزع إنارتي، بل انشغلت بالنظر إلى البيت العتيق وأنا أرى أفواج الذين يعرجون من الملائكة هبوطاً وصعوداً، إلى أن بزغ ذلك النور من الكعبة الشريفة ليغطي على نوري، وأنا أستمع لعذب الأصوات بتهليلها

وتكبيرها، فكدت أطير فرحاً.

فرمقت القمر بنظرة أخرى وناديته هنيئاً، هنيئاً لك.

ص: 81

فرحتان بشعبان

خرج من المسجد بعد أن أدّى صلاة العشاءين جماعة في مسجد المدينة، وسمع بعض المواعظ من إمام المسجد، والذي حث فيها المؤمنين على حسن الجوار، وذكرهم بأحاديث وردت عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وأهل بيت العترة الطاهرين علیهم السلام وبمجرد خروجه أحس بألم شديد في أحشائه، فأشار إلى سيارة أجرة فأقلّته إلى مشفى المدينة القريب، وهناك ذهب إلى ردهة الطوارئ، وأجريت له الفحوصات اللازمة، وبدأ الألم يسكن شيئاً فشيئاً، ولم يحب أن يقلق أحداً من ذويه رغم اتصالهم به فاعتذر عن التأخير من العودة للبيت بأن أمراً شغله قليلاً،

وسيعود حالما ينتهي منه .

بعد أن اطمأن الطبيب على حالته سمح له بالخروج، وهو يهم بمغادرة المشفى، ويشكر من قدم له ما يحتاج ، رأى صديقه

ص: 82

عليّا وهو يسرع الخطى داخل تلك الأروقة، ويحمل بيده بعض الأوراق وقد بدى عليه فرح عظيم مع ارتباك يصاحبه.

فنادى عليه علي.. علي..

لم يسمعه علي ولم يلتفت إليه.

أسرع خلفه وهو قلق على رفيقه، حتى أدركه وأمسكه من كتفه وهو يناديه علي.. علي..

التفت إليه وإذا به يبكي في وجهه، وبقايا الدموع قد فضحته، وهو يحاول أن يخفي آثار القطرات المتناثرة على خده. علي عزيزي ماذا هناك؟ مالي أراك مضطرباً على غير عادتك ؟

أجابني وصوته يختلط فيه ضحك ممزوج ببكاء، وتلعثم في نطق الحروف وإخراج الكلمات أحمد.. أحمد.. أخيراً صرت أباً .. لن تصدق! لقد رزقت بمولود ذكر.. أحمد هل أنا أحلم أو هو عطاء الله تعالى الذي ليس له حدود قد عُمرتُ به.

فأجبته بتعجب: أحقاً ما تقول يا علي؟

نعم.. نعم.. لقد رزقني الله بولد.

عزيزي علي هدّئ من روعك ودعني أقبلك، مبارك لك..

وهل أسميت ولدك ؟

ص: 83

آه.. لقد أنستني فرحتي أن أختار له اسماً.

أتعلم يا علي أن اليوم هو الثالث من شعبان.

لقد أنستني فرحتي التاريخ والأشهر.

إذن فولدي محظوظ جداً لأن الاسم الذي سيحمله هو اسم سيد الشهداء، سيحمل اسم الإمام الحسين علیه السلام.. فاسمه حسين.. شكراً لك يا رب.

بعد انتظار عشر سنين عجاف أُرزق بمولود، ليصادف مولده مع مولد من قصدته ليكون لي وسيلة إلى الله تعالى. أتعلم يا أحمد في العام الماضي وأنا في ضريح مولاي الإمام الحسين علیه السلام، في ذكرى ولادته العطرة جلست وأنا أطيل النظر إلى الضريح الشريف، وناجيت مولاي بكلمات ولأول مرة أشعر أن هذه الكلمات تخرج بصدق وإيمان مختلطة بدموع التوسل، ناجيته وقلت له: سيدي أبا عبد الله، قرأت وسمعت أن فطرس ملك من الملائكة استجار بمهدك يوم مولدك، وتشفّع بك عند الله تعالى، فقبل الله تعالى شفاعتك فيه، وأنا اليوم أقدم حاجتي إليك لترفعها إلى الله تعالى، فلساني ملوث بالذنوب أخجل أن أخاطب به ربي، فأقول حاجتي لك

ص: 84

هذا يوم مولدك المبارك فهلا سألت الله تعالى أن يرزقني ذرية طيبة فقد أعيتني السبل، ولم أترك باباً إلا طرقته، وها أنا اليوم وقفت عند بابك الذي لا يرد سائلاً.

أتعلم يا أحمد، قلت هذه الكلمات، وكنت على يقين بأني سأرزق ذرية ببركة مولاي الحسین علیه السلام.

تركني وتنحى جانباً عن طريق المارة ليسجد الله شكراً.

ثم نهض وتوجه إلى كربلاء وهو يردد (السلام عليك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله. )

ص: 85

في يوم أبي الوفاء

خرجت صباحاً من بيتها، وهي تستقل السيارة مع أبيها الذي يحرص إلى إيصالها إلى الكلية التي تدرس فيها، لا شكاً بها ولا عدم ثقة أو مراقبة لها، ولكن ليجنبها نظرات الذئاب البشرية التي خرجت عن نواميس البشر، وفقدت الإحساس بمعنى الرجولة، وتجردت من الأخلاق والقيم، فبدأت تنهش بنظراتها أجساداً اعتادت على العفة والحياء.

إنها وفاء.. تلك البنت التي تربت وسط بيت لا يعرف إلا ذكر الله تعالى والتحلي بالأخلاق، فهي من الطالبات القلائل التي لا تفارق ارتداء عباءة الرأس.

وصلت وفاء إلى مكان دراستها، وجلست إلى جنب زميلتها التي اعتادت أن تجلس إلى جنبها، لأنها تشابهها في كل شيء .

دخل الأستاذ وبدأ بدرسه ثم توجه إلى طلابه وقال لهم: اليوم سنخرج قليلاً عن موضوعنا لنتعرف على أسمائكم ومعنى كل اسم.. ولنبدأ من اليمين..

ص: 86

ما اسمك يا ولدي؟

أجاب :الطالب: اسمي عباس يا أستاذ..

لنتجه إلى أقصى اليسار ونقارن بين الأسماء لعلنا نجد رابطاً بينهما .

ما اسمكِ يا ابنتي؟

فأجابت وفاء: اسمي وفاء يا أستاذ.

فطأطأ الأستاذ هنيئة إلى الأرض، وعندما رفع رأسه فضحته عيناه ، إذ كانت قد اغرورقت بالدمع، فتمالك نفسه، وقال سبحان الله . ما هذه الصدفة الجميلة؟ بل ما هذا الذي يحدث؟ في يوم ذكرى مولد أبي الفضل العباس علیه السلام ، يقترن اسم عباس باسم وفاء.

أبنائي.. أعزائي، من منكم يذكر لي ما العلاقة بين الاسمين؟

فانبرى أحد الطلبة، وكان من الطلبة المؤمنين فقال: أنا يا أستاذ.

تفضل يا بني..

فبدأ الطالب كلامه بالبسملة والصلاة على محمد وآل محمد.. ثم قال: يا أستاذ، إنه من جميل الصدف بل من أروعها أن لعطر أسماعنا باسم أبي الوفاء.. باسم مولانا أبي الفضل

ص: 87

العباس علیه السلام في يوم مولده الذي امتاز بخصال قل ما نجد إنساناً يحملها، ومن هذه الصفات والخصال: الوفاء.

لقد عجز الكتاب والمتكلمون أن يصفوا وفاء أبي الفضل العباس علیه السلام ، فقد تجسد معنى الوفاء بشخصه بل الوفاء استجدى منه .

فبادره الأستاذ: أحسنت بني أحسنت.

عذراً أبنائي فقد أحضرتُ لكم بعض الحلوى بهذه المناسبة.

انهض يا عباس ووزعها على زملائك وابدأ بوفاء، لأن صاحب المناسبة عُرف بالوفاء.

ص: 88

غديرنا عبر الأثير

كعادتنا كل سنة نحتفل بإحياء يوم عيد الله الأكبر، يوم تنصيب أمير المؤمنين علیه السلام بالولاية الحقة، إنه عيد الغدير اتفقنا على الخروج في الثلث الأخير من الليل ليكون وصولنا إلى مرقد أمير المؤمنين علیه السلام في صبيحة ذلك اليوم الأغر.

أقلَّتنا سيارة أحد الأصدقاء ونحن نتبادل التهاني، وننشد بعض أبيات الشعر بهذه المناسبة.

وبما أني لم أنم تلك الليلة، فبمجرد أدائنا لصلاة الصبح في الطريق وعودتنا إلى السيارة، أخذتني غفوة عنوة فلم أستطع أن أقف أمام رغبتها الجارفة بأن تطرحني جانباً، وكل محاولاتي للوقوف بوجهها باءت بالفشل، فرأيت كأني في صحراء مترامية الأطراف، مجدبة قاحلة تعلو كثبانها الرملية تارة، وتستوي مرة في أخرى، ويلوح لي من بعد سراب يو همني بأنه فيه كل شيء بدأت أجول ببصري وأتساءل أين أنا؟

في أي بلاد الأرض حللت؟!

ص: 89

من أتى بي إلى هنا؟!

وإذا بي أرى من بعيد غباراً ارتفع، دققت النظر لأرى مجموعة من الفرسان يمتطون صهوات جيادهم يسابقون الريح وكل واحد منهم يريد أن يسبق الآخر، اقتربوا مني وأنا في خوف ،شدید هل هؤلاء قاطعو طريق؟

هل هم نواصب يفتكون بكل موالي؟

من أين أتوا؟

ولكن بدون أن أشعر ماذا سأعمل أشرت بكلتا يدي إليهم كأني أطلب النجدة منهم، حينما رأوني توقفوا جميعاً، أخذوا يطيلون النظر إليَّ، يحدقون بي باستغراب ودهشة وتعجب، خاطبني أحدهم بلغة عربية فصيحة:

من أين أنت يا أخا العرب؟ وما هذا اللباس الذي ترتديه؟

فأجبته.. أنا من العراق.. من أهل بابل وذي قار.

دهشت حين رأيتهم يلبسون العمامة وملابس لم نعتد رؤيتها إلّا في الأفلام والمسلسلات التاريخية.

وما لباسك هذا يا أخا العرب؟

فبادرتهم بالسؤال ..

وأين نحن الآن؟ وفي أي يوم وعام ؟

ص: 90

فضحكوا بقهقهة عالية .. عجباً لك من أهل العراق بلد العلم والمعرفة ولا تعرف في أي يوم نحن؟

نعم.. في أي يوم نحن؟

نحن اليوم في الثامن عشر من ذي الحجة السنة العاشرة للهجرة.

كدت أسقط من هول ما سمعت.. ماذا أنتم فاعلون وأراكم تسابقون الريح في عدوكم ؟

فأجابني أحدهم : أتعلم أنك أخرتنا عما نحن فيه.

عن أي شيء أخر تكم؟

أتعلم أيها الذي لم يولد بعد، أننا نتسابق لنقل خبر أتى من السماء.

فقلت مندهشاً: أنتم تنقلون خبراً من السماء إلى أهل الأرض .

هل أنتم أنبياء أو رسل أو ملائكة؟

لا هذا ولا ذاك.

لكننا ننقل خبراً من السماء أبلغنا به حبيبنا محمد صلی الله علیه و آله و سلم أي خبر ذاك؟

إنه خبر ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .

ص: 91

أي خبر وأي ولاية؟

نحن نريد أن نبشر من لم يحضر من قومنا نبلغهم بأمر

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لكن اعلم أيها الغريب عن طباعنا، أصبح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ولی كل مؤمن ومؤمنة، فقد أبلغنا نبينا عند غدیر خم بذلك الأمر الإلهي فدعنا بفرحتنا نبشر قومنا ...

ضربوا جيادهم وهبوا مسرعين.

ليوقظني أحد أصدقائي يقول عيدك مبارك، وصلنا إلى مرقد أمير المؤمنين علیه السلام .

ص: 92

لهفة اللقاء

بعد أن انتهت مدة إجازته التي تمتع بها بعد معارك ضارية وبعد أن غاب عن أهله لفترة طويلة، ها هو يحزم أغراضه لكي يعود لجهاده، ويعودوا هم للهفتهم إليه وسماع أخباره، بين قلق وبين بشائر نصر ..

استغل انشغال أطفاله وهم يتفاخرون بشجاعة أبيهم، أحدهم يقول للآخر: أرأيت كم كان أبي بطلاً وهو يأسر ذلك الداعشي العفن وانزوى بزوجته ليودعها ويوصيها بأولاده وأن تحافظ على هذه الروح التي يمتلكونها، ولم ينس أن يرسم قبلة الوداع على جبينها وهي مبتسمة رغم الدموع التي فضحتها.

وضع حقيبته على ظهره وودع الجميع بابتسامته المعهودة، وأسرع إلى إخوته في الجهاد الذين ينتظرونه داخل السيارة التي انطلقت مسرعة نحو عرين الأسود، وهم يتبادلون الضحكات ويتذكرون المواقف، وحينما يكون مرورهم على أحد المناطق

ص: 93

المحررة يستذكرون الأحداث، وأحدهم يقول للآخر: أتذكر ما قمنا به هنا؟

وفي وسط هذا الضجيج المعتاد رن جرس هاتفه، أخرجه ونظر إليه، وعندما عرف صاحب الاتصال توقف عن الابتسامة فليس من المعتاد أن تتصل به بعد مغادرته بساعات!

نعم، فها هي تفعلها لأول مرة، فتح الاتصال وإذا بصوتها قد مزج مع البكاء، ولا تستطيع أن تنطق بكلمة يفهمها هدأها ..

ما الخبر؟

لقد تعرض ولدنا وهو في باب المدرسة إلى حادث تفجير، إذ قام أحد الدواعش بتفجير جسمه العفن وسط مجموعة من الطلاب، ولا أعلم هل استشهد أو بقي على قيد الحياة!

تلقى الخبر، وهو يكاد أن يختنق، نظر إليه إخوته ، وكلهم بصوت واحد ما الخبر؟

وقبل أن يجيبهم رن هاتفه من جديد وإذا به قائدهم في معركة الشرف وهو يقول: هيا أيها البطل أسرع أنت وإخوتك فإننا نتعرض لهجوم شرس من الأوباش!

ص: 94

فما كان منه إلّا أن :قال أمرك ها نحن قادمون، والتفت إلى إخوته وأخبرهم بأمر قائدهم، ومن حبهم للجهاد نسوا أن يسألوه عما حدث له. أما هو فرفع طرفه إلى السماء وبقلب حزين وسأل الله تعالى أن يمن على ولده بالشفاء، وأرسل رسالة إلى زوجته ولم يتصل حتى لا يدع الآخرين يعرفون بالأمر، يخبرها بالأمر وعليها أن

تؤدي المهمة.

وعند وصولهم إلى مكان المعركة ترجلوا سريعاً وأخذوا أماكنهم في القتال، وبعد معركة ضارية شاء القدر أن تقع قذيفة بالقرب منه مما أدى إلى إصابته إصابة بليغة أفقدته الوعي!

وعندما عاد إليه وعيه وفتح عينيه وهو يقاوم آلام الجراح، ولا يكاد يُعرف مما أصاب وجهه نظر وإذا بتلك المرأة جالسة بين سريره، والسرير المجاور له وهي تقول: بني الحمد لله لقد فتح أبوك عينيه!

نظر بصعوبة، وإذا يرى ولده إلى جنبه في السرير وقد نجا من الموت بأعجوبة، هنا حمد الله ومد يده المرتجفة ليمسك بيد ولده وهو يتمتم بالحمد والشكر.

ص: 95

الوفاء المقتول

دخلت عليها أُمها فوجدتها في حال يرثى له.

نشيج شدید و عبرات متكسرة وعيون غائرة!

خاطبتها بصوت رقيق ينبعث منه الحنان ينطلق في فضاء الحب: ما بكِ ؟ !

ما هذا الذي تفعلينه بنفسك وأنت لم تقترني به؟

وبدت الأم الخائفة على ابنتها تكثر من هذه الأسئلة التي كانت تزيد في قلب البنت الألم والغصة، وكأي أم يملأ قلبها ،الحنان ولكن لا تعرف الكثير.

نعم، لا تعلم أن ذلك الشاب المؤمن الخلوق الذي كان زميلاً لابنتها في الجامعة منذ سنوات قد أحب هذه الفتاة المؤمنة لحشمتها وأدبها وأخلاقها.

ص: 96

فهي ليست كباقي الطالبات، فهي والقليل جداً من زميلاتها يرتدين العباءة داخل الجامعة ولا يختلطن بالآخرين، ولا يضعن المساحيق على وجوههن.

وكان هو يبحث عن من تشابهه بأخلاقه، فوجد تلك الفتاة وأخذ يراقبها من بعيد دون أن تشعر به.

أما هي فكانت لا تهتم كثيراً بهذه الأشياء، جل اهتمامها كانت الدراسة، ولكن لسمو أخلاقه بين أقرانه وكان دائماً يُذكر اسمه داخل القاعة، مرة لأمانته ومرة لشهامته ومرة لتفوقه، انسلت الغريزة إلى قلبها بهدوء وبدأت تحدث نفسها فقط أنه الشاب الذي أبحث عنه.

وانتهت السنة الأولى والثانية والثالثة من الدراسة وهما على هذا الحال لم يكلم أحدهما الآخر، ولم يبح أحدهم للآخر أو للزملاء وللزميلات عما بداخله.

وفي يوم التخرج اقترب منها مطأطأ الرأس، وبادرها و بالسلام .

السلام عليك أختي الكريمة..

فردت التحية بأحسن منها وهي لم ترفع نظرها لتراه، لأنها تراه في قلبها.

ص: 97

أستميحك عذراً، هل لي أن أكلمك بعض الكلمات.

فأجابته والخجل أخذ منها مأخذاً، والعرق يتصبب منها، تفضل أخي قل ما عندك

لا أطيل عليك، هل تقبلين أن آتي لأهلك خاطباً؟

أدارت بجسمها سريعاً وهي تلفظ كلمة: نعم . وغادرت مسرعة.

عاد إلى أهله يحمل شهادة التخرج في الهندسة والكل فخور به وبأخلاقه.

لم يمض إلا يومان أو ثلاث إلا وقد صدرت فتوى الجهاد فقرر الالتحاق بالمجاهدين للدفاع عن الوطن والمقدسات.

وبعد مرور شهر منح إجازة لمدة أيام قليلة.

جلس إلى جنب أبيه بخجل وأدب، وقص عليه قصته، وطلب منه أن يخطب له تلك الفتاة.

فرح الأب ووافق فوراً، لأنه ابنه البكر الذي يريد أن يرى أحفاده من خلاله، وذهب إلى زوجته فرحاً ليخبرها بما دار بينهما.. فرحت الأم وملئ البيت فرحاً.

وفي اليوم الثاني ذهبت الأم مع بعض النسوة كالعادة المتبعة لأهل الفتاة لخطبتها.

ص: 98

وكان الرد أمهلونا أياماً لنرد عليكم.

كان متلهفاً لسماع الرد.

استقبل والدته وهي ابتسمت بوجهه وأمّلته خيراً.

انتهت أيام الإجازة وعاد إلى إخوته المجاهدين وكان يكثر من الاتصال بأهله.

وفي أحد الأيام اتصلت به والدته: مبارك بني وافق أهلها!

لم يصدق وأخذ يطير من الفرح..

بينما هو يكلم والدته وإذا بداعشي نتن يفجر جسده المتعفن عليه وعلى إخوته وهو في أنفاسه الأخيرة قال لأُمه أماه أخبريها أني أحببتها.

لينطق بعدها بالشهادة وتغتال أمنيته .

ص: 99

الفهرست

لعلنا نعتبر:... 1

مقدمة المعهد:... 1

الإهداء:... 3

الطفولة المقتولة:... 5

بين الماضي والحاضر:... 5

آهات ما زالت تزفر:... 9

قطرات بلا سحاب:... 13

المشكاة من هي؟... 15

سماء تحتضن الدماء... 18

مشاهد في طريق الجنة... 20

قيود لم تحجب الشمس... 23

ص: 100

شاهد عيان... 25

ولكن ليس بإنسان... 25

صراخ الأطفال... 27

لا يحمله فحوى المقال... 27

ناقة تبكي لراكبها... 29

بين زنزانتين... 32

رنين هاتفي أفسد حلمي... 36

محادثة قبل السحر... 39

سور يلعن صانعيه ...44

باب بين حدثين... 49

أميرة المؤمنات... 52

آمنة بنت الهدى... 55

رمز لامرأة نصرت حسين عصرها... 55

ندم متأخر... 60

نساء مؤمنات... 63

النية الصادقة... 66

وفاء العهد... 69

حقد صانع.. حنان مصنوع... 73

ص: 101

نداء العقيدة... 75

تجليات عاشق الولاية ...78

فرحتان بشعبان... 82

في يوم أبي الوفاء... 86

غديرنا عبر الأثير... 89

لهفة اللقاء ... 93

الوفاء المقتول... 96

الفهرست... 100

ص: 102

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.